حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا
فاتقوا الله عباد الله ابكوا على أنفسكم قبل أن يُبكى عليكم، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، احملوا أنفسكم على الطاعات قبل أن تحملوا على الرقاب، استعدوا للموت قبل أن ينادي بأعلى الصوت رباه ارجعون فلا يستجاب لنا لساعة تجلس تحاسب فيها نفسك خير من أيام وساعات تهدر فيها الأعمار.
هذه الأيام مطايا أين العدة قبل المنايا؟ أين الأنفة من دار الأذايا؟ أين العزائم أرضيتم بالدنايا؟ إن بلية الهوى لا تشبه البلايا وإن قضية الزمان لا كالقضايا يا مستورين ستكشف الخفايا إن ملك الموت لا يقبل الوساطة ولا يأخذ الهدايا أيها الشاب! ستُسأل عن شبابك أيها الشيخ تأهب لعتابك أيها الكهل تدبر أمرك قبل سد بابك يا مريض القلب قف بباب الطبيب يا منحوس الحظ اشك فوات النصيب بالجناب قليلاً وقف على الباب طويلاً واستدرك العمر قبل رحيله وأنت بداء التفريط عليلاً يا من نذرُ الموت عليه تدور يا من هو مستأنس في المنازل والدور لو تفكرت في القبر المحفور وما فيه من الدواهي والأمور كانت عينُ العين منك تدور يا مظلم القلب وما في القلب نور الباطن خراب والظاهر معمور إنما ينظر للبواطن لا للظهور يا من كلما زاد عمره زاد إثمه يا من يدور في المعاصي فكره وهمه يا قليل العقل وقد رق عظمه يا قليل العِبَر وقد تيقن أن القبر عمّا قليل يضمه كيف نعظ من مات قلبه لا عقله وجسمه نعم أيها الغالي! لابد من الرحيل طال الزمان أو قصر، سيأتي ذلك اليوم الذي ستودع فيه الحياة، لكن قل لي بالله كيف سيكون الحال عند ساعات الرحيل؟!(39/3)
إنك ميت وأنهم ميتون(39/4)
موت النبي صلى الله عليه وسلم
الذي أخر الناس عن التوبة والصدق والاستعداد للآخرة طول الأمل، ولقد قال الله عنهم: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3].
الكل سيموت إلا ذو العزة والجبروت {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
الكل سيموت لأن الله قال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] ولأن الله قال: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34] {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185].
مات الحبيب الذي كان يقول في آخر لحظات الحياة: (ألا لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).
من وصاياه في ساعات احتضاره وفي ساعات وداعه، أنه كان يقول: (الصلاة وما ملكت أيمانكم).
صعد المنبر آخر ما صعد فقال: (من أخذت منه مالاً فهذا مالي فليأخذ منه، من سببت له عرضاً فهذا عرضي فليقتص منه، من ضربت له جسداً فهذا جسدي فليقتص منه؛ إن رجلاً خيره الله بين ما عنده وبين زينة الدنيا فاختار ما عند الله؛ فبكى الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فقالوا: ما الذي يبكي هذا الشيخ الكبير؟!) لقد علم أنها آخر ساعات الحبيب صلوات ربي وسلامه عليه في آخر ساعات احتضاره أخذ يضع يده في ركوة من الماء ويمسح على وجهه، ويقول: (لا إله إلا الله إن للموت لسكرات إن للموت لسكرات اللهم هون علي الموت وسكراته اللهم هون علي الموت وسكراته فلما رأت فاطمة شدة البلاء على أبيها أخذت تقول: واكرب أبتاه واكرب أبتاه واكرب أبتاه فأخذ يقول لها: لا كرب على أبيك بعد اليوم لا كرب يا فاطمة على أبيك بعد اليوم، ثم أخذ يشخص ببصره إلى السماء ويرفع بيده السبابة وهو يناجي ربه ويقول: اللهم اغفر لي اللهم ارحمني اللهم تب علي اللهم الرفيق الأعلى اللهم الرفيق الأعلى اللهم الرفيق الأعلى).
ثم سكتت الأنفاس الطاهرة، وتوقف القلب الكبير؛ لأن الله قال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] لأن الله قال: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34] {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185].
فلما فارقت الروح الحياة وسكت ذلك الجسد الطاهر الشريف أخذت فاطمة تقول: واأبتاه واأبتاه أجاب رباً دعاه واأبتاه أجاب رباً دعاه واأبتاه جنة الفردوس مأواه واأبتاه إلى جبريل ننعاه فلما دُفن، قالت فاطمة لـ أنس: أطابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله؟! يقول أنس: فقلت في نفسي: والله ما طابت، ولكننا ألجمناها إلجاماً.
مات الحبيب لأن الله قال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] الكل سيموت إلا ذو العزة والجبروت.(39/5)
موت أبي بكر الصديق رضي الله عنه
ثم يموت الصديق رضي الله عنه وأرضاه خليفة الحبيب، وفي ساعات احتضاره وكانت ساعات احتضاره بليل أخذ يقول لـ عائشة: في أي يوم نحن؟ قالت: يوم الإثنين.
قال: في أي يوم قبض النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالت: يوم الإثنين، ولقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم مراراً في منامه، سألوه في أيام مرضه: عرضت نفسك على الطبيب؟ قال: نعم قالوا: ماذا قال؟ قال: قال إني فعال لما أريد فلما اشتدت عليه السكرات، ورأت عائشة سكرات الموت على أبيها، أخذت تستشهد ببيت تقول فيه: أعاذل ما يغني الحذار عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاقت بها الصدر فقال: يا عائش! لا تقولي ذلك، ولكن قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19].
نعم أيها الغالي! {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8].
أوصى أبو بكر عمر وصية في آخر حياته ليتنا فهمناها، قال: يا عمر إن لله حقاً بالليل لا يقبله بالنهار، وإن لله حقاً بالنهار لا يقبله بالليل.
مات الصديق لأن الله قال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] الكل سيموت إلا ذو العزة الجبروت.(39/6)
موت عمر بن الخطاب رضي الله عنه
ثم يموت الفاروق رضي الله عنه وأرضاه وهو يصلي الفجر، هل لسبب شرعي ضُيعت صلاة الفجر؟! أم بسبب المكوث ساعات وساعات أمام الشاشات والقنوات؟ طعن وهو يقرأ قوله جل في علاه: {إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86].
نعم أيها الغالي! طعن شهيد المحراب، فلما أفاق كانت أول كلمة قالها: أصلى الناس؟ اسمع -يا رعاك الله- أول كلمة تلفظ بها عمر يوم أفاق من غيبوبته، قال: أصلى الناس؟ ثم رأى الدم ينزف منه نزفاً، تيقن أن الموت قد اقترب، كان هناك شغل يشغله وهم يهمه، قال يا عبد الله بن عمر اذهب إلى عائشة أم المؤمنين وقل لها: يقرئك عمر السلام ولا تقل أمير المؤمنين، فإني لست أميراً للمؤمنين بعد اليوم قل لها: يبلّغك عمر السلام ويستأذنك أن يُدفن مع صاحبيه.
يريد أن يكون رفيق النبي صلى الله عليه وسلم حتى في الممات.
فذهب عبد الله بن عمر وطرق الباب على عائشة وقال لها: يقرئك عمر السلام، ويقول لك: أتأذنين له أن يدفن مع صاحبيه؟ فقالت الصديقة بنت الصديق: والله إني كنت أريده لنفسي، ووالله لأوثرن عمر على نفسي فلما رجع عبد الله بن عمر ورآه عمر قد أقبل، قال: أجلسوني، فقال: ما الخطب يا عبد الله بن عمر؟ قال: أبشر يا أمير المؤمنين فقد رضيت.
فتهلل وجه عمر رضي الله عنه وأرضاه لأن القضية كانت تشغله وتهمه.
ما كان يوصي بمال ولا بعيال ولا بحلال، القضية قضية مرافقة في الدنيا وفي الآخرة.
فقال عمر: إن أنا مت فغسلوني وكفنوني ثم احملوني واطرقوا عليها الباب، وقولوا: يستأذن عمر مرة ثانية، فإن أذنت وإلا فخذوني إلى مقابر المسلمين.
فلما حانت ساعة الاحتضار وبدأت تتنزل عليه كربات الموت، أخذ عبد الله بن عمر رأسه ووضعه على فخذه، فقال عمر: ضع وجهي على التراب علّ الله أن يرحم عمر، ليتني خرجت منها كفافاً لا لي ولا علي، وددت أن أمي لم تلدني ليتني كنت ورقة تعضد من هو؟! عمر الصوام القوّام يقول: وددتُ أني خرجتُ منها كفافاً لا لي ولا علي.
مات عمر مات عمر لأن الله قال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] الكل سيموت إلا ذو العزة والجبروت.(39/7)
موت عثمان رضي الله عنه
ثم يموت عثمان رضي الله عنه وأرضاه، يموت وقد رأى في منامه في تلك الليلة النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: تفطر عندنا غداً، فأصبح صائماً رضي الله عنه وأرضاه، تسلقوا عليه البيت وطعنوه وهو يقرأ القرآن، فتدفقت تلك الدماء على لحيته الطاهرة، ثم أخذ يدعوا ويقول: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين اللهم اجمع شمل أمة محمد اللهم اجمع شمل أمة محمد.
عثمان وما أدراك ما عثمان؟! تلك اللحية التي لطالما تبللت بالدموع من خشية الله، تلك اللحية التي لطالما تبللت بكاء وخشية من الله جلّ في علاه.
عثمان الذي إذا ذكرت الجنة والنار يبكي، وإذا ذُكر القبر يبكي بكاءً شديداً، فإذا قيل له: لا تبكي للجنة والنار كبكائك للقبر؟! قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (القبر أول منازل الآخرة) إذا كان الذي فيه هيناً فما بعده أهون، وإن كان الذي فيه شديداً فما بعده أشد.
مات عثمان قارئ القرآن الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ضرّ عثمان ما فعل بعد اليوم) عثمان الذي نفس بأمواله كربات المسلمين، عثمان الذي كان أباً للأرامل والفقراء والمساكين.
مات لأن الله قال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] الكل سيموت إلا ذو العزة والجبروت.(39/8)
موت علي رضي الله عنه
وبعد ساعات الفجر تحلو دقائق الاستغفار فخرج علي مستغفراً ربه بعد قيام الليل منطلقاً إلى صلاة الفجر، فيطعن وهو في طريقه إلى المسجد.
شتان بين خواتيم وخواتيم، شتان بين من يقتل وهو يسير إلى المسجد، وشتان بين من يسير إلى معصية الله.
ثم يوم علم علي أنها النهاية قال: أبقوه، فإن أنا بقيت قتلت أو عفوت، وإن أنا مت فاقتلوه وعجلوه فإني مخاصمه عند ربي جل في علاه؛ ولم يتلفظ بعدها بكلمة إلا قول: لا إله إلا الله لا إله إلا الله لا إله إلا الله حتى فارق الحياة.
علي المجاهد العنيد والمقاتل الصنديد يموت وهو يسير إلى صلاة الفجر.
مات لأن الله قال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] الكل سيموت إلا ذو العزة والجبروت.(39/9)
موت أبي هريرة رضي الله عنه
مات أبو هريرة راوي الحديث والمرافق للنبي صلى الله عليه وسلم في روحته وجيئته.
ماذا يقول في ساعات الاحتضار؟! يقول: آه من قلة الزاد وطول الطريق، راوي الحديث ناقل السنة وناقل العلم الشرعي للأمة، يقول: آه من قلة الزاد وطول الطريق.
فماذا يقول المفرطون أمثالنا؟! ماذا يقول المقصرون أمثالنا؟! ماذا يقول المذنبون والمضيّعون؟! مات أبو هريرة لأن الله قال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] الكل سيموت إلا ذو العزة والجبروت.(39/10)
موت معاذ بن جبل رضي الله عنه
ثم يموت أعلم الأمة بالحلال والحرام معاذ رضي الله عنه وأرضاه، كانت ساعة احتضاره بليل، فقال لابنه: أصبحنا؟ قال: ليس بعد.
ثم سأله مرة ثانية: أصبحنا؟ قال: ليس بعد، ثم سأله مرة ثالثة قال: أصبحنا؟ قال: نعم، قال: أعوذ بالله من ليلة صبيحتها إلى النار أعوذ بالله من ليلة صبيحتها إلى النار ثم أخذ يدعو ربه ويناجيه ويقول: اللهم إنك تعلم أني كنت أخافك، وأنا الآن أرجوك، اللهم إنك تعلم أني كنت أخافك وأنا الآن أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا لطول البقاء، ولا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لصيام الهواجر، وقيام الليل، ومجالسة العلماء.
انظر على ماذا يبكون انظر على ماذا يتحسرون، ونحن: النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أن السلامة فيها ترك ما فيها لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها مات لأن الله قال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] الكل سيموت إلا ذو العزة والجبروت.
امرأة من الصالحات أُلقي في روعها أنها تموت، فقالت لزوجها: أريد أن أذهب إلى مكة، أريد أن أرى بيت الله جلّ في علاه، ودّعت الصغير والكبير كأنها تودعهم لآخر مرة، طافت وسعت ودعت وتضرعت، ثم في طريق العودة انقلبت السيارة وأصيبت في رأسها إصابة بالغة، فنزل زوجها ومددها على جانب الطريق فإذا هي رافعة إصبعها السبابة تتشهد وتقول: لا إله إلا الله، أقرئ أهلي مني السلام وقل لهم الملتقى الجنة.
ماتت لأن الله قال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] ولأن الكل سيموت إلا ذو العزة والجبروت.(39/11)
خاتمة السوء
شتان بين موت الصالحين وبين موت أهل السفور وأهل الفجور.
شاب من الشباب أعرفه تمام المعرفة، فيه من الحياء شيء قليل لا يكفي لأن يردعه عن الحرام، فكم مررنا على بيت ذلك الشاب والشباب عنده مجتمعون في لهو وضياع للأوقات والأعمار.
كنت أمر عليهم في أوقات الصلاة وأقول: يا شباب! لله حق فأدوا حق الله ثم اصنعوا ما تشاءون، عل الله أن يتدارككم برحمته.
كانوا لا يستجيبون، ثم جاءت الأخبار أنهم قد نووا السفر إلى بلاد الكفار، حيث يحارب الله بالمعاصي، ذكرناهم خوفناهم ولكن تمكن منهم الشيطان وزين لهم أعمالهم، وقال: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جارٌ لكم، ذهبوا ورجعوا بعد ثلاثة أيام يحملونه في تابوت، ما الخبر؟ ما القصة؟ ما الخطب؟ أكثروا من اللهو والضياع والمعاصي فأصابته نوبة قلبية وخر ميتاً في مكانه، ذهبوا وهم يسيرون جميعاً على الأقدام ورجعوا وهم يحملونه على أكتافهم، هل كان يظن يوم أن سافر أنها آخر سفرة يسافرها في حياته.
وقفتُ على قبره تذكرتُ الأيام الماضية، وكم ذكرناهم وكم قلنا لهم ولكن لا تحبون الناصحين، كم قلنا لهم وكم وعظناهم، ولكن إنّا لله وإنا إليه راجعون.
أهكذا يموت الشباب؟! قلت في نفسي: ما جاء من أرض جهاد حتى نكون به من الفرحين، ما جاء من أرض علاج حتى نكون عليه من المشفقين، ما جاء من أرض يطلب فيها العلم حتى نكون به من المباهين.
الكل سيموت إلا ذو العزة والجبروت.
فاتقوا الله عباد الله اتقوا الله عباد الله فالعمر مهما طال فهو قصير، والدنيا مهما عظمت فهي حقيرة.
أكثروا من ذكر هاذم اللذات ومفرق الجماعات، ومؤتم البنين والبنات، زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة، أكثروا من مجالس الذكر فإنها تحيي القلوب.
فإذا قسا القلب فلابد من الإكثار من ذكر الله، وتذكر الآخرة وتذكر الموت، وتذكر النهاية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:18 - 19].
اللهم اجعل خير عمرنا آخره، وخير عملنا خواتيمه، وخير أيامنا يوم نلقاك.
اللهم أطل أعمارنا، وأصلح أعمالنا.
اللهم امنن علينا بتوبة نصوح قبل الموت، وشهادة عند الموت، ورحمة بعد الموت يا رب العالمين! لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم، بها نحيا وبها نلقى الله.
اللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله.
اللهم هون علينا الموت وسكراته، والقبر وظلماته، والسؤال وشدته، والقبر وضمته، ويوم القيامة وكرباته.
اللهم عاملنا بما أنت أهله، ولا تعاملنا بما نحن أهله، إنك أنت أهل التقوى وأهل المغفرة.
اللهم اغفر ذنبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا.
اللهم اجمع شملنا، ووحد صفنا، وأصلح ذات بيننا، وانصرنا يا قوي يا عزيز! على القوم الكافرين.
أستغفر الله العظيم، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(39/12)
نجاة أهل الصدق
الصدق منزلة عظيمة ومرتبة عالية، فهي أدنى من مرتبة النبوة وأعلى من مرتبة الشهداء، وإن أمراً بهذه المنزلة جدير بأن يتنافس فيه المتنافسون، ويتسابق إليه المتسابقون.
ولا يمكن أن يصل إلى تلك المنزلة الرفيعة إلاّ من عرف حقيقتها حق المعرفة، فالصدق ليس محصوراً في الأقوال فحسب، بل يتعدى ذلك، فمفهوم الصدق أوسع وأشمل مما يظنه كثير من الناس.(40/1)
الحث على الصدق
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر الأحبة! منذ فترة مضت مر بي هذا الموقف ولعله موقف يتكرر هنا وهناك: في ضحى أحد الأيام بينما أنا على طريق الدمام الساحلي متجهاً إلى مدينة الخبر، إذا برجل على جانب الطريق يشير إلي باستحياء، فاستحيت أنا وتوقفت، فقال: أنا ليلة البارحة أطلت السهر واستيقظت متأخراً فما وجدت من يوصلني إلى مكان وظيفتي، قلت: أين تعمل؟ قال: أنا أعمل في ميناء الدمام، قلت: الأمر هين وأنت على طريقي.
ركب الرجل، ثم دار بيني وبينه هذا الحديث: قال: ماذا سأقول لرئيسي الآن؟ كيف سأبرر له تأخري؟ قلت: الأمر هين، قل له كما قلت لي تماماً، أطلت السهر، واستيقظت متأخراً، ولم تجد أحداً يوصلك إلى مكان الوظيفة، قال: لن يقبل مني.
قلت: مصيبة! نتحدث بالصدق ونقول الحقيقة ثم لا يقبل منا! وهذا هو واقعنا اليوم، فنكذب ونلفق بالأيمان الكاذبة حتى نعد من الصادقين، وإن صدقنا وقلنا الحق لم يقبل منا، فماذا نفعل؟ أليست هذه من علامات آخر الزمان؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من ورائكم أياماً خداعات، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويخون فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، ويتكلم فيها الرويبضة) هذه أشراط الساعة ظهرت فينا والله المستعان {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ * فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد:18 - 19].
قلت -والحديث لا زال بيني وبينه مستمراً-: أنت تريد رضا من؟ إن أنت تحدثت بالصدق فسترضي الله تبارك وتعالى، وإن أنت كذبت فستسخط الله تبارك وتعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من ابتغى رضا الله في سخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن ابتغى رضا الناس في سخط الله سخط الله عليه، وأسخط الناس عليه).
لسان حال الصادق: فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب من الذي يملك الضر والنفع؟ أليس هو الله؟! أنت تبتغي رضا من؟ رضا الله أم رضا المخلوق؟! أحبتي! كثير اليوم من يجامل، ويتنازل عن دينه، ويتنازل عن مبادئه، ويتنازل عن قيمه في سبيل عرض من الدنيا قليل، لما تنزل قول الحق تبارك وتعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59] قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل: (أتضيع أمتي الصلاة؟) أتضيع أمة محمد الصلاة! تعجب بأبي هو وأمي، هل يعقل أن أمة محمد تنام وتتخلف عن الصلوات؟ فقال جبريل عليه السلام: (يا محمد! يأتي أقوام من أمتك يبيعون دينهم كله بعرض من الدنيا قليل) نسأل الله أن يحفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
هذا موقف يمر بي وبك في كثير من الأحيان، يمر بنا في متاجرنا في أماكن وظائفنا في شوارعنا في كل مكان، أصبح الكذب سمة بارزة في المجتمع، الجميع يكذب إلا من رحم الله تبارك وتعالى، وقل أن نرى الصادقين.(40/2)
عاقبة الصدق حميدة وعاقبة الكذب وخيمة
اعلم -بارك الله فيك- أن الصدق امتحان وابتلاء، ولكن عواقب الصدق دائماً حميدة، والكذب -والعياذ بالله- وبال وشر على صاحبه، وعواقبه دائماً وخيمة، وحبل الكذب قصير مهما طال، والبضاعة النادرة إذا قلت في الأسواق غلا ثمنها، وزاد طلب الناس عليها، والبضاعة التي نحتاجها اليوم بضاعة الصدق.
قال ابن القيم رحمه الله: من منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] منزلة الصادقين، المنزلة التي فرقت بين المؤمنين وبين المنافقين، المنزلة التي فرقت بين أهل النيران وبين أهل الجنان، الصدق الذي صرع الباطل وطرحه، من صال به لم ترد صولته، ومن جال به لم ترد جولته، وهو باب الدخول على الرحمن، قال الله: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة:119]، وقال: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب:8]، مرتبة الصادقين أدنى من مرتبة النبوة وأعلى من مرتبة الشهداء، قال الله: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69].
الصدق من مراتب الأنبياء كما قال الله عن أنبيائه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم:41]، وقال عن إسماعيل: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم:54]، وقال عن يوسف: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} [يوسف:46].(40/3)
سبب بلوغ الصديق مرتبة الصدق
بلغ مرتبة الصدق من هذه الأمة أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، لكن
السؤال
كيف بلغها؟ وكيف وصل إلى تلك المرتبة العالية؟ وصلها بالأفعال لا بالأقوال، والمواقف هي التي تبين طبيعة الرجال، أما في الرخاء فالجميع يدعي، لكن يأبى الله إلا أن يمتحن هذا ويمتحن ذاك، ليظهر كل إنسان على حقيقته، وهذه سنة ماضية في الأولين وسنة ماضية في اللاحقين: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا} [العنكبوت:2 - 3] وما أقلهم! {وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3] وما أكثرهم! {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:43].
الصدق مرتبة رفيعة بلغها الصديق رضي الله عنه وأرضاه بأفعاله، قالها وصدق الأقوال بالأفعال، والأفعال أبلغ أثراً من الأقوال، جاء أهل مكة إلى أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه في أول البعثة يقولون له: إن صاحبك -يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم- يدعي أنه أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى السماء، ثم رجع من ليلته.
القلوب التي لم ترض بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً لم تستطع أن تتصور هذا، فقالوا: يا أبا بكر! صاحبك يدعي أنه أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى السماء، ثم رجع من ليلته، فقال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: أوقد قال؟ قالوا: نعم، قال: صدق! بكل صراحة وبكل ثقة ويقين، وبلا أدنى تردد ولا ريب، وهذه من علامات الإيمان: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15]، ما عنده شك أن قدرة الله مطلقة، وأن علم الله مطلق، وأن الله على كل شيء قدير.
قالوا: إنه يقول: أسري به وعرج به في ليلة واحدة، والمطايا لا تقطع هذه المسافة إلا في شهور طويلة، ثم ترجع في شهور أطول بعد تعب وعناء، وصاحبك من ليلة واحدة أسري به ثم عرج به إلى السماء، قال: أوقد قال؟ قالوا: نعم، قال: صدق، نصدقه فيما هو أعظم من هذا، نصدقه في خبر السماء صباح مساء، أفلا نصدق أنه أسري به ثم عرج به إلى السماء؟! فـ {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1] فسمي أبو بكر من بعدها بـ الصديق، وجاء بالصدق وصدق به.
والمواقف التي تثبت أن الصديق أهل لهذه الكلمة كثيرة، يوم الهجرة يوم امتحان عظيم، فيه تغير مجرى حياة البشرية، وانتقلت قوة الإسلام من مكة إلى المدينة، ومن هناك انطلقت كتائب الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها؛ لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، فكان يوم الهجرة يوماً عظيماً، والذي حدث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالهجرة، وبدءوا بالخروج آحاداً وفرادى وجماعات، وبقي -بأبي هو وأمي- ينتظر الأمر من السماء حتى يخرج إلى المدينة، وأبو بكر -رضي الله عنه وأرضاه- يعد العدة لمرافقة النبي صلى الله عليه وسلم، إنها رحلة من أخطر الرحلات، خرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو مطلوب حياً أو ميتاً، تخيل رجل تطلبه استخبارات الجزيرة كلها، رجل مطارد من القاصي والداني، من يأتي به حياً أو ميتاً فله مائة ناقة من أطيب أموال العرب، فمن الذي يجازف في مرافقته؟ وماذا تعني مرافقة هذا الرجل في تلك الرحلة الصعبة؟ تعني الموت، لا معنى لتلك الرحلة والمرافقة إلا الموت والهلاك.
فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر يخبره بأن الله قد أذن له بالهجرة؛ بكى الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وأخذ يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: الصحبة الصحبة، أسألك بالله الصحبة الصحبة! أتعي ماذا تعني الصحبة؟ أتعي ماذا تعني تلك المرافقة في تلك الرحلة؟ إنها الموت والهلاك، يقول عمر رضي الله عنه وأرضاه: ما غبطت الصديق على شيء كيوم الهجرة.
فهو يوم غير الله فيه مجرى البشرية.
وفي طريق الهجرة أظهر الصديق العجب العجاب، أظهر من الصدق والتفاني في خدمة الدين ما الله به عليم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر: (تارة يسير عن يميني، وتارة عن شمالي، وتارة من أمامي، وتارة من خلفي، قلت: عجب أمرك يا أبا بكر! قال: يا رسول الله! أتذكر الرصد فأخاف عليك، إن أنا هلكت يهلك رجل واحد، وإن أنت تهلك تهلك البشرية كلها) استحق الصديق أن يكون {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40].
ثم المواقف تبين أن الصديق صادق في قوله وفي فعله، في الرخاء يدعي الجميع وصلاً لليلى وليلى لا تقر لهم بذاك، دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم للنفقة، فقال عمر: والله لأتصدقن اليوم بصدقة ما تصدقها الصديق.
منافسة على الطاعات، ومسابقة إلى مرضاة رب الأرض والسماوات، لا كما هو الواقع اليوم، سباق على الدنيا وعلى حطامها، انقلبت الموازين، فبدلاً من أن نتسابق إلى مرضاة الله، بدأنا نتسابق على حطام الدنيا الفانية، يقول عمر: والله لأسبقن الصديق اليوم.
فأتى بنصف ماله، أتدري ماذا يعني نصف المال؟ أن تخرج نصف الرصيد الذي تملكه، وتنفقه بنفس طيبة راضية في سبيل الله، فجاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بنصف ماله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ماذا أبقيت لأهلك يا عمر؟ قال: أبقيت مثله) أي: أنفقت النصف وأبقيت النصف الآخر لأهلي.
ثم ظل عمر يترقب قدوم الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فجاء ووضع ماله كله في حضن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ماذا أبقيت لأهلك يا أبا بكر؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله) فقال عمر: تباً لك يا عمر! مثلك ينافس الصديق؟ ما غيرته الخلافة وما غيرته الإمارة، بل زادته تواضعاً وبذلاً للناس رضي الله عنه وأرضاه، يقول عمر: كنت أراه يصلي الفجر، ثم ينطلق من مصلاه مسرعاً، فقلت: إلى أين يذهب الصديق في مثل هذه الساعة، فتتبعته، فوجدته يدخل بيتاً من بيوت المسلمين، فيمكث فيه حيناً من الزمن، ثم يخرج، فقلت: سأرى ماذا يفعل الصديق في ذلك البيت؟ يقول عمر: فلما خرج الصديق دخلت البيت، فإذا فيه امرأة عمياء معها صبية صغار، قلت: من أنت يا أمة الله؟! قالت: عمياء حسيرة كسيرة، قلت: ومن هذا الرجل الذي يدخل عليكم؟ قالت: ما نعرفه، ما تدري أن هذا خليفة النبي صلى الله عليه وسلم! ما تدري أن هذا هو أمير المؤمنين وقائدهم رضي الله عنه وأرضاه! قال عمر: وماذا يصنع عندكم؟ قالت: يحلب شاتنا، ويكنس دارنا، ويطعم صغارنا، ثم يمضي في سبيله! هذا الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ما غيرته الخلافة والإمارة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: لأسبقن الصديق غداً، قال عمر: فجئتها مبكراً قبل أن يأتيها الصديق في ذلك اليوم، فقالت لي: لقد سبقك صاحبك! جاءها أبو بكر في ذلك اليوم قبل الوقت المعتاد الذي كان يأتيها فيه! فقال عمر: تباً لك يا عمر! مثلك ينافس الصديق؟! سخروا أنفسهم وسخروا أموالهم وسخروا أوقاتهم كلها لمرضاة الله تبارك وتعالى، فقال الله عنهم: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23].(40/4)
المواقف تبين حقيقة الرجال
المواقف هي التي تبين حقيقة الرجال، أعظم مصيبة مرت على الأمة هي وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ما ابتليت الأمة ببلاء، وما أصيبت بمصيبة أعظم من فقد النبي صلى الله عليه وسلم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم حين مات ترك رجالاً يعرفون قيمة المسئولية، يعرفون أنهم مسئولون عن هذا الدين، وأنهم سيبذلون كل غالٍ وكل نفيس من أجل نصرة هذا الدين، لما مات النبي صلى الله عليه وسلم بدأت علامات النفاق وبدأت المصائب والآلام تهاجم المدينة الصغيرة من كل الجهات، ارتدت الجزيرة ولم يبق على الإسلام إلا مكة والمدينة، وبدأت الروم والفرس تتربص بالمسلمين الدوائر، فقيض الله للمرتدين أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه، فشاور القوم: ماذا تقولون في هذه الأوضاع؟ شتان بين حال الأمة بالأمس وحالها اليوم، في الأمس وجدت الأمة من ينصر دينها، ويصون أعراضها، ويحقن دماءها، ويحفظ مقدساتها في كل مكان، أين لنا بمثل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؟! قال أبو بكر لمن معه: ما رأيكم؟ شاورهم في المرتدين، قالوا: هناك جيش صغير أخرجه النبي صلى الله عليه وسلم لتأديب الروم بقيادة أسامة بن زيد الشاب الصغير ابن السابعة عشرة! اسمع يا ابن السابعة عشرة، قواد الجيوش من أبناء السابعة عشرة والثامنة عشرة، فماذا يقدم لنا أبناء السابعة عشرة والثامنة عشرة اليوم؟ بعث معاذ سفيراً إلى اليمن وهو ابن ثمان عشرة سنة، فماذا يقدم لنا الشباب اليوم؟ النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بارك لذلك الجيش ودعا له بالخروج، ثم مات النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج الجيش، وارتد من ارتد، وجمع أبو بكر المهاجرين والأنصار يستشيرهم في الأمر، فقال عمر: نصبر على المرتدين ما داموا يقيمون الصلاة حتى تنجلي الأمور، وتذهب الأحزان، وتخف الآلام، ثم شاور عثمان وعلياً فقالا بمثل مقولة عمر رضي الله عنهم وأرضاهم، أما الصديق الملهم من ربه فكان له رأي آخر، قال: أما جيش أسامة فيمضي في طريقه، من يكون ابن قحافة حتى يخالف أمراً من أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والبقية الباقية من الرجال تجتمع في المسجد استعداداً للخروج لمقاتلة المرتدين، والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه.
وقال مقولته التي لا زال التاريخ يشهد لها: أينقص الدين وأنا حي؟! فانظر إلى ديننا، وإلى بيوتنا وأسواقنا، وإلى كل مكان، من منا قال هذه المقولة، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وبذل الغالي والنفيس من أجل نصرة هذا الدين؟ خرج جيش أسامة وخرج أبو بكر رضي الله عنه بالرجال، فقاتلوا المرتدين، ومن أول معركة انتصر الصديق، وعاد للمدينة واستعد للخروج مرة ثانية، فأشاروا عليه بالبقاء، وقالوا: يا خليفة رسول الله! لا تفتنا في نفسك، فجهز الجيوش، وانطلقت الألوية، حتى فاءت الجزيرة ورجعت إلى دين الله أفواجاً، من الذي أعادها؟ أعادها الرجال، أعادها الذين صدقوا مع الله، فصدق الله معهم، بالمواقف يعرف الرجال، وفي الشدة يعرف الرجال لا في الرخاء.
تريدين إدراك المعالي رخيصة ولا بد دون الشهد من إبر النحل {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179].(40/5)
مجالات الصدق(40/6)
الصدق مع الله
أعظم مجالات الصدق: الصدق مع الله تبارك وتعالى، لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك، أسألك بالله العظيم: هل الصادق ينام عن الصلوات؟ أليس النوم وقت الصلاة من علامات المنافقين؟ أليس التخلف عن الصلوات والتكاسل في أداء الطاعات من صفات المنافقين والعياذ بالله؟ فأين صليت اليوم؟ وهل كنت صادقاً أم كنت من الكاذبين؟! ومن أعظم مجالات الصدق: أن نصدق مع أنفسنا، ومن صدق مع الله صدق مع نفسه.
ومن أعظم مجالات الصدق: أن نصدق مع الآخرين، وأن نحب للآخرين ما نحب لأنفسنا.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(40/7)
الصدق في التوبة
الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: أحبتي! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، اتقوا الله عباد الله! اتقوا الله وكونوا مع الصادقين.
أتدرون من الصادق؟ الصادق هو الذي يصدق في توبته وفي رجعته وإنابته إلى ربه تبارك وتعالى، لذلك جاء في سياق سورة التوبة بعد أن ذكر الله أخبار الثلاثة الذين خلفوا: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:118]، ثم قال الله في الآية التي تليها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] أي: كونوا مع الذين تابوا وصدقوا في توبتهم ورجعتهم وإنابتهم إلى ربهم تبارك وتعالى.
كثير منا يتوب، ولكنه يكذب في توبته، ويتمادى في خطئه وزلته، وتناسى أن الله يمهل، وأنّ الله ليس بغافل عما يعمل الظالمون.
قال منصور بن عمار: كان لي صديق مسرفا على نفسه، ثم تاب، وكنت أراه كثير العبادة والتهجد، ففقدته أياماً، فقيل لي: هو مريض، فأتيت إلى داره، فخرجت إلي ابنته، فقالت: من تريد؟ قلت: قولي لأبيك: فلان، فاستأذنت لي، ثم دخلت، فوجدته في وسط الدار وهو مضطجع على فراشه، وقد اسود وجهه، وذرفت عيناه، وغلظت شفتاه، فقلت له وأنا خائف منه: يا أخي! أكثر من قول: لا إله إلا الله، ففتح عينيه فنظر إلى بشدة ثم أغمي عليه، ثم أفاق، فقلت له ثانية: أكثر من قول: لا إله إلا الله، ثم قلتها له ثالثة، ففتح عينيه وقال: يا أخي منصور! هذه كلمة قد حيل بيني وبينها، فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قلت: يا أخي! أين تلك الصلاة؟ أين ذلك الصيام؟ أين التهجد والقيام؟ فقال: كان كل ذلك لغير الله، وكانت توبتي كاذبة، إنما كنت أفعل ذلك ليقال عني، وأذكر به، وكنت أفعل ذلك رياء للناس، فأبى الله إلا أن يطرحه، قال: فكنت إذا خلوت بنفسي أغلقت الأبواب، وأسدلت الستور، وشربت الخمور، وبارزت ربي بالمعاصي، ودمت على تلك مدة من الزمان، فأصابني مرض، وأشرفت على الهلاك، فقلت لابنتي هذه: ناوليني المصحف وأخرجوني إلى وسط الدار في الفناء، قال: فأخذوني إلى وسط الدار في الفناء، ومعي المصحف، فنظرت فيه وقرأت فيه، فقلت: اللهم بحق كلامك هذا في هذا القرآن العظيم إلا شفيتني، وأنا أعاهدك ألا أعود إلى الذنب مرة ثانية، ففرج الله عني، فلما شفيت عدت إلى ما كنت عليه من المعاصي والذنوب، وأنساني الشيطان العهد الذي بيني وبين ربي، فبقيت على ذلك مدة من الزمن، في شهوات ولذات ومعاص، أحارب رب الأرض والسماوات، فمرضت مرة ثانية مرضاً شديداً أشرفت فيه على الموت، فأمرت أهلي وقلت: أخرجوني إلى فناء الدار، وجيئوني بالمصحف، أفعل كما فعلت في المرة الأولى، فقرأت القرآن ثم رفعته إلى صدري وقلت: اللهم بحرمة هذا المصحف الكريم وكلامك إلا ما فرجت عني، قال: فاستجاب الله، لي وفرج عني، وعاهدت الله ألا أرجع إلى الذنب والعصيان مرة ثانية، لكني عدت وتناسيت وتغافلت، فوقعت في هذا المرض الذي تراني فيه الآن، فأمرت أهلي فأخرجوني إلى وسط الدار كعادتي وكما تراني، ثم قلت لهم: ائتوني بالمصحف لأقرأ فيه، فلما فتحت المصحف في هذه المرة، لم أر حرفاً واحداً من كلامه، فعلمت أن جبار السماوات والأرضين قد غضب علي، كم عاهدته وكم تبت وكذبت في توبتي، وكم وكم أمهلني وأعطاني من الفرص الواحدة تلو الأخرى! فعلمت أنه سبحانه قد غضب علي، فرفعت رأسي إلى السماء، وقلت: اللهم فرج عني، يا جبار الأرض والسماء، فسمعت كأن هاتفاً يقول: تتوب عن الذنوب إذا مرضت وترجع للذنوب إذا برئت فكم من كربة نجاك منها وكم كشف البلاء إذا بليت أما تخشى بأن تأتي المنايا وأنت على الخطايا قد دهمت قال منصور بن عمار: فو الله ما خرجت من عنده إلا وعيني تسكب العبرات، فما وصلت الباب إلا وقيل لي: إنه قد مات، {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54].
لذلك قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8].
يجب على الناس أن يتوبوا، ولكن ترك الذنوب أوجب، والدهر في مروره عجيب! ولكن غفلة الناس عنه أعجب، وكل ما ترتجي قريب، ولكن الموت دون ذلك أقرب.
اتقوا الله -عباد الله- وكونوا مع الصادقين.(40/8)
الصدق طريق إلى الجنة
الصدق طريق الجنة، والكذب طريق النار، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا زال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا زال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً).
أيبتلي الصادق؟ نعم يبتلى.
أيخذل؟ لا والله.
توجد عقبات كثيرة تعترض الصادقين فيتجاوزونها؛ لأنهم علموا ما هو الثمن المترتب على الثبات والصدق مع رب العالمين قال الله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:14 - 15].
من هم؟ {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:16].
ما هي صفتهم؟ {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17].
اللهم اجعلنا منهم ومعهم، اللهم أدخلنا مدخل صدق، وأخرجنا مخرج صدق، واجعل لنا من لدنك سلطاناً نصيراً.
اللهم اجعلنا ممن يقولون الحق ولا يخافون فيك لومة لائم.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا -يا ربنا- من الراشدين، واحشرنا في زمرة الصادقين المخلصين المنيبين يا رب العالمين! اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم اغفر ذنوب المذنبين، واقبل توبة التائبين، وتحمل منا وتجاوز عنا يا أرحم الراحمين! عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90] فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم.(40/9)
نشرة الأخبار
المآسي الموجودة في بلاد المسلمين لا تعد ولا تحصى، فقد طفحت على الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية، فما أكثر القتلى والمأسورين، وما أضعف الاقتصاد، وما أكثر ما ينفق على الرقص والغناء!(41/1)
مؤامرة اليهود في إحراق المسجد الأقصى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله! إن ما يحدث في فلسطين على مرأى ومسمع من العالم كله، لمأساة إنسانية ذات أبعاد خطيرة لم نسمع بمثلها، حيث لم ير العالم شعباً كاملاً يعاني التهجير والنفي والاغتصاب للأملاك والأعراض مع القتل والأسر وسائر سلوك الأذى، ثم يظل قسم من هذا الشعب في وضع معيشة إجبارية خارج أرضه ووطنه، وقسم يعاني حياة ذليلة داخل أرضه ووطنه، حيث يتحكم اليهود والخونة بمصادر رزقهم، حتى اضطر كثير من العمالة الفلسطينية إلى ما هو أسوأ من أكل الميتة، ألا وهو العمل في بناء المستوطنات وتعمير القرى والبلدان التي يستولي عليها اليهود، مقابل لقمة عيش ممزوجة بمرارة الاضطرار، وحرارة العوز والافتقار.
والأعجب من هذا كله أن يفرض على هذا الشعب أن يحيا أعزل من السلاح، أعزل من كل سلاح يمكن أن يدافع به عن نفسه إلا سلاح الحجارة، فأي عصر حجري هذا الذي نعيشه! بأي حق وبأي عرف أو قانون يحرم شعب كامل من الدفاع عن دمه وعرضه وماله وأرضه، وإن دافع نسب إليه الإرهاب والتطرف.
لا تلمني إن مس عقلي ذهول أو تداعى تحملي واصطباري فدموع اليتامي عبر الحنايا سلبت في الخطوب كل وقار وجراح الأقصى تمزق صدري وعدو الإسلام يحتل داري أحبتي! في مثل هذه الأيام وقبل (35) سنة، تم إحراق المسجد الأقصى بتواطؤ من السلطات الإسرائيلية، التي قامت بقطع المياه عن منطقة المسجد فور حصول الحريق، وحاولت منع المواطنين العرب وسيارات الإطفاء من القيام بإطفاء النار، وكاد الحريق يأتي على قبة المسجد المبارك، حيث استمات المسلمون الذين اندفعوا عبر النطاق الذي ضربته قوات الشرطة الإسرائيلية، وتمكنوا من إطفاء الحريق، ومع أنه استمات المسلمون في إطفاء الحريق إلا أن النار أتت على منبر المسجد، واشتعلت في سطح المسجد الجنوبي، وأتت على سقف ثلاث أروقة وجزء كبير من هذا القسم، وادعت إسرائيل أن التماساً كهربائياً كان السبب في الحريق، ولكن تقارير المهندسين العرب أوضحت بجلاء لا يدع مجالاً للشك أن الحريق تم بفعل أيد مجرمة، مع سبق الإصرار والتصميم.
مما اضطر الحكومة الإسرائيلية إلى الادعاء بأن شاباً أستراليا يدعى دنس مايكل ويبلغ من العمر (28) سنة، كان قد دخل فلسطين المحتلة قبل (4) أشهر من وقوع الحريق، هو الذي ارتكب هذه الجريمة، وزعمت حكومة الاحتلال أنها قبضت عليه وستقدمه للمحاكمة، ولكن لم يمض وقت طويل حتى أعلنت الحكومة الإسرائيلية أن دنس مايكل هذا مجنون، وأطلقت سراحه.
إنها ليست المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة في سلسلة اعتداءاتهم على الأقصى وعلى شعب فلسطين، ولست اليوم أذكركم بحق الأقصى وبحق فلسطين وأهلها، ففضل الأقصى عظيم، وحق أهل فلسطين أعظم، لكن لماذا تجرأ علينا أحفاد القردة وعباد الصليب؟ ولماذا هذا الصمت المطبق من العالم أجمع ومن العالم الإسلامي خاصة؟ أما كانت لنا الصافنات الجياد نصول على الظالم المجرم فكانت لنا عزة المؤمنين نباهي بها هامة الأنجم فماذا دهانا لنرضى الهوان أناخ على القدس في مأتم يلوث بالرجس ساحاتها ويختال في ليلها المظلم(41/2)
مآسي المسلمين
إذا أردتم أن تعرفوا سبب الاستسلام والهوان فتابعوا معي نشرة الأخبار التي سأقرؤها على مسامعكم، والتي تبين أحوال شعب الله المحتار، وقبل بداية النشرة سأقرأ عليكم أهم العناوين: مآس من فلسطين وآهات من السعودية وعجائب في مصر وآلام من أفغانستان ونظرة في سوق البورصة والأموال وماذا كان يحدث في العراق وما هي أخبار تونس والسودان وتطورات في الإمارات وخبر من الكويت وفي النشرة أخبار نسائية متفرقة وأخبار أخرى.
كانت هذه أهم العناوين فإلى تفاصيل النشرة التي سنبدؤها من فلسطين:(41/3)
مآس من فلسطين
أفاد مراسلنا في فلسطين أنه وعلى مدى عام كامل سقط 1135 قتيلاً فلسطينياً منهم 268 طفلاً دون سن الثامنة، و56 فتاة وسيدة، وقتل 35 فلسطينياً وفلسطينية على الأقل عند الحواجز الإسرائيلية برصاص الاحتلال، وبلغ عدد الجرحى على مدى عام 29 ألف جريح من بينهم 2100 أصيبوا بإعاقات دائمة، و450 فقدوا بصرهم، كما قتل 150 طالباً وطالبة وهم في مدارسهم أو في محيطها.
وأفاد مراسلنا أنه جرى قصف لـ140 مدرسة، واقتحام 29 أخرى، وتم تحويل 9 مدارس إلى ثكنات عسكرية، والجدير بالذكر أنه تم هدم 580 بيتاً فلسطينياً وتشريد أهله بصورة كاملة، وآلاف أخرى بشكل جزئي.
وذكر ناطق باسم الانتفاضة أن عدد العملاء الذين يتعاملون مع اليهود داخل فلسطين 50 ألف عميل، أما من خارج فلسطين فحدث ولا حرج، ولقد انقطع الاتصال بيننا وبين مراسلنا ولم نستطع إكمال التقرير؛ فعذراً أحبتي!(41/4)
مآس من السعودية
الخبر الثاني من السعودية: في استطلاع للرأي أجرته مجلة شباب السعودية حول أداء الشباب السعودي لصلاة الفجر في وقتها، شارك في الاستطلاع أربعة آلاف شاب، وإليكم النتيجة: 14% لا يصلون أبداً، 16% نادراً ما يصلونها، 33% يصلونها أحيانا، ً و35% فقط يصلونها دائماً، ضياع ما بعده ضياع، وصدق الذي قال: إذا أردنا النصر فلنصل الفجر.(41/5)
مآس من الكويت
وفي خبر آخر من مكان آخر، ذكرت وكالة الأنباء السرية أنه يوجد في الكويت أكثر من 37 كنيسة غير مرخصة، وغيرها عشرات في السر، كما ذكرت الوكالة أن صنم بوذا يعبد في الكويت في أكثر من ثلاثمائة موقع تقريباً، العجيب أنهم يقولون: إنها بلاد إسلام وتوحيد!(41/6)
مآس من مصر
أما من مصر فقد جاءنا الخبر التالي: كشف بحث ميداني أجراه الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاءات في مصر، أن المصريين ينفقون على الحج سنوياً ثلاثة مليارات دولار، وفي المقابل ينفقون أربعة مليارات على التدخين سنوياً.
فعذراً يا فقراء فلسطين! فاصل قصير ونتابع معكم بقية النشرة.
أهلاً بكم أحبتي مرة ثانية، ونتابع معكم نشرة الأخبار لشعب الله المحتار.(41/7)
مآس من العراق
وخبرنا الآتي من العراق، قال ناطق رسمي من الحكومة العراقية الأمريكية المؤقتة: إن الولايات المتحدة ربحت من الحصار على العراق واستمراره (300 مليار دولار) في حين مات خلال الحصار من الأطفال والشيوخ الكبار أكثر من مليون ونصف، فلتربح أمريكا ولتمت الشعوب، ولتحيا الديمقراطية المزعومة.
كما سجل تقرير للأمم المتحدة فرق الله شملها، أن المسئولين العراقيين الهالكين من حزب البعث أنفقوا 24 مليار دولار لاستيراد أنواع فاخرة من الخمور، وغيرها من السلع الترفيهية.(41/8)
مآس من الأردن
ومما يجدر بالذكر: أنه يوجد في الأردن في عمان 600 بارة لتقديم الخمور ومشتقاتها، خمور ومسكرات، والشعوب لا تجد لقمة عيش ولا دواء.(41/9)
مآس من قطر
فاصل إعلاني قصير ثم أتابع معكم عفواً أحبتي أطلنا عليكم بالفاصل الإعلاني، لكن الخبر التالي من قطر وأبو ظبي.
ذكرت قناة فضائية أن قطر أنفقت (50 مليون دولار) لاستضافة مؤتمر الدوحة عام (2001) وذلك للترويج لدورها الاقتصادي والسياسي والسياحي في المنطقة، وكان ممن حضر المؤتمر وفد من إسرائيل الشقيقة، وكان هدف المؤتمر تشجيع سياحة الرقص والغناء ثم الخمور وتوابعها.
أما في أبو ظبي فقد بلغت تكلفة المبنى الجديد للسفارة الأمريكية 43 مليون دولار، وسيتكون المبنى من خمسة طوابق على مساحة (10 آلاف متر مربع).
ولقد امتنع مراسلنا عن التعليق على الخبر ونمتنع عنه نحن كذلك.(41/10)
أحوال الطقس
وقفة سريعة مع أحوال الطقس ثم نتابع معكم نشرة الأخبار التي لا زال فيها الكثير من الأخبار عن شعب الله المحتار.
أما الطقس في موسكو فشديد البرودة مع سقوط طائرات، وتحطم مروحيات في الشيشان، مع توقع لهطول أمطار غزيرة ومقاومة عنيفة.
أما في الصين فرياح عاتية وتدمير للممتلكات مع توقع هدوء نسبي {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42].
أما في الهند وباكستان فهدوء عجيب لعله الهدوء الذي يسبق العاصفة.
هذا ما عندنا الآن، وعودة إلى الاستديو لمتابعة نشرة الأخبار مع الزملاء فإلى هناك.(41/11)
الأخبار الاقتصادية
أهلا بكم أحبتي مجدداً ونتابع معكم الأخبار.
إليكم أحبتي بعض الأخبار المالية والاقتصادية: حسب إحصائية البنك الدولي يعيش 37% من سكان العالم الإسلامي تحت خط الفقر، وهذه النسبة تعادل 504 مليون من سكان الأرض.
ففي السودان يقول الخبراء: إن معدل الفقر يصل إلى 90% من السكان، منهم 60% يعيشون على حد الكفاف.
وفي المغرب تقيم أكثر من (450 ألف) عائلة في مساكن عشوائية من الخشب والصفيح، 25% منهم في العاصمة الدار البيضاء، وأفادت إحصاءات أخيرة أن 19% من سكان المغرب يعيشون بأقل من دولار واحد في اليوم.
أما في أندونيسيا أكثر الدول الإسلامية تعداداً للسكان، حيث يبلغ سكانها 230 مليون نسمة، يعيش أكثر من 120 مليون منهم تحت خط الفقر.
قد تتساءل معي كيف هذا وبلاد المسلمين من أغنى البلاد؟ نعم من أغنى البلاد بكل الثروات، فاسمع بارك الله فيك! ذكرت مصادر رفضت ذكر اسمها أن حجم الأموال العربية في دول السوق الأوروبية المشتركة أكثر من (650 مليار) دولار، وفي الولايات المتحدة -قطع الله دابرها- بلغت الأموال العربية (975 مليار) دولار، وإن حجم الأموال العربية ناهيك عن الإسلامية في داخل البلاد العربية وخارجها (2275 مليار) دولار.
وقد أوضحت مصالح الزكاة أن زكاة الأموال العربية بلغت (56 مليار) دولار، ولقد سئل أحد المسئولين: لو وجهت تلك الزكاة وصرفت في مصارفها فهل ستبقى مشكلة اقتصادية أو فقر في العالم الإسلامي؟ ولقد رفض المسئولون في مصلحة الزكاة الإجابة على هذا السؤال.
لكن التقرير التالي قد يبين بعضاً من أسباب الفقر والعوز في بلاد المسلمين، قال الله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276].
ذكرت مصادر مالية أنه بلغ إجمالي الأرباح التي حققتها البنوك المحلية للعام الماضي (8160 مليون) ريال، مقابل (7599) في العام الذي قبله بزيادة مقدارها 7% عن العام الذي قبله.
كما أفادت جهات مسئولة أنه قد تم التعاقد مع مزيد من البنوك الخارجية لزيادة الاستثمارات والمعاملات الربوية {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279].
أما على صعيد المشاريع والأعمال الإنشائية: فلقد ذكر مراسلونا أن تكلفة مشاريع الترفيه في بلاد شعب الله المحتار في السنوات القليلة القادمة بنحو عشرة بلايين دولار، ستشمل هذه المشاريع بناء 159 فندقاً من فئتي الأربع والخمسة نجوم، منها 45 فندقاً جديداً في الإمارات، وسيحرص المهندسون على إقامة أحدث المراقص والبارات فيها لجذب أكبر عدد من السياح العرب والأجانب.(41/12)
السفر والترحال إلى البلاد الكافرة
أما أخبار السفر والترحال فبعد هذا الفاصل القصير فابقوا معنا.
أهلا بكم مرة أخرى ونواصل معكم باقي أخبار شعب الله المحتار.
أفادت دراسة نشرت في دبي أن سكان الدول الخليجية الست ينفقون ضعف ما ينفقه الأوروبيون في رحلاتهم إلى الخارج، وأنهم أنفقوا (27 مليار دولار) في العام الماضي على السياحة وتضييع الأوقات.
وأوضحت دراسة أعدتها مجموعة ورد فراذل ماني كار أن سكان الخليج سجلوا رقماً قياسياً بإقامة 70% من المسافرين منهم في فنادق فاخرة، بمعدل 20 ليلة للشخص الواحد.
ومن ناحية أخرى أفادت مصادرنا أن وزراء السياحة العرب قرروا وبإجماع إعمار لبنان لاستقبال السياح العرب بدل أن تهدر الثروات في البلاد الأوروبية، ونعم الرأي، فلبنان منكم وإليكم.(41/13)
أخبار نسائية
أما الآن فمع زميلي الآخر وطائفة من الأخبار النسائية.
أهلاً بكم أحبتي مع هذه الطائفة من الأخبار النسائية والتي أبدؤها من الإمارات.
ذكرت إحدى مصممات الأزياء في الإمارات المتحدة: أن تكلفة فستان الزفاف قد يصل إلى (50 ألف دولار) لليلة الواحدة.
عذراً يا عرائس فلسطين! كما ذكر مصدر آخر أنه خلال صيف العام الماضي قدر ما أنفقته النساء الخليجيات على شراء ملابس السهرات والإكسسوارات ومواد التجميل بـ (300 مليون دولار)، كما أفاد المصدر نفسه أن أكثرهن لسن بجميلات.
وذكرت إحدى الصحف المحلية: أنه بلغت مبيعات العطور النسوية في السعودية بليون ريال، ومع هذا لا زلنا نشم روائح كريهة تنبعث من الكاسيات العاريات في الأسواق والمجمعات.
نكتفي بهذا القدر من الأخبار النسائية ونتابع معكم مزيداً من أخبار النساء في نشرة أخبار الساعة الثانية ليلاً فاسهروا معنا.
عفواً: لقد نسيت أن أقرأ عليكم هذا الخبر النسائي، والذي مفاده أن هناك (6000 امرأة) أذربيجانية يقبعن في سجون الإمارات، و (10 آلاف) أخريات في سجون باكستان.
وقد ذكر شاهد عيان أن أولئك النسوة غادرن بلدهن بغرض العمل، وعند الوصول خدعن وأجبرن على ممارسة الدعارة، وقال الشاهد أيضاً: إنه رأى كثيرات من جنسيات متعددة في تلك الديار.
وعودة إلى زميلي ونشرة الأخبار.(41/14)
مؤشرات البورصة
أتابع معكم نشرة الأخبار، ومع مؤشرات البورصة لأسعار المغنين العرب والراقصات.
ذكرت إحصائيات إلى أن مؤشرات بورصة الأسعار للمغنين العرب سجلت ارتفاعاً ملحوظاً، وإليكم بعضاً من هذه المؤشرات التي تبين لكم كم بلغت تكلفة وعائدات المغنين والمغنيات والراقصين والراقصات.
ذكرت المؤشرات ما يلي: يحصل ابن عبده على 40% من دخل الحفلة الواحدة، ويتراوح سعر التذكرة ما بين 450 إلى 750 جنيهاً، ومما يجدر الإشارة إليه أن الحضور بالآلاف.
وقال ناطق باسم اللجنة المنظمة: إنهم قد يضطرون إلى إقامة الحفلات في ملاعب كرة القدم إذا وافقت الجهات المسئولة، وذلك للإقبال الكثير على الحفلات الغنائية.(41/15)
خبر عاجل
عفواً أحبتي! جاءنا هذا الخبر العاجل: أعلنت الحكومة الإسرائيلية أنها لن ترضخ لمطالب الأسرى الفلسطينيين ولا المعتقلين، ولن تأبه بالعرب مهما كانت الضغوط الدولية، واعتبرت أن أي تدخل في ذلك يعد من التدخل في أمور إسرائيل الداخلية.
مما يجدر الإشارة إليه أنه يقبع في سجون الاحتلال آلاف من الفلسطينيين، يفتقرون إلى أبسط الحقوق والواجبات، وقد أضرب هؤلاء الأسرى عن الطعام منذ 13 يوماً، على أمل أن يلتفت العالم إلى قضيتهم.
لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي(41/16)
أسعار البورصة للفنانين
وعودة إلى مؤشرات البورصة للفنانين والفنانات والراقصين والراقصات: أشارت أسعار البورصة إلى أن الفنانة بنت غولي تتقاضى (100 ألف دولار) على الحفلة الواحدة، أما ابن شاكر والساهر فيتقاضى كل منهم (60 ألف دولار) في الليلة الواحدة.
كما ذكرت المؤشرات إلى زيادة في دخل المسماة أصالة وهي بعيدة عن الأصالة، فقد زاد دخلها إلى (30 ألف دولار) للحفلة.
أما بنت سعيد فقد سجلت انخفاضاً ملحوظاً في عائدات حفلاتها، إذ بلغ دخلها في الليلة الواحدة (15 ألف دولار) فقط مسكينة، كبر سنها وقل زبائنها.
ومن ناحية أخرى فلم يحيي ابن دياب إلا حفلة واحدة بـ (30 ألف دولار)، ثم اعتذر عن باقي الحفلات لوعكة صحية في الحبال الصوتية، أخرسه الله وأخرس أمثاله.
أما على صعيد الرقص وهز الأوساط فقد بلغ متوسط دخل الرقاصة إلى (36 ألف دولار) شهرياً، مما حدا بكثير من الأسر الفقيرة إلى توجيه بناتهم إلى هذه الوظيفة المغرية الشريفة، خاصة بعد نشرت إحدى الصحف أن الرقاصة بنت عبده تقاضت (25 ألف جنيه) عن كل فقرة من الرقص مدتها 30 دقيقة، وكل رقصة وأنتم بخير.
أحبتي! هناك الكثير الكثير من الأخبار عن شعب الله المحتار، ولكني لن أستطيع أن أقرأها عليكم، وأظن أن فيما ذكرنا كفاية لمعرفة أسباب الذل والهوان التي تعيشه أمتنا، كيف نهنأ وكيف نرتاح وجراح الأقصى ملأت الصدور، والنداءات ملأت الآذان.
أسال الله أن يردنا إليه رداً جميلاً.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(41/17)
أسباب ضياع بلاد المسلمين
الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وإخوانه.
عباد الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله عباد الله، {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281].
أحبتي! ضاعت فلسطين وضاعت كثير من بلاد المسلمين بسبب لهونا وغفلتنا، فما منا من أحد إلا وهو مسئول عن العمر فيما يفنيه، وعن الشباب فيما يبليه.
أحبتي! إن واقع الأسر والبيوت مرير أليم، فما أن تحين ساعة الغروب حتى تتحلق أسرنا أمام الشاشات والقنوات، تتحلق أمام التلفاز تتعلم من دروسه التطبيقية حتى ساعات الليل الأخير.
نريد أن تحيا بيوتنا وأسرنا التي دمرها ذلك الجهاز الذي اغتال فينا الحياء، فقتل الفضيلة وأبعد وألهى عن الدين، وبلد أحاسيسنا، وخدر قلوبنا.
عباد الله! أما للسبات من آخر! أما للقلوب من صحوة! أما للعقول من وثبة! ماذا حل بنا؟ وأين ذهبت عزتنا ووحدتنا، ألم يخبرنا ربنا بأن كان عليه نصر المؤمنين؟ ألم يعدنا ربنا بأن جند الله هم الغالبون؟ وما الذي حدث ولماذا تأخر النصر علينا؟ الذي حدث أننا حاربناه فخذلنا، نعم وبألم في القلب لا يعلمه غير الذي خلق، أقول: حاربناه وتباهينا بمحاربته، ووالينا أعداء الله من اليهود والنصارى، فانتكسنا ثم انتكبنا على موائد الاستسلام.
ما كان للهامات أن تنحني لو كان فيها عزة المسلم لقد استبدل كثير منا الذي هو أدنى بالذي هو خير، وبدل أن نرفع شعار الإسلام رفعنا شعارات القومية العربية والقبلية، فتفكك البنيان، وسقط النصر من أعلى مكان، وقد بات واضحاً لكل ذي عقل ولب، أن لا خير في شرق ولا غرب، ولا خير في رأسمالية ولا اشتراكية، ولن تعود لنا عزتنا إلا برفع شعار هذا الدين الذي رضيه الله لنا رب العالمين، فأتم علينا نعمته، فنحمده سبحانه نحمده، وبالدين تقر العيون وتطمئن القلوب ويتحقق النصر وتصان الأعراض.
وحينها سيفرح الأقصى بعودته إلى حوزة المسلمين، وما ذلك على الله بعزيز {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:4 - 7].(41/18)
عهد ووعد
عهد ووعد: لن ننسى فلسطين ولن نتخلى عن أقصانا: يا قدس يا محراب يا مسجد يا درة الأكوان يا فرقد سفوحك الخضرا ربوع المنى وتربك الياقوت والعسجد أقدام عيسى باركت أرضها وفي سماها قد سرى أحمد أبعد وجه مشرق بالتقى يطل وجه كالح أسود لا والله، لا زال عندنا رجال لا يعرفون يأساً ولا يرضون ذلاً، وهم على درب محمد سائرون.
الذي نعرفه أن التمكين لدين الله قادم قادم بنا أو بغيرنا {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33].
متفائلون مستبشرون، فعلامات الخير بادية، ومؤشرات الإيمان ظاهرة، فشبابنا بدءوا يعودون ويتسابقون إلى بيوت الله بوجوه تشع بالنور كأنها أقمار، سلاحهم القرآن، ولباسهم التقوى والإيمان، فبارك اللهم في شبابنا وفي ديننا ونسائنا وأطفالنا.
فيا أيها المسجد الجريح سلام لك عهد على المدى لن نخونه إن علت راية الرسول ودوت دعوة الله وهي فينا سجينه أنت فينا الدماء حتى تروى صخرة القدس والقباب الحزينه متفائلون مستبشرون رغم الأخبار الماضية، فشمس العزة لا بد ساطعة، وسيبزغ الفجر، وسيلوح الضياء، وسيظهر الخيط الأبيض ويتميز من الأسود، وسيبتسم الصباح قائلاً: لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227].
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الموحدين.
اللهم احفظ أقصانا ومقدساتنا من دنس اليهود الغاصبين، وامنن علينا بصلاة فيه يا رب العالمين! اللهم كن مع أسرانا في فلسطين، وكن معهم في غوانتنامو، وكل مكان يا رب العالمين! كن لهم عوناً وظهيراً ومؤيداً ونصيراً، اللهم انصر من نصرهم واخذل من خذلهم، اللهم من سعى في فكاكهم ففك رقبتهم من النار، اللهم من خذلهم فاخذله يا جبار، اللهم من سعى في فكاك أسرانا ففك رقبته من النار، اللهم من خذلهم وتخلى عنهم فاخذله وتخل عنه يا جبار! اللهم أخرج الصليب من عراقنا أذلة صاغرين، لا ترفع لهم في بلاد المسلمين راية، ولا تحقق لهم في بلاد المسلمين غاية، أخرجهم منها أذلة صاغرين، انصر المجاهدين في سبيلك الذين يقاتلون من أجل إعلاء كلمة دينك، انصر من نصرهم اخذل من خذلهم، قو عزائمهم، اربط على قلوبهم وثبت الأقدام.
آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون.
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(41/19)
نعم الله علينا
إن لله على العباد نعماً عظيمة، ومن هذه النعم نعمة الأمن، فلا يقوم الدين والإيمان إلاّ في ظل الأمن والأمان، ولا تقوم أمور الدنيا والمعاش إلاّ في حال وجود الأمن، فالأمن نعمة لا يستغني عنها الفرد ولا المجتمع إلا من افتقدها كالمرضى والأرقى.
ومن نعم الله أيضاً على العباد: نعمة الابتلاء، فإذا أحبّ الله عبداً ابتلاه وأصاب منه، وذلك مشروط بأن يصبر العبد ويحتسب ذلك عند الله تعالى.(42/1)
نعمة الأمن والأمان وأثرها في المجتمعات
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله! نعم الله تعالى في الكون لا تعد ولا تحصى، قال جل شأنه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، وإذا كان الإنسان لا يعرف نعمة الله عليه فكيف له أن يقوم بشكرها؟! ولقد أخبرنا الله تبارك وتعالى أن الإنسان محاط بنعم لو أفنى عمره كله في عدها لما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فنعم الله أكثر من أن يحصيها العباد فضلاً عن أن يقوموا بشكرها.
عباد الله! لن أحصي عليكم النعم، ولن أعدها عليكم، ولكني سأذكر نفسي وإياكم بنعم ثلاث ألفها الناس وتعودوها، فلذلك لم يعرفوا قيمتها، ولم يؤدوا شكرها، لكن من فقد هذه النعم فإنه يعرف قيمتها ومعناها.
عباد الله! إنّ ما يحدث في بلادنا هنا وهناك من مواجهات، وتفجيرات، وقتال، وزعزعة للأمن، وترويع للآمنين لا نقبله، ولا يقره عاقل بأي حال من الأحوال، والمستفيد الوحيد من ذلك هم أعداء الله وأعداء الدين، الذين يسعون لزعزعة أمن هذا البلد خاصة وسائر بلاد المسلمين، والمتضرر من ذلك هم أهل هذا البلد الكريم الذين بدءوا يفقدون نعمة الأمن والأمان.
فهذه أول النعم التي أردت أن أذكِّر نفسي وإياكم بفضلها وعظيم شأنها، فالأمن نعمة عظيمة من نعم الله تبارك وتعالى، والله يمتنّ بها على من يشاء من عباده، حيث يشعر فيها الإنسان بلذة الدنيا والنعم التي فيها، فالخائف لا يذوق طعم النعمة لا في مال، ولا في صحة، ولا في غير ذلك، ولهذا كان الأمن نعمة عظيمة، وكان الخوف بلاء عظيماً، والأمن هو طمأنينة في النفس، يقابله الخوف، قال الراغب الأصفهاني: أصل الأمن طمأنينة النفس، وزوال الخوف.
عباد الله! إن الإنسان لا يشعر بحقيقة الأمن إلا عندما يخاف ويشتد خوفه، فكلما كان خوفه أكثر كان شعوره بالأمن حينما يأمن أعمق وأقوى، ومن عرف الشيء ثم فقده فإنه يعرف قيمته، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام لما عرف قيمة الأمن دعا ربه أن يجعل البلد الذي ترك فيه ابنه وزوجه آمناً مطمئناً: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} [البقرة:126]، فطلب نعمة الأمن أولاً، فاستجاب الله دعوة إبراهيم، ولهذا امتنّ الله على قريش بهذه النعمة التي كفروها بعدم إيمانهم واستجابتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67]، فلما كفروا نعمة الله أبدلهم بالأمن خوفاً.
واستمع إلى حال موسى عليه الصلاة والسلام عندما كان خائفاً حينما قتل الرجل خطأ، فخرج خائفاً، ثم أنعم الله عليه بالأمن، قال تعالى: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ * فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ * وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:18 - 20]، وما أقل الناصحين اليوم! {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:21 - 25].
فحالة موسى عليه السلام عندما أصبح في المدينة خائفاً أيضاً، وعندما خرج من المدينة خائفاً يترقب تمثل حالة الإنسان الخائف الفزع الذي يريد الهروب من بطش الظالمين، وعندها توجه إلى ربه أن ينجيه من القوم الظالمين.
يقول صاحب (الظلال): ولفظ (يترقب) يصور هيئة القلِق المتوجِّس الذي يتوقع الشر في كل لحظة، والتعبير يصور هيئة القلق بهذا اللفظ، كما أنه يضخمها بكلمتي: (في المدينة)، فالمدينة عادة موطن للأمن والطمأنينة، فإذا انقلبت المدينة إلى مكان خوف وذعر، فأي نعمة أمن نتكلم عنها! عباد الله! تلك هي صورة من صور الخوف والفزع الذي ينتاب الإنسان المؤمن الهارب من الظالمين، وهذه الصور كثيرة جداً، فتأمل في خروج النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة هارباً من الظالمين، فأوى إلى الجبال وهم يطاردونه من كل الجهات، فالجبال تحبنا ونحبها كما قال صلى الله عليه وسلم: (أُحد جبل يحبنا ونحبه)، وأوى فتية الكهف إلى الكهف في الجبل لما خافوا على دينهم، فهيأ الله لهم من أمرهم رشداً، وهيأ الله لهم من أمرهم مرفقاً.
عباد الله! إن نعمة الأمن نعمة عظيمة لا تقدر بثمن، بل كل النعم تفقد طعمها ومعناها إذا فُقد الأمن والأمان، وتأمل قول الله تعالى عن موسى: {فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25]، فكان أول ما أعطاه إياه أن هدأ من روعه، وهذا أهم شيء يعطاه الخائف، فلا حاجة للطعام ولا للشراب إذا وجد الخوف والفزع، فإن أهم ما يحتاجه الإنسان في ذلك الموقف هو الأمن والأمان.
قال صاحب (الظلال): لقد كان موسى في حاجة إلى الأمن كما كان في حاجة إلى الطعام والشراب، ولكن حاجة النفس إلى الأمن كانت أشد من حاجة جسمه إلى الطعام والشراب، فتأمل في قول الشيخ الوقور له: (لا تخف) فجعل أول لفظ يعقِّب فيه على قصة موسى وخبره بالأمن والأمان، ليلقي في قلبه الطمأنينة، ويشعره بالأمان.
عباد الله! ذكر الله لنا في القرآن أخباراً وقصصاً عن قرى وأقوام كانت آمنة مطمئنة، ثم تبدل أمنها خوفاً؛ بسبب تكبرهم وتجبرهم على أمر الله، وبسبب ذنوبهم ومعاصيهم وكفرهم بأنعم الله.
وضرب الله لأهل مكة الأمثال، وذكر امتنانه عليهم بالأمن والأمان، فالحرم آمن، ومن دخله كان آمناً، إلا أن الله أبدل أمنهم خوفاً بسبب كفرهم، قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112]، فهذا المثل يراد به أهل مكة وكل من امتن الله عليهم بالأمن والأمان، قال سبحانه: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:3 - 4].
قال ابن كثير: وهذا مثل أريد به أهل مكة، فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة يتخطف الناس من حولها، ومن دخلها كان آمناً لا يخاف، فبدلوا نعمة الله كفراً.
وكذلك ذكر الله تعالى عن أصحاب الحجر أنهم كانوا يعيشون في أمن وأمان قال تعالى: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ * وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ} [الحجر:80 - 82]، فالأمن نعمة عظيمة من نعم الله تبارك وتعالى، فانظروا كيف يكون حال الإنسان لو أنه عاش في خوف وهلع، فإنه لا يحس بطعم الحياة ولا بلذتها؛ لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أصبح آمناً في سربه) تأمل كيف بدأ بنعمة الأمن قبل كل النعم (من أصبح آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) أخرجه الترمذي وحسنه وابن ماجة.
قيل لأحد الحكماء: ما النعيم؟ قال: الأمن، فإني رأيت الخائف لا يهنأ بعيش، قيل: زدنا؟ قال: العافية، فإني رأيت المريض لا يهنأ بعيش، قيل: زدنا؟ قال: الشباب فإني رأيت الهرم لا يهنأ بعيش.
والسؤال الذي يطرح نفسه عباد الله! هو: ما هو سبب ذهاب الأمن والأمان؟
و
الجواب
إن سب ذلك الظلم والطغيان والتكبر ع(42/2)
نعمة الصحة والعافية والغنى
عباد الله! ومن النعم العظيمة التي لم يعرف الناس قدرها وقيمتها نعمة الصحة والعافية، فنعمة الصحة والعافية نعمة عظيمة على الإنسان، ولكن الناس لطول إلفهم للصحة والعافية لا يعرفون قيمة هذه النعمة، وقد قيل في المثل: الصحة تاج على رءوس الأصحاء، ولا يعرفها إلا المرضى، فالإنسان المريض يكون ضعيفاً ولا يستطيع القيام بأمور الحياة على الوجه المطلوب، وأما الإنسان القوي فإنه يقوم بمهامه خير قيام، ولهذا امتدح الله ورسوله القوة، فقد جاء على لسان ابنة شعيب عن موسى عليه السلام قولها: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]، وكما قال الله عن طالوت: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)، رواه مسلم.
فالصحة عباد الله! نعمة عظيمة يجب على الإنسان أن يحس بها، وأن يقوم بشكرها، فالإنسان لو أصيب بأدنى مرض فإنه لا يجد طعم الحياة، إذا قد يتمنى بعضُ المرضى الموت؛ لشدة الآلام التي يجدونها، لكن كما أن المرض عباد الله! ابتلاء عظيم يمتحن الله به الناس، فإن فيه من النعم العظيمة ما الله به عليم، إذا علم المرء أن هذا من البلاء وصبر واحتسب -أي: صبر على المرض- نال الأجر العظيم، ففي المرض حط للذنوب، وتكفير للسيئات، والله تعالى إذا أحب عبده المؤمن فإنه يبتليه بشتى الابتلاءات، وإذا صبر فإن له أجراً عظيماً، فقد روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة).
عباد الله! لقد ابتلى الله تعالى أيوب عليه الصلاة والسلام بالمرض، فقال الله عنه: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44]، ثم بسبب صبره وأوبته إلى الله امتن الله عليه بالصحة والعافية، قال الله عنه: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:83 - 84]، فتأمل قول: (وذكرى للعابدين)، ولقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)، وقال أيضاً صلوات ربي وسلامه عليه: (إن أول ما يسأل عنه العبد من النعم يوم القيامة أن يقال له: ألم نُصحَّ جسمك، ونرويك من الماء البارد).
وأخرج ابن أبي الدنيا عن وهب بن منبه قال: رءوس النعم ثلاثة: أولها نعمة الإسلام التي لا تتم النعم إلا بها، فاحمد الله على هذه النعمة العظيمة.
والثانية: نعمة العافية التي لا تطيب الحياة إلا بها.
والثالثة: نعمة الغنى التي لا يتم العيش إلا بها.
وزدتُ أنا رابعة وقد ذكرتها قبلاً، وهي: نعمة الأمن والأمان، فلا تطيب كل هذه النعم إلا بها.
اللهم! عافنا في أبداننا، وأسماعنا، وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أبقيتنا، واجعله الوارث منا، ولا تجعل مصيبتنا يا ربنا! في ديننا، واحفظ علينا أمننا وأماننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمرنا.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(42/3)
نعمة الابتلاء وأثرها(42/4)
الابتلاء نعمة عظيمة
الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
اللهم! صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: عباد الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله عباد الله، {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281].
أحبتي! من النعم العظيمة التي لا يعرف الناس قيمتها، بل قد يستغرب البعض إذا ذكرتها: نعمة الابتلاء، فالابتلاء نعمة عظيمة يمنّ الله بها على عباده المؤمنين خاصة، فالمؤمن ينظر إلى الابتلاء على أنه نعمة عظيمة، فكلما كان الإنسان إلى الله أقرب فإنه ينزل عليه من البلاء ما يكفر به ذنوبه، ويرفع درجاته؛ حتى يكون عند الله من المقربين، فالابتلاء عباد الله! نعمة عظيمة إذا تلقاها العبد المؤمن بالصبر والاحتساب عند الله تعالى، وينظر إليها على أنها من محب لمحبوبه، فالله يحب عبده المؤمن حباً عظيماً، ومع هذا فإنه قد ينزل عليه من البلاء ما لا تطيقه عادة البشر.
والابتلاء معناه: الاختبار، قال الراغب الأصفهاني: بلوته: أي اختبرته، فكأني: أخلقته من كثرة اختباري له، قال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31] أي: نعلم حقيقة ما عملتم، الله ينزل على العباد هذه الابتلاءات من خوف، وجوع، ونقص من الأموال والأنفس والثمرات؛ يختبرهم بذلك، فمن صبر واحتسب كان له الأجر العظيم، ومن لم يصبر كان له العذاب المقيم، قال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157].(42/5)
فوائد الابتلاء في الدنيا والآخرة
عباد الله! إنّ في الابتلاء فائدة عظيمة تعود على المؤمن في أمور دينه ودنياه: أما في دينه: فتقوى عقيدته، وتقوى صلته بالله تبارك وتعالى، وذلك أن الرضا بالبلاء يجعل المؤمن متصلاً بالله تبارك وتعالى، فهو متصل بربه في السراء والضراء، وفي جميع الأحوال.
وأما في دنياه: فإنه يعتاد أن يتلقى المصائب بصبر واحتمال، وبالتالي فإن الأمر يكون بالنسبة له سيان، أي: سواء أكان في السراء أو في الضراء، فإنه يتلقى المصائب بالرضا، فتتحول حياته إلى عطاء وبذل دائم، فلا يعرف الجزع ولا القنوط ولا اليأس؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن).
قال صاحب (الظلال) في بيان الابتلاء: ولا بد من تربية النفوس بالبلاء، ولا بد من امتحان التصميم على المعركة مع الباطل بالمخاوف والشدائد، ولا بد من الابتلاء ليصلب عود أصحاب العقيدة ويقوى، فالشدائد تربي، والشدائد وتخرج الرجال، تخرج مكنون القوى، ومذخور الطاقات، وتخرج من النفوس والقلوب أشياء ما كان ليعلمها المرء لولا الشدة والامتحان، ولن يعرف ذلك إلا تحت مطارق الشدائد.
انتهى كلامه رحمه الله.(42/6)
فوائد الابتلاء بالفقر
عباد الله! إنّ الابتلاءات والمحن نعم عظيمة على المؤمن، تتربى فيها النفوس على الصبر، فيقوى بذلك الإيمان، فالفقر ابتلاء من الله، فإذا صبر الفقير واحتسب كان الفقر له نعمة عظيمة من الله.
فمن فوائد الفقر: أن الفقير أقل حساباً يوم القيامة من الغني، ولهذا فإن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء، روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام)، وروى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اطلعتُ في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء).
وقد ذكرنا في الخطبة الأولى أن المرض ابتلاء من الله وامتحان، فإذا صبر المريض على ذلك واحتسب كان المرض له نعمة عظيمة، فالمرض تكفير للذنوب، وحط للخطايا، قال صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)، رواه مسلم.
إذاً عباد الله! فكل مصيبة تصيب المؤمن فإنها تكون نعمة عليه إذا صبر واحتسب، وتكون نعمة عليه لو أنه نظر في أمور أخرى منها: أنها لم تكن في دينه، وأنها لم تكن أعظم مما كانت.
أخرج ابن أبي الدنيا عن شريح قال: ما أصيب عبد بمصيبة إلا كان لله عز وجل فيها ثلاث نعم: أنها لم تكن في دينه، وأنها لم تكن أعظم مما كانت، وأنها لا بد كائنة مهما كان.
وعن عبد الله بن المبارك عن سفيان قال: كان يقال: ليس بفقيه من لم يعد البلاء نعمة، ويعد الرخاء مصيبة.
ذكر الإمام الغزالي رحمه الله كلاماً طويلاً في بيان نعمة الله في الابتلاء حيث يقول: في كل فقر ومرض وخوف وبلاء في الدنيا خمسة أمور ينبغي أن يفرح العاقل بها، ويشكر عليها: أولها: أن هناك مصائب وأمراض أكبر من هذه، فليشكر إذ لم تكن أعظم مما هي عليه.
الثانية: أنه كان يمكن أن تكون هذه المصيبته في دينه، قال رجل لـ سهل رضي الله تعالى عنه: دخل اللص في بيتي وسرق متاعي، فقال سهل: اشكر الله تعالى، كيف لو دخل الشيطان إلى قلبك، وسرق التوحيد وأفسده، ماذا كنت تصنع؟ وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ما ابتليتُ ببلاء إلا كان لله تعالى عليّ فيه أربع نِعَم: إذ لم تكن في ديني، وإذ لم تكن أعظم مما كانت، وإذ لم أُحرم الرضا بتلك المصيبة، وأني أرجو الثواب عليها من الله.
ولعل قائلاً يقول: كيف أفرح وأنا أرى جماعة ممن زادت معصيتهم على معصيتي ومع ذلك لم يصابوا بمثل ما أصبت به، وقد يكونون كفاراً؟! فأقول: اعلم بارك الله فيك أن الكافر والعاصي قد خُبِّئ لهم ما هو أكثر، وإنما أمهلهم الله حتى يستكثروا من الإثم قال تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران:178].
قال الغزالي: الثالثة من نعم البلاء أنه ما من عقوبة إلا كان يتصور أن تؤخر إلى الآخرة، ومصائب الدنيا يتسلى عنها بأسباب أخرى تهون المصيبة فيخف وقعها، وأما مصيبة الآخرة فتدوم، وإن لم تدم فلا سبيل إلى تخفيفها بالتسلي، ومن عُجِّلت عقوبته في الدنيا فلا يعاقب مرة ثانية، فالله أكرم من أن يعاقب العبد مرتين.
قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الترمذي وابن ماجة: (إن العبد إذا أذنب ذنباً، فأصابته شدة أو بلاء في الدنيا، فالله أكرم من أن يعذبه ثانية).
الرابعة من نعم البلاء: أن هذه المصيبة والبلية كانت مكتوبة عليه في أم الكتاب، وكان لا بد من وصولها إليه، ووقوعها عليه، وقد وصلت ووقع الفراغ، واستراح من بعضها أو جميعها، وهذه نعمة من نعم الله.
الخامسة من نعم الابتلاءات: أن ثوابها أكبر منها، فإن مصائب الدنيا طريق إلى ثواب الآخرة، كما يكون الدواء الكريه نعمة في حق المريض، فمن عرف هذه الأمور تُصوِّر منه أن يشكر على البلايا، ومن لم يعرف هذه النعم في البلاء لم يتصور منه الشكر، إنما الشكر يتبع معرفة النعم بالضرورة، ومن لم يؤمن بأن ثواب المصيبة أكبر من المصيبة لم يتصور منه الشكر على المصيبة أصلاً.(42/7)
البلاء نعمة إذا صبر واحتسب العبد
عباد الله إنّ في الابتلاء نعم عظيمة إذا رافقها صبر واحتساب، لكن لا يفهم من هذا أن الابتلاء أفضل من العافية، بل العافية أفضل من البلاء، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ في دعائه من بلاء الدنيا وبلاء الآخرة، روى أحمد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (مر النبي صلى الله عليه وسلم على رجل وهو يقول: اللهم إني أسألك الصبر! فقال صلى الله عليه وسلم: قد سألت البلاء، فاسأل الله العافية).
وأخرج ابن أبي الدنيا عن مطرف بن عبد الله قال: لئن أُعافى فأشكر أحب إلي من أن أبتلى فأصبر.
وقال صلى الله عليه وسلم: (يا عباس يا عم النبي! أكثر الدعاء بالعافية).
وخير ما سألتم الله عباد الله! هو العفو والعافية، فالبلاء أجره عظيم، إلا أن العافية أحب إلى نفس المؤمن، فلعل الإنسان لا يستطيع الصبر على البلاء.
اعلم -رعاك الله، وبارك فيك- أن مفاتيح السعادة ثلاثة: إذا أنعم الله على العبد شكر، وإذا ابتلاه صبر، وإذا أذنب استغفر، واعلم - بارك الله فيك- أن الله قد يبتلي بالنعم كما يبتلي بالمصائب والآلام، ووالله الذي لا إله لا هو! إن امتحان النعم أشد من امتحان المصائب والآلام، وذلك أن النعم تلهي وتطغي وتنسي إلا من رحم الله، قال الله: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا * قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} [الإسراء:83 - 84].
فتأمل أخي! نعمة الأمن والأمان، وتأمل ما يحدث لإخواننا في فلسطين والشيشان، وفي العراق وفي كل مكان، وتأمل نعمة العافية، فهناك مرضى وجرحى لا يجدون من يواسيهم أو يدفع عنهم ذلك الألم، تأمل ولعل الله تعالى أنهم قد أحبهم فابتلاهم، وهو ينظر في أحوالنا وأوضاعنا وماذا نصنع لإخواننا هؤلاء.
اللهم أنا نسألك العافية في الدنيا والآخرة.
اللهم احفظنا في ديننا ودنيانا وأهلينا وأموالنا، واستر عوراتنا، وآمن روعاتنا.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم هيئ لهم البطانة الصالحة التي تعينهم على الخير إذا فعلوه وتذكرهم به إذا نسوه.
اللهم احفظ علينا أمننا وأماننا، اللهم من أرادنا وبلادنا وبلاد المسلمين بسوء فأشغله في نفسه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين! اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يقاتلون من أجل إعلاء كلمة دينك، اللهم انصرهم في فلسطين والشيشان وفي العراق وأفغانستان، اللهم انصرهم في كل مكان يا رب العالمين! اللهم إنهم قلة فكثرهم، حفاة فاحملهم، اللهم سدد رأيهم ورميهم، اللهم كن معهم ولا تكن عليهم، اللهم إنهم خائفون فأمنهم، اللهم إنهم مظلومون فانتصر لهم يا رب العالمين! اللهم اقلب أرض الفلوجة على الكفار ناراً، واجعل سماءها شهباً وإعصاراً، اللهم سلط عليهم ما خرج من الأرض، وما نزل من السماء.
اللهم اشدد وطأتك على اليهود والنصارى المعتدين، واشدد وطأتك على المنافقين وعلى من عاون الظالمين يا قيوم السماوات والأرضين! اللهم أهلك الظالمين بالظالمين، وأخرج المؤمنين من بينهم سالمين.
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(42/8)
همم تناطح السحاب
الهمة العالية ركيزة أساسية للنجاح في الدنيا والفوز في الآخرة، والناس يختلفون في ذلك اختلافاً كبيراً، فينبغي لشباب الأمة أن يكونوا من أصحاب الهمم العالية حتى يحققوا النجاح.(43/1)
حال الناس في الأهداف والوسائل
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله! يختلف الناس في مطالبهم في أهدافهم في غاياتهم، وهم كذلك يختلفون في أمر آخر، يختلفون في الهمم التي توصلهم إلى تلك الأهداف وتلك المقاصد وتلك المطالب، فهم يختلفون في المطالب والمقاصد، ويختلفون في الهمم التي توصلهم إلى أهدافهم، فمن الناس من يتكلم عن أهداف عالية ومقاصد سامية، ولكن أفعالهم لا تصدق أقوالهم، قال أهل العلم: هذا متمنٍ مغرور، فما نيل المطالب بالتمني.
وآخرون لا يتكلمون ولكن أفعالهم تدل على أنهم أصحاب همم عالية، إذا ناداهم منادي الله لبوا وأجابوا وما ترددوا ولا تكاسلوا ولا تهاونوا.
ومن يخطب الحوراء لم يغها المهر.
فالناس تتفاوت في غاياتها وأهدافها، وتتفاوت في هممها التي توصلها إلى تلك الأهداف.(43/2)
صور مختلفة للهمم عند الناس
لاحظ الفرق بين همة هذا وهمة ذاك، أعرابي يعترض النبي صلى الله عليه وسلم في طريقه فيقول: (يا محمد! أعطني من مال الله الذي أعطاك، فإنه ليس بمالك ولا بمال أبيك)، وتخيل همة ربيعة بن كعب الأسلمي وهو يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوضوئه ليلة، ثم يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (اسأل ما تريد، قال: أتمنى رفقتك في الجنة يا رسول الله!) فشتان بين من يطلب الجنة ومن يطلب توافه الأمور.
جاءت غنائم للنبي صلى الله عليه وسلم فأخذ يوزعها بين أهل الصفة وبين المحتاجين، وأبو هريرة يرقب المنظر وهو من أهل الصفة لا يجد مكاناً يؤويه ولا لباساً يواريه ولا طعاماً يملأ بطنه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعلم بحاجته: (يا أبا هريرة أما تسألني من هذه الغنائم التي يسألني إياها الناس؟ فقال: يا رسول الله! أنا أسألك سؤالاً واحداً، فقال له صلى الله عليه وسلم: وما هو؟ فقال: أن تعلمني مما علمك الله).
أهل الدنيا وأهل الهمم الدنية يطلبون ما يواري جلودهم وما يملئون به بطونهم، أما أهل الهمم العالية فلا يرضون بدون الله تبارك وتعالى، قال: أنا أسألك أن تعلمني مما علمك الله، فقال صلى الله عليه وسلم: (أوَ غير ذلك؟ قال: هو ذاك)، يعلم أن الله يرفع أهل العلم درجات، يعلم أنه ما تقرب متقرب إلى الله بأفضل من طلب العلم الذي يوصله إلى أعالي الدرجات.
فبالعلم يعبد الله ويوحد، بالعلم يقدس الله ويمجد، {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] طريق الجنة طريق العلم (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة).
قال أبو هريرة رضي الله عنه: (فأخذ نمرة كانت على ظهري فوضعها بيني وبينه، حتى أني أرى دبيب النمل عليها، ثم أخذ يحدثني ويحدثني ويحدثني حتى قال: صرها إليك، فصررتها فأصبحت لا أسقط حرفاً واحداً من كلامه)، راوي الحديث الأول من؟ أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه، ناقل السنة الصحيحة هو أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه.
أهل الدنيا يطلبون الدنيا وأهل الهمم العالية يطلبون ما عند الله تبارك في علاه.
أبو هريرة رضي الله عنه في آخر حياته يبكي ويقول: آه من قلة الزاد وطول السفر، روى أكثر من ستة آلاف حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم ثم يشكو قلة الزاد وطول السفر.(43/3)
تفاوت الهمم، وأثر ذلك في طلب الجنة وطلب الدنيا
يقول ابن القيم رحمه الله: ووالله ما أعظم الهمم وما أشد تفاوتها، فهمم معلقة بالعرش، وهمم تدور حول الحش.
جاءت مجموعة من الشباب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كل منهم يطلب حاجته، هذا يريد شفاعة، وهذا يطلب مالاً، وهذا يريد قضاء حاجة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقضي حوائجهم، إلا واحداً منهم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أنا أريدك في أمر بيني وبينك، فلما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من قضاء حوائج هؤلاء الشباب التفت إلى صاحب الهمة العالية، فقال: وما شأنك أنت؟ قال: أنا لا أريد مالاً ولا أريد حاجة من حوائج الدنيا، أنا أريد طلباً واحداً، فقال صلى الله عليه وسلم: وما هو؟ قال: أريد مرافقتك في الجنة -فدلّه على الطريق- فقال صلى الله عليه وسلم: أعني على نفسك بكثرة السجود، فإنك ما سجدت لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة).
إن الهمم هي التي تحرك الرجال، لاحظ الفرق بين فلان وفلان، لماذا يستطيع هذا أن يترك فراشه في البرد القارس والبرد الشديد وينطلق ملبياً لنداء الله؟ ما الذي دفعه حتى ترك شهوته وفراشه مجيباً نداء ربه تبارك وتعالى، في حين لم يستطع فلان أن يتحرك من مكانه وهو يسمع منادي الله ينادي: الصلاة خير من النوم! بل هو يعلم أن تخلفه عن الصلاة يجعله في عداد المنافقين.
ما الذي يجعل فلاناً من الناس لا يقبل على درهم حرام؟ ويجعل فلاناً آخر لا يبالي أمن حلال أم حرام يأكل؟ ما الذي دفع هذا وما الذي أوقع ذاك؟ ما الذي ردع هذا وجعل ذاك يقع في الحرام؟ إنها الهمم العالية التي لا ترضى بدون الجنة ثمناً.
لذلك قال ابن الجوزي رحمه الله: إن العمر غال، فلا تقبل للعمر ثمناً إلا الجنة الناس على نوعين لا ثالث لهما: منكم من يريد الدنيا، ومنكم من يريد الآخرة، يعرف هؤلاء كما يعرف أولئك، فالأفعال أبلغ أثراً من الأقوال.
قال أحد المربيين لأحد أبنائه: إياك ثم إياك أن يكون همك المأكل والمشرب والمسكن والمنكح، فهذا هم النفس، فأين هم القلب، إن همك ما أهمك، فليكن همك الله والدار الآخرة.(43/4)
همة عمر بن عبد العزيز
سئلوا عن عمر بن عبد العزيز الذي بلغ بهمته العالية مبلغ الرجال حتى عد خامس الخلفاء الراشدين في خلافة قصيرة لم تتجاوز السنتين والخمسة أشهر وأياماً معدودة، ولكنه حقق فيها من الإنجازات ما الله به عليم، كيف استطاع؟ تساءلوا فيما بينهم: كيف استطاع ابن عبد العزيز عمر أن يحقق ما حقق؟ فقالوا: والله ما خطا خطوة إلا ونيته لله.
جعل الحياة وقفاً لله تبارك وتعالى، فحقق في فترة قصيرة ما لم يحققه أقوام في سنوات طوال.
قبل أن يتولى الإمارة كان يقول لزوجه فاطمة: يا فاطمة إن لي نفساً تواقة تشتاق إلى الإمارة.
فتولاها، فلما تولاها ارتفعت الهمم، فقال لها: يا فاطمة إن لي نفساً تواقة تشتاق للخلافة.
فتولاها، فأصبح أميراً على المسلمين، أميراً على أكثر من أربعين بلداً من بلاد الإسلام والمسلمين، دانت مشارق الأرض ومغاربها تحت إمارته.
فلما بلغ الخلافة ارتفعت الهمة فقال لها: يا فاطمة إن لي نفساً تواقة تشتاق إلى الجنة.
فسعى من أجل الجنة وعمل من أجلها، ولما كان في ساعات احتضاره في نهار العيد أمر الناس بالخروج فخرجوا من عنده فسمعوا قارئاً يقرأ: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].
لله دره، جعل الهم هماً واحداً، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من جعل الهموم هماً واحداً -يعني: هم الآخرة- كفاه الله هم الدنيا وهم الآخرة).(43/5)
كيف ترتفع الهمم؟(43/6)
تحديد الهدف سبب لارتفاع الهمة
قل لي واسألني: كيف ترتفع الهمم؟ أولاً: لا بد أن نحدد لحياتنا هدفاً، وأن نجعل لحياتنا قيمة، كثير من الناس حياتهم كالعدم، بل فقدهم أحسن من وجودهم، ماذا قدموا لأنفسهم، وماذا قدموا لدينهم، وماذا قدموا لأمتهم؟ يأكلون ويشربون ويتمتعون كما تأكل الأنعام، هذا همهم وهذه حياتهم.
أما أصحاب الهمم العالية فلهم هدف ولهم مقصد، هدفهم أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى، يحيون ويعيشون ويموتون من أجل هذا، فإذا تحدد الهدف وضح الطريق.
واعلم يا صاحب الهمة العالية! أن في الطريق عقبات وزلات يتجاوزها صاحب الهمة العالية إذا عرف معنى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
يقول ابن القيم: إن العبد المؤمن إذا وقف أمام الجبل وقال أزيحه يزيحه بإذن الله، إذا وقف صاحب الهمة العالية والإيمان الراسخ في القلب أمام جبل وقال: أزيله أزاله بإذن الله، إذا عرف معنى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
واعلم -رعاك الله- أن لا شيء مستحيل في هذا الكون إلا أمران: الأمر الأول: تغيير الأمور الكونية، الله يأتي بالشمس من المشرق، فهل نستطيع أن نأتي بها من المغرب؟ مستحيل.
الأمر الثاني: تغيير الأمور الشرعية، فدين الله لا يقبل التغيير ولا يقبل التبديل، الله فرض صلاة الظهر أربعاً فهل نستطيع أن نجعلها ثلاثاً أو خمساً؟ مستحيل.
هذان هما المستحيلان فقط، أما ما دونهما فلا مستحيل.
واعلم وأنت تسير في الطريق أن كلمة (مستحيل) لا توجد إلا في قاموس العاجزين، واعلم أن أسهل شيء يمكن تحقيقه هو الفشل.
ولا بد أن تعرف أن للطريق عقبات تتجاوزها إذا عرفت معنى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، ولكن حدد وأنت تسير في الطريق أنت تعمل من أجل من؟ هل العمل لله أم لغير الله؟ هل المقصد الآخرة أم المقصد الدنيا؟ هل الهدف جنة الرحمن أم الدنيا وما فيها؟ فحدد الطريق وحدد لمن تعمل.(43/7)
الإقبال على الله سبب لرفع الهمة
ترتفع الهمم أيضاً بالإقبال على كتاب الله.
القرآن هو الذي صنع الجيل الأول، ونحن اليوم في بعد عن القرآن لا يعلمه إلا الله، ألهونا بالأغاني والشاشات والقنوات، هدفهم إبعادنا عن مصدر عزنا ومصدر قوتنا الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي).
دخل الاستعمار الجزائر وخيم على أهلها عشرات السنين، حتى إذا ظنوا أنهم تمكنوا من البلاد وأهلها، إذا بالرجال والنساء والأطفال يخرجون ويملئون الشوارع رافعين القرآن يرددون: نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبداً من أين استمدوا القوة؟ ومن أين رجعت الروح؟ من القرآن، ترجع القوة وترجع الروح إذا رجعنا إلى كتاب الله تبارك وتعالى، والأعداء أكبر همهم الآن إبعادنا عن هذا الكتاب العزيز الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42].
اقرأ في آيات الجنة، اقرأ في آيات النار، ألا ترتفع الهمم؟ تأمل في قوله: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ * أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ * إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [الصافات:40 - 70].
إن لم ترفع مثل هذه الآيات الهمم فما الذي يرفعها؟ إن لم تشتق النفوس إلى الجنة فما الذي يشوقها؟ إن لم تهرب النفوس من النار فماذا تفعل في هذه الآيات؟ ترفع الهمم آيات الجنة وآيات النار وتبردها بقلب سليم.(43/8)
أخبار الرجال سبب لرفع الهمة
ترفع الهمم بقراءة أخبار الرجال، لن أحدثك عن أقوياء ولا عن أصحاء، بل سأحدثك عن أصحاب عاهات من أهل الأعذار، ولكن أعذارهم لم تحل بينهم وبين الوصول إلى الله تبارك وتعالى.
كان ابن أم مكتوم رجلاً أعمى من أهل الأعذار، ولكنه رأى النور بقلبه فسار في الطريق يلتمس له نوراً، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: بيتي بعيد والطريق كله هوام، وليس لي قائد يقودني إلى المسجد.
لديه جميع الأعذار الشرعية ليصلي بالبيت، فقال صلى الله عليه وسلم: (أتسمع النداء؟ فقال: نعم، فقال له صلى الله عليه وسلم: لا أجد لك عذراً).
فما تخلف الأعمى عن صلاة الجماعة، وما نام عن صلاة الفجر، فلماذا ينام المبصرون؟ ولماذا يتخلف الأقوياء؟ ولماذا يتكاسل الأصحاء؟ الأعمى يلبي النداء، ولكنه ليس بأعمى، الأعمى والله من تخلف عن أوامر الله وإن كان يسمع ويرى، الأعمى والله الذي صد عن طريق الله وهو يرى الناس يسلكون صراط الله المستقيم.
هل تظن أن همة الأعمى وقفت إلى المحافظة على الصلوات، لا ورب الأرض والسماوات، لما جهز عمر رضي الله عنه الجيوش للخروج إلى بلاد الشام تجهز الأعمى للخروج، وخرج لابساً عدة الحرب، فإذا بـ عمر رضي الله عنه يقول له: إلى أين تذهب يا ابن أم مكتوم وأنت ممن عذرك الله؟ أما قال الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} [الفتح:17]؟ فقال بهمة العالية: تحول بيني وبين الشهادة يا ابن الخطاب؟ فقال رضي الله عنه: ماذا تصنع معهم؟ فقال له: أكثر سواد المسلمين.
فخرج مع من خرج، ولما صفت الصفوف، لم يقل: أصف في الصفوف الخلفية، واحموني من النبال وضرب الرماح، بل وقف في وسط المعركة بهمته العالية وبنيته الصادقة، ثم قال: أنا أحمل لكم الراية اليوم! وهل تدري معنى مسئولية حمل الراية؟ فالراية لا يحملها إلا الأبطال، لا يحمل الراية إلا من هو أهل لحمل الراية، وهل تدري ما قد كتب على هذه الراية؟ مكتوب عليها لا إله إلا الله.
فوقف الأعمى وهو ليس أعمى، الأعمى والله أنا وأنت، حين عرف أصحاب الهمم العالية قيمة حياتهم، بذلوها من أجل الله تبارك تعالى، قال: أنا أكفيكم الراية، فحمل راية لا إله إلا الله في أرض المعركة، وهو يعلم أن الثمن غال، يعلم أنه مستهدف في أرض المعركة لإسقاط الراية، وما سقطت الراية من يد الأعمى؛ لأنه صاحب همة عالية، انتهت المعركة مع غروب ذلك اليوم، فبحثوا عن ابن أم مكتوم فإذا هو متبسم قد فارق الحياة يحتضن تلك الراية، وقد نصر الله المسلمين ذلك اليوم نصراً مؤزراً.
لكن كيف خرج، خرج من أجل إعلاء هذه الراية، كيف يبعث؟ يبعث بين ملايين البشر الذين لا يحصيهم إلا الله وهو يرفع هذه الراية.
أسألكم بالله في ذلك اليوم الذي سيجمع الله فيه الأولين والآخرين، كم هم الذين يحملون هذه الراية؟ وكم هم الذين عاشوا من أجلها؟ وكم الذين ضحوا في سبيلها؟ اللهم اجعلنا منهم ومعهم، اللهم انصرنا بالإسلام وانصر الإسلام بنا يا رب العالمين! نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(43/9)
من شب على شيء شاب عليه
الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: أحبتي! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله عباد الله، اتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله.
اعلم أنه من شب على شيء شاب عليه، فمن شب على طاعة شاب على طاعة ومات على طاعة وبعث على طاعة بإذن الله، والأعمال بالخواتيم.
هذا خبر رجل من الرجال تربى على طاعة الله، وأفنى عمره وشبابه في مرضاة الله، وبذل كل لحظة من حياته حتى مماته من أجل إرضاء الله عز وجل، منذ التاسعة والعاشرة وهو يحب الأذان، حُبب إليه رفع الأذان، كان يستأذن مؤذن المسجد -وهو طفل صغير- أن يرفع الأذان من حين إلى حين، فكان يؤذن له، حتى إذا بلغ الثانية عشرة والثالثة عشرة وقد اعتذر مؤذن المسجد، عُيَّن مكانه لحبه للأذان رغم صغر سنه.
فالتزم بالأذان صغيراً، وشب على حب المسجد، فشب وهو يرفع الأذان ويردد في كل يوم: الله أكبر الله أكبر، بلغ مبلغ الرجال ولما يتخلف عن الأذان! أسألكم بالله وهو يداوم على الأذان كم مرة حافظ على تكبيرة الإحرام؟ كم جلس بين الأذان والإقامة يدعو الله ويتضرع إليه؟ وكم جلس يقرأ القرآن، وكم جلس في روضة من رياض الجنة؟ أصبح أباً وما تخلف عن رفع الأذان، وما منعته دنياه ولا تربيته لأبنائه عن رفع الأذان، والصدع بـ (لا إله إلا الله والله أكبر) حتى أصبح شيخاً كبيراً وما تخلف عن ذلك، يمسك الناس ويفطرون على أذانه، فهو من أغبط الناس وأحفظهم على الأذان.
أصبح شيخاً كبيراً، ثقلت خطاه وهو يذهب إلى المسجد وما تخلف عن الأذان، شب أبناؤه وكبروا، وقد تربوا تحت ظله ورعايته يحبون المساجد كما كان أبوهم.
وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه أراد أهله وأبناؤه بعد سنوات طوال أن ينتقلوا إلى دار بعيدة عن مسجده الذي تربى فيه وترعرع فيه وقضى أيام حياته فيه، فانتقلوا فأصبح من الصعب أن يلتزم بالأذان ذهاباً وإياباً خمس مرات، فقال لأبنائه: خذوني إلى المسجد صلاة الفجر ولا ترجعوا لي إلا بعد صلاة العشاء، واستمر على هذه الحال سنوات طوالاً، يمكث في بيت الله من صلاة الفجر حتى صلاة العشاء في قراءة قرآن وذكر وخدمة لبيت الله تبارك وتعالى.
حتى ثقلت خطاه وأقعده المرض في البيت، وأصبح من أهل الأعذار، فكان إذا سمع النداء يبكي ويتذكر كم مرة صدع بـ (لا إله إلا الله والله أكبر).
وجاءت صلاة ظهر في أحد الأيام فأحس في نفسه خفة وقوة، وقال لأبنائه: خذوني إلى المسجد، فاغتسل وتطيب ولبس أحسن الثياب، ثم ذهب إلى المسجد مبكراً قبل رفع الأذان، واستأذن من المؤذن حتى يرفع الأذان في ذلك اليوم، فأذن له، فرفع الأذان بعد أن انقطع عنه لفترة طويلة، أخذ يردد: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، وهو يبكي، ويتذكر تلك الأيام الجميلة كم صدع بهذا النداء الخالد.
فلما انتهى من أذانه ودعا بالمأثور رجع إلى الخلف يصلي لله ركعتين، صلى وركع وسجد ولم يرفع رأسه بعدها، ذهب إلى ربه وهو ساجد أمامه، عاش وهو يحب الأذان، ومات بعد أن صدع بالأذان، شب عليه وشاب عليه ومات عليه.
هو يحب الأذان، ويحب الصلاة، ويحب المسجد، ويحب القرآن، ويحب الدعاء، ويحب التسبيح والتكبير والتهليل، فماذا نحب أنا وأنت؟ أحبا الله فأحبهم، وبذلوا أنفسهم في مرضاته فأحسن لهم الختام، بالهمم العالية، بالنيات الصادقة يصل المرء إلى ما يريد إليه.
فيا أيها الشاب! اعمل فإنك في زمن القوة، أيها الشيخ الكبير! اعمل فأنت في زمن الإمهال، فالأعمار معلومة والآجال محدودة، وسينال كل منا زرع ما حصد، إما أن توصلك همتك العالية إلى أعلى الدرجات، أو تودي بك في الدركات.
فاسألوا الله الهمة العالية، واطلبوا العون على مرضاته.
يقول شيخ الإسلام: تأملت أجمل الدعاء وأنفع الدعاء، فوجدته طلب العون على مرضاته، فردد صباح مساء: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم أعط نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، إنك أنت وليها ومولاها.
اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، اجعلنا يا ربنا من الراشدين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتبعاه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم احفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! وول علينا خيارنا واكفنا شرارنا، ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والفواحش والفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق يا حي يا قيوم! اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يقاتلون من أجل إعلاء دينك، انصرهم في الفلوجة وفلسطين، انصرهم في الشيشان وأفغانستان، انصرهم في السودان وفي كل مكان، انصر من نصرهم، واخذل من خذلهم، صن أعراضهم، واحقن دماءهم، وفك أسرانا وأسراهم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم عليك بالصليبيين المعتدين، وباليهود الغاصبين، وبالشيوعيين والوثنيين الآثمين.
اللهم اشدد وطأتك عليهم، اللهم اشدد وطأتك عليهم، اللهم اشدد وطأتك عليهم، وأرنا فيهم عجائب قدرتك وقوتك يا رب العالمين! اللهم اشف صدورنا بهزيمة الصليبيين، اللهم اشف صدورنا بقتلهم وتمكين المجاهدين يا رب العالمين! اللهم أخرجهم من العراق، ومن فلسطين، ومن بلاد المسلمين أذلة صاغرين، إنهم لا يعجزونك يا قوي يا عزيز! عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون.(43/10)
وصايا جبريل عليه السلام
هذه وصايا أوصى بها أمينُ السماء جبريلُ عليه السلام أمينَ الأرض محمداً صلى الله عليه وسلم، وهي وصايا عظيمة جليلة، كل وصية منها تستوجب الوقوف عندها وقفات طويلات للتأمل والتدبر؛ لما حوته من المواعظ العظيمة، والعبر الجليلة، فما أحرانا أن نقف عند هذه الوصايا وقفة تأمل وتدبر، عسى الله أن يفتح قلوبنا لها، وأن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.(44/1)
الاستعداد للموت فإنه آتٍ لا محالة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله! روى الحاكم في مستدركه من حديث سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيّ به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس).
فهذه خمس وصايا أوصى بها أمينُ الوحي في السماء أمينَ الوحي في الأرض، وكل وصية من هذه الوصايا تحتاج إلى وقفة تفكّر وتأمل، فجبريل يذكر محمداً صلى الله عليه وسلم، ومحمد صلوات ربي وسلامه عليه يقوم بتذكير الأمة، والذكرى تنفع المؤمنين، {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ * إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية:21 - 26].
فهذه خمس وصايا: الوصية الأولى: (يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت)، وهذا مصداق قول الحق تبارك وتعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، ومصداق قول الحق تبارك وتعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185]، فالكل سيموت إلا ذو العزة والجبروت، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
والموت فاذكره وما وراءه فما لأحد عنه براءْه وإنه للفيصل الذي بهِ يعرف ما للعبد عند ربهِ والقبر روضة من الجنانَ أو حفرة من حفر النيرانِ لذلك أوصانا نبينا صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة فقال: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) أي: قاطع اللذات الذي يحول بين العبد وبين لذاته وشهواته.
يقول ابن عمر: (كنت عاشر عشرة من الأنصار عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل: من أكيس الناس يا رسول الله؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أكيس الناس أكثرهم للموت ذكراً، وأشدهم له استعداداً، أولئك هم الأكياس، ذهبوا بشرف الدنيا وشرف الآخرة)، وليست القضية قضية الموت فقط، لكن ليت شعري كيف ستكون الخواتيم؟ وليت شعري كيف سيختم لكل واحد منا أعلى طاعات أم على مخالفات ومنكرات؟ يقول الله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، فمن عاش على الطاعة مات على طاعة، وبعث على طاعة بإذن الله، ومن شب على حب المعصية، شاب على حب المعصية، ومات عليها والعياذ بالله.
فقضية ذكر الموت هي القضية التي تحيي القلوب، فما قست قلوب الناس اليوم، ولا غفل الناس إلا لما أغفلوا ذكر الموت وما وراءه.
وما قست القلوب، وابتعدت عن ذكر علام الغيوب، وتهاونت في الطاعات، وتجرأت على المحرمات إلا لما غفلت عن ذكر الموت.
وقد كان ذكر الموت هو مدار حديث الصالحين بالليل والنهار؛ لأنه الحقيقة التي لا بد منها، وهو الغائب الذي يوشك أن يطرق الباب بلا استئذان ولا مقدمات، فلا يعرف وزيراً، ولا يعرف ملكاً ولا أميراً، والكل عند الموت سواسية، فقد تفعل كل الأشياء باختيارك إلا الموت فلن يكون لك فيه خيار، فلا بد أن تموت؛ لأن الله قال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185]، فكل نفس ستموت إلا ذو العزة والجبروت.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل أنت مستعد للموت وما وراءه أم أنك ممن سينادي بأعلى صوته: رباه! ارجعون؟ فتريد أن تستدرك ولو لحظات مما فاتك، وتتمنى أنك كنت تصلي الفجر في جماعة، وتتمنى أنك كنت من الصائمين، وتتمنى أنك كنت من المتصدقين، وتتمنى أنك حفظت الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، ولكن حيل بينهم وبين ما يشتهون، فالعمر واحد، والفرصة واحدة، ولقد أجمع أهل العلم على أن الموت ليس له وقت معين، ولا سبب معين، ولا مكان معين، بل يأتيكم بغتة وأنتم لا تشعرون.
إلى الله نشكو قسوة في قلوبنا وفي كل يوم واعظ الموت يندب نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها وحبل الردى مما نؤمل أقرب ونبني القصور المشمخرات في الهوا وفي علمنا أنا نموت وتخرب فانظر -بارك الله فيك- فما من بيت إلا ودخله ملك الموت، فأخذ حبيباً أو قريباً وتخطانا إليهم، وسيأتي اليوم الذي يتخطاهم إلينا، وقد كان السلف رحمهم الله إذا ساروا في الجنائز ترى منهم العجب العجاب، يقول ثابت البناني: كنا إذا سرنا في الجنازة فلا ترى فينا إلا متقنعاً باكياً، وكنا لا ندري من نعزي لكثرة الباكين.
وأما اليوم فضحك واستهزاء وتمثيل لمشاهد ومسلسلات عند المقابر، فالكل سيموت إلا ذو العزة والجبروت، وعش العمر الذي تريده لكن اعلم أنه سينقضي عمرك طال الزمان أم قصر، {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8]، فهذه الوصية الأولى: (عش ما شئت فإنك ميت).(44/2)
مفارقة الأحباب والأصحاب كائنة لا محالة
الوصية الثانية: (أحبب من شئت فإنك مفارقه)، وكل وصية من هذه الوصايا مرتبطة بالتي قبلها، يقول الله جل في علاه: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:14 - 17].
فـ (أحبب من شئت فإنك مفارقه)، فيا من تحب الزوجة! وطِّن نفسك على الفراق، ويا من تحب الصبية الصغار! وطِّن نفسك على الفراق، ويا من تحب الأصحاب والأحباب! وطِّن نفسك واستعد للفراق والانتقال من دار إلى دار.
واعلم -بارك الله فيك- أن بعض المحبَّات قد تنقلب إلى عداوات يوم القيامة، فاعرف من تحب -بارك الله فيك-، وما أجمل المحبة في الله! وما أجمل العطاء في الله! وما أجمل البذل في الله! وما أجمل الاجتماع في الله - تبارك وتعالى-! (أحبب من شئت فإنك مفارقه)، فبعض المحبات قد تنقلب إلى عداوات: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:27 - 29].
وقوله: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، فاعرف من تحب.
يمر أقاربي جنبات قبري كأن أقاربي لا يعرفوني وذو الميراث يقتسمون مالي ولا يألون إن جحدوا ديوني وقد أخذوا سهامهم وعاشوا فيا الله! ما اسرع ما نسوني احتضر أحد الصالحين فاجتمع أولاده من حوله، فاجتمعت الزوجة والأبناء والبنات، فقال للزوجة: ما يبكيك؟ قالت: أبكي ترملي من بعدك، وقال للأولاد: وأنتم ما يبكيكم؟ فقالوا: نبكي يتمنا من بعدك، فقال: تباً لكم! كلكم يبكي على دنياي، أما منكم من يبكي على آخرتي؟ أما منكم من يبكي عليّ إذا وُسَّدتُ التراب، وفارقني الأهل والأحباب؟! فاعرف من تحب بارك الله فيك، وهنيئاً لمن أحب القرآن، هنيئاً لمن أحب صيام الهواجر، هنيئاً لمن أحب الدعوة إلى الله، هنيئاً لمن أحب الإخوان في الله ومن أجل الله تبارك وتعالى.
بكى معاذ في ساعات احتضاره، وناجى ربه في تلك اللحظات، ثم قال: اللهم! إنك تعلم أني كنت أخافك، وأنا الآن أرجوك، اللهم! إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا لطول البقاء، ولا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لصيام الهواجر، وقيام الليل، ومجالسة العلماء.
فهم يحبون الدنيا من أجل هذا، فلأي شيء نحب الدنيا؟ ولماذا نحب البقاء؟ فـ (عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه)، فلا بد من الفراق، {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:29 - 30].(44/3)
اعمل ما شئت فإنك مجزي به
الوصية الثالثة: (واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به)، فيا من تعمل الصالحات أبشر! فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، ويا من تعمل السيئات لا تغتر بإمهال الله لك، {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى * الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:31 - 32].
وقوله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:30].
وقوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49].
وروى صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيها لكم يوم القيامة، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).
إن أعمارنا صفحات نطويها يوماً بعد يوم، فنفتح صفحة الليل ثم نطويها، ونفتح صفحة النهار ثم نطويها، ثم نسطر فيها أعمالنا من خير أو شر، وكل ذلك يكتب، ثم تأتي آخر الصفحات ليختم للعبد على ما عاش عليه، والليل والنهار يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود ووعيد، فهذا الكتاب أنت الذي كتبته، وسيخرج يوم القيامة حتى تقرأه أنت بنفسك، {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا * مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:13 - 15]، فماذا يسرك أن ترى في ذلك الكتاب؟ وماذا تحب أن ترى في ذلك الكتاب الذي كتبته أنت؟ أتحب أن ترى فيه أغاني ومسلسلات، ورقص وغناء، وربا وزنا، وفواحش ومنكرات؟ أم تريد أن ترى فيه ما يبيضّ به وجهك في ذلك اليوم العظيم، فاتقوا الله عباد الله! واعلموا أن الله قد أحصى كل شيء عدداً، ولم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها، فلا تمنِّ نفسك بالرحمة إلا إذا أخذت بأسبابها، {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]، {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ * سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ * أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ * يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ * فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:35 - 45].(44/4)
شرف المؤمن قيامه بالليل
قوله: (واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل)، فيا الله ما أجمل تلك الساعات! وما أجمل تلك اللحظات عندما يخلو أولئك الصادقون مع رب الأرض والسموات في مدرسة الصدق والإخلاص! وفي مدرسة المجاهدة والتربية في ظلام الليل حيث لا يراهم إلا الله تبارك وتعالى، وقد أثنى عليهم ربهم حين تركوا الفرش والنساء واللذات من أجل الوقوف بين يدي حبيبهم تبارك وتعالى، فقال عنهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16]، فلما أخفوا عبادتهم وقيامهم عن الناس أخفى الله ما أعد لهم من عظيم الأجر حين يلقونه تبارك وتعالى، {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:17 - 18]، أفمن صلى وقام كمن رقد ونام؟ أبداً لا يستوون.
(واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل)، وتأمل بارك الله فيك الفرق بين الشرف في الحديث وبين الشرف اليوم، فاليوم انقلبت الموازين، وسميت الأشياء بغير أسمائها، فأصبحنا نسمع عن غناء شريف، وعن رقص شريف، وعن فن شريف، وعن فواحش شريفة، فغيروا الأسماء، وغيروا المسميات، فيا الله! فهذه أشراط الساعة قد ظهرت فينا كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن من ورائكم أياماً خداعات: يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وتتكلم فيها الرويبظة، وتسمى الأشياء بغير مسمياتها)، بل إنّ كثيراً من الناس يرى أن الشرف في الحسب والنسب، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه)، والله يقول: {فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101]، ويقول: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، اللهم! اجعلنا منهم ومعهم.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(44/5)
الاستعداد لرمضان، وقضاء ما فات
الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم! صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: أحبتي! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله عباد الله! ومن تقواه العمل بهذه الوصايا العظيمة التي أوصى بها جبريلُ -عليه من ربي السلام- نبينا صلى الله عليه وسلم: (يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل).
فهاهو رمضان قد أقبل، وهو شهر الصيام، وشهر القيام، وشهر العطايا، وشهر البذل، فإن كنا حقيقة نحب رمضان فلنستعد له قبل دخوله، والاستعداد لرمضان قبل دخوله ليس بالطعام والشراب كما يصنع كثير من الناس، ولكن وطِّن نفسك من الآن على قراءة القرآن، وقيام الليل، فمن هديه صلى الله عليه وسلم في شعبان أنه كان يكثر من الصيام؛ استعداداً لاستقبال رمضان، قالت أم المؤمنين: (ما رأيته يتم صيام شهر غير رمضان كشعبان)، وهذا لكثرة ما كان يصوم في شعبان، والناس غافلون عن هذا الشهر العظيم، وما فيه من الأجر الكريم، وأن أعمال العباد تعرض على الله في هذا الشهر، فاتقوا الله عباد الله! واستعدوا للقاء رمضان قبل أن يدخل رمضان، أما ترون أننا قُبيل رمضان دائماً نمني أنفسنا بصيام وقيام وخَتمات للقرآن، فإذا دخل الشهر فشلت هذه المخططات، والسبب: أننا نريد أن نلزم أنفسنا بأشياء لم نتعودها قبل رمضان، فأين نحن من أولئك الذين كانوا يصومون على مدار العام، وأين نحن من أولئك الذين كانوا لا يتخلفون عن القيام، فاستعدوا للقاء رمضان قبل دخوله.
ومما يجب التنبيه عليه: أنّ من كان عليه أيام من رمضان الماضي فالبدار البدار، والمسارعة المسارعة إلى قضاء هذه الأيام قبل أن يحل عليه رمضان، فإن تكاسل وتهاون فإنه يجب عليه القضاء بعد رمضان مع الإطعام، ويكون آثماً على التأخير بدون سبب، فسارعوا إلى قضاء ما فات.(44/6)
عزّ المؤمن في استغنائه عن الناس
والوصية الأخيرة من وصايا جبريل عليه السلام وصية عظيمة نحتاجها اليوم، قال فيها: (واعلم أن عز المؤمن استغناؤه عن الناس)، ومعنى هذا أن يتعلق العبد بالله، كما جاء في حديث ابن عباس: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)، فلا يقِّدم للمخلوق سؤالاً، ولا يتقرب إلى المخلوق؛ فقد عزه استغناؤه عن الغير، فلا يحتاج إلا إلى الله تبارك وتعالى، فتراه يأكل ويشرب من كده وتعبه وعرقه، واعلم أن سؤال الناس مذلة، وليس بعيب أن نعمل، لكن العيب كل العيب أن نكون عالة على الآخرين، فقد عمل الأنبياء، وما من نبي إلا ورعى الغنم، وعمل موسى عليه السلام حتى يعف نفسه، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يرعى الغنم لأهل مكة؛ حتى لا يحتاج إلى الآخرين، وهكذا كان العلماء الربانيون يتكسبون كي يعفوا أنفسهم، وكانوا لا يأخذون أعطيات ولا مداهنات الأمراء والوزراء؛ حتى تكون الكلمة قوية، وحتى يستطيعوا أن يصدعوا بالحق، فالاستغناء عن الغير عزّ.
وقد دخل أحد الأمراء على عالم من العلماء وهو بين طلابه، مادّاً رجليه متبسطاً بين طلابه، فظن أنه بأُعطيته قد يستطيع أن يستحوذ على ذلك العالم، فلما جاء لم يقم له العالم للسلام عليه، بل سلم عليه وهو جالس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، وهدي محمد أولى بالاتباع من مداهنة المخلوقين، فظن ذلك الأمير أنه يستطيع أن يستحوذ على ذلك العالم بعطيته أو بماله، فأرسل إليه من يعطيه آلافاً مؤلفة من الدنانير، فقال العالم: ردها إليه، وأخبره أن من مدّ رجليه لا يمد يديه.
والتقى أحد الأمراء مع أحد العلماء في بيت الله الحرام، فأراد هذا الأمير أن يتقرب إلى هذا العالم فقال له: هل لك من حاجة نقضيها لك؟ قال: والله! إني لأستحي أن أسألك وأنا في بيته، فتحين هذا الأمير خروج هذا العالم من بيت الله الحرام، فلما التقاه في الخارج قال: والآن ألك حاجة نقضيها؟ فقال العالم: أمن حوائج الدنيا هي أم من حوائج الآخرة؟ قال: بل من حوائج الدنيا، قال: ما سألت الذي يملكها أأسألك أنت؟!! (واعلم أن عز المؤمن استغناؤه عن الغير)، ولن يكون ذلك إلا إذا تعلق بالله، وعرف كيف يطرق أبواب السماء، وعرف كيف يفتح أبواب السماء بالدعاء والسؤال والذل والمسكنة لرب الأرض والسماوات، {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18].
يقول جبريل: (عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيّ به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزُّه استغناؤه عن الغير).
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، واغننا بفضلك عمن سواك، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا يا ربنا! من الراشدين.
اللهم إنا نعوذ من التوكل إلا عليك، ومن الوقوف إلا ببابك، ومن السؤال إلا منك يا رب العالمين! اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحد سواك طرفة عين، يا رب الأرض والسموات!! اللهم بلغنا رمضان، اللهم بلغنا رمضان، اللهم بلغنا رمضان، وارزقنا صيامه وقيامه إيماناً واحتساباً يا رب العالمين! ولا تحرمنا خير ما عندك بأسوأ ما عندنا يا علي يا عظيم! وآمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين! وانصر المجاهدين في سبيلك الذين يقاتلون من أجل إعلاء كلمة دينك، انصر من نصرهم، واخذل من خذلهم، وقوِّ عزائمهم، واربط على قلوبهم، وثبت الأقدام، وفك أسرانا وأسراهم يا رب العالمين! وكُن لهم عوناً وظهيراً، ومؤيداً ونصيراً.
اللهم اكبت عدوك وعدوهم فإنهم لا يعجزونك يا قوي يا عزيز! اللهم عليك بالنصارى ومن ناصرهم، وبالشيوعيين ومن شايعهم، وباليهود ومن هاودهم، اللهم عليك بأعداء الملة والدين، فإنهم لا يخفون عليك، ولا يعجزونك يا عليم يا خبير! يا قوي يا عزيز! واجمع شملنا، ووحد صفنا، وأصلح ولاة أمورنا، وانصرنا -يا قوي يا عزيز! - على القوم الكافرين.
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90] فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45].(44/7)
وقفة
الدنيا دار ممر، وكل من عليها فان، وكل سيلقى ربه، ويرى عمله، فالعاقل من استعد للحساب، وتاب إلى ربه وأناب، وسلك طريق أولي الألباب.(45/1)
الدنيا دار ممر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله! الشيء الذي لا بد ألا ننساه، أننا في هذه الدنيا ضيوف، وأننا نعيش في هذه الحياة من أجل الاستعداد للحياة الباقية، لا بد أن نعرف ونعي أن العمر مهما طال فهو قصير، وأن هذه الحياة مهما عظمت فهي حقيرة عند الله، ولا تساوي عند الله جناح بعوضة.
لا بد أن نعرف -عباد الله- أن بعد هذه الحياة موت، كما قال الله جل في علاه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:185].
لا بد أن نعرف -عباد الله- أن بعد الموت قبر، كما قال الله جل في علاه: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1 - 2].
لا بد أن نعرف ونعي أن بعد القبر بعث، وهو إحياء الموتى يوم القيامة لحسابهم والقضاء بينهم، قال سبحانه: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7].
حين علمنا هذا كله، فما المطلوب من الجميع؟ المطلوب ما قال الله جل في علاه: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن:8 - 9].
فاستعدوا عباد الله! واحرصوا على الخواتيم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يبعث كل عبد على ما مات عليه).
وعن أبي رزين العقيلي قال: (قلت: يا رسول الله! كيف يعيد الله الخلق؟! وما آية ذلك في خلقه؟! قال: أما مررت بوادي قومك جدباً، ثم مررت به يهتز خضراً؟! قلت: نعم، قال: فتلك آية الله في خلقه)، حديث صحيح وهو موافق لنص التنزيل، قال سبحانه: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:5 - 7].(45/2)
من دلائل قدرة الله على إحياء الموتى
عباد الله! لقد أرى الله عباده إحياء الموتى في هذه الدنيا، وفي سورة البقرة وحدها خمسة أمثلة على ذلك.
المثال الأول: قال الله عن قوم موسى عليه الصلاة والسلام: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:55 - 56]، فأحياهم الله بعد أن أخذتهم الصاعقة.
المثال الثاني: في قصة القتيل الذي اختصم فيه بنو إسرائيل في زمن موسى عليه الصلاة والسلام، فأمرهم أن يذبحوا بقرة فيضربوه ببعضها ليخبرهم بمن قتله، ففعلوا، فأحياه الله وأخبرهم بمن قتله، قال جل في علاه: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة:72 - 73].
المثال الثالث: في قصة القوم: {الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [البقرة:243].
قال وكيع في تفسيره: حدثنا سفيان عن ميسرة بن حبيب النهدي عن المنهال بن عمرو الأزدي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ترجمان القرآن في قوله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة:243] قال: كانوا أربعة آلاف خرجوا فراراً من الطاعون، قالوا: نأتي أرضاً ليس بها موت، حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا قال الله لهم: {مُوتُوا}، فماتوا، فلما كان بعد دهر، مر عليهم نبي من الأنبياء فدعا ربه أن يحييهم، فأمره الله تعالى أن يقول: أيتها العظام البالية، إن الله يأمرك أن تكتسي لحماً، وعصباً، وجلداً؛ فكان ذلك يحدث، وهو يشاهد، ثم أمره فنادى: أيتها الأرواح! إن الله يأمرك أن ترجع كل روح إلى الجسد الذي كانت تغمره، فقاموا أحياء ينظرون، قد أحياهم الله بعد رقدتهم الطويلة، أحياهم وهم يقولون: (لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا ظالمين).
فكان في إحيائهم عبرة ودليل قاطع على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة، لهذا قال الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ}، أي: فيما يريهم من الآيات الباهرة، والحجج القاطعة، والدلالات الدامغة، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} أي: لا يقومون بشكر ما أنعم الله به عليهم في دينهم ودنياهم.
وفي هذه القصة عبرة ودليل على أنه لن يغني حذر من قدر، وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه، فإن هؤلاء القوم خرجوا فراراً من الوباء، وطلباً لطول الحياة، فعوملوا بنقيض قصدهم، وجاءهم الموت سريعاً في آن واحد.
المثال الرابع لإحياء الموتى: في قصة الذي مر على قرية ميتة، فاستبعد أن يحييها الله، فأماته الله مائة عام ثم بعثه، قال جل في علاه: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:259].
واختلف المفسرون في هذا الذي مر، فقال علي: هو عزير، وهذا هو المشهور، وقالوا: هو الخضر، وقالوا: رجل من أهل الشام اسمه حزقيل بن بوار، قال مجاهد: هو رجل من بني إسرائيل، أما القرية فالمشهور أنها بيت المقدس، مر عليها بعد تخريب بختنصر لها وقتل أهلها.
المثال الخامس: في قصة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام حين سأل الله أن يريه كيف يحي الموتى، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:260].
فهذه صور خمسة في كتاب الله في سورة البقرة، أخبرنا فيها المولى عز وجل كيف يحيي الموتى، وكذلك سيحييهم للحشر بعد البعث.(45/3)
الحشر والحساب
إذا علمنا عباد الله! أن هناك بعثاً فاعلم -رعاك الله- أن هناك حشراً، وهو جمع الخلائق يوم القيامة لحسابهم والقضاء بينهم، وسمى الله ذلك اليوم بيوم الجمع، قال جل شأنه: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن:9]، وقال سبحانه: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود:103]، وقال جل وعلا: {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة:49 - 50].
فلا إله إلا الله! فلا إله إلا الله على يوم مثل هذا.
تأمل في قدرة الله التي تحيط بالعباد، فالله لا يعجزه شيء، وحيثما هلك العباد، فإن الله قادر على الإتيان بهم، إن هلكوا في أجواء الفضاء، أو غاروا في أعماق الأرض، أو أكلتهم الطيور الجارحة، أو افترستهم الحيوانات المفترسة، أو ابتلعتهم الحيتان في البحار، قال سبحانه: {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:148].
وكما أن قدرة الله محيطة بعباده يأتي بهم حيثما كانوا، فكذلك علمه محيط بهم، فلا يتخلف منهم أحد، ولا يضل منهم أحد، ولا يشذ منهم أحد، لقد أحصاهم خالقهم تبارك وتعالى، وعدهم عداً، قال جل في علاه: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:93 - 95]، وقال سبحانه: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:47].
أما القصد من الجمع -عباد الله- فهو للعرض والحساب، قال جل وعلا: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31]، وقال جل في علاه: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة:6]، وقال جل في علاه: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18].
فلو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حي ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعده عن كل شيء نعم عباد الله! إنه العرض والحساب، {لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [إبراهيم:51].
عباد الله! أخبرنا ربنا جل وعلا عن مشهد الحساب والجزاء في يوم الحساب فقال: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ} [الزمر:69].
حسبك -عبد الله- أن تعلم أن القاضي والمحاسب في ذلك اليوم هو الحكم العدل قيوم السماوات والأرض، ليتبين لك عظم هذا المشهد وجلالته ومهابته، ولعل هذا الإشراق المذكور في الآية إنما يكون عندما يجيء الملك الجليل للقضاء بين العباد، قال سبحانه: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [البقرة:210]، وقال: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ * يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:21 - 30].
هو مجيء الله أعلم بكيفيته، نؤمن به، ونعلم أنه حق، ولا نؤوله، ولا نحرفه، ولا نكذب به، والآية تنص أيضاً على مجيء الملائكة، فهو موقف جليل، تحضره ملائكة الرحمن، ومعها كتب الأعمال، التي أحصت على الخلق أعمالهم، وتصرفاتهم، وأقوالهم، ليكون حجة على العباد، وهو كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، قال سبحانه: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49].
ويجاء في موقف القضاء والحساب بالرسل، ويسألون عن الأمانة التي حملهم الله إياها، وهي: إبلاغ الوحي إلى من أرسلوا إليهم، ويشهدون على أقوامهم وما عملوه معهم، ويقوم الأشهاد في ذلك اليوم العظيم، فيشهدون على الخلائق بما كان منهم.
والأشهاد هم الملائكة الذين كانوا يسجلون على المرء أعماله، ويشهد أيضاً الأنبياء والعلماء، كما تشهد على العباد الأرض، والسماء، والأيام، والليالي، تأمل في قول الجبار جل في علاه: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:1 - 5].
والله إنه لحساب شديد، فسيحاسب فيه الإنسان بالذرة.
عباد الله! يؤتى بالعباد الذين عقد الحق تبارك وتعالى محكمته العظيمة لمحاسبتهم، ويقامون صفوفاً للعرض عليه، {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا} [الكهف:48]، ويؤتى بالمجرمين منهم، وهم الذين كذبوا الرسل، وتمردوا على ربهم، واستعلوا في الأرض بغير الحق، يؤتى بهم، مقرنين بالأصفاد، مسربلين بالقطران، قال سبحانه: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم:49 - 50].
ولشدة الهول في ذلك الموقف العظيم، تجثو الأمم على الركب عندما يدعى الناس للحساب، لعظم ما يشاهدون، وما هم فيه واقعون، {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:28 - 29].
إنه مشهد جليل عظيم! نسأل الله أن ينجينا فيه بفضله ومنه وكرمه.(45/4)
مفهوم الحساب وأنواعه
معنى الحساب أن يوقف الحق تبارك وتعالى عباده بين يديه، ويعرفهم بأعمالهم التي عملوها، وأقوالهم التي قالوها، وما كانوا عليه في الدنيا، من إيمان، وكفر، واستقامة، وانحراف، وطاعة، وعصيان، وما يستحقونه على ما قدموه من إثابة وعقوبة، ثم يعطون الكتب، إما بالأيمان إن كانوا صالحين، وإما بالشمال إن كانوا طالحين.
ويشمل الحساب ما يقوله الجبار لعباده، وما يقولونه له، وما يقيمه عليهم من حجج وبراهين، وشهادة الشهود، ووزن الأعمال.
أما نوع الحساب: فعسير، ويسير، ومنه: حساب التكريم، والتوبيخ، ومنه: الفضل، والصفح، والعفو.
والذي يتولى ذلك كله، هو: أكرم الأكرمين، وأسرع الحاسبين، وقيوم السماوات والأرضين.
شعار محكمة ذلك اليوم: {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17]، (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، فهو العدل سبحانه، لو عذب عباده جميعاً لم يكن ظالماً لهم؛ لأنهم عبيده، وملكه، والمالك يتصرف في ملكه كيف يشاء.
أيا من ليس لي منه مجير بعفوك من عذابك أستجير أنا العبد المقر بكل ذنب وأنت الواحد المولى الغفور إن عذبتني فبسوء فعلي وإن تغفر فأنت به جدير أفر إليك منك وأين إلا إليك يفر منك المستجير ولكن الحق تبارك وتعالى يحاسبهم محاسبة عادلة، تليق بمحكمته، وعدله، وعظمته، وجلاله.(45/5)
من قواعد الحساب يوم القيامة
بين لنا سبحانه في كثير من النصوص جملة من القواعد التي تقوم عليها المحاكمة، فمنها: العدل التام الذي لا يشوبه الظلم، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء:47].
ومن قواعد تلك المحكمة: أن الله لا يؤاخذ أحداً بجريرة أحد، قال سبحانه: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر:18]، بل: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38].
ومن تلك القواعد أيضاً: إطلاع العباد على ما قدموه من أعمال، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:30].
ومن قواعد المحاكمة في ذلك اليوم: إقامة الشهود على الكفرة والمنافقين والفجرة، قال الله: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65]، وقال سبحانه: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:24 - 25].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(45/6)
أسئلة يوم الحساب
الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: عباد الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، اتقوا الله عباد الله! ومن تقوى الله الاستعداد للوقوف بين يدي الله جل في علاه.
عماذا سيكون السؤال في ذلك اليوم الذي سيجمع الله فيه الأولين والآخرين؟! اسمع بارك الله فيك! اسمع السؤال وأعد الجواب بارك الله فيك! عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزول -أي إلى الجنة أو إلى النار- قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وماذا عمل فيما علم)، رواه الترمذي، وقال الألباني: رحمه الله وإسناده حسن.
قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ * لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:18 - 21].
لا تظنن الأمر سهل عبد الله! بل في ذلك اليوم يشتد غضب الجبار جل جلاله، يشتد غضبه على من خلقه فعبد غيره، وعلى من رزقه فشكر غيره، وعلى من أسبغ عليه النعم ثم عصاه، عن عبيد الله بن مقسم أنه نظر إلى عبد الله بن عمر وهو يحكي عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر في قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] أنه قال صلى الله عليه وسلم: (يأخذ الله عز وجل سماواته وأرضيه بيديه، فيقول: أنا الله، ويقبض يده ويبسطها ويقول: أنا الملك، أنا الملك، قال ابن عمر: والله كأني أنظر إلى المنبر يتحرك من أسفله، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف عليه، وأنا أقول: أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم؟).
فتأمل حال العصاة والمجرمين في ذلك اليوم! يوم يشتد غضب الجبار جل في علاه، قال سبحانه: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:19 - 24]، يطلبون رضا ربهم، فلا يستجاب لهم.
فتأمل -عبد الله- موقفك غداً بين يدي العزيز القهار، والله إنها ساعة لا يخفى على الموقنين رهبتها، ولا على المتقين شدتها.
اللهم يسر حسابنا، ويمن كتابنا، وثقل موازيننا، زحزحنا عن النار، وأدخلنا الجنة يا عزيز يا غفار.
تذكر وقوفك يوم العرض عريانا مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا والنار تلهب من غيظ ومن غضب على العصاة ورب العرش غضبانا اقرأ كتابك يا عبدي على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا فلما قرأت ولم تنكر قراءته وأقررت إقرار من عرف الأشياء عرفانا نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبد عصا إلى النار عطشانا المشركون غداً في النار يلتهبوا والموحدون بدار الخلد سكانا قال سبحانه: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا * مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:13 - 15].
قال الزجاج: ذكر العنق عبارة عن اللزوم كلزوم القلادة للعنق.
وقال ابن أدهم: كل آدمي في عنقه قلادة يكتب فيها نسخة عمله، فإذا مات طويت، وإذا بعث نشرت، وقيل له: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا).
وقال ابن عباس رضي الله عنه: معنى طائره: أي عمله.
وقال الحسن: يقرأ الإنسان الكتاب أمياً كان أو غير أمي، يعرف القراءة أو لا يعرفها، ينطق ويقرأ في ذلك اليوم.(45/7)
الاستعداد ليوم الحساب
تخيل نفسك إذا تطايرت الكتب، ونصبت الموازين، وقد نوديت باسمك على رءوس الخلائق، أين فلان بن فلان؟ أين فلان بن فلان؟ استعد للوقوف بين يدي الله، هلم إلى العرض على الله، وقد وكلت الملائكة بأخذك فقربتك إلى الله، لا يمنعها اشتباه الأسماء باسم أبيك، فإذا عرفت أنك المراد بالدعاء، وإذا قرع النداء قلبك، فعلمت أنك المطلوب، فارتعدت فرائصك، واضطربت جوارحك، وتغير لونك، وطار قلبك، تخطى بك الصفوف إلى ربك، للعرض عليه، والوقوف بين يديه، وقد رفع الخلائق إليك أبصارهم، وأنت في أيدي الملائكة قد طار قلبك، واشتد رعبك، لعلمك أين يراد بك.
عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة) رواه البخاري.
تخيل -عبد الله- نفسك واقفاً بين يدي ربك، في يدك صحيفة مخبرة بعملك، لا تغادر بلية كتمتها، ولا مخبأة أسررتها، وأنت تقرأ ما فيها، بلسان كليل، وقلب منكسر حسير، والأهوال محدقة بك من بين يديك ومن خلفك، فكم من بلية قد كنت نسيتها ذكركها! وكم من سيئة قد كنت قد أخفيتها قد أظهرها وأبداها! وكم من عمل ظننت أنه سلم لك وخلص لك، فرده عليك في ذلك الموقف وأحبطه، بعد أن كان أملك منه عظيماً! فيا حسرة قلبك، ويا أسفك على ما فرطت فيه من طاعة ربك.
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك فقلت: يا رسول الله! أليس الله قد قال: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:7 - 8]؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يا عائشة! إنما ذلك العرض، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب) متفق عليه.
ثم يبدأ الحساب، وتكشف الحقائق، وتظهر الفضائح.
تذكر -عبد الله- أنك بين يدي الله موقوف، وأنك ستكلمه ليس بينك وبينه ترجمان، ستقف وستسأل عن القليل والكثير، عن الصغير والكبير، ستسأل عن العمر، عن الشباب، عن المال، عن كل نظرة، عن كل كلمة قلتها، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:30].
ستسأل عن كل صلاة تخلفت عنها، وهل حفظت الصوم والزكاة، هل أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، هل دافعت عن أعراض المسلمين، ستسأل عن حقوق وواجبات، وأوامر ومنهيات، فمنهم من يحاسب حساباً يسيراً، وينقلب إلى أهله مسروراً، ومنهم من يحاسب حساباً عسيراً ويدعو ثبوراً.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يدني المؤمن منه يوم القيامة فيضع عليه كنفه -أي يضع عليه ستره- فيقول: فلان! أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: إي نعم رب أعرف، حتى يقرره بذنوبه، حتى إذا رأى العبد أنه قد هلك، قال أرحم الراحمين: فإني سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم)، فيعطى كتاب حسناته بيمينه، فهذا هو الحساب اليسير، أما الكفار والمنافقون، فينادى بهم على رءوس الخلائق: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18].
حاسبوا أنفسكم عباد الله، واستعدوا للعرض أمام الله جل في علاه، إلى متى الغفلة عباد الله! ومنادي الله يناديكم: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1]؟ اعلم -رعاك الله- أنه عند صرعة الموت، لا عثرة تقال، ولا توبة تنال.
كان خليد العصري يقول: كلنا أيقن بالموت، وما نرى له مستعداً، وكلنا أيقن بالنار، وما نرى لها خائفاً، وكلنا قد أيقن بالجنة، وما نرى لها عاملاً.
إلى متى الغفلة عبد الله؟! أين ندمك على ذنوبك؟! وأين حزنك على عيوبك؟! إلى متى تؤذي بالذنب نفسك؟! وتضيع يومك كما ضيعت أمسك؟ لا مع الصادقين لك قدم، ولا مع التائبين لك ندم، فهلا بسطت يداً سائلة، وهلا أجريت دموعاً سائلة، انتبه قبل أن تنادي: رباه ارجعون، فيقال: مات، {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54]، انتبه قبل أن توقف أمام الله للعرض فتقول: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56].
مر الحسن البصري على أقوام يضحكون، فقال: هل مررتم على الصراط؟ قالوا: لا، قال: أتدرون إلى الجنة يؤخذ بكم أم إلى النار؟ قالوا: لا، قال: فعلام الضحك؟! لا على الصراط مررتم، ولا إلى الجنة تؤخذون، ولا من النار تنجون، وتضحكون؟! {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3].
فاتقوا الله عباد الله! {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
أدوا الحقوق، وتحللوا من بعضكم، قبل ألا يكون درهم ولا دينار، أخلصوا أعمالكم لله، حافظوا على الصلوات، انتهوا عن الفواحش والمنكرات، توبوا إلى الله توبة نصوحاً.
اللهم إنا نسألك توبة نصوحاً قبل الموت، وشهادة عند الموت، ورحمة بعد الموت يا رب العالمين.
اللهم استر في ذلك اليوم عوراتنا، وآمن فيه روعاتنا، وثقل فيه موازيننا، وزحزحنا فيه عن النار، وأدخلنا فيه الجنة يا رب العالمين.
اللهم أصلح شباب المسلمين، اللهم أصلح شباب المسلمين، اللهم أصلح شباب المسلمين، اللهم ردهم إليك رداً جميلاً يا رب العالمين.
اللهم ارحم الشيب، وبارك في أعمارهم يا رب العالمين.
اللهم احفظ نساءنا وأطفالنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يقاتلون من أجل إعلاء كلمة دينك، وانصر من نصرهم، واخذل من خذلهم، وصن أعراضهم، واحقن دماءهم، وتقبل شهداءهم، وفك أسرانا وأسراهم.
اللهم اكبت عدوك وعدونا من يهود ونصارى وحاقدين، وافضح المنافقين والمعتدين، يا عليم يا خبير، يا قوي يا عزيز، ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، اللهم لا ترفع لهم في بلاد المسلمين راية، ولا تحقق لهم في بلاد المسلمين غاية، اللهم أخرجهم من بلاد المسلمين أذلة صاغرين، يا قوي يا عزيز.
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(45/8)
يا تارك الصلاة
الصلاة ركن من أركان الإسلام، ومن حافظ عليها حفظه الله، ومن ضيعها ضيعه الله، وقد ضيعها كثير من المسلمين وتهاونوا بأدائها، فضيعهم الله، وتواردت عليهم الهموم والغموم من كل جانب.(46/1)
الصلاة علاج للأمراض والمشاكل
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر الأحبة! جاءني أحد الشباب منذ فترة ماضية وبدء يعرض مشاكله -وما هي أكثر مشاكل الشباب- قال: أشتكي من كثرة الهموم والغموم، أشتكي من قلة التوفيق في كل شأن من شئون حياتي، ما طرقت باباً إلا وجدته موصداً مغلقاً، ما أقدمت على مشروع إلا باء بالفشل، وزيادة على هذا وجع يلازمني في بطني، عرضت نفسي على الأطباء، تنقلت من مكان إلى مكان بحثاً عن العلاج ولم أجده.
قلت له مستعيناً بالله: المريض إذا مرض يذهب إلى الطبيب، والطبيب ينظر في أعراض المرض ثم يبدأ بتشخيص المرض، فإذا اكتشف العلة واكتشف المرض نصح بالدواء، والمطلوب من المريض حين يعطى الدواء أن يحافظ عليه بكميته المحددة في وقته المحدد.
قلت له أيضاً: المطلوب منك أن تحافظ على الدواء، قال: لا توص حريصاً، فلقد تعبت وأنا أبحث عن العلاج والدواء، همومي كثيرة مشاكلي كثيرة آلامي التي أقضت مضجعي فلا أهنأ بطعام ولا بشراب ولا بمنام.
قلت: العلاج موجود، لكن المطلوب منك أنك تحافظ على العلاج وتداوم عليه، قال: وما هو؟ قلت: خمس صلوات في اليوم والليلة، (من أداهن حيث يُنادى بهن -يعني: في المساجد- كن له نوراً وضياءً وبرهاناً يوم القيامة، ومن ضيعهن ضيعه الله يوم القيامة).
{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123] وأي هدى أعظم من المحافظة على الصلوات {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124 - 126].
هذا هو العلاج، هذا هو علاج ذلك الشاب وعلاج مشاكل كل واحد منا، أن يطرق باب الطبيب خمس مرات، وأن يرتمي بين يديه ويرفع إليه الحاجات والمسائل، ويبتهل إليه بالدعاء والتضرع، والله لن تحل مشاكلنا، ولن تكشف همومنا، ولن تتبدل أحوالنا إلا إذا استقمنا في الصلوات.(46/2)
أحوال الناس في الصلاة
حالنا مع الصلوات يُبكي العين ويُدمي القلب ويُقطع الجبين، انقسم المسلمون مع صلاتهم إلى ثلاثة أقسام: قسم لا يصلي ولا يركع ولا يسجد لا بالليل ولا بالنهار، أسماؤهم عبد الله وعبد الرحمن -كذبوا والله كذبوا والله- لو كانوا عبيداً لله ما خالفوا أوامر الله {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:4 - 6].
نعرف كثيراً ممن منَّ الله عليهم بالاستقامة والهداية، سألناهم عن أحوالهم في الصلوات، فكان كثير منهم يقول: مرت عليّ سنوات لم أسجد فيها ولم أركع.
سنوات لم يسجدوا لله فيها ولم يركعوا، أي حياة هذه؟! والله لن يستقيم حال الإنسان إلا إذا استقام على صلاته، والله إنك لن تتقرب إلى الله بقربة أعظم من المحافظة على الصلوات، قال صلى الله عليه وسلم: (اكلفوا من العمل ما تطيقون، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة).
والله لن ينفعك صوم ولا حج ولا زكاة ولا أي نوع من الأعمال إلا إذا صلح أمر الصلاة؛ فأول ما يُسأل عنه العبد يوم القيامة عن صلاته، فإن استقامت وصلحت نظر الله في باقي الأعمال، وإلا {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23].
قسم لا يركع ولا يسجد -وهم كثير- امتلأت بهم البيوت وانتشروا في الطرقات، تراهم في المجمعات في أوقات الصلوات يغدون ويروحون كأن الأمر لا يعنيهم.
قسم آخر: وهم أيضاً كثير، يُقدّمون ويؤخرون، ينامون ويتكاسلون، يلعبون ويلهون، إن استيقظ من نومه صلى، إن انتهى من لعبه صلى، إن انتهى من أكله وشربه صلى، تناسوا أن الله قال: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5].
تناسوا أن الله قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9].
تناسوا أن الله قال: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103].
لو أنك موظف في شركة من الشركات أو مؤسسة من المؤسسات، ودوامها يبدأ في الساعة السابعة صباحاً، فإذا بك في اليوم الأول تأتي بعد عشرين دقيقة من مرور الوقت، ويستقبلك الرئيس فيغض الطرف عنك، فإن جئته في اليوم الثاني سيخاطبك ويقول لك: إن نظام المؤسسة ودوامها يبدأ في الساعة السابعة لا في الساعة السابعة والنصف، ثم إذا تكرر منك التأخر ستعطى إنذاراً شفهياً أو إنذاراً خطياً، فإذا تكرر منك التخلف والتأخر فلا مكان لك في تلك المؤسسة.
هذه مؤسسة وشركة من الشركات، فكيف بالذين يتأخرون عن طاعة رب الأرض والسماوات مرات ومرات، قال صلى الله عليه وسلم: (ولا زال أقوام يتأخرون حتى يؤخرهم الله) فقسم لا يركع ولا يسجد، وقسم يقدم ويؤخر ويتهاون ويتكاسل، وهم كثير لا ينطلقون إلى المساجد إلا إذ سمعوا الإقامة أو بعد ركعة أو ركعتين، تناسوا أن الله قال: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10 - 11].
قسم ثالث: وهم قله قليلة، وأنا أعني أنهم قلة قليلة مقارنة إلى تعداد هذه الأمة أمة المليار أو ما يزيد.
هل تريد أن تشهد هذه القلة؟ اشهدها في صلاة الفجر، اشهد صلاة الفجر مع الجماعة حتى ترى العجب العجاب، ترى أن آلافاً مؤلفة بل ملايين تغط في سبات عميق، وقلة قليلة هي التي انتصرت على فُرشها وشهواتها وانطلقت تجيب منادي الله.
عندما ينطلق أذان الفجر في الرابعة وسبع دقائق، اخرج إلى الشارع حتى تعرف مقدار المأساة، فلا تكاد ترى سيارة تتحرك، لا تكاد ترى إنساناً يسير، لا تكاد تسمع أصواتاً في البيوت.
اُدخل المسجد ترى آباءً وكباراً في السن وقلة قليلة من الشباب الذين هداهم الله، والبقية الباقية تغط في سُبات عميق، ثم اخرج بعد صلاة الفجر بساعة وانظر إلى الناس قد ملئوا الطرقات والتقاطعات، وانتشروا في مناكب الأرض يطلبون الدنيا، ما كأن الله قبلها بساعة ناداهم مناديه (الصلاة خير من النوم) وواقع حال كثير من الناس يقول: (النوم خير من الصلاة).(46/3)
تضييع الصلاة من أسباب ضياع المسلمين
أسألك بالله العظيم هل صليت الفجر اليوم في صفوف المصلين، أم اتصفت بصفات المنافقين، أليس أثقل الصلوات عليهم صلاة الفجر وصلاة العشاء؟ أليست هذه الأمة قد اتصفت بالنفاق في مشارق الأرض ومغاربها؟ هل تريد أن تعرف مقدار المأساة؟ اسمع بارك الله فيك.
زرت ثانوية من الثانويات منذ أيام مضت، وكان تعداد المدرسة أكثر من ثمانمائة طالب في ريعان الشباب، أعمارهم تجاوزت الثامنة عشرة والتاسعة عشرة والعشرين عاماً، رجال المفترض أن يغيروا الواقع ويبدلوا الحال، سألتهم بعد أخذ وعطاء: اصدقوني في سؤالي هذا: من منكم صلى الفجر في جماعة؟ كم تظن أنه أجاب من الثمانمائة؟ مائة مائتان أم ثلاث أم أربع مائة؟ والله الذي لا إله إلا هو لم يتجاوز عدد الذين صلوا صلاة الفجر في جماعة من أبناء المسلمين في مدرسة تعدادها ثمانمائة طالب عشرين طالباً فقط، وسبعمائة وثمانون بيتاً من بيوت المسلمين اتصفت بالنفاق.
كيف يتغير الواقع أو يتبدل الحال وأمتنا قد ضيعت الصلوات! لما تنزّل قول الله جل في علاه على النبي صلى الله عليه وسلم: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]، يقول النبي صلى الله عليه وسلم باكياً: (يا جبريل! تضيع أمتي الصلاة؟ يا جبريل تضيع أمتي الصلاة؟ قال: يا محمد! يأتي أقوام من أمتك يبيعون دينهم كله بعرض من الدنيا قليل).
فضيعت الصلوات وارتكبت المحرمات، كيف يستقيم الحال؟ وكيف يتربى المجتمع على الفضيلة إن لم يحافظ على الصلوات؟ أليست الصلاة هي التي تنهانا عن الفواحش والمنكرات؟ يكفينا أمر رباني واحد حتى نعلم عظم قدر الصلاة عند الله، أما يكفيك أن تعلم من قدر الصلاة وعظم شأنها عند الله أنها فرضت من فوق سبع سماوات، {وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:7 - 10] أمره بخمسين صلاة، فما زال يخفف عنا حتى جُعلت خمس صلوات بأجر خمسين.(46/4)
نموذج لحال أبنائنا مع الصلاة
الصلاة نور، كيف تستطيع أن تسير في الظلمات؟ كثير يتخبطون كثير يشتكون من الهموم والغموم، علاجهم الانضمام إلى صفوف المصلين، مآسي الشباب في كل مكان وعلاجهم الدخول إلى بيوت الرحمن في صفوف المصلين.
التقيت ثلاثة من الشباب على إحدى الخطوط الشمالية في ساعة متأخرة من الليل توقفت! ركب الثلاثة، قلت: أين تريدون؟ قالوا: نريد الدمام.
دار بيني وبينهم هذا الحديث، فقلت: ماذا تريدون هناك؟ قالوا: نبحث عن وظائف.
ولا عيب أن الإنسان يسعى في طلب رزقه؛ لكن العيب كل العيب أن تُخرجنا الدنيا ولا نخرج في أوامر الله جل في علاه، نخرج لقضاء حوائجنا ولأكلنا وشربنا ومنادي الله ينادينا: حي على الصلاة، حي على الفلاح! فنتهاون في الاستجابة لنداء الله.
قلت: ماذا تريدون من هناك؟ قالوا: نبحث عن وظائف، قلت: لا عيب، فما هي شهاداتكم والمؤهلات التي تحملونها؟ فقال الذي بجانبي: أنا عندي شهادة ثاني متوسط، والثاني قال: أنا أول متوسط، والثالث قال: أنا لم أكمل الخامسة الابتدائية.
قلت: ما شاء الله كان؛ لكن هذه ليست مؤهلات، الأمر لله من قبل ومن بعد {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر:2].
نعرف أصحاب شهادات لم يجدوا وظائف ولم يجدوا مرتبات، ونعرف من لا يقرأ ولا يكتب أنعم الله عليهم وصب عليهم من البركات، والسر {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132].
جاء أحدهم إلى أحد الصالحين يشتكي ارتفاع الأسعار، وذلك حين غلت الأسعار وارتفعت الأثمان للمطاعم والمشارب! وهكذا هو حالنا، نتأثر بارتفاع الأسعار يمنة ويسره ولا نتأثر بأحوال المسلمين، نخاف على ما يسد جوعنا ويملأ بطوننا، ولا نخاف من تقرير مصيرنا إما إلى جنة وإما إلى نار.
جاء أحدهم إلى أحد الصالحين يشتكي ارتفاع الأسعار والأثمان، فقال الرجل الصالح: والله ما أبالي لو أن حبة الشعير بدينار، عليّ أن أعبده كما أمرني وعليه أن يرزقني كما وعدني.
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:56 - 57].
والسر؟ {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132].
قلت: هذه الشهادات وهذه المؤهلات، فأصدقوني كيف أنتم مع صلواتكم؟ فقال الذي بجانبي: أقول لك أم أكذب عليك؟ قلت: إن كذبت فإنما تكذب على نفسك ولا يضرني كذبك، {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} [غافر:28].
قال: أنا لا أصلي.
قلت: كافر! قال: لا.
قلت: بلى، ففي الحديث (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، كم هم الكفار من أبناء المسلمين الذين لا يركعون ولا يسجدون، حدث ولا حرج.
قلت للثاني: وأنت؟ قال: أنا خير منه.
قلت: كيف؟ قال: أنا أصلي من الجمعة إلى الجمعة.
قلت: أنت مثله.
قلت: وأنت يا ثالثهم؟ قال: أنا أفضل منهم.
قلت: كيف؟ قال: أنا أصلي في اليوم صلاتين.
قلت: هذا دين جديد: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21].
هذا هو الواقع هذا هو الواقع شئت أم أبيت، طلابنا لا يصلون، بل جاءني سؤال من الطلاب يقول السائل فيه: ما حكم الذي يصلي بدون وضوء؟ قلت: هذا كفر ومن نواقض الإسلام؛ لأنه استهزاء بالدين، هل يخفى عليه أو على كثير من أمثاله أنه لا صلاة لمن لا طهور له، هل يخفى عليه أن عمود الدين هي الصلاة.
هذا واقع الأولاد فأسمع واقع البنات بارك الله فيك: تقول إحدى قريباتي وهي تعمل مُدرِّسة في مدرسة من المدارس: خرجت من غرفة المدرسات فإذا بطالبتين بجانب الغرفة تتبادلان الحديث، فإذا إحداهما تقول للأخرى: لماذا لا تصلين معنا في المصلى؟ قالت: أنا حتى في البيت لا أصلي، وأزيدك من الشعر بيتاً؛ أهلي كذلك لا يصلون! {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} [المطففين:4].
والله لو أن القلوب سليمة لتقطعت ألماً من الحرمان لكنها سكرى بحب حياتها الـ دنيا وسوف تفيق بعد زمان متى ستنضم إلى صفوف المصلين، وتكون من الذين هم على صلاتهم دائمون، وتكون من الذين هم على صلاتهم يحافظون؟ متى ستستقيم وتعلم أن أعظم أمور الدين بعد توحيد الله المحافظة على الصلوات، والمسارعة إلى المساجد، والمحافظة على تكبيرات الإحرام؟ نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(46/5)
حال المتقين في الصلاة وثمارها
الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: عباد الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقو الله عباد الله، {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281]، واعلموا أن من صفات المتقين أنهم على صلاتهم يحافظون.
كيف تستطيع أن تواجه متقلبات الحياة إلا إذا انضممت واستقمت في صفوف المصلين، قال الله جل في علاه: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج:19 - 21] إلا من؟ {إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج:22].
أيُّ المصلين؟ الذين لا يصلون إلا من الجمعة إلى الجمعة؟ أو الذين يصلون صلاتين في اليوم؟ أو الذين يتقدمون ويتأخرون.
الجواب
{ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:23]، ثم أثمرت صلواتهم أخلاقاً وخشية في حياتهم {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج:27 - 28].
من أين أتت الخشية؟ أتت من المحافظة على الصلوات.
{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المعارج:32] كيف أدوا الأمانات وحفظوا الحقوق إلا عندما حافظوا على الصلوات.
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المعارج:29 - 30].
كيف حصنوا الفروج وغضوا الأبصار، إلا لأنهم من الذين هم على صلاتهم دائمون.
فإذا جاءت المداومة وجاءت المحافظة فاسمع النتيجة بارك الله فيك: {أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج:35]، والله لن تتقرب إلى الله بقربة أعظم من المحافظة على الصلوات.
يقول أنس: (بينما كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ دخل علينا رجل لا نعرفه، قال: أين هو ابن عبد المطلب؟ قلنا: ذلك الأبيض الأمهق، فجاءه وقال: يابن عبد المطلب! إني سائلك ومشدد عليك السؤال، وكان متكئاً فجلس، قال: يا محمد! من الذي رفع السماء؟ قال: الله، قال: يا محمد! ومن الذي بسط الأرض؟ قال: الله، قال: ومن الذي نصب الجبال يا محمد؟! قال: الله، قال: أسألك بالذي رفع السماء وبسط الأرض ونصب الجبال آلله أرسلك إلينا رسولاً؟ فاحمر وجهه صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم نعم، قال: أسألك بالذي رفع وبسط ونصب وأرسلك إلينا رسولاً آلله أمرك أن تأمرنا بخمس صلوات في اليوم والليلة؟ قال: اللهم نعم، قال: آلله أمرك أن تأمرنا بالصيام؟ قال: اللهم نعم، قال: آلله أمرك أن تأمرنا بالزكاة؟ قال: اللهم نعم، قال: آلله أمرك أن تأمرنا بحج بيت الله الحرام؟ قال: اللهم نعم، قال: والذي رفع السماء وبسط الأرض ونصب الجبال وأرسلك إلينا رسولاً، لأحافظن على الصلاة، ولأصومن رمضان، وأعطي الزكاة، وأحج البيت، ولا أزيد على ذلك، فلما انطلق قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن صدق دخل الجنة).
أي: إن صدق فيما قال، وحافظ على الصلوات، وصام رمضان، وأدى الزكاة، وحج بيت الله الحرام؛ دخل الجنة.
تأمل بارك الله فيك فإن الزكاة قد تسقط عنك إذا لم يكن عندك مال، والصيام يسقط بالأعذار {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]، والحج لمن استطاع إليه سبيلاً.
لكن قل لي بالله العظيم هل تسقط الصلاة في أي حال من الأحوال؟! إذاً لو حافظ على صلاته دخل الجنة، في الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كان حقاً على الله من لقي الله وهو يحافظ على هذه الصلوات أن يدخله الجنة، قال أبو ذر: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قال: يا رسول الله! وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، فأعادها في الثالثة، فقال صلى الله عليه وسلم: رغم آنف أبي ذر).
(خمس صلوات من أداهن حيث ينادى بهن، كن له نوراً وضياءً وبرهاناً يوم القيامة، ومن ضيعهن فلا يلومن إلا نفسه).
أطلت عليكم لكن الحديث خطير، والقضية مهمة، أبناؤنا يموتون من غير صلوات، بل حتى الشيب تهاونوا في أدائها.(46/6)
قصص وعبر
مات رجل في السبعين من عمره منذ فترة وسألونا هل نصلي عليه أم لا نصلي؟ قلت: ولماذا لا تصلون عليه؟ قالوا: ما سجد لله سجدة من قبل.
مات أحد الشباب في مقتبل العمر فلما غسلوه وبدءوا بتغسيله انقلبت بشرته من البياض الشديد إلى السواد الشديد، خاف المغسلون وخرجوا من مكان التغسيل، فإذا بالأب في خارج المغتسل يدخن، قالوا: هل الميت ميتكم؟ قال: نعم، قالوا: ما خبر هذا؟ قال الأب: لم يكن من المصلين، قلنا: خذوه أنتم غسلوه وكفنوه {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:33].
والعكس بالعكس: مات أحد الأخيار في مقتبل العمر، وكان آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر مسابقاً إلى الصفوف الأولى، ما تخلف عن الفجر يوماً، يدعو بالموعظة والذكرى الحسنة، يقول أحد مشايخنا: فلما مات كنت أنا الذي غسلته وكفنته، فلما بدأنا بتغسيله وبإعداد المسك والكافور، يقول: والله الذي لا إله إلا هو لقد فاحت رائحة المسك منه قبل أن نضع المسك عليه، قلت لصاحبي: هل تشم؟ قال: فضل الله يؤتيه من يشاء {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30].
فلما كفناه وذهبنا به إلى المقبرة، يقول شيخنا: كنت ممن نزل إلى قبره! تخيل المنظر، الناس على شفير القبر، ثم ينزل إليهم الميت، يقول: والله الذي لا إله إلا هو إنهم أنزلوه فأخذ من بين أيدينا، وحمل من بين أيدينا، والله ما حملناه، ثم وسّد في التراب، والله ما وسدناه، ثم وجّه إلى القبلة، والله ما وجهناه، كشفت عن وجهه فإذا هو يضحك! يقول الشيخ: والله لولا أني أنا الذي غسلته وكفنته ما كنت أظن أنه قد مات.
اتقوا الله عباد الله، وحافظوا على الصلوات، وانتهوا عن الفواحش والمنكرات.
اتقوا الله ومن تقواه المحافظة على أوامره.
هل تريد ضماناً لخاتمه حسنة، (من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله) يعني: في حفظ الله ورعايته، زاد أهل العلم وقالوا: معناه أنه إذا مات من يومه دخل الجنة.
(مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر).
اصنعوا لنا أبطالاً، اصنعوا لنا رجالاً، اصنعوا لنا أمهات عابدات: لا بد من صنع الرجال ومثله صنع السلاح وصناعة الأبطال علم علمه أولو الصلاح من لم يلقن أصله من أهله فقد النجاح لا يصنع الأبطال إلا في مساجدنا الفساح في روضة القرآن في ظل الأحاديث الصحاح شعب بغير عقيدة ورق يذريه الرياح من خان حي الصلاة يخون حي على الكفاح اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
هل سنراك بعد هذا الكلام تسابق المصلين إلى الصفوف الأولى، أم ستستمر في التخلف مع المتخلفين، وقد أعذر من أنذر.
اللهم اجعلنا من الذين هم على صلاتهم دائمون، ومن الذين هم على صلاتهم يحافظون، ومن الذين هم في صلاتهم خاشعون.
اللهم اجعل خير أمرنا آخره، وخير عملنا خواتيمه، وخير أيامنا يوم نلقاك.
اللهم أصلح لنا الشباب والشيب، واحفظ نساءنا وأطفالنا يا رب العالمين! اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم اجعلنا من الذي يأمرون وينهون، ولا يخافون فيك لومة لائم، يا رب العالمين! عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون.
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(46/7)
يأجوج ومأجوج
إن يأجوج ومأجوج أمتان من الناس يعيشون وراء السد الذي بناه ذو القرنين، وخروجهم يعتبر من علامات الساعة الكبرى، ويخرجون بعد موت الدجال الذي يقتله عيسى عليه السلام، فيفر الناس منهم إلى الجبال ويتحصنون في البيوت؛ وذلك من عظم هول ذلك، فيلجأ عيسى ومن معه من المؤمنين إلى الله بالدعاء وهم متحصنون في جبل الطور، فيرسل الله عليهم النغف فيموتون موتة واحدة.(47/1)
خروج يأجوج ومأجوج
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله! تكلمنا في الجمع الماضية عن علامات عظيمة من علامات الساعة وأشراطها، وتكلمنا عن ظهور المهدي عجل الله خروجه، ثم أتبعنا ذلك بفتنة عظيمة هي فتنة المسيح الدجال، وقلنا: إنه ما من نبي إلا حذر أمته من الدجال، وكان أشد الأنبياء تحذيراً منه هو نبينا صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنه سيخرج في هذه الأمة، وستبلغ فتنته أمراً عظيماً حتى إن الرجل يأتي لينظر في أمره فلا يلبث أن يكون من أتباعه، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سمع بالدجال فلينأ عنه، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه؛ مما يبعث به من الشبهات) أي: أنه يأتيه حتى يراه أو يرد بعض شبهاته فلا يلبث أن يكون من أتباعه، فالمطلوب: الحذر من الفتن والابتعاد عنها.
وتأمل -بارك الله فيك- كيف يسقط الناس اليوم في الفتن وهي أقل من فتنة المسيح الدجال، فكيف بالذي بين يديه مثل الجنة والنار؟! ثم ذكرنا أن زواله ونهايته ستكون على يد عيسى ابن مريم عليه السلام الذي سينزل بإذن الله ليكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، واليوم نواصل وإياكم الحديث عن باقي هذه الأشراط والعلامات التي تبين قرب نهاية العالم واقتراب الساعة.
والمقصد من ذكرها: تذكير الناس، وتنبيه الغافل منهم؛ حتى يزيد الصالح في صلاحه، ويتوقف العاصي عن تمرده وعصيانه.(47/2)
وقت خروج يأجوج ومأجوج
عباد الله! يمكث نبي الله عيسى في الأرض أربعين سنة، وفي رواية سبع سنوات، فكيف نجمع بين الروايتين؟ قال أهل العلم: عندما رفع عيسى من الأرض كان عمره ثلاثاً وثلاثين، وذلك عندما دُبرت المؤامرة لاغتياله، فرفعه الله من بين أيديهم وعمره حينها ثلاث وثلاثون سنة، ثم يرجع ويمكث سبع سنوات، فتلك أربعون سنة، ويتخلل هذه السنوات السبع فتنة عظيمة تعم الأرض كلها، وهي فتنة يأجوج ومأجوج، وخروجهم شر عظيم بينه النبي صلى الله عليه وسلم، فلقد فزع النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم حتى خرج محمراً وجهه، محذراً من فتنة يأجوج ومأجوج.
تروي لنا زينب بنت جحش رضي الله عنها ذلك فتقول: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فزعاً محمر الوجه يقول: لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب! فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلق بأصبعيه السبابة والإبهام، قلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث)، رواه البخاري ومسلم.
وقد فسر الجمهور الخبث بأنه الفسوق والفجور، وقيل المراد: الزنا خاصة، وقيل: المعاصي مطلقاً، ومعنى الحديث: أن الخبث إذا كثر فقد يحصل الهلاك العام، وإن كان هناك صالحون، فالصلاح وحده لا يكفي حتى يرد العذاب.
فالمطلوب: هو الإصلاح بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.(47/3)
حقيقة يأجوج ومأجوج
إن كثرة الفساد مع قلة الإصلاح وقلة الآمرين بالمعروف علامة على خروج يأجوج ومأجوج، فمن هم يأجوج ومأجوج؟ هما أمتان من الناس تعيشان الآن وراء السد الذي بناه ذو القرنين، فإذا اقتربت الساعة خرجوا على الناس، فدورهم يأتي بعد خروج الدجال، ثم قتله على يد عيسى بن مريم عليه السلام، وهم أصحاب قوة لا تقاوم، وأعداد لا تحصر، فأذاهم شديد، وضررهم بالغ، ولا يد لأحد على مقاومتهم، فيفر الناس منهم إلى الجبال، أو يتحصنون في بيوتهم ويلوذون ويلجئون إلى الله بالدعاء والتضرع، ويصيب نبي الله عيسى عليه السلام ما يصيب الناس من الهول والعنت، فيؤمر بأن يخرج بعباد الله إلى الطور، ويتحصن بعباد الله في جبل الطور، وهناك -أي على جبل الطور- يرغب إلى الله بالدعاء عليهم، فيستجيب الله له، فيرسل عليهم من السماء عذاباً وداءً فيفشو في أعناقهم، فيموتون موتة رجل واحد، ثم يطهر الله الأرض من نتنهم.(47/4)
المواضع التي ورد فيها ذكر يأجوج ومأجوج
لقد ورد ذكر يأجوج ومأجوج في القرآن في موضعين: الموضع الأول: في سورة الأنبياء في قوله تبارك وتعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} [الأنبياء:96]، قال الشوكاني في فتح القدير: هما أمتان من الإنس، يخرجون على الناس بعد فتح السد، فتراهم من كل حدب ينسلون، أي: من كل المرتفعات يسرعون ويتفرقون في فجاج الأرض.
والموضع الثاني: في سورة الكهف عند قوله تبارك وتعالى في قصة ذي القرنين: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا * وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} [الكهف:93 - 99].
قال السعدي رحمه الله: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} [الكهف:92 - 93]، قال المفسرون: ذهب متوجهاً من المشرق قاصداً للشمال فوصل إلى ما بين السدين، وهما سدان كانا معروفين في ذلك الزمان، سدان من سلاسل الجبال المستطيلة يمنة ويسرة حتى تتصل بالبحر بين يأجوج ومأجوج وبين الناس، ووجد من دون السدين {قوماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} [الكهف:93]؛ لعجمة ألسنتهم، واستعجام أذهانهم، وقلة فهمهم، وقد أعطى الله ذا القرنين من الأسباب العلمية ما فقه به قولهم، فاشتكوا إليه ضرر يأجوج ومأجوج، وهما أمتان عظيمتان من بني آدم، فقالوا: {إنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} [الكهف:94] بالقتل والظلم وأخذ الأموال وغير ذلك، {فهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا} [الكهف:94] أي: نجعل لك عطاءً وجعلاً ((عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا)) حائلاً يحول بيننا وبينهم، ودل ذلك على عدم اقتدارهم بأنفسهم على بنيان ذلك السد، وعرفوا اقتدار ذي القرنين عليه، فأرادوا أن يبذلوا له أجرة ليفعل ذلك، وذكروا له السبب الداعي لذلك: وهو إفساد يأجوج ومأجوج في الأرض، فلم يكن ذو القرنين ذا طمع ولا رغبة في الدنيا، ولم يكن تاركاً لإصلاح أحوال الرعية بل قصده الإصلاح، فلذلك أجابهم لمطلبهم؛ لما فيه من المصلحة، ولم يأخذ منهم أجرة على ذلك، وشكر ربه على تمكينه واقتداره، فقال لهم: ((مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ)) أي: مما تبذلون لي وتعطونني، وإنما أطلب منكم أن تعينونني بقوة أيديكم ((أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا)) أي: سداً مانعاً من عبورهم إليكم، ((آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ)) أي: قطع الحديد، فأعطوه ذلك، ((حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ)) أي: الجبلين اللذين بينهما السد، ((قَالَ انفُخُوا)) أي: لإيقاد النار؛ لتشتد فتذيب النحاس، فلما ذاب النحاس الذي يريد أن يلصقه بين قطع الحديد ((قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا)) أي: نحاساً مذاباً بالنار، فأفرغ عليه القطر، فاستحكم السد استحكاماً هائلاً وامتنع به من وراءه من الناس من ضرر يأجوج ومأجوج: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف:97] أي: يأجوج ومأجوج، أي: فمالهم استطاعة ولا قدرة على الصعود عليه؛ لارتفاعه، ولا على نقبه، لإحكامه وقوته، فلما فعل ذو القرنين هذا الفعل الجميل، وهذا الأثر الجليل، أضاف النعمة إلى موليها ومعطيها، فقال: ((هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي))، أي: منّ فضله وإحسانه علي، وهذه حال الخلفاء والصالحين إذا من الله عليهم بالنعم الجليلة ازداد شكرهم وإقرارهم واعترافهم بنعمة الله تبارك وتعالى، كما قال سليمان عليه السلام لما حضر عنده عرش ملكة سبأ مع البعد العظيم، وجاءه في وقت قصير قال: (قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:40].
بخلاف أهل التجبر والتكبر والعلو في الأرض، فإن النعم الكبار تزيدهم أشراً وبطراً، كما قال قارون لما آتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] فحلت عليه العقوبة، قال الله: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص:81]، فلم ينسب النعم للمتفضل، ولم ينسب النعم للذي أعطى ومنع وخفض ورفع، فحلت عليه العقوبة: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص:81]، ثم قال تعالى: ((فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي)) أي: لخروج يأجوج ومأجوج ((جَعَلَهُ دَكَّاءَ)) أي: ذلك السد المحكم المتقن، دكه دكاً فانهدم واستوى هو والأرض سواء، ((وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا)).
ثم قال تعالى: ((وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ))، قال السعدي: يحتمل أن الضمير يعود إلى يأجوج ومأجوج، وأنهم إذا خرجوا على الناس من كثرتهم واستيعابهم للأرض كلها يموج بعضهم ببعض، كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} [الأنبياء:96]، ويحتمل أن الضمير يعود إلى الخلائق يوم القيامة، وأنهم يجتمعون في ذلك اليوم فيكثرون ويموج بعضهم ببعض من الأهوال والزلازل العظام، وكلا المعنيين صحيح.
وتأمل معي هذا المشهد العظيم، حين يجمع الله الأولين والآخرين، وتدنو الشمس من رءوس العباد مقدار ميل قال الراوي: والله ما أدري ما الميل هل هو ميل المسافة أم ميل المكحلة؟ فاسمع بارك الله فيك حتى تعلم أن الأمر جد، وأن الأمر عظيم، فقد ثبت في الصحيحين: (إن الله تعالى ينادي يوم القيامة بآدم فيقول: يا آدم! فيقول: لبيك ربي وسعديك! فيقول: ابعث بعث النار، فيقول آدم: وما بعث النار؟ فيقول الله: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: فحينها يشيب الولدان، وحينها: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2]، ثم قال صلى الله عليه وسلم: إن فيكم أمتين ما كانتا في شيء إلا كثرتاه: يأجوج ومأجوج، قالوا: وأينا ذاك الواحد؟! قال: أبشروا: فإن منكم رجلاً ومن يأجوج ومأجوج ألفاً) فما أعظم هذا الموقف.
تذكر وقوفك يوم العرض عريانا مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا النار تزفر من غيظ ومن حنقٍ على العصاة ورب العرش غضبانا اقرأ كتابك يا عبدي على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا لما قرأت ولم تنكر قراءته إقرار من عرف الأشياء عرفانا نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبدي إلى النيران عطشانا المشركون غداً في النار تلتهبُ والمؤمنون بدار الخلد سكانا قال سبحانه: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا * وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا * الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا * أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا * قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا} [الكهف:99 - 106].(47/5)
الحكمة من ذكر علامات الساعة
عباد الله! المقصد والهدف حين نذكر هذه الأشراط وهذه العلامات: هو أن يستعد كل منا للقاء ربه قبل أن يصيح أحدنا بأعلى الصوت: رباه! ارجعون، فلا يستجاب له.
واعلم! بارك الله فيك أن القيامة تطلق على ثلاثة معان: على القيامة الكبرى، وهي قيام الناس لرب العالمين.
وعلى القيامة الوسطى، وهي موت أهل القرن الواحد، فقد جاء عن عائشة قالت: كانت الأعراب إذا قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم سألوه عن الساعة؟ فنظر إلى أحدث إنسان منهم -أي: أصغر واحد فيهم- فقال: (إن يعش هذا فلن يدركه الهرم حتى تقوم عليكم قيامتكم) أي: بموتكم تقوم قيامتكم.
ثم القيامة الصغرى، وهي موت الإنسان، فمن مات فقد قامت قيامته.
اللهم اغفر ذنبنا، واستر عيبنا، واختم بالصالحات أعمالنا، نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(47/6)
أصل يأجوج ومأجوج
الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: عباد الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله عباد الله! {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281].
عباد الله! أما أصل يأجوج ومأجوج فهم من البشر من ذرية آدم وحواء، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم، وإنهم لو أرسلوا إلى الناس لأفسدوا عليهم معايشهم، ولن يموت منهم أحد إلا ترك من ذريته ألفاً فصاعداً) قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين.
وفي مسند الإمام أحمد عن سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ولد نوح ثلاثة: سام أبو العرب، وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك)، قال بعض العلماء: هؤلاء من نسل يافث أبو الترك، وقال: إنما سمي هؤلاء تركاً لأنهم تركوا من وراء السد من هذه الجهة، وإلا فهم أقرباء أولئك، ولكن كان في أولئك بغي وفساد وجرأة.(47/7)
موطن يأجوج ومأجوج
أما موطنهم فقد قيل -نسب لـ ابن عباس - إن السدين هما جبلا أرمينية وأذربيجان، وذكر بعض أحبار اليهود أن يأجوج ومأجوج في منتهى الشمال حتى لا يستطيع أحد غيرهم السكن فيه، وقيل -وهو الأصح-: هما بموضع في الأرض لا نعلمه، فيوم ذكر الله رحلة ذي القرنين ذكر الرحلة الأولى: إلى مغرب الشمس، والرحلة الثانية: إلى مطلع الشمس، فبين الله الجهات التي توجه إليها، لكن لما انطلق في الرحلة الثالثة جعلها الله مبهمة فقال، ((حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ)) في أي جهة؟ الله أعلم، ولعل في ذلك إشارة إلى أن مكان السد سيظل مجهولاً إلى ما شاء الله.(47/8)
كيفية خروج يأجوج ومأجوج
أما عن خروجهم: فهل ينهار السد ويتفتت ويسوى بالأرض كما هو ظاهر الآية: ((فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ))، أم أنهم يقومون بمحاولات لفتحه فلا ينجحون حتى يأتي وعد الله؟ عند أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غداً، فيعودون إليه كأشد ما كان من الغد، حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا حتى كادوا يرون شعاع الشمس، فقال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غداً إن شاء الله فيحفرونه)، فعلى هذا فقوله تعالى: ((جَعَلَهُ دَكَّاءَ)) أي: أنه بمرور الوقت يفقد صلابته وتماسكه، فيستطيعون خرقه ويخرجون.(47/9)
قصة خروج يأجوج ومأجوج
لقد فتح من ردم يأجوج على زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا زالوا يحفرون، فكلما زادت المنكرات والفواحش وقل الذي يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر حان وقت خروجهم.
وبعد خروجهم ينطلقون انطلاق السهم من القوس، ويتساقطون من شعاب الجبال وقممها مسرعين، فهم من كل حدب ينسلون، فينقضون على فرائسهم وغنائمهم من الإنسان والحيوان والنبات والماء، ويراهم الناس فيرهبونهم ويفرون من أمامهم، ويتحصنون في الجبال والبيوت، ثم يتجهوا غرباً، يعني: يأجوج ومأجوج نحو بيت المقدس، وهناك نبي الله عيسى عليه السلام، وأصحابه فيتحصنون منهم بالطور، ولا يجرؤ أحد على مقاومتهم أو التصدي لهم، فيلجأ نبي الله وأصحابه إلى مناجاة الله ودعائه فيهلكهم.
وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال، وساق الحديث، وفيه: (ثم يأتي عيسى ابن مريم قوم عصمهم الله منه، فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة، فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى: أني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم، فاحرز -يعني: احفظ وحصن- عبادي إلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمر أواخرهم فيقولون: لقد كان في هذه مرة ماء، ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه -أي: يحبسون- حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار لأحدكم -أي: من شدة الحاجة والفاقة التي تصيبهم- فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله يدعونه ويتجهون إليه بالدعاء، فيرسل الله عليهم النغف - أي: على يأجوج ومأجوج، والنغف: هو دود يكون في أنوف الغنم والإبل- في رقابهم فيصبحون فرسىً -أي: هلكى- كموت نفس واحدة، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل طيراً كأعناق البخت -يعني: أن أعناقها طويلة كأعناق الإبل- فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله، ثم يرسل الله مطراً لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة -يعني: كالمرآة-، ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك وردي بركتك، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة، ويستظلون بقحفها، ويبارك الله في الرسل -أي: في اللبن - حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام -أي: الجماعات الكثيرة من الناس-، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس، فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحاً طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن ومسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون كما تتهارج الحمير -أي: يجامع الرجل المرأة بحضرة الناس كالحمير والعياذ بالله- فعليهم تقوم الساعة) أي: على هؤلاء تقوم الساعة، قال تعالى: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} [إبراهيم:51]، فيجازي الله المحسن على إحسانه، ويجازي المسيء على إساءته.
اسمع معي وتدبر قوله: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ * إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ * إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ * وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ * قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ * إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ * وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ رَبِّ احْكُمْ ?بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [الأنبياء:96 - 112].(47/10)
ماذا أعددنا لما بعد يأجوج ومأجوج
إن السؤال الذي يجب أن نسأل أنفسنا عنه هو: ماذا أعددنا لقيام الساعة؟ أنوم عن الصلوات! وربا وفواحش ومنكرات! وتضييع للأعمار أمام الشاشات والقنوات! (سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ قال: ماذا أعددت لها؟ قال: أعددت لها حب الله ورسوله) فماذا أعددنا لها نحن؟ فاتقوا الله عباد الله! قال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281]، {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [إبراهيم:48 - 52].
إلامَ تسهو وتني ومعظم العمر فني فيما يضر المقتني ولست بالمرتدع أما ترى الشيب وخط وخط في الرأس خطط ومن يلح وخط الشمط بفوده فقد نعي ويحك يا نفس احرصي على ارتياد المخلصِ وطاوعي وأخلصي واستمعي النصح وعي واعتبري بمن مضى من القرون وانقضى واخشي مفاجاة القضا وحاذري أن تخدعي واتبعي سبْل الهدى وادكري وقع الردى وأن مثواك غداً في قعر لحد بلقعِ اللهم استر في ذلك اليوم عوراتنا، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:18].
اللهم أرنا الحق الحق وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل الباطل وارزقنا اجتنابه، اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا يا ربنا من الراشدين! اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يقاتلون من أجل إعلاء كلمة دينك، وانصر من نصرهم، واخذل من خذلهم، وصن أعراضهم، واحقن دماءهم، وفك أسرانا وأسراهم يا رب العالمين! اللهم عليك بالنصارى المعتدين، واليهود الغاصبين، والشيوعيين وأعداء الملة والدين، اللهم اشدد وطأتك عليهم يا قوي يا عزيز! اللهم اشدد وطأتك عليهم وعلى أعوانهم يا قوي يا عزيز! إنهم لا يعجزونك ولا يخفون عليك، يا عليم يا خبير! عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45]!(47/11)
يوم الفرار
اليوم الآخر آت لا محالة، وكل امرئ محاسب فيه على كل صغيرة وكبيرة، ومن آمن به وما يقع فيه من الأهوال كان رادعاً له عن المعاصي والسيئات.(48/1)
الإيمان باليوم الآخر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله وخيرته من خلقه أجمعين، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى من استن بسنته واهتدي بهديه إلى يوم الدين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيتها المؤمنة أيتها التقية النقية! حديثنا هو عن اليوم الآخر، اليوم الآخر الذي لا يوم بعده، ولا يوم مثله.
إن الإيمان بالله واليوم الآخر ركن من أركان الإيمان وعقيدة من عقائد الإسلام الأساسية، فقضية الإيمان باليوم الآخر هي التي يقوم عليها بناء العقيدة بعد قضية التوحيد، واليوم الآخر وما فيه من الأمور الغيبية التي لا يدركها العقل، ولا سبيل لمعرفتها إلا بالنص القرآني والسنة النبوية.
وفي كتاب الله من ذكر اليوم الآخر وما فيه من الأهوال الشيء الكثير، فما تكاد تخلو صفحه من صفحات الكتاب الحكيم من صور ذلك اليوم أو موقف من مواقف ذلك اليوم العصيبة، فهو الذي لا يوم مثله ولا يوم قبله ولا بعده، إنه اليوم العقيم، قال سبحانه: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} [الحج:55].
ولأهمية هذا اليوم العظيم نجد أن الله تعالى كثيراً ما يربط الإيمان به بالإيمان باليوم الآخر، قال سبحانه: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:177]، وقال عز من قائل: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [الطلاق:2].(48/2)
أهمية الكلام عن اليوم الآخر
لماذا هذا الموضوع؟ ولماذا الكلام عن اليوم الآخر؟ أقول: لأسباب عدة: أولها: الغفلة التي قد استحكمت على حياة كثير من الناس، وأصبحوا لا يبالون من حلال أم من حرام يأكلون، قال سبحانه: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1].
ثانياً: الانشغال بالدنيا وعمارتها أكثر من الانشغال بالاستعداد لليوم الآخر، قال سبحانه: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281].
ثالثاً -وهو الأهم-: أن الإيمان بالله واليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب هو الموجه الحقيقي والضابط الحقيقي لسلوك الإنسان، فهناك فرق بين سلوك من تؤمن بالله واليوم الآخر ومن لا تؤمن بالله واليوم الآخر، فإن من تعلم أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن الأعمال الصالحة هي زاد الآخرة، لن تنشغل بعمارة الدنيا عن الآخرة، أما قال سبحانه: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197].
وقال صلى الله عليه وسلم: (من جعل الهموم هماً واحداً -يعني: هم الآخرة- كفاه الله هم الدنيا وهم الآخرة) فهناك فرق بين سلوك من تؤمن بالله واليوم الآخر وسلوك ضعيفة الإيمان.
قال صاحب الظلال: فالمصدق بيوم الدين يعمل وهو ناظر لميزان السماء لا لميزان الأرض، ولحساب الآخرة لا لحساب الدنيا.
انتهى كلامه رحمه الله.
فترى في المؤمنة بالله واليوم الآخر نظرة مختلفة للحياة، ترى فيها استقامة على الدين، ترى فيها سعة تصور وقوة إيمان، ترى فيها ثباتاً في الشدائد وصبراً على المصائب، فهي تعلم أن ما عند الله خير وأبقى، أما التي لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر، وما فيه من حساب وجزاء، فهي تحاول جاهدة أن تحقق مآربها في هذه الحياة، لاهثة وراء متعها، حريصة على جمعها، الدنيا أكبر همها ومبلغ علمها، تقيس الأمور بمنافعها ومصالحها الخاصة، لا تلتفت إلى بنيات جنسها إلا في حدود ما يحقق لها المصلحة، فتباً لها ولأمثالها!(48/3)
دلائل اليوم الآخر
أنكروا قضية الإيمان بالله واليوم الآخر، أنكروا قضية البعث والنشور، قال الله عنهم: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام:29]، قال سبحانه عنهم: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7].
لهذا أيتها المؤمنة! ركز القرآن على قضية الإيمان باليوم الآخر، وإثبات البعث والنشور والجزاء، وجاءت أدلة كثيرة على ذلك.(48/4)
النشأة الأولى
النشأة الأولى قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} [الحج:5]، فمن قدر على خلق الإنسان في أطوار متعددة فإنه لا يعجز عن إعادته مرة أخرى، بل الإعادة أهون عليه من البدء.
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبيده عظمة بالية أكل الزمان عليها وشرب، فوضعها بين كفيه ثم فتها، ثم نفخها في الهواء وقال: يا محمد! ربك يحيي هذه بعد أن جعلتها هباء منثوراً؟ قال بأبي هو وأمي صلوات ربي وسلامه عليه: نعم، ويدخلك النار، فقال سبحانه عنه وعن أمثاله: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:77 - 79].
سبحانه جلت قدرته، وعلا سلطانه.(48/5)
المشاهد الكونية المحسوسة
من الأدلة أيضاً: المشاهد الكونية المحسوسة الدالة على إمكان البعث، قال سبحانه: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:5 - 7].
فإحياء الأرض الميتة بالمطر وظهور النبات فيها دليل على قدرة الخالق الباهرة على إحياء الموتى وقيام الساعة.(48/6)
قدرة الله المتجلية في خلق ما هو أعظم
ومن الأدلة أيضاً: قدرة الله المتجلية في خلق الأعظم، قال سبحانه: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:81 - 82].
فخالق السماوات والأرض على عظمهما قادر على خلق الإنسان الصغير، كما قال تبارك وتعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57].(48/7)
الحكمة الإلهية
من الأدلة أيضاً: الحكمة الإلهية، فالحكيم لا يترك الناس سدى، ولا يخلقهم عبثاً لا يؤمرون ولا ينهون ولا يزجرون، قال سبحانه: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116].
وقال سبحانه: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:36 - 40]، بلى قادر؟ فلو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حي ولكن إذا متنا بعثنا ونسأل بعده عن كل شي(48/8)
أحوال الآخرة(48/9)
النفخ في الصور
{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
في حديث الصور من حديث أبي هريرة قال: (ثم يأمر الله عز وجل إسرافيل فينفخ نفخة الصعق، فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فإذا اجتمعوا أمواتاً جاء ملك الموت إلى الجبار، فقال: قد مات أهل السماء والأرض إلا من شئت، فيقول سبحانه وهو أعلم، من بقي؟ فيقول: يا رب! بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقي حملة العرش، وبقي جبريل وميكائيل وإسرافيل وبقيت أنا، فيقول الله عز وجل: ليمت جبريل وميكائيل، فينطق العرش فيقول: أي رب، يموت جبريل وميكائيل؟ فيقول سبحانه: اسكت، إني كتبت الموت على من كل تحت عرشي، فيموتان، قال: ثم يأتي ملك الموت إلى الجبار جل جلاله، فيقول: يا رب! قد مات جبريل وميكائيل، فيقول سبحانه وهو أعلم، من بقي؟ فيقول: يا رب! بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقي حملة العرش، وبقيت أنا، فيقول: ليمت حملة العرش، فيموتون، فيأمر الله العرش فيقبض الصور من إسرافيل، ثم يقول سبحانه: ليمت إسرافيل فيموت، ثم يأتي ملك الموت فيقول: يا رب! قد مات حملة عرشك، فيقول: وهو أعلم، من بقي؟ فيقول: بقيت أنت الحي الذي لا تموت، وبقيت أنا، فيقول الله: أنت خلق من خلقي، خلقتك لما رأيته فمت، فيموت.
فإذا لم يبق إلا الله الواحد الأحد الصمد الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، فكان كما كان أولاً، طوى السماء كطي السجل للكتب، ثم قال: أنا الجبار أنا الجبار، لمن الملك اليوم، فلا يجيبه أحد، فيقول جل ثنائه وتقدست أسماؤه: لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد، فينادي لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد، فيقول سبحانه: لله الواحد القهار، بنفخة واحده يصعق من في السماوات ومن في الأرض، ويفني كل شيء إلا وجهه).
إنها أهوال وشدائد في ذلك اليوم، الذي جاء ذكره في كتاب الله عز وجل: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104].
إنه يوم يقول الله عنه: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [المطففين:10 - 13].
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67].
قال الله عن أهواله: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار:1 - 5].
وقال الله عنه وعن أهواله: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ * وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ * وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ * وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير:1 - 14].
أهوال وكرب وشدائد.
ثم نفخة ثانية: {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68] يخرجون من القبور ينفضون من على رءوسهم التراب {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج:43] {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:43] {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه:108].
وقال سبحانه: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:111 - 112].(48/10)
المشي إلى أرض المحشر
فيسعون إلى محشرهم في سكون وخشوع لا تسمع منهم إلا صوت الأقدام والهمسات، ثم يقبض الجبار السماوات بيمينه، والأرضين بيده الأخرى فيقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67].
عن عبيد الله بن مقسم أنه نظر إلى عبد الله بن عمر كيف يحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم قال: (يأخذ الله عز وجل سماواته وأرضيه بيديه فيقول: أنا الله، ويقبض أصابعه ويبسطها ويقول: أنا الملك، ويقول عبد الله بن عمر: حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، حتى إني لأقول: أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه مسلم.(48/11)
أرض المحشر
أما أرض المحشر فأرض غير هذه الأرض، وأما سماؤها فسماء غير هذه السماء {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [إبراهيم:48 - 51].
عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء مائلة إلى الحمرة، كقرصة النقي ليس فيها علم لأحد) رواه مسلم.
قرصة النقي: يعني كقرص الدقيق.(48/12)
حال الناس في أرض المحشر
أما حال الناس فحفاة عراة.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً -يعني: غير مختونين- قلت: يا رسول الله! النساء والرجال جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال صلى الله عليه وسلم: يا عائشة! الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض).
فالأمر شديد أخيه الأمر أشد مما تتصورين، فمن الناس في ذلك اليوم من يحشر على وجهه، كما قال سبحانه: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء:97].
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً قال: (يا رسول الله! كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال صلى الله عليه وسلم: أليس الذي أمشاه على رجليه في الدنيا قادراً على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة) قال قتادة: بلى وعزة ربنا، متفق عليه.(48/13)
دنو الشمس من رءوس العباد
ثم تزداد الأهوال وتزداد الكرب فتدنو الشمس من رءوس العباد، فيغرقون في عرقهم.
عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق، حتى تكون منهم كمقدار ميل) قال سليم بن عامر: فوالله ما أدري ما يعني بالميل، أمسافة الأرض أم الميل الذي تكتحل به العين.
قال: (فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً).
أمة الله! تفكري وتدبري في الموقف وشدته، تفكري في ذل الخلق وانكسارهم في ذلك اليوم الطويل، الأبصار خاشعة، والقلوب وجلة، وأنا وأنت والجميع في انتظار، كيف تكون النهاية وكيف يكون المصير، تخيلي وتمثلي! مثل لقلبك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور قد كورت شمس النهار وأضعفت حراً على رءوس العباد تفور وإذا الجبال تقلعت بأصولها فرأيتها مثل السحاب تسير وإذا النجوم تساقطت وتناثرت وتبدلت بعد الضياء كدور وإذا العشار تعطلت عن أهلها خلت الديار فما بها معمور وإذا الوحوش لدى القيامة أحضرت وتقول للأملاك أين نسير فيقال سيروا تشهدون فضائحاً وعجائباً قد أحضرت وأمور وإذا الجنين بأمه متعلق خوف الحساب وقلبه معذور هذا بلا ذنب يخاف لهوله كيف المقيم على الذنوب دهور(48/14)
الإتيان بجهنم لها تغيظ وزفير
ثم تزداد الشدائد وتزداد الأهوال، فيؤتى بجهنم يسمع لها تغيظ وزفير، قال سبحانه: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ * يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:21 - 30].
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتي بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها) رواه مسلم.
قال سبحانه: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان:12 - 14].(48/15)
انتظار الحساب
إنه اليوم الطويل إنه يوم مقداره خمسون ألف سنة إنه يوم الطامة ويوم الصاخة إنه يوم الحاقة ويوم القارعة إنه يوم الفرار {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37].
والناس على هذه الحال والموقف شديد والكرب العظيم ويطول الانتظار والكل ينتظر الحساب والوقوف بين يدي الملك الديان.
ثم يأتي الفرج بعد شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حديث أبي هريرة في مسلم: (كنا في دعوة مع النبي صلى الله عليه وسلم فقدمت إليه الذراع وكان يحبها، فنهس منها نهسة ثم قال: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، أتدرون مم ذلك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فلا يغادر منهم أحداً، فيبصرهم الناظر ويسمعهم الداعي، فتدنو الشمس من رءوس العباد، فيغرق الناس في عرقهم كل على قدر عمله، فتزداد بهم الأهوال والشدائد، فينظر بعضهم إلى بعض فيقولون: ألا ترون ما نحن فيه ألا تدرون ما قد بلغنا من الهم والغم والكرب ألا ترون من يشفع لنا عند ربنا، فيقول بعضهم لبعض: أبوكم آدم، فيأتون آدمً فيقولون: أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، وأسكنك جنته، وأمر الملائكة أن تسجد لك، ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم والكرب ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباًً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن تلكم الشجرة فعصيت، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى نوح.
فيأتون نوحاً فيقولون: أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماك لله عبداً شكوراً، أما ترى ما نحن فيه أما ترى ما قد بلغنا من الهم والغم والكرب ألا تشفع لنا عند ربنا، فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه كانت لي دعوة دعوتها على قومي، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى إبراهيم.
فيأتون إبراهيم فيقولون: يإبراهيم أنت نبي الله وخليله، ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم والكرب ألا تشفع لنا عند ربنا، فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني كذبت ثلاث كذبات، ثم يقول: نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى موسى.
فيذهبون إلى موسى فيقولون: يا موسى! أنت نبي الله وكليمه، ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم والكرب ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى عيسى.
فيأتون عيسى فيقولون: أنت نبي الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم والكرب ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله -ولا يذكر ذنباً- ثم يقول: نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى محمد).
تخيلي أمة الله! هذا حال الأنبياء، هذا حال أولو العزم من الرسل، يسألون الله السلام، فكيف سيكون حالي وحالك.
(فيأتون محمداً -وفي رواية- فيأتوني فيقولون: يا محمد! أنت نبي الله وخاتم المرسلين، غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، أما ترى ما نحن فيه أما ترى ما قد بلغنا من الهم والغم والكرب ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول الحبيب: أنا لها أنا لها، فينطلق إلى العرش ويخر أمام العرش ساجداً، فيفتح الله عليه من المحامد والثناء عليه ما لم يفتحه على أحد من قبل، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط، وشفع تشفع، فأقول: يا رب! أمتي أمتي أمتي).
الحبيب لم ينسنا على شدة الموقف، على شدة الأهوال نادى بأعلى الصوت: أمتي أمتي أمتي فأين أمته من سنته سيرته ونصرته ونصرة دعوته {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
(فيقال: يا محمد! ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع، فأقول: يا رب! أمتي أمتي أمتي، فيقال: أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من الجنة، وهم شركاء للناس في سائر الأبواب يقول: والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر، وليأتين عليها يوم وهي كظيظ من الزحام).(48/16)
الحوض
أخيه! هل سمعت عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم ومن يرده ومن يصد عنه؟ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ترد عليّ أمتي الحوض، وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله، قالوا: يا نبي الله! أتعرفنا، قال: نعم، لكم سيما -يعني: علامة- ليست لأحد غيركم، تردون عليّ غراً محجلين من آثار الوضوء، وليصدن عني طائفة منكم فلا يصلون، فأقول: يا رب! هؤلاء من أصحابي، فيجيبني ملك فيقول: وهل تدري ما أحدثوا بعدك؟) رواه مسلم.
وقد اختلف العلماء متى يكون الورود على الحوض وأين؟ فقيل: قبل الصراط، وقيل: إنه يكون بعد الحساب والميزان والصراط.
أما وصف الحوض فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه -يعني: آنيته- كنجوم السماء، من شرب منه فلا يظمأ أبداً) متفق عليه.
اللهم لا تحرمنا فضلك، واجعلنا ممن يرد حوض نبيك، ويشربون من يده الطيبة المباركة شربة لا يظمئون بعدها أبداً.(48/17)
الحساب
ثم يبدأ الحساب وتكشف الحقائق وتظهر الفضائح {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18].
تذكري -أمة الله- أنك بين يدي الله موقوفة، وسيكلمك ربك ليس بينك وبينه ترجمان، تنظرين أيمن منك فلا ترين إلا ما قدمت، وتنظرين أشأم منك فلا ترين إلا ما قدمت، وتنظرين أمامك فلا ترين إلا النار، فاتقي النار ولو بشق تمرة.
ستقفين وستسألين عن القليل والكثير عن الصغير والكبير ستسألين عن العمر فيما أفنيته، وعن الشباب كيف قضيته، وعن المال من أين اكتسبته وفيما أنفقته، سيكون الحساب عسيراً وشديداً، إنه حساب بالذرة {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47].
{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:30].
إنه {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [النحل:111].
فيه: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49].
ستسألين أخيه عن صلاتك كيف أديتها وهل حفظتها، ستسألين عن الصوم والزكاة، ستسألين عن كل صغيرة وكبيرة، بل سوف تسألين عن كل كلمة قلتها وسمعتها، ستسألين عن كل حقوق وواجبات، وأوامر ومنهيات، فمنهم من يحاسب حساباً يسيراً وينقلب إلى أهله مسروراً، ومنهم من يحاسب حساب عسيراً ويدعو ثبوراً.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه -أي: ستره- فيقول: أتعرف ذنب كذا أتعرف ذنب كذا، فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى العبد في نفسه ورأت الأمة في نفسها أنها قد هلكت، قال الله: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعط كتاب حسناته).
أما الكفار والمنافقون فينادي بهم على رءوس الخلائق: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18].
أيتها المؤمنة! إنها محكمة شعارها {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17]، قاضيها الملك الديان الذي لا يظلم أحداً، سيشهد عليك سمعك وبصرك ولسانك، قال سبحانه: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:19 - 24].
فلا إله إلا الله كيف يكون الحال إذا شهدت العينان، وقالت: أنا إلى الحرام نظرت! ولا إله إلا الله إذا شهدت الأذنان وقالت: أنا إلى الحرام استمعت! ولا إله إلا الله إذا شهدت اليدان وقالت: أنا للحرام أخذت وبطشت! ولا إله إلا الله إذا شهدت الرجلان وقالت: أنا للحرام مشيت!(48/18)
فرح المؤمن وندم الكافر عند أخذ الكتب يوم القيامة
لقد أنذر الله وحذر فقال: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:39 - 40] {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94].
أيتها المؤمنة! تخيلي الموقف وقد تطايرت الصحف والكتب، إلى أي الفريقين ستنتمين، إلى أصحاب اليمين أم إلى أصحاب الشمال، بأي يد ستأخذين الكتاب بالشمال أم باليمين، قال سبحانه: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20] النتيجة: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:21 - 24].
وفي المقابل: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [الحاقة:25 - 26].
الأمنية: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:27 - 29].
النتيجة؟ {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:30 - 37].
فإلى أي الفريقين تريدين أن تنضمي، إن كنت تريدين الفوز والنجاة إذاً لابد من العمل والصدق والإخلاص، والصبر والاحتساب، وإلا ستقولين: واحسرتى واشقوتي من يوم نشر كتابيه وا طول حزني إن أكن أوتيته بشماليه وإذا سئلت عن الخطأ ماذا يكون جوابيه وا حر قلبي أن يكون مع القلوب القاسيه(48/19)
الصراط
لم ينته الموقف، ولم تنته الشدائد، ستؤمرين بعدها أن تعبري الصراط الذي بعده إما جنة وإما نار.
جاء في حديث أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم أنه ذكر: (ويضرب جسر على متن جهنم، قال صلى الله عليه وسلم: فأكون أول من يجيز ودعاء الرسل يومئذ: اللهم سلم اللهم سلم، وبه كلاليب مثل شوك السعدان، -نبت له شوك معكوف- قال: أرأيتم شوك السعدان؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فإنه مثل شوك السعدان، غير أنها لا يعلم قدر عظمها إلا الله، فتخطف الناس بأعمالهم، فمنهم الموبق بعمله -يعني: المهلك- ومنهم المخردل -يعني: المقطع بالكلاليب- ثم ينجو.
فمنهم من يعبره كطرف البصر، ومنهم كالبرق، ومنهم من يعبره كالريح، ومنهم من يعبره كأجاويد الخيل والركاب، فناج مسلم، وناج مخدوش، ومكردس في نار جهنم، ومنهم من يحبو حبواً، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يسحب سحباً).
فقولي لي بالله كيف سيكون العبور؟ قيل لأحد الصالحين وقد مات ورئي في المنام: ماذا صنع بك ربك؟ قال: وضعت قدماً على الصراط والقدم الأخرى في الجنة.
كيف ينهي ذلك اليوم، وكيف يكون المصير.
ينقسم الناس إلى فريقين: فريق في الجنة، وفريق في السعير، قال سبحانه: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:71 - 72].
والفريق الثاني: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر:73 - 75].
فريق في الجنة وفريق في السعير، ينادى أهل الجنة: أن خلود بلا موت، إن لكم أن تصحوا فلا تمرضوا أبداً، إن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، إن لكم أن تقيموا فلا تظعنوا أبداً.
ينادى أولئك: أن يا أهل النار خلود بلا موت {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود:103 - 105].
فلك الخيار أن تختاري إلى أي الفريقين تريدين، لابد من الاستعداد لهذا اليوم -أخية- قبل أن نصيحي بأعلى الصوت: رباه ارجعون! فلا يستجاب لك.(48/20)
مسئولية استشعار اليوم الآخر
إنها مسئولية عظيمة مسئولية اليوم الآخر، استشعار ذلك اليوم وما فيه من الشدائد والأهوال، لم يكن من فعله صلى الله عليه وسلم ربط الناس بالدنيا، بل كان دائماً يذكرهم بالله واليوم الآخر، ما وعدهم بحطام الدنيا إنما ربطهم بالله وجنته.
ها هي سمية أم عمار تعذب وتضطهد فيمر عليها النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (صبراً آل ياسر إن موعدكم الجنة).
يدخل على أصحابه يضحكون، فيقول لهم: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً).
إذا اشتد الحر قال لهم: (إن أشد ما تجدون من حركم من سموم جهنم)، وإذا اشتد البرد قال لهم: (إن أشد ما تجدون من بردكم من زمهرير جهنم).
يربطهم دائماً بالله وباليوم الآخر، تأتي فاطمة رضي الله عنها تطلب خادماً، فيقول لها: (ألا أدلك على ما هو خير من خادم؟ إذا أويت إلى فراشك فقولي: سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثاً وثلاثين، وقولي تمام المائة: الله أكبر، فذلك خير لك من خادم).
إنه البشير النذير والسراج المنير، الذي أرسله الله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد.
وتعلم هذا الهدى أصحابه من بعده، قام عمر ليلة وافتتح قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} [النبأ:1 - 3] فما استطاع أن يتجاوزها حتى بزغ عليه الفجر وهو يبكي ويردد {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} [النبأ:1 - 2].
ها هو الحسن البصري كما يقول عنه ابنه: أمسى أبي صائماً حتى حانت ساعة الإفطار، فأحضر له الطعام وقيل له: الطعام يرحمك الله، فاسترجع ثم قرأ قوله سبحانه: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل:12 - 13] فبكى وأبكى حتى عافت نفسه الطعام، حتى أصبح صائماً لليوم الثاني لم يذق الطعام ولا الشراب، حتى حانت ساعة الإفطار وجئ له بالطعام، وقيل له: الطعام يرحمك الله، فاسترجع وبكى وقرأ قوله سبحانه: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل:12 - 13] فبكى وأبكى حتى عافت نفسه الطعام، حتى أصبح صائماً لليوم الثالث على التوالي لم يذق الطعام ولا الشراب، حتى حانت ساعة الإفطار فذهب ابنه إلى ثابت البناني ويحيى البكاء فقال: أدركوا أبي ثلاثة أيام لم يذق الطعام ولا الشراب.
إنها مسئولية الآخرة التي حرمتهم لذة الطعام ولذة الشراب ولذة المنام فـ {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18] حالهم يتضرعون إلى ربهم: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65].
فالمسئولية عظيمة، واليوم أشد مما تتصورين، فاستعدي أخيه، فخذي من دنياك لآخرتك، ومن صحتك لسقمك، ومن فراغك لشغلك، فإنك لا تدرين ماذا يكون اسمك غداً، ولا تدرين في أي مكان تنامين.
فاتقي الله أيتها المؤمنة! اتقي الله واستعدي للقاء الله تبارك وتعالى.
وأستغفر الله العظيم، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(48/21)
يوم ضيعنا الأمانة
خُلُق عظيم لو تخلق به المجتمع لساد الأمن والأمان، وعمت الثقة بين أفراده، إنه خلق الأمانة، ويقابله ويضاده خلق الخيانة الذي يُعد من أبرز صفات المنافقين كما أخبرنا بذلك الحبيب المصطفى.
إن الأمانة خلق داخلي يدفع الإنسان لأداء الواجب، وعدم التفريط فيه.
وهذا الخلق يربط العبد بالإيمان بعلاقة تلازمية، فعندما يقوى الإيمان ويرتفع منسوبه في قلب العبد يؤدي ذلك إلى حفظ الأمانة وأداء الحقوق، وبالمقابل فإنه إذا ضعف ضيعت الأمانة والحقوق.(49/1)
سبب ضياع الثقة في المجتمع
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله! تولى عمر رضي الله عنه وأرضاه القضاء في عهد أبي بكر، حيث استعان به أبو بكر رضي الله عنه في أول خلافته على تولي القضاء، ومضى عام على تولي عمر هذه المسئولية، ثم جاء يقدم استقالته ويريد أن يعفى من القضاء، فقال له أبو بكر: أمن ثقل المسئولية يا عمر! أردت أن تتخلى عنها؟ قال: لا، ولكن مضى لي عام وأنا في القضاء لم ترفع لي قضية واحدة، ليس لي حاجة بين قوم مؤمنين عرف كل منهم ما له وما عليه.
فهو مجتمع يثق ببعضه البعض، ومجتمع يسعى أفراده إلى إصلاح ذات بينهم فيما بينهم، مجتمع يعرف الحقوق فيؤديها والشعار: الثقة فيما بينه البين.
ولاحظ الفرق! فانظر في محاكمنا اليوم وقد امتلأت بالشكاوى والقضايا حتى بين الأقارب، فساءت أخلاقنا، وساءت معاملاتنا، ولم يعد المجتمع يثق في بعضه البعض.
ومنذ أيام مضت جاءني أحدهم يشكو حاله، ويطلب الإعانة، ويقول: تراكمت علي الديون أكثر من ثمانين ألفاً، ووالله ليس لي فيها يد لا من قريب ولا من بعيد، وإنما أنا أتحملها عن الآخرين، فأين هم الآخرون حتى يؤدوا الحقوق ويحفظوا الأمانات؟! قال: وجاءني قريب من أقاربي فقال لي: أنا في أمسّ الحاجة لشراء سيارة، فقد مضى لي في الوظيفة فترة قصيرة، ومضى لي عن الزواج عهد قريب، فأحتاج إلى السيارة حاجة ضرورية، قلت: وماذا تريد مني؟ قال: تقدمت إلى إحدى الشركات طالباً الشراء بالتقسيط فأبوا وقالوا: إن مدة الخدمة التي خدمتها لا تكفي حتى نبيعك السيارة، قلت: وما الحل؟ قالوا: تصرّف، يقول لقريبه: فما وجدت الحل إلا أن تشتريها أنت باسمك وأنا أقوم بالسداد، يقول: فاشتريتها باسمي، وقام بسداد الشهر الأول والثاني، ثم اختفى عن الأنظار، فبحثت عنه في كل مكان ولم أجده، وتراكمت الأقساط المتأخرة حتى ساءت العلاقة بيني وبين تلك الشركة، ثم رفعوا علي دعوة في الحقوق وطالبوني بسداد القيمة كاملة، طالبوني بسداد ثمانين ألف ريال، وبحثت عنه فقالوا لي: لقد سافر إلى بلد بعيد، فكيف يستطيع السفر ويترك قريبه على هذه الحال؟! فهذه صورة واحدة وإلا فالصور كثيرة ومتعددة، بل قال لي أحدهم: قمت بكفالة من أعرفه تمام المعرفة، وبدأ يتأخر في السداد، والنظام يقول: يؤتى بالكفيل ليقوم بالسداد، ثم يطالب المكفول بسداد حقه، يقول: قمت بسداد ما تأخر عنه مرات ومرات، ثم لما طالبته بحقي قال: إن أباك رجل ميسور وهو يسدد عني، فهذا من أثق به، وأنا وإياه على علاقة طيبة منذ سنوات، يا إخوان! لقد فقدت الثقة فيما بيننا البين.
وجاء رجل يقترض من رجل فقال له: كم تريد؟ وما هي حاجتك؟ قال: حاجتي مبلغ كذا وكذا، قال: متى تستطيع سدادها وخذ الوقت الذي تريده؟ قال: أحتاج إلى ستة أشهر، قال: خذ تسعة أشهر، يقول: الآن مضت سنتان ولم أره من بعدها.
يا أخي! اذهب إليه وقل له: ظروفي لا تسمح، لماذا نهرب من بعضنا البعض؟ ولماذا يخون بعضنا بعضاً؟ لقد أصبحنا لا نثق ببعضنا البعض، وحتى القريب لا يثق في قريبه، فأين هي أخلاق المسلمين؟ إن الذي نعاني منه اليوم حقيقة هو افتقادنا لأخلاق المسلمين في تعاملاتنا، وفي بيعنا وشرائنا، وفي أخذنا وعطائنا، وهناك خلق عظيم لو تخلق به المجتمع لساد الأمن والأمان، وعمت الثقة بين أفراده، إنه خلق الأمانة، وهي ضده الخيانة التي هي من صفات المنافقين.
جاء من حديث أبي هريرة عند البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث -وذكر منها:- إذا اؤتمن خان)، بل أمرنا الله وحثنا على أداء الأمانات فقال تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة:283] وذم الله بعض أهل الكتاب فقال: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران:75]، فقد فقدنا الأمانة قبل الثقة فيما بيننا البين.(49/2)
حفظ الحقوق وأداء الأمانات متعلق بقوة الإيمان
إن الإيمان كلما قوي في القلوب حفظت الحقوق، وأديت الأمانات، وكلما ضعف في قلوبنا ضيعت الأمانات، وضيعت الحقوق.
وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اشترى رجل من رجل عقاراً، فالذي اشترى العقار كان يحفر في عقاره فوجد جرة من ذهب في العقار الذي اشتراه، فذهب بها إلى الرجل الذي اشترى منه العقار وأعطاه الجرة، فقال البائع: أنا بعتك العقار بكل ما فيه، فقال الرجل: وأنا اشتريت العقار ولم أشتر جرة الذهب، فتنازع الرجلان في جرة الذهب وكل يقول: جرة الذهب لك، فاختصما إلى القاضي، فتعجب القاضي من مثل هذه القضية، فقال لهذا: ألك غلام؟ قال: نعم، قال: وأنت، ألك جارية؟ قال: نعم، قال: زوجاهما وأنفقا عليهما).
وهذا يوم أن كان المجتمع يثق ببعضه البعض، ويوم أن كان المجتمع شعاره الصدق والأمانة، وأسألك بالله رويعي غنم في الصحراء ما الذي يدفعه لحفظ أمانته؟ أليس هو استشعار مراقبة الله عز وجل؟! أليس هذا هو الخلق الذي في داخله الذي يدفعه إلى مراقبة الله جل في علاه، فيرتاد بأغنامه أحسن المراعي ولا رقيب عليه إلا الله؟! واليوم الموظف يتأخر ويتكاسل ويتهاون، ولا يستطيع أي رئيس شركة أو مدير مؤسسة أن يراقب كل موظف في مكتبه، فالأمانة خلق داخلي يدفع الإنسان لأداء الواجب وعدم التفريط فيه.
فهذا رويعي غنم في الصحراء يحفظ أمانته، ويرعاها حق الرعاية، فرآه ابن عمر يرتاد بغنمه أحسن المراعي فقال له امتحاناً: بعنا من هذه الشياه، فقال رويعي الغنم: أنا مؤتمن ولا أستطيع التصرف، فقال له ابن عمر امتحاناً واختباراً: قل للمالك: أكلها الذئب، -والذئاب تعدو على الأغنام كما عدت الذئاب على يوسف عليه السلام كما قال إخوة يوسف، فمن المعقول أن تعدوا الذئاب على الأغنام-، قال: قل للمالك: أكلها الذئب، فقال الأمين: وماذا أقول لله؟ إن كنت سأقول للراعي أكلها الذئب، فماذا سأقول لله حين أفرط في الأمانة؟ ماذا سأقول إذا وقفت بين يدي الله وختم على اللسان وأنطق اليدين والرجلين؟!! {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65].
فبكى ابن عمر، وأرسل إليه من يعتقه، وقال: كلمة أعتقتك في الدنيا، وأسأل الله أن تعتقك يوم أن تلقاه، قل معي وأنت تسمع مثل هذه الأخبار: أين نحن من هؤلاء؟ وجاء في الحديث: (اقترض رجل من رجل مبلغاً من المال، فقال له صاحب المال: جئني بكفيل، قال المقترض: كفى بالله كفيلاً، قال: رضيت، قال: ائتني بشهيد؟ قال: كفى بالله شهيداً، قال: رضيت.
فاتفقا على يوم لسداد ذلك المبلغ، وكان بينهما بحر، فهذا يقيم على تلك الضفة، وهذا يقيم في الجهة الأخرى، فلما حان وقت السداد خرج الذي له المال وخرج الذي عليه المال، وكل يريد أن يلتقي بصاحبه، فهذا ينتظر وذاك يريد الذهاب، فقدر الله في ذلك اليوم أن الجو كان عاصفاً، والسفن لا تسير في ذلك اليوم، فاحتار هذا وانتظر ذاك، فهذا يريد أن يؤدي الأمانة، فلما رأى أن الوقت قد تأخر وليس له حيلة في ركوب البحر رأى خشبة على شاطئ البحر فأخذها الذي عليه الدين ونقرها، وكتب رسالة ووضعها مع المال في تلك النقرة: لقد انتظرت حتى أجد سفينة أركب فيها إليك فلم أجد، هذا هو المال وهذه رسالتي، فطلبت مني كفيلاً فقلت لك: الله الكفيل، وطلبت مني شهيداً، فقلت: الشهيد الله، فالله يؤدي عني، وقذف الخشبة على أمواج البحر تتقاذفها الأمواج يمنة ويسرة.
وفي الضفة الأخرى للبحر انتظر الرجل، فأخذ ينظر في الأفق علّ سفينة تقبل من هنا أو من هناك فلم تقبل، فلما مل وطال عليه الانتظار أراد الذهاب فإذا بقطعة خشب تتقاذفها الأمواج، فقال في نفسه: لن أرجع إلى أهلي خالي اليدين، سآخذ هذه الخشبة أقطعها ثم أجففها، ثم تكون ناراً ووقوداً لي ولأهلي، فأخذها وهو لا يعلم أن الأمانة قد وضعت فيها، فلما ذهب إلى البيت وكسرها خرجت الرسالة من بين كسرات الخشبة، فقرأ الرسالة: انتظرت فلم أجد سفينة، وطلبت مني كفيل فقلت لك: الكفيل الله، وطلبت مني شهيد فقلت لك: الشهيد الله، فالله يؤدي أمانتي وهذا هو المبلغ، فأخذه ثم تعجب.
فحين صدقوا مع الله صدق الله معهم، ودارت أيام فجاء الذي عليه الدين والمبلغ معه كاملاً يريد سداده، فلما جاء إلى الرجل قال له: إن المبلغ عليك حلال وقد سدد الله عنك، وهذا المبلغ مني لك هدية، خذ المبلغ كاملاً لا أريده، فلقد سدد الله عنك.
فيوم كان شعارهم: أمانة، وصدق، وكانوا يثقون ببعضهم البعض، ويعطي كل إنسان ماله ولا يطالب إلا بحقه، كان هذا شأنهم.
قال القرطبي: الأمانة تعم جميع وظائف الدين، فكل ما افترض الله على العباد فهو أمانة، فالأعراض أمانة، والأموال أمانة، والأنفس أمانة، وأعظم الأمانات هو هذا الدين.
وقد كانوا يثقون في أنفسهم وفي بعضهم البعض حتى على الرقاب، فيكفل الرجل الرجل حتى على الرقبة ولا يهاب، تقول السير: جاء شابان إلى عمر رضي الله عنه ومعهما رجل كبير يقتادانه من تلابيبه إلى عمر، فلما جاءا إلى عمر، قال: ما خطبكما؟ قالا: قتل أبانا، فنظر فيه عمر، قال: أصحيح ما يقولان؟ قال: نعم، أغضبني فضربته بصخرة على رأسه فسقط ميتاً، قال عمر: أما وقد اعترفت فلا بد من القصاص، النفس بالنفس، والعين بالعين، والأذن بالأذن، قال: يا أمير المؤمنين! لي صبية صغار يقيمون في الصحراء لا والي لهم ولا راعي، فأعطوني مهلة وفرصة كي أذهب إليهم وأخبرهم: أني لن أرجع إليهم بعد اليوم، وأدفعهم إلى من يقوم بكفالتهم، أو يقوم بسد حاجاتهم، فليس لهم بعدي إلا الله.
فقال عمر: لا نستطيع أن ندعك تذهب، فقال للغلامين: أتعفوان؟ قالا: لا، قتل أبانا، فقال عمر: لا نستطيع أن ندعك أن تذهب إلا أن تأتي بكفيل يكفلك، فمن أين يأتي بكفيل وهو لا يعرف أحداً؟ فنظر في وجوه الحاضرين وفيهم أبو ذر وقال: هذا يكفلني، والله ما رآه من قبل، وما تكلم معه قط من قبل، فقال عمر لـ أبي ذر: أتكفله؟ قال: نعم، يا أمير المؤمنين! أما وقد اختارني من بين هؤلاء القوم والله لا أخذله! فالمسلم أخو المسلم لا يخذله أبداً، حتى وإن كانت القضية تتعلق برقبته ونفسه.
فقال عمر: يا أبا ذر! إن لم يأت الرجل فأنت تعرف ماذا سيكون الجزاء؟ قال: أعلم يا أمير المؤمنين! قال الرجل: أمهلوني ثلاثة أيام ثم سآتي إليكم أسلم نفسي، فمضى اليوم الأول واليوم الثاني واليوم الثالث، وبدءوا يترقبون تلك الساعة التي وعد الرجل بالرجوع فيها، طال الانتظار على أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه، فلما أيس الناس من قدوم الرجل إذا بغبار يأتي من بعيد فلما أقبل إذا هو بالرجل يعتذر عن تأخره، فهلل الناس وكبروا.
فهذا رجل في الصحراء لا يعرف مكانه أحد! والقضية ليست قضية عشرة آلاف ريال، أو مائة ألف ريال، إن القضية قضية رقبة سيسددها في الحال.
فكبر الناس وهللوا وقال عمر للشابين: أتعفوان؟ قالا: عفونا.
وكيف لا يعفون والقضية ثقة وأمانة وصدق بين أفراد المجتمع؟! أما ترى عبد الله! أن هذا هو ما نحتاج إليه اليوم؟! أن تكون المعاملة والشعار فيما بيننا صدق وإخلاص، وصدق في البذل، وصدق في العطاء، صدق في كل شأن من شئون حياتنا، بلى والله! فهذا ما نحتاجه اليوم.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(49/3)
أنواع الأمانات المطلوبة
الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: أحبتي! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، اتقوا الله عباد الله! قال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281]، ومن تقوى الله حفظ الأمانات، وأداء الحقوق، ومراعاة مشاعر الآخرين، وقد جاء ذكر الأمانة في القرآن على ثلاثة معانٍ: الأول: بمعنى الفرائض كما قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27].
الثاني: بمعنى الودائع كما قال الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58].
الثالث: بمعنى العفة، كما قال الله عن موسى على لسان بنت شعيب: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]، أي: قوي في بدنه، عفيف في معاملاته، وهذا ما نحتاجه اليوم، ولن يكون الرجل أميناً حتى تظهر فيه ثلاثة أمور: عفته عما ليس له، وتأدية ما عليه للآخرين، واهتمامه بحفظ حقوق الآخرين.(49/4)
أمانة الدين
إن الموظف في الشركة إذا أعطوه سيارة يقودها لقضاء حوائج الشركة فإنها أمانة، ورأيت بأم عيني من يسيء استخدام تلك الأمانة ظاناً أنه ليس عليه رقيب.
أحبتي! إن البشر لا يستطيعون مراقبة البشر في كل شأن من شئونهم فإن لم نستشعر أن الحسيب هو الله فلن نؤدي الحقوق، ولن نحفظ أمانات، ومن أعظم ما استؤمنت أنا وأنت عليه: أمانة الدين، والتوحيد الذي لن ينجو يوم القيامة إلا من جاء به خالص لله.
فعند البخاري من حديث معاذ رضي الله عنه قال: (بينما كنت أسير مع النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ثم مضى، ثم قال بعد ساعة: يا معاذ! أتدري ما حق العباد على الله إن هم فعلوا؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقهم عليه ألا يعذبهم)، وإن لم يعذبهم دخلوا الجنة.
ومن حقوق التوحيد: المحافظة على الصلوات، والقيام بالواجبات، والانتهاء عن المحرمات، وأسألك هنا سؤالاً: هل حافظت على الأمانة في فجر هذا اليوم أم كنت من المضيعين؟ هل صليت الفجر في جماعة المسلمين حفاظاً على أمانة الله التي استأمنك عليها أم كنت مع النائمين المضيعين؟ فاتقوا الله عباد الله! فالدين أعظم ما استؤمنا عليه، فإن حافظنا على ديننا وحفظنا حقوق ربنا فسنحافظ على حقوق الآخرين، فمن حافظ على الصلوات والأوامر، وترك المنهيات حفظ حقوق الآخرين.
فهذه كلمة إلى الذين يتصدرون المسئوليات ويتأمرون على المسلمين: اعلم -بارك الله فيك- أن المسئولية أمانة، وأنها يوم القيامة خزي وعار وندامة، فقد جاء أبو ذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله! استعملني على بعض أمورك، قال: (يا أبا ذر! أنت ضعيف، والمسئولية أمانة، وهي خزي وعار وندامة يوم القيامة) إلا أن يقوم بحقها كما قام يوسف حين قال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55].
فإلى أولئك الذين يتصدرون المسئوليات، ويترأسون على أبناء المسلمين: اتقوا الله في أبناء المسلمين، وأدوا الأمانة فيما استرعاكم الله، فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته.(49/5)
أمانة الأسرار الزوجية
كذلك من الأمانات أمانة الأسرار الزوجية، وإن من أعظم الخيانة يوم القيامة كما قال صلى الله عليه وسلم: (الرجل يفضي إلى زوجته وتفضي إليه، ثم يكشف سرها أو تكشف سره)، يقول: حدث بيني وبين فلانة كذا وكذا، فالبيوت أسرار، فاحفظ الأمانة، واحفظ الأسرار في البيوت.
وتقوم الساعة إذا ضيعت الأمانة، ففي الحديث قال أنس: (بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ دخل أعرابي فقال: يا محمد! متى الساعة؟ فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم قلنا -أي: الصحابة-: إما أنه كره سؤاله، أو أنه لم يسمع ماذا قال، فلما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من حديثه، قال: أين السائل عن الساعة؟ قال الأعرابي: أنا يا رسول الله! قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: وما ضياعها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله).
فاتقوا لله عباد الله! واعلموا أن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم.
اتقوا الله عباد الله! واعلموا أن الإيمان هو الدافع لنا لحفظ الأمانات وأداء الحقوق، ولما ضعف الإيمان ضاعت الأمانات وضاعت الحقوق، فاستشعروا رقابة الله في كل مكان: في الصحاري، وفي البراري، وفي البحار، فإن استشعار رقابة الله هي الدافع الحقيقي لنا لحفظ الأمانات.
اللهم إنا نسألك إيماناً كاملاً، ويقيناً صادقاً، وصلاة خاشعة، وعلماً نافعاً، ورزقاً حلالاً واسعاً.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا يا ربنا من الراشدين! وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، يا رب العالمين! اللهم اجمع شملنا، ووحد صفنا، وأصلح ولاة أمورنا وانصرنا يا قوي يا عزيز! على القوم الكافرين.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يقاتلون من أجل إعلاء كلمة دينك، وانصر من نصرهم، واخذل من خذلهم، وفك أسرانا وأسراهم يا رب العالمين! اللهم عليك بكفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك، ويعذبون أولياءك، اللهم اشدد وطأتك عليهم، اللهم اشدد وطأتك عليهم، اللهم اشدد وطأتك عليهم، اللهم أنزل عليهم بأسك وبطشك إله الحق! إنهم لا يعجزونك.
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90] فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(49/6)
رفيق الدرب
إن القلوب تحيا بالذكر وتطمئن به، فهي في الأصل دائمة الاضطراب والتردد، فإذا نزل عليها ذكر الله تعالى كان عليها برداً وسلاماً، وكان لها حصناً وأماناً، فتهدأ وتسكن وتستكين، ألا بذكر الله تطمئن القلوب.
إن قلوبنا في أمس الحاجة إلى الذكرى والموعظة، فالموعظة تنفع المؤمنين(50/1)
التفكر في اليوم الآخر والاستعداد لذلك
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: لقد كانت هذه المحاضرة عن الرفيق الذي كان يسير معي على الطريق ثم حاد عن الطريق إما لشهوة أو لشبهة، فلما أخبرت بأن العنوان حدث فيه بعض التغيير توقفت عن التحضير في آخر الصفحات؛ لعلي أن أستدرك الموضوع الجديد، ثم لا هذا أكملت ولا ذاك أدركت، فجئتكم الليلة ببضاعة مزجاة، وجئتكم بموضوع آخر، لكن والله الذي لا إله إلا هو! نحن في أمس الحاجة إلى مثل هذا الموضوع، وأردت أن يكون الموضوع في هذه الليلة حديث من القلب إلى القلب، وهو موعظة ذكرنا بها القرآن في مواضع عدة، وأعظم المواعظ مواعظ القرآن، وأعظم الكلمات كلمات القرآن، وأعظم الحروف حروف الرحمن جل في علاه، لذلك أردت أن يكون أول لقاء بيني وبين أهل عنيزة كلمات تنطلق من القرآن.
إن الحياة حقيقة هي حياة القلوب وليست حياة الأبدان، فالماء يحيي الأرض، وذكر الله يحيي القلوب، فقد رأيتم اليوم عندما نزل المطر كيف تغير واقع الأرض، ورأيتم كيف أن الأرض هشت وبشت فرحاً باستقبال الحياة، فكذلك القلوب لا تحيا إلا بذكر علام الغيوب، قال الله: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5]، فهذا يدل على أمور عظيمة، ثم إن الله في سياق هذه الآيات قال: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:5 - 7]، فنزول الماء، وإحياء الأرض دليل على قدرة الباري جل في علاه على إحياء الناس بعد موتهم، وبعثهم ونشرهم ثم حسابهم، ثم يتقرر المصير إما إلى الجنة أو إلى النار، وهي قضية لابد أن تشغل كل واحد منا، فمدار صفحات القرآن على هذه القضية، فما أرسل الله الرسل، ولا أنزل الكتب إلا ليتفكر الناس في ذلك اليوم العظيم، ذلك اليوم الذي سيتقرر فيه المصير والمآل.
إن القلوب إذا حييت استعدت للقاء علام الغيوب، وإذا نسيت غفلت وقست وابتعدت عن صراط الله المستقيم، قال الله: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22]، واليوم الناس يشكون من هذا المرض العظيم، فيشكون من قسوة في قلوبهم، والسبب هو الابتعاد عن ذكر الله جل في علاه، والابتعاد عن النظر في كتاب الله جل في علاه، والابتعاد عما يذكرنا بلقاء الله جل في علاه، فترى مدار أحاديثنا في مجالسنا هو عن الدنيا وما فيها، ولما تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة اشترط على جلسائه شروطاً ثلاثة، فقال: من أراد أن يجلس في مجلسي فأنا أشترط عليه شروطاً ثلاثة -وهذه الشروط ليت أنّا نشترطها في مجالسنا- فقال: أما الشرط الأول: ألا تتحدثوا في مجلسي عن الدنيا أبداً.
وأما الشرط الثاني: ألا تغتابوا عندي أحداً.
وأما الشرط الثالث: ألا تمدحوا في مجلسي أحداً.
وهذا لأن الإكثار من ذكر الدنيا يقسي القلوب، وغيبة الآخرين كبيرة من الكبائر، وكثرة المدح تميت القلب، وتنسيه ما أعد الله لأهل النعيم، وما أعد الله لأهل الجحيم، فهذه الشروط الثلاثة ليت أنّا نشترطها في مجالسنا، فبذكر الله تحيا القلوب كما تحيا الأرض إذا نزل عليها المطر، وتحيا القلوب أيضاً بذكر سير الأقوام الذين ساروا على ذلك الطريق، فقد أحيا الله بذكرهم أقواماً، فلله در أقوام بذكرهم يحيا أقوام! وتباً لأقوام بذكرهم يموت أقوام، فقد مضوا منذ مئات السنين ولا زالت المنابر تسطع بأسمائهم، وإذا ذُكروا قلنا: لا إله إلا الله، وإذا ذكرت أخبارهم تأدبنا بها واقتدينا بصنع أولئك الرجال، ووالله الذي لا إله إلا هو! لولا أن كتب السِّيَر نقلت لنا أخباراً صحيحة عن أولئك ما كنا نصدق أن أولئك بشر، فقد وصلوا إلى درجة عالية، وزكاهم الله ورضي عنهم وهم يسيرون على الأرض، ومنهم من قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله أخبرني أنه يحبك، وأنا ضمين بحبك)، ومنهم من اهتز له عرش الرحمن عند وفاته، ومنهم من غسلته الملائكة بين السماء والأرض، ومنهم من كلمه الله كفاحاً ليس بينه وبينه ترجمان، فما وصلوا إلى تلك الدرجات العالية إلا بقلوب حية معلقة بما عند الله جل في علاه، فإذا أستأنس أهل الدنيا بالدرهم والدينار استأنسوا بما عند الله جل في علاه، فيتردد على مسامعهم وهم يرون الناس يلهون في دنياهم: {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى:36].
إن الإيمان هو الحياة الحقيقية، ولا حياة بدون إيمان، فما هو الدافع لي ولك أن نجلس في هذا المسجد أليس هو الإيمان؟ وما هو الدافع لي ولك على فعل الطاعات أليس هو الإيمان؟ وفي المقابل ما هو الرادع لي ولك عن فعل المعاصي والمنكرات أليس هو الإيمان؟ إنه إيمان بما أعد الله للطائعين، والإيمان بما أعد الله للعصاة والمخالفين.
إن الذي يجعل للحياة قيمة هو الإيمان، وبه يتفاوت الناس في دنياهم وأخراهم، لذلك كان إبراهيم عليه السلام في إيمانه أمة، ورجح إيمان أبي بكر الصديق إيمان أمة، ولم يكن بأكثر القوم صلاة ولا قياماً، لكنه كان أكثرهم ثقة وتصديقاً بالله رب العالمين، لذلك كانت حياته غير حياة الآخرين، فالذي يجعل لحياتي وحياتك قيمة هو الإيمان، {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:122]، فتأمل في قوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ}، أما كان يأكل، ويشرب، ويلبس، ويغدو، ويروح؟ بلى، لكن ليست هذه هي الحياة، لذلك قال أحد المربين لأحد أبنائه: يا بني! لا يكن همك المأكل والمشرب والملبس والمنكح، فهذا هم النفس، فأين هم القلب؟ إن همك هو ما أهمك، فليكن همك الله والدار الآخرة، فمن جعل الهموم هماً واحداً -يعني: هم الآخرة- كفاه الله هم الدنيا وهم الآخرة، أتريد الدنيا؟ فأنا أدلك على الطريق حتى لا تخسر الدنيا والآخرة، (من أصبح والآخرة همه جمع الله له شمله، وجعل غناه في صدره، وأتته الدنيا وهي راغمة)، والعكس بالعكس، (ومن أصبح والدنيا همه فرق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما قسم الله له) فالذي يجعل لحياتي وحياتك قيمة هو أن يكون لها هدف، فإذا تحدد الهدف تحدد الطريق.
اعلم بارك الله فيك أن الطرق نوعان: النوع الأولى: طرق صعبة فيها مصاعب وآلام وامتحانات وابتلاءات، لكنها توصلك إلى المكان الذي تريد أن تصل إليه، والنوع الآخر: طرق معبدة مذللة فيها شهوات واستراحات وغير ذلك، لكنها لا توصلك إلى المكان الذي تريد أن تصل إليه، فلا شك أنك ستأخذ الطريق الصعب رغم صعوبته؛ لأنك تريد أن تصل، وهذا مصداق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (حفت النار بالشهوات، وحفت الجنة بالمكاره)، والحياة امتحان وابتلاء؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيَّ عن بينة، فالذي يحيي القلوب هو ذكر علام الغيوب، فالنظر في آياته، والتدبر في كلماته يحيي القلب، ومصيبتنا أننا لا نعرف القرآن إلا في رمضان، فبقدر ما تعطي القرآن القرآن يعطيك، وبقدر ما تقبل على كتاب الله يقبل الله عليك، وإذا أردت أن تعرف قيمتك عند الله فانظر إلى قيمة كلام الرحمن في صدرك، وفي حياتك، وفي كل شأن من شئون حياتك، فالمطلوب منا عند قراءة القرآن أن نفتح القلوب قبل أن نفتح الآذان، لذلك سيتردد على مسامعك الليلة آيات وآيات، فأسأل الله أن تجد هذه الآيات مكاناً في قلبي وفي قلبك، وأن يجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم.
إن من أركان الإيمان، وعقائد الإسلام: الإيمان بالله وباليوم الآخر، والضابط الحقيقي لصفة الإنسان هو إيمانه بذلك اليوم، فلا يضبط سلوك البشر في دنياهم إلا إيمانهم بذلك اليوم الذي سيجمع الله فيه الأولين والآخرين؛ ليجزي المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته، لذلك حين سأل أحدهم سفيان فقال: كم مضى من عمرك؟ قال: ستون سنة، قال: ستون سنة وأنت في سفر إلى الله، أوشكت أن تصل، قال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، قال: أتعرف معناها؟ فإن معناها أنك لله عبد وأنك إليه راجع، قال سفيان: ومن علم أنه لله عبد فليعلم أنه موقوف، ومن علم أنه موقوف فليعلم أنه مسئول، ومن علم أنه مسئول فماذا أعد للجواب؟ {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:109]، فالضابط الحقيقي لسلوك البشر كلهم أقصاهم وأدناهم هو الإيمان بالله وباليوم الآخر، فإذا كنت مدير شركة أو مؤسسة من المؤسسات فإنك لا تستطيع تراقب كل الموظفين، ولا تستطيع أن تراقب كل واحد في روحته ومجيئه، فما الذي يجعل هذا يبدع في عمله؟ وما الذي يجعل هذا يخلص في أدائه؟ وما الذي يجعل هذا يعطي الحقوق ويمتنع عن المظالم؟ إنه استشعاره باليوم الآخر، وإنه استشعار رقابة الله في كل مكان، كان ابن عمر في مرة من المرات في صحراء، فإذا براعي غنم يرعى أغنامه ويرتاد بها أحسن المراعي، فالمالك لا يراه، لكن الله جل في علاه يراه، وملك السماوات والأرض يراه في كل خطوة، وفي كل مكان يغدوه أو يروحه.
إن هذا الأمر ينقصنا اليوم وهو: أننا نستشعر الرقابة في كل مكان، وأن نستشعر أن الله يرانا في كل مكان، فهو يرى ما في السماء وما في الأرض، {(50/2)
الاهتمام والمشاركة في فعل الخير
يسر مؤسسة الوقف الإسلامي أن تدعوكم إلى دعم مشروع وقف الأرض والمقام بالمدينة المنورة، والذي يبعد (300) متر فقط، ويتكون من اثني عشر طابقاً، وهو بكلفة إجمالية تصل إلى (36) مليون ريال، ويصرف هذا المشروع على المطلقات والأرامل والأيتام، فهذا هو الزاد الذي ننجو به في ذلك اليوم، {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عند الله} [البقرة:110]، فبالصدقات نستظل في ظل العرش في ذلك اليوم، وبالصدقات نرى من الأجور ما الله به عليم.
فأدعو نفسي وإياكم إلى المشاركة في هذا الوقف، فإذا مات ابن آدم انقطع عمله، وستبقى هذه الصدقة الجارية تجر عليه الحسنات حتى يلقى الله.
وحساب الرقم: (7203) فرع (279)، فلا تتأخروا في دعم إخوانكم ودعم مشاريع الخير، وقد كنا بالأمس نتذاكر الجمعيات الخيرية الباطلة في بلاد الكفر، وقد بلغت في إحدى الإحصائيات: مليوناً وخمسمائة جمعية، وكلها تحارب الإسلام والمسلمين، وشعارهم في رسائلهم: ادفع دولاراً لمحاربة الإسلام والمسلمين فيدفعون، وأنا أقول: ادفعوا لنصرة الإسلام ونصرة المسلمين، فالإسلام اليوم في أمس الحاجة لأبنائه وتكاتفهم مع بعضهم البعض، ولا يخفى عليكم ما يجري لإخواننا هنا وهناك، ولا يخفى عليكم الحصار الذي حوصرت به العراق وفلسطين والشيشان وكل بقاع المسلمين، فنريد أن نحيي قضية الجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ونريد نحيي قضية: (المؤمن للمؤمن كالبنان أو كالبنيان وشبك بين أصبعيه)، فهل تظن أن الذي يجري هناك بسبب ذنوبهم هم؟ لا، بل هو بسبب تقصيري أنا وأنت، وبسبب ذنوبنا نحن، فإن نحن قصرنا ونحن جسد واحد ابتُليت قطعة من الجسد بالبلاء، فكل ما تستطيع أن تقدمه لهم فافعله، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وأبسط ما نستطيع أن نقدمه لهم هو أن ندعو لهم، العراق ليست بمأساتنا الأولى ولا بمأساتنا الآخرة: هاهو الأقصى يلوك جراحه والمسلمون جموعهم آحاد يا ويحنا ماذا أصاب رجالنا أَوَما لنا سعد ولا مقداد وربما قد حيل بيننا وبين أشياء لكننا نستطيع أن نفعل أشياء أخرى، فنستطيع أن نفعل بإذن الواحد الأحد بثبات الفرد أشياء كثيرة، فبثبات الفرد يغير الله مجرى أمم، وبثبات آحاد تثبت أمم وتثبت جماعات، فاثبت على صراط الله المستقيم، وأريدك أن تسعى إلى أن تكون مجاهد دعوة، وأريد منك أن تسعى إلى أن تصل إلى درجة تجاب فيها دعوتك حتى إذا قلت: يا رب! قال الله: لبيك وسعديك، فالأمة تنصر بأوليائها، فالمنتسبون إلى الدين كثير لكنهم لم يبلغوا رتبة الولاية، تلك الرتبة التي قال الله عنها في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، فلم نصل إلى تلك الرتبة؛ لأننا لم نصدق مع الله كما صدقوا، فقد وقف ابن الحضرمي على مياه الخليج وقد فرت سفن الروم، فقال لجيشه -وكان أبو هريرة في ذلك الجيش-: توضئوا، فتوضئوا وصلوا، ثم دعا وقال: يا حي يا قيوم، يا محيي يا مميت، يا ربنا يا رب كل شيء! ثم أمر جيشه وقال: خوضوا البحر، يقول أبو هريرة: والله! لقد خضناه فما ابتل حافر حصان لنا، فلما أرادوا الرجوع قال لهم: ارجعوا من حيث أتيتم، فرجعوا من نفس الطريق.
فلما سخّروا أنفسهم لله سخّر الله لهم كل شيء، كانوا هم قد استطاعوا فنحن أيضاً نستطيع، وإن كانوا قد فعلوا فنحن أيضاً سنفعل، لكن المطلوب مننا أن نصدق كما صدقوا، فقد جعلوا حياتهم وقفاً لله كما أمر الله.
{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]، اللهم انصر إخواننا في العراق وفلسطين والشيشان وكشمير والفلبين وأفغانستان والسودان والصين وإيران وفي كل مكان، اللهم كن لهم عوناً وظهيراً ومؤيداً ونصيراً، اللهم انصر من نصرهم، واخذل من خذلهم، اللهم اربط على قلوبهم، وأفرغ عليهم صبراً، وثبت الأقدام، اللهم سدد رأيهم ورميهم، واجمع كلمتهم على الحق يا رب الأنام! اللهم إنهم قلة فكثرهم، وحفاة فاحملهم، وجياع فأطعمهم، وخائفون فأمنهم، ومظلومون فانتصر لهم، اللهم مكن لهم دينهم الذي ارتضيت لهم، اللهم بدلهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونك لا يشركون بك شيئاً، وتكفل بأيتامهم، وصن أعراضهم، واحقن دمائهم، وأطعم جياعهم، واشف مرضاهم، وتقبل موتاهم، وتقبل شهدائهم، وفك أسرانا وأسراهم يا رب العالمين! اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اقلب أرض الفلوجة على الكفار ناراً، وسمائها شهباً وإعصاراً، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، لا تدع لهم قوة على الأرض إلا دمرتها، ولا قوة في البحر إلا أغرقتها، ولا قوة في السماء إلا أسقطتها، اللهم خالف بين كلمتهم، وشتت رأيهم ورميهم، وخالف بين قلوبهم، اللهم سلط عليهم ما خرج من الأرض، وما نزل من السماء، اللهم اجعل رقابهم غنيمة للمجاهدين يا رب العالمين! اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك يا قوي يا عزيز! اللهم لا ترفع لهم في بلاد المسلمين راية، ولا تحقق لهم في بلاد المسلمين غاية، واجعلهم لمن خلفهم عبرة وآية، اللهم أخرجهم منها أذلة صاغرين، اللهم عليك بهم وبمن عاونهم فإنهم لا يخفون عليك ولا يعجزونك يا قوي يا عزيز! اللهم إننا حيل بيننا وبينهم فلا تحرمنا أجرهم يا غفور يا رحيم! اللهم إننا ليس لدينا لهم إلا الدعاء فلا تردنا خائبين، اللهم يا رحمان السموات والأرضين! ارحم ضعفنا وضعفهم، وتقصيرنا وتقصيرهم، واجبر كسرنا وكسرهم، وأعز الإسلام والمسلمين، واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين! وآمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين! ربنا عليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير.
أستغفر الله العظيم، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(50/3)
الأسئلة(50/4)
دور المهتدين والملتزمين بالدين تجاه إخوانهم الشباب الغارقين في الشهوات
السؤال
شاب يقول: أنتم تقولون لنا: التزموا وابتعدوا عن المحرمات، وأنتم لا تدرون أين نعيش وكيف نعيش! فأنتم في بُعد عنا أيها الملتزمون! فقد لعبت بنا الفضائيات والشبكات والمحرمات والشهوات، فأين أنتم منا؟ ولماذا لا تأتون إلينا؟ فهل من كلمة يا فضيلة الشيخ! لمن هداهم الله سبحانه وتعالى؟
الجواب
هذا كلام له وعليه، فأما الإخوة الذين هداهم الله فإنهم مطالبون بأن يسعوا إلى هداية إخوانهم، وهذا واجب على كل من سلك طريق الاستقامة، (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، لكن أنت أيها السائل! في المقابل إذا غرقت فإنك في يوم القيامة ستحاسب بنفسك وحيداً {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38]، فالله سيحاسبك عن أخطائك أنت، فإن لم يأتوك هم فاذهب أنت إليهم، فأنت مطالب كما هم مطالبون، فكلٌ مطالب بفكاك رقبته والفوز بالجنة، وفي المقابل كلنا مطالب بأن نتعاون على مثل هذا.
وأقول لمن هداهم الله: اتقوا الله في إخوانكم، فوالله! إن فيهم من الخير ما الله به عليم، ووالله! إن أكثرهم لا يحتاج إلا إلى دفعة خفيفة وتوجيه ميسر، بل إن أحدهم - والله يا إخوان! - يقول: كنت أجلس على شاشات الإنترنت الساعات الطوال التي تصل إلى ست أو سبع ساعات، فأجلس أحادث هذه وتلك ثم بعد ذلك خصومات معهن وسب وشتام ولعان وكلمات لا يعلم بها إلا الله، يقول: وفي مرة من المرات قبيل صلاة الفجر إذا بفتاة من الذين يدخلون على مثل هذه المواقع حتى ينشروا رسائل دعوية، فترسل من غير إظهار شخصيتها، فخاطبت أحد الشباب الذين اشتهروا في ذلك الموقع بتطاولهم هنا وهناك، فأرسلت له مقطع من شريط فقط وقالت له: أسألك بالله أن تسمع هذه المقدمة، ثم أغلقت وخرجت من الموقع، يقول: فقلت في نفسي ماذا أخسر لو سمعت هذه المقدمة، يقول: فسمعتها فجلست مكاني أفكر، ثم بدأت أبكي، ثم في اليوم الثاني أتانا من منطقته إلى الدمام، أي: أنه قطع أربعمائة كيلو ويقول: أنا أريد أن أغير مجرى حياتي، فلم تكلف دعوته شيئاً سوى دقائق معدودة غيرت مجرى حياته، وهو الآن يقيم ويرابط في المسجد ولا يخرج منه، فهو يأكل وينام ويصلي مع المصلين، يقول: سبحان الله! وجهه يستنير يوماً بعد يوم، وهذا كله بدعوة صادقة من فتاة أرسلتها إليه فتغير واقع حياته.
إن الشباب فيهم خير كثير، لكنهم يحتاجون إلى تذكير، فإذا إن كان ذلك الجيل الفريد يذكَّر فنحن من باب أولى نحتاج إلى أن يذكر بعضنا بعضاً.
لكن أقول لهذا: انتبه على نفسك، فإذا لم يأتوك هم فاذهب أنت إليهم، واسعَ إلى نجاة نفسك، فستسأل أنت يوم القيامة، ولا أسال أنا عنك لماذا أنت فعلت كذا؟(50/5)
حكم دخول النساء الإنترنت من أجل الدعوة
السؤال
ما حكم دخول النساء الإنترنت من أجل الدعوة؟ الجوب: الإنترنت فيه خير كثير، لكن عندنا مصيبة وهي: أننا نسيء استخدام الوسائل، فبدلاً من أن تنفعنا تنقلب ضدنا، وأغلى ما أملك أنا وأنت هو الدين، فلا أخاطر بديني في أي حال من الأحوال، أحد الناس أعرفه كان صالحاً من الصالحين، لكنه توسع في قضية الانترنت، يقول: نقلت إلى منطقة نائية فأخذت الجهاز معي، فبدأت أتدرج شيئاً فشيئاً، والشيطان لا يأتيك ويقول لك: اعص الله من أول وهلة، بل يأتيك ويقول لك: ادعهم، وبيِّن لهم، فيدخل عليك من هذا المدخل، يقول: شيئاً فشيئاً وجدت نفسي أنحرف، ثم وجدت نفسي قد تركت الدعوة تماماً ودخلت إلى مواقع الرذيلة، والآن يقول: ماذا أصنع؟ فنقول له: لا تستسلم، فأنت الآن تغرق، فهل تريد أن تغرق إلى النهاية؟ فالمشكلة يا إخوان! أننا قد نصل إلى قمة الجبل، لكن لا نستطيع أن نمكث هناك فلابد أن ننزل بعض الشيء، لكن لو انحدرت من قمة الجبل شيئاً ثم راجعت الحسابات فإنك سترجع، لكن مشكلتنا أننا ننحدر فلا نراجع الحسابات، ثم يزيد الانحدار فلا نراجع الحسابات، ثم نصل إلى سفح الجبل فننظر إلى القمة وقد صارت بعيدة، ويمكن الرجوع فليس بمستحيل، ولكنه صعب، ولو أني تداركت الأمر من أول مرة لرجعت بسهولة، ففكر في كلامي هذا، ولا تخاطر بالدين، حتى ولو كان من باب الدعوة، فإن كانت الدعوة ستفتح عليك أبواباً من الشر فلا، وخاصة الفتيات فإنهن يدخلن بنية صادقة، لكن يتجرأ عليهن السفهاء وشيئاً فشياً تخسر أشياء كثيرة، والإنسان ليس مطالباً بإنقاذ الناس على حساب نفسه، {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272]، وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم! أصلح لي ديني)، (اللهم! احفظني في ديني)، (اللهم! لا تجعل مصيبتي في ديني)، فأمر الدنيا يهون، لكن إذا صارت المصيبة في الدين فهي عظيمة، واسمع هذه القصة: كان هناك مؤذن يرقى المئذنة للأذان في بلاد مصر، وكان هناك مسلمون وأقباط، وقد نهى الله تعالى عن الالتفات والتكشف على بيوت الناس، فخالف الأوامر، وهذه هي مصيبتنا: مخالفة الأوامر، فالله يقول: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، وذلك حتى لا نهلك مع الهالكين، ويوم أحد دخل في النفس أثارة من دنيا، فقالوا: الغنيمة الغنيمة، وخالفوا أمر الوقوف على الجبل فانقلبت الموازين، وأما اليوم فالمخالفات في الأمة لا تعد ولا تحصى، فقيل لهذا المؤذن: لا تلتفت، فالتفت يوماً فإذا بنصرانية قبطية من أجمل النساء، فبدلاً من أن يرفع الأذان تمادى في النظر، ولو أنه غض بصره من أول مرة لأورثه الله إيماناً في قلبه، قيل للحسن: كيف نستعين على غض البصر؟ قال: أن تعلم أن نظر الله إليك أسرع من نظرك إلى المنظور إليه.
ويقول ابن عباس: إن الرجل تمر عليه المرأة وهو يريد أن ينظر إليها، فيمر عليه القوم فيغض البصر من أجلهم، والله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فالله يعلم أن في قرارت نفسه أنه يريد أن ينظر إلى الحرام، فالرجل المؤذن بدلاً من أن يرفع الأذان تمادى في النظر، فنزل يطرق عليها الباب يطلبها لريبة، فقالت: لا أجيبك إلى ريبة، قال: أتزوجك؟ قالت: أنت مسلم وأنا نصرانية كافرة وأبي لا يزوجني إياك، قال: أتنصر، قالت: إن فعلت قبلنا، فتنصر - والعياذ بالله- فوافقوا عليه، فبينما هو يمشي في ذلك اليوم زلت قدمه فسقط على رأسه ميتاً، فخسر الدنيا والآخرة.
إن مصيبة الدين مصيبة عظيمة، {وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الشورى:45]، فاحفظ دينك بارك الله فيك، {لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، ولا تورد نفسك المهالك والمخاطر، ولا تظلم نفسك فالعاصي ظلم نفسه؛ لأنه أوردها عذاب الله، فلنتق الله في الخلوات، فلا تظهر حقيقةُ الإيمان إلا في الخلوات، وأما بعضنا البعض فكلنا يتزين للآخر، لكن متى يظهر صدق إيماني وإيمانك؟! يظهر ذلك إذا خلونا بعيداً عن أعين الناس، (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، أسأل الله أن يصلح لنا السر والسريرة.(50/6)
نصيحة لمن يتابعون القنوات الفضائية ويصوتون لبرامج أكاديمي (استار)
السؤال
هل من كلمة توجهونها إلى من يتابعون القنوات الفضائية وبخاصة من يتابعون ويصوتون في البرنامج الذي تذبح فيه الفضيلة وهو: استار أكاديمي، فقد علمنا أن بعض صغيرات السن، ومن يدرسن في المرحلة الابتدائية يتابعن هذا البرنامج، ويصوتن له عبر الاتصال، فهل من كلمة لمن قد ابتلي بمثل هذا، أو كلمة ينقلها إخوتنا وأخواتنا إلى من ابتلوا بمثل هذا البرنامج؟
الجواب
لم يستطيع لنا أعداؤنا بالمدفع والدبابة فقد واجهتهم الأمة في ذلك مع أنهم يفوقونها عدداً بمرات كثيرة، وبأعداد وفيرة، فعند المواجهة نحن الأقوياء، فعلموا أنه ليس هناك سلاح يفتك بنا مثل نشر الفاحشة والرذيلة، فأصبحت الأمة ثقافتها المسموعة غنائية، وثقافتها المرئية أفلام ومسلسلات، وثقافتها المقروءة لعب وكرة، حينها استطاعوا لنا، فقسموا العالم الإسلامي، واستعمروا الشعوب، واستولوا على الثروات، ونحن لا زلنا نغط أمام أكاديمي استار، والعجيب أن سبعين مليوناً يصوتون من العالم الإسلامي لأكاديمي استار! سبعون مليوناً يصوتون للذين ينشرون الفاحشة والرذيلة، وحين قالت الأمم المتحدة: صوتوا لوقف الحرب على أفغانستان قتلوا بعدها بعشرة أيام خمسين ألفاً، فهم يقولون: نريد تحرير الشعوب، فلماذا يقتلون الأبرياء؟! والأمر كما قال الله تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً} [التوبة:8]، فلما علموا أنهم لا يستطيعون لنا بالمدفع والدبابة هاجمونا بالشاشات والقنوات، ونشْر الفواحش والرذيلة في المجتمعات، وظهرت النتائج واضحة في أوضاع البنين والبنات.
تقول إحداهن في استبيان: أقسم بالله العظيم إني وصلت إلى درجة أني كنت أتمنى أني أكون مكان إحدى هؤلاء الفتيات اللاتي يعرضن الرذيلة، ولكن الله أنقذني، فأين الغيرة يا إخوان؟! ولماذا ضاعت؟! {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]، هل البيوت لا تدري أن الخطر واقع؟ بل يدرون ويرونه واضحاً ملموساً في سلوك الصغار والكبار، لكننا جبناء ليس عندنا قدرة على تغيير المنكر، أفلا يستطيع أحدنا أن ينتفض ويرقى السلم إلى سطح ذلك المنزل ويزيح ذلك الجهاز الذي دمر المعتقدات والأخلاق؟ والله! لولا حرمة المكان لذكرت لكم مآسي وآهات، لكن نسأل الله أن يعفو عنا وعنكم، فالمفسدة واقعة، والكل يعرف هذا، لكن ليس عندنا الدافع الإيماني الذي يدفعنا لفعل الطاعة، وليس عندنا الرادع الذي يردعنا عن فعل المعاصي والمنكرات، فما هي قيمة الحياة من غير إيمان؟ فما سيطرت علينا الشاشات والقنوات إلا لضعف إيماننا، وأما إذا قوي الإيمان فإننا سننتصر على هذه الأمور بسهولة.
إن الناس اليوم يعصون الله مع سبق الإصرار أي: يعصونه عمداً وهم يدرون، فقد التقيت بشاب في محطة من المحطات، وذلك أنى نزلت ومعي مجموعة من الشباب لأداء صلاة العصر، فقلت للشباب: هل أنتم متوضئون؟ وأما أنا فعلى وضوء، وسأذهب إلى الدكان أشتري بعض الحاجات، فدخلت ودخل شاب في مقتبل العمر في العشرينات، فنظرت في سيارته فإذا فيها نساء وأطفال، والطرق طويلة محفوفة بالمخاطر، فأنت على الطرق قصيرها وطويلها، أحوج ما تكون إلى حب الله لك، فكم هم الذين يموتون على الطرقات؟ إنهم بالمئات، بل بالآلاف المؤلفة، والإحصائيات كل يوم في زيادة، فأنت أحوج ما تكون إلى حفظ الله لك، (احفظ الله يحفظك)، فدخل الشاب في جهة تعرض فيها الأغاني، وبدأ ينتقي من هذا وذاك، وأنا أريد أكلمه لكني لم أجد عليه مدخلاً، فلم يكتف بالمعروض يا إخوان! فقال لراعي المحل: أليس عندكم المطرب الفلاني؟ فقمت أنا وقلت: هناك أحسن، قال: عندي خبر، أنا توقعت أن يقول لي: جزاك الله خيراً، وبارك الله فيك، لكن سدها في وجهي من كل الجهات، وقال لي: عندي خبر، أدري أن كلام الرحمن أحسن من كلام الشيطان، لكن إذا كنت أختار شيئاً فسأختار كلام الشيطان، فهذا عصيان مع سبق الإصرار والترصد، {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء:64]، قلت له: ستر الله عليك، وقد تقول: هذه معصية وهو تحت المشيئة: إن شاء الله عذبه وإن شاء رحمه، لكن أقول: أوصل بنا ضعف الإيمان إلى درجة أننا نكفر بالله مع سبق الإصرار؟! نسأل الله العفو والعافية.
وأحد الشباب يروي لي خبر قصته مع رئيسه فيقول: كلمني بالليل وقال لي: ائتني غداً إلى المطار؛ فإننا سنسافر إلى البلد الفلاني في مهمة عمل، فلا تتأخر فإن الحجز قد تمّ، والإجراءات قد انتهت، فقلت: مهمة عمل في تلك البلاد، وهي أيضاً بلاد مشهورة بالسحر والشعوذة والكهانة!! يقول: وفي الصباح كنت في المطار، فانتقلنا حتى وصلنا إلى تلك الديار، فلما أنهينا إجراءات السفر خرجنا من صالة المطار، فبدأ الرئيس يتكلم مع سواقي سيارات الأجرة ويسألهم عن أماكن السحرة والمشعوذين فقلت له: اتق الله، فما جئنا من أجل هذا، فقال: لا تتدخل، فقلت: كيف لا أتدخل ونحن لم نأت من أجل هذا! قال: لا تتدخل، قلت: يا شيخ! هذا كفر، قال: عندي خبر، أدري أنه كفر لكن أنا مضطر، فقلت: المضطر يدعو الذي قال: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62]، والمضطر يدعو الذي قال: {َإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186]، والمضطر يدعو الذي قال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، والمضطر يلجأ إلى الله، فالملوك والوزراء والرؤساء تقفل أبوابها في ساعات معينة وباب الرحمن مفتوح بالليل وبالنهار.
التقى أحدهم برجل في الحرم، فقال له: ادعُ فإني مضطر، قال: ادعه أنت فإنه يجيب المضطر، ولا بد حين ندعو الله أن نصدق معه، وأن ندعوه بقلوب حاضرة، فلا ندعوه باللسان والقلب في مكان آخر، فعظمة الإنسان وتحقيقه للعبودية تكون في لجوئه إلى الله تعالى.
وقد التقى أحد الأمراء بأحد علماء السلف في الحرم المكي يوماً فقال له: أما لك حاجة نقضيها لك؟ أي: أنه يريد أن يتقرب إلى هذا العالم، فقال العالم: أستحي أن أسألك وأنا في بيته، فانتظر الأمير حتى خرج العالم من الحرم، فقال له: سلني الآن، فقال: أسألك من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟ قال: بل من حوائج الدنيا، قال: لم أسأل ذلك ممن يملكه أفأسألك أنت؟ فعظمتنا تخلد إذا لجأنا إلى الله، لكن لابد أن ندعوه بقلب صادق.
إن الحجاج بن يوسف الثقفي على ما عنده من المساوئ لديه الكثير من الأخبار العظيمة، فهو الذي جزأ القرآن ثلاثين جزءاً وحزب القرآن، وقد رأى رجلاً أعمىً متعلقاً بأستار الكعبة وهو يدعو ويقول: اللهم رد عليّ بصري! اللهم رد علي بصري! اللهم رد علي بصري! ثم وجده في اليوم الثاني في نفس المكان، وهو متعلق بأستار الكعبة ويدعو بنفس الدعاء، فقال له الحجاج: إذا لم يرد الله لك بصرك في الغد فسأقطع رقبتك، فلما جاءه في اليوم الثالث وجده مبصراً عند الكعبة، فقيل للحجاج: لماذا قلت له هذا؟ قال: وجدته يدعو بقلب ساهٍ، لكن عندما عرف أن الأمر فيه موت ألحّ، ودعا من قلبه.
فهكذا نريد ونحن ندعوه ونقول: يا رب! نريدها أن تخرج من صميم القلب لا من أطراف اللسان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوني على يونس بن متى)، قال بعض شراح الحديث: عندما كان يونس بن متى في بطن الحوت أوحى الله إلى الحوت قائلاً: إني جعلت بطنك له مسكناً، ولم أجعله لك طعاماً، فاستجاب الحوت للأوامر، ولما كان يونس عليه السلام في بطن الحوت ظن أنه قد مات، فمس قدميه فإذا هي تتحرك، فعلم أنه حي، فقام يصلي، فسمع تسبيح الحوت والأسماك في قعر الأرض، فبدأ يسبح لله، وقام يصلي كعادته، ثم قال في دعائه لله: واتخذت لك مسجداً لم يتخذه أحداً من قبلي، فسبحان الله! يناجى وهو في بطن الحوت، وذلك في أدنى الدرجات تحت الأرض؛ في قاع البحر، وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أعلى الدرجات في السماء، وذلك عند سدرة المنتهى، فمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تفضلوني على يونس بن متى): أنه عندما كان يونس في بطن الحوت وأنا عند سدرة المنتهى لم أكن أقرب إلى الله منه، فالله قريب سميع مجيب.
فلا بد أن نعرف كيف نطرق الباب فقط، فهناك تستجاب الدعوات، وتقضى الحاجات، أسأل الله أن يتقبل دعائي ودعائكم، وأن يفرج همي وهمكم، وأن يعفو عن ذنبي وذنبكم.(50/7)
الحث على صلاة الفجر في جماعة
السؤال
بعض الإخوة - مع قصر الليل هذه الأيام- يتهاونون في حضور صلاة الفجر مع جماعة المسلمين، ويتهاونون في أدائها في وقتها، فهل من كلمة تبيِّن كيف يفعل الإنسان حتى لا تفوته صلاة الفجر؟
الجواب
إذا أردت أن تعرف أن الله يحبك أم لا - وكلنا يريد أن يعرف إن كان الله يحبه أم لا، وتتفاوت درجات المحبة، فعلى قدر حبك أنت يحبك الله، وعلى قدر صدقك أنت مع الله يصدق الله معك - فإذا وُفِّقت لصلاة الفجر والناس نيام فاعلم أن الله يحبك، وإذا جلست في مصلاك والناس قد صلوا الفجر وانطلقوا إلى فرشهم وأنت جالس فاعلم أن الله يحبك أكثر منهم، وإذا ركعت أربعاً من الضحى فاعلم أن الله يحبك، وإذا حافظت على أربع قبل الظهر وأربع بعدها، وخشعت لله في صلاتك فاعلم أن الله يحبك، وإذا وفِّقت للدعوة والبذل والعطاء فاعلم أن الله يحبك، وإذا وقعت في المعصية فاعلم أن الله قد تخلى عنك، وإذا وقعت في المعصية فاعلم أن الله قد وكلك إلى نفسك.
واعلم أن الله يصرف عنك المأساة وأنت لا تشعر، ولو ترك ابن آدم إلى نفسه لوقع، فهذا نبي الله يوسف اعترف واستسلم وقال: {وََإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:32 - 33]، فقال الله: {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف:34]، فلما كان مُخلَصاً صرفت عنه السوء والفحشاء، فإذا وفقت لصلاة الفجر فاعلم أن الله يحبك.
لقد قامت جارية تصلي من الليل فأيقظت سيدها فأبى الاستيقاظ، فكررت المحاولة فأبى الاستيقاظ، فتوضأت وأحسنت الوضوء وانطلقت تصلي، فقام قبيل الفجر بقليل، وليس من قام ساعة كمن قام ساعات، وليس من وقف عند الباب دقيقة كمن يقف عند الباب ساعة، فبحث عنها فوجدها في ناحية من نواحي البيت تصلي ساجدة تناجي ربها وتقول: اللهم! إني أسألك بحبك لي إلا غفرت لي، فلما انتهت من صلاتها قال لها سيدها: من أين عرفتِ أنه يحبك، أو كيف عرفت أنه يحبك؟ قالت: أما أَنامَك وأقامني بين يديه؟ أما وفقني للقيام وأنت تغط في سبات عميق؟ فلا يوقف بين يديه من إلا الذين يحبهم.
إن صلاة الفجر تشكو من زمن وليس من اليوم، فالوقت بدأ يتراجع، والصفوف تنقص، والمشكلة أننا في أزمات، وعند الأزمات لابد أن نصدق مع الله، فلن تنفرج الأزمات إلا إذا صدقنا مع الله، وما أجمل تلك العبارات التي أراها ملقاة ومعلقة في كثير من الأماكن: إذا أردنا النصر فلنصلِّ الفجر؛ لأن صلاة الفجر انتصار على النفس، وانتصار على الشهوات، وانتصار على الرغبات، وانتصار على الشيطان.
جاء عند الترمذي: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات، إحداهن بالتراب)، وفي رواية: (أولاهن)، وفي رواية: (أخراهن)، وتأمل هذا الحديث: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل نام عن صلاة الفجر حتى أشرقت الشمس؟ فقال: (ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه).
الآن بول الكلب وإلا بول الشيطان؟ بول الشيطان، فإذا استيقظ هذا الذي بال الشيطان على أذنيه أول شيء يسويه ما هو؟ يغسل أذنيه سبعاً إحداهن بالتراب.
إن مأساتنا مع الفجر مأساة كبيرة، فقد زرت مدرسة من أيام ماضية تعداد طلابها (400) طالب، وقبلها بأيام زرت مدرسة تعدادها طلابها (800)، بعد المقدمة والأخذ والعطاء قلت: اصدقوني القول: من منكم صلى الفجر اليوم في جماعة؟ وتعداد لطلاب (400) فلم يتجاوزوا العشرين طالباً، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، والمدرسة التي قبلها عددهم مع المدرسين (800)، فلم يتجاوزوا العشرين، أي: أن (780) من بيوت المسلمين تعيش في غفلة، فالشيطان يبول على آذان أهلها في كل يوم، فكيف يتغير الواقع؟ وإذا أردت أن تعرف مقدار المأساة فاخرج إذا أذن الفجر إلى الشوارع فإنك لا تكاد ترى سيارة تتحرك، ولا تكاد ترى بشراً يسيرون في الطرقات، ثم مر بجانب البيوت فإنك لا تسمع صوتاً، وتدخل المسجد فتجد آباء وكبار في السن وقلة قليلة من الشباب الذين هداهم الله، ثم قم وأخرج بعد صلاة الفجر بساعة إلى الشوارع فسترى الزحام والأصوات من كل مكان، فسبحان الله! كيف ننتصر على أعدائنا ولم ننتصر على أنفسنا؟!! {إن الله لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، وحتى الشباب الصالح لنا عليه مآخذ، فكثير منهم إلى الآن لم يصدق، فترى بعضهم يصلي سنة الفجر يومياً بعد الفجر، وترى كثيراً من الشباب الصالح تفوته الركعة والركعتان، وترى كثيراً من الشباب الصالح قد يصلي في الجماعات الثانية، وقد كان الجيل الأول يقولون: إذا رأيت الرجل تفوته تكبيرة الإحرام، فكيف إذا رأونا؟ فإذا لم نصدق في التربية فإن الواقع لا يتغير، والهداية إنما تأتي من الاتباع، {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:17 - 18]، والهداية ليست درجة واحدة، بل هي درجات، فكل من صَدق صُدق معه، {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]، والحديث يقول: (من صلى لله في جماعة أربعين يوم يدرك تكبيرة الإحرام كتبت له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق)، فما تريد أكثر من هذا؟ إذا جاءك صك براءة من النار، فهذا يعني أنك من أهل الجنة، وصك براءة من النفاق، وهذا يعني أنك ستسلم من الفتن، فنريد أن نصدق في الأربعين يوماً، فهذا سعيد بن المسيب لم تفته تكبيرة الإحرام أربعين سنة، وهذا ميمون بن مهران الأعمش يقول لبناته ساعة وفاته: على ماذا البكاء وأنا خمسون عاماً لم تفتني صلاة الجماعة؟! فنريد أنا وأنت أن نصدق في الأربعين يوماً فقط، فوالله الذي لا إله إلا هو! لو جرِّبت فإنك سترى الأثر العظيم بعد الأربعين.
يقول ابن القيم رحمه الله: وما حافظ عبد على عمل صالح أربعين يوماً إلا فُتح له باب هذا العمل.
وليس هناك أعظم من تكبيرة الإحرام، وقد قال لي أحد الشباب: دائماً وأنت تدندن على مسامعنا: تكبيرة الإحرام، تكبيرة الإحرام، فماذا؟ فأقول: وهل يصنع الأبطال إلا في الصفوف الأُوَل مع تكبيرات الإحرام، واعلم أن من أراد إدراك المفاخر لم يرضَ بالصف الآخر، ومن يطلب الحوراء لم يغلها المهر، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم، فأهل الصفوف الأولى يُعرفون، فهم أهل همم عالية، يقول: دائماً وأنت تدندن علينا، فقلت له: لأن تكبيرة الإحرام تصنع رجالاً يعتمد عليهم، فالرجل يعرف من صلاته، فقد رأى عمر رجلاً يصلي مرةً صلاة عجيبة أُعجب فيها عمر صاحبُ الفراسة، فقال بعد أن انتهى الرجل من صلاته: ائتوني بهذا الرجل، فلما جاءه قال له عمر: نريد نستخدمك في بعض أمورنا، قال: يا أمير المؤمنين! أنا لا أصلح لجمع الصدقات والزكوات، وإنما أصلح للموت في سبيل الله، فقال عمر: من أجل هذا أردناك، فعينه قائداً على جيش من جيوشه، إنه النعمان بن المقرن رضي الله عنه وأرضاه، فقد عرفه عمر من صلاته، فصلاتي أنا وأنت اليوم مثل صلاتي وصلاتك بالأمس، وصلاتنا غداً هي نفس الصلاة لم تتقدم ولم تتأخر، وقد بدأ الله صفات الفلاح بالصلاة وختمها بالصلاة فقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2]، إلى أن قال: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} [المؤمنون:9 - 10].
عبد الله! اصدق مع الله يصدق الله معك، وخذ بالأسباب التي تعينك على الاستيقاظ، والسهر منهي عنه أصلاً بعد صلاة العشاء، فعلى ماذا نسهر؟ فالصالحون قد يسهرون على مباحات لكن والله! ما ذبحنا إلا المباحات وما قتلنا إلا السهر أمام المباحات، فلا تظن أن الذنوب والمعاصي فقط هي التي تقسي القلب، بل إن المباحات والإفراط فيها تقسي القلوب أيضاً إذا زادت على حد الضرورة، فهي من الفضول، فاصدق في أخذ الأسباب، وبدل الساعة الواحدة ضع ثنتين، وأوصي فلاناً أن يوقظك، فوالله إني منذ أن حملت الجوال في جيبي منذ سنوات وأنا وأحد الإخوان كل واحد منا يتعاهد صاحبه، فالذي يقوم قبل يدق على صاحبه ولا يتوقف حتى يضغط الآخر أن الرقم مشغول، أي: أنه قد استيقظ، فلماذا لا نتواصى فيما بيننا، وما هي قيمة الهواتف والجوالات إذا لم نستخدمها في طاعة الله، فالصادق يُعرف، وإذا صدق العبد مع الله صدق الله معه، وإذا صدق في نيته صدق الله معه في تأييده ونصرته، فبعضهم يضع بدل المنبه منبهين، وأحدهم يقول فيما ذكره الشيخ المنجد في كتيب اسمه (شكاوى وحلول) أو لعله: (مشكلتك لها حل) ذكر مشكلة النوم عن صلاة الفجر فقال: كل مشكلة لها جانب علمي وجانب عملي، فالجانب العلمي: أننا نعرف الأجر المترتب على المحافظة، والأجر المترتب على التخلف، ثم قال: ولا بد من جانب عملي حتى نحل المشكلة، ثم ذكر النية الصادقة، والنوم المبكر، والوضوء، وذكر أذكار النوم، والنوم على الشق الأيمن، والاستعانة بالآخرين، ثم الأخذ بالأسباب، فأحدهم كان يضع المنبه في قدر، ثم يضع القدر في الدولاب، فإذا انطلق مع صلاة الفجر تصير ضجة كبيرة في الغرفة فيقوم من مكانه ويحط الكرسي، ثم ينزل القدر ويطفي الساعة، فيطير النوم، وهذه لم يذكرها الشيخ، ولكن أعرفها، وآخر يربط حبلاً في رجله ويرميه من الشباك فيمر عليه رجل شايب مع الفجر فيقوم بجر الحبل، والصادق يفعل عدة أسباب حتى يحافظ على صلاة الفجر، فالله الله يا إخوان! أن نجرب أربعين يوماً كما ذكرنا، وإياك أن يقول المؤذن: الله أكبر وتقول: سأذهب بعد قليل، وإياك أن تسمع المنادي ينادي وتقول: سأفعل هذا، أو سأفعل ذلك، وتذكّر قول الله: {(50/8)
ذنوبنا تفجرنا
تعد الذنوب والمعاصي من الأسباب الجالبة للفتن والشرور في الدنيا والآخرة، بل سبباً رئيسياً في هلاك الأمم والشعوب.
وإن المتأمل في حال الأمة اليوم وما وصلت إليه من الضعف والهوان، وتسلط بعضها على بعض، يدرك أن سبب ذلك كله يرجع إلى الذنوب والمعاصي، ولا مخرج لهذه الأمة مما هي فيه إلا بالرجوع لكتاب ربها وسنة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم.(51/1)
كلام ابن عثيمين في آثار الذنوب على المجتمعات
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله! في مثل هذه الظروف الخطيرة، والأحداث المتلاحقة التي تمر بها بلادنا وبلاد المسلمين، نحتاج إلى وقفة صادقة مع أنفسنا ومع الآخرين.
لا بد من عودة ودعوة؛ فنحن لا نحتاج إلى أن نقول: إن هذه الأفعال التي تحدث من تفجيرات ومواجهات أخطاء، فكلنا يعلم ذلك، ولا يقر ولا يرضى بذلك عاقل من العقلاء.
إن في مثل هذه الظروف نحتاج إلى كلام طبيب يرى الأعراض ويصف الدواء، ومن له الحق أن يتكلم في مثل هذه الظروف والأحوال، هل عامة الناس، أم العلماء؟ قال الله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، إن مسألة الأمن من أخطر المسائل التي تمس الأمة، لأنها تمس الجميع، لذا كان لا بد من الرجوع إلى العلماء الربانيين في مثل هذه الأمور الخطيرة، قال الله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:83].
ومن أنا حتى أقول لكم: رأيي كذا وكذا؟ لذا قد اخترت لكم كلاماً نفيساً بديعاً لعالم رباني جليل ودَّع الأمة بعد أن ترك فيها أثراً سيستمر إلى يوم الدين، إنه محمد بن عثيمين عالم الأمة الرباني، العالم بأحوالها وأمراضها ودوائها، فهيَّا نستمع معاً لكلام العالم الرباني الجليل، والطبيب المتخصص، والعالم بالمرض والعلاج، قال رحمه الله: لقد قال الله عز وجل مبيناً تمام قدرته وكمال حكمته وأن الأمر أمره، وأنه المدبر لعباده كيف يشاء من أمن وخوف ورخاء وشدة، وسعة وضيق، وقلة وكثرة، قال الله: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] فلله تعالى في خلقه شئون، يمضي حكمه فيه على ما تقتضيه حكمته وفضله أحياناً، وعلى ما تقتضيه حكمته وعدله أحياناً أخرى، ولا يظلم ربك أحداً: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76].
أيها المسلمون! إننا نؤمن بالله وقدره، إن الإيمان بقدر الله هو أحد أركان الإيمان، إننا نؤمن أن ما يصيبنا من خير ورخاء فهو من نعمة الله علينا فيجب علينا أن نشكر مسديها وموليها بالرجوع إلى طاعته، وباجتناب ما نهى عنه، وفعل ما أمر به، إننا إذا قمنا بطاعة الله ونحن شاكرون لنعمه حينئذٍ نستحق ما وعدنا الله وتفضل به علينا من مزيد هذه النعمة، يقول الله عز وجل: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53]، ويقول تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].
ثم واصل كلامه رحمه الله قائلاً: إننا في هذه المملكة نعيش -ولله الحمد- في أمن ورخاء، ولكن هذا الأمن والرخاء لن يدوم أبداً حتى نقوم بطاعة الله عز وجل، وحتى نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، وحتى نعين من يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؛ لأن هؤلاء الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر هم واجهة الأمة، هم الذين يذبون عنها أسباب العقاب والعذاب؛ فعلينا أن نناصرهم، وعلينا أن نكون في صفهم، وعلينا إذا أخطئوا أن نعرف الخطأ وأن نحذرهم منه، وأن نرشدهم إلى ما فيه الهداية، لا أن نجعل ما أخطئوا فيه سبباً لإزالتهم وإبعادهم عن هذا المنصب، إن هذا الدرب ليس بجيد.
وقال: إنما أصاب الناس من ضر وضيق مالي أو من ضر وضيق أمني -فردياً كان أو جماعياً- فبسبب معاصيهم وإهمالهم لأوامر الله عز وجل، ونسيانهم شريعة الله، والتماسهم الحكم بين الناس من غير شريعة الله الذي خلق الخلق وكان أرحم بهم من أمهاتهم وآبائهم، وكان أعلم بمصالحهم من أنفسهم، يقول الله عز وجل مبيناً ذلك في كتابه حتى نحذر وحتى نتبين، قال سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، ويقول تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79] وما أصابنا من حسنة من الخيرات والنعم والأمن فإنه من الله، وهو الذي تفضل به أولاً وآخراً، وهو الذي تفضل علينا فقمنا بأسبابه، وهو الذي تفضل علينا فأسبغ علينا نعماءه.
وأما ما أصابنا من سيئات من قحط وخوف وغير ذلك مما يسوءنا فإن ذلك من أنفسنا، ونحن أسبابه، ونحن الذين ظلمنا أنفسنا وأوقعناها في الهلاك.
أيها الناس! إن كثيراً من الناس اليوم يعزون المصائب التي يصابون بها سواء كانت المصائب مالية، اقتصادية، أمنية، سياسية، يعزون هذه المصائب إلى أسباب مادية بحتة، أو إلى أسباب سياسية، أو أسباب مالية، أو أسباب حدودية، ولا شك أن هذا من قصور أفهامهم، وضعف إيمانهم، وغفلتهم عن تدبر كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
أيها المسلمون المؤمنون بالله ورسوله! الراضون بدين الله شرعاً ومنهاجاً! إن وراء هذه الأسباب أسباب شرعية لهذه المصائب أقوى وأعظم وأشد تأثيراً من الأسباب المادية، لكن قد تكون الأسباب المادية وسيلة لما تقتضيه الأسباب الشرعية من المصائب والعقوبات، قال عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41].(51/2)
عقوبة هذه الأمة ليست كعقوبة الأمم السابقة
أيها الناس! أيها المسلمون! يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، اشكروا نعمة الله عليكم بما أنعم به عليكم من هذه النعمة التي ستسمعونها يا أمة محمد! يا أفضل الأمم وأكرمها على الله عز وجل! إن الله لم يجعل عقوبة هذه الأمة على معاصيها وذنوبها كعقوبة الأمم السابقة بالهلاك العام المدمر كما حصل لعاد حين أهلكوا بالريح العاتية: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:7 - 8].
ولم يجعلها كعقوبة ثمود الذين أخذتهم الصيحة والرجفة {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود:67].
ولم تكن كعقوبة قوم لوط الذين أرسل الله عليهم حاصباً من السماء، ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها.
أيها المسلمون! إن الله بحكمته ورحمته بهذه الأمة جعل عقوبتهم على ذنوبهم ومعاصيهم أن يسلط بعضهم على بعض، فيهلك بعضهم بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً، قال الله عز وجل: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام:65 - 66].
وقد أورد الحافظ ابن كثير في تفسيره أحاديث عديدة تتعلق بالآية الأولى، منها ما أخرجه البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (لما نزلت هذه الآية: ((قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ)) [الأنعام:65]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أعوذ بوجهك الكريم! ((أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ)) [الأنعام:65]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أعوذ بوجهك الكريم! ((أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ)) [الأنعام:65] قال النبي صلى الله عليه وسلم: هذه أهون وأيسر).
وما أخرجه مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مررنا على مسجد بني معاوية، فدخل صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين فصلينا معه، فناجى ربه عز وجل طويلاً، ثم قال: سألت ربي ثلاثا: سألته ألَّا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته ألا يهلك أمتي بالسنة -أي: بالجدب كما حصل لآل فرعون- فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها).
وهذا هو واقعنا اليوم، يوم أن تركنا الجهاد وانشغلنا ببعضنا البعض فأصبح بأسنا بيننا شديد.
وعن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: وافيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة صلاها كلها، حتى كان مع الفجر فسلم صلى الله عليه وسلم من صلاته، فقلت: يا رسول الله! لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صليت مثلها! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل إنها صلاة رغب ورهب، وقد سألت ربي عز وجل فيها ثلاث خصال فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي عز وجل ألا يهلكنا بما أهلك به الأمم قبلنا فأعطانيها، وسألت ربي عز وجل ألا يظهر علينا عدواً من غيرنا فأعطانيها -وانظر بارك الله فيك فإن الأمة تقاوم الأعداء الخارجيين بكل قوة، فهذه الفلوجة على ما فيها من الضعف تقاوم الأعداء بكل قوة وشراسة لكن بأسنا بيننا شديد - وسألت ربي عز وجل ألا يلبسنا شيعاً ويذيق بعضنا بأس بعض فمنعنيها).
قال شيخنا رحمه الله: أيها المسلمون! إنكم تؤمنون بهذه الآيات، وتؤمنون بالأحاديث التي صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلماذا لا تفكرون فيها؟ ولماذا لا تعزون هذه المصائب التي تحصل إلى تقصير في دينكم حتى ترجعوا إلى ربكم، وتنقذوا أنفسكم من أسباب الهلاك المدمرة؟! فاتقوا الله عباد الله، وانظروا في أمركم، وتوبوا إلى ربكم، وصححوا إليه مسيرتكم، واعلموا أن هذه العقوبات التي تنزل بكم -أيها الأمة- وهذه الفتن التي تحل بكم إنما هي من أنفسكم وبذنوبكم، فأحدثوا لكل عقوبة توبة ورجوعاً إلى الله، واستعيذوا بالله من الفتن المادية التي تكون في النفوس بالقتل والجرح والتشريد، وفي الأموال بالنقص والدمار، والفتن الدينية والتي تكون في القلوب بالشبهات والشهوات التي تصد الأمة عن دين الله، وتبعدها عن نهج سلفها، وتعصف بها إلى الهاوية.
فإن فتن القلوب أعظم وأشد وأسوأ عاقبة من فتن الدنيا؛ لأن فتن الدنيا إذا وقعت لم يكن فيها خسارة إلا خسارة الدنيا، والدنيا سوف تزول عاجلاً أو آجلاً، أما فتن الدين فإن بها خسارة الدنيا والآخرة، قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:15].
اللهم إنا نسألك ونحن في انتظار فريضة من فرائضك أن تجعلنا من المعتبرين بآياتك، المتعظين عند نزول عقوباتك.
اللهم اجعلنا من المؤمنين حقاً الذين يعزون ما أصابهم من المصائب إلى أسبابه الحقيقية الشرعية التي بينتها في كتابك، وعلى لسان رسولك محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم ارزق الأمة الإسلامية وولاتها رجوعاً إليك، رجوعاً حقيقياً في الظاهر والباطن، في القول والفعل حتى تصلح الأمة؛ لأن صلاح الولاة صلاح للأمة.
اللهم إنا نسألك أن تصلح ولاة أمور المسلمين، وأن ترزقهم الاعتبار بما وقع، وأن توفقهم لما تحب وترضى يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك أن تبعد عنهم كل بطانة سوء إنك على كل شيء قدير، اللهم أبدلهم ببطانة خيِّرة تدلهم على الخير وتأمرهم به، وتحثهم عليه يا رب العالمين.
اللهم اجعلهم سلماً لأوليائك حرباً على أعدائك يا رب العالمين.
اللهم من كان من بطانة ولاة أمور المسلمين ليس ناصحاً لهم ولا لرعيتهم فأبعده عنهم، وأبدلهم خيراً منه يا رب العالمين يا ذا الجلال والإكرام.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(51/3)
أثر الذنوب والمعاصي على الأفراد والمجتمعات
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى وخليله المجتبى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن بهداهم اهتدى وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد: أواصل معكم حديث الشيخ رحمه الله حيث قال: يا عباد! اتقوا الله عز وجل وإياكم والغفلة عن شريعة الله! إياكم والغفلة عن آيات الله! إياكم والغفلة عن تدبر كتاب الله! إياكم والغفلة عن معرفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فإن في كتاب الله وسنة رسول الله سعادتكم في الدنيا والآخرة إن التزمتم بهما تصديقاً للأخبار وامتثالاً للأوامر.
عباد الله! إن من الناس من يشكون ويشككون في كون المعاصي سبباً للمصائب، وذلك لضعف إيمانهم وقلة تدبرهم لكتاب الله عز وجل، وإني أتلو على هذا وأمثاله قول الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:96 - 99].
قال بعض السلف: إذا رأيت الله ينعم على شخص ورأيت هذا الشخص متمادياً في معصيته فاعلم أن هذا من مكر الله به، وأنه داخل في قوله تعالى: (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:182 - 183].
أيها المسلمون! يا عباد الله، والله إن المعاصي لتؤثر في أمن البلاد، وتؤثر في رخائها واقتصادها، وتؤثر في قلوب الشعوب، إن المعاصي لتوجب نفور الناس بعضهم عن بعض، إن المعاصي لتوجب أن يرى كل مسلم أخاه المسلم وكأنه على ملة أخرى غير ملة الإسلام، ولكن إذا كنا مصلحين لأنفسنا ولأهلنا ولجيراننا ولأهل حارتنا ولكل من نستطيع إصلاحه، وكنا نأتمر بالمعروف ونتناهى عن المنكر، ونؤازر من يقوم بذلك بالحكمة والموعظة الحسنة فإنه بذلك يكون الاجتماع والائتلاف، يقول الله عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:104 - 105].
واسمع بارك الله فيك، اسمع كلام الرحمن! {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105] إني أدعو نفسي وإياكم -يقول شيخنا رحمه الله ولم يشهد هذه المصائب العظام- إني أدعو نفسي وإياكم -أيها الإخوة- إلى أن نتآلف في دين الله عز وجل، وأن نتكاتف على إقامة شريعة الله، وأن ينصح بعضنا بعضاً بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن نجادل من يحتاج إلى المجادلة بالتي هي أحسن بالأسلوب والإقناع بالحجج الشرعية العقلية، وألا ندع أهل الباطل في باطلهم؛ لأن لهم حقاً علينا، وهو: أن نبين لهم الحق ونرغبهم فيه، وأن نبين لهم الباطل ونحذرهم منه.
أما أن نكون أمة متفرقة لا يلوي بعضنا على بعض، ولا يهتم بعضنا ببعض؛ فإن من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.(51/4)
النظرة المادية والشرعية للمصائب
أيها المسلمون! إنني أكرر وأقول: إنه يجب علينا -ونحن ولله الحمد مسلمون مؤمنون- أن ننظر إلى الأحداث والمصائب نظرة شرعية مقرونة بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لأننا لو نظرنا إليها نظرة مادية لكان غيرنا من الكفار أقوى منا من الناحية المادية وأعظم منا، وبها يتسلطون علينا ويستعبدوننا.
ولكننا إذا نظرنا إليها نظرة شرعية من زاوية الكتاب والسنة فإننا سوف نرجع عما كان سبباً لهذه المصائب، ونحن إذا رجعنا إلى الله، ونصرنا دين الله عز وجل، فإن الله يقول في كتابه وهو أصدق القائلين وأقدر الفاعلين: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:40 - 41].
لم يقل: الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا مسارح الفسق واللهو والمجون، ولكنه قال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41].
وتأمل يا أخي المسلم، كيف قال الله عز وجل: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] أكد هذا النصر بمؤكدات لفظية وهي القسم المقدر، واللام التي تدل على التوكيد، ونون التوكيد، وأكد ذلك بمؤكدات معنوية، وهي قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] فبقوته وعزته ينصر من ينصره.
وتأمل كيف ختم الآيتين بقوله: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41] فإن الإنسان قد يقول بفكره الخاطئ: كيف ننتصر على هذه الأمم الكافرة وهي أقوى منا وأعتى منا؟ فبيَّن الله تعالى أن الأمر إلى الله وحده وأنه على كل شيء قدير.
ولا يخفى علينا جميعاً ما تحدثه الزلازل التي تكون بأمر الله عز وجل بأن يقول للشيء كن فيكون، فيحدث من الدمار العظيم الشامل في لحظة واحدة ما لا تحدثه قوى هذه الأمم مجتمعة، يحدث في لحظات رب الأرض والسماوات من الدمار العظيم الشامل ما لا تحدثه قوى هذه الأمة إذا كانت مجتمعة.
والله لو نصرنا الله حق النصر لانتصرنا على كل عدو لنا في الأرض، لكن مع الأسف أن كثيراً منا كانوا أذيالاً لأعداء الله وأعداء رسوله، ينظرون ماذا يفعلون من المحادة لله ورسوله فيتبعونهم على ذلك، وربما يذهبون إلى بلادهم فيلقون بأفلاذ أكبادهم من الأولاد بنين وبنات، ومن أهل تلك الديار التي لا تسمع فيها إلا النواقيس، لا تسمع فيها أذاناً، لا تسمع فيها ذكراً لله عز وجل، لا ترى فيها إلا مسارح اللهو والمجون، فنسأل الله تعالى أن يرد ضال هذه الأمة إليه رداً جميلاً.
انتهى كلامه رحمه الله، قلت: إلى الله المشتكى! كيف لو نظر ابن عثيمين في ما أصابنا من الدمار والفرقة والشقاق! كيف لو رأى ابن عثيمين ما صنعت بنا أكاديميات استار!(51/5)
المخرج من الكوارث والمصائب
عباد الله! كم يشتكي الناس اليوم من الهموم والغموم، وقلة البركة والتوفيق في كثير من الأمور، أما وعدنا الله أن لو حققنا تقواه أن ينزل علينا بركات السماوات والأرض؟! أما وعدنا إن نحن خالفناه أن ينزل علينا العقوبات؟ عباد الله! إلى متى الرقاد والنوم؟! إلى متى تستمر غفلتنا ويستمر لهونا وسط الألم الذي نعانيه؟! إلى متى يستمر ابتعادنا عن طريق عزنا ونصرنا؟! إلى متى ونحن نرى المعاصي ظاهرة في كل مكان: في المنازل في الأسواق في الجرائد في المجلات في الشاشات في المؤسسات في المعاملات بل قل: في كل جوانب حياتنا؟! حرب على الله! فكيف ننتصر إن كنا نحن الذين نحارب الله! وكيف سينصرنا الله ومعاصينا ظاهرة بارزة في كل مكان! ألم ندرك بعد ونتيقن أن ذلك هو سبب ذلنا وضعفنا وهواننا؟! إلى متى عباد الله ونحن نبارز جبار السماوات والأرضين بالمعاصي؟! أما نخاف، أما نخشى؟! هل تناسينا وعده ووعيده وعقابه؟! قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16].
أما آن أن نصحو من غفلتنا، أم أننا لن نصحو إلا عندما تأتي علينا الطامات والعقوبات التي بدأنا نرى نذرها تلوح في السماء، ونكون وقتها استحققناها بإعراضنا وقسوة قلوبنا! قال الله: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:43 - 44].
ما الذي أهلك القرى والأمم السابقة؟ أليست الذنوب والمعاصي! {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40].(51/6)
العاصي يشارك في إضعاف وهزيمة الأمة
وأخيراً: أهمس لأولئك الذين يستهينون بالمنكرات والأوامر الشرعية صغيرة كانت أو كبيرة، وسط هذا الوسط المؤلم الخطير الذي تعيشه بلادنا وأمتنا أن ينتبهوا إلى أن معاصيهم ومنكراتهم لا تعود بالضرر عليهم فقط، بل يعود على الأمة بأكملها، فهم من أسباب الانهزام والتآكل والضعف، ومن المؤلم أنه على رغم الأحداث الأخيرة الخطيرة التي مرت بنا، فإن الكثير من المسلمين أفراداً ومجتمعات لا زالوا مصرين على الذنوب والابتعاد عن منهج الله، بل بعضهم يجاهر بمعاصيه في كل مكان.
والله إن هذه خيانة لله ولرسوله، والله إنها خيانة لله ولرسوله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27].
إن كل عاصٍ متخلف عن أوامر الله هو من أسباب ضعف الأمة، وكل مطيع سائر على الصراط المستقيم هو من أسباب نصرها.
من صلى الفجر اليوم في جماعة فهو من أنصار هذا الدين، فأسألك بالله العظيم هل كنت في صفوف الذين صلوا ودعوا وتضرعوا، أم كنت في صفوف المتخلفين؟! وهل كنت سبباً من أسباب قوة الأمة اليوم، أم من أسباب ضعفها؟! قال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76].
إن الله لا يجامل أحداًَ، ولا يحابي أحداً، فليس بيننا وبين الله إلا هذا الدين، إن قمنا به ونصرناه فلقد وعدنا بالنصر والتمكين، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55].
فاتقوا الله عباد الله! فإنه ليس هناك عاقل يرضى بما يحدث في بلادنا وفي بلاد المسلمين، لكن قبل أن نُخطَّئ بعضنا البعض لا بد أن نراجع الحسابات، ولا بد على الراعي والرعية أن يتكاتفوا فيما بينهم لإنقاذ السفينة من الغرق، ولا بد على الراعي والرعية أن يتناصحوا فيما بينهم لإنقاذ السفينة من الغرق.
اللهم من أرادنا وبلادنا وبلاد المسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره في تدميره، وكيده في نحره يا رب العالمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم طهر بلادنا وبلاد المسلمين من الفواحش والمنكرات ما ظهر منها وما بطن يا رب الأرض والسماوات.
اللهم امنن علينا بتوبة نصوح يا رب العالمين، واغفر ذنب المذنبين، واقبل توبة التائبين، وردنا إليك رداً جميلا يا رب العالمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين، اللهم من حاد منهم عن الصواب فرده إلى الحق والصراط المستقيم يا رب العالمين، اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق يا جبار السماوات والأرضين.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، اللهم أيدهم بتأييدك يا حي يا قيوم.
اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا، وقنا الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم اجمع كلمة حكام المسلمين على الحق يا رب العالمين، وأصلح الراعي والرعية يا رحمان السماوات والأرضين.
اللهم اكبت عدوك وعدونا من اليهود والنصارى الذين يمكرون بنا مكر الليل والنهار، ندرأ بك اللهم في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، اللهم اجمع قلوبنا على الحق يا حي يا قيوم.
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(51/7)
قعيد أحيا أمة
إن اليهود بمكرهم وخداعهم قد وقفوا ضد كل من يعارضهم في فسقهم وفسادهم عبر العصور والأزمان، فقتلوا الأنبياء وأثاروا القلاقل والفتن في كل زمان ومكان، ومازالوا يتوارثون هذا الحقد الدفين على أهل الإسلام والمسلمين، فسلكوا شتى الوسائل والمؤامرات من قتل وسفك وتشريد لأبناء المسلمين على أرض فلسطين، ويا للأسف! فقد صارت الأمة مكتوفة الأيدي عن نصرة إخوانها المسلمين!(52/1)
جرائم اليهود عبر التاريخ
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.(52/2)
اليهود أهل الفتن والقلاقل
عباد الله! إن جريمة اليهود الأخيرة حين اغتالوا شيخنا أحمد ياسين ليست بالجريمة الأولى، ولن تكون الأخيرة، فلقد واجه اليهود الإسلام بالعداء منذ اللحظة الأولى لقيام دولة الإسلام المجيد، فألبوا على الإسلام والمسلمين كل قوى الجزيرة العربية، وذهبوا يجمعون القبائل المتفرقة لحرب المسلمين، {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء:51]، ولما غلبهم الإسلام بعز عزيز استمروا يكيدون له ببث المفتريات، وبالفت بين صفوف المسلمين وإثارة الفتن بينهم، وتأليب خصومهم عليهم، فاليهود هم الذين ألبوا الأحزاب على الدولة المسلمة الأولى في المدينة، فرد الله كيدهم في نحورهم.
واليهود هم الذين ألبوا العوام، وجمعوا الشراذم، وأطلقوا الشائعات في فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه، وما تلاها من النكبات.
أليس الذي قاد حملة الوضع والكذب في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في الروايات والسير يهودي منهم؟! قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} [الفتح:15]، كما حرفوا التوراة والإنجيل.
وفي عصرنا هذا، أليسوا هم الذين يقودون المعركة على الإسلام في كل شبر على وجه الأرض؟! أليسوا هم الذين يستخدمون الصليبية والوثنية في هذه الحرب الشاملة؟! أليسوا هم الذين يصنعون العملاء الذين يتسمون بأسماء المسلمين ويجعلونهم أبطالاً، ثم يشنون بهم حرباً صليبية صهيونية على كل جذر من جذور هذا الدين؟! وهل يغيب عنا وعن كل مسلم أنهم كانوا خلف إسقاط الخلافة الأخيرة، وكانوا وراء إثارة النعرات والانقلابات التي انتهت بإلغاء الخلافة وتقسيم بلاد المسلمين إلى دويلات؟! وهل يغيب عنا أن الذي فعل كل هذا هو أتاتورك اليهودي عليه لعنة الله؟! أليسوا هم الذين يقودون اليوم حملة التشويه ضد الإسلام وضد نبي الإسلام؟! فإن كانوا قد دبروا مؤامرة اغتيال الشيخ أحمد ياسين فلقد دبروا مؤامرات ومؤامرات لاغتيال نبينا صلى الله عليه وسلم مرات ومرات.(52/3)
اليهود قتلة الأنبياء
ولقد قاموا بقتل الأنبياء قبل ذلك وتآمروا على قتل عيسى عليه السلام، فأخزاهم الله حتى أصبح اسمهم: قتلة الأنبياء، ولقد وصفهم القرآن بهذه الجريمة الشنيعة فقال الله: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [المائدة:70]، وقال الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران:21]، فلديهم جرأة عجيبة على الفتك بدعاة الحق للتخلص من معارضتهم لجرائمهم، ولوقوفهم في وجه أهوائهم حتى ولو كان هؤلاء الدعاة من أنبيائهم! فهاهو قاض من قضاتهم يقتل نبي الله حزقيال عليه السلام؛ لأنه نهاه عن منكرات فعلها.
ثم هاهو أحد ملوكهم يقال له: منسي يقتل نبي الله أشعيا بن أموص عليه السلام، ويأمر بنشره على جذع شجرة في سنة سبعمائة قبل الميلاد؛ لأنه كان ينصحه ويعظه بترك السيئات والموبقات.
وقاموا برجم نبي الله آرميا عليه السلام؛ لأنه أكثر من توبيخهم على منكرات أعمالهم وكبائر معاصيهم.
وقام ملك من ملوكهم يقال له: هيرودس بقتل نبي الله يحيى عليه السلام، فقد كان هذا الملك شريراً فاسقاً، وكانت له ابنة أخ يقال لها: هيروديا، وكانت بارعة الجمال، فأراد عمها الملك أن يتزوج بها مخالفاً بذلك كل الشرائع السماوية، وكانت البنت وأمها تريدان هذا الزواج، فانتشر بين الرجال والنساء، فلما علم يحيى عليه السلام بذلك أعلن معارضته لهذا الزواج، وبين حرمة هذا الزواج في شرع الله، فلا يحل للعم أن يتزوج بابنة أخيه بأي حال من الأحوال، وهم يريدون أن ينتهكوا المحارم دون أن ينكر عليهم أحد، فحقدت أم الفتاة على يحيى وبيتت له مكيدة قتل، فزينت ابنتها هيروديا بأحسن زينتها وأدخلتها على عمها، فرقصت أمامه حتى ملكت مشاعره، فقال لها: تمني علي، فقالت له: أريد رأس يحيى بن زكريا في هذا الطبق، كما علمتها أمها الفاجرة، فاستجاب لطلبها وأمر برأس يحيى عليه السلام فقتل، وقدم لها رأسه في طبق والدم ينزف منه! وكان ذلك في سنة ثلاثين ميلادية.
قال المؤرخون: وفي حادثة مقتل يحيى عليه السلام قتل عدد كبير من العلماء ممن أنكر على ذلك الحاكم هذا العمل الشنيع، ثم قام هذا الملك أيضاً بقتل زكريا عليه السلام؛ لأنه دافع عن ابنه يحيى عليهما السلام؛ ولأنه عارض ذلك الزواج الفاسد، {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30].(52/4)
محاولة اليهود قتل عيسى عليه السلام
ولم تنته مؤامراتهم ومحاولات اغتيال الأنبياء بعد تلك الحادثة، بل قاموا بعدها بسنوات ثلاث بمحاولة اغتيال عيسى عليه السلام الذي فضح دسائسهم وتزييفهم لدينهم، فاجتمع عظماؤهم وأحبارهم فقالوا: إنا نخاف من عيسى أن يفسد علينا ديننا ويتبعه الناس، وهم يقصدون ذلك الدين المزيف الذي زيفوه وغيروه وبدلوه، فقال لهم رئيس كهنتهم يومئذٍ واسمه قيانا: لأن يموت رجل واحد خير من أن يذهب الشعب بأسره، فهم يريدون أن يموت نبي الله فداء لتزييفهم ومنكراتهم، فأفتى باستباحة قتل عيسى عليه السلام، فكشف الله أمرهم، وأنقذ نبيه من بين أيديهم، فخرج عيسى واختفى عن أعينهم ودخل القدس، وتلقاه أصحابه بقلوب النخل، فقال المسيح عيسى لأصحابه الحواريين: إن بعضكم ممن يأكل ويشرب معي يدل علي! الله أكبر! فالنفاق موجود من غابر الزمان، قاتل الله النفاق والمنافقين والخونة والخائنين، فدل على مكانه ذلك الخائن، فدخلوا إلى المكان الذي كان فيه عيسى عليه السلام، فألقى الله شبهه عليه، وغشى الله على أعينهم فلم يروا عيسى، وقاموا بقتل وصلب ذلك الذي دلهم وخان الأنبياء، فلما انكشف الأمر بعد الصلب أخفوا ذلك الأمر؛ لئلا يؤمن الناس بديانة عيسى عليه السلام، وحتى لا يتأكدوا من صدق نبوته ورسالته.
ومما يدل على أنهم لم يستطيعوا قتل عيسى عليه السلام أو صلبه قول الله جل في علاه: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا * فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:157 - 161].(52/5)
هجرة اليهود إلى المدينة المنورة قبل الإسلام وعداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم
ثم بعد عيسى عليه السلام كان من اليهود من اختار الهجرة إلى يثرب والمناطق الواقعة على طريق الشام، وسبب ذلك: ما يقرءون في كتبهم من البشائر بالنبي المنتظر الذي سيظهر الله به الدين، وكانوا يزعمون أنه لابد أن يكون هذا النبي المنتظر من بني إسرائيل، وأنهم سيكونون أول من يتبعه، وسيقاتلون العرب الوثنيين معه، وسيستعيدون ملك بني إسرائيل في الأرض، وهي أحلام وأوهام! ولما لم يأتِ هذا النبي الموعود به من بني إسرائيل وجاء من العرب أولاد إسماعيل عليه السلام حسدوهم -والحسد خصلة متوارثة فيهم- فكفروا به، وكفر به عامة اليهود ولم يؤمن منهم إلا قليل، ولم يكن الباعث لمن كفر منهم أن قلوبهم لم تصدقه، كلا، فهم قد عرفوه بصفاته المذكورة عندهم، وإنما كفروا به بغياً وحسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق، وقد أوضح الله ذلك في كتابه فقال: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89]، وقال سبحانه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة:146 - 147].
تقول أم المؤمنين صفية رضي الله عنها وأرضاها: (لما نزل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل بقباء غدا عليه أبي حيي بن أخطب وعمي أبو ياسر مغلسين -أي: في الصباح الباكر بعد الفجر-، قالت صفية: فلم يرجعا حتى كان مع غروب الشمس، فأتيا كالين كسلانين، قالت: وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي حيي بن أخطب: أهو هو؟ قال: نعم والله، قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت)، فقد تأكدا وهما من أحبار اليهود أنه هو الرسول المنتظر وتلك صفاته التي جاءت في كتبهم، لكنه الحقد الأسود، والحسد الذي ملأ قلوبهم، وهذه مشكلة إبليس يوم أن خلق الله آدم وشعر بالاستعلاء والاستكبار، فاليهود والشيطان سواء، قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:109].(52/6)
نقض يهود بني قينقاع للعهد
ثم لما أقام النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، أقام بينه وبينهم عهوداً ومواثيق وحسن جوار، فلم يزالوا ينقضون العهود والمواثيق، ويبرمون الخيانات، ويكيدون المكائد حتى نفد صبر النبي صلى الله عليه وسلم وبدأ بإجلائهم من المدينة، وذلك بعد تجرئهم على نساء المسلمين، فبينما امرأة من المسلمات في سوق بني قينقاع تبيع قطعة ذهب لها، جلست إلى صائغٍ يهودي تشتري منه، وكانت محجبة الوجه، فجعل نفر منهم يستهزئون بها وبحجابها، ويطلبون منها أن تكشف وجهها وتأبى هي ذلك، فالعفيفة لا تكشف وجهها ولا تتخلى عن حجابها، فقد تخرج للسوق لحاجة لكنها لا تتخلى عن حيائها، فعمد الصائغ اليهودي إلى طرف ثوبها من الخلف وعقده إلى ظهرها وهي جالسة دون أن تشعر المرأة بما فعل ذلك اليهودي، فلما قامت انكشفت سوأتها فانطلقت من اليهود ضجة ضحك وسخرية بالمرأة المسلمة العفيفة الطاهرة، فلما أحست المرأة بما فعل الصائغ بها من مكر صاحت واستغاثت بالمسلمين لشرفها المهان في سوق يهود، رفعت صوتها وا إسلاماه! وا إسلاماه! وا إسلاماه! فوثب رجل من المسلمين -استجابة لتلك الصيحات- على الصائغ فقتله في الحال، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فغضب المسلمون لمكر يهود وخيانتهم، فنبذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدهم كما أمره الله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال:58]، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى قتالهم، فحاصرهم في حصونهم خمس عشرة ليلة، وألقى الله في قلوبهم الرعب، ولم يستطيعوا أن يصمدوا لقتال المسلمين، وهكذا هم جبناء أذلاء يخافون من أطفال الحجارة، فكيف لو ملك أطفال الحجارة المدفع والدبابة؟! ولما طال عليهم الحصار نزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وسلم وأمكن الله نبيه منهم، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجالهم، وسبي نسائهم، ومصادرة أموالهم لاعتدائهم على أعراض المسلمين، فتدخل رأس النفاق ابن سلول فقال: يا محمد! أحسن في موالي، وكانوا حلفاء له قبل الإسلام، وما زال المنافق يلح على النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم كارهاً: (هم لك)، فأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة وخرجوا منها أذلة صاغرين.
نعم، فلقد تطاولوا على أعراض المسلمات فثارت ثائرة المسلمين، واليوم من يدافع عن أعراضنا في فلسطين وفي الشيشان وكشمير وهنا وهناك؟! يا ألله! فكم ارتفعت أصوات المسلمات والآهات فما وجدت آذاناً صاغية! أذكر إخوتي في كل أرض بأن القدس دنسها اليهود ويا عجباً إلى ما النوم عنها وقد لعبت بمسجدها القرود لئن كانت موانعنا قيود أما للقيد كسر يا أسود أما لليل من أجل قريب يحل مكانه فجر جديد وقال آخر: أحل الكفر بالإسلام ضيماً يطول عليه للدين النحيب فحق ضائع وحمىً مباحٌ وسيف قاطع ودم صبيب أمورٌ لو تأملهن طفل لطفل في عوارضه المشيب أتسبى المسلمات بكل ثغر وعيش المسلمين إذاً يطيب أما لله والإسلام حق يدافع عنه شبانٌ وشيب فقل لذوي البصائر حيث كانوا أجيبوا الله ويحكمُ أجيبوا(52/7)
مؤامرة اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم يهود بني النضير
عباد الله! وبعد إجلاء يهود بني قينقاع حاول يهود بني النضير اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد انطلق إليهم في أمر بينه وبينهم، فلما جاءهم خلا بعضهم إلى بعض فقالوا: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل هذه الحال أبداًَ، فهل من رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه؟! فانتدبوا رجلاً منهم فقال: أنا لذلك، فنهاهم عنه أحد أحبارهم وهو سلام بن مشكم وقال لهم: هو يعلم، أي: أن الوحي سيخبره وسيفضحكم، فلم يقبلوا منه، فلما صعد أشقاهم ليلقي الصخرة على النبي صلى الله عليه وسلم نزل الوحي بالخبر، قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، وفضح المؤامرة، فانسحب النبي صلى الله عليه وسلم من المكان، وشاع خبر مكيدتهم وضج المسلمون من ذلك، فتهيأ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لقتالهم، فحاصرهم وأخرجهم من المدينة أذلة صاغرين.(52/8)
دس اليهود السم في الشاة لقتل النبي صلى الله عليه وسلم
ولم تنته مؤامراتهم ووسائل المكر والكيد ضد الإسلام ونبي الإسلام، فلما فشلت خططهم الماكرة لجئوا إلى أسلوب الضعفاء والجبناء فحاولوا دس السم للنبي صلى الله عليه وسلم، فقامت بذلك زينب بنت الحارث اليهودية، حيث قدمت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة مشوية قد دست فيها سماً، وكانت قد سألت: أي عضوٍ من الشاة أحب إلى محمد؟ فقيل لها: الذراع، فأكثرت فيها من السم، فلما وضعتها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم تناول الذراع، فأكل منه قضمة فلم يسغها، وكانت معه بشر بن البراء، فأخذ منها كما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم، فأما بشر فمضغها وأما النبي صلى الله عليه وسلم فلفظها ثم قال: (إن هذا العظم يخبرني أنه مسموم، ثم دعا بالمرأة اليهودية فاعترفت فقال: ما حملك على ذلك؟ قالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك، فقلت: إن كان ملكاً استرحنا منه، وإن كان نبياً فسيخبره الوحي بذلك)، فتجاوز النبي صلى الله عليه وسلم عنها، ومات بشر من أكلته التي أكل.
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي توفي فيه لأخت بشر بن البراء وكانت تكنى بـ أم بشر: (يا أم بشر! إن هذا الأوان وجدت فيه انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلت مع أخيك بخيبر)؛ ولذلك رأى كثير من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات شهيداً مع ما أكرمه الله من النبوة.(52/9)
سحر اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم
ولم يكتفوا بالسم ومحاولات الاغتيال فقط، بل قام ساحر من سحرتهم واسمه لبيد بن الأعصم بعمل سحر للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاء من حديث عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر حتى إنه كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله، حتى إذا كان ذات ليلة عند عائشة دعا ودعا، ثم قال: يا عائشة! أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه: أتاني رجلان -أي: ملكان على صفة رجلين- وهما جبريل وميكائيل، فقام أحدهما عند رأسي، وقام الآخر عند رجلي، فقال: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب -أي: مسحور- قلت: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم) ثم إن الله أذهب هذا السحر عن جسده صلى الله عليه وسلم بسر الدعاء والالتجاء إلى الله، ودله على مكان السحر.
فإذا كانت تلك أفعالهم بالأنبياء والمرسلين فلا عجب مما يفعلونه بالشعوب والأمم بسبب حقدهم على البشرية أجمعين.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(52/10)
عبر من حياة الشهيد أحمد ياسين
الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
عباد الله! هذه الأحداث التي تتوالى هنا وهناك هي فرصة للمسلمين لتصحيح مسار الصراع، وتحويل مجراه إلى وجهته الحقيقية، فهو صراع دينيٌ منذ أن بدأ، ولكن من طرف واحد، وهو طرف الأعداء، فهم يقاتلوننا بتوراتهم وإنجيلهم، أما المتصدرون للصراع من بني جلدتنا فلقد أرادوها علمانية حتى النخاع، واستسلامية إلى ما تحت القاع.
لكم الله يا رجال فلسطين! ولكن الله يا نساء فلسطين! ولكم الله يا أطفال فلسطين! أيا فلسطين من يهديك أفئدة ومن يعيد لك البيت الذي خربا شردت فوق رصيف الدمع باحثة عن الحنان ولكن ما وجدت أبا تلفتي تجدين في مبادئنا من يعبد الجنس أو يعبد الذهبا يا شام إن جراحي لا ضفاف لها فامسحي عن جبيني الحزن والتعبا أتيت من رحم الأحزان يا وطني أقبل الأرض والأمجاد والشهبا أنا قبيلة آلام بكاملها ومن دموعي سقيت الأرض والسحبا يا شام أين هما عينا معاوية وأين من زاحموا بالمنكب الشهبا وقبر خالد في حمص نلمسه فيرجف القبر من زواره غضبا يا رب حيٍ تراب القبر مسكنه ورب ميت على أقدامه انتصبا يا ابن الوليد ألا سيف نؤجره فكل أسيافنا قد أصبحت خشبا أدمت سياط حزيران ظهورهم فأدمنوها فباسوا كف من ضربا وطالعوا كتب التاريخ واقتنعوا متى البنادق كانت تسكن الكتبا؟ يا من يعاتب مذبوحاً على دمه ونفس شريانه ما أسهل العتبا من جرب الكي لا ينسى مواجعه ومن رأى السم لا يسقى كمن شربا حبل الفجيعة ملتفٌ على عنقي من ذا يعاتب مشنوقاً إذا اضطربا عباد الله! إن لم تحفزنا المصائب، وترفع هممنا الآلام والأحزان فما الذي يحركنا ويعلينا؟! يا له من دين لو أن له رجال، والله لولا أن الإسلام حق بذاته مؤيدٌ بتأييد الله، محفوظ بحفظه، لم تلق منه بقية تصارع قوى الشر في الأرض، التي ما تركت سبيلاً من المكر به إلا سلكته، ولا سبباً لإطفاء نوره إلا أخذت به، قال الله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، ويقول: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، والله ما تعرض دين على مر السنين والعقود لمؤامرات ومخططات كما تعرض الإسلام، ولكن الله يقيض لهذا الدين رجالاً يحافظون عليه، ويدافعون عنه، ولا يضرهم من خالفهم أو خذلهم.
إنها الهمم التي تصنع الرجال! أحمد ياسين شيخ مشلول على كرسي متنقل، مهدد بالقتل، ثم تأبى نفسه إلا أن يصلي الفجر في جماعة، فتباً للأصحاء والأقوياء الذين آثروا النوم على نداء رب العالمين، فلقد اتصفوا بصفات المنافقين وما أكثرهم، أحمد ياسين شيخ قعيد أيقض الأمة، ونال الشهادة فمتى يتحرك صحيح البدن قعيد الهمة؟! أحمد ياسين يا أول الأطهار! في زمن الرذيلة والبغاء يا راحلاً للخلد لا أرثيك أنت بل لنا الرثاء لن نقبل التعازي فيك، فلقد رفعت رءوسنا وعلمتنا دروساً في التضحية والفداء، أحمد ياسين قالوا: بأنك مقعد، فكيف قعدت على قلب كأنك مشهد، وكيف كسرت الحواجز بين البلاد والعباد؟ ألست بمقعد؟ ركبت إلينا سفينة نوح فأجريتها وعيون البرية تشهد، أحمد ياسين بتضحية العظماء أمثالك يأتي النصر، وبموت أمثالك تحيا الأمة، عشت مقعداً قائداً، ومت شهيداً رائداً، أياسين! ماذا تبقى من العمر حتى تموت؟ أسبعون عاماً آخر؟ تجاوزت في أمنيات الدعاء حدود البشر وسافرت عبر براق الشهادة عبر القمر وخلفت أبناء العروبة يستنكرون ويستصرخون كعادتنا نحن في الشجب لا نتأخر فسافر بعيداً بعيداً فنعم المرا كب ما قد ركبت ونعم السفر إن التخطيط لاغتيال الصادقين من العاملين والمجاهدين في سبيل الله مستمر ولن يتوقف، لقد قتلوا عمر رضي الله عنه في محرابه، وقتلوا عثمان رضي الله عنه وقرآنه بين يديه، وقتلوا علياً رضي الله عنه وهو منطلق إلى مسجده، وهاهم يقتلون أحمد ياسين بعد أن صلى الفجر في جماعة، وفاز بذمة الله، فهنيئاً لك اللحاق بركب الصادقين! هم الرجال بأفياء الجهاد نموا وتحت سقف المعالي والمدى ولدوا جباههم ما انحنت إلا لخالقها وغير من أبدع الأكوان ما عبدوا الخاطبون من الغايات أكرمها والسابقون وغير الله ما قصدوا عباد الله! أمتنا ولودة، أمتنا معطاءة، أمتنا متجددة، فإن كانوا قد قتلوا أحمد ياسين فسيكون هناك ألف أحمد ياسين بإذن الله، فسر قوتنا في معتقدنا، في قرآننا، في تاريخنا، حتى في حجارتنا التي تنطلق من يد صغارنا.
نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: (أمتي كالمطر لا يدرى الخير في أوله أو في آخره) هاهم أبناء المسلمين في كل مكان يرددون: خيبر خيبر يا يهود، جيش محمد سوف يعود! فسر قوتنا في شبابنا، في شيبنا، في نسائنا وأطفالنا.
سنعيد حياة العز ثانية وسوف نغلب من حادوا ومن كفروا وسوف نبني قصور المجد عالية قوامها السنة الغراء والصور وسوف نفخر بالقرآن في زمن شعوبه بالفسق والخنا افتخروا وسوف نرسم للإسلام خارطة حدودها العز والتمكين والظفر بصحوة ألبس القرآن فتيتها ثوب الشجاعة لا جبن ولا خور بتضحيات العظماء يأت النصر بإذن الله، وبموت الأبطال تحيا الأمة، فلا نامت أعين الجبناء.
اللهم تقبل أحمد ياسين، اللهم تقبله في أعلى عليين، وأسكنه في جناتك جناتٍ النعيم، اللهم بلغه أعلى درجات الشهداء والصديقين، اللهم أبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه يا رب العالمين! اللهم تقبل شهداءنا في كل مكان يا رب العالمين! اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، اللهم فك أسرانا وأسراهم في كل مكان يا حي يا قيوم! اللهم كن مع إخواننا في فلسطين والشيشان، وكشمير والفلبين والعراق وأفغانستان، كن لهم عوناً وظهيراً، ومؤيداً ونصيراً، اللهم انصر من نصرهم، واخذل من خذلهم، اللهم شتت شمل عدوك وعدوهم يا قوي! يا عزيز! اللهم عليك باليهود الغاصبين، والنصارى المعتدين، وأعداء الملة والدين، ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، اللهم اشدد وطأتك عليهم، اللهم اشدد وطأتك عليهم، اللهم اشدد وطأتك عليهم، اللهم لا ترفع لهم في بلاد المسلمين راية، ولا تحقق لهم في بلاد المسلمين غاية، وأخرجهم منها أذلة صاغرين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم أصلح الشباب والشيب، واحفظ النساء والأطفال يا رب العالمين! عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون؛ فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر.(52/11)
ابن مسعود والقرآن والصيف
صنع القرآن العظيم رجالاً غيروا مجرى التاريخ، وسطروا فيه أروع الأحداث والأمثلة، ومن بين أولئك الرجال الأفذاذ عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله عنه، فإنه كان من أعلم الصحابة بالقرآن الكريم بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مثالاً للعالم بالقرآن العامل به.(53/1)
القرآن هو سر انتشار الإسلام في أصقاع الأرض
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر الأحبة! بالأمس القريب كنت في وليمة غلام صغير أتم حفظ كتاب الله تبارك وتعالى، وهذا والله لهو الشرف العظيم، فقد أتم حفظ كتاب الله تبارك وتعالى ولم يتجاوز الخامسة عشرة من العمر.
والوليمة التي تقام لحافظ القرآن الصغير تسمى: حذاقة، من حذق الشيء، أي: مهر بالشيء، ويوم الوليمة يسمى يوم الحذاقة.
ولما انتشر نور الإسلام يمنة ويسرة وتجاوز حدود هذه الجزيرة في غضون سنوات قصيرة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ أخذت فارس والروم تتحدث: ما السر العجيب الذي غير حياة هؤلاء الأعراب؟! وما السر العجيب الذي نقل هؤلاء الأعراب الذين كانوا يتقاتلون ويتناحرون فيما بينهم إلى هذه الوحدة والتآلف؟! ما الذي غير حياتهم في سنوات قليلة؟! فوجدوا أن السر هو القرآن، وجدوا أن سر قوة هذه الأمة هو كتاب الله تبارك وتعالى، هذا الكتاب الذي تكفل الله بحفظه من التحريف والتغيير والتبديل كما قال سبحانه: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42].
فتعال معي في دقائق معدودة لننظر كيف صنع هذا القرآن الأبطال؟ وكيف صنع هذا القرآن أولئك الرجال؟ وكيف غير مجرى حياتهم رأساً على عقب، فنقلهم من الذل إلى العزة، ومن الضياع إلى التمكين، ومن الفرقة إلى الوحدة والاتحاد.(53/2)
صناعة القرآن لابن مسعود رضي الله عنه
وسأحدثكم عن حبر من أحبار الأمة، وفذ من أفذاذها، فلا يذكر أهل القرآن إلا ذكر فيهم، إنه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه.
كان في منأى عن سماع آيات القرآن يوم أن جهر به النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، فقد كان رويعي غنم فقيراً معدماً يرعى الغنم لـ عقبة بن أبي معيط بقراريط قليلة.
يروي خبر إسلامه وبداية عهده مع الإسلام حتى أصبح سادس ستة من الذين دخلوا في الإسلام فيقول: (كنت أرعى الغنم في يوم صائف شديد الحرارة، إذ أقبل علي رجلان يظهر على سيماهما الوقار، فجاءاني فقالا لي: اسقنا من هذه الشياه، قلت: أنا مؤتمن، قال: فأعجبهم كلامي، فقال لي أحدهما: أحضر لنا شاة صغيرة لم ينز عليها فحل، فقلت في نفسي: ومتى كانت الشياه الصغيرة التي لم ينز عليها الفحول تدر لبناً؟ فجئتهم بأصغر الشياه، قال: فوضع يده على الضرع، ثم أخذ يردد كلمات، فإذا بالضرع قد انتفخ، فذهب صاحبه فأتى بحجرة مقعرة، وبدأ الحليب يدر من ذلك الضرع، وأنا أقول: كيف حدث هذا؟! فشرب الرجل وشرب صاحبه، وشربت معهم حتى ارتوينا، قال: ثم وضع يده على الضرع مرة ثانية وقرأ بكلمات فعاد الضرع إلى ما كان عليه، فلما أراد أن ينصرف قلت له: علمني من هذه الكلمات التي قلتها، قال: إنك غليم معلم)، وهذان الرجلان هما: النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، ورويعي الغنم هو ابن مسعود الذي شهد تلك المعجزة ومعجزات كثيرة بعدها، بل كان هو إحدى تلك المعجزات التي رباها النبي صلى الله عليه وسلم.
ومرت أيام قليلة، وخرج ابن مسعود من الظلمات إلى النور، وترك رعي الغنم، وأصبح خادماً لسيد البشر صلوات ربي وسلامه عليه، بل أصبح من المقربين من النبي صلى الله عليه وسلم، وما غدا النبي صلى الله عليه وسلم إلا وابن مسعود معه، وما رجع من روحته إلا وابن مسعود معه، يحمل نعله، ويحمل عصاه، ويقدم له وضوءه، بل وصل إلى درجة من القرب من النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إذنك علي -يا ابن مسعود - أن ترفع الحجاب وتدخل).
يقول أبو موسى الأشعري: كنا حيناً ما نرى ابن مسعود إلا من آل البيت.
وقد علمه القرآن كيف تكون الشجاعة، وكيف يكون الصدع بالحق، فلما انتقلت الدعوة من السرية إلى الجهرية اجتمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم -وأكثرهم من الضعفاء- ومن بينهم ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، فقالوا فيما بينهم: ألا من رجل يخرج إلى نوادي مكة يجهر بالقرآن على مسمع وعلى مرأى من أكابر قريش؟ ألا من رجل شجاع يخرج ويصدع بالقرآن على مسامع أولئك الكفار؟ فقال ابن مسعود: أنا، قالوا: لا؛ فليست لك عشيرة تحميك، وإنا والله! نخشى عليك من بطش أولئك الكفار، فقال: والله! لا يصدع بالقرآن إلا أنا، فكان أول من صدع بالقرآن على مسمع من مكة كلها، فخرج إليهم في ناديهم، وقد اجتمع القوم كبراؤهم وساداتهم في ضحى أحد الأيام، فإذا برويعي الغنم يعتلي مكاناً قريباً منهم ثم يقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:1 - 4]، فإذا هم يسمعونه، فقال قائل منهم: ماذا يقرأ هذا الرجل؟! فقالوا: إنه يتلو الكلام الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-، فقاموا إليه فأوجعوه ضرباً حتى أدموه رضي الله عنه وأرضاه، ورجع إلى القوم، فلما رأوا حاله قالوا: هذا ما كنا نخشاه عليك يا ابن مسعود! قال: والله! لهم أهون في عيني مما كانوا من قبل، ولئن أردتم لأصدعن به مرة ثانية على مسمع ومرأى من الجميع، فلا التهديد ولا الضرب ولا الوعيد يحول بينهم وبين الصدوع بالحق، وهكذا رباهم القرآن.
كان ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه يتفجر علماً، كيف لا وهو أقرب الناس من النبي صلى الله عليه وسلم؟! فقد كان من أقرب الناس هدياً وسمتاً واتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، حتى وصل إلى درجة من الرفعة لا يعلمها إلا الله، فقد بلغ به القرآن درجة عالية سامية.
ففي مرة من المرات، وبينما عمر في عرفة إذ جاءه رجل من الكوفة فقال: يا أمير المؤمنين! جئتك من الكوفة، وفيها رجل يقرأ القرآن على الناس عن ظهر قلب، فانتفخت أوداج عمر، وغضب من هذا، فقال: من هو؟ قال: ذاك رجل يقال له: عبد الله بن مسعود، قال: فانفرجت أسارير عمر وتبسم في وجه الرجل، وقال له: (والله لا أعلم رجلاً على وجه الأرض أحق من ابن مسعود في هذا) أي: لا أعلم أحداً على وجه الأرض أحق من ابن مسعود أن يقرأ القرآن عن ظهر قلب، ثم قال عمر للرجل: (أنا سأخبرك بخبر ابن مسعود: كنا ليلة أنا وأبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انتصف الليل خرجنا ومررنا بطريقنا على المسجد، فإذا برجل قائم يقرأ القرآن بصوت طري عذب مدي، فتوقف النبي صلى الله عليه وسلم يستمع لقراءته، ولم نميز من كان ذلك الرجل، قال: ثم قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: من سره أن يسمع القرآن غضاً طرياً كما نزل فليسمعه عن ابن أم عبد)، رضي الله عنه وأرضاه، فما كان ذلك الذي يقرأ القرآن في ظلام الليل غضاً طرياً كما نزل إلا ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، فـ عمر يقول للرجل: أنا أخبرك بخبره: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لنا في تلك الليلة: من سره أن يسمع القرآن غضاً طرياً كما نزل فليسمعه عن ابن أم عبد)، فمن الذي زكى تلاوته؟ إنه الذي ينزل عليه الوحي صلوات ربي وسلامه عليه، قال عمر: (ثم شرع ابن مسعود بالدعاء والنبي صلى الله عليه وسلم يؤمن على دعائه ويقول: سل ابن مسعود تعط، سل ابن مسعود تعط)، قال: فلما أصبح الصباح قلت -يعني عمر - والله! لأذهبن أبشر ابن مسعود بذلك، وكيف لا والنبي صلى الله عليه وسلم يؤمن على دعائه، ويقول: (سل ابن مسعود تعط)؟ قال: فلما أصبح الصباح غدوت إليه أبشره، فإذا بـ أبي بكر رضي الله عنه قد سبقني إلى بشارته.
وبلغ بقراءته القرآن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يناديه من حين إلى حين ويقول له: (اقرأ علي القرآن يا ابن مسعود!)، وهذا يدل على أنه وصل إلى درجة عالية من إتقان القرآن والخشوع عند قراءته؛ لأن النبي الذي تنزل عليه القرآن كان يقول له: (اقرأ علي القرآن يا ابن مسعود! فكان يقول: أقرأه عليك وعليك أنزل يا رسول الله؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، قال: فقرأت من سورة النساء حتى إذا بلغت قوله تبارك وتعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:41 - 42]، قال: حسبك يا ابن مسعود! قال: فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان بأبي هو وأمي).
ولك أن تتخيل ذلك الموقف والمشهد العظيم.
بل بلغ من حب النبي صلى الله عليه وسلم له أنه قال: (لو كنت مؤمراً أحداً عليكم من غير شورى لأمرت عليكم ابن مسعود)، فمن الذي صنع ابن مسعود؟ لقد صنعه القرآن، صنع ذلك الرجل كلام الله تبارك وتعالى حين قرأ القرآن ووعاه، وتدبر آياته وعمل بمقتضاه، فأحل حلاله، وحرم حرامه، يقول ابن مسعود عن نفسه: (أخذت من فم النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من سبعين سورة، وما من آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ومتى نزلت، ولماذا نزلت)، قال هذا هو العلم الحقيقي: (أخذت من فم النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من سبعين سورة)، مباشرة فماً لفم: (وما من آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ومتى نزلت، ولماذا نزلت، ولو كنت أعلم أحداً أعلم مني بكتاب الله على وجه الأرض تمتطى إليه المطايا لامتطيت إليه)، إنهم رجال صنعهم القرآن ورفع قيمتهم وجعل لهم شأناً، وقد تكفل الله بحفظه وبرعايته.(53/3)
سر ورع ابن مسعود رضي الله عنه وحرصه على وقته
وقد كان ابن مسعود يخاف من الذنوب، وهذا سر ورعه، فكان يقول: (إن العبد المؤمن يرى الذنب الصغير كأنه الجبل يوشك أن يقع على رأسه، وإن العبد المنافق الذي تمرد على العصيان والنفاق ليرى الذنب الكبير كأنه ذبابة على أنفه قال بها هكذا).
وكان لا يحب تضييع الأوقات، وهكذا شأن الرجال الأحبار، وشأن العلماء، فكان يقول: (والله! إني لأبغض الرجل أراه فارغاً لا يقضي أمراً من أمور الدنيا، أو من أمور الآخرة).(53/4)
هكذا فلتكن الأماني
وكان عند ابن مسعود أمنية تمناها وعاش من أجلها، وحققها بإذن الله، وقبل أن أذكر الأمنية أريد أن تسأل نفسك أنت: ما هي الأمنية التي تتمناها؟ وكن صادقاً مع نفسك، فلقد تمنى ابن مسعود أمراً فناله وحققه بإذن الله، وأنا أريدك أن تسأل نفسك الآن: ما هي الأمنية التي تتمناها؟ يقول ابن مسعود: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم تبوك، فلما عسكر جيش المسلمين في تلك الليلة بتنا على أحسن حال، فاستيقظت في منتصف الليل، وكنت بجانب النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا بفراش النبي صلى الله عليه وسلم خالٍ من صاحبه، فحسست فراش صاحبيه أبي بكر وعمر فإذا هو خالٍ من أصحابه، فنظرت في آخر المعسكر فإذا بنار قد أوقدت، والمعسكر نيام، إلا من تلك النار التي هناك وأقوام في الحراسة، يقول: فانطلقت إلى النار، فلما جئت إلى النار إذا بالنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر قد حفروا قبراً وكفنوا شخصاً وأوشكوا على إنزاله في القبر، قلت: يا رسول الله! من هذا المكفن؟ قال: هذا أخوك عبد الله ذو البجادين المزني قد مات ليلة البارحة)، وهل تدري -بارك الله فيك- من هو عبد الله ذو البجادين؟ عبد الله ذو البجادين كان من أترف وأنعم شباب مكة، أسلم شاباً، وخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يريد أن يخرج من الظلمات إلى النور، فآذاه قومه، فما زاده ذلك إلا تمسكاً بدينه، حتى إنهم لم يجدوا حيلة معه إلا أن يجردوه من ثيابه ويحبسوه في وسط الدار حتى لا يفر من سجنه ومن داره، فما وجد إلا قطعة قماش ستر بها عورته وفر هارباً بدينه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسمي بـ ذي البجادين.
قال: (فلما أنزله النبي صلى الله عليه وسلم في قبره قال: اللهم إني أمسيت عنه راضٍ فارض عنه)، يعني: عن عبد الله ذي البجادين.
فاسمع الأمنية، وقل: أين هي أمانينا من تلك الأماني؟ يقول ابن مسعود: (فوالله ما تمنيت إلا أن أكون صاحب تلك الحفرة)، تلك هي أمنياتهم: أن يحققوا رضا الله ورضا رسوله، صدقوا مع الله، وصدقوا مع كلام الله تبارك وتعالى، فصدق الله معهم، ورفع شأنهم، وشرح صدورهم، ويسر أمورهم، فحققوا في سنوات قليلة ما لم يحققه أقوام في عشرات بل في مئات السنين؛ إنهم رجال صنعهم القرآن، نفعنا الله بالقرآن العظيم، وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(53/5)
كيف يعرف الإنسان قدره عند ربه؟
الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: أحبتي! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله عباد الله! {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281].
خرج عمر مرة من المرات من المدينة يريد مكة للعمرة، وفي طريقه التقى بـ عمرو بن نافع واليه على مكة، فقال له عمر: من وليت على أهل الوادي؟ أي: من خلفت بعدك على إمارة أهل الوادي؟ يعني: على أهل مكة؟ قال: وليت عليهم ابن أبزى، قال عمر: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا، قال: تولي على أهل الوادي مولى من مواليكم؟! قال: أما والله! إنه عالم بكتاب الله وبالفرائض، فقال عمر: أما والله! إني قد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين).
فـ ابن أبزى كان مولى من الموالي، وكان ابن مسعود رويعي غنم، فلم يؤت سعة من المال، ولا سعة في الجسم، ولا سعة في الجاه، ولم يكن حسبه ولا نسبه سبباً في رفعته عند الله تبارك وتعالى، لكنه القرآن.
إنه ابن الإسلام صنعة القرآن، فكيف أصبح عالماً، حبراً، زاهداً، مجاهداً في سبيل الله؟ لقد وصل إلى تلك الحال يوم أن قرأ القرآن، وتدبر آياته، وعمل بمقتضياته، وصل إلى تلك الحال يوم أن قرأ القرآن وعمل بآياته، وتدبر في مراد الله منه، وعمل بمقتضى كلام الله تبارك وتعالى، فأسألك بالله العظيم: أين نحن من القرآن اليوم؟! أين نحن من قوله تبارك وتعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]؟! أين نحن من قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278]؟! أين نحن من قوله تبارك وتعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30]؟! أين نحن من آيات الجنة وآيات النار؟! فإن لم تحرك تلك الآيات فينا المشاعر والأحاسيس فمن الذي يحركها؟! اعلم أن قيمتك عند ربك بقيمة كلام الله في حياتك، فإذا أردت أن تعرف قيمتك عند الله فانظر إلى قيمة كلام الله وأوامره ونواهيه في حياتك، وإذا أردت أن تعرف ماذا لك عند الله فانظر ماذا لله عندك في حياتك، فقيمتك بذلك القرآن الذي تقرأه وتعمل بمقتضاه.
وانظر إلى ما صنع القرآن بـ ابن مسعود؟ فقد ارتقى شجرة يوماً فجاءت الريح فأطارت ثوبه وكشفت ساقيه، فإذا بالساقين دقيقتين نحيلتين، فلا سعة في المال ولا في الجاه ولا في الجسم، فقد كان كالعصفور الصغير، فضحك الصحابة لما كشفت الريح ساقي ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه لدقتهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تضحكون من دقة ساقي ابن مسعود؟! والله! لساقا ابن مسعود أثقل عند الله في الميزان من جبل أحد)، لماذا؟ هل ذلك لنسبه؟ أو لأنه ابن فلان، أو ابن فلان، أو من يملك من الأرصدة المالية كذا وكذا؟ إنما ذلك بما وعاه صدره من القرآن، وبنصره لدين الله تبارك وتعالى.
قال صلى الله عليه وسلم: (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) فقيمة الناس عند الله بما وقر في قلوبهم من إيمان، يقول علي رضي الله تعالى عنه عن ابن مسعود: (لقد ملئ فقهاً وعلماً).
ويقول أبو موسى: (لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر بين أظهركم).
ولما أرسل عمر سلمان والياً على العراق جعل ابن مسعود معيناً ومستشاراً له، قال لأهل العراق: (والله! إني آثرتكم على نفسي بـ ابن مسعود).
وكان من كلام ابن مسعود قوله: (من كان متأسياً فليتأس بمن مات، فإن الحي تخشى عليه الفتنة).(53/6)
صورة مشرقة في زمن الانحطاط
فهذه بعض من أخبارهم، وبعض من تلك الصور التي سطروها، وبعض من آثار القرآن التي ظهرت عليهم يوم أن صدقوا مع الله تبارك وتعالى، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]، ونحن الآن في الإجازات الصيفية ينبغي أن يكون أعظم ما تملأ به الأوقات قراءة القرآن، فإن أشرف ما تملأ به الأوقات حفظ كتاب الله تبارك وتعالى.
واعلم أن القرآن الذي صنع الجيل الماضي والذي صنع ابن مسعود وأولئك الرجال لا يزال يصنع أبطالاً.
وسأروي لك خبراً صغيراً عن شاب صغير في العاشرة من عمره، وكيف أثر القرآن على مسامعه، إنه طالب صغير في حلقة من حلقات القرآن، وكان يداوم على حفظ الكتاب يوماً بعد يوم، وكانت أمه بارك الله فيها هي التي تتعهده في البيت بالحفظ والمراجعة، فليت كل الأمهات كهذه الأم، فجاءها الصغير ابن العاشرة يوماً حزيناً منكسراً مهموماً مغموماً، فقالت الأم: صغيري! أنت صغير على الهموم والغموم، فقال لها: أماه! دعيني فوالله! إني مشغول، وانظر ماذا شغله، وقل: ما الذي شغل صغارنا اليوم؟ فما زالت الأم تلح عليه حتى يقول ما في نفسه، فقال لها: أماه! لقد قرأنا اليوم في الحلقة سورة الإنسان، فسمعت من أخبار الجنة العجب العجاب! يقول ابن العاشرة لأمه: أماه! سمعت من خبر الجنة اليوم العجب العجاب! يقول الله: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} [الإنسان:12 - 14]، إلى أن بلغ قول الله تعالى: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان:22]، ثم يقول الصغير لأمه: أماه! أسألك بالله! ما هو السعي الذي كانوا يسعونه حتى يقول الله لهم: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان:22]؟! إنها آية أوقفت الصغير وجعلته مهموماً مغموماً؛ يتدبر في كتاب الله تبارك وتعالى.(53/7)
أثر تدبر القرآن والعمل به في رفع راية الأمة
يقول ابن عثيمين عن قوله تبارك وتعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} [البقرة:223]: والله! لو أن القلوب سليمة لتفطرت من الخوف من لقاء الله تبارك وتعالى.
قال عز وجل: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان:22]، كان سعيكم مشكوراً إذ صبرتم على طاعتي، كان سعيكم مشكوراً إذ صبرتم على معصيتي، كان سعيكم مشكوراً إذ صبرتم على الأذى في سبيلي.
إنه القرآن الذي صنع الجيل الأول، ولا يزال يصنع أجيالاً متتالية، فأمة تقرأ القرآن وتقيم الحلقات في المساجد وتبذل من أجل كتاب الله أمة لا تقهر بإذن الله ما دامت تحفظ كتاب الله وتقيم آياته.
وما يمر به العالم الإسلامي اليوم خاصة سحابة صيف وستنقشع بإذن الله: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227]، فاشغلوا أوقاتكم بالقرآن، واحفظوا صغاركم في حلقات القرآن، وادعموا حلقات القرآن، وابذلوا من أجل إقامتها في المساجد وفي البيوت.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا من خاصة أهل القرآن، اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا، وحفظنا إياه، وذكرنا منه ما نسيناه، وعلمنا منه ما جهلناه، وارزقنا تلاوته، وتدبر معناه، والعمل بمقتضاه، على الوجه الذي تحبه منا وترضاه، وارفعنا به الدرجات، وكفر عنا به الخطيئات، وألبسنا به الحلل، وأسكنا به الظلل، واجعله نوراً في وجوهنا، ونوراً في صدورنا، ونوراً في قبورنا، ونوراً وذخراً لنا يوم نلقاك يا رب الأرض والسماوات.
اللهم اجعلنا من خاصة أهله يا رب العالمين! اللهم اجعله قائدنا إليك وإلى جناتك جنات النعيم.
اللهم وفقنا لحفظه وإتمامه وإتقانه، ولا تحرمنا خير ما عندك بأسوأ ما عندنا يا حي يا قيوم! اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم من أرادنا وبلادنا وبلاد المسلمين بسوء فأشغله في نفسه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين! اللهم طهر بلادنا وبلاد المسلمين من الفواحش والمنكرات، وادفع عنا الغلاء والربا والزنا والفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا يا ربنا! من الراشدين، واحفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وادفع عنا شرور كل ذي شر يا رب العالمين.
اللهم لا تحرمنا خير ما عندك بأسوأ ما عندنا يا علي يا عظيم! اللهم اجعلنا من الذين هم على صلاتهم دائمون، واجعلنا من الذين هم على صلاتهم يحافظون، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
اللهم صل على محمد في الأولين، وصل على محمد في الآخرين، وصل على محمد في الملأ الأعلى إلى يوم الدين.
اللهم ارض عن صحابته أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وسائر الصحابة أجمعين.
اللهم اجمعنا بهم في جنات النعيم يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم.
ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(53/8)
استجيبوا لربكم
الاستجابة لله أمر يجب على كل مسلم أن يتمثله ويطبقه في جميع جوانب الحياة، فإن جزاء الرافضين للاستجابة عذاب أليم ونكال شديد يلقونه يوم الوعيد.
والاستجابة لله تكون بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وتطبيق ما أمر على أكمل وجه -بحسب قدرة الإنسان- ولا تكون في الرخاء دون الشدة أو العكس، بل لابد أن تكون في الحالتين معاً؛ لأن هذه هي الاستجابة الحقيقية، وعند المكاره والشدائد يتبين المستجيب الحقيقي من غيره.(54/1)
جزاء الذين رفضوا الاستجابة لله رب العالمين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر المسلمين! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله وبياكم، وسدد على طريق الحق خطاي وخطاكم، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني وإياكم في دار كرامته، وأن يجعلنا هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين، وأسأله سبحانه أن يحفظني وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
عنوان هذا اللقاء المبارك في هذه الليلة المباركة: استجيبوا لربكم.
وقد جاءت هذه الكلمات من رب الأرض والسماوات في سياق سورة الشورى، بل في آخر صفحة من صفحاتها، وهذه السورة مكية، ففيها وعد ووعيد، وفيها إنذار من رب العالمين، وفيها أوامر ونواهي، وقد توعد الله الذين خالفوا ولم يستجيبوا بعذاب أليم، ووعد الله أولئك الذين استجابوا لله والرسول بمغفرة ورضوان من رب العالمين.
وحتى يكون لهذه الآية وقع في نفوسنا، وأثر على قلوبنا فتعالوا نسترجع الآيات التي قبلها، ثم ننظر لماذا قال الله جل وعلا: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ} [الشورى:47]؟! قال سبحانه: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ * وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:44 - 46].
ثم قال جل في علاه بعد هذه الموعظة القرآنية: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ * فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ} [الشورى:47 - 48]، فيقرر الرب تبارك وتعالى مخبراً عن نفسه في هذه الآية الكريمة: أن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا راد لفضله، ولا معقب لحكمه، وأن من هداه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
ثم أخبر عن الظالمين من كفرة وعصاة ومجرمين أنهم لما رأوا النار وعاينوها حقيقة تمنوا الرجعة إلى الدنيا فقالوا: {هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:44] وهذا كما قال الله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ * وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ * قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:27 - 33].
إن أعظم المواعظ هي مواعظ القرآن، وأبلغ المواعظ هي مواعظ الرحمن جل في علاه الذي قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:57 - 58].
وتأمل في قولهم لما عاينوا العذاب: {هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ}، فإنهم يتمنون ولكن قد انتهى وقت الأمنيات، ثم قال الله: ((وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا)) أي: على النار والأهوال، ((خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ)) أي: لحقهم الذل والعار في ذلك اليوم؛ بسبب عصيانهم وتمردهم، وعدم استجابتهم لأوامر رب العالمين، ((يَنْظُرُونَ)) أي: إلى النار، ((مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ)) قال مجاهد: يعني: طرف ذليل حقير منكسر يسارقون النظر خوفاً من الوقوع بها، وهذا الذي يحذرون منه واقع بهم لا محالة.(54/2)
الخسارة الحقيقية
ثم قال سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} [الشورى:45]، يظهر في ذلك اليوم مقدار الربح والخسارة، والخسارة الحقيقية في ذلك اليوم العظيم أن تخسر نفسك وأهلك، وأن تخسر أحبابك وأقاربك في ذلك اليوم العظيم، يوم يفرّق بينهم إما إلى جنات وإما إلى دركات العذاب المقيم حيث يخسرون لذاتهم وشهواتهم ويخسروا أنفسهم؛ لأنهم لم يستجيبوا لرب العالمين، ((أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ)) أي: دائم أبديٌ سرمديٌ، لا خروج لهم منه ولا محيص، وليس هناك من ينصرهم في ذلك الموقف، أو يكون لهم شفيعاً أو نصيراً، كما قال الله: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:46] فأين أصحابهم وشياطينهم لينصرونهم أو يعينوهم أو يخففوا عنهم؟ فليس لهم نجاة ولا خلاص من ذلك اليوم العظيم.
وبعد أن ذكر الله تلك الأهوال والأمور العظام حذر منها وأمر بالاستعداد قبل فوات الأوان، فقال: ((اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ)) أي: لا دافع ولا مانع له، فهو يأتي كلمح البصر، كما قال جل في علاه: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:50].
فالأشقياء يومئذ يقولون: {أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة:10 - 13]، {مَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:118].(54/3)
كيف تكون الاستجابة لله
فاستجيبوا لربكم بتوحيده وعدم الإشراك به، استجيبوا لربكم بفعل أوامره وترك نواهيه، واستجيبوا لربكم بحب أوليائه ومعاداة أعدائه، واستجيبوا لربكم بحب رسوله وطاعة أوامره وترك نواهيه، واستجيبوا لربكم بالمحافظة على الصلوات، والمداومة على الطاعات، واستجيبوا لربكم بترك النواهي واجتناب المحرمات، فإن لم تستجيبوا: ((مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ)) أي: ليس لكم حصون تتحصنون بها، ولا مكان يستركم، فالله محيط بكم بعلمه وبصره وقدرته: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:93 - 95].
فالمقصود: استيجبوا لربكم قبل أن يأتي ذلك اليوم العظيم، وعليك يا محمد! -صلوات ربي وسلامه عليه- أن تحذر الناس وتبلغهم هذا الأمر العظيم، وتذكر لهم يوم القيامة وما فيه من الشدائد والأهوال، فإن أعرضوا فإنما عليك البلاغ، وهذا هو المطلوب من الرسل ومن أتباع الرسل ومن الدعاة المخلصين، قال الله عن رسوله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ * إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ} [الغاشية:21 - 24]، ثم قال له: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272].
ثم بين الله حال الإنسان عند النعم والرخاء والفرح، وحاله عند النقم والبلاء والشدة، فهناك أناس لا يعرفون الله إلا في الشدة، وأما في الرخاء فهم في لهو ولعب وضياع، كما قال الله: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا * قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} [الإسراء:83 - 84].(54/4)
جزاء الاستجابة لله تعالى
قال الله تعالى: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]، قال ابن القيم رحمه الله: ففي الاستجابة لله وللرسول حياة، وعلى قدر الاستجابة تكون هذه الحياة، فبعض الناس قد يأخذ بشيء ويترك شيئاً، فحياته على مقدار الشيء الذي يأخذه، وفيه من الموت بمقدار ما ترك من أوامر الله والتجرؤ على نواهيه، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام:122] أي: بنور الله تبارك وتعالى، وبوحي السماء الذي أنزله على أمين الوحي في الأرض، قال الله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:52 - 53].
فالمطلوب مني ومنك بعد سماع المواعظ القرآنية: الاستجابة لله وللرسول، كما قال الله: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24].
والمطلوب كما قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ * مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [الروم:43 - 45].
والمطلوب كما قال الله: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:31 - 32].
فها نحن ندعى إلى الاستجابة لأوامر الله قبل أن يحل ذلك اليوم العظيم، ولما دعي أولئك القوم وأمروا بالاستجابة أجابوا {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285].
عن أنس قال: كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر في بيت أبي طلحة وكان شرابهم إلا الفضيخ: البسر والتمر، فإذا منادٍ ينادي فقال أبو طلحة لـ أنس: اخرج وانظر ما شأن هذا الذي ينادي، فإذا منادٍ ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت، قال أبو طلحة: اخرج فأهرقها، قال: فأهرقتها حتى جرت بها سكك المدينة، فلما قرأت عليهم الآيات: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:90 - 91]، فكانت إجابتهم أن قالوا وقد ذعنوا لله رب العالمين: انتهينا ربنا! انتهينا ربنا، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51].
وليس للعبد ولا للأمة خيار غير الاستجابة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم.
جاء عند مسلم (أنه لما تنزل قوله تبارك وتعالى في أواخر سورة البقرة: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:284] جاء الصحابة، وجثوا على ركبهم عند النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله! أمرنا بما نستطيع ففعلنا: أمرنا بالصلاة فصلينا، وأمرنا بالصيام فصمنا، وأمرنا بالجهاد والقتال في سبيل الله فجاهدنا، وأمرنا بالنفقة والبذل والعطاء فأعطينا، ولقد تنزلت آية لا طاقة لنا بها، من منا يستطيع ألا يحدث نفسه، أو يستطيع أن يكتم ما في داخله عن حديث نفسه؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين لما دعوا إلى الاستجابة لله وللرسول فقالوا: سمعنا وعصينا؟! ولكن قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير)، فلما ذلت لها أنفسهم، وقرت بها قلوبهم، تنزل قوله تبارك وتعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285].
فلما أيقنوا وتيقنوا واستجابوا لأمر ربهم تبارك وتعالى، وذلت بها الأنفس والقلوب، نسخ الله تلك الآية بقوله تبارك وتعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:286]، فليس للمؤمن والمؤمنة خيار إلا الاستجابة لأوامر الله وأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].(54/5)
بين عبودية الرخاء وعبودية الشدة
عبد الله! إن لله عبودية في الرخاء، ولله عبودية في الشدة، وينجح الكثير في تحقيق عبودية الرخاء، بينما يفشل الكثير في تحقيق عبودية الشدة، وهل الحياة إلا امتحان واختبار ليميز الخبيث من الطيب، وهل يظهر الطيب ويظهر الرجال والنساء الصادقون والصادقات إلا في مواقف الشدة والامتحان والاختبار والابتلاء؛ لذلك سنة الله ماضية في امتحان الأولين والآخرين؛ ليعلم الصادق من الكاذب.
في مرة من المرات -حتى تعلم أن الأوامر كانت شديدة على أولئك الرجال والنساء فلم يتخلف منهم رجل واحد عن الاستجابة لأوامر الله وأوامر الرسول- ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل من أولئك الرجال الصادقين المستجيبين لأوامر الله وأوامر الرسول قائلاً له: (اذهب إلى مكة وائتني برأس خالد الهذلي)، وهذا رجل من هذيل يجمع الناس من حوله حتى يقتل النبي صلى الله عليه وسلم، واجتمع من حوله نفر كثير، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بخبره أرسل إليه رجلاً من الرجال الصادقين المستجيبين لأوامر الله وأوامر الرسول، فقال: (يا عبد الله بن أنيس اذهب إلى مكة وائتني برأس خالد الهذلي) فلم يعص هذا الجندي ولم يخالف وإنما قال: سمعاً وطاعة، لكن عندي سؤال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما هو؟ قال: يا رسول الله! لا أعرف الرجل، فما رأيته قط، ولا سمعت به قط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً له حال ذلك الرجل قال: (علامة الرجل أنك إذا رأيته تهابه) فلم يتردد المستجيب المؤمن الصادق مع صعوبة المهمة والتكليف، إنما قال: سمعاً وطاعة.
فانظر كيف أن النبي لم يرسل كتيبة ولا أرسل جيشاً كاملاً، وإنما أرسل رجلاً واحداً؛ لأن الرجل منهم في ذلك الحين كان يعدل ألفاً، لأن الرجل من أولئك الرجال الصادقين كان يعدل ألفاً من الرجال.
وخرج عبد الله بن أنيس وحيداً حتى وصل إلى منى حيث أقام خالد الهذلي معسكره، وهناك جاء -والحرب خدعة- وقال له: أنا جئت حتى أنضم إليك وإلى أولئك الذين يريدون أن يقتلوا محمداً صلوات ربي وسلامه عليه، فقربه منهم وأدناه، وبعدها بحين إذا به يسير هو وإياه بعيداً عن الخيام وعن أعين الناس؛ فانتهز الفرصة عبد الله بن أنيس واخترط سيفه فاجتز رقبة الرجل، ورجع يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المهمة قد تمت على أكمل وجه.
والوحي كان قد سبقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبين أن الجندي قد قام بالمهمة على أكمل وجه، فما إن رآه النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال: (أفلح الوجه! خذ عصاتي توكأ عليها أعرفك بها يوم القيامة) وقليل هم المتوكئون! فلما مات عبد الله بن أنيس أمر بتلك العصا أن تدخل معه في كفنه، آية وعلامة على أنه أطاع الله وأطاع الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومهما كانت الظروف والأحوال فلا بد من الاستجابة لأوامر الله ونواهيه ليس في الرخاء فقط، ولكن في الشدة تظهر معادن الرجال وحقيقة النساء، فالعبودية لا بد أن تحقق لله في الرخاء، ولا بد أن تحقق لله في الشدة.(54/6)
استجابة أهل بيعة العقبة لله ورسوله
تأملوا معي في بيعة العقبة وكيف تمت تلك البيعة، فقد تمت بنودها وشروطها على أن يكون الثمن الجنة إن استجابوا لله وللرسول، وحققوا بنود تلك البيعة.
وقد تكلم العباس حين التقى مع وفد الأوس والخزرج فقال: يا معشر الأوس والخزرج! إن محمداً في منعة في قومه ولكنه أبى إلا أن يلحق بكم، فإن أردتم وظننتم أنكم ستوفون له ببيعته فأنتم وما أردتم، وإلا فدعوه فإنه في منعة من قومه، فقال أولئك الرجال الصادقون المستجيبون: انتهيت يا عم النبي صلى الله عليه وسلم؟! قال: انتهيت، فقالوا: يا رسول الله،! خذ لنفسك ولربك ما شئت وما أردت، فقرأ عليهم القرآن، ثم قرأ عليهم بنود تلك البيعة.
فهذه البيعة نحن في أمس الحاجة اليوم إلى أن نجدد بنودها، ونحن في أمس الحاجة إلى أن نستجيب لبنود تلك البيعة، فوالله إن واقعنا اليوم في أمس الحاجة إلى تجديد تلك البيعة بكل ما فيها على أن نعلم أن الثمن الجنة.
بايعوا على النصرة في العسر واليسر، وبايعوا على النفقة في المنشط والمكره، وبايعوا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبايعوا على أن يقولوا كلمة الحق لا يخافون في الله لومة لائم، وبايعوا على أن يمنعوا النبي صلى الله عليه وسلم مما يُمنع منهم إزرهم -أي: نساءهم-.
فقال أبو الهيثم بن التيهان للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن تلا عليهم بنود البيعة: يا رسول الله! بيننا وبين القوم -يعني: اليهود في المدينة- عهود ومواثيق إن نحن قطعناها من أجل الله ورسوله ثم أظهرك الله أترجع إلى قومك وتتركنا؟ فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: (بل الدم الدم! والهدم الهدم! أنا منكم وأنتم مني) قالوا: يا رسول الله! إن نحن وفينا بهذه البيعة، بكل ما فيها فماذا لنا؟ قال: لكم الجنة، قالوا: مد يدك نبايعك، فقام أصغر القوم أسعد بن زرارة يبين للقوم مدى خطورة هذه البيعة التي قد أقدموا عليها، فقال: يا قوم! أتدرون على ماذا تبايعون؟ أنتم تبايعون على عداوة القاصي والداني، وسترميكم العرب من قوس واحدة، وأنتم تبايعون على ضياع الأموال، وهدر الدماء، وانتهاك الأعراض، وعلى ترميل النساء، وتيتيم الأطفال، فهذه هي حقيقة البيعة التي تبايعون عليها، فإن كنتم صادقين فعز الدنيا وعز الآخرة، وإلا فذل الدنيا وخزي الآخرة.
قالوا: انتهيت من كلامك يا أسعد! قال: نعم انتهيت، قالوا: يا رسول الله! مد يمينك نبايعك، فبايعوه على أن يكون لله وللرسول ما وعدوا ويكون لهم الثمن الجنة.
ثم انظر وانظري مدى صدق هؤلاء القوم واستجابتهم لأوامر الله وأوامر الرسول، فبعد أن بايعوا وعانقوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله! إنا أهل حرب ورثناها كابراً عن كابر، وإن شئت لنميلن على أهل منى غداً بأسيافنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لم نؤمر بعد، لكن هذا دليل على صدق استجابتهم وبيعتهم التي صدقها الله تبارك وتعالى حين قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:10].
ثم المواقف تبين مدى صدق هؤلاء الرجال قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح:18] ونظر الله إلى تلك القلوب الصادقة وإلى تلك القلوب المستجيبة رجالاً ونساءً فقال: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة:8]، فرضي الله عنهم لما استجابوا لأوامره ونواهيه في الشدة والرخاء، وفي السراء والضراء.
وكم نحن بحاجة إلى صادقين مستجيبين! وكم نحن بحاجة إلى صادقات مستجيبات لأوامر الله وأوامر الرسول في زمن تكالب علينا أعداؤنا من كل مكان! فنريد أن نحيي تلك البيعة، ونريد أن نحيي ذاك الثمن العظيم، ونريد أن تشتاق الأنفس إلى ما عند الله في جنات النعيم، ثم مرت الأيام والشهور ولحق النبي صلى الله عليه وسلم بأولئك الذين بايعوا إلى المدينة.(54/7)
استجابة الصحابة لله ورسوله يوم بدر وأحد
ثم بدأت المناوشات بين معسكر الكفر وبين معسكر الإيمان، وبدأ الكر والفر يمنة ويسرة، فخرجت قافلة من قريش تريد الشام، فاعترضها النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه ذهاباً، لكنها استطاعت أن تتجاوز ذلك الطريق، لكن تربص لها النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه في طريق العودة، فعلمت قريش بالخبر، فخرجت بجندها وصناديدها وكبرائها وفرسانها بألف رجل مدججين بالسلاح، في حين خرج محمد صلى الله عليه وسلم مع نفر من أصحابه لا يتجاوزون الثلاثمائة من الرجال بلا عدة وبلا عتاد أرادوا العير فإذا بهم يلاقون النفير.
فالآن يظهر مدى الاستعداد، وتظهر مدى الاستجابة لله وللرسول، فقد بايعوا في الرخاء على أن يوفوا ويكون الثمن الجنة، والآن أصبح الموقف جللاً، والخطب عظيماً، وتغيرت الأحوال، وتبدلت الظروف، وتآمر المتآمرون، واجتمع الأعداء لاستئصال جذور الإسلام ومحاربة أهله، فماذا هم صانعون في مثل هذا الموقف العظيم؟! قال الله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال:5 - 8].
فلما استجابوا واستعانوا بربهم قال: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9]، فشاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فالأمر شورى بينهم، فليس هو -بأبي وأمي- مستبداً برأيه، ولا طاغوتاً من الطواغيت.
قال تعالى: {أَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]، فقال: أشيروا علي أيها الناس؟! أشيروا علي أيها الناس؟! فأبدى المهاجرون رأيهم كـ أبي بكر وعمر إلى آخر أولئك الرجال.
والمهاجرون لم يخرجوا إلا وعندهم الاستعداد للاستجابة في كل زمان، وفي كل مكان، فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يكرر: أشيروا علي أيها الناس؟! لأن ثقل المعركة سيقع على كاهل الأنصار، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرف رأي أولئك الرجال الذين بايعوه عند العقبة في تلك الليلة المباركة على النصرة داخل المدينة.
فالآن هو خارج المدينة أمام جيش عرمرم، وهو في ظروف لم تكن على البال ولا في الحسبان، فشاورهم النبي صلى الله عليه وسلم، فتكلم المهاجرون وأحسنوا الكلام، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم رأي الأنصار، ثم قال: أشيروا علي أيها الناس؟! فتكلم سيد الأوس والخزرج سعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن، قال: يا رسول الله! كأنك تعنينا؟ -اسمع بارك الله فيك كيف تكون الاستجابة لأوامر الله، وأوامر الرسول في الرخاء وفي الشدة، مهما تبدلت الأحوال ومهما تغيرت الظروف- يا رسول الله! لقد آمنا بك، واتبعناك وصدقناك، فخذ حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، عاد من شئت وسالم من شئت، خذ من أموالنا ما شئت، واترك ما شئت، ووالله للذي أخذته أحب إلينا مما تركت، والله لو أمرتنا أن نرمي بأنفسنا من أعالي الجبال لرميناها، ما تخلف منا رجل واحد، والله لو خضت البحر لخضناه أمامك ما تخلف منا رجل واحد! ومن تلك الكلمات العظيمة التي قالها المستجيبون لله وللرسول قالوا: (والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون)، فهكذا تكون الاستجابة لله وللرسول في الرخاء والشدة مهما تغيرت الظروف والأحوال.
(يا رسول الله! إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فتهلل وجهه صلى الله عليه وسلم وقال: إن الله وعدني إحدى الطائفتين)، قال تعالى: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:42].
ففي المواقف يظهر الرجال، وفي المواقف تظهر النساء الصادقات المستجيبات لأوامر الله وأوامر الرسول، وفي مثل هذه الظروف التي نحياها اليوم نريد أن نرى مواقف الصادقين والصادقات، والمستجيبين والمستجيبات، ففي الرخاء الكل يدعي وأما في الشدة: فكل يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك فاشتدت الظروف والأحوال على أصحاب محمد صلوات ربي وسلامه عليه ورضي الله عنهم أجمعين، ومع هذا ما تخلف منهم رجل واحد، والأيام تبرهن على صدقهم، وعلى مدى استجابتهم، والأيام والليالي تبين على أنهم استجابوا لأوامر الله وأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم.
فانتصروا في بدر، وذاقوا حلاوة الانتصار، فأراد الله أن يربيهم فأذاقهم طعم الهزيمة يوم أحد حتى يعرفوا أسباب تلك الهزيمة، فيتجنبوا تلك الأسباب التي لا بد أن يتذوقوها حتى يعرفوا مرارة الهزيمة وحلاوة الانتصار، فالذي حدث في أحد أنه انقلبت الموازين بعد أن خالفوا أوامر الله وأوامر الرسول، فلعدم استجابة واحدة لأوامر الله وأوامر الرسول انقلب الحال حتى كاد يقتل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم العظيم.
وتخيلوا عدم استجابة واحدة قلبت الموازين رأساً على عقب! فكم هي أعداد عدم الاستجابات اليوم؟! أما تداعى القوم علينا كما تتداعى الأكلة على القصعة من كل مكان ومن كل حدب وصوب؟ فقد أصبحنا اليوم عالماً مستضعفاً مستذلاً من جميع الأطراف ومن كل النواحي، ولو كان عندنا استجابة كما كانت عند أولئك الرجال والنساء لما تجرأ علينا أولئك القوم.
لكن لا بد أن ننصف ونقول: لا زال هناك مستجيبون ومستجيبات، فلا بد أن ننصف ونقول: إنه لا زال هناك مستجيبون ومستجيبات لأوامر الله وأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم.
وتخيل معي في يوم أحد ذلك اليوم العظيم قتل أكثر من سبعين من كبار الصحابة، بل قتل أسد الله حمزة رضي الله عنه وأرضاه، وقتل سعد بن الربيع وأنس بن النضر، وقتل أولئك الرجال الأفذاذ، ورجعوا محملين بالهموم، نبيهم شج رأسه، وكسرت رباعيته، رجعوا وبهم غم لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، لكن الله قال: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} [آل عمران:166 - 167].
فالشاهد: أنهم رجعوا من المعركة في يوم السبت في النصف من شوال في السنة الثالثة من الهجرة بكل ما تحملوه من الهموم والغموم، وبما تحملوه من المصائب والآلام، فتخيلوا جروحاً تنزف، وأشلاءً تقطعت، وهذا فقد حبيباً! وهذا فقد قريباً! ثم الله يطالبهم في اليوم الثاني بالاستعداد للخروج مرة ثانية، فقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا سفيان تراجع في كلامه وقال: على ما فعلنا بهم لكننا لم نخرج ولم نحقق ما خرجنا من أجله، فراودته نفسه بالرجوع لمهاجمة المدينة مرة ثانية.
فأذن مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم بالاستعداد للخروج مرة ثانية، فالمعركة في يوم السبت وفي نهار الأحد أمروا بالاستعداد والخروج مرة ثانية، فكيف تكون استجابتهم مع ما تحملوه من هموم وغموم وجروح وآلام؟! وكانت الاستجابة كاملة في اليوم الثاني، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يخرج معنا إلا من خرج في اليوم الأول)، فتحامل الرجال على أنفسهم وخرجوا استجابة لأوامر الله وأوامر الرسول، فسطر الله تلك الاستجابة في آيات عظيمة تقرأ حتى يرث الله الأرض ومن عليها: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:172 - 175].
فانظر إلى صدق الاستجابة لأوامر الله وأوامر الرسول، فمن استجاب فإنما يستجيب لنفسه، ومن نكص على عقبيه فإنما ينكص على نفسه، و {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17].
ومن استجاب لأوامر الله وأوامر الرسول فهو المستفيد الأول من هذه الاستجابة، يستفيد منها في الدنيا، ويستفيد منها في الآخرة، فأما في دنياه فقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97].
وأما في الآخرة فقال تعالى: {لِلَّذِينَ أ(54/8)
الإسراء والمعراج وبدع رجب
إن حادثة الإسراء كانت مواساة للنبي صلى الله عليه وسلم، وبالمقابل كانت فتنة للكافرين وامتحاناً لضعاف الإيمان، الذين لم يخالط الإيمان بشاشة قلوبهم، فكفر مثل هؤلاء ولم يعودوا إلى دائرة الإسلام حتى قتلوا مفتونين.
وكذلك فإن هذه الحادثة العظيمة تأييد من الله عز وجل للرسول صلى الله عليه وسلم، ومعجزة عظيمة تؤكد لجميع من آمن به، أنه مرسل من عند الله عز وجل، وأنه أفضل الأنبياء، وإمام المرسلين وقائدهم.(55/1)
حسن المكافأة على حسن الصنيع
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله! يقول أهل السير: إن الإسراء والمعراج كانا مكافأة ربانية على ما لاقاه النبي صلى الله عليه وسلم من أفراح وأحزان، فلقد كان بعد حصار دام ثلاث سنوات في شعب أبي طالب، وما لاقى أثناءه من جوع وحرمان، ولقد كان بعد فقد الناصر الحميم وهو عمه أبو طالب، وفقد زوجته خديجة أم المؤمنين، ولقد كانت بعد خيبة الأمل في ثقيف وما ناله من سفهائها وصبيانها وعبيدها.
فبعد هذه الآلام كافأ الحبيب حبيبه، فرفعه إليه، وقربه وأدناه، وخلع عليه من حلل الرضا ما أنساه كل ما لاقاه، وكل ما سيلاقيه، فيعتبر الإسراء لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رحلة الطائف وما عاناه أثناءها تعويضاً عظيماً، وجائزة قيمة على صبره.
فتعال! رعاك الله نتأمل الموقفين، ونقارن بين الحالين: بين رحلة الطائف وبين رحلة الإسراء، فنلاحظ ما يلي: أنه ذهب إلى الطائف ماشياً بينما ذهب إلى بيت المقدس راكباً على البراق، وكان في صحبته إلى الطائف مولاه زيد بن حارثة، وصحبه جبريل عليه السلام في رحلة الإسراء، وفي الطائف استقبله بنو عبد ياليل بالسخرية والاستهزاء، وأغروا به العبيد والسفهاء، وفي رحلة الإسراء استقبله الأنبياء والمرسلون، وحيوه أعظم تحية.
وفي الطائف لم يجد من يأويه ليبلغ رسالة ربه، وفي الإسراء قدمه جبريل ليكون إماماً للأنبياء، وفي الطائف ضاقت به الأرض فلم يجد مكاناً يأوي إليه، وفي رحلة الإسراء استضافته السماء ليكون مقدماً بين أهلها، وليقف سكانها على علو شأنه عند ربه عز وجل، وفي الطائف لم يقر بنبوته أحد، وعاد منها كما دخلها، وفي رحلة الإسراء آمن به الأنبياء، وصدق رسالته أهل السماء، فجاءت رحلة الإسراء والمعراج تثبيتاً للنبي صلى الله عليه وسلم لما قد لاقاه ولما سوف يلاقيه في طريق الدعوة إلى الله.(55/2)
ذكر الإسراء في الكتاب والسنة والسير(55/3)
وقت الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم
عباد الله! لقد جاء ذكر الإسراء والمعراج في القرآن الكريم، وفي الأحاديث الصحيحة وفي كتب السيرة.
قال القرطبي: ثبت الإسراء في جميع مصنفات الحديث، وروي عن الصحابة في كل أقطار الإسلام، فهو من المتواتر بهذا الوجه.
وذكر القاسمي أنه رواه عشرون صحابياً.
عباد الله! متى كان الإسراء؟ إن هذا أمر مهم لا بد من بيانه؛ للقضاء على البدع والخرافات التي انتشرت في رجب وفي غير رجب من الشهور.
لقد اختلف العلماء في وقت الإسراء، فلا يعرف في الإسراء تاريخ محدد، ولكن أكثر أهل العلم على أنه بعد رحلة الطائف، ورحلة الطائف كانت في السنة العاشرة.
وأيضاً: ليس هناك مصلحة في معرفة اليوم والشهر إلا عند المبتدعة الذين يفعلون في تلك الليلة من البدع ما لم ينزل الله به سلطاناً، ولو كان هناك مصلحة في معرفة الوقت والتاريخ لعرفه الصحابة؛ فهم أولى بذلك.
وذكرت حادثة الإسراء لا لأنها وقعت في شهر رجب، وإنما ذكرتها لعظيم الفائدة، وحتى ننكر على المبتدعة ما يفعلونه في رجب وفي غير رجب.(55/4)
بيان مفهوم الإسراء والمعراج
أحبتي! ما معنى الإسراء؟ وما معنى المعراج؟ الإسراء: هو سير الليل، يقال: سريت مسرىً وأسريت إسراءً، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء:1].
وأما المعراج: فهو السلم الذي يصعد عليه، قال ابن إسحاق: أخبرني من لا أتهمه عن أبي سعيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لما فرغت مما كان في بيت المقدس أتي بالمعراج، ولم أر شيئاً قط أحسن منه، وهو الذي يمد إليه ميتكم عينيه) أي: أن الميت في ساعة الاحتضار يمد عينيه إلى السماء يشاهد المعراج؛ حيث سيعرج بروحه إلى السماء، (وهو الذي يمد إليه ميتكم عينيه إذا احتضر، فأصعدني فيه صاحبي -يعني: جبريل عليه السلام- حتى انتهى بي إلى باب من أبواب السماء).
فالأمر ليس كما يظنه كثير من الناس أنه صلى الله عليه وسلم ركب البراق إلى بيت المقدس، ثم ركبه إلى السماء، بل لما وصل إلى بيت المقدس ربط البراق بباب المسجد ثم دخل، ثم صعد على المعراج إلى السماء، ولما عاد ركب البراق إلى مكة ثانية، فـ ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا)).(55/5)
وقت صلاة النبي بالأنبياء في بيت المقدس
عباد الله! متى صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء هل ذلك حين ذهابه أو حين رجوعه؟ الظاهر من الأخبار: أنه صلى بهم بعد رجوعه من المعراج، فلما رجع من الحضرة الإلهية العظيمة هبط معه الأنبياء تكريماً له وتعظيماً، فهو قد التقاهم في السماء، وكان جبريل يعرفه بهم، فكان يقول: هذا فلان فيسلم عليه، فهذا إدريس! وهذا يوسف! وهذا هارون! وهذا موسى! وهذا عيسى! فلو كان اجتمع بهم قبل صعوده لما احتاج إلى التعرف إليهم مرة ثانية حين عرج به إلى السماء، ومما يدل على أنه صلى بهم حين عودته: أنه قال في الحديث: (فلما حانت الصلاة أممتهم) ولم يحن وقت صلاة حين ذاك إلا صلاة الفجر، فصلى الأنبياء خلف سيد الأنبياء والمرسلين، فعرف الأنبياء أن هذا هو إمام الأنبياء وأعظمهم، وإلا كيف يؤمهم في محلهم ودار إقامتهم؟! ثم ركب البراق وعاد إلى مكة.
ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك: يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبياً(55/6)
فضل المسجد الأقصى ومكانته في قلوب المسلمين
قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:1] قال القاسمي: والأقصى بمعنى: الأبعد، سمي بذلك لبعده عن مكة، وفي قوله: {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1] أي: جوانبه، وذلك ببركات الدنيا والدين؛ لأن تلك الأرض المقدسة مقر الأنبياء، ومهبط وحيهم، ومنمى الزروع والثمار، واكتنفته البركة الإلهية من كل نواحيه، فبركته مضاعفة؛ لكونه في أرض مباركة، ولكونه من أعظم مساجد الله، وقد قيل في خصائص الأقصى: أنه متعبد الأنبياء السابقين، ومسرى خاتم النبيين، ومعراجه إلى السماوات العلى، والمشهد الأسمى.
وهو بيت نوه الله به في الآيات المفصلة، وتليت فيه الكتب الأربعة، ومن أجل ذلك البيت أمسك الله الشمس ليوشع بن نون لكي لا تغرب ليتيسر فتحه على من وعدوا به.
وهو قبلة الصلاة في الملتين، وفي صدر الإسلام بعد الهجرتين، وهو أولى القبلتين وثاني المسجدين، ولا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه.
ومن فضائله: ما رواه أحمد والحاكم والنسائي وصححه الحاكم عن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل ربه ثلاثاً، فأعطاه اثنتين، وإني أرجو أن يكون قد أعطاه الثالثة، سأله حكماً يصادف حكمه، فأعطاه إياه، وسأله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه، وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد -يعني: بيت المقدس- إلا خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه) قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ونحن نرجوا أن يكون الله قد أعطاه هذا)، قال العلامة أحمد شاكر: إسناده صحيح، وصححه العلامة الألباني رحمه الله.
عباد الله! مما سبق يتبين لنا فضل المسجد الأقصى ومكانته في قلوب المسلمين، ولما استرجعه صلاح الدين من أيدي الصليبيين بدأ الإمام خطبة الجمعة فيه بقول الله تبارك الله وتعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45]، فنسأل الله كما قطع دابر الذي احتلوه في المرة الأولى أن يقطع دابرهم في المرة الثانية، وأن يستعملنا في ذلك، وأن يمتعنا الله بالصلاة فيه، وما ذلك على الله بعزيز.(55/7)
موقف الناس من خبر الإسراء
عباد الله! لقد كانت رحلة الإسراء والمعراج عزاءً وتثبيتاً للنبي صلى الله عليه وسلم لما لاقاه ولما سوف يلاقيه في سبيل الدعوة إلى الله، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الإسراء وقد امتلأ قلبه ثقة ويقيناً، كيف لا والله يقول: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:18]، كما أنه كان امتحاناً وابتلاءً لمن أسلم وآمن، فلما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر فما بين مصدق ومكذب، ولشدة الخبر ارتد بعض من آمن ولم يرسخ الإيمان في قلوبهم، ولم تخالط بشاشته القلوب.
جاء عند البخاري والترمذي عن ابن عباس في قوله تبارك وتعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء:60]، أي: امتحاناً وابتلاءً قال: هي رؤيا عين أريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت المقدس، وأما الشجرة الملعونة فهي شجرة الزقوم طعام الأثيم، أعاذنا الله وإياكم منها.
وكانت الفتنة في تلك الحادثة ارتداد قوم كانوا قد أسلموا حين أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد أسري به، ثم عرج به إلى السماء، وجاء المستهزئون إلى أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه فأخبروه بالخبر: إن صاحبك -يعنون محمداً- يدعي ليلة البارحة أنه أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى السماء، ثم عاد من ليلته، فقال الصديق رضي الله عنه وأرضاه، أو قد قال؟ قالوا: نعم، قال: صدق، إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك، إني أصدقه في خبر السماء يأتيه صباح مساء.
فثبت من ثبت عن بينة، وارتد من ارتد عن بينة.
والخلاصة: أن حادثة الإسراء كانت تطميناً ومواساة للنبي صلى الله عليه وسلم، وفتنة للكافرين، وامتحاناً لضعاف الإيمان الذين زلزل الحادث إيمانهم، فكفروا ولم يعودوا إلى دائرة الإسلام حتى قتلوا، فنسأل الله العفو والعافية.
فالفتن امتحان وابتلاء قال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3].(55/8)
كيفية الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم
عباد الله! كيف كان الإسراء؟ قال بعض العلماء: إن الإسراء كان رؤيا منامية، واستدلوا بقوله تبارك وتعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} [الإسراء:60].
وقال بعضهم: إن الإسراء كان بالروح والجسد، وأما المعراج فبالروح فقط.
والذي عليه معظم السلف والخلف من أئمة الأمة وعلمائها أن الإسراء والمعراج كان بالروح والجسد معاً، يقظة لا مناماً، يقول ابن حجر: وإلى هذا -يعني: الإسراء والمعراج بالروح والجسد- ذهب جمهور الأمة من العلماء المحدثين، والفقهاء والمتكلمين، وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، ومثله قال ابن القيم في زاد المعاد، قال العلماء: وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس -يعني: أن الإسراء بالروح والجسد، يقظة لا مناماً- ويرتاح إليه القلب، إذ لو كان الإسراء والمعراج بالروح فقط، وكان المقصود رؤيا منامية لم يستبعد المشركون ذلك، ولم ينكروه على النبي صلى الله عليه وسلم، ولما كان في ذلك آية ولا معجزة، فـ ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا)).(55/9)
الأحاديث الواردة في ذكر الإسراء والمعراج
عباد الله! وأما الأحاديث الواردة في ذكر الإسراء والمعراج فكثيرة يطول ذكرها، وأتمها حديث أنس عند مسلم وملخص تلك الروايات أنه صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل بالبراق -وهو دابة بيضاء فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه، وليس له أجنحة كما يظن كثير من الجهال- فركبه حتى أتى بيت المقدس، فصلى به ركعتين، ثم عرج به إلى السماء، فالتقى بالأنبياء، التقى بآدم وعيسى ويحيى وإدريس، ورأى إبراهيم مسنداً ظهره إلى البيت المعمور، فإذا هو يدخله في كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه إلى يوم القيامة.
ثم ذهب به إلى سدرة المنتهى، وإذا بورقها كآذان الفيلة، وثمارها كالقلال، فلما غشي السدرة ما غشَّى، هناك أوحى إليه ربه ما أوحى، فأمره بخمسين صلاة، -اسمع بارك الله فيك عظم قدر الصلاة حيث أنها شرعت في السماء- فلا يزال يأتي موسى فيرده إلى ربه: إسأل ربك التخفيف؟ حتى خفف الله على الأمة من خمسين إلى خمس صلوات، وهن بأجر خمسين فأين نحن من صلواتنا؟! ثم نزل صلى الله عليه وسلم بصحبة جبريل إلى بيت المقدس، فنزل الأنبياء يشيعونه، فصلى بهم صلاة الصبح بالمسجد الأقصى، ثم ركب البراق الذي تركه مربوطاً بحلقة الباب، وعاد إلى مكة في صبيحة تلك الليلة، وقد ذهب عنه كل كرب وغم وحزن، وعاد أكثر ثقة وطمأنينة، فقد رأى بأم عينيه ما كان تلقاه وحياً، وليس من رأى كمن سمع.
وجلس النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام وهو لا يدري كيف سيقابل قريشاً بهذا النبأ العظيم، فما زال جالساً حتى مر به أبو جهل، فسأله مستهزئاً: هل استفدت الليلة شيئاً يا محمد؟ فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، أسري بي الليلة إلى بيت المقدس.
قال أبو جهل: ثم أصبحت بين ظهرانينا! أسري بك في هذه الليلة ثم عدت من ليلتك؟! قال النبي صلى الله عليه وسلم واثقاً: أن نعم، قال أبو جهل: أأخبر قومك بهذا؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم واثقاً: نعم.
فقال أبو جهل: يا معشر بني كعب بن لؤي! هلموا فأقبلوا علي، فحدثهم النبي صلى الله عليه وسلم فما بين مصدق ومكذب، وواضع يده على رأسه استعظاماً للخبر، وتعجباً منه، ثبت من ثبت عن بينة، وارتد من ارتد عن بينة.
وجاء عند البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكربت كرباً ما كربت مثله قط، قال: فرفعه الله لي أنظر إليه، لا يسألوني عن شيء إلا أخبرتهم به، وأخبرهم عن عير لهم، ومتى وصولها، وصدق في ذلك، ومع هذا ما زادهم إلا عناداً وتكذيباً).
عباد الله! لقد كان الإسراء محنة قاسية للمؤمنين، واختباراً لصلابة إيمانهم، وثباتهم على عقيدتهم، لم يكن للعرب عهد بمثل هذه الخوارق، ولا ألفت نفوسهم سماع مثل هذه المعجزات التي تخالف ما تعودته نفوسهم من المحسوسات والماديات، إنهم يذهبون شهراً، ويعودون شهراً في رحلة الشام، فكيف يذهب محمد ويرجع في ليلة واحدة؟ بل في جزء من الليلة، فأخذ الشك يتسرب حتى إلى نفوس المؤمنين، وإن خبر السماء لأهون على نفوسهم من ذلك؛ لأن الذي يأتي بخبر السماء ملك من أهل السماء، وأهل السماء يقدرون على ما لا يقدر عليه أهل الأرض، ولهذا قالوا: والله إن العير شهراً من مكة إلى الشام مدبرة وشهراً مقبلة، أفيذهب محمد ويرجع في ليلة واحدة؟ لذلك قال أهل العلم: لم يكن الإسراء والمعراج مجرد خارقة من الخوارق أجراها الله لنبيه لتكون دليلاً على صدق ما ادعاه من النبوة، فإن صدقه صلى الله عليه وسلم قد ذاع قبل هذا، ولا يحتاج إلى دليل أو إلى غيره.(55/10)
دروس وعبر من رحلة الإسراء
لقد اشتمل الإسراء على دروس وعبر أهمها: أولاً: إثبات القدرة الإلهية، وأنه لا يستعصي على قدرته شيء، لهذا قال: ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا)) أي: تنزه عن كل نقص وعيب، إنها قدرة لا يقف أمامها حدود، ولا تعطل سيرها سدود، قال تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40].
ثانياً: هذه الرسالة عامة لجميع الأمم، فلقد وصل بيت المقدس وصلى فيه، ثم أم فيه الأنبياء وهو مهبط رسالاتهم ووحيهم، ولم يكن الاجتماع فيه لمجرد الاجتماع به، وإنما كان للإقرار بنبوته، وتفوقه عليهم في المكانة، وعلو قدره ومكانته عند ربه، وصلاته بهم اعترافاً منهم بحقه، ودعوة لأممهم لطاعته والاقتداء به، وإن تحول القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام دليل على أن أهل القبلتين لا بد لهم من اتباع قبلته.
ثالثاً: الإسراء دليل على أن الأرض كلها دولة إسلامية، وأن الدولة الإسلامية ليس لها حدود تنتهي عنده، فنبي الإسلام ولد في مكة، وأسري به إلى بيت المقدس، وهاجر إلى المدينة، وهاجر أصحابه إلى الحبشة، فالأرض لله يورثها من يشاء من عباده، قال الله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء:105 - 106].
وفي ذهابه إلى بيت المقدس وهو واقع في نطاق الإمبراطورية الرومانية إشارة إلى زوال تلك الإمبراطورية، وضمها إلى رقعة الدولة الإسلامية، ولقد تحقق ذلك مصداق قوله تبارك وتعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33].
فمرت أعوام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وفتح بيت المقدس، وذلك في عهد عمر رضي الله عنه واليوم: نساء سراييفو يتلفعن بالأسى وفي بيت لحم قاصرات وقصر أيا عمر الفاروق هل لك عودة فإن جيوش الروم ترغي وتزبد جيوشك في البلقان شدوا سروجهم ونحن في بيوتنا نلهو ونلعب اللهم ردنا إليك رداً جميلاً يا رب العالمين! أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(55/11)
شهر رجب والبدع الواردة فيه
الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وإخوانه.
عباد الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله عباد الله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281].
عباد الله! رجب شهر من الأشهر الحرم الأربعة، وهي ثلاثة متصلة: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم، وواحد فرد هو شهر رجب، واختلف في سبب تسمية هذه الأشهر حرماً على أقوال: فقيل: لعظم حرمتها وحرمت الذنوب فيها، وقيل: سميت حرماً لتحريم القتال فيها، وكان ذلك معروفاً في الجاهلية، وقيل: إن سبب التحريم لأجل التمكن من الحج والعمرة، فيأمن الحجاج على أنفسهم ذهاباً وعودة.
ومما يجب أن يعلم: أن رجب شهر كسائر الشهور يستحب فيه من الأعمال الصالحة ما يستحب في غيره من الشهور بلا تميز عن سائر الشهور، ولقد انتشرت بدع كثيرة لا بد من التنبيه عليها: أولها: صلاة الرغائب، وهي صلاة يصليها المبتدعة في أول خميس من شهر رجب بين المغرب والعشاء يصلون اثنتي عشرة ركعة، وهي ما أنزل الله بها من سلطان، قال الحافظ العراقي وغيره: حديثه موضوع لا أصل له.
ثانيها: صلاة ليلة المعراج، وإحياؤها والاحتفال بها، قلنا: ليلة الإسراء والمعراج ليلة غير معروفة، فلم يعرفها الصحابة فكيف يعرفها من بعدهم؟! فيحيونها في ليلة السابع والعشرين مبتدعين ومغيرين في دين الله، وليلة المعراج لم يعرف لها وقت معين.
ثالثها: تخصيص بعض الأيام بالصيام أو العمرة كالعمرة الرجبية، أو غيرها، وهذا أمر لم ينزل الله به سلطاناً، ولا دليل على ذلك.
ومما انتشر بين الناس في جوالاتهم وفي رسائلهم: التهنئة بدخول شهر رجب، بقولهم: اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان، قال أهل العلم: هذا حديث ضعيف، بل أنكره بعض أهل العلم.
فعليكم عباد الله بسنة نبيكم وسنة الخلفاء المهديين من بعده، عضوا عليه بالنواجذ، ولقد قال صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).
فاحذروا من البدع رعاكم الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وما وقع هؤلاء في بدعهم إلا لجهلهم بما أنزل الله تبارك وتعالى، والجهل يدفع بالعلم ويصده، فتعلموا بارك الله فيكم أمور دينكم، {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر الشرك والمشركين، وانصر عبادك الموحدين.
اللهم أقم علم الجهاد، واقمع على أهل الشرك والزيغ والعناد.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يقاتلون من أجل إعلاء كلمتك، اللهم حرر أقصانا من أيدي اليهود، ورد العراق لنا رداً جميلاً يا رب العالمين! اللهم أخرج الكفرة الصليبيين من بلاد المسلمين أذلة صاغرين، اللهم لا ترفع لهم في بلاد المسلمين راية، ولا تحقق لهم في بلاد المسلمين غاية، واجعلهم لمن خلفهم عبرة وآية.
اللهم عليك بهم وبمن والاهم، يا رب العالمين! اللهم اشدد وطأتك على أمريكا وأعوانها، اللهم اشدد وطأتك على اليهود الغاصبين، والشيوعيين والمنافقين يا قيوم السماوات والأرضين! اللهم فك أسرانا في كوبا وفي كل مكان، وهيئ لهم من أمرهم رشداً، واجعل لهم من أمرهم مرفقاً، وثبتهم على طاعتك يا رب العالمين! اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً يا رب العالمين! اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، لا خزايا ولا مفتونين.
اللهم لا تؤاخذنا بالتقصير، واعف عنا الكثير، وتقبل منا اليسير، إنك يا مولانا! نعم المولى ونعم المصير.
عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم.(55/12)
المهدي
من أبرز علامات القيامة الكبرى ظهور المهدي المنتظر، وهو من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، اسمه كاسمه واسم أبيه كاسم أبيه.
إنه يأتي ليملأ الأرض عدلاً ورحمة كما ملئت جوراً وظلماً.
وقد دلت على ظهوره الكثير من الأحاديث، وقد ذكر في التوراة والإنجيل، وسيمكث سبع أو ثمان سنين، وسيعيش المسلمون في عهده في أمان وسعةٍ من الرزق.(56/1)
ظهور المهدي حق
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله! إن عدالة السماء تقتضي أن يبعث الله تبارك وتعالى رجلاً للبشرية ليفصل في أمرها بحكمه عز وجل بعدما استشرى في الأرض الفساد والظلم، وبعد تعاسة الإنسان.
يأتي هذا الرجل بعد طول انتظار حلماً من الله تبارك وتعالى على عباده عسى أن يتوبوا، وإمهالاً لهم لا إهمالاً؛ ليميز الخبيث من الطيب، وليعلم المجاهدين من القاعدين، وليحيا من حيي عن بينة، وليهلك من هلك عن بينة.
هذا الرجل هو المهدي المنتظر، وسيظهر المهدي في آخر الزمان، وسيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً، وهو من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، واسمه كاسمه واسم أبيه كاسم أبيه، ويؤيده الله وينصره على أعدائه أعداء الإسلام، ويعيش المسلمون في عهده في أمان وسعة من الرزق.
وقد جاء ذكره في أكثر من ثمانين حديثاً تناقلها مئات الرواة وقد خرجها المهدي أبو داود والترمذي وأبو يعلى وابن ماجة والبزار والحاكم والطبراني، وأسانيد أحاديث هؤلاء بين ضعيف وحسن وصحيح.
وكما ادعى النبوة أقوام فقد ادعى المهدية أقوام، وآية كذب هؤلاء أنهم قتلوا، ولو كانوا كما يدعون لانتصروا وملئوا الأرض عدلاً.(56/2)
الأدلة على أن المهدي حق(56/3)
المهدي في القرآن
لقد جاءت الآيات تشير إلى ظهور المهدي، وجاءت السنة تبين ذلك، فأما القرآن فقد قال إمام المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله في قوله تعالى: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:114]: أما خزيهم في الدنيا فإنه إذا قام المهدي وفتحت القسطنطينية؛ قتلهم وأسرهم وسباهم، فذلك الخزي.
وحكى القرطبي عن قتادة والسدي: الخزي لهم في الدنيا قيام المهدي، وفتح عمورية ورومية والقسطنطينية وغير ذلك من مدنهم.
وقال الشوكاني: أما خزيهم في الدنيا فإنه إذا قام المهدي وفتحت القسطنيطينية.
وعن مقاتل بن سليمان في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف:61] قال: هو المهدي في آخر الزمان، وبعد خروجه تكون أمارات الساعة وقيامها.(56/4)
المهدي في السنة
إن أدلة خروج المهدي من السنة كثيرة كما ذكرت، منها: حديث علي رضي الله عنه عند ابن ماجة وأحمد -وهو في صحيح الجامع- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المهدي منا آل البيت، يصلحه الله في ليلة).
ومعنى (يصلحه الله في ليلة) أي: يتوب عليه، ويوفقه إلى طريق الرشاد والسداد، ويلهمه الصواب لمهمته العظيمة فيكون أهلاً لها.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المهدي مني -أي: من آل البيت- أجلى الجبهة -أي: واسع الجبهة-، منحسر الشعر، أقنى الأنف -أي: حاد الأنف، ليس بأفطس ولا معوج مع دقة أرنبته- يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، يملك سبع سنين) قال الألباني: إسناده حسن.
وجاء عند الحاكم في مستدركه من حديث أبي سعيد أيضاً: قال صلى الله عليه وسلم: (يخرج في آخر أمتي المهدي يسقيه الله الغيث، وتخرج الأرض نباتها، ويعطي المال صحاحاً، قال رجل: وما صحاحاً يا رسول الله؟ قال: أن يعطيه بين الناس بالسوية، وتكثر الماشية، وتعظم الأمة، ويعيش سبعاً أو ثمانياً).
وعند أحمد والنسائي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن تهلك أمة أنا في أولها، وعيسى بن مريم في آخرها، والمهدي في وسطها).
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: المهدي من عترتي من ولد فاطمة) رواه أبو داود والحاكم في مستدركه.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً مني أو من أهلي يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي) رواه أبو داود والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الدجال فقال: فتنفي المدينة الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد، ويدعى ذلك اليوم يوم الخلاص، قالت أم شريك: فأين العرب يا رسول الله يومئذ؟ قال صلى الله عليه وسلم: هم يومئذ قليل، وجلهم ببيت المقدس، وإمامهم المهدي -رجل صالح-، فبينما إمامهم المهدي تقدم ليصلي بهم الصبح إذ نزل عيسى بن مريم وقت الصبح، فيرجع ذلك الإمام ينكص يمشي القهقري ليتقدم عيسى، فيضع عيسى يده بين كتفيه ثم يقول له: تقدم فإنها لك أقيمت، فيصلي بهم إمامهم) يعني: المهدي.
رواه الحاكم وابن ماجة وابن خزيمة وأبو نعيم واللفظ له.
وهذا شرف عظيم لهذه الأمة أن يصلي عيسى نبي الله خلف رجل منها.
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ملك الأرض أربعة مؤمنان وكافران، فالمؤمنان: ذو القرنين وسليمان عليه السلام، والكافران: النمرود وبختنصر، وسيملكها خامس من أهل بيتي) أخرجه ابن الجوزي في تاريخه.(56/5)
أقوال العلماء في المهدي
عباد الله! أما أقوال العلماء في أن المهدي حق، فلقد قال شيخ الإسلام في منهاج السنة النبوية: الأحاديث التي يحتج بها على خروج المهدي أحاديث صحيحة.
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: وقد ورد ما يدل على أن المهدي من ذرية الحسن رضي الله عنه، كما رواه أبو داود وغيره.
وقال الحافظ ابن كثير في نهاية البداية والنهاية: فصل في ذكر المهدي الذي يكون في آخر الزمان، قال: وهو أحد الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، وليس بالمنتظر الذي تزعم الروافض، وترتجي ظهوره من سرداب سامراء، فإن ذلك ما لا حقيقة له ولا عين ولا أثر.
وقال ابن القيم في إغاثة اللهفان: والمسلمون ينتظرون نزول عيسى عليه السلام من السماء لكسر الصليب، وقتل الخنزير، وقتل أعدائه من اليهود وعباده من النصارى، وينتظرون خروج المهدي من أهل بيت النبوة يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً.(56/6)
المهدي في الكتب السابقة
لقد جاء ذكر المهدي في كتب اليهود والنصارى! قال كعب الأحبار رضي الله عنه: إني لأجد المهدي مكتوباً في أسفار الأنبياء ليس في حكمه ظلم ولا عنت.
وجاء في سفر التثنية الإصحاح الرابع، والخطاب لليهود: إذا كثرت ذريتكم، وعمرتم الأرض، وعلوتم العلو الأخير، وتعاظمت خطاياكم، وحاولتم إغاظة الرب؛ فإني أشهد عليكم هذه السماء، وأشهد عليكم هذه الأرض التي تعبرون إليها إلى نهر الأردن لعلكم تملكونها، إنكم لن تعيشوا طويلاً، بل سوف تهلكون، وبيد الفتى المنتظر.
سبحان الله! وبنفس النعت (الفتى المنتظر)، ثم تأمل في قوله: وعلوتم العلو الأخير.
قال سبحانه: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء:4 - 7].(56/7)
سبب تسميته بهذا الاسم
عباد الله! لماذا سمي المهدي بهذا الاسم؟ هناك أقوال عدة منها: عن كعب الأحبار رضي الله عنه قال: إنما سمي المهدي لأنه يهدى إلى أمر خفي، ويستخرج التوراة والإنجيل من بلد يقال لها: أنطاكية.
وقال ابن الأثير: المهدي الذي قد هداه الله إلى الحق.
وذكر السيوطي إنما سمي بالمهدي لأنه يهدى إلى جبل من جبال الشام يستخرج منه أسفار التوراة يحاجج بها اليهود، فيسلم على يديه جماعة منهم.
إذاً: فـ المهدي اسم على مسمى، فهو رجل هداه الله للهدى، وثبته عليه، وأيده بجند من عنده، وسيهدي الأمة لطريق العزة والرشاد والتمكين، فأسأل الله أن يعجل بظهوره.(56/8)
صفات المهدي
مر بنا قوله صلى الله عليه وسلم من حديث ابن مسعود: (المهدي فتى أجلى الجبهة -أي واسع الجبهة-، أقنى الأنف -أي: طويل الأنف مع دقة أرنبته-، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، يملك سبع سنين).
وعن أبي جعفر بن علي الباقر رضي الله عنهما قال: سئل الإمام علي رضي الله عنه عن صفة المهدي فقال: هو شاب مربوع حسن الوجه، يسيل شعره على منكبيه، يعلو نور وجهه سواد شعره ولحيته ورأسه.
وجاء في كتاب المسيح الدجال وأسرار الساعة للسفاريني: بأنه آدم -أي: أسمر- ضرب من الرجال -أي: نحيف ممشوط لا طويل ولا قصير- أجلى الجبهة، أقنى الأنف، أزج -أي: حاجبه فيه تقويس مع طول طرفه-، أكحل العينين، واسع العينين، براق الثنايا أفرقها، منفرج الفخذين، وفي لسانه ثقل، وإذا أبطئ عليه ضرب فخذه الأيسر بيده اليمنى، وفي رواية: (ما بين ثلاثين وأربعين، خاشع لله خشوع النسر بجناحيه).
وأما من يوطئ له ملكه فلقد جاء عند ابن ماجة عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقتتل عند كنزكم ثلاثة كلهم ابن خليفة ثم لا يصير إلى واحد منهم، ثم تطلع رايات سود من قبل المشرق فيقتلونكم قتلاً لم يقتله قوم، قال: ثم نسيت ما قال، ثم قال: فإذا رأيتموه فبايعوه ولو حبواً على الثلج، فإنه المهدي).
قال ابن كثير: المراد بالكنز المذكور كنز الكعبة، فيُقتل عنده، يأخذه ثلاثة من أولاد الخلفاء، حتى يكون آخر الزمان، فيخرج المهدي، ويكون ظهوره من بلاد المشرق لا من سرداب سامراء كما يدعي ويزعم بعض الجهلة.
قال ابن كثير: ويؤَيد بناسٍ من أهل المشرق ينصرونه، ويقيمون سلطانه، ويسترون أركانه، وتكون راياتهم سود، وهو زي الوقار؛ لأن راية النبي صلى الله عليه وسلم كانت سوداء يقال لها: العقاب.
عباد الله! إن خروج المهدي حدث عظيم، وعلامة من علامات الساعة الكبرى، وقبل حدوث مثل هذه الأحداث العظام تسبقها أمارات وعلامات تبين قرب وقوعها، وسأذكر بعضاً منها في الخطبة الثانية.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(56/9)
علامات تسبق ظهور المهدي
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه، وكثير نعمه، وعفوه وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه أجمعين، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى من استن بسنته واهتدى بهديه إلى يوم الدين، واجعلنا معهم بمنك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين! أما بعد: عباد الله! فأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله، ومن تقواه الاستعداد للقائه بالإيمان بآياته، واتباع كتابه، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم الذي أخبرنا عن الساعة، وعن علاماتها وأماراتها وأشراطها، ومنها خروج المهدي، وخروجه تسبقه أشراط وعلامات تبين قرب ظهوره.
ولقد وردت آثار وتواردت أخبار عن علامات تسبق ظهور المهدي منها حرب وهرب وإدبار وفتن شداد، وكرب وبوار، وظلم وجور واعتداءات، فيظهر إذا امتلأت الأرض ظلماً وجوراً، وقد أوشكت.
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلاء يصيب هذه الأمة حتى لا يجد الرجل ملجأ يلجأ إليه من الظلم، فيبعث الله رجلاً من عترتي فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، يرضى عنه ساكنو السماء وساكنو الأرض، لا تدع الأرض من قطرها شيئاً إلا صبته مدراراً، ولا تدع الأرض من نباتها شيئاً إلا أخرجته، حتى يتمنى الأحياء الأموات لما يرون من الأمن والسعادة والبركة وعز الإسلام، يعيش في ذلك سبع سنين أو ثمان).
وهو يظهر -بارك الله فيك- عند تجبر الملوك والطغاة.
وعن حذيفة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ويح هذه الأمة من ملوك الجبابرة! كيف يقتلون ويخيفون المطيعين إلا من أظهر طاعتهم؟!) فالمؤمن التقي يصانعهم بلسانه، ويفر منهم بدينه، فإذا أراد الله أن يعيد الإسلام عزيزاً قصم كل جبار عنيد، وهو القاهر على أن يصلح أمة بعد فسادها.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (يا حذيفة! لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يملك رجل من أهل بيتي) تجري الملاحم على يديه، ويظهر الإسلام، ولا يخلف الله وعده، والله سريع الحساب.
ومن العلامات التي تسبق ظهور المهدي: استحلال البيت، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يبايع لرجل بين الركن والمقام، ولن يستحل البيت إلا أهله).
ومن العلامات أيضاً: أن يكون المسجد النبوي كالقصر الأبيض، قال صلى الله عليه وسلم: (يوم الخلاص وما يوم الخلاص، قالوا: يا رسول الله! وما يوم الخلاص؟ قال: يجيء الدجال فيصعد على أحد فيطلع إلى المدينة ويقول لأصحابه: أترون هذا القصر الأبيض؟ هذا مسجد أحمد).
فما رأيكم! كيف هو المسجد النبوي اليوم؟ سأترك الجواب لكم.
ويسبق ظهوره أيضاً: انتشار الربا حتى يصبح أمراً معتاداً، فقد روى أبو داود وابن ماجة والحاكم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليأتين على الناس زمان لا يبقى منهم أحد إلا أكل الربا، فمن لم يأكله أصابه غباره).
عباد الله! إن انتشار الربا في العالم اليوم لأمر جلي لا يخفى على أحد، ولا ينكره إلا غبي، فأعمال البنوك والمصارف كلها تقوم على النظام الربوي اليهودي، وحتى الذين ينكرونها ويستنكرونها يضطرون للتعامل معها ولو بمس الغبار كما أخبر الصادق المصدوق، ومع أن الله يلعن ويحارب المرابي إلا أن العالم يغرق في الربا ويعلن الحرب على الله دون حياء؛ ولهذا فالعالم يئن من الشقاء والحروب والويلات والتعاسة، وصدق الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278 - 279].
وقال صلى الله عليه وسلم: (الربا سبعون باباً أدناها كوقع الرجل على أمه)، وفي رواية: (كالذي ينكح أمه)، ومع هذا الوعيد فلا زالت الأمة تغرق في الربا بلا حياء! ومن علامات ظهوره أيضاً: ضياع الأمانة، عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن أعرابياً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ فقال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: يا رسول الله! وكيف إضاعتها؟ قال صلى الله عليه وسلم: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة).
فهذه أشراط الساعة وعلاماتها قد ظهرت فينا والله المستعان! قال الله: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ * فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد:18 - 19].
عباد الله! إن المهدي سيخرج ولكن متى؟ الله أعلم، وليس المطلوب من الأمة أن تركن وتقعد عن العمل، وتتكاسل أملاً في ظهوره يوم كذا من شهر كذا من عام كذا، ولكن عليها أن تعمل وأن توطئ الأمر لظهوره وخروجه، ونعد لذلك أنفسنا، ونعد له رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وهؤلاء هم الغرباء الذين إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا، ووالله! إن العالم اليوم ليئن ويشتكي من الظلم والجور، ونداءات المظلومين تنادي: يا أيها الإنسان هل تبكي لما أبكاني أرأيت ماذا قد حصل في العالم الحيران اليأس يعصف بالأمل ويهز كل كياني ألا فليستيقن المستضعفون بأن الله سينصر دينه برجل من هذه الأمة، وليستبشروا فإن الفرج قريب، قال الله: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:50].
ألا فليعلم أعداء الله أن الله سيتم نوره ولو كره المشركون، قال سبحانه: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18] ويقول: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الموحدين، اللهم انصر من نصر الدين واخذل من خذل عبادك الموحدين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا.
اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين! اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق يا ذا الجلال والإكرام، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يقاتلون من أجل إعلاء كلمة دينك، اللهم انصر من نصرهم، واخذل من خذلهم، وصن أعراضهم، واحقن دماءهم، وفك أسرانا وأسراهم يا رب العالمين! اللهم من أرادنا وبلادنا بسوء وبلاد المسلمين فأشغله في نفسه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين! اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا يا ربنا! من الراشدين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، واحفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
عباد الله! صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة عليه فقال جل من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم ارض عن صحابته أجمعين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، واجعلنا معهم بمنك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين! اللهم لا تؤاخذنا بالتقصير، واعف عنا الكثير، وتقبل منا اليسير، إنك يا مولانا! نعم المولى ونعم النصير.
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90] فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(56/10)
أمر عجيب
نعمة الهداية هي سر السعادة في الدنيا والآخرة، فصاحبها مرتاح البال، مطمئن القلب، فإذا أصابته سراء شكر، وإذا أصابته ضراء صبر، فهو على خير في كل حال من أحواله.
وفاقد هذه النعمة لا قيمة له، والعجب كل العجب ممن يرجو الفوز والفلاح ولا يبذل الأسباب لذلك، ولنا في سلفنا الصالح من الصحابة والتابعين ممن سلك طريق الهدى والاستقامة خير قدوة في امتثال أسباب الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.(57/1)
نعمة الهداية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، طبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وحياكم الله وبياكم، وسدد على طريق الحق خطاي وخطاكم، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم كما جمعني وإياكم في هذا المكان أن يجمعني وإياكم في دار كرامته إخواناً على سرر متقابلين، وأسأله سبحانه أن يحفظني وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلنا هداة مهتدين، لا ضالين ولا مضلين.
إن المقصد والهدف من هذا الاجتماع أن نسير أنا وإياكم يداً بيد كي ننجو من عذاب الله، ونفوز برحمته تبارك وتعالى؛ لذا اخترت لكم حديثاً عن نعمة عظيمة الكل يتمناها، والكل يقول: ادعوا لي بهذه النعمة، وهذه النعمة التي سأحدثك عنها هي سر السعادة في الدنيا والآخرة، وصاحب هذه النعمة سعيد مرتاح البال، مطمئن القلب، إذا أصابته سراء شكر، وإذا أصابته مصيبة صبر، فهو على خير على كل حال من أحواله، وهذه النعمة تنفع صاحبها في الدنيا وعند الموت وبعد الموت، فأما في الحياة فحياة طيبة، وأما عند الموت فثبات من رب الأرض والسماوات، وأما بعد الموت فأمن وأمان، قال الله: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} [الأنبياء:103]، أي: أصحاب هذه النعمة، {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:103 - 104].
والناس بدون هذه النعمة لا قيمة لهم، فهم أموات في صور الأحياء وإن أكلوا وإن شربوا، وإن غدوا وراحوا، فلعلك عرفت هذه النعمة، إنها نعمة الهداية، إنها الميلاد الجديد والحياة الجديدة، إن لكل واحد منا ميلادين: الميلاد الأول: هو يوم أن خرجنا من بطون أمهاتنا لا نعرف شيئاً، فخرجنا نبكي لا ندري ماذا يراد بنا في هذه الحياة: أنت الذي ولدتك أمك باكياً والناس حولك يضحكون سروراً فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسروراً وأما الميلاد الثاني وهو الأهم: فهو يوم أن يسلك العبد طريق الهداية والاستقامة، ويعلن التوبة والرجعة والإنابة إلى الله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ كعب بن مالك يوم أن تنزل القرآن يعلن فيها توبة الله على أولئك الثلاثة الذين خُلِّفوا: (يا كعب! أبشر بخير يوم منذ ولدتك أمك)، فيوم التوبة ويوم سلوك طريق الاستقامة هو أعظم وأفضل يوم في الحياة، يوم أن يرجع العبد إلى الله، فيفرح الله تبارك وتعالى بذلك وهو الغني تبارك وتعالى عن عباده.
أيها المسلمون! كلنا ذوو خطأ، وخير الخطائين التوابون، وليس عيباً أن نخطئ، لكن العيب كل العيب أننا نتمادى في الخطأ ونستمر فيه، وأنا أعرف وعلى يقين أن أمامك فتناً كثيرة، ومغريات كبيرة، لكن طريق الاستقامة واضح بيِّن، فقد سلكه الكثير فوجدوا فيه الراحة والسعادة والطمأنينة، فإن كانوا قد استطاعوا أن يسلكوا هذا الطريق فأنت أيضاً تستطيع أن تسلكه، فالفتن تواجههم كما تواجهك أنت، لكنهم عرفوا معنى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، وأنت كذلك تعرفها، وأنت من أهل هذه الكلمة العظيمة، فاسلك الطريق ففيه سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.(57/2)
بذل السبب في الحصول على الحق
إن المطلوب مني ومنك أن نبذل السبب حتى نحصل على ما نريد، والعجب كل العجب أننا نبذل الأسباب لكل شيء إلا لنعمة الهداية، وصدق من قال: ترجو السلامة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس وتأمل معي هذه المواقف وقل عجباً: عجيب أنك ترى ساعة في طاعة الله طويلة مملة، ثم في المقابل أنت تجلس تسعين دقيقة في ملعب كرة القدم، بل وتفرح إذا كان هناك وقتاً إضافياً.
وعجيب أنك لا تستطيع أن تقرأ جزءاً واحداً من القرآن، ثم في المقابل أنت تقلب الجرائد والمجلات لساعات طويلة.
عجيب أنك لا تستطيع أن تجلس ساعة واحدة في المسجد لخطبة أو محاضرة، ثم في المقابل أنت تجلس ساعات وساعات أمام الشاشات والقنوات.
وعجيب أنك لا تستطيع أن تحفظ سورة من القرآن، ثم أنت في المقابل تحفظ القصائد وتحفظ الأشعار، بل حتى الأغاني والألحان.
وعجيب أنك تريد أن تكون من أهل الجنة التي فيها (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، فماذا عملت لها حتى تكون من أهلها؟ فما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا فلا زلت مصراً على ترك الصلوات، وارتكاب المعاصي والمنكرات، فنهارك نوم وكسل، وليلك غفلة وفشل.
فتعال معي نصنع مقارنة بين شاب مستقيم وبين شاب آخر، ثم نقرر أيهما خير:(57/3)
مقارنة الشباب بين شاب مستقيم وآخر غير مستقيم
الشاب المستقيم طاهر القلب، سليم الصدر، يشع وجهه بالنور، وتكسوه لحية وهبها أحسن الخالقين إليه؛ كي تكون علامة فارقة وسمة تميزه عن غيره من الغافلين، وأما الآخر فخبيث النفس، ضيق الصدر، معتم الوجه، يسعى جاهداً لتغيير خلق الله، دائماً يبحث عن السعادة المزعومة فلا يجدها، فأيهما خير؟ والشاب المستقيم يلجأ إلى الله في كل حين مستيقناً قلبه قائلاً {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:5 - 7].
والآخر يتوجه إلى غير الله من المخلوقات والجمادات، فيدعوها ويستعينها ويستهديها، ويوالي من حاد الله ورسوله، ويتبرأ من أهل الخير، وينعتهم كما نعتهم به أسياده من التزمت والرجعية والإرهاب والتطرف، فمثله كمثل الإمعة، {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44]، فأيهما خير؟ والشاب المستقيم يزاحم إخوانه عند أبواب المساجد وبين أيدي العلماء، ويتعلم العلم النافع، ويتقرب إلى الله بحب الدعاة والعلماء، وأما الآخر فإنه يزاحم أقرانه عند أبواب المجمعات والأسواق والجسور المهلكة؛ بحثاً عن السعادة: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67]، فأيهما خير؟ والشاب المستقيم تسمعه يقول لإخوانه: جزاك الله خيراً، وزوجك بكراً، وبارك الله فيك، ولا تنسنا من صالح الدعاء، ورحمك الله ووالديك، وأما الآخر فلسانه دائماً يقذف بالشرر من اللعن والسباب ونابي الألفاظ، وأسماؤهم وأنعاتهم: أبو غضب وأبو عاصي والمحروم والمجرم وهلم جراً، والصفة تتبع الموصوف، فأيهما خير هذا أم ذاك؟ والشاب المستقيم منتج للمجتمع، فهو يفشي السلام، ويطعم الطعام، ويصل الأرحام، ويقيم حقوق الجيران، فهو لا يقف أمام مصالح المسلمين، فلا يسد باباً، ولا يعترض مرئاباً للسيارات، ويبتسم في كل حين من أثر السعادة التي غمرت قلبه، وانعكست على جوارحه، ويحافظ على أنظمة المرور من باب طاعة ولاة الأمور، وشعاره: اجعل المكان كما كان أو أحسن مما كان، لا يعرف معنى الفراغ، فهو كالنحلة لا يكل ولا يمل في العمل لهذا الدين، فهو كالنور والزهر والماء والهواء للمجتمع.
وأما الآخر فهو أداة تخريب وهدم ودمار للمجتمع، فهو لا يفعل مما سبق ذكره، بل يملأ الشوارع تفحيطاً وتجديعاً، ومخالفة للأنظمة، وإضراراً بالآخرين، ولا يعرف معنى الوقت ولا معنى الحياة، ودائماً يردد: الحياة ملل في ملل، فهو كالحنظلة للمجتمع، وهو صفراً على الشمال، بل الشمال على الصفر له قيمة في بعض الأحيان.
والشاب المستقيم أفضل من يبر بوالديه، ويحترم إخوانه، فيوقر الكبير، ويرحم الصغير، وأما الآخر فعباراته لوالديه: أف وآه، واللهم طولك يا روح، وكلمات كلها تجرح الوالدين، وهو أناني لا يحب إلا نفسه، ولا يقضي إلا حاجاته، فأيهما خير هذا أم ذاك؟ والشاب المستقيم قدوته النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة الأطهار، والعظماء الفاتحين، وأما الآخر فقدوته في هذه الدنيا اللاعب الفلاني، والمغني فلان، بل بعضهم قدوته من الكفار، نسأل الله العفو والعافية، فأيهما خير؟ والشاب المستقيم يكتم شهواته بالصيام، والصلاة والقيام، وخدمة الإخوان، وأما الآخر فيفتح شهواته بالإنترنت والفيديو والشوارع والأسواق وغير ذلك من أنواع المحرمات، فأيهما خير؟ والشاب المستقيم يذكر الله كثيراً، وهو مبارك أينما حل، ومبارك في زوجه وفي ماله وفي ولده، وأما الآخر فلا يذكر الله إلا قليلاً، وقد محقت بركة رزقه وبركة أولاده، بل حتى البركة في نفسه ووقته، فالله المستعان.
لكن قل لي: أيهما خير هذا أم ذاك؟ والشاب المستقيم يحمل هم الأمة، فيدعو لها، ويعمل لنصرتها، وهو بعيد النظر في التفكير، ودقة في التحليل، ودائماً يفكر في معالي الأمور، وأما الآخر فيحمل هم بطنه وهم شهوته، ولا يدري من هو ولا إلى أين يسير، فمثله في الدنيا: مع الخيل يا شقراء، وحشر مع الناس عيد، وأكبر همه كل سافل وحقير.
والشاب المستقيم إذا مات مات ميتة كريمة، فينطق لسانه بالشهادة، ويشع وجهه نوراً، ولعلك تشم منه رائحة المسك، وقد لا يتعفن، فهو يدعو الله أن يرزقه الشهادة في سبيل الله آناء الليل وأطراف النهار، (من طلب الشهادة بحق بلغه الله مرتبة الشهداء وإن مات على فراشه)، وأما الآخر إذا مات مات ميتة حقيرة، فتسحب روحه سحباً، وتقطع بها أحشاؤه، ولا يستطيع النطق بالشهادة، كالح الوجه، منتفخ ثقيل، لا يترحم عليه أقرانه في الدنيا، ولا يذكرونه بخير.
وكم سمعنا عن شباب ماتوا في الحمامات، وبعضهم في أحضان المومسات على سكر ومخدرات، فأي الفريقين تريد؟ وأيهما خير هذا أم ذاك؟ وماذا تنتظر؟ وكثير من الشباب ينتظر مصيبة تحل على رأسه، وكثير من الشباب اغتر بإمهال الله له، فينتظر مصيبة تحل على رأسه أو قارعة تصيبه في أهله حتى يرجع إلى الله، وما يدريك لعلها إن حلت المصيبة أو القارعة أنها تكون القاضية.(57/4)
قصة هداية شاب انحرف عن الطريق
هذا شاب صغير يروي قصة الضياع، ثم يروي كيف اهتدى إلى طريق الاستقامة والهداية، يقول: لما بلغت الرابعة عشرة من عمري، وكنت في السنة الثانية من المرحلة المتوسطة، حدث حادث في حياتي كان سبباً في تعاستي وشقائي فترة من الزمن، فقد تعرفت على شلة من رفقاء السوء، وكانوا ينتظرون الفرصة المناسبة لإيقاعي في شباكهم، وجاءت الفرصة مناسبة أثناء فترة الامتحانات، فجاءوني بحبوب بيضاء منبهة، فكنت أسهر عدداً من الليالي المتوالية في المذاكرة دون أن يغلبني النعاس، وما كنت أشعر بحاجة إلى النوم، فانتهت الامتحانات ونجحت بتفوق، وبعد الامتحانات داومت على تعاطي هذه الحبوب البيضاء فأرهقني السهر وتعبت تعباً شديداً، فجاءني أولئك الشياطين وقدموا لي في هذه المرة حبوباً، لكن اختلفت الألوان، في المرة الأولى كانت الحبوب بيضاء، وفي المرة الثانية كانت الحبوب حمراء، قالوا لي: إنها تطرد عني السهر وتجلب لي النوم والراحة، ولم أكن أدرك حقيقة هذه اللعبة وهذا التآمر والمكر الخبيث من هؤلاء الشياطين: شياطين الإنس الذين هم أخطر من شياطين الجان.
يقول: فأخذت أتعاطى هذه الحبوب مرات ومرات في اليوم، وبقيت على هذه الحال ثلاث سنوات تقريباً أو أكثر، ففشلت في دراستي وفي كل شأن من شئون حياتي، ولم أتمكن حتى من إتمام المرحلة المتوسطة من الدراسة بعد أن كنت من المتفوقين، فصرت أتنقل من مدرسة إلى مدرسة لعليّ أن أحصل على هذه الشهادة، ولكن دون جدوى! وبعد هذا الفشل الذريع الذي كان سببه هذه الحبوب وهذه المخدرات فكرت في الانتقال إلى مدينة أخرى حيث يقيم عمي وأبناء عمي في تلك المدينة لعلي أغير شيئاً من حياتي، وكان والدي قد اشترى سيارة جديدة، فأخذت السيارة في تلك الليلة دون علم والدي وتوجهت إلى تلك المدينة، وكنت أحمل في جيبي كمية كبيرة من هذه الحبوب الحمراء، وفي الطريق توقفت عند بعض الأصحاب، وفي تلك الليلة أسرفت في تناول هذه الحبوب حتى أصبحت في وضع يرثى له، لا أميز من الغادي ومن الرائح، وقبيل الفجر ركبت السيارة وأنا في حالة لا يعلمها إلا الله، وانطلقت مسرعاً في طريقي، وما هي إلا دقائق حتى غبت عن الدنيا، ولم أفق إلا وأنا في المستشفى في حالة سيئة، كسرت ساقي اليمنى، وأصبت بجروح بالغة بعد أن مكثت في غرفة الإنعاش ثمانياً وأربعين ساعة، فأخرجوني إلى الغرفة التالية، ثم بعد أن تعافيت وخرجت من المستشفى مكثت في البيت أياماً يداويني أهلي ويرعوني، ومن رحمة الله بي أن كتب لي حياة جديدة، ومنح لي فرصة جديدة؛ لعلي أن أتوب وأرجع وأقلع عما أنا فيه، ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث، فنقلت من المستشفى إلى بيت والدي، وفي البيت كنت أتعاطى هذه الحبوب النكدة، وقد تسألني وتقول: من أين لك هذه الحبوب وأنت ترقد على فراش المرض؟ فأقول لك: كان أولئك الشياطين يأتون لزيارتي في البيت، فيعرضون علي بضاعتهم فأشتري منهم ما يكفيني لأيام، وبالرغم من حالتي السيئة بقيت على هذه الحال أياماً، وبعدها أحسست بتحسن بسيط.
وكانت فكرة السفر إلى تلك الديار حيث يقيم عمي وأبناء عمي تراودني، فأنا أريد أن أغير الواقع وأن أرجع إلى ما كنت عليه، فخرجت يوماً بعكازي وأخذت أبحث عن سيارة تأخذني إلى تلك المدينة، فما توقف لي أحد، فذهبت إلى مواقف سيارات الأجرة واستأجرت سيارة أوصلتني إلى تلك المدينة، وهناك بادرت بالتسجيل في إحدى المدارس المتوسطة، فكبرت في السن ولا زلت في المرحلة المتوسطة، بعد جهود بذلها عمي وغيره تم قبولي في تلك المدرسة وحصلت على شهادة الكفاءة، لكني كنت مستمراً على تعاطي المسكرات والمخدرات حتى بدلت الحبوب المخدرة وبدأت بتعاطي الخمر في كل يوم! لقد انتقلت من حفرة إلى أخرى، وهكذا الذنوب تقود بأصحابها من ورطة إلى أخرى، فتركت الحبوب ولكني أصبحت مدمناً للخمر والعياذ بالله، وكنت أقوم في نفس الوقت بترويج تلك الحبوب الحمراء وبيعها بسعر مضاعف، لم أكن أدرك فداحة هذا الأمر، وأني أفسد الآخرين، وأني أجمع المال من طريق حرام -أسأل الله أن يتوب علي-.
ثم بعد الخمر انتقلت إلى الحشيش وأدمنت عليه، وكنت أتعاطاه عن طريق التدخين، فكنت أذهب إلى المدرسة وأنا في حالة هستيرية فأرى الناس حولي كأنهم ذباب أو حشرات صغيرة، ولم أكن أتعرض لأحد؛ لأن الذي يتعاطى هذا البلاء يكون جباناً يخاف من كل شيء، بقيت على هذه الحال سنتين تقريباً، وكنت أقيم في غرفة في طرف المدينة حتى لا يراني عمي وأبناء عمي على تلك الحال.
وفي يوم من الأيام جاءني اثنان من شياطين الإنس الذين أعرفهم، وكان أحدهما متزوجاً، فأوقفت سيارتي وركبت معهم وكان ذلك بعد صلاة العصر، فأخذنا ندور وندور في شوارع البلد بلا هدف ولا غاية ولا مقصد.
وأمثال هؤلاء كثير يتجولون في الشوارع بلا هدف ولا غاية، وبعد جولة دامت ساعات أوقفوني عند سيارتي فركبتها وتوجهت إلى البيت، ولكني ظللت الطريق ولم أستطع أن أرجع إلى بيتي فقد كنت في حالة سكر شديد، ظللت مدة ساعتين أو أكثر أبحث عن البيت فلم أجده، وفي نهاية المطاف وبعد جهد جهيد وصلت إلى البيت، فلما رأيت البيت فرحت فرحاً شديداً، فلما هممت بالنزول من السيارة أحسست بألم شديد في قلبي، وبصعوبة بالغة نزلت ودخلت البيت، وفي تلك اللحظات تذكرت الموت، نعم تذكرت الموت كأنه أمامي شبح أسود يريد أن يهجم علي، ورأيت أشياء عجيبة أعجز عن وصفها الآن، فقمت مسرعاً من غير شعور ودخلت دورة المياه وتوضأت، سبحان الله! سنوات طوال وأنا لا أعرف الركوع والسجود، فدخلت دورة المياه وتوضأت، وبعد خروجي من الدورة عدت مرة ثانية وتوضأت، ثم أسرعت إلى إحدى الغرف وكبرت ودخلت في الصلاة، وتذكرت في تلك اللحظة أنني لم أصل ولم أركع ولم أسجد لله لسنوات طوال، وأتذكر أنني قرأت في الركعة الأولى الفاتحة وقل هو الله أحد، ولا أتذكر ما قرأته في الركعة الثانية، فالمهم أنني أديت تلك الصلاة بسرعة شديدة قبل أن أموت، ثم ألقيت بنفسي على الأرض على جنبي الأيسر واستسلمت انتظاراً للموت، وتذكرت في تلك اللحظات أنني سمعت أن الميت الأفضل أن يوضع على جنبه الأيمن فتحولت إلى الجنب الأيمن، وأنا أحس بأن شيئاً ما يهز كياني هزاً عنيفاً، ومرت في خاطري صور متلاحقة من سجل حياتي الحافل بالضياع والشهوات والمجون، وأيقنت أن روحي على وشك الخروج، ومرت لحظات كنت أنتظر فيها الموت، وفجأة حركت قدماي فتحركتا ففرحت بذلك فرحاً شديداً، وعلمت أنني لم أمت إلى الآن، لقد رأيت بصيصاً من الأمل يشع من بين تلك الظلمات الحالكة، فقمت مسرعاً وخرجت من البيت وركبت سيارتي وتوجهت إلى بيت عمي، فدفعت الباب ودخلت وسقطت مغشياً علي، لقد وجدتهم مجتمعين يتناولون طعام العشاء، فألقيت بنفسي بينهم، فقام عمي فزعاً، ثم لما أفقت سألني: ما بك؟ فقلت له: إن قلبي يؤلمني، فقام أحد أبناء عمي وأخذني إلى المستشفى، وفي الطريق أخبرته بحالي وأني قد أسرفت على نفسي في تعاطي ذلك البلاء، وطلبت منه أن يذهب بي إلى طبيب يعرفه، فذهب بي إلى إحدى المستشفيات الأهلية، فلما كشف علي الطبيب وجد حالتي في غاية السوء حيث بلغت نسبة الكحول في جسمي نسبة عالية، فامتنع عن علاجي، وقال: لا بد من حضور الشرطة، وبعد محاولات مستمرة وإلحاح شديد وإغراءات وافق على علاجي، فقام بعمل تخطيط للقلب، ثم بدأ بعلاجي.
كان والدي قد أتى إلى تلك المدينة في ذلك اليوم لزيارة عمي ولزيارتي، فلما علم أني في المستشفى جاء ليزورني، فرأيته واقفاً على رأسي، فلما شم رائحتي الكريهة ضاق صدره وخرج ولم يتكلم، فأمضيت ليلة تحت العلاج، وفي غرفة الإنعاش وقبل خروجي نصحني الطبيب بالابتعاد عن المخدرات والمسكرات، وأخبرني بأن حالتي سيئة جداً وأني إذا استمريت على هذه الحال فستكون النهاية مؤلمة، فخرجت من المستشفى وأحسست بأني قد منحت حياة أخرى جديدة، وأن الله أراد بي خيراً، فكنت فيما بعد كلما شممت رائحة الحشيش أصابني مثل ما أصابني في تلك الليلة: ألم في قلبي، وضيق في التنفس، فيأتيني ذكر الموت في تلك اللحظات فأطفئ السيجارة، وأتذكر تلك اللحظات التي مررت بها وأنا في المستشفى، وكنت كلما نمت بالليل أشعر بأن أحداً يوقظني ويقول لي: قم واستيقظ وصل لله، فأتذكر الموت، وأتذكر الجنة والنار والقبر، كما كنت أتذكر اسمين من أصحابي لقيا حتفهما على حال لا يعلمها إلا الله، فكنت أخاف أن يكون مصيري كمصيرهما، فكنت أقوم آخر الليل فأصلي ركعتين، ولم أكن أعرف صلاة الوتر في ذلك الحين، ثم بدأت بعدها أحافظ على الصلوات المفروضة، وكنت كلما شممت رائحة الحشيش أو الدخان أتذكر الموت فأتركهما، وبقيت على هذه الحال أربعة أشهر أو أكثر حتى قيض الله لي أحد الشباب الصالحين، فالتقطني من بين أولئك الأشرار وأخذني معه إلى مكة المكرمة لأداء العمرة، وبعدها رأيت حياة جديدة ورأيت نوراً بدأ يشع في قلبي، فبدأت أستشعر نعمة الهداية والإيمان، وعدت إلى الله وتبت إليه بعد أن أمهلني الله مرات ومرات.
فنصيحتي للشباب أن يحذروا من شياطين الإنس ورفقاء السوء الذين كانوا سبباً في شقائي وتعاستي لسنوات طويلة، ولولا رأفة الله ورحمته حيث أنقذني من بين أيديهم لكنت من الخاسرين، فأسأل الله أن يتوب علي وعلى جميع المذنبين والعاصين إنه تواب رحيم.
فهذه قصة ومثلها كثير، فإن كان الله أمهل هذا الشاب فكثيرون قد ماتوا في دورات المياه، وفي أحضان المومسات والفاجرات.
فيا صاحب الخطايا أين الدموع الجارية ويا أسير المعاصي ابك على الذنوب الماضية ويا مبارزاً لله بالقبائح أتصبر على النار الهاوية ويا ناسياً ذنوبه والصحف للمنسي حاوية أسفاً لك إذا جاءك الموت وما أنبت واحسرة لك إذا دعيت إلى التوبة فما أجبت كيف تصنع إذا نودي بالرحيل وما تأهبت ألست الذي بارزت بالكبائر وما لله راقبت إن لسان حال الغافلين: قد مضى في اللهو عمري، وتناهى فيه أمري.
شمر الأكياس وأنا واقف قد شيب أمري بان ربح الناس دوني وأنا قد بان خسري ليتني أقبل وعظي ليتني أسمع زجري كل يوم أنا رهن بين آثامي ووزري ل(57/5)
قصص من ثبات الصحابة(57/6)
قصة حبيب بن زيد مع مسيلمة الكذاب
اسمع بارك الله فيك وأنت تتساقط أمام فتن وشهوات ومغريات اسمع كيف ثبت الشباب، واسمع بارك الله فيك هذا الخبر.
في آخر فترات النبي صلى الله عليه وسلم خرج كذابان يدعيان النبوة أحدهما بصنعاء، وهو الأسود بن كعب العنسي، وخرج الثاني باليمامة وهو مسيلمة الكذاب، وراح الكذابان يحرضان الناس على المؤمنين الذين استجابوا لله وللرسول، وفوجئ الرسول صلى الله عليه وسلم يوماً بمبعوث بعثه مسيلمة بكتاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه: (من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله سلام عليك، أما بعد: فإني قد أشركت في الأمر معك، وإنا لنا نصف الأرض ولقريش نصفها الآخر، ولكن قريشاً قوم يعتدون)، فرد النبي صلى الله عليه وسلم كتابه وكتب إليه كتاباً يقول فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد.
فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين).
فلقد ظن الكذاب أن النبوة ملكاً يريد أن يتقاسمه، فلما وصل إليه الكتاب ما زاده إلا ضلالاً وإضلالاً، ومضى ينشر إفكه وبهتانه، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه رسالة ينهاه فيها عن حماقاته، وعن كذبه وافتراءاته، لكن من سيحمل هذه الرسالة إلى هذا المتكبر العاتي الجبار، فوقع الاختيار على أحد الشباب، ومن للمهمات العظام والمدلهمات إلا الشباب وقع الاختيار على حبيب بن زيد رضي الله عنه وأرضاه، وهو شاب ملأ الإيمان قلبه، وهو على أتم الاستعداد للتضحية من أجل الله ورسوله، ومن أجل نصرة هذا الدين.
ومن للمهمات العجيبة والمهمات العظيمة إلا الشباب يا شباب! لكن أين الشباب الذين تربوا على الوحي: كتاب وسنة، وتربوا على تقوى من الله ورضوان: شباب ذللوا سبل المعالي ما عرفوا سوى الإسلام دينا تعهدهم فأنبتهم نباتاً كريماً طاب في الدنيا غصونا إذا شهدوا الوغى كانوا كماة يدكون المعاقل والحصونا شباب لم تحطمه الليالي ولم يسل إلى الخصم العرينا وما عرفوا الأغاني مائعات ولكن العلا صيغت لحونا فسافر حبيب رضي الله عنه في هذه المهمة الخطيرة وهو فرح مسرور لاختيار النبي صلى الله عليه وسلم له، وللثقة التي وكلت إليه، فلما وصل حبيب إلى مسيلمة الكذاب الذي لم يعرف المروءة ولا العروبة ولا الرجولة، جمع الكذاب قومه بعد أن قيد حبيباً بالقيود، وأنزلوا به صنوف العذاب والهوان، وأرادوا من ذلك أن يسلبوه الشجاعة والإقدام حتى يفتتن أمام الجميع ويعلن إيمانه بالكذاب، لكن أنى لهم ذلك، فقال مسيلمة لـ حبيب: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال حبيب: نعم أشهد أن محمداً رسول الله، فعلا الخزي والعار وجه مسيلمة، وعاد يسأل ويقول: وتشهد أني رسول الله؟ فأجاب حبيب بسخرية قاتلة: إني لا أسمع ما تقول، فاشتد غضب الكذاب، وعلم أن تعذيبه للشاب المؤمن لم يؤثر فيه، بل زاده ثباتاً وإيماناً فهاج كالثور المذبوح، ونادى الجلاد أن أحضر السيف، ثم راح يقطع جسد حبيب قطعة قطعة وعضواً عضواً، وكان كلما قطع منه قطعة قال له: أتشهد أني رسول الله، فيقول حبيب: لا أسمع شيئاً، ولا أشهد إلا أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فلا زالوا يقطعونه عضواً عضواً، وفي كل مرة يرددون عليه: أتشهد أن مسيلمة رسول الله؟ وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولا زالوا يقطعونه عضواً عضواً وهو صابر محتسب حتى فارقت الروح الجسد.
فأسألك بالله: أما كان باستطاعته أن يساير الكذاب ويظهر تصديقه به وهو معذور بهذا، لكنه الإيمان الذي صنع أولئك الشباب الأبطال، فقد ثبت وجسده يقطع قطعة قطعة، وثبت وهم يساومونه على دينه ومعتقده، وثبت لأنه يعلم أن الجنة غالية وأن السلعة غالية، فأنى لطالب الجنان أن يتنازل، وأنى لطالب الحور الحسان أن يتنازل.(57/7)
قصة خباب في طريق الثبات
لقد ثبت خبيب قبله حين طلبوه في التنعيم وسألوه: أتحب أن يكون محمداً مكانك وأنت بين أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمداً يشاك بشوكة، وأن جالس مطمئن بين أهلي، ثم رفع بصره إلى السماء منادياً ربه: اللهم! إنا قد بلغنا رسالة نبيك، اللهم! بلغ نبيك ما يفعل بنا، ثم رددها خالدة إلى أن يرث الله الأرض والسماء.
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب في الله كان مصرعي ولقد خيروني الكفر والموت دونه ولقد هطلت عيناي من غير مجزع وما بي حذار الموت إني لميت ولكن حذاري جحم نار ملفع فقد ثبتوا كالجبال أمام العذاب والهوان، وأنت تضعف أمام شاشات وقنوات، وأمام أغاني وملهيات، لكن صدق الله حين قال: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:19 - 24].(57/8)
بذل أسباب الهداية
تريد الهداية؟ ابذل أسبابها.
تريد النجاة؟ خذ بأسباب النجاة.
تريد الجنة؟ اعمل بعمل أهلها، وأول عربون في طريق الهداية والاستقامة ترك الذنوب والمعاصي.
تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في القياس بديع لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب للمحب مطيع ثم الخطوة التالية إعلان التوبة والندم والرجعة والإنابة إلى الله، ثم المحافظة على الصلوات، وإياك ثم إياك أن يناديك المنادي حي على الصلاة والصلاة خير من النوم وأنت تتخلف عن أوامر الله.
ثم لا بد من أمر مهم وهو تغيير الصحبة، فسبب ضياع كثير من الشباب هم الشباب، وسبب هداية كثير من الشباب هم الشباب (والمرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل).
فلا تصحب أخ الفسق وإياك وإياه فكم من فاسقاً أردى مطيعاً حين آخاه فأنت تردد كل يوم {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، فخذ بالأسباب، واعلم أن الأيام صفحات مطوية، فكل يوم نطوي صفحة، فنفتح صفحة الليل ثم نطويها، ونفتح صفحة النهار ثم نطويها حتى تأتي آخر الصفحات، ولا أدري أنا ولا أنت بماذا يختم لنا، لكن الذي أعرفه ويعرفه كل منا {َأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران:182]، وأن من عاش على طاعة مات على طاعة، وبعث على طاعة بإذن الله، والعكس بالعكس، فمن شب على المعاصي شاب على المعاصي ومات على المعاصي وحشر على المعاصي والعياذ بالله.
فانتبه قبل أن تنادي بأعلى الصوت: رباه ارجعون، فلا يستجاب لك.
إن نعمة العقل نعمة عظيمة فاستخدمها فيما يعود عليك بنفع الدنيا ونفع الآخرة.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا هداة مهتدين، لا ضالين ولا مضلين، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا يا ربنا! من الراشدين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم وفقنا لتوبة نصوح قبل الموت، اللهم وفق الشباب لخير الدنيا وخير الآخرة، يا رب الأرض والسماء يا رب العالمين! واجمع شملنا، ووحد صفنا، وأصلح ولاة أمورنا، وانصرنا يا قوي يا عزيز! على القوم الظالمين.
أستغفر الله العظيم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(57/9)
أهوال يوم القيامة
الأرض بحاجة إلى الماء لكي تدب الحياة فيها، فكذلك القلوب بحاجة إلى الإيمان كحاجة الأرض إلى الماء؛ لأن الحياة هي الإيمان، والإيمان هو الحياة.
وإن من أعظم أركان الإيمان الإيمان باليوم الآخر، ذلك اليوم الذي نحن بحاجة ماسة لتذكره وكثرة التفكير فيه، وكيف سيكون حالنا فيه، وهل سنكون من أصحاب الجنة أم من أصحاب السعير؟ والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت.(58/1)
الإيمان هو الحياة والحياة هي الإيمان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلاله، وكل ضلالة في النار.
معاشر الأحبة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله وبياكم وسدد على طريق الحق خطاي وخطاكم، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني وإياكم في دار كرامته، وأن يجعلنا هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين، وأسأله سبحانه أن يفرج هم المهمومين، ويكشف كرب المكروبين، ويقضي الدين عن المدينين، وأن يدل الحيارى ويهدي الضالين، ويغفر للأحياء وللميتين.
فأنا وإياكم في ليلة مباركة، في مكان مبارك، في لقاء مبارك، أسأل الله أن يجعله حجة لنا لا حجة علينا.
أحبتي! في زمن انشغال الناس بدنياهم اخترت لكم موضوعاً بعيداً عن مشاغل الحياة، وبعيداً عن مشاغل الدنيا، وأردت أن ننتقل من صخب الحياة إلى مكان آخر، وأردت أن تكون هذه الليلة موعظة قرآنية لحاجتنا للمواعظ، وأردت أن تكون هذه الليلة موعظة قرآنية بكل ما تعني الكلمة، بعيداً عن صخب الحياة وعن مشاغلها، فكلنا في أمس الحاجة إلى التذكير.
فكما أن المطر يحيي الأرض فإن ذكر الله يحيي القلوب، والحياة الحقيقية وحياة السعادة والراحة والطمأنينة هي حياة القلوب، كما قال علام الغيوب: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
ولا نجاة يوم القيامة إلا لأصحاب القلوب السليمة، والحياة المؤمنة المطمئنة الراضية بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً.
إنك ترى -بارك الله فيك- شدة حاجة الأرض إلى المطر، وكيف أنه إذا انقطع المطر عن الأرض اصفرت وأقحطت وأجدبت، وتحولت بعد الحياة إلى موت، ثم يتنزل المطر عليها فيبدل حالها من حال إلى حال، من اصفرار إلى اخضرار، ومن جدب إلى زهور وثمار وإلى عطاء ونماء، وكذلك هي القلوب -بارك الله فيك- إذا تنزل عليها ذكر الله -تبارك وتعالى-، قال جل في علاه: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:5 - 7].
فحياة الأرض بالماء دليل على حياة القلوب بذكر الله تبارك وتعالى، والحياة الحقيقية هي حياة القلوب كما قال الله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
فإذا حييت القلوب استعدت للقاء علام الغيوب، وإذا حييت القلوب تعلقت بذكر علام الغيوب، وإذا غفلت نست وقست، والله يقول: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22]، فتعالوا نعطر المسامع في هذه الليلة المباركة بآيات من الذكر الحكيم، وبكلام من كلام سيد الأولين وسيد الآخرين.
إن التدبر والتمعن والنظر في آيات الله الكونية والشرعية يحيي القلوب، ويحيي القلوب أيضاً الجلوس مع مثل هذه الوجوه التي ما جاءت إلا وهي تريد ما عند الله تبارك وتعالى، وانظر كيف يعاملها الله بكرمه حين ينفض المجلس قائلاً لهم: (قوموا مغفوراً لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات، ما جمعكم إلا ذكري)، وشرف المجالس بشرف المذكور، ويكفي الذاكرين قوله جل في علاه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152]، فيكفي الذاكرين لله شرفاً أن الله يذكرهم.
أحبتي! إن الحياة هي الإيمان والإيمان هو الحياة، ولا قيمة للحياة بلا إيمان، فالذي يجعل للحياة قيمة، والذي يجعل للحياة طعماً، والذي يجعل للحياة نبضاً؛ هو الإيمان، وعلى قدر قوة هذا الإيمان يكون للحياة قيمة ومعنى.
والمشكلة التي نعاني منها اليوم هو ضعف الإيمان في قلوبنا، وقلة التعلق بالله وباليوم الآخر، وضعف الاتصال بيننا وبين الله تبارك وتعالى، وما جاء القرآن إلا ليربطنا بالله تبارك وتعالى، وما جاء القرآن إلا موعظة من رب العالمين.(58/2)
أهمية الإيمان باليوم الآخر
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57]، فالإيمان هو الحياة، والحياة هي الإيمان، ومن أركان هذا الإيمان العظيم: الإيمان باليوم الآخر، ذلك اليوم الذي سيجمع الله فيه الأولين والآخرين؛ ولأهمية ذلك اليوم قدمه الله على أركان الإيمان في مواضع عدة، إشارة ودلالة على أهميته، قال الله: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:177]، وقال: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:232]، وما من صفحة من صفحات القرآن إلا وهي تذكر ذلك اليوم، لا تكاد صفحة من صفحات القرآن تخلو من ذكر ذلك اليوم وما فيه من الآيات والصور والعظات، وذلك إما تصريحاً وإما تلميحاً، قال الله: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ * أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة:1 - 3]، ثم قال في آخر السورة: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:36 - 40]، قال قتادة: بلى وعزته وجلاله، بلى قادر كما قال الله: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28].
فتأمل وتدبر وانظر ما من صفحة من صفحات القرآن إلا وهي تخبرنا عن ذلك اليوم العظيم، فتكرار تلك الصور دليل على أهمية وعظمة ذلك اليوم {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود:103 - 105]، فهذه هي القضية التي لا بد أن تشغل كل واحد منا، قضية: من الشقي ومن السعيد، عن عبد الله بن مسعود أبي عبد الرحمن رضي الله عنه قال: حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم مثلها علقة، ثم مثلها مضغة، ثم يأتيه الملك فينفخ فيه الروح، ثم يؤمر أن يكتب أربع كلمات: عمله ورزقه وأجله وشقي أم سعيد)، فهذه أربع مسائل لا بد أن يتفكر كل منا فيها، ثم قال ابن مسعود في آخر الحديث: (والذي لا إله غيره إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)، فلا بد أن يتفكر كل واحد منا في قضية المصير: إما إلى جنة وإما إلى نار.
وتأمل في قوله تبارك وتعالى: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة:1 - 5].
تقول فاطمة زوج عمر بن عبد العزيز رحمه الله: رأيت منه ليلة العجب العجاب! قام يصلي ثم قرأ القارعة، فما كاد يصل إلى قوله تبارك وتعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة:4 - 5] إلا خر مغشياً عليه، وأخذ يفحص في مكانه كما يفحص العصفور، حتى ظننت وقلت في نفسي: والله ليصبحن الناس ولا أمير لهم، تقول: ثم أفاق وبدأ يقرأ ويصلي حتى إذا بلغ قوله تبارك وتعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة:4 - 5]، فخر مغشياً عليه من شدة البكاء.
فأسألك بالله العظيم! كم مرة يمر على مسامعنا هذا القول العظيم؟! وكم مرة قرعت القارعة مسامعنا؟ وكم مرة قرعت الصاخة آذاننا؟ وكم مرة مر على مسامعنا الطامة والصاخة وتلك الأسماء العظيمة التي سمَّى الله بها ذلك اليوم؟ إن لم تتأثر القلوب بالقرآن، إن لم تحيا القلوب بمواعظ القرآن، فالقضية تحتاج إلى مراجعة حسابات.
{سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:1 - 4]، قال الحسن البصري: كيف أنت بأقوام وقفوا على أقدامهم خمسين ألف سنة لم يأكلوا فيها أكلة، ولم يشربوا فيها شربة واحدة؟! كيف يكون حالهم؟! اليوم في وسط هذا الزحام يشتكي الناس من شدة الحر، ويشتكي الناس من شدة الأوضاع والأحوال، فكيف إذا جمع الله الأولين والآخرين على صعيد واحد؟!! وكيف إذا جمع الله أبناء آدم من لدن آدم حتى آخر من يكون على وجه الأرض؟ وكيف إذا جمعهم الله على صعيد واحد؟!(58/3)
دلالات على عظمة يوم القيامة
لقد سمى الله يوم القيامة يوماً عظيماً، قال الله: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:4 - 6].
وسماه الله يوماً ثقيلاً، ووصف الله حال الناس في ذلك اليوم وصفاً عجيباً فقال: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2].
ومن دلائل عظمة ذلك اليوم: أنها تتقطع فيه الأحساب والأنساب.
ومن دلائل عظمة ذلك اليوم: أن الكافر يتمنى أن لو كان في ذلك اليوم تراباً.
إنه يوم طويل، فكيف سيبدأ؟ وكيف سينتهي؟ وكيف سينقسم الناس؟ ومن دلائل عظمة ذلك اليوم أنه ما ترك القرآن شاردة ولا واردة إلا ذكرها وصورها عن ذلك اليوم العظيم.
اسمع بارك الله فيك وتدبر وافتح القلب قبل أن تفتح الأذنين! قال جل في علاه: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:13 - 18]، فلا إله إلا الله! كيف سيكون الحال إذا بعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور؟! إن يوم القيامة يبدأ بصيحة واحدة وينتهي بانقسام الناس إلى قسمين: فريق في الجنة وفريق في السعير، وقد جاء في حديث الصور الطويل: أن الله بعد أن ينفخ في الصور نفخة واحدة -أي: النفخة الأولى-: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]، قال: (ثم يأتي ملك الموت إلى الجبار فيسأله الجبار -وهو أعلم- من بقي؟ فيقول: بقي حملة العرش، وبقي جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، وبقيت أنا، وبقيت أنت، وأنت الحي الذي لا يموت، فيقول الله تبارك وتعالى: فليمت جبرائيل وميكائيل، فيصيح العرش قائلاً: يا رب يموت جبرائيل وميكائيل، فيقول الرب تبارك وتعالى: إني كتبت الموت على كل من تحت عرشي، فيموت جبرائيل وميكائيل، ثم يأتي ملك الموت إلى الجبار تبارك وتعالى فيسأله -وهو أعلم-: من بقي؟ فيقول: بقي حملة العرش، وبقيت أنا، وبقيت أنت الحي الذي لا يموت، فيقول الجبار: فليمت حملة العرش، فيموتون، ثم يسأل الله ملك الموت عليه السلام: من بقي؟ فيقول: بقيت أنا، وبقيت أنت الحي الذي لا يموت، فيقول: أنت خلق من خلقي خلقتك لما ترى، فمت، فيموت ملك الموت، فلا يبقى كائن حي لا في السماء ولا في الأرض ثم ينادي الجبار جل جلاله: لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد، ثم يجيب نفسه تبارك وتعالى فيقول: لله الواحد القهار).
فهو الأول بلا ابتداء، والآخر بلا انتهاء، ثم ينفخ في الصور نفخة أخرى فيقوم من في السماوات ومن في الأرض، ويبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور، فتأمل حالهم عند الخروج من القبور: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ * خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر:6 - 8]، فأما حال المجرمين: فحال ليس بعده حال: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر:48 - 53].
وأما حال المتقين: ففي جنات ونهر {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55].
يا ألله! كيف إذا خرج العباد من القبور ينفضون التراب عن رءوسهم! إنهم خرجوا لا يدرون إلى أين يذهب بهم، ولا يدرون كيف سيكون المصير! {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:20 - 30] يا ألله! إنها أحوال وأهوال، تحصل في ذلك اليوم العظيم، فلا الأرض التي كانوا يعرفونها، ولا السماء التي كانوا يرونها {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [إبراهيم:48 - 52].
فمنهم من يحشر على قدميه، ومن يحشر على ركبتيه، ومنهم من يحشر على وجهه {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء:97] قال رجل: كيف يحشرون على وجوههم يا رسول الله؟ قال: (الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يحشرهم على وجوههم) وقال الله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94].
وقد سماه الله يوم التلاق، ففيه يلتقي العباد برب العباد تبارك وتعالى، ويلتقي فيه الظالم مع المظلوم، ويلتقي فيه آدم مع آخر أبنائه في ذلك اليوم العظيم، وإذا جمعتهم أرض المحشر فلا يغادر الداعي منهم أحداً.(58/4)
حديث الشفاعة
روى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في وليمة فقدمت إليه الذراع، فنهس منها نهسة واحدة، ثم قال: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، أتدرون مما ذلك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فلا يغادر الداعي منهم أحداً، فيسمعون الداعي، ويبصرهم الناظر، ثم تدنو الشمس من رءوس العباد مقدار ميل -قال الراوي: لا أدري أميل المسافة أم ميل المكحلة-، قال: فيغرق الناس في عرقهم، فمنهم من يأخذه العرق إلى كعبيه، ومنهم من يأخذه العرق إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه العرق إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، فبينما هم على تلك الحال من الشدائد والأهوال إذ قال بعضهم لبعض: ألا ترون ما نحن فيه؟ ألا ترون ما قد غلبنا من الهم والغم؟ ألا ترون من يشفع لنا عند ربنا؟ فيقولون: أبوكم آدم، فيهرعون إلى آدم فيقولون: يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسكنك جنته، أما ترى ما نحن فيه، أما ترى ما قد بلغنا من الهم والغم، فيقول آدم: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني نهيت عن تلكم الشجرة فعصيت، نفسي نفسي نفسي، فيتبرأ آدم أبو البشر من البشر فيزداد الهم والغم على الناس، فيقول لهم: اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحاً فيقولون: أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماك الله عبداً شكوراً، أما ترى ما نحن فيه، أما ترى ما قد بلغنا من الهم والغم، فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني كانت لي دعوة دعوتها على قومي، نفسي نفسي نفسي، فيزداد الهم والغم على الناس، فيقول لهم: اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم فيقولون: أنت نبي الله وخليله أما ترى ما نحن فيه؟ أما ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني كذبت ثلاث كذبات -ولو عددناها نحن لعددناها من صالح أعمالنا فهو كذبها في ذات الله جل في علاه وما كان كاذباً-، فيقول: نفسي نفسي نفسي، فيزداد الهم والغم على الناس، فيقول لهم إبراهيم: اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى فيقولون له: أنت نبي الله وكليمه، أما ترى ما نحن فيه؟ أما ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، فيزداد الهم والغم على الناس-، فيقول لهم: اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى فيقولون: أنت نبي الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنباً)، فهل تدري من هؤلاء الذين ينادون بأعلى الصوت: نفسي، نفسي، نفسي إنهم المصطفى آدم، والشكور نوح، والخليل إبراهيم، والكليم موسى، وكلمة الله عيسى! فهؤلاء خير من صلى وصام، وهؤلاء خير من عبد الله وأطاعه، فإن كان هذا هو حالهم في ذلك اليوم فكيف يكون حالي وحالك؟! وكيف سيكون حال من ترك الصلاة؟! وكيف سيكون حال من أكل الربا؟! وكيف سيكون حال أولئك الذين حاربوا الله بالمعاصي؟! فإنهم ينادون: يا آدم! يا نوح! يا إبراهيم! يا موسى! يا عيسى! وكلهم يجيبون بأعلى الصوت: نفسي نفسي نفسي.
(فيقول لهم عيسى اذهبوا إلى محمد، فيأتون فيقولون: يا محمد! أنت نبي الله، وخاتم المرسلين، غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، أما ترى ما نحن فيه؟ أما ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فأقول: أنا لها).
يقول الحبيب: أنا لها، فأبشروا يا أمة محمد! فما تخلى عنا محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك الموقف.
(فأقول: أنا لها، فأنطلق إلى العرش فأخر ساجداً، فيفتح الله علي من محامده ما لم يفتحه على بشر من قبلي، فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب! أمتي أمتي أمتي)، فما تخلى عنا الحبيب، فأين أمة محمد اليوم عن سنته؟ وأين أمة محمد عن نصرة دعوته؟ يا مدعي حب طه لا تخالفه فالخلف يحرم في دين المحبينا مالي أراك تأخذ شيئاً من شريعته وتترك البعض تهويناً وتدوينا خذها سماوية خيراً تفوز به أو اطَّرحها وخذ رجس الشياطينا (فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب! أمتي أمتي أمتي، فيقال: يا محمد! أدخل من أمتك من ليس عليه حساب من الباب الأيمن من الجنة، وهم شركاء الناس في سائر الأبواب يقول -بأبي هو وأمي-: والذي نفسي بيده! إن ما بين المصراعين من مصارع الجنة كما بين مكة وهجر، وليأتين عليها يوم وهي كظيظ من الزحام!)، فيشفع الحبيب، ويأذن الله في الحساب.
لا تظن أن الأمر بهذا قد انتهى، بل انتقل الناس من حال إلى حال، ومن أهوال إلى أهوال، فيبدأ العرض، ويبدأ الحساب: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الكهف:48] حفاة، عراة، غرلاً، قالت عائشة: (الرجال والنساء عراة ينظر بعضهم إلى بعض؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عائشة! الأمر أعظم من أن ينظر بعضهم إلى بعض).
فكيف سيكون حالي وحالك {إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر:21 - 23]، يؤتى بجهنم في ذلك الموقف لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها! {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:12] تزفر زفرة فتصيح الخلائق بأعلى الصوت، ثم تزفر زفرة ثانية فتجثوا الأمم على الركب: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:28 - 29].
{إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:12]، وتقول: والله لأنتقمن اليوم ممن خلقته فعبد سواك، والله لأنتقمن اليوم ممن أكل رزقك وشكر سواك.
{وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:23].
{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]، فينادي الله في ذلك الموقف: (يا آدم! أخرج بعث النار، فيقول: يا رب! لبيك وسعديك والخير كله بيديك، وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: فذلك يوم {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2]).
فقل لي من الناجي في ذلك اليوم؟! وأين سيكون المصير؟! فيصف العباد صفوفاً متتالية متتابعة، والقلوب واجفة، والأبصار خاشعة، والكل ينتظر كيف سينتهي ذلك اليوم، فبينما هم وقوف على ذلك الحال إذ نادى المنادي: فلان بن فلان! استعد للوقوف بين يدي الله، فكيف سيكون حالي وحالك؟! فتأخذه الزبانية مطأطئ الرأس، راجف القلب، لا يدري إلى أين يؤخذ به، والخلائق كلها تنظر إليه، فعن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: (يدني الله العبد منه يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه -يعني ستره- ثم يقرره بذنوبه -إن كان تائباً عابداً منيباً لله قرره الله بذنوبه في ذلك اليوم- حتى إذا ظن العبد أنه هلك، قال أرحم الراحمين: إني قد سترتها لك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم، فيعطى كتابه بيمينه) فيخرج بين الخلائق صائحاً فرحاً مسروراً قائلاً بأعلى الصوت: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20]، وأما إن كان عاصياً فاجراً محارباً لله بالمعاصي فيقرره الله بذنوبه، حتى يقر ويعترف بكل ذنب، فيشتد غضب الجبار عليه تبارك وتعالى، فينادي زبانيته وملائكته: يا ملائكتي! خذوه، ومن عذابي أذيقوه، فلقد اشتد غضبي عليه، وقل حياؤه معي، فيربط بالسلاسل والأغلال، ويسحب على وجهه أمام الخلائق، وينادي بأعلى الصوت حسيراً كسيراً: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة:25 - 27]، والنتيجة: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:30 - 32]، وجريمته: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:33 - 37].
فأسألك بالله العظيم أما أمرنا بالاستعداد لذلك اليوم؟ أما خلقنا من أجل تحقيق العبودية لله رب العالمين؟ أما قال الله: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]؟ فنفر من الناس علموا لماذا خلقوا، وحققوا العبودية لله رب العالمين، وأكثر الناس غفلوا عن هذا المقصد العظيم، ويذَكَّرون فلا يتذكرون، ويُوعظون فلا يتعظون.
والله! إن الخسارة كل الخسارة إذا وقفنا في ذلك الي(58/5)
سلسلة معركة بدر [1]
أضر المسلمون بعد أن انتقلوا إلى المدينة اقتصاد قريش؛ وذلك لأنهم كانوا يعترضون قوافلهم التجارية الذاهبة إلى الشام، وعندما أراد المسلمون أن يعترضوا قافلة أبي سفيان فلتت القافلة، فاستحال الموقف من السطو على قافلة إلى معركة طاحنة قاتل المسلمون فيها بقوة العقيدة، مع كونهم كانوا قلة يواجهون قوة كبيرة مدججة بالسلاح.
وقد قدم الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه شجاعة وتضحية وبسالة ليس لها مثيل، ووضعوا روابط النسب جانباً، وقاتلوا برابطة العقيدة دون غيرها، فأنعم بها من رابطة.(59/1)
بين يدي غزوة بدر الكبرى
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: يقول الله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، وقد أعد المسلمون لهم قوة أول ما قدموا المدينة، فبدءوا يناوشون قريشاً كقوة أخرى في المنطقة، وبدءوا يسيطرون على الوضع على طريق الشام، فتحكموا في ذهاب القوافل وفي قدومها، وأصبح للمسلمين قوة تفعل وتأمر وتنهى، فتهاجم وتصالح وتعادي، وأصبحت دولتهم قائمة، وزادت حدة المواجهات بينها وبين مكة، وأضر المسلمون قريشاً في تجارتهم، فحاولت قريش أن تؤلب القبائل في الجزيرة ضد المسلمين؛ وذلك أنهم استولوا على قافلتهم، وقتلوا من رجالهم في أول شهر رجب، فجاء القرآن يبين ألا حرج على هؤلاء، وأن ما تقوم به قريش أعظم مما فعله أولئك: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:217]، فصد الناس عن دين الله أعظم فتنة تكون في الأرض.
وسنبدأ بالحديث عن معركة بدر، وقد حدثت قبلها غزوات قادت إلى هذه المواجهة، ومن ذلك الخروج إلى قافلة كانت منطلقة إلى الشام، فقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم لملاقاتها لكن التوقيت اختلف هذه المرة، لكن القافلة سترجع مرة ثانية، وسيتربص بها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين عودتها.
والحقيقة أن معركة بدر تاريخ؛ لأنها معركة حاسمة، وقد سمى الله ذلك اليوم بيوم الفرقان، ففيه انقلبت موازين الجزيرة رأساً على عقب، تغير في ذلك اليوم ميزان القوة في الأرض كلها وليس في تلك البقعة فقط، فتلك المواجهة كانت نقطة التحول والتغيير في مجرى البشرية كلها.
فليس هناك معركة حاسمة كيوم بدر، تلك المعركة هي معركة العقيدة، انتصرت فيها العقيدة السليمة على العقيدة الباطلة، مع أن تلك العقيدة الباطلة في قواميس القوى الحربية تملك كل عوامل الانتصار، لكن الانتصار لا يكون للعقائد الباطلة، فالأمم لا تنتصر إلا بالعقائد، ولا تقاتل إلا من أجل العقائد.
والآن يقاتلوننا رفعاً لتوراتهم وإنجيلهم، ونحن نضع القرآن خلف الصفوف، ووالله! لن ننتصر عليهم إلا إذا جعلنا القرآن والإسلام في المواجهة.
فقد انتصرت العقيدة السليمة على العقيدة الفاسدة في ذلك اليوم، انتصرت لا إله إلا الله التي لا تقف لها قوة في الأرض ولا في السماء، بشرط: أن أهل هذا المعتقد يعرفون معناها ويقومون بمقتضاها، فإن قاموا بذلك فوالله لن تضرهم قلة، ولن تضرهم كثرة؛ ولذلك قال الله تعالى عن ذلك اليوم: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران:123].
فقد كانت العقيدة هي السلاح الأول والأخير للمقاتلين، والمسلمون ما خرجوا أصلاً لقتال ولا تسلحوا بعدة القتال، فما أخذوا سيوفاً كافية، ولا أخذوا دروعاً، ولا أخذوا حتى زاداً يكفيهم للمواجهة، فلم يكن معهم سلاح ذلك اليوم إلا سلاح العقيدة، وكفى به سلاحاً.
وهذا ليس معناه أن نهمل جانب إعداد السلاح، فالله تعالى يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، وهل تظنون أننا سنمتلك قوة ذرية ونووية؟ لن نحصل على هذه القوة، ولن ننتصر بهذا السلاح، بل سننتصر بقول الله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9]، وأسألكم بالله: إذا جاءت الملائكة ماذا تصنع أسلحتهم؟! ماذا تغني عنهم دباباتهم وطائراتهم وقنابلهم؟! فجبريل بجناح واحد يغطي مشرق الأرض ومغربها! بطرف جناح رفع قرى قوم لوط إلى عنان السماء، وجعل عاليها سافلها! ونحن نريد أن نعرف من سياق الحديث كيف جعل الله جبريل وميكائيل يقاتلون معهم؟ ونريد أن نعرف كيف استطاعوا أن يستغيثوا بالله فأنزل الملائكة معهم؟ {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:124 - 125]، فالذين نصرهم بالأمس قادر على نصرنا اليوم.
وأذكر أني قرأت هذا الخبر عن المجاهدين في البوسنة، تقول إذاعات الصرب: إن كتيبة من المجاهدين هاجمت قرية من قراهم التي يتمركزون فيها، وقد أبيدت القرية من أولها إلى آخرها، وقضى المجاهدون على الصرب من أولهم إلى آخرهم، ودمروا أسلحتهم في ذلك الحصن الذي تحصنوا فيه.
وتقول مصادرهم: إن عدد المجاهدين أكثر من خمسة آلاف، بينما تقول مصادرنا: إن عددهم خمسون مجاهداً، لكن إذا انطلقت التكبيرات من هنا وهناك حدث كما قال الله: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12]، أي قوة تستطيع أن تقف أمام هذا؟! فهم يقولون: كان المجاهدون خمسة آلاف، والمصادر الصادقة تقول: لم يكونوا سوى خمسين مجاهداً، لكنهم انتصروا بالعقيدة، وأمدهم الله بنصر من السماء!(59/2)
مقارنة بين قوة العقيدة والقوة المادية
كان المشركون في يوم بدر أكثر عدداً من المسلمين، وكانوا أفضل في قضاياهم التنظيمية، فلقد أعدوا واستعدوا وخرجوا للقتال، بينما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثلاثمائة وأربعة عشر، يزيدون أو ينقصون، وعدد المشركين يتجاوز الألف، وكان مع المسلمين فرسان ومع المشركين مائة فرس! كان مع المسلمين سبعون بعيراً ومع الكفار سبعمائة بعير! الكفار تحصنوا بالدروع والسيوف، وكل وسائل الحرب، والمسلمون لا يملكون منها إلا القليل.
كان المسلمون من قبائل شتى، وكانت قريش من قبيلة واحدة.
فكيف انتصروا مع ذلك؟! إنه انتصار العقيدة، فلقد بدل الإسلام العقول والنفوس من حال إلى حال، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم القائد الأعلى مثالاً شخصياً رائعاً لأصحابه في التضحية والفداء، ونحن ما اجتمعنا إلا لمعرفة سيرته العطرة، أسأل الله أن يجمعنا به في جنات النعيم! تأمل أثر القائد وتأثيره على أولئك الجنود، فقد كان كل ثلاثة من المسلمين يوم بدر يتعاقبون على بعير فإذا كان دور النبي صلى الله عليه وسلم في النزول عن البعير قال له صاحباه: ابق في مكانك، ونحن نمشي فيقول: (ما أنتما بأقوى مني على المشي، وما أنا بأغنى منكما عن الأجر).
أي: فأنا مثلكم آكل مما تأكلون، وأشرب مما تشربون.
ولما نشب القتال خرج ثلاثة من رجالات المشركين يطلبون المبارزة، فخرج لهم ثلاثة من الأنصار، فارجع النبي صلى الله عليه وسلم الثلاثة الأنصار وأخرج بني عمومته فقال: (قم يا حمزة! قم يا حارث! قم يا علي!) فما آثر أقاربه وجعلهم في الصفوف الأخيرة بل جعلهم في المقدمة.
وروي أنه قال لهم: (قوموا قاتلوهم بحقكم الذي بعث الله به نبيكم، إنهم جاءوكم بباطلهم ليطفئوا نور الله) فلم يؤثر ذوي القربى بالراحة والاطمئنان، بل آثرهم بالنزال والطعان، فقدمهم في أول الصفوف.(59/3)
تضحية وشجاعة وفداء(59/4)
تضحية النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة بدر
وفي معركة بدر كان صلى الله عليه وسلم يضرب بنفسه أروع صور الشجاعة والقوة والتضحية والفداء، يقول علي: (لما كان يوم بدر، وحضر البأس، وحمي الوطيس؛ اتقينا بظهر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أقربنا إلى الكفار) فما جلس في الصفوف الأخيرة، ولا أمرهم بحمل السلاح دونه، بل كان أشد الناس بأساً، يقول علي: (كنا إذا حمي الوطيس لذنا بظهره، يدفع عنا الرجال) فهو أشجع الرجال في أرض المعارك، ولم يجلس بعد انهيار صفوف المشركين يشاهد انهزامهم، بل كان مع أصحابه يتابع المشركين ويقضي على الذين بقوا في أرض المعركة، ويجمع الغنائم مع أصحابه.
وبالرغم من هذا كله ما آثر نفسه بالغنيمة بعد انتهاء المعركة، بل أخذ ما قسمه الله له ثم وزع الغنائم على جميع المقاتلين، فكان هو الأسوة والقدوة، وهو الذي كان له أكبر الأثر على أصحابه، قال الله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب:21].
فما تكلم فقط، وإنما قال وفعل، وشتان بين الأقوال والأعمال! فالموعظة لا تؤثر في نفوس الآخرين إلا إذا طبقتها أنت ورآها الناس عملاً وواقعاً ملموساً في حياتك.(59/5)
تضحية الصحابة في غزوة بدر
فهذه هي تضحية القائد الأعلى، أما الجنود فأمرهم عجب! فهم تربية القائد الأعلى صلى الله عليه وسلم، فأول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار، فما هو أثر تلك المؤاخاة؟ اسمع بعضاً من أخبارها، وهذا ما نعرفه، وما لا نعرفه أعظم، فقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سعد بن الربيع وبين عبد الرحمن بن عوف، فقال سعد بن الربيع لـ عبد الرحمن بن عوف: إني من أكثر الأنصار مالاً، فهذا مالي أشاطرك إياه، ولي زوجتان، فاختر منهما أحبهما إلى قلبك، فأطلقها فإذا انتهت عدتها تزوجتها أنت! أي إيثار أعظم من هذا الإيثار! وما هي الرابطة التي ربطتهم وجعلتهم كالجسد الواحد؟ إنها العقيدة، وهذا مثال واحد والأمثلة كثيرة.
قبل اللقاء تكلم هاتف المهاجرين قائلاً: والذي بعثك بالحق! لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك ما تخلف منا رجل واحد، ثم تكلم هاتف الأنصار وقال: امض -يا رسول الله- لما أردت، والله! لو أمرتنا أن نخوض البحر لخضناه معك ما تخلف منا أحد، هكذا كان المجاهدون في أرض المعركة! وفي ذلك اليوم التقى الآباء بالأبناء، والإخوة بالإخوة، فقطعت الأحساب والأنساب، ولم تبق إلا العقيدة، وهي الرابطة التي تربطنا حقيقة، لا الدم والنسب، بل رابطة الدين التي ضعفت اليوم، والتي لو رجعت قوية لانتصرنا على أعدائنا في أسرع وقت.
ففي ذلك اليوم خالفت العقيدة بين هؤلاء ففصلت بينهم السيوف المحكمة في ذلك اليوم، فقد تسابق المسلمون إلى الشهادة، كل يريد أن يموت قبل صاحبه، ويتسابق الكفار إلى الفرار، ولسان حال المؤمنين: ركضاً إلى الله بغير زاد غير التقى وعمل المعاد والصبر على الله في الجهاد وكل عمل عرضة النفاد إلا التقى والبر والرشاد يقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم رافعاً شعار المعركة: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض) فتتطاير الكلمات إلى مسامع الشباب، فيقول عمير بن الحمام: جنة عرضها السماوات والأرض! ما بيني وبينها يا رسول الله؟! قال: (بينك وبينها أن تقاتل القوم فتقتل) قال: ادع الله أن أكون من أهلها، قال (أنت من أهلها) وكان بيده تمرات فقذفهن وقال: بخ بخ! والله إنها لحياة طويلة إن بقيت حتى آكل هذه التمرات! رأى القوم الجنة رأي العين، فما إن دعاهم الداعي: {سَابِقُوا} [الحديد:21] إلا تسابقوا، وما سمعوا منادي: {وَسَارِعُوا} [آل عمران:133] إلا كانوا من المسارعين.
أما الفريق الكافر فكان كل منهم يقدم صاحبه ليموت قبله، كما قال الله: ((وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ)) وقوله: ((حَيَاةٍ)) نكرة، يعني: أي نوع من الحياة، حياة عز، أو حياة ذل، المهم أن يتمتع كما تتمتع الأنعام، ويأكل كما تأكل الحيوانات، وبئس هذه الحياة! لضربة بالسيف على عز خير من حياة على ذل {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [البقرة:96]، وأولئك يتسابقون على الشهادة والموت في سبيل الله، هكذا كان القائد الأعلى وهكذا كان الجنود: إيثار، وبذل، وتضحية ولو كان بهم خصاصة!(59/6)
رابطة الدين والعقيدة أقوى من رابطة النسب
آثر المسلمون العقيدة على الآباء والأبناء والإخوان والعشيرة والأموال، ففي ذلك اليوم قتل عمر خاله، وقتل أبو عبيدة أباه، وقتل مصعب أخاه، يوم جاء الفصل بين الأسرى، فشاورهم النبي صلى الله عليه وسلم في التعامل مع هؤلاء الأسرى، وهم أبناء عمومة وأخوال وآباء وإخوان، فقال عمر: أعط فلاناً أباه، وأعط فلاناً أخاه، وأعط فلاناً قريبه، فنضرب أعناقهم حتى يعلم الناس أن ليس بيننا وبينهم مودة.
فالمودة للذي ينتمي إلى هذه العقيدة، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، هذا هو سر قوتهم، آثروا العقيدة على كل شيء، على الآباء والأبناء، وعلى الأموال والعشيرة، فلم تقف أمامهم قوة.
واليوم ضعف هذا الرابط، وأصبح الانتماء إلى القومية والقبيلة والوطنية إلى غير ذلك من المسميات، في حين أن بعضهم كان يقول لبعض: إني قد عزمت على الشهادة، فبماذا توصني؟ فيقول له: هنيئاً لك الشهادة؛ ولذلك حرام بن ملحان يوم أن طعن وهو لا يعلم، وخرج الرمح من صدره، وبدأ الدم يتدفق بين يديه، أخذ يمسح على وجهه ويقول: فزت ورب الكعبة! {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].
وخرج عمر يوماً يجمع خراج العراق، فوجد من الإبل ما لا يعد، فكان عمر يعد وغلامه يقول: هذا من فضل الله، فقال عمر: كذبت، الله يقول: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] وهذا مما يجمعون.
(للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه) فسيفرح أهل الطاعات بما قدموا، وسيستبشرون بما فعلوا في ذلك اليوم العظيم، فكيف بالذي قدم نفسه؟ فكيف بالذي قدم كل شيء في حياته وجعل الحياة وقفاً لله رب العالمين؟ كانت الأمهات والأخوات والزوجات -واسمعي أماه، واسمعي أختاه- حين يعلمن باستشهاد ذويهن يقلن: الحمد لله الذي أكرمهم وأكرمنا بالشهادة، وكانوا يقولون لمن يأتون: إن كنتم أتيتم معزين فلا مكان للعزاء، وإن كنتم أتيتم مهنئين فحيَّهلا ومرحباً بكم.
وهكذا كان الرجال والنساء! والشاهد أن الكفة لم تكن متكافئة في ذلك اليوم، فئة قليلة مؤمنة، وفئة كثيرة كافرة، فانتصرت القلة على الكثرة بإذن الله الذي قال: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249]، وقال: ((قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) بشرط حتى تنتصر (فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ} [آل عمران:13] فأين هم بنو جلدتنا الذين يقولون: الكفة غير متكافئة؟ وأين هم الذين يقولون: الأمة اليوم ليس عندها استعداد حتى تواجه أعداءها؟ بل الأمة في كل زمان إذا تسلحت بسلاح الإيمان والتقوى والإحسان؛ قاتلت ملائكة الرحمن معهم، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].
بمثل هؤلاء الرجال، وبمثل هؤلاء النساء ننتصر بإذن الله.
فقد انتصرت القلة على الكثرة بإذن الله، انتصر الحق على الباطل، وانتصر النور على الظلام، وإذا جاء الحق زهق الباطل، {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18].
فالحق موجود اليوم يا إخوان! لكن أهل الحق لم يأخذوا بالحق كما ينبغي، ولم ينصروا الحق كما ينبغي، قال الله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41].(59/7)
النصر ثمرة الإخاء والتضحية
وقال الله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران:123]؛ لأنهم كانوا إخوة في الله، يحب أحدهم لأخيه ما يحبه لنفسه، بل كانوا (كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضاً)، كانوا كالجسد السليم المعافى إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، بمثل هؤلاء ننتصر بإذن الله.
كان التقاء الكفار والمسلمين في ذلك اليوم إيذاناً بمولد الدولة الإسلامية عملياً، فقاد المسلمون بعدها العالم كله إلى الخير والصلاح، وما علم العالم عدلاً وطمأنينة إلا حين استظل بظل الإسلام، واليوم انظر إلى الواقع والمرارة التي يعانيها العالم يمنة ويسرة، ففي كل مكان حروب طاحنة، ومجازر، واغتيالات، وآثام لا يعلمها إلا الله، {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41].
ولقد كان الانتصار في ذلك اليوم بالإسلام، ولن ننتصر بغير الإسلام، وتاريخنا أكبر دليل على ذلك، وصدق عمر حين قال: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله.
كان العرب في الجاهلية متفرقين، فمن الذي وحدهم؟ إنه الإسلام، كانوا أعداء فمن الذي ألف بين قلوبهم؟ إنه الإسلام، كانوا على شفا حفرة من النار، فمن أنقذهم؟ إنه الإسلام، فالعرب المتفرقون المتقاتلون المتناحرون أصبحوا بالإسلام وحدة رصينة، ودولة عظيمة، وأمة متماسكة، وقوة ضاربة لا تتساوى مع أي قوة من قوى الأرض.
أرسل ملك الروم إلى ملك الصين يستنصره على أولئك الرجال، فقال له ملك الصين: والله إن عندي قدرة أن أرسل إليك جيشاً أوله في الصين وآخره في منابت الزيتون، لكن هؤلاء الرجال لا يقوم أمامهم أحد، لا ينامون الليل، ولا يأكلون بالنهار، شعث رءوسهم، غبر أقدامهم، فمن يقف أمام هؤلاء؟! ثم قال: أنصحك أن تدفع لهم الجزية، وألا تخاطر بمن معك، فدفعوا الجزية للمسلمين عن يد وهم صاغرون، فسارت رايات العرب والمسلمين تفتح الدنيا، بل إن هذه الحضارة من أولها إلى آخرها لم يبنها غير المسلمين، فقد امتدت دولة الإسلام من سيبيريا شمالاً إلى المحيط جنوباً، ومن فرنسا غرباً إلى الصين شرقاً.
ولك أن تتأمل في الرابط بين هذا كله، فهو الإسلام لا غيره.
أبي الإسلام لا أب لي سواه إن افتخروا بقيس أو تميم كانوا ضعفاء فأصبحوا بالإسلام أقوياء، كانوا أعداء فأصبحوا بالإسلام إخوة كالجسد الواحد، بل كانوا مستعبدين فأصبحوا فاتحين، فكيف تبدل الحال من حال إلى حال؟! قال الله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]، وهكذا تبدل الحال، أصبحنا كالغثاء، فتداعت علينا الأمم من كل النواحي ومن كل الجهات، أعراضنا تنتهك ونحن في خلاف فيما بيننا، بل أصبحنا نحب الدنيا ونكره الموت، فما الفرق بيننا وبينهم؟ يقول أبو بكر موصياً أفراد جيوشه: احرصوا على الموت توهب لكم الحياة.
ونحن أصبحنا نعشق تراث الأعداء، وتركنا تراث الآباء والأجداد، أصبحنا نستورد المبادئ من الشرق والغرب، وما أكاديمية (ستار) إلا من حثالة ما عندهم، أصبحنا ندرس الفسق ونقيم له أكاديميات يتعلم فيها البنين والبنات! ماذا صنع الأعداء يوم أن علموا أننا لا نظهر بالمدفعية والدبابة؟ لقد نشروا الفاحشة والتخلف والدياثة في مجتمعات المسلمين، فضاعت الغيرة على الأعراض، فماذا تنتظر من الديوثين؟! وماذا تنتظر من المخنثين، ومن البغايا، والزناة، والمخمورين، وأصحاب المخدرات؟! ماذا يصنع هؤلاء؟ هل عندهم القدرة على التضحية؟! هل عندهم الاستعداد للبذل والعطاء؟! هؤلاء طلاب دنيا، وليسوا بطلاب الجنان، فطلاب الجنان يعرفون بأنهم إذا نام الناس صفوا أقدامهم أمام الله، وإذا ضحك الناس بكوا وتضرعوا إلى رب الأرض والسماء، وإذا بخل الناس بأموالهم وأرواحهم بذلوا النفوس والأموال من أجل مرضاة الله جل في علاه.
والله إن أولئك الذين يريدون إشاعة الفحشاء والتخنث في أبنائنا لا يقدمون إلا اليهود والنصارى، فهؤلاء لا مكان لهم إلا تحت الفرش وفي ظلام الليل في الغرف مع الشموع الحمراء، أما أهل ساحات الوغى فليسوا كذلك، فالذين ينصرون الدين، ويذودون عن الأعراض، ويحافظون على المقدسات، ليسوا بأمثال هؤلاء، ولن يقوم أمرنا إلا إذا رجعنا إلى الماضي، فكيف تستطيع أن تقيم البنيان من الأعلى؟! بل لا بد أن نرجع إلى الأساس: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة:109]، فهل يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة؟ وهل يستوي الأحياء والأموات؟ هل يستوي الظل والحرور؟ أم هل يستوي السميع والبصير؟! أبداً لا يستوون.
فقوة البنيان في أساسه، ووالله لن نستمد القوة إلا من الماضي، ولاحظ! أن أسماء أهل الماضي حية إلى اليوم، فلا زالت المنابر تلهج بذكر بلال ومصعب وملحان بن حرام وفلان وفلان.
أما زعماء هذا الزمان فثلاثة أيام عزاء ثم تنطمس الأسماء وتنطمس الأخبار، أولئك عاشوا لدينهم فأحيا الدين أسماءهم، ونحن عشنا للدنيا فطمست الدنيا أسماءنا.
قوم مضوا كانت الدنيا بهم نزهاً والدهر كالعيد والأوقات أوقات ماتوا وعشنا فهم عاشوا بموتهم ونحن في صور الأحياء أموات هل تظن أن اسم أحمد ياسين سيموت؟! أبداً والله لن يموت، فستتناقله الأجيال جيلاً بعد جيل، والسبب: أنه نصر الله ورسوله، كما قال الله تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].(59/8)
طريق النصر
فنحن سدنا بالعقيدة، عقيدة الإسلام، عقيدة لا إله إلا الله، يوم أن عملنا للإسلام، وعشنا للإسلام، وضحينا للإسلام، وفدينا بأرواحنا الإسلام، فالإسلام معجزة الدنيا، وهو الدين الحقيقي عند الله كما قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].
نحن على الحق فلماذا نقدم التنازلات؟! نحن على الحق فهل عندنا شك في ذلك؟! {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم:10]، أبداً والله، لكن يوم أن ضعف المعتقد وضعف الإيمان وصل بنا الحال إلى ما وصل، فما داموا يقاتلوننا انطلاقاً من توراتهم وإنجيلهم، فلماذا لا نهاجمهم بالإسلام؟! ولا تقل: إني أدافع عن الإسلام، فالإسلام لا يحتاج إلى من يدافع عنه؛ لأن الإسلام يدافع عنك أنت، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، وقال: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21]، وقال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173].
فسينتصر الإسلام بعز عزيز أو بذل ذليل، شاء من شاء وأبى من أبى، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: ما الدور الذي سأقوم به أنا وأنت حتى ننصر الإسلام؟ فلنقم للإسلام واقعاً ملموساً في حياتنا، أريد منك أن تطبق الإسلام وتجعله واقعاً ملموساً في حياتك، علماؤنا ودعاتنا في كل مكان يتكلمون عن صور الإسلام المشرقة، وعن إعجاز الإسلام، وإبداعات الإسلام، فأول سؤال يطرح من الكفار لهؤلاء العلماء: إن كان هذا هو الإسلام الذي تتكلمون عنه بهذه الصور المشرقة، فلماذا لا تطبقونه وتجعلونه واقعاً ملموساً في حياتكم؟! من الذي ظلم الإسلام اليوم؟! نحن الذين خالفنا التعاليم، وتركنا الأوامر، وتركنا الأهداف الحقيقية التي من أجلها خلقنا، وأصبحت حياتنا حياة لهو وطرب وغناء في الليل والنهار، وتناسينا أن الحياة ستنتهي ثم تموت أنت كما قال الله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44] يعني: أن هذا القرآن شرف لك ولقومك، وسوف تسألون: ماذا قدمتم لهذا الدين؟ {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6]، فستسأل ماذا قدمت لهذا الدين؟ نريد -أيها الأخوة- أن نحيي قضية الجسد الواحد: (إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) لا نريد عواطف أو دموعاً فقد شبعنا من هذا، بل نريد عملاً وواقعاً ملموساً، نريدك أن تحافظ على الصلوات، نريدك أن تنتهي عن الفواحش والمنكرات، من الذي أضعف الأمة اليوم؟ إنها الذنوب والمعاصي، فكل عاصٍ، وكل مخالف، وكل مرتكب لمعصية هو سبب من أسباب ضعف المسلمين.
أنت السبب يوم أن تتخلف عن صلاة الفجر، أنت السبب يوم وضعت الدش في البيت، أنت السبب يا من تتعامل بالربا، أنت السبب يا من تزني وتأكل الحرام، أنت السبب في إضعاف المسلمين.
إياك ثم إياك أن يؤتى الإسلام من قبلك! فانصر الدين بارك الله فيك! فهذه امرأة كاشفة عارية في فرنسا تقول: مررنا على مسجد من المساجد فاشتاقت نفسي إلى الصلاة.
وسبحان الله! ففي قلوبهم الحنين إلى ديننا وإسلامنا، تقول: فلما أردت أن أدخل إذا بامرأة تقول لي: كيف تدخلين المسجد بهذه الثياب، تأدبي مع الله والبسي الحجاب ثم ادخلي بيت الله، تقول: فلامست كلماتها شيئاً في قلبي، ثم قالت لي: انصري الدين بارك الله فيك، انصري هذا الدين ولا تكوني سبباً في هدمه، فكل تاركة للحجاب، وكل عاصية، وكل مخالفة لأوامر الله، فإنها أيضاً سبب من أسباب ضعف المسلمين.
من الذي أضعف الشباب؟ أليس هن الفتيات الكاشفات العاريات؟ من الذي دمر الشباب؟ أليس هو الغزل وتضييع الأوقات؟ أنت أيضاً سبب من أسباب ضعف المسلمين، فنريدك أن تربي الأجيال وتصنعي الأبطال.
فوالله لن يخرج الزهاد ولا العباد ولا الأولياء إلا من أرحام النساء اللاتي تربين على فضل من الله ورضوان.
هذه كلمات أردت أن أبثها وأبدأ بها الحديث عن تلك المعركة الحاسمة، والتي سمى الله يومها الذي وقعت فيه بـ: (يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال:41].
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن ينفعني وإياكم بما نسمع وبما نقول، فنحن بالإسلام كل شيء، وبغير الإسلام نحن لا شيء.
وأسأل الله أن يردنا إلى إسلامنا رداً عزيزاً حميداً، وأن يحفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعلهم سلماً لأوليائك، حرباً على أعدائك، اللهم هيئ لهم البطانة الصالحة التي تعينهم على الخير إذا فعلوه، وتذكرهم به إذا نسوه.
اللهم اجمع شملنا، ووحد صفنا، وأصلح ولاة أمورنا، وانصرنا -يا قوي يا عزيز- على القوم الكافرين.
هذا وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(59/9)
سلسلة معركة بدر [2]
أراد المسلمون العير يوم بدر فأقبل النفير من قريش يريد مواجهة المسلمين واستئصال شأفتهم، لكن النبي القائد أخذ رأي الرجال المقاتلين، ثم انطلق بالجيش إلى بدر للقاء أعداء الله وأعداء عباده المسلمين، فانطلقوا وجلّ اعتمادهم على خالقهم، فذهبوا بعزيمة الرجال، وشجاعة الأبطال، ورباطة جأش الواثق من نصر ذي الجلال.(60/1)
قدوم جيش المشركين إلى بدر
سمعنا من أخبار معسكر الكفار، والانشقاق الذي حصل بينهم، فقد بدأ الشقاق والخلاف في الظهور بعد أن رجعت القافلة ونجت، لكنهم أخذوا بمشورة أبي جهل الذي قادهم إلى الهلاك حيث قال: والله لا نرجع حتى نشرب الخمور.
وستأتي في آخر القصة مقارنة بين قول هؤلاء وقول أولئك، كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد انتهاء المعركة طأطأ رأسه ورفع يديه إلى السماء مخاطباً ربه بالدعاء، وشاكراً له نعمة الانتصار، وأولئك يقولون: سنشرب الخمور، وسننحر الجزور، وستضرب علينا القينات، أليس هذا هو قولهم اليوم أيضاً؟! أليس هذا هو قول معسكر الكفر والشرك في هذه الأيام؟ بلى والله، فالكفر ملة واحدة لا تتغير ولا تتبدل، يتغير الناس لكن العلة واحدة، فمعسكر المشركين خرج بطراً ورئاء الناس، ومعسكر المسلمين خرج لنصرة الله ورسوله.
وفي ظل الأحداث والمستجدات هنا وهناك، بلغ المسلمين خبر إفلات القافلة وأنه لا مجال لإدراك القافلة، ولكن الخبر الأهم: أن قريشاً تحركت بجيش كبير إلى بدر لحماية تلك القافلة، وهي الآن على مشارف بدر، وهذا الخبر أهم من الخبر الأول.
مكة خرجت بجيش ضخم فيه كل الاستعدادات، واتجهت نحو بدر، فماذا سيصنع جيش المسلمين الصغير؟ المسلمون ما خرجوا لقتال أبداً، فكيف سيتصرف النبي صلى الله عليه وسلم مع تغير الأحوال والظروف؟ الصادق على أتم الاستعداد للبذل والعطاء مهما تغيرت الظروف، فلله عبودية في الرخاء، ولله عبودية في الشدة، والكثير منا يحقق عبودية الرخاء، فإذا جاءت الشدة لم يثبت إلا القليل.
ولذلك كان من سنن الله وحكمته أنه يبتلي الناس حتى يصلحهم، والله أعلم بالشاكرين، وحتى تقام الحجة على فلان وفلان كما قال تعالى (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179]، وما الذي يميز الناس؟ هل الرخاء يميز الناس؟! فكلٌ يدعي وصلاً لليلى وليلى لا تقر لهم بذاك فالمواقف هي التي تربي الرجال، (فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد:21]، ومما لا شك فيه أن ترك جيش الكفر يجوس خلال الديار فيه إهانة للجيش المسلم، فإذا ترك ذلك الجيش يطوف بين القبائل يستعرض قوته العسكرية والاقتصادية، ويعلم الناس أن قافلته قد نجت؛ فسيكون فيه إضعاف لهيبة المسلمين، الذين بدءوا بدورهم في إرسال السرايا هنا وهناك لإظهار قوتهم، فإذا سكتوا عن قوة قريش هناك فمعناه ذهاب هيبة المسلمين.
ثم في ذلك امتداد لفرض قريش سيطرتها العسكرية والاقتصادية على طول ذلك الطريق، فترك ذلك الجيش في استعراضاته الاستفزازية من مكة إلى بدر دون اشتباك مع جيش المدينة فيه إظهار ضعف المسلمين، فإن الفريق الكافر قد خرج إلى بدر وكذلك الفريق المسلم، فإذا تراجع الفريق المسلم إلى الوراء فسيكون أمراً لا ترضاه النفوس المؤمنة.
فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدى ولو تراجعوا أيضاً فقد تقول قريش وهي بجيشها وقادتها: ما دام أنهم تراجعوا فلماذا لا نهاجمهم في عقر دارهم؟ فلن يلبث المسلمون قليلاً إلا والمشركون على أسوار المدينة، وفي هذا إذلال للقوة المسلمة.
ثم تغيرت الموازين بأمر من الله سبحانه وتعالى.
فالمؤمنون يتربون بالمواقف، والذي يتحكم بالمواقف هو الله جل في علاه، يقلب الموازين، ويغير الأمور، وله مقاليد السماوات والأرض.
يا إخوان! لقد استمرت الشيوعية سبعين سنة، وما كان أحد يظن أن الشيوعية ستسقط، فمن الذي أسقطها؟ إنهم الرجال على جبال أفغانستان، فقد كان المعسكر الصليبي يخاف أن يتجرأ على الشيوعية؛ ولذلك لم يسقطها الصليبيون، بل أسقطها أبطال الإسلام، أسقطها الشباب بتضحياتهم، وبدمائهم، ثم قطف الصليبيون الثمرة وتآمروا على المسلمين بعد أن حصل ما حصل.
ولذلك لما تغيرت الظروف والأحوال اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بتلك التغيرات، وكانت رغبة النبي صلى الله عليه وسلم قوية جداً في ملاقاة الجيش الكافر، لكنه لم يكن يريد أن يلزم الرجال بما لا طاقة لهم به.(60/2)
وأمرهم شورى بينهم
ثم هو صلى الله عليه وسلم ما أخرجهم للقاء الكفار، بل أخرجهم لملاقاة القافلة التي يبلغ عدد جمالها ألفاً، ويحرسها أربعون رجلاً، فأخرج قوة تناسب ذلك الموقف، وكانوا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، فالأمر مقدور عليه؛ ولذا لم يحرض المؤمنين في المدينة على الخروج أبداً ولم يلزم أحداً بذلك، بل ترك الأمر اختيارياً لمن أراد أن يخرج، وبالرغم من أنه نبي مرسل يأتيه الوحي من السماء والقائد الأعلى، فقد كان يستطيع أن يفصل في الموضوع برأيه، لكنها حرية الإسلام في إبداء الرأي، وسبحان الله! ما أسهل حقوق الإنسان في أي مكان؟ فأسهل حقوقه أن يبدي رأيه، وهذا الحق محروم منه العالم الإسلامي، فلا يستطيع الإنسان فيه أن يقول ما يريد، حتى إننا وصلنا إلى درجة أننا لو تكلمنا فيما بيننا يقال أحدنا: اسكت فللجدران آذان! وأقول: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، فبالرغم من أنه نبي مرسل وهو القائد الأعلى لكنه لم يفصل في الأمر؛ لأن الله قال: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159].
واليوم تتخذ قرارات لا ندري عنها شيئاً، وهي قرارات تتعلق بمصير أمة! قرارات تتخذ والأمة لا تدري من يتخذ هذه القرارات! والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينفرد بالرأي ولا بالقرار، بل سارع إلى عقد مجلس عسكري كما يسمى في هذه الأيام، والمقصد منه تبادل الرأي مع قادة الجيش، فقد تغيرت الظروف، فالموقف الذي وقفه المسلمون كان خطيراً جداً.
إذا: ً tلا عجب يوم أن صدقوا أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لـ عمر: (يا عمر! وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر اطلاعة، وقال: اصنعوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟)؛ وذلك لشدة الموقف الذي وقفوه، فهي أول مواجهة بين المعسكرين، وقد سماه الله يوم الفرقان؛ فهو يوم فرق الله فيه بين عقيدة الكفر وعقيدة الإيمان، ويومها تعلم المسلمون كيفية استمداد أسباب النصر من السماء.
فالجيش المسلم ما خرج للقتال، بل لأخذ قافلة فيها أربعون رجلاً وألف بعير، وبالإمكان السيطرة عليهم في أقل من ساعة، لكن الوضع تغير الآن، فبين لقادة الجيش أنهم خرجوا لأخذ العير، وهم الآن أمام النفير، فقد خرجتم تريدون القافلة، والآن أنتم أمام جيش لا يعلم به إلا الله! فمنذ أن بزغ نور الإسلام في الجزيرة لم تخرج القبائل ألف رجل مدججين بالسلاح عندهم كاملي عدة الحرب، ثم هناك دوافع تدفع المشركين للخروج، منها: حماية أموالهم، ثم الحقد الدفين الذي يحملونه على الإسلام والمسلمين، فليست العدة والعتاد من يحركهم فقط، بل يحركهم الحقد الدفين الذي يحملونه على الإسلام وأهله، ولا يحرك معسكر الباطل اليوم إلا الحقد على المسلمين.
يا إخوان! في الفلوجة يقتلون الأطفال والنساء، فما ذنبهم وهم لم يحملوا السلاح أبداً؟ فكثير من الصحفيين وممن شاهدوا المعركة هناك يقولون: إن إصابات الأطفال والنساء في رءوسهم! رصاصات القناصة تقتنص الأطفال والنساء، فلو قصفوا قصفاً عشوائياً لقلنا: يموت الصغير ويموت الكبير، لكنهم يتعمدون الصغار والنساء! وقد طالبوا بهدنة؛ لأن معسكر الإسلام هناك أراهم أن المقاومة على أشدها، والرجال هناك لم يطالبوا بهدنة ولا بوقف قتال، بل قالوا: أعطونا وقتاً لإخراج الأطفال والنساء ثم اجعلوا المعركة بيننا وبينكم، يخرج الأطفال والنساء فقط ثم سترون كيف ستكون المعركة! وهكذا معسكر الإسلام في كل حين في الاستفادة من مثل هذه الدروس، فحين بدءوا الحصار حول الفلوجة، أجرى صحفي لقاءً مع أحد عامة أهل الفلوجة، يقول له: ماذا أعددتم لهذا الحصار؟ قال: أعددنا لهم لا إله إلا الله، محمد رسول الله! من أين استمدوا هذا الاستعداد؟! أليس من هذه الأسطر؟ أليس من دلك الماضي الذي نستمد منه القوة في كل حين وفي كل زمان.
أبناء الإسلام عندهم أتم الاستعداد للدفاع عن دينهم، حتى عصاة المسلمين، فهم يملكون في قلوبهم من الغيرة على الإسلام ما يكفي للدفاع عن الأعراض، فماذا لو فتحت لهم الأبواب؟! قال الله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} [الأنفال:5 - 6]، لكن هناك وعد رباني ((وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ)) لكن النفوس البشرية {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:7] لكن ليحق الله الحق، ويبطل الباطل، قال سبحانه: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} [الأنفال:42] يعني القافلة، أنت هنا وهم هناك، {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} [الأنفال:42] لكنها المواعيد الربانية، {وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:42].
روى الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره بإسناده عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة: (إني أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة من الشام، فهل لكم أن نخرج إليها عسى الله أن ينفلكموها) قلنا: بلى، فلما سرنا يوماً أو يومين قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم بعدما تغيرت الظروف: (ما ترون في قتال قوم؟) قلنا: لا والله ما لنا طاقة لقتال العدو، ولكنا أردنا العير، ثم كررها عليهم: (ما ترون في قتال قوم) فقلنا مثل ذلك، فقال المقداد بن عمرو: والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، لكنا نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.
يقول أبو أيوب: فتمنينا معشر الأنصار أننا قلنا مثل هذه المقولة، ووالله لو قلناها لكان أحب إلينا من كل مال الدنيا، قال: فأنزل الله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال:5].
وهذا ما حاك في نفوس فريق من المؤمنين؛ لأنهم كرهوا القتال، لكن الله قال: ((كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ))، نعم أحبتي! فالتطورات المفاجئة المتسارعة جعلت الموقف خطيراً جداً، ولا يلامون على مثل هذا رضي الله عنهم، فهم أرادوا العير كما قال الله: ((وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ)) هذا ما أرادوه، وهذا ما خرجوا من أجله، لكنهم علموا أن الله وعدهم إحدى الطائفتين: إما العير، وإما النفير، لكنها النفوس البشرية، ولقد قام رجال بدر بعمل خيالي في ذلك اليوم حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر: (ما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم؟) رواه الشيخان.(60/3)
موقف المهاجرين من القتال في بدر
ذكرت لكم أن الموقف تغير فجأة، فبدل العير وجدوا أنفسهم أمام النفير، ولم يرد القائد الأعلى أن ينفرد بالقرار، فعقد المجلس العسكري الاستشاري، وفي بداية المجلس وقبل أن يتكلم النبي صلى الله عليه وسلم وقف قادة المهاجرين يبدون الاستعداد للقتال بعزم وبتصميم وإصرار، تكلم أبو بكر فأجاد، وتكلم عمر فأجاد، وقال المقداد: امض لما أراك الله فنحن معك، ووالله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، لكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالله لو سرت بنا إلى برك الغماد ما تأخر منا رجل واحد، ويقال: إن برك الغماد: هو آخر مكان في المعمورة، وهذا الكلام يبين مدى الاستعداد والتصميم، ولذلك لا عجب أن يقول الله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} ثم زكى الله الأنصار فقال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
بل وزكى الله كل من سار على طريقهم فقال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
وأقول: إن كانوا هم قد استطاعوا نصره الله ورسوله فنحن أيضاً نستطيع، وإذا هم فعلوا فنحن أيضاً نستطيع أن نفعل، أليس المعتقد واحداً؟ أليس المعبود واحداً؟ أليس النهر واحداً؟ بلى، لكنهم صدقوا، فالمطلوب منا أن نصدق مع الله.
كن كالصحابة في زهد وفي ورع القوم هم ما لهم في الأرض أشباه عباد ليل إذا جنَّ الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياه فيا رب ابعث لنا من مثلهم نفراً يجددون لنا مجداً أضعناه فإذا أقمنا العبودية بالليل كما أقاموها سنستطيع أن نكون فرساناً بالنهار، ووالله! لو صدقنا لفتحت الأبواب، ولن يستطيع أحد أن يغلقها، والله! لو صدقنا لفتحت لنا أبواب الجنان، لكننا نحتاج إلى صدق وعزيمة وتصميم وإصرار كما كانوا.(60/4)
موقف الأنصار من القتال في بدر
تقدم ذكر موقف المهاجرين والذين كانوا أقل من ثلث الجيش، فقد كانوا نحو ثلاث وثمانين رجلاً تقريباً، والنبي صلى الله عليه وسلم يعرف أن المهاجرين ما خرجوا من ديارهم وتركوا أموالهم إلا وعندهم أتم الاستعداد ليعطوا ويبذلوا من أجل نصرة دينهم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يعرف من هذه المجلس موقف الأنصار، فإن ثقل المعركة سيقع على كواهلهم، فقد كانوا أكثر من مائتين وأربعين رجلاً.
ثم هم في بيعة العقبة -التي تسمى بيعة الحرب- بايعوا على النصرة داخل المدينة، وهم الآن خارج المدينة، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يلزمهم بشيء لم يتفق معهم عليه؛ ولذلك أعاد نفس الكلام بعد أن تكلم المهاجرون وقال: (أشيروا علي أيها الناس؟).
فتكلم سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه حامل لواء كتيبة الأنصار في ذلك اليوم، وسيد الأوس والخزرج الذي اهتز له عرش الرحمن عند وفاته.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم يوم مات سعد بن معاذ: (لقد نزل إلى الأرض سبعون ألف ملك يشيعون سعداً ما نزلوا إلى الأرض من قبل) لماذا يا إخوان؟! لأن الأرض تحبهم وكذلك أهل السماء، لماذا سخرت لهم البحار والجبال والأنهار؟ لأنهم سخروا الحياة لله، قال سعد: كأنك تعنينا يا رسول الله؟ قال: (أجل)، فأعلن القائد الأنصاري موافقة الأنصار المسبقة بدون تردد، وأعلن التصميم الصادق على ملاقاة جيش العدو مهما كانت النتائج، فقال مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم: لقد آمنا بك، وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك العهود والمواثيق، فامض بنا لما أردت يا رسول الله! فصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وعاد من شئت، وقارب من شئت -وانظر إلى عقيدة البراء والولاء في حياتهم- وخذ من أموالنا ما شئت، واترك ما شئت، ووالله للذي أخذته أحب إلينا مما تركت، والذي بعثك بالحق! لو استعرضت بنا البحر لخضناه أمامك ما تخلف منا رجل واحد، ووالله لو أمرتنا أن نرمي بأنفسنا من أعالي الجبال لرميناها ما تخلف منا رجل واحد، فامض لما أمرك الله، وما نكره أن تلقى بنا عدوك غداً، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله.
ولاحظوا الفرق بين خروج هذا الجيش وخروج ذلك الجيش، فهذا يقول لله وللرسول: سمعاً وطاعة وبذلاً من أجل الدين، وأولئك يقولون: نشرب الخمور، وننحر الجزور، ونسمع الأغاني والألحان حتى تهابنا العرب كما قال الله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} [الأنفال:47]، ماذا يريدون اليوم؟ هل يريدون تحرير الشعوب كما يقولون؟! إذاً: لماذا يقتل الأطفال والنساء إن كان مقصدهم تحرير الشعوب وتحرير الأمم.
فسر بنا على بركة الله، فتهلل وجهه صلى الله عليه وسلم، وكيف لا يتهلل وهو يرى أثر الإيمان، وأثر القرآن، وأثر الثقة بنصر الله جل في علاه؟! وكانت آخر ابتسامة أطلقها النبي صلى الله عليه وسلم في حياته في صلاة الفجر، في يوم الإثنين، في اليوم الذي مات فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كشف الستار من بيت عائشة فإذا المسلمون في صلاة الفجر صفوف متراصون، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاهم آخر ابتسامة في ذلك اليوم.
يقول الصحابة: حين رأيناه ظننا أنه سيخرج للصلاة معنا، وما رأينا وجهه أجمل من تلك اللحظة التي تبسم فيها، تبسم؛ لأن الأمة على الجادة، لأن الأمة تصلي الفجر، ولأن الأمة ما اتصفت بالنفاق، بل صفت أقدامها أمام الله جل في علاه، فكيف لا يتبسم إذاً؟! وهنا تهلل وجهه في ذلك اليوم حين رأى استعداد هؤلاء وهؤلاء لملاقاة الكفار مهما كانت النتائج، ومهما كانت الآثار، تغيرت الظروف لكن الرجال ما تغيروا! تغيرت الظروف لأنهم خرجوا يريدون العير، فإذا بهم أمام النفير، فإذا استعدادهم الذي أبدوه للقتال كان أعظم من استعدادهم للخروج للقافلة: امض لما أراد الله، فوالله ما يتخلف منا رجل واحد، ويوم أمرهم للخروج إلى القافلة تخلف من تخلف، لأنهم لم يخرجوا للدنيا، ويوم أن صارت المواجهة قتالاً وتغيرت الظروف والأحوال لم يتغير الرجال، فلماذا تغير رجال اليوم؟! لماذا تخلف الأبطال اليوم؟! ولقد صدق من قال: إذا أردنا النصر فلنصلي الفجر، فحتى ننتصر على الأعداء لا بد أن نربي الأبناء، وحتى ننتصر على الآخرين فلا بد أن ننتصر على أنفسنا أولاً، ننتصر على شهواتنا، ننتصر على رغباتنا، نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، لا بد أن نقر ونعترف بذنوبنا وتقصيرنا.
تقول للناس اليوم: توبوا، فيقولون: لماذا نتوب؟ والمنكرات في حياتهم في كل مكان، لكنهم لا يريدون الاعتراف بالذنب، والذي لا يعترف بالذنب لن يتوب، ولا بد أن نقر ونعترف أيضاً أن ما يحدث للمسلمين من مصائب هو بسبب تقصيرنا نحن، فإخواننا يقتلون صغاراً وكباراً ونحن نجلس أمام الشاشات نلهو ونلعب! أيتها المسلمة! لما مات النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر لـ عمر: هيا بنا نزور أم أيمن، واسمعي بارك الله فيك! إلى الهم الذي تحمله المؤمنة الصادقة، لما جاءها أبو بكر وعمر قالا لها: يا أم أيمن! أما تدرين أن ما عند الله خيراً لرسوله؟ قالت: بلى، إني لأعلم أن ما عند الله خير لرسوله، ولكنني أبكي لانقطاع الوحي من السماء، فالمرأة تحمل قضية وهماً، فأين هو همي وهمك؟! وماذا هو همك أنت اليوم؟! قال الناظم في ذلك: يا أم أيمن قد بكيت وإننا نلهو ونمجن دون معرفة الأدب لم تبصري وضع الحديث ولا الكذب لم تشهدي بعض المعازف والطرب لم تشهدي شرب الخمور ولا الزنا لم تلحظي ما قد أتانا من عطب لم تشهدي فرق الضلالة والهوى لولا مماتك لرأيت من العجب لم تشهدي فعل العدو وصحبهم ها نحن نجثو من يهود على الركب واحر قلبي من تمزق أمتي أضحت أمورك أمتي! مثل اللعب تالله ما عرف البكاء سراتنا ومع التباكي لا وشائج أو نسب بكت لانقطاع الوحي أما يبكيك ما يحدث هنا وهناك؟ أما يبكيك انتهاك الأعراض، وإراقة الدماء؟ فقد أصبحت دماؤنا أرخص الدماء على وجه الأرض، فهل هذا بذنوبهم أم بذنوبنا؟ وهل هو بتقصيرهم أم بتقصيرنا؟ ما تبسم صلاح الدين قط، ناهيك عن أن يضحك، فلما قيل له في ذلك قال: كيف أتبسم والأقصى في أيدي الصليبيين؟! ها هو الأقصى يلوك جراحه والمسلمون جموعهم آحاد يا ويحنا ماذا أصاب شبابنا أو ما لنا سعد ولا مقداد ولما طلب عمرو من عمر المدد أرسل له أربعة فقط، قال له: أرسلت لك أربعة من الرجال، الرجل منهم بألف! وأرسل المقداد يوماً إلى أبي عبيدة في الشام وقال له: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (جيش فيه المقداد لا يهزم بإذن الله).
هذا واحد يا إخوان! ونحن ليس عندنا أحد مثل هؤلاء، {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، فلا نريد عواطف أو دموعاً، بل نريد عملاً وامتثالاً لأوامر الله، نريد أن نصدق في أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر، ونريد أن نصدق في توحيد صفوفنا لمواجهة الأعداء.(60/5)
إصدار الأوامر النبوية في الانطلاق إلى القتال
وبعد أن رأى النبي صلى الله عليه وسلم استعداد هؤلاء وهؤلاء قال: (سيروا على بركة الله وأبشروا، فإن الله تعالى وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم) فتحرك الجيش تحفه رحمة الرحمن الرحيم.
إذاً: فأمة الإسلام في أمس الحاجة إلى مراجعة الحسابات، فهذه الابتلاءات التي تنزل من هنا وهناك سببها: الذنوب والمعاصي، بذنبي أنا وأنت، ولا نقول: بذنب فلان أو فلان، أتريد أن تنصر الإسلام؟ إذاً فانصره في نفسك أولاً، فإن لم تكن معهم فلا تكن ضدهم فيؤتى الإسلام من قبلك أنت، ولا تكن سبباً في إضعاف المسلمين أو سبباً في إنزال العقوبة على المسلمين، أليست العقوبة إذا حلت تحل على هذا وذاك؟! فالله لا يريد منا الصلاح فقط، بل يريد منا أن نكون المصلحين، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117].
فما أكثر الأخبار عن الفساد في الأسواق، بل توجد الآن ثياب نسائية مكتوب عليها: أكاديمية (ستار)! وجعل البعض شعارها: تعرف علي بسرعة، وأنت في قلبي، وكذا! عبارات تدعو إلى الرذيلة، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من رأى منكم منكراً فليغيره)، فمن رأى منكم هذه الثياب فلا يسكتنّ عنها حتى تبرأ الذمة أمام الله جل في علاه.
هذا، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(60/6)
سلسلة معركة بدر [3]
ما إن نزل جيش المسلمين بالقرب من بدر حتى شرع النبي عليه الصلاة والسلام في القيام بأعمال استكشافية حتى يؤمن المعسكر الإسلامي، فقام بهذه المهمة بنفسه، وهذا يدل على شجاعة وحنكة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتمت هذه المهمة على أكمل وجه، ثم بعث بعض أصحابه بعملية استكشافية أخرى؛ فنزل بدراً وهو يعلم أين يقع معسكر المشركين وكم يبلغ عددهم، فسبق إلى بدر وهدم الآبار على المشركين، ومنعهم من الوصول إلى الماء، وبالمقابل حصل نزاع في جيش المشركين بين قادتهم، ومن هنا بدأ نصر الله.(61/1)
الاستعدادات والتجهيزات التي قام بها الجيش الإسلامي قبل المعركة
لا زال الحديث مستمراً، فإلى الآن لم تبدأ ساعة الصفر في المعركة، فأي معركة يجب أن تسبقها أحداث، وتسبقها مناوشات، وتسبقها محاولات واستخبارات.
ففي بعض الأحيان تحاول الفرق أن تتجنب الحرب، ولذلك ما كانت جيوش المسلمين تفتح أي بلاد حتى تنذر أهلها، وتخبرهم أننا ما جئنا مدمرين، ولا جئنا غزاة، ولا جئنا من أجل شيء من الدنيا، ولكن أسلموا تسلموا، فما جئنا إلا لنبشر وندعو إلى هذا الدين، لكن إن حددت الأمور، ولم يكن هناك إلا المواجهة، فأبطال الإسلام على أتم الاستعداد للمواجهة مهما كانت الظروف، ومهما كانت الأحوال.
ولك أن تتخيل ثلاثمائة رجل أجبرتهم الظروف على المواجهة، فما تخلف منهم رجل واحد بل قالوا: امض لما أمرك الله، فوالله لو أمرتنا أن نرمي بأنفسنا من أعالي الجبال لرميناها ما تخلف منا رجل واحد! بالرغم من أن التكاليف كانت شاقة على الرجال ومع هذا ما تخلف منهم رجل واحد، واليوم نجد التكاليف أيسر ما تكون، ومع هذا فالمتخلفون آلاف مؤلفة! نسأل الله ألا يجعلنا وإياكم من المتخلفين.
أقول فلنتابع وإياكم موجز الأخبار قبل ساعة الصفر: من صفات القيادة الناجحة التواضع واليقظة، فأي قيادة حتى تستطيع أن تكسب أولئك الذين ينطوون تحت لوائها لا بد أن تكون قيادة متواضعة، وقد استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يكسب الأتباع ويؤثر عليهم قال الله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:159]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، فقد كان كواحد منهم، يتعاقب معهم على البعير، فإذا جاعوا جاع، وإذا شبعوا شبع، وإذا أكلوا أكل، وإذا جاهدوا جاهد معهم، وهكذا استطاع أن يؤثر عليهم، ولن نستطيع أن نؤثر على البشرية إلا إذا سرنا على نفس الخطى وعلى نفس الهدي.
وكانت تلك القيادة يقظة تعمل كل ما فيه مصلحة للمسلمين، فتحفظهم من الشرور، وتسعى إلى كل ما فيه خير من أجل أن يقام دين الله.(61/2)
استكشاف يقوم به النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه
فما إن نزل القائد الأعلى بجيشه قرب بدر حتى قام هو بنفسه باستكشاف المنطقة، وما أرسل فلاناً ولا فلاناً، بل قام هو بنفسه صلى الله عليه وسلم بعملية الاستكشاف لمعرفة أخبار العدو، محاولاً بنفسه التعرف على حقيقة جيش مكة، وتحديد مواقعه، مع العلم أن في هذا خطورة على القائد، فقد كان بإمكانه إرسال أي جندي من جنوده حتى يتتبع الأخبار، لكن لكي يريهم القائد أنه مثلهم في القيام بنفس الأدوار التي يقومون بها.
وكان في ذلك خطورة، لكننا نتكلم عن أشجع الشجعان، يقول أهل المدينة: سمعنا صوتاً ذات ليلة فخفنا منه، فخرجنا فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم راجع، قد سبقهم إلى الخروج للاطمئنان على أحوال المدينة، وكان قد خرج بفرس لـ أبي طلحة ليس عليها سرج، فلما اطمأن أن الوضع آمن، رجع وهو يقول لهم: (لن تراعوا، لن تراعوا) ما نام وترك الرعية، بل كان يسهر على راحتهم.
خرج معه مرافقه أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه رفيق الغار ورفيق الدرب، فبينما هو صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الجولة الاستكشافية، وقف على رجل شيخ من العرب، فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يسأله عن أخبار جيش مكة، لكنه خاف أن يظنه من جيش المسلمين، فسأله عن الفريقين، فقال: (أخبرني عن جيش مكة؟ وأخبرني عن جيش المدينة؟) فقال له الشيخ: لا أخبرك حتى تخبراني ممن أنتما؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أخبرتنا أخبرناك)، فإذا قلت لنا بمواقع هؤلاء ومواقع هؤلاء فسنخبرك ممن نحن؟ فقال الشيخ: أو ذاك؟ يعني: لا يوجد أخذ أو عطاء، قال النبي صلى الله عليه وسلم (ذاك الذي سمعت)، فقال الشيخ: فإنه بلغني أن محمداً وأصحابه قد خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذي أخبرني قد صدق فهم اليوم في الموقع الفلاني، وبلغني أن أهل مكة خرجوا في يوم كذا وكذا، فإن كان الذي أخبرني صادق فهم اليوم في موقع كذا وكذا، وصدق في قوله ذلك، {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ منكم} [الأنفال:42]، أي: مر الركب من جهة البحر، فلما فرغ الشيخ من خبره، قال: ممن أنتما؟ فقال بأبي هو وأمي: (نحن من ماء)، يعني: خلقنا من ماء، وصدق فهو لا يكذب ولا ينطق عن الهوى، ثم انصرف بعد أن عرف بالتحديد مواقع جيش الكفار.
وهنا: يعطينا النبي صلى الله عليه وسلم تشريعا عسكرياً حربياً شرعه النبي صلى الله عليه وسلم، فيجب الحصول على أخبار العدو بأي وسيلة من الوسائل حتى لو أدى الأمر إلى التمويه؛ لمعرفة أخبار الكفار.
والكذب يجوز في مواطن ثلاثة ومنها: هذا الموطن، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكذب قط لا مازحاً ولا جاداً، وإنما موه لأن القضية قضية حرب، وهو حريص على سلامة جيشه.(61/3)
بعث الرسول عليه الصلاة والسلام حملة استكشافية أخرى
وعندما عاد إلى مقر القيادة بعث الاستخبارات من جديد ليتحسس الأخبار، فبعث ثلاثة: علياً والزبير وسعداً، الرجل منهم بألف رجل، بعث ثلاثة وكل واحد منهم يقول: الزاد عندي! فوجد هؤلاء الثلاثة - علي والزبير وسعد - غلامين لقريش يملأان الماء لجيش مكة، فأخذوهما إلى معسكر المسلمين، فاستجوبهما النبي صلى الله عليه وسلم وسألهما عن مكان قريش، فقالا: هما وراء ذلك الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى.
قال: (كم القوم؟ قالا: كثير، فقال: كم ينحروا جزوراً في اليوم؟ قالا: ينحرون كل يوم ما بين تسع إلى عشر جزر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: القوم ما بين تسعمائة إلى ألف) فهو قائد يعرف خطط الحرب من أولها إلى آخرها، ثم سأل الغلامين عن جيش مكة؟ فذكروا صناديد قريش وكبرائها، فذكروا له: عتبة وأخاه شيبة وأبا جهل وأبا البحتري بن هشام وأمية بن خلف والعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وسهيل بن عمرو وغيرهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما تأكد من قوة جيش العدو وأنه خرج بكامل عدته، وخرج بكبرائه وسادته: (هذه مكة قد ألقت إليكم بفلذات أكبادها) يعني: قادتها وصناديدها وسادتها، فقد جاءوا يحاربون الله ورسوله.
والأمر شورى كما علمنا القرآن، وكما كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يوجد انفراد في أي قرار عن المسلمين، ولا ينفرد أحد منهم بقرار يمس مصلحة الأمة، قال الله: {وأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38].(61/4)
الاستعدادات التي قام بها الجيش الإسلامي في أرض المعركة
وفي السادس عشر من رمضان قبل المعركة بيوم، في السنة الثانية من الهجرة تحرك النبي صلى الله عليه وسلم بجيشه ليسبق المشركين إلى مواقع الماء في بدر، ثم يحول بينهم وبين الاستيلاء على مواقع المياه.
وأثناء التحرك حدثت حادثة تجلت فيها عظمة القيادة أكثر مما مضى، فالقيادة لا تتعصب للرأي، وإن رأت رأياً أصلح للمسلمين اتخذته استجابةً لأمر الله أن الأمر شورى بينهم، واليوم تجد أن الشورى في وادٍ ونحن في وادٍ آخر! فلما نزل النبي صلى الله عليه وسلم بدراً، تكلم أحد القادة -وهو الحباب بن المنذر رضي الله عنه وأرضاه- فقال: يا رسول الله! هذا المنزل الذي نزلته هل هو منزل أنزلكه الله إياه -ولاحظ الأدب، فالجندي كذلك يعرف كيف يتكلم مع القادة- فقال: يا رسول الله! المنزل هذا الذي نزلته الآن هل هو منزل أنزلكه الله إياه أم هو الرأي والحرب والمشورة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، بل هو الرأي والحرب والمشورة) فقال: يا رسول الله! فإن هذا ليس بمنزل، فامض بالناس حتى نأتي آخر مواقع المياه وأول موقع لقريش عند الماء، ثم نهدم الآبار كلها، ثم نبني الحوض فنشرب ولا يشربون، حتى يهلك العدو عطشاً.
والمقاتل يحتاج إلى إمداد وسقيا أثناء القتال، فنقطع عنهم المدد المائي.
ولاحظوا الآن فهم يقولون: إن الفلوجة ستستسلم بعد أيام؛ لأنهم يحاصرونها من كل الجهات، وما دروا أن المدد يأتي من السماء! فهم يأخذون بالأسباب المادية، وهم مساكين لا يدرون أن للكون رباً يسيره، يقول الله في الحديث القدسي: (وعزتي وجلالي ما اعتصم بي عبدٌ من عبادي وكادته السماوات والأرض إلا جعلت له من بينها مخرجاً)، وأهل الفلوجة يقاتلون من أجل ماذا؟ أليس من أجل نصرة هذا الدين؟ فسيأتيهم الفرج ليس مني ولا منك، فنحن قد خذلناهم حتى بالدعاء، نسأل الله العفو والعافية، لكن لم يخذلهم رب الأرض والسماء.
فقال: يا رسول الله! نغور المياه حتى نشرب ولا يشربون، فماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: (نعم الرأي) أي: لقد أشرت بالرأي، فذهب الجيش حتى إذا أتى أقرب ماء من العدو نزل عليه، ثم أمر بالقلب -جمع قليب- فغمرت عملاً بمشورة الحباب، ثم بنى حوضاً على القليب الذي نزل عليه فملئ ماءً.
إنها أمة القرآن التي قال الله عنها: {وأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]، وقال الله لنبيه: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159].
فالأمر في جيش المسلمين شورى ومحبة ومودة وثقة ويقين واستعداد، وانظر! ففي المقابل قريش {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14]، وهم إلى اليوم هكذا لا يتغيرون، ووالله ما أتينا من قبل قوتهم، ولكن بسبب ضعفنا وتفرقنا نحن، فلو اجتمعت كلمتنا وتوحدت صفوفنا فوالله الذي رفع السماء وبسط الأرض لن تقوم لهم قائمة على ما عندهم من العدة والعتاد.
قال ابن عثيمين: يستطيع الله بلحظات أن يضرب زلزالاً يدمر من القوى ما لا تستطيع قواهم أن تفعله في سنوات، فبقوة جبار السماوات يضربهم بزلزال يسقط قواهم من أولها إلى آخرها حتى لو اجتمعوا.(61/5)
الشقاق والنزاع في جيش قريش قبل معركة بدر
عسكرت قريش بالعدوة القصوى من الوادي، وكانوا خبراء حرب، فبثوا سلاح الاستكشاف والاستخبارات حول جيش المدينة، فدار عمير بن وهب -الذي سيأتي خبر إسلامه- حول الجيش المسلم، وكان من شياطين قريش ومن أشد الناس عداوة للمسلمين، ولكن الله يهدي من يشاء، دار حول جيش المدينة ثم عاد ليخبرهم: بأن جيش محمد قرابة ثلاثمائة، يزيدون قليلاً أو ينقصون، ثم أخذ جولة ثانية خلف الجيش حتى يعرف إن كان هناك كمائن أو مدد سيأتيهم ثم رجع يطمئن جيش مكة: أن لا مدد أو كمائن، فلا وجود لأي كمين خلف جيش المدينة.
وهذا عمل عسكري احترازي، ولا بد أن نعطي كل ذي حق حقه، حتى لو كان كافراً، فلابد أن نقول: فيه من الصفات كذا وكذا، والله تعالى يقول: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام:152]، لكنه عمل عسكري عمله ونصح به قادة مكة وحذرهم وهو يصف جيش النبي صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: ماذا رأيت؟ قال: رأيت البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، ثلاثمائة رجل كأنما يتطاير الشرر من أعينهم! وقوله: (نواضح يثرب)، يعني: الجمال، تحمل الموت الناقع، يعني: الموت المؤكد، ثم قال: قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، ووالله! ما أرى أن الرجل منهم يقتل قبل أن يقتل رجلاً منكم، فإن أصابوا منكم بعددهم فما قيمة البقاء؟! فسمعوا كلامه، وبدأت المعارضة من جديد، وبدأت الانشقاقات والخلافات، فهناك اتفاق ووفاق، وهنا خلافات وانشقاقات.
وقد ذكرنا أن الأخنس بن شريك رجع في ثلاثمائة رجل لما علم أن القافلة قد نجت، فحقن دماء قومه، ثم بدأت معارضة ثانية ضد أبي جهل تدعو إلى إعادة الجيش إلى مكة دونما قتال، وكانت هذه المعارضة أكبر من المعارضة الأولى.
ففي المعارضة الأولى قال الأخنس بن شريك لقومه: اجعلوا جبنها فيّ أنا أتحمل جبنها وارجعوا ولا تقاتلوا القوم، لكن هذه المعارضة كانت أقوى من التي قبلها، فقد قادها عتبة بن ربيعة سيد بني عبد شمس، يسانده حكيم بن حزام، وحكيم أسلم وحسن إسلامه، ومن مناقبه أنه الوحيد الذي ولد داخل الكعبة.
فظهرت الخلافات قبل المعركة بيوم أو بعض يوم، فكيف ستكون معنويات جيش بدأت الخلافات فيه قبل ساعة الصفر؟ وقد دعت هذه المعارضة إلى عدم الاصطدام مع جيش المدينة، والموادعة والرجوع إلى مكة دونما قتال، ومشى حكيم بن حزام بين الجيش حتى يدعوهم إلى مثل هذا الأمر، وتأييد هذه المعارضة، فجاء حكيم إلى عتبة يعرض عليه الأمر -وكان عتبة أول قتيل بين الصفين- فقال: يا أبا الوليد! إنك كبير قريش، ورجل عاقل، وسيدها المطاع، فهل لك إلى خير تذكر به إلى آخر الدهر، قال: وما ذاك؟ قال: ترجع بالناس، وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي، يعني: تتكفل بديته، قال عتبة: قد فعلت، إذا كنت ضامناً بذلك، وهذا مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن يفلحوا فبرأي صاحب الجمل الأحمر).
فالنبي صلى الله عليه وسلم يعرف عقول الرجال، ويعرف عقلية أبي جهل، ويعرف عقلية عتبة، قال عتبة لـ حكيم: ائت ابن الحنظلية، يعني: أبا جهل، فإني لا أخشى على الناس غيره، يعني: أنه متكبر متجبر، وكان قد ولى نفسه على الجيش من دون أن يختاروه، ثم قام عتبة خطيباً في الجيش داعياً للانسحاب دونما قتال فقال: يا معشر قريش! إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمداً وأصحابه شيئاً، يا معشر قريش! إنكم ستلاقون آباءكم وإخوانكم وبني عمومتكم، ووالله لا أراك إلا ستنظر إلى وجه تكره أن تقتله، فارجعوا وخلوا بين محمد والعرب، فإن كفيتموه كفيتموه بغيركم، وإن ظهر فعزه عزكم.
يعني: لماذا نتواجه مع الآباء والأبناء وبني الأعمام وبني الأخوال؟! فكلنا عشيرة واحدة، فارجعوا، وخلوا بين محمد وبين سائر العرب.
فكانت هذه المحاولة من عتبة مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم حينما رأى الجيش: (إن يكن في القوم من خير ففي راكب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يرشدوا).
وما أن سمع أبو جهل بدعوة عتبة حتى استشاط غضباً، وركبه الشيطان، ثم اتهم عتبة بالجبن والخوف على ابنه أبي حذيفة الذي أسلم، وهو من السابقين الأولين في الإسلام، فقال أبو جهل: والله ما منعه إلا الجبن وخوفه على ابنه، فقال لـ حكيم رسول عتبة: قد انتفخ -والله- سحره، يعني: انتفخت رئتيه، والعرب كانت تقول هذا لمن بلغ منه الخوف مبلغه، فقال: والله ما أراه إلا قد انتفخ سحره من الخوف والجبن من لقاء محمد وأصحابه، كلا والله لا نرجع، حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وما بـ عتبة إلا أنه رأى أصحاب محمد أكلة الجزور وفيهم ابنه فخاف عليه، والله! لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد.
ثم تزايد غضب أبي جهل وجرد سيفه وضرب حصانه على عاتقه، فقال إيماء بن رحضة الغفاري: والله بئس الفأل هذا.
ولما بلغ عتبة قول أبي جهل: انتفخ -والله- سحره، قال: سيعلم من ينتفخ سحره أنا أم هو؟ فما رأيكم في هؤلاء القادة الآن؟ قيادة الجيش بدأ بينها هذا الشقاق وهذا النزاع لأمر يريده الله، وتغلب الطيش على الحكمة والروية، فهدمت معارضة صاحب الجمل بسبب الطيش والتكبر والتجبر، فكان لا بد من الاصطدام بين جيش تغلب عليه الطمأنينة والاستقرار وأمرهم شورى، وبين فريق آخر بدأ المعركة بشقاق وخلافات، ولذلك بين الله لنا في سورة الأنفال كيف يكون النصر؟ وأنه يكون بالاتصال بالله، فلا بد أن تتصل القوة الأرضية بالقوة السماوية فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:45 - 46].
فقد ذهبت ريحهم بسبب الخلافات {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال:42]، ما الذي قاد أبا جهل إلى مثل هذا؟ إنه الحقد والكراهية لمحمد ولأصحابه، وهذا هو الذي يقودهم اليوم أيضاً، هذا هو الذي يقود اليهود والنصارى ضدنا، إنه الحقد والكراهية {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8].
ما ذنب خمسين ألف في أفغانستان؟! وما ذنب مليون ونصف على مدى عشرة أعوام يقتلون؟! إنه الحقد على الإسلام وأهله، لكنهم لن يضروا أهل الإسلام لا من قريب ولا من بعيد.
وكذلك كان أبو جهل من أشد الناس حقداً وعداوة على المسلمين وبغضاً للنبي صلى الله عليه وسلم، فلقد تميز من الغيظ لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، وكان هو صاحب المشورة بقتل النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: نجمع مائة من الشباب من شتى القبائل حتى يضيع دم محمد هدراً بين القبائل، ولا تستطيع بنو هاشم أن تطالب بدم محمد، فهو صاحب ذلك الرأي، فتخيل شعوره يوم أن خرج النبي صلى الله عليه وسلم ووصل إلى المدينة، وتخيل تلك الفرصة التي ينتظرها عندما أخبر أن جيش المسلمين ثلاثمائة رجل فقط، وهو قد دبر ألف حيلة حتى ينتقم من المسلمين ويصب عليهم جام غضبه {ولَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال:42]، فقد كان يرى أنها فرصة ذهبية للفتك بالمسلمين خاصة لما علم بقلة عددهم، فقال: اليوم نفعل بهم الأفاعيل، وما درى أنهم سيفعلون به الأفاعيل، وستنقلب عليه الموازين، مع العلم أن أبا جهل يعلم في قرارة نفسه أن محمداً صلى الله عليه وسلم على حق، لكنه الحقد الأسود.(61/6)
من أخبار الدعوة قبل الهجرة
وسأرجع بكم قليلاً إلى الوراء، وبالتحديد إلى الأيام التي كانت الدعوة في مكة في بدايتها، يوم أن أنزل الله على نبيه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1 - 2]، فهذه بداية الدعوة لماذا؟ {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:5 - 6]، فكيف ستتحمل أعباء الدعوة إلا إذا كنت صادقاً في الليل؟ وكيف ستكون فارساً بالنهار قبل أن تكون فارساً بالليل؟ فعلى مدى سنة كاملة والنبي صلى الله عليه وسلم يقوم الليل كله؛ فما جاء التخفيف إلا بعد سنة! وكانت خديجة تقوم معه، وكان الصحابة الذين أسلموا يقومون معه، ولما علم الله صدقهم أنزل التخفيف فقال: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [المزمل:20]، فقد كان يقوم الليل كله، ويقرأ القرآن، وإذا قرأ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن فلا أجمل من تلك القراءة، يقول أحد الصحابة: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم بنا العشاء ليلة وقرأ: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين:1]، يقول: والله الذي لا إله إلا هو ما سمعت أجمل صوتاً منه في تلك الليلة) فإذا قرأ القرآن الذي أنزل عليه فلك أن تتخيل كيف يكون وقع القرآن على النفوس! وفي بعض تلك الليالي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيته يقوم الليل ويقرأ القرآن حدث أن ثلاثة من صناديد قريش وعظمائها جاءوا يتسللون في الليل من دون أن يعلم بهم أحد، وكل منهم جلس عند بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فما الذي أجلسهم؟ لقد أجلسهم القرآن! واليوم أمة الإسلام تجلس على جلسات غنائية حتى مطلع الفجر، وكفرة قريش يجلسون حتى طلوع الفجر يستمعون القرآن، والله إنه أمر عجيب! فما قدرنا هذا الكلام حق قدره، فقد ظهر أثر القرآن على النفوس الكافرة، ولم يظهر على كثير من أبناء المسلمين اليوم! فالقرآن لا يدخل البيت الخرب، فإذا جاء القرآن إلى قلب المؤمن ووجد فيه خراباً خرج، فلا يجلس الحق مع الباطل في مكان واحد، ولا يجتمع الغناء وكلام الرحمن في قلب كما قال ابن القيم: حب الكتاب وحب ألحان الغنا في قلب عبد ليس يجتمعان واليوم نحن أمة ألحان وأغان، حتى في حرب السبعين، يوم أن عبر المسلمون أقوى خطوط دفاعية في العالم، عبروها أول الأيام بالتكبير والتهليل، وما هي إلا أيام حتى انقلبت الموازين، وبدأت الإذاعات تقول: أم كلثوم وفلان وفلان يقيمون الحفلات الغنائية لانتصار المجاهدين! ويوم أن انتصر المسلمون في بدر وقف النبي صلى الله عليه وسلم يثني على ربه، ويخاطب ربه بالدعاء، فما أقام حفلات غنائية كما قال أبو جهل: لننحرن الجزور، ونشرب الخمور، وتضرب لنا القينات، حتى تسمع بنا العرب قاطبة فتخافنا، إنما أثنى على ربه.
ولما دخل مكة في ساعة الانتصار -وساعة الانتصار هي أعظم الساعات واللحظات- دخل على ناقته مطأطئ الرأس يخاطب ربه بالدعاء، وهكذا دخل المنتصر، فما دخل بطراً ولا رئاء الناس.
جاء الأخنس بن شريك وأبو سفيان وأبو جهل يتسللون في ظلام الليل فيجتمعون من دون أن يعلم أي منهم بصاحبه، ويجلسون يستمعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن، حتى إذا أقبل الفجر وخافوا أن يراهم الناس رجعوا، فجمعهم الطريق فسأل كل منهم الآخر: من أين أتيت؟ وكل يدري من أين أتى صاحبه، فتلاوموا، كيف تصدون الناس عن القرآن، ثم بالليل تجلسون تستمعون إليه؟! فتعاهدوا ألا يرجعوا إلى مثل هذا، والوعد والعهد عند العرب له معنى عظيم، ثم ينكثون العهد مرة ثانية، وفي الوقت المحدد أوى كل منهم إلى مكانه خلف بيت النبي صلى الله عليه وسلم يستمعون القرآن مرة ثانية، فلما بزغ الصباح وتنفس الفجر جمعهم الطريق: ماذا بكم؟ ماذا بك يا أبا الحكم؟ وماذا بك يا أبا ثعلبة؟ وماذا بك يا أبا حنظلة؟! فقد أثر القرآن على تلك النفوس، وعلموا أن الكلام ليس بكلام بشر، ثم نكثوا العهد للمرة الثانية، فلما جاءت تلك الساعة التي يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم سيقوم فيها، إذا كل واحد منهم في مكانه في الوقت المحدد حتى إذا أصبح الصباح في اليوم الثالث ورأى بعضهم بعضاً تلاوموا نقضهم العهد والميثاق للمرة الثالثة، فما الذي جعلهم ينقضونه؟! إنه أثر القرآن، ثم تجد أن القرآن اليوم ليس له أثر في نفوسنا، وأن كلام الرحمن ليس له أثر في نفوس كثير من المؤمنين، ونحن لا نخاطب كفار اليوم، بل نخاطب المؤمنين الذين أنزل عليهم القرآن.
سبحان الله! تعاهدوا ثلاث مرات، فإذا بهم ينكثون العهد والوعد في كل مرة، ولما أصبح الصباح وقد آوتهم منازلهم، خرج الأخنس بن شريك فذهب إلى أبي سفيان فقال: يا أبا حنظلة! أسألك بالله! الكلام الذي سمعته من محمد في ثلاث ليال ماذا تقول فيه؟ قال: والله ما سمعت مثله قط، عرفت بعضاً منه، ولم أعرف بعضاً منه، لكنني وجدت له أثراً في قلبي، من الذي يعترف بهذا الكلام؟ إنه أبو سفيان عابد الأوثان، فقال الأخنس: وأنا والله كذلك، فوالله! إن لهذا الكلام أثراً واضحاً في قلبي.
ثم ذهب إلى أبي الحكم -وهو أبو جهل - فقال: يا أبا الحكم! الكلام الذي سمعته من محمد في ثلاث ليال، ماذا تقول فيه؟ قال: والله! إني لأعلم أنه حق، ما كذب محمد على بشر، فهل يعقل أن يكذب على الله؟! من الذي يقول هذا الكلام؟ إنه أبو جهل، يقول: ما كذب على البشر على مدى أربعين سنة، وهو الصادق الأمين، فقد أثر عليهم قبل الرسالة فكيف لا يؤثر عليهم بعد الرسالة، إذاً ما الخبر؟ قال أبو جهل للأخنس بن شريك: نحن وبنو عبد مناف تنافسنا الرئاسة، أطعموا فأطعمنا، وسقوا فسقينا، وأعطوا فأعطينا، وبذلوا فبذلنا، حتى تحاذينا نحن وإياهم الركب في الشرف والمنافسة، فإذا بهم يقولون: فينا نبي يأتيه الوحي من السماء، وأنى لنا بمثل هذا؟! والله لا نؤمن به ولا نصدقه.
مع العلم أنه يدري أنه على حق، كما علم فرعون أن موسى على حق، ومع ذلك: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:102]، {قَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وهو أدرى الناس بكذبه، كما علم أبو جهل بصدق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أول المكذبين، والدافع: هو الحقد والكراهية وبغض المسلمين قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14] لكن: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53].
والآن يقودون نفس الحملة من نفس المنطلق، وإلا فهم يعلمون في قرارات أنفسهم أننا على حق، وأن قرآننا حق، وديننا حق، ومعتقدنا حق، لكنها العداوة كما قال الله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى} [البقرة:120]، فالكفر ملة واحدة لا تتغير ولا تتبدل، {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]، تغيظهم كثرة سواد المسلمين، وصحوة المسلمين، وصفوف المسلمين في الصلوات، وإقبال الشباب على الطاعات، هذا والله الذي يغيظهم، فكلما ظنوا أنهم تمكنوا من شباب المسلمين إذا بشباب المسلمين أفواج يملئون المساجد من جديد، فتجد عندهم الاستعداد والتضحية والبذل من أجل هذا الدين.
- يقول أحدهم: كنت أعجب من ابن السادسة عشرة والسابعة عشرة على جبال أفغانستان بربطته الحمراء، لكن ما الذي يحركهم؟ إنه: المعتقد، حب الشهادة، فهو حب لا يستطيعون أن يطفئوه في الأمة، فحب الشهادة والموت من أجل دين الله، لا يستطيع أحد أن يطفئه في هذه الأمة، شاء من شاء وأبى من أبى، فليفعلوا ما يريدون، فوالله لن يموت حب الجهاد في الأمة، وحتى النساء فلن يموت حب الجهاد في أنفسهن.
فقد خرجت امرأة تقول لـ أبي قدامة: مات أبي ومات أخي ومات زوجي في الجهاد، والله لو أن الله كتب الجهاد على النساء لخرجت مجاهدة في سبيل الله! ولا زالت نساؤنا يرددن مثل هذا الكلام، قال الله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:32 - 33].
ولك أن تتخيل الثلاثة الكفار يتركون فرشهم في الليل، ويتسللون ويمكثون ساعات الليل كلها يستمعون إلى القرآن! فأين أثر القرآن اليوم في حياتنا؟! فنحن لا نستطيع أن نجد للقرآن أثراً والمعازف والألحان في كل مكان.
فالقضية اليوم في حياتنا صارت قضية خوف، فعندنا الطاعات، ولكن في المقابل تجد قارئ القرآن يسمع الأغاني! يسمع كلام الرحمن وكلام الشيطان، فيجمع بين المتناقضات، فهو يطيع في ساعة، ويعصي في ساعة، فلن يستقيم الحال هكذا، وإنما يستقيم الحال إذا سرنا على طريق الطاعات، وتعبدنا الله بترك الفواحش والمنكرات، فمتى يكون هذا إذا لم نصدق الآن في شدة الظروف والأحوال؟ {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ)(61/7)
فتح مكة في رمضان
لقد كان فتح مكة انتصاراً لأهل التوحيد بكل المقاييس، وما ذاك إلا لوجود رجال بذلوا أوقاتهم وأموالهم وأنفسهم لنصرة هذا الدين، لا كحال كثير من شباب اليوم ورجالهم، فهم شباب ورجال قذف الله في قلوبهم الوهن، إلا من رحم ربي وقليل ماهم، وما أصاب الأمة من ذل وهوان فهو بسبب هؤلاء الذين ما عرفوا لماذا خلقوا، أو عرفوا ولكنهم في غفلة عما خلقوا له!!(62/1)
سبب غزوة مكة وفتحها
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله! في مثل هذه الأيام المباركة من رمضان دخل المسلمون بقيادة القائد الأعلى محمد بن عبد الله صلوات ربي وسلامه عليه مكة فاتحين منتصرين، يسبحون الله ويثنون عليه مكبرين، فبعد أن خانت مكة العهود والمواثيق لا بد من تأديب الخونة والكاذبين، لقد عقد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية صلحاً تاريخياً مع قريش، وقد التزم صلى الله عليه وسلم بكل دقة متناهية ببنود هذا الصلح، فطبقه نصاً وروحاً، فبرهن عملياً على أصالة الأخلاق الإسلامية في الالتزام بمبدأ الوفاء، لكن إن خانوا العهود، وبدلوا المواثيق أفنرضى بالذل والهوان؟ أما قال الله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال:58]؟ خانت قريش العهد فأمكن الله منهم، وسيمكن الله من جميع الخائنين.
لقد كان من بنود الصلح الجائرة الظالمة: أنه من أتى المسلمين من الكفار مسلماً ردوه إلى قريش، ومن أتى من المسلمين إلى قريش مرتداً فلا ترده مكة إلى المسلمين، لقد أصاب المسلمين الهم والغم من ذلك، لكن الله جعل ذلك نصراً وفتحاً مبيناً للمسلمين، فما حاجة الإسلام للمرتدين؟ ولقد وفى لهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فرد من أتاه من الرجال إلى مكة، ومن أولئك الرجال أبو بصير مسعر الحرب وقائد الثوار المسلمين، الذي أنشأ له قاعدة تضرب قوافل قريش والمشركين.
ومن بنود ذلك الصلح أيضاً: ألا تعتدي قريش وحلفاؤها من كنانة على المسلمين وحلفائهم من خزاعة، وأن تضع الحرب أوزارها بينهم لعشر سنين إلى غير ذلك من البنود، فالتزم النبي صلى الله عليه وسلم وحلفاؤه بالعهد، ووقفوا عند شرف الكلمة التي أعطوها، فهل التزمت قريش وحلفاؤها بالعهد والوعد، ووقفوا عند شرف الكلمة التي أعطوها؟ كلا، أقدمت كنانة بمساندة حلفائها القرشيين على جريمة من أبشع جرائم الغدر والمكر والخيانة، غدروا بأكثر من خمسة وعشرين من خزاعة، فقتلوهم داخل الحرم، ولم يمض على توقيع الصلح سنتان، قتلوهم وهم عزل من السلاح في حالة تهجد وتبتل ركعاً سجداً آمنين مستأمنين، فكان ذلك بمثابة نكث ونقض كامل لبنود صلح الحديبية، وعندما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم نبأ ذلك العمل الإجرامي المتمثل في الغدر بحلفائه الذين بموجب الصلح له ما لهم وعليه ما عليهم، لم يتعجل بأبي هو وأمي، بل أرسل إليهم مبعوثاً خاصاً يتضمن تخيير قريش الطرف المسئول عن تنفيذ بنود الصلح بين ثلاثة أمور: إما أن تدفع قريش وحلفاؤها من كنانة ديات القتلى من حلفاء المسلمين من خزاعة، فيستمر مفعول الصلح.
وإما أن تتبرأ قريش من الغادرين من كنانة ليصفي النبي صلى الله عليه وسلم الحساب معهم وحدهم، وينزل بهم العقاب الذي استحقوه لغدرهم بحلفائه.
وإما السيف بينه وبينهم، بصفتهم مسئولين عن تنفيذ الصلح؛ ولأن الغدر تم بموافقتهم وتأييدهم، فتكبرت قريش وتجبرت، ورفضت دفع الديات، ورفضت أن تتبرأ من الغادرين، وأنها ترحب بالحرب وتفضلها، فجاهرت بخيانتها وتبجحت بها، فكان لا بد من نصرة المظلومين، والاستجابة لأمر الله الذي قال: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال:58]، وقال: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:71]؛ لذلك قرر النبي صلى الله عليه وسلم الزحف على المشركين في مكة، فتحرك من المدينة في جيشه العظيم الذي بلغ عشرة آلاف مقاتل؛ لتأديب الخائنين الناكثين، فداهم مكة على حين غفلة من أهلها، وقد طمس الله عنهم أنباء الغزو الشامل من قبل، حتى وصلت طلائع الجيش النبوي إلى ضواحي مكة، فأسقط في أيدي زعمائها الذين رأوا ثمن الخيانة والغدر سيوفاً إسلامية تلمع وتحيط بهم من كل جانب، فلم يسعهم حين أحاطت بهم القوات المسلمة من كل الجهات إلا الاستسلام والتسليم.(62/2)
أبو سفيان يخرج من مكة مستطلعاً أخبار المسلمين
خرج أبو سفيان قائد مكة ليرى الخبر، فاستقبله العباس واستأمن له عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ارجع إلى قومك ولك ولهم الأمان).
فرجع أبو سفيان، وأخذت كتائب الجيش المسلم تتأهب لدخول مكة، وأخذت تمر أمام أبي سفيان وهو واقف ينظر ويتعجب، وكلما مرت به كتيبة كبرت: الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! فيسأل العباس: من هؤلاء؟ فيخبره عنهم، حتى أقبلت الكتيبة الخضراء التي يحمل رايتها سعد بن عبادة، وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم محاط بأصحابه، ورديفه شاب صغير هو أسامة بن زيد حبه وابن حبه، فمرت الكتيبة الخضراء وهم في الحديد لا يرى منهم إلا حدق العيون، وفيهم ألفا دارع، فانخلع قلب أبي سفيان، إنها كتيبة لم ير العرب مثلها بأساً وإقداماً، فقال أبو سفيان: ما لأحد بهؤلاء طاقة، والله -يا أبا الفضل - لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً، قال العباس: يا أبا سفيان! إنها النبوة، وإنه نصر رب العالمين، قال: نعم، هي إذاً، فما أغنت عنا آلهتنا من شيء.(62/3)
دخول النبي وأصحابه مكة فاتحين
ثم انطلق أبو سفيان إلى أهل مكة، وأعلن لهم الأمان الذي منحه إياهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا من حمل سيفاً، أو تعرض لكتائب المسلمين، فدخلت الجيوش المسلمة مكة من جميع الجهات، واستسلمت مكة، فلم يكن هناك قتال ولا مقاومة إلا ما كان من جيش خالد بن الوليد حين التقى بسفهاء مكة وأوباشها، فرموا خالداً ومن معه بالنبال وعارضوه بالسيوف، فحمل عليهم خالد ومن معه حملة فرقت جمعهم، وهزمتهم شر هزيمة، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة من أعلاها، وضربت له قبة بالحجون فنزل فيها، واستراح من وعثاء السفر، استسلمت مكة للفاتح الرشيد، وألقت مقاليدها بين يديه، وانتهت مهمة القائد بهذا الاستسلام، ركب ناقته القصواء، وتوجه نحو البيت العتيق، ومن حوله المهاجرون والأنصار، يحيطون به من كل جانب، طاف بالبيت سبعاً مطأطئ الرأس، دموعه على خده، يخافت ربه بالحمد والثناء، طاف وهو يردد قول الله: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81] سقطت مكة معقل الكفر والوثنية، وبدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، وأصدر القائد العام عفواً عن أولئك الذين طردوه، وصبوا صنوف العذاب عليه وعلى أصحابه، أولئك الذين حاصروه في الشعب وحرموه ومن معه من أبسط حقوق الإنسان، ألم يتآمروا على قتله، وأخرجوه من مسقط رأسه؟ أما قاتلوه يوم بدر وأحد، وحاصروه يوم الخندق حين تآمروا مع اليهود؟! هاهم اليوم بين يديه وهو قادر على أن يذيقهم العذاب ألواناً، فأعلنها عفواً وإحساناً؛ لأن الله أرسله رحمة للعالمين.
أخي الحبيب! قف معي وتأمل بعد سماع خبر هذا الفتح العظيم في مثل هذه الأيام من هذا الشهر الكريم، عشر سنوات ما بين خروج النبي صلى الله عليه وسلم مطارداً مطلوباً حياً أو ميتاً، وما بين دخوله منتصراً فاتحاً، كيف تحقق هذا النصر ومن الذي حققه؟! تحقق بالإيمان والصبر والثقة واليقين، تحقق بالأخلاق الإسلامية من وفاء وصدق وعفو عند التمكين، تحقق بالإعداد والاستعداد لمثل هذا الفتح العظيم، ولن ينتصر المسلمون اليوم على أعدائهم إلا بما انتصر به أسلافهم من قبل قال تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].
أخي الحبيب! ما كان لتلك الانتصارات أن تتحقق لولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات، وما كان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يصنع ذلك بمفرده، لكن كما قال الله: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:62 - 64] وهل كانت الكوكبة التي التفت حول النبي صلى الله عليه وسلم إلا من الشباب، لكن أي شباب، شباب تربوا على تقوى من الله ورضوان.
شباب ذللوا سبل المعالي ما عرفوا سوى الإسلام ديناً تعهدهم فأنبتهم نباتا كريما طاب في الدنيا غصونا إذا شهدوا الوغى كانوا كماة يدكون المعاقل والحصونا شباب لم تحطمه الليالي ولم يسلم إلى الخصم العرينا وما عرفوا الأغاني مائعات ولكن العلا صيغت لحوناً نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(62/4)
وقفة مع الشباب
الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: أحبتي! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله عباد الله! قال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281].
عباد الله! إن نجاح الأمم يرجع إلى مقدار علو همم شبابها، وإلى مقدار آمالهم وأعمالهم.
يا معشر الشباب! إن الشباب هو القوة، فالشمس لا تملأه النهار في آخره كما تملؤه في أوله، الشباب ثقة وإصرار وعزيمة، الشباب لا يكل ولا يتعب من التعب، كانت حكمة الشباب التي يعملون عليها: اطلب الموت توهب لك الحياة، والنفس إذا لم تخش الموت عاشت عزيزة، إن شجاعة الأسد هي التي جعلته لا يثمن كما تثمن الشاة للذبح، سيكتب التاريخ بأحرف من نور أولئك الشباب الذين التفوا حول نبيهم، ونصروا الإسلام بهمم عالية، وغيروا مجرى التاريخ بإيمانهم وعقيدتهم، هل تأملت معي المشهد حين دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً؟! من الذي كان خلفه ورديفه على ناقته؟! إنه أسامة، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه، ما أجمله وأروعه من منظر والشاب الصغير خلف نبيه على بعيره، وذراعيه ملتفة حول النبي صلى الله عليه وسلم، كان صلى الله عليه وسلم يقول لـ عائشة عن أسامة: (يا عائشة! أحبيه، فإني أحبه).
وفي سن مبكرة لم تتجاوز العشرين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد على جيش بين أفراده وجنوده أبو بكر وعمر بن الخطاب، وسرت همهمة بين نفر من المسلمين تعاظمهم الأمر، واستكثروا على الفتى الشاب إمارة جيش فيه شيوخ الأنصار وكبار المهاجرين، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله، وأيم الله لقد كان خليقاً للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإن هذا - يعني: أسامة ابنه- لمن أحب الناس إلي بعده، وإنه أهل للإمارة والإمارة أهل له)، أتدري أيها الشاب لماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا؟ لأنه رضي الله عنه على حداثة سنه كان مؤمناً صلباً، ومسلماً قوياً يحمل كل تبعات إيمانه ودينه في ولاء مكين، وعزيمة قاهرة جعلته قريباً من قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وكبيراً في عينيه، هذا حال شباب الأمس، فما أخبار شباب اليوم؟ وللإنصاف ليس كلهم، لكن للأسف أكثرهم، شباب موسيقى وألحان، وشباب شاشات وقنوات، شباب مقاهي واستراحات، شباب في الأسواق والمجمعات؛ لانتهاك أعراض المسلمات، شباب (أكاديمي استار) برنامج الفجار، شباب كرة القدم بالليل والنهار، كرة القدم وما أدراك ما كرة القدم؟ كرة القدم أكلت عقول شبابنا ويهود تجتاح الحرم عجباً لآلاف الشباب وإنهم أهل الشيم دخل العدو بلادهم وضجيجها زرع الصمم أيسجل التاريخ أنا أمة مستهترة شهدت سقوط بلادها وعيونها فوق الكرة؟ بطولاتنا كانت في بدر والقادسية واليوم بطولاتنا في ملاعب الكرة، أين الذين يقولون: إما أن يحيا الإسلام عزيزاً أو لا خير في الحياة؟!(62/5)
مصعب بن عمير يفتح المدينة بالقرآن
أين من يقول للأعداء: لا وألف لا؟! إن لم يكن الشباب فمن يكون؟ لكن أي شباب؟! هاهو مصعب بن عمير يفتح المدينة بالقرآن، ويعدها ليوم الهجرة العظيم، لقد تحمل مصعب أخطر قضية، وقام بأصعب مهمة حين اختاره النبي صلى الله عليه وسلم ليكون أول سفير له إلى أهل المدينة، تحمل ابن العشرين المسئولية، وحمل الأمانة على أكمل وجه، فانتاب نور الإيمان على يديه إلى سادات الأنصار؛ فأسلم على يديه أسيد بن حضير الذي تنزلت الملائكة لتلاوته القرآن، وأسلم على يديه سعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن، جاء مصعب إلى المدينة وما فيها سوى اثني عشر مسلماً، وما مضت أشهر حتى دخل الإسلام في كل بيت من بيوت المدينة، لقد أثبت مصعب الذي غزا قلوب أهل المدينة بزهده وصدقه وإخلاصه أن الرسول صلى الله عليه وسلم عرف كيف يختار.
فمن الذي صنع مصعباً وأمثاله من الشباب؟ لقد صنعهم الإسلام، وإن الإسلام الذي صنعهم لقادر على أن يصنع أمثالهم، من هو مصعب قبل الإسلام؟ ومن هو مصعب بعد الإسلام؟ مصعب بن عمير غرة فتيان قريش، وأوضؤهم بهاءً وجمالاً وشباباً، يصف المؤرخون والرواة شبابه فيقولون: كان أعطر أهل مكة، ولد في النعمة وغذي بها، وشب تحت خمائلها، لم يكن لفتيات مكة ونسائها حديثاً إلا مصعباً الذي لا يلبس إلا الحرير، ولا يجلس إلا على الوفير، الابن المدلل لأمه وأبيه، فلما دخل نور الإيمان في قلبه تبدلت الحال، وتغيرت الآمال، فأصبح الفتى المتأنق المتعطر لا يرى إلا مرتدياً أخشن الثياب، يأكل يوماً ويجوع أياماً، خرج يوماً على بعض المسلمين وهم جلوس حول النبي صلى الله عليه وسلم، فما إن رأوه حتى حنوا رءوسهم، وغضوا أبصارهم، وذرفت عيونهم دمعاً شجياً، ذلك أنهم رأوه يرتدي جلباباً مرقعاً بالياً، وتذكروا صورته الأولى قبل إسلامه حين كان ثيابه الديباج والحرير، فاسترجع النبي صلى الله عليه وسلم، ودار في صدره ما دار في صدور أصحابه، فقال: (لقد رأيت مصعباً هذا وما بمكة فتىً أنعم عند أبويه منه، ثم ترك ذلك كله حباً لله ورسوله) سمعتم يا معشر الشباب والشيب! لماذا ترك مصعب هذا كله؟ تركه حباً لله ورسوله.
أسألكم بالله وكل واحد منا يجيب نفسه بنفسه: هل نحن حقيقة نحب الله ورسوله؟ إن كان الجواب نعم، فهل آن أن نترك اللهو والضياع؟ أما آن أن نترك اللهو والضياع والمعاصي، ونستمع إلى نداء الرحمن الذي ملأ الآذان: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]؟ قل معي وردد: بلى آن! بلى آن! بلى آن.
عباد الله! إذا لم نجد حلاوة الإيمان في رمضان فمتى إذاً؟! أما تعلم أيها الغالي أن الإيمان ليس بالتمني ولا بالتحلي، بل ما وقر في القلب وصدقه اللسان، وعملت به الجوارح والأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، يزيد بالطاعات والقربات إلى رب الأرض والسماوات، وينقص باللهو واللعب والغفلة والإعراض عن منهج الله عز وجل، ينقص الإيمان بمجالسة أهل الباطل المعرضين عن شرع الله، الساقطين في حفر الرذائل والشهوات، ينقص الإيمان بإطلاق الجوارح في المعاصي، وتلطيخ الأعضاء بالسيئات، وتسويد القلب بالذنوب، عين تنظر إلى الحرام، وأذن تستمع إلى الخنا، وقلب يرتع بالشهوات، ويد تبطش ظلماً، وفرج يقترف الفحشاء، وبطن يمتلئ بالآثام والحرام؟ رحماك يا رب وعفوك! رحماك يا رب وعفوك! يا صائماً عافت جوارحه الخنا أبشر برضوان من الديان عفو ومغفرة ومسكن جنة تأوي بها من مدخل الريان معاشر الأحبة! فتحت مكة، وتحققت الانتصارات بأمثال أولئك الشباب، فمن الذي سيفتح ويرد لنا أقصانا؟! ومن الذي سيصون أعراضنا في العراق؟! اللهم بارك لنا في الشباب والشيب، اللهم رد الشباب إليك رداً جميلاً يا رب العالمين! اللهم اجعلهم هداة مهتدين، وزينهم بنور الإيمان يا رب العالمين، انصرهم بالإسلام وانصر الإسلام بهم يا سميع يا مجيب! اللهم يا غياث المستغيثين! ويا أمان الخائفين! ويا عون المؤمنين! ويا جار المستجيرين! يا ذا العظمة والسلطان! يا من قصمت القياصرة! وقهرت الجبابرة، وكسرت الأكاسرة، اللهم سلط على اليهود والأمريكان الريح القواصم، والبراكين والعواصف، واملأ قلوبهم بالرعب والخوف.
اللهم اكسر شوكتهم، وأقض على قادتهم وساستهم، واجعل أموالهم وديارهم غنيمة للمسلمين في كل وقت وحين، يا منتقم يا جبار يا قهار! اللهم سلط عليهم ومن والاهم فتنة سوداء تمزق قوتهم، وتخطف أبصارهم، وتذهب عقولهم، وتنكس راياتهم، بقوتك يا قوي يا متين! يا ذا الجلال والإكرام والجاه والسلطان! اللهم أيقظ المسلمين من الغفلة والسبات، يا رب الأرض والسماوات! اللهم أيقظ في المسلمين الهمم والعزائم، ونبه منهم الغافل والنائم، وارفع قدرهم إن قل عددهم، واجعل الملائكة عوناً لهم، فأنت نعم المولى ونعم النصير! يا سامع كل نجوى! ويا منتهى كل شكوى! وكاشف كل بلوى، ويا من إليه المشتكى والمأوى! نشكو إليك ما يحدث لإخواننا في العراق وفي فلسطين وكشمير والفلبين والشيشان وأفغانستان والسودان، نشكو إليك ما يحدث لهم من اليهود والأمريكان، ومن والاهم من المنافقين والكفار.
اللهم إن الأقصى والعراق تبكي منابرهم، وامتلأت بالموتى مقابرهم، وقل معينهم وناصرهم، اللهم كن لهم عوناً وظهيراً ومؤيداً ونصيراً، صن أعراضهم واحقن دماءهم يا رب العالمين! اللهم افتح للمجاهدين الأبواب، وأزل عنهم الصعاب، واصرف عنهم كيد الذئاب، وكل منافق وكذاب، فك أسرانا وأسراهم، ويسر لفكاكهم الأسباب.
يا رب الأرباب! ويا مجري السحاب! لا خاب من دعاك، ولا خاب من رجاك، آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، ول علينا خيارنا، واكفنا شرارنا يا رب العالمين! عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(62/6)
كيف أستحي من الله؟
إن الله عز وجل مطلع على جميع أحوال الخلق، فعلى العبد أن يراقب الله عز وجل في السر والعلن، وأن يتوكل عليه في جميع أموره، كما يجب عليه أن يؤدي الفرائض والواجبات، ويبتعد عن المعاصي والمحرمات.(63/1)
وجوب التوكل والاعتماد على الله عز وجل
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: عباد الله! قال الله جل في علاه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء:217 - 220] قال السعدي رحمه الله: وأعظم مساعد للعبد على القيام بما أُمر به الاعتماد على ربه، والاستعانة بمولاه على توفيقه للقيام بالمأمور، فلذلك أمر الله تعالى بالتوكل عليه، فقال سبحانه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [الشعراء:217].
والتوكل هو: اعتماد القلب على الله تعالى في جلب المنافع ودفع المضار، مع ثقته به وحسن ظنه بحصول مطلوبه؛ فإنه عزيز رحيم، فبعزته يقدر على إيصال الخير ودفع الشر عن عبده وأمته، وكل ذلك أيضاً برحمته.(63/2)
عظم مرتبة الإحسان
نبه الله تبارك وتعالى عباده عند فعل الأوامر وترك المنهيات إلى استحضار قربه، والنزول في منزلة الإحسان، فقال سبحانه: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218 - 219] أي: يراك في هذه العبادة العظيمة -التي هي الصلاة- وقت قيامك وتقلبك، راكعاً وساجداً، وخص الصلاة بالذكر لفضلها وشرفها؛ ولأن من استحضر فيها قرب ربه تبارك وتعالى خشع وذل وأكملها، وبتكميلها يكمل سائر عمله، ويستعين بها على جميع أعماله وأموره.
ثم قال: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء:220] أي: السميع لسائر الأصوات على اختلافها وتشتتها وتنوعها، العليم الذي أحاط بالظواهر والبواطن، والغيب والشهادة، فاستحضار العبد رؤية الله له في جميع أحواله، وسمعه لكل ما ينطق به، وعلمه بما ينطوي عليه قلبه من الهم والعزم والثبات والنيات يعينه على بلوغ مرتبة الإحسان.(63/3)
تعريف المراقبة لله عز وجل
جاء في الحديث الصحيح عند مسلم من حديث عمر في وصف الإحسان، عندما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإحسان، فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، أي: أن الله تعالى يراك ويعلم سرك ونجواك، ففي الصحراء يراك، وفي الجو أو في السماء يراك، وإن كنت وحيداً يراك، وفي جميع أحوالك يراك، كما قال عز وجل: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4].
فالإحسان هو: استحضار عظمة الله ومراقبته في كل حال.
إذاً فما هي المراقبة؟ قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين من منازل إياك نعبد وإياك نستعين: منزلة المراقبة وهي: دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه، فاستدامته لهذا العلم واليقين هي المراقبة، وهي ثمرة علمه بأن الله سبحانه رقيب عليه ناظر إليه سامع لقوله مطلع على عمله، ومن راقب الله في خواطره عصمه في حركات جوارحه.
وقال أحدهم: والله! إني لأستحي أن ينظر الله في قلبي وفيه أحد سواه.
وقال ذو النون: علامة المراقبة: إيثار ما أنزل الله، وتعظيم ما عظم الله، وتصغير ما صغر الله.
وقال إبراهيم الخواص: المراقبة: خلوص السر والعلانية لله تبارك وتعالى.
وقالوا: أعظم العبادات: مراقبة الله في سائر الأوقات.(63/4)
أثر الإيمان والتعبد بأسماء الله وصفاته
قال ابن القيم: والمراقبة هي: التعبد بأسمائه الرقيب الحفيظ العليم السميع البصير، فمن عقل هذه الأسماء وتعبد بمقتضاها حصلت له المراقبة.
فهيا معاً أحبتي! ننظر في معاني هذه الأسماء وهذه الصفات وبعضاً من آثارها: قال شيخ الإسلام رحمه الله: وفي كتاب الله تبارك وتعالى من ذكر أسمائه وصفاته أكثر من ذكر آيات الجنة والنار وآيات المعاد، وإن الآيات المتضمنة لأسمائه وصفاته أعظم قدراً من آيات المعاد.(63/5)
أثر التعبد باسم الله: الرقيب
ورد اسمه (الرقيب) في ثلاثة مواضع من كتابه العزيز: في سورة المائدة عند قوله تعالى وهو يخاطب عيسى يوم القيامة في ذلك المشهد العظيم، وفي ذلك الموقف الجسيم: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:116 - 118]، ثم بيَّن الله الناجين في ذلك اليوم بقوله: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة:119].
وجاء ذكر (الرقيب) في قوله تعالى في أول آية من سورة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
قال ابن جرير في قوله: ((إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)) أي: أن الله لم يزل عليكم رقيباً حفيظاً محصياً عليكم أعمالكم متفقداً أحوالكم.
وجاء أيضاً ذكر (الرقيب) في سورة الأحزاب في قوله جل في علاه: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} [الأحزاب:52].
قال ابن القيم في نونيته: وهو الرقيب على الخواطر واللوا حظ كيف بالأفعال والأركان فهو سبحانه رقيب على الأشياء بعلمه الذي وسع كل شيء، كما قال جل وعلا: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر:7]، وهو عز وجل يعلم ما كان وما سيكون، وما هو كائن لو كان كيف سيكون، وهو رقيب على الأشياء ببصره الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وهو رقيب على الأشياء بسمعه المدرك لكل حركة وكلام، فأين أثر هذا في حياتنا، وفي تصرفاتنا، وفي معاملاتنا، وفي عبادتنا، وفي أخذنا وعطائنا!!(63/6)
قصة إسلام عمير بن وهب، وما فيها من دروس وعبر
جاء في السير أنه بعد معركة بدر وبعد أن عادت قريش تجر أذيال الهزيمة، وقد تلقت درساً لا تنساه من معسكر الإيمان: أن صفوان بن أمية وعمير بن وهب قعدا في الحجر، فأخذا يتذاكران أصحاب القليب، وكان صفوان بن أمية قد قتل أبوه وأخوه في يوم بدر، فقال عمير لـ صفوان: لولا صبية صغار لا أحد يرعاهم بعدي، وديون ركبتني لذهبت إلى المدينة وقتلت محمداً، فقال صفوان: دينك علي، وأنا أرعى صغارك على أن تقتل محمداً، فاتفقا على ذلك ولا ثالث معهما إلا الله، الذي يعلم السر وأخفى، فوصل عمير إلى المدينة متظاهراً بأنه جاء لدفع الفداء وفك أسر ابنه وهب الذي كان أسيراً عند المسلمين، فلما رآه عمر رضي الله عنه وأرضاه، انطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فقال: يا رسول الله! هذا عدو الله عمير بن وهب جاء متوشحاً سيفه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أدخلوه عليّ، فجاء به عمر وهو آخذ بتلابيبه، فأوقفه عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: دعه يا عمر! ثم قال: ادن يا عمير! فدنا عمير، ثم قال: أنعم صباحاً يا محمد! -وكانت هذه تحية أهل الجاهلية- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير أكرمنا بالسلام تحية أهل الجنة: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب:44]، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما جاء بك يا عمير؟! قال: جئت أفدي أسيري هذا الذي في أيديكم فأحسنوا إليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فما بال السيف في عنقك؟ قال: تباً لها وقبحها الله من أسياف، وهل أغنت عنا يوم بدر شيئاً؟ قال: اصدقني يا عمير! ما الذي جاء بك؟ قال: ما جئت إلا لذاك.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل لقد قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر، فتذاكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت: لولا دين علي وعيال أخاف عليهم الضياع لخرجت حتى أقتل محمداً، فتحمل لك صفوان بن أمية بدينك وعيالك على أن تقتلني، والله حائل بينك وبين ما أردت، فقال عمير متعجباً ومندهشاً: أشهد أنك لرسول الله، وقد كنا نكذبك بما تأتينا به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي، وأما هذا الأمر فلم يحضره إلا أنا وصفوان ولا ثالث معنا إلا الله، والله! إني لأعلم أنه ما أتاك بهذا الخبر إلا الله، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام وساقني هذا المساق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فقهوا أخاكم في دينه، وعلموه القرآن، وأطلقوا أسيره).
الله أكبر ولا إله إلا الله! وتدبر معي -أخي المسلم- قوله تبارك وتعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء:108] فأين أثر هذه الآيات في حياتنا؟! بل أين أثر قوله تبارك وتعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة:235]؟! قال الشاعر: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل: علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعةً ولا أن ما يخفى عليه يغيب ألم تر أن اليوم أسرع ذاهب وأن غداً للناظرين قريب لقد أسلم عمير؟ عندما استشعر عظمة الله ومراقبته، وإحاطته بكل شيء، فهلا استشعرنا ذلك، واستشعرنا قوله تبارك وتعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59]؟!(63/7)
مفهوم اسم الله: الحفيظ، وأثر التعبد به
ومن أسمائه تبارك وتعالى (الحفيظ) وهو: الذي حفظ خلقه وأحاط علمه بما أوجده، وحفظ أولياءه من وقوعهم في الذنوب والهلكات، ولطف بهم في الحركات والسكنات، وأحصى على العباد أعمالهم وجزاءها.
ومعنى: (احفظ الله يحفظك) أي: احفظ حدود الله وحقوقه، وأوامره ونواهيه، وحفظ ذلك هو الوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده فلا نتجاوزها، والمقصود: فعل الواجبات جميعاً وترك المحرمات جميعاً، وقد مدح الله عباده الذين يحفظون حدوده، فقال في معرض بيانه لصفات المؤمنين الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:112]، فهؤلاء بشرهم بأن يحفظهم في دينهم ودنياهم، وفي أولاهم وأخراهم، إذا حفظوا أوامره وحدوده.(63/8)
بيان عظم التوحيد
ومن أعظم ما يجب على العباد حفظه من حقوق الله التوحيد، وهو: أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً.
روى البخاري من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (بينما كنت أسير مع النبي صلى الله عليه وسلم، إذ قال: يا معاذ بن جبل! قلت: لبيك وسعديك يا رسول الله! قال: أتدري ما حق الله على العباد؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ثم سار ساعةًَ، ثم قال: يا معاذ بن جبل! قلت: لبيك وسعديك يا رسول الله! قال: أتدري ما حق العباد على الله إن هم فعلوا؟ - أي: أتدري ما حقهم على الله إن هم عبدوه ولم يشركوا به شيئاً؟ - قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقهم عليه ألا يعذبهم).
فحق العباد على الله إن هم عبدوه ووحدوه ولم يشركوا به شيئاً: ألا يعذبهم، وإن لم يعذبهم أدخلهم جنته، فهذا هو الحق العظيم الذي أمر الله سبحانه عباده أن يحفظوه ويرعوه، ومن أجل حفظه أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وكان الله رقيباً على الجميع، كما قال عز وجل: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن:28].(63/9)
عظم قدر الصلاة وأهمية المحافظة عليها
ومما أمرنا الله بحفظه وقد ضيعه كثير من الناس: حفظ الصلوات، وما أدراك ما الصلوات؟ قال سبحانه: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، وقال ممتدحاً عباده المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:9] فمن حافظ على الصلوات وأداها بأركانها حفظه الله من نقمته وعذابه، وكانت له نجاة يوم القيامة، وهي من خير الأعمال، كما قال صلى الله عليه وسلم: (اكلفوا من العلم ما تطيقون، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة).
ووالله! لن تلقى الله بعمل بعد توحيده أعظم من المحافظة على الصلوات.
قال ابن القيم رحمه الله: والصلاة مجلبة للرزق حافظة للصحة دافعة للأذى مطردة للأدواء مقوية للقلب مبيضة للوجه مفرحة للنفس مذهبة للكسل منشطة للجوارح ممدة للقوى شارحة للصدر مغذية للروح منورة للقلب حافظة للنعمة دافعة للنقمة جالبة للبركة مبعدة من الشيطان مقربة من الرحمن.
وللصلاة تأثير عجيب في دفع الشرور ولا سيما إذا أعطيت حقها من التكميل ظاهراً وباطناً، فما استُدفعتْ شرور الدنيا وعذاب الآخرة بمثل الصلاة والمحافظة عليها؛ وسر ذلك: أن الصلاة صلة بالله جل في علاه، وعلى قدر صلة العبد بربه تفتح عليه من الخيرات أبوابها وتقطع عنه من الشرور أسبابها، وتأمل في قوله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث القدسي عن الله عز وجل: (يا ابن آدم! اركع لي من أول النهار أربع ركعات أكفك آخره).
ومن حفظ الله للمصلين: أن صلاتهم تنهاهم عن الفحشاء والمنكر.
وأما من ضيعها فقد توعده الله بالهلاك والشر العظيم، فقال سبحانه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59] فكيف هي صلاتنا اليوم؟ وهل حفظناها؟ وهل راقبنا الله فيها؟ وهل تدبرنا قوله: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218 - 219]؟ قل لي بالله العظيم: كم مرة تفوتك صلاة الجماعة؟ وكم مرة تفوتك تكبيرة الإحرام؟ وكم مرة تنام عن صلاة الفجر؟ والله! لن يستقيم الحال إلا إذا استقام العبد في أداء الصلاة، ووالله! لن يستقيم للعبد حال إلا إذا استقام في صفوف المصلين.(63/10)
معنى اسم الله: السميع، وأثر التعبد به
عباد الله! ومن أسمائه سبحانه: السميع، قال جل في علاه: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127] أي: تسمع وتجيب، وقال عن نفسه: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:181]، وقال عن نفسه: {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ:50] فهو سميع لأقوال عباده وحركات مخلوقاته، ويسمع السر وأخفى، كما قال عز وجل: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد:10] فهو سميع ذو سمع بلا تكييف ولا تشبيه، وفي الحديث: (جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشتكي زوجها، فقالت: يا رسول الله! قال لي: أنت علي كظهر أمي، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً حكم الله في ذلك: والله! ما أراك إلا قد حرمت عليه، فقالت: -تشتكي وترفع شكواها إلى الله-: إن لي منه صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا، فقال لها: والله! ما أراك إلا قد حرمت عليه، فقالت: أكل مالي وأفنى شبابي، قال لها: والله! ما أراك إلا قد حرمت عليه.
تقول عائشة: والله الذي لا إله إلا هو! ما بيني وبينها إلا ستار، وإني لأسمع بعضاً من كلامها ويخفى علي بعضه، فأنزل الله تبارك وتعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1]).
فرفعت إلى ربها شكواها، ونزل الدفاع عنها من ربها تبارك وتعالى، فيا أخي! أسألك بالله العظيم: أين أثر هذا في حياتنا؟ وجاء في السير والآثار أن عمر سار يوماً ومعه أبو عبيدة، فلقيته امرأة في الطريق، فقالت: إيه يا عمر! لقد كنت تدعى عميراًَ تصارع الفتيان في أسواق عكاظ، ثم أصبحت تدعى عمراً، ثم ما لبثت حتى أصبحت أميراً للمؤمنين، فاتق الله يا عمر! واعلم أن الله سائلك عن الرعية كيف رعيتها؟ فبكى عمر بكاءً شديداً، فلام أبو عبيدة المرأة لقسوتها على عمر، فقال له عمر: (دعها يا أبا عبيدة! فهذه التي سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، فحري بـ عمر أن يسمع كلامها).
فسبحان الذي يسمع دعاء الخلق وألفاظهم عند تفرقهم وعند اجتماعهم! ولا تختلف عليه اللهجات ولا اللغات، يعلم ما في قلب القائل قبل أن يقول، وقد يعجز القائل عن التعبير عن مراده، والله يعلم ذلك فيعطيه الذي في قلبه.
وقد جاء اسمه السميع مقترناً بغيره من الأسماء، فجاء سميع عليم، وسميع بصير، وسميع قريب، وكلها تدل على الإحاطة بالمخلوقات، وأن الله محيط بها لا يفوته ولا يخفى عليه شيء منها، بل الجميع تحت سمعه وبصره وعلمه، وفي ذلك تنبيه للعاقل، وتذكير للغافل حتى يراقب نفسه وما يصدر عنها من أقوال وأفعال، ومتى آمن الناس بذلك وتذكروه فإن أحوالهم تتغير من القبيح إلى الحسن، ومن الشر إلى الخير، وإذا تناسوا ذلك فسدت أخلاقهم وأعمالهم.(63/11)
معنى اسم الله: البصير، وأثر التعبد به
ومن أسمائه: البصير، أي: له بصر يرى به سبحانه، فهو ذو البصيرة بالأشياء والخبير بها، يبصر كل شيء كبر أو صغر، فيبصر ما تحت الأرض، وما فوق السماء، وما في أعماق البحار، كما قال عز وجل: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:103].
عباد الله! سأسوق إليكم بعضاً من الآثار والأخبار والتي كلنا يعرفها، لكن أين أثرها في حياتنا؟ سمع عمر ليلة عجوزاً تقول لبنيتها: امزجي اللبن بالماء، فقالت البنية: أما علمت يا أماه! أن أمير المؤمنين عمر نهى عن مزج اللبن بالماء؟ فقالت العجوز في لحظة غفلة: وأين عمر حتى يرانا؟ فقالت المؤمنة الصغيرة الصادقة الموقنة بنظر الله: إن كان عمر لا يرانا فرب عمر يرانا! إنها قصة يعرفها الصغار والكبار، ولكن أين أثرها في حياتنا، وفي معاملاتنا؟ وفي ليلة أخرى خرج عمر يتجول، فإذا بامرأة في ظلام الليل تردد هذه الأبيات: تطاول هذا الليل واسود جانبه وأرقني أن لا خليل ألاعبه فوالله! لولا الله لا شيء غيره لحرك من هذا السرير جوانبه ولكن تقوى الله عن ذاك صدني وحفظاً لبعلي أن تنال مراكبه لقد عظموا الله فراقبوه، واستحيوا من الله فهابوه، وأحبوا الله فأطاعوه، وكما قيل: إذا عظم الآمر عظمت الأوامر.
وهذا خبر آخر وهو: أن ابن عمر مر على رويعي غنم في الصحراء، فقال له امتحاناً: بعنا من هذه الشياه، فقال: أنا مملوك ومؤتمن عليها، ولا يحق لي التصرف فيها، فقال ابن عمر ممتحناً أمانته: قل للمالك: أكلها الذئب، فقال رويعي الغنم بكل صدق وإيمان: وماذا أقول لله؟! أي: إن كنت قلت للمالك: أكلها الذئب، فماذا سأقول لله؟ ماذا سأقول إذا استنطق الله الجوارح والأركان، كما قال عز وجل: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65]؟ فبكى ابن عمر وأرسل إليه من يعتقه.
وقال له: كلمة أعتقتك في الدنيا أسأل الله أن تعتقك يوم أن تلقاه.
فهذه أخبار كلنا نعرفها وسمعنا بها مرات ومرات، لكن أيها الغالي! أين أثر هذا في حياتنا؟! عباد الله! إن هذه بعضاً من أسمائه وصفاته، فأين أثرها في حياتنا؟ وأين أثر الإيمان بها؟ وأين مرتبة الإحسان في حياتنا؟ إذا أردت أن تعرف مدى إيمانك فراقب نفسك في الخلوات، فإن الإيمان لا يظهر في صلاة ركعتين أو صيام نهار، بل يظهر في مجاهدة النفس والهوى، والله! ما صعد يوسف عليه السلام ولا سعد إلا في مثل ذلك المقام، قال عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله).
أتدري من الرجل؟ الرجل والله! من إذا خلا بما يحب من المحارم وقدر عليها تذكر وتفكر، وقال: الله يراني في كل مكان، فترك المعصية خوفاً وحياءً من الله تبارك وتعالى، إذاً كيف يعصيه وهو يراه؟! والله! لن تنال ولاية الله حتى تكون معاملتك له خالصة، حتى تترك شهواتك، وتصبر على مكروهاتك، وتبذل نفسك في مرضاته.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(63/12)
خطر التهاون بالمعاصي
الحمد الله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: أحبتي! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله عباد الله! {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281].
عباد الله! إن ما نراه اليوم من كثرة الفواحش والمنكرات، وما نلمسه من ضعف الوازع عن المحرمات، وما تأتي به الأخبار عن ضعف التربية وقلة المراقبة في الخلوات أمر خطير، فهذا يتساهل في النظر، وذاك يمارس عادات سيئة، وآخر يأكل الربا، وآخر يتمايل مع الغناء إلى غير ذلك.
عباد الله! إن كثيراً من الناس وجودهم كالعدم، لم يتأملوا دلائل الوحدانية، ولم يقفوا عند أوامر الله ونواهيه، فهم كالأنعام بل هم أضل، إن وافق الشرع مرادهم قبلوه وإن لم يوافق تركوه، وإن حصلوا على الدرهم والدينار رضوا وأخذوه ولم يبالوا أمن حلال أم من حرام كسبوه، وإن سهلت عليهم الصلاة فعلوها وإن لم تسهل تركوها.(63/13)
التفكر في العواقب فيه النجاة
أحبتي! من تفكر في العواقب أخذ الحذر، ومن أيقن بطول الطريق تأهب للسفر.
تمضي السنون وتنقضي الأيام والناس تلهو والأنام نيام والناس تسعى للحياة بغفلة لم يذكروا القرآن والإسلام والمال أصبح جمعه كتهجد وتمتع الشهوات صار قيام قد زين الشيطان كل رذيلة والناس تفعل ما تريد حرام يا نفسي! يكفي فالذنوب كثيرة إن الغرور يسبب الإجرام هل تعلم اليوم المحدد وقته الله يعلم وحده العلام ماذا تقول إذا حُملت جنازة ودفنت بالقبر الشديد ظلام هذا السؤال فهل علمت جوابه ماذا تجيب إذا نطقت كلام ماذا مصيرك إن روحك غرغرت جاء المفرط كي يقول ختام اليوم تفعل ما تشاء وتشتهي وغداً تموت وترفع الأقلام واعلم -بارك الله فيك- أنه لا يقطع الطريق إلا بالصبر والتسلية، وكما قيل: فإن تشكت فعللها المجرة من ضوء الصباح وعدها بالرواح ضحى حكي عن بشر الحافي أنه سار في طريق ومعه رجل، فعطش هذا الرجل، فقال له: نشرب من هذا البئر، فقال بشر: اصبر إلى البئر الأخرى، فلما وصلا إليها، قال له: اصبر إلى البئر الأخرى، فما زال يعلله ويصبره، ثم قال: هكذا تنقطع الدنيا.
وبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.
فدرب النفس على هذا الأصل وتلطف بها وعدها الجميل لتصبر على ما قد حملت.
وكان بعض السلف يقول لنفسه: والله! ما أريد بمنعك من هذا الذي تحبين إلا الإشفاق عليك.
وقال أبو يزيد: ما زلت أسوق نفسي إلى الله تعالى وهي تبكي حتى سقتها وهي تضحك.
أي: أكرهتها على العمل حتى استقامت على أوامر الله برضاها.
فمن هجر اللذات حصل على المنى ومن أكب على اللذات عض على اليد ففي قمع أهواء النفس اعتزازها وفي نيلها ما تشتهي ذل سرمد فالله الله في مراقبة الحق عز وجل، والله الله في الخلوات، البواطن، والله الله في الثبات، فإن عليكم من الله عين ناظرة، فلا تجعل الله أهون الناظرين إليك، بل قل: سبحان الله! الذي وصف نفسه بقوله: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء:218 - 220].
فراقب العواقب تسلم، ولا تمل مع الهوى فتندم، فأين لذة المعاصي؟! وأين تعب الطاعات؟! لقد رحل كلٌ بما فيه، فياليت الذنوب إذا تخلت خلت.
إن كنت تعتقد أن الله سبحانه لا يراك فما أعظم كفرك! وإن كنت تعصيه مع علمك باطلاعه عليك فما أشد وقاحتك! وما أقل حياءك! فاقبل الموعظة واعمل بالنصيحة؛ لأنه من أعرض عن الموعظة فقد رضي بالنار، كما قال عز وجل: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر:49 - 51].
واعلم أنك ستقف بين يدي الله، فبأي لسان ستجيب، فأعد للسؤال جواباً وللجواب صواباً، فماذا أعددت للنجاة من عظيم عقاب الله تبارك وتعالى وأليم عذابه؟! واعلم أنه لا يندفع العذاب وتستجلب الرحمات إلا بحسن التوحيد وخندق الطاعات.
اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك قول الحق في الرضا والغضب، ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ونسألك اللهم لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.
اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يقاتلون من أجل إعلاء دينك، اللهم انصرهم في العراق، وفي الشيشان، وكشمير، والفلبين، وأفغانستان، وأيدهم في فلسطين وفي كل مكان.
اللهم كن لهم عوناً وظهيراً ومؤيداً ونصيراً، صن أعراضهم، واحقن دمائهم، وفك أسرانا وأسراهم يا رب العالمين.
اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزم الصليبيين وزلزلهم، ودمر اليهود الغاصبين وزلزلهم، واهزم المنافقين وأعداء الملة والدين، واشدد وطئتك عليهم، وأنزل عليهم بأسك ومقتك إله الحق، فإنهم لا يعجزونك يا قوي! يا عزيز! اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والفواحش والفتن ما ظهر منه وما بطن، ووفقنا لتوبة نصوح يا رب العالمين، وثبتا حتى الممات يا رب الأرض والسماوات.
اللهم اجعلنا ممن يخشونك في السر وفي العلن، وفي الخلوات يا رب العالمين!(63/14)
ماتت ومات معها الحياء
خلق الحياء من أفضل الأخلاق وأجلها وأعظمها قدراً وأكثرها نفعاً، بل هو خاصة الإنسانية، فمن لا حياء فيه لا إنسانية معه، ومن لا حياء فيه لا إيمان فيه، وإذا ذهب الحياء ذهب الدين كله.(64/1)
مقدمة في الحياء
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: فيا أيتها الذكية! حياك الله وبياك، وسدد على طريق الحق خطاك، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحفظك من بين يديك ومن خلفك، وأن يعيذك من همزات الشياطين، وأن يقيك شرور النفس وسيئات الأعمال.
ولن أخبرك بعنوان هذه الليلة، بل سأترك المجال لك أولاً قبل قراءة العناصر حتى تعرفي عنوان هذا اللقاء، فهو عن خصلة من خصال الإيمان، من اتصفت بها حسن إسلامها، وعلت أخلاقها، هل عرفتها؟ اسمعي المزيد: من اتصفت بها هجرت المعصية خجلاً من ربها، وأقبلت على طاعته بوازع الحب، إنها خصلة تبعدك عن فضائح الدنيا وفضائح الآخرة، فهل عرفتها؟ إنها أصل كل شعب الإيمان، لأنها تكسوك وقاراً واحتراماً، فهذه الخصلة دليل على كرم السجية وطيب النفس، بل هي صفة من صفات الأنبياء والصالحين والصالحات، فهل عرفتها؟ اسمعي المزيد أيضاً: إنها صفة جميلة في الرجال، ولكنها في النساء أجمل، كسبها يجعل القبيح جميلاً، وفقدها يجعل الجميل قبيحاً.
صدقيني أيتها الغالية! إذا ذهبت هذه الخصلة من المرأة فباطن الأرض خير لها من ظاهرها، وأظنك قد عرفتها.
قال الناظم في هذه الخصلة: إذا لم تخش عاقبة الليالي ولم تستح فاصنع ما تشاء فلا والله ما في العيش خير ولا الدنيا إذا ذهب الحياء يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء عناصر الموضوع: - حياء في الحياة وبعد الممات.
- الحياء لغة واصطلاحاً.
- القرآن يحدثنا عن الحياء.
- كلام جميل.
- مظاهر الحياء.
- كيف قتلوا الحياء.
- أي حياء هذا؟ - أسئلة وفتاوى.
- أعظم الحياء.
- صور من حياتهن.(64/2)
حياء في الحياة وبعد الممات
وإليك هذه الصورة العظيمة من صور الحياء والعفاف، والتي تضربها لك سيدة نساء العالمين فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاسمعي فاطمة وهي تحاور أسماء بنت عميس وتقول لها: يا أسماء! إني لأستحي أن أخرج غداً على الرجال على هذا النعش، وكانت النعوش خشبة مصفحة يوضع عليها الميت ثم يطرح عليه الثوب فيصف حجم الجسم، فخشيت الزهراء رضي الله عنها إذا هي ماتت أن تحمل على مثل هذه النعوش فيكون ذلك خدشاً في حيائها وحشمتها، قالت أسماء: أولا نصنع لك شيئاً رأيته في الحبشة؟ فصنعت لها النعش المغطى من جوانبه، والذي يشبه الصندوق، ثم طرحت عليه ثوباً، فكان لا يصف الجسم، فلما رأته فاطمة رضي الله عنها قالت لـ أسماء: ما أحسن هذا وأجمله! سترك الله كما سترتني.
قال ابن عبد البر: هي أول من غطي نعشها في الإسلام على تلك الصفة، الله أكبر! فهي تريد أن تعيش عفيفة وتموت عفيفة وتحشر إلى الله وهي عفيفة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وستون شبعة - وفي رواية: بضع وسبعون شعبة - والحياء شعبة من الإيمان) رواه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: (الحياء لا يأتي إلا بخير).(64/3)
الحياء لغةً واصطلاحاً
والحياء لغة: مصدر قولهم حيي، وهو مأخوذ من مادة حيي التي تدل على الاستحياء الذي هو ضد الوقاحة، ويقال: استحيت بياء واحدة، وأصله استحييت، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً} [البقرة:26].
وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) ومعناه: إذا لم تستحي من العيب ولم تخشي العار مما تفعلينه فافعلي ما تحدثك به النفس من حسن أو قبيح؛ لأن الحياء قد ذهب، فدل الحديث على أن الذي يردع الأمة عن مواقعة السوء هو الحياء، ويقال: رجل حيي، أي: ذو حياء، ويقال: امرأة حيية، والحياء جميل في الرجال ولكنه في النساء أحلى وأجمل.
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما كان الفحش في شيء قط إلا شانه، ولا كان الحياء في شيء قط إلا زانه).
أما الحياء اصطلاحاً: فهو تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به، وقيل: إنه خلق يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الجلال، وقيل: بل هو انقباض النفس عن القبائح وتركها، وقيل: إنه خلق يبعث على ترك القبيح من الأقوال والأفعال والأخلاق، ويمتنع صاحبه عن التقصير في حق ذي الحق.(64/4)
فوائد في الحياء
فائدة: والحياء من صفات الله عز وجل كما في الحديث: (إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده أن يرفع إليه يديه فيردهما صفراً) ومعناه على هذا: المبالغ في الحياء، قال الفيروزأبادي: وأما حياء الرب تبارك وتعالى من عبده فنوع آخر لا تدركه ولا تكيفه العقول، فإنه حياء كرم وبر وجود، فالله تعالى كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً، ويستحيي سبحانه أن يعذب شعرةً شابت في الإسلام.
فائدة أخرى: ومما يجب أن تعلمي أن الحياء لا يمنع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل ترك ذلك بحجة الحياء خور ومهانة.
أخية! لو ضايقك فاجر وتعرض لك، فهل تسكتين؟ لا وألف لا، بل إنكارك دليل على العفة والحزم والثبات، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان أشد حياء من العذراء في خدرها -وهو لنا قدوة- فكان إذا انتهكت حرمات الله لا يقوم دون غضبه شيء.
تقول عائشة رضي الله عنها عنه صلى الله عليه وسلم: (ما رأيته غضب قط إلا أن تنتهك حرمات الله).(64/5)
القرآن يحدثنا عن الحياء
وإذا تصفحت القرآن فستجدين أنه يحدثنا عن الحياء، فقد قال سبحانه في سورة القصص مخبراً عن موسى لما سقى للمرأتين وجلس في الظل يستريح، قال سبحانه: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25]، قال صاحب الظلال: (فجاءته إحداهما تمشي على استحياء) مشية الفتاة الطاهرة الفاضلة العفيفة النظيفة حين تلقى الرجال على استحياء في غير تبذل ولا تبرج ولا تبجح ولا إغواء، جاءته لتحمل إليه رسالة في أقصر لفظ وأدله، يحكيه القرآن بقوله: (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) فمع الحياء الإبانة والدقة والوضوح، لا التلجلج والتعذر والارتباك، -أقول: لكي لا يطمع الذي في قلبه مرض- وذلك من إيحاء الفطرة النظيفة السليمة المستقيمة، فالفتاة القويمة تستحي بفطرتها عند لقاء الرجال والحديث معهم، ولكنها تتحدث بوضوح وبالقدر المطلوب ولا تزيد.
انتهى كلامه رحمه الله.(64/6)
ماتت ومات الحياء معها
وتأملي هذه القصة! فهي ليست في الأزمان الماضية، بل هي في الزمن القريب، فقد قالت فقد فتاة وهي تخبر عن والدتها: لا زلت أتذكر ذلك اليوم عندما أرادت أختي أن تتزوج وأصرت على والدتي أن تذهب معها إلى السوق، وقالت لها- يعني أختي تقول لوالدتي -: سنذهب إلى عدد محدود من المحلات، ولن نمكث سوى نصف ساعة أو تزيد قليلاً، وبعد إلحاح وإصرار وافقت أمي على تردد، وجاء ذلك اليوم الذي ذهبنا فيه، واحمر وجه أمي وهي امرأة كبيرة، وتثاقلت خطواتها وكأنها تساق إلى الموت، تفقدت عباءتها وكيف تسير، سال منها العرق واقشعر جلدها، ويبس لسانها، وأخذنا ما نراه بضحكة خافتة وابتسامة عريضة، لم يفتر لسانها طوال الطريق من الدعاء والتسبيح والتهليل، وعندما دخلنا إلى بائع الأقمشة سألته أختي: بكم هذا؟ فوجه الحديث نحو والدتي ومد يده نحوها بقطعة القماش، فخرجت والدتي وهربت من المحل وتبعتها أختي، فقالت أمي باكية: لا أقبل أن أحادث الرجال، أو أن يقتربوا مني، خرجت ولم تعد مرة أخرى، إنها المرة الأولى والأخيرة.
رحمها الله! فقد ماتت ومات الحياء معها، ودفنت ودفن العفاف في قبرها، فما دخلت سوقاً ولا حادثت رجلاً أجنبياً، وما ضرها ذلك شيئاً، وما نقص من منزلتها قدراً، بل كانت ملء السمع والبصر، يقدرها الجميع، ويحبها الصغير والكبير، الكل يبحث عن رضاها، وتلبية حاجتها رحمها الله! فلم تفكر في حذاء أو فستان، ولم تعرف الموضة والأزياء، ولكنها نظرت بعيداً بعيداً فعمرت القبر وبنت الدار، كان وقتها صلاحاً وطاعة، وصياماً وعبادة، رحمها الله! فقد رحلت ورحل الحياء معها.(64/7)
الحياء خاصة الإنسانية
عن أنس قال: قال صلى الله عليه وسلم: (إن لكل دين خلقاً، وخلق الإسلام الحياء)، قال ابن القيم رحمه الله: وخلق الحياء من أفضل الأخلاق وأجلها وأعظمها قدراً وأكثرها نفعاً، بل هو خاصة الإنسانية، فمن لا حياء فيه ليس معه من الإنسانية إلا اللحم والدم وصورتهما الظاهرة، كما أنه ليس معه من الخير شيء، ولولا هذا الخلق- يعني الحياء- لم يكرم الضيف، ولم يوف بالوعد، ولم تؤد أمانة، ولم تقض لأحد حاجة، ولا تحرى المرء الجميل فآثره، والقبيح فتجنبه، ولولا الحياء لم تستر عورة، ولم يمتنع عن فاحشة، ولولا الحياء لم تفعل الواجبات وتترك المحرمات، ولم يرع لمخلوق حقاً، ولم يصل رحماً، ولم يبر والدين، فالحياء من خلق الصالحات، أما العاصيات فلا حياء لهن؛ لأن المعاصي تذهب الحياء، قال ابن القيم رحمه الله: من عقوبات المعاصي ذهاب الحياء الذي هو مادة حياة القلب، وهو أصل كل خير، وذهابه -يعني ذهاب الحياء- ذهاب الخير أجمع، فقد جاء في الحديث الصحيح: (الحياء خير كله) والمقصود: أن الذنوب تضعف الحياء من العبد والأمة حتى ربما انسلخ منه بالكلية، وربما لا يتأثر بعلم الناس بسوء حاله، ولا باطلاعهم عليه، بل كثير وكثيرات يخبرن عن حالهن وقبيح أفعالهن، والحامل على ذلك ذهاب الحياء، قال صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون) وإذا وصل العبد والأمة إلى هذه الحال لم يبق في صلاحه وصلاحها مطمع.
واعلمي أخية! أن لا حياء فيها فهي ميتة في الدنيا، وشقية في الآخرة، ومن استحت من الله عند معصيته استحى الله من عقوبتها يوم تلقاه، ومن لم تستحي من الله عند معصيته لم يستح الله من عقوبتها.(64/8)
مظاهر الحياء
قال ابن القيم: الحياء عشرة مظاهر: أولاً: حياء الجناية: فمنه حياء آدم عليه السلام يوم فر هارباً في الجنة، قال له الله تبارك وتعالى: (أفراراً مني يا آدم؟ قال: لا، يا رب! بل حياء منك).
ثانياً: حياء التقصير: كحياء الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فإذا كان يوم القيامة استحوا وقالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك.
ثالثاً: حياء الإجلال: وهو حياء المعرفة، وعلى حسب معرفة الأمة بربها يكون حياؤها منه.
رابعاً: حياء الكرم: كحياء النبي صلى الله عليه وسلم من القوم الذين دعاهم إلى وليمة زينب فأطالوا في الجلوس عنده، فقام واستحيا أن يقول لهم: انصرفوا.
خامساً: حياء الحشمة، كحياء المرأة عندما تسأل عن أمور خاصة بها.
سادساً: حياء الاستحقار، كحياء الأمة من ربها حين تسأله حوائجها احتقاراً لشأن نفسها واستصغاراً لها، ولهذا الحياء سببان: أولهما: استعظام الأمة لذنوبها وخطاياها.
ثانيها: استعظام المسئول تبارك وتعالى.
سابعاً: حياء المحبة، وهو حياء المحب من محبوبه.
ثامناً: حياء العبودية: وهو حياء ممتزج بمحبة وخوف.
تاسعاً: حياء الشرف والعزة، وهو حياء النفوس العظيمة الكبيرة إذا صدر منها ما هو دون قدرها من بذل أو عطاء أو إحسان.
عاشراً: حياء الأمة من نفسها، وهو حياء النفوس الشريفة العزيزة من رضاها لنفسها بالنقص، وقناعتها بالدون، وهذا أكمل ما يكون من الحياء، فإن التي تستحي من نفسها فهي أجدر بأن تستحي من غيرها.(64/9)
كيف قتلوا الحياء؟
واعلمي أخية! أنهم لم يقتلوا الحياء مباشرة ومن أول طعنة، ولكنهم طعنوه مرات، ورسموا لتحقيق ذلك خطوات، فقالوا لها: لا تخلعي الحجاب، ولكن أخرجي العينين، حتى لا تسقطي في حفر الطريق.
ثم قالوا لها: لا بأس بكشف الوجه واليدين، والدين يسر وليس بعسر، فحجاب المرأة الحقيقي في قلبها وليس في وجهها.
ثم قالوا: لماذا هذا السواد فوق الثياب؟ لماذا لا تلبسين العباءة المزركشة والمزخرفة؟ ثم ماذا سيحدث لو تغيرت الألوان؟ ثم قالوا: إنك لا تستطيعين المشي في الطريق بحرية لأن الثوب ضيق من الأسفل، فاجعلي لثوبك فتحة من الأسفل.
ثم قالوا: لماذا السواد أصلاً؟ البسي ملوناً، ولكن إياك والتبرج.
ولم يزالوا بالحياء طعناً حتى قصرت الثياب، وخلع الحجاب، وفتحت الأبواب، وطار الشعر، واختلطت المرأة بالرجل باسم التطور والحضارة فإنا لله وإنا إليه راجعون! قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:21].(64/10)
أي حياء هذا؟!!
وإليك أيتها الغالية! بعض الصور التي نراها، والتي تبين أن الحياء قد رحل من بعض نساء المسلمين: -فتجد فتاة مسلمة في أحد المحلات ممسكة بملابس داخلية والبائع أمامها وهي تقول له: أريد أصغر من هذا، فأي حياء هذا؟!! - وأخرى تحجبت حجاباً براقاً وأرسلت خصلتين من مقدم شعرها ليراها من يراها وكأنها لا تدري، فأي حياء هذا؟!! - يلاحظ الجميع تحت العباءة البنطال الضيق والواسع أحياناً، وكلما تحركت ظهر ما تخفيه، أي حياء هذا؟!! - تمر من جانب الرجال وقد أفرغت نصف زجاجة عطر على ثيابها قبل أن تخرج، أي حياء هذا؟!! - يمر عليها الشباب فيقولون لها كلمة إعجاب وهي فرحة بذلك، وما علمت المسكينة أن هؤلاء هم شباب بانكوك، وشباب الإيدز والهربس، فلا يريد أحدهم منها إلا جسدها، ولو أرادها مصونة عفيفة لطرق البيت من بابه، ثم هي تتبسم، أي حياء هذا؟!! - في مكان العمل حيث الاختلاط يأتيها زميلها في العمل ويجلس على طاولتها ويسأل عن أخبارها، ثم هي تذهب إلى مكتبه وتجلس على طاولته وتسأل عن أخباره، أي حياء هذا؟!! أفيقي أخية! وقولي: دعوني فإني أريد حيائي دعوني دعوني فإني أبية! أنا لست ألعوبة في أياديكم.
تريدون أن تعبثوا بشبابي.
تريدون أن أخلع حيائي.
وأخرج ألقى قطيع الذئاب وبعض الكلاب.
فتنهشني وأنا حية.
أفيقي أخية! يريدون هدم صروح الفضيلة.
يريدون قفل المعاني الجميلة.
يريدون وأدك والنفس حية.
قولي بعالي الصوت: اخرسوا أيها الأدعياء.
فأنا لست أقبل هذا الهراء.
أنا لست أقبل غير تعاليم ديني ففيها النجاة وفيها الحياة.
وفيها السعادة حتى الممات.
أفيقي أخية! عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت).
وقال عمر رضي الله عنه: من قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه.
وقيل لـ عمر بن عبد العزيز: إذا ذهب الحياء ذهب نصف الدين، قال: لا، بل إذا ذهب الحياء ذهب الدين كله.(64/11)
أسئلة وفتاوى(64/12)
حكم الاختلاط في العمل وغيره
السؤال الأول: هل يجوز للفتاة العمل في مكان مختلط مع الرجال، علماً بأنه يوجد غيرها من الفتيات في نفس المكان؟ أجاب شيخنا محمد بن عثيمين حفظه الله ومد في عمره: الذي أراه أنه لا يجوز الاختلاط بين الرجال والنساء في عمل حكومي، أو في قطاع خاص، أو في مدارس حكومية أو أهلية؛ لأن الاختلاط يحصل فيه مفاسد كثيرة، ولو لم يكن فيه إلا زوال الحياء -تأملي الكلام- من المرأة، وزوال الهيبة من الرجال؛ لأنه إذا اختلط الرجال والنساء أصبح لا هيبة عند الرجال من النساء، ولا حياء عند النساء من الرجال.(64/13)
حكم النظر إلى النساء، والنساء إلى الرجال في التلفاز وغيره
السؤال الثاني: ما حكم النظر إلى النساء في التلفاز؟ وما حكم النظر للمرأة الأجنبية بالنسبة للرجل، والنظر للرجل بالنسبة للمرأة أثناء مشاهدة التلفاز؟ أجابت اللجنة الدائمة: لا يجوز؛ لأن الغالب على من يظهر في التلفاز من النساء التبرج وكشف العورة، ومن الرجال من يكون مثال الزينة والجمال، وذلك مثار فتنة وفساد في أكثر الأحيان.(64/14)
حكم الكلام مع الأجنبي وتساهل الرجال والنساء في ذلك
السؤال الثالث: هناك تساهل من بعض الناس في الكلام مع المرأة الأجنبية، فمثلاً: إذا جاء رجل إلى بيت صديقه ولم يجده تقوم الزوجة بالتكلم مع هذا الرجل القادم أي: صديق زوجها، وتفتح له المجلس، وتضع القهوة له، فهل هذا يجوز، علماً أنه لا يوجد في البيت سوى هذه الزوجة؟ أجاب الشيخ ابن جبرين حفظه الله ومد في عمره: لا يجوز للمرأة أن تأذن لأجنبي في بيت زوجها حال غيبته ولو كان صديقاً لزوجها، ولو كان أميناً أو موثوقاً، فإن في هذا خلوة بامرأة أجنبية، وقد ورد في الحديث: (لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)، كما يحرم على الرجل أن يطلب من امرأة صديقه أن تدخله وأن تقوم بخدمته، ولو وثق من نفسه بالأمانة والديانة؛ مخافة أن يوسوس له الشيطان، ويدخل بينهما، ويجب على الزوج أن يحذر امرأته من إدخال أحد الأجانب في البيت، ولو كان من أقاربه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والدخول على النساء، قالوا: يا رسول الله! أرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت) والحمو: هو أخو الزوج أو قريبه؛ فغيره بطريق الأولى.(64/15)
حكم مصافحة الرجل للمرأة الأجنبية
السؤال الأخير: ما حكم مصافحة غير المحارم؟ فإنه يلجأ بعض الرجال إلى مصافحة بعض النساء القريبات وهن لسن محارم له، ولكن لأنهم قرابة أو جيران، فما حكم ذلك؟ وهل يكفي أن تضع المرأة على يدها قطعة قماش بغرض التستر؟ أجابت اللجنة الدائمة: لا يجوز للرجل أن يصافح امرأة أجنبية منه، ولو وضعت خرقة على يدها عند المصافحة، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
قال سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10]، وقال سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].(64/16)
أعظم الحياء
إن أعظم الحياء هو الحياء من الله، ويتولد ذلك من التقلب في نعمه، فتستحي الأمة أن تستعين بتلك النعم على معصيته، وفي حديث ابن مسعود عند الترمذي قال صلى الله عليه وسلم: (استحيوا من الله حق الحياء، قال: قلنا: يا رسول الله! إنا نستحي والحمد لله، قال: ليس ذاك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما وحى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء).
أيتها الغالية! حتى تكوني صاحبة حياء فلا بد أن تحفظي الرأس وما وعى، يعني: لا نظر إلى محرم، ولا سماع إلى محرم، ولا كلام في محرم، ولا تفكير في محرم.
ولا بد أن تحفظي البطن وما حوى: يعني: لا تأكلي ولا تدخلي البطن إلا حلالاً، ومن ذلك: حفظ الفرج عن الحرام، وصاحبة الحياء ترغب فيما عند الله، وتعمل في رضاه، ولا تلهيها الحياة الدنيا عن الحياة الآخرة.
قال أحد السلف: إني لأستحيي أن ينظر الله في قلبي وفيه أحد سواه، وقال آخر: خف من الله على قدر قدرته عليك، واستحي منه على قدر قربه منك، قال سبحانه: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16].
وجاء في الأثر: يقول الله تعالى: يا ابن آدم! إنك إذا استحييت مني أنسيت الناس عيوبك، وأنسيت بقاع الأرض ذنوبك، ومحوت من أم الكتاب زلاتك، وإلا ناقشتك الحساب يوم القيامة.
وجاء في أثر آخر: يقول الرب عز وجل: ما أنصفني عبدي؛ يدعوني فأستحي أن أرده، ويعصيني ولا يستحي مني.
وقال يحيى بن معاذ: من استحيا من الله مطيعاً استحيا الله منه وهو مذنب.
وما أجمل قول التي قالت: فليقولوا عن حجابي لا وربي لن أبالي قد حماني فيه ديني وحباني ذو الجلال زينتي دوماً حيائي واحتشامي هو مالي ولا أني أتولى عن متاع لزوالي لامني الناس كأني أطلب السوء لحالي كم لمحت اللوم منهم في حديث أو سؤال عن سعيد بن زيد الأنصاري رضي الله عنه: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! أوصني! قال: أوصيك أن تستحي من الله عز وجل كما تستحيي رجلاً من صالحي قومك).(64/17)
صور من حيائهن
أخيراً: ها قد وصلنا إلى النهاية، فإليك صوراً من حيائهن.
أخية! أغمضي عينيك برهة، واسمعي هذا القول العظيم من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي تقول عن نفسها: كنت أدخل البيت الذي دفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي رضي الله عنه واضعة ثوبي وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما دفن عمر رضي الله عنه معهما والله! ما دخلت إلا مشدودة علي ثيابي حياء من عمر رضي الله عنه.
افتحي عينيك أخية! وقولي: يا سبحان الله! تستحي من الميت الذي في التراب، وهو شهيد المحراب.
لماذا لا تستحي كثيرات من النساء اليوم من الأحياء؟ لماذا تركب الأمة مع السائق وحدها بدون حياء؟ لماذا تخرج الأمة إلى السوق بلا حاجة بدون حياء؟ لماذا تخالط الأمة الرجال في كل مكان بدون حياء؟ لماذا تلبس الأمة الضيق والقصير بدون حياء؟ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء - يعني الفحش- من الجفاء، والجفاء في النار) رواه الترمذي وصححه الإمام الألباني رحمه الله.
وإليك خبراً آخر: مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في بعض طرق المدينة فسمع امرأة تقول: دعتني النفس بعد خروج عمرو إلى اللذات فاطلعت تلاعا فقلت لها علجت فلن تطاعي ولو طالت إقامته رباعا أحاذر إن أطعتك سب نفسي ومخزاة تجللني قناعا فقال عمر: أي شيء منعك؟ قالت - واسمعي ما قالت-: منعني الحياء، وإكرام عرضي، فقال عمر رضي الله عنه: إن الحياء ليدل على هناة ذات ألوان، من استحيا استخفى، ومن استخفى اتقى، ومن اتقى وقي، وكتب عمر إلى زوجها فأرجعه إليها.
أيتها الغالية! الحياء لا يأتي إلا بخير، وإذا ذهب الحياء ذهب الدين كله.
قال صالح بن جناح: إذا قل ماء الوجه قل حياؤه، ولا خير في وجه إذا قل ماؤه وقال بعض العرب: كأني أرى من لا حياء له ولا أمانة وسط القوم عرياناً.
وقال سبحانه: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26].(64/18)
أمور تعين على الحياء
فاتقي الله أمة الله! واستحي من الله حق الحياء، ومما يعينك على ذلك: علمك بمراقبة الله لك في كل حين، وأنه في كل مكان يسمعك ويراك.
فقد دخل موسى وهارون على فرعون: {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45] فقال سبحانه: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] فاستشعري هذا المعنى العظيم.
ومما يعينك على الحياء أيضاً: النظر في نعم الله التي أسبغها عليك ظاهرة وباطنة، فمن حقه أن تشكريه ولا تكفريه، وأن تذكريه ولا تنسيه، وأن تطيعيه ولا تعصيه، وألا تستعيني بنعمه على معاصيه.
ربنا! أوزعنا أن نشكر نعمتك التي أنعمت علينا وعلى والدينا، وأن نعمل صالحاً ترضاه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
اللهم! لا تحرمنا خير ما عندك بأسوأ ما عندنا.
اللهم! احفظ نساءنا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
اللهم! اجعلهن تقيات نقيات خفيات.
اللهم! أعنهن على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم! اقبل توبة التائبات، واغفر ذنب المذنبات، واقبل عمل الصالحات، وهب المسيئات منهن للمحسنات، اللهم! عاملهن بما أنت أهله، ولا تعاملهن بما هن أهله، إنك أنت أهل التقوى وأهل المغفرة.
أستغفر الله العظيم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(64/19)
من حياة عمر بن عبد العزيز
إن عمر بن عبد العزيز من مشاعل الحضارة الإسلامية الذين يفتخر المسلمون أنهم كانوا في يوم من الأيام رعية لمثل هذا الرجل.
إنه من العادلين إذا ذكر العدل، ومن الخائفين من الله إذا ذكر الخوف، وبسبب خوفه هذا ما تكبر أو تجبر أو تعالى على الناس، وإنما خشي الله فعدل فأمن فرضي.
لقد ترك الدنيا وأعطاها غيره، بعد أن حرم نفسه كل ملذاتها ومتاعها الزائف.(65/1)
لقد كان في قصصهم عبرة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله! يقول المولى سبحانه وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
أمتكم أمة مجيدة كريمة عظيمة، اختارها الله لتكون واسطة العقد في هذا التاريخ، فهي الشاهد على الناس والرسول عليها شهيد يوم القيامة، إنها أمة تمرض ولكنها لا تموت، وقد تغفو أحياناً ولكنها لا تنام، وتغلب أحياناً لكنها لا تقهر بإذن الله.
أخرج الله منها منائر للتوحيد وهداة للبشر ومشاعل للحضارة الحقة.
فمع علم من أعلام هذه الأمة نقف وقفة عظة وتذكر وتدبر، علم يجب على الأمة أن تجعله قدوة من القدوات يوم كادت تغيب القدوات، حتى يكون حديث شيوخها في المنتديات وقصصاً لأطفالها الذين شغلوا بالقصص الهابطة والرسوم المتحركة، وحديثاً لشبابها الذين طالما شغلوا بالحديث عن اللاعبين والفنانات، وملئوا أسماعهم وأبصارهم بالأفلام والمسلسلات، إنه من جعل كبير المسلمين له أباً، وأوسطهم له أخاً، وأصغرهم له ابناً، فوقر أباه وأكرم أخاه وعطف على ولده، إنه القيم والأخلاق والمثل، وما أجمل وأروع أن نرى المثل والأخلاق رجالاً وواقعاً ملموساً! إنه من العادلين إذا ذكر العدل، ومن الخائفين من الله إذا ذكر الخائفون، إنه من حيزت له الدنيا بأكملها، فتولى عنها يريد ما عند الله، فلم يصلح بينه وبين الله أحد من خلقه، فخاف الله وما تكبر وما تجبر وما ظلم، خشي الله فعدل، خشي الله فأمن، خشي الله فرضي.
أظنكم قد عرفتموه، إنه عمر بن عبد العزيز، وما أدراكم ما عمر؟ إنها الهمم تتكلم وتتحدث، كان يقول لزوجه فاطمة: يا فاطمة! إن لي نفساً تواقة اشتاقت إلى الإمارة، فتولى الإمارة، فارتفعت الهمم، فقال لها: يا فاطمة! إن لي نفساً تواقة اشتاقت إلى الخلافة، فتولى الخلافة، فارتفعت الهمم: فقال لها: يا فاطمة: إن لي نفساً تواقة تشتاق إلى الجنة، إنه رجل لا كالرجال، وسيرته لا كالسير، وعذراً أن نفيه حقه في هذه العجالة، لكن حسبكم وحسبي أن نقف عند بعض المواقف، نقف ونتذكر ونعتبر، ونقرأ التاريخ.
اقرءوا التاريخ إذ فيه العبر ضل قوم ليس يدرون الخبر {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف:111] فهيا بنا نبحر في بحر عمر، ومن لآلئه نقتبس ونتذكر، ومن درره ننهل، وعند ذكر الصالحين تتنزل الرحمة بإذن رب العالمين.
تولى الخلافة رضي الله عنه فكان مجدداً بحق، كانت خلافته ثلاثين شهراً، لكنها خير من ثلاثين قرناً، لم يضيعها في كسب دنيوي، ولا شهوة عاجلة، لكنه جعلها وقفاً لله رب العالمين، فبارك الله في سنتين ونيف، بويع بالخلافة، وقام ليلقي أول خطاب له على المنبر: فتعثر في طريقه إلى المنبر من ثقل المسئولية، ومن خوف رب البرية، فوقف يتحدث إلى الناس قائلاً: لقد بويعت بالخلافة على غير رغبة مني، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم رجلاً، فصاح الناس صيحة واحدة ممزوجة بالبكاء: قد اخترناك يا عمر ورضينا بك، فبكى وقال: الله المستعان! ثم أوصاهم من على المنبر قائلاً: أوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خلف من كل شيء، من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، ثم رفع صوته: أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم، ونزل من على المنبر باكياً.
بعد ذلك عرضت عليه الخيل والدواب ليركبها لتكون موكبه إلى قصر الخلافة كما كان يفعل أسلافه، فأعرض قائلاً: ما أنا إلا رجل من المسلمين أغدو كما يغدون، وأروح كما يروحون.
عاد إلى بيته معلناً أنه من تواضع لله رفعه، ترك قصر الخلافة ودخل غرفته المتواضعة، وجلس حزيناً يئن تحت وطأة المسئولية، ثم استدعى زوجه فاطمة مبتدئاً بالأقربين، استدعى فاطمة العابدة الزاهدة بنت الخليفة وأخت الخلفاء، قال لها: إني بعت نفسي من الله، فإن كنت تريدين العيش معي فحيهلا، وإلا فالحقي بأهلك، وهذه الحلي التي تلبسينها تعلمين من أين أتى لك بها أبوك، رديها إلى بيت المال، والله! لا أجتمع مع هذه الحلي في دار واحدة، قالت الزاهدة الراغبة فيما عند الله: بل أردها، والحياة حياتك يا عمر، وللآخرة خير وأبقى للذين آمنوا واتقوا.
خرج إلى الأمة ليردها إلى الله الواحد القهار فكان فعله يصدق قوله، كان لا يشغله عن الله شاغل، ليله قيام وبكاء وخشوع وتضرع، ونهاره عدل وإنصاف ودعوة وبذل وعطاء، فما ليلنا ونهارنا يا عباد الله؟ إنا لله وإنا إليه راجعون.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً يا قيوم السماوات والأرضين.(65/2)
عدل عمر بن عبد العزيز وخشيته لله
ملأ الأرض عدلاً بعد أن كادت تملأ جوراً، إيه يا عمر! قد عشت عمرك زاهداً في كل ما جمع البشر أتعبت من سيجيء بعـ دك في الخلافة يا عمر! بعد كل صلاة ينادي مناديه: أين الفقراء؟ أين المحتاجون؟ فيقدم لهم الطعام والأموال، فلا والله ما تنساه البطون الجائعة ولا الأكباد الظمأى ما دام في الأرض بطن جائعة أو كبد ظمأى.
هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله رزقه الله الخشية، ومن رزق الخشية فقد رزق خيراً كثيراً، والذي يجعل الله نصب عينيه يفتح الله عليه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282].
فتح الله على عمر فتحاً لا يخطر على البال ولا يدور بالخيال، فكان أخوف الناس لله، وهو يرجو الأمان من الله: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]، وفي الحديث القدسي يقول الحق تبارك وتعالى: (وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين، ولا أجمع له أمنين، إن أمنني في الدنيا خوفته يوم القيامة، وإن خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة).
دخل عليه أحد العباد وهو محمد بن كعب القرظي، فجعل ينظر في وجهه، فإذا هو وجه شاحب، وبدن نحيل، كأن جبال الدنيا قد سقطت عليه، فقال: يا عمر! ماذا دهاك؟ يا عمر! ما الذي أصابك؟ والله! لقد رأيتك وأنت أجمل فتيان قريش تلبس اللين، وتجلس على الوثير، لقد كنت لين العيش، نضر البشرة، والله لو دخلت عليك يا عمر في غير هذا المكان ما عرفتك، فتنهد عمر باكياً، قال: أما إنك لو رأيتني بعد ثلاث ليالٍ من دفني وقد سقطت العينان، وانخسفت الوجنتان، وعاثت في الجوف الديدان، وتغير الخدان، لكنت لحالي من حالي أشد إنكاراً وأشد عجباً! فبكى محمد وبكى عمر وبكى الناس حتى ضج المجلس بالبكاء.
جعل الهم هماً واحداً، فرضي الله عنه ورحمه، إنه هم الآخرة وكفى، عرف عمر نفسه، وعرف همه وغايته، فرحم الله امرأً عرف قدر نفسه، لقد كسدت عنده بضاعات المنافقين والشعراء والدجالين، وقام عنده سوق المساكين والفقراء، يدخل عليه أحد الشعراء فيمدحه، فلم يجد سماعاً لما يقول، ولم يعطه عمر شيئاً من أموال المسلمين، فخرج وهو يقول: رجل يعطي الفقراء ويمنع الشعراء.
وجدت رقى الشيطان لا تستفزه وقد كان شيطاني من الجن راقيا(65/3)
تقريب عمر للصالحين
أدنى الصالحين والعباد فجعلهم بطانته، وطلب منهم أن يوفوه ويبصروه بعيوبه، يقول لهم: لقد توليت أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم فأعينوني، فكتب له أحدهم: صم هذا اليوم يا عمر! ولا تفطر حتى تلقى الله.
وكتب له مطرف بن عبد الله: يا أمير المؤمنين! لو كان لك خصم لدود لأعجزك، فكيف بخصمين؟ كيف بثلاثة؟ كيف وخصمك يوم القيامة أمة محمد صلوات ربي وسلامه عليه؟! جمع سبعة من الصالحين وقال: أنتم جلسائي كل ليلة، لكني أشترط عليكم شروطاً ثلاثة -ليتنا اشترطنا هذه الشروط في مجالسنا، اسمعوا وبلغوا هذه الشروط، فرب مبلغ أوعى من سامع-: أولها: لا تغتابوا، ولا تعيبوا في مجلسي أحداً.
ثانيها: لا تتحدثوا في الدنيا.
ثالثها: لا تمزحوا وأنا جالس أبداً.
فكانوا يجتمعون بعد العشاء، فيتحدثون في الموت وما بعده، ثم ينفضون عن مجلسهم، وكأنهم انفضوا عن جنازة.
كتب له أثناء خلافته سالم بن عبد الله بن عمر كتاباً شديداً يقول فيه: يا أمير المؤمنين! لقد تولى الملك قبلك أناس ثم صرعوا وهاهي مصارعهم، فانظر إليها لترى، كانوا ينظرون إلى اللذات بعيون فأكلت، ويأكلون ببطون فنهشت، ويتلفتون بخدود أكلها الدود، فاحذر أن تحبس في جهنم يوم أن يطلق العادلون، فلما قرأ ذلك انهد باكياً قائلاً: اللهم لا تجعلني مع المحبوسين يوم أن يطلق العادلون.(65/4)
تقوى عمر وورعه
لقد حمل هم الأمة، خلع كل لباس إلا لباس التقوى، لم يأخذ قليلاً ولا كثيراً، همه الآخرة لا الدنيا، كانت له نظرة مختلفة عن نظرات الناس، حتى مع الناس، وأخذ الناس يتسابقون يوم عرفة مع الغروب إلى مزدلفة وهو يدعو ويتضرع ويقول: لا والله ليس السابق اليوم من سبق جواده وبعيره، إن السابق من غفر له في هذا اليوم.
كان شديد الخوف والمراقبة لله، إذا أراد النوم ارتجف صدره، فتقول زوجه: ما بالك يا عمر؟ فيقول: تذكرت قول الله: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]، فخفت خوفاً أورثني ما ترين.
فما حالنا مع القرآن؟! فما حالنا مع الآيات والذكر؟! عمينا عن الذكر والآيات تندبنا لو كلم الذكر جلموداً لأبكاه مقياسه في تقييم الناس هو التقوى، وهكذا يجب أن تكون مقاييسنا: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، يقول عمر: والله ما رأيت متقياً إلا وددت أني في جلده.
استدعى مزاحماً يوماً فقال له: يا مزاحم! لقد رأيتك تصلي الضحى في شعب من الشعاب لا يراك فيه إلا الله، فأحببتك والله! فكن عوني على نفسي، فإذا رأيتني ظلمت فخذ بتلابيبي وقل: اتق الله يا ابن عبد العزيز! فما بالهم إذا نصحوا أخذتهم العزة بالإثم؟(65/5)
عفو عمر وإحسانه ومحاسبته لنفسه
لقد كان يحب العفو ويحب الإحسان، نال منه رجل يوماً، فقيل له: رد على هذا السفيه يا عمر، فقال: إن التقي ملجم.
والصمت عن جاهل أو أحمق شرف وإن فيه لصون العرض إصلاح أما ترى الأسد تخشى وهي صامتة والكلب يخسأ لعمري وهو نباح كان رضي الله عنه لا يرد مظلمة، دخل أحدهم يبايعه فقبض يده، قال له: يا أمير المؤمنين! لم قبضت يدك؟ قال: اغرب عني، تجلد فلاناً سبعين جلدة؛ لأنه آذى ابنك! ما غضبت لله، ولكن غضبت لنفسك ولولدك، والله لن تلي لي عملاً بعد اليوم، فعزله عمر.
قطع أعطيات بني أمية وصلاتهم، فغضبوا وأرسلوا له ابنه عبد الملك، فقال له: قل لهم يا بني: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15].
ألجم عمر نفسه بهذا اللجام، فهلا ألجمنا أنفسنا بهذا اللجام؟ {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15].
ولى العباد والزهاد واختارهم، فقامت الدنيا، يقول ميمون بن مهران: لقد أخبرنا رعاة الأغنام بأن الذئاب أيام خلافة عمر ما كانت تعدو على الأغنام! سبحان الله! حتى البهائم تسعد في ظل العدل وتأمن، فلما توفي عمر عدت الذئاب على الأغنام فعرف أهل البوادي أنه قد مات رجل عادل، فالعدل أمن وطمأنينة وسكينة، وبالعدل قامت السماوات والأرض.
وكان شديد المحاسبة لنفسه، ورعاً تقياً، كان يقسم تفاحاً أفاءه الله على المسلمين، فتناول ابن له صغير تفاحة، فأخذها عمر من فمه، وأوجع فم الصغير، وذهب الصغير لأمه باكياً، فأرسلت من اشترى له تفاحاً.
عاد عمر إلى البيت، وما عاد بتفاحة واحدة، فقال لـ فاطمة: هل في البيت تفاح؟ إني أشم رائحة تفاح في البيت، قالت: لا والله! وقصت عليه قصة الصغير، فذرفت عيناه، وقال: والله لقد انتزعتها من فم ابني وكأني انتزعتها من قلبي، ولكني كرهت أن أضيع نفسي بتفاحة من مال المسلمين، سبحان الله! ورب مشهد كهذا خير لـ عمر من الدنيا وما فيها {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35].
كان متواضعاً لله، مدحه رجل في وجهه، فقال: يا هذا! أما إنك لو عرفت من نفسي ما أعرف ما نظرت إلى وجهي، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه.(65/6)
ليل عمر بن عبد العزيز
كان شديد الخوف من الله، ومن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، كان يذكر الله في فراشه كما تقول زوجه، ثم ينتفض كما ينتفض العصفور المبلل حتى أقول - يعني زوجه-: ليصبحن الناس ولا خليفة لهم، ثم تقول: يا ليت بيننا وبين الخلافة بعد المشرقين، والله ما رأينا من سرور منذ تولى عمر الخلافة.
تقول زوجه فاطمة: أمسى ذات ليلة وقد فرغ من استعراض حوائج المسلمين، ثم أطفأ السراج، ثم قام فصلى ركعتين، ثم جلس واضعاً رأسه على يديه، ودموعه تسيل على خده، ويشهق الشهقة فأقول: خرجت نفسه، وانصدعت كبده، فلم يزل كذلك حتى أصبح الصبح وهو باكٍ يتألم، ثم أصبح صائماً، تقول زوجه: فدنوت منه، وقلت: يا أمير المؤمنين! كثير منك ما كان ليلة البارحة، أأمر ألم بك أم ماذا دهاك؟! فأجابها - وقد نصب خوف الله أمام عينيه- قائلاً: إني نظرت في نفسي فوجدتني قد وليت أمر هذه الأمة صغيرها وكبيرها، وأحمرها وأسودها، يتيمها وأرملتها، ثم ذكرت الغريب والفقير واليتيم في أقاصي البلاد، فعلمت أن الله سيسألني عنهم، وأن محمداً سيكون خصمي في ذلك اليوم، فخفت لعله يثبت لي عند الله عذراً، فدمعت عيناي، ووجل قلبي، وكلما ذكرت ذلك ازداد وجلي، ثم انهد باكياً رضي الله عنه ورحمه.
أواه! من لنا بمثل عمر؟ عجزت نساء الأرض أن ينجبن مثلك يا عمر! بكته فاطمة زوجه بعد وفاته حتى ذهب بصرها، ودخل عليها إخوتها قائلين: ما هذا يا فاطمة؟! أتجزعين على عمر فهو والله أحق من يجزع عليه، أم جزعاً على شيء من الدنيا؟ فأموالنا بين يديك، فخذي ما أحببت واتركي ما شئت، قالت: لا والله لا هذا ولا ذاك، لكني رأيت من عمر ليلة منظراً ما تذكرته إلا بكيت، رأيته ليلة قائماً يصلي، فجلس يقرأ حتى أتى على قول الله جل في علاه: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة:4 - 5] فصاح: واسوء صباحاه، ثم وثب، ثم سقط يئن حتى ظننت أن نفسه ستخرج، ثم هدأ، ثم صاح: واسوء صباحاه، ثم قام وهو يقول: ويلي من يوم يكون الناس فيه كالفراش المبثوث، وتكون الجبال فيه كالعهن المنفوش، حتى طلع الفجر، ثم سقط مغشياً عليه، فلما سمع الأذان قام، فصلى بالمسلمين، تقول: فوالله ما ذكرت ليلته تلك إلا غلبتني عيناي، فلم أملك رد عبرتي.
فأسأل الله أن يؤمنه وأن يؤمننا {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة:4 - 5]، خاف الله في الدنيا فنسأل الله أن يؤمنه في الآخرة.
هذه مواقف من حياة عمر وخوفه من الله، وزهده وعدله، وهذا هو عمر الذي جلس للناس مربياً وأباً وأخاً، هذا هو عمر لمن أراد أن يقتدي بـ عمر (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) (ما من راع استرعاه الله رعية فمات حين يموت وهو لها غاش إلا حرم الله عليه الجنة).
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح اللهم أخرج من أصلاب هذه الأمة رجالاً كـ عمر يردون الأمة إليك رداً جميلاً.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(65/7)
وفاة عمر بن عبد العزيز
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: عباد الله! فلكل أجل كتاب، ولكل بداية نهاية، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] يموت كل صغير وكبير، وذكر وأنثى، ومقر وجاحد، وزاهد وعابد {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185]، تنتهي حياة الأخيار بنهاية حميدة، فكأن الأخيار ما بئسوا مع من بئس، ما كأنهم سهروا في طاعة الله، ما كأنهم تعبوا، ما كأنهم جاعوا بعد أن تنعموا؛ لأنهم غمسوا غمسة في الجنة فزال كل بؤس وألم ونصب وتعب، وتنتهي في المقابل حياة الفجار في حفرة من حفر النار، ما كأن الفجار تنعموا ولا أكلوا فعند أول غمسة في النار يزول كل نعيم، ولا خير في لذة من بعدها النار.
وتأتي وفاة عمر الذي كان أعظم ما قاده إلى الله ذكر الموت، اشتد عليه المرض وأدخل عليه الأطباء ووضعوا له العلاج المناسب، والشفاء بيد رب العالمين، فقال: والله لو كان دوائي في أن أرفع يدي اليمني إلى أذني ما فعلت، والله ما أنا بحريص على الدنيا فقد مللتها، ولكني أسأل الله أن يُسلِّم.
استدعى خادماً ثم قال: أسألك بمن سيجمع الناس ليوم لا ريب فيه، أأنت سممتني في الطعام؟ قال الخادم: إي والله قال: فكم أعطوك على ذلك؟ قال: ألف دينار، قال: اذهب فأنت حر لوجه الله، والله يحب المحسنين.
دخل الناس عليه يعودونه، وكان كلما عاده أحد قال: اعف عني عفا الله عنك.
قام وخطب بالناس، فكان مما قال في آخر كلامه: اتقوا الله قبل حلول الموت بكم، إني لأقول هذا وما أعلم أحداً عنده من الذنوب أكثر مما عندي، ثم خنقته عبرته، فأخذ طرف ردائه، فوضعه على وجهه يبكي، فما بقي أحد إلا بكى لبكائه، ولم يخطب بعدها رحمه الله.
في ضحى يوم عيد الفطر حلت بـ عمر سكرات الموت التي لا بد من حلولها في كل واحد منا، ونسأل الله أن يحسن لنا الختام، فجاءه مسلمة بن عبد الملك فقال له: إنه قد نزل بك ما ترى، وإنك تركت صبيتك صغاراً لا مال لهم، فأوص بهم إلي، فجلس عمر وقال: والله! ما منعتهم حقاً هو لهم، ووالله لن أعطيهم ما ليس لهم، إن بني هؤلاء أحد رجلين: إما رجل يتقي الله فسيجعل الله له مخرجاً، وإما مكب على المعصية فلم أكن لأعينه على معصية الله، ثم أمر فقال: ادعوا أبنائي جميعاً، فدعوهم وكانوا بضعة عشر صبياً كأنهم فراخ، نظر إليهم بحنان الوالد، نظر إلى ضعف طفولتهم، وبراءة أعينهم، فذرفت عيناه الدموع، ثم قال: أفديكم بنفسي أيها الفتية الصغار الذين تركتكم ولا مال لكم، أي بني! إن أباكم كان بين أمرين، إما أن يغنيكم فيدخل النار، أو يفقركم فيدخل الجنة، فاختار أن يفقركم ويدخل الجنة، لكن وليي الله فيكم الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، انصرفوا عصمكم الله.
فانصرف أبناؤه، فجعل يبتهل إلى الله في خشوع ويقول: رباه! أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، رباه! ما عندي ما أعددته للقائك إلا خوفي منك، وحسن ظني بك، وأنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت، ثم أمر الناس أن يخرجوا، فكانوا يسمعونه يردد: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].
أسلم عمر الروح إلى باريها، فرحمة الله عليه: جسد لفف في أكفانه رحمة الله على ذلك الجسد كان يقول قبل وفاته: إذا غسلتموني وكفنتموني ووضعتموني في لحدي، فاكشفوا عن وجهي، فإن ابيض فاهنئوا، وإن اسود فويل لي ثم ويل لي.
يقول رجاء: فكنت فيمن غسله وكفنه، وأدخله في لحده، وحللت العقدة من كفنه، ثم نظرت إلى وجهه فإذا هو كالقراطيس بياضاً.
بيض الله وجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.
أسلم الروح عمر فأُسكت فم لطالما تلجلج بذكر الله، وأغمضت عينان لطالما ذرفتا من خشية الله، واستراحت يدان لطالما مدتا إلى ما يرضي الله، ودع الأمة والجياع قد شبعوا، والخائفون قد أمنوا، والمستضعفون قد نصروا بإذن الله، وجد اليتامى فيه أباً لهم، والأيامى كافلاً لهم، والتائهون دليلاً لهم، والمظلومون نصيراً لهم.
وحلت المصيبة بالمسلمين وأغلقت القلوب بحزنها، والعيون بدمعها.
فاليوم تنعم يا عمر بجوار من أهدى البشر فسقي رفاتك وابل من ماء غيث منهمر يقول مسلمة: يرحمك الله يا عمر! لقد لينت قلوباً قاسية، وأبقيت لنا في الصالحين ذكراً.
ذهب عمر بعد أن حقق العدل والطمأنينة والسكينة والأمن والإيمان في سنتين وبضعة أشهر وخمسة أيام، فما حققنا نحن على مدى سنوات طوال؟ كان كثيراً ما يقول ويردد: إن الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل أنت فيهما، إن الأعمار لا تقاس بالأعمار، لكن بالهمم والمقاصد والأهداف.
مات عمر وما مات ذكره، ولا يموت ذكر الصالحين، لهج المسلمون بالدعاء والثناء عليه، ليس المسلمون فحسب، فها هو ملك الروم ليون الثالث يقول: لو كان رجل يحيي الموتى بعد عيسى لكان عمر، والله لا أعجب من راهب جلس في صومعته وقال: إني زاهد، لكني أعجب من عمر يوم أتته الدنيا حتى أناخت تحت قدميه، فركلها بقدميه وأعرض عنها وهو يقول: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15].
هذه سيرة عمر أيها الأخ الكريم، هل أعجبتك، إن أعجبتك فاقتدِ بها، اقتد بـ عمر وبالصالحين لعلك تكون منهم، فإن لم تستطع وجاهدت نفسك فأحبهم، فإن المرء مع من أحب.
اللهم لا تحرمنا خير ما عندك بأسوأ ما عندنا يا أرحم الراحمين.
اللهم اجز عمر عن المسلمين خير الجزاء يا رب العالمين! اللهم اجز كل العادلين عن رعيتهم خير الجزاء يا حي يا قيوم! اللهم أبرم لأمتنا أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا حي يا قيوم! اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم قيض لهم البطانة الصالحة التي تعينهم على الخير إذا فعلوه، وتذكرهم به إذا نسوه.
اللهم اجمع شملنا، ووحد صفنا، وأصلح ولاة أمورنا، يا حي يا قيوم! اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك الموحدين.
اللهم انصر المستضعفين في العراق وفي الشيشان وكشمير والفلبين وأفغانستان، اللهم انصرهم في كل مكان يا حي يا قيوم، اللهم كن لهم عوناً وظهيراً، ومؤيداً ونصيراً، اللهم انصر من نصرهم، واخذل من خذلهم.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يقاتلون من أجل إعلاء كلمة دينك، اللهم تقبل شهداءنا وشهداءهم، وفك أسرانا وأسراهم يا رب العالمين! اللهم اجمع كلمتنا على الحق يا حي يا قيوم! اللهم قيض لهذه الأمة ولاة أمر صالحين، وعلماء ربانيين ودعاة مخلصين يردونها إليك رداً جميلاً يا حي يا قيوم! اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزلازل والمحن ما ظهر منها وما بطن، يا رب العالمين! اللهم من أرادنا وبيوت المسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره يا رب العالمين! اللهم من حاربنا عبر الشاشات والقنوات، اللهم فلا تبارك لهم يا حي يا قيوم! اللهم اجعل كيدهم تدبيراً ومكراً عليهم يا قوي يا عزيز! اللهم لا تحرمنا خير ما عندك بأسوأ ما عندنا، يا عليم يا خبير! عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر.(65/8)
نعمة النوم وآدابه
إن النوم نعمة عظيمة من نعم الله تعالى على العباد، وهو آية من آياته جلّ وعلا، فبالنوم يأخذ الجسم راحته، ويستعد للقيام بأعمال أخرى من أمور الدنيا والدين.
ولا يشعر بقيمة هذه النعمة إلا من فقدها، فمن أصيب بالأرق أو بالمرض وحُرم من هذه النعمة فإنه مستعد أن يدفع كنوز الدنيا كي يحصل على جزء يسير منها، أو أن يغفو غفوة يتلذذ بهذه النعمة التي لم نتفكر فيها، ولم نتدبر في كيفية حصولها، والأسباب المؤدية إليها، فذلك وراءه من الأسرار والعلوم ما الله به عليم.(66/1)
النوم نعمة ورحمة من الله تستوجب الشكر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله! نعم الله علينا كثيرة لا تحصى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، ومن بين هذه النعم نعمة أنعم الله بها علينا، ونتلبس بها جميعاً، بل لا يكاد يمر يوم إلا ونحن تحت تأثيرها، وقل أن نحسب لهذه النعمة حسابها، وقليل فينا من يشكر الله عليها، وكثير منا من هو غافل عن شكره فيها، كما هو غافل عن الشكر في نعم أخرى مثيلة لها، إنها نعمة النوم، وهي نعمة مجهول قدرها، فإذا ما أصيب المرء بمرض أو أرق، أو مسه شدة جوع أو برد حالت دون نومه فإنه يدرك قيمة هذه النعمة، وما أطول ليل الأرقين! وما أنغص نوم المرضى والمهمومين! وفي المقابل فما ألذ النوم بعد الإعياء والتعب وطول الكد والبحث في سبل الحياة دون أن يكدره مرض أو هم أو غم! عباد الله! إنّ النوم كما هو نعمة فهو أيضاً آية من آيات الله، ألا ترى الخالق جل جلاله يغشي الليل النهار فيظلم الكون، وتسكن الحياة، وتنكفئ الأحياء، وتقل الحركة، ويهدأ الناس، فيطيب المنام، وتسكن الأعضاء بعد كللها، وتستريح بعد تعبها، وصدق الله إذ يقول: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان:47].
تفكر عبد الله! -وأنت مدعو للتفكر والتأمل- وتأمل في قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النمل:86]، وتأمل في قوله تبارك وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [الروم:23].
عباد الله! إن تلك النعمة رحمة واحدة من رحمات الله على عباده تستوجب الشكر، قال سبحانه: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص:73]، فلا تستطيع أي قوة في هذا الكون سوى قوة الله أن تجعل الليل هادئاً ساكناً للمنام، ولا النهار مبصراً للحركة وانتشار الأنام، وأي قوة مهما بلغت فلن تستطيع أن تتصرف ما لو استمر الزمان ليلاً سرمدياً، أو نهاراً أبدياً، فلا أحد يستطيع ذلك إلا الذي خلق الخلق وقدره تقديراً، وهذه آيات عظيمة، والتفكر فيها يدعو لمزيد من الإيمان، فتدبر في قوله تبارك وتعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [القصص:71 - 72].
إن في النوم سراً من أسرار الله في هذا الكون لا يقدر عليه إلا الله، إن في النوم موتاً ووفاة، لكنها موتة صغرى، ووفاة إلى أجل، قال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأنعام:60]، فالأنفس في المنام يتوفاها الله جميعاً، فمن شاء أن يفسح لها في الأجل أعادها إلى الحياة مرة أخرى، فقد كنت ميتاً منذ سويعات فأحياك الله، وأما النفس التي قدر عليها الوفاة فإن يمسكها فلا يقظة بعد هذه النومة، فمن ذا الذي يقِّدر هذا، أو يعرف قيمة هذا؟ ومن الذي يستطيع أن يفعل هذا إلا الله تبارك وتعالى؟ فتأمل في قوله تبارك وتعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر:42] فهناك سر عجيب يتكرر في النوم، ولا يكاد يوقظ قلوب الغافلين، أو يستدعي تفكر المتفكرين، ففي لحظة سريعة يغيب المرء عن الحياة والأحياء، وفي أخرى يستيقظ فإذا هو يعيش الحياة ويبصر الأحياء، فيستدل بالنوم -وهو الموتة الصغرى- على الوفاة الكبرى، وبالاستيقاظ على البعث والنشور.
فإي وربي لتموتنّ كما تنامون، ولتبعثنّ كما تستيقظون، وهناك في أرض المحشر ينكشف ليل المفسدين، وتكشف سوءات الفسقة والفاجرين، الذين نسوا أنهم إن غابوا عن أعين الخلق فهم في رقابة الخالق الذي لا تخفى عليه منهم خافية ليلاً ولا نهاراً، ففي الآخرة ينكشف الفرق بين قوم {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17]، فكانوا في صلاة وتلاوة وذكر ودعاء، {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18]، وبين أناس يحيون الليل بسهرات صاخبة، ومجون وفواحش، وهم يظنون أنها ليالي حمراء، وغداً تبدو لهم ولغيرهم ليال سوداء.
فخلاصة القول: أنه لا ينبغي للعاقل أن يتخذ من هدأة الليل مجالاً للفسوق والفجور بدلاً من أن يشكر الله على هذه النعمة، ويأوي إلى فراشه ذاكراً شاكراً مستودعاً ربه نفسه: إن أمسكها أن يرحمها، وإن أرسلها أن ليحفظها بما يحفظ به عباده المؤمنين، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه أن يقول أحدهم إذا أوى إلى فراشه: (باسمك اللهم وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمهما، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)، فما أجمل هذا الدعاء لو تعلمناه وعملنا به! وكما أن النوم نعمة وعبادة تعينان على طاعة الله فهو ليس كذلك إذا حال بين العبد وبين طاعة ربه، فالصلاة خير من النوم، وهذا نداء يطلقه المؤذنون في فجر كل يوم، والخيرون من الناس هم الذين يستجيبون لهذا النداء، وأكثر الناس عن آيات ربهم غافلون، ومن تكرر نومه عن صلاة الفجر دون عذر شرعي فذلك الذي بال الشيطان في أذنيه.
وكذلك يكون من ضعف النفس ونزغ الشيطان، إذا حال بين المرء وطلب علم نافع، أو داعب الأجفان في خطبة الجمعة أو حال بين المرء وبين عمل صالح.
وهو رحمة وأمنة في حال الجهاد، ولقد أصاب المسلمين ومعهم النبي صلى الله عليه وسلم منه شيء في بعض ملاحمهم مع المشركين، كما قال تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال:11].
يقول الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [غافر:61].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(66/2)
بعض آداب النوم
الحمد لله رب العالمين {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام:96].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، ويعلم مستقرها ومستودعها، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، كان نومه أعدل النوم، وهو كما قال ابن القيم رحمه الله: أنفع ما يكون من النوم، وأنفع النوم -كما قال الأطباء- ثلث الليل والنهار: ثمان ساعات، ويتفاوت الناس على حسب أعمالهم واحتياجهم لساعات النوم، فمنهم من تكفيه أربع، ومنهم من تكفيه ست، لكن لا تزاد ساعات النوم على ثمانِ ساعات.
اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه الأنبياء والمرسلين.
عباد الله! إن للمصطفى صلى الله عليه وسلم هدياً في النوم حري بنا أن نتعلمه ونعمل به؛ حتى يكون نومنا عبادة لله رب العالمين، فكان إذا أوى إلى فراشه قال: (باسمك اللهم أحيا وأموت).
وكان من هديه أن يجمع كفيه ثم ينفث فيهما، ويقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1]، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، ويفعل ذلك ثلاث مرات، فيبدأ بهما على رأسه ووجهه ثم ما أقبل من جسده.
وكان صلى الله عليه وسلم ينام على شقه الأيمن، ويضع يده اليمنى تحت خده الأيمن، ثم يقول: (اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك).
رواه أبو داود والترمذي وغيرهما بإسناد صحيح.
ومن دعائه أيضاً إذا أوى إلى فراشه: (الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، فكم ممن لا كافي له ولا مؤو)، وهذا الحديث يذكرنا بجموع من المسلمين في زماننا هذا تسلط عليهم الأعداء فأخرجوهم من ديارهم، فهاموا على وجوههم بحثاً عن الزوايا، وبحثاً عن ركن يأوون إليه، أو طعام يستطعمون به، فنسأل الله أن يردهم إلى بلادهم، ويمكن لهم في أرضهم، ويمكن لهم من عدوهم، قال صلى الله عليه وسلم: (من أصبح آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)، ألا فلنشكر الله على هذه النعم.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ذكر الله في حال النوم تسبيحاً وتحميداً وتكبيراً، وتلك وصيته لأقرب الناس إليه وهي فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وذلك حينما سألاه الخادم: فقال صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم: إذا أويتما إلى فراشكما فسبحا الله ثلاثاً وثلاثين، واحمداه ثلاثاً وثلاثين، وكبراه أربعاً وثلاثين، فذلكما خير لكما من خادم).
رواه الشيخان وغيرهما.
ومن هديه صلى الله عليه وسلم حال النوم: الوضوء والتطهر، وفي هذا يقول: (طهروا هذه الأجساد طهركم الله؛ فإنه ليس عبد يبيت طاهراً إلا بات معه ملك في دثاره لا ينقلب ساعة من الليل إلا قال الملك: اللهم اغفر لعبدك هذا فإنه بات طاهراً).
ومن هديه أيضاً: قراءة آية الكرسي، فلا يزال على قارئها من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وبالجملة: (من اضطجح مضطجعاً لا يذكر الله تعالى فيه إلَّا كانت عليه من الله ترة) أي: حسرة وخسارة وندامة، رواه أبو داود بإسناد حسن.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم الاضطجاع على الشق الأيمن، وهناك صفة ذميمة في النوم أيقظ النبي صلى الله عليه وسلم صاحبها، ألا وهي النوم على البطن، فعن يعيش بن طخفة الغفاري رضي الله عنه قال: قال أبي: (بينما أنا مضطجع في المسجد على بطني إذ رجل يحركني برجله، فقال: إن هذه ضجعة يبغضها الله، فنظرت فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم).
رواه أبو داود بإسناد صحيح، وفي بعض الروايات: (تلك نومة أهل النار)، والعياذ بالله.
ومن أدب الإسلام: ألا ينام المرء وبيده بقايا من أثر الطعام حتى يغسلها، قال عليه الصلاة والسلام: (من نام وفي يده غمر ولم يغسله فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه).
رواه أحمد وأبو داود بسند صحيح.
ومن آداب النوم: أن ينفض الإنسان فراشه احتياطاً مما قد يخلفه فيه من بعده، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض بداخلة إزاره؛ فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم ليضطجع على شقه الأيمن، ثم ليقل: باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك اللهم أرفعه، إن قبضت روحي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين).
عبد الله! إذا كنت لا تدري إذا صعدت روحك إلى بارئها حال النوم أتكون ممن تمسك روحه فلا يقوم، أم ممن ترسل لتكمل بقية أجلها، فليس يليق بك أن تودَّع الدنيا بالفجور والعصيان، أو يكون آخر ما يقرع سمعك ألحان وغناء وأصوات الموسيقى والتخيلات الباطلة، بل ودَّع الدنيا بخير ما ينبغي أن تودَّع به، ثم نم على ذكر الله تبارك وتعالى، واحتسب نومتك عبادة عند الله، وتذكر دائماً أنها ربما تكون آخر نومة تنامها، فاشكر الله على عافيته وكفايته وإيوائه لك، ونم وأنت عازم على القيام للصلاة المكتوبة، وإذا استيقظت فاحمد الله وقل كما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور)، وإذا تعاريت من الليل -أي: استيقظت في وسط الليل- فقد أرشدك النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن تقول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإن قلت: اللهم اغفر لي! أو دعوت استجيب لك، وإن قمت فتوضأت ثم صليت قُبلتْ صلاتك).
رواه البخاري وأحمد وغيرهما.
عبد الله! وإذا أصابك أرق أو فزع أو وحشة فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يعلم أصحابه أن يقولوا في حال الفزع: (أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه، ومن شر عباده، ومن شر همزات الشياطين وأن يحضرون) رواه أحمد وغيره وهو حديث حسن.
وورد: (أن رجلاً شكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم الأرق، فقال له قل: اللهم! غارت النجوم، وهدأت العيون، وأنت حي قيوم، يا حي يا قيوم أنم عيني، وأهدئ بالي، فقالها الرجل فذهب عنه الأرق).
وهكذا أحبتي يبدو الإسلام عظيماً في كل تشريعاته، فهو ينظم أمور الحياة في الليل والنهار، وفي اليقظة والمنام، وصدق الله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38].
اللهم فقهنا في ديننا، وارزقنا شكرك وذكرك وحسن عبادتك.
اللهم لك الحمد كما آويتنا وكفيتنا، وأنمتنا وأيقظتنا.
اللهم اكف من لا كافي له، وآو من لا مأوى له، وأطعم من لا مطعم له.
ألا وصلوا على البشير النذير، والسراج المنير الذي أمركم الله بالصلاة عليه فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
اللهم! صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم اهدنا وعافنا واعف عنا واغفر لنا وارحمنا، يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل يقظتنا ونومنا طاعة وعبادة لك يا رب العالمين! اللهم اجعل طعامنا تقوياً في طاعتك، ومنامنا تقرباً إليك يا رب العالمين! وحبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا يا ربنا من الراشدين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يقاتلون من أجل إعلاء كلمة دينك، وانصر من نصرهم، واخذل من خذلهم، قو عزائمهم، واربط على قلوبهم، وثبت الأقدام، وفك أسرانا وأسراهم يا رب الأنام، وأنزل عليهم رحمة وتأييداً من عندك يا حي يا قيوم! اللهم من سعى في فكاكهم ففك رقبته من النار يا رب العالمين! اللهم اكبت عدوك وعدونا فإنهم لا يعجزونك يا قوي يا عزيز! وأخرجهم من بلاد المسلمين أذلة صاغرين، واجعلهم لمن خلفهم آية، ولا ترفع لهم في بلاد المسلمين راية يا رب العالمين! اللهم ردنا إليك رداً جميلاً يا حي يا قيوم! عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90] فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر.(66/3)
هذا ما رأيت في رحلة الأحزان
إن مرور الليالي والأيام يدل على اقتراب الأجل، وإن الأحداث العظيمة والكوارث الجسيمة فيها عبرة لنا؛ علّنا نرجع إلى ربنا تبارك وتعالى، وما حدث في مناطق شرق آسيا بما يسمى بـ (تسونامي) سببه الرئيسي هو ذنوب العباد، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فلكي نسلم من مثل هذه الكوارث علينا التزام الأوامر والنواهي الإلهية، فهو المخلص الوحيد من مثل هذه الحوادث الأليمة.(67/1)
مرور الأيام معناه دنو الأجل
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلاله، وكل ضلالة في النار.
معاشر الأحبة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله وبياكم وسدد على طريق الحق خطاي وخطاكم، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني وإياكم في دار كرامته، وأن يحفظني وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلنا هداة مهتدين، لا ضالين ولا مضلين.
أحبتي! انتهى عام، ونحن على وشك أن نبدأ عاماً آخر، فما أسرع انقضاء الأيام والليالي، فالأيام والليالي تبليان كل جديد، وتقربان كل بعيد، وتأتيان بكل موعود ووعيد.
إن مرور الأيام وانقضاء الليالي له معنى واحد وهو: أني أنا وأنت نقترب من النهاية، ومعناه: أن الأجل يقترب والفرصة تقل يوماً بعد يوم، ولا معنى له غير هذا المعنى، فكل ليلة وكل يومٍ ينقضي هو من عمري ومن عمرك أنت، والآجال تنقص ولا تزيد، والأعمار تنقص يوماً بعد يوم لا تزيد، فأعمارنا في نقصان يوماً بعد يوم.
وعلى مدى عام إلى يومنا هذا حدثت أحداث، واستجدت أمور، وتغيرت أشياء لا يعلم بها إلا الحكيم الخبير الذي قال: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ} [النور:44].
إن محاسبة النفس في نهاية العام دليل على الجدية والهمة العالية، فالتاجر الناجح هو الذي يراجع الحسابات حيناً بعد حين؛ لذلك أمرنا الله بمراجعة الحسابات فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18]، والكيّس هو الذي يحاسب نفسه كل يوم، فإن لم يكن ففي الأسبوع مرة، فإن لم يكن ففي الشهر مرة، فإن لم يكن ففي السنة مرة، فإن لم يكن ففي العمر مرة، فلابد أن نقف ونراجع حساباتنا، ولن أقف مع ما فعلتَ أنتَ أو فعلتِ أنتِ أو ماذا قدمنا أو أخرنا، فخلال العام الماضي حدثت أمور جسام، وآيات عظام يخوف الله بها عباده، ولعلي مع نهاية هذا العام أقف وقفات، مع ما حدث في هذا الكون الذي يدبره الواحد الأحد، والذي لا يتحرك متحرك في كونه إلا بعلمه، ولا يسكن ساكن في أرضه ولا في سمائه إلا بقدرته وأمره {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ * قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ * قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:59 - 67].(67/2)
أعظم الأحداث في شرق آسيا
لعل أعظم ما حدث في عامنا المنصرم هو ما حدث في شرق آسيا، تلك الآية العظيمة التي بلغ خبرها القاصي والداني، كيف لا وفي دقائق معدودة حدث ما حدث من الآيات العظام، لقد تغير مجرى هذا الكون رأساً على عقب، لقد تحركت الأرض، وماجت الجبال، وفاضت المياه والبحار والأنهار، واهتزت الأرض تحت أقدام البشر، فمات من مات، وهلك من هلك، وشرد من شرد، وأصيب من أصيب، وحدثت مصائب وآلام لا يعلم بها إلا الله، لقد حدثت في دقائق معدودة، ولكن للأسف الشديد فإن سكان الأرض لم يستفيدوا من تلك الآية، ولم ينزلوها في مكانها الصحيح، فالذي حدث أن وسائل الإعلام نقلت لنا الخبر وتكلمت عن أسباب الزلازل وأسباب الفيضانات، ونظروا إليها من المنظور العلمي، وما ذكروا أنها عقوبة من الله جزاء مخالفة أهل الأرض أوامر الله تبارك وتعالى، فالأمر أمره، والأرض أرضه، والسماء سماؤه، يفعل ما يشاء و {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23].
لقد رأينا بأم أعيننا على شاشات التلفاز والقنوات تلك الأحداث التي جرت، لكن ليس الخبر كالمعاينة، فقد نقلت لنا وسائل الإعلام الخبر إلا أننا لا نستطيع أن نتصور ما حدث هناك حقيقة، فالذي حدث -والله الذي لا إله إلا هو- أمر يفوق تصور الإنسان، ولا يستطيع الإنسان بعقله المحدود أن يتصور ما حدث هناك، حتى حين ترى وتقف في تلك الأماكن فإن العقل يقف حيراناً، كيف حدث هذا؟! وكيف تم هذا في لحظات؟! وما هي تلك القوة التي أحدثت كل هذا الدمار في لحظات معدودة؟! إنها قوة الجبار الذي إذا أراد أمراً فإنما يقول له: كن فيكون.
وقد ذهبت إلى هناك وشاهدت بأم عيني ماذا حل من الدمار، ورأيت ومع إنني رأيت لكنني والله لا أستطيع أن أصور حقيقة الأمر، فالأمر أكبر مما أستطيع أن أستوعبه أنا أو تفهمه أنت، والأمر أعظم من أن نذكره في كلمات، والأيام القادمة وما يليها ستكشف لنا حقيقة الأمر الذي كان هناك، في كل يوم كنت أتنقل من منطقة إلى منطقة والسؤال الذي كان يدور في خاطري دائماً ماذا كان يصنع هؤلاء حتى حل عليهم هذا؟ هل هو زنا وشرب خمور؟ الأمر أعظم من هذا كله، والأيام القادمة ستكشف لنا الحقيقة.(67/3)
دوافع الرحلة
ما الذي دفعني للذهاب؟ لقد شاهدت مثلكم ما بُثَّ على شاشات الفضائيات، ورأينا ما حل من الدمار، لكن حز في خاطري أنني رأيت الصليب يتجول هنا وهناك في بلاد المسلمين، حز في خاطري أني رأيت المعونات تقدم إلى المسلمين ممن يضعون الصليب على صدورهم وعلى ظهورهم! فقلت: أين نحن عن إخواننا هناك؟ وأين الهيئات والمنظمات الإسلامية؟ نعم لقد قدمت معونات وبلادنا أيضاً ممن قدم المعونات لكنها كلها ذهبت تحت إطار الأمم المتحدة التي يتزعمها الصليب، والذي قدم تلك المعونات هو الصليب للمسلمين هناك، فحز في خاطري أن أيام العيد قادمة وأنه ليس بين المسلمين من يواسيهم في مصابهم وفي آلامهم إلا أبناء الصليب، ورأيت من فتيات الصليب ومن شبابه متطوعين أتوا من كل مكان لكي يساعدوا في عمليات الإنقاذ والإعمار والتنظيف وإخراج الموتى، وما رأيت من العرب أحداً، ولا من المسلمين أحداً، ورأيت من شبابهم وكبار سنهم صغاراً وكباراً يتجولون بين الملاجئ والمستشفيات، وليس ذلك منهم حباً في الإسلام والمسلمين، والله! ما جاءوا لأنهم يحبوننا، لكنهم جاءوا حتى يبينوا للمنكوبين أن الصليب معهم، وأن الصليب يساعدهم في نكباتهم.
فقررت الذهاب قبيل بداية شهر ذي الحجة بأيام، قالوا لي: تأخر إلى ما بعد الحج، لكني أعرف أن الجرح إذا تطاول عليه الزمان يبرأ يوماً بعد يوم، والذي نراه اليوم ليس كالذي نراه غداً وبعد غد، اليوم سترى أشياء ثم هذه الأشياء ستندثر وتختفي، ولن ترى ما تراه في بداية الأمر وفي أول المصاب، ثم إني أردت أن أكون بين أولئك في أيام العيد لأنظر كيف سيقضون أيام العيد! فقررت السفر، فاخترت صحبة للذهاب معي، لكن صحبتي تخلت وتقاعست في آخر اللحظات، وعذرهم أن الظروف الأمنية لا تسمح، وأن الظروف الصحية لا تسمح، وأن الأوضاع هناك مضطربة ولا أحد يستطيع أن يذهب إلى هناك، فقلت: سبحان الله! كيف ذهب أبناء الصليب وما وضعوا هذه العراقيل وهذه العقبات، لماذا عندما نقدم دائماً نتأخر ونضع العراقيل ونضع العقبات ولا يضعونها هم؟! لذلك تقدموا هم وتأخرنا نحن، فقررت السفر ولو كنت بمفردي.
واستشرت أمي رحمها الله فقالت: ما دام الأمر طاعة، وفي مرضاة الله فصلِّ واستخر ثم توكل على الله، فكانت هذه الكلمات دافعاً لي على أن أعزم على الذهاب ولو كنت سأذهب بمفردي، فاتصلت على الإخوان في الكويت من جمعية إحياء التراث الكويتي، ولهم مكتب هناك، ثم مع بداية الأحداث فتحوا مكتباً آخر في المناطق المنكوبة فقالوا: سنستقبلك وسنرتب لك الأمور، وهذا شجعني على الذهاب حتى وإن كنت بمفردي.
فما الذي دفعني للذهاب؟ لقد دفعني إلى ذلك أولاً: أن الذي حدث هناك آية من آيات الله أردت أن تكون واعظاً لي أنا أولاً ثم واعظاً للذين سأنقل لهم الصورة، وأردت من ذهابي أيضاً أن أرى بأم عيني حقيقة ما حدث، فصحيح أننا سمعنا ونقل لنا من هنا ومن هناك لكن ليس الخبر كالمعاينة، وليس من رأى كمن سمع، فأعددت العدة للسفر، وأسميت الرحلة من أولها إلى آخرها برحلة الأحزان، فهذا ما رأيت في رحلة الأحزان، وكيف لا تكون رحلة أحزان وقد رأيت مصرع آلاف من البشر؟! كيف لا تكون رحلة أحزان وقد رأيت من أحوال المسلمين ما يدمي القلب، ويقض المضجع، ويدمع العين؟! لقد رأيت أهوالاً عظاماً لعلي أستطيع أن أصورها لكم في هذه الساعة المحدودة وإلا فالأمر أعظم مما سأتكلم وأعظم مما سأقول.(67/4)
بداية رحلة الأحزان
انطلقت من هنا في يوم الخميس الثالث من ذي الحجة في الخامسة من مساء يوم الخميس عن طريق جسر الملك فهد، من هنا بدأت أحزاني، والجسر فيه زحام شديد لا يعلمه إلا الله، فكنت أتلفّت يمنة فلا أرى إلا شباباً من شبابنا ومن أبنائنا والموسيقى في كل مكان، والضحكات من هنا وهناك، وهم طوابير، فوالله! لقد وقفنا في الطابور أكثر من ساعتين حتى استطعنا أن نصل إلى المكان الذي نختم جوازاتنا فيه، ونتجاوز النقطة إلى النقطة التي تليها على مدى تلك الساعات، ووالله! ما رأيت إلا أمماً من الشباب تجاوزت الآلاف، أين سيذهبون؟ وماذا يريدون من الذهاب إلى هناك؟ وهل الوقت أصلاً يسمح لمثل هذا اللهو؟ فأمتنا جراحاتها في كل مكان، فهل هذا وقت لهو وضحك وتوزيع ابتسامات، هل هذا وقت معاص ومنكرات، فما رئي صلاح الدين مبتسماً، وحين سئل قال: كيف أبتسم والأقصى بين أيدي الصليبيين؟ فكم للأقصى وهو يئن ويشتكي؟! هاهو الأقصى يلوك جراحه والمسلمون جموعهم آحاد يا ويحنا ماذا أصاب شبابنا أو ما لنا سعد ولا مقداد؟(67/5)
بداية الأحزان من قبل الإقلاع
تجاوزنا أول النقاط ووصلنا إلى مطار البحرين، وهناك اختلط الحابل بالنابل فلا تعرف الرجال من النساء، ولا تعرف هل هذا رجل أم امرأة! فتقدمت بجوازي وتذكرة سفري إلى تلك التي تعمل في خطوط طيران الخليج، وكانت تتبسم لمن قبلي كلهم، وهذه هي وظيفتهم التبسم في وجه العملاء، فلما رأتني استنكرت وعبس وجهها وتغير، وكنت أعرف أن الرحلة إلى اندونيسيا مليئة بالنساء والخادمات، فقلت لها: لي مطلب واحد وهو: أن أكون على النافذة، وأن أكون بجانب رجل، قالت: ليس عندي لك مكان إلا هذا، قلت: من حقي أن أطلب المكان الذي أريده فأنا راكب على هذه الطائرة، ومن واجبكم أن تقدموا الخدمات المسموحة والممكنة لي، قالت: ليس هناك إلا ما أعطيتك إياه، قلت: أكيد لا يوجد غير هذا المكان؟ قالت: لا يوجد غير هذا المكان، ثم أعطتني تذكرة سفري، وبطاقة صعود الطائرة، قلت لأصحابي الذين رافقوني إلى المطار: هل يعقل أني سأركب في طائرة لمدة تسع ساعات بجانب امرأة؟ فكيف لو نمت وسقطت عليها بجانبي، أو هي نامت وسقطت علي، لا والله! لا يعقل، فتكلمنا مع أحد مسئولي المطار الذين يتعاملون مع الركاب، فقال: هات التذكرة، ثم أعطاني المكان الذي أريد، فلماذا لم تقدم لي تلك المرأة هذه الخدمة؟ أصبح الإسلام متهماً في كل مكان، والمصيبة ليس منهم وإنما هي من أبناء جلدتنا، والمصيبة ليست خارجية بل المصيبة في فهم أبنائنا وبناتنا لهذا الدين.
فتجاوزنا هذه المرحلة ثم ركبت الطائرة فإذا بثلاثة من الشباب العرب في حالة سكر، جلسوا بجانبي، أنا على النافذة وهم في الثلاثة الكراسي الوسطى في الطائرة، ثم انتظرنا قبل الإقلاع نحو نصف ساعة، فبدءوا يطلقون السب والشتم واللعان، وبدءوا يستهزءون بالعرب والمسلمين، فسكت ثم تمادوا يسبون الإسلام، لقد بدأ أبناء الإسلام يتطاولون على الإسلام، ويقول أحد هؤلاء السكارى: يظنون أن الدين صلاة، ليس هذا هو الدين، -فيتناقش مع صاحبه وكأنه ينزل عليه الوحي في الطائرة، قالوا: يظنون أن الدين صلاة وإطلاق لحى، إن الدين طهارة القلب ليس صلاة ولا كثرة عبادة، وهنا لم أستطع السكوت أكثر مما سكت، فلقد تجاوزوا الحد، فقلت لهم: اسمعوا يا سكارى؟! أمركم على أنفسكم لكن لا تتجاوزوا في الكلام، فلقد ضايقتم ركاب الطائرة، فقال لي: يا أفغاني! يا كلب!!! اذهب وقاتل من أجل فلسطين يا جبان! قلت في نفسي والله! الأفغاني أفضل من وجهك ولكنهم سكارى، فعقولهم في وادٍ وهم في وادٍ آخر، وقد قال الله عن عباد الرحمن: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63]، فهذا إن كان في كامل عقله وقواه فكيف بسكران مثل هذا؟ فقلت: لقد ضايقتم ركاب الطائرة، قال: ما أحد اشتكى إلا أنت، وهنا ثارت الطائرة كلها عليهم، وقامت لهم امرأة محجبة -لله درها- وأسمعتهم من غليظ الكلام، قالت: ألا تخشون الله في الأرض، أما تخافون من العقوبة بين السماء والأرض؟ أما تخشون وأنتم تسمعون عن العقوبات الإلهية في كل مكان، كيف تأتون الآن وتعصون الله؟ والله! لا أجالسكم في مكان واحد ثم انطلقت إلى الأمام، لقد تقاعس الرجال عن إنكار المنكر، فقامت المرأة وأنكرت عليهم، فتوعدوني وقالوا لي: الموعد في مطار أبو ظبي! وهنا تذكرت أحد أصحابي أحتاجه في مثل هذا الموقف، وأعرفه تمام المعرفة، وباستطاعته أن يمسك اثنين بقبضته، فتمنيته معي في ذلك الموقف لكن أراد الله أمراً آخر.
فلما وصلنا إلى مطار أبو ظبي بحثت عنهم فلم أجدهم، وفترة الانتظار في أبو ظبي تمتد إلى ثلاث ساعات، وما أدراك ما مطار أبو ظبي؟! فالمنكرات في كل مكان، فأين الفرار؟ فما وجدت مهرباً إلا إلى الله، فرأيت مصلى صغيراً فأويت إليه، فمكثت فيه لمدة ثلاث ساعات أقرأ القرآن، كما فر كثير من الصالحين إلى ذلك المكان، فلا مفر من الفتن إلا إلى الله تبارك وتعالى.(67/6)
أخبار الرحلة على الطائرة إلى إندونيسيا
عندما حانت ساعة الرحيل انطلقت إلى البوابة التي ينادى عليها ففوجئت أن السكارى معي على نفس الطائرة، فقلت: لم أتخلص منكم هناك وستظلون معي تسع ساعات الآن؟! فركبوا معي وكانوا في الكراسي التي أمامي تماماً لكنهم لم يتكلموا بكلمة طوال الرحلة، ماذا كانوا يصنعون؟ إنهم كانوا يتبادلون كئوس الخمر لتسع ساعات حتى أهلكهم الخمر، فناموا باقي الرحلة، فأقلعنا في الساعة الثانية ليلاً، أي: أنه بعد ساعتين أو ثلاث سيكون وقت صلاة الفجر، وعلى متن الطائرة أكثر من ثلاثمائة راكب ما بين رجل وامرأة وأكثرهم نساء، فنظرت في واقع هؤلاء النساء: ما الذي دفعهن للسفر آلاف الأميال؟ لقد تركن بيوتهن وتركن أهليهن وتركن كل شيء بحثاً عن لقمة العيش، مع العلم أن اندونيسيا ليست بالبلد الفقير، فهي أكبر دولة مسلمة من حيث تعداد السكان، وتعدادها أكثر من مائتين وعشرين إلى مائتين وثلاثين مليوناً، وهي رابع أكبر دولة في العالم، فجزرها وأراضيها تمتد ما بين المحيط الأطلسي والمحيط الهندي، وحتى تقطع اندونيسيا من أولها إلى آخرها تحتاج أن تركب الطائرة لمدة خمس ساعات، إنها جزر مترامية الأطراف، غنية بالنفط والمعادن والمياه والزراعة والقوة البشرية وبكل شيء، والعجيب أن شعبها من أفقر شعوب العالم! سأذكر لك السبب حين نصل إلى تلك الديار.
فوفقني الله إلى رجل اندونيسي فيه من الخير الشيء الكثير، فبدأنا نتكلم أنا وإياه على مدى الرحلة عن أحوال المسلمين هنا وهناك، وأعجبني -رغم أنه لا يتكلم العربية بطلاقة- استشهاده بآيات القرآن، فقد كان يستشهد بآيات القرآن ويضعها في مكانها الصحيح، فحانت صلاة الفجر، فقلت له: نصلي ثم لابد -إبراءً للذمة- أن نخبر أهل الطائرة أنه قد حان وقت صلاة الفجر، فبدأ هو يطوف على من أمامنا وأنا أطوف على من خلفنا: أنه قد حانت صلاة الفجر، وركاب الطائرة تجاوزوا الثلاثمائة، فوالله! ما صلى إلا خمسة، سبحان الله! نحن بين السماء والأرض، وأنت بحاجة إلى أن تستشعر أنك في حاجة إلى الله في مثل هذا الظرف، وأسألكم بالله لو حدث خلل فني بسيط في الطائرة من الذي سيجيرنا من عذاب الله؟ ومن الذي سيدفع عنا عذابه؟ ومن الذي سندعوه في تلك اللحظات؟ ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا لما وصلنا إلى الشاطئ عصيناه ونركب الجو في أمن وفي دعةٍ وما سقطنا لأن الحافظ الله(67/7)
الوصول إلى إندونيسيا
بعد تسع ساعات متواصلة من الطيران بين السماء والأرض وصلنا يوم الجمعة في وقت صلاة العصر، واستقبلني أحد الإخوان الأفاضل هناك مع ابن له في العشرين سنة، فأعجبني منظره ومنظر ذلك الابن الذي يجيد اللغة العربية على أحسن ما يكون، فانطلقت معهم وفي الطريق قلت لهم: نريد مسجداً لكي نصلي فيه فقد حان وقت صلاة العصر، وأريد أن أجمع الظهر والعصر، فقال لي: لا أدري أين سنجد مسجداً قريباً، فقلت: أليست هذه بلدة مسلمة؟ قال: بلى، ولكن ليس من السهل أن تجد مسجداً قريباً، فقلت: الحمد لله! في بلادنا أينما تلتفت تجد المآذن ولا تبعد المساجد عن بعضها بعض، ففي كل مائة متر أو أكثر هناك مسجد، وأما هناك ففي كل خمسة أو عشرة كيلو مترات تجد مسجداً، فبحثنا عن مسجد فما وجدنا، فقالوا: لن يكون هناك وقت للصلاة إلا في الفندق الذي سنسكن فيه، فاتجهنا إلى مصلى الفندق أول ما وصلنا، فصليت الظهر وصليت معهم العصر، ثم خرجت معهم للغداء، فكلما ألتفت يمنة ويسرة لا أرى إلا كاشفات عاريات، والله! لا أرى إلا مصائب في كل مكان.
إندونيسيا المسلمة لا تعرف من الإسلام إلا اسمه، إندونيسيا المسلمة لا تعرف من مظاهر الإسلام إلا الاسم فقط، والأعجب أن عطلتهم يوم السبت والأحد! قلت: ماذا تصنعون يوم الجمعة؟ قال: الناس في أعمالهم، قلت: وكيف يصلون الجمعة؟ قال: يصلي من يصلي ويبقى من يبقى، فقلت: ويوم السبت والأحد هل تذهبون إلى الكنائس؟ قال: لا، لكن هذه هي عطلة البلد الرسمية.
الله أكبر! بلد مسلم لكن الصليب فرض عليهم أن تكون عطلتهم مع أحفاد القردة وأبناء الصليب، ثم قلت: فوّت هذا الأمر، لكن نساؤكم في كل مكان محجبات بأضيق الثياب، فما رأيت محجبة تلبس وسيعاً إلا النساء الكبيرات، وأما فتياتهم فلا يعرفن إلا البنطال، والله! ما رأيت امرأة تغطي وجهها إلا امرأة واحدة من أهل هذه البلاد مع زوجها في زيارة إلى هناك، وأما بناتهم ونسائهم فما رأيت من تغطي وجهها أبداً، والغالب عليهن حجاب على الرأس، وبنطال ضيق يفصِّل الجسد أشد التفصيل.
وفي مطار من المطارات رأيت كاشفات عاريات، والتفت أهل المطار إلى امرأة محجبة حجبت رأسها ولكنها ضيقت ثيابها تضييقاً حتى جعلت كل من في المطار يلتف حولها، والله! لو كشفت شعرها ولبست ثوبها كان أحسن من أن تفعل ما فعلت، أما قال الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب:59].
فتغدينا ثم رجعت إلى فندقي وبت تلك الليلة وأنا في أهبة الاستعداد وعلى أحر من الجمر إلى أن أذهب إلى الأماكن المنكوبة، فأنا ما جئت للمكوث في جاكرتا لرؤية المنكرات، ولقد رأيت في ليل جاكرتا عجباً! فقد أخذوني ليلاً نمشي من مكان إلى مكان فما رأيت إلا نساء على جوانب الطريق، قلت: ما هذا؟ قالوا: هذا ليل جاكرتا، نوادي ليلية وملاه ومراقص ودعارة في الشوارع وفي كل مكان، قلت: أليس هذا بلداً مسلماً؟! فنحن نستنكر رؤية من تكشف وجهها فكيف وأنت ترى نساء يعرضن أنفسهن على جوانب الطريق؟! قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، متى سأسافر إلى هناك؟ فأنا أريد أن أفر من هذه المنطقة، قال لي: ليس هناك مجال إلا يوم الإثنين أو الثلاثاء، فعطلتنا يوم السبت والأحد، ويوم السبت والأحد ليس هناك مكاتب ولا مؤسسات طيران تعمل فلا بد من الانتظار حتى يوم الإثنين صباحاً لكي نرتب أمور السفر إلى إقليم آخر، ونحن الآن في جاكرتا، ونحتاج للوصول إلى جزيرة سومطرة التي فيها الإقليم المنكوب أكثر من ساعتين ونصف بالطائرة، ولأن الفترة فترة إغاثة وفترة نكبة فقد كانت الوفود تأتي من كل مكان من العالم، فالحجوزات ملأت الفنادق والمطارات والشقق، والحجوزات صعبة جداً قلنا: سننتظر، وسنرى ماذا نستطيع أن نفعل في يوم الإثنين.
واستغلالاً ليوم السبت جاءني في الساعة الواحدة صاحبي وقال: سآخذك إلى معهد أيتام فيه مدرسة لكفالة الأيتام وتربيتهم، وهي ابتدائية ومتوسطة وثانوية، ثم بعد أن يتخرجوا من الثانوية يدخلون في معهد لكفالة الدعاة لمدة سنتين ثم يتخرجون دعاة، يتقنون اللغة العربية ويتقنون بعض العلوم الشرعية ثم ينشرونهم في قراهم التي أخذوهم منها، وهناك في المعهد ارتاح قلبي، فعلى مدى ساعتين ونصف ونحن في طريقنا إلى هناك، وبسبب الزحام الشديد امتدت الرحلة إلى أربع ساعات، فطرقهم ضيقة، وزحامهم شديد، وفي طول الطريق لا ترى إلا معاقل للمنكرات، ماذا يحدث بك وأنت قد تعودت على عدم رؤية مثل هذه المناظر؟ إنه يضيق صدرك شيئاً فشيئاً.
ثم وصلت إلى ذلك المعهد فانشرح صدري وأنا أرى الصغار في حلقات القرآن، وأرى الكبار في المسجد يتعلمون ويعلمون، فاطمأن قلبي نوعاً ما، وعلمت أنه لازال هناك خير، صحيح أن الغالب شر لكن هناك خير وأهل الخير يعملون على قدر استطاعتهم وعلى قدر إمكاناتهم، وكل الجهود التي رأيناها هناك هي مقدمة لهم من خارج إندونيسيا، إما من هذه البلاد، أو من إحدى دول الخليج التي تساعدهم وتعاونهم على نشر الدعوة الصحيحة، والغالب على إندونيسيا التصوف إلا ما رحم الله، فهم لا يعرفون من الدين إلا التصوف، ويظنون أن هذا هو الدين، فوقفت حائراً متسائلاً أقول: يا ألله! كيف استطاع أهل المنهج الخاطئ أن ينتشروا في إندونيسيا كلها؟ وأين أهل المنهج الصحيح؟ وكيف استطاع أهل التصوف أن ينتشروا في هذه الجزر كلها ولم يستطع أهل المنهج الحق أن ينتشروا في كل مكان، ويصححوا المنهج؟ أما كان المنهج صحيحاً؟ بلى، كان المنهج صحيحاً ثم اجتهد هؤلاء حتى غيروا منهج أهل البلد وقلبوه رأساً على عقب! فلما دخلت المعهد اطمأن قلبي، ثم رجعنا من المعهد في الثامنة ليلاً بعد أن سمعنا من قراءات الصغار وكلام الكبار، وشهدنا مواقف جميلة معهم، ووصلنا في العاشرة تقريباً فالطريق أيضاً مزدحم، وفي يوم الأحد لم يكن هناك إلا الانتظار حتى يأتي يوم الإثنين، فكنا نرتب فيه أمور السفر، قلت له: لا أريد أن أذهب إلى أي مكان سأخلو بنفسي في هذا اليوم استعدادً للسفر، وبعد صلاة الظهر من يوم الأحد خرجت أنا بنفسي أمشي على قدمي وأترقب، والجميع ينظر إلي وكأني شيء غريب عندهم: رجل صاحب لحية وثوب يمشي في تلك الطرقات، فالجميع ينظر إلي باستغراب، وبعضهم يشير إلى لحيتي، وبعضهم يأتيني ويقول لي: أنا مسلم، قلت: سأسأل المارة أين أقرب مسجد؟ لكنهم يظلون يفكرون: هاه هنا لا لا هناك، إلى أن وصلت إلى أقرب مسجد لكي أصلي فيه صلاة الظهر، فدخلت المسجد وقد أذن لصلاة الظهر، فوالله الذي لا إله إلا هو! مئات من البشر خارج المسجد، وما صلى معنا إلا صف واحد، فتعجبت كيف يسمعون النداء ولا يجيب منهم أحد، فعلمت أن المأساة أعظم مما تتصور، يسمعون المنادي ينادي: حي على الصلاة، حي على الفلاح، والله! ما يجيب منهم أحد، إنهم يصلون لكنهم لا يعترفون بصلاة الجماعة، حتى أني حين ناقشت أحدهم في وجوب صلاة الجماعة قال لي: أنت حنبلي؟ أنتم تجبرون الناس على الصلاة في المساجد، قلت: ما أقيمت المساجد إلا لصلاة الجماعة، ولا يتخلف عن صلاة الجماعة إلا ضعاف الإيمان.
وتجاوزت أحزاني في المسجد وخرجت أبحث عن مطعم قريب، ويوجد هناك مطاعم عربية كثيرة، فالسواح العرب كثير من كل مكان، لما منعنا من السفر إلى شرق آسيا حول شباب الضياع وجهتهم إلى إندونيسيا، فأصبحت إندونيسيا هي محطة الضياع للشباب العربي، وأصبحت هي مكان اللهو والخمر والزنا بالنسبة للسواح العرب والشباب المسلمين، فدخلت المطعم وهم يتكلمون العربية؛ لكثرة السواح الذين يأتونهم، ثم أكلت، ثم فوجئت بدخول خمسة من الشباب، والله! لولا أنهم يتكلمون العربية ما ظننت أنهم من أبناء المسلمين، إن أشكالهم ورءوسهم لا تدل على ذلك، لقد صبغوا رءوسهم هذا شعره أخضر، وهذا شعره أصفر، وهذا شعره أحمر، فقلت: يا ألله هكذا يصنعون إذا أتوا وابتعدوا عن أهليهم، فأردت أن أكلمهم، لكن بعد أن انتهيت بحثت عنهم فإذا هم دخلوا من الباب الأول وخرجوا من الباب الآخر، فتحملت أحزاني ورجعت إلى فندقي، وبت تلك الليلة على أحوال لا يعلمها إلا الله، فهذه مشاهد تجعل الإنسان يتفكر ويقول: هل حقيقة أني في أكبر بلد مسلم؟ وهل حقيقة أني بين شعب يؤمن أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ إندونيسيا بلد رضخ تحت الاستعمار الهولندي عشرات السنين فغير فيه المستعمر كل شيء، حتى أيام العيد غيروها، وأنا أعرف أننا قد نختلف في عيد الفطر لاختلاف المطلع واختلاف الرؤيا، لكن لا نختلف في عيد الأضحى، والغريب أن العيد هنا كان يوم الخميس وكان العيد هناك يوم الجمعة! قلت: كيف هذا؟! قال: عيدنا مع الحكومة، وليس مع المسلمين، قلت: بالأمس الأربعاء وقف المسلمون في عرفة فاليوم هو يوم النحر وكان يوم الخميس، فإذا كان عيدكم يوم الجمعة فماذا نسمي يوم الخميس؟! يوم الأربعاء يوم عرفة ويوم الخميس يوم النحر، ويوم الجمعة يوم القر بمنى، فماذا تسمون هذه الأيام؟ هذه أيام لها مسميات، قال: عيدنا مع الحكومة، والله! ما خرجوا في الشوارع بالاحتفالات إلا يوم الجمعة، وباقي العالم الإسلامي في عالم آخر.
وجاء يوم الإثنين، فذهبت أنا ومن استقبلني إلى مكتب جمعية إحياء التراث، وبدأنا بترتيبات السفر، وكان معي مبلغ من المال جمعته من بعض الإخوة الأفاضل من هنا وهناك؛ لعلّي أقدم به بعض العون للمنكوبين وللمصابين، وأجبر بعض الخواطر، وإلا فالخواطر تحتاج إلى ملايين حتى تجبر، فقد خسروا بيوتهم وممتلكاتهم وكل شيء، وما خرجوا من الدمار إلا بثيابهم التي يلبسونها، فخسروا كل شيء ولم يبق لهم أمل إلا بالله ثم بإخوانهم المسلمين، فمعي مبلغ من المال صغير، ولما صرفناه أصبح كبيراً، فقلت: يا إخوان! كيف أحمل هذه المبالغ وفيها أصفار كثيرة لا تستطيع أن تعدها، لكثرة أصفارها، فالعملة الإندونيسية ما فيها خير، فأين ذهبت البركة في الأموال، والبركة في الأعمار، والبركة في الثروات؟! كلها ذهبت وانطمست بسبب الذنوب والمعاصي، ووالله الذي لا إله إلا هو! إندونيسيا ليست بالبلد الفقيرة، وقد أخبرني أهلها عن كثي(67/8)
السفر إلى الإقليم المنكوب
وصلنا إلى المطار، ولشدة الزحام ولكثرة الرحلات تأخرت رحلتنا، وبدلاً من أن تقلع الطائرة في الخامسة والنصف أقلعت في الثامنة والنصف، وصلنا إلى هناك بعد ساعتين ونصف إلى بلد يبعد عن البلد المنكوب بالسيارة ثنتي عشرة ساعة، وهذا ليس لأجل أن المسافة طويلة، لكن لأن الطرق ضيقة، وإلا فالمسافة ستمائة كيلو، لكن لضيق الطريق ولازدحامه الشديد تقطع المسافات في ساعات طوال، فلما وصلنا استقبلنا أحد الإخوان هناك، وبدأنا نبحث عن مكان نبيت فيه في تلك الديار، فالفنادق كلها مليئة ولا تجد فيها أي مكان، فتجولنا بين فندق وثان وثالث ورابع وخامس ثم وصلنا إلى مكان كان في الأصل مستشفى لكن لشدة الزحام حوّلوا غرف المستشفى إلى فندق حتى يستقبل هيئات الإغاثة وهيئات الإنقاذ، فبتنا عندهم تلك الليلة، ففوجئت أن الباب يطرق علينا طول الليل، فإذا بالداعرات والمومسات ينتشرن بين الفنادق كلها ويطرقن الأبواب على السواح، آذونا في ليلنا كله نسأل الله العفو والعافية، وأنا أردد في نفسي وأقول: هل أنا في بلد مسلم أم ماذا؟! أحقيقة أنا في بلد مسلم أم أين أنا؟ وفي الصباح الباكر صلينا الفجر ثم انطلقنا إلى المطار بعد أن بتنا في خطر عظيم لا يعلمه إلا الله، فوصلنا إلى تلك الديار في الثامنة صباحاً، فلما نزلنا استغربت من وجود صور بالآلاف على مقدمة المطار وعلى جدرانه وفي كل مكان، وهي صور لأطفال ولرجال ولنساء، قلت: ما هذا؟ قال: هؤلاء الذين فقدوا في هذا الدمار، فصورهم معلقة في كل مكان، فآباء يبحثون عن أبنائهم، وأبناء يبحثون عن أمهاتهم، فقد ضلوا فلا يعرف أين هذا وأين ذاك، فهناك إحصائية تذكر في جريدة في اليوم الذي وصلت فيه أن عدد الذين ماتوا أكثر من مائة وستين ألفاً على مدى ثمانية عشر يوماً، وأنا وصلت إلى تلك الديار بعد مرور ثمانية عشر يوماً من حدوث تلك الحادثة، فمات أكثر من مائة وستين ألفاً، وهناك أكثر من مليون مشرد لا ملجأ لهم ولا مأوى، وأكثر من خمسة عشر ألفاً مفقودون، لا يعرف هل هم تحت الركام أم في الملاجئ أم في المستشفيات؟(67/9)
كوارث ومصائب لا يتصورها العقل
فانطلقنا فاستقبلني أفراد مكتب هيئة إحياء التراث الذين بعد أن حدث ما حدث هناك استأجروا لهم مكتباً هناك، وبدءوا بالعمل على إغاثة المنكوبين والمحتاجين، قال صاحبي: لا مجال للذهاب إلى المقر سنبدأ الجولة من الآن، والمطار يبعد عن عاصمتهم المنكوبة خمسة وعشرين كيلو، وبعد أن تجاوزنا المطار بخمسة كيلو مترات بدأت أرى آثار الدمار، وعلى بعد عشرين كيلو عن أمواج البحر ليس الدمار كبيراً، لكن كلما اقتربنا نرى العجب العجاب، وأنا أتلفت يمنة ويسرة والله ما أرى إلا دماراً فأقول: أمن المعقول أن الدمار بلغ إلى هنا؟! قال: سترى العجب العجاب، اصبر فقط.
وقد قمت بتصوير المشاهد التي رأيت حتى لا يقال: إن الكلام الذي تقوله ليس حقيقة، فقد سجلت وصورت كل ما رأيته، وكتبت الرحلة من أولها إلى آخرها بكل أحزانها وبكل آلامها، وقد تخللتها ابتسامات لكن الأحزان والدموع أكبر مما تتصور، فسجلت هذا وسجلت ذاك، ثم صورت الأحداث كما رأيتها وسأحرص إن شاء الله على أن أخرج ما كتبت في كتيب صغير، وأخرج ما صورت في شريط فيديو؛ حتى يرى الناس حقيقة ما حدث هناك.
فاقتربنا من قرية تبعد عن شاطئ البحر ثمانية كيلو مترات قلت: سبحان الله! ما هذا؟! قال لي: سترى أعظم، قلت: أعظم من هذا؟ قال: والله! ما رأيت شيئاً إلى الآن لقد رأيت يا إخوان بيوتاً مدمرة، وأشجاراً تراكمت وتقطعت من أصولها، وسيارات تراكمت بعضها على بعض، وقد اختلط الحابل بالنابل، ورأيت سيارات مع الأشجار ومع أثاث البيوت ومع كل شيء، وتحتها جثث من البشر لا يعلم عددهم، إن التفت يمنة أرى عشرات الجثث قد مددت، وإن التفت يسرة أرى مثلها، حيثما التفت أرى آثار الموت، والروائح الكريهة تشم من كل مكان، قلت: يا ألله! ما الذي حدث؟ قالوا لي: الأمر أعظم، إلى الآن لم ترَ شيئاً، أنت الآن في منطقة تبعد عن شاطئ البحر بثمانية كيلو مترات، لقد حدث في هذه المنطقة أن المياه تدفقت الساعة السابعة والنصف أو الثامنة صباحاً والناس نيام {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ} [الأعراف:97]، فاقتحمت عليهم المياه بيوتهم في الثامنة صباحاً وهم نيام، فلم يستطع أحد أن يخرج من مكانه، لقد كسرت المياه الأبواب، واقتحمت النوافذ، وبلغت المياه داخل البيوت إلى مترين وثلاثة أمتار، فغرق من غرق، ومن سلم من الغرق فقد كسرته تلك الأشجار، وتلك السيارات، وذلك الأثاث المدمر، لقد كسرت عظامهم، وكسرت جماجمهم، ثم تراكمت عليهم تلك الأشجار والسيارات والبيوت التي تهدمت، من أين أتت تلك السيارات؟ لقد أتت من شاطئ البحر! قذف البحر بكل ما كان على شاطئ البحر على بعد ثمانية أو عشرة كيلو مترات، قذفت تلك الأمواج مع قوتها وشدتها كل ما كان على شاطئ البحر على بعد ثمانية أو عشرة كيلو مترات.
ثم وقفت حائراً وأنا أرى منظراً عجيباً، قلت: ما هذا؟! قال: هذه سفينة! أنا لا أتكلم عن سفينة خشبية أو مركب صيد، أنا أتكلم عن ناقلة كبيرة طولها ستون متراً ووزنها خمسمائة وستون طناً، قلت: ما الذي أتى بها إلى هنا؟ قال: قذفتها الأمواج حتى أوصلتها إلى هنا! السفينة تحمل مولدات من الكهرباء كانت على شواطئ البحر فقذفتها الأمواج كالريشة، قلت: هل هذا معقول؟! قال: معقول والأمر أدهى وأعظم! وقد قال لي من عرف أني سأذهب إلى هناك وقد ذهب قبلي: قال: سترى قيامة مصغرة، أليس يوم القيامة تبدل الأرض غير الأرض؟ لقد انقلبت الأرض رأساً على عقب، فلاهي بالبيوت التي يعرفونها، ولا بالأشجار التي كانوا يرونها، ولا بالبحار التي كانت هادئة، لقد تغير كل شيء! ووجدت أناساً عند بيوت محطمة فقلت لهم: ماذا تفعلون؟ قالوا: أهلنا في الداخل نريد إخراجهم، وقد مضى على موتهم أكثر من ثمانية عشر يوماً، إنهم يجتهدون ويأتون من أماكن بعيدة لاستخراج أقاربهم من بيوتهم المدمرة، فوقفت مع أناس، قال أحدهم: هنا أخي وزوجته وأطفاله الأربعة، وكثير منهم يجتهدون في إخراج أهلهم حتى يدفنونهم فرادى، لكن حين يخرجونهم ويرون مقدار التشوه ومقدار العفن الذي أصابهم يوافقون على دفنهم في المقابر الجماعية على أطراف القرى، فيحفرون لهم حفراً كبيرة، ومعدل من يدفن فيها كل يوم أكثر من سبعمائة، كيف يدفنونهم؟ إنهم يحملونهم ثم ترمي الدركترات بعضهم على بعض، فلا يستطيع أحد أن يتولى دفنهم؛ لشدة العفن والتلف الذي أصيبت به تلك الجثث.
ووقفت مع أحدهم فقال: أنا عمدة هذه البلدة، كنت مستيقظاً قبيل أن يحدث ما حدث، يقول: فشعرت بهزات أرضية، وكان أجدادنا يقولون: إذا شعرتم بالزلزال وأنتم قريبون من البحر ففروا إلى الجبال، يقول: فخرجت أصيح في الشوارع وفي طرقات القرية: الهرب الهرب الهرب الهرب، ففر معي أكثر من ألفين، وآلاف قضوا نحبهم تحت الأمواج، وتحت الركام، فأنقذت أهلي وفررت ومعي ألفان ممن فروا معي.
فصعدنا على ظهر السفينة والتفت يمنة ويسرة فقلت: أحقيقة ما أشاهد؟ هل معقول أن هذا كله حدث؟ قال لي: أنت لا زلت إلى الآن بعيد عن مركز الحدث، إنك إلى الآن لم تر شيئاً! قلت: لا إله إلا الله! لم أر شيئاً؟! كل هذا الدمار وتقول لي: لم تر شيئاً؟! قال: إي نعم، إلى الآن لم ترَ شيئاً، فالأمر أعظم مما تتصور! فانتهينا من جولتنا في هذه القرية بعد أن رأينا عشرات الجثث تنقل من هنا ومن هناك، ثم انطلقنا إلى مكان أقرب يقع على شاطئ البحر، ووقفت على شاطئ البحر فلم أرَ شيئاً يا إخوان! أرض استوت تماماً لا ترى فيها شيئاً، {قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:106 - 107]، أين البيوت؟! لقد زالت عن بكرة أبيها، أين القرى؟! أين البشر؟! ذهبوا كلهم.
هل تظن أن بيوتهم خشبية؟ لا والله! بل هي عمارات ومبان شاهقة من الحديد والإسمنت، وقد زالت عن بكرة أبيها، والله! لا ترى إلا قواعد البيوت على مد البصر! قلت: لا إله إلا الله! أي قوة لهذه الأمواج حتى اقتلعت هذه البيوت من أصلها واقتلعتها من مكانها؟! سبحان الله! حجار وطين وحديد وكل ما تستطيع أن تتصوره زال عن بكرة أبيه، أين ذهب؟ لقد ساقته الأمواج إلى القرى التي تبعد عشرات الكيلو مترات عن تلك القرى، ففي جانب البحر لا ترى إلا أرضاً قد غسلتها الأمواج تماماً.
ترى القواعد الأرضية، وبلاط البيوت في كل مكان قد تساقط، أما أثاثهم وسيارتهم وممتلكاتهم فاقتلعتها الأمواج عن بكرة أبيها، ورمت بها على بعد عشرات الأمتار والكيلو مترات إلى القرى التي تليها.
وقفت أمام البحر وقد كان هادئاً أهدأ ما يكون فقلت: هل يعقل أن الأمواج خرجت من هنا؟! قال لي: الأمر أعظم، سأريك أعظم مما رأيت! فانطلقنا إلى مكان آخر على شاطئ البحر من جهة مقابلة، وحتى تدرك عظم الشواطئ التي أصيبت بالدمار فإن طولها أكثر من مائتين وخمسين كيلو، ودخلت المياه إلى اليابسة إلى بعد عشرة كيلو مترات، بطول الساحل مائتا وخمسون كيلو دخلت المياه إلى اليابسة إلى بعد عشرة كيلو مترات! فما هي القوة التي مع هذه الأمواج؟ إنك لا تستطيع أن تتصورها.
فذهبنا إلى قرية أخرى على شاطئ البحر فما رأيت إلا دماراً، وقفت في قرى تبعد عن شاطئ البحر بكيلو مترات فرأيت فيها من الدمار ما الله بها عليم، ثم أخذت أقترب شيئاً فشيئاً من شاطئ البحر، حتى وقفت على تلك الأمواج الزرقاء، فقلت والبحر في أهدأ حالاته: أيعقل أن تلك الأمواج خرجت من هنا؟ نعم لقد خرجت من هنا، لكن لماذا خرجت؟ وكيف خرجت؟ انتقلنا من ذلك الموقع إلى موقع آخر على شاطئ البحر، إن الشواطئ من أجمل ما ترى العين، وصاحب القلب الحي يقف هناك ويقول: ما أعظم الله! فإنه يرى جمال وبديع خلق الله تبارك وتعالى، وبدلاً من أن يذهب الناس إلى هناك للتفكر، ذهبوا لمحاربة الجبار بالمعاصي والمنكرات في أرضه وتحت سمائه.
فأخذوني إلى قرية أخرى، فوقفت على شاطئها فرأيت مثل الذي رأيت هناك، إلا أنه اختلف شيء واحد وهو أن الأرض قد استوت تماماً من أولها إلى آخرها، لقد زالت المباني التي من الحديد والإسمنت عن بكرة أبيها إلا بيتاً وجدته ملقاً على جانب القرية، قلت: هذا البيت قد نجا، قال: لا هذا ليس بالدور الأول هذا الدور الثاني للبيت الذي تدمر تماماً، هذا يبعد عن شاطئ البحر حوالي مائتين أو ثلاثمائة متر، سبحان الله! ومع قوة الأمواج وشدتها اقتلعت الدور الأول بكل ما فيه، ثم طفا الدور الثاني وقذفت به الأمواج بعيداً عن الدور الأول بحوالي ستين أو سبعين متراً! ما هي القوة التي مع هذه الأمواج حتى تحمل مثل هذا؟! حملت السفينة ووزنها خمسمائة وستون طناً وقذفت بها إلى مسافة ثمانية كيلو مترات، فكيف ستصنع بما كان على شاطئ البحر؟! التفت إلى جهة أخرى فإذا ببنيان فيه مآذن وقبة بيضاء فقلت: ما هذا؟ قال: هذا مسجد القرية نجا من الدمار! قلت: لا إله إلا الله! فانطلقت إلى هناك، واقتربت من المسجد وفي قلبي رهبة، التفت يمنة ويسرة فلم أر شيئاً قائماً أبداً، فالبيوت التي لها قواعد حديدية وإسمنتية قد تدمرت، وبعضهم ممن رأى المسجد ورأى ما حوله قال: كانت البيوت خشبية فما قاومت الأمواج والتيارات، لا والله! بنيان المنازل كان أقوى من بنيان المسجد، والمسجد عمره عشرات السنين، وبعض المباني كانت حديثة، فهذا البيت الذي ذكرت لكم انتهى من بنيانه منذ ثلاثة أشهر فقط، وهو لا يزال في أقوى قوته، وفي أقوى قواعده، ومع هذا فقد زال تماماً، دخلت المسجد، فإذا به لم يصب إلا بضرر قليل، ويحتاج إلى ترميمات قليلة ليعود كما كان، هل تظن أنه المسجد الوحيد الذي هو بهذه الحال؟ لقد رأيت عشرات المساجد مثله! ركبت سفينة في رحلة بحرية لمدة ست ساعات فرأينا قرى مدمرة عن بكرة أبيها لم ينجُ منها أحد، ورأيت المساجد في وسط تلك القرى، كل شيء تدمر إلا المساجد! سألت أكثر من نجا: كيف نجوتم؟ قالوا: لجأنا إلى المساجد، وهكذا فإن الناس في الشدة يلجئون إلى الله.(67/10)
سبب الكوارث والمصائب
ماذا كان يحدث على تلك الشواطئ حتى حل بها ما حل؟ وقفت حائراً أتفكر، يا ألله! ما الذي حدث هنا؟ قرى أُبيدت عن بكرة أبيها فما رأيت مثل هذا إلا في كلام الرحمن {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل:52] وقوله: {فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} [القصص:58]، فما الذي حدث حتى أغضبوا الجبار جل جلاله فغارت بحاره وأرضه وصنعت بالبشر ما صنعت؟! قلت لأحد الذين نجوا: ما الذي كان يحدث هناك؟ قال: كان يحدث على الشواطئ أمر يفوق الخيال، اختلط الحابل بالنابل، قلت: من السواح؟ قال: لا، بل من المسلمين أنفسهم، فقد أصبحوا يعاقرون الفاحشة على مرأىً ومسمع من كل منهم، فهذا يزني بتلك، وهذا يزني بتلك، والجميع ينظر بعضهم إلى بعض! ثم يأتي الكفار فيزنون ببنات المسلمين على الشواطئ والمسلمون يرون ذلك ولا يتحرك فيهم شيء! قلت لهذا: أين تسكن؟ قال: هذا بيتنا! فلم أر شيئاً، قلت له: من فقدت؟ قال: فقدت أمي وأبي، قلت: أين كنت في تلك الساعة؟ قال: كنت أتجول على المساجد أعلق فيها صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وصفة وضوئه في تلك الساعة التي حل فيها الدمار، سبحان الله! {وأنجينا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} [الأعراف:165]، قال: كنت أنكر عليهم ما كان يحدث هناك، وكنت أحذرهم أن العقوبة ستحل علينا، ولكن لقد أسمعت لو ناديت حياً.(67/11)
من أخبار الناجين من الكوارث
قال لي أحد الناجين: أنا أعمل في مصنع إسمنت مرتفع على جبل، فأحسست بزلزال في ساعة مبكرة من الصباح، فانطلقت إلى مكان عملي قبيل الساعة السابعة والنصف أو الثامنة، فشعرت بالأرض تتحرك، فخفت على أهلي ورجعت إلى البيت، فعندي زوجتان وعشرة أطفال، فدخلت الدار فإذا هم نيام، فاطمأننت عليهم ثم رجعت إلى مكان عملي، فما هي إلا لحظات حتى جاءت الأمواج وأخذت كل شيء، قال: كانت تلك النظرة الأخيرة لأهلي، فكأني ذهبت أودع أهلي وأطفالي العشرة والزوجتين، ففي لحظات ذهبوا مع من ذهب! قلت: فماذا رأيت؟ قال: رأيت عجباً! فما الذي حدث يا إخوان؟ إن إندونيسيا أكبر الدول المتضررة تبعد عن مركز الزلزال أربعين كيلو متراً، وفي المقابل آلاف الكيلو مترات في تايلند، والصومال أصابها الموج أقوى ما يكون! إن كان الموج قوياً على تلك الجهات على بعد مسافتها فأسألكم بالله ماذا تتوقع أن يحل بتلك الشواطئ؟ يقول لي: فلما ودعتهم واطمأننت عليهم رجعت إلى مصنع الإسمنت، وبعد لحظات رأيت أمواجاً سوداء تأتي من وسط البحر، فلما ضرب الزلزال في البحر انحسرت المياه داخل الأرض واختلطت بالحمم واللهب والنار التي توجد في قاع البحر، فاختلطت بها المياه وارتفعت درجات الحرارة، يقول: وعندما انحسر الماء داخل الأرض انحسرت المياه عن الشواطئ، وظهرت الأسماك، فالذين كانوا على شواطئ البحر دخلوا إلى البحر يجمعون الأسماك.
قال: وبعدها بلحظات رأيت أمواجاً سوداء ارتفاعها عشرون أو ثلاثون متراً تطوي الأرض طياً، سرعتها تجاوزت الستمائة أو السبعمائة كيلو متراً، وبدأ الصياح يأتي من كل مكان، ودرجات حرارة الأمواج مرتفعة جداً، وقد رأيت هذا في الجثث التي رأيناها، لقد احترقت تماماً، واحترقت الأشجار، والأراضي، والبيوت، واحترق كل شيء، فزيادة على الغرق يوجد حرق! يقول: رأيت أمواجاً سوداء تطوي الأرض طياً، ورأيت كل شيء يهلك أمامي ولا أستطيع أن أفعل شيئاً، فتذكرت أبنائي الذين تركتهم هناك، فذهبوا مع من ذهب.(67/12)
التخويف من غضب الله وبطشه
فماذا كان يصنع هؤلاء حتى يحل بهم ما حل؟ والله! إن القضية أعظم من الزنا، وأعظم من شرب الخمور، والله! ما أراهم إلا أنهم قد تحدوا الله، والله ما أراهم إلا أنهم قد بلغوا درجة عظيمة من الطغيان حتى حل عليهم مثل هذا العذاب المهين، فلا تسمع إلا أصوات الاستغاثات من كل مكان، فالأمهات يهرولن والصغار يولولون، والمياه تندفع من كل مكان، {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة:11 - 12]، ووالله! ما رأيت إلا قيامة قد قامت هناك، فأكثر من مائة وستين ألفاً ماتوا في لحظات! ومليون مشردون في كل مكان! فما دمر الله القرى إلا لظلمها، فحين سألت ذكروا لي كل أصناف الذنوب والمعاصي، وكل أنواع الظلم والطغيان، فسحر وشعوذة، وقتل للأبرياء، وزناً وانتهاك للمحارم، وكل أنواع المعاصي والمنكرات، والأدهى والأمر أنه لم يكن هناك من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، بل كانوا قد رضوا بما كان يحدث هناك، فوالله ما رأيت دماراً كما رأيت، وما رأيت سبباً لهلاكهم إلا أنهم رضوا بما يحدث هناك، فالزنا في كل مكان، وشرب الخمر في كل مكان، فلماذا يُصنع بهم ما صُنع؟ لا يعلم ماذا كان يصنع هناك إلا الله جل في علاه، والذي أعرفه وأنا متيقن به: أنهم أغضبوا الله فأحل بهم ذلك العذاب، {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف:55]، وقد تقول: إن بينهم من يصلي ويصوم، فأقول: نعم، لكن ما فائدة الصلاة والصيام ونحن نرى أوامر الله تنتهك؟ وما فائدة الصلاة والصيام ونحن نرى الله يعصى ولا يتحرك فينا متحرك؟ فلا ينجو المجتمع إلا إذا تعاون أهل السفينة على إنقاذها، أفنترك العصاة وأصحاب الشهوات وأصحاب المنكرات يفعلون ما يشاءون حتى يحل بنا ما حل بهم؟ وهل نسكت حتى يحل بنا العذاب إذا تعطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتَرك العصاة؟ قال الله: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء:27]، فمن يحفظنا من بأس الله إن جاءنا؟ أتظن أن الصلاة والصيام ستنجينا؟ (أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث).
ألسنا نرى الفساد اليوم انتشر في كل مكان؟ ألسنا نرى المعاصي والمنكرات في كل مكان؟ فماذا يمنع أن يحل بنا ما حل بهم؟ هل نحن أكرم على الله منهم؟ لا والله! قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم عذاباً فتدعونه فلا يستجيب لكم)، فإذا تركنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حل بنا أعظم مما حل بهم.
إنها قرىً مسلمة من أولها إلى آخرها وجاء النصارى يحتفلون على شواطئهم بالشرك وبأن الله له ولد، فلم ينكروا ذلك، وجاء أهل الصليب على شواطئهم يزنون ببنات المسلمين وما تكلم منهم أحد، {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} [النمل:52]، {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [الكهف:59]، لما دمر الله قرى قوم لوط وجعل عاليها سافلها قال {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83]، فهاهو الربا في كل مكان، وهاهي والمعاصي في كل مكان! ووالله مهما قلت فلن أستطيع أن أصف لكم ما حدث؛ فالأمر أعظم، ووالله! ما أرى القوم إلا أنهم قد أغضبوا الجبار جل جلاله، والجبار حليم، والجبار رحيم، لكنهم وصلوا إلى درجة عظيمة من الظلم والطغيان.
وفي يوم الجمعة صليت معهم، وبعد الصلاة أذنوا لي بكلمة بعد الصلاة، فذكرتهم بالذنوب والمعاصي والفواحش والمنكرات، ثم قام أحدهم وقال للذي ترجم الكلمة: قل للعرب والمسلمين: أين أنتم؟ الآن تأتوننا يوم أن حل بنا العذاب؟ أين أنتم من قبل عنا؟ لماذا تركتمونا للنصارى؟ لماذا تركتمونا للصليب؟ يقول: فعلى مدى أيام ما رأينا مسلماً واحد يواسينا في مصابنا: نعم والله! ما رأيت في الملاجئ إلا الصليب، يوزع النصارى الحلوى على الصغار، والله! ما رأيت إلا علامات الصليب تتجول في كل مكان، تقدم الإعانات للمسلمين، فأين نحن عنهم؟! أما قال الله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10].
قلنا: ذلك بسبب ذنوبهم ومعاصيهم، فأين ذنبونا ومعاصينا نحن؟ ومن الذي يمنع عنا مثل هذا العذاب؟ إن سكتنا -والله- ليحلن بنا أشد مما حل بهم.
فهل قرأتم الجرائد منذ أيام مضت؟ عندما منعت الاتصالات على برنامج (أكاديمي استار) للتصويت للعصاة والزناة يقول أحدهم في إحدى الجرائد: هذه حرية شخصية نصوت لمن نريد، ونفعل ما نريد، يعني اتركونا نعصي الله، فهل هذه حرية شخصية؟! وهل نترك أمثال هؤلاء؟! قال الله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ * قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:44 - 47].
وقال الله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة:71].
وقال الله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41].
فعندنا من المنكرات أكثر مما عندهم، لكن لازال عندنا أولئك الذين ينكرون وأولئك الذين يقولون الحق ولا يخافون في الله لومة لائم، وبمثل هؤلاء ننجو ونأمن من عذاب الله {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:116 - 117]، فتخيل لو أن صغاري وصغارك كانوا بينهم! وتخيل لو أن نساءنا وأطفالنا كانوا بينهم! {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9]، ذكر الله هذه الآيات بعد تدمير القرى الظالمة التي ظلمت وطغت وتجرأت على الله جل في علاه.
فالله الله! كن سبباً من أسباب النجاة، وأْمر بالمعروف، وانه عن المنكر، وقل الحق ولا تأخذك في الله لومة لائم، وإن تخلينا فلا نلومن إلا أنفسنا، فالأمر -والذي نفسي بيده- أعظم من أن أبينه لك في ساعة، والأمر أعظم من أن ينقل بالكلام، والله! إني لا أستطيع أن أصف لكم حقيقة ما رأيت، مررت على الملاجئ، ومررت على المستشفيات ورأيت المصائب والآلام، وهم ينتظرون من يخفف عنهم تلك المصائب والآلام.
في يوم السبت الذي وصلت فيه كتب في كل جرائدهم: إحباط محاولة اختطاف ثلاثمائة يتيم من الجمعيات النصرانية! فهم يخطفون الصغار والأيتام الذين فقدوا أمهاتهم وآباءهم، يأخذونهم إلى بلادهم فينصرونهم ويمسحون هويتهم المسلمة، وقد أخذوا من أخذوا وسرقوا من سرقوا من الأطفال، ولا أحد يعلم بهم، وقد جاءوا بطائراتهم يدعون أنهم يقدمون المساعدات، ووالله! ما أتوا حباً في المسلمين، فالله قد أخبرنا عنهم أنهم لن يرضوا عنا أبداً، والله أعلم بهم.
فالله الله! فالمسلمون هناك يحتاجون من يدعو لهم، ويحتاجون من يزورهم، ويحتاجون من يمد لهم يد العون، إن أعظم ما نقدم لهم أن نصنع ابتسامة، وأن نشعرهم أننا معهم قلباً وقالباً، يقول لي: أين أنتم؟! أين دعاتكم؟! أين أبناؤكم؟! سبحان الله! يقول: لا يأتي منكم إلا من يزنون بنسائنا وبناتنا!! فالله الله بالالتفاف حول المسلمين، فإن لم نلتف حولهم في مصابهم ونعينهم على آلامهم فمتى يكون ذلك؟! أسأل الله أن يخفف عنهم مصابهم، وأن يرحم موتاهم، وأن يجعل ذلك عبرة لنا وآية، وأن يحيي بها قلوبنا، وأن يغير بها حياتنا، وأن يجعلنا بها من المتعظين والمعتبرين.
اللهم ارحم موتاهم، واشف مرضاهم، وأعنهم على ما حل بهم، اللهم اجعلنا عوناً لهم على ذلك.
اللهم ارحم ضعفنا وضعفهم، وارحم تقصيرنا وتقصيرهم، وتجاوز عن سيئاتنا وسيئاتهم، واجعلنا ممن يقولون الحق ولا يخافون فيك لومة لائم.
اللهم طهر مجتمعاتنا وبلاد المسلمين من الشرك والبدع والخرافات والضلالات والمعاصي والمنكرات، اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً يا رب العالمين! اللهم لا تؤاخذنا بالتقصير، واعف عنا الكثير، وتقبل منا اليسير، إنك -يا مولانا! - نعم المولى ونعم النصير.(67/13)
وما قدروا الله حق قدره
إن حقيقة تقدير الله حق قدره وتعظيمه حق عظمته يتحقق بأمرين: الأمر الأول: أخذ العبر والدلائل على عظمة الله من آياته في هذا الكون الفسيح.
والأمر الآخر: الإيمان باليوم الآخر وما فيه من الأهوال العظام، فينبغي الحرص على هذين الأمرين حتى نقدر الله حق قدره، ونخشاه حق خشيته.(68/1)
حاجة القلوب إلى المواعظ القرآنية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر الأحبة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله وبياكم وسدد على طريق الحق خطاي وخطاكم، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني وإياكم في دار كرامته إخواناً على سرر متقابلين، وأسأله سبحانه أن يحفظني وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلنا هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين.
وأسأله سبحانه أن يجمع شمل أمة محمد، وأن يعلي شأنها، ويوحد صفها، ويصلح ولاة أمورها، وأن ينصرها على القوم الكافرين.
فأهلاً بكم أحبتي في ليلة قرآنية عنوانها: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67].
فمواعظ القرآن توقظ القلوب النائمة، وتذكر الأنفس اللاهية، وما أحوجنا في ظل انشغالاتنا في طلب دنيانا أن نقف مع أنفسنا، ونعرض أنفسنا على مواعظ القرآن التي لا تخلو منها صفحة من صفحات كتاب الله جل في علاه.
إن الأنفس في أمسّ الحاجة إلى قطر السماء القرآني كما أن الأرض في أمس الحاجة إلى قطر السماء المائي، فالأرض إذا انقطع عنها ماء السماء يبست وقحطت، ثم إذا تنزل عليها الماء تبدل حالها وانقلب رأساً على عقب، قال الله جل في علاه: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً) [الحج:5] يعني: ميتة، {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5]، وهذا دليل {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج:6]، وهذا دليل {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:7].
أرأيت كيف يتبدل حال الأرض عند نزول القطر؟ كذلك يتبدل حال القلوب إذا تنزلت عليها المواعظ القرآنية، فإن كانت الأرض في أمسّ الحاجة إلى قطر السماء فالقلوب في أمس الحاجة إلى تذكيرها بعلام الغيوب جل في علاه، فلا حياة للأرض إلا بالماء، ولا حياة للقلوب إلا بذكر الله جل في علاه.
فالقلب الذاكر قلب حي ينبض حياة في كل حين، والقلب اللاهي قلب قاس بعيد عن ذكر الله، وقد قست القلوب اليوم حين ابتعدت عن المواعظ القرآنية والمواعظ النبوية، والمطلوب عرض هذه القلوب على مواعظ القرآن وعلى المواعظ النبوية.(68/2)
بيان عظمة الله في سورة الزمر
هناك آية عظيمة ساقها الله في سورة الزمر، وما أدراك ما سورة الزمر؟! بدأها الله ببيان عزته وحكمته: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر:1]، فالله عزيز في ملكه، وعزيز في قهره، وعزيز في صفاته وأسمائه جل في علاه، وحكيم في أفعاله وفي تصرفاته، ومرد ذلك إلى علمه الذي وسع كل شيء، فهو عزيز جل في علاه، ومن عزته وحكمته أنه أنزل علينا هذا الكتاب، {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر:1 - 2].
فانطلقت هذه السورة بأول سطورها تبين عزة الله وحكمته، ثم بينت ما هو المطلوب من العباد وهو تحقيق العبودية لله، وعدم الإشراك بالله جل في علاه، فقال: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) [الزمر:2 - 3].(68/3)
عدم تعظيم الناس لربهم حق التعظيم
ما قدر العباد الله حق قدره يوم أن عبدوا سواه، وما قدروا الله حق قدره يوم أن أشركوا في عبادته، وما قدروا الله حق قدره يوم أن قالوا: اتخذ الله صاحبة وولداً، وما قدروا الله حق قدره يوم خالفوا أوامره وارتكبوا نواهيه، وما قدروا الله حق قدره يوم أن قالوا: إن قدرة الله ليست بمطلقة، والله قد بين لهم أنه على كل شيء قدير، ثم جاءت آية عظيمة بين الله فيها عظمته وقدرته، فقال عن الذين أشركوا وخالفوا أوامره: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67].
قوله: ((مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ)) أي: ما عظموا الله حق تعظيمه وفي الأرض آياته وبيناته التي تدل على وحدانيته وعلى قدرته، فهلا سرتَ في الأرض لترى الدلائل والعلامات على قدرة الله جل في علاه، فكل ما في الأرض يدل على أنه واحد، فكيف يعصيه العاصي أو يجحده الجاحد.
((مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ)) أي: ما عظموه حق تعظيمه، وقد جاءت الرسل لتبين لأقوامها هذه الحقيقة، حتى نبينا صلى الله عليه وسلم بيّن للناس هذه الحقيقة وهي: أن الله عظيم في قدرته، وعظيم في قوته، وعظيم في كل اسم من أسمائه وفي كل صفة من صفاته.
قال نوح عليه السلام لقومه: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13] أي: مالكم لا تعظمون الله حق تعظيمه فتخافون من عذابه وأليم نقمته؟! ثم بين لهم عظمة الله في أنفسهم، وفي آياته التي تحيط بهم يمنة ويسرة فقال: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح:14] يعني: أوجدكم من عدم {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1].
فمن أنت يا ابن آدم! حتى أوجدك الله وأخرجك إلى هذا الوجود؟! {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} يعني: طوراً بعد طور: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم أخرجكم طفلاً، ثم لتبلغوا أشدكم، وهكذا خلق الإنسان، فما عظَّم الله حق تعظيمه وما قدر الله حق قدره من لم يتأمل في هذه الآيات.
ثم أمرهم نبيهم صلوات ربي وسلامه عليه أن ينظروا في ملكوت السماوات والأرض، وأن ينظروا في آيات الله يمنة ويسرة حتى يروا عظمة الله جل في علاه: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا * وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} [نوح:15 - 20].
قال سبحانه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67].
ولدتك أمك يا ابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سروراً فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسروراً ولن يكون هذا إلا إذا قدرت الله حق قدره، فما قدروا الله حق قدره يوم تخلفوا عن أوامره وتساهلوا في نواهيه، وما قدروا الله حق قدره من ناموا عن الصلوات المكتوبة، وما قدروا الله حق قدره من تطاولوا على الربويات، وما قدروا الله حق قدره من ملئوا ليلهم ونهارهم بالعكوف أمام الشاشات والقنوات، وما قدروا الله حق قدره يوم لم يستشعروا عظمته وأنه في كل مكان يراهم ويعلم سرهم ونجواهم.
فما عصى عاصي وما خالف مخالف إلا لأنه لم يقدر الله حق قدره، وما تخلف متخلف عن أوامر الله إلا لأنه ما قدر الله حق قدره.(68/4)
قرب يوم القيامة
إن الله سبحانه يري العباد الآيات في أنفسهم، وسيريهم الآيات في السماوات وفي الأرض، وأي خطب أعظم وأجل من ذلك اليوم الذي تكون فيه الأرض في قبضة الجبار قال سبحانه: ((وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ))، وهنالك سيعرف أولئك الذين ما قدروا الله حق قدره أنهم كانوا خاطئين، فإن الله سيريهم في ذلك اليوم من الآيات العظام ما الله به عليم.
وكل خطب عظيم تسبقه أمور عظام، لذلك من حكمته جل في علاه ومن رحمته بنا أن جعل لذلك اليوم علامات تدل على وقوع ذلك اليوم العظيم، وهي أمارات صغار وأمارات عظام.
فأما العلامات الصغار فقد ظهرت إلا قليلاً منها، قال الله: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ * فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد:18 - 19].
والحقيقة التي يجب ألا تغفل عنها أننا في هذه الدنيا ضيوف وعما قليل سينادي المنادي بالرحيل، فأما الذين قدروا الله حق قدره فهم على أتم الاستعداد ليوم الرحيل، وأما المفرطون الذين لم يقدروا الله حق قدره فليلهم ونهارهم سواء، قال الله عنهم: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3].
يا عجباً للناس لو أبصروا حاسبوا أنفسهم إذا قصروا وعبروا الدنيا إلى غيرها فإنما الدنيا لهم معبرُ لا فخر إلا فخر أهل التقى غداً إذا ضمّهم المحشرُ ليعلمنّ الناس أن التقى والبر كانا خير ما يُذْخرُ فمن قدر الله حق قدره فليستعد لذلك اليوم.(68/5)
تفاوت الناس في الإيمان بيوم القيامة
يتفاوت الناس في الإيمان الذي وقر في قلوبهم ما بين مؤمن قوي وضعيف، ويختلف الناس لاختلاف ذلك الإيمان الذي وقر في قلوبهم، ويظهر ما وقر في القلب هذا في التصرف والسلوك والأخلاق والمعاملات.
وقد بين الله لنا في كتابه أنه سيجمع الأولين والآخرين في يوم لا يغادر الله فيه صغيرة ولا كبيرة.
والإيمان باليوم الآخر قدمه الله على كثير من أركان الإيمان، فقال الله جل في علاه: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:232]، فقدم الله الإيمان بالله وباليوم الآخر على سائر أركان الإيمان؛ والسبب: أن الإيمان بذلك اليوم هو الذي يحرك الإنسان في حياته، فمن علم أنه عبد لله، وعلم أنه سيقف بين يدي ربه جل في علاه، وعلم أنه سيسأل عن كل صغيرة وكبيرة فكيف يكون حاله في دنياه؟ وكيف يكون حال من قدر الله حق قدره، واستشعر عظمة الله، واعلم أن الله مطلع عليه ويعلم سره ونجواه؟! كيف يؤثر ذلك في سلوكه وفي تصرفاته؟ وانظر في واقع الناس اليوم فإنهم يدعون أنهم يؤمنون بالله وباليوم الآخر لكن لا ترى لإيمانهم أثراً واقعاً ملموساً في حياتهم، بل تراهم يتهاونون في الطاعات ويتساهلون في المحرمات! فلماذا هذا؟ لأنهم ما قدروا الله حق قدره.
وقبل هذا اليوم العظيم أمور عظام، فكيف أنت إذا أشرقت الشمس من مغربها؟ وكيف أنت إذا سار المسيح الدجال في الأرض؟ وكيف أنت إذا خرجت الدابة تكلم الناس وتقول لهم: إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون؟ وكيف أنت إذا فتحت يأجوج ومأجوج وظهرت هذه الآيات العظام؟! {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18].
فالمؤمن الذي قدر الله حق قدره إذا رأى هذه الآيات الصغار التي تدل على قرب الآيات العظام استعد أشد الاستعداد لملاقاة الله جل في علاه، فأنت قد تصبح ولا تدرك المساء، وأنت قد تمسي ولا تدرك الصباح، فلا بد من الاستعداد، ومن مات فقد قامت قيامته، واسمع إلى قول أولئك الذين ما قدروا الله حق قدره إذا رأوا آيات الله العظام يوم يقفون بين يدي الجبار جل في علاه: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27].
فقال الله راداً عليهم: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28].
فكيف كان حالهم في دنياهم؟ قالوا: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ * وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ * قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:29 - 33].(68/6)
أهوال يوم القيامة
يجمع الله الخلق أولهم وآخرهم في يوم لا يغادر الله فيه صغيرة ولا كبيرة، فكيف سيكون حالي وحالك في ذلك اليوم العظيم؟! سيبدأ ذلك اليوم بنفخة في الصور كما قال الله جل في علاه في سياق تلك الآيات: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:67 - 68].
وقال سبحانه: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:13 - 18].
فكيف سيكون حال أولئك الذين لم يقدروا الله حق قدره؟! إن الأهوال ستبدأ ببعث، ثم حشر، ثم شفاعة، ثم نزاع، ثم حساب، ثم تتطاير صحف.
فأسألك بالله العظيم: كم قرأت مثل هذه الأخبار في كتاب الله؟! أما يتكرر ذلك في كل صفحات القرآن؟! أما أعاد الله أمثال هذه الصور مرات ومرات في كتابه؟ إن المؤمن حقيقة يستعد لذلك اليوم، {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود:103 - 105].
وقد أنكر الكفار قضية البعث والحشر والحساب، {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7].
إن من حكمة الله البالغة أن يجمع الناس الأولين والآخرين، {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم:31]؛ حتى يثاب المحسن على إحسانه وحتى يعاقب المسيء على إساءته، فهذه من حكمة الله في جمع الناس في ذلك اليوم العظيم الذي لا يغادر الله فيه صغيرة ولا كبيرة، {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [المعارج:43 - 44].
أما تكرر هذا الحديث في القرآن وأن الله سيجمع الأولين والآخرين، فقال سبحانه: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} [الواقعة:41 - 43]، {لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ * قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة:41 - 50].
فكيف سيكون حال الناس في ذلك اليوم؟! وكيف سيكون حال أولئك الذين ما قدروا الله حق قدره في ذلك اليوم؟! {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12].
{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} [الأنعام:30].
إن أمنية كل واحد منهم: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27]، فيجمع الله الأولين والآخرين في مكان واحد تبدل فيه الأرض غير الأرض والسماوات، فلا هي بالأرض التي نعرفها، ولا هي بالسماء التي كنا نستظل بها، وحال الناس لا يعلم به إلا الله، {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج:43].
إنّ اليوم العظيم تسبقه أهوال عظام، وقد تكررت تلك المشاهد في القرآن مرات ومرات لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وقد سمى الله ذلك اليوم القارعة؛ لأنه يقرع الآذان ويقرع القلوب، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة:3 - 5].
فكيف سيكون حالي وحالك إذا صارت الجبال كالعهن المنفوش، وصار الناس كالفراش المبثوث؟! وكيف سيكون حالنا {إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:21 - 22]؟! فإذا نفخ في الصور خرج من في القبور يزيلون التراب من على رءوسهم ويقولون: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس:52 - 53].
وسمى الله ذلك اليوم يوم التلاق، فيلتقي فيه آدم مع ذريته، ويلتقي فيه أهل الأرض مع أهل السماء، ويلتقي فيه الظالم مع المظلوم.
وسماه الله يوم الجمع، حيث يجمع الله فيه الأولين والآخرين.
فلا تخلو صفحة من صفحات القرآن من صورة ومشهد من ذلك اليوم العظيم، وهي صور تحيي القلوب، لكن ما قدروا الله حق قدره، فغفلوا عن الاستعداد لذلك اليوم العظيم.
وإذا خرج الناس من قبورهم صاروا إلى محشرهم كما ولدتهم أمهاتهم حفاة عراة، {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94]، تقول عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم: (الرجال والنساء حفاة عراة ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: يا عائشة! الأمر أعظم من أن ينظر بعضهم إلى بعض).
إنه يوم الفرار، فيه {يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37].
فالقلوب واجفة، والأبصار خاشعة، ولا يدرون ماذا يفعل بهم، ولا يدرون إلى أين المصير، فيشتد الموقف على العباد في ذلك اليوم، وتدنو الشمس من رءوسهم، فأين الفرار في ذلك اليوم إذا أدنيت الشمس من رءوس العباد مقدار ميل؟! قال الراوي: والله ما أدري هل أراد ميل المسافة أم ميل المكحلة؟! فيغرق الناس في عرقهم كل على قدر أعماله، فمنهم من يأخذه العرق إلى كعبيه، ومنهم إلى ركبتيه، ومنهم إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً.(68/7)
فريق في الجنة وفريق في السعير
ينتهي ذلك اليوم وينقسم الناس إلى قسمين: فريق في الجنة وفريق في السعير، فمن الذي سيفوز؟ ومن الذي سيخسر؟ إنه فوز لا خسارة بعده، وإنها خسارة لا فوز بعدها.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أهل الجنة الجنة، ودخل أهل النار النار، جيء بالموت على صورة كبش أقرن أملح بين الجنة والنار، فينادى: يا أهل الجنة! أتعرفون هذا؟ فيشرئبون فينظرون فيقولون: نعم، هذا الموت، فينادى: يا أهل النار! أتعرفون هذا؟ فيشرئبون فينظرون فيقولون: نعم هذا الموت، فيأمر به فيذبح، ثم ينادى: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار! خلود فلا موت).
فتأمل مقدار السعادة، وتأمل مقدار الحسرة والندامة في قلوب الخاسرين، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:39 - 40].
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} [الزمر:67 - 70].
فينقسم الناس إلى قسمين: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:71 - 72].
والفريق الآخر: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر:73 - 74]، فكيف هو استعدادنا لذلك اليوم، يوم يجمع الله الأولين والآخرين؟ وكيف هو حال أولئك الذين قدروا الله حق قدره؟ وكيف هو حال أولئك الذين ما قدروا الله حق قدره؟ فاتقوا الله عباد الله! واستعدوا لذلك اليوم، قال الحسن البصري: إن أقواماً غرتهم الحياة الدنيا فخرجوا منها بلا حسنات، يقولون: إننا نحسن الظن بالله، وكذبوا، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل.
ولكنهم ما قدروا الله حق قدره، وسوف نعرف قيمة العمر وقيمة الحياة إذا فارقنا الأهل والأحباب، فنصيح بأعلى الصوت: رباه! ارجعون، فلا يستجاب لنا.
أما آن الأوان أن نقدر الله حق قدره، ونعلم أن الحياة مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي عند الله حقيرة، فاتقوا الله عباد الله! ومن تقوى الله الاستعداد لذلك اليوم العظيم، واقرءوا القرآن وتدبروا آياته، ففيه آيات لو تنزلت على الجبال لرأيتها خاشعة متصدعة من خشية الله.
والموفق من وفقه الله للاستعداد، ولو علم الله خيراً في الفريق الآخر لأسمعهم.
(حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين)، مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، اذكروا الله يذكركم، انصروا الله ينصركم، وأوفوا بعهد الله يوفي بعهدكم، وحافظوا على أوامر الله يحفظكم في دينكم ودنياكم.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا -يا ربنا- من الراشدين.
اللهم استر في ذلك اليوم عوراتنا، وأمن فيه روعاتنا، وثقل فيه موازيننا، وبيض فيه وجوهنا، وزحزحنا فيه عن النار، وأدخلنا الجنة يا عزيز يا غفار! اللهم اجمع شمل المسلمين، ووحد صفهم، وأعل شأنهم، وأصلح ولاة أمورهم، وانصرهم -يا قوي يا عزيز- على القوم الكافرين.
وأستغفر الله العظيم، وصلى الله على نبينا محمد.(68/8)
الميزان
بعد ذلك توضع الموازين وتوزن الأعمال، وهي دليل على عدل الله وحكمته، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالرجل السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة).
{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47].
فتوزن الأعمال حتى يعلم كل إنسان أن مكانته عند الله على قدر أعماله، والميزان عدل لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، (فيؤتى برجل سيئاته مثل الجبال، حتى إذا ظن العبد أنه قد هلك قال الله: لا ظلم اليوم، هل لعبدي من حسنة؟ فيؤتى ببطاقة مكتوب فيها: لا إله إلا الله، فيقول العبد الذي ظن أنه هلك: وما تصنع هذه البطاقة مع أعمالي التي كالجبال من الآثام؟! فتوضع البطاقة في كفة، والسيئات في كفة، فتطيح لا إله إلا الله بالسيئات! فترجح كفة الحسنات)، فاحفظوا هذه الكلمة: لا إله إلا الله، {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19]، فلن ينجو في ذلك اليوم إلا أهل لا إله إلا الله، ولا من تحقيق شروطها من علم وصدق ويقين وانقياد وقبول ومحبة للا إله إلا الله، فماذا حققنا من شروط هذه الكلمة؟!(68/9)
الصراط
لا يزال البشر ينتقلون من موقف إلى موقف، ومن شدة إلى شدة، ومن هول إلى أهوال، لا يدرون إلى الجنة أم إلى النار يكون المصير، فينصب الصراط وهو أدق من الشعر، وأحد من السيف، ويؤمر الناس بالمرور، ومن تجاوز فإلى دار النعيم، ومن سقط فإلى العذاب المهين، فيعطى الناس نوراً في ذلك اليوم حتى يتجاوزوا ذلك الصراط، فمنهم من نوره يسعى من بين يديه ومن خلفه، ومنهم من يعطى نوراً كالجبل، ومنهم من يعطى نوراً كالكوكب الدري، ومنهم من يعطى نوراً في إصبع إبهام رجله، فيضيء له مرة فيقدم قدمه على الصراط، ويظلم مرة فيقف، والكلاليب تتخطف الناس وتهوي بهم إلى جهنم وبئس المصير، فناج مسلم، وناج مخدوش، ومكردس على وجهه في جهنم، والنبي صلى الله عليه وسلم على الصراط يقول: (اللهم سلم سلم)، فهل أعددت لذلك اليوم عدته؟ واسمع إلى أحوال أولئك الذين قدروا الله حق قدره فاستعدوا لذلك اليوم العظيم، بكى عبد الله بن رواحة يوماً وهو مضطجع على فخذ امرأته، فبكت المؤمنة من بكائه، فقال لها: ما الذي يبكيك؟ قالت: ما بكيت إلا لبكائك، فما الذي أبكاك؟ قال: تذكرت قول الجبار جل في علاه: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71]، يعني: وارد الصراط، لا يدري إلى الجنة يؤخذ به أم إلى النار، قال: تذكرت الصراط، وذلة الناس في ذلك اليوم العظيم، فبكيت عندما تذكرت ذلك، فهل أبكانا مثل ذلك اليوم؟ إنه يوم عظيم صوره الله فقال عنه: {وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا * فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا * ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا * ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا * وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:66 - 71]، {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:72]، فهل نحن من المتقين؟ واسمع بعض صفاتهم في كتاب الله: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32]، فالمتقون هم الناجون في ذلك اليوم، ومن صفاتهم: {وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [الأنعام:92]، {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:19]، {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج:26 - 35].
فهذه صفات الناجين الذين قدروا الله حق قدره.(68/10)
الحساب
يبدأ الحساب بعد ذلك، فتخيل الموقف إذا قيل: فلان بن فلان استعد للعرض! فلو ينادى عليك بين يدي ملك من ملوك الدنيا لارتعدت فرائصك، ولو أمرت أن تقف بين يدي مسئول لارتعدت فرائصك، فكيف وأنت ستقف بين يدي من الأرض في قبضته، والسماوات مطويات بيمينه، {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء:104].
وستقودك الملائكة من بين الصفوف والبشر كلهم ينظرون إليك، وأنت لا تدري ماذا يفعل بك، ولا تدري إلى أين المصير! فأما الذين قدروا الله حق قدره فاسمع كيف يكون حسابهم، قال ابن عمر: يدني الله العبد منه يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه -يعني ستره- ثم يقرره بذنوبه: تذكر يوم صنعت كذا وكذا، حتى إذا ظن العبد أنه هلك قال الله أرحم الراحمين: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أسترها عليك اليوم، فيؤتى كتابه بيمينه، فيخرج بين الملأ ضاحكاً مسروراً ينادي بأعلى صوته {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الحاقة:19 - 22].
وأما حال الذين لم يقدروا الله حق قدره: فإذا وقف بين يدي ربه وقرره الله بذنوبه قال له الله: عبدي! أما استحيت أن تعصيني؟! أتختفي عن جميع الناس وتنساني؟! فينادي الله جل في علاه لزبانيته وملائكته: يا ملائكتي! خذوه، ومن عذابي أذيقوه، فقد اشتد غضبي على من قل حياؤه معي، فيعطي كتابه بشماله، فيخرج بين الملأ حسيراً كسيراً مطاطئ الرأس، يقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:25 - 29].
فينادي الجبار ملائكته: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:30 - 37].(68/11)
العرض
وهل تظن أن الموقف قد انتهى؟ كلا، بل ينتقل الناس من شدة إلى شدة، وينتقل الناس من أمر عظيم إلى أمر جسيم، فيأذن الله بالشفاعة، ويأذن الله بالحساب، فتصف الصفوف {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الكهف:48].
فتقام الصفوف، وتطأطأ الرءوس، وتشخص الأبصار، وتتطاير الصحف، وتوضع الموازين، وتوزن الأعمال، ويتمنى الإنسان حسنة واحدة في ذلك المقام، فالأم تقول لابنها: حملتك في بطني تسعة أشهر، وفعلت لك ما فعلت، يا بني! حسنة واحدة لمثل هذا اليوم العظيم، وكذلك يقول الأب لأبنائه، فينادي كل منهم: نفسي نفسي نفسي.
تقول عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم: (أيعرف الناس أهليهم في ذلك اليوم؟ قال: نعم إلا في ثلاثة مواقف، يوم تتطاير الصحف فلا يدري الإنسان أيأخذ كتابه بيمينه أم بشماله، ويوم تنصب الموازين فلا يدري أترجح كفة الحسنات أم كفة السيئات، وإذا نصب الصراط فلا يدري أيتجاوزه أم يهلك مع الهالكين).
أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
ويأذن الله بالشفاعة ويأذن بالحساب، فيبدأ يوم عسير مقداره خمسون ألف سنة، {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:1 - 4].
فلا يأكلون ولا يشربون ولا يتكلمون في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة! فكيف سيكون حالي وحالك؟! وكيف سيكون حال أولئك الذين ما قدروا الله حق قدره؟! وفي شدة الموقف والأهوال يظل الله من قّدروه حق قدره في ظل عرشه، وفي ذلك اليوم العظيم أصناف سبعة يستظلون بظل عرش الرحمن الرحيم، فأين أنت منهم؟ قال الحسن البصري: كيف أنت بأقوام وقفوا على أقدامهم مدة خمسين ألف سنة، لا يأكلون ولا يشربون ولا يتكلمون، وبينما هم على ذلك الحال وقوف إذ جيء بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها؟ {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} [الفرقان:12 - 13]، {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:12]، {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك:8].
وقد أمرنا الله بتقواه والاستعداد لذلك اليوم العظيم، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2].
فتتقطع الأحساب والأنساب، ثم يأمر الله بالحساب، فكيف أنت بمحكمة قاضيها الملك الديان، وشعارها {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17].
قرأ قارئ: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَالَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:1 - 7] فبكى وقال: والله إنه حساب شديد، سنحاسب فيه بالذرة! فكم نظرة نظرتها ستعرض عليك ذلك اليوم! وكم كلمة قلتها ونسيتها ستعرض عليك ذلك اليوم! وكم من أعمال عملتها ستصبح هباء منثوراً في ذلك اليوم!(68/12)
الشفاعة في أرض المحشر
بينما الناس في ذلك الموقف العظيم إذ نظر بعضهم إلى بعض فقالوا: ألا ترون ما نحن فيه؟! ألا ترون ما قد بلغنا من الهم والغم؟! ألا ترون من يشفع لنا عند ربنا؟! روى مسلم عن أبي هريرة قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في وليمة فأدنيت منه الذراع وكان يحبها، فنهش منها نهشة ثم قال: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، أتدرون لم ذلك؟ يجمع الله الأولين الآخرين فلا يغادر منهم أحداً، فيبصرهم الناظر، ويسمعهم الداعي، حتى إذا استووا في موقف أدنيت الشمس من رءوس العباد مقدار الميل، فيغرق الناس في عرقهم) أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي ذلك اليوم لا يتكلمون {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه:109].
وتأمل هذه الأمور العظام التي تحدث بين يدي ذلك اليوم العظيم {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه:105 - 111].
فينظر الناس بعضهم إلى بعض، ويقولون: (ألا ترون ما نحن فيه؟ ألا ترون ما قد بلغنا من الهم والغم؟ ألا ترون من يشفع لنا عند ربنا؟ فيقولون: اذهبوا إلى آدم.
فيأتون آدم فيقولون: يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسكنك جنته، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول آدم: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني نهيت عن تلكم الشجرة فعصيت، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى نوح.
فيأتون نوحاً فيقولون: أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماك الله عبداً شكوراً، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني كانت لي دعوة دعوتها على قومي، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى إبراهيم.
فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم! أنت نبي الله وخليله، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله؟ ولن يغضب بعده مثله، وإني كذبت ثلاث كذبات -لو عددناها لعددناها من صالح أعمالنا- ثم يقول: نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى موسى.
فيأتون موسى فيقولون: أنت نبي الله وكليمه، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى عيسى.
فيأتون عيسى فيقولون: أنت نبي الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولا يذكر ذنباً ويقول: نفسي نفسي نفسي).
أتدري من هؤلاء الذين يقولون: نفسي نفسي نفسي؟ هؤلاء هم أولو العزم من الرسل، وهؤلاء أحب الخلق إلى الله، وأخوفهم من الله، وأتقاهم لله، فكيف يكون حالي وحالك؟! وكيف سيكون حال أولئك الذين ما قدروا الله حق قدره؟! وكيف سيكون حال المفرطين والعصاة؟! قال: (فيقول عيسى: اذهبوا إلى محمد، فيأتون محمداً -وفي رواية فيأتيهم- فيقولون: يا محمد! أنت نبي الله وخاتم المرسلين، غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا من الهم والغم؟ ألا تشفع لنا عند ربنا؟ فأقول: أنا لها، فأنطلق إلى العرش فأخر ساجداً، ثم يفتح الله علي من محامده ما لم يفتحه على بشر من قبلي، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب! أمتي، يا رب! أمتي)، فما تخلى الحبيب عن أمته، ولم ينس الحبيب أمته في أشد المواقف، بل نادى بأعلى صوته: (أمتي أمتي) فأين أمة محمد اليوم عن نصرة دينه؟ وأين أمة محمد اليوم عن اتباع سنته؟ وأين أمة محمد اليوم عن الذب عن شريعته، والجهاد في سبيله؟ قال: (فيقال: يا محمد أدخل من أمتك من ليس عليه حساب من الباب الأيمن من الجنة، وهم شركاء الناس في سائر الأبواب).
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (والله! إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر، وليأتين عليها يوم وهي كضيض من الزحام).(68/13)
أهمية الوقت وخطورة إهمال تربية الأولاد
أقسم الله بالوقت في مواضع عدة من كتابه؛ وذلك لعظيم أهميته وخطورة تضييعه، فالوقت هو العمر الذي يمتلكه العبد، وهو حجة لصاحبه أو عليه، وما مضى منه لا يرجع أبداً، فعلى المسلم أن يغتنم عمره في الخيرات، وأن لا يضيعه بما لا ينفعه فتكثر منه الحسرات.(69/1)
أهمية الوقت
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله! لقد أقسم الله تبارك وتعالى بالوقت في مواضع عدة، فأقسم جل في علاه بالليل، وأقسم بالضحى، وأقسم بالفجر، وأقسم بالعصر، والله لا يقسم إلا بعظيم، ولله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، وليس للمخلوق أن يقسم إلا بالله العلي العظيم.
وقد أقسم الله بالوقت لعظيم أهميته، ولعظيم خطورته، فالوقت هو الأعمار التي نمتلكها، وهو رأس المال، والوقت إذا مضى فإنه لا يرجع أبداً، فمن منا يستطيع أن يُرجع ساعة من العمر الذي مضى، أو دقيقة، بل ثانية؟! فكلنا نزين المعصم بالساعة، ونحن ننظر إلى عقارب الساعة تسير إلى الأمام، ولا ترجع إلى الخلف أبداً، فقد زينا المعاصم بالساعات ولكن قليلاً منا هم الذين عرفوا قيمة الساعات والأوقات.
وقد قال جل في علاه مبيناً أصناف الناس في استغلال أوقاتهم: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32]، فالناس أصناف ثلاثة: قسم لا يشعر بالوقت، ولا يعرف أهميته، ولا يدرك خطورة تضييعه، فهؤلاء يكتشفون أنهم كانوا في حسرة وندامة عند ساعات الاحتضار، وأمنيتهم حينئذ أن يزدادوا في العمر ساعة؛ حتى يستدركوا ما فات.
وقسم يعرفون قيمة الوقت وأهميته، لكنهم أصيبوا بالكسل والفتور، فهممهم لم توصلهم إلى ما يريدون.
والقسم الثالث: أقوام لله درهم! عرفوا قيمة الوقت، وعرفوا أن الوقت هو العمر، وجعلوا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم من طال عمره، وحسن عمله) شعاراً لهم في حياتهم، فعرفوا قيمة الليل، وعرفوا قيمة النهار، فالليل والنهار يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود ووعيد، قال عمر بن عبد العزيز: الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل أنت فيهما.(69/2)
حقيقة الحياة الدنيا
لقد بين الله جل في علاه حقيقة هذه الحياة وأنها لا تعدو عن كونها أشياء أربعة، فقال سبحانه: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20]، ثم بين طريق النجاة فيها فقال: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21]، فالحياة لا تعدو عن كونها أشياء أربعة، كما قال ربنا تبارك وتعالى: لعب، ولهو، وزينة، وتفاخر، وتكاثر في الأموال والأولاد، وشبهها تبارك وتعالى بالمطر الذي يعجب الكفار نباته، ثم في لحظات يصفر ويصبح حطاماً، ثم تبدو الحقيقة التي لا بد منها في الآخرة: إما عذاب شديد للذين ضيعوا الأعمار والأوقات، وإما مغفرة من الله ورضوان.(69/3)
السباق في الدنيا
إن السباق في الحياة الدنيا على نوعين: إما سباق على الدرهم والدينار كما هو الواقع اليوم، وتعس عبد الدرهم، وتعس عبد الدينار، وإما سباق على مرضاة الله تبارك وتعالى، ولكل سباق خط نهاية، ونهاية السباق إما نعيم دائم، أو عذاب مقيم، إما: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار! خلود فلا موت.
والسباق يحتاج إلى مطية، والمطية لا بد أن تكون قوية؛ حتى نستطيع أن نقطع السباق، ففي طريق السباق مصاعب وعقبات وآهات وآلام، فإذا نام المسافر واستطال الطريق فمتى يصل إلى المقصود؟ فالمطية: هي الليل والنهار، فنركب مطية الليل ثم ننزل، ثم نركب مطية النهار ثم ننزل، ثم نركب مطية الليل وهكذا، حتى نصل إلى آخر السباق.(69/4)
الأيام مطايا
هناك قصيدة لـ سعيد بن مسفر وهي جميلة أسماها: الأيام مطايا، يقول فيها: هذه الأيام مطايا أين العدة قبل المنايا؟ أين الأنفة من دار الأذايا؟ أين العزائم أرضيتم بالدنايا؟ إن بلية الهوى لا تشبه البلايا وإن قضية الزمان لا كالقضايا يا مستورين! ستكشف الخفايا إن ملك الموت لا يقبل الوساطة ولا يأخذ الهدايا أيها الشاب! ستسأل عن شبابك أيها الشيخ! تأهب لعتابك أيها الكهل! تدبر أمرك قبل سد بابك يا مريض القلب! قف بباب الطبيب يا منحوس الحظ! اشك فوات النصيب لذ بالجناب قليلاً، وقف على الباب طويلاً واستدرك العمر قبل رحيله وأنت بداء التفريط عليلاً يا من نذر الموت عليه تدور! يا من هو مستأنس في المنازل والدور! لو تفكرت في القبر المحفور وما فيه من الدواهي والأمور كانت عين العين منك تدور يا مظلم القلب! وما في القلب نور الباطن خراب والظاهر معمور إنما ينظر للبواطن لا للظهور يا من كلما زاد عمره زاد اسمه! يا من يجول في المعاصي فكره وهمه! يا قليل العبر وقد دق عظمه! يا قليل العبر وقد تبين أن القبر عما قليل يضمه! كيف نعظ من نام قلبه لا عقله وجسمه؟! فالأيام تقربان كل بعيد، وتأتيان بكل موعود ووعيد، وما من يوم تشرق شمسه إلا ومناد ينادي: يا ابن آدم! أنا يوم جديد، وعلى عملك شهيد، فاغتنمني فإني إذا مضيت لا أرجع أبداً.
فهاهي الأعمار تنقضي، وهاهي الليالي تنطوي، وهكذا هي الحياة، فهاهو المسلسل يعيد نفسه من جديد، انقضت بالأمس اختبارات وامتحانات، وها نحن وإياكم نستقبل أيام الإجازات، فعلى أي حال سنستقبلها؟ هل نستقبلها كما استقبلناها في المرات الماضية والأعمار تضيع هدراً؟ فلو رأيت إنساناً يسير في طريق من الطرقات وبيده رزمة من الريالات، فصار يقذف بها يمنة ويسرة لعددت هذا مجنوناً غير عاقل، مع أن المال يعوض، فماذا تقول في الذي يهدر العمر، ويضيع الساعات، ولا يعرف قيمة الدقائق والثواني؟! جاء أحدهم إلى العمل متأخراً، وجاء بعذرٍ أقبح من ذنب، قلت له: ما الذي أخرك؟ قال: أطلت السهر ليلة البارحة، قلت: في قيام وقراءة قرآن؟ قال: أتهزأ بي؟! وأنا أعرفه لا يكاد يصلي صلاة الظهر في جماعة، ثم قال: قناة رياضية عرضت ثلاث مباريات من الدوري الأوروبي، شاهدتها مباراة تلو الأخرى، أي: بمعدل ساعتين لكل مباراة! فهذا أضاع ست ساعات أمام الشاشات والقنوات!(69/5)
تنقل الإنسان من دار إلى دار
أعمارنا تضيع هدراً، فمتى سنعرف قيمتها؟ ومتى سنعرف أن العمر أغلى من الذهب والفضة؟ سنعرف ذلك إذا حاسبنا أنفسنا، وصدقنا مع أنفسنا، فاسأل نفسك يا ابن العشرين! واسأل نفسك يا ابن الثلاثين! واسأل نفسك يا ابن الأربعين والخمسين! كيف انقضت السنوات؟ وكيف انطوت تلك الساعات واللحظات؟ والله إنها أسرع من البرق، انظر إلى قرص الشمس هل يقف؟ هل توقفت الشمس يوماً عن الغروب أو تأخرت يوماً عن الشروق؟ إن مرور الأيام والليالي ليس له إلا دليل واحد وهو: أنني أنا وأنت نقترب من النهاية كلما انقضى يوم وكلما انقضت ليلة، فالعمر والليالي في نقصان، وأنا وأنت نقترب إلى آخر اللحظات، فننتقل أنا وإياك من دار إلى دار، وهي دور أربع، نتنقل من هذه الدار إلى تلك الدار حتى نصل إلى دار القرار، فكنت في بطن أمك في ظلمة يرعاك الله في ذلك المكان، وكنت آمناً مطمئناً في تلك الدار، فخرجت تبكي عندما تغير الحال، فلما استشعرت النور، واستشعرت الفرحة والسرور رضيت بدار الدنيا.
أنت الذي ولدتك أمك باكياً والناس حولك يضحكون سروراً فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسروراً فخرجت من بطن أمك إلى هذه الدار، فكم ستمكث فيها؟ الله أعلم، لكن خيركم في هذه الدار من طال عمره وحسن عمله، وشركم في هذه الدار، من طال عمره وساء عمله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: اغتنم شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل مرضك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك).
والناظر في حال كثير من الناس يرى أنهم لا يستعدون للدار التي بعد هذه الدار.
وما دنياك إلا مثل ظل أظلك حيناً ثم آذن بالزوال فدار الدنيا سريعة الانقضاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مالي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل ساعة تحت شجرة ثم تركها)، فالدنيا ساعة.
وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم على ملأٍ من بني سلمة وهم يعمرون داراً من دورهم فقال: (الأمر أسرع من هذا يا بني سلمة)، فالأمر أسرع من أن يعمر الناس الدار ويسكنونها.
وكم ستمكث في هذه الدار؟ الله أعلم، فالدنيا امتحان وابتلاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين، وقليل من يجاوز)، فمن بلغه الله الستين فقد أعذره، من بلغه الله الستين فماذا ينتظر؟! كان السلف إذا بلغ أحدهم الأربعين اعتزل الدنيا، واستعد للقاء الله، واشترى كفنه، ولازم المسجد، ولازم الصيام والقيام.
ثم ستنتقل من هذه الدار إلى دار ثالثة: وهي دار القبور، وهي إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النيران، ولك الخيار فأنت الذي تختار، كما قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3]، ثم ستخرج من تلك الدار، وسيتقرر المصير، فإما إلى جنة، وإما إلى نار، وليست الخسارة أن تخسر صفقة مالية، أو تخسر وظيفة، أو تخسر أي أمر من أمور الدنيا، قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} [الشورى:45].
وينادون ويسألون كما قال تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} [المؤمنون:112]، سيسألون عن الأوقات وعن الأعمار وعن الخمسين والستين، قال تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ}، فأما الذين فرطوا وضيعوا فيقولون: كما قال تعالى: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:113] أي: فاسأل أولئك الذين عرفوا قيمة اللحظات والدقائق والليالي والأيام، ثم يأتيهم التوبيخ الشديد: قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115]، وقال: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:36 - 40]، بلى قادر، وقال تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28].
وقال عليه الصلاة والسلام: (ما منكم من أحد إلا وسيقف بين يدي ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فلا يرى إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة).
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(69/6)
التحذير من الغفلة عن تربية الأولاد
الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله عباد الله، قال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281].
أحبتي في الله! كثير من الناس فرطوا في أوقاتهم، وفرطوا في أعمالهم، ومع زيادة التفريط ضيعوا أبناءهم ومن يعولون، فمع بداية أيام الإجازات انقلبت الموازين في البيوت، فأصبح الليل نهاراً، والنهار ليلاً، وأصبح الأبناء في الشوارع حتى ساعات متأخرة من الليل بلا حسيب وبلا رقيب! واعلم -بارك الله فيك- أنك إن غفلت عن تربية هؤلاء فإن الشارع يربي، والشاشات والقنوات تربي، وأصحاب السوء يربون، والمخدرات والمسكرات تربي، وقد يكون الابن صالحاً لكن مع التفريط والإهمال يصبح من الضائعين.
جاءني أحد الآباء يبكي بدموع حارة وقد مات ابنه، ويريد أن يعرف: هل تسبب هو في ضياعه؟ قال: كان ابني من الصالحين، من الذين يحافظون على الصلوات، ويحفظون القرآن، وفجأة بدأت أحواله تتغير، وبدأ يكثر السهر، وبدأ يلازم الشارع أكثر من لزومه للبيت، وبدأت طباعه تتغير، والطيور على أشكالها تقع.
فلا تصحب أخا الفسق وإياك وإياه فكم فاسقاً أردى مطيعاً حين آخاه يقول هذا الرجل: وبدأ ابني يسرق، وبدأ يحتال ويكذب، وأهملت الأمر في أوله، ثم بدأ الأمر يتعاظم شيئاً فشيئاً، فبدأت أتتبعه، ثم اكتشفت أن ابني صار مدمناً للمخدرات، فطلبت له العلاج، وأخذته هنا وأخذته هناك، وسافرت به إلى كل مكان، وكان يرفض العلاج، وكلما رجعنا من السفر عاد إلى أصحاب الشر؛ فأخذوه مرة ثانية، فحاولت نصحه بكل الطرق وبشتى الأحوال ولم يكن يستجب للعلاج، فقررت أن أحبسه في الدار، فحبسته في دار فيها دورة مياه - أعزكم الله- يأكل ويشرب، ولا يغادر المكان، وقلت: أحبسه حتى يقضي الله بيني وبينه أمراً كان مفعولاً، فبدأ صياحه يزيد، وقلت لأمه ولأخواته ولأقاربه: لا تفتحوا له الباب، ولا تأخذكم الشفقة والرحمة عليه، لا نريد أن نخسره، فقد خسرناه بما فيه الكفاية، ونريد أن نسترجع ابننا من الضياع الذي بدأ يسير عليه، وصار بكاؤه وصياحه يخف يوماً بعد يوم، وبدأ يستجيب لنا، لكن أصحاب السوء كانوا يترددون حول بيتنا ويسمعونه، إنهم قريبون منه.
ومضت أيام فجاءت جدة العيال لزيارتهم، فلما سمع صوتها أخذ يبكي ورفع صوته بالبكاء قائلاً: ارحميني يا جدة! واسمعيني يا جدة! أنا تبت، وأنا كذا وكذا، فرقت الجدة لأمره، وفتحت له الباب، فالتقطه أصحاب المخدرات مرة أخرى، وخرج معهم، يقول الأب: جئت من وظيفتي في ذلك اليوم فرأيت بابه مفتوح، قالوا لي: جدته فتحت له الباب، قال: فألقي في روعي أني لن أرى ابني بعد ذلك اليوم، مضى يوم ومضى اليوم الثاني، بحثت عنه في كل مكان، ولم يبق جحر ضب إلا دخلته، وفي اليوم الثالث تعبت وأيست من وجوده، أين يختبئون؟ أين يذهبون؟ لا أعلم، وبعد أيام وفي ساعة متأخرة من الليل إذا طارق يطرق الباب، فقلت: اللهم! إني أعوذ بك من طوارق الليل إلا طارقاً يطرق بخير، فتحت الباب فإذا بسيارة الشرطة، قالوا لي: أنت فلان بن فلان؟ قلت: نعم، قالوا لي: البس ثيابك فنحن نريدك في أمر هام، فلبست الثياب وانطلقت معهم، فأخذوني إلى مجمع من المجمعات يغلق في تلك الساعات من الليل، فأدخلوني في سرية وفي هدوء تام، وأخذوني إلى دورات المياه، وقالوا لي: تعرف على هذه الجثة، فنظرت إليه فإذا هو ابني ابن التاسعة عشرة من العمر قد فارق الحياة، فأين أصحابه؟ وأين الذين أوصلوه إلى تلك النهاية؟ إنا لله وإنا إليه راجعون! ومثل هذا كثير، فكم خسرنا من أبنائنا بمثل هذه الصورة؟ وهذا بسبب تفريط الآباء، وبسبب تضييع البيوت للأمانة، وعدم حفظ الأوقات، فنتركهم هملاً في الشوارع حتى ساعات متأخرة من الليل، فلا صلاة فجر يصلونها، ولا صلاة جماعة يحافظون عليها.
فما المطلوب منا أن نصنعه للأبناء؟ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، وكيف يكون ذلك؟ يكون ذلك بأن نربيهم على فعل الطاعات، ونربيهم على ترك الفواحش والمنكرات، ونهيئ لهم في البيوت البيئة الصالحة التي يعبدون الله فيها، فنطهر البيوت من الفواحش والمنكرات.
وأزيدكم من الشعر بيتاً؛ حتى تعرفوا مقدار المأساة! بالأمس القريب جاءني رجل يستفتي، فقلت له: ما سؤالك؟ قال لي: سؤالي عظيم، فالأمر أكبر مما تتصور، استر علي ستر الله عليك، قلت له: ما القضية؟ قال: لي زوجتان، أتعاهد هذه، وأتعاهد تلك، ولي ابن في سن العشرين، يغدو ويروح بلا حسيب وبلا رقيب، فأدمن شرب الخمور فأردت أن أدخله مصحة لكن فات الأوان، فقد اعتدى ابني على ابنتي ابنة السابعة عشرة وهو في حالة سكر شديد! فقلت له: صحح الموقف، قال: مضى وقت التصحيح؛ فالبنت حبلى من الزنى من أخيها وهي الآن في الشهر الرابع! هذا ما يحدث في بيوت المسلمين اليوم، قلت له: فماذا أصنع؟ قال: أريد أن يقام عليه القصاص، لا أريد أن أراه بعد اليوم، لكن ماذا أصنع بالبنية التي تحمل ابناً في بطنها؟! وليست هذه بالمرة الأولى التي نسمع بمثل هذا، أما آن لنا أن ننتبه ونربي البنين والبنات، فنهيئ لهم البيئة الصالحة، ونتخلص من الشاشات والقنوات التي أفسدت أخلاق البنين والبنات؟! اتقوا الله عباد الله! واحفظوا بيوتكم، واحفظوا أبناءكم، واحفظوا أعراضكم، واحفظوا صغاركم، وطهروا بيوتكم من المخالفات قبل أن يقع الفأس على الرأس.
اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد.
اللهم طهر بيوتنا وبيوت المسلمين من الفواحش والمنكرات يا رب العالمين! اللهم أصلح البنين والبنات، والنساء والأطفال يا حي يا قيوم! اللهم ردنا إليك رداً جميلاً يا رب العالمين! اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا -يا ربنا- من الراشدين، وصن أعراضنا، واحقن دماءنا، وآمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تؤاخذنا بالتقصير، إنك -يا مولانا- نعم المولى ونعم النصير.
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(69/7)
فاتخذوه عدواً
عندما خلق الله آدم عليه السلام وأمر الملائكة بالسجود له أعلن إبليس عصيانه وتمرده على خالقه، وناصب العداء لآدم حتى أخرجه من الجنة، وأقسم بإغواء ذريته.
ولقد أضل جبلاً كثيراً من الناس إلا عباد الله المخلصين فليس له عليهم سبيل، فعلى المسلم أن يتبع سبيل المؤمنين، وأن يعتصم بالله من الشيطان الرجيم، وأن يتخذه عدواً، فإن كيده كان ضعيفاً.(70/1)
استمرار عداوة الشيطان لآدم ولذريته إلى قيام الساعة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله! لقد حذرنا الله تبارك وتعالى من الشيطان، وأخبرنا أنه عدو لنا، فالمطلوب منا أن نتخذه عدواً، فإذا كان عدواً لنا فلا بد أن نعرفه تمام المعرفة، ونعرف أساليبه، ونعرف طرقه في إضلال البشرية؛ حتى نكون على حذر منه، وحتى نكون على أهبة الاستعداد إذا هاجمنا بأي وسيلة من وسائله.
فحين تسأل الزاني: لماذا زنيت؟ فإنه يقول: إن السبب هو الشيطان، وحين تسأل السارق: لماذا سرقت؟ فإنه يقول: إن السبب هو الشيطان، وحين تسأل القاتل: لماذا قتلت؟ فإنه يقول: إن السبب هو الشيطان، وحين تسأل الذي طلق زوجته: لماذا طلقتها؟ فإنه يقول: إن السبب هو الشيطان، فهو عدونا الأول الذي هدفه إغواء البشرية وإضلالها حتى يدخلها معه في النار: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6].
فالشيطان يقول: عجباً لبني آدم يدّعون أنهم يحبون الله ويعصونه، ويدعون أنهم يكرهونني ثم يطيعوني.(70/2)
أسماء الشيطان وأصله
إن الشيطان من الجن، وقد كان يعبد الله في بداية أمره، وسكن السماء مع الملائكة، ودخل الجنة، ثم عصا ربه عندما أمره بالسجود لآدم؛ استكباراً وعلواً وحسداً، فطرده الله من رحمته.
والشيطان في لغة العرب: يطلق على كل عاص ومتمرد، وهو مأخوذ من (شَطَنَ)، أي: بعد عن الحق وتمرد عليه، وقد أطلق عليه هذا الاسم لعتوه وتمرده وتكبره على أوامر الله تبارك وتعالى، كما يطلق عليه لفظ الطاغوت، وهو الطاغوت الأكبر كما قال الله: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76].
واسم الشيطان معلوم عند غالبية أمم الأرض بنفس الاسم، فهو يسمى بنفس الاسم في كل لغات أهل الأرض، وسمي طاغوتاً لتجاوزه حده، وتمرده على ربه، وتنصيبه نفسه إلهاً يعبد من دون الله، فكل من رضي أن يعبد من دون الله كان طاغوتاً.
وسمي بإبليس ليأسه من رحمة الله تبارك وتعالى.
وأما أصله: فقد اختلف المتقدمون والمتأخرون في أصله، فمن قائل: هو من الملائكة، ومن قائل: هو من الجن، وهذا هو الراجح والصحيح لأدلة كثيرة منها: أن القرآن نص على أنه من الجن، كما قال الله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [الكهف:50].
وقال سبحانه: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50] فله ذرية، والمعروف أن الملائكة ليس لها ذرية، والشياطين تتوالد وتتكاثر.
وقد ثبت بالنص الصحيح أن الجن غير الملائكة في خلقهم، وغير الإنس أيضاً، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم - (أن الملائكة خلقوا من نور، وأن الجن خلقوا من نار، وأن آدم خلق من طين).
ولقد قال الله على لسان إبليس: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12].
وقال سبحانه: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر:27].
وقال سبحانه: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن:15].
فعلى هذا يكون خلقه مغايراً لخلق الملائكة، فالملائكة خلقوا من نور وهو وذريته خلقوا من نار.
قال صاحب (الظلال): قال الله عن الملائكة: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، وهو حين أُمر عصى وتكبر وتمرد، فلو كان من الملائكة ما عصى أوامر الله تبارك وتعالى، فالراجح والأصح أنه من الجن وليس من الملائكة.(70/3)
بداية كيد الشيطان لآدم وذريته
وحديثنا ليس عن الشياطين بشكل عام، ولكن عن شيطانهم الأكبر، فمتى بدأ كيد الشيطان؟ تعالوا نستمع لهذه الآيات، ونتدبر فيها، ونرى أساليب الشيطان المتنوعة في إضلال البشرية، وكيف نجح في إخراج آدم من الجنة التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الأعراف:11]، فقد خالف الأوامر، والملائكة لا تعصي لله أمراً: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، فافتخر بأصله، {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف:13]، فكان التكبر أول ذنب عُصي به الله تبارك وتعالى، ودافع ذلك هو الحسد أعاذنا الله وإياكم من ذلك، فقد حسد إبليس آدم فتكبر على أوامر الله جل في علاه، {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف:12 - 14].
فهنا سأل إبليس الله سؤالاً فأعطاه إياه، وليس ذلك لكرامته على الله؛ بل لهوانه على الله تبارك وتعالى، {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ} [الأعراف:14 - 15].
ثم تعهد إبليس وتوعد: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:16 - 17].
وهو يقصد بهذا التوعد والتهديد البشرية أجمعين، فقال: ((لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ))، وصدق حين قال: ((وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ))، فصدق وهو الكذوب، ولا تجد أكثرهم شاكرين، فسأجلس لهم على صراطك المستقيم، فإن أراد أحدهم الصلاة أو الصيام أو القيام، أو أراد الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر، أو أراد طاعتك؛ خذلته عن الطاعات، وقدته إلى المعاصي والمنكرات.
{قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف:18]، فخرج وطُرد من الجنة.
ثم بدأ كيده لآدم في وسط الجنة، قال الله: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:19].
فإذا عصيت فأنت ظالم، وإذا خالفت الأوامر فأنت ظالم؛ ولذلك فكل عاص لله ظالم لنفسه.
{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} [الأعراف:20]، وهذا هو أسلوبه، فهو لم يجبر الناس إجباراً، ولم يضربهم على أيديهم، ولا قادهم إلى المنكرات بالسلاح، وإنما وسوس إليهم، والوسوسة هي: الصوت الخفي، أو هي حديث النفس، {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ} إما بحديث النفس أو بإدخال الحية في الجنة -كما قيل- فبدأت توسوس لآدم، وهدفه من ذلك: ((لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا))، يريد أن ينتشر التعري والتفسخ بين البشرية؛ حتى تنتشر الفاحشة والرذيلة، وهذه هي أسرع الطرق لإغوائهم.
فقال لهما: ((قَال مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ* وَقَاسَمَهُمَا))، أي: أقسم لهما بالله إنه لمن الناصحين، فصدقه آدم، وما ظن آدم بفطرته السليمة أن هناك من يحلف ويقسم بالله كاذباً.
{وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21]، فكان هو أول من أقسم بالله كاذباً.
{فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف:22].
وقد حذر الله آدم كما قال: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117].
وقد حذرنا الله أيضاً منه وقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6].
وبعد أن عصى آدم وحواء عليهما السلام الله تعالى تابا كما قال الله عنهما: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، والنتيجة: ((قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)) لحكمة أرادها الله، {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [الأعراف:24] أي: إلى أن يأتي وعد الله تبارك وتعالى.
{قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف:25].
فهذا هو العدو الذي حذرنا الله منه، فكم أغوى من عابد! وكم أضل من زاهد! وكم أضل من الشباب! وكم أضل من شيب! وكم أغوى من فتاة! وكم ضيع من شاب! حتى إذا ضيعهم تبرأ منهم قال الله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16].
فإذا أسقط الإنسان في الكفر والضلال والمعصية تبرأ منه، ومن العجب العجاب أن الإنسان يسقط مرة تلو الأخرى، ويُلدغ من نفس الجحر مرات كثيرة!(70/4)
أساليب الشيطان في إغواء بني آدم
اعلم -بارك الله فيك- أن للشيطان أساليب كثيرة، وأن له خبرة وباعاً طويلاً في إضلال البشرية، فمنذ أن خلق الله آدم وهو يتفنن في إضلال البشرية.
وهدف الشيطان الأول هو: أن يشرك الناس بالله تبارك وتعالى، فما زال بقوم نوح حتى أغرقهم الله، وما زال بعاد وثمود حتى أهلكهم الله، وما زال بقوم فرعون حتى أغرقهم الله، وما زال بقوم لوط حتى أمطرهم الله حجارة من السماء، فأضلهم الشيطان ثم تبرأ منهم، وقد قال: {لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف:17] قال أهل التفاسير: يعني سآتيهم من طريق دنياهم، فأزين لهم الدنيا وما فيها، لذلك قال الله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]، وقال: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20]، فأخبر الله عن الحياة الدنيا أنها متاع الغرور، فلا يغرنكم الشيطان بتزيين هذه الدنيا وما فيها.
هب الدنيا تساق إليك عفواً أليس مصير ذاك إلى انتقال وما دنياك إلا كمثل ظل أظلك ثم آذن بالزوال فأسلحته كثيرة، وخبرته طويلة، ومن أعظم أساليبه: تزيين الباطل، فهو يزين الباطل للناس كما زين لآدم فقال له: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120]، وكما قال: {لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:39]، وكما قال تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء:120].
ومن أساليبه أيضاً: أنه يسمي الأشياء بغير مسمياتها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ستأتي سنوات خداعات، يؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، ويصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويتكلم فيها الرويبضة)، فتنقلب فيها الموازين، وتسمى الأشياء بغير مسمياتها، واليوم نرى بأم أعيننا المنكر يسمى معروفاً، والمعروف يسمى منكراً، فيسمون الأغاني والألحان فناً وطرباً، ويسمون الزنا علاقات جنسية، ويسمون الخمور أم الأفراح وانشراح الصدور، ويسمون الربا الذي حاربه الله ونهى عنه بفوائد وأرباح بنكية! فضحك الشيطان على البشرية، فصاروا يسمون الأشياء بغير مسمياتها.
ومن أساليبه أيضاً: تحبيب الكسل والفتور إلى الناس، قال الله عن المنافقين: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142].
وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا نام أحدكم عقد الشيطان على قافيته ثلاث عقد، فإذا أراد أن يقوم قال له: ارقد فإن وراءك ليلاً طويلاً، فإذا قام وذكر الله انحلت العقدة الأولى، فإذا قام وذكر الله ثم توضأ انحلت العقدة الثانية، ثم إذا قام وذكر الله ثم توضأ ثم صلى انحلت العقدة الثالثة)، فبذكر الله نستطيع أن ننتصر على الشيطان.
فلنسأل أنفسنا أين نحن من هذا الحديث؟ وأين نحن من هذا الكلام؟ فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل نام عن صلاة الصبح -أي: صلاة الفجر- فقال: (ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه).
فأسألك بالله العظيم: كيف كان حالك هذا الصباح؟ أبال الشيطان في أذنيك كما فعل بكثير أم أنت ممن ذكرت الله حتى انحلت العقد واحدة تلو الأخرى؟ فما أكثر الذين يبول الشيطان في آذانهم في كل يوم! ومن أساليبه أيضاً: الوعد والتمنية، قال الله تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء:120]، فكم من شاب أراد أن يتوب فسوَّف له الشيطان، وكم من شيخ كبير أراد أن يعود ويئوب فمنَّاه الشيطان، فهو يعدهم ويمنيهم بلعل وسوف وعسى، وأكثر صياح أهل النار من لعل وسوف وعسى.
ومن أساليبه أيضاً: إظهار النصح، فهو يظهر للبشرية أنه لهم ناصح، وهو الكذوب كما قال لآدم: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21]، وكذب فإنه والله لمن الكاذبين، ومع ذلك أقسم إنه لمن الناصحين! ومن أساليبه: التدرج في الإضلال، فهو يأخذهم خطوة خطوة، نظرة فابتسامة فكلمة ثم معصية لله تبارك وتعالى، كأن يقول: ادخل القنوات إلى بيتك لمتابعة الأخبار ومتابعة ما يحدث في العالم، ثم فجأة تنقلب الشاشات إلى لهو وغناء، ثم زنا وفاحشة ورذيلة، ثم انتهاك للمحرمات في البيوت، فكم ضحك الشيطان على الناس بإدخال الشاشات والقنوات إلى بيوتهم! ومن أساليبه أيضاً: أنه يخوف أولياءه كما قال الله: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، فإذا أراد أحد منا أن يأمر بمعروف أو ينكر منكراً هدده الشيطان وتوعده، وقال له: إن ردة فعل الناس كذا وكذا، وإن الناس لا يتقبلون مثل هذا الكلام، فهو يخوفهم، ولكنه يخوف أولياءه، ولا يخوف الشيطان إلا أولياءه.
فأساليبه كثيرة تتنوع وتتغير باختلاف الوقت والزمان، فقد يظهر أنه ناصح ولكنه في الحقيقة ماكر وكذاب كبير.
وقد قيل: إن رجلاً كان تحت جدار وكان الجدار على وشك السقوط، فجاءه رجل فأقامه من مكانه، فما هي إلا لحظات حتى سقط ذلك الجدار، فقال الرجل: جزاك الله عني خيراً فقد أنقذتني من الهلاك، فمن أنت؟ قال: أنا الشيطان، قال: أنت الشيطان وتفعل معي هذا! قال: نعم، خشيت أن تموت شهيداً؛ لأن الذي يموت في الردم والهدم يعتبر شهيداً، فقاتله الله! كم أضل من زاهد! وكم أغوى من عابد! وقد حذر الله وأنذر منه، فمن استجاب فقد فاز ونجا، ومن لم يستجب فلا يلومن إلا نفسه.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(70/5)
أسلحة الشيطان في إغواء البشرية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: عباد الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله عباد الله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281].
وكما أن أساليب الشيطان كثيرة فأسلحته أيضاً كثيرة، ومن أعظم أسلحته: أم الخبائث وهي الخمر، وما أدراك ما الخمر؟ فكم ارتكبت من جرائم تحت تأثير المسكرات والمخدرات! وكم يقطع الناس آلاف الأميال لإشباع الأهواء والرغبات ابتداءً بالخمور والمسكرات! وكم تهدمت بيوت بسبب أم الخبائث! يحكى أن امرأة جاءت إلى عابد ومعها طفل صغير وكأس من الخمر، فقالت له: أنت بين خيارات: إما أن تزني بي، وإما أن تقتل هذا الغلام، وإما أن تشرب الخمر، فظن أنه سيختار أهون هذه الأمور الثلاثة، فقال: أشرب الخمر ولا أزني ولا أقتل أحداً، فلما شرب الخمر تخمر عقله، والخمر معناها مأخوذ من التغطية، نقول: خامر الشيء إذا غطاه، والخمر تغطي العقل فلا يفكر الإنسان في عواقب الأمور.
فشرب الخمر، فلما طار عقله زنى بالمرأة، فلما زنى بالمرأة وعلم عظيم جرمه قتلها وقتل الغلام؛ لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الخمر أم الخبائث).
والملعونون في الخمر عشرة: شاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وعاصرها، ومعتصرها، ومشتريها، وبائعها، وآكل ثمنها، وساقيها، وما ذاك إلا لعظيم أثرها في الإفساد والتزيين.
ومن أعظم أسلحته التي انتشرت اليوم في كل بيت إلا من رحم الله: الموسيقى والألحان، حتى أصبحت قلوبنا لا تتأثر بالقرآن؛ لأنها ملئت بمزامير الشيطان، وصدق الله حين قال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:61 - 62]، ثم قال الله له: {اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء:63 - 64].
فإذا أتى الرجل أهله ولم يذكر الله شاركه الشيطان، وإذا أكل طعامه ولم يذكر الله شاركه الشيطان، وإذا دخل بيته ولم يذكر الله دخل معه الشيطان، فكم هي البيوت التي تسكنها الشياطين اليوم! لقد انتشرت الموسيقى والألحان كانتشار النار في الهشيم، فلا يكاد يخلو منها بيت ولا سيارة ولا مكتب ولا مطار، فكل أماكننا أصبحت أماكن لمعازف الشيطان والعياذ بالله! فأسألك بالله إن كنت عاقلاً: ماذا استفدنا من المعازف والألحان؟ ثم قل لي: ماذا استفدنا من هؤلاء الذين يغنون ويطبلون ويرقصون استجابة للشيطان؟! ماذا استفدنا منهم؟ وماذا يقدمون للمجتمع؟ إنّ الطبيب يعالج المرضى، والمدرس يكافح الأمية ويعلم الصغار والكبار، والفلاح يزرع، والصانع يصنع، وأما المغني والمغنية، والراقص والراقصة، والممثل والممثلة، فماذا يقدمون للمجتمع؟! ماذا يقدم لنا هؤلاء؟! بكل صراحة إنهم يقدمون لنا الفاحشة والرذيلة، ويقدمون لنا الزنا بكل صوره، ويدعوننا إلى شرب الخمور، ومعاقرة النساء، والسفر للسياحة إلى بلاد الكفار، أليس هذا هو الواقع؟ أي عاقل يقول: إن كلمات الأغاني تدعو إلى مكارم الأخلاق والفضيلة؟! ومع هذا امتلأت بيوتنا وسياراتنا بمعازف الشيطان، فأمة الإسلام هجرت القرآن، واتخذت معازف الشيطان لها شعاراً بالليل والنهار، فكيف تنتصر على أعدائها؟! إن حب القرآن وحب الألحان في قلب عبد مؤمن لا يجتمعان؛ فلذا أصبحت قلوبنا أقسى من الحجارة، والسبب: أنها تعلقت بمزامير الشيطان.
وقد سئل الإمام أحمد عن الموسيقى والألحان فقال: لا يفعلها عندنا إلا الفساق، وقال شيخ الإسلام: أولئك هم المخنثون عندنا.
فأسألكم بالله العظيم: لو رأى الإمام أحمد وشيخ الإسلام الفيديو كليب اليوم ماذا سيقولان؟! ولو رأيا نساءنا يتمايلن بأجسادهن وشعورهن على الشاشات والقنوات، وأمم من البشر يسهرون حتى ساعات الليل الأخيرة على المعازف والألحان ماذا سيقولان؟! ها هو الأقصى يلوك جراحه والمسلمون جموعهم آحاد يا ويحنا ماذا أصاب رجالنا أو ما لنا سعد ولا مقداد ومن أسلحته أيضاً: السحر والشعوذة، والكهنة والعرافين، فكم أضلوا وأفسدوا! وكم فرقوا ودمروا من بيوت! وكم فرقوا بين زوج وزوجة! {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102].
ومن أعظم أسلحته التي تظهر قلة الحياء، وقلة الغيرة على الدين: النساء، وما أدراك ما النساء؟ فهن أعظم سلاح للشيطان، فإذا عجز الشيطان عن الرجل الصالح جاءه من باب النساء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل منكن)، فاذهب إلى الأسواق وانظر إلى الكاسيات العاريات، ثم قل بكل صراحة: أين الآباء؟! وأين ولاة الأمور؟! وأين من استرعاهم الله الرعية؟! أين هم حتى يروا بناتهم وفتياتهم يتلاعب الذئاب بهن في كل مكان.(70/6)
الأسلحة التي نواجه بها الشيطان
هذه أسلحة الشيطان التي يهاجمنا بها، ومن فضل الله علينا أن أعطانا أسلحة مضادة لهذه الأسلحة، ومن أعظمها قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف:200]، فالجأ إلى الله، واعتصم به، وتوكل عليه: (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:101].
وقد جاء في الأثر أن الله يقول: (وعزتي وجلالي! ما اعتصم بي عبد من عبادي وكادته السماوات والأرض إلا جعلت له من بينها مخرجاً)، فمن اعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا استعنت فاستعن بالله، وإذا سألت فاسأل الله)، وقال يوسف عليه السلام حين هاجمته النساء من كل مكان {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يوسف:33 - 34].
وقال الله للشيطان: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) [الحجر:42]، وقال: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} [النحل:100] وهم الذين يقودهم كما يقود الرجل الشاة والبعير، وهكذا يفعل الشيطان بكثير من أوليائه.
ومن أعظم الأسلحة التي نرد بها كيد الشيطان: ذكر الله تعالى، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل الذي يذكر الله كمثل رجل فر من قوم ثم دخل إلى حصن فتحصن به)، فذكر الله تبارك وتعالى حصن للمسلم في صباحه ومسائه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنزلت علي اليوم سورتان ما رأيت أعظم منهما قدراً: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1])، فكررها صباحاً ومساءً.
ثم إن من أعظم ما نستطيع أن نعتصم به عن الشيطان: معرفة أساليب الشيطان التي ذكرناها، ونتذكر حين يخطو بنا خطوة تلو الخطوة أن هذا من مكر الشيطان ومن أساليبه، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21]، {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201].
وقد زين لقريش من قبل حتى دمرهم الله كما قال تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ} [الأنفال:48].
وسيخطب الشيطان في أهل النار خطبة عظيمة، ويخطب في الذين أضلهم فناموا عن الصلوات، واقترفوا المحرمات، وملئوا آذانهم بالأغاني والشهوات، وماتوا دون إعلان التوبة وإظهار المسكنة والاستغفار لله، وقد قال الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:5 - 6]، وقال الله: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22].
فاتقوا الله -عباد الله- واتخذوا الشيطان عدواً كما قال الله تبارك وتعالى: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا))، وهل من المعقول أن نصاحب الأعداء؟! وهل من المعقول أن نسمع كلام العدو؟! فاتقوا الله عباد الله! قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمني وإياكم من الشيطان، وأن يجعلنا هداة مهتدين، لا ضالين ولا مضلين.
اللهم إنا نعوذ بك من همزات الشيطان، ونعوذ بك ربنا أن يحضرون.
اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا، ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا.
اللهم اجعلنا من الذين هم على صلاتهم دائمون، ومن الذين هم على صلاتهم يحافظون، ومن الذين هم في صلاتهم خاشعون.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم احفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يقاتلون من أجل إعلاء كلمة دينك، اللهم انصرهم في كل مكان، في فلسطين والشيشان، وفي العراق وأفغانستان، اللهم كن لهم عوناً وظهيراً ومؤيداً ونصيراً، وانصر من نصرهم، واخذل من خذلهم، وقوَّ عزائمهم، واربط على قلوبهم.
اللهم اكبت عدوك وعدونا من اليهود والنصارى والمنافقين يا عليم يا خبير يا قوي يا عزيز! عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم.(70/7)
ولا تهنوا ولا تحزنوا
على الأمة المسلمة أن تستمسك بدينها وتقوي إيمانها؛ حتى تستعيد به كرامتها المفقودة، وتعود إليها قيادة البشرية، وقد تبين لنا من خلال غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم أسباب النصر والهزيمة، ففي بدر كان الهدف والرأي واحداً وهو طلب مرضاة الله، فتحقق النصر، وفي أحد حصلت الهزيمة بسبب المعصية وحب الدنيا والتنازع عليها.(71/1)
دروس من غزوة أحد
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر الأحبة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حياكم الله وبياكم، وسدد على طريق الخير خطاكم، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعنا في دار كرامته إخواناً على سرر متقابلين، وأسأله سبحانه أن يحفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلنا هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين.
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار وأنت يا ربنا أولى بذا كرماً شبنا على الرق فاعتقنا من النار قال جل في علاه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
فأمتكم هي خير أمة أخرجت للناس، وقد تكفل الله ألا تهزم هذه الأمة ولا تغلب، وأنها ظاهرة على الأمم كلها ما ابتغت إلى الله سبيلاً، وما سارت على طريق نبيها وطريق أصحابه، فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا على خطاهم سائرين.
عنوان هذا اللقاء هو: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} [آل عمران:139] أي: بشرط أن تحققوا الإيمان بالله رب العالمين، ولذا قال: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139].
فبالإيمان تنال العزة والنصر والتمكين، وبالإيمان يكون الثبات، وبالإيمان تنال ولاية الله جل في علاه، فلا عزة إلا بالإيمان، وحيث لا يوجد الإيمان فلا مكان للعزة.
وقد واسى الله محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه بهذه الآية الكريمة فقال: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} [آل عمران:1439 - 140] أي: يوم أحد، {فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران:140] أي: في يوم بدر، {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] لحكمة إلهية ربانية عظيمة، {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:140 - 142]، فلا تظن أن الجنة رخيصة، بل الجنة غالية، وطريقها صعب وشاق، فمن أرادها فليقدم الثمن.(71/2)
حكمة الله من هزيمة المسلمين يوم أحد
ما حدث من أحداث يوم أحد كان لحكم أرادها الله، منها: تمييز الخبيث من الطيب، فما أكثر الذين ينتمون إلى الصف حين الانتصار! فيوم أن انتصر المسلمون في بدر التحق بالصف من ليس منهم، فهؤلاء يعرفون حين تنقلب الموازين.
ثم إن الله أعد للمؤمنين في جنات النعيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولن يصلوا إلى ذلك إلا بالامتحان والابتلاء العظيم، قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142].
ثم من حِكَم الله جلَّ في علاه فيما حدث في ذلك اليوم العظيم: أن يبين للأمة من أقصاها إلى أدناها أن النصر ليس بوجود محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144 - 145].
ثم بين أن هذه سنة لا تتغير ولا تتبدل فقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:146 - 147].
وعبودية الله لا بد أن تكون في السراء وفي الضراء، أما في الرخاء والسراء فالكل يدعي ذلك، فكان لا بد من إظهار العبودية في الشدة حتى يتميز الخبيث من الطيب.
وفي ذلك اليوم العظيم -يوم بدر- ذاق المسلمون طعم الانتصار، وفرحوا بذلك، وذكرهم الله بتلك النعمة العظيمة وبذلك الفضل الكبير فقال: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران:123] أي: قلة قليلة مستضعفة تخافون أن يتخطفكم الناس {فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران:123].
ثم في يوم أحد ذاق المسلمون مرارة الهزيمة لحكمة أرادها الله؛ وذلك حتى يعرفوا النصر ويأخذوا بأسبابه، وحتى يعرفوا الهزيمة ويتجنبوا أسبابها.(71/3)
من أسباب الهزيمة يوم أحد
إن اختلاف الرأي والنزاع وعدم السمع والطاعة، والذنوب والمعاصي، هي من أسباب الهزيمة، ففي يوم بدر كان الصف واحداً، وكانت الكلمة واحدة، وكانت النية صالحة، فلم تدخل الدنيا في القلوب فانتصرت القلة القليلة، لكن في يوم أحد اختلف الأمر تماماً، فقد جهزت قريش في ذلك اليوم ما لم تجهزه من قبل، بل أرسلت شعراءها يطوفون بين القبائل حتى يجمعوا المتطوعين لقتال محمد وأصحابه، فكان عندهم دافع قوي للقتال، فقد كانوا يريدون الثأر والانتقام، فما وقع عليهم يوم بدر لم يكن بالشيء القليل، فقد قتل كبراؤهم وأمراؤهم وساداتهم، وأثخن فيهم المسلمون الجراح، ونكلوا بهم تنكيلاً، حتى خرجوا من أرض المعركة يجرون قبل الهزيمة أذيال الذل والانكسار؛ لأنهم خرجوا بطراً ورئاء الناس؛ وليحقق الله للمؤمنين سنته: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249].
فحشدوا في ذلك اليوم أكثر من ثلاثة آلاف مقاتل، ومعهم سبعمائة بعير تنقل عتاد المعركة، وسبعمائة درع كقوة وقائية، وجعلوا ميزانية تلك الحرب هي القافلة التي استنقذت يوم بدر، وكان قوامها أكثر من خمسين ألف دينار ذهب، أي: ما يعادل اليوم أكثر من مليون ريال، وهو مبلغ كبير في ذلك الحين، وضعوا تلك القافلة وقفاً لإعداد الجيش في ذلك اليوم، وخرجوا بثلاثة آلاف، وما خرجت العرب بجيش مثله من قبل، وألبوا القبائل، وطلبوا المتطوعين من هنا ومن هناك، وخرجت النساء معهم يحرضنهم ويبثثن فيهم روح القتال والانتقام، ويذكرنهم بقتلاهم في بدر، والذل والهوان الذي لحقهم في ذلك اليوم.(71/4)
السرية والكتمان في نقل المعلومات والأخبار المهمة
لما علم العباس بالأحداث في مكة -وكان لم يسلم حينها- أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم رسالة عاجلة مع رجل من رجاله الذين يثق فيهم، وكانت المسافة بين مكة والمدينة تقطع في عشرة أيام، فقطعها الرجل في ثلاثة أيام، ثم وصل وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر وسلمه الرسالة، فقرأها أبي بن كعب وفيها أن قريشاً قد أعدت العدة واستعدت لغزو المدينة وهي في الطريق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي: (اكتم الخبر) أي: حتى لا يشيع الخبر قبل اجتماع القوم وأخذ المشورة، وكان سعد بن الربيع في داره، فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم إلى داره وأخبره بالخبر، فقال: والله! يا رسول الله! ما أرى هذا إلا خيراً، قال تعالى: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11] ثم لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من عند سعد قالت امرأة سعد لـ سعد: ماذا قال لك النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا أم لك، وما لك ولهذا؟ لأنه لا يريد أن يشيع الخبر، فقالت: أما والله! فإني قد سمعت الخبر، فأخذها من يدها ولحق النبي صلى الله عليه وسلم بها وقال: يا رسول الله! لقد سمعت كلامنا، حتى إذا فشا الخبر لا تظن أني قد أشعت الخبر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعها وأطلق يدها؛ فإنها مؤمنة).
حتى النساء يتكتمن على أخبار المسلمين، وتعلم أن القضية قضية تكتم وقضية سرية؛ لأن الأمر يعنيها، فهي تشترك معهم في العقيدة والإيمان، وهي تشترك معهم في الهدف وفي المنهج وفي الطريق، ومحمد كما أنه رسول الرجال فهو أيضاً رسول النساء.(71/5)
مشاورة القائد لجنوده
جمع النبي صلى الله عليه وسلم كبار القوم من المهاجرين والأنصار وبدأ الرأي والمشورة بينهم، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إشارة لا أمراً، فقال: (نقاتلهم داخل المدينة) أي نتحصن داخل المدينة -وهو ما يسمى اليوم بقتال الشوارع- لأن ذلك أدعى للتنكيل بالعدو، فالعدو لا يعرف أين المخابئ التي يختبئ بها المسلمون، ثم ستكون هناك فرصة لزيادة العدد، فالنساء سيقاتلن على ظهور البيوت، وسيرمين العدو بالحجارة، وستجتمع الكلمة الواحدة داخل المدينة، فأبى الشباب المتحمس إلا الخروج، ومنهم نفر لم يخرج يوم بدر، فقالوا: يا رسول الله! إنا لندعو الله لمثل هذا اليوم، أي: فكيف يوم أن جاء عدونا نجعلهم يدخلون علينا في دارنا؟! وكان أول المتحمسين أسد الله حمزة فقال: يا رسول الله! والله! لا أطعم طعاماً حتى أناجزهم خارج المدينة، وحمزة رضي الله عنه هو الذي فعل بهم الأفاعيل يوم بدر، وقد كان الفرسان يهابون أن يقفوا أمام حمزة، ولا أحد يستطيع أن يقوم أمام أسد الله، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن رأي الأكثرية هو الخروج وافق على هذا وهو يرى أن المصلحة في البقاء، ووافقه على البقاء رأس الكفر والنفاق عبد الله بن أبي بن سلول؛ لأنه لا يريد الخروج والقتال أصلاً، وهو أجبن من أن يقاتل مع المسلمين، فقاتل الله المنافقين طباعهم لا تتغير في كل حين، وصفاتهم لا تتغير {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47].
فصلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الجمعة ثم دخل إلى داره ولبس لأمته ولبس كامل ثياب الحرب وخرج، فلما رأى الرجال أنهم قد أكرهوا النبي صلى الله عليه وسلم على الخروج قالوا: يا رسول الله! كأننا قد أكرهناك، فاعمل بالرأي الذي تراه، فقال بهمته العالية: (ما كان لنبي أن يضع لأمته حتى يحكم الله بينه وبين عدوه) أي: ما كان لنبي أن يتردد عن قتال أعداء الله بعد أن وضع عدة السلاح؛ وقد عمل ذلك حتى يبين لهم أنه لا تردد في هذا الطريق.(71/6)
مؤامرات المنافقين
خرج الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه ألف من الرجال، وباتوا يوم السبت خارج المدينة، وقبيل الفجر غير النبي صلى الله عليه وسلم من مكانه، ثم صلى الفجر مع أصحابه، وهم بكامل عدتهم الحربية، ثم لما انتهوا من الصلاة بدأت مؤامرة المنافقين، فانسحب ابن سلول بثلاثمائة من الرجال، وكان الهدف من الانسحاب خلخلة الصف، وتفريق كلمة المسلمين، مع أنه قد حانت ساعة الصفر، وما بينهم وبين عدوهم إلا أمتار، وما بينهم وبين عدوهم إلا لحظات حتى يستقبلوهم بالقتال، فاختار عدو الله تلك اللحظة حتى يفعل فعلته، فرجع معه المنافقون وعددهم ثلاثمائة، وقال: استشار الولدان حين أشاروا عليه بالخروج، وأنا أشرت عليه بالبقاء في المدينة ولم يسمع كلامي، وكاد ببلبلته أن يفتن طائفتين من المؤمنين، طائفة من الأوس وطائفة من الخزرج، فقال الله جل في علاه: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:121 - 122] فلولا أن ثبت الله المؤمنين لنكص منهم نفر على أدبارهم، وتوقف النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه بعد هذا الخبر، فكانت ردة فعل المسلمين شديدة، واختلفوا في رأيهم ماذا نصنع بهؤلاء؟ فقالت طائفة: نقتل هؤلاء المنافقين قبل أن يرجعوا إلى المدينة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بل دعوهم) وأنزل الله {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال:23].
وهذه حكمة عسكرية كبيرة؛ لأنه لو تلاحم معهم في الصفوف والكفار على مقربة منهم لاشتعلت النار على المسلمين من كل الجهات.(71/7)
خطة النبي عليه الصلاة والسلام للمعركة
لقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم موازين المعركة: ثلاثة آلاف في الطرف المقابل بكامل العدة والعتاد يفوقون المسلمين في كل شيء إلا في الإيمان والعقيدة، وكفى بهذا فخراً للمسلمين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال:15] فقسم النبي صلى الله عليه وسلم رجاله على حسب ظروف المعركة، فاختار جبل أحد فجعل ظهره إلى الجبل، وقسم الرجال إلى قسمين: راية الأنصار وراية المهاجرين، وقسم راية الأنصار إلى رايتين: أوس وخزرج، ثم جعل خمسين من الرجال على قمة الجبل كقوة رادعة وقوة ضاربة تحمي ظهرهم، وترد الخيل، والخيل لا تستطيع أن تقاوم السهام والنبال.
فوضع القائد خطة كاملة تناسب ظروف المعركة، وقال للخمسين الرجل الذين جعلهم على قمة الجبل بعد أن أمرَّ عليهم عبد الله بن جبير: (لا تنزلوا ولو رأيتمونا تتخطفنا الطير)، وكان للأوامر الصارمة دور في بداية المعركة حيث إن المسلمين انتصروا في البداية بسبب الرماة، ثم كان الرماة أنفسهم هم سبب الهزيمة في النهاية، والسبب كما ذكر الله جل في علاه: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} [آل عمران:152] وهم الذين كانوا على قمة الجبل، قال تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152] وهم الذين كانوا في أرض المعركة.
صف النبي صلى الله عليه وسلم الرجال ثم أخذ يحثهم على القتال، وقال: (إن روح القدس نفث في روعي وقال: إن نفساً لن تموت قبل أن تستوفي رزقها وأجلها، وما من أمر يحبه الله ورسوله إلا أمرتكم به، وما من أمر لا يحبه الله ورسوله إلا نهيتكم عنه، فاتقوا الله واسمعوا وأطيعوا، وأخلصوا جهادكم لله رب العالمين).
ثم جُعلت كلمة السر التي يتعارف بها الرجال في أرض المعركة: (أمت أمت).(71/8)
رفع النبي عليه الصلاة والسلام لهمم المسلمين
قبل المعركة قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى يرفع همة الرجال فقال: (من يأخذ هذا السيف بحقه؟)، فقام كثير من الصحابة، وأبى النبي صلى الله عليه وسلم إعطاءهم، ثم قام أبو دجانة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعنيه، فهو يعرف طبيعة الرجال فقال: (من يأخذه بحقه؟ قال: وما حقه يا رسول الله؟! قال: يضرب به هامات الكفار حتى ينحني، قال: أنا آخذه يا رسول الله)، والقوم يعرفون أبا دجانة، فهو رجل قتال، ورجل إذا ربط العصابة الحمراء على رأسه فإنه يقاتل حتى الموت، فربط العصابة، وأخذ يتبختر بين الصفوف متمايلاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذه مشية يكرهها الله ورسوله إلا في هذا الموطن)؛ لأنها تغيظ الكفار.(71/9)
توزيع القوات العسكرية وتقسيمها
وضع النبي صلى الله عليه وسلم صناديد الرجال في المقدمة، مثل سعد وحمزة وعمر وأبي بكر، وبدأ الكفار يحرض بعضهم بعضاً، والنبي يذكر المسلمين بالله وباليوم الآخر، وشتان بين فئة تقاتل في سبيل الطاغوت وفئة تقاتل في سبيل الله، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76]، ومهما بلغت قوتهم قال تعالى: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] وقال الله: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160]، لكن إن خذلكم {فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ} [آل عمران:160].(71/10)
صور من تضحيات الصحابة يوم أحد
لقد كانت معركة أحد درساً للأمة في جيلها الأول وفي أجيالها المتلاحقة والمتعاقبة حتى يومنا هذا، فبدأ القتال وبدأت تعلو صيحات، وبدأ التكبير يأتي من هنا ومن هناك، وبدأ حمزة يضرب رقاب الرجال، فكان لا يسير بين الصفوف إلا تفرقت الجموع من أمامه.
وأخذ أبو دجانة يضرب بسيف النبي صلى الله عليه وسلم حتى أثخنت فيهم الجراح.
وأما الزبير فصنع العجب العجاب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يراقبه في أرض المعركة وهو يبحث عن حامل راية المشركين طلحة بن أبي طلحة، وراية المعركة هي شعار المعركة لكل فريق، وبنو عبد الدار هم حملة لواء قريش، فتتبعه الزبير، فلما جاءه وهو على بعيره قفز الزبير على ظهر البعير فجلس معه، ثم مسكه من تلابيبه، ورماه على وجهه من ظهر الجمل، ثم دك وجهه وقصم ظهره، ثم اجتز رقبته وأسقط راية الكفار، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وهلل وكبر، وقال: (لكل نبي حواري وحواريي من هذه الأمة الزبير بن العوام).
وبدأت المعركة تسير على النظام الذي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم، وكر الكفار على المسلمين في أول الأمر، فردهم الرماة، وكر خالد وعكرمة اللذان كانا على فرسان مكة، وردهم الرماة مرة ثانية، وكروا ثالثة فردهم الرماة، فكانت الخطة تسير كما ينبغي، والصفوف منظمة، والكلمة مسموعة، والهدف واحد.
وصنع حمزة العجب العجاب، وقتل من فرسانهم، فانهارت عزائمهم، وحمل بنو عبد الدار الراية مرة ثانية فقتل سعد بن أبي وقاص حامل الراية، ثم حملها ثالث فقتلوه، حتى حمل الراية منهم ستة فقتلهم الصحابة جميعاً، وأسقطوا راية الكفار ست مرات ولم تتزعزع راية المسلمين، وبدأ المشركون يفرون من أرض المعركة، وبدأت علامات الهزيمة تظهر عليهم، وبدأت الغنائم تتناثر في أرض المعركة هنا وهناك، حتى أخلى المشركون معسكرهم، وبدءوا يفرون يمنة ويسرة، ثم أتت النقطة التي قلبت موازين المعركة، عندما خولفت الأوامر، فتباً للمعاصي ماذا تصنع! وتباً لمخالفة الأوامر ماذا تصنع!(71/11)
سبب الهزيمة يوم أحد
ما حدث للمسلمين في ذلك اليوم هو بسببين: الأول: مخالفة الأوامر وحب الدنيا، وهذا هو المرض الذي نعاني منه اليوم الذي تداعت علينا فيه الأمم: (قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: أنتم كثير)؛ فهذه الأمة عددها مليار ولكنها لا تملك لنفسها طرف، (أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، وليوشكن الله أن ينزع من صدور أعدائكم المهابة، ويقذف في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهة الموت).
فكم أضلت الدنيا من عابد، وكم قتلت من زاهد، وكم أضعفت من مستقيم، وكم تزينت وكم فعلت.
فقال الرماة: الغنيمة الغنيمة، فدخلت في القلب أثارة من دنيا، قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ * مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:151 - 152]، فقال عبد الله بن جبير: قد سمعتم الأوامر، فلا يتحرك أحد من مكانه، سواء كانت المعركة لنا أو علينا، قالوا: قد حسمت المعركة وفر القوم، فخالفوا الأوامر، ونزلوا ولم يبق إلا قلة قليلة مع عبد الله بن جبير رضي الله عنه وأرضاه، فلما رأى خالد نزول هؤلاء استغلها فرصة، فدار بفرسانه من ناحية الجبل، وكان معه أكثر من مائتي فارس، فهاجموا القلة القليلة التي كانت على ظهر الجبل، فقتلوهم عن آخرهم؛ وبسبب مخالفة الأوامر قتل أكثر من سبعين من الصحابة، وبسبب مخالفة الأوامر كادوا أن يقتلوا النبي صلى الله عليه وسلم، وكادت الأمة أن تخسر نبيها في تلك اللحظات.
وفوجئ المسلمون بالقوم يأتونهم من أمامهم ومن خلفهم، واشتعلت النيران على المسلمين، واختلت الصفوف، فأصبح المسلمون في حيرة من أمرهم، ولم تعد هناك خطة تتبع، وفشلت تلك الخطة التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم، وما فشلت لأنها لم تكن على قدر أرض المعركة، لكن كان فشلها لأن الذين كلفوا بتطبيق تلك الخطة قد خالفوا الأوامر بسبب شيء من حب الدنيا.(71/12)
حال المسلمين حين هجم عليهم الكفار من خلفهم
كان المسلمون في أرض المعركة على ثلاثة أقسام حين داهمهم القوم: يمنة ويسرة، وقلة قليلة كانت حول النبي صلى الله عليه وسلم، وبخبرته صلى الله عليه وسلم العسكرية لم يذهب هو ومن معه إلى جمع الغنائم، بل بقي في مقر القيادة، وهناك قلة أخرى كانت تطارد فلول الكفار هنا وهناك، والأكثرية كانت في معسكر الكفار، وهذه الأكثرية هي التي تكبدت الخسائر كلها.
والذين كانوا في معسكر الكفار أيضاً انقسموا إلى قسمين، وشاع الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، فانهارت العزائم، وخارت القوى، وضعفت الروح، ففريق منهم رجع يجر أذيال الهزيمة إلى المدينة فاستقبلتهم النساء، يقلن لهم: تفرون من الموت في سبيل الله، فقال الرجال للنساء: قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت النساء: موتوا على ما مات عليه محمد صلى الله عليه وسلم، ولا ترجعوا إلينا تجرون أذيال الهزيمة، لضربة بالسيف على عز خير من حياة على ذل، فرجعوا وقاوم الرجال، وفي وسط المعركة تأتيهم الرماح والنبال من كل صوب.(71/13)
سبب شيوع خبر أن النبي قد قتل في أحد
وكيف شاع الخبر أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل؟ لقد كان مصعب بن عمير أكثر الناس شبهاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقتل ابن قمئة مصعباً الشاب الطاهر العفيف الذي كان له دور كبير في دخول الإسلام إلى المدينة، مات مصعب ولم ير عز الإسلام وانتصار المسلمين، وما نقص هذا من أجره شيئاً، لكنه قد فاز، حيث تستقبله الحور العين في جنات النعيم، وعندما قتل الكفار مصعباً وكان شبيهاً بالنبي صلى الله عليه وسلم ظنوا أنهم قد قتلوا محمداً وشاع الخبر يمنة ويسرة، وما كان قد بقي من قوة في المسلمين خار وانهار عند سماع هذا الخبر، فإذا بـ أنس بن النضر الذي كان مع المسلمين في معسكر الكفار يسمع الخبر، فوقف في أرض المعركة يقول: إلى أين يا قوم؟! قالوا: قد مات محمد صلوات ربي وسلامه عليه، قال: إن كان محمد قد مات فرب محمد حي لا يموت، اللهم إني أبرأ إليك مما صنع هؤلاء، وأعتذر إليك مما فعل هؤلاء - يعني المسلمين - ثم انطلق ليقاتل الكفار، فلقيه سعد بن معاذ فقال: إلى أين يا أنس؟! قال: واه لريح الجنة يا سعد! والله إني لأجد ريح الجنة دون أحد، فخرج يقاتل القوم حتى قتل، يقول أنس: والله ما نرى إلا أنه نزل فيه قوله تبارك وتعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23].(71/14)
شجاعة النبي عليه الصلاة والسلام وحكمته عند الهزيمة
أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع أصحابه الذين تبعثروا في أرض المعركة، وأراد أن يبث الروح فيهم مرة ثانية، فأعلن عن مكانه في أرض المعركة معرضاً حياته للخطر، والكفار يريدونه هو- بأبي هو وأمي-، ومع هذا وقف موقف الشجعان، وكان باستطاعته أن ينسحب من أرض المعركة، ويلوذ بظهر الجبل، لكن ما كان له أن يترك الرجال هناك، فأخذ ينادي: (أيها المسلمون! أنا محمد بن عبد الله)، فلما سمعوا صوته ارتفعت العزائم، فقائدهم حي يرزق، وحبيبهم بين أظهرهم يقاتل معهم، فارتفعت عزائم الرجال، فشقوا الصفوف حتى وصلوا إليه صلى الله عليه وسلم، وتكوكبوا من حوله.(71/15)
صور من تضحيات الصحابة في غزوة أحد
لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم هجوم الكفار قال لنفر ممن حوله من شباب الأنصار: (من يردهم عنا وهو رفيقي في الجنة) فتطايرت الكلمات إلى مسامع شباب الأنصار، فتسابقوا حتى قتلوا جميعاً واحداً تلو الآخر وهم ستة من الرجال.
وأما أبو دجانة فقد صنع العجب العجاب، فقد احتضن النبي صلى الله عليه وسلم، وأصبح ظهره ترساً للنبي صلى الله عليه وسلم يقول المؤرخون: إن ظهره أصبح كظهر القنفذ من كثرة الرماح والنبال التي ألقيت على ظهره! ولا زال القوم يقدمون على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (من يردهم وهو رفيقي في الجنة؟)، فقام سعد بن الربيع يوم سمع هذه الكلمات، فالجنة هي التي بايعوا النبي عليه الصلاة والسلام من أجلها، وهاهي الآن تعرض عليهم بأرخص الأثمان.
ياحبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها فرمى بالدرع الذي كان يلبسه؛ لأنه كان يثقله، وانطلق يقاتل حتى قتل.
ولم يشترك من نساء المسلمين في تلك المعركة إلا امرأة، ولكنها بألف رجل، إنها أم عمارة رضي الله عنها وأرضاها، فلما رأت النبي صلى الله عليه وسلم في أرض المعركة قد تكالب عليه الأعداء من يمنة ويسرة رمت القراب التي كانت تسقي بها جرحى المسلمين، وأخذت تدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم يا أختاه! يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عنها: (ما رأيت مثل ما رأيت من أم عمارة في ذلك اليوم! ألتفتُ يمنة وأم عمارة تذود عني، والتفت يسرة وأم عمارة تذود عني)، وقال لها النبي صلى الله عليه وسلم في أرض المعركة: (من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟! سليني يا أم عمارة! قالت: أسألك رفقتك في الجنة يا رسول الله! قال: أنتم رفقائي في الجنة).
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامعُ وجاء أبي بن خلف عدو الله يقول: أين محمد؟ لا حييت إن حييا، فلم يتردد القائد أو يجبن أو يختفي خلف الصفوف، ولكنه أخذ رمحه ووجهه نحو عدو الله فأرداه قتيلاً في أرض المعركة.(71/16)
جراح النبي عليه الصلاة والسلام يوم أحد
في يوم أحد كسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم، وشج رأسه، ودميت قدماه، وقال: (كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم؟!) فقال الله له: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128].
وفي يوم أحد قتل حمزة رضي الله عنه وأرضاه، ولم يقتل وجهاً لوجه، وإنما قتل غدراً وخيانة، وما كان أحد يستطيع أن يواجه حمزة في تلك المواقف، قتله وحشي غدراً بعد أن قيل له: إن قتلته فأنت عتيق حر، فقتله وعاد إلى المعسكر، ولم يقتل أحداً غيره، ولم يفعل شيئاً إلا قتل حمزة.
وجمع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، وبدأ ينسحب بهم إلى ظهر الجبل، ثم بدءوا يلتفون من حوله حتى ظن المشركون أنهم قد حسموا المعركة، فارتقى النبي صلى الله عليه وسلم الجبل هو ومن معه، وخرجوا من أرض القتال لا انهزاماً، ولكن حفاظاً على البقية الباقية، وضبطاً وتنظيماً للصفوف، وفرح الكفار بما قد فعلوا، وظنوا أنهم قد أصابوا من المسلمين وما أصابوا؛ لأن الله وعدهم إحدى الحسنين: الموت أو الشهادة، قال تعالى: {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:52].(71/17)
نهاية معركة أحد
نادى أبو سفيان قائد القوم بأعلى صوته: (أفيكم محمد؟ أفيكم ابن الخطاب؟ أفيكم أبو بكر؟ فقال: اعل هبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: رد عليه يا ابن الخطاب! قال: بل الله أعلى وأجل، قال: الحرب سجال، هذا بيوم بدر، فقال: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار) لذلك قال الله: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران:140].
ثم قال: أفيكم محمد؟ فقال: نعم يا عدو الله! حتى يغيظ الكافر، وكان بإمكان أبي سفيان ومن معه أن يغيروا على المدينة فهي خالية من الرجال، ولكن ألقى الله في قلوبهم الرعب والمدينة خالية من الرجال!(71/18)
من أخبار شهداء أحد
لقد تفقد النبي صلى الله عليه وسلم الشهداء، فنظر إلى حنظلة وقال: (والله الذي لا إله إلا هو إن الملائكة لتغسله بين السماء والأرض!) وسأل زوجه جميلة: ما خبر حنظلة؟ فأخبرتهم أنه دخل عليها في ليلة المعركة، فلما أصبح الصباح سمع منادي الجهاد ينادي، فخرج على جنابته، ولم يكن هناك وقت حتى يغتسل، فغسلته الملائكة بين السماء والأرض! أما عبد الله بن حرام أبو جابر فقال لأم جابر: يا أم جابر! إني أرى أني أقتل، وقال: أوصيك يا جابر! بأخواتك وأمك خيراً، وقتل عبد الله بن حرام مقبلاً غير مدبر، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم جابراً يبكي، فقال: (يا جابر! والله الذي لا إله إلا هو إن الله كلم أباك كفاحاً ليس بينه وبينه ترجمان، وقال: تمن يا عبدي! قال: يا رب! أتمنى أن أرجع فأقتل فيك، قال: إني كتبت عليهم أنهم إليها لا يرجعون، لكن أُحلّ عليك رضواني فلا أسخط عليك أبداً).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يأتيني بخبر سعد بن الربيع؟) فأخذوا يبحثون عنه بين القتلى، فوجدوه في آخر رمق من الحياة، فقال له الذي كان يبحث عنه وهو أبي بن كعب: إن النبي صلى الله عليه وسلم يقرئك السلام ويقول: كيف تجدك يا سعد؟ قال: أقرئ النبي مني السلام وقل له: والله إني لأجد ريح الجنة، ثم وصى بوصية - وهو في آخر رمق من الحياة- فقال: وأقرئ قومي الأنصار مني السلام، وقل لهم: لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى رسول الله وفيكم عين تطرف، ثم فارق الحياة.
وما وصى بمال ولا وصى بعيال، بل وصى بالقضية التي كانت تشغله، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بخبر سعد استعبر ودمعت عيناه، ثم توجه إلى القبلة ورفع يديه إلى السماء وقال: (اللهم الق سعد بن الربيع وأنت عنه راض)، فرحمك الله يا سعد نصحت للإسلام حياً وميتاً.
وأما عمرو بن الجموح فسطر قصة عجيبة في ذلك الموقف، ففي ليلة أحد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريد الخروج، فرده أبناؤه، وقالوا: أنت أعرج من أهل الأعذار، وليس على الأعرج حرج، فقال بنبرة صادقة وعزيمة صادقة: والله لأطأن بعرجتي الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خلوا بينه وبين ما أراد)، وكان له ذلك، فقتل شهيداً في ذلك اليوم.(71/19)
غزوة حمراء الأسد
رجع المسلمون من أحد بجراحات وآلام، وفقدوا من فقدوا، وجرح حبيبهم، وصنع بهم العجب العجاب، فجاءت الأخبار أن أبا سفيان لما قطع نصف الطريق، قيل له: ترجع ولم تستأصل شأفتهم؟ ما صنعتم شيء! محمد حي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر حي، وعمر حي فماذا صنعتم؟ وأين الانتصار الذي حققتموه؟ فأرادوا الرجوع، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر أمر من حضر المعركة أن يستعد للخروج مرة ثانية، ولك أن تتخيل الموقف، هم مليئون بالجراحات وبالهموم، وأصابهم ما أصابهم ذلك اليوم، وقتل منهم من قتل، ومع ذلك قال: (لا يخرج معي إلا من خرج بالأمس)، وخرجوا إلى حمراء الأسد، فأنزل الله فيهم: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:172 - 175].(71/20)
المستقبل لهذا الدين
لقد حصل بمخالفة واحدة ما حصل في يوم أحد، فالمجاهد الذي يجاهد في سبيل الله عنده هدف، والهدف ليس هو الغنيمة، وإنما الهدف أن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، فالمجاهد خرج يطلب الشهادة، ولم يخرج يطلب غنيمة، والغنيمة تأتي تبع في أرض المعركة، فلما جاء حب الدنيا، وخولفت الأوامر حصل ما حصل.
فكم هي الأوامر التي خولفت اليوم؟! وكم هو إقبال الناس على الدنيا اليوم؟! فإنا لله وإنا إليه راجعون، لكن: قال تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]، فبالإيمان سيتحقق النصر والتمكين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره).
ومن فضائل هذه الأمة أن الله يبعث لها على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها، والجهاد ماض حتى تقوم الساعة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تزال طائفة من أمتي منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله، ويقاتل منهم قومٌ الدجالَ).
وما كواكب الشباب التي نراها كل يوم تقبل على طاعة الله، وعلى المساجد، وعلى القرآن قلباً وقالباً إلا دليل على أننا الأعلون ديناً وعقيدة ومنهاجاً وطريقة، ومهما صنعوا فلن يستطيعوا أن يطفئوا نور الله، قال الله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21].
فعلينا أن نستفيد من الدروس الماضية، وأن نزرع الإيمان زرعاً في القلوب، ونسقيه بماء الإخلاص والثقة واليقين، ومهما بلغت قوتهم فإن القوة لله جميعاً، والأمر لله من قبل ومن بعد.
اللهم انصر دينك وكتابك، وسنة نبيك، وعبادك الموحدين.
اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك الموحدين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يقاتلون من أجل إعلاء كلمة دينك.
اللهم صن أعراضهم، واحقن دماءهم، وفك أسرانا وأسراهم.
اللهم سدد رأيهم ورميهم، واكبت عدوك وعدوهم، واشدد وطأتك عليهم فإنهم لا يعجزونك يا قوي يا عزيز! اللهم احفظ شبابنا وشاباتنا ونساءنا وشيبنا وأطفالنا.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً يا رب العالمين! ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.(71/21)
رفقاً بالقوارير
إن العلاقة القائمة بين الرجل والمرأة ستكون أكثر ثباتاً، وأدوم مودةً، وأغزر عطفاً، إذا كانت قائمة على التفاهم والتعاون والتكامل بينهما.
ولن يتأتَّى هذا كله إلا إذا كان الرجل صاحب خلق ودين، وينبغي للرجل أن يعلم أن الزواج هو: مودة ورحمة، وأنه يعيش مع امرأة تسيطر عليها المشاعر والعواطف والأحاسيس، فعليه أن يتودد لها بأجمل العبارات، وأن ينتقي أفضل الألفاظ، وأن يشعرها بعظم قيمتها في حياته، كأن يأخذ مشورتها في بعض الأمور، وأن لا يتعامل معها بجفاء وغلظة، لئلا تستحيل حياتها إلى أشبه ما تكون بالعذاب.(72/1)
الإيمان أساس عمارة البيوت وسعادتها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد: سأل مسلم أحد المجوس: أي امرأة أنكح؟ فقال: ديننا ودين اليهود والنصارى كل له مواصفات في الزوجة، قال: في الجاهلية كانت تنكح للنسب، وعند النصارى تنكح للجمال، وعند اليهود تنكح للمال، ونبيكم ينكح للدين، فاختر أنت، فهذا هو الضابط للمرأة، أن تكون صاحبة خلق ودين.
ونفس الشيء للرجل: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض).
إذا وضعت المرأة في يد الرجل الصالح الأمين، إن أحبها أكرمها، وإن لم يحبها لم يهنها، إما سيمسكها بمعروف، أو سيفارقها بإحسان.
اليوم تحصل إهانات في البيوت وأحوال لا يعلم بها إلا الله، وقد اتصلت بي أحد النساء تقول: يريدون أن يزوجوني من ولد عمي، قلت: هذا أمر طيب وخير وبركة، قالت: لكنه لا يصلي، وأعرف تماماً أنه لا يركع ولا يسجد.
هل يجوز أن نزوج مثل هذا يا إخوان؟! حتى لو كان ولد عمها، أو ولد خالها، أو قريباً من أقاربها، لا يجوز.
لماذا نقدم العادات والتقاليد القبلية البائدة على أوامر الدين؟ هذا هو سبب التأخر والمشاكل التي تحدث في البيوت الآن، فقلت لها: الجئي إلى وليك بعد الله، قالت: لجأت له بعد الله، ولكن للأسف! قال لها: إن شاء الله هدايته تكون على يديك.
تقول: قلت له: وما يدريك لعل انحرافي يكون على يديه هو؟ فأنا أحتاج إلى من يعينني لا أن أعينه.
سبحان الله! البيوت -في بعض الأحيان- إذا لم توضع لها هدفاً منذ بُنيت والله لن تستمر الحياة الزوجية، وإن استمرت فستستمر وفيها أخطاء وملابسات، وفيها أشياء لا يعلم بها إلا الله، إن لم تقم هذه البيوت على قوله تعالى: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، ويضع أصحاب البيوت هذا الهدف نصب أعينهم، ويسعون من أجل تحقيق هذا الهدف، وإلا والله كل البيوت ستتلاعب بها الشياطين صباح مساء.
كتبت إلي إحداهن تقول: تزوجنا منذ سنتين، وكنا في حال لا يعلم بها إلا الله، وكنا لا نصلي إلا نادراً (الزوج والزوجة)، وأصوات الأغاني دائماً تتردد على مسامعنا؛ فبفضل الله وبرحمته اهتدى زوجي إلى طريق الحق والصواب والثبات، وتغيرت أحوالنا تماماً، فاستبدلنا أشرطة الأغاني بأشرطة الحديث والقرآن، وحافظنا على الصلوات والصيام، ولم يكن يقف أمامنا عائقٌ إلا الدش، قاتل الله هذه الأطباق! تقول: اقترحت على زوجي أن يحذف جميع القنوات ويبقي لنا بعض القنوات التي تبث البرامج الدينية، ولكن هذه ليست وسيلة للتخلص، فالقنوات لا تزال موجودة، وكل ما عليك: أن تغير الرقم السري وتفتح التشفير مرة أخرى، فأنت لم تتخلص منها، والشيطان لا يزال يوسوس لك، ويقول لك: غير وافتح وبدل، لكن التخلص من المعصية أن تتخلص منها تماماً وألاَّ تبقي لها أثراً أمامك.
تقول: اقترحت عليه أن يحذف جميع القنوات، ويبقي لنا بعض القنوات التي تبث بعض البرامج الدينية، وانتقلنا إلى بيت ثانٍ بحكم أن البيت الأول لم يكن قريباً من المسجد.
ويوم أن جاءت الهداية وجاءت الاستقامة تغيرت الأحوال، يريدون بيتاً بجوار المسجد وغيروا القنوات، هكذا يصنع الإيمان! لكن حتى الإيمان إذا لم نحفظه فإنه يذهب، الإيمان تارة يرتفع إذا حافظنا على الطاعات، وإذا ارتكبنا المعاصي والمنكرات انخفض، فليس من الصعب أن تصل إلى قمة الجبل، لكن الصعب أن تمكث في القمة، محتمل أن تنزل، لكن إن نزلت وراجعت الحسابات تستطيع أن ترجع مرة ثانية وبسرعة، لكن إذا استمر الانحدار، ولم تراجع الحسابات، ثم إذا التفت إلى القمة فإذا هي بعيدة فالرجوع إليها يكون صعباً؛ لذا من صفات الجادين المحاسبة، ومن صفات الصادق الجاد الذي عنده هدف أنه يجرد حساباته من حين إلى حين، فإذا راجع الحسابات أولاً بأول، فإنه سيرتقي بإيمانه مرة أخرى، وكثير من الناس من ينتكس ثم يهمل نفسه، وفي داخله منادٍ يناديه: ارجع فلا يستجيب، ارجع فلا يستجيب، ثم يأتي في يوم من الأيام يفكر أن يرجع لكن المسافة قد صارت بعيدة، والفجوة صارت سحيقة، لكنه إذا راجع حساباته من أول مرة سيرجع بإذن الله.
تقول: بعد مرور سنة على حالنا هذه صارت لزوجي ظروف عمل، واضطر إلى أن يسافر عدة أشهر، وكان من الصعب أن يتركني وحدي في البيت، بحكم أننا لم نرزق بأطفال، ففكرت في أن أذهب إلى أهلي إلى أن يعود، وبالفعل ذهبت.
ثم صارت ظروف في العمل واختاروا شخصاً آخر، ورجع هو قبل إتمام المهمة، وكان المفروض أننا إذا سافرنا أن نؤثر على الآخرين لا أن يؤثروا علينا.
ومنذ أن سافر انغسلت الأفكار وتغيرت الوجهات، تقول: منذ أن رجع وبعد دخوله البيت بأسبوع أدخل لنا الإنترنت، ونحن لسنا ضد الإنترنت، ففيه خير كثير، لكن نحن ضد الاستخدام السيئ للإنترنت ما وقياساً على الحديث: ما خلا رجل أو امرأة بالإنترنت إلا كان الشيطان ثالثهما، فكم أفسدت الشبكات العنكبوتية؟! وكم دمرت من بيوت؟! وكم من عفيفة أصبحت زانية؟ وكم من شاب مستقيم أصبح من المنحرفين؟ السبب: الاستخدام الخاطئ، وضعف الوازع الديني، وقلة المراقبة في الخلوات، كل ذلك يؤدي بكثير من الشباب إلى الانحرافات نسأل الله العفو والعافية، ارتق بإيمانك، بأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
بعض الشباب تضعه في مكان يؤثر على الجميع، ولله دره ما عندنا من هؤلاء إلا قليل، في أي مكان تضعه فهو يؤثر ولا يتأثر، وبعضهم بمجرد أن ينتقل من بيئة إلى بيئة إذا به يرجع لنا بأفكار أخرى.
أقول: قس مدى حقيقة إيمانك، ليس أمام الناس؛ لأن أمام الناس الكل يتزين، والكل يدعي أمام الناس أنه عابد زاهد، لكن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل يجر أقتابه في النار -نسأل الله العفو والعافية- فيقول له أهل النار: أما كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: بلى، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه.
ومن أشد الناس عذاباً يوم القيامة أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها، قس إيمانك -بارك الله فيك- إذا كنت خلف الجدران أترى سارقاً يسرق والناس يرونه؟ أتراه يزني والأبصار تشاهده؟ أبداً والله، لكن الذي يستشعر عظمة الله، ودعته امرأة ذات حسن وجمال، (وغلقت الأبواب وقالت هيت لك) ماذا قال لها؟! {مَعَاذَ اللَّهِ} [يوسف:23]، يستشعر رقابة الله.
أيها الإخوة! ساعة مع الإنترنت تهدم إيمان سنة، وساعة واحدة فقط أمام صور إباحية ومناظر خليعة تهدم طاعات وقيام ليل وصيام، أي إيمان هذا؟! أي شيء لا ينبني على أساس متين فمصيره إلى الزوال، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة) فيما يظهر للناس لكنه إذا خلا وجلس أمام الإنترنت يتصفح صفحة صفحة، يا ليت أنه يتصفح الطيب، وإنما يتصفح الخبيث، نسأل الله العفو والعافية.
فلماذا تخاطر بدينك؟ أعجبني ذلك الشاب ولله دره، قال: عرضت علي دورة عمل -وكان حديث استقامة، ولم يمض على استقامته إلا شهور- قلت: ما هي الآثار المترتبة على هذه الدورة؟ قال: يا شيخ! الوظيفة ستتغير رأساً على عقب، وراتبي سيتضاعف من ستة آلاف إلى اثني عشر ألفاً، والمميزات التي سأحصل عليها بعد حصولي على الشهادة ستختلف تماماً، لكني أخاف على ديني، ولست أضمن إن ذهبت إلى هناك أني أرجع وأنا ملتزم.
يقول لي ببسيط عبارته: أنا لم أكد أتمكن من الدين وأسلك الطريق المستقيم، حتى أرجع على ما كنت عليه مرة أخرى.
والله لن أقبل هذه الدورة مهما أعطوني، ومهما بينوا لي.
الله أكبر يخاف على ماذا؟ إنه يخاف على دينه، ونحن أيها الإخوة! نجازف بديننا في مثل هذه الأمور وكأن الدين رخيص، وكل مصائب الدنيا تهون إلا مصيبة الدين.
تقول المرأة: منذ رجع أدخل الإنترنت بدون علمي حتى بدون أن يستشيرني، وبدأ يوم بعد يوم يهمل الصلاة، وترك الدروس والمحاضرات نهائياً: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50]، بدل الصلوات وقراءة القرآن صار أمام الشاشات والقنوات والصور الخليعة والصور الإباحية، وصار شغله الشاغل الإنترنت، فيجلس عليه طوال الوقت، وكنت أقوم بالليل ولا أجده بالفراش، وإنما جالساً ساعات وساعات أمام الشاشات والقنوات، ولا يجلس معي، ولا يكلمني إلا إذا احتاج إلى شيء، هاتي لي أو افعلي لي! لكن طالب الحور العين، والذي يتذكر تلك التي لو ضحكت غطى نور وجهها نور الشمس والقمر، يبدل هذا بذاك، بعد ذلك ما هي المتعة أو اللذة المترتبة على هذا؟ أليس النظر إلى المحرمات موت بطيء، ونار تحترق في الداخل، لماذا أخاطر بنفسي؟! أمرنا الله بغض الأبصار لكي يعذبنا؟ أبداً، وإنما أمرنا حتى نرتاح وتطمئن النفوس؛ لأن المعاصي تنكت في القلب، فإذا أطلق النظر، وأطلق السمع، وأطلق الكلام، ماذا بقي؟ سيبدأ يتبع خطوات الشيطان خطوة خطوة.
تقول: لا أذكر أنه كلمني بكلام طيب منذ أن أدخل الإ(72/2)
بعض عيوب المتزوجين
لعلٍّي في عجالة أذكر بعض عيوب المتزوجين.
فبعضهم هاش باش في الشارع، يضحك مع هذا، ويضحك مع ذاك، وإذا دخل إلى بيته لا تكاد تراه يتبسم في وجه أهله! كثير من يظن -نسأل الله العفو والعافية- أنه يوم نقرأ أحاديث السلام، أو أحاديث المصافحة، أو أحاديث الخصومة، أو أحاديث كذا أننا نطبقها على الناس ولا نطبقها على أهلنا (تبسمك في وجه أخيك صدقة)، لكن تبسمك في وجه أهلك أعظم، حين تتصدق على الفقير فالأمر عظيم، لكن حين تتصدق على أهلك الأمر أعظم، حين تصافح فلاناً وفلاناً الأمر عظيم، وتحط خطاياكم، لكن حين تصافح أهلك فالأمر أعظم.
سبحان الله! كثير من النساء يشتكين: ما عرفنا كلام الحب والغرام إلا أيام الملكة، فإذا أخذها في داره ومضى الشهر ثم الشهران فلا تسمع مثل هذا الكلام، كلمة (أحبك) غير موجودة في قاموس كثير من الشباب اليوم.
أقسم بالله العظيم أني خاطبت مجموعة من الشباب يوماً بينما كنا نتبادل أطراف الحديث، قلت: متى آخر مرة قلت لزوجتك: أنا أحبك؟ قال: لماذا أقول لها أصلاً، هي تعلم أني أحبها، أين أثر الكلمة الطيبة؟ اسألها: ألا تريدين أن أقول لك مثل هذا الكلام؟! اتصلت بي امرأة باكية بعد محاضرة من المحاضرات، فقالت: الحمد لله الذي أنقذني! لقد كنت على شفا حفرة من النار وأنا متزوجة، تقول: أقسم بالله العظيم أنه أصبحت لي علاقات هاتفية، ولولا أن الله ستر علي لخرجت معهم.
لكن الحمد لله، الله أنقذني؛ بقي أن تنصحوا أزواجنا بأن يتلطفوا معنا في العبارات، قولوا لأزواجنا: أن يتلطفوا معنا بالعبارات، وأن يقولوا لنا كلاماً فيه حنان ومودة ولطف، لماذا نسمع هذا الكلام من الذئاب؟! أيها الإخوة! المرأة تسيطر عليها المشاعر فهي تحتاج إلى أن تسمع مثل هذا الكلام منك، مثل: أحبك! أودك! أنت أغلى ما عندي! أنت أم عيالي! زوجتي العزيزة! زوجتي الحبيبة! وتعالوا نفتح قاموساً جديداً، ونضع فيه مثل هذه العبارات.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما يدخل على أهله يستاك ويتطيب، واليوم الواحد منا يدخل على أهله وله رائحة كريهة يا إخوان! والله البعض يترفع أن يبتسم، بل إن البعض حين يتكلم عن أمه أو عن أخته أو عن زوجته يقول: المرأة أعزكم الله، فهو إذا تكلم عن المرأة يظن أنها أمر مهان، أبداً إنها مخلوق مكرم من عند الله، بل إن الله قال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ} [البقرة:228]، فوضع لها حقوقاً وواجبات.
ويوم حجة الوداع خصص النبي صلى الله عليه وسلم جزءاً كبيراً من الخطبة في ذلك اليوم العظيم للمرأة، وكان أكثر ما تكلم عن حقوق المرأة، ثم أرشد الأمة فقال: (ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد) لماذا؟ لأن الجاهلية كانت تهين المرأة، ولا تضع لها اعتباراً، وليس لها قيمة، فكانت لا تستشار ولا يؤخذ برأيها، بل كان يتم التعامل معها كمتاع من أمتعة البيت، فجاء الإسلام ليغير هذا المفهوم، فقال: (استوصوا بالنساء خيراً) في آخر وصاياه وهو يودع الحياة.
ثم تأمل في هذه العبارات الجميلة: (رفقاً بالقوارير) واسمع بارك الله فيك! وهو يتلطف مع النساء: (رفقاً بالقوارير) إنه قائد أمة -أيها الإخوة- وعنده تسعة بيوت، ويتعاهد البيوت كل يوم، ويلاطف نساءه التسع، وأنت عندك زوجة واحدة، ولم تستطع أن تلاطفها بالليل وبالنهار، ألست تطالبها بالتزين والزينة أمامك؟ أنا لست أدافع، لكني أرد لكل ذي حق حقه، فعند النساء كثيراً من الأخطاء وسنتكلم في أخطاء النساء، لكن الرجل بيده التغيير يا إخوان! والرجل أكثر صبراً وتحملاً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (استمتعوا بهن على عوج).
والظروف التي تمر بها هي، أو هل تدري ماذا يعني حمل ونفاس؟ والله أحوال لا يعلمها إلا الله، فتخيل وأنت تحمل في يدك قطعة وزنها كيلو واحد، وأنت حامل لها لمدة ساعة أو ساعتين أو ثلاث، فهل تستطيع أن تتحمل؟ وكم ستتعب؟ وكم ستضايقك؟ وتأمل في حملها تسعة أشهر الثلاثة أربعة أو إلى خمسة كيلو في بعض الأحيان، ثم هي تصبر وتتحمل، ثم يأتي من يهينها بعد صبرها وتحملها.
بعض الأزواج يضحك ويتبسم في الشارع، فإذا دخل إلى بيته لا تكاد تسمعه، تقول عائشة: (كان بساماً في بيته يضاحك أهله ويلاعب أهله) بل أصبح تعدد الزوجات اليوم فضيحة من الفضائح، ومصيبة من المصائب في المجتمع الإسلامي، والسبب: الظلم.
إن زواجه صلى الله عليه وسلم من تسع لم يمنعه من أن يعطي كل بيت حقه، بل كان يجمع النساء ويلاعبهن، وقد اجتمعت عنده سودة وعائشة يوماً من الأيام، فأخذ يضاحك هذه ويضاحك هذه حتى قامت عائشة مرة بحريرة ولطخت بها وجه سودة، ولأن سودة امرأة أضعف من عائشة، فمسك النبي صلى الله عليه وسلم بـ عائشة وأخذت سودة تلطخ وجهها.
ويعملن هذا وهن ضرائر! لكن من الذي قام بالمسئولية؟ ومن الذي ألف بين القلوب؟ إنه الرجل، فهو الذي يؤلف بين القلوب.
وأنت عندك امرأة واحدة فاكسب قلبها بارك الله فيك! وأنت إما زوج وإما ستكون زوجاً في القريب العاجل، فتعلم أدب الزواج قبل الزواج.
وبعضهم قد يتزين للناس ولا يتزين لأهله، ويلبس للناس أحسن الثياب، فإذا جاء أمام أهله لبس أرداها.
يقول ابن عباس: والله إني لألبس لها أغلى ثيابي، وإني لأتزين أشد مما هي تتزين لي.
واليوم وقت شاشات ومغريات، والمصيبة العظمى: ضياع الغيرة من قلوب الرجال، فيجلس هو وإياها وهي تشاهد الرجال، وهو يشاهد النساء.
ثق تمام الثقة بأي منظار أنت تنظر للمرأة، بنظرة الإعجاب في طولها! في قوامها! في شعرها! ثق تمام الثقة أنها تنظر للرجال بنفس النظرة.
لما دخل ابن أم مكتوم الأعمى، وكانت حفصة وعائشة جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جلس قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة وحفصة: (انصرفا، فقالتا: يا رسول الله! إنه أعمى، قال: أعمياوان أنتما؟!).
فالمرأة تنظر إلى الرجل بنفس النظرة التي أنت تنظر إلى المرأة، والأدهى والأطم عندما يجلس هو وإياها يشاهدان المصارعة الحرة، فتخيل رجلاً مفتول العضلات! فهم يأتون بأناس مفتولين العضلات كالمنافقين، هيئات وشعور طويلة، وهي تنظر إلى زوجها تقول: الله ابتلاني بهذا، تشاهد رجلاً ذا طول وعرض وعضلات، وشعر طويل وحركات، ثم ماذا يلبس أمامها؟ إنه شبه عار، ثم ترى هذا يكحكح أمامها بسبب الدخان، والسمنة قد أهلكته! لماذا الله أخبرنا أن من كمال نساء الجنة أنهن قاصرات الطرف؟ من كمال جمال المرأة في الجنة أنها قاصرة الطرف لا تنظر إلى أحد من الرجال غير زوجها، وهذا هو المطلوب من المرأة اليوم، أنها لا تلتفت إلى أحد من الرجال غيره.
اسمع هذه دعابة وخذها مني: امرأة تقول: أنام مع زوجي ونضع الشاشات والقنوات معنا في غرفة النوم، وهو يسهر وأنا أنام، وكلما قمت أحسست ببلل على وجهي! وفي اليوم الثاني أجد ثيابي مبللة، ووجهي مبللاً، فقلت: سأنظر ماذا يصنع زوجي؟ ومن أين يأتي هذا البلل؟ فكان الزوج يا إخوان! كلما نظر إلى امرأة على شاشة التلفاز بصق على زوجته.
ولو نمت أنت واستيقظت وهي تشاهد الرجال، والله ستملأ وجهك مثلما ملأْت وجهها.
نعم يا إخوان! الله أمر الرجال بغض الأبصار، وفي المقابل أمر النساء كذلك، هذا يغض البصر، وهذا يغض البصر، حتى لا يسقط كل واحد من عين صاحبه، وحتى لا تسقط زوجتك من عينك، ولا يسقط زوجك أنت من عينك، قال تعالى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72]، {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:74].
لما مات النبي صلى الله عليه وسلم وقرئ على سودة أم المؤمنين رضي الله عنه قول الله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، ما خرجت من بيتها إلا إلى المقبرة، لماذا؟ لأنها قصرت الطرف، ومات حبيبها فما عادت الدنيا تغنيها، فالرجل يحتاط لأهل بيته.
تقول لي إحداهن: له شهر ما يكلمني، ونحن نعرف الحديث الذي فيه: (لا يحل لامرئ مسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) هذه زوجته، تقول: حتى السلام لا يسلم علينا، وبعضهم يهجرها أطول من هذا، وقد تستمر الخصومات في البيوت لأشهر طويلة، نسأل الله العفو العافية.(72/3)
خيركم خيركم لأهله
إننا ندعي أننا أتباع محمد، فكثير ادعوا أنهم يحبونه وأنهم أتباعه، فطلب الله منهم الحجة والبينة، فقال: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]، فصدق المحبة في صدق الاتباع، كيف كان مع أهله؟ يقول صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي).
سئلت عائشة: ماذا يصنع في بيتكم سيد البشر؟ ليس برئيس شركة، ولا أمير دولة، ولا ملك، ولا وزير، لا، بل سيد البشرية كلها، وخير من وطئ الأرض من البشر كلهم، يقال لـ عائشة: ماذا يصنع عندكم؟ فقالت: (كان يقوم خدمتنا فيكنس بيتنا، ويصلح طعامنا، ويغسل ثيابنا).
أسألك بالله متى آخر مرة غسلت الصحون؟! هل هو عيب؟ لماذا نضطر لإحضار خادمات؟ لماذا الرجل لا يتلطف مع زوجته ويقف معها؟ لماذا دائماً نحب الأوامر والنواهي؟ بل إن التربية تبدأ بـ: (جي وهاتي) من ليلة العرس ومن يسيطر من ليلة الدخلة! هذه بنت تعطيها أمها التعاليم، ورجل تعطيه أمه التعليمات والبيانات، فالمرأة قالت لها أمها: من أول ليلة إما أن تركبينه، وإلا ستفقدين السيطرة، فافرضي شخصيتك من أول ليلة، قالت: وماذا أعمل يا أمي؟ قالت: إذا جلستم وغيرتم ثيابكم، وجلستم على فراش الزوجية، ضعي كأساً من الماء بعيداً عنك، فإذا جاء يريد أن يجلس بجوارك، قولي: لو سمحت! هات كأس الماء، أعطيه الأوامر من أول ليلة، وهو أمه قد وصته، فجاءت البنت تطبق الخطة التي علمتها أمها فتزينت وتعطرت وغيرت ثيابها، ثم وضعت كأس الماء وأبعدته يوم جاء وقرب، قالت له: لو سمحت هات كأس الماء، قال: (يلعن أبو وجهك) ولطمها على وجهها، قالت له أمه: أول أمر تعطيك لابد بأن تُجيب عليه بصفعة.
لكن أقول: خير الهدي هدي محمد، فإذا دخل على زوجته في أول ليلة وضع يده على رأسها: (اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلت عليه)، وبعضهم لا يدري لماذا نصنع هذا؟ دخل النبي صلى الله عليه وسلم على إحدى زوجاته وقد كان أهلها أعطوها وصايا؛ لكن وصاياهم لم تكن في محلها، قالوا لها: إذا أردت أن يحبك النبي صلى الله عليه وسلم أول ما ترينه قولي: أعوذ بالله منك، فلما دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وقالت له هذا، قال لها: (لقد عذت بعظيم، الحقي بأهلك).
هي آداب، فإذا اتبعنا الهدي النبوي فإن البركة تحل من أول ليلة، والهدي النبوي أولاً يكون في الاختيار، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه)، وقال: (تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس)، وقال: (إياكم وخضراء الدمن! قيل: وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسنة في المنبت السوء)، نختار، ثم إذا اخترنا نطبق الهدي النبوي، كيف كان في بيته؟ قالت عائشة: (كان يخدمنا فيغسل ثيابنا، ويصلح طعامنا، حتى إذا سمع النداء كأنه لا يعرفنا).
لبعض سبحان الله! إحساس يعرف متى يلاطف أهله؟ ومتى يتجنب ذلك؟ ويعرف ساعات غضبهم، ويعرف ساعات انفعالهم، ويراعي مثل هذا، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (والله يا عائشة! إني لأعرف غضبك ورضاك قالت: كيف يا رسول الله؟ قال: إذا غضبت تهجرين اسمي، فبدل ما تقولين: والذي بعث محمداً بالحق، تقولين: والذي بعث إبراهيم بالحق -وهي صادقة إبراهيم مبعوث بالحق- فتقول: أجل يا رسول الله لا أهجر إلا اسمك)، فهو يعرف أن زوجته غاضبة عندما تهجر اسمه.
وبعضهم إذا قيل له: راض زوجتك، يقول: دعها تنفجر، لماذا لا تنفجر؟ انفجر أنت والله، هي دم ولحم ومشاعر، وما أعطيناك إياها لكي تقول: دعها تنفجر، إذا لم يكن عندك استعداد لترضيها فلماذا أخذتها؟ وهل تظن أن الحياة كلها ضحك؟ بل سبحان الله! الحب الحقيقي بعد الغضب في البيوت الصادقة يرجع أحسن مما كان.
البيوت الصادقة تغضب، والغضب مثل الملح في الطعام، ينقي الشوائب، ويطهر البيوت، ويرجعها أحسن مما كانت عليه، اليوم أتباع محمد أبعد ما يكونون عن تطبيق سنة محمد صلى الله عليه وسلم وهديه في الزواج، سب شتم إهانات مقاطعات وحتى الضرب يحصل لأتفه الأسباب، وقلة الغيرة، وشك في كل الأمور، أين نحن من قوله صلى الله عليه وسلم (استوصوا بالنساء خيراً)؟! البيوت اليوم تهدم لأتفه الأسباب، امرأة ضُرِبت، وتشتكي فتقول: ضربني ضرباً حتى أمسكوه، ووصلت إلى درجة تقول: إن عيني عليها سواد، ووجهي كله اخضرار من كثرة الضرب، فهل هذه حلبة ملاكمة؟ وهل أتيت تفتل عضلاتك عليها! وما وجدت إلا هذه الضعيفة تظهر عليها قوتك، لكن ثق تمام الثقة أن الله سيسلط عليك من لا يخافك فيه ولا يرحمك.
أتدري لماذا ضربها؟ ليتهمها بأنها ارتكبت جريمة، قلت: لماذا فعل هذا بك؟ اسمع -بارك الله فيك- حتى تعلم أنه تافه، إن كثيراً من الرجال تافه نسأل الله العفو والعافية، بل قل حقير في بعض الأحيان.
تقول: كان عنده ثوب صوف اشتراه بأربعمائة ريال، وهو يغسل بالبخار، فقال لي: لا تغسليه مع الثياب، تقول: فاختلط مع الثياب فغسلته، فلما رآه كال لي الضرب والسب واللعان بأربعمائة ريال، فكسر رأسي! هذه أم عيالك يا أخي! والمفروض أن تقول لها: فداكِ المال والعيال والحلال لو كنت صادقاً في الحب، أما أن تضربها مثل هذا الضرب فما جاءت بفاحشة مبينة يا إخوان! فهل هذا هدي محمد؟ أم هل هذا هدي القرآن؟ بل إن القرآن في حالة نشوز المرأة وعدم طاعة زوجها، وضع لنا حلولاً، قال تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} [النساء:34] أول حلٍ: الموعظة، ثم قال: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34]، ثم السنة بيَّنت كيف يكون الضرب؟ بأن يكون ضرباً بسيطاً غير مبرح، أي: ضرب تأديب لا ضرب إهانة وإيلام، حتى تراجع حساباتها بارك الله فيك، لكن أن تضرب على ثوب -نسأل الله العفو والعافية- فلا يعقل ذلك.
وحتى الطلاق أصبح اليوم يقع لأتفه الأسباب.
تريد تضحك، اسمع: صلى رجل الفجر ثم عاد -لا أقول إنه مجنون وإنما هو شخص عاقل، لكن في تلك اللحظة ذهب العقل- جاءها وهي جالسة مسرورة تنتظر رجوعه، يضحك وإياها، فقال لها: هل تريدين أن أطلقك؟ قالت: أتحداك، قال لها: أنت طالق.
أقسم بالله يا إخوان! أني أعرفه تمام المعرفة، وأقسم بالله العظيم إنه جاءها وهي تضحك! وهو الآن في ذمة الله، لكن العقول تزيغ يمنة ويسرة! ثم يقول: بعدما قلتها استشعرت ما الذي قلته؟ فجاءني أحد الشباب فقال: أريد أن أتزوج؛ لأني طلقت التي قبل، فقلت له: تريد تتزوج وتطلق، لماذا طلقتها؟ قال: زعلتني!! فثلاثة أمور جدهن جد وهزلهن جد؛ العتاق والطلاق والزواج، فلماذا نتلاعب بمثل هذه الكلمة؟ يقول: أنا كنت غاضب، وهل يطلق واحد وهو يضحك؟ هل يطلق وهو بيده كأس شاي وهو يضحك، ويقول لها: أنت طالق، إلا أخونا هذا صاحب صلاة الفجر.
امرأة قالت لزوجها: أنا سأشتري خيلاً من تبوك، قال لها: والله لن يركبها أحدٌ سواي، قالت: والله لن تركبها -لاحظ أن الخيل ليست موجودةً- قال: علي الطلاق، والله أنت طالق.
أين الخيل؟ إنها غير موجودة، وطلقت المرأة على أسباب تافهة، وهذا يحدث كثيراً، فتُهدم البيوت على أتفه من هذه الأسباب.
ولاحظ أنه من شدة الكلمة ومن ثقل الكلمة ترتبط أسرة بكلمة، بل بكلمة تدخل الجنة أو بكلمة تدخل النار.
وهذا حتى تعرف مسئولية الكلمة إن لم تكن أهلاً لها فلا تجني على الآخرين.
من المتضرر إذا طلقت النساء؟ إنهم الأطفال.
ليتنا نستشعر مسئولية الآخرين، ثم على فرض أنها وصلت الأمور إلى نقطة مسدودة تسمى الطلاق، ما تلاحظون يا إخوان؟! إن العلاقات بين الأسر تنقلب عداوات؛ بل بعضهم لو طُلقت أخته -وهو متزوج أخت المطلق- لطلق زوجته، لأن أخته طُلقت يقول الله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، هو مع هذه وصل إلى درجة لا يستطيع العيش معها، فتأخذهم نعرات الجاهلية والقبلية، ويطلقون الفتيات بسبب أن هذا طلق هذه، يا إخوان! هذا لا يجوز، لا في عرف ولا في شرع ولا في كتاب أنزله الله.
لابد أن نعرف قيمة عقد الزواج وشعار الزوجية حتى نقوم بحقه كما ينبغي؛ نستشيرها -ليس شرطاً أن تأخذ برأيها- لتشعر أن لها مكانة ومنزلة، وأنك ستأخذ برأيها، ووالله إن بعض النساء عندهن من الرأي والمشورة أحسن مما عند كثير من الرجال.
والله إن بعض النساء عندهن من الرأي والمشورة والحكمة والتدبير ما ليس عند كثير من الرجال، أما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستشير نساءه، ولم ينقص من قدره ولا من قيمته؛ لأنه يعرف أن بعض النساء عندهن من الرأي السليم والمشورة الحسنة ما الله به عليم.
أمر أصحابه فقال: (انحروا هديكم واحلقوا رءوسكم)، إنهم أتوا يريدون الطواف والعمرة، منذ أن خرجوا من المدينة وهم في شوق إلى الطواف، وببنود جائرة جارت بها قريش على المسلمين، من هذه البنود: أنهم يرجعون ولا يعتمرون هذه السنة، يرجعون السنة المقبلة وتخلي قريش الحرم، ثم يدخل المسلمون يعتمرون، قالوا: يا رسول الله! كيف نرضى أن نرجع وقد أتينا؟! قال: (أنا رسول الله ولن يخذلني) ثم قال لهم: (انحروا هديكم، واحلقوا رءوسكم) فلم يفعلوا، وليس معصية إنما ظناً منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يرجع عن كلامه، فرجع إلى أم سلمة، وقد كانت رفيقته في تلك الرحلة، قال لها: (هلك المسلمون أقول لهم: افعلوا كذا وكذا وهم لا يفعلون)، قالت: يا رسول الله -اسمع المرأة- اخرج ولا تتكلم وانحر هديك، واحلق رأسك، فخرج بمشورة أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها.
اللهم إنا نسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم احفظنا في ديننا ودنيانا وأهلينا وأموالنا، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم هيئ لهم البطانة الصالحة التي تدلهم على الخير وت(72/4)
الجود والشح والكرم
إن الجود والكرم من الصفات الحسنة التي حث عليها الإسلام، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود من الريح المرسلة، وكان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وكانت هذه الصفة التي فيه سبباً في إسلام كثير من الناس وفي حسن إسلامهم، وكذلك كان صحابته ومن سار على نهجهم؛ لعلمهم بأن الله يعوضهم خيراً مما تركوه، وقد ذم النبي صلى الله عليه وسلم الشح وجعله من الموبقات.(73/1)
الفرق بين الجود والكرم
الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: أحبتي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني وإياكم في دار كرامته، وأن يجعلنا هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين، اللهم فرج هم المهمومين، واكشف كرب المكروبين واقض الدين عن المدينين، ودل الحيارى واهد الضالين، واغفر للأحياء وللميتين.
إن ديننا يحث على التكافل والترابط والتآخي والتماسك، يحثنا على مكارم الأخلاق، وعلى نبذ كل ما لا يرضي الله عنا، فمن صفات المؤمنين الصادقين: البذل والجود والكرم والتضحية والعطاء والإيثار إلى غير ذلك من الصفات.
ومن صفات المنافقين: الشح والبخل والحقد والحسد والبغضاء، فميزنا الله عن أولئك المنافقين بالبذل والتضحية والعطاء.
وإن من أسماء الله جل في علاه: الغني، الكريم، الجواد، المعطي وكل هذه الأسماء آثارها لا بد أن تظهر في حياتنا، فديننا يحثنا على مثل هذا سأجمع في موضوعنا الكلام عن الجود والشح والكرم.
فإن قلنا: الجود والكرم، فالجود هو بذل المعروف لمن تعرف ولمن لا تعرف، وأما الكرم فلا يكون إلا في إقراء الضيوف، لذلك كان الجود أعظم من الكرم، وإن كان للكرم دور عظيم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)، فنكرمه نحن على كل حال من الأحوال، لكن من الذي سيعطي المحتاج الذي نعرفه والذي لا نعرفه؟ من سيسد حاجة اليتيم والأرملة والفقير؟ وعلى أكتاف من ستقوم أعمال البر والخير؟ وعلى أكتاف من ستبنى المساجد والمدارس ودور الرعاية؟ هذه كلها لا تقوم إلا على أكتاف المنفقين الباذلين المتقين، الذين صدقوا تقواهم بحسن ظنهم بربهم.
وحين أمرنا الله بالمسارعة إلى الجنة بين لنا الطريق، فقال سبحانه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] فمن أول صفات المتقين قال: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ} [آل عمران:134]، أي: في كل الأحوال يعطي، فإن كانت الصدقة من الغني جميلة، فإنها من الفقير أجمل، ومن صفاتهم قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]، فهذه الصفات كلها يعود نفعها على الآخرين؛ لذلك فالأعمال التي نعملها إما أعمال قاصرة أو أعمال متعدية.
فالأعمال القاصرة هي التي يقصر نفعها على الشخص، كقراءة القرآن والتسبيح والتهليل والتكبير والصلوات فرضاً أو نافلة فالمردود له، فهذه أعمال قاصرة.
والأعمال المتعدية أعظم أجراً عند الله، يقول ابن عمر: لأن أسير في حاجة أخي أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد.
وبين الله عظم أجر الذين يسعون في الخير فقال سبحانه: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114]؛ فإن هذه الأعمال كلها يعود نفعها على الآخرين، فقوله تعالى: ((إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ)) أي: أعطاها، وقوله: ((أَوْ مَعْرُوفٍ)) أي: أحسن إلى الآخرين، أو أصلح ذات البين، فهذه أعظم الأعمال عند الله جل في علاه.
ثم قال تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114]، أي: من يتصدق ويصلح ويبذل المعروف ابتغاء وجه الله: {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114].(73/2)
صفة الجود ومعناها لغة واصطلاحاً
فإذا قلنا: الجود، فالجود أعظم وأعم من الكرم، وضده: الشح والبخل أعاذنا الله وإياكم منهما.
والجود لغة: من جاد يجود، وكلمة جود تدل على التسامح بالشيء وكثرة العطاء، فهو يعطيه ونفسه راضية ومطمئنة، ثم لا يعطي اليوم ويمسك أياماً، بل هو دائماً كلما تيسر له البذل والعطاء أعطى، ولا يؤجل ولا يسوف أبداً، بل كل ما حانت الفرصة بحث عن الفقير والمحتاج.
والجود اصطلاحاً كما قال الزبيدي: الجواد هو الذي يعطى بلا مسألة؛ صيانة للآخذ من ذل السؤال.
فمن الصعب أن تسأل الناس، حتى ولو كان هذا الذي تسأله أخاك فإن في السؤال مذلة لا يعلمها إلا الله، لكن الحاجة هي التي تدفع الناس إلى السؤال، يقول ابن عمر: أحب الناس إلي من بات وعليه هم ولم يجد أحداً يرمي بهمه عليه إلا أنا.
أي: أحب الناس إلي ذاك الذي بات مهموماً، إما بدين أو بهم أو بغم، أو بأي حاجة من الحوائج، ثم لم يجد من يرمي بهمه عليه إلا أنا، قال: هذا أحب الناس إلي، ما جاءني إلا ثقة ومحبة في.
فالجود اصطلاحاً: قال الزبيدي: الجواد هو الذي يعطي بلا مسألة؛ صيانة للآخذ من ذل السؤال، قال الشاعر: وما الجود من يعطي إذا ما سألته ولكن الجود من يعطي بغير سؤال وورد حديث عند البخاري ومسلم عن أنس قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس وأشجع الناس، قال: فزع أهل المدينة ليلة سمعوا هيعة في ناحية من نواحي المدينة، فأسرع الناس إلى ذلك المكان قبل الصوت، فتلقاهم النبي صلى الله عليه وسلم راجعاً على فرس لـ أبي طلحة عري، فقال: لن تراعوا) أي: ليس عليكم بأس، فما نام وتركهم يخافون، بل كان دائماً في قضاء حوائجهم.
تقول عائشة رضي الله عنها: (في آخر حياته كان يصلي جالساً من كثرة ما حطمه الناس)، فهو في حوائج الناس يمنة وغفوة وصباحاً ومساءً، تقول عائشة: (حتى كانت الصبية الصغيرة تأخذه من يده حتى يقضي حاجتها) فهو الذي علمنا فقال: (أنفع الناس أنفعهم للناس) فإذا تماسك الناس فيما بينهم أصبح المجتمع مترابطاً متماسكاً يخاف على بعضه البعض، فكيف أنتم بجار ينام وجاره ليس عنده ما يملأ بطنه؟ أي جار هذا! بأبي أنت وأمي يا رسول الله، من لي بمشيك المدلل تسير بالهون وتأتي في الأول.
يقول عنه جابر: (ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فقال: لا)، لولا التشهد لكانت لاؤه نعم، وقد لبس مرة رداءً جاءوا به هدية له صلى الله عليه وسلم، فرآه أعرابي فقال: يا محمد! أعطني هذا، فخلعه في الحال، ولم يكن عنده غيره.
قال الحسن البصري: الجود بذل المجهود في بذل الموجود، أي: الجود بالموجود الذي عندك بدون تكلف، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فهذا عنده مائة ألف فأخرج ألفاً، وهذا عنده مائة ريال وأخرج عشرة ريالات، فهي تعني الشيء الكثير.(73/3)
جود الصحابة وإيثارهم على أنفسهم
واسمع خبراً من الأخبار حتى تعلم أن أثر الجود والكرم يبلغ السماوات السبع، وأريدك وأنت تسمع أن تقول بعدها: سبحان الله! كيف وصلوا إلى هذه الدرجة من البذل والعطاء؟ ولا عجب في ذلك، فالقرآن زكى أولئك الرجال والنساء.
جاء عند البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود -يعني: أصابني جوع وعطش وحاجة لا يعلم بها إلا الله- وأنا ضيف عليك، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض نسائه فقال: عندكم طعام؟ قالت: والذي بعثك بالحق ما عندنا إلا ماء، فبعث إلى البيت الثاني: أعندكم شيء؟ قالت: والذي بعثك بالحق ما عندنا إلا ماء، فطافوا على بيوته التسعة وليس فيها غير الماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: من يضيف ضيف النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله! فأخذه حتى إذا جاء إلى بيته وهو صاحب عيال وأطفال قال لزوجه: ماذا عندك من الطعام؟ قالت: والله ما عندنا إلا قوت العيال، قال: ألهيهم بأي شيء، فإذا ناموا جلسنا أنا وأنت مع الضيف -وكان ذلك قبل نزول آيات الحجاب فإن الضيف كان يجلس مع الرجل وأهل بيته- فقومي فأطفئي السراج، ثم تظاهري بالأكل حتى يشبع الضيف، فجلسوا مع الضيف ثم قامت فأطفأت السراج، ثم تظاهرا بالأكل حتى شبع الضيف ونام الضيف وارتاح، ونام الصغار وأهل البيت على جوعهم؛ إيثاراً للضيف، وليس عندهم شيء إلا ما قدموه، فلما أصبح الصباح وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إن الله قد عجب من صنيعكما مع ضيفكما الليلة) فهم لم يقدموا إلا الموجود، وآثروا الضيف على أنفسهم وعلى صغارهم وعلى فلذات أكبادهم، وهذا هو منتهى البذل والعطاء؛ فقال الله فيهم: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
الله أكبر! أنفق ولا تخش إقلالاً فقد قسمت على العباد من الرحمان أرزاق لا ينفع البخل مع دنيا مضللة ولا يضر مع الإقبال إنفاق(73/4)
عشر خصال تبلغ بالعبد منزلة الأخيار
إن أشرف خصال تبلغ بالعبد منزلة الأخيار عشر خصال، إن طبقناها بلغنا بها منزلة الأخيار.
أولها: كثرة الصدقات، ثانيها: كثرة تلاوة القرآن؛ ليس من رمضان إلى رمضان، فقرآننا يشكو هجراً إلا ممن رحم الله، قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان:30].
ثالثها: كثرة الجلوس مع من يذكرك بالآخرة ويزهدك بالدنيا، وإن مجالسنا اليوم طابعها قيل وقال.
اشترط عمر بن عبد العزيز على جلسائه شروطاً ثلاثة، أولها: لا تتكلموا في الدنيا، ثانيها: لا تغتابوا أحداً في مجلسي، ثالثها: لا تمزحوا في مجلسي أبداً.
فكان حديثهم عن الآخرة: الموت، والحشر، ويوم القيامة، فقُلوبٌ هذا مدار حديثها ستكون قلوباً حية.
فوالله ما قست القلوب وابتعدت إلا بالغيبة وكثرة كلامها عن الدنيا وما فيها.
فالصحابة تعودوا على كثرة الصدقة وكثرة تلاوة القرآن، ومجالسة الذين يذكرون الآخرة ويزهدون في الدنيا، وصلة الأرحام، وعيادة المريض، وقلة مخالطة الأغنياء الذين انشغلوا بالدنيا وما فيها.
قال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131].
رابعها: كثرة التفكر فيما أنت صائر إليه غداً الجنة أو النار.
جاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم، قال: يا إبراهيم مسألة شغلتني بالليل والنهار، قال إبراهيم: اتركني لا تشغلني فإن عندي من المسائل ما الله به عليم، قال: يا إبراهيم ما الذي شغلك؟ قال إبراهيم: ثلاث مسائل شغلتني، الأولى: الله يقول: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] فأنا لا أدري إلى أي الفريقين أكون، ممن تبيض وجوههم أو ممن تسود وجوههم.
الثانية، قوله تعالى: (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [هود:105] وأنا لا أدري من الأشقياء أكون أم من السعداء، فهل فكرت أنت في العاقبة والمآل والمصير؟ الثالثة: الله يقول: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7].
فهؤلاء الصالحون شغلتهم مثل هذه الأمور بالليل والنهار، فالكل يغدو ويروح، ويسعى لفكاك نفسه من عذاب النار والفوز بجنات النعيم.
أصبح النبي يوماً سائلاً أصحابه قبل أن ينتصف النهار، فقال: (من أصبح صائماً اليوم، قال الصديق - ولو لم يسأل ما أجاب- أنا، قال: من تصدق بصدقة؟ قال: أنا، قال: من سار في جنازة؟ قال: أنا، قال: من عاد مريضاً؟ قال: أنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعت مثل هذه الأعمال في رجل إلا دخل الجنة).
وهذه الأعمال سهلة، لكن الموفق من وفقه الله لفعل الطاعات، وصرف عنه الفواحش والمنكرات، فتفكر إلى أين المصير، وأين دارك غداً؟ رابعها: قصر الأمل وكثرة ذكر الموت، فما ألهى الناس وصدهم عن الصدق مع الله إلا طول الأمل، ومن أطال الأمل أساء العمل، قال تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ} [الحجر:3].
وقال الشاعر: يا غافلاً عن العمل وغره طول الأمل الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل كان أحد الصالحين إذا أراد الخروج من المسجد بكى، فقيل له: ما الذي يبكيك؟ قال: أخاف ألا أرجع إليه مرة ثانية.
وآخر يقول: والله ما نمت نومة إلا ظننت أني لا أستيقظ بعدها، وأما نحن فعندنا مخططات لشهور بل لسنوات، سنفعل كذا وكذا، فالأحرى بنا أن نبني على يومنا الحاضر، أما غداً فلا ندري ماذا سيكون فيه؟ خامسها: لزوم الصمت وقلة الكلام.
وما أودى بالناس وكبهم على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم.
فاللسان سلاح ذو حدين، إما أن يرفعك في الجنة درجات، وإما أن يحطك في النار على وجهك دركات.
وفي الحديث أن معاذاً (قال: يا رسول الله! أمآخذون بما نقول؟! قال: ثكلتك أمك يا معاذ، هل يكب الناس على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم).
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يستهن بالكلمة، قالت عائشة كلمة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (والله يا عائشة إنك قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لتغير طعمه)، وذلك أنها قالت: صفية قصيرة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) فإن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب.
وقال آخر: والله ما ندمت على السكوت أبداً، ولكني ندمت على الكلام مرات كثيرة.
فالمسلم لا يندم على السكوت أبداً، إلا إذا سكت عن أمر بالمعروف أو نهي عن المنكر، فهذا شيطان أخرس.
سادسها: التواضع ولبس الدون، وحب الفقراء ومخالطتهم وحب اليتامى والمساكين والمسح على رءوسهم.(73/5)
الجود دليل على كمال الإيمان، وعلى حسن ظن العبد بربه في تعويضه عما أعطى وزيادة حسناته
سابعها: والجود دليل على كمال الإيمان وحكم الإسلام، قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} [البقرة:177]، إلى أن قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177]، فالمتقون من اتصفوا بهذه الصفات.
والجود والبذل والعطاء دليل على حسن الظن بالله، فالله يقول في الحديث القدسي: (أَنفق يا ابن آدم أُنفق عليك) ويقول سبحانه: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39].
فهذا أبو مسلم صحابي جليل أصابته فاقة، والعبد إذا بلغ مرتبة الولاية فليس بمستبعد أن الله يجري على يديه الكرامات، ففي بلاد اليمن أخذوا أبا مسلم ورموه في النار، فلما خمدت النار وجدوا أبا مسلم في النار قائم يصلي، فلما بلغ عمر الخبر، قال: الحمد لله الذي جعل في أمة محمد كإبراهيم عليه السلام، أما قال الله تعالى للنار حين ألقي فيها إبراهيم: {كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69].
خرج أبو مسلم يوماً ثم رجع آتياً إلى أهله يطلب طعاماً، فقالت له امرأته: ما عندنا شيء، فبحثا داخل الدار فما وجدوا إلا ديناراً، فقالت له امرأته: اشترِ لنا بها طحيناً نخبز به خبيزاً، وأعطته وعاء، فخرج بالوعاء ذاهباً إلى السوق ليشتري طحيناً، فإذا بسائل فقير يسأل، وليس عنده إلا هذا الدينار، ولكنه أحسن الظن بالله وأعطاه الدينار لعل الله أن يعوضه خيراً ورجع إلى داره، فمر على مكان نجارة فملأ الوعاء بنشارة النجارة، ثم جاء إلى امرأته وأعطاها الوعاء، وذهب إلى مصلاه يصلي، وبعد فترات قصيرة جاءته امرأته بالخبز حاراً، فقال لها: من أين لنا الطحين؟ قالت: من الذي أتيت به، فجعل يأكل وهو يبكي.
فلما أحسن الظن بالله لم يضيعه الله.
فهذه أخبار ثابتة عنهم، ولما سخروا أنفسهم لله سخر الله لهم كل شيء، فالله لا يعجزه شيء، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
والمطلوب: أننا نحسن الظن بالله، ونعلم أننا إذا أعطينا سيعوضنا سبحانه، فأنت عندما تحسن إلى فلان وفلان من الناس، فإنهم سيردون معروفك، فكيف وأنت تتعامل مع رب العالمين؟ يقول تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261] فمن يعطي الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف غير رب العالمين؟ ومن كرمه على المذنبين والعصاة أن يبدل سيئاتهم إلى حسنات، فأي كرم وجود أعظم من هذا؟ يقول في الحديث القدسي: (أتقرب إليهم بالنعم، ويبتعدون عني بالمعاصي، أخلق ويعبد غيري، أرزق ويشكر غيري، خيري إليهم نازل وشرهم إلي صاعد، ومع هذا أطعمهم وأسقيهم)؛ لأنه غفور حليم كري، فإذا أعطيت فثق تمام الثقة أن الله لن يضيعك.(73/6)
الجود سبب لمحبة الله والناس
وقال: الجود سبب لحب الناس وقربهم من هذا الجواد الكريم، فمن الذي يحب البخيل الذي لا يعطي، وينفر ولا يبشر؟ قال أنس رضي الله عنه: (ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئاً إلا أعطاه، جاءه رجل فأعطاه غنماً ما بين الجبلين، فرجع الرجل إلى قومه فقال: أسلموا؛ فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
قال الشاعر: وكيف تخاف الفقر والله رازقٌ فقد رزق الطير والحوت في البحرِ عليك بتقوى الله إن كنت جاهلاً يأتيك بالأرزاق من حيث لا تدري والجود سبب لرفعة مكانة الجواد في الآخرة وحب الله له.
فمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله: (من تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) وهذا من شدة إخلاصه.
والجود سبب لقلة الأعداء والحساد، وسبب لحسن ثناء الناس، وما أكثر ما يقولون: جزى الله فلاناً خيراً بسبب جوده وفضله وعطائه، وإذا زكى الناس إنساناً فهو على خير عظيم.
(مرت جنازة أمام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما تقولون في هذا؟ فأثنوا عليه ثناءً حسناً، قال: وجبت.
ثم مر آخر، فقال: ماذا تقولون في هذا؟ فذكروه بشر، قال: وجبت.
قالوا: يا رسول الله! قلت: وجبت لهذا ووجبت لذاك؟ قال: ذكرتم هذا بخير فقلت: وجبت له الجنة، وذكرتم ذاك بشر فقلت: وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض والملائكة شهداء الله في السماء).
وليس لنا من الناس إلا الظاهر، ومن الجهل أن يقال: المنفقون سادة الدنيا والأتقياء سادة الآخرة، فإنهم لن يكونوا متقين حتى ينفقوا كما قال الله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] فقد كان من صفات الأبرار الجود والإنفاق، يحبون لإخوانهم ما يحبون لأنفسهم، فانظر كيف كان كل واحد يغار على جاره ويهتم بأمر جاره، يقول عمر: أهدي إلى رجل من أصحاب محمد رأس شاة، فقال: جاري أحوج مني فأهداها إليه، فلا زالوا يتناقلونها من بيت إلى بيت حتى رجعت إلى الأول.
فأي قوم هؤلاء؟! وأي جار هذا الذي ينام قرير العين وجاره لا يجد ما يلبس أو لا يجد ما يأكل ويشرب؟! قال الله عنهم: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]، كانت هذه أخلاقهم وتلك صفاتهم فلا عجب أن يقول الله: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [المائدة:119]، فتأمل الفرق بيننا وبينهم.
كان ابن عمر إذا اشتد عجبه بمال له أنفقه قربة إلى الله، مستحضراً قول الله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]، وكثير من الناس اليوم إذا بليت ثيابه وتقطعت نعاله يعطيها الفقراء والمحتاجين تخلصاً منها، لا بذلاً ولا عطاء، فهذا هو الفرق بيننا وبينهم، فهم يعطون أجود أموالهم وأحسن ثيابهم، ونحن نعطي أدنى ما نملك تخلصاً منها.
فحتى تكون جواداً منفقاً استشعر الأثر والأجر العظيم.(73/7)
عشر خصال في الصدقة
قال الفقيه أبو الليث السمرقندي: عليك بالصدقة والجود بما قل أو كثر، فإن في الصدقة عشر خصال، خمس في الدنيا وخمس في الآخرة، أما الخمس التي في الدنيا.
فأولها: تطهير مال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (ألا إن البيع يحضره اللغو والحلف والكذب فشوبوه بالصدقة) يعني: طهروه بالصدقة.
ثانيها: تطهير البدن والنفس من الذنوب كما قال الله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103].
ثالثها: دفع البلاء ودفع المرض، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (داووا مرضاكم بالصدقة)، فهو أعظم علاج لكل الأمراض، الصدقة يتبعها بالدعاء، فقلما يرد الدعاء بعد الصدقة، ومن منا لا يحزن، ومن منا لا يعرف مهموماً ولا مغموماً ولا مبتلى في بدنه.
وقبل أن تذهب إلى الطبيب، تقرب إلى طبيب الأرض والسماء بالصدقة، فإن الصدقة مرضاة لرب العالمين.
رابعها: إدخال السرور ومواساة المحتاج من غير أن يسألك، فكم من السرور تدخله عليه؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعظم الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم).
خامسها: فيها بركة في المال وسعة الرزق، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96]، وقال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276].
وذُكر أن رجلاً وصل سن التقاعد، فخرج يوماً ليعطى حقوقه من الشركة، وكانت حقوقه نصفها ربا، فأعطي مليوناً؛ لأن حقوقه على مدى ثلاثين أو أربعين سنة خدمة، ثم في المقابل أعطوه مليوناً آخر؛ لأنه استثمر أمواله في الربا، فقيل له: هذه أموال ربوية.
قال: بل هي أموالنا تعبنا فيها وليست ربا، إنكم أنتم الذين تضيقون على الناس، فخرج متقاعداً وأخذ المليونين، ثم بعد أشهر من تقاعده أصيب ابن له بمرض خطير، فلا زال ينقله من بلد إلى آخر حتى فنيت أمواله كلها، وعاد صفر اليدين، قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276].
القضية قضية ثقة برب الأرض والسماوات، فلما سُئلَ هذا المتقاعد عن أمره قال: أما في الماضي فكنا لا نعرف، أما الآن فوالله لا آخذ درهماً حراماً، فترك ملايين لله فعوضه الله خيراً مما ترك.
أما الخمس التي في الآخرة، ونحن والله أحوج ما نكون إليها، وهي: الأولى: أن الصدقة تكون ظلاً لصاحبها في الحر الشديد، ودرجة الحرارة ليست أربعين درجة ولا خمسين ولا ستين، بل تدنو الشمس من رءوس العباد مقدار ميل، فيغرق الناس في عرقهم، فلا ماء يشربون، ولا أكل يأكلون، ولا ظل يستظلون، فترى الذين تصدقوا تحت غمامات صدقاتهم تظللهم في ذلك اليوم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الله يربي لأحدكم الصدقة كما يربي أحدكم فلوه).
فالصدقة تظلله في ذلك اليوم العظيم، ومنهم من يستظل في ظل عرش الرحمن الرحيم؛ بسبب تلك الصدقات وتلك الأعمال التي قربتهم إلى رب الأرض والسموات.
ثم قال: تسهيل الحساب، قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق:7 - 9]، فقد كانت أخبارهم كما قال تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:17 - 19]، فسهل عليهم الحساب في ذلك اليوم.
وجاء في الخبر الصحيح: أن غنياً وفقيراً التقيا عند باب الجنة، فدخل الفقير في الحال، وبقي الغني يحاسب على ماله خمسمائة سنة حتى خاف الفقير عليه، فدخل الغني الجنة بعد خمسمائة سنة من دخول الفقير، فقال له الفقير: خفت عليك فما الذي أخرك؟ قال: أخرني مالي.
وهذا المال حلال، لا ربا فيه ولا غش، ولا أكل أموال الناس بالباطل، لكن كل هذا الحساب هو السؤال فقط: من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟ وهذا الغني طهر المال في الدنيا، وطهر نفسه بالصدقات، لكن لا بد من السؤال والحساب.
فقال الغني: حبسني مالي، حبست محبساً سال مني فيه العرق ما لو أن ألف بعير أكلت من حمض النبات ثم وردت عليه لارتوت.
هذا الحساب على مال حلال ليس فيه ربا ولا سرقات، ولا أكل مالاً بالظلم والعدوان، ولا أكل أموال اليتامى بالباطل، لا افترى على الناس، بل هو حلال أخره خمسمائة سنة، فكيف بالذي أكل مال هذا وسب هذا وشتم هذا وأخذ زوراً وبهتاناً أموال الناس؟ ثم من آثار الصدقة يوم القيامة: أنها تثقل الميزان، قال يحيى بن معاذ: ما أعرف حبة تزن جبال الدنيا إلا حبة الصدقة.
جاءت فقيرة إلى عائشة رضي الله عنها فما وجدت إلا حبة عنب فأعطتها إياها، فاستحقرتها جاريتها، فقالت عائشة التي تعرف عظم الأجر والثواب: إن الله يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:7] وكم من الذرات في حبة العنب.
قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، فالله لا يظلم أحداً، إنما يوفى الناس حسابهم بالعدل والتمام بلا ظلم ولا نقصان.
ثم من آثار الصدقة في ذلك اليوم: الجواز على الصراط، قيل لأحد الصادقين المنفقين: ماذا صنع بك الله؟ قال: وضعت قدماً على الصراط والقدم الأخرى في الجنة.
فلا يعبر الصراط بالطائرات أو بالقطارات أو بالسيارات، بل يعبر الصراط بالأعمال الصالحة، فمنهم من يمر كالريح، ومنهم كالخيل، ومنهم كالبرق، ومنهم من يركض ركضاً، ومنهم من يهرول هرولة، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يحبو حبواً، فناج مخدوش، ومكردس على وجهه في النار: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71]، أي: إلا سيمر على هذا الصراط {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71].
ثم من الذي ينجو؟ قال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم:72] ومن صفاتهم: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:134 - 136].
والطريق سهل على من سهله الله.
ثم من آثار الصدقة: زيادة الدرجات، فمن صلى وصام ليس كمن رقد ونام، ومن قام وصلى وجد واجتهد ليس كمن تكاسل عن العمل، شتان بينهما، قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35]، {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21].
ألا يكفيني ويكفيك أن الصدقة تطفئ غضب الرب، فالأنبياء وأولو العزم يقولون يوم القيامة: (إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) ثم الكل ينادي: نفسي نفسي، نفسي نفسي، وهم أولو العزم من الرسل، خير من صلى وصام وقرأ القرآن وقام، كل يقول: نفسي نفسي نفسي، كيف سيكون مثل حالي وحالكم؟ فلا بد أن نتفكر في المصير والمآل.(73/8)
الصدقة تنجي من عذاب الله سبحانه
قال ابن القيم رحمه الله: فإن الصدقة تفدي من عذاب الله تعالى، فإن ذنوب العبد وخطاياه تقتضي هلاكه فتجيء الصدقة تفديه من العذاب وتفكه منه؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم للنساء يوم العيد: (يا معشر النساء! تصدقن ولو من حليكن فإني رأيتكن أكثر أهل النار)، وفي رواية أخرى قال: (رأيت النار، ورأيت أكثرها النساء)، قال: (يكثرن اللعن ويكفرن العشير).
إذا رأت من الرجل شيئاً تقول: ما رأيت منك خيراً قط، وتنسى بحر الحسنات في سيئة من السيئات، فاتقي الله يا أمة الله، واتصفي واقتدي بـ عائشة وأمهات المؤمنين، أهدى معاوية لـ عائشة ثمانين ألفاً، تقول جاريتها: فما جاء المساء حتى أنفقتها كلها وكانت صائمة رضي الله عنها وأرضاها، فقالت لها جاريتها: هلا أبقيت لنا درهماً نشتري به طعاماً، قالت: لو ذكرتني، فهم إذا وجدوا أبواب الخير والمعروف انفتحت لا يتوانون ولا يتأخرون، بل يسابقون ويسارعون؛ لأن الله هو الذي دعاهم، فينسون أنفسهم عند فعل الخير، فعجب أمرهم.
قال يحيى بن معاذ وكأنه يتكلم عن أهل دنيانا: عجبت من ثلاث: رجل يرائي بعمله مخلوقاً مثله ويترك أن يعمله من أجل الله، ورجل يبخل بماله وربه يستقرضه منه فلا يقرضه إياه، ورجل يرغب في صحبة المخلوقين ومودتهم، ولا يرغب في صحبة الله ومودته.
تباً لهؤلاء ولأمثالهم!(73/9)
قصة أبي الدحداح وزوجه
جاء أبو الدحداح إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يا رسول الله، ملك الملوك يستقرضنا، الغني يستقرض الفقراء، القوي يستقرض الضعفاء، قال: كيف ذلك يا أبا الدحداح؟ قال: الله يقول: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة:245]، قال: (نعم هو يستقرضكم حتى يرفع من درجاتك) فقال: يا رسول الله! أشهدك أن لي بالمدينة حائطاً فيه ستمائة نخلة، وإني أقرضتها الله ورسوله.
يقول علي رضي الله عنه: كان الرجل منا يعمل من مغيب الشمس حتى طلوعها بأجرة تمرة أو تمرتين، فخرج إلى بستانه فإذا بـ أم الدحداح، فجعل يخاطبها شعراً، يقول لها: بيني، أي: أخرجي من الحائط واتركيه.
بيني من الحائط بالوداد فقد مضى قرضاً إلى التنادي أقرضته الله على اعتماد بالطوع لا مَنٌ ولا ارتداد إلا رجاء الضِّعف في المعاد فارتحلي بالنفس والأولاد والبر لا شك فخير زاد قدمه المرء إلى المعاد فأخذت أم الدحداح تخاطبه شعراً وتقول: بشرك الله بخير وفرح مثلك أدى ما لديه ونصح قد نفع الله صغاري ومنح بالعجوة السوداء والتمر الملح والمرء يسعى وله ما قد كدح طول الليالي وعليه ما اجترح وقذفت التمرات وأخذت الصبية الصغار من أيديهم، وخرجت خالية اليدين.
استقرضهم فأقرضوه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ربح البيع أبا الدحداح كم لـ أبي الدحداح من جذع نخل في الجنة رداح)، فلا بد أن نعلم ونتيقن أن المال لن ينفعنا إلا إذا أنفقناه، أما تكديس الأموال وتجميعها فإن الله يقول فيها: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34 - 35].(73/10)
جود عائشة رضي الله عنها
روي عن الصديقة عائشة رضي الله عنها وعن أبيها وعن آل أبي بكر أجمعين (أنهم ذبحوا شاة فوزعتها وجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما بقي من الشاة؟ قالت: ذهب كلها، ولم يبق إلا الكتف، قال: لا يا عائشة! بقيت كلها ولم يذهب إلا الكتف)، ما أنفقت مدخر لها عند الله؛ لذلك قيل: إذا كان عندك تمر فلا تدفنه في الأرض، لكن ادفنه في السماء؛ لأن القلب معلق، فإذا دفن في السماء تذكر قول الله: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22].
قال الحسن: بئس الرفيق الدرهم والدينار لا ينفعانك حتى يفارقانك.
وقال أبو ذر رضي الله عنه: الصلاة عماد الإسلام، والجهاد تمام العمل، والصدقة شيء عجيب، ثم كرره وأعاد قال: الصدقة شيء عجيب.
من عجائبها: قال صلى الله عليه وسلم: (بينما رجل يمشي بفلاة من الأرض فسمع صوتاً في سحابة: اسقي أرض فلان! فاتجهت تلك السحابة فأفرغت ماءها في حرة، فإذا تلك الحجارة مسيل ماء قد استوعبت ذلك الماء كله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: فتتبع الرجل الماء، فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد الله ما اسمك؟ قال: اسمي فلان، قال: إني سمعت صوتاً في السحاب يقول: اسقي حديقة فلان، فماذا تصنع بها حتى يساق إليك هذا، فقال: أما وقد سألت، فإني أنظر إلى ما يخرج من هذه الحديقة، فثلث أنفقه في سبيل الله، وثلث أنفقه على عيالي، وثلث أدخره في الأرض).
فهذا قسم الأموال إلى ثلاثة أقسام فكانت المكافأة من الله ذلك.
قال ابن القيم رحمه الله: وللصدقة تأثير عجيب في دفع البلاء، ولو كنت فاجراً أو ظالماً، بل ربما لو كنت كافراً، حتى الكفار يعلمون أثر الصدقات، فالله يكافئ الكافر في دنياه، قال تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف:20] فلا تقل: إن الكافر لا يكافأ على إحسانه، بل الله كريم، حتى إذا وقفوا أمامه يوم القيامة كافأهم على أتعابهم الحسنة في الدنيا، لا تقل: إن الكافر لا يعمل أعمالاً حسنة، بل يعمل لكنه يكافأ عليها في دنياه، أما في الآخرة فليس لهم في الآخرة نصيب.
قال: هذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم، وأهل الأرض كلهم مقرون بأنهم جربوا ذلك، يقول الشافعي: يا لهف قلبي على مال أجود به على المقلين من أهل المروءات إن اعتذاري إلى من جاء يسألني ما ليس عندي لمن إحدى المصيبات(73/11)
ذم الشح وجعله من السبع الموبقات
وإن عكس الكرم والجود البخل والشح، قال الله: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
وفي حديث جابر قال صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم).
بلْ عدَّ النبي صلى الله عليه وسلم الشح من السبع الموبقات، وفي حديث أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات وعد منها بعد الشرك بالله الشح)، نسأل الله العفو والعافية.
والشح كقطع الأرحام، ويحل الظلم والعدوان، ويجترئ الناس به على المعاصي وفعل السيئات؛ لأن أنفسهم مريضة، ثم إن الشح ينافي الإيمان ويغضب الرحمن، وليس البر أن نشح بما آتانا الله.
ثم الصدقة تطفئ غضب الرب، والشح يغضب الرب، قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الحديد:10].
والكرم والجود لا يكون بالمال فقط، بل بالنفس، وهذا من أعظم الكرم والبذل والجود، ثم الجود بالعلم، ثم الجود بالنفع والجاه، ثم الجود بالعرض.(73/12)
من أخبار البخلاء
نزل رجل على شيخ من أهل مرو وصبي له صغير، وأهل مرو معروف عنهم أنهم أبخل الناس، وفي دمهم البخل يرثونه وراثة، قال: فقلت للصغير: أطعمني من خبزكم، قال: لا تريده مر، اسقني من مائكم، قال: لا تريده مالح، قلت: هات كذا، قال: لا تريده هو كذا، فكلما ذكرت له صنفاً رد علي، فضحك الأب، قال: هذا العلم يجري في عروقهم.
ووقف على أبي الأسود الدؤلي أعرابي وهو يتغدى، والأعرابي يعاني من جوع لا يعلمه إلا الله، فسلم عليه فرد عليه، ثم أقبل على أكله ولم يعزم عليه، فقال الأعرابي لـ أبي الأسود: لقد مررت بأهلك، قال: نعم كانوا في طريقك، قال: أخبروني أن امرأتك حامل، قال: كذلك تركتها، قال: يقولون: لقد ولدت، قال: لا بد لها أن تلد بعد الحمل، قال: يقولون: ولدت غلامين، قال: كذلك كانت أمها، قال: مات واحد منهم، قال: ما كانت تقوى على إرضاع اثنين، قال: مات الآخر، قال: مات حزناً على أخيه، قال: وماتت الأم، قال: حزناً على ولديها، قال: ما أطيب طعامك! قال: لذلك لن آكله إلا وحدي.
وجلس أحد البخلاء مع زوجته على قدر من الطعام فقال: ما أطيب الطعام لولا كثرة الزحام، فقالت امرأته: وأي زحام وما ثم إلا أنا وأنت، قال: كنت أحب أن أكون مع القدر لوحدي.
ومر رجل على رجل من أهل مرو، فبدأ يعرف بنفسه أنا كذا أنا كذا، يعرفه لأنه كان صديقه، قال له: اسمع يا شيخ، والله لو خرجت من جلدك ما عرفتك.
قال أحد البخلاء الأغنياء لخادمه: هات الطعام وأغلق الباب، قال الخادم: لا، أغلق الباب ثم هات الطعام، قال: لماذا؟ قال: تغلق الباب حتى لا يدخل أحد، ثم تأتي بالطعام، قال: اذهب فأنت حر لوجه الله؛ لعلمك بعزائم الأمور.
ومر رجل على رجل له إليه حاجة، فلا زال يكلمه في حاجته ويأتيه يمنة ويسرة، ولكن ليس هناك جدوى، ثم قال له: أين الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة؟ قال: ذهبوا مع الذين لا يسألون الناس إلحافاً.
اللهم أعط نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها، إنك أنت وليها ومولاها، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع هداك يا رب العالمين، اللهم قيض لولاة أمورنا البطانة الصالحة التي تعينهم على الخير إذا فعلوه وتذكرهم به إذا نسوه، واجمع شملنا، ووحد صفنا، وانصر مجاهدينا في كل مكان، وثبت أقدامهم واربط على قلوبهم واجعل الكافرين غنيمة لهم يا رب العالمين.
اللهم انصر من نصرهم، واخذل من خذلهم، اللهم اجمع شملنا، ووحد صفنا، وأعل شأننا، وردنا إليك رداً جميلاً يا رب العالمين.
اللهم من أنفق في سبيلك فضاعف له الحسنات، ومن أمسك اللهم فصحح نواياه، اللهم من بنوا هذا المسجد فبارك لهم في أموالهم وذرياتهم وأزواجهم، واخلفهم في مسجدهم هذا خيراً، وارحم موتانا وموتاهم يا رب العالمين، اللهم من أنفق في سبيلك فأنت الكريم، عاملهم بمنك وكرمك واخلفهم في أموالهم خيراً يا حي يا قيوم.
هذا وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه.(73/13)
أين أنتن من هؤلاء؟
لقد صنع الإسلام من النساء معجزات يعجز عن وصف مواقفهن الخطباء، وما انتكست أمتنا إلا عن طريق انتكاسة النساء في الرذائل والشهوات، ولذا يجب أن نعد النساء الصالحات وأن تقتدي نساؤنا بالمسلمات الأوائل.(74/1)
دوافع الكلام على القدوات من النساء
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر الأحبة رجالاً ونساء! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حيا الله الجميع، وأسال الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعنا وإياكم في دار كرامته وأن يحفظنا وإياكم بحفظه, وأن يستر علينا وإياكم بستره, أساله سبحانه أن يجعلنا هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين.
حديث الليلة خاص إليك أنت.
فأنت مدار الحديث كله، بصلاح المرأة صلاح المجتمع كله, وإذا قامت المرأة بدورها العظيم فإن النصر والتمكين يكون قريباً بإذن الله.
أهلاً بك في لقاء بعنوان: أين أنتن من هؤلاء؟ قبل أن أبدأ أود أن أقول ما الدافع إلى هذا الموضوع؟ أولاً: حاجة المسلمات اليوم إلى القدوة في زمن ضاعت فيه القدوات.
من الدوافع أيضاً: رفع الهمم في زمن ضعفت فيه همم كثيرات.
ثم الواقع الذي نعيشه اليوم من رغبة الناس في الدنيا وعزوفهم عن الآخرة، فكان لا بد من تذكير النفس وتذكير الآخرين والأخريات بأن ما أعد الله للمؤمنين والمؤمنات خير من الدنيا وما فيها.
ثم من الدوافع: أنه من أراد الوصول فعليه بالأصول، ومن سارت على الدرب وصلت بإذن الله.
إننا أيتها الغالية! في أمس الحاجة للنظر في سيرة أولئك الرجال والنساء، إننا أخية! في أمس الحاجة لدراسة سيرة أولئك الرجال والنساء، إننا في أمس الحاجة أن نتأسى بأولئك الرجال والنساء.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: من كان متأسياً فليتأس بمن مات فإن الحي يخشى عليه من الفتنة.
أيتها الغالية! إننا نحتاج إلى أن نصحح المسار ونتخذ من حياة أولئك الرجال والنساء مثالاً لنا، إننا بحاجة إلى القدوة في زمن قلت فيه القدوات، إننا بحاجة أن نتعلم منهم العزة في زمن قل فيه المعتزون والمعتزات، إننا بحاجة إلى أن نتعلم منهم الثبات في زمن قل فيه الثابتون والثابتات.
أما تلاحظين أيتها الغالية! أن المفاهيم قد تغيرت حتى أصبح الممثلون والممثلات والمغنين والمغنيات هم القدوات، كم تصرف الأوقات والأموال لقراءة ومتابعة أولئك الغافلين والغافلات؟! أكرر: نحن بحاجة إلى أن نصحح المسار وأن نعرف من هم القدوات.
سيتكون الموضوع بعد المقدمة التي ذكرناها من: صورة من العزة والثبات.
ثم صورة من حب الله ورسوله.
ثم المحبة ومعناها.
ثم صانعة الأبطال.
ثم المؤمنة والحياء.
ثم نختم بإذن الله.(74/2)
صورة من العزة والثبات
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر الأحبة رجالاً ونساء! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حيا الله الجميع، وأسال الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعنا وإياكم في دار كرامته وأن يحفظنا وإياكم بحفظه, وأن يستر علينا وإياكم بستره, أساله سبحانه أن يجعلنا هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين.
حديث الليلة خاص إليك أنت.
فأنت مدار الحديث كله، بصلاح المرأة صلاح المجتمع كله, وإذا قامت المرأة بدورها العظيم فإن النصر والتمكين يكون قريباً بإذن الله.
أهلاً بك في لقاء بعنوان: أين أنتن من هؤلاء؟ قبل أن أبدأ أود أن أقول ما الدافع إلى هذا الموضوع؟ أولاً: حاجة المسلمات اليوم إلى القدوة في زمن ضاعت فيه القدوات.
من الدوافع أيضاً: رفع الهمم في زمن ضعفت فيه همم كثيرات.
ثم الواقع الذي نعيشه اليوم من رغبة الناس في الدنيا وعزوفهم عن الآخرة، فكان لا بد من تذكير النفس وتذكير الآخرين والأخريات بأن ما أعد الله للمؤمنين والمؤمنات خير من الدنيا وما فيها.
ثم من الدوافع: أنه من أراد الوصول فعليه بالأصول، ومن سارت على الدرب وصلت بإذن الله.
إننا أيتها الغالية! في أمس الحاجة للنظر في سيرة أولئك الرجال والنساء، إننا أخية! في أمس الحاجة لدراسة سيرة أولئك الرجال والنساء، إننا في أمس الحاجة أن نتأسى بأولئك الرجال والنساء.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: من كان متأسياً فليتأس بمن مات فإن الحي يخشى عليه من الفتنة.
أيتها الغالية! إننا نحتاج إلى أن نصحح المسار ونتخذ من حياة أولئك الرجال والنساء مثالاً لنا، إننا بحاجة إلى القدوة في زمن قلت فيه القدوات، إننا بحاجة أن نتعلم منهم العزة في زمن قل فيه المعتزون والمعتزات، إننا بحاجة إلى أن نتعلم منهم الثبات في زمن قل فيه الثابتون والثابتات.
أما تلاحظين أيتها الغالية! أن المفاهيم قد تغيرت حتى أصبح الممثلون والممثلات والمغنين والمغنيات هم القدوات، كم تصرف الأوقات والأموال لقراءة ومتابعة أولئك الغافلين والغافلات؟! أكرر: نحن بحاجة إلى أن نصحح المسار وأن نعرف من هم القدوات.
سيتكون الموضوع بعد المقدمة التي ذكرناها من: صورة من العزة والثبات.
ثم صورة من حب الله ورسوله.
ثم المحبة ومعناها.
ثم صانعة الأبطال.
ثم المؤمنة والحياء.
ثم نختم بإذن الله.(74/3)
غزية بنت حكيم العامرية
أيتها الغالية! هل سمعت عن تلك التي قالت لقومها: إي والله إني على دينه؟! ما شأنها وما قصتها وما خبرها؟ إنها أم شريك إنها غزية بنت جابر بن حكيم القرشية العامرية التي كانت من أوائل من أسلم هي وزوجها، تحكي رضي الله عنها قصة حياتها، حياة الثبات والصبر على دينها رغم التعذيب القاسي.
تقول: جاءني أهل زوجي فقالوا لي: لعلك على دين محمد؟! قلت: إي والله إني لعلى دينه -تأملي نبرة العزة- قالوا: لا جرم! والله لنعذبنك عذاباً شديداً، ثم ارتحلوا بي على جمل هو شر ركابهم وأغلظه، يطعمونني الخبز والعسل ويمنعون عني الماء، حتى إذا انتصف النهار وحميت الشمس نزلوا فضربوا أخبيتهم وتركوني في الشمس قائمة وفعلوا بي ذلك ثلاثة أيام حتى ذهب عقلي وسمعي وبصري، ثم قالوا لي في اليوم الثالث: اتركي دين محمد وما أنت عليه! تقول: قلت في نفسي: ليتهم رجعوا إلى أنفسهم بعدما عاينوا صبري وقد ذهب عقلي وسمعي وبصري لعلهم يرجعون عن غيهم وفعلتهم هذه ويدخلون في دين الله عز وجل الذي تذوقت حلاوته.
نعم أيتها الغالية! إنها امرأة لا تملك من حطام الدنيا شيئاً لتفتدي به نفسها من ذلك العذاب الشديد، ولكنها تمتلك الإيمان الذي خالطت بشاشته القلوب فامتلأت بحب علام الغيوب نعم إن الإيمان هو المحرك الحقيقي لهذا الإنسان.
تقول غزية: وما دريت والله ما يقولون إلا الكلمة بعد الكلمة، كنت أشير بإصبعي إلى السماء -علامة على ثباتها على معرفة الله الواحد الأحد- تقول: فوالله إني لعلى ذلك وقد بلغ مني الجهد، ولكن شاء الله عز وجل أن يلطف بي بعد ذلك البلاء المبين! أما قال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31]، أما قال سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142]؟ تقول: وبينا أنا على تلك الحال إذ وجدت برد دلو على صدري، فأخذته فشربت منه جرعة واحدة ثم انتزع، فنظرت -وهي التي فقدت بصرها- فنظرت فإذا هو معلق بين السماء والأرض فلم أقدر عليه، ثم تدلى ثانية فشربت منه جرعة، ثم تدلى ثالثة فشربت حتى رويت وأرقت على رأسي ووجهي وثيابي.
خرج أهل زوجي ونظروا إلي على تلك الحال وقالوا: من أين لك هذا يا عدوة الله؟! فقلت بكل عزة وثبات: إن عدو الله غيري، إنه من خالف دين الله وعصى أوامره، ثم قلت: أما هذا الذي تسألون عنه فهو من عند الله عز وجل رزق رزقنيه الله الله الذي يجيب المضطر إذا دعاه الله الذي قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186].
قريب أسمع وأجيب، وأعطي البعيد والقريب، وأرزق العدو والحبيب.
قريب أغيث اللهفان، وأشبع الجوعان، وأسقي الظمآن، وأكافئ الإحسان.
قريب عطائي ممنوح، وخيري يغدو ويروح، وبابي مفتوح، وأنا حليم كريم صفوح.
قريب يدعوني الغريق في البحار، والضال في القفار، والمحبوس خلف الأسوار، كما دعاني عبدي في الغار.
قريب فرجي في لمحة البصر، وغوثي في لفتة النظر، المغلوب إذا دعاني انتصر.
سبحانه اطلع فستر، وعلم فغفر، وعبد فشكر، وأوذي فصبر سبحانه لا إله إلا هو.
قالت: قلت: أما هذا الذي تسألون عنه فهو من عند الله عز وجل رزق رزقنيه الله، الله الذي يجيب المضطر إذا دعاه, هنا انطلق أهل زوجي سراعاً إلى قرابهم المملوءة بالماء وإلى أوعيتهم الأخرى يستجلون الخبر فعند القرب والأوعية الخبر اليقين، وجدوها موكوءة لم تحل، فعادوا إليها وقالوا: نشهد بأن ربك هو ربنا وأن الذي رزقك في هذا الموضع بعد أن فعلنا بك ما فعلناه هو الذي شرع هذا الدين العظيم، هو الإله الحق.
ثم أسلموا وهاجروا جميعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثباتها وعزتها وموقفها الشديد، أسلم القوم وظهر لهم الحق.
إنه درس من الثبات، إنه الإيمان الذي جعل المؤمنات كالجبال الراسيات، فلا عذاب ولا تهديد يجعلهن يقدمن أي تنازلات، بل إباء وشموخ وثبات.
أما قال بلال وهو الذي ذاق أمر العذاب لما سئل: كيف تحملت كل هذا العذاب؛ قال: مزجت حلاوة الإيمان بمرارة العذاب فطغت حلاوة الإيمان.
كرر علي حديثهم يا حادي فحديثهم يجلي الفؤاد الصادي(74/4)
المحبة ومفهومها
في الصحيح عن أنس بن مالك قال: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان - وفي رواية: ذاق حلاوة الإيمان - أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار).
أخية! إن الإيمان ليس بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه اللسان وعملت به الجوارح والأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان.
أيتها الغالية! إن الإله هو الذي يألهه العباد حباً وذلاً وخوفاً ورجاءً وتعظيماً وطاعةً له، بمعنى مألوه: وهو الذي تألهه القلوب، أي تحبه وتذل له.(74/5)
صورة من حب الله ورسوله
أيتها الغالية! إن العقول تحكم بوجوب تقديم محبة الله على محبة النفس والأهل والمال والولد وكل ما سواه، وكل من لم يحكم عقلها بهذا فلا تأبه لعقلها، فإن العقل والفطرة والنظر تدعو كلها إلى محبته سبحانه بل إلى توحيده في المحبة، وإنما جاءت الرسل بتقرير ما في الفطر والعقول كما قيل: هب الرسل لم تأت من عنده ولا أخبرت عن جمال الحبيب أليس من الواجب المستحق محبته في اللقاء والمغيب فمن لم يكن عقله آمراً بذا ما له في الحجا من نصيب وإن العقول لتدعو إلى محبة فاطرها من قريب أليست على ذاك مجبولة ومفطورة لا بكسب غريب أليس الجمال حبيب القلوب بذات الجمال وذات القلوب فيا منكراً ذاك والله أنت عين الطريد وعين الحريب ويا من يوسد محبوبه ويرضيه في مشهد أو مغيب حظيت وخابوا فلا تبتئس بكيد العدو وهجر الرقيب اسمعي أمة الله! اسمعي أماه! اسمعي أختاه! عن المحبات الصادقات وتساءلي وقولي: أين نحن من هؤلاء؟ في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فقال: هذه خديجة أتتك ومعها إناء فيه طعام وشراب، فإذا هي أتتك فاقرأ عليها من ربك السلام ومني)، الله أكبر! ربها يقرئها السلام.
نزلت عليه صلى الله عليه وسلم آيات سورة المزمل تأمره بقيام الليل، فقام بأبي هو وأمي وقامت معه خديجة وقام الصحابة اثني عشر شهراً حتى انتفخت أرجلهم، ثم نزل التخفيف لما رأى الله صدقهم فقال سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل:20]، أما قال عنها صلى الله عليه وسلم: (آمنت بي يوم كفر بي الناس, وآوتني يوم طردني الناس, وصدقتني يوم كذبني الناس, وأعطتني مالها يوم حرمني الناس)، فلا عجب أن يقرئها ربها السلام.
القاسم هاهي الصديقة بنت الصديق , المبرأة من فوق سبع سماوات, يقول القاسم: كانت عائشة تصوم الدهر، وقال: كنت إذا غدوت - يعني إذا أصبحت - أبدأ بـ عائشة فأسلم عليها، فغدوت يوماً فإذا هي قائمة تسبح وتقرأ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:27 - 28] فانتظرت حتى مللت الانتظار، فذهبت إلى السوق لحاجتي ثم رجعت فإذا هي في مكانها قائمة تصلي وتبكي وتردد {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ * فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} [الطور:27 - 29].
تأملي يا رعاك الله! إذا كان هذا نهارها فكيف تكون إذا جن عليها الليل؟! فإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم سيد العابدين فـ الصديقة العالمة بليله وقيامه ووتره سيدة المتهجدات {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34].
أما بنت الفاروق حفصة فقال أنس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال جبريل: راجع حفصة فإنها صوامة قوامة).
وقال نافع: ماتت حفصة حتى ما تخطئ.
أخية! من علمت وأيقنت أن آخر العمر إلى اللحد لم تنشغل بتزيين المهد.
سؤال ونحن في هذا المكان: كيف تكون أول ليلة في الزفاف والعرس؟(74/6)
صورة من حب الله ورسوله
اسمعي وقولي: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف:111].
لما أهديت معاذة العدوية إلى زوجها صلة بن أشيم أدخله ابن أخيه الحمام, ثم أدخله بيت مطيباً فيه العروس, فقام يصلي حتى أصبح, وقامت معاذة خلفه فلما أصبح عاتبه ابن أخيه على فعله فقال له: أدخلتني بيتاً أذكرتني به النار, ثم أدخلتني على تلك العروس فتذكرت الجنة, فما زالت فكرتي فيهما حتى أصبحت! لله درهم كم علت بهم هممهم! وأي كلام يترجم أفعالهم؟ امرأة تحيي ليلة بنائها كلها، فما بال النسوة في زماننا؟! بل ما بال الرجال في هذا الزمان؟! أما الخيام فإنها كخيامهم وأرى نساء الحي غير نسائها كانت رحمها الله إذا جاء النهار قالت: هذا يومي الذي أموت فيه فما تنام حتى تمسي, فإذا جاء الليل قالت: هذه ليلتي التي أموت فيها, فلا تنام حتى تصبح.
اسمعي ما قاله ثابت البناني عن خبرها يوم أن بلغها نبأ استشهاد زوجها وابنها، إنها مصيبة عظيمة لكن على المؤمنات أبداً ما تكون، فأتت النساء يواسينها في مصابها فقالت: إن كنتن جئتن لتهنئنني فمرحباً بكن, وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن من حيث أتيتن! الله أكبر ولله درها! أي صنف من النساء هذه التقية النقية؟! لا عجب فهي تلميذة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع يقول الحسن: لما مات زوجها شهيداً لم توسد فراشاً بعده، قالت لابنتها من الرضاعة: والله يا بنية! ما محبتي للبقاء في الدنيا للذيذ عيش, ولا لروح نسيم, وإنما أحب البقاء لأتقرب إلى ربي عز وجل بالوسائل، لعله يجمع بيني وبين أبي الصهباء في الجنة.
تقول عنها عفيرة العابدة: لما احتضرها الموت بكت ثم ضحكت, فقيل لها: مم البكاء ومم الضحك؟ قالت: أما البكاء الذي رأيتم فإني ذكرت مفارقة الصيام, والصلاة, والذكر, فكان البكاء لذلك, وأما الذي رأيتم من تبسمي وضحكي فإني نظرت إلى أبي الصهباء قد أقبل في صحن الدار عليه حلتان خضراوان في نفر والله ما رأيت لهم في الدنيا شبهاً، فضحكت إليه وضحك إلي، ولا أراني أدرك بعد ذلك فرضاً معكم, قالت: فماتت قبل أن يدخل عليها وقت الصلاة التالية.
سبحان الله، بكت! لكن على ماذا بكت؟! بكت على فراق الصيام, والصلاة, والذكر, وأنت أيتها الغالية! على ماذا تبكين؟! ما هي همومك؟! وفيم أحزانك؟! على ماذا تلك الدمعات الغالية؟! من أجل من تذرفينها؟! قوم مضوا كانت الأيام بهم نزه والعيد كالعيد والأوقات أوقات ماتوا وعشنا فهم عاشوا بموتهم ونحن في صور الأحياء أموات(74/7)
المحبة ومعناها
أخية! إن أول علامات الإيمان: هو حب الله جلا وعلا, وحب رسوله صلى الله عليه وسلم, ولما كثر المدعون في المحبة, طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى, قال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]، فتأخر الخلق كلهم وثبت أتباع الحبيب في أفعاله, وأقوله, وأخلاقه.
اسمعي يا رعاك الله! ماذا قالوا عن المحبة التي هي من مقتضى وشروط لا إله إلا الله: قال عبد الله القرشي: المحبة هي أن تهب كلك لمن أحببت, فلا يبقى لك منك شيء.
معنى كلامه أن تهبي إرادتك، وعزمك، وأفعالك، ونفسك، ومالك، ووقتك لمن تحبينه، وتجعليها حبساً ووقفاً في مرضاته ومحابه، فلا تأخذي لنفسك منها إلا ما أعطاك هو, فتأخذيه منه ومن أجله.
قالوا: المحبة: الميل الدائم في القلب الهائم.
وقالوا: المحبة: إيثار المحبوب على جميع المصحوب.
ومن أجمل ما قيل ما ذكره أبو بكر الكتاني قال: جرت مسألة في المحبة بمكة أعزها الله تعالى أيام الموسم, فتكلم الشيوخ في المحبة، وكان الجنيد أصغرهم سناً، فقالوا: هات ما عندك يا عراقي! فأطرق رأسه، ودمعت عيناه, ثم قال: المحب عبد ذاهب عن نفسه متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه، فإن تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله، فهو بالله، ولله، ومع الله.
فبكى الشيوخ وقالوا: ما على هذا مزيد.
المحب الصادق إذا تكلم فمن أجل الله، وإذا سكت فمن أجل الله، وإذا أعطى فمن أجل الله، وإذا منع فمن أجل الله, فهو بالله ولله ومع الله، فبكى الشيوخ وقالوا: ما على هذا مزيد.
ذكر ابن القيم رحمة الله عشرة أمور توصل إلى محبة الله تبارك وتعالى أولها: قراءة القران، والتدبر، والتفهم لمعانيه، وما أريد به.
ثانياً: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض.
ثالثاً: دوام ذكره على كل حال بالقلب واللسان.
رابعاً: إيثار محابه على محابك.
خامساً: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته.
سادساً: مشاهدة بره، وآلائه، وإحسانه، ونعمه الظاهرة والباطنة.
والسابع: - وهو أعجبها كما قال - انكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى.
تاسعها: الخلوة به وقت النزول الإلهي، لمناجاته وتلاوته كتابه، والوقوف بالقلب، والتأدب بأدب العبودية بين يديه.
عاشرها: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم، كما تنتقى أطايب الثمرات.
عاشراً: مباعدته كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل.
وإليك مزيداً من أخبارهم، وقولي وكرري: أين نحن من هؤلاء؟(74/8)
صانعة الأبطال
أيتها الغالية! أماً كنت أم أختاً! على ماذا نربي أبناءنا اليوم؟! ما هي الأمنيات التي نتمناها لهم؟ أما قال سبحانه: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11]، فوصى الآباء بالأبناء، قبل أن يوصي الآباء بالأبناء.
انظري حولك في واقع الأبناء في هذه الأيام لتعرفي مقدار المأساة، أما أولئك كيف ربوا أبنائهم؟ وماذا علموهم؟ وماذا أعدوهم له؟ اسمعي وافتحي القلب قبل أن تفتحي الأذنين.
جاء في السير أنه كان في البصرة نساء عابدات, وكانت منهن أم إبراهيم الهاشمية، فأغار العدو على ثغر من ثغور المسلمين، فانتدب الناس للجهاد، فقام عبد الواحد بن زيد البصري خطيباً، فحضهم على الجهاد، كانت أم إبراهيم هذه حاضرة في مجلسه، وتمادى عبد الواحد في كلامه، ثم وصف الحور العين، وذكر ما قيل فيهن وأنشد في صفة حوراء: غادة ذات دلال ومرح يجد الناعس فيها ما اقترح خلقت من كل شيء حسن طيب فالليت فيها مطرح زانها الله بوجه جمعت فيه أوصاف غريبات الملح وبعين كحلها من غنجها وبخد مسكه فيه رشح ناعم تجري على صفحته نظرة الملك ولألاء الفرح فهاج المجلس وماج الناس بعضهم في بعض واضطربوا، فوثبت أم إبراهيم من وسط الناس وقالت لـ عبد الواحد: يا أبا عبيد! ألست تعرف ولدي إبراهيم؟ ورؤساء أهل البلد يخطبونه على بناته وأنا أضن به عليهم، فلقد والله أعجبتني هذه الجارية، وأنا أرضاها عروساً لولدي، فكرر ما ذكرت من حسنها وجمالها، فأخذ عبد الواحد في وصف الحوراء فأنشد: تولد نور النور من نور وجهها فمازج طيب الطيب من خالص العطر فلو وطئت بالنعل منها على الحصى لأعشبت الأقطار من غير ما قطر ولو شئت عقد الخصر منها عقدت هـ كغصن من الريحان ذي ورق خضر ولو تفلت في البحر شهد رضابها لا طاب لأهل البر شرباً من البحر فاضطرب الناس أكثر مما اضطربوا، فوثبت أم إبراهيم وقالت لـ عبد الواحد: يا أبا عبيد قد والله أعجبتني هذه الجارية وأنا أرضاها عروساً لولدي، فهل لك أن تزوجه منها، وتأخذ مني مهرها عشرة آلاف دينار ويخرج معك إبراهيم في هذه الغزوة، فلعل الله يرزقه الشهادة ويكون شفيعاً لي ولأبيه يوم القيامة.
فقال لها عبد الواحد: لئن فعلت والله لتفوزن أنت وولدك وأبو ولدك, والله لتفوزن فوزاً عظيماً.
فنادت ولدها: يا إبراهيم! فوثب من وسط الناس وقال لها: لبيك يا أماه! قالت: أي بني! أرضيت بهذه الجارية زوجة لك ببذل مهجتك في سبيل الله وترك العودة للذنوب؟ فقال الفتى: إي والله يا أماه! رضيت أي رضاً.
فقالت: اللهم إني أشهدك أني زوجة ولدي هذا من هذه الجارية، ببذل مهجته في سبيلك وترك العودة للذنوب فتقبله هدية مني لك يا أرحم الراحمين.
ثم انصرفت، ثم رجعت فجاءت بعشرة آلاف دينار وقالت: يا أبا عبيد هذا مهر الجارية تجهز به وجهز الغزاة في سبيل الله.
ثم انصرفت فاشترت لولدها فرساً وسلاحاً جيداً، فلما خرج عبد الواحد خرج إبراهيم رغم صغر سنه ,يعدو والقراء حوله يقرءون: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]، فلما أرادت أم إبراهيم فراق ولدها دفعت إليه كفناً وحنوطاً, وقالت له: أي بني! إذا أردت لقاء العدو فتكفن بهذا الكفن, وتحنط بهذا الحنوط, وإياك ثم إياك أن يراك الله مقصراً في سبيله، ثم ضمته إلى صدرها وقبلته بين عينيه، وقالت: يا بني! لا جمع الله بيني وبينك إلا بين يديه في عرصات القيامة.
قال عبد الواحد: فلما بلغنا بلاد العدو وبرز الناس للقتال، برز إبراهيم في المقدمة، فصال وجال، وكر وفر، تارة في الميمنة، وتارة في الميسرة، فقتل من العدو خلقاً عظيماً، ثم اجتمعوا عليه فقتلوه، فلما أردنا الرجوع إلى البصرة قلت لأصحابي: لا تخبروا أم إبراهيم بخبر ولدها حتى ألقاها بحسن العزاء، لأن لا تجزع فيذهب أجرها.
قال: فلما وصلنا البصرة خرج الناس يتلقوننا، وخرجت أم إبراهيم مع من خرج، فلما أبصرتني قالت: يا أبا عبيد هل قبلت مني هديتي فأهنأ، أم ردت علي فأعزى، فقلت لها: قد قلبت والله هديتك، إن إبراهيم حي يرزق مع الشهداء إن شاء الله، فخرت ساجدة لله شكراً وقالت: الحمد لله الذي لم يخيب ظني وتقبل نسكي.
ثم انصرفت.
فلما كان من الغد أتت إلى المسجد فقالت: السلام عليك يا أبا عبيد بشراك بشراك، فقلت: لا زلت مبشرة بالخير فقالت: رأيت البارحة ولدي إبراهيم في روضة حسناء وعليه قبة خضراء، وهو على سرير من اللؤلؤ، وعلى رأسه تاج وإكليل وهو يقول لي: أبشري أماه! فقد قبل المهر وزفت العروس.
تأملي أيتها الغالية! كيف تساهم المرأة المسلمة في إعداد الأبطال! انظري إلى همِّ المرأة المسلمة وهو نصرة الإسلام مهما كان الثمن! انظري إلى الدور العظيم الذي تستطيع أن تقوم به المرأة المسلمة إن هي صلحت أولاً! إن الأمة اليوم في أمس الحاجة إلى مثل هؤلاء الأمهات اللائي يرضعن أبنائهن مع اللبن حب الإسلام والتضحية في سبيله، فهل تكونين تلك المرأة؟ ومن يتهيب صعود الجبال يعيش أبد الدهر بين الحفر كثيرات يدعين المحبة، ولكن شتان بين الصادقين والصادقات، وبين الكاذبين والكاذبات، في المصائب، في الآلام، في المواقف، في الشدائد تظهر معادن الرجال والنساء.(74/9)
صورة من حب نساء الأنصاء للنبي صلى الله عليه وسلم
بعد معركة أحد أشيع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، فخرج النساء يتلقين الجيش العائد من أرض المعركة، والكل يسأل عن أخبار ذلك اليوم العظيم، خرجت من بينهن امرأة.
من الأنصار، خرجت لتستقبل الجيش، خرجت لتطمئن على الحبيب صلى الله عليه وسلم، قيل لها: مات أبوك، فاسترجعت وقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ماذا صنع النبي صلى الله علية وسلم؟ فقيل لها: مات زوجك، فاسترجعت وقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ماذا صنع النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقيل لها: مات أخوك، فاسترجعت وقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ماذا صنع النبي صلى الله علية وسلم؟ فقالوا لها: هو بخير، قالت: والله لا يهدأ لي بال، ولا يقر لي قرار حتى أراه بأم عيني، فلما رأته بكت, وضحكت، وتبسمت، وقالت: كل مصيبة بعدك جلل يا رسول الله، كل فقد غير فقدك يهون يا رسول الله.
هل شاهدت مثل هذا الحب؟! أرأيت كيف هان عندها فقد الأب، والزوج، والأخ؟ إنه الحب الصادق لله ولرسوله، كيف لا تحبه وهو الذي أنقذها الله به من الظلمة إلى النور، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن الجهل إلى العلم، ومن الضلالة إلى الهدى، ومن الشقاء إلى السعادة، ومن النار إلى الجنة.
أنا أعرف أنك تحبينه ولكن ما هو الدليل؟ هل اتبعت سنته؟ هل أخذت بهديه؟ كم تذكرين اسمه وتصلين عليه في اليوم والليلة؟ كم تحفظين من أحاديثه؟ ماذا تعرفين عن سيرته؟ أين أنت من أوامره التي أمر بها؟ وأين أنت من نواهيه التي نهى عنها؟ كم بذلت لنصرة هذا الدين والدعوة إليه.
قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين).
نسينا في ودادك كل غالٍ فأنت اليوم أغلى ما لدينا تسلى الناس بالدنيا وإنا لعمر الله بعدك ما سلينا ولما نلقكم لكن شوقاً يذكرنا فكيف إذا التقينا نلام على محبتكم ويكفي شرفاً نلام ولا علينا إن كان عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا(74/10)
المؤمنة والحياء
بعد معركة أحد أشيع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، فخرج النساء يتلقين الجيش العائد من أرض المعركة، والكل يسأل عن أخبار ذلك اليوم العظيم، خرجت من بينهن امرأة.
من الأنصار، خرجت لتستقبل الجيش، خرجت لتطمئن على الحبيب صلى الله عليه وسلم، قيل لها: مات أبوك، فاسترجعت وقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ماذا صنع النبي صلى الله علية وسلم؟ فقيل لها: مات زوجك، فاسترجعت وقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ماذا صنع النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقيل لها: مات أخوك، فاسترجعت وقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ماذا صنع النبي صلى الله علية وسلم؟ فقالوا لها: هو بخير، قالت: والله لا يهدأ لي بال، ولا يقر لي قرار حتى أراه بأم عيني، فلما رأته بكت, وضحكت، وتبسمت، وقالت: كل مصيبة بعدك جلل يا رسول الله، كل فقد غير فقدك يهون يا رسول الله.
هل شاهدت مثل هذا الحب؟! أرأيت كيف هان عندها فقد الأب، والزوج، والأخ؟ إنه الحب الصادق لله ولرسوله، كيف لا تحبه وهو الذي أنقذها الله به من الظلمة إلى النور، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن الجهل إلى العلم، ومن الضلالة إلى الهدى، ومن الشقاء إلى السعادة، ومن النار إلى الجنة.
أنا أعرف أنك تحبينه ولكن ما هو الدليل؟ هل اتبعت سنته؟ هل أخذت بهديه؟ كم تذكرين اسمه وتصلين عليه في اليوم والليلة؟ كم تحفظين من أحاديثه؟ ماذا تعرفين عن سيرته؟ أين أنت من أوامره التي أمر بها؟ وأين أنت من نواهيه التي نهى عنها؟ كم بذلت لنصرة هذا الدين والدعوة إليه.
قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده، ووالده، والناس أجمعين).
نسينا في ودادك كل غالٍ فأنت اليوم أغلى ما لدينا تسلى الناس بالدنيا وإنا لعمر الله بعدك ما سلينا ولما نلقكم لكن شوقاً يذكرنا فكيف إذا التقينا نلام على محبتكم ويكفي شرفاً نلام ولا علينا إن كان عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا(74/11)
مفهوم الحياء وفضله
أخيراً: إليك هذا الخبر الذي يحمل صفة وخصلة لو حملتها ولبستها لصلحت لك جميع الأمور.
عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحياء لا يأتي إلا بخير) رواه البخاري ومسلم.
وفيهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئاً يكرهه عرفناه في وجهه).
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى، إذا لم تستح فاصنع ما شئت).
قال الجنيد رحمه الله: الحياء رؤية الآلاء ورؤية التقصير فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء.
وحقيقته: خلق يبعث على ترك القبائح ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق.
وقال السري السقطى: إن الحياء والأنس يطرقان القلب، فإن وجدا فيه الزهد والورع وإلا رحلا.
وآخر قال: والله إني لأستحي أن ينظر الله في قلبي وفيه أحد سواه.
وقال الفضيل بن عياض: خمس من علامات الشقوة: قسوة القلب، وجمود العين، وقلة الحياء، والرغبة في الدنيا، وطول الأمل.
وقال يحيى بن معاذ: من استحيا من الله مطيعاً استحى الله منه وهو مذنب.
وقال ابن القيم: من لا حياء فيه فليس معه من الإنسانية إلا اللحم والدم وصورتهما الظاهرة، كما أنه ليس معه من الخير شي.
وقال ابن مسعود: من لا يستحي من الناس لا يستحي من الله.
قيل لـ عمر بن عبد العزيز: إذا ذهب الحياء ذهب نصف الدين، قال: لا.
إذا ذهب الحياء ذهب الدين كله.
إن كان الحياء جميلاً في الرجال فهو في النساء أجمل وأزين، ووالله إذا فقدت المرأة حياءها لباطن الأرض خير لها من ظاهرها، قال الشاعر: إذا لم تخش عاقبة الليالي ولم تستحي فاصنع ما تشاء فلا والله ما في العيش خير ولا الدنيا إذا ذهب الحياء يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء(74/12)
حياء فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم
اسمعي! كيف تضرب سيدة نساء العالمين فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم مثلاً للعفاف والحياء كما ينبغي أن يكون، اسمعيها وهي تقول وتحاور أسماء بنت عميس: يا أسماء إني لأستحى أن أخرج غداً على الرجال من خلال هذا النعش جسمي.
كانت النعوش عبارة عن خشبه مصفحة يوضع عليها الميت ثم يطرح عليه الثوب فيصف حجم الجسم.
خشيت فاطمة رضي الله عنها إذا هي ماتت أن تحمل على مثل هذه النعوش، فيكون ذلك خدشاً لحيائها وحشمتها.
قالت أسماء: أولا نصنع لك شيئاً رأيته في الحبشة؟ فصنعت لها النعش المغطى من جوانبه بما يشبه الصندوق، ثم طرحت عليه ثوباً فكان لا يصف الجسم، فلما رأته فاطمة فرحت به وقالت لـ أسماء: ما أحسن هذا وأجمله، سترك الله كما سترتني! قال ابن عبد البر: هي أول من غطي نعشها في الإسلام على تلك الصفة.
أريت أيتها الغالية وسمعت كيف تحمل المؤمنة هم حيائها وعفافها وحجابها حتى بعد مماتها، تريد أن تعيش عفيفة وتموت عفيفة وتحشر إلى الله وهي عفيفة.
إن الحياء والحجاب عند المؤمنة قضية لا تحتمل النقاش، وهم لا يقبل المساومة، إنه طاعة لله واستجابة لأوامر الله وانقياد لحكمة الله، إنه الثغر الذي تتحصن به المسلمة فلا تتسرب من خلاله رذيلة وفاحشة إلى المجتمع، ولا تستباح محرمات ولا تدنس أعراض، إنه عنوان صلاح المرأة ودليل اعتزازها بدينها وشعارها الذي ترفعه في وجه أعدائها وكل من يخالفها.
اسمعي إلى التي قالت: لست من تأسر الحلي سباقه فكنوزي قلائد القرآن وحجاب الإسلام فوق جبيني هو عندي أبهى من التيجان لست أبغي من الحياة قصوراً فقصوري في خالدات الجنان انظري إلى الواقع من حولك أخية! كيف تتفلت النساء من حيائهن وحجابهن؟ كيف يقلن إن الحياء والحجاب تخلف ورجعية وتقييد للحرية؟ ولكن صدق الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حين قال: (بدأ الدين غريباً، وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء)، قال سبحانه {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59].(74/13)
الحث على الاقتداء بالصالحات من النساء
أيتها الغالية! هذه أخبار من أخبارهن، وقصص من قصصهن، وكما استطعن هن أنت أيضاً تستطيعين.
فلو كان النساء كما ذكرنا لفضلت النساء على الرجال وما التأنيث لاسم الشمس عيب وما التذكير فخر للهلال اسمعي هذه البشارة من رب العالمين: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35].
اسمعي هذه البشارة من رسول رب العالمين: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي من أي أبواب الجنة شئت)، رواة الخمسة وابن حبان.
إن كن قد استطعن فأنت أيضاً تستطيعين.
المنبع واحد, والمصدر واحد، والطريق واحد، إنما يختلف الناس باختلاف الهمم، أرجل في الثرى ورءوس في الثريا.
اقرئي التاريخ فإن في التاريخ عبر، ضل قوم لم يعرفوا الخبر، استعيني بالصبر والصلاة، لا تحزني بقلة السالكين، ولا تغتري بكثرة الهالكين، أما قال ربك: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]، أما قال ربك جلا في علاه: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]، وقال سبحانه {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116]، أما قال: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة:100].
فليكن شعارك التعاون على البر والتقوى والتناهي عن الإثم والعدوان سدد الله خطاك وحفظك في دينك ودنياك، وجعلك ذخراً وحصناً للإسلام والمسلمين.
اللهم فرج هم المهمومين واكشف كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، ودل الحيارى واهد الضالين، واغفر للأحياء والميتين، اللهم اجمع شملنا ووحد صفنا وأصلح ذات بيننا، وانصرنا يا قوي يا عزيز على القوم الكافرين.
أستغفر الله العظيم وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(74/14)
أين دارك غداً
الدنيا دار غرور، والإنسان مبتلى فيها بالشهوات والمعاصي، وقد بين الله للناس في كتابه وسنة نبيه عظيم غرور الدنيا وحذرهم فتنتها، ومن أعظم ما يردع المرء عن الشهوات والمعاصي تذكر القبر وظلماته، وما فيه من الأهوال.(75/1)
مواعظ قرآنية
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد فإن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة بالنار.
معاشر الأحبة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته طبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني وإياكم في دار كرامته إخواناً على سرر متقابلين، أسأله سبحانه أن يحفظني وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
هذا لقاء من لقاءات مواعظ القلوب! العلاج الذي لا بد منه لقسوة القلوب، فقسوة القلوب مرض خبيث يقعد عن الخير ويصد عن الهداية، قال الله: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22].
القلوب ما بين رقة وقسوة، إذا رقت تذكرت علام الغيوب، وإذا قست نست فكان لا بد لها من التذكير، إذا غفلت لا بد لها من مواعظ القرآن والمواعظ النبوية، مواعظ القرآن التي تحيي القلوب القاسية، لأن كلام الرحمن لو تنزل على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله.
نحن في لقاء بعنوان: (أين دارك غداً؟).
أنت الآن تسكن القصر الفسيح وتقطن الدار الرحيبة، وغداً ستكون في مكان آخر طال الزمان أو قصر: لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها فإن بناها بخير طاب مسكنه إن بناها بشر خاب بانيها إن مواعظ القرآن أعظم ما يحيي القلوب، والمواعظ النبوية الموجزة البليغة من أعظم المواعظ التي تحيي القلوب، فأعطني السمع والقلب والجوارح والأركان حتى نمر في موعظة قرآنية: قال الله جل في علاه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:5 - 6].
ترى ما الذي غرهم من الدنيا وهذه سهامها تصيب كل يوم أحدهم بسهم فترديه هالكاً وتسلمه إلى القبر المظلم المطبق عليه، سالكاً سبيل من سبقوه من الأموات الهالكين، وقد خرقت القبور منهم الأكفان ومزقت الأبدان ومصت الدم وأكلت اللحم؟ ترى ما صنعت بهم الديدان؟! أليست قد محت الألوان وعفرت الوجوه الحسان وكسرت الفقار، وأبانت الأعضاء ومزقت الأشلاء؟! أليس الليل والنهار عليهم سواء؟! أليسوا في مدلهمة ظلماء؟! قد فارقوا الحدائق فصاروا بعد السعة إلى المضايق.
إن المنادي كل يوم ينادي: يا ساكن القبر غداً ما الذي غرك من الدنيا؟! أين دارك الفيحاء؟ أين رقاق ثيابك؟ ليت شعري! كيف ستصبر على خشونة الثرى؟ وبأي خديك يبدأ البلى؟ والموت فاذكره وما وراءه فما لأحد عنه براءه وإنه للفيصل الذي به يعرف ما للعبد عند ربه والقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده أو يك شراً فالذي بعد أشد ويل لعبد عن سبيل الله صد قال سبحانه: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا * وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ * إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ * فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:19 - 40].
وقال سبحانه: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:54 - 56].
وقال سبحانه: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ * وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة:12 - 14].
إنها المواعظ القرآنية التي تحيي القلوب! قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57].
نعم أيها الغالي! مواعظ القرآن هي علاج قسوة القلب، فإذا غفل القلب فلا يحيا إلا بمواعظ القرآن، وليس أحسن للقلب من مداومة ذكر الله بشرط أن يتواطأ القلب واللسان، ولا أحسن من سماع المواعظ النبوية والتدبر والعمل بما تسمع، وحتى تنتفع بالمواعظ لا بد من العمل، قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:67 - 68].
فبالاتباع هدى وثبات واستقامة وحياة لأولي الألباب.(75/2)
القبر أعظم موعظة
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد فإن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة بالنار.
معاشر الأحبة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته طبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني وإياكم في دار كرامته إخواناً على سرر متقابلين، أسأله سبحانه أن يحفظني وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
هذا لقاء من لقاءات مواعظ القلوب! العلاج الذي لا بد منه لقسوة القلوب، فقسوة القلوب مرض خبيث يقعد عن الخير ويصد عن الهداية، قال الله: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22].
القلوب ما بين رقة وقسوة، إذا رقت تذكرت علام الغيوب، وإذا قست نست فكان لا بد لها من التذكير، إذا غفلت لا بد لها من مواعظ القرآن والمواعظ النبوية، مواعظ القرآن التي تحيي القلوب القاسية، لأن كلام الرحمن لو تنزل على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله.
نحن في لقاء بعنوان: (أين دارك غداً؟).
أنت الآن تسكن القصر الفسيح وتقطن الدار الرحيبة، وغداً ستكون في مكان آخر طال الزمان أو قصر: لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها فإن بناها بخير طاب مسكنه إن بناها بشر خاب بانيها إن مواعظ القرآن أعظم ما يحيي القلوب، والمواعظ النبوية الموجزة البليغة من أعظم المواعظ التي تحيي القلوب، فأعطني السمع والقلب والجوارح والأركان حتى نمر في موعظة قرآنية: قال الله جل في علاه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:5 - 6].
ترى ما الذي غرهم من الدنيا وهذه سهامها تصيب كل يوم أحدهم بسهم فترديه هالكاً وتسلمه إلى القبر المظلم المطبق عليه، سالكاً سبيل من سبقوه من الأموات الهالكين، وقد خرقت القبور منهم الأكفان ومزقت الأبدان ومصت الدم وأكلت اللحم؟ ترى ما صنعت بهم الديدان؟! أليست قد محت الألوان وعفرت الوجوه الحسان وكسرت الفقار، وأبانت الأعضاء ومزقت الأشلاء؟! أليس الليل والنهار عليهم سواء؟! أليسوا في مدلهمة ظلماء؟! قد فارقوا الحدائق فصاروا بعد السعة إلى المضايق.
إن المنادي كل يوم ينادي: يا ساكن القبر غداً ما الذي غرك من الدنيا؟! أين دارك الفيحاء؟ أين رقاق ثيابك؟ ليت شعري! كيف ستصبر على خشونة الثرى؟ وبأي خديك يبدأ البلى؟ والموت فاذكره وما وراءه فما لأحد عنه براءه وإنه للفيصل الذي به يعرف ما للعبد عند ربه والقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده أو يك شراً فالذي بعد أشد ويل لعبد عن سبيل الله صد قال سبحانه: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا * وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ * إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ * فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:19 - 40].
وقال سبحانه: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:54 - 56].
وقال سبحانه: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ * وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة:12 - 14].
إنها المواعظ القرآنية التي تحيي القلوب! قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57].
نعم أيها الغالي! مواعظ القرآن هي علاج قسوة القلب، فإذا غفل القلب فلا يحيا إلا بمواعظ القرآن، وليس أحسن للقلب من مداومة ذكر الله بشرط أن يتواطأ القلب واللسان، ولا أحسن من سماع المواعظ النبوية والتدبر والعمل بما تسمع، وحتى تنتفع بالمواعظ لا بد من العمل، قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:67 - 68].
فبالاتباع هدى وثبات واستقامة وحياة لأولي الألباب.(75/3)
القبر منزل لابد من نزوله
القبر أعظم موعظة، ما وقف على القبر واقف إلا تذكر، وما نظر إلى القبر ناظر إلا تفكر.
هي الدار التي ستسكنها طال الزمن أو قصر، ثم بعد السكنى الثانية ستخرج من تلك الدار {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [المعارج:43 - 44].
لاحظ الفرق حين تغادر فراشك في سفر أو في رحلة قريبة، كيف يصيبك الأرق؟ والهم والغم: فارقت موضع مرقدي يوماً ففارقني السكون القبر أول ليلة بالله قل لي ما يكون(75/4)
القبر أول منازل الآخرة
القبر أول منازل الآخرة! ولماذا الحديث عن القبر؟ لأن في القبر يتحدد المصير إما إلى جنة وإما إلى نار.
القبور على نوعين أيها الغالي، القبور على نوعين أيتها الغالية: إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران لا بد من الاستعداد، لا بد من عمارة الدار قبل سكناها.
عندما تموت وتموتين سيتبعك ويتبعك ثلاثة: العمل، المال، الولد.
سترجع الدنيا وما فيها وستبقى رهين العمل، (فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد دون ذلك فلا يلومن إلا نفسه).
قال صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت منظراً قط إلا والقبر أفظع منه).
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا أخالك ناجياً عند ابن ماجة عن البراء قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فجلس على شفير القبر وبكى حتى بل الثرى، ثم قال: يا إخواني! لمثل هذا فأعدوا).
دخل أحد العباد وهو كعب القرظي على عمر بن عبد العزيز بعد توليه الخلافة فجعل ينظر في وجهه فإذا هو وجه شاحب وبدن ناحل، كأن جبال الدنيا قد تساقطت عليه، فقال يا عمر! ما الذي دهاك؟! يا عمر ما الذي أصابك؟! والله لقد رأيتك أجمل فتيان قريش، تلبس اللين وتجلس على الوثير، لين العيش نظر البشرة، والله يا عمر! لو دخلت عليك في غير هذا المكان ما عرفتك! فتنهد عمر باكياً وقال: أما إنك لو رأيتني بعد ثلاث ليال من دفني وقد سقطت العينان، وانخسفت الوجنتان، وعاثت في الجوف الديدان، وتغير الخدان؛ لكنت لحالي من حالي أشد إنكاراً وعجباً.
ثم بكى عمر وبكى الناس حتى ضج مجلسه بالبكاء.
بكى عمر من حاله في القبر، ونحن على ماذا نبكي؟! بكى عمر بن عبد العزيز من حاله في القبر ونحن على ماذا نبكي؟! {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة:82]، {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:60 - 62].
ضعوا خدي على الترب ضعوه ومن عفر التراب فوسدوه وشقوا عنه أكفاناً رقاقاً وفي الرمس البعيد فغيبوه فلو أبصرتموه إذا تقضت صبيحة ثالث أنكرتموه وقد سالت نواظر مقلتيه على وجناته وانفض فوه وناداه البلى هذا فلان هلموا فانظروا هل تعرفوه حبيبكم وجاركم المفدى تقادم عهده فنسيتموه(75/5)
ضمة القبر
هل سمعت عن القبر وضمته؟! عند النسائي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هذا الذي تحرك له عرش الرحمن، وفتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة، لقد ضم ضمة ثم فرج عنه) يعني سعد بن معاذ.
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (إن للقبر ضغطة لو نجا منها أحد لنجا منها سعد بن معاذ).
سعد وما أدراك ما سعد؟ سعد الذي اهتز له عرش الرحمن عند وفاته! سعد الذي شيعه سبعون ألف ملك لم ينزلوا إلى الأرض قط! سعد الذي فتحت له أبواب السماء! سعد سيد الأوس والخزرج! سعد الذي مناديله في الجنة خير من الدنيا وما فيها! هذا حال سعد فكيف يكون حالي وحالك؟ (لقد ضم ضمة ثم فرج عنه).
سبحانك! يا من ذللت بالموت رقاب الجبابرة، سبحانك يا من أنهيت بالموت آمال القياصرة، فنقلتهم بالموت من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة النساء والجواري والغلمان إلى مقاساة الديدان والهوام، ومن التنعم بأنواع الطعام والشراب إلى التمرغ في أنواع الوحل والتراب.
وقف علي رضي الله عنه على القبور فنادى أصحابها: أتخبرونا أخباركم؟ أم نخبركم أخبارنا؟ أما أخبارنا فإن الأموال قد اقتسمت، والنساء تزوجت، والمساكن قد سكنت، قال سبحانه: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:25 - 29].
قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205 - 207].
القبر كل يوم يناديك: يا ابن آدم! تمشي في جماعة على الأرض وسوف تقع وحيداً في بطني يا ابن آدم! تفرح وتمرح على ظهري وسوف تبكي في بطني.
يا ابن آدم! تأكل أموال الربا والحرام واليتامى على ظهري، وسوف يأكلك الدود في بطني.
يا ابن آدم! تنظر إلى الحرام بعينيك وسترى ما ينتظرك في بطني.
يا ابن آدم! تسمع الحرام بأذنيك وستسمع الأهوال في بطني.
يا ساهياً يا غافلاً! سيحملك أهلك وأخلاؤك إلى تلك الحفرة، سيتبعك مالك وولدك وعملك، سيرجع الكل وسيبقى العمل.
ستتزوج الزوجة من بعدك، وسيتقاسم الأولاد أموالك.
وأنت وأنت ينادى عليك: رجعوا وتركوك، وفي التراب وضعوك، وللحساب عرضوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبق لك إلا أنا وأنا الحي الذي لا يموت.
{يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ * كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:6 - 12].
كأني بك تنحط إلى اللحد وتنغط وقد أسلمك الرهط إلى أضيق من سم هناك الجسم ممدود ليستأكله الدود إلى أن ينخر العود ويمسي العظم قد رم بسم الله الرحمن الرحيم {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1 - 2].(75/6)
فتنة القبر
ستسمع قرع نعالهم وستبقى وحيداً فريداً إلا من العمل، هناك ستمتحن امتحاناً شديداً، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان.
امتحانات الدنيا تعوض، والفرص تعطى مرات ومرات، لكن قل لي بالله العظيم! كيف سيكون الحال إذا ظهرت النتائج هناك؟ كيف سيكون الحال إذا وسدوك وجاءك الملكان وأقعدوك؟ عن البراء بن عازب قال: (كنا في جنازة مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، وجلسنا عند القبر ولم يلحد بعد، وكانت في يده صلى الله عليه وسلم عصا فنكت بها في التراب ثلاثاً ثم قال: استعيذوا بالله من عذاب القبر.
ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في إدبار من الدنيا وإقبال من الآخرة، جاءته ملائكة بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة وجلسوا منه مد البصر، وجاء ملك الموت عليه السلام وجلس عند رأسه، فيقول: يا أيتها النفس الطيبة! اخرجي إلى روح وريحان ورب راض غير غضبان.
فتخرج روحه كما يسيل القطر من السقاء، فإذا قبضها ملك الموت لم تدعها الملائكة في يده طرفة عين حتى يلبسوه ذلك الكفن الذي من الجنة، ويحنطوه بذلك الحنوط الذي من الجنة فتخرج منه رائحة كأطيب رائحة مسك وجدت على وجه الأرض، ثم يعرج به إلى السماء فما يمرون على نفر من الملائكة إلا قالوا: من هذه الروح الطيبة صاحبة الريح الطيب؟ فيقال: هذا فلان بن فلان -بأحب أسمائه التي كان ينادى بها في الدنيا- حتى إذا وصلوا إلى باب السماء واستفتحوا له فتح له، ثم يشيعه مقربو تلك السماء إلى السماء التي تليها، حتى إذا وصل إلى السماء السابعة نادى منادي الله: أن اكتبوا كتابه في عليين وأرجعوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى.
فتعاد روحه في قبره فيأتيه ملكان أنفاسهما كاللهب، أبصارهما كالبرق الخاطف، أصواتهما كالرعد القاصف، فيقعدانه فيقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن هو ذلك الرجل الذي بعث بكم؟ أما المؤمن فيقول: ربي الله حقاً، ونبيي محمد صدقاً، وديني الإسلام.
فيقال له: وما علمك؟ فيقول: تعلمت القرآن وعملت به، فينادي منادي الله: أن قد صدق، فافرشوا له فراشاً من الجنة وافتحوا له باباً من الجنة، فيأتيه من روحها وريحانها ويوسع له في قبره مد البصر، فيأتيه رجل أبيض الوجه طيب الشمائل، فيقول: من أنت؟ فوجهك والله لا يأتي إلا بالخير، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي).
هذا حال المؤمن الذي حافظ على الصلوات وترك النواهي والمحرمات.
قال: (أما العبد الكافر، -أو قال: العبد الفاجر- إذا كان في إدبار من الدنيا وإقبال من الآخرة جاءته ملائكة سود الوجوه، معهم كفن من أكفان النار وحنوط من حنوط النار وجلسوا منه مد البصر، ثم يأتي ملك الموت عليه السلام فيجلس عند رأسه فيقول: أيتها الروح الخبيثة صاحبة الريح الخبيث! أبشري بسخط من الله وغضب، فتسل روحه كما ينزع السفود من القطن -يعني الحديد المتشابك- فإذا قبضها ملك الموت لم تدعها الملائكة في يده طرفة عين حتى يلبسوه ذلك الكفن الذي من النار ويحنطوه بذلك الحنوط الذي من النار، وتخرج منه رائحة كأنتن رائحة على وجه الأرض، ويعرج به إلى السماء، فما يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: من هذه الروح الخبيثة صاحبة الريح الخبيث؟ فيقال: هذا فلان بن فلان -بأقبح أسمائه التي كان ينادى بها في الدنيا- حتى إذا جاءوا إلى أبواب السماء واستفتحوا له لم يفتح له.
ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأعراف:40 - 41]، ثم ينادي منادي الله: أن اكتبوا كتابه في سجين وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى.
فتعاد روحه في قبره، فيأتيه الملكان فيقعدانه ويسألانه فيقولان: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيخر في الأرض سبعين خريفاً، حتى إذا أفاق أقعداه وقالا له: وما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيضربانه حتى إذا أفاق قالا له: ومن ذلك الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: سمعت الناس يقولون كذا وكذا، فيقال له: لا دريت ولا تليت فينادي منادي الله: أن كذب عبدي، فافرشوا له فراشاً من النار وألبسوه لباساً من النار وافتحوا له باباً من النار.
فيضيق عليه في قبره حتى تختلج أضلاعه، فيأتيه رجل قبيح المنظر قبيح الريح فيقول: من أنت، فوجهك والله لا يأتي إلا بالشر؟ فيقول: أبشر بالذي يسوءك؟ هذا يومك الذي كنت توعد، أنا عملك السيئ، فيقول: رب لا تقم الساعة).
هذا حال الذين ضيعوا الصلاة وارتكبوا الفواحش والمنكرات، حالهم: {يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب:66]، حالهم: {أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [الأعراف:53] يبكون فلا يستجاب لهم، ينادون فلا يسمع كلامهم {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37].(75/7)
مشهد من عذاب القبر
روى الذهبي في كتاب الكبائر قصة رجل ماتت أخته فقبرت ودفنت، ثم ذهب إلى بيته فتبين له أنه فقد كيساً من الذهب، فراجع حساباته فتبين له أنه سقط في القبر حين كان يحفر ويدفن، فرجع ونبش القبر، فإذا بالقبر نار تتأجج، فرجع لأمه خائفاً باكياً وجلاً: أماه! أختي تقية نقية ما علمت عليها من سوء! كيف وقد وجدت قبرها ناراً تتأجج؟! اسمع يا صاحب القلب! اسمع وراجع الحسابات قبل فوات الأوان، قبل أن تبكي دماً، قالت الأم: أختك كانت تؤخر الصلاة عن وقتها.
إذا كان هذا حال الذي يؤخرون، فكيف سيكون حال الذين ينامون عن الصلوات؟ كيف سيكون حال الذين لا يصلون؟ كم سمعنا عن وجوه قد اسودت؟ كم سمعنا عن أبدان قد تقطعت؟ {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الأنفال:50 - 51].
مر رجل على قصر من القصور قد اجتمع عليه ملأ من الناس، فقال: ما الخبر؟ قالوا: إن الأمير قد بنى هذا القصر وجمع الناس، فقال لهم: من قال لي: أن في هذا القصر عيباً أعطيته ما شاء.
قال الرجل قبل أن يدخل القصر فيه عيبان: أنه سيفنى القصر وسيفنى صاحبه: عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور يغدى عليك بما اشتهيـ ت من الرواح إلى البكور فإذا النفوس تقعقعت في ضيق حشرجة الصدور فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور(75/8)
مشروعية زيارة القبور
قال سفيان: من أكثر من ذكر القبر وجده روضة من رياض الجنة، ومن غفل عن ذكره وجده حفرة من حفر النار.
قيل لبعض الزهاد: ما أبلغ العظات؟ قال: النظر إلى محلات الأموات.
وسأل رجل أحمد: ما يرق قلبي؟ قال: ادخل المقبرة.
قال آخر: ما اشتقت إلى البكاء إلا خرجت إلى المقابر.
وما أعظم قول الصادق المصدوق في موعظة بليغة موجزة: (ألا إني قد نهيتكم عن زيارة القبر، ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة).
ما أحوجنا أن نخلو آحاداً آحاداً في ذلك المكان، اخلع النعال وسر بين القبور ففيها الأغنياء والفقراء والصغار والكبار سواء.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57].
حتى تستفيد من الموعظة افعل ما توعظ به! (ألا إني قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها) فإن في زيارتها حياة للقلوب الغافلة، إن في زيارتها تذكيراً للغافل والناسي والساهي، والقبر لا يعرف صغيراً ولا كبيراً ولا يعرف غنياً ولا فقيراً.
الكل في ذلك المكان مرتهن بالعمل الذي عمله وبالعمل الذي قدمه.
فاتقي الله أمة الله! واتق الله عبد الله! اتق الله أيها الشاب في شبابك، واتق الله أيها الشيخ في شيبتك.
والله الذي لا إله إلا هو إن الذي حال بين الناس وبين التوبة والصدق في التوبة: طول الأمل، ومن أطال الأمل أساء العمل، قال سبحانه: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3].
يا غافلاً عن العمل وغره طول الأمل الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل اللهم هون علينا الموت والقبر وظلماته، هون علينا السؤال وشدته، هون علينا اللحد وضمته.
اللهم امنن علينا بتوبة نصوح قبل الموت، وبشهادة عند الموت، وبرحمة بعد الموت يا رب العالمين.
اللهم ارحم ضعفنا وتقصيرنا وإسرافنا في أمرنا يا رب العالمين، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا يا ربنا من الراشدين.
اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
اللهم نور على أهل القبور قبورهم، اللهم اغفر لهم وارحمهم ويسر أمورهم، اللهم آنس وحدتهم ونور ظلمتهم، اللهم أبدلهم داراً خيراً من دارهم، وأبدلهم أهلين خيراً من أهليهم.
اللهم ارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه تحت التراب وحدنا، إذا نسينا الأحباب وفارقنا الأهل والأصحاب، اللهم كن لنا عوناً وظهيراً ومؤيداً ونصيراً يا رب العالمين.
اللهم لا تؤاخذنا بالتقصير، واعف عن الكثير، وتقبل منا اليسير، إنك يا مولانا نعم المولى ونعم النصير.
اللهم اجمع شملنا وأصلح ولاة أمورنا، انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك الموحدين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الموحدين، انصر المجاهدين في كل مكان، ثبت أقدامهم واربط على قلوبهم، أفرغ عليهم صبراً يا رب العالمين، عجل بنصرهم يا قوي يا عزيز، اكبت عدوك وعدوهم فإنهم لا يعجزونك يا جبار السماوات والأرضين.
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
أستغفر الله العظيم، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(75/9)
بصراحة مع الشباب
الشباب هم أمل الأمة، والمأمول منهم أن يقيموا الدين، ويحافظوا على الشعائر، ويبعثوا روح الجهاد في سبيل الله لنصرة الأمة؛ لكن الصراحة أن كثيراً من شبابنا ضيعوا الأخلاق وأهملوا أعظم شعائر الدين، ولذا فلابد من الصلاح والاستقامة قبل الندم.(76/1)
الشباب هم أمل الأمة
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلاله، وكل ضلاله بالنار.
معاشر الأحبة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته حياكم الله وبياكم وسدد على طريق الحق خطاي وخطاكم، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني وإياكم في دار كرامته إخواناً على سرر متقابلين، كما أسأله سبحانه أن يحفظني وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلنا هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين.
بصراحة مع الشباب: المقصد: كيف نسلك سبيل النجاة؟ كيف نتعاون على البر والتقوى؟ كيف نتعاون على أن ننجو بأنفسنا وأهلينا من عذاب الله؟ بصراحة مع الشباب: الشباب -بارك الله فيهم- هم بناة الحضارة، وعلى أكتاف الشباب يتغير الواقع، وبأيدي الشباب تستعيد الأمة مكانتها، وتستعيد الأمة العزة المفقودة والعزة المسلوبة؛ لكن أي نوع من الشباب هو الذي سيغير الواقع؟(76/2)
خروج من طريق الضياع
الشباب اليوم على صنفين، وتعال نتكلم بصراحة ونقول للشباب: ماذا تريدون؟ كثير من الشباب يدعي أنه في سعادة ويدعي أنه في راحة وطمأنينة، لكن في قرارة نفسه يعلم أنه ليس كذلك.
على غير ميعاد منذ أسابيع مضت كنت في سفر إلى الرياض فصعدت الطائرة، وبينا أنا أضع حقائبي في المكان المخصص إذا بمنادٍ من خلفي يقول: السلام عليكم يا فلان! فالتفت فإذا بشاب أعرفه منذ سنوات طوال فرقت بيني وبينه أحوال الدنيا هنا وهناك، وكان في آخر عهدي به منذ سنين مضت أنه مذبذب لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء سار مع أهل الاستقامة فترة ثم عاد إلى ما كان عليه.
الذي أعرفه أنه أصبح موظفاً في الخطوط الجوية وأصبح مضيفاً، وهذه أمنية كان يتمناها هو، كنت أسأله: لماذا تريد هذه الوظيفة المتعبة؟ قال: أحب السفر هنا وهناك كل يوم في بلد.
مضت الأيام وتفرقنا، والذي أعرفه أنه التحق في ذلك المجال الذي يريده، جاءتني الأخبار أنه تزوج وأصبح أباً، لم أره منذ عشر سنوات إلا في الطائرة في ذلك اليوم، قلت: فلان! قال: نعم، قلت: أهلاً وسهلاً، كان يرتدي ثياب الوظيفة لكنه لم يكن على مهمة في تلك الطائرة، كان يريد الذهاب إلى الرياض ثم من الرياض سيصعد على طائرة إلى خارج البلاد في رحله تستغرق أربع ساعات ثم يرجع إلى البلاد في نفس الليلة.
جلست معه، وقلت: ما هي أخبارك؟ قال: أبشرك بخير وسعادة وما مر علي لحظات إلا وأنا أحسن.
قلت: عندي خبر أنك تزوجت، قال: نعم تزوجت وعندي طفل صغير اسمه خالد، قلت: ما شاء الله تبارك الله، الآن أصبحت رجلاً مسئولاً عن أسرة كاملة، فكيف هي أحوالك؟ قال: بعد أن أنجبت زوجتي هجرتني لسنة كاملة، ذهبت وتركت البيت لسنة كاملة.
قلت: لماذا؟ قال: بصراحة يا شيخ! لسوء تصرفاتي، لقد كذبت عليك حين قلت لك إني في سعادة وإني في طمأنينة، الحقيقة يا شيخ! إني أعيش هموماً وغموماً لا يعلمها إلا الله، والله يا شيخ إني في ضياع لا يعلمه إلا الله كثرة السفر وكثرة التنقلات كنت أظنها ستجلب لي سعادة؛ لكن الذي حدث أنها أحدثت لي عكس ذلك، انجرفت مع الأشرار من بلد إلى بلد ومن مصيبة إلى مصيبة حتى تركتني زوجتي وذهبت إلى أهلها سنة كاملة، رجعت بعد أن عاهدتها أني سأستقيم وأني سأعود إلى صراط الله المستقيم؛ لكني ما صدقت في عهودي ولا في مواثيقي.
يقول: منذ أيام حدث حادث أثر في حياتي، وغير من مجريات حياتي، كنت في إحدى البلاد الأسيوية، بعد أن وصلت الرحلة المفترض أننا سنبقي ثلاث ليال هناك ثم نرجع مرة ثانية، خرجت مع من خرج يسرح ويمرح في تلك البلاد، رجعت ومعي فاجرة إلى الفندق، يقول: فلما تجردت من ثيابها وتجردت أنا من ثيابي إذا بنداء هز كياني، إذا بالأذان يرتفع من مسجد مجاور لنا، يقول: خافت هي وانتفضت ولبست ثيابها ودخلت إلى دورة المياه وتوضأت ثم خرجت وجلست تصلي وتبكي، وأنا لم يتحرك شيء في داخلي، قلت في نفسي: إلى هذه الدرجة أنا وصلت إلى الضياع! إلى هذه الدرجة أصبح الأذان يؤذن ولا يحرك في قلبي شيئاً! إلى هذه الدرجة أرى من يتأثر ويبكي ولا يعني لي شيئاً! فرجعت ولم أصنع شيئاً؛ لكني رجعت وأنا أحمل الهم وأنا أقول: إلى متى وأنا أسير على هذا الطريق؟ إلى متى وأنا أسير على طريق الضياع؟ سبحان الله! فاجرة سمعت الأذان ينادي فانتفضت في مكانها ورفضت أن تفعل الفاحشة وتوضأت وصلت باكية في مكانها! يقول لي: أنا الآن تجاوزت الثلاثين سنة ولا أدري متى سيتغير الواقع؟ قلت له: كيف أنت مع الصلاة؟ قال: أنا لا أصلي يا شيخ! قلت له: وكيف تحيا إذاً وأنت لا تصلي؟! ولا تعرف أوامر الله ولا تأتمر بأوامر الله؟! قال: كأن الله قد ساقك إليَّ الليلة، أنا أحتاجك يا شيخ! أنا أريد أن أصرح لك بما يدور في داخلي.
الذي يدور في داخله هو آثار الذنوب والمعاصي، آثار البعد عن الله جل في علاه، آثار الإدبار عن صراط الله المستقيم، كيف يتغير الواقع وهو لا يعرف أبسط أمور الدين، وهي الاستقامة على صلاته.
قلت: أنا أنزل في الرياض في مهمة وأرجع على طائرة الحادية عشرة والنصف.
قال: هي موعد رجوع طائرتي أيضاً، أنا أسافر إلى بيروت ثم أرجع وأقلع على طائرة الحادية عشرة والنصف؛ قال: أرجوك أنا أريدك يا شيخ! فقد مللت هذا الطريق وهذه الحياة.
قلت: استقم في صفوف المصلين والزم المسجد واركع واسجد لله حتى يتغير الحال، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
افترقنا في صالة المطار على أن نلتقي في الساعة الحادية عشرة والنصف حتى نرجع إلى الدمام، ولظروف تأخرت في المجيء إلى المطار حتى كادت الرحلة تفوتني، حتى قال لي الشباب في الرياض: امكث يا شيخ! امكث هذه الليلة وارجع غداً صباحاً، قلت: لا أنا على موعد في المطار، أنا على موعد مع ذلك الشاب الذي واعدته على أن نلتقي مهما كانت الظروف، فقد ودعني في المطار بعين باكية ولا زلت أذكر ذلك الوجه وهو يفترق ويبتعد عني وهو يقول لي: أرجوك يا شيخ! أنا أحتاجك، فما أردت أن أتخلف عن موعده.
انتقلت من منطقة بالرياض في الساعة الحادية عشرة والطائرة تقلع في الساعة الحادية عشرة والنصف، لما وصلت إلى المطار الساعة الحادية عشرة والنصف وجدت أن الركاب كلهم قد ركبوا إلا صاحبي كان ينتظر عند البوابة، فلما رآني بكى وأخذ يقول: والله يا شيخ ما كنت لأركب الطائرة حتى تأتي أنت، ثم ركبنا، وبين السماء والأرض باح واعترف، بين السماء والأرض أعلنها توبة لله رب العالمين، قال لي فيما قال في الحديث الذي دار بيني وبينه: أبشرك يا شيخ لقد صليت ولأول مرة أصلي منذ سنوات، والله لأول مرة بين السماء والأرض أحس أني قريب من الله، لأول مرة أحس بالراحة والطمأنينة في داخلي.
أقول: أحبتي! الإنسان في ضياع حتى يتعرف على الله جل في علاه قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] من معانيها: ما خلقتهم إلا ليتعرفوا علي.
وكيف يكون التعرف على الله إلا بالركوع والسجود والخضوع لأوامره والانتهاء عن نواهيه، أنت عبد للسيد الذي خلقك وأعطاك وأمدك بكل شيء، لا بد أن تحقق العبودية حتى يحقق الله لك ما وعد، لا بد أن تسير على النهج الذي خلقك الله من أجله ظل يبكي بين السماء والأرض ويدلي باعترافات: تركتني زوجتي، تركني المقربون، تركني أناس كثيرون، والسبب: الذنوب والمعاصي، كنت أظن أن السفر والترحال سيجلب لي سعادة كنت أظن أن السفر هنا وهناك ومعاشرة هؤلاء وهؤلاء ستجلب لي سعادة، قال: والله ما استشعرت السعادة إلا مرة واحدة منذ سنوات مضت، حين انتشلني أولئك الشباب الصالحون وأخذوا يغدون بي ويروحون إلى المسجد، حينها عرفت أنني إنسان، حينها عرفت أن لي قيمة في هذا المجتمع، اجتهدت أكثر من بعض الشباب في تلك الفترة، لكن حين سلكت تلك الوظيفة وبدأت أطير من بلد إلى بلد بدأت رحلة الضياع.
بصراحة: كثير من الشباب يعيش في ضياع لا يعلم به إلا الله، هو يضحك ويتبسم لكنها ليست بابتسامة خارجة من القلب، ابتسامة وراءها ما يعبر عنها، وأشياء كثيرة يخفيها الشباب خلف ابتساماتهم.
قل لأصحاب المعاصي والضياع: ماذا صنعت المعاصي بهم، وهل جلبت لهم سعادة؟ المطلوب مني ومنك بارك الله فيك أن نسير على طريق الاستقامة، أن نعيش عبيداً لله رب العالمين.(76/3)
الشباب والمحافظة على الصلاة
اسمع بصراحة إلى واقع الشباب: التقيت بثلاثة على إحدى الطرق الطويلة في ساعة متأخرة من الليل، قلت وقد توقفت لهم: أين تريدون؟ قالوا: نريد الدمام، قلت: اصعدوا فأنتم على طريقي.
لما ركبوا وهم في مقتبل العمر لم تتجاوز أعمارهم الحادية والعشرين أو الثانية والعشرين، سألتهم: أين تريدون؟ قالوا: نريد المكان الفلاني، قلت: ماذا تريدون من هناك؟ قالوا: نبحث عن وظائف، قطعوا مسافات طويلة بحثاً عن وظيفة، بحثاً عن الجاه، بحثاً عن الرزق.
ولا عيب في أن يسعي الإنسان لرزقه؛ لكن عيب كل العيب أن يراه الله مقصر في حقه، عيب كل العيب أننا نخرج من أجل دنيانا وفي قضاء حوائجنا ولا نخرج في طاعة الله حين ينادينا منادي الله: الصلاة خير من النوم، أو حي على الصلاة حي على الفلاح.
قلت: اصدقوني ما هي المؤهلات التي تحملونها.
فما ذكروا مؤهلات تذكر، منهم من يحمل الشهادة المتوسطة ومنهم من يحمل دون ذلك، قلت: الأمر لله من قبل ومن بعد، ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم، لكن من كان مع الله كان الله معه، وما سميت الصلاة صلاة إلا لأنها صله بين العبد وربه، ولأن الله يصل بفاعلها إلى الجنة ويصل بتاركها إلى النار، ولأن الله يتعهد أهل الصلوات، قال الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132].
لذلك سألتهم وقلت: كيف أنتم مع الصلاة؟ اسمع بارك الله فيك! اسمع أخبار الشباب وبصراحة مع صلواتهم التي هي أساس أمور دينهم، قال الذي يجلس بجانبي: أقول لك الصراحة أم أكذب عليك يا شيخ! قلت: إن كذبت فأنت لا تكذب علي بل تكذب على نفسك أنت، قال: بصراحة أنا ما أصلي، قلت: إذاً كافر، قال: لا، قلت: كيف وقد جاء في الحديث: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)، (بين المرء وبين الكفر ترك الصلاة) فهل ترضى بهذا الاسم؟! قال: لا.
قلت: إذاً فافعل بفعل المسلمين الذين من أساس أركان دينهم بعد توحيد الله: إقامة الصلاة.
أما الثاني فقال لي: أنا أحسن منه يا شيخ! أنا أحسن منه حالاً! قلت: وكيف؟ قال: أنا أصلي من الجمعة إلى الجمعة.
قلت: هذا دين جديد وهذا شرع جديد.
قال: وماذا أفعل إذاً؟ قلت: هي خمس صلوات بارك الله فيك! قال الثالث: أنا أحسنهم حالاً يا شيخ! قلت: وكيف؟ قال: أنا أصلي في اليوم صلاتين.
أيعقل أن هذا هو حال الشباب، منهم من لا يركع ولا يسجد، ومنهم من لا يصلي إلا من الجمعة إلى الجمعة، ومنهم من لا يعرف الله إلا في وقت الشدة، في أوقات الامتحانات والاختبارات يقبل الناس على المساجد، وحين ترفع وتقضي حوائجهم يدبرون عن أوامر الله {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]، يعدهم الشيطان ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً.
كم خسرنا من شاب وفتاة لا يصلون ولا يعرفون أوامر الله، كم خسرنا من صغار ومن كبار خرجوا من الحياة بلا رصيد من الحسنات، غرتهم الأماني وغرهم بالله الغرور.
يقول أحد مغسلي الموتى: جيء لنا بشاب في مقتبل العمر، فلما بدأنا بتغسيله وتكفينه انقلب لونه من البياض الشديد إلى السواد الشديد، خفنا من المنظر الذي رأيناه فخرجنا خائفين فوجدنا رجلاً في الخارج، قلنا: من أنت، ومن الميت؟ قال: الميت ميتنا وأنا أبوه.
قلت: ما خبر ميتكم هذا؟ قال: ميتنا هذا لم يك من المصلين، قلنا: نعوذ بالله! خذوا ميتكم أنتم وغسلوه وكفنوه، فحكم الله في هذا ألا يغسل ولا يكفن ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يدعى له ولا يستغفر له ولا يحمل على الرقاب، بل يسحب على وجهه، وتحفر له حفرة في الصحراء ثم يكب فيها على وجهه {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:33].
أتدري كم من أمر للمحافظة على الصلوات في كتاب الله؟ أكثر من تسعين أمراً، يكفينا أمر واحد حتى نعلم أن القضية قضية خطيرة، وأن القضية يترتب عليها إما جنة وإما نار، وأول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة الصلاة، وحتى يستقيم حاله في دنياه وينظر الله في أموره في آخرته لا بد أن يستقيم صفوف المصلين.
أحد الشباب يقول: أنا وصاحب لي نغدو ونروح في أوقات الصلوات والله لا نعرف المساجد ولا نعرف الأوامر، نستهزئ بالمصلين ونستهزئ بأهل الاستقامة وأهل الالتزام، حتى جاء يوم فافترقنا بعد الفجر ولم نصلها، نمت فلما استيقظت قال لي أخي الأكبر: فلان صاحبك قد مات اليوم! ظننت بأن الأمر مزح وليس بالأمر الجد، فقلت: اترك عنك هذا الكلام فقد فارقته هذا الصباح وذهب هو إلى البيت.
قال: أقول لك بالحرف الواحد: فلان قد مات! فذهبت إلى بيته أتقصي الخبر، طرقت الباب فخرج إلي أبوه، قلت: أين فلان؟ فقال لي والدمعة على خده: عظم الله أجرك في فلان، قلت: أين هو؟ قال: أين هو؟! لن نصلي عليه ولن ندفنه في مقابر المسلمين، لأنه كان لا يصلي، كم نصحناه وإياك أن تحافظا على أوامر الله! يقول الشاب: حينها علمت أني على خطر، حينها تأكدت أني أسير على طريق غير صحيح، علمت أنه لا بد أن أصحح المسار، فهذا الموت يتخطف الصغار ويتخطف الكبار، منهم من يأخذه في الجو، ومنهم من يأخذه في الأرض، ومنهم من يأخذهم على ضفاف البحار؛ فكيف يكون حالي إذا جاءني المنادي يقول: يا فلان بن فلان، قد انقضى العمر وانتهت الحياة، وأنا على حال لا يعلمها إلا الله.
قال لي الأب: صل قبل ألا يصلِّ عليك كما فعلنا بفلان! علمت حينها أني على خطر عظيم، علمت حينها أن الله قد مد في عمري وأعطاني فرصة حتى أراجع الحسابات.
تمضي السنين وتنقضي الأيام والناس تلهو والأنام نيام والناس تسعي للحياة بغفلة لم يذكروا القرآن والإسلام والمال أصبح جمعة كتهجد وتمتع الشهوات صار صيام قد زين الشيطان كل رذيلة والناس تفعل ما تشاء حرام يا نفس يكفي فالذنوب كثيرة إن الغرور يسبب الأجرام هل تعلم اليوم المحدد وقته الله يعلم وحده العلام ماذا تقول إذا حملت جنازة ودفنت بالقبر الشديد ظلام هذا السؤال فهل علمت جوابه ماذا تقول إذا نطقت كلام اليوم تفعل ما تشاء وتشتهي وغداً تموت وترفع الأقلام بصراحة إن كثيراً من الشباب يحتاج إلى مراجعة الحسابات، اذهب إلى صلاة الفجر مع الجماعة فلا ترى إلا قليلاً من الشباب الذين هداهم الله وآباء وأجداداً يصلون، والبقية الباقية تمر وكأن الأمر لا يعنيها، ستخونهم المعاصي، ستخونهم المنكرات، ستخونهم المخالفات في ساعات هم في أمس الحاجة إلى العون والتثبيت من الله ولكن لا يثبت الله إلا أهل الصلوات.
يقول أحد مشايخنا الكرام: مات أحد الشباب الذين نعرفهم بالصلاح -نحسبهم والله حسيبهم ولا نزكي على الله أحداً- يقول شيخنا: أعرفه تمام المعرفة، كان من الذين يحافظون على الصلاة وتكبيرة الإحرام في الصف الأول، أعرفه حريصاً على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أعرفه حريصاً على فعل الخيرات وعلى ترك الفواحش والمنكرات، مات لكنه مات على طاعة، فكنت ممن غسله وكفنه وودعه في قبره.
قال: في ذلك اليوم رأينا في جنازته عجباً، رأينا في جنازته عبرة لأولي الألباب، لما بدأنا بتغسيله وتكفينه بدأنا بمزج المسك والكافور، يقول: والله الذي لا إله إلا هو لقد فاحت رائحة المسك منه قبل أن نضع المسك عليه حتى فاحت في المكان كله، فقلت لصاحبي: أتشم؟ قال: إي والله، والله ما شممت أحلى ولا أجمل من تلك الرائحة {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30].
قال: فلما كفناه وذهبنا به إلى المقبرة كنت ممن نزل في قبره، وكان الناس على شفير القبر يريدون إنزاله، فلما أنزلوه وكنت أنا وصاحبي في القبر يقول: والله الذي لا إله إلا هو إنه حمل من بين أيدينا وما حملناه! ووالله إنه وضع في التراب وما وضعناه! والله إنه وجه إلى القبلة وما وجهناه! يقول: كشفت عن وجهه فإذا هو يضحك وعلى وجهه ابتسامة لولا أنني أنا الذي غسلته وكفنته لما كنت أظن أنه قد مات، ولكن فضل الله يؤتيه من يشاء؛ عاش على الطاعة ومات على الطاعة، فثبته الله في أشد اللحظات، كما خانت المعاصي أصحابها ثبتت الطاعات أهل الطاعات في أمس اللحظات.(76/4)
الهدف الذي يعيش له الشباب اليوم
بصراحة: ماذا يريد الشباب اليوم؟! وما الهدف الذي يحيا من أجله كثير من الشباب؟! اعلم بارك الله فيك أنه من أراد الوصول فعليه بالأصول، ومن سار على الدرب وصل، وما ربك بظلام للعبيد، الطريق واضح الطريق مستقيم لا اعوجاج فيه يمنة ولا يسرة، إنما الاعوجاج في طريق المنكرات والفواحش والمخالفات، لذلك كان من فضل الله علينا وعلى الناس أن جعل الصراط مستقيماً حتى تقوم الحجة على الصغير وعلى الكبير، وأنت كل يوم يا من تصلي تسأل الله الثبات على هذا الصراط المستقيم لأن الإغراءات كثيرة، لكن من تعرف على الله تعرف الله عليه.
شاب أعرفه رويت لي أخباره تمام المعرفة، يقول أخوه: منذ صغره وهو متعلق بالمساجد، شاب نشأ وترعرع في طاعة الله، أحسبه والله حسيبه من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فكما أننا نرى نماذج من الضياع نرى ولله الحمد نماذج كثيرة للاستقامة، وهؤلاء حجة على أولئك، لا يتعذر الشباب ويقول كثير منهم: نحن لا نستطيع، نقول: إن استطاع فلان فأنت أيضاً تستطيع؛ لكن خذ بالأسباب وخذ بسبل النجاة التي سلكها فلان حتى تنجو أنت.
يقول أخوه: نشأ وترعرع في طاعة الله، كبر وهو يحب المساجد ويحب أهل المساجد، لما التحق بالوظيفة التحق بالسلك العسكري، فكان ذلك اليوم يوماً مشهوداً لا ينساه أبداً، ويتذكر ذلك اليوم حين قوبل في مقابلة القبول ووافقوا عليه موظفاً في السلك العسكري، جاء اليوم الذي ستسلم فيه البطاقة له، فقال له الذي يأخذ الصور: أنت بلحيتك هذه، إن تصورت اليوم على هذه الصورة فأنت لا تستطيع بعدها أن تزيل هذه اللحية! فهل تريد إزالتها قبل أن نأخذ لك صورة؟ قال: أسأل الله أن يأخذ عمري قبل أن أبدل سنة محمد صلى الله عليه وسلم، سنوات وأنا أعتني بسنة محمد صلى الله عليه وسلم، سنوات وأنا أعتني بمظهري ثم آتي الآن من أجل وظيفة أتخلى عن دين الله أو أتخلى عن أي شيء من دين الله، خذ الصورة وكلي عزة أنني أقتدي بمحمد صلى الله عليه وسلم.
فأخذت له الصورة في لحية تجلله وتجلل وجهه يظهر منها أثر النور، نسأل الله أن يتقبله فيمن عنده.
ثم بدأ يسلك طريق الاستقامة مع المستقيمين ويعمل مع العاملين، يقول أخوه: والله لا يهدأ بالليل ولا بالنهار يعمل على إصلاح الشباب وعلى استقامة الشباب بالليل والنهار، يأتيه الناس في حوائجهم وهو لا يكل ولا يمل، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنفع الناس أنفعهم للناس)، وسئل عن رجل يخالط الناس ويتحمل أذاهم، وعن آخر لا يخالط الناس ولا يتحمل أذاهم فقال صلى الله عليه وسلم: هذا أحب إلى الله وخير عند الله.
أي: الذي يسعى في هداية الناس ويسعى في قضاء حوائج الناس.
يقول: حتى إذا بلغ سن الزواج تزوج ثم رزقه الله بصبية وبنات وهو لا يكل ولا يمل في العمل الدعوي والعمل الخيري، ثم التحق بأحد الهيئات الخيرية يعمل معهم في نصرة الإسلام وفي نصرة المسلمين، حتى إذا بلغ متوسط العشرين أو دونها أو أكثر منها بقليل أصابه مرض وما علم أحد بمرضه، كان يتألم ألماً شديداً ولم يظهر لأحد من الناس ضعفه ولا ما سببه له المرض، كان يتألم ولا يبث شكواه إلا إلى الله جل في علاه، ثم بدأ المرض يتفاقم ويزيد عليه.
كان يخفي عن أمه آلامه حتى لا تتأذى المسكينة وتحمل هم مرضه، يقول: حتى إذا بلغ المرض منه مبلغة أخذناه إلى الطبيب، فقال الطبيب: إنه مصاب بورم خبيث في بطنه ولا بد أن يرضخ ويجلس للعلاج.
بدءوا علاجه بالمسكنات حتى يخففوا عنه الآلام.
ثم تفاقم المرض وزاد وكان لا بد أن يعالجوه بالجرعات الكيماوية، الجرعات الكيماوية هي الأخرى ماذا تسبب؟ أبسط مسبباتها أنها تسبب تساقط الشعر، سبحان الله! كان دائماً يدعو أن يثبته الله على دينه وأن يلقى الله غير مبدل ولا مغير، كان يعتز بمظهره الذي يدل عليه! سبحان الله! يقول الطبيب الذي عالجه: بدأنا بإعطائه جرعات كيماوية، سبحان الله! أول ما يظهر على المريض من مفاعلات عكسية من أثر هذه الجرعات أنه يتساقط الشعر، يقول: والله الذي لا إله إلا هو ما سقطت شعرة واحدة من جسمه، يقول الطبيب: كنت أتعجب! كل المرضى تحدث لهم مثل هذه الأعراض وكلهم يتساقط شعر جسدهم، يقول: كنت آتية وهو نائم في إغماءة كاملة من أثر هذه الجرعات ومن أثر الآلام التي كان يعانيها، وكنت أشد لحيته فلا تسقط منها شعرة واحدة؛ لأنه كان يدعو الله أن يلقى وهو غير مبدل ولا مغير.
اعتز بدينه فاعتز الله به، ثبت على دينه فثبته الله في أشد اللحظات، مات ولكن موته كان له أكبر الأثر على غيره، كثير يموتون وتنقضي أخبارهم بعد ثلاثة أيام، وآخرون يموتون ويحيا بموتهم أقوام، حتى في ساعات مرضه كان يدعو من حوله، أما يكفي أن الله أكرمه عند موته ولقي الله وهو معتز بسنة محمد صلى الله عليه وسلم، التي قال لصاحب الوظيفة: والله إني لن أتخلى عن لحيتي ولا طرفة عين.
فثبته الله في لحظات موته!(76/5)
راجع حساباتك مع الله
بصراحة! الشباب يحتاجون إلى مراجعة حساباتهم، الشباب بحاجة إلى أن يراجعوا حساباتهم وأن يستقيموا في صفوف المصلين، سأسلك سؤالاً واصدقني في
الجواب
كيف أنت مع صلاتك؟ وهل صليت الفجر اليوم في جماعة المسلمين أم مع المتخلفين، أم كنت مع الذين أولئك الذين لم يركعوا ويسجدوا لله رب العالمين؟ كم عمرك اليوم؟ لقد بلغت من العمر عتياً؛ بعضنا جاوز العشرين وبعضنا جاوز الثلاثين وبعضنا قد جاوز الأربعين.
لن أسألك عن العشرين ولا عن الثلاثين ولا عن الأربعين سنة، سأسلك عن أشهر مضت منذ بداية العام حتى يومنا هذا: قل لي وكن صادقاً كم مرة فاتتك صلاة الجماعة؛ مرة أم مرتين أم ثلاثاً؟ قل لي واصدقني بالله العظيم كم مرة ناداك منادي الله: الصلاة خير من النوم وواقع حالك يقول: النوم خير من الصلاة؛ مرة أم مرتين أم ثلاثاً؟ وأنت يا من تدعي أنك محافظ على الصلوات وأنك لا تتخلف عن الجماعات! اصدقني وقل لي بالله العظيم: كم مرة تفوتك تكبيرة الإحرام على مدى أشهر وعلى مدى أيام؟ والله لا يستقيم حال الشباب صغاراً ولا كباراً حتى يستقيموا في صفوف المصلين.
قرأت عبارة جميلة علقت في أماكن كثيرة هنا وهناك: إذا أردنا النصر فلنصل الفجر.
إذا أردنا أن ننتصر على أعدائنا فلا بد أن ننتصر أولاً على أنفسنا.
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإن انتهت عنه فأنت عظيم والله الذي لا إله إلا هو إنك لن تلقى الله بقربة أعظم من المحافظة على الصلوات، والله لن يقودك إلى الجنان إلا المحافظة على الصلوات، ولو سألت أهل النيران عن سبب سلوكهم ذلك الصراط وذلك الطريق الضال: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42 - 43].
فالشباب بصراحة يحتاجون إلى مراجعة حساباتهم، حتى الشيب حتى الكبار يحتاجون إلى مراجعة الحسابات، فأين نحن من أولئك الذين لم تفتهم الصلوات؟ هذا يقول: أربعين سنة لم تفتني تكبيرة الإحرام، وآخر يقول: خمسين سنة ما فاتتني صلاة الجماعة، فأين نحن من هؤلاء؟ والله لن يتغير الحال ولن يتغير الواقع إلا إذا انضبطنا في صفوف المصلين، ولن يكون للكلام الذي سمعناه بالأمس ولا من قبله ولا اليوم أثر حتى نغير ما بأنفسنا، والصادق هو الذي يصدق مع نفسه، وما ربك بظلام للعبيد.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلني وإياكم من الذين هم على صلاتهم دائمون، وأن يجعلني وإياكم من الذين هم على صلاتهم يحافظون، وأن يجعلني وإياكم من الذين هم في صلاتهم خاشعون، اللهم اجمع شملنا، ووحد صفنا، وأصلح ولاة أمورنا، وانصرنا يا قوي يا عزيز على القوم الكافرين.
وأستغفر الله العظيم، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(76/6)
الأسئلة
بصراحة! الشباب يحتاجون إلى مراجعة حساباتهم، الشباب بحاجة إلى أن يراجعوا حساباتهم وأن يستقيموا في صفوف المصلين، سأسلك سؤالاً واصدقني في
الجواب
كيف أنت مع صلاتك؟ وهل صليت الفجر اليوم في جماعة المسلمين أم مع المتخلفين، أم كنت مع الذين أولئك الذين لم يركعوا ويسجدوا لله رب العالمين؟ كم عمرك اليوم؟ لقد بلغت من العمر عتياً؛ بعضنا جاوز العشرين وبعضنا جاوز الثلاثين وبعضنا قد جاوز الأربعين.
لن أسألك عن العشرين ولا عن الثلاثين ولا عن الأربعين سنة، سأسلك عن أشهر مضت منذ بداية العام حتى يومنا هذا: قل لي وكن صادقاً كم مرة فاتتك صلاة الجماعة؛ مرة أم مرتين أم ثلاثاً؟ قل لي واصدقني بالله العظيم كم مرة ناداك منادي الله: الصلاة خير من النوم وواقع حالك يقول: النوم خير من الصلاة؛ مرة أم مرتين أم ثلاثاً؟ وأنت يا من تدعي أنك محافظ على الصلوات وأنك لا تتخلف عن الجماعات! اصدقني وقل لي بالله العظيم: كم مرة تفوتك تكبيرة الإحرام على مدى أشهر وعلى مدى أيام؟ والله لا يستقيم حال الشباب صغاراً ولا كباراً حتى يستقيموا في صفوف المصلين.
قرأت عبارة جميلة علقت في أماكن كثيرة هنا وهناك: إذا أردنا النصر فلنصل الفجر.
إذا أردنا أن ننتصر على أعدائنا فلا بد أن ننتصر أولاً على أنفسنا.
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإن انتهت عنه فأنت عظيم والله الذي لا إله إلا هو إنك لن تلقى الله بقربة أعظم من المحافظة على الصلوات، والله لن يقودك إلى الجنان إلا المحافظة على الصلوات، ولو سألت أهل النيران عن سبب سلوكهم ذلك الصراط وذلك الطريق الضال: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42 - 43].
فالشباب بصراحة يحتاجون إلى مراجعة حساباتهم، حتى الشيب حتى الكبار يحتاجون إلى مراجعة الحسابات، فأين نحن من أولئك الذين لم تفتهم الصلوات؟ هذا يقول: أربعين سنة لم تفتني تكبيرة الإحرام، وآخر يقول: خمسين سنة ما فاتتني صلاة الجماعة، فأين نحن من هؤلاء؟ والله لن يتغير الحال ولن يتغير الواقع إلا إذا انضبطنا في صفوف المصلين، ولن يكون للكلام الذي سمعناه بالأمس ولا من قبله ولا اليوم أثر حتى نغير ما بأنفسنا، والصادق هو الذي يصدق مع نفسه، وما ربك بظلام للعبيد.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلني وإياكم من الذين هم على صلاتهم دائمون، وأن يجعلني وإياكم من الذين هم على صلاتهم يحافظون، وأن يجعلني وإياكم من الذين هم في صلاتهم خاشعون، اللهم اجمع شملنا، ووحد صفنا، وأصلح ولاة أمورنا، وانصرنا يا قوي يا عزيز على القوم الكافرين.
وأستغفر الله العظيم، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(76/7)
الصحبة السيئة وأثرها في ترك الصلاة
السؤال
ما نصيحتك حتى أكون محافظاً على الصلوات، فإني أفرط في بعضها وأحافظ على البعض، ومن أهم أسباب عدم المحافظة الصحبة السيئة، فما توجيهكم حفظكم الله؟
الجواب
الحمد لله وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه أقول: للصحبة دور كبير في معرفه نوعية الشباب، فإن الطيور على أشكالها تقع، وما ضيع كثير من الشباب إلا الشباب أنفسهم، هذا يزين لهذا وهذا يزين لذاك حتى إذا وقع أحدهم في ورطة تخلى عنه أصحابه إلا أهل الصلاح.
ما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل، ما الدافع الذي يدفعنا للمحافظة على الصلوات؟ وما الذي يجعل القلوب حية حتى تستقيم على أوامر الله؟ فإن الحياة الحقيقية هي حياة القلب لا حياة الأجساد بالطعام والشراب، إذا حي القلب حيت الجوارح والأركان، وإذا مات القلب فالناس أموات في نظر الله ليسوا بأحياء.
أقول: الطيور على أشكلها تقع! سأصف لك علاجاً لكني أريدك أن تأخذ بالعلاج حتى يرفع الله عنك هذا التفريط وهذا الضياع: كثير من الناس يظن أنه على خير، وهذا لجهله وقلة معرفته بنفسه، قال لي أحد الرؤساء الذين أعمل معهم: فلان من الناس أخلاقه عالية، سلوكه وتصرفاته راقية؛ لكنه فيه عيب واحد! قلت: ما هو؟ قال: لا يصلي معنا في المسجد.
قلت: والله هذا عيب يقدح في رجولة الرجل، فإن الله سمى أهل المساجد رجالاً، أما من دونهم فتنتفي عنهم هذه الصفة عند الله جل في علاه.
التقيت هذا الذي ذكره وكنا قد خرجنا من المسجد وهو قد خرج من الصالة الرياضية مجتهداً على بدنه وعلى عضلاته؛ هكذا حال المنافقين نسأل الله العفو والعافية {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4].
التقيته والناس قد خرجوا من الصلاة وهو قد خرج من الصالة الرياضية، قلت: فلان! قال: نعم، قلت: أريدك في أمر هام، سلمت عليه ثم قلت: رئيسك يذكرك بالخير ويقول: فلان أخلاقه عالية وتصرفاته راقية لكن فيه عيب واحد! قال: ما هو؟! انظر بارك الله فيك كيف يحرص على أن يزيل عيوبه أمام رئيسه وفيه من العيوب أمام الله ما الله به عليم، لم يحرص يوماً على مراجعة حساباته مع ربه! قلت: يقول: إنك لا تصلي معهم في المسجد ولا تشهد الجماعة، قال: صحيح يا شيخ! أنا مقصر، قلت: لا، انتبه بارك الله فيك! كلنا نقصر لكن فرق بين التقصير وبين الضياع، أنا تفوتني تكبيرة الإحرام مرة في اليوم فأنا مقصر، أن تفوتني صلاة الفجر وأصليها بعد الفجر أنا مقصر، ألا أدرك أربعاً قبل الظهر من حين أو فترة من الفترات أنا مقصر، أن يفوتني قراءة وردي من القرآن يوماً أنا مقصر؛ لكن أن تفوتني صلاة الجماعة أو الجمعة والجماعات؟ قلت: أنت مضيع يا شيخ! أنت تعيش في ضياع وأنت لا تعلم.
وكثير على حاله وعلى شاكلته ويظن أنه على خير؛ قال الله جل في علاه: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الزخرف:36 - 37]، لا يصلي ولا يشهد الجمعة والجماعات ويظن أنه على خير، أي خير هذا؟! قلت: انتبه يا فلان! أنت تعيش في ضياع، التقصير كلنا نقصر ولا أحد يخلو من التقصير، لكن أنت تعيش في واد وأهل الصلاح يعيشون في واد آخر.
فراجع الحسابات واستقم في صفوف المصلين، لله در أقوام تنصحه مرة واحدة فيراجع الحسابات ويستقيم مع المستقيمين، فما جاءت الصلاة التي بعدها إلا وقد رأيته بثياب بيضاء وغترة بيضاء قد استقام في صفوف المصلين من كلمة واحدة، فإن الحر الذي تكفيه الإشارة.
فأقول أولاً: هناك حقيقة لا بد أن نعرفها: أننا لا نملك لأنفسنا ضراً ولا نفعاً، وأننا لا ندري متى ننتقل من هذه الحياة الدنيا إلى الحياة الأخرى، فالموت يأتينا بغتة، فهل يرضيك يا من تفرط في الصلوات أن يأتيك الموت وأنت على حال التفريط؟
الجواب
لا، إذاً لا بد أن تسعى إلى التغيير وتسعى إلى التبديل.
سأل رجل رجلاً رجل عنده وكان مضيعاً مفرطاً في أوامر الله، فقال: يا فلان! الحال التي أنت عليها هل ترضاها للموت؟ قال: لا، قال: فهل نويت أن تغير هذه الحال إلى حال ترضاها للموت؟ قال: ما اشتاقت نفسي بعد، قال: وهل تضمن ألا يأتيك الموت وأنت على هذه الحال؟ قال: لا، قال: وهل بعد هذه الدار دار فيها معتمل؟ قال: لا، قال: والله ما رأيت عاقلاً يرضى بهذه الحال! اعمل بالنصيحة بارك الله فيك! واسمع الموعظة فقد قال الله عن المعرضين: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} [المدثر:49 - 51].
العلاج: جاهد النفس، كما قال النبي صلى الله علية وسلم: (ألا إني نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة).
ما غفل من غفل ولا فرط من فرط إلا لأنه تناسى الموت الذي هو أقرب إلى أحدكم من شراك نعليه، الموت الذي ينتظر كل واحد منا، لو أيقنا بالموت ولحظاته وساعاته وأنه يأتينا بغتة لتغير حال كثير من الناس، كيف حال أولئك الذين فرطوا في ساعات احتضارهم ينادون بأعلى الصوت: رباه ارجعون، فلا يستجاب لهم؟ وحيل بينهم وبين ما يشتهون.
فاجعل لك زيارة للمقبرة من حين إلى حين تزور بها الموتى وتتذكر فيها حالهم، وتدعو لك ولهم.
سبحان الله! ما يعرف قيمة النعمة إلا من فقدها.
زر المرضى وانظر في أحوالهم، وانظر إلى من سلب نعمة السمع ونعمة البصر ونعمة القدم ونعمة اليدين، حتى تعلم أنك في خير عظيم.
رجل يعمل في أحد الأسواق حمالاً، طويل القامة مفتول العضلات، يحمل من الأثقال ما لا يستطيع أن يحمله الرجل والرجلان، قيل له: لماذا لا تصلي؟ لكنه لا يستجيب، قال: أنا على هواي، أفعل ما أشاء ولا أحد يأمرني وينهاني، اغتر بقوته وبعضلاته، يذهب الناس حين الصلاة بعد إغلاق متاجرهم إلى المسجد وهو يجلس في مكانه يأكل ويشرب.
سبحان الله! أما حمد الله على هذه النعم؟ وهل الحمد والشكر يكون بالكلام فقط، والله يمهل ولا يهمل.
سار يوماً بين المحلات وهو يحمل حملاً ثقيلاً فزلت قدمه على قشرة موز، فأصيب بشلل كامل ووضع على الفراش لا يتحرك منه إلا رأسه، يسأل: ما هي الأمنية التي تتمناها الآن؟ قال: أتمنى أن أصلي مع الجماعة! الله أكبر! أما كنت تذكر ويقال لك: صل مع المصلين وحافظ على أوامر الله مع المحافظين، فما استجبت: ((فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ)).
اعلم بارك الله فيك أنه من لم يعتبر بالآخرين سيكون لهم عبرة في يوم من الأيام؛ فزر المقابر وزر المرضى، وإذا حدثتك نفسك بالتفريط والتضييع فذكرها أن الموت قريب.
أسأل الله أن يحيي قلبي وقلوبكم وقلوب السامعين، وأن يجعلنا هداة مهدين لا ضالين ولا مضلين.(76/8)
زلزال في موجة الموت (فاعتبروا يا أولي الأبصار)
إن الله تعالى قد أودع في هذا الكون سنناً ثابتة لا تتبدل ولا تتغير، والجزاء من جنس العمل، وما تشاهده اليوم من عقوبات تحل بالبشر، كالزلازل والبراكين والفيضانات والأعاصير، إنما هو ابتلاء للصالحين، وعقاباً للعصاة، وعبرة وعظة للناجين منهم.
والواجب على المسلم في مثل هذه العقوبات: أن يلجأ إلى الله تعالى، وأن يرجع إليه سبحانه، وأن يتوب ويستغفر حتى يقيه الله مثل هذه العقوبات.(77/1)
مضي سنن الله الكونية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: عباد الله! إن ما يقع في العالم من حوادث ومجريات لا يقع صدفة ولا محض عشواء, والظاهرات الكونية من زلازل وبراكين وغيرها من الآيات هي من الآيات الدالة على خالق هذا الكون وعلى عظمته, فلا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن إلا بعلمه وإذنه، قال الله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هو وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام:59].
عباد الله! لقد أودع الله العليم الحكيم هذا الكون سنناً ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، والجزاء من جنس العمل, وما نشاهده اليوم من العقوبات في بعض البلدان القريبة والبعيدة لهو أكبر زاجر وواعظ, حروب ودمار, شتات وفرقة, زلازل وأعاصير, براكين وفيضانات، لقد طغت الماديات وتفنن الناس في المحرمات, وأصبح المعروف عند بعض الناس من أنكر المنكرات, والمنكر من أعرف المعروفات, والمصيبة الكبرى أن قل الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر, فماذا ننتظر بعدها؟! اسمع رعاك الله! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقابه)، وقال الله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16]، وسنن الله ماضية قال الله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً} [الإسراء:17].
عباد الله! إن الله تعالى قص علينا قصص الأمم السابقة وما حل بها لنتعظ ونعتبر، ولا نفعل فعلهم حتى لا يصيبنا ما أصابهم, قال سبحانه: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:137 - 138].
وسنن الله ماضية وسارية على الجميع دون محاباة ولا تمييز, لذلك قال ربنا تبارك وتعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر:2] , ولذلك قال ربنا تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر:51].(77/2)
كيفية التعامل مع هذه العقوبات
فهذه الظواهر من زلازل وبراكين وعواصف هي من جند الله التي سخرها الله عقاباً للمذنبين، وابتلاءً للصالحين، وعبرة للناجين, وإن لم ننظر لهذه الحوادث بهذا المنظار فلن نستفيد من حدوثها ووقوعها, فالله تعالى حكيم فيما يقضيه ويقدره, فهو سبحانه يسخر ما يشاء من الآيات تخويفاً لعباده وتذكيراً لهم كما قال هو: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً} [الإسراء:59].
عباد الله! لقد مر على العالم منذ أيام حدث عظيم سمع به القاصي والداني, ألا وهو: الزلازل العظيم الذي أصاب عدداً من البلاد المسلمة والكافرة، وهاج البحر بسببه فانطلقت أمواجه تحصد الأرواح والممتلكات, ففي أقل من دقيقة كان عشرات الآلاف من القتلى، ومثلهم من المفقودين, وملايين المشردين, ومليارات الخسائر المادية, وما زالت الإحصاءات مستمرة ليعلم الناس أن بطش الله شديد, وأنه جل جلاله فعال لما يريد، {ومَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران:117].
سبحانك يا الله ما أعظمك! سبحانك يا الله ما أحلمك! سبحانك يا الله ما أعدلك! {إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس:44]، لقد كان جزء كبير من المناطق المنكوبة منتزهات سياحية يأوي إليها الفساق من السياح من كل مكان, فيتعرون ويرقصون ويغنون ويسكرون ويعربدون, زنا ولواط, وفواحش ومنكرات, فلما رأى البحر محارم الله تنتهك، وأوامره تضيع غار البحر على محارم الله, فثار ومار واستأذن من الجبار.
جاء في مسند أحمد فيما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس من ليلة إلا والبحر يشرف فيها ثلاث مرات على الأرض يستأذن الله في أن ينفضح عليهم - أي: على العصاة - فيكفه الله عز وجل).
فلا إله إلا الله البحر يتمعر ويتمنى إغراق العصاة, ويستطيع ولكنه مأمور, ولقد أنذرهم الله فتماروا بالنذر، وقد أعذر من أنذر.
ففي العام الماضي أو الذي قبله حدث تفجير في أحد المنتزهات السياحية المليئة بالسكر والعربدة، وقتل في هذا الانفجار خلق كثير، فكان هذا بمثابة الإنذار المبكر لهؤلاء القوم لو كانوا يعقلون، ولسنا نقر التفجيرات ولكن أليست هي عقوبة من الجبار جل جلاله, وبدلاً من أن يراجع هؤلاء القوم حساباتهم مع الله, عادوا إلى ما كانوا عليه، وزاد طغيانهم وتسلطوا على عباد الله الصالحين وأوليائه المؤمنين, فاتهموهم بما هم منه براء، وسجنوهم وعادوهم، وما زال كثير منهم حتى الآّن رهن الاعتقال رغم عدم ثبوت إدانته.
وعادت تلك المنتزهات إلى ما كانت عليه من الفجور والعربدة, وصدق الله: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً} [الإسراء:60].
فغار الجبار الله في سمائه, فأوحى لأرضه أن تزلزلي، وأوحى لبحاره أن هيجي وأغرقي, فما كان للأرض أن تعصيه, وما كان للبحار إلا أن تستجيب لأوامره، فما الذي حدث؟ اسمع رعاك الله! وافتح القلب قبل أن تفتح الأذنين, في دقائق معدودة أقاليم بأكملها زالت, وقرى بكل ما فيها انمحت, وأمم من البشر بادت وماتت، بعض الجزر غطاها الموج العاتي، فأفنى بنيانها وأهلك حرثها ونسلها وقطع أشجارها, فلم تستطع المباني الشاهقة، ولا الأشجار العالية، أن تقف أمام الموجات العالية التي وصلت قوتها وسرعتها إلا مئات الكيلومترات.
فلا إله إلا الله فلا ترى إلا مباني سويت بالأرض, وسيارات ومراكب اصطدمت ببعضها البعض, فهذا فعل الأمواج العاتية بالمباني والأشجار والممتلكات, فما ظنك بفعلها بالبشر الضعفاء؟! يا الله! عشرات الآلاف من الجثث الهامدة، وبقايا أجساد متعفنة، منها ما هو طريح الرمال، ومنها ما هو معلق بالأشجار, ومنها ما هو مدفون تحت البنايات المتهدمة, وليس من شيء يعبر عن وصف تلك الحال مثل قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس:24].
عباد الله! لقد كانت تلك الشواطئ، وتلك الديار من أجمل بقاع الأرض بما حباها الله من جبال وغابات وبحار وأشجار, وبدلاً من أن يأتي الناس إليها متفكرين لعظيم جمال خلق الله أتوها من كل مكان وجعلوها أماكن للعهر والفساد والفجور {فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} [الزمر:25]، أما قال الله: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم * أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللهِ أَو تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [يوسف:105 - 107].(77/3)
بيان السبب الرئيسي لهذه العقوبات
عباد الله! لقد تحدثتْ جميع وسائل الإعلام عن هذا الحدث العظيم، وحللوا وعللوا وذكروا أسباباً عدة, ولكنهم للأسف لم يذكروا السبب الرئيسي لهذه الكارثة, فهل ربطوا الناس بربهم وخالقهم وبينوا أن الأمر كله لله؟ إنه حدث ضخم كبير, وزلازل مدمر يجب أن يوقف معه وقفات تأمل واعتبار, إن وسائل الإعلام الغشاشة الراعية أصلاً للعهر والفجور, لو نطقت بالحق وأخبرتنا خبر تلك الليلة لسمعت ورأيت ما يشيب له رأسك مما يجري في مراقص العهر وحانات الخمور وفنادق القمار.
قد يقول قائل: لقد كان فيهم راكعون وساجدون وأطفال ونساء، قلت: لقد أجابنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا السؤال حين قال: (أولئك يبعثون على نياتهم)، ولكن أما تأملت معي وتدبرت أن صلاتهم وصيامهم لم تمنع عنهم العذاب؟ أما قال صلى الله عليه وسلم مهدداً العرب: (ويل للعرب من شر قد اقترب, فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج وحلق بأصبعيه, قالت أم المؤمنين: أنهلك وفينا الصالحون؟! قال نعم إذا كثر الخبث).
عباد الله! إن الناظر في مجريات حياتنا، والمتأمل في واقعنا ومعاشنا سيصاب بالرعب والفزع بسبب ما نراه من انتهاك لحرمات الله وحدوده، وتضييع لأوامر الله وواجباته, فانظر إلى حال الناس في الصلاة، وما مدى محافظتهم على صلاة الجماعة؟ وكم هم الذين يشهدون ويواظبون على صلاة الفجر؟ والذي نفسي بيده، بالأمس فقط قال لي أحد الشباب: أنا لا أصلي، وقالت لي إحدى الفتيات: عمري عشرون سنة ولم أصل إلا من رمضان الذي مضى.
وانظر رعاك الله! إلى حال الناس مع أكل الربا والمسارعة إليه والحرص على المشاركة فيه! ألم تنتشر بنوك الربا في كل مكان؟! ألم تعلن الحرب على الله جل جلاله؟! ألم يدعى الناس للمساهمة في المعاملات الربوية، فسارع أكثرهم معرضين عن تهديد الله لهم: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279]؟! فأين الصالحون؟! ثم انظر إلى انتشار الرشوة بين الناس، والتي قد لعن النبي صلى الله عليه وسلم آخذها ومعطيها، فلا تقضى لك حاجة ولا ينجز لك عمل حتى تكون من الملعونين الراشيين والمرتشين! فأين الصالحون؟! أما نظرت إلى الأسواق وقد امتلأت بالفسقة والفاسقات، واللاهثين خلف الشهوات والمحرمات؟ أما آلمك ما آل إليه حال النساء من تبرج وسفور؟! فأين الصالحون؟! أما رأيت آلاف الشباب وهم يعبرون الجسور ويركبون الطائرات إلى دول مجاورة، وإلى دول قريبة يذهبون لشرب الخمور ومعاقرة الزنا والفجور؟! فأين الصالحون؟! أما بلغ مسامعك الموسيقى والألحان ومعازف الشيطان، فتسمع في كل لحظة وفي كل مكان؟! بل أكثر مما يسمع القرآن؟! فأين الصالحون؟! ألم تر وتسمع ماذا فعلت بنا الشاشات والأطباق الفضائيات؟! والله ما فرح الشيطان وأعوانه من الإنس والجان بمثل فرحهم بهذه الأطباق التي فعلت بالأمة فعلها, فضيعت الأمة دينها, وفسدت عقيدتها, ودمرت أخلاقها, حتى وصل الأمر أن يقع الأب على ابنته، والأخ على أخته, فانتهكت المحارم وإنا لله وإنا إليه راجعون.
والله لا تنجو المجتمعات إلا بالصالحين المصلحين، الآمرين بالمعروف, الناهين عن المنكر, الذين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم.
ما أحلم الله! لكنه يمهل ولا يهمل, إننا والله نخشى أن تنزل علينا عقوبة الله بسبب أمننا من مكر الله تعالى وعقوبته, قال الله: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَو يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * أَو يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ * أَو يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [النحل:45 - 47].
أما قال الله حين أهلك القرى الظالمة العاصية: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83]، هل بيننا وبين الله حسب؟ وهل بيننا وبين الله نسب حتى نأمن مكره وعقوبته؟! {قُلْ هو الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَومِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَو يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهونَ * وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهو الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ * لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:65 - 67].
عجيب والله أمر الناس! الزلازل والفيضانات تضرب غرب الأرض، والناس في شرقها يضحكون ويمرحون، عجيب والله أمر الناس! الزلازل والفيضانات تضرب غرب الأرض، والناس في شرقها يضحكون ويمرحون في غمرة ساهون، لذلك قال الله: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:54 - 56].
يا أم أيمن قد بكيت وإننا نلهو ونمجن دون معرفة الأدب لم تبصري وضع الحديث ولا الكذب لم تشهدي بعض المعازف والطرب لم تشهدي شرب الخمور ولا الزنا لم تلحظي ما قد أتانا من عطب لم تشهدي فرق الضلالة والهوى لولا مماتك لرأيت من العجب لم تشهدي فعل العدو وصحبهم ها نحن نجثو لليهود على الركب وا حر قلبي من تمزق أمتي أضحت أمورك أمتي مثل اللعب والله ما ظهرت المعاصي في ديار إلا أهلكتها، ولا فشت في أمة إلا أذلتها، ولا تخلخلت في دولة إلا أسقطتها، فإنه ليس بين أحد وبين الله نسب، قال الجبار: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ} [الزخرف:55 - 56].
ولا تظنن أن العقوبات إنما تكون زلازل وبراكين، بل قد تكون حروباً وذهاباً للأمن والأمان, وقد تكون عقوبات اقتصادية، وسوء للأوضاع المالية فهل نحن مدكرون؟! نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(77/4)
العقوبات من أشراط وعلامات الساعة
الحمد لله على إحسانه، والشكر له سبحانه على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
اتقوا الله عباد الله! فقد أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم أن هذه الزلازل من أشراط الساعة ومن علامات قربها، فقد قال بأبي هو وأمي فيما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، ويتقارب الزمان، وتكثر الزلازل، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج, قيل: وما الهرج يا رسول الله؟ قال: القتل القتل!).
وها أنتم ترون بأم أعينكم كثرتها وتتابعها في هذا الزمن مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم, فماذا بعد ذلك؟ فماذا بعد ذلك؟ قال الله: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ * فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد:18 - 19].
عباد الله! إذا كانت زلزلة دقائق وثوان صنعت هذا الدمار والهلاك فكيف بزلزلة يوم يجعل الولدان شيباً؟! لقد جعل الله هذه الآيات والأحداث عبرة وعظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، قال جل في علاه: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:11 - 18].
يا الله! كم مرة قرأنا قول الله: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:1 - 8].
إنها زلزلة يوم القيامة! وما أدراك ما يوم القيامة؟! في ذلك اليوم يشتد غضب الجبار جل جلاله, فيقبض الأرض بيمينه, والسماوات بشماله وينادي: أنا الملك, أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم ينادي الجبار: يا آدم! أخرج بعث النار فيقول آدم: وما بعث النار؟ فيقول الجبار: من كل ألف تسعمائة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (فحينها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد).
لذلك حذرنا ربنا فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1]، كيف سيكون حالي وحالك؟! {إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً * وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:21 - 23].
يا مخطئاً ما أجهلك عصيت رباً عدلك وأقدرك وأمهلك عجل وبادر أملك واختم بخير عملك وناد رباً فضلك لبيك إن الحمد لك والملك لا شريك لك اتقوا الله عباد الله!(77/5)
واجب المسلم تجاه هذه العقوبات
إن الواجب علينا في مثل هذه الأحداث، وفي مثل هذه الظروف أن نرجع إلى الله, وأن نلجأ إلى الله, وأن نتضرع إلى الله, وأن نتوب ونستغفر الله، ولا نكون كالذين قال الله فيهم: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام:42 - 43].
عباد الله! قد تكون الأحداث في ظاهرها مؤلمة, ولكنها والله رحمة من رب العالمين, حتى يراجع المسيء حساباته ويزيد الصالح في صلاحه, وينتهي أهل الباطل عن باطلهم, وأن يعلم الجميع أن هذه العقوبات والمعاصي والفواحش والمنكرات إنما هي عقوبة، وأن يعلم الجميع أن هذه العقوبات هي بسبب المعاصي والفواحش والمنكرات, كما قال الله: {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} [العنكبوت:40].
ذكر ابن أبي الدنيا عن أنس بن مالك أنه دخل على عائشة هو ورجل آخر، فقال لها الرجل: (يا أم المؤمنين! حدثينا عن الزلزلة، فقالت: إذا استباحوا الزنا, وشربوا الخمور, وضربوا المعازف, قال الله عز وجل في سمائه لأرضه: تزلزلي بهم, فإن تابوا ونزعوا, وإلا أهدمها عليهم، قال الرجل: يا أم المؤمنين! أعذاباً لهم؟ قالت: لا, بل موعظة ورحمة وذكرى للمؤمنين، ونكالاً وعذاباً وسخطاً على الكافرين).
فتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون، واعلموا أنه ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة، فلا تكونوا من الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون.
فالواجب عباد الله! عند حدوث هذه الحوادث وهذه الآيات المسارعة بالتوبة والضراعة إلى الله، والإكثار من ذكره واستغفاره كما قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره).
ويستحب أيضاً رحمة المساكين والصدقة عليهم، لقوله صلى الله عليه وسلم: (ارحموا ترحموا)، وقال أيضاً: (الراحمون يرحمهم الرحمن, ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)، وقال أيضاً: (من لا يرحم لا يرحم).
والله لقد أخبرنا كثير من الناجين بأنهم نجوا لما لجئوا إلى بيوت الله التي وقفت صامدة أمام الأمواج والأعاصير، فسبحان الذي قال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53]، اللهم رحمتك نرجو فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.
أما رأيتم عباد الله صور الموتى من الأطفال والنساء؟ فهل تخيلتم أطفالكم ونساءكم؟! يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث أصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم ارحم موتى المسلمين، اللهم ارحم موتى المسلمين الذين ماتوا في هذه الزلازل والفيضانات، واجعل ذلك تكفيراً لسيئاتهم ورفعة لهم في الدرجات، واجعل ذلك عبرة لنا وذكرى يا رب العالمين.
اللهم رحماك بالشيوخ والأطفال والنساء والضعفاء يا رب العالمين! اللهم إنهم جوعى فأطعمهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم خائفون فأمنهم يا رب العالمين! ربنا ظلمنا أنفسنا وإلا تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والفواحش ما ظهر منها وما بطن, عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين! ول علينا خيارنا واكفنا شرارنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك وابتغى رضاك يا رب العالمين! اللهم من أرادنا وبلادنا وبلاد المسلمين بسوء فأشغله في نفسك، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين! اللهم ردنا إليك رداً جميلاً يا حي يا قيوم! اللهم إنا نسألك توبةً نصوحاً يا رب العالمين! اللهم أصلح الشباب والشيب، اللهم رد الشباب إلى الحق يا رب العالمين! وبارك في أعمال الشيب يا حي يا قيوم! واحفظ نساءنا وأطفالنا وبلادنا وبلاد المسلمين يا رب العالمين! لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا ظالمين، اغفر لنا وارحمنا ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم عاملنا بما أنت أهله، ولا تعاملنا بما نحن أهله، إنك أنت أهل التقوى وأهل المغفرة، انصر المجاهدين في سبيلك الذين يقاتلون من أجل إعلاء كلمة دينك, اللهم كن معهم في العراق وفلسطين والشيشان وفي أفغانستان وكشمير والفلبين والسودان وفي كل مكان يا رب العالمين! انصر من نصرهم، واخذل من خذلهم، وقو عزائمهم، وثبت الأقدام، وفك أسرانا وأسراهم يا رب الأنام! اللهم اهزم عدوك وعدونا إنهم لا يعجزونك يا قوي يا عزيز! عباد الله! {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(77/6)
عذراً رمضان
إن من فضل الله تعالى وكرمه على هذه الأمة أن جعل لها مواسم خير، ومحطات إيمانية يتزود من خلالها المؤمن بزاد التقوى، ويتقرب إلى ربه عز وجل بأنواع القربات.
ومن هذه المواسم: شهر رمضان، شهر فيه ليلة هي خير من ألف شهر، شهر تصفد فيه الشياطين، وتفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب النيران، لكن للأسف تجد بعض المسلمين لا يقدر هذا الشهر حق قدره، فتضيع الأوقات فيها يغضب الله تعالى، وفيما لافائدة منه، والحاذق من استغله في طاعة ربه عز وجل.(78/1)
عذراً رمضان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: معاشر الأحبة! حاضرين وحاضرات! مستمعين ومستمعات! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله وبياكم، وسدد على طريق الحق خطاي وخطاكم، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني وإياكم في دار كرامته إخواناً على سرر متقابلين، وأسأله سبحانه أن يحفظني وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلنا هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين.
عنوان هذه الليلة المباركة في هذا المكان المبارك مع هذا الحضور المبارك: عذراً رمضان.
لماذا الموضوع؟ ومم سيتكون؟ سيتكون من العناصر التالية: لماذا الاعتذار؟ وقفة تفكر قبل البداية.
شهر رمضان.
كتب عليكم الصيام.
المطلوب منك ومنك ومني.
بدأ غريباً وسيعود غريباً.
الغرباء مع الصيام.
لك من أخبار الصائمات.
أنواع الصائمين.
عذراً رمضان.
النداء الأخير.(78/2)
لماذا الاعتذار؟!
الاعتذار لأننا في كل عام نكرر نفس الخطأ في رمضان، فقبل دخوله -أي قبل دخول رمضان - بأيام نعد أنفسنا ونمنيها بأننا سنصنع كذا وسنقوم من الليالي كذا وكذا، سنختم القرآن مرات ومرات، وسنبذل من الصدقات، ثم ما إن يدخل رمضان وتمضي أول الأيام حتى تفشل المخططات، وتذهب الأمنيات أتدري أتدرين ما السبب؟! السبب: أننا نريد أن نلزم أنفسنا بأعمال ما تعودناها، نريد أن نلزم أنفسنا بأعمال ما تعودناها قبل رمضان، فلا عجب سرعان ما تفشل المخططات، متى عهدنا بالقيام، وختم القرآن، ومداومة الصيام؟! أما هم فكان العام كله عندهم كله رمضان، فإذا دخل عليهم ارتفعت الهمم فزادوا في القربات.
فعذراً رمضان ابتداءً، لأن أكثرنا سيعيد وسيكرر نفس الخطأ والأخطاء.
كنا في العام الماضي في مثل هذه الأيام نرقب شهر الصوم ونتحراه، ثم ماذا؟! عام كامل بأيامه ولياليه قد قوض خيامه، وطوى بساطه، وشد رحاله بما قدمنا فيه من خير أو شر، وصدق الله - ((وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً)) ((وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً)) -: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، وصدق الله حين قال: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ} [النور:44].
قال ابن كثير رحمه الله: تمر بنا الأيام تترا، وإنما نساق إلى الآجال والعين تنظر.
إن الدقائق والثواني التي ذهبت من أعمارنا لن تعود، ولو أنفقنا جبال الأرض ذهباً وفضة.
اعلم واعلمي أن الأنفاس معدودة والآجال محدودة، واعلم واعلمي أن من أعظم نعم الله علينا أن مد في أعمارنا وجعلنا ندرك هذا الشهر العظيم إن أدركناه، فكم غيب الموت من صاحب، ووارى التراب من حبيب، تذكروا من صام معنا العام الماضي وصلى العيد، ثم أين هو؟! وأين هي الآن؟! غيبهم الموت وواراهم التراب، ونسيهم الأهل والأحباب.
اجعل واجعلي لك من هذا الحديث نصيباً، قال صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: اغتنم حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك)، رواه الحاكم.
احرصوا رعاكم الله أن تكونوا من خيار الناس كما قال صلى الله عليه وسلم وأخبر حين سئل: أي الناس خير؟ قال: (من طال عمره وحسن عمله).
إلهي ثكلت خواطر أنست بغيرك عدمت قلباً يحب سواك(78/3)
شهر رمضان
قال سبحانه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185]، جاء عند أحمد والنسائي من حديث أبي هريرة: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بقدوم رمضان، فكان يقول لهم: قد جاءكم شهر رمضان شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، يفتح فيه أبواب الجنة، ويغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خير تلك الليلة فقد حرم الخير).
قال ابن رجب: هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضاً بشهر رمضان، كيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان؟! كيف لا يبشر المذنب بغلق أبواب النيران؟! كيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشيطان؟! من أين يشبه هذا الزمان زمان؟! قال معلى بن الفضل: كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم رمضان.
وقال يحيى بن كثير: كان من دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان، وسلم لي رمضان، وتسلمه مني متقبلاً يا رب الأنام! فمرحباً بشهر طيب مبارك كريم، في رمضان أنزل القرآن والكتب السماوية، في رمضان الشفاعة بالصيام والقرآن، في رمضان التراويح والتهجد، في رمضان التوبة وتكفير الذنوب، في رمضان تصفد الشياطين، في رمضان تغلق أبواب الجحيم وتفتح أبواب الجنان، في رمضان الجود والإحسان والعتق من النيران، في رمضان الصبر والشكر والدعاء، في رمضان مضاعفة الحسنات وليلة القدر، رمضان شهر الجهاد والانتصار فكيف لا يفرح المؤمن بشهر هذا بعض ما فيه؟!.
بين الجوانح في الأعماق سكناه فكيف أنت ومن في الناس ينساه؟ وكيف أنت حبيباً كنت في صغري؟ أسير حسن له جلت مزاياه ولم أزل في هواه ما نقضت له عهداً ولا محت الأيام ذكراه قد شاخ جسمي ولكن في محبته وما زال قلبي فتى في عشق معناه وفي كل عام لنا لقيا محببة يهتز كل كياني حين ألقاه بالعين والقلب والآذان أرقبه وكيف لا وأنا بالروح أحياه والليل تحلو به اللقيا وإن قصرت ساعاتها أحيالها وأحلاه فنوره يجعل الليل البهيم ضحى فما أجل وما أجلى محياه ألقاه شهراً ولكن في نهايته يمضي كطيف خيال قد لمحناه في موكب الطهر في رمضان الخير تجمعنا محبة الله لا مال ولا جاه من كل ذي خشية لله ذي ولع بالخير تعرفه دوماً بسيماه قد قدروا مواسم الخيرات فاستبقوا والاستباق هنا المحمود عقباه صاموه قاموه إيماناً ومحتسباً أحيوه طوعاً وما في الخير إكراه وكلهم بآيات القرآن مندمجاً كأنه الدم يسري في خلاياه فالأذن سامعة والعين دامعة والروح خاشعة والقلب أواه عذراً رمضان عذراً رمضان! فما قدرناك حق قدرك.(78/4)
كتب عليكم الصيام
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].
الحكمة من الصيام: ليس أن يمنع الإنسان نفسه عن الطعام والشراب والنكاح، ولكن كما قال الله: ((لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ))، وما أشار إليه النبي الكريم صلوات ربي وسلامه عليه في قوله: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)، ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: (من لم يدع قول الزور): هو كل قول محرم، أو العمل به أي بالزور، أي: كل فعل محرم، (والجهل) هو: العدوان على الناس وعدم الحلم.(78/5)
المطلوب منك ومنكِ ومني
فالمطلوب منك ومنك ومني: تحقيق تقوى الله جل في علاه، فهي الغاية المنشودة والصفة المفقودة، قال سبحانه: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131]، وقال صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت)، والتقوى في أبسط معانيها: فعل المأمور وترك المحذور.
فهل ترانا حققنا هذا بصيامنا؟! أم نحن ممن بالنهار يتقيه وبالليل يعصيه؟! كتب عمر بن عبد العزيز إلى رجل: أوصيك بتقوى الله عز وجل التي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها، فإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل جعلني الله وإياكم من المتقين.
تقوى الله أكرم ما أسررت، وأزين ما أظهرت، وأفضل ما ادخرت، {وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:35].
فإليك موجزاً وبعضاً من أخبار المتقين: قال البخاري: ما اغتبت مسلماً منذ احتلمت.
وقال الشافعي: ما حلفت بالله صادقاً ولا كاذباً، ولو أعلم أن الماء يفسد علي مروءتي ما شربته.
قيل لـ محمد بن واسع: لم لا تتكئ؟! قال: إنما يتكئ الآمن وأنا لا زلت خائفاً.
وقرئ على عبد الله بن وهب: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ} [غافر:47]، فسقط مغشياً عليه.
وحج مسروق فما نام إلا ساجداً.
وقال أحدهم: ما كذبت منذ علمت أن الكذب يضر أهله.
وقال أبو سليمان الدارني: كل يوم وأنا أنظر في المرآة هل اسود وجهي من الذنوب؟ هذا حالهم فكيف هو حالي وحالك؟! لبسنا الجديد، وأكلنا الثريد، ونسينا الوعيد، وأملنا الأمل البعيد! رحماك يا رب! لماذا تريد الحياة؟! لماذا تعشق العيش؟! إذا لم تدمع العينان من خشية الله جل في علاه! إذا لم نمدح الله في السحر! إذا لم نزاحم بالركب في حلق الذكر! إذا لم نصم الهواجر، ونخفي الصدقات! هل العيش إلا هذا؟! قالوا: إذا لم تستطع قيام الليل وصيام النهار، فاعلم أنك محروم، قال سبحانه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55].
فهذه أخبارهم {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر:37].(78/6)
بدأ غريباً وسيعود غريبا
قال صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء)، إن الذي يقرأ ويسمع عن أخبار السلف وثلة من الخلف يعلم أن الدين يعيش غربة بين أهله، من سمع عن صيامهم وقيامهم وجهادهم أيقن أن الواقع اليوم يحتاج إلى مراجعة وتصحيح.
فتعالوا أحبتي! ننظر في بعض صور الغرباء في رمضان، ومع الصيام ونقول ونكرر: عذراً رمضان.(78/7)
الغرباء مع الصيام
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ما مات عمر حتى فرغ الصيام.
أما أمير البررة وقتيل الفجرة عثمان، قال أبو نعيم عنه: حظه من النهار الجوع والصيام، ومن الليل السجود والقيام، مبتل بالبلوى منعم بالنجوى.
وعن الزبير بن عبد الله عن جدته قالت: كان عثمان يصوم الدهر ويقوم الليل إلا هجعة من أوله رضي الله عنه.
قتلوه وقد كان صائماً والمصحف بين يديه، والدموع على لحيته وخديه، حبيب محمد ووزير صدق ورابع خير من وطئ التراب.
أما أبو طلحة الأنصاري الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لصوت أبي طلحة في الجيش خير من ألف رجل)، عن أنس رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة لا يصوم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من أجل الغزو فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم لم أره يفطر إلا يوم أضحى أو يوم فطر.
أما حكيم الأمة وسيد القراء أبا الدرداء فقد قال: لقد كنت تاجراً قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فلما بعث زاولت العبادة والتجارة فلم يجتمعا، فأخذت بالعبادة وتركت التجارة.
تقول عنه زوجه: لم تكن له حاجة في الدنيا، يقوم الليل ويصوم النهار ما يفتر.
لله درهم!.
أما من خبر الإمام القدوة المتعبد المتهجد عبد الله بن عمر فيكفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم العبد عبد الله)، قال عنه نافع: كان ابن عمر لا يصوم في السفر ولا يكاد يفطر في الحضر.
وعن سعيد بن جابر قال: لما احتضر ابن عمر قال: ما آسى على شيء من الدنيا إلا على ثلاث: ظمأ الهواجر، ومكابدة الليل، وأني لم أقاتل الفئة الباغية التي نزلت هنا، يعني الحجاج.
وإليك وإليك المزيد، وكرروا معي: عذراً رمضان.
عن رجاء بن حيوة عن أبي أمامة قال: (أنشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً فأتيته، فقلت: يا رسول الله! ادع الله لي بالشهادة، فقال: اللهم سلمهم وغنمهم، فغزونا فسلمنا وغنمنا، حتى ذكر ذلك ثلاث مرات، قال ثم أتيته فقلت: يا رسول الله! إني أتيتك تترا -ثلاث مرات - أسألك أن تدعو لي بالشهادة فقلت: اللهم سلمهم وغنمهم، فسلمنا وغنمنا يا رسول الله! فمرني بعمل أدخل به الجنة، فقال: عليك بالصوم فإنه لا مثل له، قال فكان أبو أمامة لا يرى في بيته الدخان نهاراً إلا إذا نزل بهم ضيف، فإذا رأوا الدخان نهاراً عرف الناس أنهم قد اعتراهم الضيوف).
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في يوم حار حتى إنه ليضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا نبينا صلى الله عليه وسلم وابن رواحة).
أما مسروق بن عبد الرحمن الذي كان في العلم معروف، وبالثناء موصوف، وبعبادة الله معشوق، قال عنه الشعبي: غشيته يوماً -أي: زرته يوماً- في يوم صائم، وكانت عائشة قد تبنته فسمى ابنته عائشة وكان لا يخالف ابنته في شيء، قالت: فنزلت عليه ابنته يوماً فقالت: أبتاه! أفطر واشرب! قال: ما أردتي يا بنية! ماذا تريدين من هذا الكلام؟ قالت: الرفق، أن ترفق بنفسك أبتاه! قال: يا بنية! إنما طلبت الرفق لنفسي في يوم كان مقدراه خمسين ألف سنة.
فماذا صنع الله لهم وماذا أعد لهم؟! {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا * وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} [الإنسان:12 - 14] إلى أن قال لهم: {إن هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً} [الإنسان:22].
وهذا خبر أخير عن المبشر المحزون، والمستتر المخزون، تجرد من التلاد وشمر للجهاد وقدم العتاد للمعاد: العلاء بن زياد كان ربانياً تقياً قانتاً لله بكاءً من خشية الله، فعن هشام بن حسان أنه قال: كان قوت العلاء بن زياد رغيفاً كل يوم، وكان يصوم حتى يخضر، ويصلي حتى يسقط، فدخل عليه أنس بن مالك والحسن فقالا له: إن الله تعالى لم يأمرك بهذا كله، فقال: إنما أنا عبد مملوك، فلا أدع من الاستكانة شيئاً إلا جئته.
قال له رجل يوماً: رأيت كأنك في الجنة، فقال له: ويحك أما وجد الشيطان أحداً يسخر به غيري وغيرك.
قال سلمة بن سعيد: رؤي العلاء بن زياد أنه من أهل الجنة، فمكث ثلاثاً لا ترقأ له دمعة ولا يكتحل بنوم ولا يذوق طعاماً، فأتاه الحسن فقال: أي أخي! أتقتل نفسك أن بشرت بالجنة؟ فازداد بكاءً، فلم يفارقه حتى أمسى، وكان صائماً فطعم شيئاً من الطعام، قال الله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ * وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:101 - 107].
دعوه لا تلوموه دعوه فقد علم الذي لم تعلموه رأى علم الهدى فسعى إليه وطلب مطلباً لم تطلبوه أجاب دعاءه لما دعاه وقام بأمره وأضعتموه لنفسي ذاك من فطن حصيف تذوق مطعماً لم تطعموه قال سبحانه: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً} [مريم:63].
لله درهم! فكم علت بهم الهمم، وأي كلام يترجم فعلهم.
ولك أنت من أخبار النساء أيضاً وكرري وقولي: عذراً رمضان.
عن عبد الرحمن بن قاسم أن عائشة كانت تصوم الدهر، وعن عروة أن عائشة كانت تسرد الصيام، وقال القاسم: كانت تصوم الدهر فلا تفطر إلا يوم أضحى أو يوم فطر.
وقد بعث لها معاوية مرة بمائة ألف درهم، فقسمتها ولم تترك منها شيئاً، فقالت بريرة: أنت صائمة فهلا ابتعت لنا منها بدرهم لحماً؟ فقالت: لا تعنفيني، لو كنتِ أذكرتني لفعلت.
إنها الصديقة بنت الصديق، العتيقة بنت العتيق، حبيبة الحبيب، وأليفة القريب، المبرأة من العيوب رضي الله عنها وأرضاها.
أما القوامة الصوامة حفصة بنت عمر رضي الله عنها وعن أبيها وعن إخوتها وآل عمر وارثة الصحيفة، والجامعة للكتاب، فعن قيس بن زيد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة فدخل عليها خالاها قدامة وعثمان ابنا مظعون، فبكت وقالت: والله ما طلقني عن شبع، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم قد أقبل فتجلببت رضي الله عنها، قال: فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: إن جبريل قد أتاني فقال: راجع حفصة فإنها صوامة قوامه، وإنها زوجتك في الجنة).
فأي شهادة أعظم من شهادة الله وجبريل لـ حفصة رضي الله عنها، وأنعم بها من عبادة كانت سبباً لرجوع أم المؤمنين حفصة إلى رسولنا صلى الله عليه وسلم لتبقى له زوجة في الجنة، قال نافع: ماتت حفصة حتى ما تفطر.
وإليك مزيد: اسمعي ونادي بأعلى الصوت: عذراً رمضان عذراً رمضان.
عن سعيد بن عبد العزيز قال: ما بالشام ولا بالعراق أفضل من رحمة العابدة مولاة معاوية، دخل عليها نفر من القراء فكلموها لترفق بنفسها، فقالت: ما لي وللرفق بها، فإنما هي أيام مبادرة وأيام معدودة، فمن فاته اليوم شيء لم يدركه غداً، والله يا إخوتاه! لأصلين لله ما أقلتني جوارحي، ولأصومن له أيام حياتي، ولأبكين له ما حملت الماء عيناي، ثم قالت: أيكم يأمر عبده فيحب أن يقصر في حقه؟! ولقد قامت رحمها الله حتى أقعدت، وصامت حتى اسودت، وبكت حتى فقدت بصرها.
وكانت تقول: علمي بنفسي قرح فؤادي وكلم قلبي، والله لوددت أن الله لم يخلقني ولم أك شيئاً مذكوراً.
كانت رحمها الله تخرج إلى الساحل فتغسل ثياب المرابطين في سبيل الله، قال الله عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90]، وقال عنهم حين دخلوا الجنان: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ * فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} [الطور:25 - 29] عذراً رمضا(78/8)
أنواع الصائمين
أخي أخية! هذه أنواع الصائمين ذكرتها لنعرف أنفسنا ونقدم الاعتذار ونقول: عذراً رمضان.
من صام عن الطعام والشراب فصومه عادة، ومن صام عن الربا والحرام وأفطر على الحلال من الطعام فصومه عادة وعبادة، ومن صام عن الذنوب والعصيان وأفطر على طاعة الرحمن فإنه صائم رضا، ومن صام عن القبائح وأفطر على التوبة لعلام الغيوب فهو صائم تقى، ومن صام عن الغيبة والنميمة والبهتان وأفطر على تلاوة القرآن فهو صائم رشيد، ومن صام عن المنكر وأفطر على الفكرة والاعتبار فهو صائم سعيد، ومن صام عن الرياء والانتقاص وأفطر على التواضع والإخلاص فهو صائم سالم، ومن صام عن خلاف النفس والهوى وأفطر على الشكر والرضا فهو صائم غانم، ومن صام عن قبيح أفعاله وأفطر على تقصير آماله فهو صائم مجاهد، ومن صام عن طول أمله وأفطر على تقريب أجله فهو صائم زاهد.
قال ابن القيم: الصوم لجام المتقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار المقربين لرب العالمين، يكفيك قول الله: (الصوم لي وأنا أجزي به).
يا قادماً للتقى في عينك الحب طال اشتياقي فكم يهفو لكم قلب صبرت عاماً أمني قرب عودتكم نفسي فهل يدنو لكم سرب قل هل طيفكم فاخضر عامرنا والله أكرمنا إذ جاءنا الخصب ففيكم يرتقي الأبرار منزلةً والخاملون كسالى زرعهم جدب قالوا في الصيام: الصوم: لذة الحرمان.
وقالوا: الصوم رجولة مستعلنة، وإرادة مستعلية.
وقالوا: رمضان شهر الحرية عما سوى الله، وفي الحرية تمام العبودية، وفي تحقيق العبودية تمام الحرية.
قالوا: رمضان شهر القوة، (فليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).
قالوا: الصوم صبر وطاعة ونظام، أترون أمة من الأمم تتحلى بهذه الصفات ثم تجد سبيلها إلى الانهيار؟! صبر وطاعة ونظام، أترون جيشاً يتحلى بهذه الأخلاق القوية ثم يجد نفسه على عتبة الهزيمة؟! فلا تنسى ولا تنسي وأنت تصوم وأنت تصومين أن الله يريد أن يجعلنا بالصيام مثال القوي الأمين.
فحذار حذار! أن ينسلخ عنا رمضان ونحن كالضعيف الخائن.
أحبتي! لن يتسع المقام حتى نذكر حال الغرباء مع القيام ومع تلاوة القرآن، لن يتسع المقام لذكر أخبار الغرباء مع التضرع والدعاء والبذل والعطاء، ولن يتسع المقام لذكر بطولات الغرباء وصولاتهم وجولاتهم في ساحات الجهاد في رمضان، لكن حسبنا ما سمعنا وذكرنا من أخبارهم، واللبيب بالإشارة يفهم.(78/9)
عذراً رمضان
لقد كان رمضان شهر عبادة واجتهاد، وكذا كان حالهم قبل وبعد رمضان، فما هو حالنا؟! اسمع شيئاً من أخبارنا، واسمعي بارك الله فيك! ولنقل جميعاً بأعلى الصوت: عذراً رمضان!.
في بحث واستفسار وأسئلة طرحت على مئات من المجتمع رجالاً ونساءً موظفين وطلاباً عن حالهم وعن أوقاتهم في رمضان، فجاءت الاعترافات التي تؤكد لنا قوله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الدين غريباً وسيعود غريباً)، وحتى تعرف أننا لم نخطئ حين اخترنا هذا العنوان.
فقائل: أقضي الليل أمام شاشات التلفاز أتابع القنوات الفضائية حتى طلوع الفجر مع بعض زملائي أقول: عذراً رمضان.
وقائل: تحت أضواء الملاعب ضمن سلسلة المباريات مقامة في ليالي رمضان أقول: عذراً رمضان.
وقائل: على موائد البلوت والورقة في المجالس وعلى الأرصفة أقول: عذراً رمضان.
وقائل: أقضي الأوقات في التنزه في الحدائق تارة وفي الأنفاق تارة، إنا لله وإنا إليه راجعون.
يا أمة لعبت بدين نبيها كتلاعب الأطفال بالأوتار وإذا تلا الإمام عليهم سورة فأطال ما عدوه في الأسفار أما أهل الوظائف فسهر بالليل ثم كسل وخمول طوال النهار، والنتيجة لوم وتوبيخ وخطابات إنذار، وآخر يقول: أنا أحسن من غيري حيث يتسنى لي النوم في المكتب، ضاعت الأمانات التي قامت عليها الأرض والسماوات، وآخر يقول: في رمضان يكثر غيابي وتكثر الخصميات.
أما الأئمة فيشتكون وينادون ويقولون: عذراً رمضان، ففي لقاءات مع بعض الأئمة تحدث بعضهم مستبشرين بزيادة المصلين في رمضان، وإقبال الناس على الطاعة، وعبر آخرون عن حزنهم لحال المتخاذلين حتى في رمضان، وقال آخر: إنهم يزدادون في صلاة الفجر حتى يمتلئ المسجد بهم، ولكنا لا نكاد نراهم في صلاة الظهر والعصر، فقد انقلبت عندهم الحياة، الليل نهار، والنهار ليل.
أما في الأسواق فاسمع الأخبار من رجال الهيئات والأخبار.
أما في المقاهي فسئل أحد العاملين في إحدى المقاهي عن الفرق بالنسبة لهم عن العمل في رمضان وفي غير رمضان فأجاب: إن العمل في رمضان يكون أكثر تعباً وإرهاقاً حيث يكثر الزبائن، ويزدحمون بمعدل الضعف عن غير رمضان، يمضون ليلهم كله في المقاهي بين شيشة وورق ودخان، كيف لا نقول: عذراً رمضان، كيف لا نصيح وننادي ونقول: عذراً رمضان.
أما الأبناء فعلى الأرصفة والطرقات صخب ولهو فتسأل نفسك أين الراعي عن الرعية؟! أما النساء فسهرات نسائية، وانشغال في إعداد أصناف الحلويات والمشروبات والمأكولات، أمن أجل هذا شرع رمضان؟! وأمهات يسهرن حتى الفجر في انتظار الأولاد الذين لا يعودون إلا في هذه الأوقات المتأخرة.
أما الأسواق والمجمعات فحدث ولا حرج فأين العبادة؟! أين الجد والاجتهاد؟! أليست الأعمار محدودة؟ يقول أحدهم: أنام بعد الفجر ولا أستيقظ إلا بعد صلاة العصر، فالنوم عبادة! وآخر يقول: يوقظني والدي عند الإفطار وفي بعض الأحيان لا أفطر إلا قبيل صلاة العشاء.
أقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.
ومع أحد الزبائن في إحدى المقاهي كانت هذه الأسئلة السريعة: منذ متى وأنت هنا؟ قال: من الساعة الثانية عشرة، إلى متى تجلس؟ قال: إلى وقت السحور، هل أنت موظف؟ قال: نعم أنا موظف حكومي، ألا تتأخر عن دوامك؟ قال: أتأخر قليلاً ثم أكمل النوم في المكتب.
هذا هو رمضان اليوم، هذا هو رمضان اليوم عند كثير من الفئات.
فيا خيبة الصائمين، ويا حسرة المفرطين، وعذراً رمضان، فما قدرناك حق قدرك.(78/10)
نداء أخير
ويحنا ما غرنا! ويحنا ما أغفلنا! ويحنا ما أجهلنا! ويحنا لأي شيء خلقنا! أللجنة أم للنار؟! يا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي! يا شموس التقوى والإيمان اطلعي وأشرقي! يا صحائف أعمال الصالحين ارتفعي وأبشري! يا قلوب الصائمين اخشعي وتضرعي! يا أقدام المتهجدين اسجدي لربك واركعي! ويا عيون الساهرين لا تهجعي! ويا ذنوب التائبين اذهبي لا ترجعي! يا أرض الهوى ابلعي ماءك! ويا سماء النفوس أقلعي! يا خواطر العارفين ارتعي! يا همم المحبين بغير الله لا تقنعي! قدمت في هذه الأيام موائد الإنعام للصوام، فما منكم إلا من دعي، ورمضان يناديكم ويقول: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الأحقاف:31 - 32]، فطوبي لمن أجاب فأصاب، وويل لمن طرد عن الباب ألا يكفيك قوله: (الصوم لي وأنا أجزي به)؟!.
رباه عفوك إني للنور مدت يدايا وأبكي ويبكي دمعي ويبكي بكايا وحفنة من وعاء غرسه من دمايا ولا لغيرك دوى يا رب يوماً ندايا إليك أنت صباحي مصفداً في مسايا فاذكر إلهي ضياءك إني ظمآن ضل صدايا لم أدر من أي نبع أسقي حنين الركايا والشط لا ماء فيه يطفي اللظى في حشايا رحماك يا رب هذا إثمي وصادي تقايا وذاك دربي وهذا على الطريق عصايا رحماك يا رب إني وزورقي والخطايا في لجة ليس فيها من الضياء بقايا جفت وغاضت ولكن ما زلت أزجي رجايا غفرت أم لم فإني ما زلت أدعوك يا رب! فعجباً لمن عرفك ثم أحب غيرك! وعجباً لمن سمع مناديك ثم تأخر عنك! عذراً رمضان عذراً رمضان فما قدرناك حق قدرك.
اللهم لا تحرمنا خير ما عندك بأسوأ ما عندنا، اللهم بلغنا رمضان، اللهم بلغنا رمضان، اللهم بلغنا رمضان، وارزقنا صيامه وقيامه إيماناً واحتساباً يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفقنا فيه لفعل الطاعات، ووفقنا فيه لترك المعاصي والمنكرات، واجمع فيه شملنا ووحد فيه صفنا وأصلح فيه ولاة أمورنا وانصر فيه المجاهدين وسدد فيه الدعاة والعلماء الربانيين، ووفق فيه الشباب والشيب والنساء والإماء لتوبة نصوح واستقامة وثبات حتى الممات يا رب العالمين! ربنا ظلمنا أنفسنا وإلا تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
أستغفر الله العظيم.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(78/11)
فجعت قلبي وأدميته
قضية الدين مسئولية جميع معتنقيه، وسوف يسألنا الله تعالى عن هذا الدين يوم القيامة، والنبي صلى الله عليه وسلم هو أول من أرسى قواعد الدين، ثم من بعده أصحابه الغر الميامين فأبلوا فيه بلاءً حسناً، ومن ذلك صمودهم وجهادهم في غزوة مؤتة، ومواقفهم الرجولية التي يشهد لها التأريخ.(79/1)
قضية الدين مسئولية جميع المسلمين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
لابد لنا من الترابط بين مؤسسات المجتمع في خدمة الدين، وحفظ البلاد والعباد، فقضية الدين مسئولية كل المؤسسات، فليست مسئولية المساجد والدعوة والإرشاد والمحاكم والقطاعات الشرعية بل كل مؤسسات البلاد من أميرها إلى أدنى مسئول فيها، فالكل مسئول عن هذا الدين، فالدين أمانة استأمننا الله عليها، وسوف يسألنا عن هذا الأمر العظيم، قال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6]، وقال أيضاً: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44].(79/2)
حال أمة الإسلام اليوم يبشر بخير
العنوان هو: فجعت قلبي وأدميته، فمواضيع الدين مرتبطة بعضها ببعض، حديثها وفقهها، وعقيدتها، وتاريخها، وسيرتها، لا ينفصل بعضها عن بعض.
والواقع الذي تمر به أمة الإسلام اليوم يبشر بالخير، فالصحوة -ولله الحمد- ملأت أطناب الأرض هنا وهناك، وبدأت قوة الإسلام تعود من جديد باتباع المسلمين له، أما قوة الدين فموجودة منذ أن أوحى الله إلى أهل الأرض بتوحيده وعبادته، فبدأ المسلمون يستشعرون الخطر، ويوحدون الصفوف، ويرجعون إلى الله.
والذي يتنقل بين بلاد المسلمين يمنة ويسرة يرى العودة العجيبة التي تشرح الصدر في كل بقاع المسلمين، اليوم لن يتآمروا على الضعيف، إنما يتآمرون على القوي، وأهل الإسلام اليوم يمرون في مرحلة قوة لا يعلمها إلا الله، لكننا نريد أن نستغل هذه القوة في عز الدين وعز الإسلام والمسلمين.
أردت من هذا الموضوع الذي اخترته أن أرفع الهمم، فكثير من الناس هم الذين يثبطون، وأن أرد على المشككين الذين يقولون: إن أمة الإسلام ليس عندها القدرة على مواجهة الآخرين، وتحتاج إلى سنوات طوال حتى تواكب الركب.
فأقول: أمة الإسلام في مقدمة الركب في كل حين وزمان مهما تغيرت الظروف والأحوال؛ لأن الله تعالى قال: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] أي: أعلون بعقيدتنا، وباتباعنا، وبوحدتنا، وبتماسكنا، وفي كل شأن من شئون الحياة، إن أصابتنا ضراء صبرنا فكان خيراً لنا، وإن أصابتنا سراء شكرنا فكان خيراً لنا، فنحن على خير في كل حال من الأحوال، إن كثرت الذنوب والمعاصي فباب التوبة مفتوح والله غفار، وإن كثرت المخالفات فالمؤمنون نصحة يتعاونون فيما بينهم، فإن حاد أحد على الطريق ذكر بالله حتى يرجع إلى الصواب وإلى الصراط المستقيم.(79/3)
موقف الصحابة في غزوة مؤتة
أردت من الموضوع أن أرفع الهمم مع بداية عام هجري جديد، وأن أذكر الأحفاد بما صنع الأجداد، وأن أذكر الرجال بما صنع الأبطال، ليُعلم أن أمتنا عندها قوة عجيبة، فلو أنها تشتغل في نصرة الدين.
لقد انبثق نور الإسلام من مكة ليحطم الجاهلية بكل ما فيها إلا ما وافق الإسلام، وقام محمد صلوات الله وسلامه عليه بحمل راية الدعوة والجهاد، والتف حوله الرجال يفدون دينهم بكل غال ونفيس، وما هي إلا سنوات قليلة مليئة بالصبر والتضحيات، إلا والإسلام قد ضرب أطنابه هنا وهناك، وانتشر أبطال الإسلام يبلغون دعوة الله رافعين شعار لا إله إلا الله والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين، فانقادت لهم الأرض، ونشروا العدل والمساواة، وقدموا من أجل ذلك تضحيات، وسطروا بطولات، فكانوا كالبنيان يشد بعضه بعضاً، ثم تبدل الحال وتفكك البنيان، وركنت الأمة للدعة والشهوات، فضيعت أوقاتها بل أعمارها أمام شاشات وقنوات، فلقد علم الأعداء أنهم لن يقهروا هذه الأمة بالمدفع والدبابة فحاربوها باللهو والضياع، وأشغلوها بالمعازف والألحان؛ لأنهم يعلمون أن هذه الأمة إذا رفعت السلاح لا تقف قوة في الأرض أمامها.(79/4)
بيان سبب غزوة مؤتة
روى الواقدي بسنده عن عمر بن الحكم قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم الحارث بن عمير الأزدي إلى ملك بصرى بكتاب، فلما نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني فقال: أين تريد؟ فقال له: أريد الشام، فقال: لعلك من رسل محمد قال: نعم، أنا رسول الرسول صلى الله عليه وسلم، فأمر به فأوثقه، ثم قدمه فضرب عنقه، مخالفاً بذلك كل الأعراف والقوانين من أن الرسل لا تقتل، فلما بلغ الخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم اشتد ذلك عليه، وزاد الأمر عليه عندما قامت مجموعة من العرب المتنصرة بقتل بعثة سلمية دخلت أرض الشام تدعو العرب إلى الإسلام فقُتلوا غدراً وكان عددهم أربعة عشر رجلاً، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه لابد من تأديب هؤلاء الغادرين؛ ليعلموا أن لهذا الدين رجالاً يذودون عن دينهم وأعراضهم، فاستنفر القائد الأعلى صلوات ربي وسلامه عليه ثلاثة آلاف من خيرة أصحابه، وعين ثلاثة يتولون قيادة الجيش بالترتيب، وهم: زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم عبد الله بن رواحة، فخرج الجيش لتأديب أعداء الله، وليعلم أولئك أن للإسلام رجالاً يدافعون عن دينهم وأعراضهم، ودّع المسلمون جيشهم وهم يدعون لهم قائلين: دفع الله عنكم، وردكم صالحين غانمين منتصرين، فخرج الجيش بسرية وكتمان، ولكن الطابور الخامس -قاتلهم الله- من يهود ومنافقين أرسلوا الأخبار إلى إخوانهم في الكفر والنفاق؛ بخروج جيش المسلمين.
وعلتنا في كل زمان أنَّ الخطر يأتينا من الداخل وليس من الخارج، فعداوة الخارج معروفة أمَّا عداوة الداخل فمجهولة.
فحشد الكفار مائة ألف من مرتزقة العرب المتنصرة، ومائة ألف من الرومان، وتخيل الموقف أنَّ ثلاثة آلاف من الرجال يواجهون مائتي ألف من الكفار! إن اشتباك ثلاثة آلاف في معركة حاسمة مع مائتي ألف يمثل أخطر مغامرة في تاريخ الحروب.
فتشاور الرجال قبل لقاء العدو، وكان القرار الحاسم هو مواجهة العدو أياً كانت النتائج، لأن كلا الأمرين النصر والشهادة فوز للمسلم المجاهد في سبيل الله، أما التراجع دون لقاء العدو فليس من شيم الأبطال، ولا مجال للتراجع عند طلاب الهمم، لسان الحال: فأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى فإما حياة تسر الصديق وإما مماتٌ يغيض العدى(79/5)
موقف عبد الله بن رواحة في رفع روح القتال عند المسلمين
قال عبد الله بن رواحة مشجعاً الناس وداعياً إلى عدم التردد في القتال: يا قوم! إن الذي تكرهون هو الذي خرجتم من أجله، إما النصر وإما الشهادة، ونحن لا نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا وأعزنا الله به، والله لقد رأيتنا يوم بدر ما معنا إلا فرسان، ويوم أحد ما معنا إلا فرس واحد، فانطلقوا بنا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور عليهم فذلك الذي وعدنا نبينا وليس لوعده خلف، وإما الشهادة فلنلحق بالإخوان نرافقهم في الجنان.
فأثرت تلك الكلمات البليغة في نفوس الجيش، واشتاقت القلوب والأرواح لجنة الرحمن، فانطلقوا وهم يرددون: أرواحنا يا رب فوق أكفنا ترجو ثوابك مغنماً وجواراً في ظل السيوف كأننا في ظل حديقة خضراء تنبت حولنا الأزهارا(79/6)
نقل وقائع معركة مؤتة
على أرض مؤتة في بلاد الشام التقى الجيشان، فريق مسلم لا يتجاوز الثلاثة آلاف، وأكثر من مائتي ألف من الكفار.
وضع قادة الجيش المسلم في حسابهم أن الجيش الروماني قد يلجأ إلى أسلوب التطويق فعددهم يسمح بذلك، فحينها إما أن يباد الجيش عن بكرة أبيه، أو يجبر على الاستسلام.
وفي حساب المقاييس الحربية العادية ليس من الصعب على مائتي ألف مقاتل مجهزون بأحسن تجهيز ومسلحون بأحسن سلاح أن يقوموا بتطويق ثلاثة آلاف وإبادتهم عن آخرهم، فالأمر هين ولن يستغرق ذلك إلا ساعات، فعدة الجيش الكافر خمسون ألف فارس، يتبعهم مائة وخمسون ألف مقاتل من المشاة يتسربلون بأحسن الدروع ويلبسون أحسن الخوذات.
من أجل ذلك انحاز زيد رضي الله عنه بجيشه الصغير إلى قرية يقال لها: مؤتة وعسكر فيها؛ ليجنب جيشه الصغير خطر التطويق، فتحصن المسلمون في قرية مؤتة وقام زيد بن حارثة بتعبئة الجيش الصغير وتحصينه على أحسن حال.
أخذت جيوش الرومان والعرب المتنصرة تتدفق على مؤتة في زهو وخيلاء وغرور كأنها أمواج بحر متلاطم، وجيش المسلمين الصغير المرابط في مؤتة كأنه جزيرة صغيرة مهددة بالغرق.
لقد كانت الحالة بالنسبة للمسلمين حالة مخيفة مفزعة تثير الخوف والرعب، وتزيغ منها العقول والأبصار، وقد عبر أبو هريرة رضي الله عنه عن هذه الحقيقة المفزعة وهذا الموقف الحرج بقوله: فرأى المسلمون المشركين ومعهم ما لا قبل لهم به من العدد والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب، وشهدت ذلك فبرق بصري، فقال ثابت بن الأقرم: مالك يا أبا هريرة كأنك ترى جموعاً كثيرة؟ قلت: نعم.
فقال: لم تشهد معنا بدراً إننا لم ننصر بكثرة.
ولا لوم على أبي هريرة فإنه بشر يخاف ويذهل، ولقد كان على كل جندي مسلم في ذلك اليوم أن يقاتل سبعين رجلاً من جنود الكفار، وقد كان بوسعهم الرجوع دونما قتال، لكن طلاب الجنان لا يتراجعون، فإما نصر وإما شهادة.
لقد أقدم الجيش الإسلامي الصغير في مؤتة على أكبر مغامرة حربية في التاريخ دونما جدال، ففي القوانين والأعراف العسكرية بين الأمم الأخرى غير المسلمة أنَّ ما أقدم عليه قادة الجيش في ذلك اليوم ضرباً من الانتحار تعاقب عليه القوانين العسكرية، أما عند طلاب الجنان فالحال يختلف، فالموت في سبيل الله غاية ما يتمنى المسلم الصادق، أما اشترى الله منهم الأنفس والأموال؟ أما باعوهما على أن يكون الثمن الجنة؟ ثبت المسلمون بجيشهم الصغير، ولا زالوا يثبتون في كل مكان، إنها مخاطرة عظيمة لم يشهد التاريخ مثلها، لقد كانت نتيجة المعركة مضمونة للرومان وهي النصر الساحق، بإبادة الجيش المسلم إبادة كاملة، وذلك حسب المقاييس والمفاهيم العسكرية، لكن الإيمان صنع عجب العجاب، وهذا ما نحتاجه اليوم، فالإيمان هو الدافع للشهادة والاستشهاد، الإيمان هو الدافع للبذل والإيثار والعطاء، والحياة لا قيمة لها إلا بالإيمان، ولا طعم لها إلا بالإيمان، والإيمان هو شعار هذه الحياة.
فتدفقت كتائب الرومان بحديدها وفرسانها كأمواج البحر الهادر، فصمد أمامها المسلمون، وعددهم لا يتجاوز الثلاثة آلاف، وأكثرهم خال من الدروع، فأي قوة كانت في قلوب أولئك الرجال؟! أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع جلس عمر في مجلس من المجالس فقال لمن معه: تمنوا، فقال أحدهم: أتمنى أنَّ لي من الذهب كذا وكذا أنفقها في سبيل الله، وقال آخر: أتمنى أن لي من المال كذا وكذا أنفقها في سبيل الله، فقال عمر: أتمنى أن لي ملء هذا البيت قادة شجعان مثل أبي عبيدة رضي الله عنه وأرضاه، فعذراً أمة الإسلام! فليس عندنا ما تمنى أمير المؤمنين عمر.
إن الإيمان وصحة العقيدة والاستبسال في سبيل الله يعكس المفاهيم ويقلب المقاييس ويكسر الأغلال، فكثرة العدد والسلاح والتكنولوجيا العسكرية ليست هي التي تكفل النصر في أي حال من الأحوال، وإن لم يتوافر ذلك فليس معنى ذلك الهزيمة، فنحن لا نستمد النصر من العدة والعتاد، إنما نستمد النصر من السماء، لكن لابد من العدة والإعداد.
إن الذي يصنع النصر حقيقة ويصنع الصمود الذي يحول دون الهزائم الماحقة هو الإيمان الذي يسري بالقلوب عقيدة وضاءة مشرقة، لا عقيدة ماركس ولينين المؤلمة.
استمرت المعركة أياماً سبعة كانوا يتوقعون أنها ساعات، لم يتوقع الرومان أن المعركة ستكون على هذا المستوى من الصمود والثبات والشراسة والضراوة، ثبت المسلمون على مشارف مؤتة، بل وعلى قلتهم قاموا بهجوم معاكس أتوا فيه بالعجائب، فصرعوا عدة مئات من أفراد الجيش الروماني وأتباعه، وبعد أن صعقوهم بالهجمات بدأت جموع الرومان مع كثرتها تركن إلى الفرار والهروب من أرض المعركة، فرأوا الشرر والنار يتطايران من أعين الرجال، ورأوا الهول والعجب العجاب من التضحيات والإقدام، حاولوا اقتحام مواقع المسلمين لتطويقهم فما استطاعوا.
إن أي عاقل وأي منصف سيدرك ذلك المستوى الرفيع من الشجاعة والبطولة والتضحية والفداء والإيمان العميق الذي كان عليه المسلمون عندما يعلم أنهم كانوا ثلاثة آلاف محارب ومع ذلك استمروا يخوضون المعركة بصبر وشجاعة طوال سبعة أيام وما وهنوا، وما ضعفوا، وما استكانوا والله يحب الصابرين، وما كان قولهم إلا أن قالوا: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:147]، سبعة أيام وما استطاع الجيش الروماني أن يلحق أي تقدم أو هزيمة في ذلك الجيش الصغير، إنه ثبات عندما يكثر الثبات والشجاعة والإقدام، وعندما تصور الصور والبطولات في أرض المعركة.(79/7)
استشهاد زيد بن حارثة واستلام جعفر للراية
ثبت زيد القائد العام، ثم استشهد بعد ستة أيام من القتال بعد أن مزقته رماح الرومان، وهو مقبل كالأسد الهصور، ثم استلم جعفر الراية فصار يقاتل وهو على فرس له شقراء والمسلمون خلفه يقاتلون بضراوة واستماتة لا مثيل لها، فاقتحم جعفر صفوف الرومان، ولكثرة الزحام وشدة الالتحام نزل عن فرسه، ثم عقرها حتى لا يهرب من أرض المعركة استعداداً للموت والشهادة في سبيل الله، وقطع لباب الهرب من أرض المعركة، فكان جعفر أول من عقر في الإسلام أثناء القتال، سابقة ما سبقه بها أحد، وترجل في أرض المعركة بعد أن أحاطت به الرومان من كل جهة وهو يقاتلهم قتالاً شديداً، وراية الرسول صلى الله عليه وسلم مرفوعة في يده، وبينما هو كذلك تمكن أحد فرسان الرومان من قطع يد جعفر التي يحمل بها اللواء فحمله باليد الثانية، فقطعت فأظهر القائد الشاب بطولة فذة لا مثيل لها، فبعد أن فقد كلتا يديه وحفاظاً على اللواء احتضنه إلى صدره بعضديه مكباً عليه؛ ليظل مرفوعاً.
فراية لا إله إلا الله رفعت بأرض القتال والمعارك واليوم ترفع على المدرجات والملاعب، شتان بين انتصاراتهم وبين انتصاراتنا اليوم! ورغم استبسال جعفر وثباته وبقاء اللواء منصوباً في أرض القتال عدة ساعات انتهى ذلك الصمود الرائع بأن سقط جعفر شهيداً بعد أن تناوشه سيوف الرومان، وهو يحتضن اللواء في إصرار، وصعدت الروح لتأخذ مكانها بين الصديقين والشهداء والأبرار، قتل وهو ابن ثلاث وثلاثين بعد أن فقد ذراعيه فأثابه الله جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء، ثم استمر القتال على أشد ضراوة.(79/8)
موقف عبد الله بن رواحه بعد استشهاد جعفر بن أبي طالب
سارع عبد الله بن رواحة لقيادة الجيش، وحمل اللواء فوجد في نفسه تردداً لكثرة الحشود الرومانية الهائلة، فعاتب نفسه وخاطبها شعراً: أقسمت يا نفس لتنزلنه طائعة أو لتكرهنه إن أجلب الناس وشدوا الرنة مالي أراك تكرهين الجنة قد طالما قد كنت مطمئنة هل أنت إلا نطفة في شنة ونزل عن فرسه ولواء النبي صلى الله عليه وسلم في يده فقاتل حتى قتل لاحقاً بزميليه اللذين سبقاه إلى الشهادة وهو يردد: يا نفس إلا تقتلي تموتي هذا حمام الموت قد صليت وما تمنيت فقد أعطيت إن تفعلي فعلهما هديت(79/9)
موقف خالد بن الوليد بعد استشهاد القادة الثلاثة
لقد عانى الرومان الأهوال من المسلمين، وصنع بهم المسلمون مقتلة عظيمة رغم قلة العدد والعتاد، وكان من قتلى الرومان القائد العام لقوات العرب المتنصرة، واسمه مالك بن واثلة، فقد قتله قائد ميمنة المسلمين قطبة بن قتادة العذري رضي الله عنه وأرضاه.
وظل المسلمون ثابتين يصارعون ويقاومون ويكرون ويفرون، ويسطرون أعظم الصور في التضحية والثبات، غير أن مصرع القادة الثلاثة، وبقاء الجيش دونما قائد رجح كفة الرومان، وحدث خلل واضطراب في صفوف المسلمين، وأخذ بعضهم ينهزم لاسيما بعد سقوط لواء الجيش أرضاً، وبدأت تظهر عليهم علامات الهزيمة، لكن ثابت بن أقرم أحد فرسان الأنصار أنقذ الموقف ورفع اللواء وصاح: يا معشر المسلمين! اصطلحوا على رجل منكم يحمل اللواء ويقود الجيش فرشحوه فاعتذر وقال: ما أنا بفاعل، وبلغ الموقف خطورة لا تحتمل لفقدهم قائد الجيش، وبدأت علامات الخوف والاضطراب والهزيمة تظهر.
ولم يكن هناك من تتجه الأنظار إليه لإنقاذ الموقف سوى المحارب الشهير والقائد المظفر: خالد بن الوليد الذي لم يمض على إسلامه ودخوله في الإسلام إلا ثلاثة أشهر فقط، حمل خالد راية التوحيد فصاح ثابت بن الأقرم: يا خالد بن الوليد! خذ اللواء، خذ اللواء يا أبا سليمان! فقال خالد: لا آخذه أنت أحق به؛ لأنك أقدم إسلاماً وأكبر سناً -والرجال تعرف قدر الرجال- فقال ثابت: خذه يا أبا سليمان! والله ما أخذته إلا لك، فأنت أعلم مني بفنون القتال، فنادى ثابت بن الأقرم في كبار الجيش: أترضون بـ خالد بن الوليد أميراً عليكم؟ قالوا: رضينا، فتولى خالد القيادة لإنقاذ الموقف المتدهور الذي كان سيؤدي إلى إبادة الجيش لولا تدارك الأمر.
حمل خالد الراية وأصبح قائداً عاماً للجيش، فهذه الأحداث تدور في أرض المعركة فكيف كانت المدينة؟ وكيف كان حال الرجال والنساء هناك؟ ذكر المؤرخون وأصحاب السير والحديث أن الله تعالى كشف لرسوله المسافة الفاصلة بين المدينة ومكان المعركة، وأصبحت المعركة تنقل حيةً على الهواء إلى المدينة وحياً، حتى صار النبي صلى الله عليه وسلم ينظر عياناً إلى ما يحدث هناك من قتال ضار عنيف! روى البخاري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس قبل أن يأتيهم الخبر (أخذ الراية زيد ثم قتل، ثم أخذها جعفر ثم قتل، ثم أخذها ابن رواحة ثم قتل، وعيناه تذرفان صلوات ربي وسلامه عليه، ثم سكت، ثم قال: ولقد رفعوا إلى الجنة، ثم قال: ثم حمل الراية سيف من سيوف الله، ولقد حمي الوطيس حتى فتح الله عليهم).
اجتمعت المدينة حول نبيها تتابع أخبار المعركة حية على الهواء وحياً من السماء، واليوم اجتمع المسلمون حول الشاشات والقنوات لمتابعة مباريات ومسلسلات حية على الهواء، فسبحان الله ما أعظم الفرق بين الأمس وبين اليوم! لقد كان اختيار خالد بن الوليد قائداً للجيش في تلك الساعات الحرجة اختياراً موفقاً، فهو فارس شجاع وبطلٌ مغوار، وداهية في القيادة العسكرية هجوماً ودفاعاً، ولقد أثبت في ذلك اليوم أنه من أعظم قادة المعارك الذين عرفهم التاريخ، قاد أول معركة بعد إسلامه بثلاثة أشهر، فأعاد للجيش تنظيمه الذي فقده بعد مقتل القادة الثلاثة، ثم أعاد للجيش ثقته بنفسه، بعد أن شن به هجوماً معاكساً على الرومان، زلزل به صفوفهم، ثم بمهارة فائقة تمكن بالانسحاب بالجيش الصغير انسحاباً عظيماً يعتبر في قاموس الخبراء العسكريين أعظم انتصار؛ ولهذا لقبه النبي صلى الله عليه وسلم بسيف الله المسلول، بعد أن نجح في إنقاذ ذلك الجيش الصغير، بل حقق الانتصار الذي خرج من أجله.
كانت مهمة خالد صعبة لكن الصعاب لا تقف أمام الرجال، وكلمة مستحيل لا توجد إلا في قاموس العاجزين، والفشل أبسط الأشياء التي يستطيع أن يدفعها أي إنسان دونما مجهود.
مهمة خالد كانت من أصعب المهمات، لكن أبا سليمان رجل المواقف، ولقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم تحول ميزان المعركة لصالح المسلمين بعد أن رفع خالد الراية، قال صلى الله عليه وسلم: (ولقد حمل الراية سيف من سيوف الله، ولقد حمي الوطيس ولقد فتح الله عليهم).
حمى الوطيس، وبدأت تتطاير الرءوس، وتتقطع الأعضاء والأجزاء، والدماء في كل بقعة تسيل كالأنهار، روى البخاري عن خالد نفسه أنه قال: اندقت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف وما ثبت في يدي إلا صفيحة يمانية.
إن للطاقة البشرية حدود، قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، فلقد رأى خالد بخبرته وحنكته أن جيشه الصغير قد أبلى بلاء حسناً، وكبد العدو الخسائر في الأموال والأرواح، ولقنهم درساً لن ينسوه، وعلم أن بالمدينة رجالاً يدافعون عن أعراض المسلمين والمسلمات ويدافعون عن المقدسات، فكان لابد من خطة لإخراج الجيش من أرض المعركة بأقل الخسائر.
قام خالد أثناء الليل باجتماع مع قادة الجيش بتبديل كلي للميمنة والميسرة والخلف، فبدل مواقع الرجال، وهدفه من ذلك أن يجعل الرومان يعتقدون أن جيشاً جديداً يشارك في القتال، فرسم هذه الخطة للإيهام والتضليل، والحرب خدعة، فما كاد يطلع الصباح حتى وجد الرومان أنفسهم أمام جيش جديد، ما كانوا يعرفونه طوال ستة أيام من القتال، فظنوا أن مدداً قد جاء للمسلمين أثناء القتال، فألقى الله في قلوبهم الرعب، وبينما هم في دهشتهم إذا بغبار يسد الأفق من خلف ظهر الجيش المسلم، وما هي إلا لحظات وجيزة حتى دوت وارتفعت في أرض مؤتة أصوات التهليل والتكبير، ثم انشق الغبار عن كتائب من الفرسان تتبع إحداهما الأخرى في تنسيق وإحكام راكضة نحو المسلمين، وحوافر خيلها وأصوات فرسانها تصم الآذان: الله أكبر الله أكبر، ولإدخال مزيد من الرعب في قلوب الرومان اهتز معسكر المسلمين المواجه للرومان في أرض المعركة بالتهليل والتكبير، فأي قوة تقف أمام الله أكبر؟! وأي قوة تستطيع الصمود أمام الله أكبر؟! إذا خرج التكبير من القلوب اهتزت وتغيرت الموازين.
قام خالد بكل ذلك بإحكام وتدبير، فأيقن الرومان أن ما رأوه من تغيير شامل في الميمنة والميسرة والخلف وتدفق لتلك الكتائب التي أقبلت من خلف الجيش إنما هو مدد كبير جاء من المدينة لمساندة الجيش المسلم؛ ليستمروا في خوض المعركة حتى النصر، فدب الرعب في نفوسهم، وساد الهرج والمرج، ولسان حالهم: إذا كان ثلاثة آلاف قد فعلوا بنا الأفاعيل فماذا عسى أن يفعلوا بنا بعد أن وصل إليهم المدد؟ وعلى مدى ستة أيام أو سبعة لم نستطع أن نحقق عليهم أي انتصار، فماذا عساهم أن يفعلوا بنا بعد هذا؟! فألقى الله في قلوبهم الرعب، وأدرك خالد بحاسة القائد الماهر المحنك ما أصاب الرومان وحلفاءهم من خوف ورعب نتيجة الخطة البارعة فاغتنمها فرصة، وبدأ بالهجوم الكاسح، والمسلمون يرددون: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال:15]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:45 - 46]، {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:4 - 7].
فمالت صفوف المسلمين على خطوط الرومان الأمامية، فتملكهم الرعب واضطربت صفوفهم، فركبهم المسلمون وأحدثوا فيهم مقتلة عظيمة كانت كما وصفها المؤرخون مذبحة بكل المعايير.
قال ابن سعد في الطبقات وهو يروي قصة انتصار خالد والمسلمين على الرومان بعد توليه القيادة: ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة وطعن حتى قتل، ثم انهزم المسلمون أسوأ هزيمة، ثم حمل الراية خالد ثم حمل على القوم فهزمهم الله أسوأ هزيمة، ووضع المسلمون أسيافهم حيث شاءوا، واستمر خالد وجيشه يطاردون الرومان حتى أثخنوهم ولقنوهم درساً لن ينسوه، حتى يعلم أولئك المعتدون أن بالمدينة رجالاً يدافعون عن أعراض المسلمين والمسلمات، ثم اغتنم خالد فرصة ارتباك الجيوش الرومانية واضطرابها، فأصدر أوامره إلى قادة الجيوش والكتائب في جيشه بالارتداد بالجيش جنوباً كما هو متفق عليه حينما وضعوا خطة الانسحاب ليلاً، وأخذ الجيش يغادر ميدان المعركة بكل هدوء وانضباط، وأشرف خالد على عملية الانسحاب، فكان يجول بفرسه بين الكتائب ليظل النظام سائداً أثناء الانسحاب، ولتظل روح الجند والقادة ومعنوياتهم عالية فلا يدركهم خوف ولا اضطراب، فتمت عملية الانسحاب كما أراد القائد خالد على أدق نظام ودونما أية خسارة، وأصبح الجيش الروماني شبه مشلول يسوده الذهول لما لقيه على أ(79/10)
موقف أهل المدينة من جيش خالد
وصل خالد بجيشه إلى المدينة دون أن يتعرض لأي خطر في الطريق، ووصلت الأخبار إلى المدينة بأن المسلمين قد فروا وانهزموا، فاستاء أهل المدينة بذلك، فما كاد خالد يصل بجيشه إلى ضواحي المدينة حتى قابلته مظاهرة كبيرة تندد بالجيش، وكان المتظاهرون يصيحون بالجيش: يا فرار! يا فرار! أتفرون من الموت في سبيل الله؟! ويحثون في وجوه الجند والقادة التراب.
أما النساء فلم يفتحن لأزواجهن وأبنائهن الأبواب، وأغلقنها دونهم قائلات لهم: لم لم تموتوا مع أصحابكم في أرض القتال؟ أما الأطفال فلقد استقبلوا خالداً ومن معه في أزقة المدينة بالتراب والحجارة قائلين: يا فرار! يا فرار! والنبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم بالأخبار الصحيحة، ومقدار التضحيات والبطولات التي قام بها الجيش المسلم، ولذا قام مدافعاً عن الجيش وأفراده، قائلاً: (ليسوا بالفرار، ولكنهم الكرار إن شاء الله).
كيف وقد أنقذ خالد جيشه من فناء محقق بخطة عسكرية بارعة، وألحق بالرومان وجنودهم شر مكفنة وأذاقهم خزياً وعاراً؟ والفرق بين الأمس واليوم أنَّ بالأمس كان صغارنا يستقبلون خالداً ومن معه في أزقة المدينة بالحجارة، ويقولون لـ خالد ومن معه: إلى أين يا فرار! واليوم صغارنا يستقبلون غانية ومطرباً بيده قيثار ولاعباً في صالة المطار بالورود والأزهار متار يا متار هذا زمان العار من طنجة إلى قندهار معتقل يعيش حالة احتضار أمتنا ليس لها قرار أمتنا ألعوبة باليمين واليسار نرجو صلاح الدين ندور في مأساتنا حتى أصابنا الدوار لكن لا خيار من موتنا فوق شغار السيف حتى يصر الشوك جل نار موقنون يا متار بحرقة المشوار فإن النصر مع الصبر والصراط فوق النار هذه باختصار كلمات اعتذار عن أمة تعدادها مليار، ليس لها قرار.
فذه أخبارهم فما هي أخبارنا!؟ وهذه تضحياتهم فما هي تضحياتنا؟! وهذه بطولاتهم فأين بطولاتنا؟ وهذه هي أخبار شيبهم وشبابهم، فما هي أخبار شيبنا وشبابنا؟! وهذه أخبار نسائهم فما هي أخبار نسائنا؟! وهذه هي أخبار أطفالهم فما هي أخبار أطفالنا؟!(79/11)
حال المسلمين قديماً وحديثاً
ملكنا هذه الدنيا قرونا وأخضعها جدود خالدونا وسطرنا صحائف من ضياء فما نسي الزمان ولا نسينا بنينا حقبة في الأرض ملكاً يدعمه شباب صالحونا شباب ذللوا سبل المعالي وما عرفوا سوى الإقدام ديناً تعهدهم فأنبتهم نباتاً كريماً طاب في الدنيا غصونا إذا شهدوا الوغى كانوا كماة يدكون المعاقل والحصونا إذا جن المساء فلا تراهم من الإخفاق إلا ساجدينا شباب لم تحطمه الليالي ولم يسلم إلى الخصم العرينا ولم تشهدهم الأقداح يوماً وقد ملئوا نواديهم مجونا وما عرفوا الأغاني مائعات ولكن العلى صيغت لحونا ترى هل يرجع الماضي فإني أذوب لذلك الماضي حنينا فإن كانوا قد استطاعوا أن يفعلوا فنحن أيضاً نستطيع أن نفعل، بشرط: أن نسير على نفس الطريق.
فتلك الانتصارات ما كانت تتحقق إلا لأنهم ملكوا الإيمان والتقوى والإحسان، فلما ضعف ذلك في حياتنا ذهبت الأمجاد والانتصارات، وضعف الإيمان بسبب كثرة الذنوب والمعاصي والآثام، فماذا صنعت بنا وبشبابنا الشاشات والقنوات؟ فكم أفسدت ودمرت؟ قال الله تعالى: {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد:21]، وقال تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249]، وقال أيضاً: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]، فانتصاراتنا قد ملأت آذانهم، لكنهم يحاولون بشتى الوسائل والطرق ألا نجمع أخبار الانتصارات؛ حتى لا ترتفع المعنويات.(79/12)
حال المسلمين في العراق
في أرض العراق اليوم سطر الرجال بطولات منذ أيام ماضية، وودعت مدينة من المدن العراقية شباباً في قوافل الشهداء بعد أن أبلوا بلاء حسناً في ذلك المكان، تقول أخت أحدهم: رأيت أخي في رؤيا قبل أن ينطلق إلى أرض العزة والكرامة، وبجانبه فتاة جميلة، ما رأت عيني مثلها، وكلما أردت أن أدقق النظر في وجهها التفتت من حسنها وجمالها، فلم أستطع أن أميز ذلك الحسن والجمال، فهذه رؤيا وهو يقف على باب الجنة ويدعو الناس إلى الدخول، وبيده كمثرى من ذهب، صدقوا مع الله فصدق الله معهم.
أعرف أحدهم تمام المعرفة، وكان ممن يشهد معي الدرس في كل يوم ثلاثاء وجمعة، جاءني بعد صلاة المغرب وقال لي: ادع الله لي فلقد هممت على مشروع عظيم، فظننت أنه سيقدم على الزواج أو الوظيفة، وما علمت أنه يريد الزواج من حورية في الجنان، وأنه عقد العزم والنية على أن يعانقهن إلا بعدما مضى في طريقه وجاءتني الأخبار أنه سطر أعظم الصور، وأثخن في العدو، ولقنهم درساً، فالخير في هذه الأمة باق حتى تقوم الساعة، وهناك من المسلمين رجال يذودون عن أعراضهم وعن مقدساتهم، لسان حاله: سدت دروب الشعر وأقفلت أبوابه وبات قلبي بعد ذلك باكيا لما حيل بيني وبين مناي قهراً عشت ذل القعود وبعت حياتيا بعتها لمليكها الذي لا يرتضي لعباده ذلاً ولست أرضاها ليا أبتاه روحي في المعارك لا في أتحول بيني وبين نفسي وروحيا أبتاه جعفر في المنام بدا ليا ويصيح بي ألا لحقت ركابيا أبتاه نفسي لا تريد غوانيا مالي وللدنيا وما لها ما ليا أبتاه إني أرى في بغدادنا مهجاً تروي لنا الآلام توالياً وتواليا هناك يريدون لأعراضهم رداً وهنا إخوتي يتغزلون بأختيا هناك يطلبون لجوعهم سداً وأنا هنا أعاف طعاميا أبتاه يأملون لأطفالهم أمناً وأنا ثوابك ههنا آماليا أبتاه إني أرى في بغدادنا مهجاً تروي لنا الآلام توالياً وتواليا وا إسلاماه كالسيف الذي صار محطماً لقيوديا وا معتصماه كالسهم الذي سار محرراً لهم وليا أبتاه أقسم بالذي خلق الحياة لحكمة والرب العزيز يشهد عهديا أن أظل في ساح المعارك غازياً أذود بنفسي كما أذود بروحيا فإما أن أعود للوطن الحبيب براية رافعاً رأسي والجنود ورائيا أو أن أعود للوطن الحبيب ببسمة رسمت على شفاهي هناك قبل مماتيا شهادة ورب البيت فزت بها شهادة أقبل بها حوريتي بشفاهيا أرفرف تحت ظل العرش كطير أخضر فارتقب أبتاه ذاك مكانيا(79/13)
موقف عبد الله بن حرام في غزوة أحد
في يوم أحد رأى عبد الله بن حرام رضي الله عنه وأرضاه في ليلة المعركة أنه يقتل، فقال: يا جابر! أوصيك بأمك وأخواتك خيراً، ثم قتل عبد الله بن حرام كما رأى، فرؤيا المؤمن حق، فبكى جابر على فقد أبيه، (فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم مبشراً فقال: يا جابر! لا تبكِ؛ فوالذي نفسي بيده! إن الله كلم أباك كفاحاً ليس بينه وبينه ترجمان، وما كلم أحداً قبله، فقال: تمن يا عبدي، قال: أتمنى يا ربي أن أرجع إلى الدنيا فأقتل فيك، قال تعالى: إني كتبت عليهم أنهم إليها لا يرجعون، ولكن أحل عليك رضواني فلا أسخط عليك أبداً).
والشهداء لهم فضل عظيم عند الله، فإن أرواحهم في حواصل طير معلقة بعرش الرحمن يغدون ويروحون في الجنان، ويزوجون من الحور العين ما يشاءون، ويطلع عليهم الرحمن في كل حين فيقول لهم: ماذا تشتهون؟ فيقولون: نشتهي أن نرجع إلى الدنيا فنقتل فيك، فيقول: إني كتبت عليهم أنهم إليها لا يرجعون، قالوا: يا ربنا نريد أن نبلغ قومنا وأهلنا أننا لم نمت، وأننا أحياء حتى لا يزهدوا في الجهاد والاستشهاد، فقال الله: أنا أبلغهم عنكم، فقال سبحانه: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:169 - 173]، والخير لا يزال في هذه الأمة، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، شاء من شاء، وأبى من أبى، وسيتمن الله هذا النور بعز عزيز أو بذل ذليل، قال تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، وحينها سيعلم أهل الطابور الخامس أي منقلب ينقلبون، وسيعلم الذين يسعون في الأرض فساداً ويظنون أنهم مفلحون أي منقلب ينقلبون، قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:15 - 17].(79/14)
أسباب النصر
المطلوب المحافظة على الطاعات، وترك الفواحش والمنكرات فوالله ما أضعف الأمة وجردها من سلاحها الذي لا تقهر به إلا الذنوب والمعاصي! فإن تركناها وعدنا إلى رب الأرض والسماء تحقق النصر بإذن الله، مهما بلغت قوتهم وطاقتهم، فأي قوة تقف أمام الله أكبر؟! فإن كان عندهم طائرات ومدافع ودبابات فمعنا جبريل وميكائيل وجند من الله يقاتلون معنا، ولو بسط جبريل جناحاً من جناحيه لغطى مشرق الأرض ومغربها، قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9]، ولا يكون ذلك إلا بالصبر والتقوى، قال تعالى: {إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:125]، فأي قوة تقف أمام هذا؟! وحتى نكون فرساناً بالنهار لابد أن نتعلم الفروسية بالليل، كما قال الشاعر: عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياه وحتى ننتصر على أعدائنا لابد أن ننتصر على أنفسنا ونربي الأبناء على الصلاة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم لعشر)، وقال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41].
السنن الربانية لا تتغير ولا تتبدل، قال تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7]، وقال أيضاً: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]، وقال أيضاً: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152]، وقال أيضاً: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة:40]، فإن وفينا لله بالعهد وفى الله لنا بوعد صادق وعهد سابق، فمن أصدق من الله قيلاً، ومن أصدق من الله حديثاً، قال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21].
إن ما يمر بالعالم الإسلامي اليوم هو سحابة صيف عما قريب ستنقشع، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر الشرك والمشركين، وانصر عبادك الموحدين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يقاتلون من أجل إعلاء كلمة دينك، اللهم انصر من نصرهم، اللهم اخذل من خذلهم، اللهم صن أعراضهم، واحقن دمائهم، واشف مرضاهم وتقبل شهداءهم، وفك أسرانا وأسراهم يا رب العالمين.
اللهم إنهم قلة فكثرهم، اللهم إنهم جياع فأطعمهم، اللهم إنهم خائفون فأمنهم، اللهم إنهم مظلومون فاقتص لهم، لا راد لفضلك ولا معقب لحكمك.
اللهم يا منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزم الأحزاب وزلزلهم، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم لا تدع لهم قوة في الأرض إلا دمرتها، ولا في البحر إلا أغرقتها، ولا في السماء إلا أسقطتها.
اللهم اقذف الرعب في قلوبهم، وزلزل الأرض تحت أقدامهم، ومكن الرجال من أعناقهم يا رب العالمين.
اللهم أخرجهم من بلاد المسلمين أذلة صاغرين، لا ترفع لهم في بلاد المسلمين راية، ولا تحقق لهم غاية.
اللهم من عاونهم على المسلمين فاقصم ظهره، واخرس لسانه، وشل أركانه يا قوي يا عزيز، يا مالك الملك، يا جبار السماوات والأراضين.
ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير.
اللهم احفظ نساءنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم اجعلهن هاديات مهديات، راضيات مرضيات، تقيات نقيات خفيات، اللهم استخدمهن في طاعتك، واجعلهن مجاهدات في سبيلك يا رب العالمين.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً يا حي يا قيوم.
ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير.
أستغفر الله العظيم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(79/15)
قاتل ومقتول
إن نعم الله علينا لا تعد ولا تحصى، ومنها هذه السيارات التي نتنقل بها من مكان إلى مكان في يسر وسهولة، فالسيارة تعد من ضرورات الحياة اليوم لما فيها من منافع كثيرة، ولما يقضى بها من مصالح وفيرة، فشكر هذه النعمة واجب على كل مسلم، ومن شكرها استخدامها في الأمور المشروعة، وعدم استخدامها في أغراض سيئة، كفعل المعاصي والذنوب.(80/1)
تحية في مستهل اللقاء
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر الأحبة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله وبياكم، وسدد على طريق الحق خطانا وخطاكم.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني وإياكم في دار كرامته، وأن يحفظني وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلنا هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين.
أهلاً بكم أحبتي في هذا اللقاء المبارك، في هذا البلد المبارك، في هذا البيت المبارك، في هذه الدقائق واللحظات المباركة التي أسأل الله فيها أن يذكرنا فيمن عنده كما ذكرناه جل في علاه.
عنوان هذا اللقاء كما قالوا: قاتل ومقتول، وأنا أقول: حوادث على الطريق، فهؤلاء الذين تهوروا في استخدام السيارة قتلوا أنفسهم، وتسببوا في قتل الآخرين، فجنوا على أنفسهم وجنوا على الآخرين، إن هذه السيارة نعمة، لكنها إن لم تستخدم الاستخدام الصحيح انقلبت إلى نقمة، وقس هذا على كثير من الأمور، فالتلفاز نعمة لو استخدمناه الاستخدام الصحيح، لكن اليوم الشاشات والقنوات قلبت التلفاز إلى نقمة في البيوت، فأفسدت ودمرت.
الهاتف نعمة، ففي لحظات تستطيع أن تصل الأرحام في أدنى الأرض وأقصاها، لكن يوم أسيء استخدامه فأصبح سبباً في هدم البيوت.
حديثنا الليلة عن السيارات وحوادث السيارات والاستخدام الخاطئ للسيارات، وما حكم الشرع في أولئك الذين يسيئون استخدامها.
يتكون اللقاء أحبتي من عناصر: بعد الحمد وقبل البداية تحية.
ثم السيارة نعمة أم نقمة؟ ثم أرقام وإحصائيات، ثم ما هي الأسباب؟ ثم حوادث على الطريق: الحادث الأول: حادث قبل العيد، الحادث الثاني: من لم تعلمه المواعظ أدبته الحوادث، الحادث الثالث: في ذمة الله، الحادث الرابع: الملتقى الجنة.
أما بعد: فأهلاً بالصغار والكبار، رجالاً ونساء، وقبل البداية هذه تحية: إذا طلعت شمس النهار فإنها أمارة تسليمي عليكم فسلموا سلام من الرحمن في كل ساعة وروح وريحان وفضل وأنعم على الصحب والإخوان والولد والألى دعوهم بإحسان فجادوا وأنعموا وسائر من للسنة المحضة اقتفى وما زاغ عنها فهو حق مقدم أولئك أتباع النبي وحزبه فلولاهم ما كان في الأرض مسلم ولولاهم كادت تميد بأهلها ولكن رواسيها وأوتادها هم ولولاهم كانت ظلاماً بأهلها ولكن هم فيها بدور وأنجم أولئك أصحابي فحي هلاً بهم وحي هلاً بالطيبين وأنعم(80/2)
السيارة نعمة أم نقمة؟
أحبتي! إن نعم الله علينا لا تعد ولا تحصى، ومنها هذه السيارات التي نتنقل بها من مكان إلى مكان في يسر وسهولة واطمئنان، قال سبحانه: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:5 - 8] أي: ويخلق من الوسائل التي يركبها الناس في الجو والبر والبحر، ويستعملونها في منافعهم ومصالحهم، ومن هذه الوسائل السيارة التي لا تخفى منافعها الكثيرة، ومصالحها الوفيرة، حتى صارت ضرورة من الضروريات في هذا العصر وفي هذا الزمان، حيث لا يستغنى عنها في قضاء الحوائج، وتحقيق المصالح، فالواجب علينا أن نشكر الله على هذه النعمة، ومن شكرنا له ألا نستخدم هذه النعمة في أغراض سيئة، أو نسيء استعمالها، أو نستعين بها على فعل المعاصي والذنوب، قال فضيلة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: لقد استعمل بعض الناس هذه السيارة في أغراضه السيئة والوصول إلى مآربه السافلة، فصار يفر بها إلى البراري ليقترف ما تهواه نفسه بعيداً عن أعين الناس، وعن أيدي الإصلاح، وتناسى أن الله يراه في كل مكان، يخرج بعض الناس بعيداً عن البلد ليضيع ما أوجب الله عليه من إقامة الصلاة في وقتها، فهل يصح أن يقال لمثل هذا: إنه شاكر لنعمة الله؟ وهل يصح أن نقول: إنه سالم من عقوبة الله جل في علاه؟ كلا، فهو لم يشكر نعمة الله، ولن يسلم من عقوبة الله إلا أن يرجع إلى الحق والصواب.
السيارة نعمة أم نقمة؟ أحبتي! كم سمعنا عن أولئك الذين ماتوا في حوادث السيارات وهم سكارى، وبعضهم كان يسمع الغناء، وبعضهم كان سائراً إلى أماكن الخنا واللهو والغناء وما يكره الله جل في علاه.
أحبتي! كم تسببت الحوادث في وفيات، وإصابات، وإعاقات! كم خسرنا من شباب! وكم ترملت من نساء وتيتم من أطفال! كل ذلك بسبب الاستخدام الخاطئ للسيارة، وبسبب مخالفة الأنظمة التي وضعت لحماية الجميع.
كم تسبب متهور بسرعته وعدم مبالاته في فقد كثير من الأبرياء! وكم تسببت الحوادث في إعاقات مستديمة لكثير من الناس! قال أحدهم: أصبت في حادث مرور منذ عشرين عاماً بسبب السرعة الزائدة، وكانت الإصابة في ظهري فأدت إلى شلل كامل، وأنا الآن طريح الفراش منذ عشرين سنة، هكذا انقلبت حياتي رأساً على عقب بسبب التهور والسرعة، وبسبب عدم مبالاتي ضاعت أحلامي، وانتهت طموحاتي.
أقول: وهذا مثله كثير، {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2]، فالكيس الفطن هو الذي يعتبر بالآخرين، واعلم بارك الله فيك أنك إن لم تعتبر فستكون في يوم من الأيام عبرة للغادين والرائحين.(80/3)
أرقام وإحصاءات في حوادث السيارات
اسمع بعضاً من الأرقام والإحصائيات حتى تعلم أن الأمر خطير: هذه إحصائيات الأعوام الماضية عن عدد الحوادث وعدد المصابين والمتوفين في المملكة، ولو أضفنا إليها الإحصائيات التي في قطر وفي دول الخليج لوصل الرقم إلى أرقام خيالية.
في عام ألف وأربعمائة وسبعة عشر كان عدد الحوادث: 135763 حادثاً، وعدد الإصابات: 250718 إصابة، وعدد الوفيات: 3131 حالة وفاة.
وفي عام ألف وأربعمائة وثمانية عشر بلغ عدد الحوادث: 153727 حادثاً، وعدد الإصابات: 281044 إصابة، وعدد الوفيات: 3474 حالة وفاة والعدد في تزايد مستمر، ففي عام ألف وأربعمائة وتسعة عشر بلغ عدد الحوادث: 264326 حادثاً، وعدد الوفيات: 4290 حالة وفاة.
وفي عام ألف وأربعمائة وعشرين بلغ عدد الحوادث: 267772 حادثاً، وعدد الوفيات: 4848 حالة وفاة، ولم أستطع أن أتحصل على إحصائيات الأعوام القريبة، ولكن الذي أعلمه يقيناً أن العدد في ازدياد لا يعلمه إلا الله.
أما لو أضفنا عدد الوفيات في قطر وفي الكويت وباقي دول الخليج لبلغ الرقم أرقاماً خيالية، وأسباب هذه الحوادث السرعة الجنونية، ومخالفة الأنظمة، وقطع الإشارات وغيرها، ومن أعظم أسباب هذه الحوادث تسليم السيارات لصغار السن الذين هم دون سن الرشد، أولئك الذين لا يدركون قيمة السيارة، ولا عظم المسئولية حين ركوبها، كم نرى صغاراً يجوبون الشوارع والطرقات مع أصحاب لهم في سيارات فارهة، ملئوا الشوارع بالتفحيط والمخالفات، وآذوا الناس وتطاولوا على الآخرين.(80/4)
التفحيط محرقة تحرق زهرة شباب الأمة
من الأشياء التي ابتلي بها كثير من الشباب اليوم (التفحيط) في الشوارع العامة، أو (التطعيس) على الكثبان الرملية في البراري، ولا شك أن فيهما إتلافاً للمال الذي بين أيديهم وهو السيارة، فهؤلاء لم يدفعوا قيمة هذه السيارات؛ لذلك لم يعرفوا قيمتها، لكني لا ألومهم وإنما ألوم الذي أعطاهم ذلك المفتاح حتى يقودوا تلك السيارة؛ لأن كثيراً منهم لا يعلم ماذا يصنع هؤلاء خلف أظهرهم، فكم وقعت من حوادث بسبب هذا (التفحيط) و (التطعيس) ذهب ضحيتها السائق وكثير من أولئك الذين يتفرجون أو بعض الذين ليس لهم علاقة بالأمر لا من قريب ولا من بعيد.
شهدت أحد مواقع التفحيط بعد حادث بدقائق معدودة، فرأيت أسرة كانت تمر بسلام في ذلك الطريق فاعترضها أحد هؤلاء الأشرار وقضى عليها بكاملها، ولم تدر تلك الأسرة من أين أتاها الموت في تلك اللحظة.
فهؤلاء في ذمة من؟ ومن المسئول؟ هل هو الذي قاد السيارة أم ذاك الذي أعطى السيارة لمن لا يعرف ولا يستشعر قيمة المسئولية فقتل نفسه وقتل الآخرين؟(80/5)
فتاوى العلماء حول حكم التفحيط وخطره على الفرد والمجتمع
بين علماؤنا حفظهم الله حكم (التفحيط) و (التطعيس)، والمفاسد والأضرار على الفرد والمجتمع.
يقول ابن جبرين حفظه الله ومد في عمره موجهاً كلامه للآباء: أربعوا على أنفسكم وتفكروا في العواقب، ولا تتهاونوا بدماء المسلمين، ألا تعلمون أنكم تحملون إثماً كبيراً متى حصل حادث بسبب هذه السيارات التي وليتم قيادتها هؤلاء الشباب الذين هم ليسوا على قدر المسئولية؟! عليكم أن تعتبروا بمن حولكم، وبمن تسمعون خبره من الآباء وأولياء الأمور الذين تساهلوا مع أولادهم.
الثقة مطلوبة، لكن الإفراط في الثقة هو الذي لا نطلبه، الثقة مطلوبة حتى يتربى هؤلاء وهم واثقون بأنفسهم، لكن الثقة المفرطة بغير حسيب ولا رقيب هي التي دمرت الشباب.
فنصيحتنا للآباء: ألا يمكنوا أولادهم من القيادة إلا بعد سن الثامنة عشرة، وأنا أقول: حتى أصحاب الثامنة عشرة لا يعرفون قيمة المسئولية اليوم، فلا نستأمنهم على أرواح الآخرين إلا بعد التمرين والتدريب الطويل، وبعد التأكد من أنهم سيقودونها في تأن وبعد عن التهور والمخاطرة، فعلى كل الآباء التقيد بذلك ليريحوا أولادهم، ويحفظوا فلذات أكبادهم، وليأمن الآخرون من أخطارهم وتعدياتهم، والله أعلم.
وسئل ابن عثيمين رحمه الله عن حكم الصعود على الكثبان الرملية المرتفعة وهو ما يعرف بـ (التطعيس)، وهل يعد آثماً من يشاهد ذلك، فضلاً عمن يقود السيارة؟ فأجاب رحمه الله بقوله: أولاً: خروج الشباب إلى البر على هذا الوجه ربما يفضي إلى مفاسد، منها: تركهم للجماعات في المساجد، وبعدهم عن الأهل، وإتلاف الأموال؛ لأن السيارات تتلف بمحاولة إجبارها على أن تصعد على الكثبان الرملية، وإذا تضررت كان هذا من إتلاف الأموال، وإتلاف المال لغير مصلحة شرعية دينية أو دنيوية محرم، قال الله: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]، ولقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال.
ثم قال رحمه الله: ثم إني أسمع كثيراً من الناس يشكون من هذه السيارات، حيث إنها تفسد الأرض والنبات، ومعلوم أنه إذا كثر تردد السيارات على أرض بعينها فإنها تتلف، وتموت زروعها ومواشيها، وإذا تبين أن مثل هذا العمل مضيعة للمال، وقد يكون سبباً لأمور محظورة، فيكون تشجيعه والخروج له والتفرج عليه محرماً.
إذاً: الذي يقود يأثم، والذين يجتمعون هناك ليتفرجوا هم أيضاً آثمون؛ لأن فعلهم فيه إقرار للمحرم، ومساعدة عليه، وهؤلاء ما تجمعوا هنا إلا لإظهار مهاراتهم لهؤلاء الذين تجمهروا من حولهم، والله يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].(80/6)
اعتراف شاب مفحط على كرسي الإعاقة
اسمع هذا الخبر وقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، يقول أحد ضحايا التفحيط: أنا شاب أبلغ من العمر ثلاثين سنة أمضيت تسع سنوات منها على كرسي الإعاقة، والسبب هو التفحيط، فقد كنت أتباهى بمقدرتي وبراعتي في قيادة السيارة، وبينما كنت أفحط في يوم من الأيام أمام إحدى المدارس، سقطت سيجارتي من يدي فوقعت على قدمي، وعندها اختل توازني فاصطدمت سيارتي بعمود كهرباء وحصل ما حصل، فأحذر الشباب من خطورة التفحيط الذي جنيت عاقبته بإحراق زهرة شبابي، ولن ينفعني إلا رحمة الله.
أقول: وهذا مثله كثير، {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2].(80/7)
حوادث على الطريق(80/8)
حادث قبل العيد
أذكر هنا حوادث على الطريق، الهدف من ذكرها العبرة والاعتبار لا التسلية والإخبار.
أول هذه الحوادث بعنوان: (حادث قبل العيد) يقول صاحب القصة: أيام العشر الأواخر من رمضان بدأت تنقضي، والعيد أصبح قاب قوسين أو أدنى، لا أعرف أين سنذهب أنا وصديق الطفولة، ولكن كالعادة الجزء الأكبر من وقتنا نقضيه في جولات بين الأسواق والتجمعات والشوارع، وحين استقريت على مقعد السيارة بجوار عبد الرحمن سألني: هل جهزت ثوباً جديداً تستقبل به العيد؟ قلت له: لا، قال: ما رأيك أن نذهب إلى الخياط الآن، سألته متعجباً وأنا أهز رأسي: بقي ثلاثة أيام أو أربعة على العيد، أين نجد الخياط الذي يسابق العيد ويختصر الأيام، فلم يجبني، وإنما انطلق بسيارته بسرعة مجنونة كأنه يسابق الزمن حتى توقف أمام محل للخياطة الرجالية، سلم صاحبي على الخياط بحرارة فهو يعرفه تمام المعرفة، ثم قال له: نريد أن نفرح بالعيد، ونلبس الجديد، ضحك الرجل وأجاب وهو يربت على كتف عبد الرحمن: يا عبد الرحمن! ألا تعلم كم بقي على العيد؟ لماذا لم تأت مبكراً؟ أجاب عبد الرحمن وهو يهز يده بحركة لها معنى: سنزيدك في الأجرة، المهم أن ينتهي قبل العيد، ثم أعاد عليه: المهم أن ينتهي قبل العيد.
يقول: وبينما أنا أرقب المفاوضات الشاقة إذا بصاحبي يدفع جزءاً من الثمن وهو يردد قائلاً للخياط: لا تنس الموعد، بعد غد إن شاء الله نريد أن نلبس الجديد.
يقول: ثم انصرفنا بسيارتنا نجوب الشوارع بلا هدف حتى قبيل الفجر ونحن لاهون ساهون غافلون، مضت الليلة كاملة ولم نذكر الله عز وجل فيها ولا مرة واحدة، وربما كانت ليلة القدر ونحن لا نشعر، حياة لا طعم لها، سعادة لا مذاق لها.
يقول: ولجنا من المعاصي كل باب، وهتكنا منها كل حجاب، تفحيط بالليل وتطعيس بالنهار، وحسبنا أن الأمر يمضي دون حساب، إظهار للسرور والسعادة، وضحكات تملأ المكان، ولكن -وضع تحت لكن عدة خطوط- في القلب هم وغم لا يعلمه إلا الله، والنفس تحترق بألم وحسرات وهي لا تدري كيف الهرب من هذا الألم وهذا الضيق، افترقنا قبيل الفجر يجمعنا الليل والسهر والعبث، نلتقي على المعاصي وتجمعنا الذنوب، نوم طويل يمتد من الفجر حتى العصر، صيام بلا صلاة، وصلاة بلا قلب، ساعة الصيام الوحيدة التي أستيقظ فيها هي قبيل المغرب، كانت أيام الصيام عبارة عن أيام عادية أقطعها بالمكالمات الهاتفية العابثة وبقراءة الصحف والمجلات، متتبعاً أخبار الفنانين والفنانات، وغيري يختم القرآن مرات ومرات، وذات مرة بينما أنا أنتظر موعد أذان المغرب، جاءتني مكالمة هاتفية من أحد الأصدقاء، وكان صوته متغيراً فقال: أما علمت أن عبد الرحمن مريض؟ قلت: لا، مساء البارحة كان بصحة وعافية، قال: إنه مريض، أدرك صاحبك! انتهت المكالمة، والأمر بالنسبة لي لا يعدو عن أن يكون معلومة غير صحيحة، وبينما كان المؤذن يرفع أذان العشاء إذا بصوت جرس الهاتف ينطلق مرة ثانية، رفعت السماعة فإذا به الشقيق الأكبر لـ عبد الرحمن، قلت في نفسي: ماذا يريد؟! أكيد أنه سيلومني وسيؤنبني على ما نفعله أنا وعبد الرحمن طوال الليل، أو أن أحداً أخبره بزلة من زلاتنا أو سقطة من سقطاتنا، لكن أتى صوته منهكاً مجهداً وعبراته تقطع حديثه، أخبرني بالخبر، قال: مات عبد الرحمن! بهت ولم أصدق، لا زال صوته يرن في أذني كأني أراه! كيف مات؟ من غير المعقول أنه مات بالأمس، ليلة البارحة افترقنا أنا وإياه وهو في أتم الصحة والعافية، قال أخوه: بينما هو منطلق إلى المنزل ليلة البارحة بسرعته الجنونية ارتطم بسيارة أخرى عند أحد التقاطعات فمات كل من في السيارة الأخرى، وحمل هو إلى المستشفى ولكنه فارق الحياة ظهر هذا اليوم.
يقول راوي القصة: أذني لا تصدق ما تسمع، لا أزال أراه أمامي نعم أمامي! بل اليوم كان موعدنا لنذهب إلى السوق الفلاني، وغداً موعدنا لنأخذ ثياب العيد، أيقظني صوت شقيق عبد الرحمن من غفوتي وهز جوانحي وأزال غشاوة كانت على عيني عندما قال: سنصلي عليه الظهر غداً، أخبر زملاءك.
انتهى الحديث بيني وبينه، وتأكدت أن الأمر جد لا هزل فيه، وأن أيام عبد الرحمن قد انقضت، آمنت بأن الموت حق، وأن موعدنا غداً هناك في المقبرة لا عند الخياط، لقد كان يتمنى أن يلبس ثوب العيد فتركه ولبس كفناً جديداً، تسمرت في مكاني، وأصبت بتشتت في ذهني ودوار في رأسي، فقررت أن أذهب إلى منزل عبد الرحمن لأستطلع الخبر وأستوضح الفاجعة، عندما ركبت سيارتي فإذا بشريط غناء في جهاز التسجيل، هذا هو الغناء الذي أفسد قلوبنا! ورباها على النفاق وجعلها أقسى من الحجارة! أخرجت الشريط فانبعث صوت إمام الحرم، من المذياع يعطر المكان بخشوعه وحلاوته، أنصت بكل جوارحي وكأنني أسمع هذا الكلام لأول مرة، وكأن الدنيا انقلبت، والقيامة قامت والناس تغيرت، أوقفت سيارتي على جانب الطريق أستمع إلى قراءة القرآن من الحرم، وكأني أسمع القرآن لأول مرة في حياتي، وعندما بدأ دعاء القنوت كانت دمعتي أسرع من صوت الإمام، فرفعت يدي لتستقبل تلك الدموع، يا الله ما أجمل الدعاء! وما أجمل الخضوع والخشوع واللجوء إلى الله! أخذ قلبي يردد صدى تلك العبرات، وبارقة أمل أقبلت خلف تلك الدموع أعلنتها توبة صادقة، بدأتها بصحبة طيبة ورفقة صالحة، ودعنا عبد الرحمن في اليوم التالي، وانطلقت أنا في طريق الهداية مع رفقة صالحة، أولئك الذين تركتهم بالأمس هم أحب الناس إلي اليوم من تطاولت عليهم بالأمس هم أنفع الناس في عيني اليوم من استهزأت بهم بالأمس هم أكرم الناس عندي اليوم، كنت على شفا جرف هار ولكن الله رحمني مع الرفقة الصالحة، هدأت نفسي، وأطلت علي السعادة التي كنت أبحث عنها ولا أعرفها، وأصبحت أشعر بانشراح في الصدر، وظهرت على وجهي أماراة سكينة ووقار زينتها تلك اللحية الجميلة التي بدأت تنمو وتكبر على وجهي، يا ألله ما أجمل السنة وما أجمل الاتباع! بعد يومين فاجأت الخياط وسألته عن ثوبي، سأل عن عبد الرحمن، قلت: عبد الرحمن مات، أعاد الاسم مرة ثم مرة، قلت له: عبد الرحمن مات، فبدأ يصف لي عبد الرحمن، ويصف لي سيارته، وكلامه، قلت له: نعم هذا هو، ولكنه مات، عندها أراني ثوبه، فبدأت أسترجع الذكريات ولسان حالي: هل حقاً مات؟ هذا ثوبي بجوار ثوبه، ومقعدي في السيارة بجوار مقعده، ولكن بقي لي أجل وعمر لعلي أستدرك ما فات، فحمدت الله على التوبة والرجوع والأوبة.
ولكن بقي لنا إخوة كثر مثل عبد الرحمن يعيشون في غفلة، ولا تزال الغشاوة على أعينهم، ولا يزال يعلو قلوبهم ران المعصية، فهل نتركهم يموتون كما مات عبد الرحمن؟ عبد الرحمن ذاك الذي كان يؤمل أن يلبس ثياب العيد، فلبس بدلاً عنه الأكفان، كيف نتركهم وأمامهم قبر ونار وعذاب؟! كيف نتركهم وأمامهم وأهوال صعاب؟ لن نتركهم وقد هدانا الله، بيننا وبينهم كتاب وشريط ونصيحة صادقة، اللهم ارحم عبد الرحمن برحمتك يا أرحم الراحمين.(80/9)
من لم تعلمه المواعظ أدبته الحوادث
يقول صاحب القصة: كنت شاباً غافلاً بعيداً عن الله غارقاً في لجج المعاصي والآثام، فلما أراد الله لي الهداية قدر لي حادثاً أعاد إلي رشدي وصوابي، ففي يوم من الأيام -وبعد أن قضينا أياماً جميلة في نزهة عائلية في مدينة الدمام- انطلقت بسيارتي عبر الطريق السريع بين الدمام والرياض ومعي أخواتي الثلاث، وكن في مقتبل العمر كالورود والأزهار، وبدل أن أدعو بدعاء السفر المأثور استفزني الشيطان بصوته وأجلب علي بخيله ورجله، وزين لي سماع لهو الحديث المحرم؛ لأظل ساهياً غافلاً عن الله، لم أكن حينئذ أحرص على سماع إذاعة القرآن أو الأشرطة الإسلامية النافعة للمشايخ والأئمة والعلماء؛ لأن الحق والباطل لا يجتمعان في مكان واحد وكما قيل: حب الكتاب وحب ألحان الغنا في قلب عبد ليس يجتمعان إحدى أخواتي كانت صالحة مؤمنة ذاكرة لله حافظة لحدوده - نحسبها كذلك والله حسيبها- طلبت مني أن أسكت صوت الباطل، وأن أستمع إلى صوت الحق، ولكن أنى لي أن أستجيب وقد استحوذ علي الشيطان وملك علي جوارحي وفؤادي فأخذتني العزة بالإثم؟! رفضت طلبها، وقد شاركني في ذلك أختاي الآخرتان، فقد كانتا غافلتين كحالي، كررت أختي المؤمنة طلبها فازددت عناداً وإصراراً، وأخذنا نستهزئ بها ونسخر منها، وقلت لها: إن أعجبك الحال وإلا أنزلتك على قارعة الطريق، فسكتت على مضض، وقد كرهت هذا العمل بقلبها بعد أن أنكرته بلسانها وأدت ما عليها، والله سبحانه يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وفجأة وبقدر سبق من الله انفجرت إحدى عجلات السيارة ونحن نسير بسرعة شديدة فانحرفت السيارة عن الطريق وهوت في منحدر جانبي وأصبحت رأساً على عقب بعد أن انقلبت عدة مرات، صرنا في حال لا يعلمها إلا الله العلي العظيم، اجتمع الناس حول سيارتنا المنكوبة، وقام أهل الخير بإخراجنا من بين الحطام والزجاج المتناثر، ولكن ما الذي حدث؟ لقد خرجنا جميعاً سالمين، إلا من بعض الإصابات البسيطة، ما عدا أختي الصالحة الصابرة الطيبة فقد أصيبت إصابات بالغة وماتت من حينها، لقد ماتت أختي الحبيبة التي كنا نستهزئ بها، واختارها الله إلى جواره، وإني لأرجو أن تكون في عداد الشهداء الأبرار، وأسأل الله عز وجل أن يرفع منزلتها، ويعلي مكانها في جنات النعيم، أما أنا فقد بكيت على نفسي قبل أن أبكي على أختي، وانكشف عني الغطاء فأبصرت حقيقة نفسي وما كنت فيه من الغفلة والضياع، وعلمت أن الله قد أراد بي خيراً، وكتب لي عمراً جديداً لأبدأ حياة جديدة ملؤها الإيمان والعمل الصالح.
أما أختي الحبيبة فلا تكاد تغيب عن مخيلتي، أراها في كل حين، وأتخيلها وأذرف دموع الحزن والندم، فكم وجهت لنا تلك النصائح، وكم دعت لنا تلك الدعوات، لقد كان موتها سبباً لاستيقاظي وانتباهي من غفلتي، أتذكر تلك الذنوب والمعاصي وأتساءل في نفسي: هل سيغفر الله لي؟ فأجد الجواب في قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
هذه نصيحتي للغافلين والمدبرين والمعرضين عن الصراط المستقيم، أقول: من لم تعلمه المواعظ أدبته الحوادث، أفيقوا من غفلتكم، وخذوا من غيركم العبرة، قبل أن تكونوا لغيركم عبرة، والكيس من اعتبر بغيره، قبل أن يكون عبرة للآخرين.(80/10)
احفظ الله يحفظك
يقول عبد الله راوي هذه القصة: في ضحى أحد الأيام وحين كانت درجة حرارة الجو عالية انطلقت أنا وزميل لي إلى منطقة بعيدة في مهمة عمل، وكان صاحبي يتولى القيادة، وكنت بجانبه بين نائم ويقظان، وكنت أثناء ذلك أنبهه إلى عدم تجاوز السرعة المحددة، وكنا نستمع إلى شريط لأحد المشايخ، وكان يتكلم فيه عن الجنة ونعيمها، وقبل وصولنا إلى تلك المنطقة حدث ما لم يكن على البال ولا في الحسبان، انفجر الإطار الخلفي لسيارتنا من شدة الحرارة، وسبب انفجاره صوتاً عالياً مما أربك صاحبي وأفقده السيطرة تماماً على السيارة التي أخذت تسير بنا كسفينة بلا ربان تتقاذفها الأمواج، ازداد الموقف شدة وسوءاً حين اتجهت سيارتنا إلى الطريق المعاكس، وأخذت تتجه نحو شاحنة أقبلت علينا بسرعة عظيمة، لم يبق على الموت إلا لحظات، حينها مرت بخاطري أمور وذكريات استرجعت بها شريط الحياة، فتذكرت أمي التي ودعتها في الصباح على أن أرجع إليها في المساء، وقلت في نفسي: كيف سيكون حالها وهي تتلقى الخبر؟ مر بي شريط حياتي الماضية في لحظات، أخذت أردد: باسم الله لا إله إلا الله الله أكبر {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] اللهم هون علينا الموت وسكراته، وأثناء ذلك أغمضت عيني بانتظار الاصطدام وبانتظار الموت، ثم فتحت عيني فإذا بسيارتنا قد مرت من أمام الشاحنة التي لم يكن بيننا وبينها إلا خطوات، ثم سقطت سيارتنا في حفرة على جانب الطريق، وساد السيارة صمت قطعه أصوات الذين اجتمعوا حول سيارتنا، نزلت من السيارة وأنا أردد: الحمد لله الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات الحمد لله الذي وسعت رحمته كل شيء، والله ما كان بيننا وبين الموت إلا لحظات، أما صاحبي فلم يستطع النزول من السيارة وانكب على وجهه باكياً من شدة الموقف، وأنا أهدئ من روعه، وبينما نحن على هذه الحال أقبل علينا شيخان كبيران تزينهما لحى بيضاء وثياب قصيرة فأخذوا يقبلاننا ويهنئاننا ويحمدان الله على سلامتنا، ثم قال لنا أحدهما كلمات سأظل أذكرها أبداً ما حييت، قال: كنا خلفكم ورأينا كيف مالت بكم السيارة يميناً ويساراً، ورأينا مروركما من أمام الشاحنة ونجاتكما من الموت بأعجوبة، ولا أقول إلا: إنكما كنتما في حفظ الله ورعايته، وإنكما صليتما الفجر في جماعة فكنتما في ذمة الله، يقول عبد الله: قلت في نفسي: الحمد لله، فأنا منذ سنوات طوال وأنا أحافظ على جميع الصلوات في المسجد، وصلاة الفجر خاصة، كم أشعر بالأمن والأمان والراحة والاطمئنان، كيف لا وهي حفظ من الله وضمان، ثم سألت صاحبي: أين صليت الفجر اليوم؟ فلم يستطع الإجابة، وإنما توجه إلى خلف السيارة وتوضأ ثم بدأ يصلي.
سبحان الله! لم يبق على صلاة الظهر إلا وقت يسير، وصاحبي لم يصل الصبح إلى الآن، أي حياة هذه؟! أسألكم بالله كيف سيكون حاله لو فارق الحياة في تلك اللحظة؟ وفي ذمة من سيكون؟ إن صلاة الفجر تشتكي هجراً ومقاطعة من شباب المسلمين وشيبهم ونسائهم وأطفالهم، إنك لتحزن أشد الحزن على حال الأمة وهي تمر في أحلك الظروف وأشد المواقف، وإلى الآن لم ترجع إلى ربها، ولم تراجع حساباتها! لي فيك يا ليل آهات أرددها أواه لو أجدت المحزون أواه أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصاً جناحاه قال سبحانه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:42 - 43]، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76]، وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:96 - 99].
يا رب عفوك لا تأخذ بزلتنا واغفر أيا رب ذنباً قد جنيناه كم نطلب الله في ضر يحل بنا فإن تولت بلايانا نسيناه ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا فإن رجعنا إلى الشاطي عصيناه ونركب الجو في أمن وفي دعة وما سقطنا لأن الحافظ الله(80/11)
المحافظة على الصلوات سبب في حفظ الله للعبد
أبشر يا من حافظت على صلاة الفجر وباقي الصلوات، فأنت في ذمة الله حين تغدو وحين تروح، قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله حتى يمسي، ومن صلى العشاء في جماعة فهو في ذمة الله حتى يصبح)، قال أهل العلم: (في ذمة الله) يعني: في حفظ الله ورعايته، وقالوا: إذا مات من يومه دخل الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى البردين دخل الجنة)، والبردان: الصبح والعصر.
أبشر يا من صليت الفجر وباقي الصلوات في المسجد بالنور التام يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)، وما أدراك ما يوم القيامة! قال سبحانه: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:12 - 14].
فاعلم بارك الله فيك أن من أعظم صفات المنافقين التخلف عن الصلوات، وصلاة الفجر خاصة.
جاء في الحديث المتفق عليه من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته)، لكن هناك الثمن إذا أردت أن ترى وجه الحي القيوم فإن هناك ثمناً لذلك قال: (فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا)، الثمن هو أن تصلي الفجر مع الجماعة، وتصلي باقي الصلوات مع المسلمين، وتنتظم في صفوف المصلين، قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23].
فبينما هم في عيشهم وسرورهم وأرزاقهم تجري عليهم وتختم إذا هم بنور ساطع أشرقت له بأقطارها الجنات لا يتوهم تجلى لهم رب السماوات جهرة فيضحك فوق العرش ثم يكلم سلام عليكم يسمعون جميعهم بآذانهم تسليمه إذ يسلم يقول سلوني ما اشتهيتم فكل ما تريدون عندي إنني أنا أرحم فقالوا جميعاً نحن نسألك الرضا فأنت الذي تولي الجميل وترحم فيعطيهم هذا ويشهد جميعهم عليه تعالى الله فالله أكرم فيا بائعاً هذا ببخس معجل كأنك لا تدري بلى سوف تعلم فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم اللهم لا تحرمنا لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين، لا ضالين ولا مضلين.(80/12)
رسالة إلى من ضيع الصلاة
إليك يا من آثرت نومك على طاعة ربك أرسل إليك رسالة: أترضى أن تتصف بصفات المنافقين، قال صلى الله عليه وسلم: (أثقل الصلوات على المنافقين: صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً) رواه أحمد.
وقال الله عز وجل عنهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء:142 - 143].
أفترضى أيها المتخلف عن الصلوات أن تكون مثل هؤلاء؟ (سئل صلى الله عليه وسلم عن رجل نام حتى أصبح، فقال -بأبي هو وأمي-: ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه)، أترضى أن يكون هذا حالك كل يوم؟! إذا استيقظت وفاتتك الصلاة وقد صلى المصلون، وأشرقت الشمس وكنت مع المتخلفين، وقد بال الشيطان في أذنيك؛ فاغسل أذنيك سبعاً، ستاً بالماء وواحدة بالتراب.
اسمع بارك الله فيك هذا الوعيد الشديد لمن ينام عن صلاة الفجر أو صلاة العصر أو أي صلاة، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول لأصحابه: هل رأى أحد منكم رؤيا؟ قال: فيقص عليه ما شاء الله أن يقص، وإنه قال لنا ذات غداة: إنه أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: انطلق وإني انطلقت معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجع -وفي رواية: ملقى على قفاه- وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة فيثلغ رأسه، فيتدهده الحجر هاهنا، فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يعود رأسه كما كان، ثم يعود فيفعل به مثلما فعل به المرة الأولى، قال: قلت لهما: سبحان الله! ما هذا؟! قالا لي: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا فأتينا على مثل التنور -قال الراوي: أحسب أنه قال- فإذا فيه لغط وأصوات قال: فاطلعنا فيه، فإذا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا -أي: علت أصواتهم وصاحوا من الألم- قال: قلت لهما: سبحان الله! ما هذا؟! قالا: انطلق انطلق، قال: فانطلقنا فأتينا على نهر -قال الراوي: حسبت أنه قال- مثل الدم، وإذا في النهر رجل يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا بذلك السابح يسبح ما يسبح، ثم يأتي إلى ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة فيفغر له فاه -أي: يفتح فمه- فيلقمه حجراً فينطلق يسبح ثم يرجع إليه، وكلما رجع إليه فغر له فاه فألقمه حجراً، قلت: سبحان الله ما هذا؟ قالا: انطلق انطلق) إلى أن قال في آخر الحديث: (قلت لهما: فإني قد رأيت منذ الليلة عجباً، فما هذا الذي رأيت؟! قال: قالا لي: أما إنا سنخبرك، أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر، فإنه الرجل يأخذ القرآن وينام عن الصلاة المكتوبة -وهذا ينطبق على المرأة التي تفعل مثل ذلك العمل-، أما الرجال والنساء العراة الذين في مثل التنور فهم الزناة والزواني، وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في نهر من الدم ويلقم بالحجر فإنه آكل الربا)، قد كفانا الله بحلاله عن حرامه، فاتق الله اتق الله يا من تنام عن الصلوات! اتق الله يا من تعاقر الزنا والمومسات! اتق الله يا من تأكل الأموال الربوية! أيها اللاهي بلا أدنى وجل اتق الله الذي عز وجل قال سبحانه وتعالى: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:4 - 6].
فإلى متى الغفلة؟ إلى متى هذا الضياع؟ فيا ساهياً في غمرة الجهل والهوى صريع الأماني عن قليل ستندم أفق قد دنا الوقت الذي ليس بعده سوى جنة أو حر نار تضرم وبالسنة الغراء كن متمسكاً هي العروة الوثقى التي ليس تفصم وهيئ جواباً عندما تسمع الندا من الله يوم العرض ماذا أجبتم به رسلي لما أتوكم فمن يجب سواهم سيخزى عند ذاك ويندم وخذ من تقى الرحمن أعظم جنة ليوم به تبدو عياناً جهنم وينصب ذاك الجسر من فوق متنها فهاو ومخدوش وناج مسلم ويأتي إله العالمين لوعده فيفصل ما بين العباد ويحكم فيا ليت شعري كيف حالك عندما تطاير كتب العالمين وتقسم فبادر إذاً ما دام في العمر فسحة وعدلك مقبول وصرفك قيم(80/13)
الأعمال بالخواتيم
خرج رجل من الصالحين ومعه زوجته، وكانت هذه الزوجة صوامة قوامة ولية من أولياء الله -نحسبها كذلك والله حسيبها- خرجا يريدان العمرة، وهكذا الأسفار، إما أسفار طاعة، أو أسفار معصية، فخرجا شوقاً لله، واستجابة لأوامر الله، والغريب أنه كأنما ألقي في روعها أنها لن ترجع، فودعت أهلها، وقبلت أطفالها وهي تبكي، وكتبت وصيتها، ثم ذهبت، فلما وصلا إلى مكة طافا وسعيا وقصرا ودعوا الله وتضرعا، وسألا الله خير الدنيا وخير الآخرة، وفي طريق العودة كانت الزوجة على موعد مع ملك الموت حين انفجر إطار السيارة فخرجت عن مسارها وانقلبت، وأصيبت المرأة في رأسها، وخرج زوجها الذي لم يصب ووقف عليها وهي في سكرات الموت فسمعها تقول: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فلما رأت زوجها تبسمت وقالت له: بلغ أهلي السلام وقل لهم: الملتقى الجنة، ثم فاضت روحها إلى بارئها.
الكل سيموت، لكن على أي حال؟ قدر الله ماض على الصغير والكبير، لكن الأعمال بالخواتيم، ويختم للمرء على ما عاش عليه، فإن عاش على طاعة يموت على طاعة ويحشر على طاعة، والعكس بالعكس، {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران:117].
التقينا أنا وإياكم هنا وسنفترق، وكل منا ينتظر منيته، فمنا من سيموت في أرض، ومنا من سيموت في بحر، ومنا من سيموت في سماء، ولكن على أي حال سيكون الوداع؟ وأين سيكون الملتقى؟ أسأل الله أن يجمعني وإياكم في جنات النعيم.(80/14)
حكم مخالفة أنظمة المرور
أخيراً: أود أن أنبه إلى أن أنظمة المرور ما وضعت إلا لضبط حركة الناس ومنع الفوضى، وحتى يكون المجتمع آمناً ومستقراً لابد لكل فرد في المجتمع أن يعرف ما له وما عليه، خاصة في هذا الزمان الذي ضعف فيه الوازع الديني عند كثير من الناس فلا يردعهم إلا النظام والعقوبات.
يقول ابن باز رحمه الله: لا يجوز لأي مسلم أن يخالف أنظمة الدولة في شأن المرور لما في ذلك من الخطر العظيم عليه وعلى غيره، والدولة -وفقها الله- إنما وضعت ذلك حرصاً منها على مصلحة الجميع، ورفع الضرر عن المسلمين، فلا يجوز لأحد أن يخالف ذلك، وللمسئولين عقوبة من فعل ذلك بما يردعه وأمثاله؛ لأن الله سبحانه يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، والله يقول: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103].
ومما يوصى به الالتزام بحزام الأمان، أفلا يستطيع أحدنا أن يجر حزام الأمان بمجرد ركوبه لسيارته، والأمر أصلاً لا يستغرق إلا ثوان، وكم كان التقيد بهذه الأمور سبباً في نجاة الكثيرين، من منا يضمن ألا يأتيه قضاء الله وقدره في أي مكان، فعليك أخي المسلم أن تعقلها وتتوكل، وحقيقة التوكل بذل الأسباب مع اعتماد القلب على الله.
فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحفظني وإياكم بحفظه، وأن يجعلنا هداة مهتدين، لا ضالين ولا مضلين، وأسأله سبحانه أن يهيئنا لاستخدام كل ما أنعم به علينا الاستخدام الأمثل، وألا نستخدم نعمه في معاصيه.
اللهم من قاد السيارة بأمن وأمان، ومراعاة للآخرين فاحفظه في سيارته يا رب العالمين، ومن قادها بتهور فرده إلى الحق يا حي يا قيوم.
اللهم احفظنا بحفظك في الغدوة والروحة يا رب العالمين.
اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين، لا ضالين ولا مضلين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين.
اللهم وفق ولاة الأمر للحكم بكتابك، وسنة نبيك، واجعلهم سلماً لأوليائك، حرباً على أعدائك يا رب العالمين، اللهم ارزقهم بطانة صالحة تعينهم على الخير إذا فعلوه، وتذكرهم به إذا نسوه.
اللهم احفظ الشباب والشيب، واحفظ النساء والأطفال يا رب العالمين.
اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك الموحدين انصر المجاهدين في سبيلك، الذين يقاتلوا من أجل إعلاء كلمة دينك، اللهم انصر من نصرهم، واخذل من خذلهم، وصن أعراضهم واحقن دماءهم، وفك أسرانا وأسراهم يا رب العالمين.
اللهم اكبت أعداءهم فإنهم لا يعجزونك، ولا يخفون عليك، يا عليم يا خبير، يا قوي يا عزيز، عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير.
أستغفر الله العظيم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(80/15)