انتبهوا لهذا طالب العلم لابد أن يحيط بهذه الأقوال الأربعة حتى إذا سمع قائلاً يقول بقول منها فليتمهل عليه ولا ينبذه بالبدعة ويقول له أنت مبتدع خالفت أهل السنة، انتبهوا المسألة مما اختلف فيها أهل السنة وفيها سعة وقد سبقنا في الخلاف فيها من قبل الصحابة والسلف الصالح رضوان الله عليهم، فابن عباس يثبت وأمنا عائشة تنفي والعلماء بعد ذلك على هذا المسلك وما دام الأمر كذلك فليسعنا ما وسعهم ولا يبدع بعضنا بعضاً والعلم عند الله.
س: ما المراد بالسلف هنا؟
جـ: المراد بالسلف هنا الصحابة والتابعون وتابعوهم، وهم القرون المفضلة بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم ثم بعد ذلك يفشوا الكذب كما يخبر النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث في صحيح البخاري: [خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم] ، قال عمران بن الحصين أو الراوي عنه: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثاً] ثم يأتي بعد ذلك أقوام يشهدون ولا يستشهدون ويحلفون ولا يستحلفون ويخونون ولا يأتمنون [وفي بعض الروايات ينذرون ولا يوفون] ويظهر فيهم السِمَن يسبق يمين أحدهم شهادته وشهادته يمينه] أي يتعجل في كلامه ولا يتروي وهذا في العصور المتأخرة.
ولذلك الحديث المرسل الذي يرفعه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم احتج به الجمهور، قالوا: لأن ذلك لم يفشُ فيه الكذب، فإنه حصل في العصور المتأخرة.
خامساً: كلام العزيز الغفور لنبينا عليه الصلاة والسلام المبرور:
كلمة الله جل وعلا فوق سبع سموات، فحصلت له الرؤية وحصل له الكلام ن وتقدم معنا ما يشير إلى هذا عند فرض الصلوات وفيه أن الله جل وعلا قال له بعد أن انتهت إلى خمس [أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي،هي خمس وهن في الآخرة خمسون] .(6/196)
وهذا كلام يسمعه النبي صلى الله عليه وسلم من ربنا في ذلك الوقت، وهذا هو مما أطلعنا عليه من أنه حصل بينهما كلام، لكن ما الذي حصل بعد ذلك من مناجاة وتكليم؟ لا يعلم هذا إلا رب العالمين.
وقد أشار الحافظ في الفتح (7/216) إلى هذا عند هذه الجملة من الحديث: "هذا من أقوى ما استدل به على أن الله كلم نبيه صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج بغير واسطة"
إن قيل: من أين علمنا أن هذا التكليم كان من غير واسطة؟
الجواب: من لفظ الحديث [أمضيت فريضتي] ، ولو أن الملك هو الذي بلغه لقال أمضى الله فريضته يا محمد [خففت عن عبادي] هذا كلام من؟ إنه كلام الله، هذا كما يفعل ربنا كل ليلة حين ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: [من يدعوني فاستجب له، ومن يسألني فأعطيه ومن يستغفرني فأغفر له] والحديث متواتر، فجاء المؤولة وقالوا: معنى [ينزل ربنا] أي ينزل ملكه ونقول لهم: لو نزل الملك فهل يجوز أن يقول من يدعوني فأستجب له، ومن يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له بل لو نزل أعلى الملائكة لما جاز له أن يقول هذا الكلام، لكن يقول لو كان الملك الذي ينزل – من يدعو الله فيستجيب له ... وهكذا.
وهنا لفظ الحديث يدل على أن المتكلم هو الله سبحانه وتعالى إذ لا يصح أن يتكلم بهذه الصيغة غير الله جل وعلا.
وقال الإمام ابن القيم في زاد المعاد في هدي خير العباد (1/80) – وهذا الكتاب لا ينبغي أن يخلو منه بيت مسلم وهو في خمس مجلدات وهو كتاب نافع ضروري ضموه إلى ما ذكرناه سابقاً كتاب الأذكار ورياض الصالحين والتبيان في آداب جملة القرآن – يقول عند تعداد مراتب الوحي فذكر مرتبة ثامنة للوحي وهي آخر المراتب وهي خاصة بنبينا عليه الصلاة والسلام ولم تحصل لغيره: "زاد بعضهم مرتبة ثامنة وهي تكليم الله لنبيه عليه الصلاة والسلام كفاحاً (أي من غير حجاب) على مذهب من يقول إنه رأى ربه، وهي مسألة خلاف بين السلف والخلف".(6/197)
وهي كما قلنا لم تحصل لغير نبينا عليه الصلاة والسلام، أما الكلام الذي حصل لموسى بحجاب، فهذه زيادة رآه وكلمة، والله يقول في كتابه ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء فاستثنى من هذا نبينا عليه الصلاة والسلام فكلمه كفاحاً ومشافهة دون أن يكون هناك حاجز أو حجاب.
وإذا لم نقل بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه فنقول الكلام حصل له بحجاب كما حصل لموسى عليه السلام.
والآن انتهينا من مبحث الإسراء والمعراج.
س: متى وقع الإسراء والمعراج بالتحديد؟
جـ: لا يُعلم زمن وقوعه بالتحديد لا في أي يوم ولا في أي شهر ولم يثبت هذا بسند صحيح عن أحد وكل تحديد لشهره أو ليومه أو لليلته فهو محض التخرص والكذب والافتراء على النبي عليه الصلاة والسلام.
أما الاحتفالات المزيفة بليلة الإسراء والمعراج فهذه احتفالات المنافقين الذين عادوا نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام، فبعد أن محوا نوره وشرعه أراد الشيطان أن يخدّرهم , أن يخّدر الناس باحتفالات وتواشيح وأناشيد وشيء من الخطب وأحياناً بكاء، ثم يزول أثر كل ذلك بعد قليل.
وهل احتفل الصحابة في حياتهم أو التابعون أو من بعدهم بإسراء ومعراج أو بمولد نبوي أو بحادث هجرة أو بغير ذلك؟ لا، ولكن هذا الآن صار عندنا أعظم الغايات وما كان الصحابة يبالون به ولا يعطونه شيئاً من الاهتمام، مع أنهم يعلمون في أي يوم أسري به صلى الله عليه وسلم ومتى عرج به لكن ما خطر ببال تابعي – لسلامة عقولهم – أن يسأل صحابياً عن اليوم بالتحديد، ولو سأله لأخبره لكن لا فائدة من هذا السؤال فليس من وراء معرفته على التحديد فائدة.(6/198)
ولكننا ما عملنا هذا إلا لما انحرفنا عن دين الله وحاربنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدأنا نحتفل بهذه الشكليات التي هي بدع وصار حالنا كالنصارى فإنهم احتفلوا بعيد الميلاد – عندهم - بعد أن ضيعوا دينهم وغيروا هذا الدين وضيعوه فلذلك صاروا يحتفلون بهذه المراسيم، وهكذا نحن سلكنا مسلكهم وسنسلك مسلك من كان قبلنا شبراً بشبر وذراعا ً بذراع.
فإذن لم يضبط تاريخ هذه الحادثة ولعله لحكمة يشاؤها الله:
أولا ً: لئلا يعكف المسلمون على هذه الليلة ويجعلون لها مراسيم، وهذا واضح فإنهم عملوا لها مراسيم الآن مع أنها لم تعلم بالتحديد فكيف لو عُلِمتْ.
ثانياً: ليخبرنا الله أن هذه الأمور شكلية ولا وزن لها ولا قيمة، فليس المهم معرفة الزمن بالتحديد الذي وقعت فيه، لكن المهم الاتعاظ والوقوف عند هذه العبرة العظيمة وأخذ الأحكام والفوائد التي في هذه الحادثة.
س: إذا اختلف الأئمة بعد القرون المفضلة، فهل في الأمر سعة كما لو اختلفوا في عهد السلف؟
نقول: إن خالفوا في أمر متفق عليه بين الصحابة وتابعيهم ومن بعدهم فالمخالف حينئذ ضال وهذا لا يوجد في المذاهب الأربعة قطعاً.
وإن كانت المسألة جديدة وحادثة واختلفوا في حكم الله فيها ليلحقوها بأحد النصوص الشرعية الثابتة عن خير البرية عليه صلوات الله وسلامه، فاختلفوا في هذا فهنا الأمر فيه سعة ما دامت النصوص تشهد له.
إذن جرت مسألة ولا نص فيها فبحث العلماء في حكمها وشأنها فاختلفوا فبعضهم ألحقها بدليل وحاظر وبعضهم ألحقها بدليل مُبيح فيبقى الأمر كما لو حصل الاختلاف في زمن الصحابة رضوان الله عليهم والأمر فيه سعة، ورحمة الله واسعة.
المبحث الثاني:
مبحث الحَوض:
معناه في اللغة: مجمع الماء، بمعنى البركة كما هو معروف لدينا في هذه الأيام فنقول: بركة، مسبح، حوض وجمعه حياض وأحواض.
والمراد من الحوض:
الحوض الذي يكون لنبينا صلى الله عليه وسلم في الآخرة.(6/199)
وهذا الحوض قد تواترت به الأحاديث، فأحصى الحافظ ابن حجر الصحابة الذين رووا أحاديث الحوض فبلغوا (56) صحابياً، ثم قال: بلغني أن بعض المعاصرين جمع الصحابة الذين رووا أحاديث الحوض فبلغوا (80) صحابياً.
فهذا إذن متواتر.
قال الإمام الداوودي عليه رحمة الله:
مما تواتر حديث من كذب ... ومن بنى لله بيتاً واحتسب
ورؤية شفاعة والحوض ... ومسح خفين وهذي بعض
أي هذه بعض الأحاديث المتواترة وهي أكثر من ذلك بكثير.
(من كذب) حديث [من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار] ، روي عن جملة كبيرة من الصحابة منهم العشرة المبشرون بالجنة.
(ومن بنى لله بيتاً واحتسب) :
حديث [من بنى لله بيتاً واحتسب فله بيت في الجنة] .
وحديث [من بنى لله بيتاً ولو كمَفْحَص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة] .
وحديث [من بنى لله بيتاً ليذكر الله فيه بنى الله له بيتاً في الجنة] . فهذا متواتر عن نبينا عليه الصلاة والسلام.
(ورؤية) أي أحاديث الرؤية، أي رؤية المؤمنين لربهم في جنات النعيم.
(شفاعة) أي أحاديث الشفاعة، ويأتينا مبحث الشفاعة إن شاء الله بعد الحوض.
(الحوض) فأحاديث الحوض متواترة.
(ومسح الخفين) رويت أحاديث المسح على الخفين عن العشرة المبشرين بالجنة وغيرهم.
وسنتكلم عن الحوض ضمن خمسة أمور متتالية ننهي بها الكلام على الحوض إن شاء الله تعالى.(6/200)
الأمر الأول: وصف الحوض لا يستطيع عقل بشري أن ينعت الحوض أو يصفه، لأنه يتعلق به غيب، فالطريق لمعرفة صفة الحوض المنقول لا المعقول والرواية لا الرأي، فلا طريق لوصف الحوض إلا عما جاء عن نبينا عليه الصلاة والسلام – من قرآن أو أحاديث – الذي لا ينطق عن الهوى فلنذكر بعض الأحاديث التي تعطينا وصفاً لهذا الحوض، إيماناً برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء عن الذي لا ينطق عن الهوى. ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [حوضي مسيرة شهر ماؤه أبيض من اللبن وريحه أطيب من المسك وكيزانه (جمع كوز وهو القدح والكأس) كنجوم السماء من شرب منه لم يظمأ بعده أبداً] .
... إذن هذا الحوض طوله مسيرة شهر نؤمن بهذا ولا نبحث بعد ذلك في كيفية هذا المسير هل هو مسيرة شهر على الجواد المسرع؟ أم مسيرة شهر على حسب السير في الدنيا؟ أم مسيرة شهر على حسب سير أهل الجنة؟ فالله أعلم، نحن نثبت اللفظ ولا نبحث في كيفيته فإنه مغيب.
وكيزانه كنجوم السماء ولا يعلم عددها إلا خالقها سبحانه وتعالى.
وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن طول الحوض وعرضه بمسافة واحدة فطوله مسيرة شهر وعرضه مسيرة شهر، ثبت في صحيح مسلم من رواية ابن عمر في الحديث المتقدم [حوضي مسيرة شهر وزواياه سواء] أي أطرافه متساوية فشهر طولا ً وشهر عرضاً فتصبح الزوايا متساوية، أي على هيئة مربع كالبركة المربعة أضلاعها متساوية [ماؤه أبيض من الورِق] أي الفضة والرواية المتقدمة أبيض من اللبن، [وريحه أطيب من المسك وكيزانه كنجوم السماء فمن شرب منه لم يظمأ بعده أبداً] .
يكفي هذان الحديثان لوصف الحوض بصفة مختصرة.(6/201)
إذن حوض نبينا عليه الصلاة والسلام في الآخرة أضلاعه متساوية وهو مربع مسيرة شهر في شهر، زواياه سواء، الماء الذي فيه ينعش النفوس، ويصح الأبدان لونه من أحسن الألوان كلون اللبن وكلون الفضة بياض خالص ليس فيه شائبة ولا عكر ولا كدر، ريحه أطيب ريح وهو ريح المسك بل أطيب منه، وهو أحلى من العسل والكيزان التي عليه لأجل كثرة الواردين على حوض نبينا عليه الصلاة والسلام كنجوم السماء، هذا هو الوصف مختصراً.
الأمر الثاني: عدد الأحواض لنبينا عليه صلوات الله وسلامه:
له حوضان:
1- واحد يكون قبل دخول الجنة في ساحات الحساب وعَرَصات الموقف.
2- والآخر يكون في داخل الجنة، وكل منهما يقال له حوض ويقال له كوثر.
يقال لكل منهما حوض لأنه ينطبق عليه التعريف اللغوي (مجمع الماء) .
... ويقال لكل منهما كوثر لأن الحوض الذي في ساحة الحساب وعَرَصات الموقف يستمد ماءها من نهر الكوثر الذي في الجنة، فنهر الكوثر له ميزابان - كما سيأتي وهذا لا دخل لعقل الإنسان فيه – يصبان صباً بدفق وقوة في حوض النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو في ساحة الحساب وعَرَصات الموقف، فنجد أن الحوض الذي في ساحة الحساب يأخذ من نهر الكوثر قيل له كوثر وحوض، والنهر الذي في الجنة اسمه الكوثر وبما أنه في مكان محصور قيل له حوض، فكل منهما حوض وكل منهما كوثر.
... وقد أنزل الله سورة كاملة يمتن بها على نبينا عليه الصلاة والسلام بهذا الخير الذي أعطاه إياه (إنا أعطيناك الكوثر) والكوثر: على وزن فوعل من الكثرة وهو الخير الكثير في الدنيا والآخرة ويدخل في ذلك النهر العظيم الذي يكون لنبينا عليه الصلاة والسلام في جنات النعيم، وفيه ميزابان يغتّان غتاً (يصبان صباً) ويشخبان من مائه في حوضه الذي هو في ساحة الحساب وعَرَصات الموقف فهذا خير عظيم أعطاه الله لنبيه الكريم عليه صلوات الله وسلامه.(6/202)
ولذلك ثبت في صحيح البخاري عن سعيد بن جبير رحمه الله – تلميذ العبد الصالح عبد الله بن عباس رضي الله عنهما – [أنه سئل عن تفسير الكوثر فقال هو الخير الكثير الذي أعطاه الله لنبيه عليه الصلاة والسلام في الدنيا والآخرة، فقالوا له: يقولون إنه نهر في الجنة؟ ، فقال سعيد بن جبير: النهر الذي في الجنة من الخير الكثير الذي أعطاه الله لنبيه عليه الصلاة والسلام] . وهذا التفسير أعم وأشمل وأحسن من أن نقصر الكوثر على خصوص النهر فنقول: الكوثر خير كثير في الدنيا والآخرة وهبة من الله لنبيه عليه الصلاة والسلام 0 من جملة ذلك الحوض، ونهر الكوثر والشفاعات والمقام المحمود ورتب كثيرة في الدنيا والآخرة مَنَّ الله بها على نبيه عليه صلوات الله وسلامه.
... وإذا مَنَّ الله عليك بالنعم فالواجب أن تشكر المُنعِم (فصلِّ لربك وانحر) أي اجعل صلاتك خالصة له، ونحرك خالصاً له – أي ذبحك – فيكون على اسم الله خالصاً له لا تشرك معه أحداً (إن شانئك) أي مبغضك (هو الأبتر) ، فالنعم تستدعي الشكر.
... ولذلك إخوتي الكرام ... ربطاً بحادثة الإسراء والمعراج – كان نبينا عليه الصلاة والسلام – كما ثبت هذا في المسند والسنن بسند حسن – [لا ينام حتى يقرأ بني إسرائيل والزمر] وما رأيت أحداً من أئمتنا وَجَّه الحكمة في ذلك؟ ويمكن استنباطها مما سبق تقريره في سورة الكوثر.(6/203)
.. فنذكر أن النعم تستدعي الشكر وهناك عندما يريد أن ينام يقرأ سورة بني إسرائيل ليستحضر فضل الله عليه وكيف مَنَّ الله عليه بهذا الأمر الجليل وهو الإسراء والمعراج وفي ثنايا السورة ذكر الله سبحانه الآيات التي منحها لنبينا عليه الصلاة والسلام وكيف حفظه من شياطين الإنس والجن (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك) (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً) ، وآيات كثيرة غيرها يخاطبه الله فيها في سورة الإسراء. إذن في هذه السورة ذِكْر فضل النبي عليه الصلاة والسلام؛ فكان لذلك يقرأها ليتذكر فضل الله عليه وهذا يستدعي ويتطلب الشكر.
... وكان يقرأ سورة الزمر لأنها – كما قال الإمام ابن تيمية رحمه الله – سورة تمحضت في توحيد الله جل وعلا فموضوعها من أولها إلى آخرها حول توحيد الله وإخلاص الدين له.
إذن فبعد أن يذكر نعمة الله عليه ماذا يفعل؟(6/204)
.. يوحده ويقرأ السورة التي فيها توحيد الله وعبادته كما يريد بما يريد، وانتبه لآيات هذه السورة (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم، إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين، ألا لله الدين الخالص، والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار، لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار) ثم بعد ذلك في جميع آيات السورة يستعرض ربنا جل وعلا ما يقرر هذا الأمر (ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلا ً سلماً لرجل هل يستويان مثلاً الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) وفي آخر السورة يتحدث ربنا جل وعلا عن هذا (قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون، ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين) وفي نهاية السورة يقول (وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين) .
فإذن شكر وتوحيد، وهنا كذلك (إنا أعطيناك الكوثر، فصل لربك وانحر) .
إذن لنبينا عليه الصلاة والسلام حوضان يقال لكل منهما: حوض ويقال لكل منهما: كوثر.(6/205)
.. قال الإمام القرطبي في التذكرة في أحوال الموتى، وأمور الآخرة في ص 362، وقد نقل صاحب شرح العقيدة الطحاوية الإمام ابن أبي العز كلام القرطبي لكن بواسطة الإمام ابن كثير في كتابه النهاية (2/31) لأن ابن كثير شيخ شارح الطحاوية، وابن كثير له كتاب البداية والنهاية في التاريخ طبع الكتاب البداية فقط ولم يطبع معه النهاية، ثم طبع في جزء بعد ذلك مستقلاً منفرداً، وقد تكلم ابن كثير في النهاية في الجزء الثاني في أول صفحة منه عن الحوض وتتبع طرق أحاديثه بما يزيد عن ثلاثين صفحة والبداية يقع في 14 جزءاً في 7 مجلدات كبيرة، وكتاب التذكرة كتاب نافع وطيب وفيه خير كثير لولا ما فيه من أحاديث تالفة لا خطام لها ولا زمام وما تحرى عليه رحمة الله الصحة ولا تثبت في رواية الأحاديث، وليت الكتاب حقق وخرجت أحاديثه ليكون طالب العلم على بصيرة عند قراءة هذا الكتاب.
... الحاصل.. قال الإمام القرطبي في الموضوع الذي حددناه "الصحيح أن للنبي عليه الصلاة والسلام حوضين أحدهما في الموقف قبل الصراط، والثاني في الجنة، وكلاهما يسمى كوثراً".
قال الحافظ في الفتح (11/466) :" يطلق على الحوض كوثر لكونه يُمدّ منه"0 – كما عللته لكم – ثبت في صحيح مسلم من حديث ثوبان رضي الله عنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه (النبي) صلى الله عليه وسلم قال عند وصف الحوض: [يغتُّ فيه ميزا بان يمدانه من الجنة أحدهما من ذهب والآخر من ورِق] والغت: هو جريان الماء بصوت، غتّ يَغُت غَتًّا إذا جرى الماء وصار له صوت عند جريانه من شدة هذا الماء وقوته واندفاعه، وهو الدفق بتتابع إذن معنى يغت فيه، يتدفق فيه ماء متتابع لا ينقطع.
... وثبت في صحيح مسلم من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يشخب فيه ميزا بان من الجنة] ، شخب يشخب أي يسيل فيه ميزا بان من الجنة.(6/206)
.. وثبت في سنن الترمذي بسند حسن صحيح، والحديث رواه ابن ماجه وأحمد في مسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [الكوثر نهر في الجنة] وهذا هو النهر الذي له ميزا بان يغتان ويشخبان في الحوض [حافتاه من ذهب ومجراه الدّرّ والياقوت وتربته أطيب من المسك وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج] .
(مجراه) أي أرضه التي يجري فيها، ممر الماء، (حافتاه) أي جانباه.
إذن بالنسبة للبياض صار معنا ثلاثة أوصاف أبيض من اللبن، ومن الورق، ومن الثلج، والثلج ترى بياضه يزيد على الماء.
... وهو أحلى من العسل وأطيب من المسك هذا كله في هذا النهر الذي هو في الجنة وهو نهر الكوثر وفيه ميزابان من ذهب وفضة يشخبان ويغتان في حوض نبينا عليه الصلاة والسلام.
س: هل هذه الأوصاف تكون لنهري دجلة والفرات أيضاً؟
جـ: لا، لا يكون هذا إلا للكوثر فقط، فهو خاص به حتى الأنهار الأخرى التي في الجنة ليس لها هذه الميزات والصفات.
... وسيأتينا في الأمر الرابع أن لكل نبي حوضاً، لكن ليس حلاوة مائه وطيب رائحته كحوض نبينا عليه الصلاة والسلام.
الأمر الثالث: مكان الحوض وموضعه:
... كما ذكرنا هما حوضان، فأما الحوض الثاني الذي هو نهر الكوثر فهذا في الجنة بالاتفاق، وأما الحوض الأول الذي يستقي ماءه من الكوثر فهو قبل الجنة بالاتفاق، لكن اختلف في موضعه ومكانه بالتحديد، فهل يكون قبل الميزان وقبل مرور الناس على الصراط؟ أم يكون بعدهما؟
في المسألة قولان لأئمتنا الكرام:
وانتبه إلى أن هذين القولين ليسا من باب التقدير العقلي، إنما من باب فهم هذا من النصوص الشرعية، فالفهم من النصوص هذا غير اختراع شيء من العقول ...(6/207)
القول الأول: - وعليه المعول – أن الحوض يكون قبل الميزان وقبل مرور الناس على الصراط المستقيم وقبل الحساب لأمرين معتبرين: أولهما: الحكمة من وجود الحوض ما أشار إليه نبينا صلى الله عليه وسلم [من شرب منه لم يظمأ..] ، الناس يخرجون من قبورهم عطشى، لاسيما عندما يحشرون في الموقف [حفاة عراة غرلاً] نسأل الله حسن الخاتمة والعافية – والشمس تدنو من رؤوسهم ويلجمهم العرق فيسبحون فيه كأنهم في أحواض ماء، فما الذي يحتاجونه في ذلك الوقت؟ إنه الحوض، لذلك يكرم الله الموحدين في ذلك الحين بالشرب من حوض نبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه، وهو فرطنا على الحوض، كما أخبرنا عليه الصلاة والسلام، فإذن أول ما يحصل لنا عند البعث لقاء نبينا عليه الصلاة والسلام، كما أخبرنا عليه الصلاة والسلام على حوضه يقول: هلم، هلم، ويسقينا.
... فإذن لتظهر كرامة نبينا عليه الصلاة والسلام وليظهر فضله على أتم وجه، يكون هو الذي يزيل عطش الناس المؤمنين من أمته لما منّ الله عليه في الآخرة من تلك النعمة، كما أزال عنا في هذه الحياة الهم والغم بواسطة النور الذي بلغه إلينا فاطمأنت قلوبنا (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) .
... فإذن أول ما يستقبلونه بعد البعث حوض النبي عليه الصلاة والسلام، فمن كان مؤمناً موحداً سقاه النبي صلى الله عليه وسلم وشرب، وإذا شرب لم يظمأ أبداً، طال الموقف أو قصر فإنه لا يبالي بذلك.
ثانيا: تواتر في حديث الحوض المتواتر أنه يُذاد وسيأتي ذكر الحديث- يدفع ويبعد أناس عن حوضه فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: أمتي أمتي، يُذادون ولا يشربون فيقال: لا تدري ماذا أحدثوا بعدك والحديث في الصحيحين فأقول سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي. فهذا الذود متى يكون؟(6/208)
لو كان بعد الصراط لسقطوا في النار، ولا يوجد بعد الصراط إلا الجنة، فدفع الناس لكونهم منافقين مرتدين يكون قبل الصراط لأنهم لو مروا على الصراط ونجوا لدخلوا الجنة وإذا سقطوا في جهنم لن يَرِدُوا الحوض لِيُدْفَعُوا عنه ويُبْعَدُوا.
وهذا الذي ارتآه ورجحه الإمام القرطبي في التذكرة في المكان المتقدم أي صـ (362) .
والإمام ابن كثير في النهاية رجحه أيضاً كما قلت لكم إنه بحث في أحاديث الحوض فيما يزيد على 30 صفحة من أول الجزء الثاني إلي ص35 كلها في الحوض، وقد روى جميع الأحاديث بالسند الذي رواها به أصحاب الكتب المصنفة فإذا ذكر حديثاً في المسند ذكر إسناد الإمام أحمد وهكذا البخاري وغيره ولذلك طالت صفحات الكتاب والحقيقة أن أكثر صفحات الكتاب متشابهة فيورد عشرة أحادث في وصف الحوض عن الصحابة مثلا ًكلها بمعنىً واحد ولذلك لم أطل في ذكرها ومردها لا لزوم له لأنه يغني عن البقية وقلت لكم إن الحافظ ابن حجر تتبعها فوصلت إلى (56) صحابياً رووا أحادث الحوض، قال وبلغني أن بعض المعاصرين جمعها فبلغت (80) طريقاً، ولعل الحافظ ابن حجر كان يقصد بقوله (بعض المعاصرين) الإمام العَيْنِي، أقول لعله يقصده، فقد كان بينهما شيء من النفرة فيكني عنه الحافظ دائماً في الفتح ولا يصرح به، فلعله يقصده والعلم عند الله.
والإمام ابن حجر شرح صحيح البخاري في فتح الباري
والإمام العَيْنِي شرح صحيح البخاري في عمدة القاري(6/209)
والكتابان متقاربان في الحجم، فعمدة القاري (12) مجلداً في 25 جزء، وقد كان ابن حجر والعيني – في بلدة واحدة - مصر- لكن أصل الإمام العيني من بلاد الشام ثم هاجر بعد ذلك إلي مصر واستوطن فيها، وشرحا صحيح البخاري في وقت واحد، وكان كل منهما قاضياً ابن حجر قاضي الشافعية والعيني قاضي الحنفية، والأقران في الغالب يجري بينهم شيء مما يجري بين بني الإنسان، لكن دون أن يصل ذلك إلى معصية أو اعتداء، هذا في الغالب وكما قال الإمام الذهبي: ما أعلم أحداً سلم من الحسد إلا الأنبياء..، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم – والحديث في درجة الحسن – [ثلاثة لا ينجو منهن أحد، الظن والطيرة والحسد، وسأخبركم بالمخرج من ذلك: إذا ظننت فلا تتحقق] أي إذا رأيت شخصاً أو تصرفاً فلا تقل لعل هذا حوله ريبة - فهذا ظلم كفارته ألا تتحقق هل توجد تلك الريبة أم لا؟ [وإذا تطيرت فامض ِ] مثلا ً خرجت في صباح ذات يوم فرأيت صورة مكروهه فقلت هذا صباح مشئوم، فلا ترجع إلي البيت، بل امض ِ إلى طريقك وقل: اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك، لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يصرف السيئات إلا أنت. [وإذا حسدت فلا تبغي] أي لا تتجاوز وتعتدي. وأنا لا أجزم أنه يقصد الإمام العيني لكن في غالب ظني أنه كذلك.
وأنا أعجب حقيقة لاشتهار فتح الباري بين الناس وعدم انتشار عمدة القاري بينهم ولله في خلقه سر لا يعلمه إلا هو، ولا أقول ذلك لم ينتشر بل هو منتشر لكن ليس له من القدر والمكانة – كما يقال – ما لفتح الباري.
الحاصل.. إن الإمام ابن كثير رجح هذا القول في النهاية (2/3) للأمرين المعتبرين اللذين ذكرتهما لكم.
القول الثاني: أن الحوض بعد المرور على الصراط.(6/210)
وإلى هذا مال الإمام البخاري عليه رحمات ربنا القوي، وفقهه في تراجم أبوابه ومذهبه في تراجم أبوابه، فأورد أحاديث الحوض بعد أحاديث الميزان والشفاعة والصراط، في كتاب الرقاق قال الحافظ ابن حجر:"أشار البخاري إلى أن الحوض يكون بعد الصراط، أورد أحاديث الحوض بعد أحاديث الشفاعة والصراط"
ويفهم من كلام الحافظ ابن حجر الميل إلى هذا القول، حيث قال معللا ً ما سبق
(1) لأن الصراط بين الجنة والموقف ميزابان يغتان ويشخبان في الحوض، فلو كان الحوض في عَرَصَات الموقف وفي ساحة الحساب لكان الصراط حاجزاً بين هذين الميزابين وبين الحوض، فكيف سيصب الميزابان ماءهما في الجنة إلى الموقف وبينهما هذه الفجوة صراط وتحته جهنم. نسأل الله العافية وكل من سقط منه يسقط في جهنم وبئس المصير فإذا كان الأمر كذلك فالحوض بعد الصراط وهو قُبيل الجنة قََبل أن يدخلها المؤمنون يشربون من الحوض ويستقبلهم نبينا عليه الصلاة والسلام عندما ينتهون من الصراط فيسقيهم من حوضه فينتعشون ويفرحون بعد أن مَنَّ الله عليهم بالسلامة ثم يدخلون دار النعيم، وهذا دليل.(6/211)
(2) دليل آخر قرروا به هذا القول وهو: أنه ثبت في الحديث أن مَنْ شرب مِنَ الحوض لم يظمأ بعده أبداً، وقالوا: إذا لم يكن الحوض بعد الصراط فسنقع في إشكال من هذا النص والنصوص الأخرى وهو أن عصاه الموحدين سيعذبون في نار الجحيم ولا بد أن يعذب منهم قسم لم يغفر الله لهم لأن الأحاديث تواترت في إخراج العاصين من النار وهذا يعني أن هناك عذاباً للعصاة لكن هناك أناس يعفى عنهم وأناس يعذبون، قالوا: فهؤلاء الموحدون اللذين عذبوا في النار هل شربوا من الحوض أم لا؟ إن قلنا لم يشربوا، فالأمر ليس كذلك لأنهم موحدون وليسوا من المخلدين في نار جهنم فهم يستحقون السقيا والشراب إذ كيف يعامل الموحد معاملة المنافق والملحد. وإن قلنا شربوا، فكيف سيلقون في النار، وفي النار سيعطشون. لكن إذا كان الحوض بعد الصراط فلا إشكال لأن من شرب منه دخل الجنة فالذي يعذب في النار، ثم يخرج يجوز على الصراط ثم يشرب من الحوض ويدخل الجنة وحينئذ لا إشكال هنا على هذا القول. وهذا القول على ما وجاهة ما عُلِّلَ به فهو مردود لأمرين:
الأمر الأول: لا مانع أن يكون بين الحوض والجنة فاصل، والميزابان يصبان فيه بطريقة يعلمها الله ولا نعلمها، كما قلنا في النيل والفرات فإنهما يَصبُّ فيهما نهر من أصل سدرة المنتهى بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها وكم بينهما من حواجب وفواصل وليس عندنا ميزاب متصل من سدرة المنتهى إلى النيل والفرات إنما هو أمر غيبي أخبرنا عنه نبينا عليه الصلاة والسلام آمنا به ولا نبحث في كيفيته.
والأمر الثاني: قولهم إذا شرب عصاة الموحدين من الحوض وعذبوا في النار سيجدون العطش والظمأ، نقول: لا يشترط هذا فيعذبون بغير أنواع العطش، وذلك ليتميز العصاة في النار عن غيرهم من الكفار الأشرار في أنهم يعذبون ولا يعطشون كرماً من الله وفضلا ً.(6/212)
.. فالأمران مردودان، ثم نقول لهم أخبرونا كيف سيذاد ويدفع أناس عن الحوض إذا كان الحوض بعد الصراط؟! فهذا لا يأتي أبداً , فأدلتكم يمكن أن يجاب عنها، أما أدلة القول الأول فلا يمكن الإجابة عنها مطلقاً؛ ولذلك القول الأول هو الصحيح وعليه المعول بأن الحوض قبل الصراط والعلم عند الله.
الأمر الرابع: هل للأنبياء عليهم الصلاة والسلام أحواض في عَرَصَات الموقف وساحة الحساب كما لنبينا عليه الصلاة والسلام حوض:
سبق أن ذكرنا أن العبرة في هذا الموضوع على النقل لا على العقل، فعمدتنا المنقول الثابت ولا دخل للاجتهاد ولا للمعقول.
... وقد ورد في ذلك حديث لكن اختلف في درجته، روى الإمام الترمذي في سننه عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [إن لكل نبي حوضاً ترده أمته وإنهم ليتباهون أيهم أكثر وارداً، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم وارداً] .
(يتباهون) أي يتحدثون بنعمة الله عليهم بمنزلة حوضهم وبمن سيرده.
(أيهم أكثر وارداً) أي جماعة يردون على حوضه.
وهذا الرجاء والذي رجاه الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث حققه الله له، فأكثر أهل الجنة من أمته، وأكثر الأحواض التي سيردها الموحدون المؤمنون هو حوض نبينا عليه الصلاة والسلام ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يقول ربنا فيه: [يا آدم قم فابعث بعث النار من كل ألف واحد إلى الجنة وتسعمائة وتسع وتسعون إلى النار، فخاف الصحابة وارتاعوا فقال صلى الله عليه وسلم: أنتم في الأمم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض، ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبروا، ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، فكبروا، قال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا، وقال: إني لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة] والحديث في الصحيحين.(6/213)
وقد ثبت في المستدرك وغيره بسند صحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [أهل الجنة عشرون ومائة صف، ثمانون صفاً منهم من هذه الأمة] ونحن مع ذلك نرجو أن يكون كل صف من هذه الأمة أضعافاً مضاعفة على سائر الصفوف الأخرى، فهي ثلثان في عدد الصفوف لكن نرجو أن تكون في عدد الأفراد أكثر بكثير، ونسبة هذه الأمة في الجنة لا تنقص عن الثلثين وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، إنما كان الذي أوتيت وحياً أوحى الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة] وهذا لفظ مسلم.
فهذا الرجاء حققه الله لخاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام.
ومعنى الحديث أن كل نبي أعطى من الآيات ما آمن على مثله البشر، أي البشر يؤمنون بمثل هذه الآيات عندما تظهر وهي خوارق العادات (المعجزات كما أيد الله أنبياءه السابقين بمعجزة، فكل من رأى تلك المعجزة يُؤمن كما هو الحال في نبي الله عيسى عليه السلام يبرأ الأكمة والأبرص ويحي الموتى بإذن الله، لكن تلك المعجزة مضت وانقضت، فالذين جاؤوا بعد ذلك لم يروها، ولذلك قد يحصل عندهم ارتياب في أمر النبي عليه صلوات الله وسلامه، أما ما يتعلق بهذه الأمة، فمعجزة نبينا عليه الصلاة والسلام هي القرآن، وهذه المعجزة يراها المتأخر كما رآها المتقدم، فأبو بكر رضي الله عنه وآخر فرد في هذه الأمة بالنسبة لرؤية معجزة النبي عليه الصلاة والسلام سواء، فجعل الله معجزة نبينا عليه الصلاة والسلام عين رسالته ودعوته وهي القرآن الكريم الذي أُمِر بتبليغه.
فالحاصل.. أنه قال: [أرجو أن أكون أكثرهم تابعاً] ، وفي حديث سمرة قال: [لأرجو أن أكون أكثرهم وارداً] فحقق الله له هذا الرجاء.(6/214)
وحديث سمرة كما قلنا رواه الترمذي، وقد قال عنه: غريب، وغرائب الترمذي لا تسلم من مقال فهي ضعيفة والسبب في هذا أن الحسن البصري عليه رحمة الله عنعن الحديث عن سمرة أي رواه بصيغة عن ولم يصرح بالسماع، وفي سماع الحسن عن سمرة اختلاف، وأئمة الحديث على ثلاثة أقوال في ثبوت سماعه من سمرة:
1- لم يسمع منه مطلقاً.
2- سمع منه مطلقاً.
3- وهو المعتمد، سمع منه حديث العقيقة، وقد صرح في سنن النسائي بأنه سمع حديث العقيقة من سمرة بن جندب رضي الله عنه.
والحسن مدلس بالاتفاق وقد عنعنه – كما ذكرنا – ورواية المدلس إذا لم تكن بصيغة السماع فهي محمولة على الانقطاع، فالسند إذن منقطع بين سمرة وبين الحسن.
... كما أن الحسن رفعه في بعض الطرق إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسقط سمرة فصار إذن مرسلاً لأن المرسل هو مرفوع التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
مرفوع تابع على المشهور ... مرسل أو قيده بالكبير
كما قال هذا الإمام عبد الرحيم الأثري العراقي في ألفيته المشهورة.
وقوله (أو قيده بالكبير) فهذا قول آخر في تعريف المرسل وهو أن التابعي لابد أن يكون كبيراً، من كبار التابعين لا من أوسطهم ولا من صغارهم.
والمعتمد أن التابعي صغيراً كان أو كبيراً، إذا رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو حديث مرسل، فالحسن إذن أسقط سمرة رضي الله عنه، ولذلك قال الترمذي: وورد أن الحسن لم يذكر سمرة فهذا مرسل وهو أصح.
والرواية المرسلة رواها ابن أبي الدنيا بإسناد صحيح إلى الحسن، أن الحسن البصري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن لكل نبي حوضاً ... ] الحديث.
لكن مراسيل الحسن – كما يقول أئمتنا -، أشبه بالريح لا يعول عليها ولا يأخذ بها، لأنه كان لا يبالي عمن أرسل بخلاف مراسيل سعيد بن المسيب فهذه كلها يأخذ بها، حتى مَنْ ردَّ المرسل أخذ بمراسيل سعيد بن المسيب كالإمام الشافعي عليه رحمة الله.(6/215)
فإن سعيد بن المسيب كان يسمع من عمه والد زوجته أبي هريرة أحاديث ويحدث عنه أحياناً، ويسقطه ولا يصرح به أحياناً أخرى لاعتبارات، منها أمور سياسية، فقد ينقل عنه سعيد رواية تتعلق بأمور العامة فلا يصرح بها بإضافتها لأبي هريرة لئلا تصبح هناك مشاكل وابتلاءات كما هو الحال في العصور التي جاءت بعد عصور الخلفاء الراشدين، وهذا من جملة أغراض التدليس حذف الصحابي أو الشيخ الذي أخذ عنه التلميذ فيسقطه لأن حوله ما حوله من الاعتبارات، وكأنه يقول لئلا ندخل في مشاكل مع الدولة، فنرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونسقط الواسطة (أبا هريرة) لئلا يُستدعى ويحقق معه وما شاكل هذا.
وفعلا ً كان أبو هريرة يحفظ أحاديث فيها الإشارة إلى ذم بني أمية، فعلم سعيد بن المسيب أنه إذا حدث بها وسمى أبا هريرة، فهذا سيجر بلاءً عليه – أي على عمه – وقد كان أبو هريرة رضي الله عنه – كما في صحيح البخاري - يقول: [حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم وعاءين، أما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم] أي لقطعت رقبتي، وهذا الذي كتمه لا يتعلق بالأحكام العملية، لأنه لو كان في الأحكام العملية لبثه أبو هريرة ولم يكتمه وهو يعلم وزر كتمان العلم، إنما كان ما يكتمه هو شيء فيه الإشارة إلى ذم الأمراء الذين سيأتون بعد معاوية وأولهم الفاسق المشهور يزيد بن معاوية الذي جاء وأفسد في دين الله، وفعل ما فعل ويكفيه عاراً وشناراً قتل الحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم [قلت: لم يثبت بأي سند صحيح هذا الأمر، وقد ألف في هذه الرسالة] ، ولذلك كان أبو هريرة يستعيذ بالله من رأس الستين وإمرة الصبيان قبل أن يأتي رأس الستين، فمات رضي الله عنه عندما قبل رأس الستين وسلم من الفتن التي جاءت بعد الستين.(6/216)
سعيد بن المسيب عندما يروي الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسقطاً الواسطة ففي الغالب هو أبو هريرة، وقد تتبع أئمتنا مراسيل سعيد فوجدوها موصولة من طرق ثابتة وصحيحة عن الصحابة؛ ولذلك احتجوا بمراسيله.
الحاصل.. أن وراية الترمذي مرفوعة إلا أنها منقطعة ورواية ابن أبي الدنيا هي بسند صحيح إلى الحسن والحسن رواه مرسلاً، فالحديث من هذين الطريقتين ضعيف مرفوعاً.
لكن يتقوى بالقواعد المقررة في شرع الله وهي أن ما ثبت لهذه الأمة يثبت للأمم الأخرى، وعليه فالحوض في الآخرة في عَرَصَات الموقف كما يكون لنبينا عليه الصلاة والسلام يكون لسائر الأنبياء الكرام عليهم السلام، إذ لا يليق بكرم الله وحكمته أن يسقي موحدي هذه الأمة ويترك الموحدين من الأمم السابقة.
ثم أضيف هنا وأقول: الحديث يتقوى (1) ليصل إلى درجة الحسن إن شاء الله،لأن له ثلاث شواهد متصلة عن أبي سعيد الخدري كما أخرجه ابن أبي الدنيا، وعن ابن عباس كما أخرجه ابن أبي الدنيا أيضاً عن عوف بن مالك، هذا بالإضافة إلى الشاهد المرسل الصحيح الذي أخرجه ابن أبي الدنيا أيضاً، فالحديث بمجموع هذه الطرق يكتسب قوة ويرتفع إلى درجة الحسن، والعلم عند الله.
إذن فلكل نبي حوض في الآخرة في عَرَصَات الموقف كما لنبينا عليه الصلاة والسلام، لكن يمتاز حوض نبينا عليه الصلاة والسلام بأمرين:
الأمر الأول: أن ماء حوض نبينا عليه الصلاة والسلام أطيب المياه فهو من نهر الكوثر، وهذا لا يثبت لغيره من الأحواض.
الأمر الثاني: أن حوض نبينا عليه الصلاة والسلام هو أكبر الأحواض وأعظمها وأجلها، وهو أكثرها وارداً.
__________
(1) وانظر السلسلة الصحيحة 4/117 حديث رقم (1589) – ز-(6/217)
.. وإلى جانب هذا ذهب أئمة الإسلام، يقول الحافظ في الفتح (11/467) عند أحاديث الحوض في كتاب الرقاق: "إن ثبت (1) – أي خبر الترمزي ومرسل الحسن – فالمختص بنبينا عليه الصلاة والسلام "أن حوضه يكون ماؤه من الكوثر".
... والأمر الثاني قال فيه الإمام ابن كثير في النهاية (2/38) حوض نبينا عليه الصلاة والسلام أعظمها وأجلها وأكثرها وارداً".
تنبيه: ورد في مطبوعة مكة من شرح العقيدة الطحاوية بتحقيق أحمد شاكر، وفي مطبوعة المكتب الإسلامي بتحقيق جماعة من العلماء تصحيف بدل كلمة (أجلها) وقع عندهم (أجلاها) ، وإن كان كلا المعنيين صحيح.
الخلاصة: أن لكل نبي حوضاً يوم القيامة، لكن حوض نبينا عليه الصلاة والسلام يمتاز بأمرين ماؤه أطيب المياه، ووارده أكثر من بقية الأحواض.
الأمر الخامس: يتعلق بأمرين:
أبيان من يرد حوض النبي صلى الله عليه وسلم.
ب بيان من يتقدم في الورود عليه ويسبق غيره.
أبيان من يرد حوض النبي صلى الله عليه وسلم:
كل موحد ختم له بالتوحيد سيرد ذلك الحوض المجيد
ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: [أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة (يعني البقيع) فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون] وفي بعض الروايات في زيارات نبينا عليه الصلاة والسلام للقبور يقول: [السلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم السابقون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون] .
و (السلام عليكم) هذا خطاب من يسمع ويعقل ويعي ويفهم، وسماع الأموات أدق من سماع الأحياء، ولذلك لو دخل داخل إلى المعهد وسلم عند باب المعهد لن يسمعه مَنْ في الفصل بل حتى لو كان أقرب من ذلك، بينما لو كنا موتى لسمعناه فبمجرد أن يدخل رجل إلى المقبرة ويقول السلام عليكم لسمع كل مدفون في تلك المقبرة – ولو كانت واسعة ما كانت – سلامه وردوا عليه في قبورهم.
__________
(1) وقد ثبت كما ذكرت ولله الحمد.(6/218)
و (إن شاء الله) هل هناك شك في اللحوق بهم؟ لا لكنها من باب التبرك وتعليق الأمر على أنه تابع لمشيئة الله، كقوله تعالى (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) ، وسيأتينا بحث الاستثناء في الإيمان إن شاء الله تعالى فهو من المباحث المقررة عندنا، وأن الاستثناء يجوز في الإيمان لأربعة أمور معتبرة من جملتها هذا من باب التبرك باسم الله، فتقول أنا مسلم إن شاء الله تعالى، ولا بأس في ذلك.
ثم قال نبينا وحبيبنا عليه صلوات الله وسلامه – وهذه تكملة الحديث [وددت أنا رأينا إخواننا فقال الصحابة رضوان الله عليهم: أولسنا بإخوانك يا رسول الله؟!، قال: بل أنتم أصحابي، وإخواني الذين يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني] عليك صلوات الله وسلامه، انتبه!! (أنتم أصحابي) أي أنتم لكم مزية على الأخوة العامة فقد فزتم بشرف الصحبة فأنتم إخوان وأصحاب.
وَمَََنْ بعدكم إخوان لي، كما تقول هذا ابني ولا تقول هذا أخي، فهو أخوك في دين الله ولكن تقول له ابني لأن هذا أخص من الأخوة العامة وهنا كذلك الصحبة أخص من الأخوة العامة.
فانظر لحب نبينا عليه الصلاة والسلام لنا، فلنكافئ هذا الحب بمثله، فهو يتمنى أن يرانا ووالله نتمنى أن نراه بأنفسنا وأهلينا وأموالنا ولو قيل لنا تفوزون بنظرة إلى نور نبينا عليه الصلاة والسلام مقابل أن تفقدوا حياتكم وأموالكم وأهلكم، لقلنا هذا يسير يسير، ضئيل حقير، ولذلك ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [من أشد أمتي لي حباً ناسٌ يكونون من بعدي، يود أحدهم لو رآني بأهله وماله] وهو في مختصر مسلم برقم (1604) .(6/219)
وتتمة الحديث الذي معنا [فقال الصحابة: يا رسول الله، كيف تعرف من يأتي من أمتك ولم تره؟! فقال: أرأيتم لو أن رجلا له خيلٌ غُرٌّ محجلة بين ظهري خيل دُهْم بُهْم، أما كان يعرفها؟ قالوا: بلى، قال: فإن أمتي يدعون يوم القيامة غرّاً محجلين من آثار الوضوء وأنا فرطهم على الحوض، ألا ليذادنّ رجالٌ عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم ألا هلمّ، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول سحقاً سحقاً] اللهم لا تجعلنا منهم بفضلك وكرمك يا أرحم الراحمين.
(غرّ) : الغرّ بياض في الوجه، وهو من الصفات الجيدة في الفرس، وهذه الأمة تبعث يوم القيامة والنور يتلألأ في وجهها من آثار الوضوء، والوضوء حلية المؤمن.
(محجلة) : بياض في قوائم الفرس، وهو من الصفات الجيدة فيها أيضاً، وهو من علامة جودتها، وهذه الأمة تأتي يوم القيامة وأعضاء الوضوء فيها تتلألأ (الوجه والأيدي والأرجل) ، ففي وجوههم نور وفي أطرافهم نور.
(دُهْم) سوداء
(بُهم) سوادها خالص ليس فيها لون آخر.
فهذه الأمة تأتي يوم القيامة غراًُ محجلين، فالوضوء ثابت لهذه الأمة وللأمم السابقة لكن أثر الوضوء (الغرة والتحجيل) ثبت لهذه الأمة ولم يثبت للأمم السابقة، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، ولذلك ورد في صحيح مسلم أنه [سيما ليست لغيركم] أي هذه السمة الغرة والتحجيل ليست لغيركم.
إذن إخوانه عليه الصلاة والسلام ونسأل الله أن يجعلنا منهم يأتون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، وجميع أهل الموقف ليس لهم هذا الوصف، وبالتالي فيميز نبينا صلى الله عليه وسلم أمته الكثيرة من تلك الأمم الوفيرة الغفيرة.(6/220)
ثم أخبرنا صلى الله عليه وسلم عن صنف شقي، أظهر الإيمان وأبطن النفاق والكفران، فيأتون إلى حوض النبي عليه الصلاة والسلام فيذادون ويدفعون تدفعهم الملائكة وتطردهم فيناديهم النبي صلى الله عليه وسلم: ألا هلم، هلم فأنتم من أمتي ويبدو عليكم – في الظاهر – علامات الوضوء!! لكن بعد ذلك يخفت ذلك النور ويذهب، فيقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك وفي بعض الروايات: [إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ أن فارقتهم] وقد حصل هذا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فيمن ارتدوا، وهذا حاصل في هذه الأيام بكثرة فيمن يدعي الإسلام ويحارب النبي عليه الصلاة والسلام يقول لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين، فهل يرد هذا حوض النبي صلى الله عليه وسلم؟
لا، إن هذا أكفر من أبي جهل وألعن من إبليس، فهو وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم فقد أتى بما ينقض به إيمانه، حيث زعم أن شريعة الله لا تصلح لهذه الحياة، فهي أمور كهنوتية فقط، في داخل المسجد نصلي ونرقص (رقص الصوفية) وخارج المسجد ليس لله شأن في حياتنا وأمورنا، كما قال سعد زغلول "الدين لله والوطن للجميع".
وكما قال شاعر البعث عليه وعلى حزبه لعنة الله:
سلام على كفر يوحد بيننا ... وأهلا وسهلا بعده بجهنم
ويكتبون في شعاراتهم الضالة في الأمكنة البارزة على الأركان وغيرها:
كذب الدعي بما ادعى ... البعث لن يتصدعا
لا تسل عني ولا عن مذهبي ... أنا بعثي اشتراكي عربي
ولا يقولون: أنا مسلم، بل الإسلام في المسجد فقط.
ويكتب الآن في لوحات المدارس: لو مثلوا لي وطني وثناً لعبدت ذلك الوثن.
كلمة وطن ووطنية فما هي الوطنية؟!!
إن الجنسية المعتبرة بين العقلاء والتي يمكن أن تجمع بين الناس جميعاً هي جنسية الإسلام فقط، وكل ما عداها يفرق بين المسلمين ويوقع بينهم العداوة.(6/221)
الحاصل.. من يدعو إلى الأفكار الهدامة الباطلة، فماذا سيكون حاله؟ هل يشرب من الحوض؟! وهل يستوي مع المؤمنين في الشرب منه؟
لا يستوي إخوتي الكرام.
وليس معنى يذادون للرجال فقط أي أن النساء لا تذاد، بل هذا من باب تعليق الشارع الأحكام بصنف من الصنفين وما يشمل أحدهما يشمل الصنف الآخر، كقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام) و (الذين) خطاب للذكور، (وعليكم) خطاب للذكور أيضاً ويشمل الذكور والإناث، لأن ما ينطبق على الرجل ينطبق على المرأة سواءً بسواء إلا إذا قام دليل على التخصيص فالنساء شقائق الرجال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
فمثلا ً: لو جاءت هدى شعراوي للحوض فهل تتمكن من الشرب منه؟ لا فهذه أعتى من أبي جهل، وأعتى من عبد الله بن أبي بن سلول.
وكذلك نزلي سعد زغلول وميادة أو مي الشاعرة (هؤلاء الثلاثة صاحبات الصالونات في مصر االتي أفسدت العالم) .
وأنا أعجب حقيقة – إخوتي الكرام – لمضاء عزيمة النساء وكيف غيرت هذه النساء الثلاثة الحياة في هذه الأوقات.
وفي المقابل تأتي للنساء الصالحات فلا ترى بعد ذلك إلا خمولاً وانعزالية وعدم بصيرة في هذه الحياة وتدبير لما يراد بهن فهذا لابد له من وعي – إخوتي الكرام – ولابد له من عزيمة ولابد من تحرك.
فإذن هناك رجال يذادون ونساء يذدن ويدفعن فليس هو عقوبة للرجال فقط.
وثبت في الصحيحين من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [أنا فرطكم على الحوض، ومن ورد شرب ومن شرب لم يظمأ أبداً، وليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم] .
وفي رواية أبي سعيد الخدري في تكملة حديث سهل بن سعد الساعدي [فأقول إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، سحقاً، سحقاً لمن بدل بعدي] .
(والفرط) هو المتقدم أي أنا أتقدمكم على الحوض.
إذن يرده كل الموحدين إلا من بدل وغير ونافق وكفر.
ب بيان من يتقدم في الورود عليه ويسبق غيره:(6/222)
أول مَنْ يتقدم في الورود عليه عندما يخرج الناس من قبورهم وهم عطاش هم صعاليك المهاجرين وفقراؤهم.
المحاضرة التاسعة عشرة: الأربعاء 10/4/1412هـ
ثبت في سنن الترمذي بسند حسن عن ثوبان رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [أول الناس وروداً على الحوض فقراء المهاجرين، الشُعث رؤوساً، الدُنُس ثياباً، الذين لا ينكحون المنعمات ولا تفتح لهم أبواب السدد] .
(الشعث) : جمع أشعث، أي شعره متلبد وليس عنده وقت لتمشيطه وتسريحه وتجميله.
(دُنس) : أي ثيابهم دنسة، وليس المراد من الدنس فيها نجاسة أو قذارة لكنها ثياب ممتهنة عند الناس قي قلة ثمنها، هذا كما ثبت في سنن الترمذي وغيره بسند حسن [البذاذة من الإيمان] والبذاذاة هي رثة الهيئة وعدم الاعتناء بالملبس، فمتى ما كوى ملابسه فليست دنسة حينئذ فلا يكوي ملابسه لا بنفسه ولا يضعها في دكان كي.
فخلاف حالنا الآن فعندما يريد أن يلبس الغُترة (الكوفية) فتراه لابد أن يجعلها مثل السيف من الأمام ولا نقول هذا حرام لكنها درجة دون الكمال أي أن يأْسِرَ الإنسانَ لباسُه، فليفرض أن هذا اللباس لم يتهيأ له ولذلك البذاذة من الإيمان [من ترك اللباس الفاخر وهو قادر عليه دعاه الله يوم القيامة وخَيَّرَهُ من حُلل الجنة ما شاء] .
(الذين لا ينكحون المنعمات) هذا وصف ثالث أي الثريات الموسرات بنات المترفين والأغنياء، فلا يقبلون الزواج بهن.(6/223)
(ولا تفتح لهم أبواب السُدد) وهذا هو الوصف الرابع، والسُدد هي القصور والمقصورات التي تكون خاصة بالمترفين، مثل بيوت الأمراء ومثل المقاصر التي عملها معاوية وهو أول من عمل المقصورة في المسجد وهي مكان خاص في المسجد لا يدخلها إلا هو وحاشيته ويوجد منها للآن في أكثر بلاد الشام وبلاد مصر وتكون على شكل طابق ثان ٍ لكنه ليس واسعاً وله مصعد خاص وغالباً ما يصلي عليه أناس خاصون فلو جاء إنسان مسكين لاسيما في العصر الأول ليصعد إلى هذه السدة منعوه، فهؤلاء أي الممنوعون هم أول من يرد حوض نبينا عليه الصلاة والسلام.
لِما امتاز الفقراء بهذا الورود؟ ولم يكن هذا للأغنياء من المهاجرين؟ فهم قد تركوا بلادهم وأوطانهم وأموالهم وما يملكون وخرجوا في سبيل الحي القيوم ابتغاء مرضاته ولا غرابة إن كوفئوا بالورود قبل غيرهم، لكن لم يحصل ذلك وفرق بينهم وبين الفقراء؟
إن الإنسان إذا هاجر وكان غنياً وعنده في هجرته ما يستعين به فإن ألم الهجرة والغربة يخف عليه، وإذا هاجر وكان فقيراً فيجتمع عليه أمران ومُصيبتان: الهجرة والفقر.
وإذا كان كذلك فبما أنه في هذه الحياة اعترتهم هذه الشدة فينبغي إذن أن يكرموا قبل غيرهم يوم الفزع الأكبر، لأنه قد اعترتهم شدة وكربة في هذه الحياة من أجل الله سبحانه وتعالى، فَيُطَمْأَن بالشرب أولاً مقابل ما حصل من قلق وخوف في هذه الحياة إذن. والمهاجر الغني ليس أمره كذلك.
وهؤلاء حالهم وإكرامهم كحال خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، فإن الناس يحشرون يوم القيامة حُفاة عُراة غُرْلاً (1) (كما بدأنا أول خلق نعيده) ويكون أول من يُكسى من هذه المخلوقات خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام والحديث في الصحيحين – لعدة اعتبارات فإن الجزاء من جنس العمل.
__________
(1) فتعاد الجلدة التي قطعت من رأس الذكر، وهي محل الختان.(6/224)
1- فإن إبراهيم عليه السلام ألقي في النار ولما ألقي جرد من ثيابه كيوم ولدته أمه وقُيّد ثم رمي بالمنجنيق في النار العظيمة، وهو نبي من أولي العزم الكرام بل خليل الرحمن!!.
فإذا كان الأمر كذلك وامتهن من قبل الأشرار في هذه الحياة فسيكسى يوم القيامة أول المخلوقات وأهل الموقف كلهم عراة كما ولدوا الرجال والنساء لا ينظر أحد إلى أحد كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام، كما قال تعالى: (لكل امرئِ منهم يومئذ شأن يغنيه) .
فأول من يكسى إبراهيم وهكذا من حصل له مثل حاله، وهذا يحصل للمؤمنين في هذا الحين من قبل المخابرات في الدول العربية عندما تأخذ شباب المسلمين لتعذبهم فتجردهم من ثيابهم ثم يعمشون أعينهم حتى لا يعلموا إلى أين يساقون، نسأل الله أن يكفينا شر الشريرين إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، فهؤلاء الذين عذبوا في السر ليستحقون هذا الإكرام وهو الكسوة قبل غيرهم؟!(6/225)
2- لأن إبراهيم عليه السلام هو أول من سن لبس السراويل وهي أستر شيء لاسيما للنساء فإذا كان السروال طويلاً يصل إلى الكعبين بالنسبة للمرأة ويزيد على الركبة بالنسبة للرجل فهو ساتر للإنسان يحول دون كشف عورته لو سقط أو جلس ولم يحطت في جلسته، وأما هذه السراويل القصيرة التي يلبسونها في هذه الأيام من لا خلاق له ثم يخرج فتراه إذا جلس بدا فخذاه، وإذا سقط – لا سمح الله – بدت عورته. ولذلك ورد في معجم الطبراني وغيره – والحديث ضعيف لكن يستدل به في الفضائل: [أن النبي عليه الصلاة والسلام كان جالساً أمام البقيع بعد دفن بعض الصحابة، فمرت امرأة تركب على دابة لها فتعثرت الدابة فسقطت فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم عنها بوجهه فقيل: يا رسول الله إنها مستورة – أي تلبس السراويل – فقال: اللهم اغفر للمتسرولات من أمتي] ، فخليل الرحمن إبراهيم من شدة حيائه هو أول من سن السراويل، فإذا كان فيه هنا الحياء فلا يصلح لأن يترك مكشوفاً كبقية المخلوقات، بل إنه تعجل له الكسوة قبل غيره.
3- لأنه كان أخوف الخلق لرب العالمين وكان يسمع أزيز قلبه من خشوعه وخوفه من مسافة ميل، فإذا كان هذا الخوف وهذا الاضطراب وهذا القلق فينبغي أن يعجل له الأمن 0 والكسوة علامة الأمن وأنه مرضي عنه.
فإذن خليل الرحمن إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه تعجل له الكسوة لهذه الاعتبارات وفقراء المهاجرين أوذوا وليس عندهم شيء يَتَسَلَّوْنَ به من مال يستعينون به في غربتهم فإذا بعثوا من قبورهم ينبغي أن يكون لهم شأن على أغنياء المهاجرين فضلاً عن سائر الأمة بعد ذلك.(6/226)
ولما بلغ هذا الحديث – حديث ثوبان رضي الله عنه – عمر بن عبد العزيز رحمه الله بكى وقال: "لقد نكحت المنعمات" ويقصد بها فاطمة بنت عبد الملك، مع أنها تقول – أي زوجته: "ما اغتسل عمر بن عبد العزيز من جنابة - من مباشرة أو احتلام منذ ولي الخلافة حتى لقي ربه". وكانت خلافته مدة سنتين إلا شهرين، ثم قال: "وفتحت لي أبواب السدد" فالقصور تفتح لي عندما أذهب لها "لا جرم لا أغسل رأسي حتى يشعث، ولا ثوبي الذي يلي جسدي حتى يتسخ"؛ لينال هذا الوصف رحمه الله تعالى، أي أن ما مضى مني أسأل الله أن يتجاوز عنه ويعفو بفضله ورحمته، وأما من الآن بعد أن بلغني هذا الحديث فلن أفعل هذه الأمور.
وفاطمة بنت عبد الملك، والدها خليفة وزوجها خليفة، وأخوها خليفة – بل إخوتها الخمسة سليمان والوليد وهشام وغيرهم كانوا خلفاءً، وجدها خليفة فهذه من أعظم المنعمات وما حصل هذا لامرأة أخرى، وهي التي قيل فيها:
بنت الخليفة والخليفة جدها ... أخت الخليفة والخليفة زوجها
فإذن بكى رحمه الله لما بلغه هذه الحديث مع أنه رضي الله عنه جمع زوجته وإماءه وقال لهن: طرأ عليّ ما يشغلني عنكن فإن أردتن الفراق فلكن هذا، وإن أردتن البقاء فليس لي صلة بواحدة منكن.. فبكين بحيث سُمع البكاء في بيوت الجيران، ثم تحدثوا وسألوا ما السبب؟ فقالوا: عمر بن عبد العزيز خيَّر نساءه.
ثم بعد ذلك قال لزوجته فاطمة هذا الحلي الذي عليك لا يحق لنا أخذ تيه من والدك عبد الملك وهذا من بيت المال فأرى أن نعيده في بيت المال، فقالت سمعاً وطاعة فأخذت حليها وأعطته إياه فأعطاه لخازن بيت المال، وخازن بيت المال احتاط فوضعه في زاوية وما صرفه في مصالح المسلمين – وبيت المال في عهد عمر بن عبد العزيز ممتلئ بالخيرات، وقد ثبت في مسند الإمام أحمد [أن الحبة من القمح كانت في عهد عمر بن عبد العزيز كرأس الثوم] وحفظ هذا بعد موته وكتب عليه: هذا كان ببيت في زمان العدل.(6/227)
ولما قيل له: إن الخيرات كثرت ونطلب من نعطيه الصدقة فلا نجد، فقال: اشتروا أرقاء وأعتقوهم واجعلوا ولاءهم لبيت المال.
وكان في عهده ترعى الذئاب مع الغنم، وقد ثبت في حلية الأولياء أن بعض التابعين مرّ على راع ٍ يرعى الغنم فوجد عنده ما يزيد على ثلاثين كلباً، فقال له: ما تفعل بهذه الكلاب؟ وواحد يكفي!! فقال: سبحان الله، ألا تعلم أن هذه ذئاب وليست كلاب: فقال: ومتى اصطلح الذئب مع الشاة، فقال الراعي: "إذا صلح الرأس فما على الجسد بأس"، إذن إذا عدل أمير المؤمنين واتقى الله فإن الله يحول بين المخلوقات وبين الظلم.
ورعاة الماشية في البادية علموا بموت عمر بن عبد العزيز رحمه الله ليلة انقضت فيها الذئاب على الغنم، فلما مات عمر وهم في البادية انقضت الذئاب على الغنم، فقالوا: أرخوا هذه الليلة – أي اكتبوا تاريخها – ثم ابحثوا عما حصل فقد مات عمر فلما تحققوا من الخبر علموا أن عمر مات في تلك الليلة رحمه الله ورضي عنه.
هذا هو عمر بن عبد العزيز، فخازن بين المال عندما أعطاه عمر رحمه الله حلي فاطمة، وضعه في زاوية وما تصرف فيه فبعد أن مات عمر رضي الله عنهم أجمعين جاء إليها وقال: هذا حليك الذي أخذه عمر احتفظت به كما كان، فإذا أردتيه فخذيه، فقالت: ما كنت لأزهد فيه في حياة عمر ولأرغب فيه بعد موته.
فانظر لهذا العبد الراشد وهو خامس الخلفاء الراشدين كما قال الشافعي: "فالخلفاء خمسة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وعمر بن عبد العزيز"وهو خليفة راشد باتفاق أئمتنا وهو مجدد القرن الثاني باتفاق أئمتنا لأنه توفي سنة 101 هـ عليه رحمة الله فعاش شيئاً من نهاية القرن الأول وبداية القرن الثاني.
وهو أول مجددي هذه الأمة، وقد ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام في سنن أبي داود وغيره بإسناد جيد [إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها] .
س: هل جاء مجددون بعده؟(6/228)
ج: لا شك في ... ذلك، فقد جاء مجددون في كل قرن ولا يشترط أن يأتي واحد بعينه، فمجدد القرن الثالث الإمام الشافعي باتفاق أئمتنا لأنه توفي سنة 204 هـ،ـ ويشترط في المجدد كما قلت لكم أن يدرك نهاية القرن المنصرم وبداية القرن التالي فالشافعي ولد سنة 150 هـ، فهو المجدد الثاني إذن، وهكذا سرد أئمتنا عدداً من المجددين إلى زماننا ولا يشترط أن يكون واحداً بعينه فأحياناً يوجد عدد من المجددين بحيث أن واحداً يجدد مثلاً في أمر العقيدة وتصحيح الأذهان من الخرافات، وآخر يجدد في نشر الحديث، وآخر في الجهاد، وهكذا في رأس كل مائة سنة.
ونحن في هذه الأيام – لا أقول كما يقول الناس نشهد صحوة بل في بلوى وفي عمىً – يوجد من فضل الله شيء من مظاهر التجديد وأموره ونحن في بداية قرن، وهو القرن الخامس عشر الهجري فحقيقة قد حصل تجديد في هذا الوقت كثير لكن لا أقول صحوة كما يفهم الناس ويخدرونهم بهذا الكلام لكن حصل التجديد وحصل الوعي وهذا من فضل الله.
فمصر مثلا ً سنة 1970 م لما ذهبتُ إليها لم تكن لترى فيها امرأة متحجبة، ولا ترى رجلاً في وجهه لحية، فمن فضل الله المتحجبات الآن في مصر لا أعلم لحجابهن نظير على وجه الأرض، إلا نساء الصحابة، فأنا لم أر امرأة تلبس جلباباً يجر على الأرض ذراعاً إلا في مصر، ولا أقول شبراً، وجر الثياب بالنسبة للرجل حرام ولا ينظر الله إلى من جر ثيابه خيلاء، وما نزل عن الكعبين في النار.
وانظر لعادات الناس في البلاد المتغطرسة المتكبرة، فالرجال تجر الثياب والنساء تقصرها إلى الركبتين بل إلى ما فوقها فسبحان الله!!.
والمرأة يجوز لها أن تتحجب بحيث تستر رجلها ويستحب لها أن ترخي ثيابها شبراً فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم [أترخيه شبراً قالت امرأة: يا رسول الله، إذن تبدو قدمها، فقال: لترخيه ذراعاً ولا تزد] .(6/229)
(تحدث الشيخ عن أطماع الغرب في أن نقلده في كل شيء إلا في المرأة، وفوجئ بأن نساءنا قلدنه تقليداً لا مثيل له فوجه سهامه لهن وخطط لإشراكهن في ميادين الحياة العامة ما ينفعها ولما لا ينفعها ومنه ما يسمى بتطوع النساء للقتال والدفاع المدني وكيف صارت المرأة سلعة مبتذلة بسبب هذه المخططات ثم ذكر قول علي رضي الله عنه، شر خصال الرجل خير خصال المرأة، وأن المرأة تكون سلسلة مع زوجها نافرة عنيدة مع غيره.)
وقبل أن ندخل في مبحث الشفاعة عندنا فائدتان:
الفائدة الأولي:
أنكر الخوارج والمعتزلة حوض نبينا عليه الصلاة والسلام، وحقيق بهم ألا يردوا ذلك الحوض وألا يشربوا منه.
فقالوا: لا يوجد لنبينا عليه الصلاة والسلام حوض ولا للأنبياء الآخرين عليهم السلام وحجتهم أن هذا لم يثبت في القرآن، وأمور الاعتقاد لابد من أن تكون في القرآن أو في حديث متواتر.
نقول: أما أن الحوض لم يثبت في القرآن فنحن معكم، لكن قلنا: إن الأحاديث متواترة وقد رواها ما يزيد على (56) وبلغت إلى (80) صحابياً، فهي إذا لم تكن متواترة فلا يوجد متواتر إذن فيقولون: إنها ليست متواترة عندنا بل هي أحاديث آحاد لا يؤخذ بها في الاعتقاد.
وقد ضل الخوارج والمعتزلة ومعهم الشيعة في قاعدة خبيثة انتبهوا لها:
أما الخوارج والمعتزلة فقالوا: كل حديث ورد في أمر الاعتقاد وليس له أصل في القرآن يطرح وهو مردود باطل.(6/230)
تقول لهم كلام النبي صلى الله عليه وسلم يقولون لك يطرح ولا قيمة له، وهو باطل ولو كان في الصحيحين ولو أجمعت الأمة على تلقيه بالقبول، ولذلك أهل المدرسة العقلية كالضال محمد عبده وأمثاله كما ذكرت لكم سابقاً هكذا يفعلون بالأحاديث، يقولون: آحاد ولا يؤخذ بها في الاعتقاد، فأحاديث نزول عيسى عليه السلام مثلا ً– بلغت سبعين حديثاً وهي متواترة باتفاق المحدثين، يقول محمد عبده: "لنا نحو هذه الأحاديث موقفان: الأول: أن نقول هي آحاد فلا يؤخذ بها في الاعتقاد، الموقف الثاني، على فرض التسليم بثبوتها فنؤولها بأن المسيح الدجال هو رمز للدجل والخرافات وهي الجاهيلة التي كانت قبل بعثة خير البرية عليه الصلاة والسلام، والمسيح عيسى بن مريم رمز للنور والهدى وهو الإسلام الذي جاء وأزال الجاهلية، أما أنه سينزل عيسى ويقتل الأعور الدجال فيقول هذه خرافة!! لأن عيسى عندما أراد اليهود قتله هرب وذهب إلى الهند ومات هناك وقبره معروف هناك في قرية (سُرى نكر) واسم قبره (قبر عيسى الصاحب) والصاحب عند الهنود بمنزلة الشيخ في بلاد العرب وبمنزلة الخوجة عند الأتراك، وأما قول الله تعالى: (بل رفعه الله إليه) يقول رَفْعُه هو رفع مكانة لا مكان، وكأنه وضيعاً قبل ذلك!!!.(6/231)
وأما الشيعة فقد زادوا على الخوارج والمعتزلة ضلالاً فقالوا: الأحاديث إذا كانت متعلقة بأمر الاعتقاد أو بالأحكام العملية وليس لها أصل في القرآن فهي مردودة 0إذن زادوا الأحكام العملية على الخوارج والمعتزلة، ولذلك الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها في النكاح محرم إلا عند الشيعة فعندهم يجوز أن تجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها باتفاقهم، والحديث قد ثبت في مسلم وغيره [نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الجمع بين أربع نسوة بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها] لكنهم يقولون لا وجود لهذا في القرآن ولتقرؤوا آية المحرمات من النساء (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم....) ولم يقل وأن تجمعوا بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها، نعم وأن تجمعوا بين الأختين فقط فالجمع بين الأختين محرم ولا مانع أن يجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها، والحديث لا قيمة له فهذا قد أثبت حكماً لا وجود له في القرآن نعوذ بالله من هذا الضلال، فهؤلاء الشيعة، هم أضل من الخوارج والمعتزلة بل هم أضل من فرق الأمة على الإطلاق، لو خلقهم الله طيراً لكانوا رَخْماً والرخم طائر أحمق لا يأكل إلا العذرة، ولو خلقهم الله بهائم لكانوا حُمُراً- جمع حمير-، وهكذا حال الشيعة لا عقل ولا نقل، وجمعوا الضلال الذي تفرق في الفرق بأسرها، ولم يدخلوا في الإسلام رغبة ولا رهبة، إنما دخلوا كيداً للإسلام ومقتاً لأهله.
الفائدة الثانية:
روى ابن جرير في تفسيره عن ابن أبي نَجيح عن أمنا عائشة رضي الله عنها أنها قالت: [من أحب أن يسمع خرير الكوثر فليضع أصبعيه في أذنيه] .
ضع أصبعيك في أذنيك الآن واسمع صوت الكوثر حقيقة كصوت الفرات عندما يجري، وقد جربتُ هذا مراراً.
وهذا الأثر منقطع عن أمنا عائشة رضي الله عنها فابن أبي نَجيح لم يسمع منها قال الإمام ابن كثير في تفسيره وقد روى ابن أبي نَجيح هذا الأثر عن رجل عن أمنا عائشة والرجل مبهم.(6/232)
وعلى كل حال فالأثر من حيث الإسناد ضعيف، وإذا ثبت عن أمنا عائشة فله حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام لأنه يتعلق بمغيب لا يدركه عقل الإنسان.
وما أتى عن صاحب بحيث لا ... يقال رأياً حكمه الرفع على
ما قال في المحصول نحو من أتى ... فالحاكم الرفع لهذا أثبتا
فإذا قال الصحابي قولا ً لا يدرك بالرأي فله حكم الرفع إلى نبينا عليه صلوات الله وسلامه.
ومعنى الحديث _لو ثبت_ قال الإمام ابن كثير في تفسيره: "ومعناه: أنه يسمع نظير صوت الكوثر ومثل خريره لا أنه يسمعه بنفسه".
تم بحمد الله مبحث الحوض
المبحث الثالث:
مبحث الشفاعة:
الشفاعة: مأخوذة من الشفع وهو خلاف الوِتْر والوَتْر وهو الفرد، فالشفع هو الزوج.
والله وِتّر ووَتّْر، والشفع هي المخلوقات، هذا من جملة ما قيل فيه، فقوله تقال (والفجر وليال عشر والشفع والوتر) الواو واو القسم فالشفع قسم بالمخلوقات، والوتر قسم بنفسه سبحانه وتعالى.
والشفع قيل: يوم النحر، والوِتر قيل: عرفة، هذا من جملة ما قيل لأن هناك أقوالا ً كثيرة.
أنما هنا الشفع هو الزوج لأنه شفع غيره فصار زوجاً، والوتر انفراد بنفسه فهو فرد، وسمي الشفع شفعاً لأنه شفع الوتر أي صاحبه وانضم إليه فجعله زوجاً بعد أن كان فرداً. إلى هنا تم التصحيح
ويحصل بالشفع – كما ترون – معنى الزيادة؛ لأن الوتر والفرد عندما زيد عليه مثله صار شفعاً فحصل فيه إذن معنى الزيادة.
ومنه الشُّفعة – بضم الشين – وهي ضم الشفيع المبيع إلى مكله فيشفعه به، كأنه كان وتراً فصار زوجاً شفعاً، كما جاء في لسان العرب لابن منظور في مادة شفع (10/50) ، وهو أكبر معاجم اللغة العربية.(6/233)
وصورة الشفعة: اشتركت أنا وأنت في بيت، ثم بعت نصيبي بمائة ألف درهم لغيرك فأنت لك حق الشفعة لتدفع الضرر عنك فتأتي وتقول لي شفعت في بيعك، أي ضممت بيعك إلى ملكي بمثل القيمة التي بعت بها نصيبك، فيفسخ البيع بيني وبين المشتري الغريب الذي ليس بشريك ويثبت لك كل البيت، وتدفع قيمة نصيبي، فإذن الشفعة ضمَّ الشريك المبيع إلى ملكه فصار ملكين وجزأين بعد أن كان جزءاً واحداً، وصار شفعاً بعد أن كان وتراً.
المحاضرة العشرون
ومعناها في الاصطلاح: طلب الخير للغير وفيها المعنى اللغوي.
أي المعنى الاصطلاحي فيه المعنى اللغوي، فالشفيع عندما يطلب الخير من غيره يضم صوته وطلبه إلى طلب المشفوع له.
فأنت تقول (رب اغفر لي) تطلب من الله المغفرة، ويجئ آخر فيدعو لك فيقول: (اللهم اغفر له وأجب دعواه) فهذه شفاعة، فكان السائل والطالب فرداً واحداً،وعندما طلبت أنت تحقيق طلبه صيّرته شفعاً وزوجاً وصار الطلب من جهتين من السائل لنفسه ومن الشافع.
فالشافع إذن شفع السائل والطالب فصارا اثنين، فإذن شفع الشافع المشفوع له، وشفع الشافع المطلوب منه الشفاعة، حيث ضم الشافع رأيه إلى رأي من طُلبت منه الشفاعة فأنت ذهبت مثلاً إلى مدير تطلب منه حاجة، فأنا شفعت لك عنده فضممت صوتي إلى صوتك وصار الطلب من جهتين، وضممت رأيي إلى رأي المشفوع عنده.
إذن شفعت للمشفوع له، وللمشفوع عنده، فأعطيت رأيي مع صاحب الحاجة وأعطيت رأيي مع من سيقضي هذه الحاجة، فشفعت لهذا وشفعت مع هذا.
أما لهذا فطلبت قضاء حاجته. وأما ذاك فقد حرضته على قضاء حاجة الطالب فأنت شفعت لاثنين.
أو تقول: شفعت الطالب والمطلوب منه، شفعت الطالب واضحة، وشفعت المطلوب منه أي الذي سيقضي حاجة الطالب.(6/234)
أو تقول: شفعت المشفوع له وشفعت المشفوع إليه، أو: شفعت المشفَّع والمشفِّع، فالمشفَّع هو طالب قضاء الحاجة والمشفِّع هو الذي سيقضي الحاجة،ولو ضربنا هذا مثلاً للخليقة مع ربهم جل وعلا، فالمشفِّع هو الله سبحانه وتعالى، والمشفَّع هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو غيره، فالرسول صلى الله عليه وسلم [أول شافع وأول مشفَّع] .
وقبل أن أنتقل إلى مباحث الشفاعة أحب أن أذكر مقدمة لها، وكل مباحثها تدور حول مبحثين فالشفاعة مطلوبة من المسلمين نحو بعضهم في الدنيا وفي الآخرة.
يقول تعالى عن الشفاعة في الدنيا: (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتاً) ، فقد حثنا الله تعالى في هذه الآية على الشفاعة الحسنة التي فيها قضاء مصالح العباد، وحذرنا من الشفاعة السيئة.
وقد حثنا نبينا عليه الصلاة والسلام أيضاً على الشفاعة في أحاديثه الكثيرة الصحيحة الثابتة، ففي الصحيحين والسنن الثلاثة أبي داود والنسائي والترمذي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء] وفي رواية أبي داود [اشفعوا لي] أي في طالب الحاجة [لتؤجروا وليقضي الله على لسان نبيه ما شاء] .
وهذه الشفاعة – كما قلت – ينبغي أن تكون في تحصيل الخير للغير في الدنيا والآخرة ولكن بشرط عدم تعطيل أحكام الله الشرعية، لأنك إذا شفعت في حد من حدود الله أو في إسقاط واجب أو استحلال محرم فهذه شفاعة محرمة وهي مضادة لله في حكمه، (قصة سرقة المخزومية والتي شفع فيها أسامة)
والشفاعة في الدنيا تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1- شفاعة حسنة مستحبة وتكون في:
أالمباحات.
ب المستحبات.
ولها صور كثيرة ولا يعجزكم التمثيل لها فلو طلب شخص مباحاً من مسئول أو مستحباً، فامتنع عليه، فشفعت له من أجل قضاء حاجته وطلبه، فهذه شفاعة حسنة ومستحبة.(6/235)
وقد بوب البخاري عليه رحمة الله في كتاب الطلاق باباً بهذا الخصوص فقال: باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في زوج بريرة.
وزوجها هو مغيث، وحديثه ثابت في الكتب الستة، فقد كانت بريرة تحت مغيث وكانت أمة وهو عبد – على أرجح القولين – ثم اعتقت بريرة والتي أعتقتها أمنا عائشة رضي الله عنها – وعندنا في الشريعة أن الأَمَة إذا كانت تحت عبد ثم أعتقت وصارت حرة فهي مخيرة إن شاءت أن تفارقه وإن شاءت أن تبقى معه، وإذا كانت تحت حر فاختلف في ذلك والجمهور يقولون بالتخيير وأبو حنيفة يقول بالتخيير سواء كان الزوج حراً أو عبداً.
الحاصل أن مغيثاً كان عبداً فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لبريرة: أنتِ بالخيار ما لم يمسسك – أي يقربك – فقالت لا أريده يا رسول الله، وقالت لأمنا حفصة رضي الله عنها: هو الطلاق هو الطلاق هو الطلاق.
فتشفع النبي صلى الله عليه وسلم لمغيث لأجل أن تعود له بريرة، فقد كان مغيث متعلقاً بها وكان قبل أن يحصل الطلاق بينهما يتبعها في سكك المدينة وهو يبكي وراءها والدموع تسيل على خديه وعلى لحيته ويسترضيها فتأبى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمه العباس: [ألا تعجب يا عمِّ إلى حب مغيث لبريرة وإلى كراهية بريرة لمغيث، ثم قال لها النبي صلى الله عليه وسلم، ارجعي إليه يا بريرة هو زوجك وأبو أولادك، فقالت: أتأمرني يا رسول الله؟ قال: لا، إنما أنا شافع] أي ألتمس منك العودة إليه، [فقالت: لا أريده يا رسول الله، الطلاق الطلاق الطلاق] فطلقت منه وما اجتمعت به بعد ذلك.
فهذه شفاعة مستحبة وقد شفع خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه في هذا الأمر لكن عنصر النساء عجيب، ووالله لو كنت مكانها لو كان ثوراً أسود لقبلته من أجل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وتطييباً لخاطره، وهل يقول النبي صلى الله عليه وسلم كلمة وأردها؟ ! لكن هذا حال النساء.(6/236)
لكن مع ذلك انظر لإيمانها، فليس عندها نقص فيه، حيث أرادت أن تتحقق هل هذا أمر واجب أم لا؟ فهي تعلم قول الله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) .
وهذا الحديث يقول الحافظ ابن حجر: استنبط أئمة الإسلام منه (300) فائدة، وأوجزها في فتح الباري وأشار إلى هذه الفوائد في الإصابة في ترجمة بريرة رضي الله عنها وعن زوجها.
ونسأل الله أن لا يعلق قلوبنا إلا به، وأنا حقيقة لا أتعجب من بريرة إنما أتعجب من مغيث فالنساء سواها كثير، وما عند هذه عند تلك، وعلام المشي وراءها والبكاء عليها! لكن هذا هو حال الضعف الإنساني، وصدق الله إذ يقول (وخلق الإنسان ضعيفاً) .
رفع إلى ابن عباس رضي الله عنهما في يوم عرفات رجل قد صار كالفَرْخ من ضعفه ومرضه، فقال: ما به؟ قالوا: العشق، فبدأ ابن عباس رضي الله عنهما – في يوم عرفات – يستعيذ بالله من العشق حتى مغيب الشمس.
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم ... العشق أعظم مما بالمجانين
العشق لا يستفيق الدهر صاحبُه ... وإنما يصرع المجنون في الحين
إن هذه الشفاعة الأولى الدنيوية مستحبة في مباحات ومستحبات وقولوا ما شئتم لها من أمثلة.
2- شفاعة واجبة وتكون في:
أ) تحصيل الواجبات.
ب) دفع الظلم عن المؤمنين والمؤمنات.
فإذا كان الطلب في أمر واجب ولأخذ حقه، أو كان الطلب لدفع الظلم عنه – وهو حق – فلم يجبه ولي الأمر لا في إعطائه حقه ولا في دفع الظلم عنه وأراد أن يوقع به عقوبة لا يستحقها أو أراد أن يمنعه حقاً هو له، وعلمت أنت بهذا فيجب عليك أن تشفع، لكن هذا الوجوب على حالتين، فهو فرض كفاية إن علمت وعلم غيرك ومنزلتك ومنزلتهم عند ولي الأمر سواء فيجب عليكم كلكم أن تشفعوا، فإذا قام البعض بتلك الشفاعة سقط الإثم عن الباقين كصلاة الجنازة.(6/237)
ويكون واجباً وجوباً عينياً إذا لم يعلم بحالة طالب الحاجة إلا أنت، أو علم غيرك أيضاً لكن أنت لك منزلة إذا شفعت بحيث تقضي حاجته ويُحصّل الواجب ويُرفع الظلم فهنا تعين الوجوب عليك وإذا لم تشفع فأنت آثم.
الإمام الشافعي استدعاه – ذكرها ابن عبد البر في كتابه الانتقاء في تراجم الأئمة الثلاثة الخلفاء – هارون الرشيد فأحضر من مكة إلى بغداد مقيداً، فما خلصته إلا شفاعة عبد صالح، إنه محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة، وذلك أن الشافعي زوِّر عليه أنه يريد أن يبايع رجلاً من آل علي لينقلبوا على العباسيين وبالأخص على الخليفة هارون الرشيد فجن جنونه فأرسل لإحضاره، فعلم بذلك محمد بن الحسن فاغتنم الغنم فتحين قدوم الشافعي فكان في مجلس هارون الرشيد، فلما دخل الشافعي عرّف محمدُ بن الحسن هارونَ بمنزلة الشافعيّ وبين له أن هذا من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وأن هذا إمام المسلمين....، ثم قال له هارون: يا محمد خذه إلى بيتك حتى يتبين لي الأمر، ثم ارتفع قدره (أي الشافعيّ) عند هارون بعد ذلك وأكرمه غاية الإكرام وأمر له بخمسين ديناراً.
فلولا أن الله لطف بالشافعي بشفاعة محمد بن الحسن لطارت رقبته في مجلس هارون، ولو أن محمداً ما شفع للشافعي لشارك في إثم دمه لأنه يعلم قدره ومنزلته وعلم بحاله، فانتبه لهذا!! إذن هذه شفاعة واجبة.(6/238)
وأخبرنا بعض شيوخنا الشيخ عبد الرحمن زين العابدين عليه رحمة الله عن قصة جرت لبعض العلماء الصالحين في الزمن القديم، حاصلها أن افتُري على طالب علم فاستدعاه ولي الأمر، فلما جاء إليه أعلم هذا الشيخ الصالح أن طالب العلم الفلاني قد استدعاه ولي الأمر وقد يفتك به – وقد كان للشيخ منزلة عند ولي الأمر ومكانة وكلمة مسموعة – فسارع الشيخ إلى منزل ولي الأمر وكان عنده اجتماع وطال الاجتماع والشيخ لا يزال جالساً وكان محصوراً - يحبس البول – فلما خرجوا دخل على ولي الأمر وكان مشغولاً في الكلام فانفجرت مثانة الشيخ ومات في مجلس الأمير فقال الأمير: ماله، وما الذي طرأ عليه حتى جاءني وقد كان الأصل أن آتي إلى بيته فهذا الشيخ هو شيخ المسلمين في بلدتنا؟ فقالوا: بلغه أن طالب علم ادُعىّ عليه وأحضر إليك فخشي أن تفتك به فجاء ليُعرِّف له وليشفع له , وكان محصوراً وهو رجل كبير لا يمسك هذا، فانفجرت مثانته فمات، فقال الأمير: والله لو علمت لأعطيته حِجْري ليبول فيه، ولجئت إلى بيته لأقبل شفاعته.
فهذه شفاعة واجبة لتوصل الحق إلى صاحبه ولتدفع الظلم عنه.
وأنا أقول لكم من باب شكر أهل الشفاعات والفضل على شفاعاتهم فمن تحدث بالنعمة فقد شكرها ومن كتمها فقد كفرها، وصاحب الشفاعة يعلم الله أنه لا يريد التحدث بها ولما أخبرني بها قلت له جزاك الله خيراً، فقال: وأنت كذلك، ولكنني ما أخبرتك من أجل أن تثني عليّ أو من أجل المنة عليك، إنما أخبرك من باب إخبارك بما يصدر ممن يكيد لك، ولمكانتك عندي، ونسأل الله أن يكفينا شر كل ذي شر.(6/239)
هذا الشيخ صاحب الشفاعة هو عبد الله المصلح عميد كلية الشريعة وأصول الدين بأبها بجنوب السعودية، وقد عاشرته ما يقارب (12) سنة وجرى لي معه مواقف كثيرة، ومن جملتها الذي يتعلق بمبحث الشفاعة فقد أُرسِلَ مرة كتاب من بعض الضالين من لهم شأن إلى الجامعة وفيه: أنه يوجد في كلية الجنوب فلان – يقصدني – وهو ضال يضلل الطلاب ويفسد عقائدهم ... إلخ، فأرسل إليه كتاب بهذا الخصوص فلما ذهب الشيخ عبد الله المصلح إلى الرياض أطلعوه على الكتاب نفسه وفيه أن عندكم أستاذاً ضالا ً ووضعه كذا وكذا – فهنا الشفاعة واجبة ومتعينة أم لا؟ وبيان الحق والدفاع متعين أم لا؟
فقال الشيخ عبد الله لمدير الجامعة سبحان الله لا أعلم بم أجيبكم!! إذا كان الشيخ عبد الرحيم ضالاً فوالله إذن ما عندنا في كلية الشريعة وأصول الدين أحد مهتدي، وأولهم أنا عبد الله المصلح، ولذلك أرى أن تلغوا الكلية من أولها لآخرها.
وبدأ يسرد لي بعض ما حصل وقال: لا أريد أن أذكر لك ما حصل، لكن من جملة كلامه أنه قال لهم، والله لا يوجد في هذه الكلية أستاذ إلا ولي عليه ملاحظة إلا فلان فهذا الذي يلاحظ علينا وينصحنا وأحيانا ينبهنا لأمور نحن نقصِّر فيها، وأنا لا أذكر مرة – وهذا كله من كلام الشيخ عبد الله المصلح – أنني نبهته على شيء، فاتقوا الله في أنفسكم، فهل هذا يتهم بمثل هذا الأمر الذي تذكرنه؟!.(6/240)
ولم يُنهِ الأمر إلى هنا مع أن الأوراق والشكوى قطعت في مكتب مدير الجامعة ورميت في سلة الأوساخ وقيل له: دعك من هذا الأمر، فلم يقبل وواصل متابعة القضية وقال أنا سأتابع الأمر فذهب إلى من زكى كتابه من كتب الشكوى، فقال له: هل تعرف فلاناً – أي الشيخ الطحان؟ فقال: ليس لي اطلاع على حاله على وجه التمام، لكن فلان وفلان الذين جاؤوا إليّ ثقات وقالوا لي إن هذا الشيخ يضلل ويفسد، لذلك يجب التخلص منه والحذر، فقال الشيخ المصلح له: ما رأيك فيّ؟ فقال: أنت يا شيخ عبد الله لا تدور حولك تهمة ولا نعرف عنك سوءاً، فقال له: والله لو طعنتم فيّ لكان هناك مجال للتصديق، وأما أنكم تطعنون في هذا الشيخ المسكين، والله لن يصدقكم أحد في الدنيا ولا في الآخرة فاتقوا الله واستحيوا منه وبعد كلام طويل قال هذا المسئول للشيخ عبد الله المصلح: هات كتاباً أكتب لك بالثناء عليه والتزكية له وأرد على كلامي السابق – وهذا الشيخ المسئول الذي زكى شيخ صالح لكن يُخدع أحياناً من قبل بعض الناس فقال الشيخ المصلح: لا أريد الآن تزكية، وما جئت الآن من أجل التزكية، لأن المسئول عنه في النهاية أنا ولا يمكن أن يُفعل معه شيء إلا بعد أخذ رأيي، فأنا الذي أدير الكلية ولم آت من أجله، لكنني جئت من أجل أن تتقوا الله في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وحتى لا يتكرر هذا منكم، فلا يأتيك شخص صاحب هوىً ويتهم بعض طلبة العلم بنقيصة ليست فيهم ثم تزكيهم وليس لهؤلاء الطلبة مدافع، ثم قال له في النهاية، هَبْ أنكم آذيتموه وفصلتموه من الكلية أتظنون أنكم بذلك قد ضررتموه، لا والله، إن هذا مؤمن وسيتولاه الله أينما كان وسيرفعه من عز إلى عز، ولن يخسر من فصله إلا كليتنا وسنكتسب الوجه الأسود في الدنيا والآخرة.(6/241)
أي افرضوا لو أن هذا الشيخ فُصِل، فهل إذا فصل يعني فصلت رقبته، وإذا فصلت رقبته هل حرم من الجنة أم ماذا جرى؟! ولو فصل من هذه الجامعة أفلا يوجد في هذه الدنيا مكان آخر فاتقوا الله وقفوا عند حدكم.
فهذه الشفاعة تعينت عليه، فحقيقة لا يعلم بحالي على وجه التمام والكمال إلا هذا العميد ولا يعلم بهذه الشكاية إلا هو، فقلت له جزاك الله خيراً، فقال: والله لو لم أفعل هذا لأكبني الله على وجهي في نار جهنم، ولا تظن أن هذا الذي فعلته من باب المنة عليك إنما هذا تعين عليّ.
وجاءت بعد ذلك تهمة وتطورت إلى بعض الجهات المسؤولة فقال لي من ضمن كلامه يا شيخ عبد الرحيم أنت نائم مع أهلك ولا تدري ما الذي يفعله لك وما الذي يحصل والله في وسط الليل أزج بنفسي من بيت إلى بيت ومن جهة إلى جهة، ويقول عندما يتصل ببعضهم: يا عباد الله اتقوا الله واستحيوا منه، والله أخشى أن يخسف الله بكم الأرض، إلى هذا الحد وصل بكم العنف والغلظة، فيقولون له: إنه يفعل كذا وكذا، فيقول لهم: استحيوا من الله يا جماعة فإن بعض ذلك مزوّر عليه ومفترىً وبعض ذلك لا حرج في فعله، وبعض ذلك حق وأنتم مخطئون.
وبالنسبة لقضاء الحوائج واصطناع المعروف والشفاعات ألّف أئمتنا كتباً مستقلة في هذه المواضيع، من هذا ما وجد ضمن كتاب (أربعون حديثاً في اصطناع المعروف) للإمام المنذري صاحب الترغيب والترهيب وقد تكلم فيه عن الشفاعات وقضاء الحوائج، وإذا لم يوجد عندكم فانظروا في مجمع الزوائد (8/190 - 195) لزاماً عند كتاب البر والصلة باب في قضاء الحوائج ويدخل في قضاء الحوائج الشفاعات لاسيما إذا كانت واجبة.(6/242)
من جملة ما ورد فيه – المجمع – من أحاديث: ما رواه الطبراني في الأوسط والصغير – وإسناده لا بأس به – عن أمنا عائشة رضي الله عنها، قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من كان وصلة – واسطة – لأخيه المسلم إلى ذي سلطان في مبلغ (بلوغ) بر ٍ أو تيسير عسير أعانه الله على إجازة الصراط عند حفي الأقدام] .
ولذلك أثر عن الإمام الشافعي عليه رحمة الله أنه قال: "لكل شيء زكاة وزكاة المروءات الشفاعات" أي إذا كنت صاحب مروءة وجاه فزكاة هذا أن تشفع.
ومنه ما رواه الطبراني في الأوسط بسند جيد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من مشى في حاجة أخيه كان خيراً له من اعتكافه عشر سنين، ومن اعتكف يوماً ابتغاء وجه الله جعل الله بينه وبين النار ثلاث خنادق كل خندق أبعد مما بين الخافقين] و (الخافقان) أي بين الأرض والسماء وبين المشرق والمغرب.
وذكر الإمام ابن رجب الحنبلي في كتابه (جامع العلوم والحكم) عند شرحه لحديث النبي صلى الله عليه وسلم الثابت في صحيح مسلم [ ... والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه ... ] ذكر قصة في هذا الموضوع فقال: "وبعث الحسن البصري قوماً من أصحابه في قضاء حاجة لرجل وقال لهم: مروا بثابت البناني - وكان من العباد – فخذوه معكم، فأتوا ثابتاً، فقال: أنا معتكف، فرجعوا إلى الحسن فأخبروه، فقال قولوا له: يا أعمش، أما تعلم أن مشيك في حاجة أخيك المسلم خير لك من حجة بعد حجة فرجعوا إلى ثابت، فترك اعتكافه وذهب معهم" وقول الحسن هذا ورد في أحاديث لكن ضعيفة.
المحاضرة الحادية والعشرون
3- شفاعة محرمة مذمومة وتكون في
أ) المكروهات.
ب) المحرمات.
(يصلح مثالاً لها قصة الشفاعة في المخزومية التي سرقت) .
كشفاعة أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز، ثم تابت من شفاعتها، حيث قالت لعزة يقول كثيّر (الذي كان مغرماً بعزة) :
قضى كل ذي دينٍ علمتُ غريمَه ... وعزةُ ممطول معنّى غريمها(6/243)
أي كل من عليه دين قضى صاحب الدين حقه إلا عزة فلم تقضي ديني، فقالت لها: ما هذا الدين الذي يقوله كثيّر وماذا له عليك من حق؟ فقالت عزة: كنت وعدته قبلة (عن طريق الحرام) فما طلته وما أعطيته ذلك، فقالت لها أم البنين: سبحان الله، أعطيه ذلك وما كان من إثم فعليّ. ثم ندمت بعد ذلك وتابت رحمها الله وعفا عنها، وأعتقت أربعين رقبة، وقالت ليتني خرست وما تكلمت بهذه الكلمة حيث شفَعتْ في أمر محرم. وانظروا القصة في صفة الصفوة (4/299) .
فالشفاعة في المحرم والمكروه حرام.
فهذا هو ضابط الشفاعة: الحسنة المستحبة، والحسنة الواجبة، والمذمومة المحرمة، والتمثيل لا يخفي عليكم بعد ذلك.
والشفاعة الحسنة مطلوبة، والشفاعة السيئة مذمومة، وأكثر شفاعة الناس في هذه الأيام من الشفاعات المذمومة الملعونة ولا تجد من يشفع شفاعة حسنة إلا ما قلَّ وندر، وإذا طلبت منه شفاعة حسنة في تخليصك من ظلم أو بلاء يتعلل، وعندما يجب عليك حق شرعي أو تنتهك محرماً وستنزل بك عقوبة فما أكثر الشفعاء حينئذ وهذا هو الضلال عندما تضاد الشفاعة شرعية ذي العزة والجلال.
فلنشفع في أمور لخير الدنيا، ونسأل الله أن يشفعنا في بعضنا في الآخرة إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
وسنأتي الآن إلى مباحث الشفاعة.
المبحث الأول:
شرط حصول الشفاعة عند الله جل وعلا:(6/244)
تقدم معنا أن الشفاعة طلب الخير للغير من الغير، وقلنا إن الشفاعة فيها ضم الشفيع صوته إلى المشفوع إليه كما في ضم صوته إلى المشفوع له، والله جل وعلا فرد أحد ليس له شفيع سبحانه وتعالى، فكيف ستحصل الشفاعة عنده؟ هل يعطي أحد رأيه لله كما هو الحال في ملوك الدنيا فهؤلاء تعطيهم رأيك وتضم رأيك إلى رأيهم؟ لا، الشفاعة عند الله تختلف عن سائر المعلوم من أنواع الشفاعات عند المخلوقين قاطبة، فهي شفاعة من نوع خاص لها شروط تميزها عن غيرها، فهذه الشفاعة لا تضم رأيك إلى رأي المشفوع عنده انتبه!! إنما أنت تشفع بعد أن يأذن لك سبحانه وتعالى، وهل هذا هو حال ملوك الدنيا؟ فقد تشفع بما لا يريد وترغمه فينفذ شفاعتك لأنه وإن كان عنده رغبة ورهبة فهو أيضاً يرغب ويرهب ويقول أخشى أن يدبر هذا لي مكيدة أو أن يغتالني إن أنا رددت شفاعته.
فهذه الشروط – التي سنذكرها – لننفي بها ضم الشافع صوته إلى المشفوع عنده وأنه لا أحدٌ يشفع الله فهو وتر سبحانه وتعالى وهو أحدٌ ليس معه نظير ولا أحد يضم قوله إلى قوله.
ولذلك اتفق أهل السنة الكرام على أن الشفاعة لا تحصل عند ذي الجلال والإكرام إلا بشرطين:
الشرط الأول: إذن الله للشافع بحصول الشفاعة منه.
دل على هذا آيات القرآن الكثيرة منها:
? قوله تعالى في آية الكرسي سورة البقرة 255 (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) .
? وقوله تعالى في سورة سبأ آية 23 (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) .
? وقوله تعالى في سورة يونس آية 3 (ما من شفيع إلا من بعد إذنه) .
الشرط الثاني: رضا الله عن المشفوع له بحصول الشفاعة له من الشافع فإذن أذن للشافع بأن يشفع، وليس هذا إذن مطلقاً، بل يُحِدّ له حداً أو يسمي له جماعة أو فرداً، فيقول اشفع لهذا بدخول الجنة، إذن هذا بتخصيص الله ومشيئته وإرادته.
س: لم أشفع، وقد حَدَّه لي وليس على اختياري مطلقا؟(6/245)
جـ: لينيلني الأجر عندما أشفع (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها) ، وليحصل مزيد حب وود بيني وبين المشفوع له، وبالتالي يحصل مزيد ربط بين قلوب المؤمنين وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام يفعل هذا في الدنيا فكانت إذا عرضت عليه حاجة يؤخر قضاءها ليشفع الصحابة ثم يقول لهم – ما قلت لكم – [اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء] ، فالرسول صلى الله عليه وسلم سيقضي الحاجة لكن إن قُضيت بعد شفاعة فالمستفيد هو أنتم حيث سيحصل الربط فيما بينكم وتقضى الحاجة مع ذلك، فقضاء حاجة بلا شفاعة أنزل من قضائها بعد شفاعة، فهناك تكثير الخيرات من عدة جهات وهذا ما يحرض عليه النبي عليه الصلاة والسلام.
لذلك قلت لكم ندبنا إلى شفاعة في الدنيا والله يشفعنا في بعضنا في الآخرة، إذن يحدد الله المشفوع له، ويأذن للشافع بحصول الشفاعة منه لهذا المشفوع له. دل على هذا قول الله جل وعلا في سورة الأنبياء في الآية (28) : (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) .
وقد جمع الله الشرطين في آيات كثيرة من كتابه:
1) منها سورة النجم آية (26) : (وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يساء ويرضى) .
2) وهكذا في سورة النبأ آية (38) يقول الله تعالى: (يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن) . فهذا هو الشرط الأول (وقال صواباً) أي أذن له ولم يتكلم بعد ذلك على حسن رأيه ويشفع لمن يريد دون إذن ربه بحصول الشفاعة له فلا يتكلم إلا على حسب ما يحدد له، والصواب هو رضا الله عن المشفوع له بحصول الشفاعة وهذا هو الشرط الثاني.
3) وقال ربنا جل وعلا في سورة طه آية (109) : (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضى له قولاً) وهذا كقوله تعالى (أذن له الرحمن وقال صواباً)(6/246)
إذن لا بد من هذين الشرطين إُذنُ الله للشافع ورضاه عن المشفوع له لحصول الشفاعة له، وعليه فمرد الأمر لله جل وعلا فهو خالق الشفاعة وموجدها وهو الآذن لبعض الناس بالشفاعة لمن يشاء ويريد ويرضى سبحانه وتعالى، ولذلك لا تطلب إلا منه سبحانه وتعالى أن يشفع فينا الصالحين من عباده فهو على كل شيء قدير.
يقول الله تعالى مقرراً هذا في سورة الزمر آية 43 و 44: (أم اتخذوا من دون الله شفعاء، قل: أولو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون، قل لله الشفاعة جميعاً له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون) ، فلله الشفاعة جميعاً من بدايتها إلى نهايتها فهو الذي يأذن للشافع وهو الذي رضي عن المشفوع له بحصول الشفاعة له، إذن مردها إلى الله جل وعلا، نسأل الله أن يرحمنا وأن يشفع فينا نبينا عليه الصلاة والسلام والصالحين من عباده إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
إشكال وجوابه:
إن قيل: وردت آيات في القرآن الكريم ظاهرها يشعر بنفي حصول الشفاعة يوم الدين، فكيف سنوفق بينها وبين الآيات التي أثبتت الشفاعة في ذلك؟ ومن هذه الآيات:
? قول الله جل وعلا في سورة البقرة - وسأقتصر على هذه السورة فقط - آية 48 (واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم يُنصرون) .
? وقوله تعالى في آية 123 من السورة نفسها: (واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون) .
? وقوله تعالى في الآية 254 (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أي يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون) .
إذن هذا اليوم ليس فيه شفاعة، وقد مرت معنا الآيات بثبوت الشفاعة وحصولها، فما التوفيق بين الأمرين؟(6/247)
الجواب: أن الشفاعة المنفية هي الشفاعة الشركية التي يدعيها المشركون لآلهتهم وطواغيتهم من البشر أو الحجر أو البقر أو الشمس أو القمر وغيرها حيث كانوا يزعمون بأنها ستشفع لهم يوم القيامة، فإن هؤلاء لا تحصل لهم الشفاعة والشفاعة منتفية عنهم، وقد وضح هذا آيات القرآن (1) يقول الله تعالى في سورة المدثر – وانتبه لسياق الآيات – (كل نفس بما كسبت رهينة، إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نَكُ من المصلين ولم نَكُ نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين) فما هي النتيجة؟ (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) التي كانوا يدعونها لآلهتهم، ويفترون ويزعمون أن آلهتهم ستشفع لهم، فهذه الشفاعة الشركية لا تنفعهم وهم مشركون لا تنفعهم شفاعة.
إذن (كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين) ، وما المراد بأصحاب اليمين؟
قيل: هم من يأخذ كتابه بيمينه.
وقيل: هم الملائكة المقربون.
لكن التفسير الدقيق الوارد في هذا عن صحابيين – ولذلك حكم الرفع – عن علي وعن ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين، عن علي في المستدرك بسند صحيح، وعن ابن عمر في تفسير ابن المنذر بسند صحيح: [ (إلا أصحاب اليمين) إلا أولاد المسلمين الذين ماتوا قبل أن يبلغوا] قبل أن يجري عليهم القلم.
وهذه إحدى آيتين في القرآن تدل على أن أولاد المسلمين في الجنة إذا ماتوا قبل التكليف والآية الثانية في سورة الطور آية رقم (21) وستأتي ص (256) وهذا هو المقرر عند أهل السنة والجماعة، فإذا مات ولد من أبوين مسلمين أو من أحد أبوين مسلمين قبل أن يبلغ فهو في الجنة.
وفي هذه الآية قرينتان على أن هذا التفسير هو المعتمد – وإن كان التفسيران الآخران يمكن أن يدخلا في الآية – ولكن هذا هو المعتمد وأقوى من غيره لقرينتين هما:
القرينة الأولى:(6/248)
قوله (رهينة) فإن معناها: مرتهنة ومحبوسة لتحاسب على عملها، فإن كان خيراً أثيبت وإن كان شراً عوقبت، لكن عندنا صنف ليس عنده ما يرهن عليه ويحبس من أجله فلم يعمل خيراً أو شراً ولم يجر القلم عليه، إذن فكل نفس مرتهنة بعملها إلا هؤلاء فليس عندهم عمل، ولذلك أولاد المسلمين في الجنة بمجرد موتهم [وصغارهم دعاميص الجنة] كما ثبت في مسلم عن نبينا عليه الصلاة والسلام والدعاميص جمع دعموص وهي دودة لا تفارق الماء والولد الصغير بمجرد أن يموت لا يفارق الجنة، والدعموص أيضاً هو الذي يُكثر زيارة الملوك والأمراء فلكثرة زيارتهم ومخالطتهم لهم يدخل عليهم بغير استئذان، وهؤلاء دعاميص يدخلون ويسرحون حيث يشاءون ولا يمنعهم منها مانع وفلا يقيدون ويحاسبون.
القرينة الثانية:
قوله (يتساءلون) لأن سؤالهم هذا سؤال غرٍ جاهل سؤال من لا يدري الحقائق ولا ما جرى في عرصات الموقف، فهؤلاء – أي أصحاب اليمين الذين يتساءلون – لو شهدوا الحساب في عرصات الموقف وحضروا الميزان وأن هؤلاء ثقلت موازينهم فهم في عيشة رضية وهؤلاء خفت موازينهم فأمهم هاوية لو حضروا هذا لما سألوا هذا السؤال، فهو معلوم لديهم لأنهم حضروه، لكنهم لم يحضروا ولم يُحبسوا إنما دخلوا الجنة دون محاسبة ودون تقييد ورَهْن.
الشاهد هنا أنه (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) الشفاعة الشركية هي المنفية.(6/249)
3) وهكذا يقول الله في سورة الشعراء آية (100) : ( ... فمالنا من شافعين ولا صديق حميم) فالشفاعة المنفية هي حصول الشفاعة للآلهة وقد ذكروا قبل هذه الآية بثماني آيات وأيضاً قال في آية (96) من هذه السورة (قالوا وهم فيها يختصمون، تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين، وما أضلنا إلا المجرمون، فمالنا من شافعين ... ) إذن يسوون آلهتهم برب العالمين ويجعلونهم أنداداً له، وعدلاً ومثلاً له، يعبدونهم كما يعبدون الله، فهؤلاء لا تحصل لهم الشفاعة والله جل وعلا يقول: (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم) أي جعلتموهم نظراء وعدلاً له، فسموهم وانعتوهم فماذا فيهم من صفات يستحقون أن يكونوا بها آلهة، هل خَلقوا أم خُلقوا؟ هل يملكون لغيرهم ضراً أو نفعاً أو يملكون هذا لأنفسهم؟!!
كل من عدا الله مخلوق مقهور مربوب مسير في الحياة والموت والرزق رغم أنفه مخير في ما عداها جاء إلى الدنيا على غير اختياره وسيخرج منها على غير اختياره، في الصورة التي على غير اختياره، إذن فكيف يستحقون أن يكونوا آلهة مع الله أو من دون الله؟!!.
4) وهكذا يقول الله سبحانه وتعالى في سورة غافر آية (18) (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) .
5) وقال جل وعلا في سورة الأنعام آية (94) : ( ... وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء....) .
6) وقال جل وعلا في سورة يونس آية (18) : (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله، قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض، سبحانه وتعالى عما يشركون) .
فالشفاعة المنفية هي الشفاعة الشركية التي تقع بغير إذن الله وبغير رضاه عن المشفوع له، وهذه كان الضالون يدعونها لمعبوداتهم وما أكثر من يدعيها من المسلمين لطواعيتهم الذين يعكفون حولهم.(6/250)
وهناك قصة لبعض الضالين في بلاد الشام من الصوفية المخرفين الذين يتبعون شيخاً ضالاً يقول لهم: أولادي لا تخافوا، فإذا صار يوم القيامة أضعكم في رقبتي كما تضع المرأة القلادة في عنقها، ثم أمر من فوق جهنم فأطير إلى الجنة، وتلامذته ينقلون هذه القصة عنه ويبتهجون ويفرحون ويقول: نحن سيشفع لنا هذا الشيخ العظيم، فقلت لواحد منهم عندما كلمني: وإذا سقط شيخك في جهنم، فكيف سيكون حالكم؟ ووالله إذا لم يرجع عن اعتقاده هذا سيسقط رغم أنفه ما دام يدعي هذا الأمر الذي يحاد ويضاد به الله:
ألم يسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم:
[يا فاطمة لا أغني عنك من الله شيئاً، اعملي] .
[يا عباس يا عم النبي، لا أغني عنك من الله شيئاً، اعمل] .
[يا صفية سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً] .
هذا يقوله النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه سيد الشافعين المشفعين والشفاعة له ثابتة بإجماع أهل السنة ودلت عليها النصوص الصحيحة الثابتة، ومع ذلك يقول كَوني سأشفع لهذا أو لهذا هذا مرده إلى الله جل وعلا!!.
ولذلك في صحيح مسلم [لما جاء ربيعة بن كعب الأسلمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان دائماً يحضر للنبي صلى الله عليه وسلم وضوءه ليتوضأ منه، فقال له ذات يوم لما أحضر له وضوءه: سلني فقال ربيعة: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال أَوَغير ذلك؟ فقال: هو ذاك يا رسول الله فأطرق النبي عليه الصلاة والسلام يقول ربيعة – وظننت أنه يوحى إليه – ثم رفع فقال إني فاعل، فأعني على نفسك بكثرة السجود] ، نعم ما سأل ربيعة وهذه هي همم النفوس العالية.(6/251)
فهنا النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل له من أول الأمر شيئاً لا أملك ولا لا أملك بل سكت فهولا يستطيع أن يتكلم من عنده، فهذا ليس في وسعه، فقال له، ألا تريد شيئاً آخر أستطيع قضاءه لك بنفسي؟ ، فقال: هو ذاك ولا أريد غيره، إذن فتحتاج المسألة إلى استئذان الله سبحانه وتعالى وانتظار الجواب منه، فأطرق الرسول صلى الله عليه وسلم رأسه ونزل عليه الوحي، فلما رفع رأسه قال لربيعة: إني فاعل فأعني على نفسك بكثرة السجود فهذا شرط لا تفرط فيه حتى تكون في درجتي إن شاء الله في جنات النعيم.
المبحث الثاني:
أنواع الشفاعات يوم القيامة:
مجموع الشفاعات ثمانية أربعة منها خاصة بنبينا عليه الصلاة والسلام والأربعة الأخرى مشتركة بينه وبين غيره من أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم ومن الملائكة والصالحين من عباده.
أما الشفاعات الخاصة بنبينا عليه الصلاة والسلام:
1- الشفاعة العظمى:
ويقصد بها: الشفاعة لأهل الموقف قاطبة من إنس وجن وحيوانات، ليحاسبهم رب الأرض والسموات، فحتى الحيوانات ستنالها هذه الشفاعة (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وتكون نتيجة حسابها أن تكون تراباً لكنها مجموعة ليقضي الله للجماء من القرناء، وليظهر العدل الإلهي على أتم وجه، فيجتمعون في ذلك الموقف العصيب الرهيب، ولا يقضي بين هذه المخلوقات إلا بشفاعة خير البريات عليه صلوات الله وسلامه.
وقد تواترت الأحاديث بذلك، وفيها:(6/252)
(أن الله يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد وتدنو الشمس من منهم ويتصبب منهم العرق ويطول هذا الجمع ويبلغ الغم والكرب بالناس ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تظنون من يشفع لكم عند ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم فيذهبون إليه ويقولون: [يا آدم اشفع لنا عند ربك، فيقول لست لها] أي لا أبلغ هذا المقام وهذه الرتبة ليست لي، ثم يقول [إن ربي قد نهاني عن الشجرة فعصيته اذهبوا إلى نوح فإنه أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض] وكان بين نوح وبين آدم عشرة قرون كلهم على التوحيد، كما ثبت هذا في المستدرك بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما،وله حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام.
والمراد من القرن: قيل مائة سنة، وعليه تكون المدة بينهما ألف سنة. وقيل المراد بالقرن مدة فناء جيل من الأجيال، وكان كل جيل يعيش ألف سنة فأكثر، فالألف تضرب في عشرة يصبح المجموع عشرة آلاف سنة بين نوح وآدم والله أعلم أيهما المراد.(6/253)
[فيذهبون إلى نوح ويقولون اشفع لنا إلى ربك فأنت أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض فيقول: لست لها، ويذكر سؤاله لربه ما ليس له به علم] وهذا وراد في قوله تعالى (رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين، قال: يا نوح إنه ليس من أهلك) أي ليس من أهل ملتك وليس على دينك، وليس المراد أنه ليس من أولادك فهو ابن حرام كما توهم هذا بعض سفهاء الأنام حيث يقولون هذا ليس من أهلك أي ليس بولدك وإنما ولد على فراشك فامرأتك خانتك فيه، هذا كلام باطل وما بغت امرأة نبي قط، وزنا الزوجة منقصة في حق الزوج، فإن قيل قد تكون الزوجة كافرة، نقول: لا حرج لأن الكفر ليس بتعيير عند أهل الأرض وليس بمنقصة في حق الزوج بخلاف العهر، فهو – أي العهر – منقصة عند الكفار وعند المؤمنين بل عند الناس كلهم هو مذموم ولذلك القوانين الوضعية الوضيعة في هذا الوقت أباحت الزنا إلا زنا الزوجة، وعند النصارى لا يوجد طلاق إلا إذا ثبت أن الزوجة زنت فعند ذلك للزوج أن يطلقها.
الشاهد أنَّ زنا المرأة طعن في زوجها ومعنى ليس من أهلك أي ليس من أهل ملتك وليس على دينك.(6/254)
[فيقول نوح: اذهبوا إلى إبراهيم خليل الرحمن، فيقول لست لها، وإني كنت كذبت ثلاث كذبات] وهي قوله (إني سقيم) مع أنه يجاهد ويجادل بها عن دين رب العالمين، وقوله (بل فعله كبيرهم هذا) وقال عن سارة (إنها أختي) وهو صادق في كل ما قاله فهي أخته في دين الله بما أن هذا الكلام يوهم خلاف الظاهر فاستحى واعتذر فقال لست هنالك، ثم يقول إبراهيم [اذهبوا إلى موسى عليه السلام فإن الله قد كلمه فيذهبون إليه فيقول: لست هنالك، ويذكر ذنبه ويستحي وأنه قتل نفساً..] مع أن النفس تستحق القتل لكن كأنه يرى أنه تعجل ولعله كان بالإمكان أن يصلح أمره، ثم يقول: [اذهبوا إلى عيسى فإنه عبد الله ورسوله وكلمته وروحه، فيذهبون إليه فيقول: لست هنالك ولا يذكر ذنباً] أي أنا لست في هذا المقام ولا أتأهل له سواء كان عليّ ذنب أستحي به من الله أم لا، ثم يقول [اذهبوا إلى محمد عليه الصلاة والسلام فإنه عبد صالح قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيذهبون إليه ويقولون اشفع لنا إلى ربك، فيقول صلى الله عليه وسلم أنا لها وأنا صاحبها، فآتي تحت العرش فأسجد فيدعني الله ما شاء أن يدعني ويلهمني محامد أحمده بها لا أستحضرها الآن، ثم يقول لي: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك واشفع تشفّع، فأقول: اللهم أمتي اللهم أمتي اللهم أمتي] فتنصب الموازين وتنشأ الدواوين.
يقول العبد الفقير وهذا الحديث ورد عن طرق متعددة وبروايات كثيرة من ذلك أن كل نبي لما تطلب منه الشفاعة يقول: [إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ثم يذكر ذنبه ويقول: نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى غيري....] .
وكذلك لما يذهب الناس إلى كل نبي يثنون عليه بما هو فيه فمثلاً يقولون لآدم: [أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك اشفع لنا إلى ربك ... ] .(6/255)
وفي بعض الروايات يعتذر نوح عليه السلام عن الشفاعة فيهم بقوله: [وإنه قد كان لي دعوة دعوتها على قومي ... ] ولا يذكر أنه بسبب سؤاله ما ليس له به علم.
ومن ذلك أيضاً أنه لما يطلب من أي نبي الشفاعة يعتذر فيقول: [لست هنالكم] ، وفي روايات [ليس ذاكم عندي] وفي روايات [لست هناك ولست بذاك فأين الفعلة؟] أي الخطيئة أو الفعل الذي ارتكبه واستحى به من الله، وفي روايات [لست هناك] فقط. وهناك ألفاظ وروايات أخرى يطول ذكرها.(6/256)
وعلى كل حال الحديث الطويل الذي ذكرناه هو ما قد أفادته عدة روايات، وإلا فرواية الصحيحين – وهي الرواية المشتهرة – ليس فيها التصريح بهذه الشفاعة العظمى للقضاء بين الخليقة بل اقتصر رواتها على ذكر شفاعة واحدة أخرى، ولكن يستفاد من نص الحديث في الصحيحين أن شفاعته ستكون للقضاء بين الخليقة بما ذكر في أول الحديث من اغتمام الناس وتضايقهم وكربهم وفزعهم من طول الاجتماع في هذا الصعيد الواحد، ثم إن ابن خزيمة بعد إيراده للحديث في كتابه (كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل) – أي الحديث الذي في الصحيحين – أراد أن يدلل على أن الشفاعة المذكورة فيه إنما هي الشفاعة التي يشفع بها النبي صلى الله عليه وسلم ليقضى بين الخلق حيث بوّب باباً بعد إيراده لرواية الصحيحين فقال: (باب ذكر الدليل على أن هذه الشفاعة التي وصفنا أنها أو الشفاعات هي التي يشفع بها النبي صلى الله عليه وسلم ليقضي الله بين الخلق فعندها يأمره الله عز وجل أن يدخل من لا حساب عليه من أمته الجنة من الباب الأيمن فهو أول الناس دخولاً الجنة من المؤمنين) ثم أورد حديثين يقرران ذلك: الأول: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم، وقال إن الشمس تدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن وبينما هم كذلك استغاثوا بآدم عليه السلام فيقول: لست بصاحب ذلك، ثم بموسى فيقول: كذلك ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم فيشفع ليقضى بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة الجنة فيومئذ يبعثه الله مقاماً محموداً يحمده أهل الجمع كلهم.(6/257)
الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [للأنبياء منابر من ذهب يجلسون عليها – قال – ويبقى منبري لا أجلس عليه ولا أقعد عليه قائماً بين يدي ربي مخافة أن يبعث بي إلى الجنة وتبقى أمتي بعدي فأقول يا رب أمتي أمتي، فيقول الله عز وجل: يا محمد، ما تريد أن تصنع بأمتك؟ فيقول: يا رب عجل حسابهم فيدعى بهم فيحاسبون فمنهم من يدخل الجنة برحمة الله ومنهم من يدخل الجنة بشفاعتي – فما أزال حتى أعطى صكاً برجال قد بعث بهم إلى النار، وحتى إن مالكاً – خازن النار – يقول: يا محمد، ما تركت النار لغضب ربك في أمتك من نقمة] وقد اشترط ابن خزيمة في كتابه هذا ألا يورد إلا حديثاً يرويه عدل عن عدل وبعد صفحات ذكر باباً آخر فقال: (باب ذكر بيان أن للنبي صلى الله عليه وسلم شفاعات يوم القيامة في مقام واحد، واحدة بعد أخرى) ثم قال: "أولها ما ذكر في خبر أبي هريرة رضي الله عنه – ويقصد الحديث الطويل الذي رواه الشيخان أيضاً – وخبر عمر، وابن عباس – وقد تقدم قبل قليل ذكرها – وهي شفاعته لأمته ليخلصوا من ذلك الموقف وليعجل الله حسابهم ويقضي بينهم فرقة بعد أخرى - " ثم ذكر أن الصحابة رضوان الله عليهم ربما اختصروا أخبار النبي صلى الله عليه وسلم إذا حدثوا بها وربما اقتصروا الحديث بتمامه وربما كان اختصاراً بعد الإخبار أو أن بعض السامعين يحفظ بعض الخبر ولا يحفظ جميع الخبر وربما نسي بعد الحفظ بعض المتن فإذا جمعت الأخبار كلها علم حينئذ جميع المتن والسند ودل بعض المتن على بعض، انظر: كتاب التوحيد لابن خزيمة (ص 242-247) . (وهذا الكلام الذي كتبه هو من كلامي أنا وليس للشيخ الطحان أي مسؤولية عنه فما كان فيه من صواب فمن الله وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان والله الموفق) .
وقد أشار الله إلى هذه الشفاعة في كتابه فقال: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً) .(6/258)
وقد فسر (المقام المحمود) بأربعة معان ٍ:
أولها: أنه هو الشفاعة العظمى. قد حكى الواحدي إجماع المفسرين على القول بهذا، وقد روى ابن أبي عاصم في (السنّة) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم [في قوله تعالى: (عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً) قال: الشفاعة] وإسناده ضعيف لكن الحديث صحيح لشواهده وقد حسنه الترمذي.
وروي أيضاً عن كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: [إذا كان يوم القيامة كنت أنا وأمتي على تل، فيكسوني حلة خضراء، ثم يأذن لي تبارك وتعالى أن أقول ما شاء الله أن أقول وذلك المقام المحمود] وإسناده جيد (وهذان الحديثان ذكرتهما أنا ولم يذكرهما الشيخ الطحان) .
ثانيها: أنه لواء الحمد:
ولا تعارض بينهما فهو يحمل لواء الحمد عندما يشفع وتحت لوائه آدم فمن دونه، فإذن لواء الحمد والشفاعة في وقت واحد.
ثالثها: أن المقام المحمود
هو كل خصلة حميدة يحمده عليها الأولون والآخرون في الدنيا والآخرة.
رابعها: أن يجلس معه على العرش
وهذا روي في تفسير الطبري وغيره [أن الله يُجْلِسُ نبيه على عرشه معه وهذا هو المقام المحمود] .
والأقوال الثلاثة الأولي كلها مقبولة، والأخير الرابع جرى حوله كلام حتى أن بعض الأئمة استنكروه.
المحاضرة الثانية والعشرون
والأثر الذي رواه الطبري هو عن مجاهد فهو إذن ليس بمتصل إلى نبينا صلى الله عليه وسلم ولم يثبت عندنا عن طريق موصول صحيح.(6/259)
والمعتمد عند أهل السنة الكرام أن هذا ونظائره إذا ثبت نؤمن به دون البحث في كيفيته، إقرار وإمرار، لكنه كما قلنا لم يثبت مرفوعاً فلذلك نتوقف فيه لا نرده ولا نثبته ونقول بموجبه وأكثر ما يمكن قوله أنه مرسل له حكم الرفع، والمرسل ضعيف لا يحتج به في الأحكام العملية فكيف في أمور الاعتقاد؟ لذلك لا نعتقد بموجبه لأن هذا يحتاج إلى نص ثابت لأنه كما لا يجوز أن تنفي أمراً ثابتاً في العقيدة لا يجوز أن تعتقد ما لم يثبت، فنتوقف فيه ونبين أنه روي أي من جملة الأقوال المروية.
عدد من الأئمة ومن جملتهم الواحدي والرازي وأبو حيان وعدد من المفسرين قالوا، لو ثبت لكان مشكلاً فينبغي أن نطرحه – وأكثر من تبني رد هذا الإمام الواحدي قال: هذا التفسير باطل لا يصح، فالله يقول (عسى أن يبعثك) وهذا يفسر البعث بالقعود والجلوس، والبعث ضد الجلوس فكيف يفسر الشيء بضده؟! هذا الأمر الأول، أما الأمر الثاني: قوله (مقاماً محموداً) وهنا يقول مجلساً، والمقام ما يحصل فيه القيام.
وأنا أقول هذا الأثر لو ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام فيمكن الخروج من هذه الاعتراضات فنقول: (يبعثك) أي يظهرك في مقام محمود وليس المراد منه البعث الذي هو ضد الجلوس والقعود.
والمقام هنا ليس المراد منه أنه ضد الجلوس، بل المراد من المقام المنزلة والرتبة والشرف والفضيلة والفخر، وعلى هذا المعنى يحصل المقام للإنسان إذا جلس أو إذا قعد ولا فرق فليس المراد خصوص قيام أو خصوص قعود وجلوس، وهذا على تقدير ثبوته.
وكان أئمتنا يقولون: لمجاهد قولان غريبان، وأنا أقول ثلاثة أقوال، وهي:
1) هذا الذي ذكرناه: تفسيره للمقام المحمود.
2) قال في قوله تعالى (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) قال: تنتظر الثواب من ربها ولا يراه شيء من خلقه.(6/260)
وهذا الأمر ثابت بإسناد صحيح إلى مجاهد وهي زلة من زلاته وهفوة من هفواته فلترد ولتطرح، ولو نقلت عن صحابي – وحاشاهم رضوان الله عليهم – لطرحت لأجل الحديث المتواتر بأن المؤمنين يرون ربهم في جنات النعيم، يقول ابن كثير بعد نقله لأثر مجاهد هذا: هذا باطل، يقول ابن كثير في تفسيره: (ومن تأول ذلك بأن المراد بإلى مفرد آلاء وهي النعم..... فقد أبعد هذا الناظر النُّجْعَة وأبطل فيما ذهب إليه ... ) .
3- القول الثالث: ولم يذكره العلماء وأضيفه أنا وهو مردود على مجاهد، قال تعالى (فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين) قال مجاهد هذا مثلٌ ضربه الله لهم ولم تمسخ أبدانهم، أي أن المسخ حصل لقلوبهم فصاروا بمنزلة القردة وخستها لا أن أبدانهم مُسِخت حقيقة وهذا باطل قطعاً وجزماً.
ثلاثة أقوال: القول الأول نتوقف فيه، والقولان الآخران – الثاني والثالث – نردهما بلا بلا توقف وكل إنسان يؤخذ من قوله ويترك إلا المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن أخذ بشواذ العلماء ضلّ، ومن تتبع رخص العلماء اجتمع فيه الشر كله، ولذلك مفتي عمان أخذ هذا الأثر عن مجاهد وجعله مثل قميص عثمان، يلوح به في رسالته يقول قال مجاهد: "تنتظر الثواب من ربها ولا يراه شيء من خلقه" نقول له: مجاهد على العين والرأس ونبينا عليه الصلاة والسلام فوق العين والرأس وعندما يتعارض كلام مجاهد مع كلام النبي صلى الله عليه وسلم فبكلام من نأخذ؟!
طبعاً بكلام من لا ينطق عن الهوى، فنقول مجاهد أخطأ فكان ماذا؟ أما نبينا عليه الصلاة والسلام فهل يمكننا أن نقول إنه أخطأ؟!! فأنت يا مفتي بين أمرين إما أن تخطئ النبي صلى الله عليه وسلم وإما أن تخطئ مجاهد!!.(6/261)
فكيف رضيت أن تخطئ النبي صلى الله عليه وسلم واستصعب عليك أن تخطئ مجاهد، وإني لأعجب أعظم العجب لهذا المفتي جاء لأثر مجاهد وجعله هو العمدة في مسألة الرؤية، وأما الأحاديث المتواترة في الموضوع فأَعْرَضَ عنها صفحاً ولم يأخذ بها.
إخوتي الكرام ... للإمام الذهبي رحمه الله - وهو تلميذ ابن تيمية – كتاب اسمه (العلو للعلي الغفار) احرصوا على شرائه ففيه خير كثير والكتاب كله في مسألة واحدة وهي إثبات العلو لربنا العلي.
وقد تعرض فيه لأثر مجاهد في أربعة أماكن في (صـ 94) ، (صـ 99) ، (صـ 124) ، (صـ171) وسأقرأ لكم مكانين فقط من هذه الأمكنة وارجعوا إلى البقية:
أولاً:
في (صـ 94) قال: " [عن مجاهد: (عسى أن يبعثك ربك مقاماً) قال: يجلسه أو يقعده على العرش] لهذا القول طرق خمسة، وأخرجه ابن جرير في تفسيره وعمل فيه المروزي مصنفاً وسيأتي إيضاح ذلك بعد".
ثانيا:
في (صـ 124) قال: "قال المروزي سمعت أبا عبد الله الخفماف يقول: سمعت ابن مصعب وتلا: (عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً) قال نعم: يقعده على العرش".(6/262)
ذكر الإمام أحمد ابن مصعب فقال قد كتبت عنه وأي رجل هو! ، ثم قال الذهبي: فأما قضية قعود نبينا عليه الصلاة والسلام على العرش فلم يثبت في ذلك نص – كما قلتُ لكم ما ثبت مرفوعاً إلى نبينا عليه الصلاة والسلام – بل في الباب حديث واهٍ، وما فسَّرَ به مجاهد الآية كما ذكرنا فقد أنكره بعض أهل الكلام، فقام المرْوَزي وقعد وبالغ في الانتصار لذلك وجمع فيه كتاباً، وطرقُ قول مجاهد من رواية ليث بن أبي سليم، وعطاء بن السائب، وأبي يحيى القتات وجابر بن زيد، فمن أفتى في ذلك العصر بأن هذا الأثر يسلّم ولا يُعارض: أبو داود السجستاني صاحب السنن، وكان يقول: من رده فاتهمه – أي أنه من أهل البدع - , إبراهيمُ الحربي (وقع في طبعة المطبعة السلفية بالمدينة لهذا الكتاب الجربي – وهو خطأ) وخلقٌ بحيث أن ابن الإمام أحمد قال عقيب قول مجاهد: أنا منكر على كل ما رد هذا الحديث وهو عندي رجل سوءٌ متهم، سمعته عن جماعة وما رأيت محدثاً ينكره، وعندنا إنما تنكره الجهمية" ثم بدأ يسوق الأسانيد عن مجاهد في قوله السابق الذكر.
وهذه الشفاعة العظمى الثابتة لنبينا عليه الصلاة والسلام، وردت بها أحاديث كثيرة – كما قلت إنها متواترة – وذكرت حديث الشفاعة الطويل، ومن تلك الأحاديث المتواترة:
ما ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فإيما رجل أدركته الصلاة فليصل، وأعطيت الشفاعة، وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة] .
وقد امتازت رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام بأمرين:
أولهما: الختام فهي خاتمة الرسالات.
ثانيهما: العموم عامة لكل الناس وللجن أيضاً.(6/263)
والمقصود بالشفاعة الواردة في الحديث الشفاعة العظمى فهو الذي يشفع في أهل الموقف بعد أن يعتذر باقي الأنبياء عنها.
وثبت في صحيح مسلم وسنن الترمذي وأبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه أنه قال: [أنا سيد ولد آدم يوم القيامة] وفي رواية أبي داود بحذف: [يوم القيامة] ولا تعارض بينهما، فهو سيد مطلقاً في الدنيا وفي الآخرة، لكن متى تظهر السيادة؟ هنا في الدنيا يوجد من ينازعه، وأما هناك فلا يوجد أحد يستطيع أن يدعي أنه سيد، هذا كما قال تعالى: (مالك يوم الدين) وهو مالك الدين والدنيا، لكن هنا يوجد من ينازعه ويقول: لا إله والحياة مادة، و (إنما أوتيته على علم عندي) ، و (هذه الأنهار تجري من تحتي) وأنا ربكم الأعلى فيوجد من يقول هذا، وأما هناك في الآخرة فلا يوجد من يقول هذا كل واحد يقول (ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون) .
إذن سواء حذفت يوم القيامة أو ذكرت لا إشكال، لأنه إذا ذكرت فالسيادة تظهر في ذلك اليوم لعدم المنازع.
ثم قال [وأنا أول من تنشق عنه الأرض] فأول من يبعث هو نبينا عليه الصلاة والسلام.
ثم قال [وأنا أول شافع وأول مشفَّع] وليس بين اللفظين [شافع ومشفع] تكرار، فالشافع هو الذي يطلب الشفاعة لغيره والمشفَّع هو الذي تقبل شفاعته، فنبينا عليه الصلاة والسلام سابق بالأمرين لا يشفع أحد قبله ولا يشفَّع أحد قبله، لأنه لو لم يُشفَّع قبل غيره، فقد يشفع بعض الأنبياء إذن بعد، لكن يجابون قبله فيكون غيره أول مشفّع، فإنه لا يلزم من ثبوت الشفاعة حصول التشفيع فقد يشفع ويؤخر سنة.(6/264)
ولو قال صلى الله عليه وسلم: أنا أول شافع فقط (ربما توهم البعض أن نبينا عليه الصلاة والسلام يسبق في طلب الشفاعة لكن تؤخر إجابة نبينا عليه الصلاة والسلام، فدفعاً لهذا التوهم قال: كل من الأمرين سيحصلان لي على سبيل الأولية فأنا أول من يشفع وأول من يجاب في قبول الشفاعة، عليه الصلاة والسلام) .
وثبت في سنن الترمذي بسند حسن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه، أنه قال [أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا وأنا خطيبهم إذا وفدوا وأنا مبشرهم إذا أيسوا، ولواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر] .
إذن هو أول الناس خروجاً عندما يبعث الناس، وهو الذي يخطب الناس إذا وفدوا على الله عز وجل واجتمعوا وهو مبشرهم إذا أيسوا بطريق الشفاعة العظمى ...
س: بخصوص الدعاء الوارد بعد الأذان (اللهم رب هذه الدعوة التامة ... ) هل يعتبر هذا الدعاء شفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم؟ وإذا كان شفاعة فكيف تكون الشفاعة لخير البرية الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهو الذي نرجو منه أن يشفع لنا عند رب العزة سبحانه وتعالى؟
جـ: هذه الشفاعة منا لنبينا عليه الصلاة والسلام بأن يعطيه الله الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود إنما تحصل بعد إذن من الله، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بذلك فقال [سلوا الله لي الوسيلة] ثم أخبرنا بفضيلةٍ لهذا السؤال وهو أن من سأل الله لنبيه الوسيلة [حلت له الشفاعة] وحلت من الحلول والنزول لا من الحل ضد التحريم، أي نزلت عليه شفاعتي أي استحقها كان الله قال لنبيه عليه الصلاة والسلام: بشر أمتك بأن من سأل لك هذا ستشفع له يوم القيامة، فإذن هذه الشفاعة بإذن من الله عز وجل لنشفع لنبيه صلى الله عليه وسلم في أمر حاصل وثابت.
س: فإن قيل ما فائدة هذه الشفاعة إذن؟
الجواب: لأوضح لكم الجواب أضرب لكم مثالاً مشابهاً:(6/265)
ألم يقل الله سبحانه وتعالى (إن الله وملائكته يصلون على النبي) ؟ يصلون ولم يقل صلوا، وفعل المضارع يفيد التجدد والحدوث، فصلاة الله على نبيه لا تنقطع وصلاته عليه أن يثني عليه في الملأ الأعلى وأن يتحدث بذكره ومحامده (ورفعنا لك ذكرك) فلا يذكر الله إلا ويذكر معه نبيه عليه صلوات الله وسلامه، فماذا قال الله بعد ذلك؟ (يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) وصلاتنا على نبينا عليه صلوات الله وسلامه أن نقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وغيرها من الصيغ نحقق فيها الصلاة على نبينا عليه الصلاة والسلام.
إذن الله يصلي عليه ونحن نقول اللهم صلِّ فما فائدة هذا والصلاة من الله لا تنقطع؟ انتبه!! هذا مثل ما ورد في حديث الشفاعة [حلت له شفاعتي] وهنا فائدة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم [من صلى عليّ واحدة صلى الله عليه بها عشراً] فصلاة الله حاصلة لنبيه صلينا عليه أوْ لم نصل، لكن فائدة هذا تعود إلينا وذلك حتى ننتفع من هذه القربة، وفائدته لنعلم قدر نبينا عليه صلوات الله وسلامه وهذه فائدة عائدة لنا.
وفائدته لنتحدث بفضائله عليه الصلاة والسلام وفائدة هذا عائدة لنا، وأما هو - صلى الله عليه وسلم – فعالي القدر رفيع المنزلة، الله يصلي عليه وسيعطيه الوسيلة، سواء قلنا هذا أو لم نقل.(6/266)
وفائدته ليغرس نبينا عليه الصلاة والسلام في قلوبنا حبه، وليغرس في قلوبنا أمور الاعتقاد وأنه رسول الله وليغرس في قلوبنا أن الشفاعة ثابتة له، وهذا من أمور الاعتقاد، وليغرس فينا معاني الإيمان أمرنا بأن نقول هذا الدعاء، وإلا لو اجتمع أهل الأرض قاطبة على سب النبي صلى الله عليه وسلم هل ينقص ذلك من قدره؟! لا، فماذا سيفعل العباد له بعد قول الله تعالى (ورفعنا لك ذكرك) ، وماذا سيفعل العباد بعد قول نبينا عليه الصلاة والسلام [آتي باب الجنة] فأستفتح فيقول الخازن: من؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك] .
وكذلك ما فائدة ثناء العباد عليه صلى الله عليه وسلم وما مضرة ذمهم؟
إنما هذا عائد لهم، فنحن لا نسأل هذا لنبينا عليه الصلاة والسلام لكونه غير حاصل ليحصل بدعائنا له إنما هو حاصل ثابت، فإذا كان ثابتاً ليحصل لنا من رواء هذا الأجر والمغنم وغرس عقائد الإيمان في ذلك.
وقد كان أبو هريرة رضي الله عنه إذا رأى غلاماً صغيراً في المدينة يمسح على رأسه ويقول يا بني إن أدركت عيسى بن مريم فسلم عليه، فما مراد أبي هريرة من هذا؟
مراده أن يغرس في قلب هذا الغلام الإيمان بنزول عيسى عليه السلام، وإلا فإن أبا هريرة موقن أن هذا الغلام لن يدرك عيسى بن مريم عليه السلام، لكن هذه لابد من أن تُغرس في القلوب بأساليب مختلفة، تارة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أول شافع وأول مشفَّع،وتارة يقول [سلوا الله لي الوسيلة] فمن سألها لي [حلت له شفاعتي] ، إذن هذا ليحصل لنا الإيمان بالشفاعة لأنها من أمور الاعتقاد وليحصل لنا الأجر ولتتعلق قلوبنا بنبينا عليه الصلاة والسلام، ولا شيء يغرس الإيمان في القلوب كالتكرار.(6/267)
وهنا طلب الشفاعة من هذا الباب وهو كذكر الله وعبادته فالفائدة تعود لنا، وإلا من المستفيد من قولنا: لا إله إلا الله، سبحان الله، الله أكبر، نحن أم الله؟ نحن، فلسانك يتلذذ وقلبك يخشع وينتعش ونفسك تتنور، وتحصل على أجر بعد ذلك في الدنيا والآخرة وليس معنى أنه إذا ذكرنا الله وأثنيا عليه يرتفع قدره، وإذا كفرناه ينقص؟ حاشاه بل فائدة هذا تعود لنا كما قلنا، ولذلك يقول الله تبارك وتعالى فيما يرويه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: [يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً] .
وللتقريب أقول لكم ولله المثل الأعلى: لو دخلت أنت على مدير مثلاً فقلت له السلام عليك أيها المدير، ودخل آخر وقال السلام عليكم، فقط فإنك ستجد أن المدير يرحب بك ويكرمك أكثر من الآخر لأنك بكلمتك هذه أظهرت له أنك تعترف وتقر بأنه مدير وليس معنى ذلك أنك إن لم تقل له ذلك أنه فُصِل لكن لكلمتك اعتبار في الخاطر، إذن ففائدة هذه الكلمة تعود إليك ولا ينتفع منها المدير أبداً.
الحاصل أن فائدة سؤال المقام المحمود لنبينا عليه الصلاة والسلام عائدة لنا ونحن الذين سننتفع من وراء ذلك والله أعلم.
2- استفتاح باب الجنة:
وطلب الشفاعة بفتحها فلا تفتح أبواب الجنة حتى يشفع نبينا عليه الصلاة والسلام بفتحها فتفتح له.
وقد ثبت هذا في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم وهو أول حديث في الجامع الصغير – عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [آتي باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن من؟ فأقول: محمد، فيقول: بل أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك] .(6/268)
فالجنة لا يدخلها أحد ولا تفتح لأحد من متقدمين ومتأخرين حتى يشفع نبينا عليه الصلاة والسلام بفتح أبواب الجنة فيأتي ويستأذن ويطلب من الله الدخول، ثم يدخلها أهلها بعد أن يدخلها نبينا عليه الصلاة والسلام.
وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث أنس أيضاً عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه أنه قال: [أنا أول من يقرع باب الجنة] ، هذه هي الشفاعة الثانية من الشفاعات الخاصة بنبينا عليه الصلاة والسلام.
3- إدخال قوم الجنة بغير حساب:
فيشفع لهم إلى الكريم الوهاب فيدخلون الجنة بغير حساب، ولا ينشر لهم ديوان ولا ينصب لهم ميزان.
نسأل الله أن يمن علينا بالجنة إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين وأما أن تتعلق همتنا بأن نكون من هؤلاء، فوالله إننا لنستحي من ربنا أن يعلم منا أننا نتطلع إلى هذه المراتب، وكل واحد يعرف نفسه (بل الإنسان على نفسه بصيرة) ، فنسأل الله حسن الخاتمة.(6/269)
وقد ثبت هذا في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه قال: [عُرِضت عليّ الأمم] أي مثلت له وكيف ستعرض يوم القيامة [فرأيت النبي ومعه الرُّهَيْط] تصغير رهط وهي الجماعة دون العشرة [والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد، إذ رُفع لي سوادٌ عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فنظرت فإذا سوادٌ عظيم فقيل لي: هذه أمتك، ومنهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم نهض، فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يُشركوا بالله شيئاً، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما الذي تخوضون فيه؟ فأخبروه، فقال: هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون، فقام عكاشة بن مِحصَن فقال ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم، ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: سبقك بها عكاشة] هذه الرواية من مختصر صحيح مسلم.
ومحل الشاهد هو طلب عكاشة من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون منهم فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم [أنت منهم] ونبينا عليه صلوات الله وسلامه لا ينطق عن الهوى، فشفع إلى الله فأخبره الله أن عكاشة من هؤلاء.
وقد ورد في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [اللهم اجعله منهم] وورد في بعض الروايات أن عكاشة قال بعد أن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أوصاف السبعين ألف، قال: [أمنهم أنا يا رسول الله؟ قال نعم] .
إذن هنا شفع نبينا عليه الصلاة والسلام لعكاشة وسيشفع لهؤلاء بأن يدخلوا الجنة بغير حساب، هؤلاء لهم الأعمال الجليلة وهي:(6/270)
أولاً: (لا يكتوون) أي لا يسألون غيرهم أن يكويهم، والكي معروف وقد ثبت في صحيح البخاري عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [الشفاء في ثلاثة: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنهى أمتي عن الكي] .
والمراد بقوله [شرطة محجم] : أي الحجامة، فيشرط الجلد ويشق وبعد ذلك يمص الدم، فأما [وأنهى أمتي عن الكي] والسبب في ذلك أنه فيه ما يشبه تعذيب الناس في جهنم، فجهنم نار وعندما يكتوي الإنسان كأنه عذب نفسه بالنار، ثم إن هذا العلاج لم يتعين عليك فما أكثر العلاجات التي يعالج بها المخلوقات، فما الذي ألجأك إلى أن تكتوي بالنار، يضاف إلى هذا أن العلاج بالكي قد ينتج عنه أذىً، وقد اكتوى بعض الصحابة – وغالب ظني أنه سعد بن عبادة ولا أستحضر اسمه بالضبط الآن – لكن الأثر ثابت – اكتوى فمات من أثر الكي، وكان قد اكتوى في رقبته. فإذن أحياناً قد يكتوي الإنسان ويتضرر، وقد يصبح هناك تشويه للجسم والجلد، ولذلك [أنهى أمتي عن الكي] .
ثم إن أئمتنا قالوا: الكي دواء موهوم، وليس بمظنون، ولأمور ثلاثة:
1) مقطوع به وهو سبب لحصول المراد.
2) مظنون به وهو سبب – في الظن الغالب – لحصول المراد.
3) موهوم لا حقيقة فيه.
فأما الأمر الأول: المقطوع به فيجب عليك أن تأخذه مثل الغِذاء، فلو تركت الطعام حتى مت تدخل النار، ولو قال إنسان: أنا أتوكل على الله ولا آكل فمات فهو من أهل النار.
وأما الأمر الثاني: المظنون: وهو سائر أنواع العلاجات – غير الكي والرقية – إذا كانت غلبة الظن في الشفاء.(6/271)
ومعظم العلاجات التي تجري الآن في المستشفيات كلها من باب الظن لا من باب القطع الأخذ بها جائز وتركها أحسن وأفضل، وعدم التداوي عزيمة والتداوي رخصة، فمثلاً إذا أرادوا أن يجروا له عملية جراحية بأن قالوا له: في بطنك آفة لا تشفى منها إلا بعملية جراحية، فهذا مظنون، لأنه قد يفتح بطنه ويموت وقد يخطئ الطبيب في تشخيص الداء، وقد يخطئ في وصف الدواء وما شاكل هذا، فلو قال المريض: لا تفتحوا بطني، أموت على فراشي إذا جاءتني المنية ولا أريد العلاج لكان أفضل، ولو قال: افتحوه وأنا أتوكل على الله ومات فليس عليه إثم.
وأنا أعرف بعض إخواننا من الطلاب في كلية أصول الدين في أبها أصيب بالسرطان – نسأل الله العافية – وهو في سنة أولى أصول الدين، ودرسته الفصل الأول وأصيب في الفصل الثاني وسرى السرطان في كفيه ثم انتشر بعد ذلك إلى ذراعه فعرضوه على الأطباء فقالوا لابد من بَتْر يده من الكتف، لأن علامات السرطان بدأت تمشي وتنتشر، فجاءني إخوته فقالوا لي: ما رأيك؟ فقلت: رأيي أن لا تعالجوه بقطع يده، دعوه لقدر الله، فإذا قدر الله له أن يموت فكل نفس ذائقة الموت، وإذا شفاه الله بغير علاج فهو على كل شيء قدير، لكن من ناحية الجواز جائز قطعاً، إنما أقصد أن يده تقطع من الكتف ثم بعد ذلك النتيجة ليست محققة بل هي غلبة ظن لكن ثم رأي الأهل بعد مدارسات على بتر يده فقطعت وبعد شهر توفي رحمه الله، لأن السرطان انتشر في سائر جسده حيث كان انتشاره خفياً ولم يكشفه الأطباء.(6/272)
وأعرف آخر أيضاً – بعده – من إخواننا، انتشر السرطان في معدته وكبده – نسأل الله العافية – وقرر بعد ذلك إجراء عمليات فجلس الأطباء – كما يقال يلعبون به – وهم أطباء من أعلى التخصصات يعملون له عملية في أبها على يد أمهر طبيب هناك، ثم أجريت له عملية أخرى في الرياض في أحدث مستشفى هناك تقريباً وهو مستشفى فيصل التخصصي – وأجرى عمليات خارج السعودية، لكنه مات بعد ذلك بعد أن جئت إلى رأس الخيمة، وما نفعه أحد من هؤلاء الاختصاصيين، وعلمت بوفاته عن طريق الاتصال بأبها والسؤال عنه، عليهم جميعاً رحمة الله. وما أعطى الناس من اليقين والإيمان خيراً من الصحة.
إذن هذا مظنون إن أخذه لا حرج عليه وهو جائز، وإذا تركه جائز والترك أولى. وأنا أنصحكم ألا تلجأوا إلى عمليات، خصوصاً عمليات فتح البطن ولو استدعى بكم ذلك إلى الموت هذه نصيحة لا من باب أن هذا واجب، لأنه في الغالب عندما يفتح البطن تحصل مضاعفات اشد مما كانت ولا يعود الإنسان إلى طبيعته إذا فتح بطنه، بل تلازمه الآفات حتى يُلقى في الحفرة ميتاً، فاصبر على ما أنت عليه إذا قدر الله لك الحياة فالحمد له، وإذا قدر لك الموت فالموت لا يُخوِّف، وكل نفس ذائقة الموت، نسأل الله حسن الخاتمة.
وأما الأمر الثالث: الموهوم، وهو كالكلي فهو وهمي ليس بمظنون، فهو شيء من تضخيم الأمر وتوهمت أن الكي فيه علاج مع أنه توجد أدوية أخرى تنوب عنه ليس فيها مضرة الكي، ثم قد يوسع دائرة الضرر عليك عندما تتداوى به – كما ذكرنا.
ثانياً (لا يتطيرون) : أي لا يتشاءمون بالطيور والأسماء والألفاظ والبقاع ونحوها، فالتطير والتشاؤم موهوم فاتركه وابتعد عنه.
وقد ثبت في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً [الطيرة شرك الطيرة شرك] وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. (هذا الحديث من زياداتي) .(6/273)
ثالثاً: (لا يسترقون) : أي لا يطلبون الرقية، والرقية معروفة، وقد ورد في صحيح مسلم في رواية [ولا يرقون] ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "هذه الزيادة وهم من الراوي، لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم ولا يرقون".
والرواية التي معنا وهي في الصحيحين أيضاً: [لا يسترقون] والذي يظهر لي – والعلم عند الله – أن كلاً من الروايتين ثابت، والإمام ابن تيمية عليه رحمة الله واهم في رد تلك الرواية.
وهو يقول: لا يسترقون: أي لا يطلبون الرقية من غيرهم لأن هذا ينافي التوكل، أما أنه يرقي غيره فلا حرج لأن هذا من باب نفع الغير،
نقول والله أعلم – ما في الاسترقاء موجود في الإرقاء، فعندما يأتي غيرك ليرقيك ينبغي أن تمتنع إن كان هذا ينافي التوكل،وأنت لا ينبغي لك أن ترقيه إن كان هذا ينافي التوكل.
والأصل أن الرقى الشرعية جائزة، فما الحكمة من أن السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب لا يرقون ولا يسترقون مع أنها جائزة وحالها كحال العلاجات الأخرى؟
الذي يبدو لي – والعلم عند الله – وما رأيت من نبه على هذا من أئمتنا وقد رأيتهم يحومون حول الحديث فأقول:
أولاً: الذي يسترقي فهو وإن كان يطلب علاجاً شرعياً، لكنه قد يضع في قلبه – لا أقول شرك – أن هذا الإنسان له مزية ودعاءه له أثر، وهو عند الله معتبر فإذن كأنه صار فيه شيء من رجم الغيب، وكأنه صار فيه شيء من الاعتماد على الرقية وعلى الراقي، لذلك تحد أنك لا تأتي تطلب الرقية إلا من أناس معينين.(6/274)
ونحن نقول إنه يعتقد في الراقي أنه يشفي لا، لأنه لو فعل هذا لأشرك، بل نقول صار في توكله شائبة وهذا بخلاف ما لو وصف لك الطبيب دواءً حسياً فهنا لا أثر له على توكلك ولا تتعلق به نفسك، وتتناوله كما تتناول الطعام، وأما الرقية فليست شيئاً حسياً فإنه يقرأ الفاتحة مثلاً وسورة الفلق والناس وآية الكرسي ويدعو فيقول (اللهم رب الناس أذهب الباس اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك ... ) وينفث عليه، فقد يقع – بالتالي – في نفسك شيء من الأثر.
ثانيا: الراقي: فهو عندما يرقي أيضاً كأنه صار في نفسه شيء يقدح في توكله من حيث أنه يرى أنه صار له شيء من المزية والمكانة حتى صار يرقي، ولذلك نقول لا حرج في رقية نبينا عليه الصلاة والسلام لغيره لأنه مزيته ثابتة وهو خير خلق الله، وسيد ولد آدم وأما من عداه فهل يستطيع أن يجزم لنفسه بمزية؟ وهل يستطيع أن يقول: أنا رجل مبارك ودعائي له أثر؟!! لا يستطيع، وبالتالي من رَقَى فكأنما صار في نفسه هذا المعنى، والعلم عن الله.
ومما ينبغي أن نعلمه أن هؤلاء السبعين ألفاً ليسوا أفضل من غيرهم بإطلاق، فانتبهوا فإن المزية لا تقتضي الأفضلية، فقد يكتوي صديق ويحاسب وهو عند الله أعلى منزلة من هؤلاء فهذه ميزة لهؤلاء فقط أن يدخلوا الجنة بغير حساب، ولا يلزم أن تكون منزلتهم أعلى من غيرهم.
ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الوصف والأصل الجامع الذي تفرعت عنه هذه الأفعال والخصال فقال: [وعلى ربهم يتوكلون] .
وقد ورد أيضاً وصف آخر وقيد آخر، لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون، ووصف آخر يخرجون من البقيع، فهذه خاصة بمن يدفن في البقيع بالمدينة المنورة.(6/275)
ثبت هذا في رواية الطبراني من حديث أم قيس بنت محصن عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: [يحشر من هذه المقبرة – وأشار إلى البقيع سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب كأن وجوههم القمر ليلة البدر] إذن لهم شرطان: الأول: فعلهم فهم لا يسترقون ولا ولا والشرط الثاني: مكانهم: فهذا خاص بمن يتوفى بالمدينة ويدفن في البقيع.
وأما من عداهم فقد يحاسب ويكون أعلى درجة منهم، وقد ورد لهذا شاهد، فقد ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح ابن خزيمة وصحيح بن حبان – والحديث صحيح – عن رفاعة الجهني عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه أنه قال: [وعدني ربي أن يدخل من أمتي سبعين ألفاً الجنة بغير حساب، وأنا أرجو ألا يدخلوها حتى تتبوءوا أنتم ومن صلح من أزواجكم وذرياتكم مساكن في الجنة] .
إذن أنتم تدخلون قبلهم وتتبوءوا المنازل، لكن هم لهم خصوصية الدخول بغير حساب.
المحاضرة الثالثة والعشرون
تنبيه: لا يشفع النبي صلى الله عليه وسلم للسبعين ألفاً كلهم ليدخلوا الجنة بغير حساب، بل يشفع لبعضهم ليكونوا منهم ويدخلوها بغير حساب، والبعض الآخر يكونون منهم ويدخلوها بغير حساب السبب ما جرى منهم من أعمال وبفضل الله عليهم.
أي أن هذا النوع من الشفاعة – أي الثالث – لا يثبت لغير نبينا عليه الصلاة والسلام، فلا يوجد أحد يشفع لغيره في أن يدخل الجنة بغير حساب، ولم نورد حديث ابن عباس هنا لإثبات شفاعته صلى الله عليه وسلم للسبعين ألفاً بل لإثبات شفاعته لعكاشة ابن محصن، وكيف شفع له النبي صلى الله عليه وسلم فصار من هؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب.
فائدة:(6/276)
هؤلاء السبعون ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ورد عن نبينا عليه الصلاة والسلام ما يشير إلى أن مع كل ألف منهم سبعون ألفاً أيضاً، ورد الحديث بذلك في سنن الترمذي وابن ماجه ومعجم الطبراني الكبير وصحيح ابن حبان – والحديث صحيح – عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً بغير حساب ومع كل ألف سبعون ألفاً] .
فالسبعون ألفاً اقسمها على ألف يصبح معك سبعون، ثم اضرب السبعين هذه بسبعين ألف (أخرى غير الأولى) يصبح معك أربعة ملايين وتسعمائة ألف (4.900.000) يدخلون الجنة بغير حساب بفضل الله ورحمته.
وثبت في صحيح ابن حبان ومعجم الطبراني الكبير عن عتبة بن عبيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ثم يشفع كل ألف في سبعين ألفاً ثم يحثي ربي ثلاث حثيات] . ونسأل الله أن لا يبقى أحد من أمة نبينا عليه صلوات الله وسلامه إلا ويخرج بهذه الحثيات.
و (الحثية) ملء الكفين.
فيحثو ربنا ثلاث حثيات من هذه الأمة ويدخلهم الجنة بفضله ورحمته، [ثلاث حثيات] إقرار وإمرار، لا نبحث في كيفية هذه الحثيات.
المحاضرة الرابعة والعشرون
س: هل السبعون ألفاً الذين يدخلون الجنة مع كل ألف لابد أن تكون فيهم نفس الصفات المذكورة في السبعين ألفاً الأصليين؟
جـ: لهذا العدد الذي يدخل مع السبعين ألفاً هم يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب قطعاً كحال السبعين ألفاً المتقدمين، لكن هل يعملون بمثل عملهم أم لا؟ يحتمل الأمر الأمرين، ولم يرد ما يدل على واحد منهما عن نبينا عليه الصلاة والسلام:
أ) فيُحتمل أنه لابد من وجود هذه الصفات الخمس فيهم (لا يكتوون ولا يسترقون، ولا يرقون، ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون) .
فإن قيل: إذا وجدت فيهم هذه الصفات الخمس فلمَ لم يكونوا من السبعين ألفاً؟(6/277)
نقول: اعلم أن كل أمر له شروط لابد من وجودها، وموانع لابد من انتفائها لحصول ذلك الأمر، فهؤلاء السبعون ألفاً الآخرون قد توجد فيهم هذه الصفات كلها لكن لعله عندهم نقص في صفات أخرى، افرض مثلا ً– وكل بني آدم خطاء – أن عندهم نقصاً أحياناً في تأخير بعض الصلوات، فهم لم يحصّلوا جميع الشروط المطلوبة، إذن هذا الوصف – وهو دخول الجنة بغير حساب – لمن التزم بالأوامر والنواهي فعلاً وتركاً وحافظ بعد ذلك على هذه الصفات الخمس، إذ أنه عندنا شروط خاصة وشروط عامة، وشروط عامة هي الالتزام بكل مأمور وترك كل محظور، (انظر فتح الباري 11/410) .
ب) ويحتمل أن يكون هؤلاء السبعون ألفاً الآخرون ليس فيهم صفة من هذه الصفات الخمس أو فيهم تفريط في بعض الصفات، فتوكلهم ليس بالدرجة الكاملة التي يقوم بها الراسخون في التوكل فربما رقوا أو استرقوا أو صدر منهم أحياناً تطير، فيمكن أن يكون قد وجد فيهم شيء من هذا.
إذن لعله وجدت فيهم الصفات الخاصة كلها لكن تخلف فيهم بعض الصفات العامة ولعله وجدت فيهم الصفات العامة لكن الصفات الخاصة لم توجد بالكلية أو وجد بعضها، ولا يوجد دليل يوضح ذلك فالمسألة تحتمل الأمرين والعلم عند الله.
4- شفاعته صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب:
هذه هي آخر الشفاعات الخاصة لنبينا عليه الصلاة والسلام، وهي خاصة بعمه فقط، والسبب في ذلك أن أبا طالب مات على الكفر، والله أخبرنا عن الكفار – كما تقدم – أنه لا تنفهم شفاعة الشافعين (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) ، فالكافر إذن لا تنفعه شفاعة باستثناء أبي طالب.
والله سبحانه يقول في سورة البقرة (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون) أما هذه فخاصة فإنه يخفف عن أبي طالب، لكن لا يخرج من النار.
فإن قيل: كل كافر لا يخفف عنه فلماذا أبو طالب يخفف عنه؟(6/278)
نقول: شفاعة خاصة لنبينا عليه الصلاة والسلام بأبي طالب فتنفعه شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم مع أن الله قال (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) ، ويخفف عنه العذاب مع أنه أخبر عن الكفار أنه (لا يخفف عنهم العذاب) .
وهذا دل عليه أحادث النبي صلى الله عليه وسلم:
ففي الصحيحين وغيرها عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه أنه قال [أهون أهل النار عذاباً أبو طالب، يوضع في أخمص قدميه جمرتان من نار جهنم يغلي منهما دماغه، وإنه لأهون أهل النار عذاباً، ويرى نفسه أنه أشد أهل النار عذاباً]
(أَخْمص) على وزن أَحْمر، وهو الانخفاض الذي يكون في وسط القدم من الأسفل.
وقد ثبت في الصحيحين أيضاً وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه [أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم أرأيت عمك أبا طالب، كان يحوطك وينصرك فهل نفعه ذلك؟ فقال: نعم، كان في غمرات من نار، فأخذته] أي بشفاعته عليه الصلاة والسلام [فوضعته في ضحضاح من نار] ، وروي الحديث عن العباس رضي الله عنه أيضاً.
(كان في غمرات من نار) أي كان يخوض فيها وتغطي رأسه كأنه يسبح في نار جهنم.
(ضحضاح) أصل الضحضاح الماء القليل كالذي يخوض فيه الأولاد ولا يجاوز كعبيهم ولا يُخشى منه غرق ولا تلف.
فهذه شفاعة خاصة نؤمن بها ونثبتها لنبينا عليه الصلاة والسلام.
إذن هذه أربع شفاعات خاصة لا يشاركه فيها أحد من المخلوقات.
وأما الشفاعات العامة المشتركة بينه عليه الصلاة والسلام وبين غيره من الشافعين: من الملائكة المكرمين ورسل الله وأنبيائه المباركين والصالحين إلى يوم الدين.
1- شفاعة أهل الجنة في قراباتهم اللذين دخلوا الجنة، لكن منزلتهم دون منزلتهم:
فيشفعون لهم فيرفع الله درجة النازل إلي درجة العالي دون العكس، فلا ينزل العالي إلى درجة النازل، فالزوج يشفع لزوجته والزوجة لزوجها، والابن لأبيه والأب لابنه وهكذا بقية الأقرباء.(6/279)
ونبينا عليه الصلاة والسلام له أعلى درجة في الجنة فسيشفع لزوجاته قطعاً وجزماً، ليكنّ معه، وهل يتصور أن تكون أمهاتنا زوجات نبينا عليه الصلاة والسلام في مكان منفرد عنه؟!! وهنّ كما كن معه في الدنيا فهنّ معه في الآخرة.
لكن هل وصلن إلي ذلك بعملهن؟ أم بشفاعة خير خلق الله لهن؟
بل بشفاعته لهن صلى الله عليه وسلم.
لكن هل يلزم من هذا تفضيل أمهات المؤمنين على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وهم سيكونون دون أمهات المؤمنين في المنزلة قطعاً وجزماً؟
فمنزلة عائشة رضيَّ لله عنها فوق منزلة أبيها أبي بكر، لكن أباها أفضل منها وكيف هذا؟!
نقول: لا تعارض لأن المزية لا تقتضي الأفضلية، فهي أعلى منه في الدرجة ولم تستحقها أصالة إنما تبعاً لزوجها نبينا عليه الصلاة والسلام، ولا يشترط لوجودها في تلك الدرجة أن يحصل لها من النعيم والتجليات ما يحصل للنبي عليه الصلاة والسلام وما يغدق على النبي عليه الصلاة والسلام من نعيم وأعظمه التجلي لله ورؤيته لا يشترط أن يحدث لهن هذا.
وأبو بكر درجة أنزل من درجة أمهات المؤمنين لكن النعيم الذي يحصل له أكثر مما يحصل لهن، لأن كل واحد ينعم على حسب حاله – إن رفع – فهو في المنزلة مع صاحبه وقريبه لكن هذا ينعم بما لا ينعم به ذاك وكل واحد في شغل فاكهون.
وأضرب لكم مثلا ً حسياً لأقرب لكم هذا ولله المثل الأعلى، الأمير عنده من يصب القهوة والشاي وهذا يدخل عليه ويختلط به كثيراً بل هو في غالب الأحيان يجلس في مجلسه ويقابله وجهاً لوجه ويخالطه بكثرة، فهل هذا الخادم يشعر بالمكانة التي يشعر بها الأمير وله من المنزلة ما للأمير؟.(6/280)
وفي المقابل هناك آخر عند الأمير مثلاً وزير فهو بعيد عن الأمير وقد لا يلتقي به في الشهر إلا مرة، لكن له من المنزلة ما ليس للخادم، فالذي يصب القهوة حصلت له مزية على غيره من الناس بأنه يجتمع مع الأمير صباح مساء، لكن هل يقتضي هذا أنه أفضل من الوزير؟!! لا يقتضي هذا فالمزية لا تقتضي الأفضلية.
س: بالنسبة لمنزلة أبي بكر رضي الله عنه. نعلم أنه أفضل هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فهل يعني هذا أن منزلته يوم القيامة أعلى من الأنبياء والرسل أومن بعضهم، لأنه هو الذي يليه؟!
ج: نقول إن منزلة كل نبي أعلى من غيره مهما علا شأنه وفضله فمنزلة أدني الأنبياء منزلة أعلى من رتبة أعلى الصديقين وأفضلهم، فرتبة أبي بكر الصديق بعد نبينا عليه الصلاة والسلام في هذه الدنيا فقط، ونحن نقول هذا لأجل إثبات فضيلته ومنزلته في هذه الأمة، لا في الأمم، فمنزلة الجنة موضوع آخر، نبينا عليه الصلاة والسلام ثم خليل الرحمن ثم بقية أولو العزم من الأنبياء على ترتيبهم ثم يأتي بعد ذلك أعظم الصديقين من الأولين والآخرين أبو بكر.
س: ما المانع من أن يشفع الرسول صلى الله عليه وسلم لصاحبه حتى يكون معه في نفس المنزلة؟
جـ: لا يمكن هذا، لأن درجة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة لا يشاركه فيها أحد غيره، ودونه الأنبياء والمرسلين عليهم السلام ولا يمكن لصديق أن تكون درجته أعلى من درجة نبي، فهي درجة عالية وكلهم يأخذون قربهم من ربهم على حسب درجاتهم وأعمالهم، فدرجة نبينا عليه الصلاة والسلام أعلى الدرجات تليه درجة خليل الرحمن ثم بقية الرسل أولي العزم المكملون للخمسة نوح وموسى وعيسى عليهم السلام وبعد ذلك الرسل علي حسب ترتيبهم كما ذكرنا لكن مع كل رسول أهله ولابد، تبعاً لا أصالة.(6/281)
وأما إذا أردت أن تسحب هذا الآن فالنبي صلى الله عليه وسلم يشفع لأبي بكر وأبو بكر يشفع لأسرته وبالتالي صاروا كلهم فوق منزلة أنبياء الله ورسله، هذا لا يحصل فذاك له مقام وهذا له مقام والعلم عند ربنا الرحمن.
وقد ألف ابن حزم كتاباً سماه (المفاضلة بين الصحابة) وجزم في كتابه بأن أمهات المؤمنين أفضل هذه الأمة بعد نبينا عليه الصلاة والسلام.
فقال: خديجة وعائشة وسائر أزواج نبينا عليه الصلاة والسلام أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي فقيل له من أين لك هذا؟
فقال: نحن نعلم ضرورة أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم معه في الجنة، ونعلم ضرورة أن منزلة النبي صلى الله عليه وسلم أعلى من منزلة أبي بكر فمن دونه، فيلزم من هذا أن تكون منزلة زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ورتبتهم أعلى من منزلة أبي بكر ورتبته.
فقال له أهل السنة كلاماً قطعوه به وأبطلوا قوله قالوا: يلزم من قولك أن تكون أم رمان وهي زوجة أبي بكر أفضل من عمر؟
قال: لا. قالوا له بطل قولك.
إذن زوجاته معه صلى الله عليه وسلم، لكن لا يلزم من هذا أنهن أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. وقد اتفق أهل الحق على تفضيل الشيخين بعد نبينا عليه الصلاة والسلام بلا خلاف عند أهل السنة فخير هذه الأمة بعد نبينا عليه الصلاة والسلام أبو بكر ثم عمر، واختلفوا في عثمان وعلي، والمعتمد عند جمهور المحدثين: ثم عثمان رضي الله عنه ثم علي رضي الله عنه.(6/282)
فهن لهن هذه المزية ولهن أيضاً مزية أخرى حيث امتزن بخلطة النبي صلى الله عليه وسلم، وصحبته بما لم يحصل هذا لأبي بكر، ونقصد العشرة التي حصلت بين نبينا عليه الصلاة والسلام وبين عائشة لم تحصل هذه لأبي بكر ولا لعمر، فهي عشرة خاصة تطلع فيها هذه المرأة على نبينا عليه الصلاة والسلام، فهذه مزية تذكر لها وتعرف بها، لكن لا يقتضي أنها أفضل من أبي بكر رضي الله عنه، ولو جمعت الفضائل والمزايا والخصوصيات التي في أبي بكر، والفضائل والمزايا التي في أمنا عائشة أو في غيرها، لوجدت أن أبا بكر يفوق على غيره ممن له مزايا، وأنه يفوق غيره من الصحابة والصديقين.
وابن حزم – رحمه الله – هو صاحب شذوذ كثير مع علم كبير فلنطرح شذوذه الذي يخالف فيه أهل السنة ولنأخذ بعلمه فيما عدا ذلك.
وكان أئمتنا يقولون: "هو كالبحر يقذف بالدرر، ويرمي بالجيف" فالجيف اتركها واطرحها وخذ الدرر منه، ومن جملة ما شذ فيه وخالف فيه إجماع العلماء واتفاقهم، إباحته للمعازف والمزامير، ويطعن في حديث البخاري في ذلك [ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف] , ويقول هذا الحديث ضعيف لأنه معلق، وذلك أن البخاري لما رواه قال: قال هشام بن عمار ولم يقل حدثنا، وهشام بن عمار من شيوخ البخاري عليهم جميعاً رحمة الله، وإذا روى التلميذ عن شيخه بـ (قال) أو بـ (عن) أو بـ (سمعت) ونحوها فهذه الصيغ كلها تحمل على السماع إن لم يكن التلميذ مدلساً، والبخاري ليس بمدلس قطعاً وجزماً، وقوله قال هشام كقوله سمعت هشام.
واجزم على التحريم أي جزم ... والحزم ألا نتبع ابن حزم
ويقول الإمام العراقي:
وإن يكن أول الإسناد حذف ... مع صيغة الجزم فتعليقاً عرف
ولو إلى آخره، أما الذي ... لشيخه عزا بقال فكذي
عنعنه، كخبر المعازف ... لا تصغ لابن حزم المخالِف
س: المرأة إذا تزوجها أكثر من واحد لمن تكون؟
ج: لعلمائنا ثلاثة أقوال وردت فيها والمعتمد منها آخرها:(6/283)
فقيل: تكون للزوج الأول.
وقيل: تكون للزوج الأخير.
وقيل – وهو المعتمد – كما في المسند وغيره والحديث في درجة القبول – وأمنا أم سلمة رضي الله عنها تسأل عن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [تكون لأحسنهم خلقاً، ذهب حسن الخلق بخيري الدنيا والآخرة] فتخير يوم القيامة بين من تزوجها لتختار من كان يُحسن عشرتها.
إذن الشفاعة الأولى شفاعة أهل الجنة لقراباتهم، وقد ورد في كتاب الله ما يشير إلى هذا قال جل وعلا في سورة الطور (والذين آمنوا واتبعهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء) .
(ما ألتناهم) أي ما أنقصناهم فنلحق النازل بدرجة العالي دون العكس.
وثبت في مستدرك الحاكم (2/468) بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنه قال: [إن الله يرفع ذرية المؤمن معه في الجنة، وإن كانوا دونه في العمل، ثم قرأ (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان.....) الآية] والأثر موقوف على ابن عباس وله حكم الرفع لأنه يتعلق بمغيب ولا يمكن للعقل أن يستنبط هذا.
وقد ورد هذا في مسند البزار مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن عباس أيضاً، انظر مجمع الزوائد (7/114) وزاد بعد قوله في العمل [لتقرّ بهم عينه] ، وهو صحيح أيضاً.
وورد في معجم الطبراني الكبير والصغير تفسير ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده، فيقال إنهم لم يبلغوا درجتك، فيقول: يا رب، عملت لي ولهم، فيؤمر بإلحاقهم به، ثم قرأ: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان.....) الآية] ، وهذا الأثر ضعيف، لأنه من رواية محمد بن عبد الرحمن بن غزوان وهو ضعيف، لكن يشهد له الأثران المتقدمان.
وهذا التفسير هو أحد تفسيرين في الآية المتقدمة، على أن المراد من الذرية هنا: الأهل الكبار، وقيل - وهو التفسير الثاني – المراد من الذرية الأولاد الصغار.(6/284)
وقد ثبت في مسند الإمام أحمد بسند حسن عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه أنه قال [إن المؤمنين وأولادهم في الجنة، ثم تلا (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان.....) ] وهذه هي الآية الثانية التي تدل على أن أولاد المؤمنين في الجنة وتقدمت معنا الآية الأولى ص225 وهي (كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين) .
ويقول الحافظ بن حجر عن الحديث الذي في مسند الإمام أحمد المتقدم وهذا خير ما فُسِّرت به الآية، والإمام الشافعي مال إلى أن أولاد المؤمنين في الجنة ورجحه في أحكام القرآن، وعدد من الأئمة واستدلوا بهذه الآية على أن أولاد المؤمنين الصغار في الجنة.
ونحن نقول: الأمران، فالأولاد مع أبويهم إذا لم يبلغوا التكليف، والذرية تكون مع آبائهم إذا كانوا كباراً أيضاً إذا لم يؤهلهم عملهم لارتفاع درجتهم إلى درجة الأبوين، أو العكس، فقد يكون الأولاد في درجة أعلى من الآباء، فيرفع الله الآباء إلى درجة الأبناء، وهكذا الزوجين، ليكتمل السرور والأنس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم [لتقرَّ بهم عينه] ، والعلم عند الله.
2- الشفاعة في قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم بدخول الجنة:
من رجحت حسناته على سيئاته: يدخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته: يدخل الجنة حتى يطهّر ويعذب ما لم تكن السيئة شركاً فلا ينفعه شيء من حسناته حينئذ بل يخلد في النار (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) ، من استوت حسناته وسيئاته: المعتمد أنه يحبس على الأعراف، وهو سور بين الجنة والنار.(6/285)
قال الإمام ابن كثير في تفسيره: "اختلفت عبارات المفسرين من السلف والخلف في بيان المراد بأهل الأعراف، وكلها قريبة ترجع إلى معنىً واحد، وهم من استوت حسناتهم وسيئاتهم، فما عندهم ما يدخلهم الجنة وما عندهم ما يدخلهم النار ويرجح إحدى الدارين في حقهم، فيسجرون على الأعراف، ثبت معنى هذا عن ابن عباس وابن مسعود وعن غير واحد من السلف"، وهذا القول هو الراجح المعتمد من اثني عشر قولاً قيلت في بيان المراد بأهل الأعراف.
فيحبسون على سور بين الجنة والنار – كما ذكرنا – وفي نهاية الأمر سيدخلون الجنة بفضل الله ورحمته ثم بتشفيع الله للصالحين من عباده فيهم فيشفعون لهم ويدخلون.
وقد أشار الله جل وعلا إلى أنهم سيدخلون الجنة في كتابه إشارةً لطيفة ظريفة فقال جل وعلا (وعلى الأعراف رجال يعرفون كلاً بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون) هذا هو الشاهد (لم يدخلوها وهم يطمعون) .
قال أئمتنا: ما أطمعهم الله في دخولها إلا وهو يريد أن يدخلهم، ومعنى الآية أي جعل في قلبهم هذا الطمع وهذا الرجاء وسيحقق الله لهم ذلك، ثم قال تعالى (وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين) فهنا دعوا الله ألا يجعلهم مع هذا الصنف، أما إذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب الجنة يتمنون ويطمعون أن يكونوا فيها مع أهلها.
خلاصة الكلام: أهل الأعراف هم من استوت حسناتهم وسيئاتهم يشفع لهم النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من أنبياء الله ورسله والصالحين من عباده.
3- الشفاعة لقوم من العصاة قد استوجبوا دخول النار لرجحان سيئاتهم على حسناتهم ألا يدخلوها:
فيشفع لهم النبي صلى الله عليه وسلم أو الصالحون من عباد الله بعد إذن الله لهم ورضاه عن المشفوع فيه، فيشفع الله الشافعين ويمنع هذا الإنسان من دخول نار الجحيم.(6/286)
دليل هذا: ما رواه الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه وابن ماجه في سننه أيضاً وأبو داود والدارمي – والحديث قال عنه الترمذي غريب، وغرائب الترمذي لا تسلم من مقال فهي ضعيفة عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [لقارئ القرآن إذا أحل حلاله وحرم حرامه أن يشفع في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت لهم النار] ، وورد عن علي أيضاً بلفظ آخر مرفوعاً [من قرأ القرآن وحفظه أدخله الله الجنة وشفعه في عشرة من أهل بيته كلهم قد استوجب النار] ، وهو ضعيف أيضاً.
والحديث ورد له شاهد يقويه، رواه الطبراني في الأوسط انظر مجمع الزوائد (7/162) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما – وهو ضعيف أيضاً فيه جعفر بن الحارث وهو ضعيف لكن يتقوى الضعيفان ببعضهما ولا ينزل هذا الحديث عن درجة القبول إن شاء الله – عن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: [لقارئ القرآن إذا أحل حلاله وحرم حرامه أن يشفع في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت له النار] .
فإذ قرأ القرآن ثم أتى بشيء آخر حتى لا يكون من القراء الفسقة فأحل حلاله أي فعل الحلال معتقداً حله، وحرّم حرامه أي ترك الحرام معتقداً تحريمه، فهذا له جزاء عظيم عند الله يدخله الجنة ثم يشفعه في عشرة من أهل بيته وقرابته ممن استوجب دخول النار لرجحان سيئاته على حسناته فيشفع لعشرة منهم فيدخلون الجنة، والحديث كما قلت لا ينزل عن درجة القبول لأنه لا يوجد في رواتهما أحد كذاب أو متروك أو منكر الحديث، بل في رواتهما ضعف دون ذلك والضعف اليسير يزول بتعدد طرق الحديث، والعلم عند الله.
المحاضرة الخامسة والعشرون
4- الشفاعة فيمن دخل النار بالخروج منها:
من دخل النار استحق أن يمكث فيها فترة طويلة فيشفع له الشافعون فيخرجه الله منها قبل أن تتم مدة عذابه.(6/287)
دليل هذا ما ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي] والحديث صحيح بل هو مستفيض ودرجة الاستفاضة دون المتواتر وفوق المشهور.
الحديث:
1) ثبت عن أنس بن مالك رضي الله عنه في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وأبي داود وصحيح ابن خزيمة ومستدرك الحاكم.
2) وثبت أيضاً من رواية جابر بن عبد الله في سنن الترمذي وابن ماجه وابن خزيمة في كتاب التوحيد ومستدرك الحاكم.
3) وثبت أيضاً عن ابن عمر رضي الله عنه في مسند أبي يعلى والسنن الكبرى للبهيقي لابن أبي عاصم ومسند البزار.
4) وروي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أيضاً.
5) وعن كعب بن عجرة.
6) وعن عوف بن مالك رضي الله عنهم أجمعين.
وهذه الشفاعة شاملة لمن استوجب دخول النار ألا يدخلها، ولمن دخلها أن يخرج منها، فهي إذن شاملة للنوع الثالث والنوع الرابع. وستأتينا أحاديث تنص على إخراج أهل الكبائر من النار. إذن هذه أربع شفاعات عامة مشتركة.
فائدة:
خالف أهل البدع من المعتزلة والخوارج في مبحث الشفاعة وكان خلافهم في بعض أنواع الشفاعات المتقدمة، أما الشفاعات الخاصة فلا خلاف فيها، وأما الشفاعات العامة ففيها شفاعة واحدة لا خلاف فيها وهي الشفاعة الأولي بأن أهل الجنة يشفعون لذريتهم.
فبقيت ثلاث شفاعات خالف فيها المعتزلة والخوارج وهي:
1- الشفاعة فيمن استوت حسناته وسيئاته.
2- ومن استوجب دخول النار.
3- ومن دخلها.
فقال الخوارج والمعتزلة: من لقي الله بكبيرة، لم يتب عنها فيجب على الله أن يعذبه ولا يجوز أن يغفر له، وإذا عذبه فهو مخلد في نار جهنم لا يخرج منها.
أما الخوارج فقالوا: إن فاعل الكبيرة كافر وبالتالي فهو مخلد في النار.
وأما المعتزلة فقالوا: إن فاعل الكبيرة في منزلة بين منزلتين، أي ليس بمؤمن ولا كافر لكن مخلد في نار جهنم.(6/288)
إذن الحكم الأخروي متفقون عليه وهو الخلود في نار جهنم، لكن الحكم الدنيوي اختلفوا فيه، فأولئك تجاسروا على إطلاق الكفر عليه وأما هؤلاء فتهيبوا من إطلاق الكفر عليه فقالوا في منزلة بين منزلتين وهذا القول الذي قرره الخوارج والمعتزلة باطلٌ لأربعة أمور:
1) تواترت الأحاديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام بخروج عصاة الموحدين من نار جهنم بعد أن يعذبوا فيها فترة من الزمان.
ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: [يدخل أهل الجنةِ الجنةَ وأهل النارِ النارَ ثم يقول الله: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان] .
وثبت في صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه بُرَّة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذَرَّة من خير] .
(بُرَّة) البرة هي حبة القمح والحنطة وهي تكون أخف وزناً من حبة الشعير، لأن قشرة الشعير غليظة وسميكة فلها وزن بخلاف قشرة الحنطة، يضاف إلى هذا أن حبة الشعير أطول من حبة الحنطة، وورد بدل لفظ (خير) في الألفاظ لفظ (إيمان) .
وصحّف أبو بِسطام شعبة بن حجاج أمير المؤمنين في الحديث، صحّف اللفظ الثالث (ذرَّة) إلى (ذ ُرَة) أي حبة الذرة فقد اشتبه عليه الأمر رحمه الله لما وردت حبة الشعير وحبة القمح فظن أن الذرّة هي الذ ُرَة لأن رسم كتابتها واحد، والتشكيل هو الذي يختلف وإذا أخطأ المحدث خطأً يسيراً فلا يضره هذا ولا ينزله عن أعلى درجات الحفظ، ولا يعصم أحداً من خطأ، رحمه الله.(6/289)
و (الذرَّة هي أقل شيء يوزن، هذا قول، وقيل: هي الهباء الذي يخرج ويتطاير عندما تسطع أشعة الشمس، وخصوصاً إذا سطعت الشمس داخل حجرة فإنه يُرى بشكل واضح) . وقال ابن عباس هي أن تضع يدك على التراب ثم تنفخها فالذي يتطاير من يدك من ترابٍ هو الذرات. وقيل: وهو القول الرابع – المراد من الذرّة النملة الصغيرة، وهي دون البرّة في الوزن.
إذن من قال لا إله إلا الله وعمل من الكبائر ما عمل وعنده وزن شعيرة من خير، برة من خير ذَرَّة من خير فيخرج من النار إلى الجنة.
وثبت في مسند الإمام أحمد ومسند أبي يعلى – انظر المجمع (10/384) عن أنس رضي الله عنه – والحديث فيه ضعف يسير وله شواهد كثيرة تجبره إن شاء الله وتقويه – عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [إن عبداً لينادي في النار ألف سنة يا حنان يا منان] أي ألطف بي ومنّ عليّ بالخروج من هذه الدار الخبيثة [فيقول الله لجبريل عليه السلام: اذهب فأتني بعبدي هذا، فينطلق جبريل فيجد أهل النار منكبين يبكون، فيرجع إلى ربه فيخبره] أنه نظر في أهل النار فلم يميزه عن غيره ولم يعرفه [فيقول الله جل وعلا: ائتني به فإنه في مكان كذا وكذا، فيجيء به، فيوقفه على ربه عز وجل، فيقول: يا عبدي كيف وجدت مكانك ومقيلك] أي المكان الذي استقررت فيه وتنام فيه [فيقول: يا رب شر مكان وشر مقيل، فيقول: ردوا عبدي فيقول: يا رب ما كنت أرجو إذا أخرجتني أن تعيدني فيها، فيقول: دعوا عبدي] .
الشاهد من هذا كله: أنه تواترت الأحاديث بخروج أناس من النار، وقد تواترت أحاديث كثيرة أن ذلك الخروج يكون أيضاً بشفاعة الشافعين، كما يكون برحمة رب العالمين، ومن تلك الأحاديث:(6/290)
ما ثبت في صحيح البخاري وسنن أبي داود والترمذي عن عمران بن حصين رضي الله عنه عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [يخرج قوم من النار بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فيدخلون الجنة، يسمون الجهنميين] أي: نسبة إلى الدار التي كانوا فيها وهي جهنم، ويسمون الجهنميين في البداية عندما يدخلون فيقال هؤلاء الجهنميين ثم بعد ذلك يصب عليهم أهل الجنة من ماء الجنة فيذهب عنهم القَتَر والسواد ويصبحون كأهل الجنة في النعيم والبهجة والسرور.
وثبت في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يخرج قوم من النار بالشفاعة كأنهم الثغارير] وضبط بالعين المعملة: الثعارير [فقيل وما الثعارير؟ فقال: الضغابيس] وهي صغار القثاء، وهي التي تشبه الخيار لكن تكون معكوفة في الغالب وملتوية، وهي من أنواع الخضار ومن فصيلة الخيار، وتسمى قتة في بلاد الشام، وتسمى في الإمارات فقّوس.
أي يخرجون من النار وفيهم هذا الذل، وهذا الامتهان وهذا الاحتراق بحيث أن أبدانهم صارت بهذا الحجم من ضمورها وهزالها، فذهبت صحتهم حتى صار الواحد منهم كأنه صغار القثاء، ثم يخرجون من النار بالشفاعة كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول مفتي عمان في كتاب الحق الدامغ صـ 191:
"وعقيدتنا معشر الأباضية أن كل من دخل النار من عصاة الموحدين والمشركين مخلدون فيها إلى غير أمد" قلت: هل يستقيم هذا في رحمة أرحم الراحمين أن يجعل المؤمن الموحد الذي له حسنات أكثر من الجبال عدداً ووزناً كأبي جهل، كيف سيسوي الله من وحده بمن جحده وألحده؟!!.
ثم يقول: "كما أن من دخل الجنة من عباد الله الأبرار لا يخرجون منها"!! ما هذا المقياس مع الفارق الكبير فأولئك دخلوا الجنة ولا يخرجون منها، وأما هؤلاء فعلى حسب أعمالهم فيدخلوا النار من أجل أن يطهروا وينقوا من الذنوب.(6/291)
ثم يقول: "إذ الداران دار خلود"!!! نحن لا نقول إن النار تفنى، بل هي دار خلود لكن في حق من يخلد فيها، لكن هذا هو التلاعب بالحقائق!!.
يقول: "ووافقنا على ذلك المعتزلة والخوارج على اختلاف طوائفهم"، أي وافقهم في أن من دخل النار لا يخرج منها، سبحان الله!! هلا كان من وافقك هم أهل السنة والجماعة!!!
ثم يقول: "وإنما خالفنا الخوارج من حيث إنهم يحكمون على كل معصية تؤدي إلى العذاب بالشرك المخرج من الملة، فخالفوا بذلك نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة"!!! وأنت ماذا خالفت يا مفتي!!.
نحن الآن في موضوع خروج عصاة الموحدين من النار في هذا المبحث المختصر ذكرنا (5) أحاديث فقط وقلنا الأحاديث متواترة، فكيف تخالف هذا؟!!!
وإذا كان الخوارج قد حكموا على فاعل الكبيرة بالكفر والله إنهم لأعقل منك عندما حكمت عليه بالإيمان وقلت إنه مخلد في النيران، ولذلك هم يقولون: إن تخليد العصاة في النار هذا دليل على أنهم كافرون، فإذن هم يقولون بكفرهم وخلودهم، فكلامهم مستقيم مع بعضه وإن كان ضلالاً وباطلاً، وأما كلامك يا مفتي ففيه سفاهة من وجهين:
أولا: إن كلامك باطل من ناحية الشرع.
ثانيا: أنه يناقض بعضه بعضاً
فإنك تقول هو مؤمن وهو مخلد في النار، كيف هذا؟!! ولا يخلد في النار إلا الكفار.
ثم إنك خالفت الخوارج في هذه الجزئية لكنك وافقت المعتزلة، حيث يقولون: لا نكفره لكن نحكم عليه بالخلود في النار، إخوتي الكرام ... هذا قول باطل فاحذروه.
إذن تواترت الأحاديث بخروج أقوام من النار بالشفاعة بعد دخولها.
2- تواترت الأحاديث أيضاً بأن من لقي الله على التوحيد وقال لا إله إلا الله محمد رسول الله عليه صلوات الله وسلامه في هذه الحياة ثم مات مآله إلى الجنة، إذا لم يأت بما ينقص إيمانه من مُكَفِّر أو ردة.(6/292)
أما المعاصي فلا تعتبر كفراً ولا ردة، لأنها لو كانت كذلك لما رتب الشارع عليها حدوداً مقدرة، فالزاني مثلاً يجلد ولو كان الزنا كفراً لقال الشارع: اقتلوه.
وقد أجمع الصحابة على أن مخالف المأمور أو مرتكب المحظور ليس بكافر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: [لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، المفارق لدينه التارك للجماعة] والحديث في الصحيحين، إذن فكيف نستحل دم إنسان مسلم إذا لم يفعل أحد هذه الأمور الثلاثة؟!! فإذا شرب الخمر لا يستحل دمه، ولو استحل دم من زنى وهو ثيب أومن قتل نفساً أخرى فلا يموت على الكفر، إنما إذا استُحل دم من ارتد فهذا الذي يموت كافراً مخلداً في نار جهنم.(6/293)
من تلك الأحاديث ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال أبو ذر: وإن زنى، وإن سرق؟ ، فقال وإن زنى وإن سرق، فأعاد أبو ذر وإن زنى وإن سرق؟ فأعاد النبي صلى الله عليه وسلم الجواب وإن زنى وإن سرق فأعاد أبو ذر السؤال ثالثة] يستبعد هذا ويستغرب منه غاية الغرابة، يدخل الجنة وهو مقصر في حق الله معتدٍ على حقوق العباد، وذكر السرقة والزنا للإشارة إلى حق الله وحق عباده ويدخل في هذا سائر الحقوق، فتعديه على حق الله عندما يزني، وتعديه على حق العباد عندما يسرق منهم [فقال النبي صلى الله عليه وسلم في الثالثة: وإن زنى وإن سرق، فأعاد أبو ذر السؤال رابعة، فقال: وإن زنى وإن سرق على رغم أنفك يا أبا ذر] فلا داعي لإعادة السؤال مرة خامسة، لأن التكرار ثلاث مرات، وفي الرابعة تستحق هذا الجواب حسماً للسؤال، [فكان أبو ذر رضي الله عنه إذا حدث بالحديث يقول من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق على رغم أنفي] يعني أنا ضاقت نفسي من هذا ولم أسترح إليه لكن على رغم أنفي سيدخل الجنة وهذا هو حكم الله وهذا هو تبليغ رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام النووي عليه رحمة الله في شرحه هذا الحديث في صحيح مسلم (1/217) : "أفاد حديث أبي ذر فائدتين:
الفائدة الأولي: أن عصاة الموحدين لا يقطع لهم بنار الجحيم.
الفائدة الثانية: لو عذبهم الله فمآلهم إلى الجنة".
وإنما لا يقطع لهم بنار الجحيم لأنه ورد في الحديث [من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ... وتقدم، وهذا الدخول قد يكون سابقاً وقد يكون لاحقاً، فإذا غفر الله له دخل مع السابقين، وإذا عذبه لحقهم بعد حين، فلابد من الدخول ولن يخلد في نار جهنم.(6/294)
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (3/111) : "يدل الحديث على أن من فعل الكبيرة لا يخلد في النار" وهذه فائدة كالتي ذكرها الإمام النووي لكنه ذكر فائدة ثالثة: "ويدل على أن فاعل الكبيرة لا يُسلب عنه اسم الإيمان" أي فاعل الكبيرة مؤمن ولا يخرج عن الإيمان بفعلها المجرد فهو مؤمن بإيمانه فاسق بعصيانه.
3- أنتم تقولون من لقي الله بكبيرة فهو مخلد في نار جهنم ولن تنفعه أعماله الصالحة أي بطل ثوابها وحبطت، وهذا منكر عظيم لا يستقيم في عدل ورحمة أرحم الراحمين.
فكيف تضيع الحسنات أمثال الجبال بسيئة من السيئات، والله جل وعلا لم يجعل شيئا من الأعمال المنكرة محبطاً للأعمال الصالحة إلا شيئاً واحداً هو الشرك، وبشرط الموت عليه، فمن كان مؤمناً وعمل الصالحات ثم ارتد حبط عمله، فإذا آمن رجع إليه ثواب عمله الصالح،ولذلك لو حج ثم ارتد ثم آمن لم يجب عليه أن يعيد الحج مرة أخرى.
فلا يحبط العمل إلا بالكفر والموت عليه، الله قرر هذا في كتابه فقال جل وعلا في سورة البقرة آية (217) : (ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) .(6/295)
فإذن من لقي الله بمعصية من المعاصي لا نقول إنه صديق، وكذلك لا نقول إنه كافر عنيد بل نقول مؤمن عاص ٍ، إن غفر الله له فرحمته واسعة، وإن عذبه فبِعَدْلِه، ولن يخلده في نار جهنم إذ كيف سيسوي الله هذا مع الكافر الذي لم يسجد لله سجدة واحدة؟! إن التسوية بين المؤمنين والكافرين هذا مما لا يستقيم في عدل ورحمة أرحم الراحمين يقول الله تعالى: (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) ، فإن قيل: فاعل الكبيرة ليس بمتقٍ؟ ، فنقول: التقوى قسمان: تقوى الشرك وتقوى المعاصي، فالمؤمن الذي ارتكب المعاصي هو متقٍ للشرك لكنه لم يتق المعاصي فتقواه ناقصة وليست معدومة بينما الكافر والمشرك ليس عنده نوع من أنواع التقوى.
4- قولهم يجب على الله أن يعاقب العصاة ولا يجوز أن يغفر لهم في وقت من الأوقات لا عند الحساب ولا بعد دخولهم النار، أي لا يجوز أن يغفر لهم ولا أن يخرجهم من النار، هو قول باطل يصادم النصوص القطعية:
1- قال الله عز وجل في كتابه: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) ، (ما دون ذلك) أي ما دون الشرك من جميع الكبائر والموبقات (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فإذا عذب الله فاعل الكبيرة فهذا بِعَدْلِه سبحانه وتعالى، وإن غفر له فهذا بفضله، وأفعال الله سبحانه وتعالى بين عدل وفضل ولا ثالث لفعله فالظلم والجور منتفٍ عنه، بل هذا من أفعال العباد، والفعل المطلق للإنسان لا يخرج عن واحد من ثلاث إما أن يكون عدلاً أو فضلاً أو جوراً.(6/296)
إذن لو عفا عنه فهذا فضله ورحمته سبقت غضبه، ولذلك ثبت في سنن الترمذي بسند حسن عن علي رضي الله عنه أنه قال: [ما في القرآن آية أحبَّ إليَّ من هذه الآية] ، وهي عنده أرجى آية في القرآن أيضاً، وثبت هذا عن حفيده علي بن الحسين زين العابدين حيث قال: [هذه أرجى آية في القرآن] ، ووجه كونها أرجى آية في القرآن إخوتي الكرام ... كما قلت العذاب عدل والمغفرة فضل وإذا دارت أفعال الله بين العدل والفضل فالمرجح في حقه الفضل؛ لأن رحمته سبقت غضبه، يضاف إلى هذا أن كل عاصٍ لم يقع في الشرك يطمع في أن يكون ممن شاء الله له المغفرة، وما أطمعنا الله إلا ليعطينا كما قال في حق أهل الأعراف (لم يدخلوها وهم يطمعون) ، وقد قال الله في الحديث القدسي [أنا عند ظن عبدي بي فليظن ما شاء] وظننا بربنا أن يغفر لنا وأن يتجاوز عنا ذنوبنا وأن يعاملنا بفضله وإحسانه إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.(6/297)
2- وقد ثبت في مسند الإمام أحمد والصحيحين وسنن الترمذي وابن ماجه عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة (10-40) من أصحابه: [بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفّى منكم فأجره على الله] . هذه هي الحالة الأولي، والحالة الثانية [ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له] لأن الحدود زواجر وجوابر، فهي تزجر الفاعل بالناس، وتطهّر الفاعل والأمة من سخط الله، فالحدود مطهّرة ولو لم يتب المحدود، فإذا سرق وقطعت يده غُفِرَ ذنبه تاب منه أم لم يتب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في ماعز: [إنه الآن في أنهار الجنة ينغمس فيها] بعد أن أقام عليه الحد، والحديث في صحيح مسلم، أما الحالة الثالثة فبينها بقوله [ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه، فبايعناه على ذلك] إذن أنتم بين ثلاثة أحوال، وهو حديث صحيح صريح في بابه.
3- وثبت في مسند أبي يعلى والبزار وكتاب السنندة لابن أبي عاصم، والخرائطي في (مكارم الأخلاق) والبهيقي في (البعث والنشور) عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من وعده الله على عمل ثواباً فهو منجزه له، ومن وعده على عمل عقاباً فهو بالخيار إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه] فالثواب ينجزه والعقاب قد ينجزه، وقد لا ينجزه (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) .
ومما يبين أن قول المعتزلة والخوارج بأنه يجب على الله أن يعاقب العصاة – باطل هذه المناظرة المحكمة السديدة، التي جرت بين إمامين أحدهما مهتدي ٍ والآخر ضال غوى:(6/298)
1- أما المهتدي فهو شيخ أهل السنة وأحد القراء السبع أبو عمرو بن العلاء، وهذا قارئ البصرة، والبصريان إذا أطلقا فيراد بهما أبا عمرو هذا ويعقوب، فالبصريان هذان الاثنان والكوفيون أربعة والمدنيان اثنان والمكي واحد، والشامي واحد فالمجموع عشرة فهؤلاء هم القراء العشرة الذين قراءتهم متواترة.
2- وأما الضال فهو عمرو بن عبيد، أبو عثمان، ولا يتعمد أحد إذا قلنا كذا عن عمرو بن عبيد كما اعترض بعضهم على ذمنا للحجاج، ولا يقول كيف نقول على عمرو بن عبيد هذا وهو من أئمة الإسلام وله شأن، وهو خليل وصفي الخليفة العباس أبي جعفر المنصور وكان من الزهاد العباد وكان أبو جعفر يقول: "كلكم يمشي رويد كلكم يطلب صيد غير عمرو بن عبيد" أي كل واحد منكم يريد الدنيا إلا عمرو بن عبيد، وكان إذا دخل على أبي جعفر المنصور لا يستطيع أبو جعفر أن يبقى في مجلس الخلافة، بل يأمر بأن تجهز له غرفة ليس فيها إلا فراش على الأرض ليجلس عليه إجلالاً لعمرو بن عبيد، وليستمع إلى نصح عمرو بن عبيد له.(6/299)
وهو مع زهده وتنسُّكه ضال، كما قال بن كثير: والزهد لا يدل على صلاح في الإنسان، فعباد الهنود والمتقشفون فيهم عندهم من الزهد والانزواء عن الدنيا والامتناع عن الطعام والشراب ما لا يوجد في كثير من زهاد المسلمين، لكنهم لجهنم حطباً، بل لا بد من أن يكون الزاهد على المسلك الشرعي وإلا فزهده لوحده لا يكفيه، وأبو العلاء المعري كان زاهداً لدرجة أنه لم يتزوج، بل اعتبر الزواج جريمة، وبلغ من إعراضه عن الدنيا أنه يقول إن أعظم المجرمين في حق الأبناء هم الآباء، وأوصى أن يكتب على قبره هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد، لعنة الله على هذا الزهد، ولذلك اتفق أئمة الإسلام على "أن الزهد إنما يكون فيما يلهيك عن الله ويضرك عنده" فهل النكاح فيه ذلك؟!!! بل فيه حسنات لا تستطيع أن تحصلها من كثير من الطاعات، وهل يجب إلى خير البريات عليه صلوات الله وسلامه شيء مؤذٍ وضار، وهو سيد الطيبين وهو الذي يقول: [حبب إليّ من دنياكم الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة] .
ولذلك إخوتي الكرام.... لا يقبل الله من العمل إلا ما كان صالحاً ولوجهه خالصاً، ولا يوجد عندنا أن كل واحد يعبد ربه برأيه، ويخترع شريعة ما أنزل الله بها من سلطان ثم نقول زاهد عابد، إن زهده لن يوصله إلا إلى نار جهنم ورضي الله عن عمر عندما كان يرى عباد النصارى في الصوامع فيتلو قول الله تعالى (وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة) .(6/300)
فعمرو بن عبيد من أولئك الزهاد الذين لم ينفهم زهدهم بل هو ضال باتفاق أئمتنا، ووالله لا نعرف عمرو بن عبيد ولا نعرف أبا عمرو بن العلاء لكن عن طريق ما نقله عنهم أئمتنا وأخبرونا به عنهم، فذاك طالح فأبغضناه وذاك صالح فأحببناه وليس بيننا وبينه قرابة ولا بيننا وبين الآخر عداوة، وعندما نحب عمر بن عبد العزيز وهو من بني أمية – لأننا أمويون!! ، ونكره الحجاج الضال الخبيث لأننا عباسيون!! أهذا هو السبب في حبنا لواحد وبغضنا للآخر أم نحن نحكم حبنا وبغضنا على حسب شرع ربنا جل وعلا؟!!
انتبه لهذه المناظرة المحكمة:
اجتمعنا في مجلس فأراد عمرو بن عبيد أن يرد على مذهب أهل السنة:
فقال: يا أبا عمرو إن الله وعد (1) وعداً وأوعد إيعاداً فهو منجز إيعاده كما هو منجز وعده (2) .
__________
(1) الوعد في المسرة، والإيعاد في المضرة، تقول: وعدته جائزة وأوعدته عقوبة.
(2) أي كما أنه ينجز الوعد فهو سينجز الإيعاد، هذا كقول مفتي عُمان "لأن الله لا يخلف الميعاد" والميعاد شامل للوعد والوعيد، فالله عندما يخبرنا بأن من شرب الخمر في هذه الدنيا كان حقاً على الله أن يسقيه من ردغة الخبال وهي عصارة أهل النار والقيح والصديد الذي يسيل من أجسادهم، يقول: لو أخلف الله هذا وعفا عن شارب الخمر في الآخرة لكان كذاباً فلابد من أن يعاقبه وأن يسقيه من ردغة الخبال وألا يخرجه من نار جهنم.(6/301)
فقال: أبو عمرو: إنك أعجمي (1) ، إنّ خُلْفَ الوعيد كرم، وإن خُلْفَ الوعد لؤم (2) .
ثم قال له: ألم تسمع إلى قول الشاعر:
__________
(1) ولا أقول إنك أعجم اللسان بل أنت فصيح منطيق، لكنك أعجم القلب، وعجمة القلب هي عدم الفهم عن الرب، أي أن لا يكون القلب زكياً ولا طاهراً ولا نقياً، وليس في عجمة اللسان منقصة، لكن عجمة القلب هي التي فيها منقصة وهي المذمومة سواء كانت في العرب أو في العجم، وكما أن من كان أعجم اللسان لا يفهم لغة العرب فمن كان أعجم القلب لا يفهم عن الرب.
(2) فإذا لم يوقع الله العقوبة بالعاصي هذا كرم منه، وأنا إذا قلت لشخص - مثلاً – إن خالفت أمري لأضربنك مائة سوط ثم خالف أمري، وقضيت عليه، فقال لي: اعف عني، فقلت له: عفوت عنك، فهل يقول لي أحد الآن كذبت، بل ماذا يقولون؟ عفوت وتكرمت، العفو عند المقدرة من شيم الكرام، ولذلك وصف الله عباده بأنهم (والدين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) ووصفهم بأنهم (والعافين عن الناس) فكيف هذا؟! الجواب: كان سلفنا يكرهون أن يُستذلوا فإذا قدروا عفوا، فهو عندما يصيبه البغي لا يعفو بل يمسك بالمجرم ويكاد أن يقتله، فيقول له ذاك عندها: اعف عني، فيقول: عفوت عنك، فإذن هم يعفون بعد تمكنهم من الانتصار لأنفسهم، أما من يعفون في حال الضعف فهذا يعتبر هنا خوراً وذلاً وجبناً، ولذلك قال (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) فأثنى الله عليهم بأخذهم لحقهم ثم إذا تمكنوا من الباغي عليهم عفوا عنه، ولذلك ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل مكة بعد أن تمكن منهم وكانوا قد آذوه إحدى وعشرين سنة ثلاثة عشر سنة في مكة وثماني سنين في المدينة يعارضونه فبعد أن تمكن منهم قال لهم ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم ... إذن هنا قدر عليهم – فقال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء، فهذا يعتبر كرماً وشهامة ومروءة في حق المخلوق فكيف في حق الخالق.(6/302)
وإني وإن وعدته أو أوعدته ... لمخلف إيعاد ومنجز موعدي (1)
وقول الآخر:
إذا وعد السراء أنجز وعده ... وإن أوعد الضراء فالعفو مانعه
ولذلك كان أبو عثمان عمرو بن عبيد أعجمي القلب، لأنه لا يفقه عن الله شيئاً فالله إذا هدد العصاة فله ذلك، وكذلك إذا عاقبهم له ذلك، وإذا عفا عنهم له ذلك ولا يقال أخلف إيعاده، بل يقال: ما أكرمه، ما أحلمه، ألم يقل الله (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة) فهو حذرنا من مخالفته وعصيانه ولكنه لم يؤاخذنا بكل ما نعمله إذن فهو يؤخرنا ويمهلنا إذن فهو رؤوف رحيم غفور حليم، ووالله لو عاملنا الله بأعمالنا لاستأصلنا من أولنا لآخرنا، وإذا كان نبينا عليه الصلاة والسلام يقول – والحديث في صحيح ابن حبان وحلية الأولياء بسند صحيح: [لو يؤاخذني الله وابن مريم بما جنت هاتان – وأشار إلى الإبهام والسبابة – لعذبنا ثم لم يظلمنا] هذا يقوله خير خلق الله صلى الله عليه وسلم وهذه الجوارح تستحق شكر أم لا؟!! وأنت لن تستطيع أن تفي بشكر جارحة واحدة فضلاً عن جارحتين، فلو حاسبك الله على الإبهام والسبابة لألقاك في نار جهنم كالعابد الذي في بني إسرائيل عبد الله خمسمائة سنة وما عصاه طرفة عين، وسأل الله أن يقبضه في سجوده وألا تأكل الأرض جسده وأن يبقى ساجداً إلى يوم الدين فأعطاه الله ذلك فإذا كان يوم القيامة يقول الله له: ادخل الجنة برحمتي، فيقول: بل بعملي يا رب، فيقول الله: حاسبوه، فتوضع نعمة البصر في كفة وعبادة خمسمائة سنة في كفة أخرى فلا تكفي عبادته لنعمة البصر، فيقول الله: خذوه إلى النار، فيقول: يا رب أدخلني الجنة برحمتك. وهذه القصة رواها الحاكم في المستدرك.
__________
(1) أي إن أنا وعدته مثلاً جائزة، أو أوعدته مثلاً عقوبة، فأخلف إيعادي من باب كرمي ونبلي وشهامتي وأنجز موعدي وهو السراء والجائزة، فانظر للشاعر العربي يتمدح بهذا.(6/303)
فإذن فالله سبحانه وتعالى عندما يعفو عنا ويرحمنا ويتجاوز عن خطايانا فهذه منقصة فيه أم كرم؟ بل كرم، [يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً] (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم) إذن هذا مما يتمدح به رب العالمين.
فانظر إلى المعتزلة كيف قلبوا الأمر وقالوا لو عفا الله عنهم لكان كذاباً وهذه منقصة في حقه يتنزه عنها، فجعلوا الفضيلة رذيلة، وهذا خلاف ما فطر الله عليه أهل الأرض قاطبة أنهم يعتبرون العفو مكرمة.
وهذه المناظرة المحكمة انظروها في تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (12/175) ، وفي تهذيب التهذيب للحافظ بن حجر (8/71) ، وفي مدارج السالكين للإمام ابن القيم (1/396) وهذا الكتاب نافع جداً احرصوا على شرائه، وإذا لم يتيسر لكم فلا أقل من شراء تهذيبه ومختصره، ومن قصد البحر استقل السواقي، أي الذي يقتني المدارج ليس كالذي يقتني المختصر، ودائماً لتكن هممكم عالية ولا تقنعوا بالمختصرات، واطلبوا الأمور من مصادرها وعلو الهمة من الإيمان.
وتوجد هذه القصة أيضاً في مجموع الفتاوى وكررها في مواضع مختلفة، وموجودة في غير هذه المراجع أيضاً.
مسألة مهمة: ذكرها ابن أبي العز في شرحه
وهي: ما حكم سؤال المخلوقِ الخالقَ أو المخلوقَ بمخلوق؟
أي: مسألة التوسل: فما حكم أن تتوسل إلى الخالق بمخلوق، وأن تتوسل إلى المخلوق بمخلوق؟
مثال الصورة الأولى: (توسل إلى خالق بمخلوق) : أن تقول لله: أتوسل إليك يا رب بنبيك صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر أن تقضي حاجتي.
مثال الصورة الثانية: (توسل إلى مخلوق بمخلوق) أن تقول لشخص: أتوسل إليك يا فلان بأبيك وأمك وزوجك أن تقضي حاجتي.
فما حكم هذا؟(6/304)
قال الإمام ابن تيمية عليه رحمات رب البرية في (القاعدة الجلية في التوسل والوسيلة) : "قول القائل أسألك بكذا، يحتمل أمرين، لأن الباء أما أن تكون للقسم وإما أن تكون للسبب".
الحالة الأولي: فإذا كانت الباء للقسم فلا يجوز أن يصدر هذا من مخلوق سواء كان الإقسام به على خالق أو مخلوق.
فلا يجوز أن تقول: أقسم عليك يا رب بنبيك أن تقضي حاجتي ولا أن تقول: أقسم عليك يا فلان بالنبي أن تقضي حاجتي. ومثلها قول القائل يا رب بنبيك اقضي حاجتي. ويا فلان بالنبي اقضي حاجتي، فلا يجوز أيضاً، لأن الباء هنا (بنبيك، بالنبي) للقسم كما أن الواو حرف للقسم، وحروف القسم التي يقسم بها الواو والتاء والباء، والله، تالله، بالله، وهكذا بمخلوق: ورأس أبيك، ترأس أبيك، برأس أبيك.
فهذا لا يجوز لما ثبت في مسند الإمام أحمد والكتب الستة باستثناء سنن أبي داود عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت] ، وللحديث سبب في وروده: وهو أن عمر بن الخطاب كان يحلف بأبيه، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال، [إن الله ينهاكم ... ] الحديث، وكذلك الصحابة كانوا يحلفون بآبائهم ثم نهوا عن ذلك.
وثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي ومستدرك الحاكم بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من حلف بغير الله فقد أشرك أو كفر] .
وهذا الأمر المذكور في هذه الحالة مجمع عليه بين علماء الإسلام، وما وقع فيه خلاف إلا في صورة من صورة، فانتبهوا لها وهي:
خصوص القسم بالنبي عليه الصلاة والسلام فهل يجوز أن تقول أقسم عليك بالنبي أن تذهب إلي بيتي، وإذا قلت ذلك فهل انعقدت اليمين وعليك الكفارة أم لا؟(6/305)
الجمهور – وهو الحق – أن القسم بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز وهو كالقسم بغيره، وعند الإمام أحمد يجوز القسم بالنبي صلى الله عليه وسلم كما هو مذكور في كتاب المغني (11/209) لابن قدامة يقول فيه: وقال أصحابنا: إن القسم بالنبي صلى الله عليه وسلم يمين منعقدة وإذا حَنِث فعليه الكفارة، ونقل هذا عن أبي عبد الله – أي الإمام أحمد – وهذا القول الذي قاله الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالي علله بتعليل شرعي – مع وجاهته نرده ولا نأخذ به – وهو: أن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم هو أحد شطري الشهادة فالشهادة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) إيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم فكما يجوز القسم بالشطر الأول، يجوز بالشطر الثاني.
وهذا التعليل مع وجاهته نقول إنه يعارض النصوص، ولا اجتهاد عند ورود النص ولا قياس مع ثبوت النص، فنقول له نِعم ما قلت وأحسنت فيما قلت، لكنه اجتهاد يخالف النص فغفر الله لك وأثابك لكننا لا نقتدي بك في هذه المسألة، ولا نقول: إن القسم بغير الله شرك والإمام أحمد يجيز الشرك بل نقول إن كل إنسان يخطئ ويصيب لكن المهم أن يكون بحثه ضمن الأدلة الشرعية ولا يتبع الهوى.
إذن فانتبه حال الإمام أحمد ليس كالحجاج فهذا عندما يقطع رقاب المسلمين هل هذا ضمن أدلة شرعية أم ضمن هوىً؟!! بل ضمن هوىً.
* أتدرون ماذا فعل الحجاج؟(6/306)
ضرب مكة بالمنجنيق حتى طارت القذائف إلى الكعبة فاحترقت وهدم قسم منها، وأُحصي عدد الأرواح التي قتلها الحجاج فبلغت – كما في شذرات الذهب لابن العماد (120.000) نفساً، وكلهم من الموحدين الذين يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله، وعلي رأسهم ابن عمر رضي الله عنهما، وعلى رأس المقتولين أيضاً الصحابي الجليل عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، قتله وصلبه ومثل به بعد ذلك في حرم الله في مكة وقد مر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قبل أن يُقتل بجوار عبد الله بن الزبير وهو مصلوب فقال مخاطباً إياه: رحمة الله عليك يا أبا خُبيب – وهذه كنية عبد الله بن الزبير – والله لقد كنت صواما ً قواما ً وإن أمة أنت شرها إنها على خير، فأرسل إليه الحجاج أحد شرطته فضربه بحربة مسمومة – وهو في صحن الطواف – لأنه قال هذه الكلمة لعبد الله بن الزبير، ثم مات بعد ذلك بسبب هذه الضربة، والحديث ثابت في الصحيح.
وكان يقول لأنس بن مالك رضي الله عنه أيها الشيخ الخرف، فذهب أنس إلي الشام من البصرة، إلى عبد الملك بن مروان يشكو الحجاج فقال: والله لو أن النصارى رأوا من خدم عيسي لأكرموه فكيف بمن خدم من هو أفضل من عيسى عليه السلام، خدم النبي صلى الله عليه وسلم ويهينني الحجاج، فأرسل عبد الملك بن مروان بعد ذلك إلي الحجاج: أنْ لا إمرة لك على أنسً ووالله لو رأى إنسان أنس بن مالك وعنده إيمان لقبل رجليه وليس رأسه ووالله لو كان يجوز شرب بوله لشربت بوله وتقربت بذلك إلى الله فهذا يخدم النبي صلى الله عليه وسلم.
فهل الحجاج يكون مجتهداً ضمن أدلة شرعية عندما قتل هؤلاء وأهانهم؟ وقد ورد في الحديث [ولا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما ً حراما ً] ولو اجتمع أهل الأرض على قتل نفس مؤمن لأكبهم الله على وجوههم في نار جهنم.(6/307)
ويقول الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء (4/343) " الحجاج: أهلكه الله في رمضان سنة 95 هـ كهلا ً وكان ظلوماً جباراً ناصبياً خبيثاً سفاكاً للدماء، وكان ذا شجاعة وإقدامٍ ومكرٍ ودهاءٍ وفصاحةٍ وبلاغةٍ وتعظيم للقرآن، وقد سقت في سوء سيرته في تاريخي الكبير وحصاره لابن الزبير في الكعبة ورميه إياها بالمنجنيق وإذلاله لأهل الحرمين ثم ولايته للعراق والمشرق كله عشرين سنة وحروب بن الأشعث له وتأخيره للصلوات إلى أن استأصله الله، فنسبّه ولا نحبّه بل نبغضه في الله فإن ذلك من أوثق عرى الإيمان وله حسناتٌ مغمورة في بحر ذنوبه وأمره إلى الله جل وعلا ".
ولما بلغ الحسن موت الحجاج سجد شكراً لله، وكان الحسن البصري يقول: "اللهم كما أمته أمت سنته" وسنته بدعة وظلمة وهو أول من أخر الصلوات عن وقتها، ولما بلغ إبراهيم النخعي موت الحجاج بكى من شدة الفرح، ولما بلغ ابن عمر مقتل ابن الزبير رضي الله عنهم قال: عدو الله استحل حرم الله، وضرب بيت الله وقتل أولياء الله، انظر تذكرة الحفاظ للذهبي (1/37) .
إخوتي الكرام.... ولما نذكر هذا عن الحجاج لا يُقال هذا فيه انتهاك لحرمة الميت، إنما انتهاك حرمة الميت يحصل إن كان الميت قد عصى ربه ثم تاب أو عصاه بمعصية بينه وبين ربه، أو عصاه وجاهر بمعصيته، أما إن كانت المعصية تتعلق بحقوق العباد فهذا ظلم فيجب أن يُبين للناس ليعلموه وليجتنبوا وليبتعدوا عن مثل هذا الظلم ولا يقعوا فيه.(6/308)
إخوتي الكرام.... لا يقال لنا بعد ذلك كله أنتم عندكم ميزانان تأتون للحجاج وتتكلمون عليه وتأتون للإمام أحمد وتترضون عنه، نقول: قف عند حدك، من يبحث في النصوص الشرعية فهو على هدىً أصاب أم أخطأ إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر فهذا إمام بذل ما في وسعه للوصول إلى مراد ربه ضمن أدلة شرعية، ولو قال هذا القول عن طريق الهوى لقلنا إنه ضال، فلابد من أن نزن الأمور بالميزان الشرعي، ونسأل الله أن يجعل هوانا تبعاً لشرع مولانا إنه أرحكم الراحمين وأكرم الأكرمين.
الحالة الثانية: وإذا كانت الباء للسبب – لا للقسم – فهذه لها صورتان:
الصورة الأولي: أن تسأل مخلوقاً بسبب مخلوق فهذا جائز بالاتفاق مثالها: أن تقول لشخص أسألك بحق أبيك، أو أسألك بكرامة جدك، أو أسألك بمنزلة زوجتك ونحو هذه من الأسباب فتتوسل بمخلوق إلى مخلوق بالسبب والمنزلة التي له عندك والمكانة والمقام الذي له عندك.
وقد ثبت أن ابن جعفر بن أبي طالب كان إذا أتى عمه علياً – رضي الله عنه – وسأله بحق أخيه جعفر – والذي هو أبو السائل – قضى عليٌّ حاجته؛ لأن له منزلة عنده، وهذا من باب إكرام الأخ لأخيه؛ فإذن هذا السؤال بالمنزلة والسبب والحق وما شاكل هذا، وهذا الباب من التوسل لا حرج فيه وجائز بالاتفاق – كما ذكرنا – وعلى هذه تنزل قراءة حمزة، وأحد التوجيهين في قراءة الجمهور من قول الله جل وعلا (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) .
فـ (الأرحام) قرئت بالنصب، وهي قراءة الجمهور (التسعة) وقرئت بالخفض – الكسر – وهي قراءة حمزة فقط، فـ (الأرحام) على قراءة الجمهور، منصوبةً عطفاً على لفظ الجلالة (واتقوا الله) أي: فلا تعصوه، واتقوا (الأرحام) فلا تقطعوها لأنها مما أمر الله به أن يوصل، وحينئذ فلا شاهد فيها على هذه الصورة، وهذا أحد توجيهي الجمهور لنصبها.(6/309)
و (الأرحام) عن حمزة، بالكسر، هي التي فيها الشاهد بأننا نسأل ونتوسل بحقها ومنزلتها،وهي على أنها معطوفة في هذه الحالة على لفظ الضمير المجرور (به) لا على محله.
والتوجيه الآخر للجمهور لقراءة النصب قالوا: أن (الأرحام) معطوف على محل الضمير المكني (به) لا على لفظه، فمحله هو النصب، ولفظه هو الجر، هذا كما تقول: مررت بعمرَ وزيداً، فعمر محله النصب وإن جر بحرف الجر فلذلك تعطف زيداً على المحل لا على اللفظ، وعلى هذا فالقراءتان بمعنىً واحد تكون في هذا التوجيه شاهد لهذه الصورة، والمعنى: يسأل بعضكم بعضاً بالله ويسأل بعضكم بعضاً بالرحم، فتقول: أسألك بحق الرحم عليك أن تقضي حاجتي، وأنشده بالرحم التي بيني وبينك أن تقضي حاجتي، كما كان ولد جعفر يسأل عمه علياً بالرحم التي بينه وبين أخيه جعفر ...
وقراءة حمزة جرى حولها كلام كثير، ولما شرحتها للطلاب في العام الماضي في المستوى الثاني / الفصل الثاني، أخذت معنا ما يزيد على خمس محاضرات)
س: لو قال شخص: أسألك بحياة أبيك، فما الحكم؟
جـ: قوله أسألك بحياة أبيك كقوله أسألك بمنزلة / برأس / برجل / بعين / بوجه / بشرف أبيك/، كلها سواء، لأن هذا القول توسل إلى مخلوق بمخلوق، وهو جائز – كما قلنا – ليس من باب القسم، وليس من باب التوسل إلى الله، إذ سيأتينا أنه لا يجوز التوسل إلى الله بذات مخلوق أو حياته أو شرفه، وما شاكل كل هذا.
س: هل يجوز أن يسأل شخصٌ بحق ميت؟
جـ: لا حرج في ذلك.
وفي قصة سؤال جعفر علياً رضي الله عنه دليل على ذلك لأن جعفر استشهد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة مع زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة، لكن لأجل مكانته ومنزلته عند أخيه علي رضي الله عنه، كان أولاده بعد موته إذا جاءوا إلى عمهم توسلوا إليه بأبيهم.
الصورة الثانية: أن تسأل الخالق بسبب مخلوق:(6/310)
قال الإمام ابن تيمية عليه رحمات رب البرية: "ينبغي أن نعلم أن ذوات المخلوقين ليست سبباً لقضاء الحوائج، فلابد من سبب إما من المتوسِل، وإما من المتوسَّل به" إذن عندنا فرعان لهذه الصورة:
الفرع الأول: أن يصدر سبب من المتوسِّل نحو من توسل به يرضاه الله فيصبح توسله بذلك السبب، والتوسل في هذا الفرع شرعي.
مثاله: أن يتوسل المخلوق بمحبته للنبي عليه الصلاة والسلام وباتباعه له في قضاء حاجته، أو قد يقول المتوسل: اللهم إني أسألك بحبي لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي أن تفرج كربي وأن تقضي حاجتي وأن تغفر ذنبي وأن تدخلني الجنة مثلاً.
فهو هنا لم يتوسل بذات المخلوق، بل توسل بفعل منه – أي من المتوسِّل – وهو طاعةٌ فهو كما لو توسل بطاعاته الأخرى، وهو جائز فقال اللهم إني أسألك بإيماني بك أن تغفر ذنبي وهو من أفضل أنواع التوسل.
مثاله من السنة:
ما ثبت في مسند الإمام أحمد والصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه [أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ ، فقال له ويحك [وفي رواية: ويلك] وما أعددت لها قال: لا شيء (1) [وفي رواية: ما أعددتُ لها كبير صلاة ولا صيام] ، لكني أحب الله ورسوله] وأكرم بهذا العمل، وهل بعد هذا العمل عمل؟!! [فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت] وهذا فيه بشارة عظيمة لهذا السائل.
__________
(1) هذا احتقار لعمله، أي ليس عندي شيء يبيض الوجه وليس عندي من الأعمال الكبيرة التي تسطر وتذكر وتذاع، وهذا حال التقي دائماً يهضم نفسه ويخرج من الدنيا ولم يشبع من أمرين: أ) ثناء على ربه. ب) اعتراف بعجزه وتقصيره ولوم لنفسه، لكن بيّن أن عنده عملا ً جليلا ً جميلا ً، وهو حب الله ورسوله عليه الصلاة والسلام.(6/311)
لكن الشاهد من الحديث هو قول أنس بعد أن رواه [فما فرحنا بشيء بعد الإسلام فرحنا بقول نبينا عليه الصلاة والسلام: أنت مع من أحببت] ثم قال – وانظر لهذا التوسل منه – [فأنا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن كون معهم بحبي إياهم] هذا لفظ البخاري وزاد مسلم [فأنا أحب الله ورسوله ... ] .
ولفظ حديث [أنت مع من أحببت] [المرء مع من أحب] هو حديث متواتر، وقد ألف أبو نُعم كتاباً مستقلاً حوله سماه (المحبين مع المحبوبين) تتبع فيه طرق هذا الحديث.
إذن هنا توسلٌ إلى الله بمخلوق لكن جرى من المتوسِّل سبب نحو ذلك المخلوق، ولا حرج في ذلك بإجماع أهل السنة، وأنا أعجب في هذه الأيام حقيقة من المتنطعين الذين تَصْغُر أذهانهم ويضيق عقلهم ويأتي ليزجَّ نفسه في أمر ممنوع – كما سيأتي – فيقول: أسألك بجاه رسولك صلى الله عليه وسلم أن تغفر ذنبي، مع أن الجاه والذات ليست سببا للمغفرة فهذا التوسل أقل ما فيه أن فيه خلافاً وإن كان غير معتبر، فلماذا يترك ذاك المتنطع التوسل الذي لا خلاف فيه ويعمل ما فيه خلاف؟!!!.(6/312)
مثال آخر أيضاً: ثبت في الصحيحين ومسند الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا يُنْجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قلبهما أهلاً، ولا مالاً، فنأى بي في طلب شيء يوماً، فلم أُرِح] عليهما حتى ناما، فجلست لهما غَبُوقهما (1)
__________
(1) الغبوق شرب اللبن وقت العشي..(6/313)
فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أَغْبِق قبلهما أهلاً أو مالاً فلبثت والقدح على يديّ أنتظر استيقاظهما حتى الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج، قال النبي صلى الله عليه وسلم،وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عمٍ كانت أحب الناس إليّ، فأردتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألمتُ بها سنة من السنين، فجاءتني، فأعطيها عشرين ومائة دينار على أن تخلّي بيني وبين نفسها ففعلت حتى إذا قدرتُ عليها، قالت: لا أُحِلُّ لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرّجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليّ وتركتُ الذهب الذي أعطيتُها، اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، قال النبي صلى الله عليه وسلم وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمّرتُ أجره حتى كَثُرَت منه الأموال فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله أدِّ إليَّ أجري: فقلت له: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئاً، اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون] .
فانظر، هنا الأول يتوسل إلى الله ببره لوالديه، والثاني توسل إلى الله بعفته، والثالث بأمانته، لذلك لو وقعت في كرب فقل – مثلا ً– أسألك يا ربي ببري لوالدي أن تفرج كربي فهو جائز بالإجماع.
إخوتي الكرام ... هذا الحديث للإمام ابن الجوزي رحمه الله تعليقُ بديع حوله في كتابه صيد الخاطر، والكتاب نافع احرصوا على شرائه ففيه خير كثير،ولم يؤلفه في موضوع معين بل كان يقيد فيه ما يعنّ له من فوائد واستنباطات وإرشادات وتوجيهات.(6/314)
يقول في صـ321 من الكتاب كلاماً في منتهى الإحكام، وكأن المعلق عليه لم يَرُق له هذا الكلام فانتبهوا لذلك!!!
يقول: "التقرب إلى الله عز وجل إذا تم على الإنسان لم ير لنفسه عملاً وإنما يرى إنعام الموفق (1) لذلك العمل الذي يمنع العاقل أن يرى لنفسه عملاً أو يعجب به (2) وذلك بأشياء" هذه الأمور منها أن الله وفق لهذا العمل، ومنها أنه إذا قيس ذلك العمل بالنعم لم يفي بمعشار عشرها، ومنها ... منها.... ومنها...." ثم يقول:
__________
(1) الموفق هو الله ولذلك الحديث [فمن وجد خيراً فليحمد الله] .
(2)) أي أنك وفقت لعمل صالح فلا تنظر إلى العمل، إنما تنظر إلى الموفق، فلا تهتم بالعمل ولا تصاب بغرور ولا إدلال، وهذا هو ما قاله الصحابي [ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام] .(6/315)
"وهذا شأن جميع العقلاء فرضي الله عن الجميع" ثم ذكر بعد ذلك قصصاً كثيرة منها: قول الخليل إبراهيم (والذي أطمع أن يغفر لي) فلم يُدّلَ بعمل بل يطمع من الله بالمغفرة، ومنها قول أبي بكر وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله، وذلك لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما نفعني مال كمال أبي بكر، فقام أبو بكر وقال ذلك، فانظر لحال العقل الكامل، وهكذا أورد كلاماً لعدد من الصالحين ثم يقول: "وهذا شأن جميع العقلاء فرضي الله عن الجميع" فإذن هذا فعل عقلاء هذه الأمة، وانظروا لصلحاء بني إسرائيل، ومنهم هؤلاء الثلاثة يقول:"وقد روي عن أقوام من صلحاء بني إسرائيل يدل على قلة الإفهام لما شرحتُه لأنهم نظروا إلى أعمالهم فأدلوا بهما (1) ، فمنه حديث العابد الذي تعبد خمسمائة سنة في جزيرة،وأخرج الله له كل ليلة رمانة، وسأله أن يميته في سجوده فإذا حشر قيل له: ادخل الجنة برحمتي قال: لا بعملي، فيوزن جميع عمله بنعمة واحدة فلا يفي، فيقول: يا رب برحمتك (2) ،
__________
(1) أدلّوا بها: يعني تقربوا بها ورأوا لها مكانة تستحق أن تطلب حاجةٌ بسببها.
(2) حديث العابد رواه الحاكم في مستدركه (4/251) ، وقد أوردته لكم مختصراً، وأوله: [أن رجلا كان في جبل وطلب أن يخرج الله له عيناً يشرب منها (أي حتى لا يختلط بالناس) وأن يخرج له شجرة رمان فأخرج الله له عيناً وشجرة رمان كانت تحمل كل يوم رمانة فيأكل الرمانة ويشرب من الماء ويتعبد في صومعته، وسأل الله أن يميته وهو ساجد فأماته....] .إلخ الحديث – وفيه [فيحاسبه الله على نعمة البصر فلا تفي عبادة خمسمائة سنة] ثم قال جبريل: [يا محمد إنما الأشياء برحمة الله جل وعلا] ، ثم قال الحاكم: وهذا حديث صحيح الإسناد، فإن سليمان بن هَرم العابد من زهاد أهل الشام والليث بن سعد لا يروي عن المجهولين" وعلق الذهبي على هذا الحديث في تلخيصه للمستدرك: "صحيح!! قلت لا والله، وسليمان غير معتمد، وقال في ميزان الاعتدال – أي الذهبي – في ترجمة سليمان بن هرم: "قلت: لم يصح هذا، والله يقول (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) ، ... ولكن لا يُنجي أحداً عملُه من عذاب الله كما صح، بلى أعمالنا الصالحة هي من فضل الله علينا ومن نعمه لا بحول منا ولا قوة، فله الحمد على الحمد له" إذن كأن الحافظ الذهبي يريد أن يقول الحديث ضعيف لأن فيه هذا المجهول، وأراد أن يؤكد هذا فقال الحديث يعارض نصوصاً، فأراد أن يرده من جهة المعنى، وقبله أراد أن يرده من جهة السند.
قلت: أما من ناحية سليمان بن هرم (أي من ناحية السند) فكأن الحافظ ابن حجر في لسان الميزان لم يرتضِ كلام الذهبي، فنقل هنا كلام الحاكم عن سليمان وأقره فقال: "وقد قال الحاكم عقيب رواية الحديث والليث بن سعد لا يروي عن المجهولين" فكأنه يريد - أي ابن حجر – أن يقول إن سليمان بن هرم ليس بمجهول.
وأقول أيضاً: الحديث صحيح الإسناد وما فيه إلا سليمان بن هرم فقد جرى حوله كلام وكأن الحافظ ابن حجر يوافق الحاكم على أن سليمان ليس بمجهول وأما من ناحية المعنى فالمعنى صحيح أيضاً، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [لا يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته] ، وقد حقق الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه مفتاح السعادة ومنشور ولايتي العلم والإرادة (1/8) حقق هذا المبحث غاية التحقيق وقال عند حديث [لا يدخل أحد الجنة بعمله] وقوله تعالى (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) : "وصفوة الكلام أن الباء هنا ليست بمعنى الباء هناك" أي الباء في الحديث غير الباء في الآية، فهي في الحديث للمعارضة والمقابلة، وفي الآية الباء للسببية أي جعل الله الأعمال منا سبب لذلك الجزاء بفضله ورحمته، لا أن العمل منا يستحق الجنة، أو أنه يكون عوضاً عنها، نستحقه كما نستحق في هذه الحياة عوضاً عندما ندفع ثمناًً مقابل سلعة، فهذه ليست مبايعة ومعاوضة فنحن لا نعمل والجنة تكون في مقابل العمل، بل نحن نقوم بواجب علينا وحق لله – وهو عبادته – دخلنا الجنة أم لا، فهذا هو الفرق بين الباءين، ثم قال ابن القيم كلاماً ينبغي أن ترددوه وأن تنقشوه في قلوبكم: "كل من ينجو من النار فبفضل الله، وكل من يدخل الجنة فبرحمة الله، وأهل الجنة يقتسمون منازلهم على حسب أعمالهم".
إذن عندنا أمران لا دخل للعمل فيهما، النجاة من النار والدخول في الجنة، لكن منازل الجنة هذه بحسب عمل الإنسان.
فمن نجا من النار فبفضل الله، ومن دخل الجنة فبرحمته،وكل من ألقي في النار فبعد له يقول الشاعر:
ما للعباد عليه حق واجب ... كلا ولا يسعى لديه ضائع
إن عذبوا فبعد له أو فعموا ... فبفضله وهو الكريم الواسع
فالآن هذا العابد هو حاله كحال الصحابة الذين كانوا يستصغرون أعمالهم؟
شتان بين الاثنين، فانظر لهذا العبد المسكين كيف يُدلّ بعمله يقول الله له: ادخل الجنة برحمتي فيقول: بل بعملي!!!.
ولذلك قال ابن الجوزي: "وقد روي عن قوم من صلحاء بني إسرائيل ما يدل على قلة الأفهام لما شرحته لأنهم نظروا إلى أعمالهم فأدلّوا بها".(6/316)
وكذلك أهل الغار الذين انطبقت عليهم الصخرة فإن أحدهم توسل بعمل كان ينبغي أن يستحي من ذكره – وهو أنه عزم على الزنا ثم خاف العقوبة فتركه – فليت شعري بماذا يُدلّ من خاف أن يعاقب على شيء فتركه لخوفه العقوبة (1) إنما لو كان مباحاً فتركه كأن فيه ما فيه، ولو فَهِم لشغله خجله من الإدلال، كما قال يوسف: (وما أبرئ نفسي (2)) والآخر ترك صبيانه يتضاغنون إلى الفجر ليسقي أبويه وفي هذا البر أذىً للأطفال (3) ، لكن الفهم عزيز، وكأنهم لما أحسنوا قال لسان الحال أعطوهم ما طلبوا، فإنهم يطلبون أجرة ما عملوا، ولولا عزة الفهم ما تكبر متكبر على جنسه، ولكان كل كامل خائفاً محتقراً لعمله حذراً من التقصير في شكر ما أنعم عليه، وفهم هذا المشروح ينكّس رأس الكبر ويوجب مساكنة الذل، فتأمله، فإنه أصل عظيم" أ. هـ إي والله إنه أصل عظيم، وما رأيت هذا المعنى إلا في صيد الخاطر، وهو أن هؤلاء توسلوا إلى الله بعمل كان ينبغي أن يستحي بعضهم من ذكره، لكن الفهم عزيز، فقضى الله حاجتهم،وهو أرحم الراحمين.
إذن أن يصدر سبب من المتوسل نحو المتوسل به، وهذا هو أحد الفرعين للصورة الثانية.
الفرع الثاني: أن يصدر سبب من المتوسل يقتضي حصول طلبك والتوسل في هذه الحالة أيضاً شرعي.
__________
(1) أي ترك الشيء لخوف منه لا يستحق الرجل عليه أجراً،وهذا كما لو ذهب شخص إلى الأمير وقال له: أنا لن أسلبك، لأنني أخشى أن تقطع رقبتي فأسألك بعدم سلبي لك أن تعطيني ألف درهم. فهل يستحق هذا الألف؟ كلا ... لأنه ترك سلب الأمير خوفاً من العقوبة لا إجلالاً له.
(2) المعتمد أن (وما أبرئ نفسي من قول) امرأة العزيز.
(3) أي هو من ناحية بر ومن ناحية أخرى أذىً، وكان بإمكانه أن يسقي الأطفال ثم ينتظر أبويه حتى يستيقظا.(6/317)
مثاله: أن يتوسل مخلوق إلى مخلوق فيقوم المتوسل به فيدعو يشفع للمتوسل أو: أن يقول شخص: نتوسل إليك يا رب بالعبد الصالح فلان – ولابد من أن يكون موجوداً بينهم ليس بغائب – فيقوم ذاك العبد الصالح ويقول: يا رب اقض حاجتهم وفرج كروبهم والطف بهم وردّ عنهم عدوهم، إذن دعا لنا ونحن طلبنا من الله أن يجيب دعاءه.
كذلك: إذا جرى من المتوسَل به سبب نحو المتوسِل إلى المتوسِل إليه وهو الله جل وعلا فدعا لك من توسلت به، وشفع لك.
وهنا أنت لم تتوسل بذات المتوسل به، ولا بجاهه ولا بمنزلته بل بسبب صدر وجرى منه من دعاء وشفاعة وطلب ونحو هذا.
مثاله من السنة: ثبت في صحيح البخاري (2/495- مع الفتح) عن أنس رضي الله عنه قال: [إن عمر بن الخطاب كان إذا قَحِطوا (1) استسقى بالعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، فيقول – أي عمر: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا (2) عليه الصلاة والسلام فتسقينا وأنا أتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال أنس: فيسقون] .
وورد في رواية الإسماعيلي (3) عن أنس رضي الله عنه قال: [كانوا إذا قحطوا عهد عهد رسول صلى الله عليه وسلم استسقوا بالنبي عليه الصلاة والسلام، فيستسقي لهم فيسقون، فلما كانت إمارة عمر رضي الله عنه استسقى عمر بالعباس] رضي الله عنهم أجمعين.
وورد في المصنف لعبد الرزاق أن عمر رضي الله عنه قال بعد أن قال ما تقدم في صحيح البخاري: [قال للعباس: يا عباس يا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قم فادع] أي نحن طلبنا من الله أن يقضي حاجتنا بدعائك، فقم ونفذ هذا الطلب وادع لنا ليقضي الله لنا حاجتنا.
__________
(1) أي أصابهم القحط والجدب.
(2) أي بدعائه في حياته صلى الله عليه وسلم
(3) الاسماعيلي عمل مستخرجاً على صحيح البخاري، أي روي أحاديث البخاري نفسها، لكن بأسانيد لنفسه ويسمى مستخرج الاسماعيلي.(6/318)
وورد في كتاب الزبير بن بكار في تاريخ المدينة المشرفة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال عندما قحطوا: [إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى العباس للعباس ما يرى الولد للوالد – أي من المنزلة – فاقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في عمه العباس واجعلوه وسيلة لكم بينكم وبين الله] والمراد بالوسيلة هنا الواسطة الذي سيدعوا ونحن نؤمن على دعائه.
وثبت في كتاب الزبير بن بكار أن العباس رضي الله عنه دعا فقال: [اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولا يرفع إلا بتوبة وقد توجه (1) القوم بي إليك لمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه أيدينا إليك بالذنوب (2) ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث] قال: أنس رضي الله عنه: فأرخت السماء مثل الجبال (3) حتى أخصبت الأرض وعاش الناس] .
وهذا الذي فعله عمل لم يفعله تخرصاً من رأيه ولا اجتهاداً من ذهنه ـ إنما فعله بناءً على أثر ثابت – كما ذكرنا – عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه كان يوجه أمته إلى مثل هذا التوسل، وهو أن نتوسل بدعاء فلان.
__________
(1) أي توسلوا بي إليك.
(2) أي مغفرة مقرة وتائبة منيبة.
(3) هذه الكلمة وردت في الفتح (الجبال) وأخشى أن يكون تصفحاً وأن يكون الصواب (مثل الحبال) أي مثل الحبال المدلاة، فالمطر منصب كأنه حبال متصلة وصلت السماء بالأرض، وإن كان (الجبال) فالمعنى أنه نزل مطر كثير غزير يشبه الجبال من كثرة تصببه واندفاعه وأنه صار سيولاً عظيمة والعلم عند الله.(6/319)
إخوتي الكرام..... بالنسبة للجدب الذي يقع فيه الناس ينبغي أن يتوبوا إلى الله جل وعلا وأن يلجأوا إليه ليغيثهم ويفرج كروبهم، واستسقاء عمر كان في عام الرمادة الذي وقع سنة (18) هـ وفي ذلك العام لم ينزل من السماء قطرة ماء وبقي الحال على ذلك تسع أشهر، وسمي رمادة لأن الأرض صارت كالرماد ينسف نسفاً فليس فيها حشيشة خضراء ونتيجة لذلك كادت المواشي أن تهلك وتموت، ويموت الناس تبعاً لذلك لاسيما في العصر الأول لأن قوتهم من الأرض ومن هذه المواشي التي تتغذى على الأرض فاشتد الأمر على المسلمين ثم قدم عمر رضي الله عنه العباس فاستسقى فسقي الناس.
والعباد عندما تكثر منهم المعاصي يبتليهم الله جل وعلا بأنواع المحن، ولما حصلت رجفة في المدينة المنورة قال عمر: "أحدثتم والله، والله لو رجفت ثانية أساكنكم فيها وسأخرج منها" فالقحط يقع عندما يعصي العباد ربهم كما قال العباس [ما نزلت عقوبة إلا بذنب ولا ترفع إلا بتوبة] وهكذا الزلازل والفيضانات التي تقع هذه الأيام في بلاد الكفر ونسأل الله أن يغرقهم على بكرة أبيهم كما غرّق قوم نوح، إنه على كل شيء قدير، وأن يلهمنا رشدنا وأن يتوب علينا.(6/320)
ووالله الذي لا إله إلا هو ما يمنع الله عقوبته عن الكفار إلا لفساد فينا، ولو كان فينا صلاح واستقامة لأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، فإذا كنا ضعافاً وليس عندنا قوة على مقاومتهم فإن معنا القوي الذي يمكر من حيث لا يعلم العباد، وأسلحتهم التي يجبرون بها ويتكبرون يدمرهم الله بها والله على كل شيء قدير، كما دمر أهل اليمن عندما فعلوا ما فعلوا وعتوا عن أمر ربهم، دمرهم بالسد الذي بنوه كما قال تعالى: (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق الله واشكرا له بلدة طيبة ورب غفور فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم (1) وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتى أُكُلٍ خمطٍ وأثلٍ وشيء من سدر قليل ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور) .
وهكذا تلك البلاد التي تجبرت وتكبرت وأنعم الله عليها فطغت وبطرت ولو وجد عندنا ما يستدعي عقوبتها لعاقبها الله، لكن يوجد عندنا من ينبغي أن يعاقب قبل أولئك، وما تأخرت عقوبتنا أيضاً إلا لما فينا من بقايا الصالحين.
__________
(1) هو سيل العرم، بنوه، وجعل الله حتفهم فيه.(6/321)
يذكر ابن كثير في (البداية والنهاية) في حوادث 718 هـ، وكان قد أدرك ذلك الأمر وهو في سن السابعة عشر تقريباً، فيخبر عن القحط الذي وقع في بلاد المشرق في الجزيرة بلغ عن ذلك القحط أنهم أكلوا الجيف ونبشوا القبور وأكلوا الموتى وأكلوا الكلاب، حتى أن الأم بدأت تأخذ ولدها وتبيعه من أجل أن يستعمله ويعطونها ثمناً خمسين درهماً، وبدأ الناس يذبحون أولادهم أيضاً ليأكلوهم ويذكر أبو شامة في كتابه (الذيل على الروضتين) أنه حدث في سنة 597 هـ ما لا يخطر ببال بشر، كان الناس يدعون الأطباء إلى بيوتهم بحجة العلاج فإذا دخلوا ذبحوهم وأكلوهم حتى أنهم أكلوا القطط والكلاب أيضاً ونبشوا القبور وأكلوا الموتى والجيف، حتى أن الأم كانت تمسك ولدها ليذبحه الوالد وأكلانه، وصلب السلطان كثيراً من الناس الذين فعلوا هذه الفعلة الشنيعة.
وهذه النعم التي الآن نأشر بها ونبطر، والله الذي لا إله إلا هو أتوقع زوالها أكثر من توقعي لمجيء الغد، وقدر الله إذا حلَّ ونزل ينزل كلمح البصر وليس له نذر تتقدمه (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس) ولا يوجد عصر تنطبق عليه هذه الآية كعصرنا، فنسأل الله لطفه ومعونته وستره إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
س: ما الفرق بين البلاء والابتلاء؟
جـ: إذا نزل البلاء بالإنسان واعتبر به وحسَّن حاله فهذا مكفر له، وإذا نزل البلاء بالإنسان ولم يكن هناك اعتبار منه ولا انزجار فهذه نقمة له.(6/322)
مثال آخر له: - كتوسل عمر بالعباس – ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمزي وابن ماجة، ومستدرك الحاكم بسند صحيح عن عثمان بن حُنَيْف أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني، قال: إن شئت دعوتُ لك، وإن شئت صبرت فهو خير لك، فقال: بل ادع (1)
__________
(1) أي أريد أن يعود إلي بصري، وهذا لا حرج فيه لكن لو صبر لكان أفضل، وهذا ونظائره من الأدلة – كما قال أئمتنا – يؤخذ منه أن الصبر على المرض خير من التداوي، وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لعطاء [ألا أريك امرأة من أهل الجنة، فقال بلى، فقال: هذه المرأة السوداء جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت يا رسول الله إني أصرع وأتكشف، فادع الله لي أن لا أصرع فقال: إن شئتِ دعوت لك، وإن شئتِ صبرت ولك الجنة – فكان جوابها خير من الأعمى – قالت: بل أصبر يا رسول الله، لكن ادع الله لي ألا أتكشف، أي عندما أصرع وأقع أخشى أن يبدو مني شيئ أكرهه – فدعى الله لها أن لا تتكشف] ففي هذا الحديث دليل على أن الصبر على المرض عزيمة والتداوي رخصة، وهذا هو المقرر عند أهل السنة والجماعة ومن صبر على المرض حتى مات دخل الجنة، ومن صبر على الجوع مع قدرته على الأكل حتى مات دخل النار، انتبه لأن ذلك سبب يفضي إلى المسبَّب حتماً حسب ما ربط الله الأسباب بالمسببات، وأما هذا فكما تقدم معنا إما ظن وإما وهم فليس هو سبب لحصول الشفاء قطعاً وجزماً فقد تأخذ العلاج ويزداد مرضك وذكرت لكم حوادث في ذلك، وكم من إنسان أجريت له عملية ومات فالتداوي رخصة والصبر عزيمة، وهذا الأمر لو رعيناه لما أكثرنا من فتح المستشفيات، لكن لم تظهر الفاحشة في قوم إلا فشى فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم، فهذا عقوبة من رب العالمين لعباده عندما ينحرفون عن شرعه (مخدرات – عهر – فجور – لواط- ... ) .وهذا سينتج عنه أمراض خبيثة كثيرة كالهِرْبز والإيدز الذين انتشرا في بلاد الغرب ولا يعرف لهما علاج فهو موت بطيء للمصاب بهما، وحقيقة كثير من الأمراض نسمع بها لم يكن أسلافنا يعلمون بها.(6/323)
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: توضأ فأحسن الوضوء ثم صلِّ ركعتين وقل (1) اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي لي اللهم فشفعه فيّ (2) ] زاد الحاكم: [وشفعني فيه] ، فما برح الأعرابي من مكانه حتى رد الله عليه بصره.
فهنا الأعرابي توجه لله سبحانه وتعالى بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وليس بذاته فانتبهوا!! رحمة الله على الإمام النووي يذكر عند شرحه للحديث المتفق عليه [الكمأة من المن (3)
__________
(1) أي قل الدعاء فهو الآن يتوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم.
(2) أي اقبل دعاءه عندما يدعو لي بأن يرد الله بصري ومعنى (وشفعني فيه) أي اقبل يا ربي دعاء نبيك صلى الله عليه وسلم في أن ترد علي بصري، أي قال له النبي صلى الله عليه وسلم أنا سأدعو لك، وأنت اطلب من الله أن يقبل دعائي، ليحصل الطلب من جهتين وليعظم الانكسار لله عز وجل ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم كافٍ، لكن من أجل أن يرغب هذا السائل بالخير فقال له توسل إلى الله بي، أي بدعائي، وسل الله أن يجيب دعائي، وليعلم هذا السائل أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما يدعو فهو بشر، وليس هو كحال الرب جل وعلا يرد البصر من نفسه، وأيضاً حتى لا يحصل في هذا النبي صلى الله عليه وسلم غلو كما حصل في عيسى عليه السلام، إذن أنا أشفع لك بأن يرد الله بصرك وأن ِ اشفع لي في أن يُقبل دعائي لك برد بصرك.
(3) أي حالها كحال المن الذي مَنَّ الله به على بني إسرائيل، فهي لا يزرعها العباد إنما تتصدع الأرض في أيام الشتاء وتخرج منه الكمأة كالبطاطس، فتخرج بلا زراعة ولا كلفة وبلا بذور.
وجاء في الفتح: الكمأة نبات لا ورق له ولا ساق يوجد في الأرض من غير أن يزرع، يخرج إلى سطح الأرض ببرد الشتاء وينميه مطر الربيع فيتولد ويندفع متجسداً ولذلك كان بعض العرب يسميه جدري الأرض.(6/324)
وماؤها شفاء العين] في شرح صحيح مسلم أن بعض شيوخه في بلاد الشام عَمِيّ، فتداوى بالكمأة تبركاً بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم إلى العلاج الذي فيها للعين، فأخذها وغلاها في الماء وبدأ يقطر هذا الماء في عينيه فما مضت عليه إلا أيام يسيرة حتى عاد إليه بصره بإذن الله.
والتداوي بالقرآن وهكذا التداوي بعد ذلك بالأدوية النبوية التي أخبرنا بها خير البرية عليه صلوات الله وسلامه، هذه حجبنا عنها بما عندنا من الأدوية المركبة، وقد كان يكفينا العلاج القرآني والنبوي، ومن ينظر في المجلد الرابع من كتاب زاد المعاد يجده كله من أوله لآخره يتكلم عن الطب والعلاج، ويذكر أحاديث نبوية وأذكاراً تقال عند بعض الأمراض كالأرق، واللدغ، ونحوهما ... وهذا الذي حصل للضرير الذي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم يعتبر خارقاً للعادة ويسمى معجزة لأنه جرى على يدي نبي.
س: هل لما طلب الأعرابي العلاج بعد التخيير لن يدخل الجنة؟
جـ: قطعاً سيدخل وليس عندنا شك في ذلك، فهو لما قال له إن شئت صبرت فهو خير لك أي لك الجنة ليس المراد من هذا أنه إن صبر له الجنة بل المراد شيئاً أعلى من البشارة بالجنة فهو إن صبر له الجنة مع رفعة المكانة، وإن لم تصبر فليس لك هذه الرفعة للمكانة إنما لك الجنة مصداقاً لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم – في البخاري – [إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه – أي عينيه – فصبر، عوضته منهما الجنة] ثم إنه صحابي مؤمن، والمؤمنون في الجنة فكل من بُشر بالجنة هو ليس له بشارة بالدخول فقط، بل له بشارة بالدخول مع شيء آخر مع ذهاب الخوف والفزع يوم الفزع الأكبر مع منزلة خاصة ...(6/325)
وسأضرب لذلك مثلاً: لو أن إنساناً عمل حفلة ودعى الناس إلى هذه الحفلة دعوة عامة بحيث أن كل من جاء سيدخل، لكنه وجه بطاقات دعوة خاصة لأشخاص مقربين،فإذا جاء الناس إلى الحفلة كلهم سيدخلون لكن من عنده بطاقة دعوة ستأخذه إلى غرفة خاصة، فهم الآن لهم شأن، ولله المثل الأعلى.
فهذا إذا بُشر ونحن إذا أكرمنا الله ودخلنا الجنة فيكون كلنا قد دخلها، هو ونحن لكن هو له اعتبار خاص ومزية خاصة إن كان قد صبر، وإن لم يصبر فله أيضاً مزية وهي بسبب الصبر على هذه البلية، هذا هو المعنى وليس المعنى أنه إن دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فلن يدخل الجنة، ونحن نجزم أن الصحابة كلهم من أهل الجنة لكن دون تحديد لأعيانهم إلا من ورد فيه النص، كما أننا نجزم بأن جنس المؤمنين كلهم من أهل الجنة لكن دون تحديد لأعيانهم لأننا لا ندري بأي شيء سيختم لهم، لكن لو علمنا أن هذا خُتم له على الإيمان فهو من أهل الجنة قطعاً وجزماً، وسيدخلها إن عاجلاً مع الباقين، أو آجلاً بعد أن يعذب ويطهر، لا، الله أعطانا عهداً بأن من ختم له على الإيمان سيدخله غرف الجنان.
إخوتي الكرام.... هذا الحديث – حديث عثمان بن حنيف – قال عنه الإمام الشوكاني في كتابه (تحفة الذاكرين) صـ37 وصـ138 صلاة الحاجة: "في هذا الحديث دليل على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، مع اعتقاد أن الفاعل هو الله،وأنه المعطي المانع ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن".(6/326)
وهذا الكلام الذي قاله الشوكاني لا يزيل الإشكال الذي زيد إزالته، فنقول: إن هذا التوسل ليس بذات النبي صلى الله عليه وسلم، فكان ينبغي أن يقول: "إن هذا التوسل بدعائه ... " ولذلك عَلّقوا على كلام الإمام الشوكاني، قال شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله، في كتابه النفيس (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة) واحرصوا على هذا الكتاب فهو أحسن ما كتب في التوسل، قال في صـ65: "وهذا التوسل – أي توسل الأعمى بالنبي عليه الصلاة والسلام هو من النوع الثاني" أي من التوسل بدعاء المتوسَل به، فهو كنظير توسل عمر بالعباس رضي الله عنهم أجمعين.
إخوتي الكرام.... إذن لابد من سبب إما من المتوسِل نحو المتوسَل به وإما من المتوسَل به.
الرسم التخطيطي
بعد أن انتهينا من هذه المسألة المهمة عندنا سؤال، وهو يرد على كثير من الأذهان فلابد من الجواب عليه.
سؤال: لو قال قائل: أسألك يا رب بجاه / بمنزلة / بشرف / بنبوة / بمكانة / نبيك صلى الله عليه وسلم أن تقضي حاجتي وكذلك لو قال أسألك يا رب بجاه / بمنزلة / بشرف / بنبوة / بمكانة / أبي بكر رضي الله عنه أن تقضي حاجتي وكذلك لو قال في حق غيرهما أيضاً، وهذا النوع فاشٍ في هذه الأيام، فهل يجوز التوسل بهذه الكيفية أم لا؟
والجواب: أنه لا يجوز مثل هذا النوع من التوسل ويمكن تقرير هذا الجواب بخمسة أجوبه:
الجواب الأول: أننا نعلم يقيناً أنه لا حق للمخلوق على الخالق فمن توسل بحق مخلوق على الخالق، فقد خالف الأمر الشرعي.(6/327)
فإن قيل: ورد عن نبينا عليه الصلاة والسلام حديث يشير إلى أن للمخلوق حقاً على الخالق، والحديث في المسند والصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: [كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار اسمه عُفير، وليس بيني وبينه إلا مثل مؤخرة الرحل (1) فقال لي: يا معاذ قلت: لبيك رسول الله وسعديك (2) ، فسار النبي صلى الله عليه وسلم ساعة (3) ، ثم قال ثانية: يا معاذ، قلت لبيك رسول الله وسعديك ثم سار ساعة، فقال في الثالثة: يا معاذ، قلت: لبيك رسول الله وسعديك، فقال: أتدري ما حق الله على عباده؟ ، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ثم سار النبي عليه الصلاة والسلام ساعة فقال في الرابعة: يا معاذ، قلت: لبيك رسول الله وسعديك] انتبه!! [قال أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه (4) ،
__________
(1) مؤخرة الرحل: هي الخشبة التي توضع على ظهر البعير لأجل أن يتمسك بها أو يستند إليها الراكب عندما يركب والمراد لم يكن بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم إلا حاجز يشير بمقدار شبر وهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم أنه يركب على الحمار ويردف أصحابه خلفه.
(2) (لبيك) ألبَّ بالمكان إذا قام به وعكف عليه ولزمه، والمراد أنا مقيم على طاعتك مواظب على سماع أوامرك (سعديك) إسعاداً لك بعد إسعاد وهو من باب الدعاء، أي أنا مقيم على طاعتك وأدعو لك بالسعادة فمرني بما شئت وهذا من أدبه رضي الله عنه.
(3) أي فترة من الوقت، وليست بالساعة الزمنية.
(4) أي إذا عبدوا الله ولم يشركوا به شيئاً، وقد قال تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) ، وكان كل رسول يقول لقومه (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) ..(6/328)
قلت الله ورسوله أعلم، قال: حقهم على الله ألا يعذبهم، قلت: يا رسول الله، أفلا أُبشّر الناس، قال: لا تبشرهم فيتكلوا] أي خشية أن يصبح عندهم شيء من الغرور والأماني وترك العمل ويقولوا ما دمنا موحدين فلن يعذبنا الله، فيفتر عزمهم في الطاعات – وهذا حال البشر – فلا يتهجدون ولا يتنفلون ولا يكثرون من الصدقة ولا من الذكر ولا من الدعاء ولا يتنافسون في أمور الخير (1) .
إخوتي الكرام ... الشاهد أنه أوجب لهم حقاً في هذا الحديث ونقول: لا إشكال في هذا الحديث، لأن هذا الحق هو محض فضل من الله ومحض كرم منه والعبد لا يستحق هذا على ربه لأنه مخلوق له وتوفيقه بالطاعة هو من فضل الله، فكيف إذن يستحق على الله شيئاً؟!!
وقد تقدم معنا أنه لن ينجو أحد النار إلا بفضل الله، ولن يدخل الجنة إلا برحمته:
فإن يثيبنا فبمحض الفضل ... وإن يعذبنا فبمحض العدل
__________
(1) إخوتي الكرام كثير من الناس يحملون أخبار الوعد على غير محلها مع أن أخبار الوعد ينبغي أن تدعوك لزيادة العمل لا للفتور عن العمل، ولذلك كل رجاء لا يبعث على عمل فهذا غرور وأماني لا صحة له، فمثلاً: أنت إذا كنت تريد أن تتزوج زوجة فتطلبها أم تهرب منها وتبتعد؟ بل تطلبها وتكدح وتعمل وتقدم الهدية بعد الهدية لأنك راج ٍ، ومن علامة الرجاء الطلب لا الهرب، ولذلك كان سلفنا يقولون: "عجبنا من الجنة نام طالبها، وعجبنا من النار نام هاربها" إذن في حال الرجاء طلب وفي حالة الخوف هرب، وقد وقع في هذا كثير من طلبة العلم فهو لما سمع (أن النظرة إلى المرأة صغيرة) قال ما دامت صغيرة فلا مانع من أن أنظر وسمع قيام الليل سنة والسنة لا يعاقب تاركها، إذن لا داعي أن أقوم الليل، وصلاة الفجر مستحبة قال: إذن لا عليّ شيئاً في تركها، فهل هذا طالب علم شرعي؟!! العلم هو ما يكسبك خشية الله، وإذا لم يُكسبك خشية وبال عليك.(6/329)
إذن فحق العباد هنا هو تفضل الله به عليهم، وقد ثبت في سنن أبي داود وابن ماجه وصحيح بن حبان ومسند الإمام أحمد عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي قال: [لو عذب الله أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم] وهذا محض عدل [ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم] أي: خيراً من أعمالهم.
إذن فأنت عندما تقول: أسألك بحق نبيك، فهل للمخلوق حق على الخالق؟ لا، وقد تقدم معنا أنه "لو عذب الله وحاسب نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وعيسى بن مريم بما جنت السبابة والإبهام لعذبهما ثم لم يظلمهما" ولو عذب الله جبريل فمن دونه من المخلوقات في العالم الأعلى والأسفل لعذبهم وهو غير ظالم لهم،ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم.
تنبيه:
إن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى معاذاً عن البشارة وقد بلغنا، وقد ورد في آخر الحديث، فأخبر معاذ بها – أي بهذه البشارة – عند موته تأثماً أي خشية الإثم، فكيف ينهى عن التبشير ثم يبلغ ويبشر بهذا الحديث؟
أجاب العلماء عن ذلك بأربعة أجوبة:
أولها: وهو اختيار الحافظ ابن حجر، وهو: أن معاذاً فهم من المنع كراهة التنزيه (خلاف الأولى) أي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه مرشداً له إلى الأكمل، لا أن عليه إثماً إذا أخبر بذلك، فتعارض هذا مع الأحاديث الآمرة بالبيان وعدم الكتمان لحديث [من كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار] فأخبر بذلك دفاعاً للوقوع في المحرم وهو الكتمان وإن وقع في خلاف الأولي وهو التبشير.(6/330)
ثانيها: وهو اختيار القاضي عياض وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد من نهي معاذ عن البشارة النهي لا التحريم ولا التنزيه، إنما أراد أن يكسر عزمه، لئلا يذهب معاذ إلى الأسواق والمجامع وينادي حقكم على الله ألا يعذبكم إذا عبدتموه وبالتالي يحصل سوء فهم لهذه البشارة على حقيقته فكسر عزمه وقال لا تخبرهم أي الآن في هذا الوقت وأنت مندفع ومتحمس، لكن أخبرهم بعد أن تتروى ويخف الأمر على نفسك. وهذا الجواب لعله أوجه الأجوبة.
ثالثها: وقد ذكره القاضي عياض ذكراً فقط، وهو: أن معاذاً فهم المنع والتحريم من النهي، ثم تبين له النسخ بعد ذلك بالأحاديث التي فيها حض على نشر العلم وتحريم كتمانه، فبلغ الحديث. وهو وجه ضعيف، لأنه لو كان الأمر كذلك لما أخر معاذ هذا إلى وقت وفاته.
رابعها: وقد ذكره الإمام ابن الصلاح: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى معاذاً عن البشارة العامة ورخص له بالبشارة الخاصة، وهذا هو الذي فعله معاذ، فإنه لم يخبر الناس في مجامعهم، لكنه أخبرهم عندما احتضر، والعادة أنه لا يحضر مجلس المحتضر إلا خواصه وأصحابه ليسلوه ويثبتوه ويدعوا له فأخبرهم عند موته.
أظهر الأجوبة والعلم عند الله الجواب الثاني، وأما الجواب الثالث ففيه بعد، والجوابان الأول والرابع مقبولان والعلم عند الله.
الجواب الثاني:(6/331)
إذا قيل: ورد عن نبينا عليه الصلاة والسلام السؤال بحق السائلين وهذا توسل بحق مخلوق، ثبت الحديث بذلك في مسند الإمام أحمد ومسند بن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري والحديث رواه الإمام ابن السني في كتابه (عمل اليوم والليلة) من حديث بلال وأبي سعيد الخدري، ورواه أيضاً أبو نُعيم في كتاب الصلاة، وابن خزيمة في كتاب التوحيد، ولفظ الحديث. عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سمعةً، خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، فأسألك أن تعيذني من النار وأن تدخلني الجنة وأن تغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قال ذلك: أقبل الله عليه بوجهه واستغفر له سبعون ألف ملك] فهنا ورد [بحق السائلين] فكيف هذا؟
والجواب: أن السؤال بحق السائلين هو توسل إلى رب العالمين بما جعل الله سبباً لإجابة دعاء المخلوقين وذلك السبب هو: دعاء الله وعبادته، وكأن القائل للدعاء المتقدم يقول: يا رب إنك وعدت السائلين الإجابة وقطعت وعداً على نفسك بذلك لما قلت (ادعوني أستجب لكم) فأسألك بذلك الوعد الذي قطعته على نفسك وأسألك بحق السائلين هذا أن تجيرني من النار وأن تدخلني الجنة وأن تغفر لي ذنوبي (1) وهذا توسل بمعنىً مقبول فإن هناك ارتباطاً وملازمة بين المتوسَل به وبين المتوسِل.
__________
(1) هذا كما لو أن رجلاً مثلاً نشر في جريدة بياناً أن من يأتي إلي بيته في يوم كذا سيعطيه مائة درهم فذهبت ولم يعطك إعانة فتقول له أسألك بشرطك الذي نشرته بعرضك الذي وعدته أن تعطيني مائة درهم.(6/332)
وليس من هذا النوع سؤال المخلوق الخالق بحق مخلوق أو بصلاحه أو بجاهه أو بمنزلته، لأن كون المخلوق له منزلة وله جاه وله قدر وله شرف وله رتبة ليس ذلك بمعنىً موجب لإجابة الدعاء، فأي مناسبة بين صلاح إنسان ما وبين توسلك إلى الله بصلاحه في إجابة دعائك؟!! وأي مناسبة بين نبوة وجاه ومنزلة النبي صلى الله عليه وسلم وبين دعائك.
ثم إن السؤال بالجاه والمنزلة يستوي فيه الكافر والمؤمن فلو قال الكافر يا رب أسألك بجاه بينك أن تقضي حاجتي، ولو قال المؤمن يا رب أسألك بنبيك صلى الله عليه وسلم – أن تقضي حاجتي لاستوى الأمر، فهذا الكلام لو قاله الكافر لما أمر به ولو صار مؤمناً بقوله هذا، ولو قاله المؤمن لما دل على أنه متبع، بل لابد من سبب منك نحو المتوسّل به، أو منه، أو نفس الجاه والمنزلة فليس بعله في إجابة الدعاء ولا يوجب قضاء الجوائج، ولا يلزم من حصول ذلك الجاه، قضاء حاجتك إلا إذا آمنت به، فقل: اللهم إني أسألك بإيماني بمنزلة نبيك صلى الله عليه وسلم أن تقضي حاجتي، ولا حرج في ذلك، ثم إن التوسل هنا بحق السائلين إنما توسل بأمر قد وعد الله به عباده فآل الأمر إلى توسل بسبب من المتوسِّل، لأن الله قطع على نفسه عهداً أن يجيب السائل، فنحن كأننا نقول: نسألك يا رب بذلك الحق الذي آمنا به وصدقنا أن تجيب دعاءنا والدليل على إيماننا هذا الدعاء منا.
تنبيه:
حديث أبي سعد وبلال هذا ضعيف على انفراده، قال أئمتنا: هو مسلسل بالضعفاء. وقد حكم عليه بالضعف الإمام النووي في الأذكار والإمام المنذري في الترغيب والترهيب، لكن الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله حسنه في تخريج أحاديث الأذكار لكثرة طرقه وشواهده.
وعليه فهو ضعيف على انفراده، لكن له شواهد ترفعه لدرجة الحسن، فلا مانع من الدعاء به إذا خرج الإنسان إلى المسجد.
الجواب الثالث:(6/333)
قررنا في الجواب السابق أن هذا التوسل يؤول في النهاية إلى أنه توسل إلى الله بفعلنا، ويمكن أن يقال هنا في هذا الجواب، أن هذا من باب التوسل إلى الله بأفعاله أيضاً، فالله جل وعلا عندما وعد السائلين العطاء والداعين الإجابة فهذا فعل من أفعاله، ويجوز أن نتوسل إلى الله جل وعلا بأفعاله وصفاته كما يجوز بذاته، فكأننا نقول: يا رب كما أنك تعطي السائلين وتجيب الداعين نتوسل إليك بهذا الفعل الذي يجري منك والذي تكرمت به علينا وأن تقضي حوائجنا وأن تعطينا طلبنا (دخول الجنة، والإجارة من النار، ومغفرة الذنوب) .
وكل من الجوابين أفادهما الإمام ابن تيمية في كتابه الجليل (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة) من صـ52 إلى صـ65، وأعاده في صـ145 إلى صـ147.
الجواب الرابع: في جواب أنه لا يجوز أن نقول بحق فلان ...
أنه لو كان التوسل بالجاه مشروعاً لاستوى الأمر في ذلك كون المتوسَّل به حياً أو ميتاً وإذا كان الأمر كذلك فجاه نبينا عليه الصلاة والسلام أعلى جاه وأرفعه وأتمه، فلو كان التوسل بجاهه جائزاً لما عَدَل عمر عن التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى العباس، لان جاه نبينا عليه الصلاة والسلام جاه رفيع عالٍ لا يختلف سواء كلن حياً أو ميتاً.
ولم ينقل عن صحابي أنه توسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، بل غاية ما قاله عمر كما تقدم في صحيح البخاري [إنا كنا نتوسل إليك بنبينا عليه الصلاة والسلام فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا عليه الصلاة والسلام فاسقنا] .
فإذن عدول الصحابة عن التوسل بجاه نبينا عليه الصلاة والسلام بعد موته دل على أنه لا يجوز التوسل بجاهه في حياته لأن الجاه لا يختلف حياً أو ميتاً، نعم كانوا يتوسلون به لكن بدعائه واستشفاعه لا بجاهه،ولو كانوا يتوسلون بجاهه في حياته لتوسلوا بجاهه بعد مماته.
الجواب الخامس: وهو آخر الأجوبة:(6/334)
نقول: أمور الاعتقاد ينبغي فيها غاية الاحتياط ولو سلمنا جدلاً وتنزلاً – بعد أن قررنا في الأجوبة الأربعة الماضية أنه لا يجوز – لو سلمنا أن هذا النوع من التوسل اختلف في جوازه مع أن المذاهب الأربعة يقولون: "ولا يُسأل الله إلا به (1) فلا تقل: أسألك بملائكتك أو أنبيائك أو رسلك" وهذا نص متن الحنفية في كتاب (الاختيار) وهذا على سبيل المثال لو سلمنا أن فيه خلافاً فتركه متعين عند المهتدي خشية أن يكون فيه ضلال وهو لا يدري فليترك الصيغة المختلف فيها فليقل صيغة لا اختلاف فيها.
إخوتي الكرام.... انتبهوا!! نظير هذه المسألة مسألة شد الرحل لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم هل يجوز أم لا؟
فالإمام ابن تيمية قال: لا يجوز شد الرحل لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد] ، فجاء الإمام السُبكِي ورد عليه بعد ذلك بكتاب سماه (شفاء السقام في زيارة خير الأنام) ، ثم ألف الإمام الحافظ ابن عبد الهادي بعد ذلك كتاباً رد فيه على السبكي سماه (الصارم المُنْكِي في الرد على السُبْكِي) .
__________
(1) أي لا يسأل الله إلا بالله، أو بسبب مشروع كطلب الدعاء من إنسان أو عمل صالح منك تتوسل به إلى الله، إذن فتتوسل إلى الله بالله، وتتوسل إلى الله بدعاء إنسان وتتوسل إلى الله بعمل صالح، والأول أعلى أنواع التوسل أن تتوسل إلى الله بالله يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث [في رواية: بك أستغيث] فأصلح لي شأنيَ كُلَّه ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين.(6/335)
إخوتي الكرام ... والله ما أدري أن الأمر يستدعي هذا الخلاف الطويل الشديد، ولا أرى هذا مشروعاً، فالمسألة تحل بسهولة، قال لي بعض الإخوة مرة، وأنت ما رأيك في المسألة فقلت: والله إن المسألة أقل من أن نبذل جهداً في حلها، ثم قلت له: هل تجوز زيارة مسجد النبي عليه الصلاة والسلام أم لا؟ قال: بالإجماع تجوز، قلت: وإذا دخلنا المسجد فهل يجوز أن نسلم على النبي عليه الصلاة والسلام وأن نبكي في الروضة المشرفة شوقاً إليه وحزناً على عدم رؤيته أم لا؟ قال: يجوز، قلت: إذن لا خلاف في المسألة، فلماذا بدلاً من أن أقول شددت الرحل إلى زيارة النبي صلى الله عليه وسلم أقول شددت الرحل لزيارة المسجد ثم بعد دخول المسجد أزور النبي عليه الصلاة والسلام، فلماذا لا ينوي من يريد زيارة النبي صلى الله عليه وسلم نية مجمعاً على جوازها ولا يقول لأى أحد إنك قد ابتدعت، لأنه نحن في الأصل لا خلاف بيننا في النهاية أنا وأنت سنزور النبي صلى الله عليه وسلم، لكن اختلافنا في القصد هل نشد الرحل للزيارة المجردة أو للمسجد قلت: ما أحد يشد الرحل للزيارة المجردة، فهل يعقل أن يذهب أحد إليه ولا يصلي فيه مع أن الصلاة فيه تعدل ألف صلاة؟!! وهل يعقل أن يذهب أحد للروضة ولا يصلي فيها؟!! هذا مستحيل.
إذن فالذي يذهب إلى المدينة المنورة فلينو الذهاب إلى المسجد ثم يقول بعد ذلك: سأزور النبي صلى الله عليه وسلم، ولا حرج في ذلك إن شاء الله.
بعض المتوسلين ممن كان يتوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم قال لي – وهو يعلم أنني لا أجيز هذا – وكأنه يريد أن يتحداني -: يا شيخ هؤلاء الوهابية يقولون لا يجوز التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يكن للنبي جاه فمن له جاه؟!(6/336)
إخوتي الكرام ... لو أردت أن أقابل عنفه بعنف فلن نصل إلى حل، فقلت له: يا عبد الله لا أريد الآن لا وهابية ولا صوفية، هذه الشريعة إسلامية ونحن نعبد الله بها، وأقل ما في هذه الصورة التي تقولها أن فيها خلافاً وعندنا صيغة أخرى تؤدي مدلولها وفيها زيادة عليها ولا خلاف في جوازها، قل: أسألك بحبي لنبيك عليه الصلاة والسلام أن تقضي حاجتي وأرح نفسك وخلص الأمة من الخلافات والمشاكل وهل صار الدين نكاية ببعضنا، فلكوني لا أجيز هذا أنت ستتحداني، بل تعال يا عبد الله لنقل كلمة مجمع عليها، أنا أقول لك جزاك الله خيراً، وأنت تقول لي جزاك الله خيراً، وأنت مهتد وأنا مهتدي إن شاء الله تعالى.
إخوتي الكرام.... بالنسبة لتوحيد كلمة الأمة والتأليف بين القلوب هذا مطلوب لاسيما إن لم يكن في ذلك ترك لركن أو شعيرة، ولم يكن فيه احتقار للنبي صلى الله عليه وسلم، أما لو كان فيه ذلك وكان فيه احتقار للنبي صلى الله عليه وسلم فإننا لا نوافق أهل الأرض على كلامهم بحجة التأليف وتوحيد الكلمة فلا مجاملة في دين الله، والأمر الذي عندنا ليس كذلك فليس في توحيد الكلمة فيه ترك لركن أو شعيرة بل وهو مما ليس فيه أيضاً احتقار للنبي صلى الله عليه وسلم.
ولذلك يجب على المهتدي أن يقول صيغة في توسله لا خلاف فيها حتى، لا يُعترض عليه لاسيما أننا في أمر اعتقاد، وليس في أحكام عملية فرعية حتى يُقال دعوا الأمة في سعة، وقد تقدم معنا إخوتي الكرام ما يشير إلى هذا عند كلام الإمام أحمد في(6/337)
أنه يجوز القسم بالنبي صلى الله عليه وسلم وذكرت لكم هذا، وأننا إذا أقسمنا بالله فهو قسم جائز بالإجماع، وإذا أقسمنا بالنبي عليه الصلاة والسلام فهو مما فيه خلاف، فلنترك ما فيه خلاف إلى ما لا فيه خلاف، وهنا كذلك، التوسل بحب النبي صلى الله عليه وسلم أو بنحوه من التوسل الجائز أفضل من التوسل بالجاه لأنه مما أُجمع على جوازه، ثم إن فيها معنىً أعلى من التوسل بالجاه أيضاً، بالإضافة إلى ما فيها من توحيد القلوب وتآلفها، ودين الله ليس نكاية ببعضنا البعض، فنحن كلنا نتبع نبياً واحداً عليه الصلاة والسلام ونعبد إلهاً واحداً، فأنا إذا رأيت فعلك شرعياً، وعندي بعد ذلك رأي يمكن أن يخالف فعلك، فأقول: أفعل الفعل الشرعي الذي تفعله كي أوافق أخي وأترك رأيي وإن كان شرعي خير وأحسن من فعل يفعله واحد وهو شرعي.
... إخوتي الكرام ... الاحتياط في أمور الاعتقاد مطلوب، وإذا رأيتم من يفعل هذا النوع من التوسل – وما أكثرهم – فعظوه برفق ولطف، وقل له: أدري أنك لا تقصد بدعة ولا ضلالاً ولا انحرافاً بدعائك هذا، بل أنت لا تقصد إلا خيراً، لكني سأرشدك إلى صيغة أحسن من هذه وأكمل وتدل على تعلقك بنبيك عليه الصلاة والسلام – وأنت إذا قلت هذا فسيفرح حتماً ويقول لك: وما هي التي أعلى منها؟ فقل له قل: أسألك بحبي للنبي عليه الصلاة والسلام، فبالرفق ادعوه وأما إذا رأيته يتوسل بالجاه وقلت له: هذه بدعة، فإنه سيسبك أنت وأبويك والذي علمك ومن هم على طريقتك من أهل الأرض لأنه يفسّر هذا القول منك بأنه احتقار للنبي صلى الله عليه وسلم وامتهان له مع أن الأمر ليس كذلك، واللهِ إن الذي يقول لا يوجد جاه للنبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر، وإذ لم يكن للنبي جاه فمن الذي له جاه؟!! وهو الذي يقول عن نفسه: [أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر] فهل بعد هذه السيادة من سيادة؟!!!.
واختموا الكلام عن هذا السؤال وأجوبته بقول أئمتنا، وهو:(6/338)
إن السؤال بجاه مخلوق هذا من باب الاعتداء في الدعاء، وهو حرام، وقد نهانا نبينا عليه الصلاة والسلام عن الاعتداء في الدعاء.
ففي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وابن ماجه – والحديث صحيح – عن عبد الله بن مغفّل رضي الله عنه [أنه سمع ابناً له يدعو فيقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة، فقال: يا بني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: سيكون في هذه الأمة أقوام يعتدون في الدعاء وفي الطُّهور، فإذا دعوت فسَل الله الجنة واستعذ به من النار] .
هذا التحكم وهذا التحديد وهذا الشطط من باب الاعتداء في الدعاء، بل الواجب أن تسأل الله الجنة، وأن تستعذ به من النار، ولا تحدد وتتحكم.
والاعتداء في الطهور هذا موجود وهو الإسراف في الوضوء والغسل، فتراه يتوضأ ببرميل واثنين وأكثر ويرى أنه لم يتطهر ولم يغتسل ولم يسبغ الوضوء، حتى أن البعض ينغمس في البركة خمس مرات ثم يخرج ويقول الماء لم يبلغ جسمي!!!.
وقد رأيت أمثال هؤلاء الموسوسين في حلب لما يأتي للصنبور (الحنفية) يضربها برجله خشية أن يكون مسها إنسان ونجسها ثم يجلس يتوضأ من بداية الآذان وتنتهي الصلاة وما زال يتوضأ وكلما قام رجع وقال لم أسبغ الوضوء بعد!!!.
وجاء رجل إلى الإمام ابن عقيل الحنبلي فقال له أغتسل في البركة ويوسوس لي الشيطان بأنني لم أبلّغ أعضائي ولم يسقط غسل الجنابة عني، فماذا أعمل؟ فقال له الإمام: تسمع مني؟ قال: نعم، قال: اترك الصلاة، قال: وكيف أتركها؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رفع القلم عن ثلاث ذكر منهم: وعن المجنون حتى يعقل، ولا يفعل هذا إلا مجنون.
الحاصل أن الإسراف في الماء من الاعتداء في الطهور، والطهور إنما شُرع لأجل أن يزيل الخطايا والذنوب لا ليطهّر الأعضاء الحسية، فلا داعي للإسراف وإياكم أن تعتدوا!!!.
وكذلك الدعاء بجاه النبي صلى الله عليه وسلم هذا من باب الاعتداء في الدعاء، فإياكم أن تعتدوا!!!.(6/339)
تنبيه ثانٍ:
روي الحاكم في المستدرك (2/615) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [لما اقترف آدم الخطئية (1) ، قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي (2) ، فقال الله: يا آدم، وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه (3) ، قال: يا رب إنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله، صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إليّ ادعني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك] ، ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد.
فقد يقول قائل: هذا حديث في المستدرك على الصحيحين وقد صححه الحاكم مع أن فيه: أن آدم توسل بحق محمد – عليه الصلاة والسلام – فكيف تقولون: إنه لا يجوز أن نسأل الخالق بحق مخلوق؟
والجواب: إن الإمام الذهبي علق على كلام الحاكم في تلخيص المستدرك وهو مطبوع مع المستدرك في حاشيته: "صحيح الإسناد!! قلت: بل موضوع، وعبد الرحمن واهٍ" إذن هذا حديث موضوع مكذوب فلا حجة فيه.
والسبب في أن الحاكم أخطأ في كثير من الأحاديث وصححها وهي ضعيفة بل موضوعة، أن كتابه المستدرك هذا كتبه تلامذته وكان هو يمليهم من صدره، فلما كتبه التلاميذ بقى في حيز المسوّدات ولم يبيضه الحاكم وكان ينوي أن يعيد النظر فيه، ويراجعه، فتوفي قبل ذلك رحمه الله.
__________
(1) أي أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها.
(2) أي أسألك بحق محمد أن تغفر لي.
(3) أي ما الذي أدراك به وأنت أول البشر، ولم يحصل لك للآن نسل أو أولاد، فكيف عرفت به وهو آخر رسل الله على الإطلاق.(6/340)
والإنسان أحياناً عندما يحدث من حفظه قد يشتبه عليه بعض الرواة فيكون الراوي ضعيفاً أو كذاباً ولا ينتبه له عندما يحدث من حفظه، لكن عندما يجلس ليؤلف ويصنف فهناك يتحقق، ودائماً الحديث الشفوي النظري ليس له من التحري والتأكد كما يكون في حال الكتابة والتوثيق، فهذا مثلاً في هذا الحديث عند الرحمن بن زيد بن أسلم واهٍ لكن خفي هذا الكلام على الحاكم، لأنه في مجلس إملاء – كما قلت – ومجالس (1) الإملاء كانت في سلفنا وانقضت بانقضاء السلف الصالح وما خلفهم أحد يسد مسدهم والعجب لموقف الإمام ابن تيمية عليه رحمات رب البرية نحو هذا الحديث، ففي كتاب الاستغاثة الذي سماه في الرد على البكري، يقول في صـ5: هذا الحديث لا يوجد في شيء من دواوين الإسلام فلم يخرجه أحد من أصحاب الصحيحين ولا المسانيد ولا السنن ولا الحاكم في المستدرك ولا غيرهم.
__________
(1) مجالس الإملاء: كان الشيخ يجلس فيها ويملي من صدره لا من كتابه، فأحياناً يملي في المجلس الواحد ألف حديث أو خمسمائة حديث أو مائة حديث بأسانيدها ومتونها من صدره، وهذا كان يتميز به سلفنا عمن بعدهم؟ فالعلم في صدورهم لا في كتبهم، وكما قيل: العلم ما حواه الصدر لا ما حواه القِمَطْرُ.
وحقيقة مجالس الإملاء تدل على نبل العلماء لكن كما ذكرت ليس فيها من التحري ما يوجد في التصنيف، والتأليف والتحقيق فهذه كما قال البخاري: لم أودع حديثاً في الجامع الصحيح إلا بعد أن اغتسلت وصليت ركعتين واستخرت الله في وضعه، فانظر لهذا التحري من الإمام البخاري؛ لأن هذا تصنيف وليس من إملائه على أحد، لكن الحاكم ليس كذلك كان يملي وتلامذته يكتبون وراءه ما يملى عليهم، فمات قبل أن ينظر فيما كتب عنه وكانت فيه أحاديث ليست بصحيحة فجاء الإمام الذهبي واستدركها على الحاكم وسماه تلخيص المستدرك.(6/341)
وجاء في كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة فقال صـ69 بعد أن ذكر هذا الحديث: "رواه أبو عبد الله الحاكم في المستدرك وهذا مما أنكر عليه".
وفوق كل ذي علمٍ عليم – وهذا حال البشر – فلعله – والعلم عند الله – ألف كتاب الاستغاثة في أول الأمر وما علم بوجود هذا الحديث في المستدرك ثم اطلع عليه بعد ذلك فتعرض له في كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة وبين أن هذا الحديث موضوع.
فهذا الحديث باطل قطعاً وجزماً [لولا محمد ما خلقتك] ، والحديث الموضوع الآخر [لولاك لما خلق الله الأفلاك] أي الكواكب والنجوم والحديث الموضوع الآخر [خلق الله الورد من عرق النبي صلى الله عليه وسلم] .
هذه الأحاديث كلها أحاديث موضوعة يضعها بعض المخرفين الذين يزعمون أنهم بوضع هذه الأحاديث يحبون النبي الأمين عليه صلوات الله وسلامه، وعندنا فرقة ضالة في الأمة الإسلامية أجازت وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب هم الكرامية (1)
__________
(1) الكرامية هم أتباع محمد بن كرام السِّجستاني الذي هلك سنة 225هـ، هؤلاء أجازوا وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب يقول أئمتنا في ترجمة هذا العبد المخذول – محمد بن كرام -: التقط من المذاهب أردأها، ومن الأحاديث أوهاها – وهؤلاء أولاً: يقولون بتشبيه الخالق بالمخلوقات. ثانياً: يقولون بجواز وضع الأحاديث على خير البريات وقالوا: نحن نكذب له لا عليه ونحن نروج دعوته، وكأن دين الله الحق ليس فيه ما يحبب الناس فيه حتى احتاج إلى كذب الكذابين وإفك الآفكين؟!! سبحان الله!! منزلة نبينا عليه الصلاة والسلام وهي أعلى منزلة بلا خلاف.
وأفضل الخلق على الإطلاق ... نبينا فمِلْ عن الشقاق
لكن لا يجوز بعد ذلك أيضاً الإطراء والغلو أيضاً، كما حذرنا عليه صلوات الله وسلامه ففي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب مرفوعاً [لا تطروني كما أَطْرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله] والإطراء هو المدح بالباطل والمجازفة في المدح والمبالغة فيه بحيث تذكر في الممدوح ما لا يوجد فيه، فهل خلق الله الكون من أجل محمد عليه الصلاة والسلام؟!! أم أنه ما خُلِق هو، والخلق كلهم إلا لتوحيد الله وعبادته؟!! (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) ، فلماذا هذا الإطراء والافتراء على رب الأرض والسموات لولا محمد ما خلقتك، ولولا محمد ما خلق الله الأفلاك، هذا كلام باطل وهو من الإطراء المنهي عنه فاحذروا، وعندنا في التفسير آيات تسمى آيات العتاب، قال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام (عفى الله عنك لم أذنت لهم) (لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم) (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين) (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) . ثالثاً: يقولون الإيمان مجرد نطق باللسان وإن لم يعتقد بالجنان (القلب) ، فهذه هي ضلالات الكرامية الثلاثة.(6/342)
وجوز الوضع على الترغيب ... قوم ابن كرّام وفي الترهيب
س: حُكمنا على هذا الحديث جاء من المتن أو الإسناد؟
جـ: جاء من الأمرين معاً: فالسند كما قلنا فيه عبد الرحمن بن زيد وهو ضعيف بالاتفاق، وخفي ضعفه على الحاكم، فليس هو من رجال البخاري ولا من رجال مسلم، وأخرج له الترمذي وابن ماجه القزويني، ولذلك إذا نظرت في ترجمته في تقريب التهذيب ترى الحافظ ابن حجر قال: "عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من الثامنة ضعيف، ت، ق" أي هو من طبقة الرواة الثامنة، وهو من رجال الترمذي والقزويني ابن ماجة.
ثم إن معنى الحديث كما قلت باطل ومردود منكر، فالآفة من الأمرين، والحاكم في الأصل أنه يورد في المستدرك أحاديث الرواة الذين أخرج لهم البخاري ومسلم، ولكن عبد الرحمن بن زيد ليس كذلك بل وليس هو أيضاً على شرط الصحيح مطلقاً.(6/343)
.. حكم عليه الإمام الذهبي بالوضع، وإلا فالسند لا يقوى على الوضع، والراوي الضعيف أحياناً نحكم على روايته بالوضع لا لأنه ضعيف إنما لأن هذه الرواية خالفت عندنا الأصول الشرعية الثابتة، فلعله لضعفه التبس الأمر عليه ووهم، لكن شتان بين من يتعمد الوضع وبين من يخطئ ويهم وينسى ولا يضبط، فنحن بالنسبة لعبد الرحمن على انفراده لا نقول عنه إنه وضاع كذاب لكن نقول: هذه الرواية موضوعة ووهم في روايتها، هذا كما لو جاءنا راوٍ ثقة برواية مقلوبة، فما معنى مقلوبة؟ يعني موضوعة لكن أئمتنا أرادوا أن يهذبوا اللفظ لأن لفظ الوضع فيه شناعة لا يليق أن توصف به رواية الراوي الثقة كالحديث الثابت في صحيح مسلم عن السبع الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله [رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما أنفقت شماله] هذا مما انقلب على الراوي والصحيح الثابت عند البخاري وغيره من الأئمة [حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه] ، كأن القلب وضع، لكن هناك فرق بين يكون الراوي تعمد ذلك وبين أن يكون قد أخطأ، فلما أخطأ قلنا هذه مقلوبة في المتن، والمقلوب ليس من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه موضوع لكنه لا يوصف بأنه موضوع كما ذكرنا ولا يوصف الراوي بأنه وضاع بل يبقى عندنا ثقة، وهنا كذلك الراوي ضعيف لكن الرواية موضوعة نص على وضعها الذهبي في تلخيص المستدرك، ونص على وضعها أيضاً الإمام ابن تيمية عليهم جميعاً رحمة الله.
س: لماذا أورد الحاكم هذا الحديث مع بطلانه وضعف سنده؟(6/344)
جـ: بالإضافة إلى ما ذكرناه من أنه رحمه الله لم يصنف هذا الكتاب إنما أملاه إملاءً وكتبه تلامذته وراءه، نضيف هنا فنقول: الإمام الحاكم رحمه الله يجمع ما بلغه وما نُقل له وما حَدَّث به ثم يبقى بعد ذلك دور الغربلة والتنقية: هل هذا الحديث صحيح أم لا؟ يحتاج لنظر ولو صح هل وجد ما يعارضه أم لا؟ فإذا وجد ما يعارضه هل هذا أقوى أم ذلك حتى نعمل بينهما ترجيحاً؟ فشتان بين جمع الأحاديث فقط وبين جمعها للاستدلال بها. ففي الحالة الأولي (الجمع) يجمع فقط، وفي الثانية (الاستدلال) يختار ويمحص.
... وقد قلت مرة لأحد شيوخنا الشيخ مصطفى الحبيب الطير في مصر، وهو من المشايخ الصالحين الطيبين قلت له: موضوع أئمة الإسلام المتقدمين كأمثال ابن جرير (ت: 310هـ) وغيره كأبي نُعيم والخطيب البغدادي ملأوا كتبهم بالأحاديث الضعيفة، بل في بعضها موضوع أيضاً، فهذا العمل منهم يحيرني وهم الجهابذة وعلماء السنة والرجال والتاريخ.
فقال لي: يا بني، إن عصرهم كان عصر جمع فقط، وهذا من أمانتهم وتقاهم وخشوعهم لربهم وتحريهم جمعوا ما بلغوا لكن لا تظنوا أنه جمع كجمعنا كحاطب ليل، بل جمع بأدق وأحسن وأتم طرق الجمع معه علامات تدل على قبول الرواية أوردها، وهذه العلامات هي الإسناد، وكأنهم يقولون لنا: هذا الكنز الذي نقلناه إليكم لم نخنكم فيه، بل أعطيناكم علامات تدل على ثبوته أو على رده وهي الإسناد.
ولذلك قال أئمتنا: الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء. وقالوا أيضاً: إذا روى الإنسان حديثاً موضوعاً فلا يبرأ من عهدته ولا يخرج من إثم روايته إلا بأحد أمرين:
أ) إما أن يرويه بالسند، فمن أسند لك فقد حملك.
ب) وإما أن يبين أنه موضوع.
وإذا لم يفعل أحد هذين الأمرين فهو آثم، وهو أحد الكاذبَيْن على رسول الله صلى الله عليه وسلم [من كذب علي....] وهو هنا الذي نشر الكذب، لا الذي أنشأه وصاغه.(6/345)
وقال السخاوي في فتح المغيث في شرح ألفية الحديث، كان الإسناد من جملة البيان عند المتقدمين، وفي الأعصار المتأخرة صار ذكر الإسناد وعدمه سواء عند الناس فإذن هذا من أمانة العلماء المتقديمن.
ثم قال لي – وهو جواب على ما استشكل على -: يا بني قد يكون الحديث ضعيفاً عند الطبري، والضعف يسير محتمل، وقد يوجد هذا الحديث نفسه عند أبي نُعيم من طريق آخر ضعيف أيضاً، وكذلك يوجد الخطيب البغدادي الحديث نفسه من طريق آخر ضعيفاً فلو أن كلاً منهم أهمل هذا الحديث بحجة أنه ضعيف عنده لأهملوا لنا ثروة عظيمة وهي الشواهد والمتابعات، فهذا الحديث الذي رواه الطبري وهو ضعيف يتقوى بما رواه أبو نعيم ويتقوى بما رواه الخطيب، فيصل لدرجة الحسن ويصبح مقبولاً.
مبحث الميثاق
يقول الإمام الطحاوي عليه رحمات ربنا الباري:
"والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق"
إخوتي الكرام ... الميثاق معناه في اللغة: العهد المؤكد، والوثاق هو حبل أو قيد يشد ويربط به الأسير أو الدابة، يقول الله تعالى: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق) ، ما معنى الوثاق؟ حبل وقيد، فما يقيد به يسمى وثاق لأن فيه أحكاماً وربطاً وهكذا الميثاق عهد مؤكد، لكن العهد معنوي إن أكدته بيمين أو بالتزام وتصميم يقال له ميثاق كما أن ذاك إذا قيدته بالحبل يقال له أحكمت وثاقه وجعلته في ميثاق محكم لكنه ميثاق حسي.(6/346)
إنما أصل الميثاق – كما قلت – عهد مؤكد ولذلك قال الله جل وعلا في سورة النساء (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً) الميثاق هنا عهد مؤكد،وقوله، (غليظاً) أي ميثاقاً مؤكداً كثيراً وكثيراً، إذن التأكيد فيه كثير ولذلك [إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج] كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام، والحديث في صحيح مسلم، فالميثاق الغليظ هذا هو عقد النكاح عندما يتم إيجاب وقبول، هذا ميثاق غليظ فهو عهد مؤكد أمرنا الله أن نرعى هذا العهد وأمرنا ولي المرأة أن نرعى هذا العهد وأن نتقي الله في عرضه وهكذا المرأة جاءت إلى الرجل لتكون في كنفه ورعايته وأعطاها عهداً بذلك عن طريق العهد فإذن هذه ميثاق غليظ وعهد مؤكد بمزيد التأكيد.
فالمراد بالميثاق إخوتي الكرام ... أقام الله جل وعلا ميثاقه على عباده وحججه عليهم بأمور كثيرة، كثرتها تنضبط في ثلاثة أمور:
أولها: وهو أولاها بالاعتبار – إرسال الرسل.
الثاني: العهد الذي أخذ عليهم في عالم الذر عندما استخرجوا من صلب أبيهم آدم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، ومن أصلاب آبائهم.
الثالث: الفطرة المستقيمة التي فطر الله عباده عليها.
أما إرسال الرسل فهو آخر الأمور وآخر المواثيق التي أخذها الله على عباده وهو أهمها، وأول المواثيق التي أخذها الله على المكلفين هو الميثاق الذين أخذ عليهم في عالم الذر، وبين هذين الميثاقين ميثاق الفطرة، وهذه المواثيق الثلاثة هي شيء واحد فكل المقصود منها هو أخذ العهد على العباد وإقامة الحجج عليهم بأن يعبدوا الله وحده لا شريك له، جرى هذا في عالم الذر، وفطر الله العباد عليه بعد أن خلقهم وأرسل إليهم الرسل بعد أن أوجدهم ليؤمنوا بالله ويعبدوه وحده لا شريك له.(6/347)
.. وسنتكلم عن هذه المواثيق كلها لنعرف الميثاق من جميع وجوهه، ولنعرف بعد ذلك الميثاق الذي أُخذ علينا في عالم الذر وأشار إليه ربنا في سورة الأعراف (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى (شهدنا (أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون، وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون) آية 172، 173.
1- الميثاق الأول: إرسال الرسل:
يشترك لتكليف العباد إرسال الرسل إليهم وغالب ظني أنه تقدم معكم في السنة الأولى أنه يشترط في تكليف العباد بتوحيد ربهم أربعة شروط:
أولها: العقل.
وثانيها: البلوغ.
ثالثها: سلامة إحدى حاستي السمع أو البصر، فلابد من وجود واحدة منها، أما لو كان أعمى وأصم في آنٍ واحد فيرفع عنه التكليف كما لو كان مجنوناً، أما لو كان أعمى أو أصم، فلا يرفع عنه التكليف، لأنه إن كان أعمى فنبلغه دعوة الله عن طريق السمع، وإن كان أصم فنبلغه دعوة الله عن طريق الإشارة.
رابعها: بلوغ الدعوة عن طريق رسل الله الكرام.
والذين لا توجد فيهم هذه الشروط لتكليفهم بتوحيد ربنا المعبود يمتحنون في عَرَصات الموقف كما امتحنا نحن في هذه الحياة فمن أطاع الله منهم دخل الجنة ومن عصاه دخل النار وهذا القول ثبتت به الأحاديث تقارب الأحاديث المتواترة حكم عليها أئمتنا بأنها مستفيضة وهذا القول هو الذي يجمع بين الأحاديث التي وردت في هذه المسألة.
فقد وردت بعض الأحاديث التي تخبر بأن أولاد المشركين في النار، وبعض الأحاديث تقول إنهم في الجنة، وبعض الأحاديث تقول الله أعلم بما كانوا عاملين، وبعض الأحاديث – كما قلت لكم – أخبرت أنهم يمتحنون فالجمع بين هذه الأحاديث أن نقول:
? إن الأحاديث التي أخبرت أنهم في النار أي هم في النار بعد أن يمتحنوا ويعصوا.(6/348)
والأحاديث التي أخبرت أنهم في الجنة أي هم في الجنة بعد أن يمتحنوا ويطيعوا.
? وأما الأحاديث توقف فيها نبينا عليه الصلاة والسلام وقال الله أعلم بما كانوا عاملين، أي الله أعلم بمصيرهم هل هو إلى الجنة أو على النار قبل الامتحان، فهذا لا نعلمه نحن قبل أن يمتحنوا بل الله وحده هو العالم بما سيعملون بعد امتحانهم.
? والأحاديث التي أخبرت أنهم سيمتحنون هذا هو الواقع وهذا هو الذي سيحصل فيمتحنون فيظهر معلوم الله فيهم، فبعضهم يدخل الجنة وبعضهم يدخل النار.
إذن أولاد المشركين وهكذا الذين ماتوا في الفترة ومن في حكم من لم تكتمل فيهم شروط تكليفهم يمتحنون في عرصات الموقف وساحة الحساب فمن أطاع دخل الجنة ومن عصى دخل النار كما امتحنا نحن في هذه الحياة.
... إذن الميثاق الأول هو إرسال الرسل وهو حجة عظيمة أقامها الله جل وعلا على عباده بواسطة الرسل فأخبرنا الله في كتابه أنه لا يعذب العباد إذا لم يرسل إليهم رسولاً قال في سورة الإسراء آية رقم 15 (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) ، وأخبرنا الله جل وعلا أنه لو عذب العباد قبل إرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم لاحتجوا على ربهم جل وعلا يقول الله جل وعلا في سورة طه آية رقم 134 (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى) (من قبله) : أي من قبل إرسال الرسل إليهم، يعني لو عاقبنا الكفار من عتاة قريش وغيرهم قبل إرسال رسول إليهم لاعترضوا وقالوا كيف تعذبنا ولم يأتنا منك رسول ليبلغنا دعوة الله على أتم وجه،ولذلك قلت لكم هذا الميثاق الثالث الذي هو آخر المواثيق به يتعلق ويربط التكليف، فإذا لم يوجد فلا عبرة بميثاق الفطرة ولا بالميثاق الذي أخذ علينا في عالم الذر.(6/349)
وأخبرنا الله في كتابه أنه أرسل الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة فقال جل وعلا في سورة النساء آية 163-165 (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبوراً رسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليماً رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً)
الشاهد: رسلاً مبشرين ومنذرين.
... وأخبرنا الله جل وعلا في سورة الزمر أنه يقول للكفار يوم القيامة إن الرسل جاؤوكم فكذبتم واستكبرتم وما أعذبكم إلا بعد قيام الحجة عليكم، فقال جل وعلا 54-59 (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون، واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون، أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين، أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرَّةً فأكون من المحسنين، بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين)
الشاهد: بلى قد جاءتك آياتي.
... ولذلك أخبرنا الله في آخر السورة بعد ذلك أن الكفار يعترفون بأن الرسل أرسلوا إليهم وبلغوهم دعوة ربهم (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسلٌ منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم قالوا بلى ... ) الآية 71 سورة الزمر.(6/350)
.. وأخبرنا الله في أوائل سورة الملك أن الله أعد للكفار عذاب جهنم وبئس المصير وأنهم يعترفون بأنهم لو كانوا يسمعون أو يعقلون ما كانوا في نار الجحيم، يقول الله جل وعلا (وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير، إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور، تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير، قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير، وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير، فاعترفوا بذنوبهم فسحقاً لأصحاب السعير) . سورة الملك آية 6-11.
... وثبت في صحيح البخاري وصحيح ابن خزيمة – وهذا حديث يقرر إرسال الرسل إلى المخلوقين من أجل إقامة الحجة عليهم – عن عديّ بن حاتم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [وليلقين أحدكم ربه فيقول الله له: ألم أرسل إليك رسولاً فيبلّغْكَ؟ فيقول: بلى] أي بلى أرسلت إليّ رسولاً بلغني وثبتت الحجة عليّ.
2- الميثاق الثاني: إشهاد العباد على أنفسهم في عالم الذر عندما أخرجهم من صلب آبائهم وصوّرهم وكلمهم قُبُلاً وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى.
وقد وقع هذا في عالم الذر للأرواح والأبدان فاستخرج الله الصور والأبدان من المواد التي ستخلق منها بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها، ثم بعد أن استنطقهم وأشهدهم أعادهم إلى تلك المواد التي سيُخرجون منها بعد ذلك والله على كل شيء قدير، ولم يكن الخلق للروح فقط، ولا للبدن فقط – بل كما قلنا – للأرواح والأبدان خلقها الله وبثها بين يده وكلمنا قبلا ً.
هذا الميثاق وردت آية من القرآن تدل عليه، وحديثان مرفوعان إلى نبينا عليه الصلاة والسلام يقررانه، وآثر موقوف صحيح، كما سأورد أحاديث تشهد لمعناه – وهي كثيرة – ولكن ليس فيها التصريح بأن الله أخرج الذرية من صلب آدم في ذلك الوقت.(6/351)
أما الآية ... فهي في سورة الأعراف وتقدم ذكرها، يقول الله جل وعلا: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم (1) ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى (شهدنا (أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) .
فإذاً تم جوابهم عند قوله بلى، فتكون كلمة شهدنا إما من الله أو من الملائكة أي فقالت لهم الملائكة شهدنا، أو قال الله شهدنا عليكم بذلك: (أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) فلا تتعللوا بأحد أمرين: الأول: لا تقولوا نحن في غفلة عن هذا وما عندنا علم به فأنا أشهدتكم وأنتم في عالم الذر، الثاني: لا تقلدوا آباءكم في الضلالة ولا تقولوا نحن تبعنا آباءنا فهم كانوا على ضلال ونحن على طريقتهم، لا تقولوا هذا أيضاً فكل نفس بما كسبت رهينة أنا أخرجت كل واحد منكم وأشهدته على نفسه من ربك ومن إلهك؟ فقال: أنت إلهي وأنت ربي، فنحن إذ شهدنا عليكم بذلك ولذلك يحسن الوقف على كلمة بلى إذ كان جوابهم ينتهي عند هذه الكلمة (بلى) .
وإذا تم جوابهم عند قوله شهدنا فيكون المعنى: أخذنا عليكم العهد والميثاق في عالم الذر لئلا تقولوا (إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) .
__________
(1) قال (من ظهورهم) ولم يقل (من ظهره) لأن هذه الفروع مأخوذه من ذلك الأصل فهم أخرجهم الله من ظهر آدم ثم هذه الفروع أيضاً أخرها من بعضها، إذن أخرج الأحفاد من الآباء، والآباء من الأجداد، وكل من سيولد من أب بعد ذلك سيكون ممن أخرج من ظهره.(6/352)
إذن كلمة (شهدنا) إما أن تكون من الله ومن ملائكته أي: شهدنا لئلا تقولوا إنا كنا ... وإما أن تكون من قول الذرية، أي أخذنا من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدناهم على أنفسهم لئلا يقولوا إنا كنا.... وكلا التقديرين حق وأنت على حسب ما تلاحظه من المعنى تحدد الوقف.
وأما الحديثان المرفوعان:
أولهما: ثبت في مسند الإمام أحمد – بسند رجاله رجال الصحيح كما في المجمع (7/25، 189) – والحديث رواه الحاكم في المستدرك (1/28) وقال صحيح الإسناد وأقره الذهبي، ورواه ابن جرير في تفسيره وابن أبي حاتم في تفسيره وابن مردُوْيَهْ في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنَعْمان – يعني عرفة – فأخرج من صلبه كل ذرَّيّة ذرأها، فنثرها بين يديه (كالذر) ثم كلمهم قُبُلاً، قال: (ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) ] .
(قُبُلاً) أي مشفاهة بدون واسطة.
فكان هذا الميثاق عليهم إذن فى عرفة وهي معروفة والتي يقف فيها الحجاج في اليوم التاسع من ذي الحجة، في مكان معروف اسمه نعمان من عرفات أخذ الله علينا العهد في ذلك الوقت، أخرج من ظهر آدم ذريته إلى يوم القيامة وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالو: بلى.(6/353)
وهذا لم يكن في الجنة، بل كان بعد أن أهبط (1) آدم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه إلى الأرض، وهذا الذي وقع في عالم الذر هذا من الإيمان بالغيب نؤمن به ولا نبحث في حقيقته.
وقد حاول الإمام ابن كثير أن يحكم على هذا الأثر بالوقف لأن الرواة اختلفوا فيه فمنهم من رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم من وقفه على ابن عباس وهي محاولة غير مرضية لأن مثل هذا لا يقدح في المرفوع فمن حفظ حجة على من لم يحفظ، وزيادة الثقة مقبولة، فإذا رفع راوٍ ثقة الحديث، ووقفه راوٍ آخر فيحكم بالزيادة وبرفع الحديث؛ لأن معه زيادة علم، فلعل ذاك شك فوقف الحديث على ابن عباس، وهذا تأكد وتحقق بأنه مرفوع وأنه سمعه من شيوخه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فصرح برفعه.
على أننا لو سلمنا أن هذا الأثر موقوف فله حكم الرفع قطعاً وجزماً لأن مثله لا يقال من قبل الرأي ولا الاجتهاد ولا الاستنباط.
__________
(1) هل كان إهباط آدم وإنزاله في عرفات أو في الهند؟ أقوال قيلت في ذلك لا دليل علي شيء منها أنه ثبت صحيح أن نزوله كان في مكان كذا، لكن أخذ على ذريته الميثاق في ذلك المكان، وهذا فيما يظهر والعلم عند الله أنه يرجح أن نزوله كان من الجنة إلى هذه البقعة المباركة الطاهرة (عرفات) ولا مانع أن يكون نزوله في أرض الهند ثم أتى به إلى هذا المكان واستخرج الله من صلبه وظهره كل ذرية ستكون إلى يوم القيامة ثم كلمهم قبلاً.(6/354)
الثاني: رواه ابن جرير الطبري في تفسيره (9/77) عند تفسير هذه الآية – التي تقدم ذكرها – من سورة الأعراف – عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [أُخذوا من ظهره كما يؤخذ بالشطر من الرأس، فقال لهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، فقالت الملائكة (1) : (شهدنا أن تقولوا ... ) الآية] .
... قال الإمام ابن جرير بعد أن روى هذا الأثر: لا أعلمه صحيحاً، فإن الثقات رووه عن سفيان الثوري فوقفوه على عبد الله بن عمرو ولم يرفعوه. ويعني بقوله: لا أعلمه صحيحاً أي لا أعلمه صحيحاً مرفوعاً، إنما أعلمه أنه موقوف على عبد الله بن عمرو.
نقول: لو ثبت الوقف فله حكم الرفع، والرواية المتقدمة ورد التصريح بأنها مرفوعة وهي صحيحة. فهذان هما الحديثان المرفوعان.
وأما الأثر الموقوف:
__________
(1) هنا كلمة شهدنا مصّرحٌ بأن قائلها هم الملائكة وليست ذرية بني آدم، والآية تحتمل الأمرين فلا مانع من أن يقول الذرية شهدنا، وأن تقول لهم الملائكة بعد ذلك شهدنا على قولكم وشهادتكم. وتقدم.(6/355)
.. فهو ما رواه الإمام أحمد في المسند أيضاً،والحاكم في المستدرك (2/324) وقال إسناده صحيح وأقره الذهبي، والحديث رواه أصحاب التفاسير الثلاثة المتقدمة أيضاً: ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مَرْدُوْيَهْ – فهؤلاء الخمسة رووا الحديث الأول المرفوع عن ابن عباس، ورووا هذا الأثر أيضاً – عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال في قول الله جل وعلا: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم....) الآية. قال فيها: [جمعهم فجعلهم أرواحاً ثم صورهم فاستنطقهم فتكلموا ثم أخذ عليهم العهد والميثاق وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قال (1) : فإني أُشهد عليكم السموات السبع والأراضين السبع وأشهد عليكم أباكم آدم – عليه السلام – أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم بذلك، اعلموا أنه لا إله غيري ولا رب غيري فلا تشركوا بي شيئاً، إني سأرسل لكم رسلي (2) يذكرونكم عهدي وميثاقي، وأُنزل عليكم كتبي، قالوا: شهدنا (3) بأنك ربنا وإلهنا لا رب غيرك فأقَرّوا بذلك] .
وهذا الإيجاد الذي حصل لهم في عالم الذر أخبرنا به من لا ينطق عن الهوى عليه صلوات الله وسلامه فنؤمن به دون البحث في كيفيته إذ هو من باب الإيمان بالغيب.
فإن قيل: إن العلم بهذا الميثاق الذي أخذ علينا في عالم الذر غير معلوم لنا، فما فائدته؟
فنقول: تحصل لنا فائدتان:
__________
(1) أي قال الله هذا بعد أن قالت الذرية بلى، ولم يذكر أبي جواب الذرية لأنه معلوم وقد ذكر في القرآن الكريم.
(2) هذا هو الميثاق الأخير والذي تدارسناه أول شيء، لأنه أهمها.
(3) فكلمة شهدنا هنا إذن من كلام ذرية بين آدم وقلت لكم الآية تحتمل الأمرين ونجمع بينهما بأنهم قالوا شهدنا فقال الله وملائكته شهدنا على شهادتكم فحذار حذار من إهمالها ونسيانها، والله أعلم.(6/356)
الفائدة الأولي: أنه قد أخبرنا به من لا ينطق عن الهوى رسولنا صلى الله عليه وسلم، وأتانا بما يقرره ويوضحه ويثبته في رسالته ودعوته، فإذا آمنا بهذا يحصل لنا شرف وفضل الإيمان بالغيب.
الفائدة الثانية: أنه يحصل علينا بهذا الميثاق مزيد من حجة وإثبات، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لنا: انتبهوا!! أنتم إذا لم تتبعوني فإنكم تعتبرون عاصون لله مباشرة حيث أخذ الله عليكم العهد في عالم الذر بتوحيده وعدم الإشراك به.
... إذن جحدتم إقراركم أمام ربكم ثم عصيتم أمري ولم تتبعوني فانتبهوا فليس الكفر بي يعتبر رداً لدعوتي فقط، إنما هو رد لشهادتكم التي صدرت منكم أمام ربكم جل وعلا أيضاً.
... وكلما كثرت وسائل الإثبات على الإنسان كلما دعاه هذا للاستحياء من نفسه ومن ربه، فالله عندما يقول لعبده: أنا أشهدتك على نفسك بين يدي فشهدتّ، وأوجدت في فطرتك ما يدل على أنني إلهك وربك، وأرسلت إليك رسلاً يقررون هذا ففي هذا الكلام تحذير للعبد من المخالفة، فليست هي شهادة واحدة ولا حجة واحدة ولا بينة واحدة فقط.(6/357)
.. ولذلك الله جل وعلا عندما يحاسب عباده يوم القيامة هل يحاسبهم أيضاً بشهادة واحدة وببينة أم بشهادات وبينات؟ بشهادات وبينات فالملائكة والأرض تحدث أخبارها بما عمل ابن آدم على ظهرها من خير أو شر فتشهد عليك يوم القيامة، والصحف تشهد،والجوارح تشهد،والله كفى به شهيداً لا تخفى عليه خافية، قال الله جل وعلا (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم) ، وقال جل وعلا في سورة النور في حق القاذفين (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) وقال في سورة فصلت: (حتى إذا جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم (1) بما كانوا يعملون) ، وثبت في صحيح مسلم عن نبينا عليه الصلاة والسلام [أنه كان بين أصحابه فضحك، فقالوا له: أضحك ألله سنك يا رسول الله، ما الذي أضحكك؟ ، فقال ضحكت من محاجة العبد لربه، يقول: فإني لا أقبل على نفسي شهيداً إلا من نفسي فيقول الله له: لك ذلك، فيختم على فيه، ويقول لجوارحه انطقي فتشهد عليه يداه ورجلاه وجوارحه بما عمل، ثم خلى الله بينه وبين الكلام فقال لجوارحه بُعداً لكُنْ وسحقاً فعنكُنَّ كنت أناضل] أي عنكن كنت أدافع، فقالت الجوارح (أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء) فضحك الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الحادثة.
(وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء)
العمر ينقص والذنوب تزيد ... وتُقال عثرات الفتى فيعود
هل يستطيع جحود ذنب واحد ... رجلٌ جوارحه عليه شهود
__________
(1) كثير من المفسرين قالوا: المراد من الجلود خصوص الفرج، فكنى بالجد عن الفرج الذي إذا فعل الإنسان حراماً يشهد عليه،ولفظ الجلد أعم من ذلك يشمل الفرج وغيره من الجوارح الأخرى، فلو كشف فخذه سيشهد عليه هذا الفخذ بأنه كشف أمام من لا يحل أن ينظر إليه، وهكذا لو كشفت المرأة يدها أو شعرها أو شيئاً سيشهد عليها ذلك أمام الله، لأنها كشفته أمام من لا يحل أن ينظر إليه.(6/358)
.. فأنت يكلمك الله قبلاً وجهاً لوجه في عالم الذر دون واسطة ويقول عبدي ألست بربك فقلت: بلى يا رب وإلهي وسيدي وخالقي، ولا أشرك بك شيئاً، ويقول لك انتبه!! ملائكتي تشهد وأنا أشهد شهدنا عليك بهذا الإقرار فإياك إذا خلقتك في الحياة أن تقول إنا كنا عن هذا غافلين، وإياك أن تقلد آباءك في الضلالة، فكل نفس بما كسبت رهينة فأنت عبدي وأنا خالقك وربك أشهدتك وأخذت إقرارك فإياك أن ترجع فإذا رجعت وبال ذلك عليك، ومع ذلك لن يكون حسابي لك في الآخرة على حسب هذا الميثاق فقط، بل سأجعل معه ميثاقاً آخر وهو الفطرة وسأجعل معه ميثاقاً آخر وحجة أقوى وهي أن أرسل إليك رسلاً تكلف بإتباعهم بعد بلوغك ووجود عقلك وسلامة إحدى حاستيك وأن تبلغك الدعوة، فرفعت الأعذار عنك؟ فلم يبق لك عذر ولا شبهة، ولذلك يقول الكفار (لو كنا نسمع أو نعقل) لأنهم حقيقة لا يسمعون ولا يعقلون، وينطبق عليهم قوله تعالى (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع) وقوله (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل) وينطبق عليهم قوله تعالى (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً) وقوله تعالى (كمثل الحمار يحمل أسفاراً) وقوله تعالى (كأنهم خشب مسندة) ، وكذلك قوله (كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث) .
... إذن كان لهم سمع وكانت لهم قلوب وما أرادوا بهذا أنهم كانوا في حكم المجانين ليس لهم قلوب وليس لهم أسماع، لا، إنما لا يسمعون آيات الله كما قال جل وعلا عن الكفار (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه) فلا يسمعونها سماع تلذذ أو تدبر، ولا سماع قبول لأجل العمل، لا هذا ولا ذاك، بل إعراض من جميع الجهات.(6/359)
.. إذن هذا الميثاق – ميثاق عالم الذر - لا ينبغي أن يقول أحد نحن لا نعلم به فما فائدته؟!!!.
... هذه الآثار الثلاثة المتقدمة عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو وأبيّ بن كعب رضي الله عنهم أجمعين ورد ما يدل عليها ويقررها من حيث المعنى العام لا من حيث التصريح بأن الله أخرجنا من ظهور آبائنا ومن صلب أبينا آدم في عالم الذر، ومن هذه الأحاديث:
1- ما ثبت في المسند والصحيحين عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يقول الله جل وعلا للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء، أكنت مفتدياً به؟ فيقول: نعم رب، فيقول الله: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك العهد في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي] . فالحديث فيه دلالة على أنه أخذ علينا العهد في ظهر أبينا آدم لكن كيف كان؟ هذا لم يفصله الحديث.
2- وثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وأبي داود وموطأ مالك ومستدرك الحاكم وصحيح ابن حبان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله لما خلق آدم مسح على ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته فقال: هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج من ظهره ذرية فقال هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟ ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من خلقه الله للجنة فسيوفق لعمل أهل الجنة حتى يختم له بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة، ومن خلقه الله للنار فسيوفق لعمل أهل النار ويختم له بعمل أهل النار فيدخل النار] ، فهذا الحديث فيه دلالة على أنه استخرجهم الله جل وعلا من صلب أبيهم آدم، فوقع هنا استخراج، والأحاديث المتقدمة دلت على أنه حصل استنطاق وإشهاد مع الاستخراج.(6/360)
وهذا التقدير الأزلي ليس فيه شائبة إكراه ولا قسر ولا جبر إنما ربنا جل وعلا يعلم الأمور الماضية والحاضرة والمستقبلة ويعلم ما سيقع في كونه وفي ملكه، فكونه يعلم أن هذا سيختار الكفر أو أن هذا سيختار الإيمان ليس في هذا جبر ولا إكراه، فالله جل وعلا لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء وليس حاله كحال المخلوقات لا نعلم الأشياء إلا بعد وقوعها ولو قيل لنا فلان سيختم له على الإيمان أو الكفر؟ لقلنا لا ندري، ولو كان الله سبحانه وتعالى كحالنا لما كان إلهاً، سبحانه وتعالى وتنزه بل هو بكل شيء عليم يستوي في عمله ما وقع وما سيقع فالكل عنده سواء ولذلك العلم صفة انكشاف يعلم بها ربنا جل وعلا الأشياء على ما هي عليه وقعت أم لم تقع.
... ولو أن فلاناً من الناس قبل أن يتزوج قيل لنا ماذا سيولد له؟ هل نعلم؟ لا طيب ولو تزوج واستقر الحمل في بطن زوجته بعد أربعة أشهر يمكن أن نعلمه أم لا؟ يمكن أن نعلم ما في بطن زوجته هل ذكر أم أنثى لأنه لا يحول بيننا وبينه إلا جلدة البطن، فلو علمنا ما في الرحم بواسطة الأشعة فهذا ليس علماً بغيب وليس مختصاً بالرب بل علمته الملائكة التي تبعث إلى الجنين وهو في الرحم، فليس هذا العلم من العلم بالغيب الذي اختص به الرب جل وعلا، فإذا علمه الأطباء وقبلهم الملائكة فلا حرج في ذلك، لكن قبل أن تنفخ فيه الروح وهو نطفة لو اجتمع أطباء الأرض ليعرفوه هل هو ذكر أم أنثى لن يستطيعوا.
... ثم إن علم الأطباء هذا قاصر وجزئي، فإنهم لا يعلمون هل سيولد أعمى أم بصير، سميع أم أصم؟ ذكي أم بليد؟ طويل أم قصير؟ سمين أو ضعيف؟ سيقولون لك لا ندري، إذن لم يعلم الأطباء من الجنين إلا كونه ذكراً أو أنثى.
... إذا علمت هذا علمت سخف من يزعم أن القرآن متناقض ويقول كيف يقول الله في كتابه (يعلم ما في الأرحام) ونحن قد علمنا؟!! سبحان الله الحمد لله على نعمة العقل.(6/361)
.. الشاهد إخوتي الكرام ... ليس في قول ربنا [هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون] إكراه أو جبر لأن الله يعلم الغيب والمستقبل كما يعلم الحاضر، فهؤلاء للجنة أي سيؤمنون ويدخلون الجنة وأنَّ الله أعلم ما سيقع في المستقبل، [وهؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون] فسيكفرون وأنَّ الله أعلم ما سيكون في المستقبل، فكلام الله جل وعلا هذا ليس من باب الإكراه وإلا لارتفع التكليف، ولذلك لما قال الصحابة ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، فحسب ما يختار يكون الأمر.
إخوتي الكرام ... لا يلتبس عليكم الأمر ولا بمقدار شعرة والشيطان يستغل مثل هذه الأحاديث ليلبس على الناس، عندنا للإنسان في هذه الحياة حالتان:
الحالة الأولي: هو فيها مكره، مجبور مقسور مسيّر لا اختيار له فيها ولا يستطيع أن يخرج عنها أبداً، فإذا وجدت هذه الحالة فلا ثواب ولا عقاب إلا إذا صدر منه رضاً أو كراهية نحو هذا الأمر الذي قُسِر عليه فيثاب أو يعاقب على العمل الذي صدر منه لا على ما وقع عليه قسراً
مثلاً: أنت خلقت ذكراً وتلك خلقت أنثى فهل لذكورتك فضل عند الله،وهل لأنوثتها نقص عند الله أو العكس؟ كلا، هذا غير حاصل لأن هذا (الذكورة والأنوثة) مما لا اختيار لواحد من الصنفين فيه، ولو كانت إحدى الصفتين باختيار الإنسان لربما قلنا في هذه مدح أو في هذه نقص، لكن ليس في هذه مدح ولا في هذه نقص (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض) ، فلا ثواب على الذكور ولا عقاب على الأنوثة والعكس كذلك لا ثواب على الأنوثة ولا عقوبة على الذكورة، إنما يثاب الإنسان إن شكر الله على ذكورته أو أنوثته، ويعاقب إن كفر وسخط على ذلك وإن لم يحصل منه شكر ولا سخط فلا ثواب ولا عقاب.(6/362)
والحالة الثانية: هو فيها: مختار، مريد، شاءٍ (له مشيئة) ، مخيّر، انتبهوا لهذا لإزالة هذا الإشكال الذي يستفعله أحياناً الشيطان يقول للإنسان: إذا كنت مكرهاً ومقسوراً إذن لا حرج عليك في أن تفعل ما شئت إن كنت من أهل الجنة فستدخلها، إن كنت من أهل النار فلا داعي لأن تهتم وتجد وتجتهد في العبادة ونحو ذلك من الوساوس، هذا كلام باطل بل أنت مخير ومريد فيما يريد الشيطان أن يثني عزمك عن فعله في كل ما كلفنا به فعلاً أو تركاً نحن مخيرون مريدون.
المأمورات بأسرها والمنهيات بأسرها لنا فيها اختيار أو نحن مجبورون مكرهون؟ بل لنا فيها اختيار قطعاً وجزماً، فليس صلاتي كذكورتي، لأن ذكورتي لا يمكن أن أغيرها وأما صلاتي فيمكن لي أن أصلي ويمكن أن لا أصلي، وليس إيماني كلوني أيضاً.
فالإيمان والصلاة هذا اختياري، فكل ما كُلفنا به وهو محل الثواب والعقاب فهذا لك فيه اختيار والفارق بين الحالتين كالفارق بين تحريك اليد اختياراً أو اضطراراً، فالمرتعش تتحرك يده بغير اختياره اضطراراً فهو مجبور ولا يستطيع أن يسكنها، فذكورتنا وأنوثتنا، طولنا وقصرنا، جمالنا ودمامتنا، طول أعمارنا وقصرها، هذا كله كحركة المرتعش، مجبور مقسور.
... والأعمال الاختيارية التكليفية من أمر ونهي كالصلاة والصوم وترك الزنا والخمر، هذا كتحريك اليد باختيارك يمكنك تحريكها وتسكينها.
... فانتبهوا رحمكم الله فهذه المسألة ليست من باب القسر والجبو فكل ميسر لما خلق له، فما علمه الله منه سيقع، فعلم الله من هذا أنه سيؤمن، ومن ذاك سيكفر لكن ليس هذا العلم فيه قسر للعباد ولا إكراه لهم.
س: هل الإنسان الذي خلق للجنة سيوفق لعمل أهل الجنة؟ والذي خلق للنار سيوفق لعمل أهل النار أرجو توضيح هذا.(6/363)
جـ: لا شك عندنا أن الله جل وعلا منّ على المؤمن وخذل الكافر، فالتوفيق هذا شيء لا شك فيه. ولذلك المؤمن إذا عمل الطاعة فبجده واجتهاده أم بتوفيق الله له؟ بتوفيق الله له، وذاك عندما يعمل المعصية بحيله ومكره أم بخذلان الله له؟ بخذلان الله له هذا مما لا شك فيه يقول الله تعالى (ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين) لكن هو لا يكره إلا من يستحق الكراهة كما قال الله تعالى (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) (وزادهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون) ، فإذن ما عندنا شك في أن من وفق لطاعة فهذا بفضل الله وأن من عمل معصية هذا بخذلان الله له، لكن عندنا بعد ذلك ما يقرر على سبيل القطع أن الله حكيم، أقول – ولله المثل الأعلى – أنت لو عندك ولدان وهما من صلبك واحدٌ تكرمه، والآخر تهينه فهل تفعل هذا اعتباطاً وسفاهة أو لأنك ترى واحداً مطيعاً نجيباً، والآخر عاقاً شقياً، فبالنسبة لنا ظهر فعل اختياري هنا، أفلا يعلم الله معادن الناس؟ أفلا يعلم الله نحاسة ونجاسة معدن الكفار عندما قال (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون) أفلا يعلم نجاسة هذه المعادن وأنها بكيفية لا تقبل التطهير؟! ولذلك خذلها وامتهنها وأعرض عنها وجعلها في دار غضبه وسخطه.(6/364)
يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [نظر الله في قلوب العباد فرأى قلب محمد عليه الصلاة والسلام خير القلوب وأتقاها فاختاره لرسالة، ثم نظر في قلوب العباد فوجد قلوب الصحابة خير القلوب وأتقاها فاختارهم (1)
__________
(1) أي أن الله سبحانه وتعالى عندما اختار أبا بكر لصحبة نبينا عليه الصلاة والسلام وهكذا سائر الصحابة لم يخترهم اعتباطاً بل هو حكيم يضع الأمور في مواضعها، يعني هل يتصور أن يكون قلبنا أو قلب أحد من الصحابة كقلب أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي أو غيرهم من الصحابة؟ هذا مستحيل، إذن قلوب طاهرة علم الله فيها هذا فجعل لها هذه المكانة وبعد ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم والحديث في صحيح مسلم [لا يأتي عليكم عام إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوني على الحوض] فما معنى شر منه؟ يعني هل الأيام فيها شر وتتغير أو أهلها والناس الذين يعيشون فيها؟ بل الناس، وتأمل أحوال العالم منذ أن كان نبينا عليه الصلاة والسلام إلى هذا اليوم خير يقل وشر يتزايد فإذن القلوب كلما تأخرت تدنست وتنجست وفسدت وخبثت هذا علمه الله من أحوال القلوب، فإذن هل تصلح مثل هذه القلوب لأن تكون في العصر الأول؟ الحمد لله مع شوقنا والله لرسولنا صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي لم يخلقنا في ذلك الوقت لأنه لو خلقنا آنذاك لخذلنا نبينا عليه الصلاة والسلام فنحن لسنا بأهل لأن نصحبه، وما عندنا شك في ذلك، ونسأل جل وعلا أن يكرمنا بجنات النعيم برؤيته ورؤية نبيه صلى الله عليه وسلم بفضله وكرمه، لكن هل نحن عندنا جد الصحابة وعزيمتهم واجتهادهم؟ هيهات هيهات..(6/365)
لصحبة نبيه فاعرفوا لهم قدرهم] ، فأمر الرسالة أسند إلى من هو بكل شيء عليم فعندما اختار محمداً عليه الصلاة والسلام لحمل رسالته ليس الأمر اعتباطاً بل لأن (الله أعلم حيث يجعل رسالته) فإذن هو عندما وضعها في ذلك المكان فهذا هو الجدير بها لكن يبقى الأمر من فضل الله عليه ولا شك في ذلك، (بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان) (فألهمها فجورها وتقواها) (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن) أي خلقكم كافراً ومؤمناً على أصح القولين في التفسير، وقيل: هو الذي خلقكم فانقسمتم إلى كافر ومؤمن، لكن هذا الانقسام لا يكون إلا على حسب التقدير الذي سبق عند الرحمن ويبقى الأمر كما قلت لا قسر فيه ولا إجبار، فهذا وفقه الله وذاك خذله لكن هل هذا فيه إكراه؟ لا، وكل واحد يميز هذا من نفسه عندما يريد أن يعصي ربه، فمثلاً عندما يريد أن يشرب الخمر سل عصاة أهل الأرض أجمعين هل جاء أحد وأخذك من بيتك إلى الفندق في الساعة الواحدة ليلاً وأضجعوك وفتحوا فمك وصبوا فيه الخمر دون رضاك؟ أم أن الواقع هو أنه ذهب باختياره ودفع الفلوس وسكر، وسل الزاني هل جاء أحد وأخذك من فراشك ودارَ بك على بيوت الناس حتى ألقاك على أنثى وأكرهك على عملية الزنا؟ أم أن الواقع أنك تراه يجوب الشوارع هنا وهناك من أجل أن يحصل على خبيثة مثله، فهل هذا إذن كان باختياره أو باضطراره؟ باختياره، يعني عندما قال الله جل وعلا (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) انظر لهذا الحافظ الذي جعله الله عندنا، فلما كانت العين تتعرض لرؤية ما لا يحل، جعل الله جل وعلا منع النظر في منتهى السهولة لئلا يقول إنسان كيف سأتصرف إذا عرض لي ما لا يحل لي النظر إليه، فقال الله لك لا يحتاج هذا منك إلى تصرف كبير لا دخول سرداب ولا دخول حجرة، الحل كله يتمثل في إطباق الجفن على الجفن (قل للمؤمنين يغضوا) ما معنى الغض؟ أن تطبق الجفن على الجفن.(6/366)
.. ثم هذا اللسان الذي هو ثعبان وتراه يلدغ الحي والميت والكبير والصغير والحاضر والغائب جعل الله له أيضاً حافظاً هو الشفتان إذا ضممتهما لن تتكلم فتسلم، ولست مجبوراً على الكلام فلم يأت أحد ولن يأت ويحرك لسانك دون إرادة وقصد منك، وهذا لو حصل لو حصل فأنت تكون مجبوراً لأنك لا تريد الكلام ولكن غيرك يحرك لسانك ويتكلم وحينئذ يرفع التكليف عنك [رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه] فإذا أكرهنا لن يكلفنا ربنا، لن يبقى من اهتدى منا فبفضل الله، ومن شقي فبعدل الله والله خذله ووكله إلى نفسه لكن ذلك التوفيق بسبب أنه معدن طيب، وهذا الخذلان بسبب أنه معدن نحس، ولذلك قال الله (فلما آسفونا انتقمنا منهم) ما معنى الأسف هنا؟ شدة الغضب أي لما أغضبونا غضباً شديداً بسبب ما قاموا به من أعمال خبيثة انتقمنا منهم، إذن هم أغضبوا الله وآسفوه فحل عليهم مقته وغضبه ولعنته وسخطه، والذي يقرر هذا كما قلنا أن من يموت قبل التكليف أو قبل البلوغ أو قبل بلوغه الدعوة وإذا لم يكن عنده عقل، فالقلم مرفوع عنه، فإن كان من أولاد المؤمنين تفضل الله عليه بأن يكون من أهل الجنة، وإن كان من أولاد الكافرين فنقول هنا سيظهر العدل الإلهي، سيمتحنه الله في عرصات الموقف، فإن أطاع دخل الجنة وإن عصى دخل النار.
قد يقول قائل: لِمَ لم يجعل الله ابن الكافر كابن المؤمن؟(6/367)
نقول: الزم حدك، هذا فضل ولصاحب الفضل أن يعطيه لمن يشاء لكن لا يجوز له أن يظلم ويجور، فمثلا ً: لو كان عندك ألف دينار فلك حرية التصرف في أن تعطيها لأي أحد فلو أعطيتها لخالد مثلاً فهل يحق لي أن أقول لك أنت ظلمتني لأنك أعطيت خالداً ولم تعطني؟ لا يحق فتقول أنت: هذا فضل، وهو مالي وحقي أعطيه لمن أشاء ما دمت لم أظلمك ولم أعتد على مالك ولم آخذ منك شيئاً،وهنا كذلك الله سبحانه وتعالى ما جار على ابن الكافر وكونه رحم أولاد المؤمنين هذا فضله يعطيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، ولا يجوز عليه الظلم (ولا يظلم ربك أحداً) [إني حرمت الظلم على نفسي] ، هذا حال الرب جل وعلا.
إذن هذا حديث عمر رضي الله فيه دلالة عامة على أن العباد أخرجوا من صلب أبيهم في عالم الذر، وهذا الحديث الثاني.(6/368)
3- روى الإمام الترمذي في سننه والحاكم في مستدركه وابن حبان في صحيحه والبهيقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط كُلُّ نسمة من ظهره كائنة إلى يوم القيامة وجعل جل وعلا بين عيني كل إنسان وبيصاً من نور (1) ثم عرضهم على آدم عليه السلام فقال من هؤلاء يا رب؟ قال: هؤلاء ذريتك إلى قيام الساعة، فرأى فيهم إنساناً أعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: أَيْ رَبِّ، من هذا؟ قال: هذا ابنك داود، قال كم عمره؟ فقال الله له: ستون عاماً، قال: زده يا رب أربعين، فقال الله جل وعلا: لا أزيده إلا أن تزيده من عمرك (2) ، فقال: قبلت يا رب أعطه من عمري أربعين سنة، فلما جاء ملك الموت إلى آدم قبل الألف بأربعين سنة ليقبض روحه، قال له آدم: بقي من عمري أربعون سنة، فقال له ملك الموت إنك وهبتها لابنك داود، فقال ما وهبته شيئاً ما وهبته شيئاً، فذهب وعاد إلى ربه وأخبره بذلك فأمر الله ملك الموت أن يزيد في عمر آدم أربعين سنة، وأن لا ينقص هذه الأربعين من عمر داود، يقول نبينا عليه الصلاة والسلام بعد ذلك: فنسي آدم فنسيت ذريته، وجحد آدم فجحدت ذريته وخَطئ آدم فخطئت ذريته] وإسناده صحيح، ارتكب الخطيئة وذريته تخطئ، نسي ولم نجد له عزماً وذريته تنسى.
فإن نسيت عهوداً منك سالفة ... فاغفر فأول ناس ٍ أول الناس
ولعل جحود آدم – والعلم عند الله – سببه نسيان ولا يستبعد أنه بعد أن مر عليه تسعمائة وستون سنة أن ينسى العهد الذي أعطاه على نفسه، أو أن هذا الجحود من باب التدلل على الرب المعبود جل وعلا أي كأنه يقول: يا رب ينقص من ملكك إن تركت الأربعين لي كما كانت وزدت عبدك وداود أربعين من فضلك فحقق الله الأمرين.
__________
(1) أي شيئاً من نور وضوءاً من نور.
(2) وكان عمر آدم الذي قدره الله ألف سنة، وتقدم معنا أن الأنبياء لا يقبضون إلا بعد أن يخيروا.(6/369)
الشاهد: أنه مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة كائنة إلى يوم القيامة فهذه الأحاديث تشهد في الجملة للأحاديث الثلاثة المتقدمة الحديثان المرفوعان وحديث أُبيّ الموقوف.
... وكما قلت لكم عن الذي حصل في عالم الذر هو إخراج للأرواح مع الصور (الأجساد) ، استخرجها الله من موادها بكيفية يعلمها ولا نعلمها ثم بعد أن أشهدها أعادها إلى موادها بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها، أما ما قاله ابن حزم من أن الخلق في عالم الذر كان للأرواح فقط، وذلك يقول خلقت الروح قبل الجسد فأشهدها الله ثم وضعها في مكان عنده سبحانه وتعالى فإذا خلق الجسد جاءت روح كل إنسان إلى بدنه فدخلت فيه، فقوله هذا لا تدل عليه الآثار المتقدمة، إنما ما ذكرته لكم هو الذي حصل وإذا ثبت هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام فنؤمن به دون أن تحيط عقولنا بكيفيته، فعقولنا أعجز من ذلك، وإذا كانت الروح التي بين جنبينا نحن عاجزون عن إدراك ماهيتها وحقيقتها أو أي صفة من صفاتها (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) فكيف سندرك بعد ذلك ما هو مغيب عنا مما يدهش العقول ويحير الألباب (إشهاد الذرية) ، وتقدمت معنا قاعدة (كل ممكن رود به السمع يجب الإيمان به) (آمنا به كل من عند ربنا) .
3- الميثاق الثالث: ميثاق الفطرة:
وهو الميثاق المتوسط بين ميثاق عالم الذر وميثاق إرسال الرسل ويراد بالفطرة: ما ركزه الله في طبيعة الإنسان وجِبِلّتِه من الإقرار بربوبية الله جل وعلا وألوهيته، وأنه وحده لا شريك له يستحق منا العبادة سبحانه وتعالى.
وهذا الدليل أعني الاستدلال بالفطرة من الأدلة المعتبرة عند أئمتنا الكرام وقد قرر أئمتنا الكرام أن الأدلة التي يستدل بها دليلان:
الأول: سلفي شرعي وله نوعان والثاني:
خلفي بدعي وله نوعان، فالمجموع أربعة أنواع:
أما السلفي الشرعي، فالنوع الأول منه: النصوص الشرعية من كتاب وسنة، أما الكتاب:(6/370)
أ) قال تعالى (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولون الله) ، فالله خلقهم وفطرهم بصورة يقرون بأن الله ربهم ومالكهم وخالقهم.
ب) وقال الله جل وعلا في كتابه مبيناً استدلال الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام على أقوامهم بدليل الفطرة: (قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى) وقبلها حكى الله عن الأقوام أنهم قالوا: (إنا لفي شك مما تدعونا إليه مريب) فقالت لهم رسلهم أفي الله شك، فلم يجبهم الأقوام عن هذا ولم يذكر الله جوابهم لأنه معلوم ضرورة أن ليس في الله شك وهو الذي خلقنا وخلق كل شيء.
جـ) وقال جل وعلا في سورة النمل آية 51 وما بعدها (قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون أمن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماءً فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تُنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون أمن جعل الأرض قرارا ًوجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزاً أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون (61) أمن يجيب المضطر أذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلاً ما تذكرون (62) أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى عما يشركون (63) أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (64) .)(6/371)
أذن فاستدل الله عليهم بما ركزه في فطرهم أإله مع الله ... ، واستدل عليهم بما يُسلّمون به. وهو الإقرار بوجود الله جل وعلا وأنه خالق كل شيء علي ما يخالفون فيه وهو إفراده بالعبودية. فهم يقولون الله موجود لكن ينبغي أن نجعل بيننا وبينه وسائط وشفعاء فنقول لهم: اطرحوا الشفعاء، فهذا الموجود هو الذي يُقصد ويُعبد ولا يجوز أن تلجأوا إلى غيره، ولذلك قال أئمتنا توحيد الربوبية باب إلى توحيد الألوهية، فأنت إذا أقررت بأن الله ربك وسيدك، ومالكك ويتصرف في أمرك فيجب عليك أن تعبده وأن توحده وأن تفرده بالعبادة سبحانه وتعالى.(6/372)
إذن هذا دليل الفطرة المستقيمة وهو أن الله فطرنا على الإقرار بوجوده، ويترتب على هذه فطرة ثانية وهي وجوب تعظيمه لأن العقل يقول: إذا كان الله خالقنا وخالق كل شيء فيجب أن يعبد وأن لا نصرف العبادة لما سواه سبحانه وتعالى، وقد قرر الله هذا المعنى في آيات كثيرة من كتابه فأخبرنا الله في قرآنه أننا فقراء وهو الغني، وهذا مما يقرر دليل الفطرة الذي فينا فكل واحد يلحظ هذا من نفسه بأنه فقير لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، جاء إلى الدنيا على غير اختياره وسيخرج منها على غير اختياره ويلحظ أن الذي يملك أمره وأمر العالمين هو رب العالمين قال تعالى (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد) ولذلك العلة في احتياج العالم بأسره إلى ربه هي الفقر وهذا خلاف ما يقوله الفلاسفة والمتكلمون يقولون العلة في احتياج العالم هي الحدوث أي كون العالم حادث والحادث لابد له من محدث وموجد، ويقولون العلة في احتياج العالم بأسره إلى ربه هي الإمكان أي ممكن الوجود ليس بواجب الوجود، وهذا كلام باطل نقول الإمكان والحدوث علامتان على الفقر وليستا بعلة لاحتياج العالم إلى الله، فالفقر ممكن الوجود، فالإمكان في هذا علامة فقره لأن يمكن أن يوجد ويمكن أن يُقدم والذي رجح أحد الضدين هو الله جل وعلا والحدوث علامة فقر لأنه لا يمكن أن يوجد إلا بحادث وموجد وهو الله رب العالمين.
ولذلك أخص وصف في المخلوق أنه فقير وأخص وصف في الخالق أنه غني ويوجد للإمام ابن تيمية عليه رحمة الله قصيدة من (11) بيتاً تتعلق في بيان حقيقة الخالق والمخلوق وقد ذكرها تلميذه الإمام ابن القيم عليه رحمة الله في مدارج السالكين (1/520، 521 – ط دار الكتاب العربي) يقول الإمام ابن القيم: "وبعث إليّ في آخر عمره قاعدة في التفسير بخطه، وعلى ظهره أبيات بخطه من نظمه:
أنا الفقير إلى رب البريات ... أن المسكين في مجموع حالاتي(6/373)
أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي ... والخير إن يأتنا من عنده ياتي
لا أستطيع لنفسي جلب منفعة ... ولا عن النفس لي رفع المضرّات
وليس لي دونه مولىً يدبرني ... ولا شفيع إذا أحاطت خطيئاتي
إلا بإذن من الرحمن خالقنا ... إلى الشفيع كما قد جا في الآياتِ
ولست أملك شيئاً دونه أبداً ... ولا شريك أنا في بعض ذراتي
ولا ظهير له، كي يستعين به ... كما يكون لأرباب الولايات
والفقر لي وصف ذاتٍ لازمٌ أبداً ... كما الغنى أبداً وصفٌ له ذاتي
وهذه الحال حال الخلق أجمعهم ... وكلهم عنده عبد له آتي
فمن بغى مطلباً من غير خالقه ... فهو الجهول الظلوم المشرك العاتي
والحمد لله مِلء الكون أجمعه ... ما كان منه وما من بعد قد ياتي
... وأما السنة فقد قرر نبينا عليه الصلاة والسلام الفطرة المستقيمة في أحاديثه الكثيرة:(6/374)
أ) ففي مسند الإمام أحمد والصحيحين وسنن الترمذي وأبي داود وموطأ مالك عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [كل مولود يولد على الفطرة] أي على الإسلام الحق وعلى الدين الحنيف [فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه (1) كما تُنْتَج (2) البهيمة جمعاء (3) هل تحسون فيها من جدعاء (4) ] أي هي تولد سليمة الأطراف لكن صاحبها هو الذي يغيرها، وهكذا بالنسبة للناس في صغرهم فطرهم الله على الحنيفية السمحة، لكن من الذي غيّر من تغير منهم؟ آباؤهم أو أمهاتهم أو مجتمعهم وغيرهم ولذلك ثبت في كتاب السنة لابن أبي عاصم (حديث رقم 192) بسند ضعيف – لكن هذا الحديث يشهد له – عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [مغيِّر الخُلُق كمغّير الخَلْق] ، أي مغير الأخلاق الطيبة إلى خبيثة ومغير الإسلام إلى عصيان وشرك بالرحمن كمغير الخلق أي كما لو غير بعض أطراف المولود، أو لو أن المرأة بدلت خلقتها وصورتها وهكذا الرجل بالنمص (ترقيق الحواجب أو إزالتها) أو بالوشم، أو حلق اللحية بالنسبة للرجل أو قص الشعر من الرأس بالكلية بالنسبة للمرأة فهذا كله من تغيير خلق الله.
__________
(1) كان بعض شيوخنا إذا روى الحديث يقول [أو يرذلانه] أي إذا كان أبواه مسلمين رذيلين بالفساد والفجور فسيرذلانه، وأول الفساد الآن جهاز التلفاز جهاز الشيطان فاتقوا الله، وحذار حذار أن ترذلوا أولادكم.
(2) أي توجد وتخلق.
(3) جمعاء: أي كاملة الخلق سليمة الأطراف.
(4) جدعاء: أي مقطوعة الأنف والأذن أو مشقوقة ونحو ذلك من التشويه.(6/375)
.. إخوتي الكرام ... والمراد بالفطرة في الحديث دين الإسلام والحنيفية السمحة، وقد قرر الإمام ابن تيمية عليه رحمات رب البرية في كتابه (درء تعارض العقل والنقل) ويسمى (موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول) في مائتي صفحة متتابعة بأن المراد من الفطرة هي الإسلام، فانظروا بحثه المحكم الرشيد فيه (8/370) وما بعدها، والحافظ ابن حجر عليه رحمة الله في فتح الباري (3/248) نقل عن عامة السلف أن المراد من الفطرة الإسلام، والإمام ابن القيم عليه رحمة الله ختم كتابه (شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والتعليل) بهذه المسألة، فانظروا الكتاب من صـ283 إلى آخر الكتاب صـ307 وهذا الكتاب (شفاء العليل) هو أحسن ما كتب في قدر الله جل وعلا.
ب) وأشار نبينا عليه الصلاة والسلام إلى هذه الفطرة المستقيمة أيضاً في صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: [ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا: كل مال (1) نحلته عبداً حلالاً، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم (2) عن دينهم وحرّمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل سلطاناً، وإن الله عز وجل نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء....] إلخ الحديث، ومعنى حنفاء أي مائلين عن الشرك إلى الهدى مستقيمين مهتدين على الفطرة.
__________
(1) ؟؟؟؟؟ عذراً الحاشية غير واضحة في التصوير.
(2) الحاشية غير واضحة في التصوير.(6/376)
جـ) ويكفي دليلاً على الفطرة ما ثبت في الصحيحين [أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للجارية أين الله، فقالت في السماء.....] الحديث. وأما النوع الثاني من الدليل السلفي الشرعي فهو الفطرة المستقيمة، فإن في النفس فطرة توجب عليه الإيمان بأن الله ربنا وخالقنا ورازقنا ومدبرنا فهي فطرة توصل إلى التوحيد لو لم تغير.
... ولذلك عندما جلس أبو المعالي إمام الحرمين غفر الله له ورحمه وقد رجع عن هوسه وهذيانه جلس يقرر نفي علو الله على مخلوقاته فقال: كان الله ولا مكان ولا زمان وهو الآن على ما عليه كان أي ليس فوق عرشه على سمواته، فقام الإمام الهمذاني وقال: يا إمام دعنا من العرش والزمان والمكان وأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في أنفسنا ما قال أحد يا رب يا الله إلا طلب المعونة فمن فوقه، فبماذا نؤول هذا الشعور الذي في داخل نفوسنا، فلطم إمام الحرمين رأسه وقال حيرني الهمذاني حيرني الهمذاني.
... أي حيره في الجواب، لأن الأدلة الكلامية يمكن التلاعب بها والتصرف فيها وتأويلها لكن هذه الضرورة في النفس ماذا سيقول عنها؟ وبماذا سيفسر هذا الالتجاء من الإنسان حيث يلجأ إلى فوق ولا يلجأ إلى يميناً ولا يساراً ولا تحتاً؟!! إن هذا الشعور وهذه الضرورة هي الفطرة التي فطر الله عباده عليها (مناقشة الشيخ الطحان لآراء الدكتور البوطي حول العلو لما جاء إلى دبي وألقى محاضرة في ذلك) .
... وكل نص من كتاب أو سنة مما سبق ذكره هو من حيث وروده هو دليل على الفطرة من النصوص الشرعية، وهو من حيث دلالته هو دليل على ميثاق الفطرة من الفطرة.
2- وأما الدليل الخلفي البدعي فالنوع الأول منه:
دليل العقل المتعمق المتكلف فيه من جوهر وحيز وعرض وغيرها من الاصطلاحات التي نعتها المتكلمون وعكفوا عليها كما عكف المشركون على الأصنام.(6/377)
.. وهذا كما هو عند المتكلمين فهو عند الفلاسفة ولم يوصلهم هذا إلا إلى متاهات عندما عولوا على العقل وتركوا النقل، وتقدم معنا أن العقل مع النقل كالعين مع الشمس، فمن أراد أن ينظر بدون شمس ونور لا يرى، ومن أراد أن يفكر بدون وحي لا يهتدي.
والنوع الثاني منه:
... دليل الكشف، الذي ابتدعه الصوفية، يقول: ألقي في روعيَ كذا، ووقع في قلبي كذا، وحَدثت بكذا حدثني قلبي عن ربي، وما شاكل هذا، كما كان ابن عربي الصوفي صاحب الضلالات يقول حديث [كنت كنزاً لا أُعرف، فأحببت أن أُعرف فخلقت الخلق فبه عرفوني] يقول هذا الحديث لم يثبت عند المحدثين عن طريق الإسناد لكن ثبت عن طريق الكشف.
وقد كان شيوخ التصوف الصالحين الصادقين يحذرون من هذا الدليل، فكانوا يقولون: دوروا مع الشرع حيث دار لامع الكشف، فإنه يخطئ، وكان أبو سليمان الداراني عليه رحمة الله يقول: "إنه لتقع في قلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين الكتاب والسنة" أي إذا وقع في قلبي معنىً من المعاني، واستنباط ومن الاستنباطات عن طريق الكشف والفتح والإلهام فإني لا أجزم بثبوت هذا حتى أتحقق من ذلك بشاهدين عدلين هما القرآن والسنة هل يشهدا بصحة ما وقع في قلبي أم لا؟ ولذلك قال أئمتنا:
وينبذ الإلهام بالعراء ... أعني به إلهام الأولياء
وقد رآه بعض من تصوفا ... وعصمة الباري توجب اقتفا
أي لا يستدل بالإلهام بل ينبذ فهو من الأدلة البدعية، وبعض الصوفية رأوا الإلهام والكشف دليلاً شرعياً معتبراً يُقدم على النصوص الشرعية، لكن عصمة الباري للأنبياء توجب أن نقتفي أثرهم وأن نتبعهم؛ لأن وحيهم وإلهامهم معصوم وأما إلهام الأولياء فليس بمعصوم.
... هذه هي مواثيق ثلاثة أخذت علينا أو خذاً ما أخذ علينا في عالم الذر يليه ما ركز في فطرنا يليه إرسال الرسل وإقامة الحجة على العباد.(6/378)
.. والميثاق الأخير (الذي جعلناه أولاً – إرسال الرسل) لم يذكره عندما شارح الطحاوي وهو في الحقيقة أقوى المواثيق وأعظمها وأبلغ الحجج،وهو مناط التكليف ولا يحصل تكليف إلا به، ولذلك يقول الله جل وعلا في سورة النحل آية 89: (ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيداً على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدىً ورحمة للمسلمين) ومثل هذا في سورة النساء آية 41 (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً) .
... الشاهد في الآيتين أن أعظم المواثيق إرسال الرسل فالله جل وعلا يقول للأمم ألم أرسل لكم رسلاً؟ فيكذبون ويجحدون ذلك، فيأتي برسلهم ويقولون: يا رب بلغنا دعوة الله فيقول الله للرسل السابقين من يشهد لكم؟ فيقولون: أمة محمد صلى الله عليه وسلم تشهد بأننا بلغنا أقوامنا، فيستشهد الله هذه الأمة فيشهدون، فيقول الله: كيف تشهدون وأنتم لم تروا ذلك؟ فيقولون: بعثت إلينا رسولاً فأخبرنا بذلك وأنزلت علينا ذلك في كتابك بأن نوحاً وغيره من الأنبياء بلغوا دعوتك إلى أقوامهم وهذا هو معنى (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس) ثم يشهد الرسول عليه الصلاة والسلام على شهادة هذه الأمة ثم بعد ذلك يعاقب الله المكذبين من الأمم السابقين الذين جحدوا إرسال الرسل إليهم، وهذا الجحود منهم يحصل في الموقف قبل أن يقضى بالناس إلى الجنة أو النار، يطنون أن هذا الجحود ينفعهم.
وقول الله سبحانه وتعالى (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ... ) الآية، نتحدث عن ميثاقين اثنين:
1- ميثاق عالم الذر.
2- ميثاق الفطرة.(6/379)
فلاهما مراد بالآية هذا القول الصحيح وقد خالف هذا بعض أئمة الإسلام – وسيأتي ذكرهم – وقالوا: الآية لا تشمل إلا ميثاق الفطرة وسأذكر شبهتهم فيما بعد وأدحضها إن شاء الله تعالى، وأما ميثاق عالم الذر – لم تثبت به الأحاديث؟؟؟؟؟؟ يقولون لكن ثبت موقوفاً ووهم بعض الرواة في رفعه وقد تقدم معنا إن زيادة الثقة مقبولة وهذا لا يدعونا إلى أن نرد الرواية المرفوعة لأن بعض الرواة وقفها وبعضهم رفعها ولو سلمنا بوقفه فله حكم الرفع ومحاولة هؤلاء الأئمة على جلالتهم وتقربنا إلى الله بحبهم محاولة ضعيفة في غير محلها.
... والقول بأن الآية تشمل ميثاق عالم الذر لا ينفي أنه ركز الله في فطرتنا، لكن القول بقصر الآية على ميثاق الفطرة فإنه ينفي بذلك ميثاق عالم الذر.
... فعلى القول بأن الآية تشمل ميثاق الذر يكون معنى الآية (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ... ) أي قالوا بلى بلسان مقالهم.(6/380)
.. وعلى القول بأن الآية لا تشمل ميثاق عالم الذر يكون معنى الآية، قالوا بلى بلسان حالهم أي حالهم يدل على أنهم مربوبون مخلوقون لخالقهم الحي القيوم، هذا كقوله تعالى (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت ... ) فالجمال والسماء هذه لو لم تنطق وتقل الله خلقني والسماء تقول الله رفعني لو لم تقل هذا بلسانها بصوت نسمعه لكان حالها يدل على هذا، وكذلك الإنسان (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) فحالك يا إنسان يدل على الحي القيوم ولو لم تنطق وكل إنسان – مهما كفر وطغى وتجبر – حاله تشهد بذلك بأنه فقير إلى غني وأنه مخلوق لخالق ضعيف لقوي، ولذلك قال موسى لفرعون (لقد عملت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر..) أي أنت تعلم يا فرعون أني رسول من رب العالمين، وإن هذه الآيات والدلائل لم ينزلها ولم يعطني إياها إلا رب العالمين، فإذن شهادتك بحالك ثابتة لكن لسانك لم ينطق بهذا، وكذلك هو حال العالم كله يدل على أن الله خالقه وهذا بدلالة الحال لا بدلالة المقال، هذا كقول العربي:
امتلأ الحوض وقال قطني ... مهلاً رويداً قد ملأت بطني
فهنا (قال) بحاله فالحوض امتلأ ولم يعد يمسك ماءً وإذا صببت فيه نزل فحاله هذه كأنه يقول لك لا تصب في الماء.
إذن فحال المخلوقات بأسرها تدل على أنها فقيرة إلى ربها، ولا يوجد أحد من خلقه مستغن ٍ عنه:
الله قل وذر الوجود وما حوى ... إن كنت مرتاداً بلوغ كمال
فالكل دون الله إن حققتهم ... عدم على التفصيل والإجمال
واعلم بأنك والعوالم كلها ... لولاه في محوٍ وفي اضمحلال
من لا وجود لذاته من ذاته ... فوجوده لولاه عين محال
والعارفون بربهم لم يشهدوا ... شيئاً سوى المتكبر المتعالي
ورأوا سواهم على الحقيقة هالكاً ... في الحال والماضي والاستقبال
فقوله تعالى (كل شيء هالك إلا وجهه) أي هالك في الحال والماضي والاستقبال، من مضى هلك ومن هو موجود سيهلك ومن سيأتي سيهلك.
س: هل الحال تعتبر شهادة أو لابد ومن نطق اللسان؟(6/381)
جـ: إنسان يقر بقلبه أنه مقهور مجبور فقير لخالق جليل فهذه شهادة وإن نفاها بلسانه، وإذا جحد بلسانه، فشهادة القلب ثابتة، ولهذا أمثلة:
1- كقوله تعالى في سورة التوبة (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر) أي مقرين على أنفسهم بالكفر بحالهم، فلا يشترط أن يقول الكافر: أنا كافر، بل حاله يدل على أنه كافر.
2- كقوله تعالى (أنه على ذلك لشهيد) فعلى أن الضمير في (أنه) يعود على الإنسان فالتقدير: أن الإنسان لشهيد على كنوده وجحوده كيف هذا الشهود؟ بأنه مغمور بنعم الله فلا يشكر الله وهذا جحود ولا يشترط أن يقول عن نفسه: أنا جاحد، فإذن هذه شهادة من الإنسان على نفسه بالحال لا بالمقال. وهو محل الشاهد.
... وعلى أن الضمير في (أنه) يعود على الله سبحانه وتعالى فالتقدير وأن الله لشهيد على كنود الإنسان وجحوده ولا تخفى عليه خافية. وكلا المعنيين والتقديرين ثابت. فالإنسان يشهد على جحوده بحاله والله يشهد عليه بعلمه فلا تخفى عليه خافية من أمور العباد
3- وكقوله هنا معنا في الآية (أشهدهم) أي بحالهم على أن الآية تشمل ميثاق الفطرة فقط، أي ركز هذا في فطرهم وعلموه وثبت عندهم بعد أن خلقهم وجعلهم خلائف في الأرض جيلاً بعد جيل.
إذن هذا هو المعنى على أنه ميثاق الفطرة فقط وعلى أنه ميثاق عالم الذر تشمل الآية أيضاً فالمعنى مسح ظهر آدم وأخرج من صلبه كل نسمة كائنة إلى يوم القيامة ثم كلمهم قبلاً، فهنا – ميثاق الفطرة – أشهدهم على أنفسهم بما ركزه في فطرهم وهناك أشهدهم على أنفسهم وكلمهم مقابلة بلا حاجز ولا واسطة هنا جعل هذا في فطرهم أنهم يقررون بربهم، وهناك قالوا بلى بلسانهم وهنا قالوا بلى بحالهم وهذا هو معنى الآية على القولين وكل منهما تشمله الآية، وهذا هو المعتمد في تفسيرها.(6/382)
وقد ذكر هذا عدد من المفسرين من جملتهم الإمام القرطبي والإمام ابن الجوزي في زاد المسير والإمام الألوسي في روح المعاني وغيره. (الآية تشمل الميثاقين) .
? واقتصر كثير من المفسرين على الميثاق الأول وحملوا الآية عليه وهو الذي حصل في عالم الذر فقط، منهم الإمام الثعلبي والإمام البغوي في معالم التنزيل.
? وقد ذهب بعض أئمة الإسلام ومنهم الإمام ابن تيمية والإمام ابن كثير والإمام ابن القيم وشارح الطحاوية ابن أبي العز إلى أن آية الأعراف لا تشمل إلا ميثاق الفطرة، ورجحوا حمل الآية عليه.
وقولهم – كما قلت لكم – مردود ومن جملة من رد عليهم شيخنا المبارك الشيخ الشنقيطي عليه رحمة الله في أضواء البيان (2/336) ، والشيخ أحمد شاكر عليه رحمة الله في تعليقه على مسند الإمام أحمد وبين أن الآية تشمل الميثاق الذي أخذ علينا في عالم الذر والقول به لا يتنافر مع الميثاق الثاني (ميثاق الفطرة) بخلاف الاقتصار على الميثاق الثاني بإن بالقول به إلغاء للميثاق الأول.
... وأما ما احتج به الإمام ابن كثير وابن أبي العز – وهو موجود عندكم في شرح الطحاوية – فمردود منقوض لا حجة فيه ولا دلالة على أن المراد من الميثاق ميثاق الفطرة فقط.
وهذه الحجج التي ذكروها وهي (عشر حجج) أولوا بها الآية وأن المراد منها ميثاق الفطرة فقط لو لم يذكرها صاحب الكتاب ابن أبي العز لأعرضت عنها صفحاً فحقيقة لا فائدة منها، لكن بما أنها مذكورة أذكرها على سبيل الإيجاز وأنقضها إن شاء الله، وهذه الحجج موجودة في كتاب الروح لابن القيم أيضاً من ص ـ167 إلى صـ168.
حجة من قال بأن الآية يراد بها ميثاق الفطرة فقط: (عشر حجج)
1) الحجة الأولى: قالوا: الله سبحانه وتعالى قال (من بني آدم) ولم يقل من آدم، فإذن هو جعلهم خلائف في الأرض ولم يخرجهم من صلب أبيهم آدم في عالم الذر.(6/383)
والجواب عن هذا: لا عبرة بهذا القول ولا يعترف به على ما قلناه لأن ذكر آدم معلوم في؟؟؟؟؟؟؟ (آدم) أخرج الذ رية منهم وأخرج الذرية التى يستخرج من تلك الظهور إلى يوم القيامة فهي ليست من صلب آدم فقط بل هي من ظهر كل من سيخلق. فذكر الآباء لأن ذكر الأب معلوم وهؤلاء الأبناء لا يكونون إلا بعد وجود أبيهم.
2) الحجة الثانية قالوا: قال (من ظهورهم) ولم يقل من ظهره.
والجواب عن هذا: كالجواب عن الحجة الأولى، فأخذ العهد من الفرع مستلزم لأن يخرج ذلك الفرع من الأصل، فذلك الفرع لا يكون إلا بعد وجود الأصل.
3) الحجة الثالثة: قالوا: الله سبحانه وتعالى قال (من ذريتهم) ولم يقل من ذريته.
والجواب عن هذا: كالجوابين المتقدمين، فبما أن هذه الذرية أخرجت من صلب آدم وهم بنوه فما يشملهم يشمله ولم يذكر هو لأنه معلوم، فلا يمكن أن توجد هذه الذرية إلا بواسطة وجود الأصل وهو آدم فأضيفت الذرية إلى الفرع الذي أخذت منه كما تضاف إلى الأصل الذي خرجت منه، ولذلك ورد في الحديث إضافتها إلى ظهر أبيهم، وفي الآية إضافتها إلى ظهور آبائها.
4) الحجة الرابعة: قالوا: الله سبحانه وتعالى قال (وأشهدهم) فهذا دليل على أن المراد من هذه الشهادة ما ركز في فطرهم لا أنهم شهدوا بألسنتهم، لأن معنى أشهدهم جعلهم شاهدين ولابد لحصول تلك الشهادة من كون الشاهد ذاكراً لشهادته وهم في هذه الحياة لا يذكرون الشهادة التي صدرت منهم في عالم الذر بل يذكرون الشهادة التي ركزت في فطرهم.
والجواب عن هذا: أن الشهادة التي حصلت منهم في عالم الذر يدل على أنهم شهدوا في ذلك الوقت على أنفسهم وتحققت الشهادة منهم وعلموا بها ثم ذكرهم الرسل بها في هذه الحياة فكأنهم علموها في هذه الحياة وكأنها ركزت في فطرهم، فصار كأنه أمر علمناه في هذه الحياة ونحن نشهده ونحن نذكره ونحن نستحضره عندما أعلمنا بها الرسل.(6/384)
5) الحجة الخامسة: قالوا: الحكمة من الإشهاد إقامة الحجة على العباد والحجة لا تقام عليهم إلا بالفطرة وبإرسال الرسل وأما ما وقع في عالم الذر فهذا لا تقوم الحجة به على أحد.
والجواب عن هذا: إذا أخبرنا الرسل الكرام عليه الصلاة والسلام بتلك الشهادة فقط فقد أقيمت الحجة علينا بذلك.
6) الحجة السادسة: المقصود من أخذ الميثاق عليهم (ميثاق الفطرة) تذكيرهم بهذا الميثاق لئلا يقولوا (إنا كنا عن هذا غافلين) وهم لا يذكرون إلا ميثاق الفطرة فلم يغفلوا عنه طرفة عين وأما الميثاق في عالم الذر هم في غفلة عنه ولا يعلمونه.
والجواب عن هذا: بعد أن يعلموه صار له من المكانة كميثاق الفطرة بل ما هو أشد من ذلك.
قال الإمام القرطبي: ومثال هذا مثال من طلق زوجته ثم نسي وغفل عن طلاقه فإذا قامت عليه البينة لشهادة شاهدين على أنه طلق، فإنه يثبت عليه الطلاق مع أنه في غفلة عنه.
... وهنا شهدنا ثم غفلنا عن تلك الشهادة ونسيناها فذكرنا بها الرسل فصار لها من الثبوت والمنزلة كثبوت دليل الفطرة ومنزلته بل ما هو أشد من ذلك.
7) الحجة السابعة: قالوا: إن الله جل وعلا ذكر حكمتين اثنتين لذلك الميثاق أولها: لئلا يقول الناس إنا كنا في غفلة عن هذا، والثانية لئلا يقولوا إننا قلدنا آباءنا وما عندنا ما يردعنا ويبين الحق لنا، وهاتان الحكمتان لا تحصلان إلا بعد دليلين معتبرين وحجتين عظيمتين: إرسال الرسل والفطرة، فالفطرة لا يجوز للإنسان أن يجحد خالقه، وبإرسال الرسل لا يجوز للإنسان أن يجحد خالقه وبهما أيضاً لا يجوز أن يقلد آباءه على الضلال والشرك.(6/385)
والجواب عن هذا: هذا الاعتراض الذي ذكرتموه منقوض في حق دليل الفطرة فهل يعاقب الله عباده إذا كانوا في غفلة عن عبادته، ولم يوحدوه وقلدوا آباءهم في شركهم وضلالهم إذا لم يرسل لهم رسولاً؟ لا، إذن فالفطرة وحدها ليست كافية وهكذا نقول أيضاً إن ميثاق عالم الذر ليس بكافٍ وحده لإقامة الحجة بل لابد من إرسال رسول وقلت لكم هذا هو مناط التكليف، فإذن فميثاق الفطرة وحده لا تثبت به حجة وكذلك ميثاق عالم الذر لا تثبت به وحده حجه وعليه فهما متساويان فكيف تحملون الحكمة من الإشهاد على دليل الفطرة دون دليل وميثاق عالم الذر.
8) الحجة الثامنة: قالوا: إن الله جل وعلا لا يعذب عباده إلا بعد الإعذار ولا يحصل قطع عذر العباد إلا بدليل الفطرة وإرسال الرسل ولذلك يقول الله جل وعلا مشيراً إلى نفي عذر الناس وأنه أخذ عليهم الميثاق لئلا يتعللوا ويتعذروا (أفتهلكنا بما فعل المبطلون) أي كيف تهلكنا ونحن لم تقم علينا الحجة.
والجواب عن هذا: كالجواب عن الذي قبله تماماً فالحجة لا تثبت على الناس بميثاق الفطرة فقط ولا تثبت عليهم بميثاق عالم الذر، فالإعذار لا يقطع إلا بإرسال الرسل فعلام أنتم حملتم هذا الميثاق في الآية على ميثاق الفطرة فقط وهذا لا يقطع عذر العباد، (قلت: ز- والحجة السابعة والثامنة والله أعلم – كأنها ناشئة من توهم أننا نرى أن ميثاق عالم الذر تحصل به الحكمتان ويحصل به الإعذار ونحن لا نقول بهذا على الإطلاق، فإن الظاهر من ميثاق احتجاجهم علينا أنهم يقصرون الحكمتين والإعذار على ميثاق الفطرة وإرسال الرسل فقط ويقولون لنا ميثاق عالم الذر لا يحصل به شيء من هذه الأمور الثلاثة (الحكمتين والإعذار) !! فكان الجواب كما ذكر شيخنا حفظه الله أن هذه الأمور الثلاثة إنما تثبت في حق ميثاق واحد هو ميثاق إرسال الرسل، ولا تثبت في حق ميثاق الفطرة كما زعمتم، ولا تثبت في حق ميثاق عالم الذر كما نقول نحن والله أعلم) .(6/386)
9) الحجة التاسعة: قالوا إن الله أشهد كل واحد على نفسه واحتج عليهم بتلك الشهادة وهذه الشهادة التي يحتج بها عليهم هي ما ركز في فطرهم، ولذلك قال الله تعالى (ولإن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله) .
والجواب عن هذا: نقول وكذلك الشهادة التي شهدوا بها في عالم الذر يحتج بها ربنا علينا فقال في هذه الآية (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) ، فإن قيل: إن كثيراً من الناس لا يستحضرونها، أو كل الناس لا يعلمونها، نقول: إذا أعلمهم الرسل بها فصارت كما لو علموها كدليل الفطرة كما تقدم معنا.
10) الحجة العاشرة: قالوا: إن الله جل وعلا بعد أن ذكر هذا الميثاق قال: (وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون) والآيات جمع آية والآية هي الدلالة الواضحة البينة التي لا يختلف عنها مدلولها، ودليل الفطرة لا يختلف عنها مدلوله. وهو الإقرار بأن الله ربهم وخالقهم.
والجواب عن هذا: كم من إنسان يقر بفطرته بأن الله خلقه لكنه يجحده؟ فإذن لا يلزم من الإقرار الفطري أن يعبده ولا يلزم من الإقرار في عالم الذر أن يعبده وعليه فهذه الحجج كلها لا تقوم ولا تنهض، بل هي مجرد تكلف في أن المراد من الآية ميثاق الفطرة لا ميثاق عالم الذر.
المواثيق الثلاثة وحجج الله على عباده التي أقامها عليهم انتهينا منها وعندنا تعليق يسير على هذا المبحث.
الميثاق الفطري لا ينكره أحد فهذا موجود في الفطرة هو غريزة من الغرائز الموجودة في الإنسان، فالعباد فيهم غرائز يقومون بموجبها لأفعال في هذه الحياة منها غريزة التدين أو غريزة الجنس أو غريزة حب التملك، لذلك فالغريزة أصوات إلهية تقود المخلوقات بأسرها إلى إيجاد ما جعله الله فيها (ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) .(6/387)
فمثلا ً سواء وردت شريعة بحل النكاح أو لم ترد سيحصل اتصال بين الذكور والإناث لأن هذه غريزة جعلها الله في قلوب الناس فالأنثى عندها غريزة لا تهنأ إلا إذا صارت أماً والرجل لا يهنأ إلا إذا صار أباً ولذلك إذا تزوج ولم يأته أولاد تراه يبحث عن أطباء الأرض من أجل إنجاب ذرية.
فإذن هذه (الجنس) غريزة تقود المخلوقات فترى الناس يسعون لتنفيذها لكن المؤمن هنا يتميز عن الكافر أو الفاسق، فالمؤمن يقوم بإشباع هذه الغريزة على حسب هدي الشرع فيثاب عليها [وفي بضع أحدكم صدقة] وأن الكافر أو الفاسق فيقوم بإشباع هذه الغريزة غالباً عن طريق الشهوة البهيمية والمتعة الحرام فيعاقب.(6/388)
وكذلك التدين غريزة فلابد لكل إنسان أن يتدين لكن إما أن يتدين تديناً معوجاً وإما أن يتدين تديناً مستقيماً، فإما أن يتدين لله وهو التدين المستقيم وإما أن يتدين التدين المعوج فيتدين لبشر كحال الشيوعية أنكرت وجود الإله وقيام الساعة وكذبت وخونت الرسل عليهم الصلاة والسلام لكنهم يتدينون رغم ذلك لمن؟ يعبدون لينين بدلا ً من أن يعبدوا رب العالمين، وإما أن يتدين لبقر، أو لحجر أو لذكر، أو لشمس أو لقمر، لكن لابد من تدين فالإنسان عندما يشعر بضعفه وفقره ومسكنته يريد أن يلجأ إلى ما يراه أنه أقوى منه وأغنى منه، فالمؤمن يلجأ إلى الغني الحقيقي القوي، والمشرك تراه إما أن يلجأ إلى بشر أو إلى شمس أو إلى قمر أو حجر وما شاكل هذا، وما عبادة الأحجار والأشجار والأبقار إلا دليل على إشباع غريزة التدين، ولذلك فلابد لكل مخلوق مهما كان شأنه من عبادة لكن إما أن يعبد الله وإما أن يعبد غيره وإما أن يعبد نفسه (أرأيت من اتخذ إلهه هواه) ، والقلب لابد له من تعلق لكن إما أن يتعلق بالرب وإما أن يتعلق بالخلق بصور أو بفرد أو بنساء أو بخمر أو ببقر ووصل هوس المهوسيين في موضوع التعلق بالمقبورين أنهم كانوا يقولون إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور، أي الجؤوا للأموات سبحان الله!! ماذا يغنون عنكم بل ماذا يغنون عن أنفسهم؟؟ لكن هذا هو القلب الخربان وهذه هي الذلة لغير الله، وأعز الناس في هذه الحياة وهو صاحب الحرية الحقيقية من لا تنحني جبهته إلا لخالقه سبحانه وتعالى ولا يذل نفسه إلا لربه وأما من عداه فلا يذل نفسه له.
تغرب لا مستعظماً غير نفسه ... ولا قابلاً إلا لخالقه حكماً(6/389)
أي لا يستعظم إلا نفسه (عزة إيمانية) ولا يقبل إلا حكم الخالق جل وعلا وحقيقة هذه هي الحرية هذا هو العز وهذه هي الكرامة وليس في تذلل الإنسان لخالقه منقصة، لكن في تذلله لغيره كل المنقصة ولذلك السؤال في حالة ضرورة يجوز لكن تركه أولى، لأن السؤال ذل ولا يليق أن يتذلل المخلوق لمخلوق؟! لا، إن الموت أحسن من أن تتذلل لمخلوق، ثم إن في سؤال المخلوقين ثلاث أنواع من الظلم:
أولها: في حق نفسك حيث امتهنتها والله أمرك أن تعزها.
والثانية: في حق المسئول لأنك أضجرته وآذيته، فبنو آدم عندما يسألون يتضجرون.
والثالثة: اعتديت على الخالق لأن الله هو الذي يقول يا عبادي سلوني لأقضي حوائجكم.
لا تسألن بُني آدم حاجة ... وسل الذي أبوابه لا تُحجبُ
الله يغضب إن تركت سؤاله ... وبُني آدم حين يُسأَل يغضب
فإذن التدين غريزة، ركز في فطرنا وكذلك التملك غريزة، فكل واحد يحب أن يتملك وأن يكون في جيبه دراهم، فهذا فطر الله القلوب عليه (وتحبون المال حباً جماً) (وإنه لحب الخير لشديد) وبعض الناس وصل الآن سفاهتهم أنهم قالوا الدراهم مراهم، ولكن الحقيقة قالها بعض الأكياس الفطناء سمي الدرهم درهماً لأنه يُدِرُ الهم أي يجلبه ويأتي به.
الشاهد أن حب التملك غريزة يحبها الإنسان ولا حرج عليه في ذلك إذ أخذها عن طريق شرعي [نِعْم المال الصالح للرجل الصالح] فيأخذه من حله ويضعه في حقه، وليس في جلب المال منقصة ما دمت تأخذه من حله وأنت مأجور وتضعه في حقه وأنت مثاب على ذلك وكما في الصحيحين [لأن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس] فلا حرج عليك في جمعه ولا تجعله يطغيك ولا تسرف فيه ولا تبطر به.(6/390)
.. وليس في حب النساء منقصة للإنسان ما دام على حسب شريعة الله وكذلك حب المال ما دام على حسب شريعة الله وقد قال سيد الكاملين عليه الصلاة والسلام [حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء وجُعلت قرة عيني في الصلاة] فمثل هذه الطيبات لا حرج في حبها ما دامت على حسب شريعة الله، قال تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ... ) فهذه الطيبات يتمتع بها المؤمن والكافر في الحياة الدنيا، أما في الآخرة فلا يشارك المؤمن فيها أحد. (هذا الكلام كله جعلته كالتمهيد للإشكال الذي سيأتي، وهو مأخوذ من كلام الشيخ حفظه الله)
الإشكال:
قد يقول قائل: إذا أخذ الله علينا الميثاق في عالم الذر – كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحيحة – على أنه خالقنا وربنا ومالكنا، وأودع هذا في فطرنا وغرزه فينا – وهو الميثاق الثاني – فجعلنا نقر بوجوب عبادته، فعلام توقف التكليف على إرسال الرسل ونزول الكتب، وقد أخذ علينا ميثاقين (في عالم الذر، والفطرة) ؟
الجواب عن الإشكال: توقف التكليف على إرسال الرسل ونزول الكتب لأمرين:
الأمر الأول: أن العباد يكلفون قبل إرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم بتوحيد ربهم، لكن الله جل وعلا كرماً منه وفضلاً رفع عنا العقاب قبل إرسال الرسل وإنزال الكتب فقط لأن الغريزة الفطرية وإن كانت مركوزة في النفس الإنسانية إلا أنها في عرضة – أحياناً – للتغيير وللتلاعب وللخطأ، فلابد من إرسال الرسل لتكون الغريزة مستقيمة تهتدي بهدي ذلك الرسول، فغريزة التدين موجودة لكنها عرضة للتغيير.
... والعباد إذا أشركوا بالله قبل إرسال الرسل وإنزال الكتب ظالمون معتدون مسرفون لكن لا عقاب على ظلمهم كرماً من الله وفضلاً.(6/391)
.. وقد قرر الله هذين الأمرين (أن العباد ظالمون إذا لم يوحدوا الله قبل إرسال الرسل، وأنه لا عقاب عليهم مع ظلمهم) في سورة الأنعام يقول الله جل وعلا: (ويوم يحشرهم جميعاً يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا، قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم، وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون، يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسلٌ منكم يقصّون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين، ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون) الآيات 128- 131 (ألم يأتكم رسل منكم؟؟؟؟؟؟؟؟) وهو إرسال الرسل، (ذلك أن لم يكن..) هذا هو الشاهد أي إرسال الرسل وإقامة الحجة على العباد لئلا يهلك الله القرى بظلم منهم وبشرك منهم وضلال منهم، وهم غافلون عن بلوغ الدعوة ووصول الرسالة.
... إذن فأثبت لهم الظلم في حال غفلتهم وعدم إرسال الرسول إليهم إذ لم يعبدوه ولم يوحدوه ومع ذلك لا عذاب عليهم كرماً منه وفضلاً سبحانه وتعالى، وكان الأصل أن يعذبوا لأنهم جحدوا الميثاق الفطري لكن الله تكرم فقال أنا لا أعذب إلا بعد قيام الحجة على أتم وجه فانتبهوا يا عبادي أشهدتكم على أنفسكم في عالم الذر، وركزت في فطركم الإقرار بوجودي ووجوب عبادتي وأرسلت إليكم الرسل وأنزلت عليكم الكتب وتركتكم على المحجة البيضاء، فمن ضل بعد ذلك فلا يلومن إلا نفسه ولو عذبنا على الميثاق الفطري لاستحققنا العذاب لأننا ظالمون.(6/392)
الأمر الثاني: الفطرة وإن دلت على وجود الله ووجوب تعظيمه إلا أنها لا تستطيع أن تحدد الأشكال التي يحصل بها تعظيم ذي العزة والجلال أي لا تستطيع أن تحدد شكل العبادة وشكل التعظيم الذي يتقرب به إلى الله، فقد يقول هذا أنا أعبد الحمار الذي خلقه الله تقرباً إلى الله، ويأتي هذا ويقول أنا أعبد هبل، وآخر يقول: اللات، وآخر لنين وآخر الشمس وآخر القمر وآخر الحجر وهكذا كلٌ سيعبد ما شاء إن لم يرسل رسولاً وينزل كتاباً على البشر.
... ولذلك كل ما يحصل به تعظيم الله جل وعلا هو عبادة والعبادة توقيفية لا مجال للعقل فيها، فنعبد الله بما يشاء لا بما نشاء ولذلك [من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد] .
(ذكر الشيخ قصة عن الشيخ صالح الجعفري من علماء الأزهر حيث كان يقول لا يوجد شيء اسمه بدعة فكل ما نقصد به الخير فهو جائز مستدلاً بالآية (وافعلوا الخير..)) .
(ذكر الشيخ قصة المهوس عيسى؟؟؟ وضلالاته التي يقررها من جواز الاستغاثة بغير الله، وأن أهل السنة حذفوا لفظ وعترتي من حديث فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين وغير ذلك من الضلالات ... )
فمن أجل الأمرين السابقين توقف التكليف على إرسال الرسل وإنزال الكتب.(6/393)
لفضيلة الشيخ الدكتور
جمعها
أبو عبد الرحمن زيد محمد بكَّار
الكيلاني
بسم الله الرحمن الرحيم
المحاضرة الأولى 21/2/1421 هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد
فأول مبحث عندنا هو:
مبحث: الإسراء والمعراج
المراد بالإسراء:
ما حصل لنبينا عليه الصلاة والسلام من رحلة مباركة من مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى في جزء من الليل وتبع ذلك العروج به إلى السموات العلا إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام أي حسها وكتابتها في اللوح المحفوظ عندما تكتب تقدير الله جلا وعلا، ثم أعيد عليه صلوات الله وسلامه إلى مكة المكرمة ولا زال فراشه دافئاً أي: لم يبرد بعد فراق النبي صلي الله عليه وسلم، وذلك أن الفراش يدفأ من أثر احتكاك الإنسان به وتنفسه ويسخن عندما ينام الإنسان فيه وهكذا عندما يجلس الإنسان، لذلك ورد في معجم الطبراني أو البزار – شك الشيخ الطحان – بسند ضعيف [أن امرأة جاءت إلى النبي عليه الصلاة والسلام تناجيه في مسألة وتستفتيه في أمر في مسجده عليه صلوات الله وسلامه عليه وبعد أن انتهت وقامت جاء رجل وأراد أن يجلس مكانها، قال: لا حتى يبرد المكان]
فالشاهد:
أن الإنسان عندما يجلس في مكان أو ينام في هذا المكان يكون فيه شيء من دفئه وحرارته الغريزية.
وسنتناول مبحث الإسراء والمعراج ضمن مراحل متعددة:
المرحلة الأولي:(7/1)
يجب علينا إذا أردنا أن نتكلم على هذا الحادث العظيم الجليل الشريف المبارك أن نذكر الآية التي أشارت إليه في سورة سميت باسم هذا الحادث المبارك وهي سورة (الإسراء) ، وتسمي أيضا بسورة (بني إسرائيل) وتسمي أيضا بسورة (سبحان) فلها ثلاثة أسماء، وأسماء السور توقيفية مبناها على النقل لأعلى العقل وعلى الرواية لأعلى الرأي، إما من الصحابة فلكلامهم حكم الرفع إلى نبينا عليه صلوات الله وسلامه ورضي الله عنهم أجمعين، وإما النقل عن التابعين فلذلك حكم الرفع المرسل فيقبل قول التابعي: (1) إذا تعزز بقول تابعي الآخر (2) إذا كان قائله من أئمة التفسير الذين أخذوا تفسيرهم عن الصحابة كمجاهد بن جبر وسعيد بن جبير عليهم جميعاً رحمة الله.
فأسماء السور إذن توقيفية وكذا القول بأن هذا مكي وهذا مدني وأسباب النزول كلها مبنية على الرواية لأعلى الرأي وعلى النقل لأعلى العقل.
يقول ربنا الجليل في أولها (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير) .
هذه الآية لابد من تفسيرها وكل من يتكلم على حادث الإسراء والمعراج ينبغي أن يستعرض تفسير هذه الآية لتربط المباحث ببعضها.
(سبحان) مأخوذة من السَّبْح وهو الذهاب والإبعاد في الأرض، ومنه يقال السابح الذي يسبح في البركة وفي البحر سابح لأنه يبعد ويذهب بعيداً في حال سباحته، ولذلك لا تصلح السباحة في مكان ضيق محصور متر في متر ونحوها.(7/2)
فسبحان مأخوذة في أصلها اللغوي من المسبح وهو الذهاب والابتعاد في الأرض كما ذكرنا ولفظ (سبحان) إما أن يكون مصدر (سبَّح - يسبح – تسبيحاً – وسبحاناً) على وزن (كفر – يكفر – تكفيراً وكفراناً) وهذا المصدر منصوب يعامل إما من لفظه فنقدر نُسبِّحُ الله سبحاناً، وإما من غير لفظه فنقدر: أُنِّزهُ الله سبحاناً، وكلا التقديرين صحيح، وأما سبحان عَلَمٌُ على التسبيح انتصب بفعل مضمر، ثم نُزِّل ذلك العلم منزلة الفعل وسد مَسَدَّهُ.
وأما معنى (سبحان) فقد جاء لثلاثة معانٍ في القرآن:
1- أولها:
تنزيه الله عن السوء وتبرئته من كل نقص، قال الإمام ابن كثير عليه رحمات ربنا الجليل في آخر سورة الصافات عند قوله: (سبحان ربك رب العزة عما يصفون) الآيات قال: "كثيراً ما يقرن الله بين التسبيح والتحميد" (سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين) يقرن بين التسبيح والتحميد؛ لأن كلاً منها يكمل الآخر "، فالتسبيح فيه تبرئَة لله عن النقائص ويستلزم ذلك إثبات المحامد إذن فيتضمن نفي النقص عن الله ويستلزم إثبات الكمال له، والحمد بالعكس يتضمن إثبات الكمال لله ويستلزم نفي النقص عنه فكل منها يستلزم الآخر.
التسبيح يتضمن معناه الأصلي – نفي النقص عن الله وذلك يستلزم إثبات الكمال فإذا انتفى النقص ثبت الكمال وكل نفي لا يدل على إثبات ما يضاده فلا مدح فيه.
س: إثبات الكمال بلفظ التسبيح من أي أنواع الدلالات هل هو دلالة تضمن أم دلالة مطابقة أم دلالة التزام؟
جـ: دلالة التزام، فإن معنى دلالة التضمن هو أن يدل اللفظ على ما وضع له أي وضع لأجل أن يدل على تبرئة الله عن النقص، وأما معنى دلالة الالتزام فهو دلالة اللفظ على أمر خارج عن المعني لكن لازم له فإذا نُفي النقص ثَبَتَ الكمال.(7/3)
فمثلاً: الحمد يتضمن إثبات الكمال والمحامد لله وذلك يستلزم نفي النقص فكلاً منهما يستلزم الآخر ويدل عليه فقرن الله بينهما فكأن الدلالة التي في فظ التسبيح جيء بالحمد ليدلل الله عليها دلالة تضمن ودلالة مطابقة لا دلالة الالتزام، وهكذا الدلالة التي في الحمد وهي نفي النقص عن الله جيء بلفظ التسبيح ليدل عليها صراحة وتضمناً ومطابقة لا التزاماً.
فـ[نفي النقص عن الله يستلزم إثبات الكمال وإثبات الكمال يستلزم نفي النقائص] ولذلك يقرن الله بين التسبيح والحمد لكن أصل معنى التسبيح تنزيه الله عن كل نقص وسوء.
لذلك قال ربنا جل وعلا: (وقالوا اتخذ الله ولداً) فبأي شيء عقب على هذا الكلام (سبحانه) تعالى وتنزه عن هذا النقص، فهكذا كل نقيصة يقولها الكفار ينفيها الله جل وعلا عن نفسه بلفظ التسبيح.
إذن تنزيه الله عن السوء وقد ورد في مستدرك الحاكم (1/502) في كتاب الذكر والدعاء عن طلحة بن عبيد الله – أحد العشرة المبشرين بالجنة رضوان الله عليهم – قال [سألت النبي صلي الله عليه وسلم عن معني التسبيح فقال نبينا عليه الصلاة والسلام: هو تنزيه الله عن كل سوء] إذن فهذا هو معنى التسبيح، تبرئة الله عن النقائص وعن السوء.
وهذا الأثر صححه الحاكم وقال إسناده صحيح لكن تعقبه الذهبي وقال: قلت: ليس كذلك ثم بين أن فيه ثلاث علل:
العلة الأولي: فيه طلحة بن يحي بن طلحة بن عبيد الله الحفيد، منكر الحديث كما قال البخاري.(7/4)
العلة الثانية: وفيه حفص تالف الحديث واهٍ، وحفص هذا هو الذي نقرأ بقراءته فهو في القراءة إمام لكنه في الحديث تالف ضعيف، فإنه ما صرف وقته لحفظ الحديث وضبطه فكان إذا حدث يَهِمُ وسبب الضعف عدم الضبط لا عدم الديانة فانتبه!!!.. فإن سبب الضعف إما زوال الديانة أو زوال الضبط وليس في زوال الضبط منقصة وإن كانت روايته تُردُّ، لكن إذا كان الضعف بسبب ضياع العدالة؛ لأنه فاسق، كذاب، شارب للخمر، مرتكب الكبيرة، وما شاكل هذا فهذا هو النقص، أما إذا كان الإنسان لا يحفظ، وإذا حفظ ينسى، وإذا حدث يخلط، فهو مردود الرواية وسبب الرد عدم الضبط وذلك لأنه لابد من عدالة وضبط فإذا رُدَّتْ رواية الراوي لعدم ضبطه فلا منقصة في دينه، وإذا رُدَّتْ رواية الراوي لعدم عدالته فهذا هو البلاء.
وحفص من ناحية العدالة عدل وفوق العدل، عدل إمام رضا، لكن في ناحية ضبط الحديث واهي الحديث تالف الحديث.
العلة الثالثة: وفيه أيضاً عبد الرحمن بن حماد منكر الحديث كما قال ابن أبي حاتم، فالحديث من ناحية الإسناد ضعيف لكن المعنى صحيح، أي تفسير سبحان الله والتسبيح بأنه تبرئة الله عن كل سوء وعن كل نقص، ثبوت هذا عن نبينا صلى الله عليه وسلم ضعيف من حيث الإسناد لكن المعنى صحيح.
ثانيها: ويأتي التسبيح بمعنى التعجب، وهذه المعاني ضروري معرفتها في هذا المبحث إذ لها معانٍ كبيرة وخفية فلفظ (سبحان) هذا وحده يدلنا على أن الإسراء كان بالروح وبالجسد كما سيأتينا، فلفظ سبحان على حسب ما فيها من دلالتين: إما تنزيه الله عن كل نقص أو التعجب، نستدل على أن الإسراء والمعراج كان بالروح والجسد، كيف هذا؟(7/5)
لو كان رسولنا عليه الصلاة والسلام كذاباً – وحاشاه من ذلك- وقال: أسرى الله بي إلى بيت المقدس وعرج بى إلى السموات ورجعت ولم يكن ذلك قد حصل، فإذا أقره الله فماذا يكون في هذا؟ يكون فيه منقصة في حق الله، فإذن هذا يكذب عليه وهو يؤيده بخوارق العادات من إنزال القرآن وغيره أفلا يكون في هذا منقصة والله تعالى يقول: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل) .
فلفظ (سبحان) إذن أول ما يدل عليه أن الإسراء والمعراج بالجسد لا بالروح فقط لأن هذا لو كان على خلاف ذلك لما كان هنا داعٍ لتعجيب العباد من هذا، فالروح كل واحد يرى أنه أسري بها، فقد يري الكافر أنه أسري بها إلى الصين التي هي أبعد من بيت المقدس، وهذا واضح ولو كان النبي صلي الله عليه وسلم يخبر بخلاف الحقيقة فكيف يقره الله وهو أحكم الحاكمين ورب العالمين؟!
لذلك قال أئمتنا: المعجزة تدل على صدق الرسول لأنها بمثابة قول الله: صدق عبدي فيما بلغ عني.
فلو كان نور مثلا حاضراً في مجلس الأمير، والأمير جالس، وقام وقال أنا رسول الأمير إليكم وأنني مسئول عن أمور الرعية، وأنا نائبه، وقد فوض إلي تدبير الشؤون في هذه المنطقة وأنا ممثله وليس عندي كتاب عنه وما تكلم هو، لكن الدليل على أنني رسوله وأنني نائبه أن الأمير يقعد الآن أمامكم عشر مرات فقام الأمير وجلس وقام وجلس وقام وجلس عشر مرات وما تكلم، أفلا يدل هذا على صدقه؟ نعم يدل دلالة أقوى من الكلام، ولو كان كذاباً لقال الأمير: اضربوا رقبته.
فعندما يقول نبينا عليه الصلاة والسلام للقمر بيده هكذا فينشق فلقتين فهذا لو كان كذاباً لما أيده الله، فإذا كان من علامة صدقه أنه يشير إلى القمر فينشق (اقتربت الساعة وانشق القمر) ولو كان كذاباً لما أيده الله.(7/6)
وانظر إلى مسيلمة الكذاب لما قيل له: إن محمداً عليه الصلاة والسلام يبصق في عين الأرمد فيبرأ، فقد بصق في عين علي بن أبي طالب وكان يشتكي عينيه فما اشتكي منهما بعد ذلك، فقال مسيلمة هاتوا أرمداً لأبصق في عينيه فأتي له أرمداً فبصق في عينيه فعمي.
فجوزي بنقيض قصده لذا قال أئمتنا: تلك معجزة وهذه إهانة وذلك خارق للعادة وهذا خارق للعادة لكن ليفضحه الله.
وقيل له كان النبي صلي الله عليه وسلم يضع يده في الماء فيفور الماء من بين أصابعه ولما كان صلوات الله وسلامه عليه مع أصحابه في صلح الحديبية كانوا (1500) شخصاً وكفاهم الماء القليل عندما وضع في تور من ماء – إناء صغير- أصابعه صلوات الله عليه فبدأ الماء يفور من بين أصابعه فقيل لمسيلمة عندنا بئر ماؤها قليل لعلك تدخل فيها وتقرأ عليها وتتمتم ليبارك لنا في مائها ففعل فغارت. فهذا خارق للعادة لكنه إهانة وذلك خارق للعادة لكنه معجزة.
إذن فلا يظن أن البحث في معنى سبحان من باب النافلة بل هو مرتبط ببحثنا فـ (سبحان) سيأتي أنه من الأدلة على أن الإسراء كان بالروح والجسد.(7/7)
فـ (سبحان) تأتي بمعني التعجب، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة كما في صحيح البخاري: [سبحان الله: إن المؤمن لا ينجس] وأول الحديث يقول أبو هريرة: [لقيت النبي عليه الصلاة والسلام في بعض طرق المدينة أو مكة وكنت جنباً فانخنست منه] أي تسللت في خفية وتواريت عنه لئلا يراني – وقد كان من عادة النبي صلي الله عليه وسلم إذا التقى بأصحابه يصافحهم ويداعبهم ويضاحكهم وليس حاله كحال الجبابرة الطغاة، لذلك لما حج النبي صلي الله عليه وسلم وفداه أبي وأمي فرد فردا ولا إليك إليك أي ما أحد يقال له تنح من أمام النبي عليه الصلاة والسلام، فالناس يمشون بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وهو مع الناس، نَفَرٌ منهم، فإذن له لما رأى أبو هريرة النبي عليه الصلاة والسلام وكان أبو هريرة جنباً يقول: انخنست منه أي تسللت في خفية لئلا يصافحني فكيف يصافحني وأنا جنب، وقد كان يظن أن الإنسان إذا أجنب تنجس [فذهب فاغتسل ثم جاء، قال أين كنت يا أبا هريرة؟ قال كنت جنباً فكرهت أن أجالسك قال: سبحان الله إن المؤمن لا ينجس] فما معنى (سبحان الله) هنا؟ معناها: أتعجب منك يا أبا هريرة، أنت حافظ العلم ورواية الإسلام كيف يخفى عليك هذا الحكم في شريعة الرحمن.
(أسرى) قال علماء اللغة سرى وأسرى بمعنىً واحد مثل سقى وأسقى، قال
حسان بن ثابت رضي الله عنه:
حي النضيرة ربت الخدر ... أسرت إليّ ولم تكن تسري
النضيرة في البيت إما زوجته أو ابنته أو أخته المقصود جاءته في الليل يحييها أسرت إليه ولم تكن تسري، قال علماؤنا: جمع حسان اللغتين في هذا البيت أسرت فهذا أن أسرى وتسري من سرت لأنها لو كانت من أسرت لقال تُسري.(7/8)
قيل إنه سير الليل خاصة، وعليه فذكر (ليلاً) في الآية للإشارة إلى تقليل الزمن في تلك الليلة فما سراه لم يكن في مدة الليلة بكاملها إنما كان الإسراء والمعراج به كان في جزء من الليل ولم يكن في جميع الليلة، ويدل على هذا قراءة بن مسعود وحذيفة وهى قراءة شاذة (سبحان الذي أسري بعبده بالليل) بدلاً من (ليلاً) أي أن السرى حصل لنبينا صلوات الله عليه وسلامه والإسراء به حصل في جزء من الليل فذكر ليلاً، فالتنكير هذا للتقليل حصل له في جزء من الليل وكما ذكرنا فراشه دافئ
وقال الزجاج: هو مطلق السير في ليل أو نهار وعليه فذكر الليل لبيان وقت الإسراء.
(بعبده) هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أفضل خلق الرحمن ونعته بهذا الوصف وهو العبودية لأمرين معتبرين:
الأمر الأول:
أنه أكمل النعوت وأشرف الخصال في حق البشر؛ لأن العبودية تضمن أمرين اثنين: حب كامل وذل تام، ولا يكون العبد عبداً إلا بهذين الأمرين، فيحب الله محبة تامة كاملة، ويتذلل تذللاً تاماً كاملاً، فمن بلغ هذين الأمرين يقال له: هو عبد، وهذه أشرف صفة ولذلك نعت الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف الذي يشير إلى هذين الأمرين في أعلى المقامات وأجلها منها قوله تعالى (سبحان الذي أسرى بعبده) ، (الحمد لله الذي أنزل على عبده) ، (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا) ، (وأنه لما قام عبد الله يدعوه) فينعته ربنا بلفظ العبودية؛ لأنه أشرف وصف في المخلوق وهو أن يكون عبداً للخالق، أي يحبه حباً تاماً ويتذلل إليه تذللاً تاماً.(7/9)
ونبينا عليه الصلاة والسلام نال من هذين الوصفين أعلى نصيب ممكن في حق البشر لذلك فهو أشرف المخلوقات على الإطلاق، ثبت في المستدرك وميند البزار بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه موقوفاً عليه وله حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [خيار ولد آدم] وفي رواية: [سيد ولد آدم خمسة محمد وإبراهيم وموسى وعيسى ونوح وسيد خلقه محمد عليه صلوات الله وسلامه] .
فقد اتفق أئمتنا – وهذا قد مر معكم في مبحث النبوة في المستوى الأول في شرح العقيدة الطحاوية – على أن أفضل البشر الأنبياء وأفضل الأنبياء الرسل وأفضل الرسل أولو العزم وهم الخمسة الذين ذكرهم الله في آيتين من كتابه (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم) آية 7 من سورة الأحزاب، وفى سورة الشورى آية رقم 13 (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) فأفضل الرسل أولو العزم، وأفضل أولو العزم الخليلان إبراهيم ومحمد على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه وأفضل الخليلين أكملها خلة وأعظمها محبة لربه وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
فخلة إبراهيم لربه دون خلة نبينا عليه الصلاة والسلام لربه، والخلة هي أكمل مراتب المحبة وهي في المحبة كالمقت في الغضب فكما أن المقت أعظم أنواع الغضب، فالخلة أعلى مراتب المحبة.
قد تخليت مسلك الروح مني ... وبذا سمي الخليل خليلا(7/10)
ولذلك ثبت في الصحيحين عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [لو كنت متخذاً خليلاً من أهل الأرض لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله] فليس في قلبي متسع لغير ربي، فمحبتي كلها له فهذا أعلى الحب وأكمله ولذلك يقول إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه كما في حديث الشفاعة الطويل الثابت في مسلم وغيره عندما [يذهبون إليه فيقولون له اشفع لنا فأنت اتخذك الله خليلاً فيقول: إنما كنت خليلاً من وراء وراء، اذهبوا إلى محمد عليه الصلاة والسلام فإنه عبد صالح قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيذهبون له فيشفع لهم] وهي الشفاعة العظمي والمقام المحمود الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون، النبيون والمرسلون عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.
نعم يلي نبينا في الفضيلة إبراهيم فهو خليل الرحمن وما بلغ مرتبة الخلة إلا نبينا عليه الصلاة والسلام وأبونا إبراهيم، فإبراهيم جعل قلبه للرحمن بشهادة ذي الجلال والإكرام حيث قال (إذ جاء ربه بقلب سليم) ، وجعل بدنه للنيران وماله للضيفان وولده للقربان أما يستحق هذا أن يتخذه ربنا الرحمن خليلاً وحقيقة الخلة كاملة، والمحبة تامة والعبد هو من جمع حباً وذلاً، يحب ربه من كل قلبه بكل قلبه، ويتذلل له بجميع جوارحه.
فمن حقق هذين الأمرين فهو عبد، فالنعت إذن بوصف العبودية هذا مدح ليس بعده مدح أن يقول لك ربك عبدي، هذا شرف لك ليس بعده شرف.
ومما زادني عجباً وتيهاً ... وكدت بأخمصي أطأ الثُّربا
دخولي تحت قولك يا عبادي ... وأن صيرت أحمد لي نبيا
ولكل ما سبق نُعت النبيُّ صلي الله عليه وسلم بـ (عبده) .
الأمر الثاني:(7/11)
الذي من أجله وصفه الله بهذا الوصف خشية أن تغلو الأمة فيه، فنعته بوصف العبودية لتعرف الأمة وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم ومكانته لا نقول: بما أنه أفضل المخلوقات وأسرى الله به وعرج به إلى السماء وأنزل عليه القرآن وفضله على العالمين إذن نذهب نصلي لقبره ركعتين وعندما نذبح نقول بسم محمد وعندما نقع في كربة نقول يا رسول الله فرج عنا، فلئلا تقع الأمة في هذا الضلال أخبرنا الله أنه عبد فإذا كان عبداً فلا يحق أن تصرف له شيئاً من العبادة، فهذا خاص لله جل وعلا.
فَنُعِتَ بهذا الأمر لأجل المدح والتحذير من الغلو ثبت في صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله] عليك صلوات الله وسلامه يا أفضل خلق الله ويا أكرم رسل الله، والإطراء وهو المجاوزة في المدح والمبالغة فيه.
إخوتي الكرام..... إذا ذكر الإنسان النبي عليه الصلاة والسلام فينبغي أن يذكره بالتبجيل والتوقير والاحترام وأن يتبع هذا عليه الصلاة والسلام.
وأما ما شاع بين الناس في هذه الأيام لما خربت قلوبهم وأظلمت من جفاء نحو ذكر نبينا عليه الصلاة والسلام تراه على المنبر وأحيانا داعي يقول: كما قال رسولكم محمد بن عبد الله، فهذا ينبغي أن يضرب على فمه حتى تسيل الدماء منه، فهذا جفاء وقلة حياء بل كان الواجب أن يقول قال محمد رسول الله، هل نعته الله بأنه ابن عبد الله في كتابه؟ وهل في نسبته لأبيه مدح؟ لا إنما في نسبته إلى الله مدح فالواجب أن يقال: رسول الله خاتم النبيين وغيرها فبهذا نعته الله (محمد رسول الله) ، (محمد عبد الله ورسوله) ، (ما كان محمداً أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله إليكم وخاتم النبيين) ، (يا أيها النبي اتق الله) ، (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل لك) ، ولم ترد إضافته إلى أبيه في القرآن.(7/12)
ولا يجوز أن تضيفه إلى أبيه إلا في مقام النسب فقط، فتأتي بنسبه فتقول: هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب – إلخ النسب ما عدا هذا ذكره مضافاً إلى أبيه من البذاء والجفاء وقلة الحياء وعدم تعظيم خاتم الأنبياء عليه صلوات الله وسلامه، فانتبهوا لهذا. تضيفه لله فلا حرج قال محمد بن عبد الله ورسوله لكن ليس: قال محمد بن عبد الله. (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً)
وقد أفتى ابن حجر الهيتمي بأن من قال عن نبينا عليه الصلاة والسلام بمقام الدعوة والتبليغ قال محمد بن عبد الله بأنه يعزر.
وحقيقة الأمر كذلك لأن هذا كما قلنا من عدم توقير النبي عليه الصلاة والسلام.
(المسجد الحرام)
الأحاديث الواردة في الإسراء والمعراج وردت في الظاهر متعارضة، لكن نجمع بينها فيزول التعارض:
ورد أنه أسري به من بيت بنت عمه فاخِتة أم هانئ بنت أبي طالب.
وورد أنه أسري به من شعب أبي طالب.
وورد أنه أسري به من بيته ففرج سقف بيته ونزل المكان وأخذاه.
وورد أنه أسري به من الحجر من الحطيم وهو حجر إسماعيل.
قال الحافظ ابن حجر: لا تعارض بينها، فكان نبينا عليه الصلاة والسلام نائما في بيت بنت عمه أبي طالب فاخِتة أم هانئ، وبيتها كان في شعب أبي طالب، أضيف إليه سقف بيته فرج لأجل سكناه فيه؛ لأنه يسكن فيه وإن كان لا يتملكه كما تقول فتح علي باب حجرتي وأنت في الفندق فأضيفت إليه الحجرة تملكاً في السكن لسكنه فيها وكذا أضيف البيت للنبي صلى الله عليه وسلم لسكناه فيه ثم بعد أن أخرج من بيت أم هانئ في شعب أبي طالب وقيل له بيته لأنه يسكنه أُخذ عليه صلوات الله وسلامه إلى الحجر ولازال فيه أثر النعاس وأُرْجِعَ فيه، ثم بعد ذلك هيأ من ذلك المكان وأخرج من باب المسجد الحرام إلى رحلة الإسراء والمعراج فحصلت جميع هذه الأمور من بيت أم هانئ في شعب أبي طالب وهذا بيته وأُخذ إلى الحِجْر وأُسري به من حِجْر إسماعيل وهو الحطيم.
المحاضرة الثانية(7/13)
الثلاثاء 16/3/1412هـ
وقد أضيف بيت بنت عمه أبي طالب أم هانئ فأختة للنبي صلى الله عليه وسلم لسكناه فيه كما قال الله جل وعلا: (لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم) فالإضافة هنا للسكن أو للملك؟ هي للسكن، ولو كنت تملك البيت، لكنك أجرته فلا يجوز أن تدخله وإن كان ملكاً لك وهنا أضيف البيت إليه لسكناه فيه، هذا البيت هو لبنت عمه في شعب أبي طالب وأضيف إليه هو ضمن الحرم.
والمراد من (المسجد الحرام) حرم مكة المكرمة، وليس المراد منه خصوص المسجد لأن لفظ المسجد الحرام شامل لحرم مكة، ولذلك من صلى في أي بقعة من بقاع الحرم تضاعف صلاته مائة ألف صلاة ولا يشترط هذا أن يكون في خصوص المسجد الحرام الذي يحيط بالكعبة بخلاف مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فالأجر هناك بألف لمن صلى في خصوص المسجد أما مكة فكلها حرم في أي جهة تصلى في مسجد الكعبة الذي يحيط بالكعبة أو في أي مسجد آخر فالصلاة تضاعف بمائة ألف صلاة والله تعالى أشار إلى هذا في كتابه فقال (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام) أي عن مكة، وهذا وقع في صلح الحديبية، والله جل وعلا يقول: (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواءً العاكف فيه والباد) فما المراد بالمسجد الحرام هنا؟ هل المراد خصوص المسجد وبقعته التي تحيط بالكعبة؟ لا، بل المراد مكة يستوي فيها البادي والحاضر فهذه خصوصية لمكة، جميع بقعة الحرم يقال لها مسجد حرام.(7/14)
وعليه فإن المراد بقوله: (من المسجد الحرام) أي من مكة المكرمة سواء كان في بيت أم هانئ أو سواء كان في الحجر، لكنني قد جمعت بين هذه الألفاظ وقلنا: إنه كان نائما في بيت أم هانئ وهو شعب أبي طالب، وأضيف البيت إليه لسكناه وقيل أنه أسري به من الحجر والحطيم الذي حطم وفصل من الكعبة عندما ضاقت بقريش النفقة وهو حجر إسماعيل وهو جزء نصف دائري يبعد عن الكعبة قليلاً ومازال موجوداً إلى الآن وهو من الكعبة ومن مر بينه وبين الكعبة فكأنما مر في جوف الكعبة تماماً، ولو كنت تطوف فيما بينه وبين الكعبة لم يصح الطواف بل لابد من الطواف خارج حجر إسماعيل، وهذا الحجر الأصل أنه من الكعبة لكن لما ضاقت النفقة بقريش سابقاً فصلوا هذه البقعة عن الكعبة وحوطوا عليها للإشارة إلى أنها من الكعبة وبقي البناء على هذا والنبي عليه الصلاة والسلام قال لأمنا عائشة والحديث في صحيح البخاري: [لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فنقض وأدخلت حجر إسماعيل وجعلت له باباً شرقياً وغربياً يدخل الناس ويخرجون] أي إلى جوف الكعبة، لكن ما فعل النبي عليه الصلاة والسلام هذا لئلا يقول الناس وهم حديثو عهد بجاهلية بدأ يتلاعب في هذا البيت المعظم الذي هو بيت الله الحرام، فتركه على ما كان ولا حرج في ذلك ولا مضرة ثم بقي على هذه الشاكلة. لما جاء عبد الله بن الزبير نقض البيت الحرام وأدخل الحجر وجعل له بابين: باباً من الشرق وباباً من الغرب ولما قتل رضي الله عنه وأرضاه في الحروب التي جرت بينه وبين بني أمية في عهد عبد الملك بن مروان أمر عبد الملك بأن يعاد البيت كما كان فأعادوه إلى هذه الكيفية الموجودة الآن.(7/15)
ولما جاء أبو جعفر المنصور – الخليفة العباسي - استشار الأئمة وعلى رأسهم الإمام مالك عليهم رحمة الله في أن يعيد البيت كما فعله عبد الله بن الزبير فقال الإمام مالك: الله الله يا أمير المؤمنين في هذا البيت ألا يصبح ألعوبة بأيدي الحكام كل واحد يأتي ينقضه من أجل أهواء سياسية، عبد الله بن الزبير أصاب السنة فمن أجل أن يخالفه بنو أمية نقضوا البيت، فأنت الآن ستخالفهم وتعيد البيت نكاية ببني أمية، فيأتي حاكم بعد ذلك نكاية بك ينقضه، فيصبح البيت ملعبة، فاتركه على شاكلته.
الشاهد: أنه صلى الله عليه وسلم نائماً في الحجر في الحطيم فجاءه ملكان وأخرجاه إلى باب المسجد وبدأت رحلة الإسراء والمعراج، هذه الأمور الأربعة المسجد الحرام والحجر وشعب أبي طالب وبيته كلها يشملها المسجد الحرام.
(إلى المسجد الأقصى) هو بيت المقدس المعروف والموجود في بلاد الشام في فلسطين وسمي بالأقصى وهو الأبعد لأنه لم يكن على وجه الأرض في ذلك الوقت إلا مسجدين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، والمسجد الأقصى بالنسبة للمسجد الحرام بعيد المسافة، كما قال المشركون خمسة عشر يوماً ذهاباًً وخمسة عشر يوماً إياباً فيحتاج من يسافر إليه شهراً كاملاً ذهاباً وإياباً، فقيل الأقصى أي الأبعد مسافة لأنه هو أبعد مسجد عن مكة وما كان على وجه الأرض في ذلك الوقت إلا هذين المسجدين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، أما مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكن له وجود لأنه حصل بعد الهجرة وسيأتينا أن حادثة الإسراء والمعراج كانت قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إن شاء الله.
إذن المسجد الأقصى قيل له: أقصى لبعد المسافة بيه وبين مكة.(7/16)
والمسجد الحرام هو أول بيت وضع للناس كما قال الله تعالى: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدىً للعالمين) . بكة ومكة اسمان مترادفان، سميت بكة ومكة لأنها تبك وتمك رؤوس الجبابرة وتقسم ظهورهم وما أحد أرادها بسوء إلا عاجله الله بالعقوبة.
بك هو قطع العنق ودقه، وهكذا المك، بك ومك، وسميت ببكة وبمكة مأخوذ من المك يقال: إذا خرجت أمعاؤه ونفسه وروحه من كثرة الزحام، ولما يحصل فيها أيضاً زحام حول الطواف عند اجتماع الناس من كل فج عميق.
فإن قيل لها مكة وبكة لحصول الزحام فيها ولعقوبة الله لكل من أرادها بسوء.
والمسجد الحرام بمكة هو أول بيت وضع للناس يليه المسجد الأقصى، وبينهما أربعون عاماً كما ثبت في صحيح مسلم عن نبينا عليه الصلاة والسلام من حديث أبي ذر، ولا يشكلن عليك هذا الدليل وإياك أن تقول إن أول من بنى بيت الله الحرام إبراهيم وأول من بنى بيت المقدس داوود فليس الأمر كذلك. أول من بنى المسجد الحرام الملائكة ثم بنت بيت المقدس بعده بأربعين عاماً.
وهناك قول ثانٍ ولا يصح غير هذين القولين، أول من بنى المسجد الحرام آدم وآدم حج إلى بيت الله الحرام قطعاً وجزماً وهكذا جميع أنبياء الله ورسله كلهم حجوا بيت الله الحرام.
والبيت المعمور في السموات بعد ذلك هذا على حيال وعلى اتجاه الكعبة التي في الأرض تماماً، وهذا البيت – المسجد الحرام – كان موجود من عهد آدم إلى أن تقوم الساعة، كان يحجه ويزوره وآدم زار البيت وحج واعتمر وهكذا جميع أنبياء الله ورسله ثم بعض بنى آدم بني المسجد الأقصى وكان بينهما أربعون عاماً هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم وهو في صحيح مسلم ونص الحديث: [أول مسجد بنى المسجد الحرام قلت: ثم أي يا رسول الله؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون عاماً] .
فقيل له أقصى لأن مسافته بعيدة عن المسجد الحرام.
(الذي باركنا حوله)(7/17)
البركة هي: ثبوت الخير للشيء والله جعل بركات عظيمة حول المسجد الأقصى هذه البركات شاملة لبركات الدين والدنيا.
أما الدين فهي مكان بعثة الأنبياء والمرسلين عليهم صلوات الله وسلامه، في بلاد الشام.
وأما الدنيا فما فيها من الخيرات والزروع والثمار لا يوجد في الأرض له مثيل ونظير، فالخيرات فيها عظيمة فيما يتعلق بخيرات الدين وفيما يتعلق بخيرات الدنيا.
(باركنا حوله)
ديناً ودنيا ولذلك اعتبر نبينا عليه الصلاة والسلام أصول الفساد في بلاد الشام علامة على فساد سائر البلدان لأن المكان المبارك إذا فسد فعيره أفسد؛ ثبت في صحيح ابن حبان ومسند الإمام أحمد وسنن الترمذي عن قرة بن إياس – والحديث حسنه الترمذي وصححه بن حبان – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم] وأهل الشام الآن أخبث من الشيطان إلا من رحم ربه وقليل ما هم، ولذلك فالبشرية فيها هذا البلاء والغثاء والضلال لأن الخيار فسدوا فكيف سيكون حال الأشرار؟! المكان الذي بارك ألله فيه ضل وزاغ فكيف سيكون حال الأمكنة الأخرى؟!
وحديث الصحيحين عندما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأمة [وأنه لن تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله قال: وهم بالشام ظاهرون] فإذن بركة الدين والدنيا، ونزول عيسي على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه في آخر الزمان سيكون في بلاد الشام عند المنارة البيضاء شرقي دمشق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ويطلب المسيح الدجال عليه وعلى جميع الدجاجلة لعنة الله وغضبه – فيقتله بباب لد في فلسطين، فإذا رآه الدجال إنماع كما ينماع الملح في الماء فيقول: اخسأ عدو الله فإن لك ضربة لن تخطأك فيضربه عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه فيقتله.(7/18)
وليقرر إليه هذه البركة على أتم وجه أتى بأسلوب مقرر في البلاغة وهو أسلوب الالتفات وهو نقل المخاطب من هيئة إِلى هيئة ومن صيغة إلى صيغة، فمثلاً: يكون يتحدث في حال الحضور فينتقل إلى الغيبة ويكون في حال الإفراد فينتقل إلى الجمع، ويكون في حال غيبة فينتقل إلى حضور وهكذا، فيغير في أسلوب الكلام من أجل أن يلفت الأذهان ويشحذها وأن هذا أمر عظيم ينبغي أن تقفوا عنده، فأين الالتفات في الآية؟(7/19)
المُخاطِبُ هو الله – سبحان الله - غير في الكلام، فكان الكلام على صيغة (سبحان الذي أسرى) وأسرى غيبة، (أسرى بعبده) فلم يقل أسريت بعبدي، ولم يقل: سبحاني أسريت بعبدي، أو سبحاننا أسرينا بعبدنا على وجه التعظيم – من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله، إذ أصل الكلام أن يقول: سبحاننا أسرينا بعبدنا ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله فتكون باركنا مثل سبحاننا وأسرينا وعبدنا، لكن قال تعالى: (سبحان الذي أسري بعبده) على جهة الغيبة ثم قال (ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) فلو أراد أن يكون الكلام متفقاً مع الغيبة لقال: سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك حوله ليريه من آياته إنه هو السميع البصير إذن فالمتكلم نقل كلامه من غيبة إلى حضور ومن جهة إلى جهة. وغرضه الأصلي أن يشحذ الذهن وأن يشد الانتباه لمضمون الكلام لئلا يحصل ملل وسآمة من مجيء الكلام على صورة واحدة، ثم للتنبيه وهنا فائدة خاصة أيضاً، أما غرض الالتفات العام شحذ الأذهان وجلب الانتباه ثم في كل مكان له غرض خاص، فما هو الغرض الخاص هنا؟ للإشارة إلى عظيم تلك البركات الموجودة حول المسجد الأقصى فلأجل أن يقرر تلك البركات وكثرتها ونفعها نقل الكلام من هيئة إلى هيئة، شحذ الذهن ثم قرر تلك البركات، يدل على هذا: أنه أتى بنون التعظيم التي يعظم بها ربنا نفسه كأنه يقول: العظيم لا يفعل إلا أمراً عظيماً، وهناك بركات جسيمة جعلتها حول المسجد الأقصى.
وهذا المسجد الأقصى الذي فرطنا فيه وفرطنا في بلاد الإسلام كلها بل فرطنا في الإسلام وما أقمنا وزناً للرحمن ولا لنبينا عليه الصلاة والسلام.
(لنريه من آياتنا)(7/20)
الآيات العظيمة التي رآها نبينا عليه الصلاة والسلام تأتي الإشارة إليها إن شاء الله ضمن مبحث خاص فيما حصل له قبل إسرائه، وعند إسرائه عليه الصلاة والسلام ولا زال في الأرض وعندما عرج به في السموات وعندما رقي إلى ما فوق السموات، فهذه الآيات الأربع سنتكلم عنها إن شاء الله.
إذن آيات قبل رحلة الإسراء وسيأتينا منها شق الصدر الشريف لنبينا عليه صلوات الله وسلامه، وما حصل له أثناء رحلته قبل أن يصل إلى السماء، وما حصل له في السموات، وما حصل له بعد السموات من آيات عظيمة: تكليم الله حصل له، ولكن هل حصلت الرؤية أم لا؟ سنتكلم عن هذا كله إن شاء الله عند مبحث خاص في الآيات التي رآها نبينا عليه الصلاة والسلام.
(إنه هو السميع البصير) الضمير في (إنه) يعود على الله جل وعلا على المعتمد، (إنه) أي إن الله (هو السميع البصير) ، وفي ذلك دلالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغ ويقول ويدعي، فلو كان مفترياً هذا الأمر وأنه أسري به وعرج ولم يكن ذلك قد حصل فإن الله سميع لأقواله بصير فلبطش وأخذه أخذ عزيز مقتدر، كما قال لنبييه موسى وهارون (إنني معكما أسمع وأرى) فإذا أراد ذاك اللعين – وهو فرعون – أن يتحرك فأنا لست بغائب، أنا أسمع وأنا أرى، أخسف به الأرض أرسل عليه حاصباً من السماء فتخطفه الملائكة من جميع الجهات، فأنا معكما أسمع وأرى.
ولذلك قال نبينا عليه الصلاة والسلام لأبي بكر في حادثة الهجرة: [ما ظنك باثنين الله ثالثهم] (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) فإذا كان الله معك فلا تخف ولو كادك أهل الأرض ومعهم أهل السماء لو حصل ذلك، فالله سيتولاك ويجعل لك فرجاً ومخرجاً من حيث لا تحتسب، كما قال الله جل وعلا: (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) .(7/21)
ثبت في مسند الإمام أحمد ومستدرك الحاكم عن أبي ذر رضي الله عنه [أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليه هذه الآية (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) ثم قال: يا أبا ذر لو أن الناس كلهم أخذوا بهذه الآية لوسعتهم فمازال يكررها عليّ حتى نعست] .
إذن (إنه هو السميع البصير) يعود على الله جل وعلا، هو سميع بصير ففي ذلك إشارة إلى صدق نبينا الكريم عليه صلوات الله وسلامه فيما ادعى وأخبر فلو كان الأمر بخلاف ذلك لما أقره الله ولما تركه ولعاجل له العقوبة: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين) .(7/22)
وقيل: إن الضمير يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيما حكاه أبو البقاء العكبري (إنه) أي إن النبي صلى الله عليه وسلم سميع بصير، سميع لأوامر الله، بصير بي وفي ذلك إشارة إلى حصول رؤية نبينا عليه الصلاة والسلام لربه، والمعتمد أنه حصلت له الرؤية، لكن هل بقلبه أم بعين رأسه؟ نشير إلى هذا عند الآيات التي رآها فوق السموات، فالرؤية حصلت له (ما زاغ البصر وما طغى) وكما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: [رأيت نوراً] وكما قال ابن عباس: [رأى محمد عليه الصلاة والسلام ربه مرتين] لكن هل هذه رؤية قلبية أم بصرية بعين رأسه، سنفصل الكلام على هذا في حينه إن شاء الله تعالى إذن سميع لأوامر الله، بصير بي، ليس حاله كحال غيره فانظر للفارق العظيم بينه وبين الكليم على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، أما موسى الكليم فهو الذي طلب من الله جل وعلا أن يمكنه من رؤيته وأن يأذن له بالنظر إليه فقال: (لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني، فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً) إذن تشوق للأمر فقال الله تعالى: لا يحصل لك ولا تتمكن من ذلك ثم لما تجلى الله للجبل صعق موسي وخر مغشياً عليه، بينما نبينا عليه الصلاة والسلام دعي للأمر دون أن يتشوق وأن يتطلع وأن يطلب، ثم ثبته الله فما زاغ البصر وما طغى.
شتان شتان بين من يقول الله عنه: (ما زاغ البصر وما طغى) وبين من يقول عنه: (وخر موسى صعقاً) ، ولذلك قال أئمتنا: نبينا مراد، وموسى مريد، وشتان بين المراد والمريد.
ذاك هو يطلب ثم لا يثبت ولا يتمكن، بينما هذا يطلبه الله، عليهم صلوات الله وسلامه.
وقال أئمتنا: نبينا يطير وموسى يسير، وشتان بين من يطير ومن يسير.(7/23)
وقال أئمتنا: إن موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه مظهر للجلال والفخر الإلهي، كما أن عيسى مظهر للجمال والنور الإلهي، ومحمد عليه صلوات الله وسلامه مظهر للكمال الإلهي فجمع الجلال وجمع الجمال فهو الضحوك القتال، يخفض جناحه للمؤمنين وهو بهم رؤوف رحيم، ويفلق هام الكافرين ويغلظ عليهم، وهو عليهم شديد عظيم، وهذا هو حال الكمال، أن تضع كل شيء في موضعه، أما أن تغلظ على المؤمنين وتشد عليهم فهذا في الحقيقة في غير محله، فهارون نبي من أنبياء الله المصطفين الأخيار، لما رجع نبي الله موسى على نبينا وعليهما صلوات الله وسلامه إلى قومه بعد مناجاة ربه وقد عبدوا العجل، ماذا فعل؟ أخذ بلحية أخيه هارون وبرأسه يجره إليه ويضربه، وحمل ألواح التوراة وألقاها حتى تكسرت، وقال هارون: ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي، لم تضربني إذا عبد بنو إسرائيل فماذا أفعل أنا؟ (لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي) ، أي أما خشيت أن نخاصمهم ونقاتلهم ثم تأتي وتقول: لقد عملت مشكلة في بني إسرائيل وفرقت بينهم، فانتظرت قدومك لأجل أن نبحث في أمرهم ونعيدهم إلى حظيرة الإسلام، وهذا جرى من موسى أي موسى وهو أكبر من هارون وله عليه دالة، ثم هو أعلى منه مكانه في النبوة، لكن هذا غضب وانفعال ودالة أخ على أخيه فهل هذا كمال؟ لا ليس بكمال، بل هو قهر وجلال.
وانظر إلى نبي الله عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، فهو على العكس لم يرفع صوته قط على أحد، وحياته كلها حياة وسلم وصفح وُحلم ورحمة، فهذا جمال لكن انظر إلى الكمال كيف يضع الأمر في موضعه؟ (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم) ، (جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليكم) ، يضع كل شيء في موضعه فهذا من الكمال.
من الذي حاز الكمال من الصحابة؟(7/24)
أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقط، ومن عداه إما جمال أو جلال، فعمر جلال ومظهر للانتقام والشدة والبطش في الحق، لكن ليس عند مظهر الجمال فعمر رضي الله عنه أرسل إلى امرأة بلغه حولها ريبة ففي الطريق بدأت تولول وتقول مالي ولأمير المؤمنين عمر، مالي ولعمر، فأسقطت خوفاً منه قبل أن تصل إليه.
وكان يحلق رأسه في الحج بعد أن انتهي من النسك فتنحنح عمر: احم احم والحلاق يحلق رأسه، فأحدث – أي الحلاق – في سراويله، هيبة من عمر، هذا عمر، ومن الذي كان يجرؤ أن يعاركه، وهو الذي يقول النبي عليه الصلاة والسلام فيه – والحديث في الصحيحين [ما سلكت فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غير فجك] .
وعثمان مظهر جمال ورقة وحلم وصفح فلا يخطر ببال أحد أنه يمكن أن ينتقم من شخص أو يبطش به، هذا هو الذي جرأ السفهاء عليه لما وسع عثمان المسجد كما في صحيح البخاري، وفي منبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال أيها الناس إنكم أكثرتم أي كل واحد يتكلم ويطلق لسانه ولا يستحي من الله مع أنه كان خليفة راشداً ذا النورين ما علم هذا لأحد من خلق الله، أنه تزوج بنتي نبي، قال: وإني سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: [من بنى لله مسجداً ولو كَمَفْحَصِ قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة] .
ولنسأل: من الذي وسع المسجد قبله؟
هو عمر، لكن هل تكلم أحد عندما وسع عمر المسجد والله لو أن واحداً همس لأتى به عمر ووطأ على رقبته، لكن انظر إلى عثمان هو الذي يعتذر لهم يقول: أكثرتم، أكثرتم عليّ من الكلام في المدينة، فما عملته حتى تتكلموا عليّ؟ مسجد النبي عليه الصلاة والسلام وسعته فماذا في هذا؟! فسبحان الله خليفة يعتذر.(7/25)
ثم لما اجتمع الثوار الأشرار لحصاره وبقي خمساً وعشرين يوماً يحاصروه جاءه عليُّ والحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين والصحابة يطلبون منه أن يأذن لهم في نصرته فقال لهم: من كان سامعاً مطيعاً ولي عليه في رقبته بيعة، ولي عليه حق السمع والطاعة فليلق سلاحه ولينصرف حتى يحكم الله بيني وبينهم وهو خير الحاكمين، ولا أريد أن يراق من أجلي قطرة دم، إن يقتلوني فالله يحاسبهم، وإذا انكفوا عن طغيانهم فحصل الذي أريد، أما أن يحصل قتال فهذا لا أريده، هذا ممكن أن يحصل في عهد عمر رضي الله عنه.
فهناك جلال وهناك جمال وأما أبو بكر فهو الكمال.
إخوتي الكرام.. من لطف الله بهذه الأمة أن الخليفة بعد الرسول عليه الصلاة والسلام هو أبو بكر، ووالله لو جاء غيره لطاشت عقول الصحابة لأن أبا بكر هو صورة طبق الأصل للنبي عليه الصلاة والسلام، وما يختلفان إلا أن ذاك محمد رسول الله صلوات الله عليه وسلامه – وهذا عتيق الله أبو بكر الصديق، فذاك رسول وهذا صديق لا يختلفان في الطبيعة ولا بمثقال ذرة، وإن أردت أن تتحقق من هذا، انظر لصلح الحديبية لما أمرهم النبي عليه الصلاة والسلام الصلح مع المشركين على أن يرجع هو والمؤمنون هذا العام ليأتوا في العام الآتي، وكتبوا شروطاً فيها قسوة في الظاهر على المسلمين، فمن الذي لج وضج؟ إنه عمر، بدأ ينفعل ويغضب غاية الغضب فذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: ألسنا على الحق؟ قال: بلي، فقال: أليسوا على الباطل؟ قال: بلى، قال: علام نعطى الدنية في ديننا؟! سيوفنا معنا والله معنا نبيدهم ونستأصل خضراءهم فماذا كان جواب النبي صلى الله عليه وسلم؟ يا عمر إني رسول الله ولن يضيعني الله.(7/26)
ثم ذهب إلى أبي بكر وقال: يا أبا بكر ألسنا على الحق؟ قال: بلى، قال أليسوا على الباطل؟ قال: بلى، قال: علام نعطى الدنية في ديننا؟! فماذا كان جوابه لعمر دون أن يسمع جواب النبي عليه الصلاة والسلام؟ قال: يا عمر اعرف قدرك إنه رسول الله ولن يضيعه الله فهذا كلام من مشكاة واحدة، اعرف قدرك من أنت لتفور لتثور؟، إن هذا رسول الله لا ينطق عن الهوى، يسدده في جميع أحواله، فأنا وأنت لا نعلم إلا الحاضر، لكن هذا رسول الله يوجهه من يعلم الغيب من يعلم السر وأخفى، فاعرف قدرك وقف عند حدك.
لو جاء بعد النبي عليه الصلاة والسلام خليفة غير أبي بكر، والله لطاشت عقول الصحابة وجنوا على قيد الحياة، ولم هذا؟
لأنهم أصيبوا بنبيهم عليه الصلاة والسلام، وهذه أعظم المصائب في الدين، المصيبة الثانية أنه قد جاءهم من ليس على طبيعته وبالتالي تغيرت عليهم الأمور من جميع الأحوال، فالنبي عليه الصلاة والسلام ذهب ثم جاء من لا يمثله تماماً، لا أقول عنده انحراف، حاشا وكلا أن يكون في أحد الصحابة انحراف، لكن شتان بين طبيعة أبي بكر وطبيعة غيره، فجاءهم أبو بكر، ولذلك يعتبر أبو بكر برزخاً، أي مثل الحياة البرزخية بين الدنيا والآخرة، فهو برزخ بين حياة النبي عليه الصلاة والسلام وبين الحياة التي جاءت بعد ذلك لتكون انتقالاً، وليخف عليهم أثر فراق النبي عليه الصلاة والسلام، فما فقدوا في عهد أبي بكر إلا شخص النبي عليه الصلاة والسلام، وأما الرعاية والتوجيه والحلم والشدة في موضعها كل هذا موجودٌ كما كان النبي عليه الصلاة والسلام فيهم.
المرحلة الثانية:
مباحث الإسراء والمعراج
المبحث الأول:
اتفق أهل الحق على أن الإسراء والمعراج كانا بروح النبي عليه الصلاة والسلام وبدنه يقظة لا مناماً دل على هذا ثمانية أمور، كلها حق مقبول:
الأمر الأول:(7/27)
افتتاح آية الإسراء بلفظ التسبيح (سبحان) ، وقد تقدم معنا أن من معاني التسبيح تنزيه الله عن السوء والتعجب، والأمران يدخلان هنا، فالله جل وعلا ينزه نفسه عن السوء في مطلع هذه السورة للإشارة إلى أن طعن المشركين في خبر نبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه طعنهم في خبره بأنه أسرى به وأن هذا لا يمكن أن يحصل له وأن هذا مستحيل وأن هذا بعيد، فهذا نقص يتنزه الله عنه فهو على كل شيء قدير.
وفي ذلك أيضاً تعجيب للمسلمين وللخلق أجمعين لما حصل لنبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه، والتعجب يحصل عند أمر غريب أو أمر غير مألوف؟ بل يحصل عند أمر غريب، ولذلك افتتحه بقوله (سبحان) ، فالتنزيه يدل على حصول الإسراء والمعراج والطعن في هذا طعن في قدرة الله التي لا تحد بحد، والتسبيح إذا كان معناه التعجب تعجبوا مما حصل للنبي عليه الصلاة والسلام من إسراء بروحه وجسده ومعراج بروحه وجسده في جزء من الليل.
الأمر الثاني: أو اللفظة الثانية:
(عبده) العبد هو اسم لمجموع الروح والجسد، هذا كقول الله جل وعلا: (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً) للروح أم للجسد؟ لهما.
وكقوله تعالى: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً) فأتى عليه لم يكن شيئاً للروح أم للجسد؟ لروحه ولجسده ولا كانت روحه والله خلقه ونفخ فيه الروح وهو على كل شيء قدير فالعبد والإنسان هذان اسمان للروح وللجسد فليس اسماً للجسد فقط، ولا للروح فقط، والله سبحانه يقول (سبحان الذي أسري بعبده) فدخل في لفظ العبد جسد النبي عليه الصلاة والسلام وروحه.
الأمر الثالث: أو اللفظ الثالث:(7/28)
في الآية (السميع البصير) وتقدم معنا أن الأظهر في (أنه هو السميع البصير) أنه يعود على الله جل وعلا وفي ذلك دلالة على أن الإسراء كان بروح النبي عليه الصلاة والسلام وجسده يقظة لا مناماً، لأن الأمر لو لم يكن كذلك وادعاه النبي عليه الصلاة والسلام فكيف يتركه السميع البصير، فلو كان مفترياً ومختلقاًً لهذا وتقولاً على الله لما أقره السميع البصير لأن الله لا يؤيد الكذاب ولا يناصر المخادع ويهتك ستر المنافق، فكيف إذاً يدعي النبي عليه الصلاة والسلام هذا ولم يكن يحصل له، والله سميع بصير يقره.
وإذا عاد إلى النبي عليه الصلاة والسلام – كما ذكرنا قبل أنه أحد الأقوال – فقلنا إن الأمر كذلك فهو سميع لأوامري بصير بي، حدثت له الرؤية في حادث الإسراء والمعراج.
الأمر الرابع:
قول الله تعالى في وصف نبينا عليه الصلاة والسلام في سورة النجم عندما تعرض لذكر حادثة الإسراء والمعراج وأنه رأى في الملأ الأعلى ما رأى، قال: (ما زاغ البصر وما طغى لقدر رأى من آيات ربه الكبرى) وقوله في الآيات (ولقد رآه نزلة أخرى) أي ولقد رأى نبينا عليه الصلاة والسلام جبريل، (نزلة أخرى) أي مرة أخرى (عند سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى) فراش من ذهب ومن الألوان التي لا يوجد مثلها في زمن من الأزمان، أنواع عند سدرة المنتهي فراش من ذهب كما هو ثابت هذا في الصحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام، (ما زاغ البصر وما طغى) ,وزيغ البصر هذا يقع للإنسان يقظة لا مناماً.
الأمر الخامس: أو الدليل الخامس:(7/29)
لما تحدث الله سبحانه وتعالى عن مكانة النبي صلى الله عليه وسلم في سورة الإسراء، أخبرنا عن عظيم ما حصل له وعن عظيم ما رآه، فقال جل وعلا: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة الناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغياناً كبيراً) ، ثبت في صحيح البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم] ، وهذه الرؤيا حقيقية هي فتنة وامتحان يظهر فيها المؤمن المصدق والكافر الجاحد عندما قال لهم نبينا عليه الصلاة والسلام أسري بي في جزء من الليل إلى بيت المقدس ثم عرج بي للسموات العلى ثم عدت إلى بيت المقدس، ثم عدت إلى مكة في جزء من الليل وفراشي دافئ فهذا فتنة أم لا؟ نعم هو فتنة، ولذلك سيأتينا أن تكذيب المشركين هذا دليل على أن الإسراء والمعراج بروح النبي صلى الله عليه وسلم وجسده في اليقظة لا في المنام، لأنه لو كان في المنام لقالوا له: أنت ذهبت إلى بيت المقدس، أما نحن فذهبنا في هذه الليلة إلى الصين فينبغي أن تكون نبوتنا نحن أعلى من نبوتك لأنك تذهب إلى بيت المقدس أما نحن فنذهب إلى أبعد، فالقول بأنه كان في المنام ليس فيه معجزة للرسول صلي الله عليه وسلم وأمر خارق للعادة قد حصل له، وهو – أي الأمر الخارق – أنهم يذهبون لبيت المقدس خمسة عشر يوماً ذهاباً وخمسة عشر يوماً إياباً ويقطعها هو في جزء من الليل يضاف إلى هذا أنه يعرج به إلى السموات العلى ويعاد في جزء من الليل.(7/30)
إذن رؤيا عين أريها رسول الله صلي الله عليه وسلم ومتى ثبتت له هذه؟ في حادث الإسراء والمعراج (الشجرة الملعونة في القرآن) أي أيضاً جعلناها فتنة للناس وهي شجرة الزقوم، ولذلك لما نزل قول الله جل ولعلا للإخبار بأن الكفار يأكلون من شجرة الزقوم قال أبو جهل عليه لعنة الله وغضبه مستهزءاً بكلام الله جل وعلا ومستخفاً بمحمد عليه صلوات الله وسلامه: أتدرون ما الزقوم هي عجوة يثرب بالزبد – (عجوة) أي أجود أنواع التمر، (الزبد) عندما يوضع على التمر قشدة الحليب وخلاصة الحليب الدسم – والله لأن أمكنني الله منها لأتزقمنها تزقماً، ونقول له: هنيئاً مريئاً بالزقوم، فقال الله تعالى: (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم) فإن شجرة الزقوم فتنة ووجه كونها فتنة: قال المشركون: يا محمد أنت تخبرنا أن شجرة الزقوم تخرج في أصل الجحيم، فهل بدأت تهذي تخرف، كيف تنبت الأشجار في وسط النار، والنار تحرق الأشجار، أفليست هذه فتنة؟ !!.
إخوتي الكرام.... هذه نار الدنيا تحرق الأشجار من طبيعة خاصة وإذا أراد الله أن ينبت في نار الدنيا شجراً فإنه على كل شيء قدير. (قصة القسيس مع الشيخ الحلبي الصالح لما وضع جبته داخل جبته وألقاها في فرن فاحترقت جبة القسيس ولم تحترق جبة الشيخ الصالح إلخ) . حقيقة.
إن هذه القوانين التي وضعها الله سبحانه لتتحكم في هذا الكون لا نستطيع أن نخرج نحن عنها، لكن إذا أراد الله تعالى أن يبطلها فهو على كل شيء قدير، فالنار المحرقة يجعلها ظلاً بارداً والظل البارد يجعله الله سموماً محرقاً فإنه على كل شيء قدير.
وإذا أراد الله أن يجعل الارتواء والري في البترول فإذا شربته ترتوي ويذهب الظمأ ويجعل العطش في الماء فهو على كل شيء قدير، أي فهل الماء بطبيعته يروي الإنسان؟ لا بل جعل الله فيه هذه الخاصة، فإذا أبطلها فإنه على كل شيء قدير.(7/31)
هذا اللسان هل يتكلم وحده، أم جعل الله فيه هذه الخاصية؟ بل جعل الله فيه هذه الخاصية ولذلك إذا أراد أن يُنْطق يدك، فهل تنطق اليد؟ نعم (شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون) ، (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم) ، والذي أنطق اللسان ينطق اليد وينطق الرجل وتشهد الجلود كما أخبر ربنا المعبود سبحانه وتعالى، فهذه القوانين تتحكم فيَّ وفيك، فأنا لا أستطيع أن أُنطق يدك فأقول لليد تكلمي فلا تتكلم. إنطاق اليد وإنطاق اللسان بالنسبة لقدرته سواء، أذن للسان فنطق، فإذا أذن لليد بالنطق نطقت.
والأرض يوم القيامة ماذا يكون حالها (يومئذ تحدث أخبارها) ثبت في المستدرك وسنن الترمذي بسند صحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [تشهد على ابن آدم بما عمل على ظهرها من خير أو شر] فالأرض هذه ستشهد عليك، ولا تقل كيف ستتكلم الأرض، إذ كيف تكلم لسانك؟ فكم من إنسان له لسان ولا يستطيع أن يتكلم به أي أخرس، هل لسانه أقصر من لساننا أو أطول أو شكله مختلف؟ لا بل هو هو ولكن ما أذن الله له بالنطق، فهو على كل شيء قدير.
ولذلك أنت يا ابن آدم تتكلم بلحم وتسمع بعظم وتبصر بشحم والله على كل شيء قدير.
فالعين مادة شحمية، والأذن عظام متجوفة بواسطتها تنتقل إليك ذبذبات الأصوات وتسمع، فإذا ابتلى الله إنساناً بالصمم فهل يستطيع أن يسمع؟ لا مع أن له أذناً.
وإذا أفقد الله النور من البصر فلا يستطيع أن يرى مع أن له عينين لدرجة أنك لو نظرت إليه أحياناً ما تظن أنه أعمىً، لكنه أعمىً.
ولذلك فاوت الله بين عباده لئلا يقول الناس هذا طبيعة، فلو كان كلهم يتكلمون لقال الناس هذا طبيعة، واللسان من طبيعته أن يتكلم، لكننا نقول له فلان عنده لسان ولا يتكلم، ولو كان طبيعة لتكلم هو ولتكلمت جميع الألسنة.(7/32)
وهنا كذلك شجرة تنبت في النار والنار تحرق الأشجار، فهذه القوانين تتحكم فيَّ وفيك ولا تتحكم فيمن خلقها وأوجدها وهو رب العالمين سبحانه وتعالى، ولو تحكمت فيه لكان محكوماً ولما كان حاكماً وهو الذي لا يسأل عما يفعل، لا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وبم يتميز المؤمن عن غيره؟ ولذلك الشيطان يحزن عندما يموت العابد الجاهل، ويفرح عندما يموت العالم العليم الذكي، قالوا لمَ؟ قال: العابد كنا نضله ونخدع الأمة به باسم الشرع، وأما هذا العالم – فإننا ننصب للناس أشباكاً وأشراكاً – مصايد ونتعب فيها فيأتي العالم بكلمة واحدة يبطل حيلنا، ولذلك نحن إذا مات العالم نفرح وإذا مات العالم الجاهل نحزن، لأنه كان مصيدة لنا وأما ذاك فكان يكشف مصائدنا قالوا: وكيف؟ قال أريكم، فأخذ إبليس أعوانه وذهبوا إلى عابد جاهل وقالوا له: هل يستطيع الله أن يخلق الدنيا في جوف بيضة؟ فقال: وكيف يكون هذا؟ إنه لا يستطيع ولا يقدر على هذا فقال إبليس لأتباعه: كفر وهو لا يدري، ثم ذهبوا إلى عالم وقالوا: هذه الدنيا على سعتها ولا ترى طرفها فهل يستطيع الله أن يوجدها في داخل بيضة؟ فقال: ومن يمنعه؟ قالوا: وكيف يدخلها في داخل بيضة؟ قال يقول لها: كوني فكانت فيوسع البيضة، ويصغر الدنيا وهو على كل شيء قدير، فمن الذي يمنعه؟ ثم قال لهم إبليس: انظروا كيف يفعل بنا العالم وكيف نفعل بالعابد الجاهل.
ولذلك هنا هذا الجاهل أبو الجهل أبو جهل لما نزلت الآية قال كيف تخبرنا أن شجرة الزقوم تخرج في أصل الجحيم؟ فهل بدأت تخرف؟ فكيف الأشجار تنبت في النار؟ (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم) .
الأمر السادس:(7/33)
ركوب نبينا عليه الصلاة والسلام للبراق فهذا مما يدل على أن الإسراء والمعراج كان بروح النبي عليه الصلاة والسلام وجسده يقظة لا مناما، ثبت في سند الترمذي وصحيح ابن حبان بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [أتيت بالبراق مسرجاً ملجماً – يضع خطوه عند منتهى طرفه] وهذا الحديث إلى هنا ثابت في الصحيحين، زاد الترمذي وابن حبان: [فلما قدمه لي جبريل نفر فقال له جبريل: مالك؟ والله ما ركبك خير منه، فما فارفضَّ عرقاً] (مسرجاً: أي عليه السرج ليركب عليه الراكب) ، (ملجماً ك أي عليه اللجام) ، (خطوه عند منتهى طرفه: أي إلى مقدار ما يرى فرجله تصل إلى ذلك) ، (فارفضّ: أي بدأ يتصبب من العرق)
فهذا البراق الذي ركبه نبينا عليه الصلاة والسلام كان في اليقظة.
يقول أئمتنا وإنما حصل في البراق شيئ من الامتناع والنفور في أول الأمر؛ لأمرين:
أالأمر الأول:
لأنه لم يروض منذ فترة، فالأنبياء كانوا يركبون على البراق قبل نبينا عليه الصلاة والسلام عندما كانوا يزورون بيت الله الحرام لكن من عهد عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه إلى عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ما رُكب البراقُ، وعادة الخيل إذا أُهملت فترة ولم تُركب يصبح فيها نفور وتند وتشرد؛ لأنها ليست مروضة فلابد من اعتياد الركوب عليها ليسهل انقيادها ويسهل، فإذا فإذن من فترة طويلة لم تركب هذه الدابة التي كان يركب الأنبياء قبل نبينا عليه الصلاة والسلام عليها وانظر إلى الحمير الأهلية الآن التي تسمى الإنسية بسبب عدم خوفها من الناس ولكن تراها الآن تهرب وذلك لقلة استعمالها وهي دابة كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام دون البغل وفوق الحمار، يقال لها البراق، إما مأخوذة من البريق: وهو اللمعان؛ لأن لونها أبيض يتلألأ نوراً وإما من البراق، وهو منتهي السرعة لأنها تضع خطوها عند منتهى طرفها.
ب الأمر الثاني:(7/34)
ولعله أوجه الأمرين وأقوى وهو الذي يظهر لي والعلم عند الله، أنها ندت ونفرت وامتنعت امتناع زهو وخيلاء لا امتناع نفور وإباء، فلما جيء بالبراق إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليركبه بدأت ترقص وتهرول ولا تنقاد ولا تجلس بسكينة بجواره لما حصل لها من الطرب والفرح لأنه سيركبها خير المخلوقات محمد عليه الصلاة والسلام، وهذه حالة الإنسان عندما يفرح فرحاً شديداً يوصله إلى البطر فتراه يرقص، فالإنسان عندما يبشر بنعمة حصلت له قد يشتد فرحة بها لدرجة توصله إلى درجة الأشر والبطر، وهذا مذموم في حق الإنسان، لكن عندما يصل هذه الدرجة فما يكون حاله؟ تراه يقوم ويرقص ويأتي بحركات موزونة ليخبر عن فرحه، كما أن المصيبة عندما تشتد عليه ولا يملك نفسه فانظر ماذا يفعل؟ [ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية] ، ولذلك لا جزع ولا بطر، والمؤمن في حال النعمة يشكر الله وفي حال المصيبة يصبر.
الشاهد أن هذه الدابة من شدة فرحها بدأت تهرول وترقص وتعمل حركات كما هو حال الخيل عندما يعتريها الزهو، فما كان نفورها نفور امتناع إنما كان للزهو والخيلاء كأنها تقول: أنا سأطرب وأرقص لما سيحصل لي من المنزلة العظيمة وهي ركوب خاتم الأنبياء والمرسلين عليه صلوات الله سلامه على ظهري، وهذه في الحقيقة منقبة عظيمة للبراق.
الشاهد إخوتي الكرام..... ركوب نبينا عليه الصلاة والسلام على ظهر البراق وإحضار البراق له هذا دليل على أنه حصل في اليقظة.
الأمر السابع:(7/35)
تكذيب المشركين لنبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه، دليل على أن تلك الحادثة وقعت له يقظة لا مناماً، فلو كانت مناما لما كان هناك داعٍ للتكذيب ولقالوا له: ما حصل لك في الرؤية يحصل لنا ما هو أبعد منه وليس في هذه دليل على مكانتك ونبوتك وصدقك وأنك رسول الله، فلما كذبوه دل على أنه بروحه وجسده يقظة لا مناماً، لاسيما عندما أخبرهم بعد ذلك بما يزيل تكذيبهم وسيأتينا في ذكر الآيات التي رآها – قالوا: إن كان كما تقول يا محمد، فانعت لنا المسجد الأقصى – وهذا لا يقال لرؤيا منامية إنما حصل له في اليقظة – وصفه لنا كم عدد أبوابه وكم عدد نوافذه وماذا يوجد فيه من أساطين؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: لما قالوا لي هذا أحرجت حرجاً عظيماً حتى أتى جبريل على نبينا وعليه الصلاة والسلام لي ببيت المقدس ووضعه أمامي فجعلت أنظر إليه وأنعته لهم باباً باباً، وجبريل إما اقتلع بيت المقدس وأتاه به – والله على كل شيء قدير – وإما أتى بمثال له، فكل من الأمرين يحصل به المراد وهو وصف المسجد الأقصى.
الأمر الثامن أو الدليل الثامن وهو آخرها:
نقول حادثة الإسراء والمعراج هي أمر ممكن، ورد به السمع فيجب الإيمان به، وهذه قاعدة عضوا عليه بالنواخذ وانتبهوا لها
* كل ممكن: أي يجوز وقوعه ولا يحيل حصوله.
* ورد السمع به: أي أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام به، بأنه أُسري به وعُرج مثلاً.
* يجب الإيمان به: فلا يجوز تأويله ولا إخراجه عن ظاهره وكل من فعل هذا ففيه شعبة من شعب الباطنية ومسلك من مسالكهم.
فمثلاً عذاب القبر ممكن أم مستحيل؟ ممكن، نعيم القبر ممكن أم مستحيل؟ ممكن(7/36)
ورد بهما السمع فنؤمن بهما، ولا نقول كيف يكون؟! بل الواجب الإيمان به والتسليم ومثلهما وجود الموازين والصراط في يوم القيامة ممكن ورد به السمع نؤمن به، وكوننا لا نتوصل إليه بحواسنا، فهذا أمر لا يعنينا، لكن هل هذا مستحيل؟ لا، فإذا كان مستحيل هنا مجال البحث وهل تأتي الشريعة بما تحيله العقول، لا يمكن أن يتعارض معقول مع منقول، إذا تعارضا فالآفة في أحدهما، إما في النقل فلم يصح، وإما في العقل فليس بصريح ولا سديد فلا يتعارض نقل وعقل هذا شرع الله وهذا خلقه وليس في خلقه من تفاوت وليس في شرعه من تضارب (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) ، (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) .
وقد ألف الإمام ابن تيمية رحمه الله كتاباً في عشر مجلدات يدور حول هذا الموضوع سماه: (موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول) فلا يتعارض نقل صحيح مع عقل صريح، هذا الكتاب لو وزن ذهبا لكان أغلى من وزنه ذهباً، ويسمى (درء تعارض العقل والنقل) .
ولذلك قال أئمتنا: لا تأتي الشرائع بما تحيله العقول لكن تأتي بما تحار فيه العقول، وشتان ما بين الحيرة والإحالة، فالإحالة لا يمكن أن تقع، أما الحيرة فموجودة فيما تشاهده، فكيف بما لا تشاهده؟ لسانك ينطق، وهو قطعة لحم فهذا يحير العقل أم لا؟ لكن الإنسان من غلظ كبده، وتبلد شعوره وإحساسه، ما يقع حسه عليه باستمرار يغفل عن الحكمة فيه ولا يعتبر في شأنه والله يقول: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) ، كم من لسان يتكلم، فهذا يحار فيه العقل أم يحيله العقل؟ هذه حيرة تحير، فكيف تكلم هنا العضو من الإنسان فهذه حيرة مقصودة من الشارع، كما قلنا تنطق بلحم وتبصر بشحم وتسمع بعظم، كيف هذا؟ (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) ، وهذا الخلق الذي هو في أحسن تقويم هذا مما يحار العقل فيه ولا يحيله لأنه مشاهد أمامنا، ولكن من أي شيء؟ خلق من ماء مهين كما قال ربنا جل وعلا.(7/37)
وهذا الإنسان وتكونه ولو لم نره في حياتنا وقيل لنا: من هذا الماء يخلق إنسان له رجلان يمشي عليهما، ويدان يبطش بهما ورأس يدرك به وله أعضاء وتتحرك كله من هذه النطفة، لقلنا له أنت تخرف، كيف من هذه النطفة يخلق هذا، ولكن لمشاهدتنا له قل اعتبارنا به.
يقول أئمتنا: لو لم نر حيواناً يمشي على بطنه والله يقول هذا في كتابه (فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع) ، لاستغرب كثير من الناس بل لأحال بعضهم وأنكر وجود حيوان يمشي على بطنه، لكن لما رأينا الحية تمشي على بطنها فحينئذ قلنا ممكن، ورأينا إنساناً يمشي على رجلين، ورأينا دابة تمشي على أربع فقلنا ممكن، ولو أراد الله الإنسان أن يمشي على رأسه ممكن وهذا سيقع يوم القيامة (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم) فهم يمشون على وجوههم وليس على أرجلهم، وقيل لقتادة: كيف يمشي على وجهه؟ قال: أوليس الذي أمشاهم على رجلين بقادر على أن يمشيهم على الوجوه؟! فكل هذا مما يحير العقل لا مما يحيله.(7/38)
والحيرة مقصودة ليسلم المخلوق بعجزه لخالقه، لكن الإحالة باطلة، ومثال الإحالة الجمع بين النقيضين، نفي النقيضين، هذا مستحيل، فلو قيل لنا: هل يقدر الله أن يوجد هذا حياً ميتاً في وقت واحد فماذا يكون الجواب؟ نقول: هذا ليس متعلق القدرة والعقل يحيل هذا ولكن هل نقول ممكن أم غير ممكن؟ لا نقول ممكن ولا غير ممكن، أن يوجد الله هذا حياً ميتاً في وقت واحد لا نقول إنه ممكن لأنه ليس متعلق بقدرة بل هو مستحيل، ولا نقول غير ممكن لأن هذا سوء أدب مع الله، لأن متعلق القدرة الممكنات والجائزات، وهذا مر في شرح الطحاوية في مبحث القدرة والإرادة، وهو مفصل في موضعه، فلو قيل هل يستطيع الله أن يقلب فلاناً إلى سيارة؟ نقول نعم لأنه ممكن وهو على كل شيء قدير، وهل يستطيع أن يمسخه قرداً أو خنزيراً؟ نقول ممكن ولكن هل يستطيع أن يجعله حياً وميتاً في آنٍ واحدٍ؟ نقول: الحياة نقيض الموت فإذا كان حيا فليس بميت وإذا كان ميتا فليس بحي، فكيف ستتعلق القدرة بما يحيله العقل لا بما يحار فيه؟.
وعندما يمسخ الإنسان (فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) هذا المسخ يحيله العقل أم يحار فيه بل يحار فيه، إنسان سوي ثم مسخ.
يذكر الإمام ابن كثير في تفسيره عند سورة أنه كان بعض الناس في مسجد نجران وعنده وسامة وجمال فقال له بعض الحاضرين: ما أجملك، يعني خلقة بهية خلقك الله عليها – فقال: أنت تتعجب من حسني! الله يتعجب من حسني، فبدأ يتصاغر أمام الناظرين وهم يرونه حتى صار طوله شبراً، فهذا ممكن أم مستحيل؟ ممكن لكن يحار فيه العقل.
لذلك يمكن أن تأتي الشريعة بمستحيل، فنقول هذا الشيء إما موجود وإما معدوم، ولكن هل يمكن أن يجتمعا؟ لا يمكن أن يجتمعا ولا أن يرتفعا، قال أئمتنا:
"عقول البشر قاطبة تقرر أن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان" أي لا يمكن وجودهما ولا يمكن انتفاؤهما، بل لابد من وجود واحد منهما.(7/39)
عذاب القبر ممكن وهو مما يحار فيه العقل ولا يحيله، ولو وضع صِدِّيق وزنديق في قبر واحد لكان القبر روضة من رياض الجنة على الصِدِّيق وحفرة من حفر النار على الزنديق، فإن قيل كيف هذا؟ نقول: هذا مما تحار فيه العقول وتعجز عن الوصول إليه من جميع الجهات فتسلم بعجزها لرب البريات، (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) .
العلم للرحمن جل جلاله ... وسواه في جهلانه يتغمغم
ما للتراب وللعلوم وإنما ... يسعي ليعلم أنه لا يعلم
فنحن نسعى لنعلم أننا كنا لا نعلم لا لنتعلم.
ونحن نسعى ما كنا نجهله لا لنصل لدرجة العلم، لأن العلم لمن هو بكل شيء عليم (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً) .
انظر إلى الإمام الشافعي عليه رحمة الله – وهذا حال أئمتنا – يقول:
كلما أدبني الدهر ... أراني نقص عقلي
وإذا ما ازدت علماً ... زادني علماً بجهلي
فحن نتعلم لنكشف جهلنا لا لنصل إلى مستوى ربنا جل وعلا، ولا يمكن أن تأتي الشريعة بما تحيله العقول، حادث الإسراء والمعراج، كونه يسرى به من مكة إلى بيت المقدس إلى السموات العلا ثم يعاد في جزء من الليل، هل هو ممكن أم مستحيل؟ وهل يتصور العقل وجوده أم يحيل وجوده؟ هو ممكن ويتصور العقل وجوده، وقد ورد به السمع وهو الذي لا ينطق عن الهوى – فيجب الإيمان به.
ولو كان مستحيلاً لا يقبله العقل لقلنا: انظروا لعل السمع ما صح، أما أن يصح السمع والعقل يحيل فهذا لا يمكن أن يقع على الإطلاق.
فمثلاً حديث [خلق الله الورد من عرق النبي صلي الله عليه وسلم] هو حديث موضوع، فهذا العقل يكذبه لأن الورد كان موجوداً قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فإذن العقل يحيل هذا فكيف تقولون إن الورد خلق من عرق النبي صلى الله عليه وسلم.(7/40)
في المقابل قد يقول قائل: الإسراء والمعراج باطل، ورد به السمع لكن العقل يحيله، وعليه فنرد السمع، نقول: لأن العقل ليس بصريح إنما هذا العقل قبيح، فلو كان عقلاً صريحاً لاحترم نفسه وقال: هذا ليس بمستحيل، لأنه ليس فيه جمع بين النقيضين وليس فيه نفي للنقيضين، فيتصور وجوده – ويتصور عدمه، فإذا شاء ربنا أحد الممكنات فليس بمستحيل (كن فيكون) ، (وهو على كل شيء قدير) .
س: ما هي مواصفات العقل الصريح؟
جـ: العقل الصريح لا يمكن أن يوجد ولا أن يحصل في غير المؤمن الذي يخاف من الله ومن عدا المؤمن سيقول يوم القيامة: (لو كنا نسمع أو نعقل) كما أخبرنا الله عنهم، فكل من عدا المؤمن فليس عند واحد منهم عقل صريح، لكن قد تقل نسبة الحماقة وقد تكثر وأول الحمقى اللعين إبليس، لأنه أول من اعترض على الله، وهذا عقل صريح أم عقل قبيح؟ بل هو قبيح، فماذا قال لله: (رب أنظرني إلى يوم يبعثون) ، (رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين) فيا إبليس يا ملعون، بماذا تخاطب الحي القيوم؟ تقول رب، إذن هو ربك خلقك فكيف تعترض عليه وتقول (أأسجد لمن خلقت طيناً) ، (أنا خير منه) أنت تقول رب، أمرتني بالسجود لآدم ثم تقول هذا خلاف الحكمة، فأنت سفيه الحكمة تقتضي أن يسجد آدم لي لأنني أنا من نار وهو من طين، ولنناقش كلامه: أنت تقول الله خلقك وأعطاك الحكمة فهل يعقل لمن أعطاك الحكمة أن يرضى لنفسه بالسفاهة فهذا لا يقبله عقل.
أمر ثانٍ نناقشك فيه سلمنا أن عندك حكمة فأنت تقول النار أحسن من الطين، لم أحسن مع أن طبيعة النار الطياشة والتفريق، وطبيعة الطين الرزانة والهدوء؟ وانظر إلى نتيجة الطين ونفعه للمخلوقات أجمعين تضع فيه حبة يعطيك شجرة فيها من كل زوج بهيج، والنار تحرق ثيابك إن لم تحرقك فالطين طبيعته الإصلاح، والنار طبيعتها الإفساد.(7/41)
سلمنا أن النار أفضل من الطين فهل يلزم مَنْ خُلِق من عنصر شريف أن يكون شريفا، وهل يلزم مَنْ خُلِقَ من عنصر خبيث أن يكون خبيثاً، أم كل نفس بما كسبت رهينة؟ إذا كانت النفس من باهلة والعرق والنسب من بني هاشم فماذا ينفع النسب؟ ألم يقل الله (تبت يدا أبي لهب) .
إذا افتخرت بآباء لهم نسب ... قلنا صدقت: ولكن بئس ما ولدوا
فهب أن النار أجود العناصر وأحسنها، فهل يلزم أن تكون أنت أفضل المخلوقات؟ لا يلزم، فانظر إلى هذه السفاهة، ولهذا أول الحمقى إبليس، وأول من مات من المخلوقات على وجه الإطلاق إبليس، وهو منظر إلى يوم الدين، لأن كل من عصى الله ذهبت منه الحياة الحقيقية (أفمن كان ميتاً فأحييناه) فهذا ميت لكنه في صورة حي.
وبالجهل قبل الموت موت لأهله ... **** ... وأبدانهم قبل القبور قبور
وأرواحهم في وحشة من جسومهم ... **** ... وليس حتى النشور نشور
ولذلك العقل الصريح هو الذي يلتزم بشرع الله الصحيح، قال تعالى: (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب) ، قال أبو العالية وقتادة وغيرهم: أجمع أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام أن كل من عصى الله فهو جاهل، وأن كل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب.(7/42)
فالعقل الصريح ضابطه هو الذي لا يأتي بسخف ولا يتعالى على شرع الله ولا يأتينا بعد ذلك بمضحكات بمبكيات كما هو الحال في الدولة الأمريكية فالزنا في القانون الوضعي عندهم حلال، ومنعت المخدرات بل وتطارد عصاباتها، وتعمل مؤتمرات لمكافحتها، بينما لم تمنع المسكرات وسميت بمشروبات روحية وأهل الأرض من أهل القوانين الوضعية كلهم يسميها حلال، والمخدرات حرام مع أن الخمر أقوى في التحريم من الحشيش والأفيون، فهذه ألحقت بالخمر كما قال أئمتنا لوجود علة الإسكار فألحقت به تحريماً ونجاسة وحداً، ففيها حكم الخمر، لكن انظر إلى عقول البشرية: من يتاجر بالمخدرات يطلب ويشنق ويحكم عليه بالإعدام، ومن يتاجر بالمسكرات يعطى ترخيصاً من الدولة، فهذا عقل صريح أو عقل قبيح؟.
ولقد وصل حال هذه العقول في الدولة البريطانية – ولكن أين من يغزو هذه الدول غزواً فكرياً ويكشف ضلالاتها وأفكارها للناس – ومن المعمول به في قانونها أن اللواط مباح ولا حرج فيه، بل يجوز التزاوج بين الرجال، فهذا عقل صريح أم قبيح؟ وأعجب لهذه العقول التي ضلت ولعنها الله كيف تزعم أنها ستحل مشاكلنا، اللواط الذي فطر الله العباد على استقباحه واستهجانه تبيحه أرقى الدول، بل إنه جائز عن طريق التزاوج، ولم يكتفوا بأن يجعلوه معصية، أو أمرا عاديا غير رسمي فكل من ينحرف عن شرع الله فهو ذو عقل قبيح؛ لأن شرع الله نور (قد جاءكم من الله نور) فمن خرج عن النور فليس له إلا الظلام، والظلمة قبح.
فهذا هو ضابط العقل الصحيح الصريح من العقل الفاسد المنتكس القبيح
وما لم يكن عون من الله للفتى ... فأول ما يقضي عليه اجتهاده
إخوتي الكرام ... عندنا وصفان ذكاء وزكاء، والثواب والعقاب يتعلق بالوصف الثاني وهو الزكاء، ويحمد به الإنسان حمداً حميداً.(7/43)
فالذكاء هو تفتح في الذهن وإدراك لعواقب الأمور وسرعة استحضار وقوة حفظ، فهذا ذكاء، وهو مثل الثعلب، ولا يوجد منه في حيله واحتياله لكنه خبيث النفس نجسها، ولذلك قال أئمتنا في كثير ممن غضب الله عليهم كأبي العلاء المعري الذي هلك سنة 449هـ قال ابن كثير في ترجمته في البداية والنهاية في حوادث سنة 449هـ قال: "كان ذكياً ولم يكن زكياً".
والزكاء هو طهارة القلب وموافقة شرع الرب، فهذه هي الفضيلة، أما كون الإنسان عنده بلادة في الذهن وعنده تحجر لا يستطيع أن يحفظ ولا يستحضر فذهنه فيه شيء من الإغلاق بسبب شواغل وصوارف، فلس في هذا مذمة عند الله وليس عليه النقص، لكن إذا كانت نفسه خبيثة فهذا هو البلاء وخير الناس من اجتمع فيه الذكاء والزكاء، لكن إذا انعدم واحد منهما فإياك أن تعدم الزكاء، ولهذا مهمة الأنبياء تزكية الناس لا أن يكونا أذكياء فالذكاء بيد الله وقد يحصل للإنسان عليه وقد لا يحصل، والعقول تتفاوت (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم) من التزكية (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها) .
المبحث الثاني:
حادث الإسراء والمعراج خارق للعادة، ولذا قلنا إنه ممكن ورد به السمع وخوارق العادات تنقسم إلى ستة أقسام:
1- الإرهاص ... 2- المعجزة ... 3- الكرامة
4- المعونة ... 5- الاستدراج ... 6- الإهانة
فهذه كلها يقال لها خوارق للعادات، لكن ماذا يقصد بخارق العادة؟ هو تخلف الملزوم عن لازمه، أو وجود الملزوم دون اللازم.
مثال: تخلف الملزوم عن لازمه:
النار من طبيعتها ولازمها الإحراق، فلو أججنا ناراً عظيمة وألقينا فيها إنساناً وما احترق، فهذا يكون خارقاً للعادة.
مثال وجود الملزوم دون اللازم:(7/44)
وجود ولد بدون والد أو بدون أم أو بدونهما، وإن كان هذا حسب العادة لا يوجد، فمن أراد أن يولد له أولاد فلابد من زوجة، ومن أرادت أن يأتيها أولاد فلابد من زوج، لكن لو ولد مولود من غير أب – كحال عيسى عليه السلام – فهذا خارق لعادة (قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً، قال كذلك قال ربك هو علي هين) ،وهذا مما يحار فيه العقل ولا يحيله.
وإذا وجد مولود من غير أم – كحال حواء – خلقها الله من أبينا آدم فهذا أيضاً خارق للعادة وإذا وجد مخلوق من غير أب ولا أم – كحال أبينا آدم عليه السلام – فهذا كله خارق للعادة وقد وجد الملزوم في الأمثلة الثلاثة السابقة دون وجود لازمه.
وهذا الملزوم اتصاله بلازمه أو حصوله بلا لازمه، وجوده وانفصاله مما يجيزه العقل ويقبله أم مما يحيله ويرفضه؟ نقول: بل هو مما يجيزه، وقد تقدم معنا أن العقل يمنع المستحيل فقط وهو اجتماع النقيضين، أو نفي النقيضين، أو اجتماع الضدين، فهذا هو المستحيل فقط، (1)
__________
(1) س: ذكرتم أن النقيضين لا يجتمعان، فكيف اجتمعت الذكورية والأنوثية في المخنثي المشكل؟
الجواب: هال ذكر الله المخنث في كتابه. لا لم يذكره الله في كتابه لأن الخنثي في حقيقة أمره إما ذكر أو أنثى، فهو أشكل علينا، لذلك نقول فيه: يرجى انكشاف حاله – أي انكشافها بعد البلوغ – فإن تكعب الثديان في صدره فهو أنثى وإن حاض فهو أنثى، وإن رق صوته فهو أنثى، بينما الغلام لو بلغ يخشن صوته وقبل بلوغه صوته ناعم والجارية بالعكس فبمجرد أن تبلغ يصبح صوتها ناعماً، وقبل البلوغ صوتها أخشن من صوتها بعد البلوغ، فالمرأة صوتها أرق من صوت الجارية التي لم تبلغ، فإذا خرجت لحية فهو ذكر، فالحاصل أنه أشكل علينا لكنه في حقيقة الأمر إما ذكر أو أنثى ول1لك قال الله تعالى وهذا انظروه في كتب التفسير بلا استثناء عند قوله تعالى: (لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثاً يهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكراناً وإناثا ويجعل من يشاء عقيماً) يقول علماؤنا: لم يذكر الله غير هذين الصنفين للإشارة إلى الخنثى في نهاية أمره إما ذكر وأما أنثى فلا إشكال وما اجتمع النقيضان، النقيضان متى يكونا؟ إذا تصورنا وجود شخص ما فهو في إحدى الآليتين تزوج وولد، وفي إحدى آليته تزوج به وحمل وولد له فهنا يحصل اجتماع النقيضين، ولكن هذا لا يتصور وجوده، لأن الخنثى مثاله إما ذكر وأما إنثى.
... ولذلك قال أئمتنا: قبل ظهور علامات البلوغ من ذكورة وأنوثة تميزه في صغره فمن أي آليته يبول فإن بال من آلية الذكورة فهو ذكر وإن بال منهما فيتهما يبول منها أسبق، وإن بال منهما في وقت واحد فأيتهما يبول منها أكثر وهذا واضح.
... أما إن مات الخنثى بعد ولادته مباشرة أي بعد وفاة والده بقليل فات الولد الخنثى ليس له ولد غيره: فهذا إن كان أنثى له النصف، وللأم السدس لوجود الفرع الوارث، والباقيللأخوة أعمام الخنثى، وإن كان ذكر فله كل المال تعصيباً وللأم السدس وبعد وفاة الابن الخنثى المال كله للأم إلخ المسألة فنورثه بالافتراضية ثم نعطيه متوسط ما خرج له في الافتراضين على أنه نصف ذكورة ونصف أنوثة، وهذا لأجل جل عاجل في الدنيا، أما في حقيقة الأمر ذكر أو أنثى.(7/45)
أما نفي الضدين فهذا ليس بمستحيل فالبياض والسواد مثلاً ضدان لا يجتمعان فإما أبيض أو أسود، ويصح أن يرتفعا فقد يكون أحمر لا أبيض ولا أسود.
فكل ما يتقابل مع غيره تقابل سلب وإيجاب فهما نقيضان، بحيث إذا وجد أحدهما انتفى الآخر كالحياة والممات، والذكورة والأنوثة وغيرهما فإذن ما تقدم هو خارق للعادة، لكن هل يتصور أن يقع خارق للعقل؟ نقول: لا ولا يمكن أن تأتي شرائع الله بما تحيله العقول، إنما تأتي بما تحار فيه العقول أججت نار عظيمة لو مر طير في أقصى الجو لخر مشوياً، فكيف يوضع خليل الله إبراهيم عليه الصلاة السلام في المنجنيق من مكان بعيد يقذف ويلقى في النار؟ وهو لو لم يلق في النار لتكسرت عظامه من أثر الإلقاء والرمي، وإنما وضعوه في المنجنيق لأنهم لا يستطيعون أن يقتربوا من النار لإلقائه فيها، فيلقى في النار فتكون برداً وسلاماً ولا تحرق النار إلا وثاقه، فكان مقيدا ثم صار مطلقا، فهذا يتصوره العقل ولا يحيله، وهذا ليس بأغرب من أننا خلقنا من ماء مهين، كما أن الله قادر على أن يخلق إنساناً من غير هذه القطرات التي هي من ماء مهين – كما خلق عيسى – فمن الذي يمنعه؟ لذا قال: (هو علي هين) فهذا خارق للعادة وليس خارق للعقل فليتنبه!!
ولا يمكن أن يقع شيء خارق للعادة وليس خارقاً للعقل فيه آفة – كما تقدم – يقول إن هذا مستحيل فنقول: الآفة في عقلك الهزيل، وليس هذا مستحيل، ولذلك قلنا خارق للعادة أي لم تجر العادة به فهو غريب، فكوننا خلقنا من هذا الماء غريب لكن جرب به العادة، وكوننا نتكلم بقطعة اللحم اللسان غريب لكن جرب به العادة، ولو أن أصبعك تكلمت لاعتبر الناس هذا خارقٌ للعادة، ولو أن الحصى سبحت كما سيأتينا في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم حصىً تسبح كما يسبح اللسان فهذا غريب ما جرت به العادة فهو خارق للعادة، وهو في الحقيقة لا غرابة فيه بالنسبة لقدرة الله تعالى.(7/46)
إذن خارق العادة ليس بخارق للعقل فلابد من التفريق بين خارق لعادة وخارق العقل، وخارق العقل هذا بين نقيضين، نفي نقيضين، جمع ضدين، فهذا لا يمكن أن يقع، ولذلك ما كانت معجزة نبي من الأنبياء أن يقول أجعلكم أحياء وأمواتا، موجودين ومعدومين؟ هذا مستحيل هذه سفسطة ولا يمكن أن تقع، ولكن معجزة نبي أنه يحيي الموتى، فهذا مستحيل أم ممكن؟ نقول: ممكن ميت يموت فيقول خذوا بقرة واذبحوها واضربوه ببعضها فيحيى بإذن الله (كذلك يحي الله الموتى) ، فإحياء الميت خارق للعادة التي جعلها لله تتحكم فينا نحن وفيما عدا الله.
فجعل الله سنناً في هذه الحياة لا يستطيع أحد أن يخرج عنها، فإذا شاء الله جل وعلا أن يبطل هذه السنن، أفليس بقادر على ذلك؟ بلى.
فنقول: إبطال لتلك السنة، إيقاف لمفعولها، خرق للعادة إلى غير ذلك من العبارات وليس هذا بمستحيل، بل إن هذا دليل على قدرة الله الجليل سبحانه وتعالى.
وخوارق العادات كما ذكرنا ستة أقسام:
القسم الأول: الإرهاص
مأخوذ من الرهْص، وهو أساس الشيء، يقال إرهاص، أساس البيت القواعد التي يبني عليها هذه يقال في اللغة رهْص.
وهو: خارق للعادة يقع على يد من سيكون نبيا قبل نبوته.
وسميت إرهاصاً لأنها بمثابة التأسيس لما سيليه، وهو المعجزة والإخبار بنبوته، فيكون هذا بمثابة لفت ربنا لأذهان الناس وأنظارهم بأن هذا المخلوق الذي جرى على يديه إرهاصات سيكون له شأن في المستقبل القريب فترقبوا ذلك.
مثاله: شق صدر نبينا عليه الصلاة والسلام عندما كان عند حليمة، وسيأتينا هذا ضمن الآيات التي حصلت لنبينا عليه الصلاة والسلام عند الإسراء والمعراج في مبحث مستقل ونبين أن شق صدر النبي عليه الصلاة والسلام وقع أربع مرات.
مرة عند حليمة عندما كان عمره سنتان وثلاثة أشهر.
ومرة عندما كان عمره عشر سنين.
ومرة عندما كان في غار حراء وجاءه جبريل في أول نزوله عليه.
والمرة الرابعة في حادث الإسراء والمعراج.(7/47)
وكل هذه المرات ثابتة صحيحة أتعرض لها إن شاء الله تعالى، فيشق صدره من ثغره بنحره إلى شعرته عليه الصلاة والسلام – وهو منبت العانة – ثم يخرج قلبه ويغسل بقَسْطٍ من ذهب بماء زمزم ثم يحشى إيماناً وحكمة ثم يلتأم صدره الشريف عليه صلوات الله وسلامه.
فالشق هذا الذي حدث له وعمره سنتان وثلاثة أشهر وعمره عشر سنين هذا خارق للعادة يأتيه ملكان فيضجعانه، ولذلك أرادت حليمة أن تعيده إلى أمه وعمه عندما شق صدره وهو صغير خشيت أن يكون قد أصابه مس من قبل الجن، لأنها ظنت أن هذا من فعل جن، فصدره عندما يشق ويستخرج قلبه ويغسل هذا خارق للعادة لكنه لم يكن نبياً في ذلك الوقت فهذا بمثابة إرهاص وإعلام بأن هذا المولود له شأن في المستقبل، وقد كان له أعظم الشؤون عليه صلوات الله وسلامه، في يوم ولادته حصل إرهاص عظيم فأمه آمنه عندما تلده يخرج منها نور كما تتحدث هي عن ذلك، يضيء من هذا النور قصور بُصرى في بلاد الشام، وعندما ولد تراه قد ولد مختوناً فلم يختنه خاتن، مسروراً أي سرته مقطوعة، ثم بعد ذلك يرسل إلله في ذلك العام طيراً أبابيل على الجند الذين جاءوا لهدم بيت الله العتيق، فهذا كله إرهاص، أي حصل في هذه البلدة خبر غريب من أجله فعلنا هذه الأعاجيب، فانتبهوا!
إنه نبياً عليه الصلاة والسلام، لذا تؤرخ ولادته بعام الفيل التي وقعت إرهاصا لولادته وإرهاصاً لنبوته وإخباراً بما سيكون له من الشأن العظيم.(7/48)
وفي رحلته بعد ذلك إلى بلاد الشام عندما ذهب مع ميسرة - غلام خديجة – وعندما ذهب قبل ذلك مع عمه أبي طالب كان الغمام يظلله عليه الصلاة والسلام لوجود الحر الشديد فكان أينما ذهب غمامة فوق رأسه عليه الصلاة والسلام كأنه يحمل مظلة تظلله من حرارة الشمس، وهذا أيضاً إرهاص وهكذا بقية الأنبياء عندما جعل الله لهم خوارق للعادات قبل نبوتهم، فعيسى تسمعه يقول عند ولادته: (إني عبد الله آتاني الكتاب) ويقول: (وبراً بوالدتي) فتكلمه في المهد يعد إرهاصاً لأمر سيحصل لنبوته.
وموسى عليه الصلاة والسلام عندما يلقى في البحر (فإذا خفت عليه فألقيه في اليم) نجيناه من التلف بالتلف، نجيناه من فرعون بالبحر ليقوده إلى فرعون، وفرعون لم يتلفه، فنجيناه على يدي فرعون، وهذا رب العالمين الذي إذا أراد شيئاً فلا راد لحكمه ولا معقب لقضائه، فموسى ألقي في اليم هرباً من فرعون فنجاه الله على يدي فرعون، وصار هلاك فرعون على يد هذا المولود الذي رُبِّيَ في حجره وكان يضرب لحيته في صغره، فهذا إرهاص عظيم، فهل خافت المرأة على ولدها تلقيه في البحر، أن إذا كان في البحر تأخذه؟
القسم الثاني: المعجزة:
هي أمر خارقة للعادة يجريه الله تعالى على يد النبي، ليكون برهاناً على صدقه في أنه رسول الله وقد تقترن المعجزة بدعوى التحدي، وقد لا تقترن، فلا يشترط في المعجزة أن تكون مقترنة بدعوى التحدي.
فمعجزة القرآن الكريم مقرونة بدعوى التحدي (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله) .
بقية المعجزات: كتكثير الطعام، وتسبيحه، وتسبيح الحصى، وانشقاق القمر (اقتربت الساعة وانشق القمر) حنين الجذع إلى النبي عليه الصلاة والسلام من المتواتر فكل هذا لم يقترن بالتحدي.(7/49)
وهذه المعجزة لا يمكن لأحد أن يعارضها، ولذلك هي سالمة من المعارضة لأنه متى ما عارضها بطلت نبوة النبي، فلو قال النبي عليه الصلاة والسلام علامة صدقي أن ينشق القمر ويشير بإصبعه إلى القمر فينقلب فلقتين، ويظهر بين الفلقتين جبل حراء، فلقة عن يمينه وفلقة عن شماله ويقول مشركو مكة سحركم محمد عليه الصلاة والسلام، فقال بعض العقلاء فيهم -وليس فيهم عاقل - إذا سحرنا محمد فلن يسحر أهل الأرض، فسلوا التجار الذين سيعودون من بلاد الشام فهل رأوا انشقاق القمر في بلاد الشام في هذا الوقت أم لا؟
فلما عاد التجار من بلاد الشام سألوهم، هل انشق القمر في ليلة كذا؟ قالوا: نعم، فماذا قال المشركون (سحر مستمر) ، فهذا قد سحر أهل الأرض جميعاً هكذا زعموا وحاشاه صلى الله عليه وسلم فإذن هذه لم تقترن بدعوى التحدي وقد تقترن بدعوى التحدي لكن لا يمكن أن تعارض، فلو قال مسيلمة الكذاب أنت شققت القمر في هذه الليلة وأنا سأشقه في الليلة التي ستليها، وحقيقة لو شق لبطل صدق النبي عليه الصلاة والسلام وظهر أنه دعيٌّ وليس نبي، ولذلك اشترطنا سلامتها من المعارضة، فلا يمكن لأحد أن يعارضها، أيد الله أنبياءه بالمعجزات.
بالمعجزات أيدوا تكرُّما ... وعصمة الباري لكلٍ حتِّما(7/50)
فنبي الله موسى عليه الصلاة والسلام عندما يخرج مع بني إسرائيل حسبما أمرهم ربنا الجليل وأسرى ببني إسرائيل ليلاًً ثم تبعهم فرعون وجنوده وصار البحر أمام نبي الله موسى وفرعون وراءه، فماذا قال المؤمنون في ذلك الوقت: (إنا لمدركون) ، فانظر إلى العبد الواثق بربه حيث قال: (كلا إن معيَِ ربي سيهدين) ، (فأوحينا إليه أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم) ، فهذه معجزة النبي، البحر يصبح اثني عشر طريقاً يبسا ً والماء يتجمد كأنه جدران، والطرق بينها ثم هذا الماء عندما يتجمد والطرق اثنا عشر طريقاً لأنهم كانوا اثنا عشر سبطا وفريقاً جعل الله في هذه الطرق عندما تجمد الماء في هذه الحواجز نوافذ وطرقات ليرى كل فريق الفريق الآخر عندما يسيرون حتى لا يظن كل فريق أنه هو الناجي فقط والفرق الأخرى ماتت فكل واحد ينظر إلى صاحبه كأن بينهم حاجز من الزجاج، فهذا كله خارق للعادة جرى على يد نبي فهو إذن معجزة.
القسم الثالث: الكرامة:
هي: خارق للعادة يجريه الله على يد العبد الصالح.
والعبد الصالح هو المؤمن الذي يفعل المأمورات من واجبات ومستحبات ويترك المنهيات من محرمات ومكروهات ولا ينهمك في اللذات والمباحات فهذا يقال له: صالح ولي، صدّيق، فحاله كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (مالي وللدنيا إنما أنا كراكب قال تحت شجرة ثم راح وتركها) .
فإذا جرت على يد العبد الصالح خارق من خوارق العادات فيقال لها كرامة.
مطرف بن عبد الله بن الشخير من أئمة التابعين كان إذا دخل إلى بيته تسبح معه آنية البيت وهذا ثابت، والله على كل شيء قدير.(7/51)
والكرامات في هذه الأمة كالمطر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم – والحديث في الصحيحين -[قد كان في الأمم قبلكم محدثون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمتي أحد منهم فعمر] عمر بن الخطاب رضي الله عنه سيد محدثي وملهمي هذه الأمة يخبر بأمور الغيب من غير أن ينزل عليه وحي، وما نظر إلى شيء وقال أراه كذا إلا كان كما يقول و"كان ينظر إلى الغيب من ستر رقيق" كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.(7/52)
الحسن البصري عليه رحمة الله، كان الحجاج يرسل شرطته ليقبضوا عليه وهو جالس على سريره في صحن داره فتدخل الشرطة وتقول أين أبو سعيد؟ أين الحسن البصري؟ وهو ينظر إليهم ويبتسم ويخرجون، فهذا خارق للعادة، إنَّ عينيك تبصر ولكن حال الله بينك وبين الرؤيا أما قال الله في كتابه: (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً) ، وقد ثبت في المستدرك بسند صحيح كالشمس عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أن قول الله تعالى (تبت يدا أبي لهب وتب) لما نزل جاءت العوراء أم جميل - أم قبيح – زوجة أبي لهب تولول وفي يدها حجر يملأ اليد، وتقول: أين محمد؟ فقد بلغني أنه هجاني، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يجلس في فناء الكعبة وبجواره أبو بكر فقال: يا رسول الله أخاف عليك منها – أي لأنها سفيهة، امرأة فليست رجلاً لنقاتله وفي يدها فلو تواريت – فقال سيحول الله بيني وبينها، فقرأ قرآناً فاعتصم بالله منها فبدأ يراها ولا تراه فوقفت على رأس أبي بكر – والنبي عليه الصلاة والسلام بجواره – فقالت: أين صاحبك يا أبا بكر؟ قال: وماذا تريدين؟ قالت: بلغني أنه قد هجاني، فقال: والله ما يقول الشعر وهو صادق (وما علمناه الشعر وما ينبغي له) والهجو والهجاء إنما يكون في الشعر فقالت: قد علمت قريش أني من أعلاها نسباً، ثم ذهبت تولول وتقول: مذمماً أبينا، وأمره عصينا، ودينه قلينا أي أن هذا عندنا مذموم أبيناه فلا نتبعه، ونعصي أوامره ودينه نكرهه فليفعل ما يشاء.(7/53)
هذا إن وقع لنبي فهو معجزة كما هو الحال هنا، وإن وقع لعبد صالح فهو كرامة، ويذكر الإمام القرطبي عن نفسه كرامة أكرمه الله بها في بلاد الأندلس عند قول الله جل وعلا (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً) في سورة الإسراء وانظروها في تفسيره عند هذه الآية يقول:"لما دخل الفرنج – النصارى - إلى بلاد الأندلس كنت في حصن منسور في ذلك المكان وكنت في الصحراء وفي العراء ولا توجد شجرة أتوارى بها ولا أكمة أختبئ وراءها - أي تل مرتفع أو منبسط - وأنا في ذلك المكان وجحافل الجيش تتقدم، يقول: فالتجأت إلى الله وقرأت القرآن فصرت أراهم ولا يرونني، وبدأت أسمع أصواتهم، يقول بعضهم لبعض: هذا الرجل الذي ظهر لنا ثم توارى عنا ما هو؟ فيقول له الآخر: لعله ديبلة يقول هذا في لغتهم لعله جني ظهر ثم اختفى، يقول أنا أسمع كلامهم وأراهم ولا يرونني"، فهذه يقولها عن نفسه والله على كل شيء قدير.
قال الإمام بن تيمية في (مجموع الفتاوى في 11/331) : "إذا صح الإيمان علماً وعملاً واحتاج صاحبه إلى خرق العادة، سيخرق الله له العادة ولابد، لأن الله يقول: (إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً) ويقول: (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) "لكن هذا يحتاج إلى تصليح الإيمان علماً وعملاً، ولذلك إخوتي الكرام: من لجأ إلى مخلوق دل على انفصاله عن الخالق.
(ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم) ، لكن هو إذا صح إيمانه علماً وعملاً، علم نافع واعتقاد حق بالله وعمل صالح وإذا قال يا رب، لم يتخل عنه رب العالمين، لأنه قطع على نفسه مبدأً فقال (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) فلو كادته السموات والأرض لجعل الله له من بينهن فرجاً ومخرجاً والله على كل شيء قدير، وعندما يعرض العبد عن هذا يكله الله إلى نفسه وفلا يبالي في أي وادٍ هلك.
القسم الرابع: المعونة(7/54)
هي: خارق للعادة يجري على يد مؤمن مستور لم يظهر منه فسق ولا بدعة لكن ليس في درجة الذي قبله في الصلاح والاستقامة ولا يعرف عنه جد واجتهاد في طاعة الله فعل المأمورات من واجبات ومستحبات، وترك المنهيات من محرمات ومكروهات وعدم انهماك في اللذات فهذا ليس كذلك بل هو من عوام المسلمين، فلا تظهر عليه بدعة ولا فسق ولا يعرف بالصلاح والتقدم والاجتهاد في دين الله وما أكثر ما يجري من خوارق للعادات على يد عوام المؤمنين ليكرمهم بها رب العاملين إكراماً لهم وتثبيتاً للإيمان في قلوبهم مثلاً: تقع بعض الحوادث ممن شاهدوها يقول لن ينجو منها أحد، فيقال لك: كل من وقع عليه الحادث سلم فهذا من باب معونة الله.
إنسان يسقط من الدور السابع في مكان ضيق على بلاط فينزل وما يخدش عظمة ولا جلدة.
القسم الخامس: الاستدراج
هو: خارق للعادة يجريه الله على يد عبد مخذول، صاحب العمل المرذول (فاسق، كافر، مبتدع، ضال مضل) على وفق مراده فيجري الله علي يده خوارق للعادات ويستدرج من حيث لا يعلم مثاله: الخوارق التي ستحدث على يد الدجال وهي خوارق عظيمة يأتي إلى الخربة – كما ثبت في الصحيحين – فيقول لها: أخرجي كنوزك فتتبعه كيعاسيب النحل، أي كجماعات النحل عندما تتبع رئيستها ومليكتها. ويأمر السماء أن تمطر فتمطر والأرض أن تنبت فتنبت وغير ذلك من الخوارق التي ستحصل على يد عبد كافر.
وفي هذه الخوارق لهذا الصنف من الناس امتحان للبشر، هل سيغترون بهذه الظواهر ويتبعونهم أم لا؟(7/55)
مع ما سيأتي به من آيات فيه أيضاً آيات تدل على أنه أرذل المخلوقات، فهو مثلاً ينظر بعين واحدة، وعلى جبينه مكتوب كافر يقرأها كل شخص سواء كان أمياً أو متعلماً فنقول له: أنت أعور ولا تستطيع أن تغير عورك، فكيف تحيي وتميت ولا تستطيع أن ترد عينك سليمة لتبصر ولتجعل صورتك صورة كاملة لا تشويه فيها، ولكنه لا يقدر على هذا لأنه عندما يعطيه الله بعض الخوارق لا يعني هذا أنه يتصرف تصرفاً مطلقاً بل إنه لا يزال ضمن البشرية وهو عبد مقهور لكن الله جعله فتنة للناس، هل يخدعون بهذه الأمور أم يتبعون الحق الثابت المزبور؟ فإذن فيه علامة تبين ضلاله، كما نقول له هذه الكتابة على جبينك امسحها كما أنك بعد ذلك لا يسخر لك من المركوبات إلا الحمار فلا تستطيع ركوب الخيل أو الفرس.
فكل هذا من باب إذلال الله له لذا هو كما قال النبي عليه الصلاة والسلام [هو رجس على رجس]
القسم السادس: الإهانة
هي: خارق للعادة يجريه لله على يد العبد المخذول (الفاسق، المبتدع، الضال، الكافر) لكن بنقيض قصده ومراده والأقسام الخمسة الأولى كلها وفق مراد من أجراها الله على يديه.
مثالها: ما جرى لمسيلمة – وقد ذكرناها لكم – أنه بصق في عين إنسان فعمي، فهذا خارق للعادة لأن البصق عادة لا يتسبب في عمى الإنسان، لكنه بصق في عين شخص ليبرأ فصار أعمى فأراد أن يبرأه فأعماه فحصل له نقيض قصده.
إخوتي الكرام.... وهذه الأقسام الستة من الخوارق تقع في واحد من ثلاثة أمور هي أمور الكمال بأسرها:
1- إما في العلم
2- وإما في القدرة
3- وإما في الغنى
فالعلم: بأن يعلم ما يجهله غيره ويعلمه الله جل وعلا من غير سبب يتعلم منه العباد، فهذا خارق للعادة في أمور العلم.
لأن أمور الكمال بأسرها علم وقدرة وغنىً فقط، وكل كمال مرده إلى واحدة من هذه الأمور الثلاثة فالله بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وغني عن العالمين.(7/56)
ولا يوجد أحد من خلق الله له صفة الكمال في هذه الأمور الثلاثة أو في واحد منها، لأن هذه الأمور مختصة بالرب ولذا أمر الله نبيه بأن ينفيها عن نفسه فقال جل وعلا كما في سورة الأنعام (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إليّ)
(لا أقول لكم عندي خزائن الله) ... فنفى الغني
(ولا أعلم الغيب) ... ... ... فنفى العلم
(ولا أقول إني ملك) أقدر على مالا تقدرون عليه فنفى القدرة، فأنا مثلكم إنما أنا بشر لا أستغني عما تحتاجون إليه ولا أعلم إلا ما علمني ربي.
وهكذا أمر الله أول الرسل بعد آدم - على نبينا وعلى جميع الأنبياء صلوات الله وسلامه – وهو نوح أن يقول: (ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك) فأول الرسل إلى البشرية نفى هذه الأمور عن نفسه وكذا آخرهم عليهم جميعا صلوات الله وسلامه فمثلا: القرآن معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم وخارق في أمور العلم (وعلمك ما لم تكن تعلم) فوقوع هذا الخارق معجزة، ولو وقع خارق من أمور العلم لغير النبي لقيل له كرامة معونة: إلخ ...
فعمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما كان يخطب على المنبر أيام خلافته والجيوش الإسلامية في بلاد فارس تقاتل في سبيل الله وكان قد أمر عليه رجلاً يدعى سارية، وهو في أصل الجبل والعدو من الجهة الأخرى للجبل يتسلقونه ليصيروا فوق المسلمين ويرشقونهم بنبال كالمطر فكشف الله لعمر هذه الموقعة هو في المدينة والموقعة في نهاوند في بلاد الفرس وصاح يا سارية الجبل فسمع سارية صوت عمر ورقي الجبل وإذا بجنود الفرس يتسلقون الجبال فصال المسلمون فوقهم وكتب الله النصر لهم فهذا تعليم لعمر، ثم هناك كرامة أخرى وهي أن صوته يصل إلى سارية وذاك ينفذ ذاك الأمر ويكتب الله لهم النصر.(7/57)
والقصة صحيحة وقد ألف الحافظ الحلبي جزءاً في طرقها وحكم عليها بالصحة، والإمام السخاوي في المقاصد الحسنة حكى عن شيخه الحافظ ابن حجر عليهم رحمة الله أن إسنادها في درجة الحسن وطرقها كثيرة وفيرة.
والشيخ محمد حامد الفقي عليه رحمة الله ومغفرته وهو الذي علق على كتاب مدارج السالكين ذكر كلاما ً منكراً حول هذه القصة في تعليقه على المدارج، فانتبهوا له واحذروه إلى مر معكم، يقول: إن عمر لا يعلم الغيب، ويقول له: يا عبد الله: لا يعلم الغيب إلا الله لكن إذا علَّم الله عمر هذا فأي حرج في هذا، أفلسنا نؤمن بالكرامات؟ أما قال الله عن مريم بأنها صديقة ولا يوجد في النساء نبية كما قال الله تعالى (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم) ، فالنبوة من جنس الذكورة فقط، كما أنه لا يصلح أن يكون في النساء إمامة – الإمامة – بحيث تكون أميرة وخليفة، فلا يجوز أن يكون في النساء نبية إذ كيف تبلغ دعوة الله وتتصل بالناس وهي مأمورة بالستر وأن تقر في بيتها؟ وهذا ليس من باب الامتهان لها إنه ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى فهذه الرتبة لا تتناسب مع طبيعتها فهي في مكان آخر وهذا واضح ولها أجر بعد ذلك عند الله إن كانت تقوم بما أوجب الله عليها فيما يتعلق بطبيعتها وفيما يتعلق بما هو عائد إليها فإذن لا تكون إمامة [لا يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة] ولا تكون نبية، فمريم صديقة بنص القرآن (وأمه صديقة) ، أفلم تثبت لها الكرامات؟ (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً، قال: يا مريم أنى لك هذا قالت: هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) وانتبه: لم شك زكريا واستغرب وجود الرزق عندها؟ فهو يقول: يا مريم عندك رزق لا يمكن أن نقول إن أحداً من الخلق أحضره إليك لا عن طريق المعونة والمساعدة والإحسان ولا عن طريق الهبة، بل إن الرزق الذي يأتيك لا وجود له في هذه البلاد، ولو كان له وجود لقلنا جارتك ساعدتك، أو أحد أحسن إليك.(7/58)
فما عاد هناك مجال أن يقال أنت تتصلين اتصالاً محرماً ببعض الناس، فإنه يأتيك شيء لا نظير له، فهذا مما يدهش العقول فمن أين جاءك؟
قالت (هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) ولو كان لما يأتيها نظير ومثيل لأمكن أن يقال هو إما مساعدة وإما وحاشاها – خيانة – ولكن لا هذا ولا هذا فهو شيء لا يمكن أن يحصل من قبل بشر.
فإذا كانت كرامات الأولياء ثابتة فانظر ماذا يعلق الشيخ محمد حامد الفقي على هذه القصة: "عمر لا يعلم الغيب وهذه القصة وإن كانت ثابتة فمعناها وتأويلها أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما كان يخطب على المنبر أخذته سنة فنام فكشف الله له في الرؤيا عن حال الموقعة ثم صاح بأعلى صوته" لكن نقول: لو سلمنا لك بهذا فكيف سمع سارية صوت عمر إن كان علمه عن طريق الرؤيا، ولكن لا نعلم بما ذكرت، فهل يعقل أن ينام عمر على المنبر؟ فلو حصل ونام عمر على المنبر
فإذا أحدث الخطباء في هذه الأيام على المنبر لكان قليلاً!
فيا إخوتي لا نشتط في التأويل بحيث نصل إلى درجة الإنكار فهو لا يريد أن يقول باطلة لأن هذا ثابت، فيقول هذا معنى هذا، فتنبهوا! إذن فهذا من خارق العادة في العلم.(7/59)
الثاني خارق العادة في القدرة فيقدر على ما يعجز عنه غيره ومنه قصة عرش بلقيس قال الله تعالى عنه (ولها عرش عظيم) والعرش سرير الملك مرصع بالجواهر واليواقيت وحجمه كبير، قال نبي الله سليمان كما حكى الله عنه (أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين، قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك) ، وكان سليمان عليه الصلاة والسلام من الصباح حتى الظهر يقضي بين رعيته ويعلمهم، فقبل انفضاض المجلس سيكون العرش عندك (قال الذي عنده علم الكتاب) هو رجل صالح اسمه آصف، (أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) أي إذا نظرت إلى شيء فقبل أن تغمض عينيك عنه يكون العرش عندك أي في ثوان ٍ ليظهر الله كرامة هذا العبد الصالح على قوة وجهد الجن مع ما معهم من قوة إمكانات، فهذا له مكانة عند الله أعلى وسيأتي بهذا العرش من اليمن إلى بيت المقدس قبل أن يرتد طرف سليمان إليه (فلما رآه مستقراً قال هذا من فضل ربي لبلوني أأشكر أم أكفر) .
إخوتي الكرام.... ما سبق هذا هو المعنى الحق أما من قال: (قال الذي عنده علم الكتاب) هو جبريل أو (قال الذي عنده علم الكتاب) هو نبي الله سليمان فهذا باطل.
وهذه كما قال الإمام الذهبي في كتاب العلو للعلي الغفار ص 57 "سبحان الله ما أعظم هذه الكرامة ولا ينكر كرامات الأولياء إلا جاهل"
الثالث: خارق للعادة في مجال الغنى، فيستغني عما يحتاج إليه الناس
ثبت في ترجمة العبد الصالح إبراهيم التيمي أنه كان يمكث شهرين لا يأكل ولا يشرب، والإنسان إذا امتنع عن الشراب ثلاثة أيام يموت، إذا امتنع عن الطعام سبعة أيام – على أكبر تقدير – يموت.
فهذا العبد الصالح عنده غنىً عن الطعام والشراب، والله على كل شيء قدير، فإذا جعل الملائكة لا يأكلون ولا يشربون فما الذي يمنعه من أن يجعل العبد بهذه الصفة ويكرمه بذلك؟(7/60)
ومكث مرة أربعين يوماً، فأعطاه بعض أهله حبة عنب فأكلها، فمكث أربعين يوما ولما أكل لم يأكل إلا حبة العنب فقط فهذا غنىً عما يحتاج إليه الناس.
ذكر الإمام بن كثير عند قوله تعالى (قال إنما أوتيته على علم عندي) حكايته عن قارون يقول: قال بعض الناس: (على علم عندي) أي بصنعة الكيمياء؟ أي أنه يقلب الخشب والحجر والنحاس إلى ذهب، وقال هذا هوس فالمعادن وحقائق الأشياء لا يمكن أن تقلب، فالخشب خشب والحجر حجر والحديد حديد، ولا يمكن أن نقلبه ذهباً أو فضة، يقول وأما قلب حقائق الأشياء إلى ذهب وفضة عن طريق خرق العادة من باب الكرامة فهذا جائز لأنه ليس بمشيئة الناس بل بمشيئة الله، كما جرى لحَيْوَة بن شُرَيْح وكان قد جاءه سائل فسأله – والقصة ثابتة صحيحة ثابتة في تهذيب التهذيب وتذكرة الحفاظ في ترجمة حَيْوَة بن شُرَيْح من شيوخ ورجال الكتب الستة فعلم حيوة صدقه واحتياجه، فأخذ مَدَرَة من الأرض – قطعة طين متجمدة – فأجالها في يده فوضعها في يد السائل فقلبها الله ذهباً خالصاً والله على كل شيء قدير، فهذا ليس بمشيئة المخلوقات إنما هو بمشيئة رب الأرض والسموات.
الشاهد: حادثة الإسراء والمعراج خارقة للعادة ترجع إلى العلم أو القدرة أو الغنى؟ ترجع إلى القدرة، أقدره الله على ما يعجز عنه البشر إلا من أكرمه الله بذلك، فيسري به إلى البيت المقدس ويعرج به إلى السموات السابعة فيعاد إلى بيت المقدس، ويعاد إلى مكة في جزء من الليل ولازال فراشه دافئاً.
وهذه الأمور الستة قد جمعها بعض أئمتنا في ستة أبيات من الشعر لطيفة وهي:
1- إذا رأيْتَ الأمرَ يخْرِقُ عادةً ... فمعجزةٌ إنْ مْن نبيٍّ لنا ظَهَرْ
2- وإن بان من قبل وصف نبوة ... فالإرهاصَ سِمْة ُ تتبع القومَ في الأثرْ
3- وإن جاء يوماً من ولي فإنه ... الكرامة في التحقيق عند ذوي النظرْ
4- وإن كان من بعض العوام صدوره ... فكنوه حقا بالمعونة واشتهرْ(7/61)
5- ومن فاسق إن كان وفق مراده ... يسمي بالاستدراج فيما قد استقرْ
6- وإلا فالإهانة عندهم وقد ... تمت الأقسام عند من اختبرْ
ومن شاء الرجوع إليه فلينظر في كتاب: لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية في شرح الدرة المضيئة في العقيدة الأثرية للإمام السفاريني (2/392) ، والدرة المضيئة له وشرحها في مجلدين وهو من الكتب النافعة في علم التوحيد على هدي السلف، وقد تعرض فيه لمبحث خوارق العادات وذكر الستة.
بعض علماء التوحيد أضاف أمراً سابعاً لكنه لا يعتبر من خوارق العادات وهو: السحر، وهذه إضافة باطلة، فإنه لا يعتبر من خوارق العادات لأنه يتوصل إليه بالأسباب العادية فهناك أنواع من أنواع الكفريات من سلكها وصل إلى السحر فهو علم وتعلم مثل الموسيقى هذا حرام وذاك حرام، ولذلك من السبع الموبقات كما قال النبي عليه الصلاة والسلام السحر، وما شاع بين الناس من حديث مكذوب وهو: [تعلموا السحر ولا تعملوا به] فهذا لا يصح نسبته إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو خرافة، لأن تعلم السحر لا يحصل إلا بالكفر واستعانة بالقوى الخبيثة الشريرة من الشياطين والعفاريت، لكن هو علم عن طريق أسباب من تعلمها وصل إليه مثل الغناء والرقص والموسيقى وقلة الحياء.
لكنه لا يحصل إلا بمشيئة الله قال تعالى (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله) ، وهذا كما لو أطلقت رصاصة على إنسان فأنت الذي باشرت القتل لكنه لم يمت إلا بمشيئة الله وتقديره وإرادته ولكنك تعاقب على مباشرتك للقتل، ولو صبر القاتل على مقتوله لحظة لمات دون أن يقتله فالمقتول مات بأجله ولم يقدم القاتل أجله عن موعده بل ساعة قتله هي أجله، فلم يقدم أجله ولا طرفة عين لكن القاتل مسئول عن فعله.(7/62)
وهناك عندما يمارس السحر ويفرق بين المرء وزوجه ويؤذي الإنسان ويكسب جسمه وهناً وضعفاً فهو بإذن الله، وقد سحر نبينا عليه الصلاة والسلام لكن لم يؤثر على عقله غاية ما كان إنه يصاب في بدنه بوهن وضعف واستمر به السحر أشهر عليه صلوات الله عليه وسلامه وزاد مفعوله فيه مدة أربعين يوماً وكان يشعر بتعب ثم أنزل الله عليه المعوذتين فقرأهما فقام وكأنما نشط من المقال عليه صلوات الله وسلامه والحديث في الصحيحين.
فالسحر إذن بواسطة تعلم أشياء معلومة، وهو كما لو تعلمت فن القتال فضربت إنساناً فآذيته لكن بشيء معلوم، والساحر يؤذي بشيء معلوم، لكن ذلك بشيء ظاهر وهذا بشيء معلوم خفي، فالإيذاء بالسحر لا يكون إلا عن طريق مدارسة ولا يوصل إليه إلا بأسباب معلومة يتلقاها الناس بخلاف خوارق العادات فهذه لا دخل فيها لكسب ظاهر، إنما هي محض تقدير الله جل وعلا ومشيئته وبالتالي ليس السحر من خوارق العادات.
كنا فيما سبق قد أشرنا إلى قصة الشيخ الصالح الحلبي إشارة وسنذكرها هنا:
لقيه ذات مرة قسيس ملعون فقال له: أنتم تزعمون أنكم أفضل منا، وموجود عندكم أ، جميع الناس سيرد النار ويدخلها (وإن منكم إلا واردها) فعلام أنتم أفضل منا إذن؟
وكان الشيخ يملك الجواب على هذا وهو أن يقول له هذه النار تحرقكم ولا تحرقنا فتكون برد وسلاما علينا وتكون حميما وعذابا عليكم، ولكن الشيخ علم أن هذا القسيس لن يقتنع بهذا الجواب ولن يستوعبه.(7/63)
وكان القسيس يلبس جبة فقال له الشيخ أعطني جبتك فأعطاه إياها فخلع الشيخ جبته وصرّهما ببعض فجعل الشيخ جبة القسيس من الداخل وجبته هم من الخارج ثم ذهبا إلى فرن وقال للخباز ضعهما في الفرن، فوضعهما وبعد ربع ساعة قال له أخرجهما فأخرجهما الخباز؟؟؟ فلما رأي القسيس ذلك قال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وعلم كيف أن النار تحرق الكافر ولا تحرق المؤمن وقد ورد سؤال هنا يقول: هل يعرف الإنسان من نفسه أنه سيقع له خارق للعادة، كيف عرف الشيخ الميمون أن جبته لن تحترق، وأن جبة القسيس ستحترق؟
وهذا سؤال يتعلق بهذه القصة وبكل قصة أو حادثة فيها خارق للعادة مما ذكر.
فنقول: خوارق العادات عندما تقع لها حالتان:
الحالة الأولى: أن يُعْلِمَ الله الإنسان بذلك بنزول ملك أو بإلهام، فيلهمه الله ذلك ويضطر إلى فعله فلا اختيار له في ذلك. وعلى الحالتين (أنزل الملك، أو الإلهام) فهذا من نوع الوحي، ولا يشترط أن يكون الإنسان نبيا لينزل عليه ملك.
فمريم – كما قلنا كانت صديقة، لأنه ليس في النساء نبية بالإجماع، ومع ذلك كانت تنزل عليها الملائكة (وإذ قالت الملائكة يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين) ونزل عليها جبريل وقال لها جئتك لأهب لك غلاماً زكياً. ثم قال لها بعد ذلك (وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنيا) ثم أمرها بعد ذلك أن تلزم الصمت. وأخبرها بأن ولدها سيدافع عنها، فهذا كله حصل بواسطة ملك.
وقد يقع كما قلنا عن طريق الإلهام فيقع في قلبك أمر يضطرك إلى فعل أمرٍ، ولا اختيار لك فيه.
الحالة الثانية:(7/64)
كنت ذكرت لكم هذا سابقا – نقلا عن الإمام ابن تيمية حيث قال في مجموع الفتاوى 11/331 "إذا صح الإيمان علماً وعملاً واحتاج صاحبه إلى خرق العادة خرق الله له العادة ولابد" أي أن الإنسان يعمل بالأسباب والباقي على الله، فعليه هو أن يسلك المسلك الشرعي الصحيح فإذا احتاج إلى كرامة خرق الله له العادة ولابد، لأن الله يقول (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) فهذا شرط، وجوابه، فإذا اتقيت الله فلن يتخلى الله عنك.
العلاء بن الحضرمي: والقصة ثابتة صحيحة في ترجمته في حلية الأولياء لأبي نعيم وصفة الصفوة لابن الخوري والفرقان بين؟ الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيمية – حاصلها: أنه لما كان يغزو في بلاد الفرس، واعترضهم البحر كما اعترض نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام البحر، فوصلوا إليه والعدو وراءهم وليس عندهم سفن يقطعون بها البحر، فقال لهم العلاء قولوا: يا عليم، يا حليم، يا علي، يا عظيم، ثم جوزوا واتبعوني فبدأ يقولها وهم يقولونها وراءه، وسار وساروا خلفه فدخلوا البحر ومازالوا يقولونها فما ابتلت حوافر خيولهم، ثم قال لهم: من فقد شيء في هذا البحر فعلي؟ فقال له بعض الناس: سقط عني كذا وكذا، فدعا ربه على شاطئ البحر فقذف البحر له المتاع الذي سقط من ذلك الشخص.
فإذن هذه كرامة تقع للعبد الصالح، فذا احتاجها تقع له ولابد، فإذا أكرم الله نبيه موسى بانشقاق البحر معجزة، فيكرم الله الصالحين بانشقاق البحر كرامة.(7/65)
ويخبرنا نبينا عن كرامة وقعت لعبد صالح، والحديث في السنة ومعجم الطبراني بسند صحيح، وذكر؟؟؟؟؟ ذلك للناس، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دخل رجل؟؟ في الزمن الماضي – على أهله، فلما رأى ما بهم من الحاجة خرج إلى البرية، فلما خرج قالت لنفسها لو قمت إلى التنور فتجرته (أي أحميته لأن زوجها سيعود عما قريب ومعه رزق، فستعجن وتخبز) قمت إلى الرحى (الطاحونة) فهيأتها، ولو قمت إلى الجفنة (التي يوضع فيها الطعام) فأعددت أي أجهز نفسي بهذه الأمور إذا دخل زوجي بعد خروجه ولا نتأخر في إعداد الطعام، فتأخر الزوج ثم قالت: لأتفقد التنور الذي سجرته، ماذا حصل له؟ فجاءت إليه فإذا فيه جنوب شاة مشوية (جمع جنب أي لحم جنب الشاة وهو أطيب أنواع اللحوم) ، ثم ذهبت إلى الرحى فنظرت إليها فإذا هي تدور وتطحن البر، ونظرت إلي قصعتها فإذا هي ممتلأة طعاما، قالت: فأوقفت الرحى، قال نبينا عليه الصلاة والسلام لو تركتها لبقيت تدور إلى يوم القيامة، أي تدور وتطحن، والله على كل شيء قدير.
فهذا البعد لم يعلم أن الله سيرزقه هذا الرزق، ولكنه بذل ما عليه، وأخذ بالأسباب المؤدية إلى مثل هذه الخوارق، فرزقه الله هذا الرزق (وما من دابة إلا على الله رزقها) ، فخلقنا الله لنعبد وتكفل برزقنا.
فنقول: هذا الرجل جاء ولم يجد رزقا، فلم يقصر أيضا في العمل بالأسباب وطلب الرزق والبحث عنه والله يقول (فامشوا في مناكبها) ، فإذا مشيت وبذلت ما في وسعك ولم تحصل رزقا فهل ستموت جوعا؟
والله الذي لا إله إلا هو، الذي كان يرزق مريم وهي في محرابها سيرزقك ولا شك في ذلك (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً، قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) .
لكن هذا كله يحتاج إلى تحقيق الإيمان قولاً وعملاً.(7/66)
كان دجاجلة البطائحية من الصوفية المخرفين الذين ينتسبون إلى الرفاعية، فيعهد الإمام ابن تيمية يدخلون النار، فيشعذون حيث كانوا يدخلون بحبل فيدهنون أبدانهم بزيت يسمى اللوزرينج – كما يذكر شيخ الإسلام – وهذه مادة عازلة، فإذا دهن بها الجسم وتعرض للنار فلا يتأثر.
فقال لهم الإمام ابن تيمية، إن ما يحصل لكم ليس بخارق للعادة، بل هذا شعوذة لذلك سأدخل الحمام وتدخلون الحمام ونغتسل بالماء الحار ثم لتوقد أعظم نار وأدخلها أنا وأنتم والكاذب منا يحرقه الله!!
ووالله الذي لا إله إلا هو لو فعلها لأحرقهم الله ونجاه، كرامة له.
إن قيل: هل نزل عليه ملك؟
نقول: لا يشترط ذلك، فإنه قد صح الإيمان علماً وعملاً، اعتقاداً وفعلاً واحتاج لخرق العادة ليثبت كذبهم، فإنهم سيقولون له – أي لابد تيمية – نحن نفعل هذه الشعوذات تزعم – ونحن على حق وأنت على باطل وضلال، فيقول لهم: بل أنتم على باطل، فيقولون فكيف إذن تحدث لنا هذه الخوارق؟ فيقول: هذه ليست بخوارق، وسأثبت لكم ذلك فلنغتسل في الحمام ثم لندخل أنفسنا في النار والكاذب منا يحرقه الله، فهنا سيخرق الله له العادة ويثبت كذبهم وباطلهم حتى لا يلتبس الحق والباطل على العوام من الناس.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ لن يخلف وعده (وكان حقا علينا نصر المؤمنين) وإذا كنا مؤمنين فلن يكون عندنا شك في هذا الإيمان العظيم، وأما بعد ذلك، فإذا فرطنا وأتينا من قبل أنفسنا – كما هو الحال فنا توكلنا على أعدائنا وعلى الذين غضب الله عليهم العزيز القهار – فكيف ننتظر خرق العادات وكيف ننتظر الإجابة إذا دعو نسينا الله فنسينا (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم) ، وليس المقصود بنسي الله لنا غفلته عنا بل إهماله لنا فإن الله لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض.
قال الله لداوود عليه الصلاة والسلام: قل للظالم لم لا يذكرني فإنه إذا ذكرني سأذكره، لأنه يقول (فاذكروني أذكركم) وذكري إياه أن ألعنه.(7/67)
أي فهو إذا ذكرني ذكرته ولابد ولكن شتان شتان بين من يذكره الله بالرحمة والثناء عليه في الملأ الأعلى وبين من يذكره باللعنة.
فكل ذاكر سيذكره الله، فإن كان تقيا فيذكر بالرضا والقبول، وإن كان شقيا فيذكر بالطرد والإبعاد.
الحاصل أن الإنسان قد يعلم أنه ستخرق له العادة، يعلم ذلك إما بنزول ملك يراه هو ولا نراه نحن أو بإلهام يقع في قلبه يضطره إلى فعل هذا دون اختيار وقد لا يعلم، لكن بحسب الظاهر يقول أنا بذلت ما علي وأخذت بهذا الأمر؟؟ الإيمان وتصحيحه قولاً وعملاً، والباقي على الله فهو الذي تكفل بالنتيجة كما أ، الإنسان يتزوج من أجل أن ينجب ذرية، فهذا بذل ما عليه وقد يرزق بذرية وقد لا يرزق.
عليك بذر الحب لا قَطْف الجني ... والله للساعين خير ضمين
وهو الذي (لا يضيع أجر من أحسن عملا)
فأنت هنا عليك أن تسير على المسلك الشرعي فإذا لزمك خارق للعادة، سيخرق الله هذا ولابد، وهو على كل شيء قدير.
كنا فيما سبق قد أشرنا إلى قصة الشيخ الصالح الحلبي إشارة وسنذكرها هنا:
لقيه ذات مرة قسيس ملعون فقال له: أنتم تزعمون أنكم أفضل منا، وموجود عندكم أن جميع الناس سيرد النار ويدخلها (وإن منكم إلا واردها) فعلام أنتم أفضل منا إذن؟
وكان الشيخ يملك الجواب على هذا وهو أن يقول له هذه النار تحرقكم ولا تحرقنا فتكون برداً وسلاماً علينا وتكون حميماً وعذاباً عليكم، ولكن الشيخ علم أن هذا القسيس لن يقتنع بهذا الجواب ولن يستوعبه.(7/68)
وكان القسيس يلبس جبة فقال له الشيخ أعطني جبتك فأعطاه إياها فخلع الشيخ جبته وصرّهما ببعض فجعل الشيخ جبة القسيس من الداخل وجبته هو من الخارج ثم ذهبا إلى فرن وقال للخباز ضعهما في الفرن، فوضعهما وبعد ربع ساعة قال له أخرجهما فأخرجهما الخباز فلما رأى القسيس ذلك قال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وعلم كيف أن النار تحرق الكافر ولا تحرق المؤمن وقد ورد سؤال هنا يقول: هل يعرف الإنسان من نفسه أنه سيقع له خارق للعادة كيف عرف الشيخ الميمون أن جبته لن تحترق وأن جبة القسيس ستحترق؟
وهذا سؤال يتعلق بهذه القصة وبكل قصة أو حادثة فيها خارق للعادة مما ذكر.
فنقول: خوارق العادات عندما تقع لها حالتان:
الحالة الأولى: أن يُعْلِمَ الله الإنسان بذلك بنزول ملك أو بإلهام، فيلهمه الله ذلك ويضطر إلى فعله فلا اختيار له في ذلك. وعلى الحالتين (أنزل الملك، أو الإلهام) فهذا من نوع الوحي، ولا يشترط أن يكون الإنسان نبياً لينزل عليه ملك.
فمريم كما قلنا كانت صديقة، لأنه ليس في النساء نبية بالإجماع، ومع ذلك كانت تنزل عليها الملائكة (وإذ قالت الملائكة يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين) ونزل عليها جبريل وقال لها جئتك لأهب لك غلاماً زكياً. ثم قال لها بعد ذلك (وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً) ثم أمرها بعد ذلك أن تلزم الصمت. وأخبرها بأن ولدها سيدافع عنها، فهذا كله حصل بواسطة ملك.
وقد يقع كما قلنا عن طريق الإلهام فيقع في قلبك أمر يضطرك إلى فعل أمرٍ، ولا اختيار لك فيه.
الحالة الثانية:(7/69)
كنت ذكرت لكم هذا سابقاً نقلا ً عن الإمام ابن تيمية حيث قال في مجموع الفتاوى 11/331 "إذا صح الإيمان علماً وعملاً واحتاج صاحبه إلى خرق العادة خرق الله له العادة ولابد" أي أن الإنسان يعمل بالأسباب والباقي على الله، فعليه هو أن يسلك المسلك الشرعي الصحيح فإذا احتاج إلى كرامة خرق الله له العادة ولابد، لأن الله يقول (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) فهذا شرط، وجوابه، فإذا اتقيت الله فلن يتخلى الله عنك.
العلاء بن الحضرمي: والقصة ثابتة صحيحة في ترجمته في حلية الأولياء لأبي نُعيم وصفة الصفوة لابن الجوزي والفرقان بين الرحمن وأولياء الشيطان لابن تيمية – حاصلها: أنه لما كان يغزو في بلاد الفرس، واعترضهم البحر كما اعترض نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام البحر، فوصلوا إليه والعدو وراءهم وليس عندهم سفن يقطعون بها البحر، فقال لهم العلاء قولوا: يا عليم، يا حليم، يا علي، يا عظيم، ثم جوزوا واتبعوني فبدأ يقولها وهم يقولونها وراءه، وسار وساروا خلفه فدخلوا البحر ومازالوا يقولونها فما ابتلت حوافر خيولهم، ثم قال لهم: من فقد شيء في هذا البحر فعلي؟ فقال له بعض الناس: سقط عني كذا وكذا، فدعا ربه على شاطئ البحر فقذف البحر له المتاع الذي سقط من ذلك الشخص.
فإذن هذه كرامة تقع للعبد الصالح، فإذا احتاجها تقع له ولابد، فإذا أكرم الله نبيه موسى بانشقاق البحر معجزة، فيكرم الله الصالحين بانشقاق البحر كرامة.(7/70)
ويخبرنا نبينا عن كرامة وقعت لعبد صالح، والحديث في السنة ومعجم الطبراني بسند صحيح، وذكر ذلك للناس، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دخل رجل - في الزمن الماضي – على أهله، فلما رأى ما بهم من الحاجة خرج إلى البرية، فلما خرج قالت لنفسها لو قمت إلى التنور فسجَّرتُه (أي أحميته لأن زوجها سيعود عما قريب ومعه رزق، فستعجن وتخبز) قمت إلى الرحى (الطاحونة) فهيأتها، ولو قمت إلى الجفنة (التي يوضع فيها الطعام) فأعدت (أي أجهز نفسي بهذه الأمور) حتى إذا دخل زوجي بعد خروجه ولا نتأخر في إعداد الطعام، فتأخر الزوج ثم قالت: لأتفقد التنور الذي سجرته، ماذا حصل له؟ فجاءت إليه فإذا فيه جنوب شياه مشوية (جمع جنب أي لحم جنب الشاة وهو أطيب أنواع اللحوم) ، ثم ذهبت إلى الرحى فنظرت إليها فإذا هي تدور وتطحن البُرَّ، ونظرت إلي قصعتها فإذا هي ممتلأة طعاماً، قالت: فأوقفت الرحى، قال نبينا عليه الصلاة والسلام لو تركتها لبقيت تدور إلى يوم القيامة، أي تدور وتطحن، والله على كل شيء قدير.
فهذا العبد لم يعلم أن الله سيرزقه هذا الرزق، ولكنه بذل ما عليه، وأخذ بالأسباب المؤدية إلى مثل هذه الخوارق، فرزقه الله هذا الرزق (وما من دابة إلا على الله رزقها) ، فخلقنا الله لنعبده وتكفل برزقنا.
فنقول: هذا الرجل جاء ولم يجد رزقاً، فلم يقصر أيضاً في العمل بالأسباب وطلب الرزق والبحث عنه والله يقول (فامشوا في مناكبها) ، فإذا مشيت وبذلت ما في وسعك ولم تحصل رزقاً فهل ستموت جوعاً؟
والله الذي لا إله إلا هو، الذي كان يرزق مريم وهي في محرابها سيرزقك ولا شك في ذلك (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً، قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) .
لكن هذا كله يحتاج إلى تحقيق الإيمان قولاً وعملاً.(7/71)
كان دجاجلة البطائحية من الصوفية المخرفين الذين ينتسبون إلى الرفاعية، في عهد الإمام ابن تيمية يدخلون النار، فيشعوذون حيث كانوا يدخلون بحيل فيدهنون أبدانهم بزيت يسمى اللوزرينج – كما يذكر شيخ الإسلام – وهذه مادة عازلة، فإذا دهن بها الجسم وتعرض للنار فلا يتأثر.
فقال لهم الإمام ابن تيمية، إن ما يحصل لكم ليس بخارق للعادة، بل هذا شعوذة لذلك سأدخل الحمام وتدخلون الحمام ونغتسل بالماء الحار ثم لتوقد أعظم نار وأدخلها أنا وأنتم والكاذب منا يحرقه الله.
ووالله الذي لا إله إلا هو لو فعلها لأحرقهم الله ونجاه، كرامة له.
إن قيل: هل نزل عليه ملك؟
نقول: لا يشترط ذلك، فإنه قد صح الإيمان علماً وعملاً، اعتقاداً وفعلاً واحتاج لخرق العادة ليثبت كذبهم، فإنهم سيقولون له – أي لابن تيمية – نحن نفعل هذه الشعوذات – كما تزعم - ونحن على حق وأنت على باطل وضلال، فيقول لهم: بل أنتم على باطل، فيقولون فكيف إذن تحدث لنا هذه الخوارق؟ فيقول: هذه ليست بخوارق، وسأثبت لكم ذلك فلنغتسل في الحمام ثم لندخل أنفسنا في النار والكاذب منا يحرقه الله، فهنا سيخرق الله له العادة ويثبت كذبهم وباطلهم حتى لا يلتبس الحق والباطل على العوام من الناس.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ لن يخلف وعده (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين) وإذا كنا مؤمنين فلن يكون عندنا شك في هذا الإيمان العظيم، وأما بعد ذلك، فإذا فرطنا وأتينا من قبل أنفسنا – كما هو الحال فينا توكلنا على أعدائنا وعلى الذين غضب عليهم العزيز القهار – فكيف ننتظر خرق العادات وكيف ننتظر الإجابة إذا دعونا نسينا الله فنسينا (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم) ، وليس المقصود بنسي الله لنا غفلته عنا بل إهماله لنا فإن الله لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض.
قال الله لداوود عليه الصلاة والسلام: قل للظالم لم لا يذكرني فإنه إذا ذكرني سأذكره، لأنه يقول (فاذكروني أذكركم) وذكري إياه أن ألعنه.(7/72)
أي فهو إذا ذكرني ذكرته ولابد ولكن شتان شتان بين من يذكره الله بالرحمة والثناء عليه في الملأ الأعلى وبين من يذكره باللعنة.
فكل ذاكر سيذكره الله، فإن كان تقياً فيذكر بالرضا والقبول، وإن كان شقياً فيذكر بالطرد والإبعاد.
الحاصل أن الإنسان قد يعلم أنه ستخرق له العادة، يعلم ذلك إما بنزول ملك يراه هو ولا نراه نحن أو بإلهام يقع في قلبه يضطره إلى فعل هذا دون اختيار وقد لا يعلم، لكن بحسب الظاهر يقول أنا بذلت ما علي وأخذت بهذا الأمر؟؟ الإيمان وتصحيحه قولاً وعملاً، والباقي على الله فهو الذي تكفل بالنتيجة كما أن الإنسان يتزوج من أجل أن ينجب ذرية، فهذا بذل ما عليه وقد يرزق بذرية وقد لا يرزق.
عليك بذر الحب لا قَطْف الجني ... والله للساعين خير ضمين
وهو الذي (لا يضيع أجر من أحسن عملا)
فأنت هنا عليك أن تسير على المسلك الشرعي فإذا لزمك خارق للعادة، سيخرق الله هذا ولابد، وهو على كل شيء قدير.
المبحث الثالث
أكم مرة وقع فيها الإسراء والمعراج:
الإسراء والمعراج لهما حالتان:
الحالة الأولي: حالة وقوعهما في اليقظة، فلم يقعا إلا مرة واحدة قبل الهجرة، وسيأتي تحديد وقت حصولهما.
وقد حكى الإمام بن حجر في فتح الباري (7/203) في هذه المسألة عشرة أقوال في تكرر الإسراء والمعراج – والمعتمد فيها – أن إسراء ومعراج اليقظة بنبينا عليه الصلاة والسلام كان مرة واحدة.(7/73)
قال الإمام ابن القيم في زاد المعاد في هدي خير العباد: "والعجب ممن يدعي ويزعم تعدد الإسراء والمعراج في اليقظة فكيف سيحمل التعدد على فرضية الصلاة " فقد فرضت الصلاة ليلة المعراج وكانت خمسين فخفضت إلى خمس عندما كان يتلقى هذا من الله وينزل على نبي الله موسى عليه السلام – وسيأتينا هذا في الآيات التي رآها في السماء وما حصل له من عجائب – فإذا قلنا إن حادث الإسراء والمعراج قد تكرر إذن نعيد المسألة في كل حادث كانت خمسين وترجع إلى خمس وترجع إلى خمس فهذا لا يمكن أن يقع ويحصل، فإسراء ومعراج اليقظة هذا وقع مرة واحدة.
الحالة الثانية: حالة وقوعهما في المنام بروح نبينا عليه الصلاة والسلام فلا مانع من تكرارها، أي أن يسرى بروحه فتذهب روحه إلى بيت المقدس وهو نائم ويعرج بروحه إلى السماء وهو نائم، فلا مانع من تعدده ولو وقع ألف مرة.
والإمام النووي في فتاويه المشهورة – وهو كتاب مطبوع في 300 صفحة تقريباً – ذهب في هذه الفتاوى إلى أن الإسراء والمعراج وقعا مرتين لنبينا عليه الصلاة والسلام مرة في المنام ومرة في اليقظة.
وذهب بعض الأئمة كالمهلب – كما حكى هذا الحافظ في الفتح – وذهب إليه الإمام ابن العربي والإمام السهيلي وأبو نصر عبد الرحيم القشيري وغيرهم: إلى أن الإسراء والمعراج في المنام تكرر فوقع قبل الهجرة ووقع بعدها، فاختلفوا في عدد المرات في المنام، أما في اليقظة بروحه وجسده فلم تقع إلا مرة واحدة.
نعم التبس الأمر على بعض رواة الحديث عندما أخبرهم نبينا عليه الصلاة والسلام أنه عرج به وأسريَ به في غير اليقظة فظنوا أن ذلك الإسراء والمعراج حصل في اليقظة مع أنه حصل في المنام فلا مانع كما قلنا أن يعرج به وبغيره عليه الصلاة والسلام، أو يسرى به وبغيره عليه الصلاة والسلام في المنام لا في اليقظة.(7/74)
إذا فقد ذهب الإمام النووي إلى وقوعها مرة في المنام وذهب غيره إلى أنها حصلت أكثر من مرة، فوقع قبل الهجرة وبعدها والذين قالوا أنه وقع قبل الهجرة قالوا وقع قبل أن يسرى به ويعرج في اليقظة فأسري وعرج بروحه ليكون توطئة لإسراء ومعراج الجسد بعد ذلك، ثم بعد أن هاجر أسري وعرج بروحه وهو نائم ليكون بمثابة التشويق وتذكرة بالنعمة التي حصلت له قبل هجرته.
أمتى حصلا ووقعا لنبينا عليه الصلاة والسلام؟
ذهب الإمام الزهري – من أئمة التابعين – ولكلامه هذا حكم الرفع المرسل إلى أن الإسراء والمعراج حصلا ووقعا قبل الهجرة بسنة.
وذهب الإمام ابن سعد في الطبقات الكبرى إلى أنه وقع قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا قلت: ولا تعارض بين القولين فيما يظهر لي والعلم عند الله، فمن قال عرج به وأسرى قبل الهجرة بسنة ألغى الكسر وأخبر عن العدد الصحيح ومن قال عرج به وأسرى قبل الهجرة بثمانية عشر شهراً (سنة ونصف) أخبر عن حقيقة ما وقع وأثبت الكسر، فالإسراء والمعراج إذن وقعا قبل الهجرة بسنة ونصف.
جـ- لم وقعا في ذلك الوقت؟ (الحكمة من وقوعها في ذلك الوقت) :
في العام العاشر للبعثة لا للهجرة حدث أمران عظيمان في حياة نبينا عليه الصلاة والسلام كان لهما أثر كبير وهما:
أولهما: موت زوجه خديجة، وخديجة هي أفضل نساء هذه الأمة على المعتمد وقيل فاطمة ابنتها، وقيل أمنا عائشة، وذهب بعض العلماء إلى أن كل واحدة منهن فيها فضيلة ومزية لا توجد في الأخرى، لكن أمنا خديجة رضي الله عنها لها منزلة عظيمة في قلب النبي عليه الصلاة والسلام، فهي أول من آمن به من النساء، نصرته وواسته وأعانته بمالها، رزقها الله منها الأولاد وكانت نعم الزوج رضي الله عنها، فمن كان يبث إليه سره ويأنس في خلوته ذهب ومات.(7/75)
ثانيهما: موت عمه أبي طالب بعد شهر وخمسة أيام، وأبو طالب كان مشركاً وكافراً ولم يؤمن بالنبي عليه الصلاة والسلام (1)
__________
(1) ثبت في صحيح مسلم عن نبينا عليه الصلاة والسلام [أنه قيل له عمك أبو طالب كان ينصرك ويحميك ويدافع عنك هل نفعه ذلك عند الله؟ فقال: لا، إلا أنه كان في غمرات من نار جهنم فأخذته فوضع في ضحضاح من نار جهنم وضع في أخمصي رجليه جمرتان من نار جهنم يغلي منهما دماغه وإنه لأهون أهل النار عذاباً ويرى نفسه أشد أهل النار عذاباً.]
[ولما احتضر جاءه النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله وكان عنده أبو جهل وأضرابه، فقالوا: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فكان آخر ما قاله أنه على ملة عبد المطلب]
وثبت في النسائي [أن علياً رضي الله عنه جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال يا رسول الله إن عمك وهو والد علي - عمك الشيخ الضال قد مات، قال: اذهب فوار أباك] أي ادفنه من غير تغسيل ولا صلاة فهذا مشرك.
فنزل قول الله لما قال النبي عليه الصلاة والسلام بعمه بعد أن مات – لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك (ما كان للني والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا ذوي قربي من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) لكن مع ذلك فجهده ما ضاع فهو أهون أهل النار عذاباً، وهذا من الشفاعات الخاصة لنبينا عليه الصلاة والسلام لأن الكفار كما قال الله تعالى فيهم (لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون) .
ولا يدخل الجنة لأنه كافر والله حرم الجنة على الكافرين.
عند الشيعة فقط أبو طالب أفضل من أبي بكر فأبو طالب في الجنة وأبو بكر في النار، قالوا كيف يكون والد علي كافراً؟ أقول فكيف يكون والد إبراهيم الخليل كافراً.
الشيعة جعلوا حب آل البيت ستاراً وهم زنادقة فلا يؤمنون بدين ولا يدخلون في الإسلام رغبة ولا رهبة إنما كيداً للإسلام وكيداً لأهله ولكن لابد من شيء يستترون به وهو حب آل البيت فهذه ستارة وإلا فما علي عندهم بأحسن من أبي بكر، وقالوا كلاماً لو ثبت لكان علي أحسن من أبي بكر عندهم وحاشاهم جميعاً من ذلك.
يقال لهم كيف زوج على ابنته لعمر – وهو عندهم كافر – أجابوا بجوابين:
- ... متقدمهم: من باب التقية ليرفع عن نفسه ضرر عمر.
- ... متأخرهم زف إليه جنية بصورة أم كلثوم بنت فاطمة.
قال جعفر الصادق يقولون التقية وينتمون يأتي كذبوا دين آل البيت التقوى لا التقية التقية دين اليهود.(7/76)
لكن له صلة عظيمة بنبينا عليه صلوات الله وسلامه من سائر أعمامه فعمه العباس لم يكن مؤمناً في ذلك الوقت ثم آمن فيما بعد، وعمه أبو لهب لم يكن مؤمناً وما آمن وكان يؤذي النبي عليه الصلاة والسلام والعباس لم يكن له من المكانة في قومه كما لأبي طالب، فأبو طالب هو الذي ورث مكانة عبد المطلب وصار سيد قريش، فكانت له كلمة نافذة فما استطاع سفيه في مكة أن يمد يده أو يلوح بأصبعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مدة حياة أبي طالب وهو الذي كان يقول له: "والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفيناً" وكانت قريش تهاب أبا طالب وتخاف سطوته ويخشون إذا آذوا النبي عليه الصلاة والسلام أن يثأر أبو طالب لابن أخيه من باب الحمية، فكانوا ينكفون عن أذى النبي عليه الصلاة والسلام ولذلك غاية ما وقع قبل العام العاشر للبعثة أذىً على أصحابه ولم يقع عليه أذىً عليه صلوات الله وسلامه، فلما مات عمه أبو طالب اشتد أذى المشركين على أصحابه بل وعلى النبي عليه الصلاة والسلام ووصل الأمر إلى أنهم أخذوا الجزور وهي الكرشة التي فيها الفرث والزبل – وطرحوها على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم بجوار الكعبة فإذن اشتد عليه الأذى وكثر بعد موت عمه أبي طالب، وصار يلاقي أذىً شديداً خارج البيت وإذا عاد إلى البيت فليس هناك من يؤنسه ويزيل همومه، فاشتد به الأذى وضاقت عليه الأرض بما رحبت في ذلك الوقت، في العام العاشر للبعثة الذي سمي بعام الحزن، فخرج النبي عليه الصلاة والسلام من شدة الكرب الذي لحقه من المشركين إلى الطائف يلتمس نصرة من ثقيف، فكانوا أخبث من عتاة قريش وأهل مكة.
فردوا عليه أقبح رد أما بعضهم فيقول: أما وجد الله رسولا ً غيرك ليرسله؟
والآخر يقول: والله لو كُنْتَ رسولاً لأمزقن ثياب الكعبة!(7/77)
ثم ما اقتصر الأمر على أذى اللسان، بل أغروا به السفهاء وبدأوا يقذفونه بالحجارة حتى أدموا عقبيه عليه صلوات الله وسلامه ومعه مولاه زيد بن حارثة يقيه هذه الحجارة فتارة يكون أمامه وتارة وراءه وتارة عن يمينه وتارة عن شماله، والحجارة تأتيه من قبل السفهاء من كل جهة.
إذن فكان الأمر في منتهى الكرب والشدة، فلجأ بعد خروجه من الطائف إلى بستان عنب ولجأ إلى الله جل وعلا بالدعاء وقال الدعاء الذي رواه الطبراني وذكره الإمام محمد بن إسحاق في المغازي والطبراني رواه عن محمد بن إسحاق أيضاً وهو مدلس وقد عنن الحديث فهو من ناحية الإسناد في الظاهر فيه ضعف لكن المعنى حق وثابت، وهو حقيقة مع ضعف الإسناد فيه إلا أن الناظر فيه يرى عليه نور النبوة، قال: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلي بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك (.
فغار الله لنبينا عليه الصلاة والسلام وأرسل له ملك الجبال وقال: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين – الجبلين – وأريحك منهم حتى كأنه لا يوجد شيء اسمه قريش على وجه الأرض، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا، أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله (فهذا هو الرؤوف الرحيم عليه صلوات الله وسلامه.
إذن اشتد عليه الأذى في العام العاشر للبعثة، وأخذ فترة طويلة والنبي عليه الصلاة والسلام يصبر والهجرة كانت في العام الثالث عشر للبعثة فهل يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما لاقاه من إيذاء وشدة بلا حادث جليل يرضيه ويأنسه؟ هذا مستبعد!!
لذلك فقد حصل له صلوات الله وسلامه عليه بعد عودته من الطائف أمرين وحادثتين:(7/78)
الحادث الأول: قبل أن يدخل إلى مكة عندما وصل إلى نخلة، وهي على الطريق القديم لمكة ويسمى طريق السيل حديث كان يسلكه المسلمون، والمعرب في الجاهلية لسهولته ويقع على ميقات أهل نجد قرن المنازل، ويقال له قرن المنازل على بعد 70 كيلومتر من مكة، وطريق السيل هذا طوله من الطائف إلى مكة 120 كيلومتر، وهناك طريق آخر جديد يسمى طريق الهدا وهو طريق جبلي شق حديثا وطوله إلى مكة قرابة 80 كيلومتر، والشاهد أنه لما وصل إلى نخلة وهي تبعد قرابة 4 كيلومتر عن مكة المكرمة – أكبر الله عليه بأعظم أمر وأكرم الجن برؤية نبينا الكريم عليه صلوات الله وسلامه فصرف له نفراً من الجن يستمعون قراءته وآمنوا به في نخلة: (وإذا صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضى ولو إلى قومهم منذرين) ، وفي هذا تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم وبشارة، فكأنما الله تعالى يقول له: اصبر إن جهل عليك البشر، فالجن – الذين لا تستبعد من طبيعتهم الجهالة والعثرة – انظر كيف عرفوا قدرك وآمنوا بك واستمعوا لقراءتك فعما قريب سأفتك قلوب البشر لدعوتك.
فإذن هذه بشارة حصلت له بعد الأذى الذي حصل له من البشر جاء الجن واستمعوا لقراءته وآمنوا به (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فأمنا به ولن نشرك بربنا أحداً) والله تعالى أنزل سورة كاملة سماها باسم هذه الحادثة فسميت سورة (الجن) .(7/79)
الحادث الثاني: بعد أن دخل مكة عليه الصلاة والسلام واطمأن فيها بعض الوقت أكرمه الله بحادثة الإسراء والمعراج، وكأن الله تعالى يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: أعلم أنه لا يوجد من قبلنا غضب عليك، فإذا جهل عليك البشر فليس هذا لغضب منا عليك فمكانتك عندنا عظيمة جليلة، أعطيناك ما لم نعط أحداً من العالمين، فيسرى بك إلى بين المقدس، ثم نقدمك على أفضل خلق الله وهم الأنبياء والمرسلون في بيت المقدس فيجمع لك الأنبياء وعددهم (124.000) فجمعوا كلهم في بيت المقدس كما سيأتينا في الآيات التي رآها في بيت المقدس، الأنبياء كلهم من آدم إلى عيسى عليهم صلوات الله وسلامه كلهم يجتمعون ويتقدمهم نبينا عليه الصلاة والسلام ويصلي بهم ركعتين ويلقي كل واحد خطبة – كما سيأتينا – ويتحدثون بما من الله به عليهم فيختم الخطب نبينا عليه الصلاة والسلام ويتحدث بما من الله به عليه، فيقول خليل الرحمن إبراهيم: بهذا فضلكم محمد، وعليه صلوات الله وسلامه.
إذن أفضل خلق الله أنبياء الله ورسله أنت تتقدم عليهم ويتبركون برؤيتك وأنت إمامهم ويظهر فضلك عليهم، وفي هذا كله تأنيس لقلبه عليه صلوات الله وسلامه وتطمين وتثبيت عظيم ثم ما هو أعلي من هذا حيث رفعك في السماء، فكما قدمناك عليهم في الأرض نرفعك عليهم في السماء فإذا كان أرفع واحد فيهم وهو إبراهيم في السماء السابعة ودونه الكليم موسي في السماء السادسة فأنت ترفع إلى ما هو أعلي من ذلك، بل جبريل علي نبينا عليه صلوات الله وسلامه عندما يرتفع بعد السماء السابعة يقف ويقول لنبينا عليه الصلاة والسلام: تقدم، ولو تقدمت لحظة لاحترقت، وما منا إلا له مقام معلوم، ثم يعرج نبينا عليه الصلاة والسلام – كما تقدم معنا – إلى مستوي سمع فيه صريف الأقلام وماذا يسطر في لوح الرحمن، ثم ناجاه ربه وكلمه، وحصلت له الرؤية النظرية أم القلبية؟ سنتحدث في هذه عند مبحث الآيات التي رآها فوق السموات.(7/80)
فهذه الآيات العظيمة التي رآها لتدل على عظيم رضوان الله عليه، فكأن الله تعالي يقول له: (لا تحزن إلا جهل عليك السفهاء، فهذا قدرك عند الأتقياء وعند الفضلاء وعند رب الأرض والسماء، والملائكة تتبرك برؤيتك، وأنبياء الله ورسله يفرحون بلقائك، والله جل وعلا يدعوك لجنابه الأعلى، فمن هؤلاء البشر إذا جهلوا عليك؟)
إذا أهل الكرام يكرموني ... فلا أرجو الهوان من اللئام
والرجاء من الأصداد فيأتي بمعني الأمل ويأتي بمعني الخوف والوجل وهنا بمعني الخوف، أي فلا أخاف الهوان من اللئام.
فاللئيم إذا أهانك والكريم إذا أكرمك فلا تبالي بإهانة اللئيم، لكن لو أن الكريم أهانك وأبغضك وتغير قلبه عليك وعبس في وجهك فحقيقة لا يلذ لك طعم الحياة، وتقول: إذن أبغضني الله عندما أذاني الكرام، وعندما تغير قلبهم علي، لكن الواقع أن اللئام هم الذين آذوك ولذلك السفهاء، فهذا مما يدل على عظيم قدرة الله جل وعلا وهنا لئام يؤذونك، وكلام يتبركون برؤيتك.
ونشير هنا إلى أنه: بالإجماع يتبرك بنبينا عليه الصلاة والسلام بجسده الشريف، وبفضلاته ببصاقه ومخاطه، وبشعره وبملابسه وبأثاثه، بلا خلاف بين أهل السنة وإذا حصل الإنسان شعره من شعر النبي عليه الصلاة والسلام وقبلها ومرغ خده عليها فهنيئا له هنيئا، فالتبرك بآثاره جائز بالاتفاق، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي يوزع أحيانا شعره على الصحابة، كما حصل هذا في الحديبية، وأخذ أنس بعض الشعرات وأوصي أن توضع تحت لسانه بعد موته – ووضعت – من أجل أن يسدده الله عند سؤال الملكين.(7/81)
وكأنه بعد حصول هذه المميزات لنبينا عليه الصلاة والسلام يقول له برنا: ليس في إيذاء السفهاء لك منقصة، وليس في ذلك غضب عليك، فاعلم هذا وقم بالدعوة بجد ونشاط وحذار حذار أن تسير مع الميول البشرية والطبيعة الإنسانية فتقول ضاقت علي الأرض بما رحبت قومي آذوني وكثر صبري عليهم مع ما حصلت منهم من الأعراض، ذهبت إلى الطائف فقابلوني أشنع مقابلة، وطبيعة البشر قد تخور وتضعف، فلا بد من تثبيت فأكلمه الله بالإسراء والمعراج وهذا في غاية التثبيت له عليه صلوات الله وسلامه وفعلا بعد هذه الحادثة كان نشاطه للدعوة أكثر وقام يدعو بجد ونشاط ولذلك في صبيحة اليوم التالي لليلة الإسراء والمعراج لقيه أبو جهل فقال: يا محمد، هل من خبر جديد؟ قال نعم: أسري بي هذه الليلة إلى بيت المقدس، وقال أو تستطيع أن تخبر قومك إذا دعوتهم؟ قال: نعم – فبين ثباته ولم يبال بأحد عليه صلوات الله وسلامه، فدعاهم أبو جهل وقال: اسمعوا ما يقول محمد، فقالوا: انعت لما بيت الله المقدس يقول نبينا عليه الصلاة والسلام: فكربت كربا شديدا، لم أكرب مثله قط لأنني ما أثبته – أي ما علمت أحوال بيت المقدس وكم فيه من نافذة وكم له من أبواب فكيف سأنعته لهم، - يقول: فأتي جبريل ببيت المقدس فوضعه عند دار عقيل بن أبي طالب، وأنا أنظر إليه فجعلت أنعته لهم باباً بابا وشباكاً شباكا.
فهذا هو حال النبي صلي الله عليه وسلام بعد ذلك الحادث العظيم، فقد صار عنده عزم وحماس للدعوة أكثر من الأول.
إخوتي الكرام ... حادثة الإسراء والمعراج وقعت بعد هذين الحادثين المريرين وفاة زوجة وعمه وكل منهما كان له مواقف خاصة مع نبينا عليه صلوات الله وسلامه، وإذا كان الأمر كذلك فإذن هنا حزن على وفاتهم ثم هنا حزن لمزيد الأذى بعد موتهما فكان لابد من تسلية لنبينا صلي الله عليه وسلم.(7/82)
ولذلك كان أئمتنا يقولون: من أقعدته نكاية اللئام، أقامته إعانة الكرام، لئام يؤذونك ويقعدونك عن دعوتك ويثبطونك، فلابد من معين ومساعد يشد أزرك ويقويك وهم الكرام، لكن البلية في عصرنا أن اللئام كثر، فهم يقعدونك ويؤذونك ولا تجد كريما تأوي إليه إلا من رحم الله.
إخوتي الكرام ... الصحابة رضوان الله عليهم عندما اشتد عليهم أذى المشركين بمكة أشار عليهم النبي عليه الصلاة والسلام أن يهاجروا إلى الحبشة وقال: هناك رجل عادل لا يظلم عنده أحد فاذهبوا إليه لعل الله أن يجعل عنده فرجا ومخرجا.
وبالفعل حصل ما تمناه النبي صلي الله عليه وسلم حتى أنهم لم يعودوا إلى مكة بل ما عادوا إلى مكة إلا لما هاجر النبي صلي الله عليه وسلم إلى المدينة فلحقوه هناك.
س: لكن هل تركهم المشركون يهاجرون إلى الحبشة دون أن يلاحقوهم؟
جـ: لا بل أرسلوا عمر بن العاص وكان مشركا يومها – وعبد الله بن أبي ربيعة في طلبهم ومعهم الهدايا والقصة طويلة وردت في حديث طويل رواه الإمام أحمد في المسند وأخذ فيه ثلاث صفحات عن أمنا أم سلمة رضي الله عنها لأنها كانت من جملة المهاجرات إلى الحبشة، والحديث إسناده صحيح.
وحول السند: (1/201-203) ، (5/210-292)(7/83)
قلنا أنه لما اشتد أذي المشركين علي الصحابة رضوان الله عليهم أمرهم النبي صلي الله عليه وسلم بأن يذهبوا ويهاجروا إلى الحبشة، فطالب المشركين بإعادتهم وقال البطارقة الذين كانوا في مجلس النجاشي صدقوا أيها ال؟؟ الملك أرسلهم دون أن تسمع كلامهم فقومهم أعلم بهم وقد كانوا يعلمون أن أصعب شيء عليهم أن يسمع النجاشي أصخمة كلامهم لأنه عاقل، وإذا كان عاقلا وسمع كلامهم سيقضى بالحق وبالتالي لن يسلم هؤلاء لعتاة قريش وسيحسن ضيافتهم ويكرمهم، وفكان أقبح شيء على هذا الوفد بمشورة العتاة في مكة شيء أن يستدعي النجاشي أصمخة هؤلاء الثلة الذين كانوا بضعا وسبعين ما بين رجل وامرأة رضي الله عنهم أجمعين فكان أشنع شيء عليهم أن يستدعيهم ويسمع كلامهم، فلما قال البطارقة: صدقوا أرسلهم، قال: لا، والله قوم لجأوا إلى واختاروني على من سواي كيف أطردهم قبل أن أسمع كلامهم، فإذا كان ما يقول هؤلاء حقا من أنهم مفسدون وخائبون ومخربون سلمتهم إليهم، وإذا لم يكونوا كذلك فلا أطردهم ما رغبوا في جواري.
فاستدعاهم فقال لهم: ما هذا الدين الذي فارقتم به دين قومكم ولم تدخلوا في ديني، وكان هو على النصرانية – قالوا والذي تولي الإجابة هو جعفر بن أبي طالب ابن عم النبي صلي الله عليه وسلم: أيها الملك كفاني جاهلية وشر، نعبد الأصنام ونأكل الميتة والجيف ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي فينا الضعيف فبعث الله فينا رسولا منا نعرف صدقه ونسبه، فدعانا إلى عبادة الله وحده لا شريك له ويأمرنا أن ننبذ ما كان يعبد آباؤنا من الأصنام، وأمرنا بالصلاة وصدق الحديث وصلة الأرحام فآمنا به وصدقناه، فغدا علينا قومنا وآذونا فلجأنا إليك واخترناك على من سواك. فقال لهم: إن كنتم كذلك فلكم الأمر في بلادي.(7/84)
وفي اليوم الثاني قال عمر بن العاص لعبد الله بن أبي ربيعة، لأذهبن إلى الملك ولأوغرن صدره عليهم، ولأحرضنه عليهم ولأقولن له إنهم يقولون في عيسي قولا عظيما، وهو أنه عبد الله ورسوله، لأن النصارى يقولون هو ابن الله، ولأبيدن خضراءهم بهذا الكلام، وكان عبد الله بن أبي ربيعة وهو على شركه فيه رحمة فقال: رفق بهم فإنهم أبناء العم والعشيرة، فقال بل لابد.
فذهب إلى الملك وقال: أيها الملك إنهم يقولون في عيسي قولا عظيما، فاستدعاهم فقالوا لجعفر ماذا نقول؟ قال ما نقول إلا ما علمنا نبينا عليه الصلاة والسلام وليكن ما هو كائن. فقال لهم النجاشي: ماذا تقولون في عيسي؟ قالوا: ما نقول إلا ما علمنا نبينا عليه الصلاة والسلام فتلا عليهم صدر صورة مريم فلما وصل إلى قول الله (ذلك عيس بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون، وما كان الله أين يتخذ ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم) .
وانتبه لموقفهم هذا فلا يعني هروبنا وفرارنا من بلدة إلى بلدة فرارا بديننا أن نتنازل عن ديننا وقيمنا بل الواجب أن نثبت عليها كما خرجنا وفررنا بسببها إلى أن نلقي الله وهو راض عنا إذ لا يعقل أن تهاجر وتقاتل من أجل مبدأ ثم لما تغير بلدك تتنازل عن هذا المبدأ الذي هاجرت بسببه.(7/85)
إذن فتلا عليه هذه الآيات ولما قال: (ما كان الله أن يتخذ ولد) نخر البطارقة، ولما قال عيسي في السورة (قال: إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا، وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا) فقال النجاشي: وإن نخرتم؟ وبكي حتى اخضلت لحيته من دموع عينيه ثم أخذ عودة صغيرة من أرض وقال والله ما زاد علي وصف عيسي بمقدار هذه، فهذا هو وصف عيسي هو عبد الله ورسوله وليس هو بثالث ثلاثة وليس هو ابن الله جل وعلا، ثم قال لجعفر ولمن معه: أنتم سيوم أنتم سيوم – والسيوم في لغة الحبشة الأحرار أي مثل الغنم السائمة تمشي وترعي أينما تريد، ولذلك الغنم إذا كانت سائمة فيها زكاة وإذا كانت تعلف فليس فيها زكاة – من سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، والله ما أحب أن لي دبرا من ذهب، والدبر هو الجبل العظيم الكبير بلغة الحبشة – وأن أحداً منكم يؤذي هذا العبد الصالح النجاشي أصمخة لما مات صلي عليه نبينا عليه الصلاة والسلام صلاة الغائب كما في الصحيحين.
وقد ثبت في سند أبي داوود في كتاب الجهاد، باب النور يري على قبر الشهيد، قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: [كنا نتحدث أنه لا يزال يري على قبر النجاشي نور بعد موته (وفي الحقيقة فإنه يستحق هذا الإكرام من ربنا الرحمن.
فأولا: اعتقد اعتقاد الحق.
وثانيا: بذل ما في إمكانه حسبما وسعه في ذلك الوقت فالرسول صلي الله عليه وسلم في ذلك الوقت في مكة ولا يمكن الهجرة إليه.
وثالثا: نصر هؤلاء المؤمنين، فقال بما في وسعه وهو إن شاء الله في عداد المؤمنين الموحدين، فهذا هو النجاشي العبد الصالح ولا مثيل له في عصرنا.
فتن لكن لا يوجد نجاشي، لئام فاضت الأرض بهم فيضا لكن لا يوجد ما يقابلهم من الكرام بحيث إذا ذهب الإنسان إليهم يجد النصر.(7/86)
هذا فيقال رؤيته لهم في بيت المقدس لا يلزم أن تكون بنفس الصورة التي تكون في السماء يضاف إلى هذا أنه اجتمع بـ (124.000) نبي في لحظات من ليل، فكيف سيتمكن من أن يحفظ أشكالهم ويتثبت من صورهم، كما هو الحال في بيت المقدس عندما قال له المشركون انعته لنا، مع أنه رآه فالرؤية لا يلزم منها العلم بالمرئي على وجه التمام، والإحاطة به بحيث لو رآه مرة ثانية يقول هذا هو فلان لأنه جم غفير التقي بهم في لحظات، والعلم عن الله.
الحكمة السادسة: لأن لبيت المقدس من تلك الجهة المصعد إلى السماء، أي باب السماء الذي يفتح يكون بحيال بيت المقدس.
قال الحافظ بن حجر: والذي يظهر ضعف هذا لأن باب السموات الذي يفتح وينزل منه الملائكة يكون حيال الكعبة وفي وجهتها وسمتها لأعلي جهة بيت المقدس.
الحكمة السابعة: وقلنا نقلها عن ابن أبي جمرة، قال: ليظهر الله الحق، عند من يريد إخماده ووجه هذا: لو أن النبي عليه الصلاة والسلام أخبرهم أنه عرج به إلى السموات العلا، ورأي في السموات ما رأي لقالوا له كذاب، وما عنده قرينة تدل على صدقه ولا على كذبه فلا يستطيع أن يثبت لهم صدقه، لكن عندما قال لهم أسري بي إلى بيت المقدس قالوا: كذاب قال: يا جماعة أنا تحققت من ذلك وتأكدت، قالوا: انعته لنا، فلما وصف لهم بيت المقدس الذي رأوه بأعينهم ظهر لهم الحق وقد حاولوا إخماده، أما السموات فلم يروها ولو قالوا له انعتها لنا، فسينعتها بشيء لا يعلموه، أما بيت المقدس فظهر الحق لهم عندما نعته لهم فظهر الحق عند من يريد أن يخمده ويبطله.(7/87)
الحكمة الثالثة: تظهر في وما ذكرها الحافظ ابن حجر رحمه الله – واعلم عند الله – وهي أ، هـ أسري بنبينا عليه الصلاة والسلام إلى بيت المقدس ثم عرج به إلى السموات العلي ليرتقي من كمال إلى كمال. فنقله إلى الكمال الأرضي وهو الاجتماع بالأنبياء وإظهار تقديمه عليهم وفضله عليهم، ثم نقله إلى ما هو أعلي من ذلك وهو العروج به إلى السموات العلا والالتقاء برب العالمين، فنقل من كمال إلي كمال أسري به ثم عرج ولو حصل العكس لم يكن في رؤيته الأنبياء فائدة معتبرة لأن أعلي الكمال حصل له وهو الاجتماع برب العالمين ولقاؤه.
المبحث الرابع:
الآيات التي رآها خير البريات عليه صلوات الله وسلامه في حادثة الإسراء والمعراج:
وتنقسم هذه الآيات إلى أربعة أقسام (لنريه من آياتنا الكبري) :
القسم الأول: آيات عظيمة رآها وحصلت له قبل البدء برحلة الإسراء والمعراج.
القسم الثاني: آيات أرضية رآها عندما أسري به إلى بيت المقدس.
القسم الثالث: آيات سماوية رآها عندما عرج به إلى السموات العلا.
القسم الرابع: آيات عظيمة حصلت له بعد رقي السموات.
وسنفصل الكلام في هذه الآيات الأربع إن شاء الله تعالي.
القسم الأول:
الآيات التي حصلت له قبل البدي برحلة الإسراء والمعراج: حصلت له حادثة عظيمة وهي حادثة شق صدر نبينا عليه الصلاة والسلام.(7/88)
ثبت في الصحيحين من حديث أنس عن أبي ذر، ومن حديث أنس عن النبي عليه الصلاة والسلام ومن حديث مالك بن صعصعة، وثبت في المسند من حديث أنس عن أبي بن كعب - فالحديث عن أربعة من الصحابة – وفيه يقول النبي صلي الله عليه وسلم: (فرج سقف بيتي فنول ملكان وأخذاني وأضجعاني وشقا ما بين ثغرة نحري – هي المكان المنخفض الذي يكون بين الترقوتين في أصل الرقبة – إلى شعرتي – أي مكان منبت العانة – وأخرجا قلبي فغسلاه في طست – بكسر الطاء وفتحها وإثبات التاء وضمها وهو الطشت المعروف الآن – من ذهب فغسلاه بماء زمزم ثم حشيا قلبي وصدري – وفي رواية (حشيا صدري ولغاديدي) أي عروق رقبتي – إيمانا وحكمة (.
هذا حصل له قبل حادثة الإسراء والمعراج: سق صدره، واستخرج قلبه، وضع في طشت من ذهب، غسل بماء زمزم، ثم حشئ قلبه وصدره، ولغاديده أي جميع عروقه ومناخذه حشي إيمانا وحكمة ثم التأم صدره عليه صلوات الله وسلامه.
قال الحافظ ابن حجر: "شق سقف البيت من قبل الملكين فيه إشارة إلى أن صدر نبينا عليه الصلاة والسلام سينشق ويلتئم دون حصول أثر فيه كما التأم هذا السقف بعد ذلك"، ونحن في عصورنا لو شق جزء من الإنسان وأعيدت خياطته لبقي أثر الشق، بل يقول الأطباء إنه إذا شق بطن الإنسان فإنه لا يعود إلى طبيعته الأولى مهما كتب له من شفاء وعافية، ويبقى معرضاً للفتق فتراه يمنع من حمل الشيء الثقيل حتى لا تتفتق خياطة هذا كله مع تقدم العلم، وهو في شأن نبينا عليه الصلاة والسلام معجزة.
قال الإمام ابن حجر في الفتح: واختير الطست من ذهب ليتناسب هذا الطست مع مكانة نبينا عليه الصلاة والسلام والكرامات التي تحصل له، فهو من أواني الجنة، والنبي صلى الله عليه وسلم صائر إليها بل محرمة على غيره ولا تفتح لأحد قبله.(7/89)
الأمر الثاني: الذهب لا يأكله التراب ولا يظهر عليه صدىً ونبينا عليه الصلاة والسلام كذلك بدنه لا تأكله التراب، ولا يعتريه تغير وهو يوم يبعث كحاله يوم دفن عليه صلوات الله وسلامه، والله حرم على الأرض أجساد الأنبياء كما ثبت في السنة بإسناد صحيح (إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء (.
الأمر الثالث من الحكم في اختيار الطست من الذهب: أن الذهب هو أثقل المعادن في الوزن النوعي فلو وزنت قطعة (ذهب 5سم × 5سم) لقلت على قطعة (حديد 5 سم × 5سم) ، فإذن الذهب أثقل المعادن وزناً ونبينا عليه الصلاة والسلام أثقل الخلق وزناً وقدرة، ووزن بالأمة كلها فرجح عليه صلوات الله وسلامه وهو أكرم الخلق على الله وأفضلهم عنده.
الأمر الرابع: أن في لفظ الذهب تفاؤل بإذهاب الرجس عن نبينا عليه الصلاة والسلام وتطهيره تطهيراً، وهذا ما حصل له عندما استخرج منه حظ الشيطان وغسل قلبه بماء زمزم.
الأمر الخامس: أن في لون الذهب تفاؤل بحصول النظرة والبهجة لنبينا عليه الصلاة والسلام ودعوته وإشراق نوره في العالمين، وهذا الذي حصل.
الأمر السادس: أن الذهب أعز المعادن وأغلاها، وكذا نبينا عليه الصلاة والسلام أعز المخلوقات وأنفسها.
ولهذا كله غسل قلبه بطست من ذهب
وإنما غسل بماء زمزم لأن ماء زمزم هو أشرف الحياة وأصله نزل من الجنة وهو هزمة جبريل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه لأم إسماعيل عندما اشتد عليها العطش، والذي دلها على ذلك المكان وحفره جبريل بواسطة ضربة إسماعيل برجله، فإذن ماء مبارك من الجنة حفره جبريل للنبي المبارك إسماعيل الذي هو والد نبينا عليه الصلاة والسلام، وينتمي إليه، فهو ابن الذبيحين عليه صلوات الله وسلامه.(7/90)
وماء زمزم هو أشرف مياه الأرض وقد ثبت بإسناد حسن عن نبينا عليه الصلاة والسلام (ماء زمزم لما شرب له (وهو (طعام طعم وشفاء سقم (كما ثبت هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم، وكان كثير من الصالحين يتقوتون بماء زمزم فهو ماء وغذاء، ويمكث أربعين يوماً - كما يقول الإمام ابن القيم – لا يدخل شيء جوفه إلا ماء زمزم، وانظروا فضل ماء زمزم في كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد (4/392) وما لزمزم من خواص وآثار وهو يخبر عن نفسه أنه كان يمكث الأيام المتوالية ما يتغذى إلا بماء زمزم.
فهو إذن ماء مبارك ومن أجل هذا غسل قلب نبينا عليه الصلاة والسلام به.
قد يقول قائل: كيف غسل قلب النبي عليه الصلاة والسلام بطست من ذهب، والذهب محرم استعماله على الذكور والإناث؟
ذكر أئمتنا جوابين:
الأول: وهو ضعيف في نظري – وهو أنه كان قبل التحريم.
الثاني: وهو المعتمد أن هذه الحادثة من خوارق العادات وهي متعلقة بأمور الغيب وهي بأمر الآخرة ألصق منها وأقرب من أمر الدنيا، ولذلك لها أحكام الآخرة، فكما أننا في الآخرة نحلّى بأساور من ذهب (وحلوا أساور من ذهب) فحادثة الإسراء والمعراج لها أحكام الآخرة لا أحكام الدنيا، وهذه من باب خوارق العادات ولذلك لها حكم خاص خص الله به نبينا عليه الصلاة والسلام.
قال بن حجر: قوله (حشياه إيماناً وحكمة) فيه إشارة إلى أن الحكمة هي أفضل شيء بعد الإيمان، ورأس الحكمة خشية الرحمن، والحكمة باختصار: وضع كل شيء في موضعه فالعبادة توضع للمعبود بحق وهو الله جل وعلا فلا نصرفها لغيره فهذه حكمة، ومن عبد غير الله فهو سفيه سفه نفسه: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه) وهل هناك سفاهة أعظم من أن يصرف حق الخالق للمخلوق (إن الشرك لظلم عظيم) .
فالحكمة هي أعلي الفضائل بعد الإيمان ولذلك حشي قلب نبينا عليه الصلاة والسلام وصدره إيمانا وحكمة.(7/91)
قد يسأل سائل فيقول: كيف حشي إيمانا وحكمة، والإيمان والحكمة من الأشياء المعنوية؟
الجواب: يحتمل هذا أمرين:
الأمر الأول: أن تجسيد تلك المعاني إلى أشياء حسية، فالإيمان الذي هو معنىً جُسِّد في شيء حسي يعلمه الله ولا نعلمه، وأدخل في قلب نبينا عليه صلوات الله وسلامه، ومثله الحكمة ولهذا نظائر: فالموت أمر معنوي، وسيجسد يوم القيامة – كما ثبت في الصحيحين – في صورة كبش أملح ثم يوقف بين الجنة والنار ويذبح بينهما ويقال: يا أهل الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت.
والأعمال التي نقوم بها من طاعات ومعاص ٍ هذه معان ٍ أيضاً، وستجسد يوم القيامة كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام (كلمتان خفيفتان على اللسان حبيبتان إلى الرحمن ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم (متفق عليه، فإذن تجسد وتثقل الميزان فالطاعة تجسد وتوزن والمعصية تجسد وتوزن يوم القيامة، ولذلك قال أئمتنا: الذي يوزن يوم القيامة ثلاثة أشياء: الأعمال والعمال وصحف الأعمال.
الأعمال وإن كانت معان ٍ وأعراضاً يجسدها الله بكيفية يعلمها ولا نعلمها، والعمال وهم المكلفون، قال الله عن الكافرين (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً) ، ورِجْْلُ عبدِ الله بْن ِ مسعودٍ – كما ثبت في المسند – أثقل عند الله من جبل أحد، وصحف الأعمال كما هو في حديث البطاقة وغيره.
وقد تقع هذه الثلاثة لكل واحد وقد يقع بعضها لبعض الناس والعلم عند الله، لكن دلت النصوص الشرعية على أن الذي يوزن يوم القيامة الأعمال والعمال وصحف الأعمال.(7/92)
الشاهد الآن: أن الأعمال معان ٍ وأعراض يجسدها الله وتوزن، وكذلك هنا الإيمان معنىً لا يقوم بنفسه فجسد بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها وهذا من أمور الغيب التي نؤمن بها ولا نبحث في كيفيتها، وقد تقدم معنا في الدليل الثامن من أدلة الإسراء والمعراج أن كل ممكن ورد به السمع وجب الإيمان به، وتجسيد الأعمال والموت وغيرها من المعاني ممكن وليس بمستحيل وقد ورد به السمع فيجب الإيمان به.
الأمر الثاني: أن يكون الإيمان والحكمة قد مثلا بشيء ثم أدخل مثالهما الذي يدل عليهما ويعبر عنهما في قلب نبينا عليه الصلاة والسلام وصدره ولغاديده.
ولهذا نظير: عندما (كان نبينا عليه الصلاة والسلام يصلي صلاة الكسوف وتقدم ومد يده ثم تأخر وقال عرضت عليَّ الجنة والنار ومدت يدي لآخذ عنقوداً من عنب من عناقيد الجنة فلو أخذته لأكلتم منه إلى أن تقوم الساعة (والحديث في الصحيحين.
فهذا عن طريق التمثيل أم عن طريق التجسيد؟ بل هو عن طريق التمثيل، فمثل له شكل الجنة والنار في جدار القبلة عندما كان يصلي عليه صلوات الله عليه وسلامه.
فإما أنهما جسدا أو مثلا والعلم عند الله، أي ذلك وقع، فنؤمن بأنه قد حشي قلب نبينا عليه الصلاة والسلام إيماناً وحكمة.
قال أئمتنا: اشتملت هذه الحادثة على ما يدهش السامع فضلاً عن المشاهد فالسامع عندما يسمع هذه الأخبار يدهش، فكيف بنبينا عليه الصلاة والسلام الذي رأى هذا، ليعلم عظيم قدرة الله في نفسه وليتحقق من ذلك وليثبت قلبه في تبليغ دعوة الله على أتم وجه وأكلمه، لاسيما وقد حصل هذا بعد حوادث أليمة ومريرة مرت عليه كما قلنا من موت زوجه وعمه، واشتداد أذى المشركين عليه بعد ذلك عليه صلوات الله وسلامه، فانظروا إلى هذه العجائب كيف نفعلها ونحن على كل شيء قادرون.
إذن في بداية حادثة الإسراء والمعراج وقبل السير فيها شق صدر نبينا عليه الصلاة والسلام وقد شق الصدر الشريف لنبينا عليه الصلاة والسلام أربع مرات:(7/93)
المرة الأولى: عندما كان عمره عليه صلوات الله وسلامه سنتان وثلاثة أشهر، ثبت هذا في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم ومستدرك الحاكم عن أنس رضي الله عنه عندما كان نبينا عليه الصلاة والسلام مع الغلمان عند مرضعته حليمة جاءه ملكان وأضجعانه وشقا صدره وقالا: هذا حظ ُ الشيطان منك، فأخرجا علقة من قلبه فطرحاها ثم حشيا قلبه إيماناً وحكمة وانصرفوا، وقام النبي عليه الصلاة والسلام يلعب مع الصبيان، وذهب الذين كانوا معه إلى مرضعته حليمة وأخبروها الخبر فخشيت أن يكون هذا من قبل الجن ولذلك أرادت أن تعيده إلى أمه وعمه بعد ذلك.
المرة الثانية: عندما كان عمره عشر سنين، شق صدره عليه صلوات الله وسلامه، ثبت هذا في مسند الإمام أحمد (5/139) شق صدره عليه الصلاة والسلام وغسل قلبه مرة ثانية ومليء إيماناً وحكمة، والحديث رواه أيضاً أبو نُعيم في دلائل النبوة عن أبي بن كعب عن أبي هريرة (أنه كان جريئاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله، فسأله عن حادثة شق الصدر، وكيف حصلت له؟ فأخبره أنه كان في عمره عشر سنين – وانظروا يخبر عن هذا وكان يعي ويدرك في هذه السن [فأتاه ملكان وأضجعانه وشقا صدره.... (إلخ الحديث.
المرة الثالثة: عندما كان عمره أربعين سنة، في غار حراء، والحديث في ذلك صحيح رواه أبو نُعيم في دلائل النبوة ص (69) ، وذكره الحافظ في الفتح مقراً له، وهو في درجة الحسن على حسب اضطلاحه (1/460) و (13/481) عن أمنا عائشة رضي الله عنها: تخبر عن النبي عليه الصلاة والسلام (أنه عندما جاءه جبريل في غار حراء شق صدره وحشي قلبه إيماناً وحكمة (.
والمرة الرابعة: وهي التي معنا وكان عمره إحدى وخمسين سنة ونصف السنة، وقد قلنا إنها في الصحيحين والمسند عن أربعة من الصحابة.(7/94)
والمرة الأولى من هذه الحوادث لشق صدر نبينا عليه الصلاة والسلام انتزع فيها حظ ُّ الشيطان وأما ما بعدها فكان تهييئاً لقلبه لأن يتلقى ما سيرد عليه من واجبات وتكاليف. فالأولى من باب التخلية وما تبعها من باب التقوية والتحلية.
حادثة شق الصدر أشار إليها ربنا في كتابه في سورة (الانشراح) وتسمى سورة (الشرح) (ألم نشرح لك صدرك) والسورة مكية باتفاق المفسرين، وفيها يشير ربنا إلى الأمر العظيم الذي وقع له في مكة.
والاستفهام في الآية للتقرير، ومعناه: حمل المخاطب على الإقرار بأمر قد استقر عنده وعلمه وثبت لديه – فكأن الله يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام أقد شرحنا لك صدرك أي شققناه شقاً حسياً، وأنت رأيت هذا بعينيك.
وقد أرود الإمام الترمذي في كتاب التفسير عند سورة الانشراح حادثة شق صدر نبينا عليه الصلاة والسلام في تفسير هذه السورة، ليشير إلى أن المراد بالشرح شق صدره حساً عليه صلوات الله وسلامه.
وهكذا فعل الإمام الحاكم في مستدركه في كتاب التفسير عند تفسير سورة الانشراح فأورد حديث شق صدر نبينا عليه الصلاة والسلام، وشرح صدر نبينا عليه الصلاة والسلام شامل – في الحقيقة - لأمرين:
أشامل للشرح حساً، وهو ما وقع في هذه المرات الأربع.
ب وشامل للشرح معنىً، وهو تقوية قلبه لتحمل ما سينزل عليه ثم ليقوم بموجبه.
فحصل إذن الشرح الحسي والشرح المعنوي.
قال الإمام ابن كثير في تفسيره: شرح صدره حساًَ لا ينافي شرح صدره معنىً، فحصل الأمران عليه صلوات الله وسلامه.
وثبت في كتاب دلائل النبوة للبيهقي – لا لأبي نُعيم- (1/352) عن قتادة قال (ألم نشرح لك صدرك) المراد من ذلك الشق الحسي الذي حصل لنبينا عليه الصلاة والسلام.(7/95)
وقال الإمام أبو بكر بن العربي في كتابه أحكام القرآن عند تفسير سورة الانشراح (ألم نشرح لك صدرك) أي شرحاً حسياً وحقيقياً عندما كان عند ظئره – أي مرضعته – حليمة وعندما أسري به، فاقتصر على حادثتين من الحوادث الأربع التي وقعت لنبينا عليه الصلاة والسلام، ثم قال: وشرحنا لك صدرك معنىً عندما جمعنا لك التوحيد في صدرك وأنزلنا عليك القرآن، وعلمناك ما لم تكن تعلم وكان فضلنا عليك عظيماً، فحصل لك هذا وشرحنا لك صدرك عندما ألهمناك العمل بما أوحينا إليك وقويناك عليه.
ثم قال الإمام ابن العربي: وبهذا يحصل كمال الشرح وزوال التَّرَح – وهو الغم.
الحاصل أن سورة ألم نشرح لك تدل على حادثة شق الصدر التي حدثت لنبينا عليه صلوات الله وسلامه.
القسم الثاني:
الآيات الأرضية التي رآها عندما أسري به إلى بيت المقدس ماذا رأى من آيات؟
وقد رأى آيات كثيرة، سنتكلم على خمسة منها فقط، على طريق الإيجاز – وإن شاء الله تعالى، دون تفصيل في غيرها:
الآية الأولي: ركوب البراق:
ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتيت بالبراق مسرجاً ملجماً – وهو دابة دون البغل وفوق الحمار وهو دابة أبيض، يضع خطوه عند منتهى طرفه]
وتقدم معنا في سنن الترمذي وصحيح ابن حيان – عندما قدم البراق لنبينا عليه الصلاة والسلام (استصعب عليه (، وفي رواية ابن عباس في المغازي: (قدم البراق لنبينا عليه الصلاة والسلام وعدم انقياد وعدم ذلة وفي خلقه صعوبة وشراسة – فقال له جبريل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه مالك فما ركبك أكرم على الله منه. (
وفي رواية ابن إسحاق قال له جبريل: (أما تستحي، فارفض عرقاً (وتقدم معنا أي تصبب عرقاً. وتقدم معنا إخوتي الكرام أن سبب شراسته ونفوره أمران ذكرناهما هناك(7/96)
إذن هذا البراق وهو آية حصلت لنبينا عليه الصلاة والسلام في إسرائه، إما عندما عرج به وهو في المعراج سنتكلم على هذا في الآيات التي رآها في السموات إن شاء الله تعالى.
وهذه الآية العظيمة التي حصلت لنبينا عليه الصلاة والسلام – من باب خرق العادات – وكما تقدم معنا أن كل ما ورد به السمع يجب الإيمان به، ووجود دابة اسمها البراق ممكن وليس مستحيلاً، والإسراء بنبينا عليه الصلاة والسلام من مكة إلى بيت المقدس ممكن وليس مستحيلاً، وورد السمع بكليهما، بالبراق الحديث السابق و (سبحان الذي أسرى بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) ، وبما أن الأمرين كليهما ممكن وورد السمع به فيجب الإيمان به، لأن القسمة العقلية في الأشياء الموجودة بأسرها تنحصر في ثلاثة لا رابع لها:
1- وجود واجب.
2- وجود مستحيل ممتنع.
3- وجود ممكن جائز.
أما الواجب فلا يتصور في العقل هدمه، كوجود ربنا سبحانه وتعالى وحياته، وهذا ما يسمى بواجب الوجود فلا يتصور زوال الحياة أو الفناء على رب الأرض والسماء، فهذا واجب الوجود، وهو أول بلا بداية، وآخر بلا نهاية (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء (
أما المستحيل الممتنع فهو – كما ذكرنا سابقاً – الجمع بين النقيضين أو نفي النقيضين.
أما الجائز الممكن فهو يتصور وجوده ويتصور عدمه ليس وجوده في الحياة فقط بل في جميع الاعتبارات غنىً وفقر، ذكورته وأنوثته وجماله، ودمامته، وطوله وقصره، وكونه إنساناً أو جماداً فهذا كله ممكن يقدره الله أن يقلب الجماد إلى إنسان كقوله تعالى (إذ انبعث أشقاها) الآيات.(7/97)
وذلك أن قوم ثمود قالوا لنبيهم صالح عليه الصلاة والسلام: لن نؤمن لك إلا أن تخرج لنا ناقة عشراء (أي حامل ملقحة) من صخرة؟ فقال لهم: إن أخرجتها تؤمنون؟ فقالوا نؤمن، فدعا ربه فأخرج لهم ناقة عشراء من صخرة صماء، ثم لما خرجت ولدت وليداً ورأوها ورأوا ودلها وسمعوا صوته ثم بعد ذلك قال لهم: إن كان الأمر كذلك فهذه الناقة لها حق عليكم فهذا الماء الذي تردونه يوم لكم ويوم لها، فأما اليوم الذي لكم فتزودوا ما شئتم، وأما اليوم الذي لها فاحلبوا منها ما شئتم، أي بدل الماء لكم لبن، لكن لا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم.
ثم بعد ذلك عقروها فعاقبهم الله ودمر عليكم، فهذا ممكن ورد السمع به فيجب الإيمان به.
فلابد من أن يحترم الإنسان عقله ويقف عند حده ولا يهوس ولا يوسوس ولا يرتاب ولا يشك فهذه هي قدرة الله إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون.
والآن في عصرنا توجد مدرسة تسمى المدرسة العقلية، وهي حقيقة مدرسة ردية وليست بمدرسة للعقل بل مدرسة زوال العقل، ومدرسة خبل لا مدرسة عقل، ولا عقلاء تقول هذه المدرسة:
(كل خارق للعادة ننفيه أو نؤوله بما يتمشي مع العقل) ، هكذا تقول مع أنه قد علمنا أن الخارق للعادة هو في الأصل ليس خارقاً للعقل وليس بمستحيل ولا يوجد بين خارق العادة والعقل معارضة ولا تضارب حتى نجمع بينهما بل نقول العقل يسلم والله على كل شيء قدير.
وقالوا: لابد من جعل الإسلام بصورة تقبلها الأذهان في هذه الأيام.
قلنا لهم: وماذا تفعلون بالخوارق الموجودة في القرآن أو السنة الصحيحة؟
قالوا: هذه سهلة مثلاً:
1- (اقتربت الساعة وانشق القمر) :
يقول رشيد رضا ومحمد عبده: (وانشق القمر) أي ظهر الحق ووضح، وأما انشقاق القمر فهذه خرافة تتنافي مع العقل والإسلام لم يأت بهذه الأشياء لئلا يحرج الناس وهل النبوة لا تثبت إلا بخوارق العادة؟(7/98)
2- (واضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم) يقولون: حصل في البحر انحسار ثم عاد إلى مكانه وغرق فرعون وقومه، لكن لم يحصل بخارق من خوارق العادة أي لم يحصل بسبب ضرب موسى البحر بعصاه، قلنا لهم إذن كيف يحصل؟
قالوا: البحر فيه مد وجزر فلما وصل موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه ومن معه إلى شاطئه حصل فيه جزر أي انحسر ماؤه، فسار نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذه سنة طبيعية دائمة الحصول في البحر، فإذن جف عندما وصل موسى لكن عندما تبعهم فرعون مد البحر نفسه فحصل فيه امتداد وغرق فرعون.
ولكن هل يقبل هذا التأويل عقل؟
سبحان الله أنتم أردتم أن تمشوا هذه المعجزة مع العقل فأتيتم بما هو أغرب على العقل؟ فكيف سيحصل الانحسار والجزر ثم تمشي فيه المخلوقات ولا تغوص أرجلهم في المكان الذي كان فيه ماء، وانظر للسيل مثلا ً عندما يجف من وادٍ فيبقى الوادي أكثر من شهر ولا تستطيع أن تمشي فيه من أثر الطين والوحل، فكيف هذا الجيش بكامله سيمرون عليه كما قال تعالى (طريقاً يبساً لا تخاف دركاً ولا تخشى) .
ثم لو سلمنا لكم أنه جف بطريق الانحسار والجزر، فكيف الحال مع جيش فرعون الذي كان وراء جيش موسى وما بينهما مسافة؟! كما قال قوم موسى إنا لمدركون فإذا انحسر البحر وتقدم فيه موسى 100 متر فإن فرعون وراءه وإلى أين سيفر موسى ما دام البحر أمامه لم ينحسر إلا جزء منه؟! بل لابد من جفاف البحر كله وهذا لم يحصل، وهذا على التسليم بقولكم.
3- (وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد)
يقولون: الطير هو جيش والهدهد هو اسم أمير الجيش.
4- (حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة)
يقولون: وادي النمل هو اسم لوادٍ يسمى بهذا الاسم، قالت نملة: أي امرأة عرجاء واسمها نملة.
وإنما قالوا كل هذا قالوا: لنخرج القرآن من هذه المعجزات التي لا تتمشى مع العقل فأتوا حقيقة بما لو ثبت لكان هو الذي لا يتمشى مع العقل.(7/99)
إخوتي الكرام ... أول دعامة عندنا من دعامات الإيمان، الإيمان بالرحمن، فهل هذا غيب أم مشاهدة؟ بل هو غيب (الذين يؤمنون بالغيب) ، ولا يثبت للإنسان قدم في الإيمان إلا أن يؤمن بالغيب.
فلم نأتي بعد بذلك ونشوش ونكثر اللغط حول هذه الأمور التي أخبرنا عنها العزيز الغفور الذي إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون.
وهذه المدرسة العقلية لها في عصرنا رواج وانتشار ويستقي من ضرعها المدعو محمد الغزالي جند جنوده وطياشته تحت ستار هذه المدرسة لمحاربة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بحجة أنه لا يتمشى مع العقل فكم من حديث في الصحيحين رواه ويقول لا يتنافى مع العقل.
فمثلا: حديث مجيء ملك الموت إلى موسى – وهو في الصحيحين – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [جاء ملك الموت إلى موسى ليقبض روحه فضربه نبي الله موسى فقلع علينه فذهب إلى ربه وقال، رب أرسلتني إلى عبد من عبادك لا يريد الموت، قال: اذهب إليه فليضع يده على مسك ثور – أي جلد ثور- فإن له بل شعره تغطيها يده سنة] ومعلوم أن موسى كان مما آتاه الله بسطة في جسمه، ويقول عنه صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء [كأنه من رجال أزد شنوءة] أي طويل جهيد ضخم، فالله أعلم كم سيكون حجم يده؟! وتتمة الحديث [قال ثم ماذا؟ قال: ثم الموت، قال من الآن، قال من الآن] .
ويقول هذا المدعو عن الحديث خرافة من الخرافات، أشبه بالخرافات المنقولة عن بني إسرائيل يقول هذا مع أن الحديث في أصح كتاب بعد كتاب الله، وهو البخاري ومن بعده مسلم.
ثم يقول: فكيف يضرب موسى ملك الموت؟ وكيف يقلع عينه؟ وكيف لا يرغب موسى في لقاء الله؟(7/100)
سبحان الله كل هذا لا وجود له في الحديث فمن أين أتيت به؟ كما أن موسى أعلى منزلة من ملك الموت عند الله، يضاف إلى هذا أن الأنبياء لا تقبض أرواحهم إلا بعد تخييرهم فجاء ملك الموت ليخير موسى وهذه للأنبياء خاصة ولذلك قال نبينا عليه الصلاة والسلام على المنبر: [إن عبداً خيره الله بين الدنيا وبين الآخرة فاختار ما عند الله، فبكى أبو بكر رضي الله عنه، قال الصحابة: علام يبكي هذا الرجل؟] وإنما بكى رضوان الله عليه لأنه علم أن هذا العبد المخير هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذن الأنبياء لا يقبضون إلا بعد أن يخيروا، وإذا قبضوا يدفنوا في مكانهم، والأرض لا تأكل أجسادهم وأبدانهم إكراماً من الله لهم.
فجاء ملك الموت إلى موسى فقال له: أمرني الله بقبض روحك إذا شئت – وقد كان في طبع نبي الله موسى حدة – كما ذكرت لكم وسأوضحه في الآيات السماوية التي حصلت لخير البرية عليه صلوات الله وسلامه في رحلة المعراج فضربه وهو كما قلنا أرفع منه منزلة وهل ضربه (1) في عالم الحقيقة أم في عالم المثال؟
__________
(1) هل صح أن عمر رضي الله عنه قلع عين ملك الموت في قبره؟ لم يحصل هذا لعمر رضي الله عنه وأرضاه لكن النبي صلى الله عليه وسلم – والحديث في الصحيحين – يقول لعمر [ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك] أما أن عمر قلع عين ملك الموت فهذا لم يحصل ولم يقع.(7/101)
بل كان هذا في عالم المثال، فملك الموت لم يأت لموسى بصورته الحقيقية، وكذلك كان جبريل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في غير صورته، فكان يأتي بصورة دحية الكلبي أو في صورة أعرابي سائل وغيرها من الصور ولا يأتيه بصورته الحقيقية إذ أن صورته الحقيقية أن له ستمائة جناح، وملك الموت لو جاء بصورته الحقيقية لهدمت العمارات من رؤية صورته، فإذا جاء ملك الموت بصورة صديق لموسى وهذا من باب الغيب الذي نؤمن به ولا نبحث في كيفيته، فموسى له ومنزلة ورتبه على ملك الموت فضربه فقلع عينه المثالية وليس في هذا إشكال.
وهذا كما لو ضربت شخصاً تحبه ويحبك، وقلعت عينه لكن في المنام ثم أخبرته في الصباح برؤياك فتراه، يقول لك لو قلعت عيني الأخرى، وهل ضربك عندي إلا أحلى من العسل وهذا مشاهد فإذا لوح موسى لملك الموت وضربه في عالم المثال فليس فيه منقصة، فهذا الضرب كان انفعال مؤقت وغضب ولا لأجل نفور منه.
فذهب ملك الموت إلى الله جل وعلا فرد عينه المثالية التي قلت في عالم المثال دون تغير لحقيقة الأمر، ولا تسال عن كيفية هذا.
ثم جاء ملك الموت إلى موسى فقال له: إني مرسل من قبل الله بخبر ٍ آخر، فالله يقول لك إن شئت أن نقبض روحك الآن فقد انتهى أجلك، وإن شئت أن نمد في حياتك فلك ذلك لكن على أن تضع يدك على مسك ثور، فكم سنة ستعيشه يبارك الله لك فيها، فقال موسى: فبعدها؟ فقال له ملك الموت: لابد من الموت، فقال: فمن الآن، فقبض روحه وقال: اللهم قربني وأدنني من الأرض المباركة رمية حجر فيستحب إذن الدفن في الأرض الصالحة المباركة بجوار بيت المقدس وسيأتينا في حديث الإسراء أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه عند الكثيب الأحمر قائماً يصلي في قبره، ثم قال: لو كنت ثَمَّ لأريتكم قبره الذي يصلي فيه نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام.
فهل في فهم هذا الحديث على هذا المعنى إشكال؟
فإن قيل: كيف فعل نبي الله موسي هذا في عالم المثال؟(7/102)
نقول: لأنه أعلى من الملك منزلة وله عليه، فله أن يعزره، كما أن للأستاذ أن يعزر أحد طلابه إذا لح عليه في الأسئلة، فله أن يعزره ولو كانت أسئلته كلها جيدة ولا منقصة في هذا للمعزر ولا للمعزر.
وهذا قد كان في القديم، ولكن للأسف الآن ما عاد الطالب ليتحمل تعزيراً من أستاذه بل تراه يصول ويجول إذا قال له الأستاذ أو الشيخ اسكت أو ضغط على أذنيه، ونحو هذا من المتغيرات والله المستعان.
(قصة أحد الطلاب الذين أرادوا تهذيب نفوسهم طلبوا العلم عند أحد المشايخ وألح عليه في طلبه، وبعدما قال له الشيخ كذبت – اختباراً له – اغتاظ الطالب وسب الشيخ ومن علمه وسب أهل الأرض جميعاً..إلخ القصة) .
(قصة شيخنا الطحان مع شيخه الشنقيطي في شأن القنوت لما قال له كذبت، فماذا كان موقف شيخنا الطحان؟)
فهنا عندما يضرب موسى ملك الموت فهل في هذا محظور أو إشكال، وهل هذه منقصة، ووالله لو ضربه في عالم الحقيقة لما كان عليه منقصة لأنه أرفع من ملك الموت.
أوليس قد ضرب أخاه هارون وأخذ بلحيته ورأسه يجره إليه فهذا انفعال في وقت محدد زال أثره بعد ذلك.
فانظر إلى أفكار هذه المدرسة العقلية الردية وانتبهوا منها.
قد يقول قائل: لما جيء بالبراق – الذي ركبه نبينا عليه الصلاة والسلام – مع أنه بإمكان ربنا أن يسري بنبينا عليه الصلاة والسلام إلى بيت المقدس دون البراق؟
نقول: فعل هذا لاعتبارين:
الاعتبار الأول: تأنيس بالعادة عند خرق العادة، فقد جرت العادة عندما يدعوك أمير أو صاحب منصب أن يقدم لك مركوباً ويحضر لك عطية ويرسل من يخدمك من أجل أن يصحبك إلى بيته، فهذا مما جرت به العادة.
فآنس ربنا نبيه بالعادة عند خرق العادة لئلا يكون الخارق من جميع الجهات، بل من جهة يأنس فيقدم له مركوب يركبه، ومن جهة أخرى هذا المركوب خرق للعادة وهذا واضح.
الاعتبار الثاني: ليكون أبهى وأفخم لنبينا المكرم عليه صلوات الله وسلامه عندما يسري به إلى بيت المقدس في صورة راكب.(7/103)
والراكب أعز وأبهى وأعلى مما لو أخذ إلى بيت المقدس في غير هذه الصورة، فلو نقل دون ركوب دابة فيكون قد وصل إلى بيت المقدس في صورة نائم مغمىً عليه، ولو قيل له: ضع خطوك من مكة إلى جهة بيت المقدس ففي خطوتين تصل إلى هناك فهذا يكون قد وصل في صورة ماش ٍ.
وأيها أعز الراكب أم النائم أو الماشي؟ بل الراكب، وانظر إلى ربنا ماذا يقول عن أهل الجنة (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً) والذي سيق دوابهم لا هم، فيسق المتقون وهم يركبون الدواب، فإذن يدخلون الجنة وهم يركبون الدواب والنجائب – جمع نجيبة وهي السباقة من الخيل الكريمة العتاق – ليكون أعز لهم وأبهى، ولا يساقون لأن سوق الإنسان منقصة له.
وهذا المعني أي معني الآية (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى..) يكاد يكون المفسرين مجمعين عليه وما خالف فيه إلا قليل، ولا يوجد أثر مرفوع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام في هذه الدلالة، وهي أن المتقين تساق نجائبهم، لكن أخذ المفسرون هذا من قول الله تعالى: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً) قال ابن منظور في لسان العرب (4/480) الوفدهم الركبان المكرمون. وانظر إلى كلام الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره (15/285) يقول في حق الفريقين " وسيق بلفظ واحدة فسوق أهل النار طردهم إليها بالخزي والهوان كما يفعل بالأسارى والخارجين إلى السلطان إذا سيقوا إلى حبس أو قتل.
وسوق أهل الجنان سوق مراكبهم إلى دار الكرامة والرضوان لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين على بعض الملوك، فشتان ما بين السوقين"
وهذا هو الذي ذكره الإمام ابن كثير في تفسيره (4/65) ، وهذا إخبار عن حال السعداء المؤمنين حين يساقون على النجائب وفداً إلى الجنة.(7/104)
وأما في حق الكفار فقال تعالى (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً) ، فهنا هم سيقوا ودفعوا كما يدفع المسجون المجرم في هذه الحياة لهم، كما قال تعالى: (إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون) ولذلك (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم) فيدفع أولهم على آخرهم، وآخرهم على أولهم كما يفعل بالمجرمين في هذه الحياة.
ولذلك انظر إلى ما قاله الله عن أبواب الجنة وما قاله عن أبواب النيران:
(حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها) فهذا لأبواب جهنم، أي تفتح بغتة وفجأة، فيساق ولا يدري إلى أن يذهب فلما يقترب منها تصيح وتفتح أبوابها فجأة وتلتهمهم.
وقال عن أبواب الجنة (حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها) فتساق ركائبهم ونجائبهم التي يركبون عليها والجنة مفتحة أبوابها وهم ينظرون إليها فيطيرون شوقاً ويسرجون الدواب من أجل أن يصلوا إلى نعيم الكريم الوهاب، فإذن هنا الأبواب مفتوحة.
ولذلك كان الجلوس عند الباب مذلة، والأمير عندنا في الدولة الإسلامية لا يغلق باباً ولا يتخذ حجاباً، لأنه لو فعل هذا لأذل الرعية، ولما وصل إليه وإلى مجلسه إلا أناس مخصصون.
عن بصر نبينا عليه الصلاة والسلام بحيث رأى بيت المقدس وهو في مكة، وأي غرابة في هذا؟ وهذا ما تفيده رواية الصحيحين [فجلى الله لي] أي أظهر وكشف وبين.
والأمور الثلاثة محتملة والعلم عند الله، فأي ذلك حصل حقيقة؟ لا يعلم ذلك إلا الله، وحقيقة هذه الآية أكبر شاهد على صدق نبينا عليه الصلاة والسلام في دعواه أنه أسري به، وأنه رسول الله حقاً وصدقاً.
الآية الثالثة:(7/105)
وحصلت له في داخل المسجد الأقصى، جمع الله له الأنبياء من سمي منهم في القرآن ومن لم يسم من عهد آدم إلى عهده عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، وتقدم معنا عدتهم (124.000) جمعوا في تلك الليلة، ولما أقيمت الصلاة ليصلوا ركعتين تعظيماً لله تقدم جبريل بأخذ بيدي محمد عليه الصلاة والسلام وقدمه إماماً بهم – وهو أفضلهم وأكرمهم كما تقدم معنا وهو أفضل الخلق على الإطلاق – فصلَّى بهم ركعتين ثم بعد الصلاة جلس الأنبياء يتحدثون بفضل الله عليهم فكل واحد ألقى خطبة – إذن (124.000) خطبة ألقيت في تلك اللحظة – أثنى فيها على ربه وذكر ما من الله به عليه ثم ختم الخطب نبينا عليه الصلاة والسلام فقال في خطبته: إن الله بعثني رحمة للعالمين، وأرسلني للناس كافة بشيراً ونذيراً وأنزل علي القرآن فيه تبيان كل شيء وجعل أمتي خير الأمم وجعل أمتي وسطاً وأمتي هم الأولون والآخرون يوم القيامة – أي آخرون في الزمن، والأولون أي يوم القيامة – وشرح الله صدري ووضع عني وزري ورفع لي ذكري وجعلني فاتحاً وخاتماً، ففتح الله به آذاناً عمياً وقلوباً غلفاً وآذاناً صماً وهو خاتم النبيين فقال خليل الرحمن إبراهيم بهذا فضلكم محمد، وإبراهيم هو الذي يليه في الفضل وهو صاحب المرتبة الثانية بعد نبينا عليه الصلاة والسلام فاعترف أن هذا النبي هو أفضل أنبياء الله ورسله.(7/106)
والحديث في ذلك وارد في المعجم الكبير للطبراني، ومسند البزار، ومسند أبي يعلى بسند رجاله رجال الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: [ثم دخلنا المسجد فنشر الله لي الأنبياء من سمي ومن لم يسم – أي في القرآن – فصليت بهم ... ] وانظروا الحديث إخوتي الكرام في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (1/68) للإمام الحافظ ابن حجر الهيثمي، وهو غير ابن حجر الهيتمي، وغير ابن حجر العسقلاني العالم الحافظ المشهور فلا تخلطوا بين الثلاثة فالهيثمي توفي سنة 807هـ، والهيتمي من علماء القرن العاشر الهجري، والعسقلاني توفي سنة 852 هـ وهو تلميذ الهيثمي.
أخوتي الكرام ... من هذا الكتاب (مجمع الزوائد ومنبع الفوائد) لو وزن بالذهب وقيل لطالب العلم اختر الذهب أو هو، لقال الطالب الحقيقي لو أعطيتموني عشرة أمثاله من ذهب، لما أخذتها وأخذت الكتاب.
وهذا الكتاب في زوائد ستة كتب على ستة كتب، فإذا جمعت الستة مع هذا تكاد أن تكون جمعت السنة بأسرها وقل أن يخرج حديث عن هذه الكتب التي هي ستة مع هذا الكتاب.
فهذا زوائد ستة كتب وهي مسند الإمام أحمد، ومسند البزار، ومسند أبي يعلى والمعجم الكبير للطبراني، والمعجم الأوسط له والمعجم الصغير له أيضاً.
على ستة كتب وهي البخاري ومسلم وأبو داوود والنسائي والترمذي، وابن ماجه (وفي الحقيقة قد جرى خلاف بين العلماء في عد الكتاب السادس من اصطلاح الكتب الستة) المشهور هل هو ابن ماجه وهو المشهور أو موطأ مالك كما هو في جامع الأصول لابن الأثير أو مسند الدارمي، والذي مشى عليه الهيثمي في مجمع الزوائد هو عد ابن ماجه) .
الآية الرابعة من الآيات الأرضية:
وحصلت له في بيت المقدس أيضاً، وتكررت في السماء فلن نعيد الكلام عليها عندما نصل إلى الآيات السماوية التي رآها خير البرية صلوات الله عليه وسلامه عندما عرج به.
هذه الآية هي أنه قدم له أربعة أقداح:(7/107)
وهذا خلاصة الروايات وبعد أن أذكرها لكم وحاصل ما فيها أرشدكم إلى مصادرها لترجعوا إليها لأن في بعض الروايات أنه قدم له قدحان، وبعضها ثلاثة أقداح وبعضها أنه حصل هذا في بيت المقدس وبعضها أنه حصل في السماء عند سدرة المنتهى.
والمعتمد أنه تكرر عرض الآنية على نبينا عليه الصلاة والسلام مرة في بيت المقدس ومرة في السماء وكل مرة لها حكمة كما تقدم معنا في شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم أربع مرات وكل مرة لها حكمة وهذا الأمر كذلك، ومجموع الآنية أربع لكن بعض الرواة قصر في الحفظ فذكر بعض هذه الآنية.
الحاصل أن مجموع ما عرض على الرسول صلى الله عليه وسلم أربع آنية في حادثة الإسراء بعد أن ألقى كل نبي خطبته في بيت المقدس: يقول النبي عليه الصلاة والسلام: [ثم جاءني جبريل بأربعة آنية، إناء فيه ماء، وإناء فيه عسل، وإناء فيه لبن، وإناء فيه خمر، فقال: ألا تشرب يا محمد؟ عليه صلوات الله وسلامه] وكان سبب هذا الشرب وسبب عرض الآنية عليه هو لما حصل له من العطش في هذه الرحلة المباركة من مكة إلى بيت المقدس فإذن كان عرض الآنية عليه في الدنيا من أجل دفع الظمأ والعطش -[قال: فأخذت إناء الماء فشربت منه قليلا ً، فقال لي جبريل: لو ارتويت منه لغرقت وغرقت أمتك] والسبب في هذا أن الماء ليس كاللبن الذي هو شراب وغذاء، إذ أن اللبن غذاء الفطرة وأما الماء فهو دافع العطش والظمأ فقط فيأخذ الإنسان بمقدار دفع الحاجة فلو أخذ منه أكثر من المطلوب لآذى نفسه، ولو سلك الإمام طريق الأذى فالرعية سيسيرون وراءه، فأنت لو أخذت من الماء أكثر من حاجتك لنتج عن هذا أنك تغرق في شعب الدنيا وأوديتها وحطامها ولذائذها وتنهمك فيها وتعرض عن الآخرة وحاشاك من ذلك، إنما هذا على سبيل الافتراض البعيد ولغرقت أمتك أي لتبعت الدنيا وأعرضت عن الآخرة.(7/108)
إذن الانهماك في الماء والأخذ منه فوق الحاجة يدل على ركون إلى الدنيا، وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام أزهد خلق الله في حطام الدنيا وهو الذي يقول: [مالي وللدنيا إنما أنا كراكب قال تحت شجرة ثم راح وتركها] ، وقال في الحديث (قال) ولم يقل (نام) لأن القيلولة وقتها قصير من بعد الظهر إلى العصر بخلاف النوم، فإنه يكون طويلا ً لوقوعه في الليل، وهذا هو حال نبينا عليه الصلاة والسلام كان قليل النوم وكان يقوم الليل حتى تورمت قدماه، فإذا فرغت فانصب أي إذا فرغت من طاعة فانصب إلى طاعة أخرى وعملك جد متواصل وليس عندك كسل ولا فتور كما هو الحال في جامعاتنا الهابطة (4) شهور إجازة وعطلة، أي الطالب يصبح عاطلا ً، وطالب العلم الحقيقي لا يتوقف عن العلم إلا في مناسبات شرعها الإسلام كالعيدين، وما عداهما فلا ينبغي أن يتوقف عن العلم أو يعطى عطلة والله المستعان، فلا يوجد في قاموس المسلمين شيء اسمه عطلة لأن الله سبحانه يقول لنبيه ونحن له في هذا تبع (فإذا فرغت فانصب) ، فإذا فرغت من طاعة وعمل فانصب إلى عمل آخر ولا تظن أن العمل انتهى لأن الدنيا مزرعة الآخرة ولابد من غرس عمل متواصل، أما الحصاد ففي يوم الدين (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) والمزارع لا يعرف العطلة في موسم الزراعة، فذاك هو حال نبينا عليه الصلاة والسلام مع الدنيا.
[وأما إناء العسل فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وشرب منه قليلا ً] وذلك لأن العسل شفاء كما قال تعالى (يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس) فإذن هو بمثابة الدواء والإنسان يأخذ منه بمقدار الحاجة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخذ منه غذاءً لشفاء البدن وصحته.(7/109)
والعسل من آيات الله البارزة التي يخرج من هذا الحيوان وهي النحلة، قيل لبعض الصالحين: بأي شيء عرفت ربك؟ قال: بالنحلة قالوا: وكيف؟ قال: بأحد طرفيها تعسل وبالطرف الآخر تلسع، ومقلوب العسل لسع، أي عكس كلمة (عسل) خطاً (لسع) .
وهذا من عظيم قدرة الله كيف يخلق المتضادات وليس المتناقضات في بدن واحد، ففيها سمية وفيها مادة حلوة عسلية، والعسل هذا من الأغذية المباركة وقد ثبت في سنن ابن ماجه ومستدرك الحاكم (4/200، 403) بسند صحيح كالشمس عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً، وروي موقوفاً عليه بإسنادين والموقوف له حكم الربع وفيه [عليكم بالشفاءين العسل والقرآن] أما القرآن فقوله تعالى دال على ذلك (قد جاءكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين) وهو – أي القرآن – لعقولنا كالشمس لأعيننا، وعين بلا أنوار لا ترى وعقل بلا وحي لا يهتدي، وهو لأرواحنا كالماء للسمك، فسمك بلا ماء لا يعيش وأرواح بلا قرآن ميتة (أومن كان ميتاً فأحييناه) (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا) .(7/110)
وأما العسل فهو الشفاء الثاني، وقد توصل من نحاسة بعض الأطباء ونكدهم وغلظ قلوبهم وفساد عقولهم في هذه الأيام أنهم يصفون الخمر علاجاً لبعض الأمراض؟ فهل يعقل أن تصبح أم الخبائث شفاءً والشفاء صار داءً؟ لكننا في عصر اختلت فيه الموازين من جميع جهاتها فصار الباطل حقاً والحق باطلا ً، وصار الكذاب صادقاً والصادق كذاباً، ونطق الرويبضة في أمر العامة وهو الحقير ابن الحقير؟، فإذن صار الشفاء وهو العسل في عصرنا داءً، وهذا العسل مثل التمر الذي هو أطيب طعام وأنفعه للبدن، ويقول الأطباء – وسيأتينا الإشارة له عند اللبن – لا يوجد غذاء فيه جميع ما يحتاجه الجسم إذا أخذه الإنسان لا يحتاج غيره إلا اللبن والتمر فقط، ولو عشت طول حياتك لم تأكل إلا لبناً وتمراً لعشت في أتم صحة وعافية، وقد كانت أهلة تمرُّ على بيوت النبي صلى الله عليه وسلم التسع ولا يوقد في بيته نار، فقال عروة: يا خالتي – عائشة – ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان التمر والماء. ولم تقل الأبيضان من باب التغليب وتعلق الصحة بالتمر، وجعلته أسود لأن غالب تمر المدينة أسود.
[استطرد الشيخ في ذكر خبث الغرب في تحضيرهم للأغذية وأنهم لا يتورعون عن تنجيسها بغائطهم وبولهم ثم ذكر شيخ الإسلام مصطفى صبري آخر شيخ للإسلام لآخر دولة إسلامية وهو صاحب كتاب (موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين) في أربع مجلدات، وصاحب كتاب (قولي في المرأة) رد فيه على قاسم أمين، الشاهد يقول شيخ الإسلام مصطفى صبري في كتابه (موقف العقل والعلم والعالم) لو أن الكفار صدروا إلينا عذرتهم رطبة لأكلناها، وهو كذلك، وما مرت فترة على الدولة الإسلامية ضربت فيها بالذل نحو أعداء الله إلا في هذا الأيام وهذا العصر)
فالعسل هو الشفاء والخمر هو الداء، وإذا كان الأمر كذلك فلا داعي لأن نشرب زجاجة العسل كلها بل نشرب بمقدار الحاجة. ولذلك فقد شرب النبي صلى الله عليه وسلم ما يحتاجه فقط.(7/111)
[وأما اللبن فشرب منه نبينا صلى الله عليه وسلم وتضلع] أي حتى صار اللبن – والمقصود باللبن الحليب – في جميع ضلوعه وملأها بحيث ما بقي فيه مسلك، فتضلع كما يسن لنا أن نتضلع من ماء زمزم، أي لا يبقي في أضلاعك وبينها فجوة إلا ودخلها ماء زمزم، وآية ما بين المؤمنين والمنافقين التضلع من ماء زمزم وماء زمزم لما شرب له كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام والحديث بسند حسن وتقدم.
فإذن كما تتضلع من ماء زمزم لأجل البركة، فاللبن تضلع منه نبينا عليه الصلاة والسلام لأنه غذاء الفطرة، وهو شراب وطعام، وعليه يعيش المولود من بني الإِنسان في صغره فيبقى سنتين يرضع من ثدي أمه هذا ولا يأكل ولا يشرب غيره.
إذن فإذا كنا على فطرتنا السوية فإننا نتزود من اللبن ولذلك أرشدنا نبينا صلى الله عليه وسلم إلى أدب ينبغي أن نحافظ عليه إذا شربنا اللبن لنخبر عن استقامة فطرتنا، وإذا أكلنا أو شربنا غيره نقول دعاءً آخر ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من أطعمه الله طعاماً فليقل: اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وارزقنا خيراً منه، ومن أسقاه الله لبناً فليقل: اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وزدنا منه] فلم يقل هنا وارزقنا خيراً منه بل قال وزدنا منه، بينما ذكر في الأول وارزقنا خيراً منه لأن كل طعام هناك ما هو خير منه وأنفع وأطيب ثم قال: [فإني لا أعلم ما يجزيء عن الطعام والشراب إلا اللبن] فلا تقل إذا شربت لبناً وارزقنا خيراً منه.
ولأجل ذلك تضلع النبي صلى الله عليه وسلم من اللبن، وما بقي بين ضلوعه مسلك لدخول قطرة من شراب، [فقال له جبريل: هديت الفطرة] .
[وأما الخمر فما مد نبينا صلى الله عليه وسلم يده إليه أبدا ولم يشرب منه] .(7/112)
وقد يقول قائل: ولم لم يشرب منها وهذه من خمر الجنة التي لا تسكر وليست من خمر الدنيا المسكرة بل هي من نهر الخمر الذي يجري في الجنة مع الأنهار الأخرى التي تخرج من أصل سدرة المنتهى؟
نقول: حتى لا يقوم مقام تهمة، وحتى لا يقف موقف تهمة، لأن لفظها واسمها خمر والخمر محرمة في الدنيا على هذه الأمة وحتى لا يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم شرب الخمر رغم أنها طاهرة وتلك مسكرة إلا أن الناس والعامة لا تعرف هذا ولا تدركه ولو عرفته لبقي في نفسها شيء نحو رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم فلأجل أن يحصل التذرع بفعل النبي صلى الله عليه وسلم – الذي هو حقيقة لا إشكال فيه لو فعله – إذا شرب الخمر، فما شربها صلى الله عليه وسلم لأجل ذلك [فقال له جبريل: لو شربت الخمر لغويت وغَوِيَتْ أمتك] ، وفي رواية [قال له: لما اتبعك أحد] لأنهم سيتوسعون ويخرجون عن دين الحي القيوم فيقولون نبينا شرب الخمر فنحن أيضاً نشربها مع اختلاف الخمرين لكن العامة لا تدرك هذا ولا تعيه.
إخوتي الكرام ... العلماء ينظر إليهم العامة دائماً ويقتدون بهم، فالعالم إذا توسع في المباح توسع العامة في المكروهات، وإذا توسع في المكروهات توسعوا في المحرمات فإذا وقع العالم في الحرام كفرت العامة فتنبهوا لهذا رحمكم الله.
لذلك لا يجوز للمؤمن أن يقوم مقام تهمة أو أن يقف موقف ريبة، فمثلا ً إذا ذهب طالب العلم إلى مكان ريبة، ومكان فساد كشواطئ البحار ولكن ابتعد عن مكان الفساد وصد وجهه عن المفسدين فهذا في الحقيقة ليس عليه وزر أو إثم لكن لو رآه الناس موجوداً في هذا المكان لبدأوا باتهامه، ولو كان يجلس بعيداً لأن الناس لا تعذر، فكان الواجب على هذا الطالب أن لا يذهب إلى هذا المكان المحدد أو في هذا الوقت بل يحاول أن يتجنب مثل هذه الأوقات والأماكن حتى لا يتكلم عليه الناس ولا يتذرع العامة بفعله.(7/113)
فمن أقام نفسه مقام ريبة وتهمة فلا يلومن من أساء به الظن، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقمن مقام تهمة وريبة – هذا ليس بحديث ولكن معناه صحيح – وقد وردت أحاديث بهذا المعنى منها في الصحيحين [فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه] ودلَّ عليه حديث في المستدرك وسنن الترمذي وغيره بسند صحيح عن عطية السعدي: [لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس] .
فيحتاط نبينا عليه الصلاة والسلام – وهو إمامنا في الاحتياط والورع – لم يمد يده إلى الخمر مع أنها طاهرة وحلال ومنعشة ونافعة سنشربها في الآخرة حتى لا يتذرع العامة بفعله إذا شربها.
وهذه الآنية عرضت على نبينا عليه الصلاة والسلام في بيت المقدس – كما ذكرنا – لدفع العطش وعرضت عليه فوق السموات العلا عند سدرة المنتهى من باب الضيافة والكرم، فلما رأى هذه الأنهار الأربعة تنبع من أصل سدرة المنتهى قدم له من كل نهر إناء فيه من ذلك النهر.
وحاله في السموات كحاله في الأرض فشرب من الماء قليلا ً، والعسل قليلا ً، واللبن تضلع منه وأما الخمر فما مد نبينا عليه الصلاة والسلام يده إليه أبداً.
ومن رأى نفسه في المنام وهو يشرب لبناً فليحمد الله، لأن هذه الرؤيا تدل على أمرين:
(1) أنه على الفطرة والدين المستقيم.
(2) أن الله سيمنحه العلم النافع العظيم.
وفي صحيح البخاري في كتاب التعبير بوب البخاري باباً بهذا الخصوص، فقال: باب اللبن في النوم، ثم ساق الحديث إلى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [بينما أنا نائم أتيت بقدح من لبن فشربت منه حتى إني لأرى الري يخرج من تحت أظافري، ثم أعطيت فضلي عمر، قال فما أولت ذلك يا رسول الله، وقال: العلم] وعمر هو سيد المُحَدِّثين والْمُلْهَمِيْنَ في هذه الأمة فلا غرابة.(7/114)
وثبت في مسند البزار بسند فيه ضعف ويشهد له ما تقدم والحديث في مجمع الزوائد (7/183) في كتاب تعبير الرؤى، باب اللبن في المنام من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [اللبن في المنام فطرة] .
وفي حديث البخاري السابق منقبة لعمر وقد حصلت منقبة أخرى له في صحيح البخاري أيضاً في كتاب العلم يقول نبينا عليه الصلاة والسلام [رأيت الناس يعرضون عليَّ وعليهم قُمُص – جمع قميص وهو ما يلبسه الإنسان، منها ما يبلغ الثدي ومنها ما دون ذلك وعرض عليَّ عمر بن الخطاب في ثوب يجره، قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال الدين] .
الآية الخامسة:
وهي من الآيات الأرضية، وهي ما رآه صلى الله عليه وسلم في طريقه من مكة إلى بيت المقدس.
فقد رأى آيات عظيمة وهي كثيرة كثيرة كثيرة ولا أريد التوسع فيها، لكن ارجعوا إلى مجمع الزوائد (1/65) فما بعدها وانقلوا هذه الآيات واكتبوها مع هذا المبحث وانظروا في فتح الباري (7/199) فما بعدها وانظروا في جامع الأصول (11/310) .
وسأقتصر هنا في شرحي على آيتين والباقي تأخذونه من هذه الكتب فإنه كثير كثير:
1- الآية الأولى: ثبت في صحيح مسلم وسنن النسائي عن أنس رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مررت ليلة أسري بي على موسى في قبره عند الكثيب الأحمر- وهو التلة من الرمل – وهو قائم يصلي] .
وقد كنت أشرت سابقاً إلى أن أجساد الأنبياء في قبورهم لا تتغير، وهم أحياء فيها حياة يعلمها الله، ولا نعلم كيفيتها، ويكرمهم الله بكرامات عظيمة كما كان يكرمهم في حياتهم، من هذه الكرامات أن نبي الله موسى كان يصلي في قبره، ورآه نبينا عليه الصلاة والسلام يصلي في قبره، فإن قيل: كيف هذا؟ نقول: قلنا إن حادثة الإسراء والمعراج معجزة ونبي الله موسى في عالم البرزخ، فالاطلاع عليه هذا من باب خرق العادات والممكنات التي أكرم الله بها خير البريات عليه صلوات الله وسلامه.(7/115)
وقال النبي صلى الله عليه وسلام لأصحابه لما ذكر لهم ذلك [لو كنت ثَمَّ لأريتكم قبره] ، أي لو كنت أنا وأنتم في ذلك المكان لأريتكم قبره عند الكثيب الأحمر عند البلاد المباركة.
فهذه آية نؤمن بها وهي من الإيمان بالغيب الذي نؤمن به ونكل علم معرفته إلى خالقه.
2- الآية الثانية: وإنما اخترتها وأردت ذكرها لما فيها من غبرة وعظة، وهي إذا كانت المرأة تصل عزيمتها إلى هذا الحد، فالرجل ينبغي أن يستحي من الله وأن تكون عزيمته – على الأقل كعزيمتها – لا أقل منها.
فهذه الكرامة التي رآها نبينا عليه الصلاة والسلام لامرأة صالحة ضعيفة مستضعفة وهذا كله من باب الاطلاع على ما في عالم البرزخ من عذاب أو نعيم، وعالم البرزخ لا يمكن أن نعلمه إلا عن طريق وحي صادق، فإذا نطق من لا ينطق عن الهوى آمنا به وصدقناه.
ثبت في مسند الإمام أحمد والبزار والمعجم الكبير للطبراني والمعجم الأوسط له أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما عن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: [مررت ليلة أسري بي بوادٍ فإذا فيه ريح طيبة، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذه رائحة ماشطة ابنة فرعون وأولادها] .
س: ما السبب في حصول هذه الكرامة لها؟
جـ: [كانت تسرح شعر ابنة فرعون وتمشطه فسقط المشط من يدها، فقالت باسم الله، فقالت هذه العاتية ابنة فرعون: أبي] أي باسم أبي الذي هو إله فالله يعني أبي، لأنه قال: أنا ربكم الأعلى، وكان رباً – كما يدعي – لأن الأنهار تجري من تحته، فتقول له يا منحوس، من الذي أجرى الأنهار من تحتك؟ فإنك تفتخر بملك غيرك، وتفتخر بنهر أجراه غيرك هل أنت الذي أجريتها وهل أنت الذي شققتها؟ إن هذه الأنهار التي تجري من تحتك عما قريب ستجري من فوقك وكل من ادعى دعوى قتله الله بدعواه.(7/116)
يقول أئمتنا احذروا الدعوى، هي بلوى وإن صحت، فلا تقل أنا أحفظ وأنا أعلم كذا، فإنك حتى ما قلت (أنا) استوجبت الخزي بل الواجب أن تقول هذا بفضل الله وبرحمته ولذلك قال الله في الحديث القدسي: [فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه] ، (وما بكم من نعمة فمن الله) فهو الذي وفق.
ولذلك العاتي النمروذ عندما تكبر وتجبر وقال أنا أحيي وأميت، أماته الله بأضعف جنده ببعوضة فقط، فدخلت إلى دماغه من أنفه، وبدأت تدور في رأسه فكان يجمع حاشيته وأصحابه ويعطيهم الأحذية الكبيرة الثقيلة ويقول لهم أخفقوني على رأسي لأجل أن تموت هذه البعوضة، فكان وزراؤه يضربونه – وقد كانت البعوضة تخمد عندما يأتيها الضرب فتقف ولا تتحرك، فإذا توقفوا عن الضرب بدأت بالحركة والطيران داخل دماغه حتى قتل ضرباً بالأحذية، فأنت يا من تقول بأنك تحيي وتميت لم تستطع أن تميت بعوضة، فإذن كل من ادعى بدعوى قتله الله بدعواه.
قال هارون الرشيد لمحمد بن السماك – وكان من العلماء الواعظين الصالحين – إذا كان الله حكيماً وخلق كل شيء لحكمة فعلام خلق الذباب؟ فقال: ليذل به الملوك يا أمير المؤمنين، أي أنت يا أمير المؤمنين لا يدخل عليك أحد إلا باستئذان إلا الذباب فإنما يدخل من غير استئذان.(7/117)
[فالماشطة سقط المدرا (المشط) من يدها فقالت باسم الله، قالت ابنة فرعون: أبي قالت: لا ربي وربك ورب أبيك، فقالت: أأخبر أبي بذلك؟ قالت: أخبريه، فأخبرته، فدعاها فرعون فقال لها: ألك رب غيري؟، قالت: نعم، ربي وربك الله، فأمرها أن تحضر هي وأولادها وقال: إما أن ترجعي عن دينك وتدخلي في ديني وتؤمني بأنني أنا الله الرب وإما أن أقتلك، فقالت، اقتلني بما شئت ولكن لي طلب عندك، قال: لك ما تريدين، قالت: إذا قتلتني فاجمع بين عظامي وعظام أولادي وادفنا في قبر واحد، فقال: لك ذلك] فوافق على ذلك لما لها عندهم من المنزلة والمكانة إذ أنت من خدم البيت ومن الحاشية لكن لأنك خرجت عن الدين فلابد لك من القتل.
[فأتي بنقرة من نحاس] وهي الحلة الكبيرة والقدر الواسع بحجم الغرفة بل البيت وهذه هي التي عذب بها النصارى في بلاد الأندلس المسلمين لما سقطت الأندلس، فقد كانوا يأتون بهذه القدور – النقرة – ويضعون تحتها ناراً حتى يحمى الماء فيها ويغلي غلياناً عظيماً، ثم يؤتى بالمؤمن، ويقال له إما أن ترجع عن دينك وإما أن نلقيك فيها وهم أفواج فلا يرجع عن دينه ثم يأتي بالثاني ويخير وهكذا وما يصدهم ذلك عن دين الله رغم ما يرونه من العذاب الشديد لدرجة أن هذا الماء من حرارته يذوب فيه اللحم والعظم فلا يبقي للمؤمن أثر فيه ولكنهم يثبتون على إيمانهم.
(قصة أحد المشايخ الذين حاولوا دخول مسجد قرطبة الذي صار كنيسة وكيف منعهم القسيس من دخوله – إلخ القصة)
[فأحماها وبدأ يضع أولادها واحداً بعد واحد فيها وهي تصبر وتحتسب حتى ألقاهم جميعاً وبقي بين يديها ولد صغير لازال رضيعاً في المهد فأشفقت عليه وخافت، فلما أخذوه منها ليلقى في هذه النقرة ارتاعت وتغيرت، وفظن فرعون أنها سترجع عن دينها شفقة على ابنها الصغير، فقال هذا الغلام الصغير: يا أماه إنك على الحق فاصبري وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة](7/118)
قال نبينا عليه الصلاة والسلام: [لم يتكلم في المهد إلا أربعة ابن ماشطة فرعون، وشاهد يوسف، وعيسى عليه السلام، وصاحب جُريج]
وصاحب جُريج هذا حديثه في الصحيحين وهو عابد وراهب [عندما كان يصلي دعته أمه فقال اللهم أمي وصلاتي] ولو كان فقيهاً لأجاب أمه لأنه إذا دعتك أمك وأنت في نافلة فاقطع النافلة وأجب أمك لأن إجابتها فريضة والنافلة سنة لك أن تقطعها. [ثم قالت: يا جُريج، فقال: اللهم أمي وصلاتي، ثم قالت: يا جُريج (للمرة الثالثة) فقال: اللهم أمي وصلاتي فقالت أمه: والحمد لله أنها لم تدع عليه بغير هذا – اللهم لا يموت جُريج حتى يرى وجوه المياميس – أي الزانيات – وكان هناك راع يرعى الغنم وهناك امرأة بغي اتصل بها هذا الراعي عن طريق الحرام وأحبلها قيل لها من أين هذا؟ قالت: من جُريج العابد الذي يعبد ربه في هذه الصومعة، فغضب بنو إسرائيل وحملوا المعاول والعصي وجاءوا إلى صومعته فهدموها، فقال لهم ماذا تفعلون؟ قالوا: تدعي أنك عابد راهب معتدل ثم بعد ذلك تعتدي على هذه المرأة، فقال: أين الغلام؟ فقيل له هذا، فأتى إليه جُريج ونقر على بطنه وقال: من أبوك يا بابوس؟ قال: فلان الراعي، فأكب الناس على قدمي جُريج يقبلونها ويقولون له نبني لك صومعة لبنة من ذهب ولبنة من فضة فقال: بل أعيدوها كما كانت] .
لكنه رأي وجوه المياميس رأى هذه المرأة التي وجهها منكر فيه هذا البلاء والغضب لأنه ما أجاب أمه، حذار حذار أن يدعو عليك أحد والديك إذن فهؤلاء تكلموا في المهد.
[فلما قال لها الغلام هذا طرحت الولد في النقرة ثم أخذوها وألقوها مع أولادها فاحترقوا جميعاً فجمع فرعون – عليه لعنة الله – عظامهم (1)
__________
(1) كيف شم النبي صلى الله عليه وسلم رائحة قبرها مع أن طريق الرحلتين لا يمر على مصر فكيف كان هذا وبماذا يفسر؟
لا يلزم من شم نبينا عليه الصلاة والسلام لتلك الرائحة الزكية الطيبة في رحلته أن يكون قبر الماشطة وأولادها في طريق النبي عليه الصلاة والسلام فقبرها وقبر أولادها في بلاد مصر إخوتي الكرام ... كما قلنا هذه من أحوال البرزخ التي أطلعها الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: ولتوضيح الأمر: ألم ير النبي صلى الله عليه وسلم في طريق رحلته أناساً تقرض ألسنتهم وشفاههم مقاريض من نار، ثم قال من هؤلاء يا جبريل؟ فقال له: هؤلاء خطباء الفتنة.
وهؤلاء لم يوجدوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إنما سيوجدون بعده وسيخطبون لكنهم عرضوا عليه في هذا الوقت وكذلك رأى عذاب من يتثاقل عن الصلاة والصلاة إلى ذلك الوقت لم تفرض ورأى عذاب من لا يؤدي الزكاة والزكاة لم تفرض إلى ذلك الوقت، فإن قيل: كيف هذا؟ نقول: هذا من باب إطلاع الله لنبيه عليه الصلاة والسلام على مغيب وقع أو سيقع، وكذا قبر ماشطة فرعون لم يكن في طريقه لكن أطلعه الله عليه وأشمه رائحته.
إذن فلا يشترط فيمن رآهم يعذبون أن يكونوا في طريق رحلته بل هذا كله من خوارق العادات ومن إطلاع الله لنبيه عليه الصلاة والسلام لبعض المغيبات ولا إشكال في هذا.
ولذلك فبالنسبة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام عندما جمعهم الله في بيت المقدس وجمع له بعضهم في السموات العلا هل كان الاجتماع بأرواحهم أم بأرواحهم وأجسادهم؟ ذكر الحافظ ابن حجر الأمرين قيل. بعثوا من قبورهم من جميع أقطار الدنيا وقيل أرواحهم تشكلت في بيت المقدس قلت: السكوت في هذه المواطن من ذهب لأنها من أمور الغيب. وأمور الغيب إذا لم نطلع عليها فنؤمن بها دون البحث في كيفيتها، إذا جمع الله أجسادهم فهو على كل شيء قدير وإذا شكل الله أرواحهم فهو على كل شيء قدير ولا يجوز مطلقاً أن نفهم ما يجري في البرزخ على حسب ما يجري في الدنيا فهذا الدار لها أحكام وقوانين خاصة.
فنحن في الدنيا الأحكام من عذاب ونعيم تقع على البدن فقط والروح تتأثر بذلك تبعاً للبدن لا أصلا ً وفي البرزخ على العكس تماماً فالنعيم والعذاب يقع أصالة على الروح، والبدن يشعر بذلك تبعاً.
وفي الآخرة فهذه أكمل الدور – فالأحكام من عذاب ونعيم يقع أصالة على الروح والبدن كل واحد يشعر بعذاب ونعيم دون تبعية لغيره، (مثل ضربه الشيخ باستعمال ميزان البصل في وزن الذهب) فلكل شيء موازين خاصة فإياك أن تقيس البرزخ على الدنيا، وإياك أن تقيس الآخرة على البرزخ.(7/119)
ودفنهم في قبر واحد] ولذلك فهؤلاء لهم ذلك النعيم العظيم لهم في البرزخ فبمجرد أن دفنوا حصلت لهم تلك الرائحة الشذية العطرية الطيبة من قبرهم في ذلك.
فإذن النبي صلى الله عليه وسلم لما أسري به شم هذه الرائحة الطيبة من ماشطة ابنة فرعون ومن أولادها الذين قتلوا معها.
إخوتي الكرام ... هذا حال الحق عندما يدخل القلوب سواء كانت عند ذكور أو عند إناث، فانظروا إلى ثبات هذه المرأة على الحق وعدم مبالاتها بأطغى أهل الأرض في ذلك الوقت هو فرعون وماذا يملك فرعون وغيره من الجبابرة؟ هل يملك أكثر من قطع الرقبة؟ لا، ولكن الحال كما قال السحرة لفرعون (فاقض ما أنت قاض ٍ إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) . أما غير هذا فليس في وسع أحد أن يفعله.
ثم إن الموت سيصير إليه القاتل والمقتول، فهل سلم فرعون من الموت، وهل الأنبياء سلموا من الموت؟ لا، فهل في موتي منقصة لي؟ وليس القوي الذي يخاف من موت بدنه، إنما القوي الذي يخاف من موت القلب، فالقلب إذا مات هنا الطامة، وهذا الذي يوجب غضب الله والخسران للأبد أما موت البدن فما الذي يُخوِّف منه؟ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم [تحفة المؤمن الموت] ، فالمسلم إذا مات انتقل من عناء إلى لقاء رب الأرض والسماء، انتقلت من شدة وبلاء إلى نعيم ورخاء. فإذا مت فماذا في هذا؟!! ووالله إن نعمة الله علينا بالموت أعظم من نعمته علينا بالحياة، فإذا مت انتقلت من دار إلى دار، ولذلك للإنسان ثلاث دور الدار الأولى: الدنيا وفي الدنيا دور متعددة أولها بطن الأم فهذا وإن سكنته وخرجت منه، ثم هذه المساكن التي تسكنها الله أعلم بعددها تسكن في الشام في مصر في لبنان في مصر في استراليا العلم عند الله.
الدار الثانية دار البرزخ، وهي أوسع من دار الدنيا وأحسن منها بكثير ثم أكمل الدور وأتمها وهي الدار الثالثة دار الآخرة.(7/120)
فإذن الانتقال إلى البرزخ بالموت كالانتقال من رأس الخيمة إلى مصر ولا فرق هنا عباد وهناك عباد قال تعالى: (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون) فهل يشترط أن نقيم في رأس الخيمة؟ كلا، إذن فكذلك لا يشترط أن نقيم في الحياة فأنت في كنف الله ورعايته إن كان في الدنيا تقوم بالواجب عليك، وإن كان في البرزخ فلا واجب عليك بل يكرمك الله جل وعلا بكرامات لا تخطر على بال وإن كان في الآخرة فرحمتُهُ أوسع وأوسع.
فالمؤمن إذن لا يخاف الموت بل إنه يفرح بالموت وكان عدد من الصالحين إذا جاءهم الموت يقولون: حبيب، جاء على فاقة، لأننا في الدنيا نتألم كما يتألم الكفار لكن في النتيجة نختلف، فنحن يأتينا الموت راحة وهم ينتقلون من عذاب إلى عذاب أشد (إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله مالا يرجون) وهذه الآية في المعارك فنحن نرجو الشهادة وهم يرجون عرضاً من الدنيا ولو لم يكن في الدنيا تعب إلا إدخال الطعام وإخراجه لكفى، فعندما يمضغ ويأكل في اليوم مرتين أو ثلاثاً، ثم يجلس في الخلاء في صورة يستحي منها أفليس في هذا تعب؟ وهذا غير ما يحصل لك من نكد أو تعب أو إيذاء في هذه الدنيا، وكذلك فأنت تملأ وتفرغ وتملأ وتفرغ وهكذا ولذلك كان بعض الصالحين يقول: أشتهي أن يجعل الله رزقي في حصاة أمصها والله استحيت من ربي من كثرة دخولي الخلاء.
وهذا الطعام الذي يدخل إلى جوفك لو كشف للناس عنه لهربوا من نتن ريحه ولذلك أنت أولك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة وفيما بينهما تحمل العذرة(7/121)
فهذا تعب ما بعده تعب فإذا من الله عليك بدار البرزخ ثم بالجنة، ليس هناك عناء ولا بلاء ولا حدث ولا مخاط ولا بصاق، والطعام والشراب يخرج منك على هيئة رشح من جبينك أطيب من المسك ولذلك كل الطعام هناك ليس من باب حفظ البدن من تلف أو لحاجته لطعام، إنما من باب التلذذ والتفكه كما قال تعالى: (وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون) وقال: (وأمددناهم بفاكهة) فسماها فاكهة.
فإذن ماتت ماشطة ابنة فرعون وعذبت فماذا جرى لها؟ ثم انظر لهذه الكرامة بتعجب نبينا عليه الصلاة والسلام لطيب رائحتها.
لذلك هذا المسلك الذي سلكته هذه المرأة الصالحة يجب أن يسلكه الذكور والإناث بلا استثناء.
ولله الحمد توجد من هذه النماذج في عصرنا (قصة الطالبة الصالحة في أبهى التي كانت تشترط على من يتقدم لخطبتها ألا يدخل تليفزيوناً أو منكراً للبيت: إلخ القصة) .
وهذا ما رآه نبينا عليه الصلاة والسلام في رحلته المباركة مما كشف الله له أطلعه عليه مما يكون في عالم البرزخ مما كان قد حصل – من الذنوب – والذنوب التي ستحصل وأطلعه عليها قبل وقوعها.
وهذا كما أطلعه الله – عندما كان في المدينة والحديث في الصحيحين – مثل عذاب رجلين حيث قال صلى الله عليه وسلم: [إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ (وفي رواية يتنزه) من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة] .
هاتان آيتان شرحناهما مفصلتين والآن نذكر جملة من الآيات التي وقفنا عليها في الكتب التي ذكرت في أول هذا المبحث في أول الحديث عن الآية الخامسة، وسنذكر هذه الآيات على وجه الإيجاز والاختصار مع ذكر مرجعها:
3- الآية الثالثة: مر صلى الله عليه وسلم على قوم يزرعون في يوم ويحصدون ي يوم كلما حصدوا عاد كما كان فقال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه.
انظر: مجمع الزوائد (1/67) ، فتح الباري (7/200) .(7/122)
4- الآية الرابعة: ومر صلى الله عليه وسلم على قوم ترضخ (تدق تكسر) رؤوسهم بالصخر كلما رضخت عادت كما كانت ولا يفتر عنهم من ذلك شيء، قال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين تثاقلت رؤوسهم عن الصلاة.
انظر: مجمع الزوائد (1/67) ، فتح الباري (7/200) .
5- الآية الخامسة: مر على قوم على أدبارهم رقاع وعلى أقبالهم رقاع يسرحون كما تسرح الأنعام إلى الضريع والزقوم ورضف جهنم (أي حجارتها المحماة) ، قال: ما هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم (أي لا يزكون) ، وما ظلمهم الله، وما الله بظلام للعبيد.
انظر: مجمع الزوائد (1/67) ، فتح الباري (7/200) .
6- الآية السادسة: مر على قوم بين أيديهم لحم في قدر نضيج، ولحم آخر نيئ خبيث فجعلوا يأكلون الخبيث ويدعون النضيج الطيب، قال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: الرجل من أمتك يقوم من عند امرأته حلالا ً، فيأتي المرأة الخبيثة فيبيت معها حتى يصبح، والمرأة تقوم من عند زوجها حلالا ً طيباً فتأتي الرجل الخبيث فتبيت عنده حتى تصبح.
انظر: مجمع الزوائد (1/67) ، فتح الباري (7/200) .
7- الآية السابعة: مر على رجل قد جمع حزمة عظيمة من حطب لا يستطيع حملها ثم هو يريد أن يزيد عليها، فقال: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا رجل من أمتك عليه أمانة الناس لا يستطيع أداءها ثم هو يزيد عليها ويطلب آخر.
انظر: مجمع الزوائد (1/68) ، فتح الباري (7/200) .
8- الآية الثامنة: مر على قوم تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيء، قال: يا جبريل، ما هؤلاء؟ قال: خطباء الفتنة.
انظر: مجمع الزوائد (1/68) ، فتح الباري (7/200) .
9- الآية التاسعة: مر على جحر صغير يخرج منه ثور عظيم فيريد الثور أن يدخل من حيث خرج فلا يستطيع، فقال: ما هذا يا جبريل؟، قال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة فيندم عليها فيريد أن يردها فلا يستطيع.
انظر: مجمع الزوائد (1/68) ، فتح الباري (7/200) .(7/123)
10- الآية العاشرة: أتى صلى الله عليه وسلم على وادٍ فوجد ريحاً طيبة ووجد ريح مسك مع صوت، فقال: ما هذا؟ قال: صوت الجنة تقول يا رب ائتني بأهلي وبما وعدتني فقد كثر غرسي وحريري وسندسي وإستبرقي وعبقري ومرجاني وقضبي وذهبي وأكوابي ومما في وأباريقي وفواكهي وعسلي وثيابي ولبني وخمري، ائتني بما وعدتني، قال: لك كل مسلمة ومسلم ومؤمن ومؤمنة ومن آمن بي وبرسلي وعمل صالحاً ولم يشرك بي شيئاً ولم يتخذ من دوني أنداداً فهو آمن ومن سألني أعطيته ومن أقرضني جزيته ومن توكل علي كفيته إني أنا الله لا إله إلا أنا لا خلف لميعادي، قد افلح المؤمنون، تبارك الله أحسن الخالقين فقالت: قد رضيت.
انظر (1/68) .
11- الآية الحادية عشرة: أتى صلى الله عليه وسلم على وادٍ فسمع صوتاً منكراً، فقال: يا جبريل ما هذا الصوت؟، قال: هذا صوت جهنم تقول: يا رب ائتني بأهلي وبما وعدتني فقد كثرت سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وغساقي وغسليني وبعد قعري واشتد حري، ائتني بما وعدتني، قال: لك كل مشرك ومشركة وخبيث وخبيثة وكل جبار لا يؤمن بيوم الحساب، قالت: قد رضيت.
انظر المجمع (1/68) .
12- الآية الثانية عشرة: انتهى النبي صلى الله عليه وسلم – وهو راكب البراق – إلى أرض ذات نخل فقال جبريل: انزل، فنزل، ثم قال: صل، فصلى، ثم ركب فقال له: أتدري أين صليت؟، قال الله أعلم، قال: صليت بيثرب، صليت بطيبة، وإنها المهاجرة.
انظر المجمع (1/73) ، الفتح (7/199) .
13- الآية الثالثة عشرة: ثم بلغ أرضاً بيضاء فقال له: انزل، فنزل، ثم قال له: صل فصلى ثم ركب، فقال له أتدري أين صليت؟ قال: الله أعلم، قال صليت بمدين، صليت عند شجرة موسى، وفي رواية: صليت بطور سيناء حيث كلم الله موسى عليه السلام.
انظر المجمع (1/73) ، الفتح (7/199) .(7/124)
14- الآية الرابعة عشرة: ثم قال له جبريل انزل، فنزل فقال صل، فصلى، ثم ركب فقال له: أتدري أين صليت؟، قال: الله أعلم، قال: صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى بن مريم.
انظر المجمع (1/73) ، الفتح (7/199) .
15- الآية الخامسة عشرة: مر النبي صلى الله عليه وسلم في أرض غمة (ضيقة) منتنة، ثم أفضى به المسير إلى أرض فيحاء طيبة، فقال: يا جبريل كنا نسير في أرض غمة نتنة ثم إلى أرض فيحاء طيبة فقال تلك أرض النار وهذه أرض الجنة – وفي رواية: تلك أرض أهل النار وهذه أرض أهل الجنة.
انظر المجمع (1/74) .
16- الآية السادسة عشرة: أتى على رجل قائم فقال من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أخوك عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام.
انظر المجمع (1/74) ، الفتح (7/199، 200) .
17- الآية السابعة عشرة: ثم سار فسمع صوتاً فأتى على رجل فقال: من هذا معك؟ قال هذا أخوك محمد صلي الله عليه وسلم فسلم ودعا لي بالبركة وقال سل لأمتك التيسير، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أخوك موسى صلى الله عليه وسلم.
انظر المجمع (1/74) الفتح (7/199، 200) .
18- الآية الثامنة عشرة: ثم سار صلى الله عليه وسلم، فرأى شيئا، فقال: ما هذه يا جبريل؟ قال هذه شجرة أبيك إبراهيم، فقال: أدنو منها؟ قال: نعم، فدنا منها فرحب ودعا لي بالبركة.
انظر المجمع (1/74) ، الفتح (7/199، 200) .
19- الآية التاسعة عشرة: رأى الدجال فقال: وأراني – أي جبريل – الدجال ممسوخ العين اليمنى شبهته بِقَطَن بن عبد العزي.
انظر المجمع (1/75) .
20- الآية العشرون: عرض له رجل عن يمين الطريق – في ذهابه إلى بيت المقدس – فجعل يناديه يا محمد إلى الطريق – مرتين – فقال له جبريل امض ولا تكلم أحداً، ثم أخبره أن الرجل الذي عرض له عن يمين الطريق هم اليهود دعته إلى دينهم.
انظر المجمع (1/77) .(7/125)
21- الآية الحادية والعشرون: عرض له رجل عن يسار الطريق، فقال له: إلى الطريق يا محمد فقال له جبريل: امض ولا تكلم أحداً، ثم قال له جبريل: تدري من الرجل الذي دعاك عن يسار الطريق؟ قال: لا، قال: تلك النصارى دعتك إلى دينهم.
انظر المجمع (1/77) .
22- الآية الثانية والعشرون: عرضت له امرأة حسناء جميلة، فقال له جبريل: هذه المرأة الحسناء هي الدنيا دعتك إلى نفسها. انظر المجمع (1/77) ، ووقع في الفتح (7/199) أنه مر بامرأة عجوز فقال له جبريل هذه الدنيا.
23- الآية الثالثة والعشرون: مر بشيء يدعوه متنحياً عن الطريق، فقال له جبريل: سر، ثم قال له: الذي دعاك هو إبليس.
انظر الفتح (7/199) .
24- الآية الرابعة والعشرون: مر بقوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم، فقال هم هؤلاء يا جبريل، قال هؤلاء أكلة الربا.
انظر الفتح (7/200) ، المجمع (1/66) .
25- الآية الخامسة والعشرون: مر بقوم مشافرهم (شفاههم) كالإبل يلتقمون حجراً فيخرج من أسافلهم، فقال له جبريل: هؤلاء آكلة أموال اليتامى.
انظر الفتح (7/200) .
26- الآية السادسة والعشرون: لما دخل المدينة التي فيها بيت المقدس من بابها الثامن أي قبلة المسجد فربط دابته ثم دخل المسجد من باب فيه مثل الشمس والقمر.
انظر المجمع (1/73) .
27- الآية السابعة والعشرون: مر بعير لقريش بمكان كذا وكذا قد أضلوا بعيراً لهم فسلم عليهم وقال بعضهم لبعض: هذا صوت محمد، وحاجه المشركون في مكة لما أخبرهم الخبر فقال لهم: مررت بعير لكم في مكان كذا قد أضلوا بعيراً لهم وأنا مسيرهم لكم ينزلون بكذا ثم يأتونكم يوم كذا وكذا يقدمهم جمل آدم عليه مسح أسود وغرارتان سوداوتان، فلما كان ذلك اليوم أشرف الناس ينظرون حتى كان قريباً من نصف النهار، أقبلت العير يقدمهم ذلك الجمل الذي وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
انظر المجمع (1/73، 74، 75) الفتح (7/200) .(7/126)
28- الآية الثامنة والعشرون: لما أخبرهم بخبر الإبل السابقة، قالوا له: هل مررت بإبل لبني فلان؟، قال: نعم وجدتهم في مكان كذا وكذا قد انكسرت لهم ناقة حمراء فوجدتهم وعندهم قصعة من ماء فشربت ما فيها، فقالوا: أخبرنا ما عدتها وما فيها من الرماة، قال: قد كنت عن عدتها مشغولا ً فقام فأتى بالإبل فعدها وعلم ما فيها من الرعاة ثم أتى قريشاً فقال لهم: سألتموني عن إبل بني فلان فهي كذا وكذا وفيها من الرعاء ابن أبي قحافة وفلان وهي مصبحتكم بالغداة عند الثنية، قال: فقعدوا إلى الثنية ينظرون أَصَدَقَهُمْ؟ فاستقبلوا الإبل فسألوا: هل انكسرت لكم ناقة حمراء؟ قالوا نعم، قالوا: فهل كان عندكم قصعة؟ قال أبو بكر: أنا والله وضعتها فما شربها أحد ولا أهراقوه في الأرض.
انظر المجمع (1/75) ، الفتح (7/200) .
29- الآية التاسعة والعشرون: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد الأقصى وصلى فيه وعرضت عليه الآنية انطلق به جبريل حتى أتى الوادي الذي في المدينة – أي المدينة التي فيها المسجد – فإذا جهنم تكشف عن مثل الزرابي، فقال الصحابة: يا رسول الله كيف وجدتها؟ قال مثل الحمة المسخنة.
انظر المجمع (1/73) .
هذا ما تسر لي جمعه من الآيات التي رآها نبينا عليه الصلاة والسلام في طريقه من مكة إلى بيت المقدس أو العكس مما يدخل تحت الآيات الأرضية التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم.
القسم الثالث:
آيات سماوية رآها نبينا عليه الصلاة والسلام عندما عرج به إلى السموات العلا:
الآية الأولي:
المِعْراج أو المُعْراج – بكسر الميم أو ضمها – وهذا أول الآيات كما أن البراق هو أول الآيات الأرضية، فالبراق من مكة إلى بيت المقدس، ومن بيت المقدس إلى السموات العلا كان الصعود عن طريق المعراج أو المعراج، وهو آلة يعرج عليها ويُصْعَدُ بها كالسلم أو الدرج أو المصعد عندنا في حياتنا.(7/127)
قال نبينا عليه الصلاة والسلام كما في مغازي ابن إسحاق – [فأتيت بالمعراج فلم أر شيئا أحسن منه] وهو الذي يشخص إليه الميت بعينيه إذا حضره أجله] فالميت عندما يموت ينظر إلى فوق، فينظر إلى هذا المعراج الذي ستعرج إليه روحه.
[وكان مرقاة من ذهب ومرقاة من فضة، وكان مكللا ً باللؤلؤ من جنة الفردوس] فهذا هو المعراج نؤمن به ونفوض العلم بكيفيته إلى ربنا جل وعلا، وعما قريب سيراه كل واحد وينظر إليه بعينه عندما يحضره أجله ويرى مقعده من الجنة أو النار عن طريق المعراج فإذا كان صالحاً فتحت له أبواب السماء وإلا أغلقت.
الآية الثانية:
آيات رآها عندما عرج به إلى السموات:(7/128)
ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث مالك بن صعصعة، عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال ".... فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا (السماء الأولى) فاستفتح (استأذن) فقيل من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمدً [عليه صلوات الله وسلامه] وهذا أي قول الملائكة من معك يحتمل أن السماء شفافة فرأوا من هو خارجها أو أنهم سمعوا حساً للنبي عليه الصلاة والسلام معه، أو رأوا زيادة أنوار عرجت عندما ارتقى جبريل فاستفتح من أجل أن يلج السماء فقيل من؟ قال: جبريل، قيل ومن معك؟ قال: محمد [فقال (حراس السماء الدنيا) أَوَقَدْ بعث إليه؟] أي أذن له بأن يدخل وطلب لمناجاة الله، وسؤال الملائكة هذا يحتمل عدة أمور إما أنه من باب التعجب إذ كيف حصل للنبي صلى الله عليه وسلم هذه المرتبة العظيمة الجليلة، فتعجب الملائكة من هذا، أو أن هذا للاستبشار، أي استبشاراً بلقائه وفرحاً بمجيئه، ويحتمل (قاله الحافظ) أنهم قالوا هذا إعلاماً للنبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يعلمون أنه سيأتي ويؤذن له في الدخول فكأنهم يقولون: نحن عندنا علم بمجيئه لكن هل حان الوقت وبُعث إليه وأرسلك الله يا جبريل إليه في هذا الوقت؟ أي نحن علمنا بأنه محمداً صلى الله عليه وسلم سيأتي ويدخل لكن ما حُدِدَ لنا الوقت، [فقال: نعم، فقيل: مرحباً به فنعم المجيء جاء، ففتحت السماء، فلما خَلَصْتُ (أي دخلت إليها وسرت فيها) فإذا فيها آدم، فقال جبريل: هذا أبوك آدم فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد علي السلام ثم قال لي مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح] .
إخوتي الكرام.... ثم عرج به إلى السماء الثانية، ولكنا سنذكر على سبيل الاختصار الأنبياء الذين لقيهم في هذه السموات السبع، ولا أريد أن أستعرض ألفاظ الحديث لأنه في كل سماء لما يستأذن يُقال: أو قد بعث إليه؟ فيقال: نعم، فيفتح له فيقول فإذا فيها فلان من الأنبياء.... ومن أراد نص الحديث فليرجع إليه في صحيح البخاري أو مسلم.(7/129)
ففي السماء الأولى (السماء الدنيا) نبي الله آدم عليه السلام.
وفي السماء الثانية ... ... نبيا الله عيسى ويحيى عليهما السلام.
وفي السماء الثالثة ... ... نبي الله يوسف عليه السلام.
وفي السماء الرابعة ... ... نبي الله إدريس عليه السلام.
وفي السماء الخامسة ... ... نبي الله هارون عليه السلام.
وفي السماء السادسة ... ... نبي الله موسى عليه السلام.
وفي السماء السابعة ... ... نبي الله وخليله إبراهيم عليه السلام.
الأنبياء كلهم جمعوا لنبينا عليه الصلاة والسلام في بيت المقدس، أما في السموات السبع فما اجتمع إلا بثمانية من الأنبياء (1) .
__________
(1) هل ترتيب الأنبياء في السموات السبع باق ٍ أم أنهم رُتِّبُوا كذلك لحادثة الإسراء والمعراج للنبي صلى الله عليه وسلم؟ وإذا كانوا باقين حسب هذا الترتيب فأين الأنبياء والرسل الباقون عليهم السلام؟
الجواب: هؤلاء الأنبياء ليست مساكنهم في السماء إنما [الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام، رواه أبو يعلى والبزار ورجال أبي يعلى ثقات، انظر المجمع (8/211) وقد نصَّ المُناوي في فيض القدير (3/184) على أن الحديث في درجة الحسن وهو من حديث أنس ٍ رضي الله عنه، والحديث رواه أيضاً البهيقي في حياة الأنبياء وتمام في فوائده وابن عساكر في تاريخ دمشق، انظر الجامع الكبير (1/359) ، لكن جمعوا في بيت المقدس وليست مساكنهم – إنما كما قلنا – إما أن أرواحكم تشكلت أو خرجوا من قبورهم واجتمعوا في بيت المقدس لعلة يعلمها الله ولا نعلمها وهو من أمور الغيب وخوارق العادات.
وجُمِعَ بعضهم في السموات، وليست مساكنهم ولا هم يجلسون فيها، لكن ينبغي أن يحصل لنبينا عليه الصلاة والسلام لقاء لمن حالُه يشابه حالَه، ولذلك رتب هؤلاء، وهناك بعض من لم له ولم يلقه في السموات وهو أفضل ممن رتب له كنبي الله نوح – وهو من أولي العزم ولم يذكر ويرتب ولم يكن في هذه السموات في لقاء خير البريات عليه صلوات الله وسلامه، لأنه ليس بينه وبين نبينا عليه الصلاة والسلام – في حاله مع أمته – أي مشابهة، فقومه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً وما استجاب له إلا قليل، ولو رتب لنبينا عليه الصلاة والسلام لربما فهم نبينا عليه الصلاة والسلام - سيصبر ويصبر ويصبر وأن حال هذه الأمة كمن يريد أن يخض الماء ليخرج منه زبداً!! ولربما قال: أنا حالي يشبه نبي الله نوح عليه السلام.
ولذلك قلنا عُرِض له من يشبه حاله مع أمته كحال أولئك، لترتيبات معينة فإذن ليست منازلهم في السماء على هذا الترتيب إنما رتبوا في حادث الإسراء والمعراج هذا الترتيب.
ولماذا كان هذا الترتيب؟ هذا هو الذي استعملنا عقولنا في إدراك حكمته، وأما بعد ذلك فأعيدوا قبورهم وهم أحياء يصلون باستثناء نبي الله عيسى عليه السلام الذي رفعه الله إليه.
وسأضرب لكم مثلاً ولله المثل الأعلى، لما يأت أمير إلى مسؤول فإنه يرتب له شخصيات معينة للقائه على حسب وزنه ومنزلته، وليس هؤلاء مكانهم هذا، إنما جيء بهم في هذا الوقت لأجل لقاء طارئ وهنا كذلك.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(7/130)
إن قيل: ما الحكمة في الاقتصار على هؤلاء الأنبياء فقط دون غيرهم، وكونهم بهذا الترتيب من السماء الأولى إلى السابعة؟
فنقول:
أما آدم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه فجعل في السماء الأولى ليحصل مباشرة أُنس النبوة بالأبوة، الابن محمد عليه الصلاة والسلام والأب الأول للبشرية كلها آدم عليه الصلاة والسلام، ولم يجعل في السماء الأولى من باب دنو منزلته إنما من باب أن هذا أب أول لجميع البشر، ولذلك فينبغي للابن أن يلتقي بأبيه قبل غيره.
ولذلك لو دخلت بيتك الذي فارقته سنوات ورأيت أخاك ولم تر أباك لن تفرح وتسعد حتى ترى أباك، وهذا مشاهد ومجرب.
ليكون في ذلك إشارة أيضاً – كما قال الحافظ ابن حجر نقلا ً عن السهيلي وابن أبي جمرة – إلى أنك يا محمد بعد هذه الحادثة سيحصل لك ما حصل لأبيك فلا تحزن.
وماذا حصل لآدم؟
خروج من الجنة وهي وطنه، وأنت سيحصل لك خروج من مكة، وبالفعل حصل هذا بعد سنة ونصف، ولذلك قلنا الإسراء وقع قبل الهجرة بسنة ونصف.
وآدم بعد خروجه من الجنة ازداد رفعة، وكان آدم بعد خروجه خيراً منه قبل خروجه (ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) ، فاجتباه ربه بعدما خرج، وأما ما حصل منه ف [كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون] وإذا أقلع الإنسان عن معصية وأناب يكون حاله بعد المعصية خيرا من حاله قبل التوبة.
إذن فسيحصل لك ما حصل لآدم وليس في هذا مضرة عليك فكما أن آدم بعد خروجه ارتفع قدره وعلا ذكره ولو بقي في الجنة لما وجدت هذه البشرية التي توحد الله وتعبده فقدر الله له الخروج (ليقضي الله أمراً كان مفعولاً) ، وأنت بعد خروجك سيرتفع ذكرك ويعلو أمرك ويظهر دينك وهذا الذي حصل.(7/131)
لاسيما وقد ذكرنا في الآيات التي رآها في رحلته من مكة إلى بين المقدس أنه أمره جبريل بالصلاة في مكان ثم أخبره أنه صلى بطيبة، ثم قال له وإليها المهاجرة بفتح الجيم، أي ستكون دار لهجرتك، فإذن أخبر في الأرض أنه سيهاجر، فحتى لا يصبح في قلبه شيء ويخاف – هذا من الطبائع البشرية – وحتى لا ينكسر قلبه ويغتم ارتفع به إلى الكمالات وقابل هناك الأب الصالح أول من قابل فكأنه قيل له: الهجرة فيها خير كما حصل في الانتقال لهذا الأب الذي تقابله خير عندما هاجر من الجنة إلى الدنيا.
ولِمَ كان عيسى ويحيى عليهما السلام في السماء الثانية؟
هناك عدة أجوبة والجواب المعتمد وهو الحق إن شاء الله وهو من باب الحكم التي تُشم كشم الوردة: لأنه ليس بين نبينا عليه الصلاة والسلام وبين نبي الله عيسى نبي آخر فهو أولى الناس به، وأما يحيى فهو ابن خالة عيسى فبما أنهما ابنا الخالة فقُرِنا في سماء واحدة، وقد ثبت في الصحيحين عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى دينهم واحد] وفي رواية أخرى مختصر البخاري (7341) [أنا أولى الناس بابن مريم والأنبياء أولاد علات ليس بيني وبين نبي] .
فإذن بعد أن حصل أُنس النبوة بالأبوة سيلتقي بعد ذلك بإخوانه الذين هم أقرب الناس إليه من غيرهم وأولهم عيسى عليه السلام.
أما يوسف، فالحكمة من كونه في السماء الثالثة بعد الثانية بعد أن حصل أُنس النبوة بالأبوة وأنس الأخ بأخيه الأقرب، فإنه سيحصل لنبينا عليه الصلاة والسلام أُنس خاص بنبي فيه شبه بنبينا عليه الصلاة والسلام من وجهين:(7/132)
حسن الصورة وبهاء المنظر وجمال الطلعة، فنبي الله يوسف أعطاه الله شطر الحسن، ونبينا عليه الصلاة والسلام له الحسن بكامله. فأجمل الناس بعد نبينا عليه الصلاة والسلام هو يوسف فعندما يرى هذا النور يتلألأ منه يحصل حينئذ شيء من الشبه الظاهري، يضاف إليه شبه آخر يتعلق بالدعوة وهو:
أنه لاقى مكراً وكيداً من أخوته لأبيه، وقرابته حيث مكروا به وألقوه في الجب وبعد ذلك مكن الله له في الأرض وجاءه إخوته فقال لهم (هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون قالوا إنك لأنت يوسف، قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) سورة يوسف 89-92، وما حصل ليوسف هو عين ما حصل لنبينا عليه الصلاة والسلام فآذاه قرابته وعشيرته وطردوه من مكة وسيؤذونه وسيعيده الله بعد ذلك وسيقول لهم ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم فيقول، لا تثريب عليكم اليوم، اذهبوا فأنتم الطلقاء الأحرار وقد وقع كل هذا، فهذا أيضاً شبه، فليحصل إذن استحضار لتلك المعاني، الصورة واحدة وما حصل لهذا النبي من المكر فسيحصل لك، وما حصل له من الظفر والنصر سيحصل لك.
4- وأما السماء الرابعة ففيها إدريس عليه الصلاة والسلام، كما قال الله تعالى (ورفعناه مكاناً علياً) وإنما قال مكاناً علياً وهو في السماء الرابعة وليس في السابعة لأنه في الوسط، والوسط مكان مرتفع ومعتدل.
وفي ذلك إشارة إلى أن هذا العلو الذي حصل لهذا النبي بعد الثالثة – وهي الرابعة – سيحصل لنبينا عليه الصلاة والسلام في هذه الحياة الدنيا وقد حصل له، وأن رسالتك وديانتك وسط (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً) خياراً عدولاً تعتدلون في أحكامكم التي أنزلها ربكم عليكم.(7/133)
5- وأما السماء الخامسة ففيها هارون عليه الصلاة والسلام، وفي ذلك إشارة إلى قربه من نبي الله موسى وهارون تابع لموسى عليهما الصلاة والسلام فليكون إذن بمثابة تمهيد للقاء موسى عليه السلام.
وفي ذلك إشارة لنبينا عليه الصلاة والسلام ليوطن نفسه على تحمل ما تحمله هارون من موسى عليهما السلام.
وفي ذلك أيضاً إشارة عظيمة أيضاً وهي أن هارون رجع قومه إلى محبته بعد أن نفرتهم منه وعداوتهم له، وهذا سيحصل لنبينا عليه الصلاة والسلام فقومك سيحبونك بعد معاداتهم لك، فحالك كحال هارون فقد كان محبباً في قومه أكثر من نبي الله موسى عليه السلام وكانوا ينفرون من موسى ويأنسون بهارون عليهما صلوات الله وسلامه للين عريكته وعدم شدته وله فيهم منزلة عظيمة، الحاصل أن في لقائه بهارون تذكير له بطبيعة موسى ولذلك كأنه يقال: إذا لقيت موسى فاصبر وتحمل فإن له مقامات عند ربه وهو مدلل عنده.
6- وأما موسى عليه الصلاة والسلام، فاجتمع بهذا النبي في السماء السادسة ليعلم أنه رفيع القدر أعلى من هارون، فنبينا أعلى من هارون كما أن موسى أعلى من هارون إذن فأنت أعلى ممن تقدمك والحكمة الثانية: ليحصل لك ما حصل لهذا النبي من، فعاداه فرعون قومه فصبر فمكنه الله منه ونصره عليه، فأنت سيعاديك فرعون هذه الأمة – أبو جهل – فاصبر وستمكن منه وستقطع رقبته في يوم بدر وهذا الذي حصل، فيوم بدر بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم كغرق فرعون بالنسبة لموسى عليه الصلاة والسلام.
7- أما السماء السابعة، فكأنه يقال له: بدأنا الأمر بالأب الأبعد فلنختمه بالأب الأدنى وهو خليل الرحمن إبراهيم، أبو العرب، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم (ابن الذبيحين) فعبد الله ذبيح لأن عبد المطلب نذر أن يذبح أحد أولاده إذا عثر على زمزم فوقعت القرعة على عبد الله ثم فكه بعشر ديات، وإسماعيل ذبيح بنص القرآن، وقد نجى الله الذبيحين.(7/134)
فكما أنك استأنست بأبيك الذي هو أبعد الآباء فلتستأنس بأبيك الذي هو أقرب الآباء إليك ممن هو نبي وهو خليل الرحمن، وليس في آبائه نبي آخر بعد ذلك ليستأنس به جاء من عبد المطلب أو غيره.
وحكمة ثانية: فأنت خليل وهو خليل فلابد أن يجتمع الخليل مع الخليل ثم إن خلتك أعلى من خلته لأنك سترفع إلى مكان فوقه بعد ذلك فرغم أنه في أعلى الرتب وهي السماء السابعة لكن نبينا صلى الله عليه وسلم سيرفع إلى مكان فوقه.
وفي ذلك إشارة – أيضاً – كما قال علماؤنا: إلى ما سيحصل لنبينا عليه الصلاة والسلام في المستقبل، فالسماء السابعة فيها خليل الرحمن إبراهيم، وأنت ستخرج من مكة وستدخلها في العام السابع في عمرة القضاء بعد صلح الحديبية لأن هذا كان في العام السادس وقد تم الاتفاق على أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في السنة التالية ورُدَّ هذا العام، فجاء في العام السابع ودخل مكة واعتمر، ثم في العام الثامن فتحت مكة إذن فهذه المناسك التي في مكة وأقام إبراهيم هذا البيت على الدعائم الأولى التي أسس عليها البيت فأنت ستعود لمكة في العام السابع وستفرض عليك مناسك الحج كما فرضت على خليل الله إبراهيم (وأذن في الناس بالحج) ، وأنت ستؤذن وتدعو الناس إلى لك.
فهذا هو مجمل الحكم عن الالتقاء بهؤلاء الأنبياء الثمانية صلوات الله وسلامه عليهم.
تعارض وجمع:
ورد في بعض روايات البخاري أن نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام [لقيه نبينا عليه الصلاة والسلام في السماء السابعة] ، قال الحافظ ابن حجر: ورد هذا في رواية
وشريك هذا هو الذي يروي حديث الإسراء والمعراج عن أنس رضي الله عنه، وله أوهام لكن هنا – كما يقول الحافظ- ضبطه وليس هذا من أوهامه.
[وموسى في السماء السابعة بفضل كلام الله له](7/135)
قال الحافظ ابن حجر: لا إشكال بين هذه الرواية والروايات المتقدمة ولا تعارض فنبي الله موسى مكانه الحقيقي في السادسة لكن بعد أن عرج بنبينا عليه الصلاة والسلام السابعة صحبه موسى إلى غير داره الحقيقية كمرافق بفضل كلام الله له.
أي بما أن الله كلم موسى تكليماً واتخذ إبراهيم خليلاً فجمع الله الخليلين مع الكليم في السماء السابعة، هذا هو الجمع المعتبر.
وبقي موسى في السماء السابعة حتى عاد نبينا عليه الصلاة والسلام، وظهر أثر هذا: مَرَّ عليه وسأله ماذا فرض عليك؟ قال: خمسين صلاة، قال ارجع فسله التخفيف إلى أن خفضت إلى خمس، فنبينا عليه الصلاة والسلام لم يكن ينزل إلى السادسة إلى موسى ويسأله عما فرض عليه، ويمر مروراً على إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام.
فإذن موسى عليه الصلاة والسلام لازال منتظراً له في السماء السابعة ثم هو معه إلى السماء السادسة ثم بقي فيها وأعيد نبينا عليه الصلاة والسلام إلى مكانه.
ورد في رواية الإمام مسلم – وهذه الرواية ليست في البخاري عن أنس رضي الله عنه – وحديثنا في الآية الثانية وعما فيها من عجائب – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [فإذا بإبراهيم مسنداً ظهره إلى البيت المعمور، فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه] والبيت المعمور الذي هو في السماء كالكعبة في الأرض.
وهذه آية عظيمة رآها نبينا عليه الصلاة والسلام.
قال الحافظ ابن حجر "وفي هذا دلالة على أن أكثر المخلوقات هم الملائكة فلابد لجنس من الأجناس تزايد وتكاثر بهذه النسبة، فمنذ أن أوجد الله الكون إلى هذه الساعة يدخل إلى البيت المعمور سبعون ألفاً لا يعودون إليه، فالملائكة هم أكثر خلق الله (وما يعلم جنود ربك إلا هو)
والإنسان وكل الله به 160 ملكاً، وفي حديث عند الطبراني: [وكل الله بالمؤمن 160 ملكاً يحفظونه للبصر من ذلك سبعة أملاك] وهو في المعجم الكبير وسنده ضعيف.(7/136)
والله يشير إلى هذا في كتابه (له معقباتٌ من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) فهناك ملائكة تتعاقب على حراسته وحفظه ويعقب بعضها بعضاً في تقييد عمله وتسطير ما يحصل منه.
وقد جرى في السماء السادسة عند رؤية نبينا عليه الصلاة والسلام لنبي الله موسى كليم الله موقفٌ ينبغي أن نقف عنده.
المحاضرة الثانية عشرة:6/4/1412هـ
هذا الموقف لما تجاوز نبينا عليه الصلاة والسلام موسى بكى – أي موسى- فقل له ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي] هذه رواية وورد أيضاً في رواية ابن مسعود رضي الله عنه [أن نبينا عليه الصلاة والسلام لما مر بموسى هو يرفع صوته فيقول: أكرمْتَهُ، وفضلْتَهُ، فقال نبينا عليه الصلاة والسلام من هذا؟ فقال جبريل: هذا موسى، قال: ومن يعاتب؟ فقال: يعاتب ربه فيك، قال: كيف علو صوته على ربه؟ فقال: إن الله قد عرف له حدته] أي انفعاله وغضبه.
وفي رواية في مسند أبي يعلى والبزار بسند حسن [أن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: سمعت صوتا وتذمرا فسألت جبريل، فقال هذا موسى، قلت ـ على من تذمر؟ قال: على ربه، قلت: على ربه؟ ! قال: إنه قد عرف ذلك منه.]
والتذمر شبه الاعتراض والتأثر.
وهذا الموقف الذي جرى من نبي الله موسى ينبغي أن نقف عنده لنحلله وننظر إليه:
ما جرى من نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام لا يعتبر حسداً، فالحسد من الكبائر والأنبياء معصومون عن ذلك، وحاشا لنبي أن يكون حسوداً وحاسداً لأحد على ما فضله الله وأنعم به عليه.
فإن قيل: فما تعليل هذا الكلام إذن؟(7/137)
نقول: إن موسى عليه الصلاة والسلام قال ما قال من باب الحزن على ما فاته من الذي سبقه به محمد عليه الصلاة والسلام، وكان ذلك الحزن منه بسبب أمته – نبي إسرائيل فعندما لم يتبعوه على الوجه الكامل المرضي لم يكن لهم من الحسنات كما لهذه الأمة ولو اتبعوه ابتاعاً كاملاً لحصل هم حسنات ثم كتبت حسناتهم في صحيفة نبي الله موسى من دل على خير فله أجر فاعله، ولذلك نبينا عليه الصلاة والسلام له أجر هذه الأمة إلى أن تقوم الساعة.
ولعل الله أعلم موسى بذلك وأن هذه الأمة حالها ليس كحال أمتك ومن أجل هذا ارتفع هذا النبي عليك لزيادة قدره عندي لأن حسناته لم يأت بها أحد من خلقي، فعدا عن حسناته الخاصة وجهده الذاتي فإن له حسنات تأتي بسببه بعد ذلك فيكتب له أجره إلى يوم القيامة.
فموسى عليه الصلاة والسلام عندما جاوزه نبينا عليه الصلاة والسلام بدأ يحصل منه هذه التذمر لا من باب حسد نبينا عليه الصلاة والسلام إنما من باب الحزن على ما فرطت به بنو إسرائيل مما أدى به إلى أن تكون منزلته نازلة.
وأضرب لكم مثلاً: لو أن عندك ولداً عنيداً بليداً وأنت تبذل ما في وسعك لتوجيهه فلا يتوجه. ثم مدَّ بك بعد ذلك بعض أولاد أصحابك وكان عليه ذكاء ونجابة وألمعية فأنت قد يحصل منك الآن تذمر وانفعال وغضب على ولدك وقد يسوء كلامك وخلقك.
وهذا الذي حصل من نبي الله موسى، فإنه ليس من باب الحسد إنما من باب الحزن والتأنيب لقومه وأمته على ما تسببوا به من إنزال مرتبته.
ونسأل الله أن لا يجعلنا ممن يسودون وجه نبينا عليه الصلاة والسلام وأن يجعل نبينا عليه الصلاة والسلام يباهي بنا الأمم يوم القيامة، إنه على كل شيء قدير.
2- قوله عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه غلام، وليس في هذا تحقير فاشبه لهذا فإن الإنسان يمر بأربعة مراحل رئيسة في عمره:
أ- المرحلة الأولى: غلام، ما دون التكليف من 15 سنة فما دونها.(7/138)
ب- المرحلة الثانية: شباب، وهي من 15 سنة إلى 30نسة ومدها الإمام ابن القيم إلى 40 سنة، وقال هذا حد الشباب وفيها – أي في الأربعين – تكتمل قوى الإنسان ويبلغ أشده (حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة) ، وما بعث الله نبياً إلا على أربعين هذا على الأعم الأغلب، انظروا روح البيان للألوسي (26/18، 19) ، لأن قواه العقلية تكون قد اكتملت وتكون عنده التؤدة والتأني والثبات والرزانة ووضع الأمور في مواضعها.
جـ- المرحلة الثالثة: كهولة، وهي من 40 سنة – إلى 60 سنة.
د- المرحلة الرابعة: شيخوخة، وهي من 60 سنة إلى الوفاة نسأل الله حسن الخاتمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك] والحديث في المسند والسنن بسند صحيح.
فإذن قوله غلام أي لازال صبياً ناهز الاحتلام، فلم يصفه بأنه شاب وكيف هذا؟
ذكر أئمتنا جوابين عن هذا:
1- الجواب الأول: ونقل عن المتقدمين كابن أبي جمرة وغيره، أن هذا من باب دالة موسى على نبينا عليه الصلاة والسلام.
فموسى أكبر منه، ونبينا مع موسى كالغلام مع الشيخ من ناحية العمر، فهو وإن كان يزيد على الخمسين سنة (51 سنة ونصف) ودخل في الكهولة فعبر عنه بأنه غلام – في أول مراحل العمر بالنسبة إلى عمر نبي الله موسى، فالفارق بينهما يجعل هذا العمر الذي يزيد على خمسين سنة كأنه سنة مع عمر نبي الله موسى عليه صلوات الله وسلامه، لاسيما وأن لموسى دالة عليه ومنزلة لكبر سنه ولسبقه له في النبوة والرسالة، ولأنه سيشير عليه – كما سيأتي – بأمر ينفعه وينفع أمته فجزاه الله عنا خيراً.
2- الجواب الثاني: ذكره الحافظ ابن حجر – وهو في تقديري أقوى الجوابين – فقال إن هذا ليس من باب أن نبينا مع موسى كالغلام مع الشيخ، إنما عبر بغلام هنا ليخبره عن قوة نبينا عليه الصلاة والسلام وعزمه ونشاطه.(7/139)
فهو كبير في العمر لكن همته همة الشباب، وهمته همة من لم يعرف تعباً في الحياة بل لازال؟؟ له كل شيء وهو جاهل لذلك قوته مجتمعة لم تبذل هنا وهناك، ولم يتعب في حياته وهذا هو حال الناس.
فإذن ليدلل على عزيمته وقوته رغم كونه في سن الكهولة، وهذا حاله صلى الله عليه وسلم، يقول على رضي الله عنه [كنا إذا اشتد الوطيس وحمت المعركة أشجعنا يلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم] .
وفي غزوة حنين عندما نصب المشركون كميناً للنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة؟؟؟ بنبال كالمطر فتفرق الصحابة، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم وكان يردد: أنا النبي لا كذب *** أنا ابن عبد المطلب
ثم قال يا عباس، نادِ في الصحابة، يا أهل بيعة العقبة، يا أهل بيعة الشجرة، يا أهل بدر أي نادهم يا عباس ليجتمعوا إليَّ وهو ينادي ويقول:
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
فإذن ما فيه من عزم ونشاط هو عزم الشباب لا عزم الكهولة ولذلك سماه غلاماً هو في آخر مراحل الغلام وأول مراحل الشباب.
قال الحافظ ابن حجر: وقد تأيد هذا بالحديث الصحيح الثابت في صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه [أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه التسع في الساعة الواحدة من ليل أو نهار بغسل واحد فقيل لأنس: أو كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يطيق ذلك؟ فقال: كنا نتحدث أن الله أعطاه قوة ثلاثين] .
وفي كتاب صفة الجنة لأبي نُعيم بسند صحيح – [أن الله أعطاه قوة أربعين رجلا ً من أهل الجنة] وقوة الرجل في أهل الجنة تعدل قوة مائة رجل من أهل الدنيا أكلا ً وشرباً ومباشرة.(7/140)
فنضرب 40×100 فيكون الناتج 4000، إذن قوة نبينا عليه الصلاة والسلام إذا قورنت برجال أهل الأرض فإنها تعدل قوة (4000) رجلا ً، فهل يكون من هذا شأنه كهلا؟!! ولذا قيل له غلام، لأن مَنْ هذا حاله وشأنه لا يقال فيه [هذا الشيخ أو الكهل الذي بعث بعدي فقد يفهم منه أنه ضعيف ليس عنده قوة] ، فرسولنا صلى الله عليه وسلم فيه نشاط الغلمان لا عمرهم، وعمره عمر الكهول.
وهذا خير ما يكون في الإنسان رزانة ووقار أي كبير في السن، لكن عزمه قوي يغلب عزم الشباب.
إخوتي الكرام ... يكرم الله جل وعلا عباده بما شاء سبحانه وتعالى، وقد ذكر أئمتنا في ترجمة سُليم بن عِتْر قاضي مصر في عهد معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وسليم هو من أئمة التابعين توفي سنة 75هـ ذكر أئمتنا أنه كان يختم كل ليلة ثلاث مرات – وهو - ويتصل بأهله ثلاث مرات.
وهذه قوة عجيبة يكرم الله بها بعده، فأولاً يختم القرآن في كل ليلة وهذا ورد ثلاث مرات وهو القاضي الذي فرغ نفسه لشؤون الناس في النهار فإذا جن الليل.
وقد ذكر هذا في سير أعلام النبلاء للذهبي 4/132،وفي غيره.
يقول الإمام الذهبي في ترجمته: "سُليم بن عِتْر الإمام الفقيه قاضي مصر ووعظها وقاصها وعابدها – "ثم قال: "وروي عنه أنه كان يختم كل ليلة ثلاث ختمات ويأتي امرأته ويغتسل ثلاث مرات، وأنها قالت بعد موته: رحمك الله، لقد كنت ترضي ربك وترضي أهلك" إلخ ترجمته.
ويقول الشيخ شعيب الأرناؤوط – وهو المعلق على سير أعلام النبلاء -: ولا يعقل ذلك، ربما لا يصح عنه"
لماذا لا يعقل هذا؟ وقد قلنا إن خارق العادة ليس بمستحيل ولا بمخالف للعقل.
فلو أن الله أكرم أحد عباده بأن يختم القرآن كل ليلة مائة مرة يعقل هذا أم لا يعقل؟ بل يعقل وأن يتصل بأهله مائة مرة، يعقل هذا أم لا يعقل؟ بل يعقل.
فلماذا لا يعقل وليس هو بمستحيل، لذلك فانتبهوا إخوتي الكرام إذا أردتم أن تتكلموا وزنوا كلامكم بميزان الشرع.(7/141)
ولو قال هذا المعلق: "هذا غريب والله على كل شيء قدير" فلا بأس، ولكن انظر كيف يقول لا يعقل وربما لا يصح، فما دام ليس معقولاً عندك قل لا يصح ولا تقل ربما، فإذن كيف صار كلا منا لا احتراز فيه ولا احتراس ثم قال: لأنه مخالف لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث) رواه أبو داود والترمذي بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
ولكن نحن نقول هذه كرامة وليست من المستحيلات حتى نردها.
والإمام النووي في كتابه التبيان في آداب حملة القرآن – وهذا الكتاب – لابد أن يكون عند كل طالب علم، وهذا كتاب (الأذكار) وهكذا (رياض الصالحين) فهذه الكتب الثلاثة للإمام النووي لا يكون في البيت خير أو نور إذا لم تكن هذه الكتب فيه، وينبغي أن تجهز هذه الكتب في جهاز المرأة عندما تزف لزوجها.
فالإمام النووي في هذا الكتاب – التبيان – في ص 47 يقول: "كان السلف رضي الله عنهم لهم عادات مختلفة في قدر ما يختمون فيه، فروى ابن أبي داود عن بعض السلف رضي الله عنهم أنهم كانوا يختمون في كل شهرين ختمة واحدة، وعن بعضهم في كل شهر ختمة وعن بعضهم في كل عشر ليال ختمة، وعن بعضهم في كل ثمان ليال، وعن الأكثر في كل سبع ليال وعن بعضهم في كل ست ليال وعن بعضهم في كل خمس ليال، وعن بعضهم في كل أربع ليال وعن كثيرين في كل ثلاث ليال، وعن بعضهم في كل ليلتين، وختم بعضهم في كل يوم وليلة ختمة، ومنهم من كان يختم في كل يوم ليلة ختمتين ومنهم من كان يزيد عن ثلاثة، وختم بعضهم ثماني ختمات أربعاً بالليل وأربعاً بالنهار".
فمن الذين كانوا يختمون ختمة في اليوم والليلة عثمان بن عفان وتميم الداري وسعيد بن جبير ومجاهد والشعبي وآخرون.
ومن الذين كانوا يختمون ثلاث ختمات سُليم بن عِتْر – وهذا هو الذي ذكرنا قصته – وكان(7/142)
ثلاث ختمات، وروى أبو عمر الكندي في كتابه في قضاة مصر أنه كان يختم في الليل أربع ختمات، قال الشيخ الصالح أبو عبد الرحمن السلمي: سمعت الشيخ أبا عثمان المغربي؟ كان ابن الكاتب رحمه الله يختم في النهار أربع ختمات وفي الليل أربع ختمات، وهذا ما بلغنا في اليوم والليلة.
ثم يقول في آخر المبحث: "والاختيار أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص فمن كان يظهر بدقيق الفكر لطائف ومعارف فليقتصر على قدر ما يحصل له كمال فهم ما يقرأه، وكذا من كان مشغولا ً بنشر العلم أو غيره من مهمات الدين ومصالح المسلمين العامة فليقتصر على قدر يحصل بسببه إخلال بما هو مُرصد له، وإن لم يكن من هؤلاء المذكورين فليتكثر ما أمكنه من غير خروج إلى حد الملل والهذرهة ".
هذا كله – كما قلت – يخرج منه ما ذكر – أن هذا من باب الكرامة
فسعيد بن جبر رحمه الله ثابت بالإسناد الصحيح إليه أنه كان يختم القرآن بين المغرب والعشاء.
كيف هذا والوقت بين المغرب والعشاء قصير لا يزيد على ساعتين على أكبر تقدير، ولو أخر العشاء ساعة فهل يختم القرآن في ثلاث ساعات؟ على أقل تقدير الحافظ المجد الذي يقرأ القرآن عن ظهر قلب قراءة حدراً يحتاج إلى خمس ساعات، فكيف إذن قرأه سعيد ابن جبير بين المغرب والعشاء؟
نقول هذه كرامة، إذ كيف أسري بنبينا عليه الصلاة والسلام وعرج به وحصل له ما حصل في هذه الرحلة المباركة في جزء من الليل.
ولذلك يقول أئمتنا عن هذه الكرامة التي تقع في وقت قصير هي من باب (نشر الزمان أي توسعته، فهذا الزمن يوسع في حقك لكنه يبقى بالنسبة لغيرك كما هو.
إخوتي الكرام ... الذي ينظر في أحوال سلفنا فسيجد حقيقة أن الله كان يبارك لهم في كل شيء في طعامهم وشرابهم وأولادهم وأهليهم، وبيوتهم وعلمهم.
بعض مؤلفات بعض العلماء لو أردنا أن نقرأها فستنتهي أعمارنا قبل أن من قراءتها فقط فكيف بمن ألفها كيف ألفها في هذا الزمن؟(7/143)
مؤلفات ابن الجوزي زادت على (500) مصنف ولا أقول مجلداً، فـ (زاد المسير) هو أحد كتب ثلاثة له في التفسير يقع في (9 مجلدات) ، و (المغني) له في (20مجلداً) ، و (المنتظم) له في (10 مجلدات) ، وصفة الصفوة له أيضاً في (4 مجلدات) وحدث بعد ذلك وما شئت ومع ذلك يروي هذه الكتب بالسند، وهي كتب موجودة بين أيدينا الآن!!
وأما السيوطي فمؤلفاته زادت على (900) مصنف، يكتبونها كتابة ولو جاء أحد ينسخها نسخا فقط لما استطاع أن يكتبها طول حياته، فهي كرامة من الله لهم.
فلا يقال بعد ذلك: لا يعقل، بل هي موجودة ووجودها دليل على أنها ليست مخالفة للعقل وليست بمستحيل بل نقول إن هذا خرق للعادة وإكرام من الله لهذا الإنسان والله على كل شيء قدير.
فهو أمي لا يقرأ ولا يكتب – وهو شيخ الإسلام – فإنه إذا سمع حفظ أقوى من جهاز التسجيل ولا يخطئ ولا يلحن بحرف، حدثه بمائة حديث بأسانيدها بمجلس واحد، يعيده لك على الترتيب، وأوليس قد جرى نحو هذا للبخاري؟
فعندما أراد الذهاب لبغداد أرادوا أن يمتحنوه فعمدوا إلى مائة حديث، فقسموها على عشرة طلاب فكل طالب عنده عشرة أحاديث، فأخذوا متون أحاديث زيد وأعطوه لعمرو ومتون أحاديث عمرو لزيد، ومتون أحاديث خالد أعطوها لمحمد ومتون أحاديث محمد لخالد وهكذا فعلوا بالعشرات الباقية.(7/144)
فلما جاء إلى بغداد وكما قلنا أرادوا أن يمتحنوه وهل هو أمير المؤمنين في الحديث أم لا؟، في الأول قال: حديث كذا بإسناد كذا، فقال: لا أعرفه، ثم قال الثاني كذلك أحاديثه والثالث والرابع حتى انتهى العشرة وهو يقول في الأحاديث كلها لا أعرفه، فالذين يعرفون هذا المقلب يقولون: هو إمام هدى ثابت راسخ والجهال يقولون: سبحان الله عشرة أحاديث لم يعرف ولا واحد منها، أهذا هو أمير المؤمنين في الحديث!! فلما انتهى العشرة من عشراتهم قال للأول: قم أنت عشرة أحاديثك هي كذا على الترتيب الحديث الأول، الثاني، الثالث، الرابع، وأسانيدها، أسانيد الرابع فاسمعها فذكرها له (أي ذكر البخاري) وهكذا فرد مائة متن لمائة إسناد، فما بقي أحد في المجلس إلا قام وقبل رأسه وجبهته.
فهذا هو العلم
فهل يقال عن هذا لا يعقل؟ أم يقال هذه كرامات أكرمهم الله بها وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلاً، والله لو أراد الإنسان أن يصل إلى هذا المسلك بجده واجتهاده فإنه عاجز عاجز عاجز، إلا إذا من الله عليه بذلك.
فحقا ً إنه أمر عظيم ما حصل من الإمام البخاري ولذلك يقول الإمام العراقي في ألفيته:
.................................. ... نحو امتحانهم إمام الفن
في مائة لما أتى بغداد ... فردها وجود الإسناد(7/145)
وهنا في قصته (سُليم) نقول لا يعقل!!!! دعنا من هذا فإن الله يكرم عباده بما شاء، فبعض يكرمه أحياناً بقوة الجسم وأحيانا بقوة الفكر، وأحياناً بهما، وأحياناً وأحياناً فيطوف صلى الله عليه وسلم على نسائه التسع بغسل واحد في ساعة، إن هذا ليس بمقدور البشر والنبي صلى الله عليه وسلم بين لنا أنه إذا اتصل الإنسان بأهله ووجد نشاطاً من نفسه معاودة الوطء فأراد أن يتصل مرة ثانية فليغتسل أو ليتوضأ على أقل تقدير ليكون أنشط حتى لا يعتريه فتور، فكيف به صلى الله عليه وسلم يطوف على نسائه التسع بغسل واحد؟! ثبت في معجم الطبراني بسند رجاله ثقات عن أنس بن مالك رضي الله عنه [أنه كان عنده أكّار – أي مزارع – فاستعدت عليه زوجته – أي اشتكته لأنس – وقالت لا يدعني في ليل ولا في نهار، وجسمي لا يتحمل، فقضى بينهما أنس على أن لا يزيد في كل يوم وليلة على ست مرات] وهذا ثابت في مجمع الزوائد (4/295) في كتاب النكاح، وبوب عليه الإمام الهيثمي باب فيمن يكثر الجماع.
ألزمه بها أنس، لكن كم يريد هو؟ الله أعلم.
فهذا حقيقة خارق للعادة وليس هذا في مقدور البشر.
ولذلك إخوتي الكرام ... من حكمة مشروعية ربنا لتعداد الزواج هذا، فلو أن هناك رجلا ًعنده هذه القوة والشهوة وليس عنده إلا امرأة واحدة فماذا تفعل له؟
هل تعطله وتحجزه عن امرأته؟، أو تتركه يذهب يتلمس طريق الحرام هنا وهناك؟ إن أفضل علاج وأنجحه وأنجعه لمثل هذا هو التعدد، وما ألزم الله أحداً بالتعدد وإن كان رغب فيه وهذا شرع الله الحكيم (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) .
الحاصل أن نبينا عليه الصلاة والسلام كان كهلا ً عندما أسري به لكنه – كما قلنا – شابٌ وفوق الشباب، عليه الصلاة والسلام فإذن هذا ليس من باب التنقيص.
3- كيف يرفع نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام صوته، ويتذمر، والله يتحمل ذلك منه ويعرف له ذلك؟
نقول: هذا مدلل، والمدلل له حساب خاص، فإياك أن تقيس نفسك عليه.(7/146)
سفيان الثوري عليه رحمة الله عندما طلبه الشُّرَطة في عهد أبي جعفر المنصور، وطلب في عهد هارون الرشيد أيضاً، فلما كان في عهد أبي جعفر المنصور أرسل في طلب سفيان وأرسل الخشابين قبله إلى مكة وقال لهم انصبوا الأخشاب لأصلب عليها سفيان الثوري، أي يشنقه ويصلبه فذهبت الشرطة إلى المسجد الحرام، وسفيان الثوري بين الفضيل بن عياض وسفيان بن عيينة، ورأسه في حجر الفضيل ورجلاه في حجر سفيان بن عيينة ويغطيانه من أجل ألا تراه الشُّرطة ويقبضوا عليه، ثم قالا له: يا سفيان اخرج من المسجد ولا تشمت بنا الأعداء أي اخرج وتوارى فليس حلا ً أن نغطيك هكذا لأنهم سيرونك، فقام رحمه الله ورضي عنه وتعلق بأستار الكعبة وقال: برئت من الله إن دخل أبو جعفر المنصور مكة وأنا مع أن أبا جعفر على الطريق أرسل الخشابين وهو في أثرهم ووراءهم، فلما وصل أبو جعفر على حدود مكة قبض الله روحه فمات، وما دخل مكة، والقصة انظروها في تذكرة الحفاظ وسير أعلام النبلاء في ترجمة سفيان أم الثوري وفي غيرهما كذلك.
إن قال قائل كيف يصدر هذا من سفيان الثوري؟
نقول: هذا مدلل، فلا تجعل نفسك مثله.
وهذا نبي الله موسى اتخذه نجياً وكليماً (وكلم الله موسى تكليماً) وفضله بذلك، فإذن هو من المدللين، وإذا كان ذلك كذلك فإنه يصبح بين المدلل وبين من يتدلل عليه أحيانا من؟؟ مالا يصلح أن تصدر من غيره، وهذا هو الذي جرى من نبي الله موسى، فتحمل الله منه لأنه مدلل.
قال أئمتنا:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع
(وإذا الحبيب أتى بذنب واحد) ، أخطأ وتذمر ورفع صوته وصاح.
(جاءت محاسنه بألف شفيع) : فهذا يقاوم أعتى أهل الأرض في زمنه ويصبر، فإذا جرى منه وقد كنت قلت لكم أن موسى عليه الصلاة والسلام مظهر للجلال والقهر الإلهي، كما أن عيسى عليه الصلاة والسلام مظهر للجمال، ونبينا عليه الصلاة والسلام مظهر للكمال (جلال وجمال) .(7/147)
فهذا مدلل وإذا كان كذلك فلا تقس على نفسك، وما جرى منه: حبيب وحبيب يتناجيان بما بينهما، فهل يجرؤ أحد منا أن يذهب إلى الكعبة ويقول يارب إني أبرأ منك إذا لم تقتل فلاناً وأمته؟
والله إني لأخشى أن تنزل عليك صاعقة من السماء تحرقك، لأن كل واحد منا ينبغي أن يعلم مكانته ومنزلته، وعليه فينبغي أن نقف عند حدنا.
إذن المدلل له مكانة، أبو بكر رضي الله عنه من المدللين أم لا؟
هو من المدللين على نبينا عليه صلوات الله وسلامه، وسأذكر لكم قصتين باختصار:
القصة الأولى: رواها الإمام البخاري في صحيحه في كتاب فضائل أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام في فضائل أبي بكر ومناقبه:
انظر (مختصر صحيح البخاري للزبيدي 1522)
اختصم أبو بكر وعمر وكان المخطئ أبا بكر رضي الله عنه، فذهب أبو بكر إلى عمر فقال أثمّ هو؟ قالوا: نعم، فاعتذر أبو بكر إلى عمر، فما قبل عمر، فخرج أبو بكر مغاضباً إلى النبي عليه الصلاة والسلام فلما وصل عرف النبي صلى الله عليه وسلم ما في وجهه، فقال: أمّا صاحبكم فقد غامر،؟؟ وقال: يا رسول الله، إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى عليّ، فأقبلت إليك، فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر – ثلاثاً -، ثم إن عمر ندم وأتى منزل أبي بكر فسأل أثمَّ أبو بكر؟ فقالوا: لا، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعَّر (أي تذهب نضارته من الغضب) حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه، فقال – أي أبو بكر – يا رسول الله أنا كنت أظلم – مرتين – فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركوا لي صاحبي فما أوذي بعدها] فهو إذن من المدللين.(7/148)
فإذا غضب أبو بكر على أحد وتكلم عليه فيجب أن يتحمل عمر ومن دونه وليس من حققه أن يعترض على أبي بكر أو يعتب عليه ولو وطيء رقبته، فهذا أبو بكر له مكانته فاعترف أنه ذو شيبة المسلمين ووالدهم.
ولو أن الزوج أخطأ على زوجته وضربها فهل يجوز لها أن تضربه؟
لا يجوز لها أن تلوح بيدها له فضلا ً على أن تضربه.
فإن قيل: فهو لم ضربها مخطأ؟
نقول: هذا زوج، روى أحمد والنسائي بإسناد جيد رواته موثوقون مشهورون [ولو كان من قدمه إلى مَفْرَقِ رأسه قَرْحة تنْبَجِسُ بالقبيح والصديد ثم استقبلته فلحسته ما أدت حقه] كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام، فهو إذن زوج فإن؟؟ عليها فعليها أن تتودد له ليصفو قلبه وليعود إلى صوابه، وأما أن تقول: ضربتني مخطئاً فخذ؟؟ فنعوذ بالله من هذا، ألم تعلم مثل هذه المرأة أنه زوج؟!
فإذا كانت الزوجة ليس من حقها أن تضرب زوجها – لأنه مدلل عليها – فليس من حق أحد من الأمة أن ينظر إلى أبي بكر نظراً فيه شيء من الشر والغضب فضلا ً على أن يأخذهم؟؟؟(7/149)
القصة الثانية: رواها الإمام الحاكم في مستدركه والطبراني في معجمه، وغيره بسند صحيح عن ربيعة بن كعب الأسلمي قال كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: يا ربيعة ألا تتزوج قلت: لا والله يا رسول الله ما أريد أن أتزوج وما عندي ما يقيم المرأة، وما أحب أن يشغلني عنك شيء. ثم عرض عليه الزواج مرة ثانية فرفض، ثم وافق في الثالثة فأرسل صلى الله عليه وسلم إلى (؟) من الأنصار ليزوجوه فزوجوه، ثم جمع له الصحابة الصداق وزن نواة من ذهب ثم عاونوه على الوليمة، إلى أن أخذ قرابة صفحتين في المجمع) ، ثم قال – أبي ربيعة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني بعد ذلك أرضاً وأعطى أبا بكر أرضا، وجاءت الدنيا فاختلفنا في عِذق نخلة [لأنها متدلية على الأرض] فقلت أنا: هي في حَدّي، وقال أبو بكر هي في حَدّي وكان بيني وبين أبي بكر كلام، فقال لي أبو بكر كلمة كرهتها، وندم – أي أبو بكر – فقال: يا ربيعة رد علي مثلها حتى يكون قصاصاً، قلت: لا أفعل، قال أبو بكر: لتقولن أو لأستعدي عليك برسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: ما أنا بفاعل، قال وضرب الأرض [وضرب الأرض برجله مغضباً] وانطلق أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وانطلقت أتلوه، فجاء أناس من أسلم فقالوا: رحم الله أبا بكر، في أي شيء يستعدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي قال لك ما قال؟ فقلت: أتدرون من هذا، هذا أبو بكر الصديق، هذا ثاني اثنين، هذا ذو شيبة المسلمين،؟؟ لا يلتفت إليكم يسمعكم فيلتفت إليكم – فيراكم تنصروني عليه فيغضب فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيغضب لغضبه، فيغضب الله عز وجل لغضبهما فتهلك ربيعة، قالوا: ما تأمرنا، قال ارجعوا فانطلق أبو بكر رحمة الله عليه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبعته وحدي حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه الحديث كما كان، فرفع رأسه إلي فقال يا ربيعة مالك وللصديق، قلت: يا رسول الله، كان كذا، كان كذا، قال لي(7/150)
كلمة كرهتها فقال لي قل كما قلت حتى يكون قصاصاً فأبيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ترد عليه، ولكن قل: غفر الله لك يا أبا بكر، قال الحسن: فولى أبو بكر رحمه الله يبكي.
والقصة أوردها الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد 4/256، 257 في كتاب النكاح.
فهذا مدلل وموسى مدلل، فإذا ارتفع صوته فما الذي يحصل؟ فيجري بينه وبين حبيبه ما يجري فلا تدخل نفسك بينهما فأنت واجبك أن تحافظ على الحدود الشرعية التي قيدت بها.
الآية الثالثة: من الآيات الثلاث التي رآها في السموات عندما عرج به إلى السموات العلا رؤية سدرة المنتهى وما يوجد حولها من عجائب:
ثبت في حديث الإسراء والمعراج الذي تقدم معنا من رواية مالك بن صعصعة رضي الله عنه وفيه: يقول النبي صلى الله عليه وسلم [ثم رُفِعْتُ إلى سدرة المنتهى [[وضبط: ثم رُفِعَتْ لي سدرة المنتهى أي أظهرت وبينت فإذا نَبِقْهَا (بفتح النون وإسكان الباء، ويقال بكسر الباء وهو ثمر السدر مثل قلال هجر (جمع قلة وهى وعاء كبير يوضع فيه الماء من الفخار، وهجر بلده في البحرين وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قلت: ما هذه يا جبريل: قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أراد أنها تخرج من أصلها: نهران باطنان (أي يسيران إلى داخل الجنة) ونهران ظاهران (إلى خارجها) قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنِّيْل والفرات] .
وسنبحث هنا عدة أمور:
المبحث الأول: (سدرة المنتهى) سميت بهذا الاسم لثلاثة أمور:
[لما أسري بي انتُهي بي إلى سدرة المنتهى، وإليها ينتهي ما يهبط فيُقبض منها، ينتهي ما يعرج من الأرض فيُقبض منها، وهي في السماء السادسة] .(7/151)
إذن سدرة المنتهى في السماء السادسة فما يعرج من الأرض ويصعد ينتهي إليها فلا؟ وما يهبط من السماء فما فوقها وينزل يكون محل هبوطه عندها، ثم تأخذه الملائكة الموكلة بتبليغه إلى ما شاءت، من أهل سدرة المنتهى، فما يصعد يقف عند سدرة المنتهى وما يهبط يقف عند سدرة المنتهى ثم تتولى الملائكة؟؟ وتوزيعه حسب ما يأمرها الله عز وجل.
الثاني: قال الإمام النووي عليه رحمة الله: سميت سدرة المنهتى لأن علم الملائكة ينتهي إليها فلا يتجاوزها.
فالملائكة لا تعلم ماذا يوجد بعد سدرة المنتهى، وسدرة المنتهى أصلها في السماء السادسة – كما ذكرنا – وأغصانها وفروعها في السماء السابعة والملائكة لا تتجاوز هذا، ولذلك تقدم في حديث المعراج – وسيأتي هذا معنا في الآيات الرابعة أن نبينا عليه الصلاة والسلام عُرج به وتوقف جبريل لما وصلا إلى سدرة المنتهى (وما منا إلا له مقام معلوم وقال: لو تقدمت طرفة عين لاحترقت) .
الثالث: نقله الإمام الطبري في تفسيره (27/31) عند تفسير سورة النجم فروى بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: [سميت بسدرة المنتهى لأنه ينتهي إليها أرواح؟؟ من المؤمنين] فإذن أرواح المؤمنين تكون في أصل سدرة المنتهى في ذلك المكان.
المبحث الثاني:
وصف الله هذه السدرة في كتابه بقوله (إذ يغشى السدرة ما يغشى)
والذي غشي السدرة عدة أمور منها:
أ- ما ثبت في حديث ابن مسعود المتقدم في صحيح مسلم وفيه [أنه غشيها فراش من ذهب] أي مملوءة بفراش من ذهب.
قد يقول قائل: فراش من ذهب له روح كيف هذا؟
نقول: يا عبد الله، لماذا هذا التفكير؟ فهل إذا كان الفراش من عصب أو لحم يمكن أن يكون فيه روح ويتحرك وإذا كان من ذهب لا يمكن؟ لماذا هذا التفكير؟(7/152)
ألم ينزل على نبي الله أيوب عليه الصلاة والسلام عندما اغتسل بعد أن برأ من مرضه عندما قال الله له: (هذا مغتسل بارد وشراب) فسقط عليه جراد من ذهب فبدأ نبي الله أيوب يغترف من هذا الجراد فقال الله له: ما هذا يا أيوب أوليس قد أغنيتك؟ فقال يا رب لا غنى لي عن بركتك. أي هذه البركة نزلت من عندك فأنا سآخذها وأجمعها.
والحديث في صحيح البخاري، وهذا حصل في حياتنا الدنيوية هنا، أفلا يعقل في مثل هذه الرحلة المباركة التي حصلت لخير البرية عليه الصلاة والسلام أن يكون هناك فراش من ذهب يطير حولها ويعيش فيها وكل هذه الرحلة خوارق وعجائب.
ب- ورد عن أبي سعد الخدري وابن عباس رضي الله عنهم قالا: [إنه يغشاها ملائكة الله] وثبت في سنن البيهقي عن أبي سعد الخدري رضي الله عنه أنه قال: [على كل ورقة منها ملك الله] .
جـ- ورد أنه تغشاها أنوار عظيمة، ففي صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: [فلما غشيها من أمر الله ما غشيها (أي من أنواره) تغيرت فما أحد من خلالها يستطيع أن ينعتها من حسنها]
المبحث الثالث:
قال نبينا عليه الصلاة والسلام عن هذه السدرة:
[فإذا نَبْقِها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة] .
هذه الشجرة التي هي سدرة المنتهى، وهذا النبق الذي هو الثمر والذي هو كقلال هجر لِمَ خصت بالذكر ووضعت في ذلك المكان ورآها نبينا عليه الصلاة والسلام؟
خصت لثلاثة أمور:
أولها: ثمرها طيب.
ثانيها: رائحتها ذكية.
ثالثها: ظلها واسع.
فإذن لها طعم ولها ريح ولها ظل، فخصت لهذه الاعتبارات الثلاثة، وهذه الاعتبارات الثلاثة تشبه الإيمان فالمؤمن ينبغي أن يكون:
رائحته: قوله حسناً ...
ظله ... : وفعله حسناً ...
طعامهِ ... : ونيته حسنة
بمثابة شجرة السدر طعم ورائحة وظل.(7/153)
وهكذا المؤمن فالقول الذي يصدر منه هو بمثابة الرائحة الذكية التي تعبق وتفوح، فلا يتكلم إلا بطيب، كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام [من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت] ، فهو قول حسن يعبق به المجلس ويفوح فلا نتكلم بما يخدش الآذان أو في عرض مسلم.
والعمل الذي يصدر منه هو بمثابة ظل شجر السدر، فهو عمل صالح؟؟ النية التي تصدر منه هي بمثابة الطعم وهي أطيب وأطيب مما ذكر.
فإذن ذكرت هذه الشجرة وخصت في ذلك المكان ورآها نبينا عليه الصلاة والسلام؟؟ الإيمان الذي كلف به عليه الصلاة والسلام وبتبليغه يشبه هذه الشجرة التي غشاها ما غشاها، ونبقها في تلك الصورة الحسنة البهية وراحتها ذكية.
وقد شبه نبينا عليه الصلاة والسلام المؤمن بالأترجة إذا قرأ القرآن،؟؟؟؟؟ يقرأ القرآن، ثبت في الصحيحين وسنن النسائي وغيرها من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب] والأترجة هي المانجو الآن، ويمكن أن يقال شجر التفاح يعد لها هي في الأصل المانجو، وهي موجودة في بلاد مصر بكثرة، وهكذا التفاح ريحه طيب وطعمه حلو، ولو اشتريت ثمر المانجو ووضعته في البيت، فإنك إذا دخلت إلى البيت تشم ريحه إذا كان ناضجاً وكأن البيت مطيب، وهكذا الطعم. ثم قال: [ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب، ولا ريح لها] فتوجد نية طيبة لكن لا توجد رائحة حسنة من هذا المؤمن.
ثم قال: [ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة] ، والريحانة ريحها طيب لكن طعمها مر وكذا حال هذا المنافق فالقول الذي يصدر منه هو بمثابة الرائحة الطيبة، أما النية فهي سيئة الله أعلم بحال صاحبها، فتجده يتجمل بقراءة القرآن فتحصل منه رائحة طيبة. ثم قال [ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظل لا ريح لها وطعمها خبيث] .(7/154)
فإذن شبه المؤمن الذي يقرأ القرآن بالأترجة، وشبه في حديث الإسراء والمعراج بشجرة السدر، وضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلا ً لاستمرار الخيرية في المؤمن وعند انقطاع المؤمن عن الخير بشجرة النخيل، ففي الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مِثْل المسلم يفي مثل المسلم – أي هي تشبهه) فحدثوني ما هي؟ قال عبد الله بن عمر: فوقع الناس في شجر البوادي ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت لأنه كان عاشر عشرة فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وقد كان صغيراً – ثم قالوا حدثنا ما هي يا رسول الله، قال: هي النخلة] فلما قال لوالده عمر: أنا علمت أنها النخلة ولكنني استحيت أن أقولها؟ فقال: لأن تكون قلتها لكان أحب إلي من كذا وكذا من الأرض ذهباً، ليكون له قدر عند النبي صلى الله عليه وسلم عندما يوفق إلى الحكمة وليسدد للصواب.
(ألم تر كيف ضرب الله مثلا ً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفروعها في السماء) فالكلمة الطيبة هي التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
والشجرة الطيبة كشجرة السدر وشجرة التفاح وشجر النخيل وشجر الأترجة.
(تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون) وهكذا المؤمن هو في الأرض لكن أعماله تصعد إلى الله جل وعلا (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) .
المبحث الرابع:
الأنهار التي رآها نبينا عليه الصلاة والسلام تخرج من أصل سدرة المنتهى:
قلنا رأى النبي صلى الله عليه وسلم نهرين باطنين ونهرين ظاهرين، أما الباطنان فهما الكوثر والرحمة ويخرجان من عين هي أمّ لهما أسمها السلسبيل وأما الظاهران فهما النيل والفرات كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام.(7/155)
وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [سيحان وجيحان والنيل والفرات كلها من أنهار الجنة] وسيحان وجيحان نهران في بلاد سمرقند التي هي الآن تحت حكم الاتحاد السوفيتي فك الله أسر بلاد المسلمين، والنيل في بلاد مصر، والفرات في بلاد الشام، وهذه الأنهار كلها من الجنة.
فإن قيل: كيف نجمع بين هذا الحديث وبين حديث الإسراء والمعراج الذي ذكر فيه نهرين فقط؟
نقول: وهو الجواب المعتمد الذي قرره الإمام النووي رحمه الله والحافظ ابن حجر:
لا إشكال في ذلك، فسيحان وجيحان من أنهار الجنة، لكن لا ينبعان من أصل سدرة المنتهى، وأما النيل والفرات فمن أنهار الجنة ولكن ينبعان من أصل سدرة المنتهى ثم يتفجران للناس في الأرض فالنيل والفرات لهما مزيد بركة وفضل ومزية على سيحان وجيحان.
وانظروا شرح الإمام النووي على صحيح مسلم (17/177) وفتح الباري (7/203) .
ما المراد هنا من كون هذه الأنهار الظاهرة (النيل والفرات وسيحان وجيحان) من الجنة؟)
ذكر علماؤنا قولين:
القول الأول: ذكره القاضي عياض – وهو في نظري مردود مع جلالة قائله وهو أن في كون سيحان وجيحان والنيل والفرات من أنهار الجنة إشارة إلى معجزة عظيمة من معجزات نبينا عليه الصلاة والسلام وهي: أن البلاد التي فيها تلك الأنهار عما قريب ستفتح ويسلم أهل تلك البلاد ويؤولون إلى الجنة بعد ذلك، فهذه الأنهار ليس ماؤها من الجنة فعبر بالمحل وأراد من سيحل فيها في المستقبل من أهل الجنة.
وهذا في منتهى التكلف فيما يظهر لي ولا داعي دائماً لإخراج اللفظ من ظاهره.(7/156)
القول الثاني: وهو المعتمد وهو الذي قرره شيخ الإسلام الإمام النووي وابن حجر وغيرهما أن هذه الأنهار من أنهار الجنة حقيقة، فماؤها ينزل من الجنة بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها ونحن نحن معشر أهل السنة نؤمن بأن الجنة مخلوقة، وأن النار مخلوقة، وإذا كان الأمر كذلك فالأنهار موجودة في الجنة الآن، وهذان النهران الظاهران (النيل والفرات) يصبان في النيل والفرات في الأرض بكيفية يعلمها الله جل وعلا.
وحقيقة لو أكرمك الله بشرب ماء النيل قبل أن يلوثه أهل الضلال والأباطيل بما سار عليه من مياه المجاري، وكذا الفرات، فأنت لو ذهبت إلى منبع النيل الأصلي لوجدت الماء أحلى وأطيب من العسل، لأنه من أنهار الجنة.
ولا يوجد ماء على وجه الأرض يعدل ماء النيل أو الفرات اللهم إلا ماء زمزم – كما تقدم معنا فإنه أفضل المياه.
وكذا لو ذهبت إلى النهر الثاني (الفرات) وشربت من ذلك الماء الصافي قبل أن يعكر المعكرون لانتعشت انتعاشاً ليس بعده انتعاش.
وهكذا سيحان وجيحان:
هذا ما يتعلق بالمبحث الرابع.
وختام الكلام على الآيات الثلاث التي رآها نبينا عليه الصلاة والسلام معراجه في السموات العلا: رأى الملائكة الكرام – كما تقدم معنا – كما رأى خليل الرحمن إبراهيم وكيف أن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى قيام الساعة.
وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام عن أحوال بعض الملائكة الذين رآهم،؟؟ وأميرهم ورئيسهم هو جبريل عليه الصلاة والسلام – كما أن سيد البشر وأميرهم وأولهم نبيناعليه الصلاة والسلام.
ثبت في مسند البزار ومعجم الطبراني الأوسط بسند رجاله ثقات عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى (وهم الملائكة) فإذا جبريل كالحِلْس البالي من خشية الله] .
والحِلْس: المتاع والثياب، أي كالمتاع والثياب الممزق الذي مضى عليه وقت كثير من الدهر فبلى.(7/157)
وهذا هو حال الملائكة الكرام على نبينا وعليهم الصلاة والسلام.
القسم الرابع: آخر الآيات وآخر مباحث الإسراء والمعراج:
آيات عظيمة حصلت له بعد رقي السموات
أكرمه الله بعدة أمور منها:
1- فرض الصلوات الخمس.
2- مغفرة الكبائر لأمته الذين لا يشركون بالله شيئاً.
3- خواتيم سورة البقرة.
4- رؤية الله.
5- كلام الله.
فهذه آيات حصلت لخير البريات عليه صلوات الله وسلامه فوق السموات (؟؟؟) بعد أن انتهى من السماء السابعة وعُرج به إلى مستوىً سمع فيه صريف الأقلام.
وهذه أعظم الجوائز، وعندما اجتمع الحبيب بحبيبه فيعطيه أحسن التحف وهي الخمسة السابقة.
أولاً: أما الصلوات الخمس:
فقد فرضت في تلك الليلة من رحلته المباركة.
ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو يروي لأصحابه حديث الإسراء والمعراج: [ففرض الله علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة فمررت فنزلت إلى موسى – وتقدم معنا أن موسى صار في السماء السابعة بعد أن كان في السادسة – فقال: ما فرض ربك على أمتك؟ قلت خمسين صلاة، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك؟؟ ذلك فإني قد بلوت بني إسرائيل قبلك وخبرتهم] أي أنا أعلم الناس بأحوال الناس؟؟؟؟ لن تطيق خمسين صلاة، إذ قد فرض الله على بني إسرائيل صلاتين في الغداء والعشي فما أطاقوها ولا فعلوها، فكيف ستؤدي أمتك خمسين صلاة؟ إنها لن تطيق ذلك.(7/158)
[قال نبينا عليه الصلاة والسلام: فرجعت إلى ربي فقلت: يا رب خفف عن أمتي، فحط عني خمساً، فرجعت إلى موسى فقلت: حط عني خمساً، قال: فإن أمتك لا يطيقون ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، يقول نبينا عليه الصلاة والسلام: فلم أزل أرجع بين ربي وبين موسى، حتى قال، يا محمد، إنهن خمس صلواتٌ كل يوم وليلة بكل صلاة عشر فذلك خمس صلاة (إذن نزل وصعر بسبع مرات) ، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت عشراً، ومن هم بسيئة ولم يعملها لم تكتب شيئاً فإن عملها كتبت سيئة واحدة، قال: فنزلت إلى موسى، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف (أي ليخفف من الخمس أيضاً شيئاً) فقلت: رجعت إلى ربي استحييت منه] وفي رواية البخاري (فقلت: لكن أرضى وأسلم) أي لا أريد أن أرجع إلى ربي مرة عاشرة لأنه راجعه تسع مرات حتى خفف الصلوات إلى خمس.
[فلما جاوزت نادى منادٍ: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي، فهي خمس وفي الأجر خمسون] .
هذا هو الحديث الذي يقرر أن الصلوات فرضت في ليلة المعراج فوق السموات العلا بينه وبين ربه جل وعلا، ثم نزل ومر على نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام وهو في السماء السابعة وهذا الحديث عندنا حوله عدة تنبيهات:
أ - ورد في رواية الصحيحين من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [فوضع عني شطرها] وتقدم معنا هنا: أنه وضع عنه خمس صلوات، خمس صلوات حتى خففت إلى خمس ورواية أبي ذر شطرها، والشطر النصف أي خمس وعشرين.
وفي رواية البخاري من حديث مالك بن صعصعة: [فوضع عني عشراً] و؟؟ خمساً فكيف نجمع بين هذه الألفاظ؟
نقول لا إشكال على الإطلاق: فالمراد من الشطر إما البعض وهو الخمس وليس النصف الذي هو خمس وعشرين، أو أن المراد منه النصف لكن ليس بمرة واحدة إنما بمرات متعددة فأخبر عن وضع الشطر في خمس مرات كل مرة يضع خمساً وخمساً وخمساً وخمساً فالمجموع خمسة وعشرون وهذا شطر الخمسين. وأما العشر: فالمراد أنه وضعها في مرتين.(7/159)
لكن الذي وقع حقيقة وضع خمس صلوات في كل مرة، هذا هو الجمع بين هذه الروايات.
ب- تنبيه حول رجوع نبينا عليه الصلاة والسلام إلى ربه:
كيف رجع نبينا عليه الصلاة والسلام إلى ربه يسأله التخفيف في المرات التسع؟؟ ولم يرجع في المرة العاشرة؟
نقول: لعله علم أن الله لما فرض عليه الخمسين لم يفرضها فرض إلزام، فبقي هنالك مجال للمراجعة، فلما وصلت إلى خمس وقد أخبره في المرة الأخيرة أنها خمس في كل يوم وليلة وهي في الأجر خمسون علم أن الأمر صار أمر إلزام وحتم فلا يمكن أن أطلب التخفيف فقال [أرضى وأسلم] .
يضاف إلى هذا أنه إذا طلب التخفيف في المرة العاشرة (الأخيرة) وقد حط عنه خمساً خمساً فإذا حط عنه الخمس المتبقية فستبقى هذه الأمة بلا فريضة؟؟ تقوم بها، ولذلك لو سأل في المرة العاشرة التخفيف فإن حاله يدل على أنه يريد إسقاط هذه الفريضة عن هذه الأمة، وهذا لا يليق ولذلك قال [أرضى وأسلم] ، وأما المرات السابقة فلعله علم بقرينة من القرائن أن ما فرض ليس من باب الجزم ويدل على هذا أن الله قد أجاب سؤاله وخفف عنه حتى وصلت إلى خمس صلوات.
جـ- ما الحكمة من فرضية الصلاة في تلك الليلة المباركة، وفي ذلك المكان الذي هو أشرف الأمكنة فوق السموات العلا.
ذكر العلماء حكمة معتبرة، وتبدو لي حكمة معتبرة لعلها أوجه من ما هو موجود في الكتب والعلم عند الله.
1- الحكمة التي ذكروها هي: أن النبي عليه الصلاة والسلام في ليلة الإسراء والمعراج رأى حال الملائكة وعبادتهم لربهم جل وعلا، فمنهم الراكع الذي لا يرفع رأسه من الركوع، ومنهم الساجد الذي لا يرفع رأسه من السجود، ومنهم القائم لله عز وجل، هكذا عبادتهم، فتطلع نبينا عليه الصلاة والسلام لهذه العبادات العظيمة التي يقوم بها الملائكة العظام، فأجاب تطلعه وحقق أمنيته فأعطاه هذه العبادات بأسرها التي يقوم الملائكة في ركعة واحدة من ركعات الصلاة ففيها قيام وفيها ركوع وفيها سجود.(7/160)
أي: ليجمع الله لهذه الأمة عبادات الملائكة بأسرها في ركعة من ركعات الصلاة.
2- والحكمة التي تبدو لي هي: أن الصلاة إنما فرضت في ذلك المكان المعتبر لما فيها من عظيم الأثر فالصلاة لها أثر في الإنسان لا يوجد هذا الأثر في غيرها من عبادات الرحمن، فالجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام، والزكاة والحج والصوم وهكذا ما شئت من العبادات لا يوجد في هذه العبادات أثر كأثر الصلاة من تزكية للنفس ومن داوم مراقبة الرب جل وعلا، ومن؟؟ بين المؤمنين في هذه الصلوات.
فإذن الآثار التي توجد في الصلاة لا توجد في غيرها، فكل يوم ينبغي أن تصلي خمس مرات ولعل الإنسان لا يمر عليه يوم ويصلي أقل من أربعين ركعة وأحياناً يزيد، فالفرائض سبعة عشر ركعة والسنة الراتبة اثنا عشرة صار المجموع 29، ثم ضم إليها قيام الليل الذي هو ثماني ركعات صار العدد 37، مع ثلاث ركعات الوتر صار العدد40 ركعة، هذا لم يؤدى سنة الضحى، ونافلة قبل العصر، ونافلة قبل المغرب، إذا لم يتطوع تطوعا؟؟ ويحيي ما بين العشاءين بالصلاة كما هو حال الصالحين.
فأنت تصلي هذا العدد في اليوم وهذا له أثر جليل، أما الصوم فيجيء شهر متواصل تصوم وينقضي، وفيه آثار عظيمة لكن ليس كأثر الصلاة، ولذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه – كما في موطأ مالك – يكتب إلى عماله: [إن أهم أمركم عندي الصلاة فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع] ، وأول ما يحاسب عليه العبد من أعمال يوم القيامة هو الصلاة، فإن صلحت نظر في سائر عمله وحوسب عليه وإلا فالويل له.
فإذن الصلاة لها أثر معتبر ومنزلة عظيمة وإذا كان الأمر كذلك فتعظيماً لشأنها فرضت في مكان وأحسنه وأغلاه وهو فوق السموات العلا من قبل الله إلى عبده محمد عليه صلوات الله وسلامه عليه مباشرة ودون أن يتخلل ذلك واسطة من جبريل أو غيره.
ثانياً: مغفرة الكبائر لأمته الذين لا يشركون به شيئاً:(7/161)
.. ثبت في صحيح مسلم وسنن النسائي والترمذي من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: [فأُعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً – أي مما أعطي – (لما رفع فوق السماء السابعة) : الصلوات الخمس، وخواتيم سورة البقرة، وغُفِرَ لمن لم يشرك بالله من أمته شيئا المقحماتُ] أي غفرت المقحمات لمن لم يشرك بالله من أمته والمقحمات هي الذنوب العظيمة الكبيرة التي يقحم صاحبها وتزجه في نار جهنم.
... وقد ثبت في سنن الترمذي بسند صحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: [يقول الله: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك....] وآخر الحديث هو محل الشاهد: [يا ابن آدم لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة] أي لو أتيت بما يقارب ملء الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة، وهذا من فضل الله على هذه الأمة، فنسأل الله أن يتوفانا على الإيمان بفضله ورحمته إنه ذو الجلال والإكرام.
... وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام في أحاديث صحيحة متواترة أن شفاعته لأهل الكبائر من أمته، والحديث في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وقال: حسن صحيح، ورواه أبو داوود والحاكم وابن حبان وغيرهم عن أنس رضي الله عنه – وهو مروى عن غيره عند غيرهما أيضاً – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي] ، فالله سبحانه وتعالى يشفّع نبيه في أهل الكبائر ويقبل شفاعته ويغفر لهم ويرحمهم فهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، وهذه أعظم تُحفة حصلت لهذه الأمة في حادث الإسراء والمعراج.
المحاضرة الحادية عشرة: 8/4/1412هـ
... وعقيدتنا معشر أهل السنة أن أصحاب الكبائر يفوض أمرهم إلى ربنا القاهر فلا نحكم عليهم بنار، ولا ننزلهم جنة، لكن نرجو لهم المغفرة.(7/162)
.. هذا إذ لم يتوبوا، فإذا تابوا تاب الله عليهم، ومن يمت ولم يتب من ذنبه، فأمره مفوض لربه، فإن عذبه الله على ذنوبه فهذا عدل، وإن غفر له فهذا فضل، وأفعال الله تدور بين هذين الحكمين عدل، أو فضل، ولا دخل للظلم أو الجور في أفعاله سبحانه وتعالى؛ لأن أفعال الله إما أن تكون عدلاً أو فضلاً أو جوراً، والجور يتنزه الله عنه، يقول تعالى كما في الحديث القدسي [إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا] ، ويقول (ولا يظلم ربك أحداً) ويقول (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً) ، فبقي العدل والفضل فمن عذبه فبعدله، ومن غفر له وأدخله الجنة فبفضله سبحان الله.
وهذا فيه رد على الفرق الضالة من الخوارج والمعتزلة الذين يخلدون فاعل الكبيرة في النار وكذلك فيه رد على فرقة الإباضية بزعامة مفتي عمان في هذه الأيام أحمد الخليلي، فإن هذا يرد على الخوارج الذين يكفرون فاعل الكبيرة – مع أن الإباضية فرقة من الخوارج، لكن يقول: هم مخلدون في النار وليسوا بكفار، فمن فعل كبيرة من زناً أو سرقة أو شرب خمر فهو مخلد في النار لكن – كما يقول – ليس بكافر ثم يقول وقد أخطأت الخوارج بتكفيره.
نقول له: ما الفارق بين قولك وقول الخوارج في النهاية والآخرة، هل يوجد هناك فرق؟
لا يوجد فارق أبداً، فالخوارج قالوا: يخلد فاعل الكبيرة في النار، وأنت تقول إنه يخلد في النار فما الفرق إذن؟!!
لكن الخوارج أجرأ منك على الباطل فقالوا: هو في الدنيا كافر، أما أنت فتذبذبت وقلت إنه مؤمن.
فنقول لك: إذا كان مؤمناً فكيف ستخلده في نار جهنم مع فرعون وأبي لهب وأبي جهل؟!! إن هذا لهو الضلال بعينه.
وقد نشر في هذا الوقت كتاباً سماه (الحق الدامغ) ، وكله باطل ليس فيه حق، أراد أن يقرر فيه ثلاث مسائل فحشاها ضلالاً وباطلاً:
1- نفي رؤية الله في الآخرة، ومن قال بالرؤية فهو ضال!!
2- كلام الله مخلوق.
3- أهل الكبائر مخلدون في نار جهنم.(7/163)
وقد ضلَّ في هذه المسائل الثلاثة وحرف الكلام عن مواضعه، وافترى على الشريعة المطهرة، وهذا الكتاب الذي ألفه، سبقه إلى تأليف مثله زنديق ضال خبيث حيث ألف كتاباً سماه (الدامغ) ومؤلفه هو أحمد بن يحيى الرواندي المتوفى سنة 298هـ، يقول الحافظ ابن حجر في لسان الميزان في ترجمته ألف كتاب الدامغ ليرد به على القرآن ويبين – على زعمه – تناقضه – ثم قال: أجاد الذهبي في حذفه فلم يذكره في ميزانه، وإنما ذكرته لألعنه.
فهذا ألف الحق الدامغ في هذا العصر، ونحن نقول له: إنك تتحلى - أو تتقبح – بقبائح مستعارة فهذا العنوان سبقك إليه زنديق ضال. فذاك ألف الدامغ ليدمغ به القرآن على زعمه.
وهذا – الخليلي – ألف الدامغ ليدمغ به عقيدة أهل السنة والجماعة، فانتبهوا لهذا!!.
وهذا بمنصب مفتي عمان وقد قلقل أذهان أهل السنة في ذلك المكان، وقبل أن آتي إلى رأس الخيمة من أبها اتصل بي بعض الأخوة من عمان وأرسل لي رسالة صغيرة بحدود ثلاثين صفحة، نشرها ذلك المفتي هناك حول جواب على سؤال وجه إليه، وهو أن رؤية الله في الآخرة مستحيلة، ومن قد آمن بهذا فهو ضال يشبه الخالق بالمخلوق , ذكر كلاماً باطلاً، وقد قال لي هذا الأخ: هذه الرسالة زعزع بها أهل السنة، إذ أنه منطيق في الكلام، وصاحب كلام معسول ويأتي بأمور متشابهة وكما قال يصطاد في الماء العكر.
فأعظم منه من الله بها على نبينا عليه الصلاة والسلام وعلى هذه الأمة أن بُشِّر نبيه عليه الصلاة والسلام بأنه سيغفر لهذه الأمة المقحمات وهى الذنوب الكبائر وهذا فضل عظيم، وهذه تحفة عظيمة، وحتى هذه التحفة على قدر المتحِف والمهدِي، وعلى قدر المُتحَف والمُهْدى، فهذه هدية بين الله ونبيه حبيبه وخير خلقه، فماذا ستكون؟!(7/164)
حقيقة لابد أن تكون أنفس الهدايا والتحف، فأمتك لن نسوءك فيهم، فمن جاءنا؟؟؟ وعليه من الذنوب أمثال الجبال – إذا لم يشرك بالله شيئاً – نغفر له برحمتنا الواسعة نسأل الله أن يدخل عظيم جرمنا في عظيم عفوه إنه واسع المغفرة.
ثالثا: خواتيم سورة البقرة:
... وهذه هي التحفة الثالثة، وقد نزلت على نبينا عليه الصلاة والسلام في الإسراء والمعراج؟؟ بالآيتين في ذلك المكان وامتن الله على نبيه عليه الصلاة والسلام بهما، وبما لهما من الفضائل العظام.
وقد وردت بذلك الأحاديث الكثيرة ففي مسند الإمام أحمد بسند حسن عن عقبة بن عامر الجهني قال: [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له اقرأ الآيتين من آخر سورة البقرة، فإنهما من كنز من تحت العرش] أي هذه من الكنوز الثمينة وتلقيتها من تحت عرش الرحمن، فهذا إذن مال عظيم؟؟ ثمين نتقرب به إلى رب العالمين.
وقد أخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام عن منزلة هاتين الآيتين، ففي الصحيحين، وسنن النسائي والترمذي من حديث إلى أبي مسعود رضي الله عنه (وقد ورد في بعض الكتب ابن مسعود، كتفسير ابن كثير وغيره وهذا خطأ مطبعي صوابه: أبو مسعود وهو الأنصاري البدري وليس عبد الله بن مسعود فهذا من المهاجرين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه] .
قال الإمام النووي: (كفتاه) تحتمل أمرين لعل الله يجمعهما للقارئ بفضل رحمته:
1- كفتاه عن قيام الليل إذا لم يتيسر له أن يقوم في تلك الليلة لغلبة نوم أو تعب، فيكون له أجر قيام الليل بفضله ورحمته، ولا يقل قائل: أقرهما ولا أقوم للقيام وسأحصل الأجر.
2- كفتاه تلك الليلة كل مكروه وأذىً وبلية تقع في تلك الليلة.(7/165)
وقد ثبت في سنن الترمذي وصحيح ابن حيان ومستدرك الحاكم بسند صحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [الآيتان من آخر سورة البقرة لا تُقرآن في دار ثلاث مرات فيقربها الشيطان] أي فمن قرأها ثلاث مرات في بيته فلا يقرب الشيطان هذا البيت في ذلك اليوم.
وروى ابن مَرْدُويَهْ عن علي رضي الله عنه أنه قال [لا أرى أحداً يعقل؟؟ ينام قبل أن يقرأ آية الكرسي والآيتين من آخر سورة البقرة] ومعنى كلامه أنه لا يمكن أن يكون ببالي أن أرى مسلماً يعقل – أي ليس بكافر، وليس بصغير حتى نقول إنه لا يدرك منزلة هذه الآيات – بل هو مسلم عاقل ينام دون أن يقرأ آية الكرسي والآيتين من آخر سورة البقرة، فحافظوا على ذلك.
أما آية الكرسي كما في صحيح البخاري: [من قرأها إذا أخذ مضجعه لا يقربه شيطان حتى يصبح] وهي أفضل آي القرآن على الإطلاق، فأفضل آياته آية الكرسي وأفضل سوره سورة الإخلاص.
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي بن كعب رضي الله عنه [أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: أي آيات في كتاب الله أعظم؟ فقلت: آية الكرسي، فضرب النبي عليه الصلاة والسلام في صدري وقال: ليهنك العلم أبا المنذر] ومعنى ليهنك هنيئاً لك وأحسن على هذه الإصابة.
وفي آية الكرسي اسمان؟؟؟؟؟؟؟ إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام – كما في سنن الترمذي وغيره – [إذا اجتهد في الدعاء يقول: يا حي يا قيوم] أي إذا دعا دعاءً يلح به وهو مهم فإنه يناجي ربه بهذين الاسمين: يا حي، يا قيوم.
وقد أوصى نبينا عليه الصلاة والسلام – كما في مستدرك الحاكم وعمل اليوم والليلة لابن السني بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه [أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابنته فاطمة ما يمنعك أن تقولي ما أوصيتك به، تقولين إذا أصبحت وإذا أمسيت يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث فأصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين] فهذا توسل إلى الله بحياته وقيوميته.(7/166)
فحافظوا عليه صباحاً ومساءً، فإنه هدية من نبينا عليه الصلاة والسلام لبِضْعَتِه فلتأخذ به أنت وهذان الاسمان هما أصل لسائر صفاته، فكل صفة لله أصلها الحي أو القيوم.
فالصفات الذاتية بأسرها لا يثبت شيء منها لله إلا بعد ثبوت الحياة له جل وعلا، والصفات الفعلية بأسرها من الخلق والرزق والإحياء والإماتة والإعزاز والإذلال وما شاكلها لا تثبت لله إلا إذا ثبتت القيومية له.
فهو حي حياة كاملة فلا تأخذه سنة ولا نوم، ومن باب أولى لا يطرأ عليه فناء ولا يموت سبحانه وتعالى، وهو قيوم قائم بنفسه مقيم لشؤون غيره يدبر أمور عباده (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) .
وقد ورد في سنن ابن ماجه بسند حسن – وهو في غيره أيضاً – عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [الاسم الأعظم في ثلاث سور] قال القاسم بن عبد الرحمن، راوي الحديث، وهو من أئمة التابعين – فطلبته هذا فوجدته في سورة البقرة وآل عمران وطه.
فهي في سورة البقرة في آية الكرسي آية (255)
في سورة آل عمران الآية الثانية: (الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم)
وفي سورة طه الآية (111) : (وعنت الوجوه للحي القيوم)
وما ذكر الله اسمي الحي القيوم مقترنين إلا في هذه السور الثلاث، فقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث [اسم الله الأعظم في ثلاث سور] قرينة – كما قال أئمتنا – على أن هذين الاسمين هما اسم الله الأعظم لكن مع هذا نقول اختلف أئمتنا لقرائن هل هو هذا، أم يا ذا الجلال والإكرام؟ أم لفظ الله؟ وقيل غير ذلك، وكل فريق أورد أدلة له، لكن هذا – الحي القيوم – فيما يظهر أظهرها؛ لأن له ميزة على سائر أسماء الله سبحانه وتعالى، فإنهما كما قلنا أصلان لسائر أسماء وصفات الله سبحانه وتعالى فلا يستبعد أن يكونا هما اسم الله الأعظم، سبحانه وتعالى لاسيما مع قرينة [في ثلاث سور] .(7/167)
ومبالغة النبي صلى الله عليه وسلم في الالتجاء إلى الله عندما يهمه أمر بـ (يا حي يا قيوم) فهذا مما يدل على أن لهذا منزلة، وكذلك تعليمه لابنته فاطمة أن تلجأ إلى الله في الصباح والمساء بـ (يا حي يا قيوم) والعلم عند الله.
يقول الإمام ابن تيمية – كما نقل عنه هذا تلميذه ابن القيم في مدارج السالكين: "لهذين الاسمين المباركين الأثر في حياة القلب ما ليس لغيرهما" ويقول "ومن تجريبات السالكين أن من واظب عليه قبل صلاة الفجر أحيا الله قلبه".
أي أن من تجريبات السالكين أنهم كانوا يلهجون بهذين الاسمين قبل صلاة الفجر فيحيي الله جل وعلا قلوبهم ويجعلها منشرحة منورة مطمئنة.
س: هل ثبت أن الاسم الأعظم من الغيب الذي لا يعلمه إلا الولي الصالح أو أنه استنتاج حيث أنه لم يصرح به الرسول صلى الله عليه وسلم؟
جـ- لم يثبت هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام، ونقول: هو استنتاج من أحاديثه ويتوصل إلى معرفته أصحاب العقول السليمة الواعية بالنظر في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم – أحياناً – يشير إلى شيء ممكن أن يصل الإنسان إليه عن طريق النظر والتفكير فيما أشار إليه، كما في تعيين ليلة القدر فإنه صلى الله عليه وسلم لم يحددها ولكن أشار في أحاديثه إلى أشياء يمكن التوصل عن طريقها إلى معرفة الليلة.
إذن فالتحفة الثالثة خواتيم سورة البقرة، وقد ثبت في صحيح مسلم وسنن النسائي عن ابن عباس الله رضي الله عنهما: [أن جبريل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه كان جالساً مع النبي ففتح باباً من السماء فسطع نورٌ ونزل ملك منه فقال جبريل: هذا ملك لم ينزل إلى الأرض قط ثم جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: يا محمد، أبشر بنورين قد أوتيتهما فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلا أوتيته] .
وقد يقول قائل: هل نزل هذا الملك بفاتحة الكتاب وبالآيتين من آخر سورة البقرة؟(7/168)
نقول: لا، الملك لم ينزل يهما إنما نزل مخبراً بفضلهما، إذ أن هذه الآيات – كما قلنا – نزلت على النبيِّ عليه الصلاة والسلام وبُلِّغها فوق السموات العلا.
وقد ثبت في الصحيحين عن نبينا عليه الصلاة والسلام أن المؤمنين عندما يقرؤون آخر سورة البقرة؟؟؟ جملة فيها دعاء يقول الله قد فعلت.
... (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) فيقول الله: قد فعلت؟؟؟ (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) يقول الله: قد فعلت، (ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا) قد فعلت، (ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به) قد فعلت، (واعف عنا) قد فعلت، (واغفر لنا) قد فعلت، (وارحمنا) قد فعلت (أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) قد فعلت. فلا يقرؤون بجملة إلا يقول الله قد فعلت.
... وأما سورة الفاتحة فقد ثبت في الصحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام أن الله جل وعلا قال: [قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد (الحمد لله رب العالمين) قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال (الرحمن الرحيم) قال الله: أثنى عليّ عبدي، وإذا قال (مالك يوم الدين) مجدني عبدي، وفي رواية: قال [فوض إليّ عبدي] وإذا قال (إياك نعبد وإياك نستعين) قال: هذا بيني وبين عبدي] وتكملة الحديث: [ولعبدي ما سأل] أي: بعد أن أثنى علي العبد فليسأل ما يريد فأنا سأجيبه.
س: هل الأجر المذكور فيما سبق يترتب على مجرد التلفظ أم على إدراك المعنى؟
جـ: الأصل أن الأجر يترتب على القراءة التامة الكاملة بحضور القلب وخشوعه، وفهم المعنى ومعرفته، وحسن التلاوة وسلامتها، فإن نقص شيء من ذلك نقص الأجر بحسابه.(7/169)
.. فإذا أخل بالقراءة السليمة نقص الأجر، وإذا أخل بالخشوع والمراقبة والاستحضار والتفكر نقص الأجر، وإذا أخل في فهم المعنى نقص الأجر، وهذا كالصلاة فإنها؟؟؟؟؟. كاملة، وكل ما نقص من كمالها ينقص من أجرها ولذلك ثبت في السنن عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنَّ العبد يصلي الصلاة وما يكتب له نصفها، وما يكتب له ثلثها، وما يكتب له ربعها، وما يكتب له خمسها، حتى وصل وما يكتب له عشرها، وإذ لم يكتب عشرها مع أنه صلى، والقراءة كذلك.
... فإذن الثواب الذي نيط بالقراءة وعلق بها هو للقراءة الكاملة التي فيها – كما ذكرنا – خشوع التلاوة وفهم المعنى، وسلامة النطق، فإذا أخل بشيء من ذلك نقص من أجره، وقد يصل إلى حالة: [ربَّ قارئ للقراءة والقرآن يلعنه] ، نسأل الله العافية، وقد يصل المصلي إلى حالة [لا تزيده صلاته من الله إلا بعداً] وقد يصل الصائم إلى حالة [ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش] ، وقد يصل القائم إلى حالة [ليس له من قيامه إلا التعب والسهر] .
... ولذلك كان بعض الصالحين من أجل هذه المخاوف يقول: "من لم ير أن طاعاته ستدخله الجنة فقد عقله وضاعت بصيرته، أي عليه أن يقول: إن طاعاتي قد تستوجب لي النار، فكيف بمخالفاتي، وواقع الأمر كذلك، فطاعاتنا فيها من نقص وشوائب، ولو قدمت لبشر لما رضي بها لما فيها من نقص وتفريط، فكيف لو قدمت إلى أرحم الراحمين، لكن ليس لنا تعويل إلا على فضل الله الجليل، كما قال الأعرابي عندما تعلق بأستار الكعبة: "اللهم إن استغفاري مع إصراري لؤم؟؟؟ وإن تركي للاستغفار مع علمي بواسع فضلك عجز مني، يا من تتحبب إلينا بالنعم، ونتبغَّض إليك بالمعاصي، يا من إذا وَعَد وفَّى، وإذا توعّد تجاوز وعفى أدخل عظيم جرمي في عظيم عفوك" الأمر كذلك فهذا حال البشر إذا رجعوا إلى عقولهم.(7/170)
.. ولذلك كان الصالحون يقولون: "اللهم إن أطعناك فبفضلك والمنة لك، وإن عصيناك ف؟؟؟ وعدلك والحجة لك، اللهم بحق قيام حجتك علينا وانقطاع حجتنا اغفر لنا". أي نحن؟؟؟ عاجزون مستسلمون، وحقيقة.. لعل هذا يرضي ربنا علينا.
... الحجاج وهو الظالم المشهور سفاك الدماء عندما يخاطب بمثل هذا الأسلوب يلين ويرق قلبه، فقد أساء أناس مرة في حقه فأحضرهم وأعمل السيوف في رقابهم حتى وصل إلى واحد منهم فقال له: قف أيها الأمير، قال: وماذا تريد أن تقول؟ قال: إن أخطأنا عليك وجنينا فلا تخطئ أنت؟؟؟ العفو عنا، فطرح الحجاج سيفه وقال: أما في هؤلاء من يحسن يعتذر؟! أي هؤلاء الذين قطعت رؤوسهم لا يوجد فيهم شخص واحد يحسن الكلام والاعتذار ويقول كقول هذا.
... ونقول نحن حالنا يستوجب قعر جهنم، لكن لا تعويل لنا إلا على فضل الله، فإن عذبنا فهذا ما نستحق وإن رحمنا فهذا جود منه وإحسان، أما أنه نريد أن يكون لنا عند الله يد وعليه منة ونقول فعلنا وفعلنا ونخص الحسنات، فبئس هذا العمل وهذا القول، وهذه الحسنات لا يعلم حالها عندما فعلت إلا الله سبحانه وتعالى، فلنحسن التوبة والاعتذار فكما قلنا حسن الأسلوب يرق قلوب الجبابرة فكيف بأرحم الراحمين وأكرم الأكرمين سبحانه وتعالى ذي الفضل العظيم، فخواتيم سورة البقرة إذن هي التحفة الثالثة.
رابعا: رؤية الله سبحانه وتعالي:
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ السموات العلا.
... ومبحث الرؤية مرّ في منهج السنة الأولى، وقد مرّ معكم مختصراً، وتكلم عن رؤية المؤمنين ربهم جل وعلا يوم القيامة، لكن هناك مباحث أخرى تتعلق بموضوع الرؤية منها:
1- النساء وهل يرين ربهن في الآخرة أم لا؟
وهذه المسألة شهيرة ولم يتعرض لها في شرح الطحاوية، وقد ألف أئمتنا كتباً فيها من جملة ذلك: تحفة الجلساء برؤية النساء لرب الأرض والسماء للإمام السيوطي، وهو مطبوع ضمن الحاوي للفتاوى له (2/397) .(7/171)
والأقوال في هذه المسألة ثلاثة، والمعتمد أنهن يرين الله سبحانه وتعالى وهن مكلفات كما أن الذكور مكلفون، وسبب الخلاف ورود بعض الروايات التي استدل منها بعض الناس على خلاف ذلك وأورد بحثاً فقال النساء لا يرين الله جل وعلا، وهذا باطل، وكان لابد من التعرض لهذا؟؟؟.
2- موضوع الرؤيا المنامية لربنا جل وعلا، هل تحصل أم لا؟
... نعم تحصل، والله جل وعلا يُرى في المنام، وقد رآه نبينا عليه الصلاة والسلام – وهذا ليس بخصوصية له. وقرر هذا الإمام ابن تيمية وغيره عليهم جميعاً رحمة الله.
... يقول الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء (2/167) : "ولم يأتنا نص جلي بأن النبي عليه الصلاة والسلام رأى الله تعالى بعينيه فأما رؤية المنام فجاءت من وجوه متعددة مستفيضة".
... وأما رؤية الله عياناً في الآخرة فأمر متيقن تواترت به النصوص، جمع أحاديثها؟؟؟ والبهيقي وغيرهما".
... ففي رؤية الله في المنام ثابتة باتفاق أهل السنة، وقد حكى ابن حجر في فتح الباري في الجزء الثالث عشر الإجماع على أن الله يُرى في المنام.
... وقد رآه أبو حنيفة والإمام أحمد والإمام الأوزاعي وأبو سليمان الرَبْعي (محدث دمشق) ، ورآه عدد غيرهم، وأنا أعرف بعض من رآه ممن قصّ عليّ رؤيته، والله تعالى على كل شيء قدير.
... ولو كان البحث معنا في الرؤيا لذكرت الأدلة على ذلك بتوسع، لكن نذكر نزراً منها:
ثبت عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: "خير ما يرى النائم في منامه أن يرى ربه، أو نبينه عليه الصلاة والسلام، أو أبويه أو أحدهما ماتا على الإسلام".
... وثبت في سنن الدرامي في كتاب الرؤى باب رؤية الرب في المنام، ثم نقل عن؟؟؟ بسند صحيح: "من رأى ربه دخل الجنة". أي هذا هو تأويل الرؤيا إذا رآها.
... ثم بعد ذلك حديث معاذ، الذي ألف الإمام ابن رجب حوله كتاباً سماه (اختيار؟؟؟ في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى) .(7/172)
3- رؤية نبينا عليه الصلاة والسلام لربنا جل وعلا، فهذه المباحث حولها شيء من الخلاف ولابد من؟؟؟؟؟؟؟؟؟ الآخرين فليس لنا به الآن شغل أو علاقة لضيق الوقت، ولعله يأتي في حينه إن شاء الله في مبحث الرؤيا، فنقول وبالله التوفيق:
... اتفق أهل الحق على أن رؤية الله لم تحصل لأحد من الأنبياء في هذه الحياة الدنيا من آدم إلى عيسى عليه السلام أو لأحد من البشر.
... وأن من ادعاها لنفسه أو لأحد غير نبينا عليه الصلاة والسلام فهو ضال، وهذا محل وفاق وإجماع، لكن حصل خلاف في نبينا عليه الصلاة والسلام فقط.
... ودليل هذا الإجماع ما ثبت في صحيح مسلم وسنن الترمذي وابن ماجه عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال [واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا] هذا لفظ ابن ماجه.
... ولفظ الإمام مسلم في صحيحه (18/56 – بشرح النووي) : [تعلموا (أي اعلموا) أنه لن يرى أحد منكم ربه عز وجل حتى يموت] .
... وهذا الحديث ذكره نبينا عليه الصلاة والسلام عند معرض ذكره للدجال عليه لعنة ذي العزة والجلال لأن الدجال يدعي أنه الرب، فيقول لنا النبي صلى الله عليه وسلم يكفي في بطلان دعواه أن الله لا يرى في هذه الحياة الدنيا ولا يراه أحد من المخلوقات فيها فـ[اعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا] ، والدجال أعور وربكم ليس بأعور.
فإن قيل: لماذا لم يدخل النبي صلى الله عليه وسلم ضمن هذا الكلام لأنه عام يشمل كل أحد؟
فالجواب: أن المتكلم لا يدخل في عموم كلامه فيوجهه لغيره ويستثنى هو من الكلام فلا يشمله فذلك لم يدخل النبي صلى الله عليه وسلم ضمن هذا الكلام.(7/173)
ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري (13/96) حيث قال بعد ذكر الحديث من رواية الإمام مسلم المتقدم "وفيه تنبيه على أن دعواه الربوبية كذب، لأن رؤية الله مقيدة بالموت والدجال يدعي أنه الله، ويراه الناس مع ذلك، وفي هذا الحديث رد على من يزعم أنه يرى الله في اليقظة تعالى الله عن ذلك، ولا يرد على ذلك رؤية النبي صلى الله عليه وسلم له ليلة الإسراء لأن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم فأعطاه الله في الدنيا القوة التي يُنعم الله بها على المؤمنين في الآخرة".
فذكر هنا أن الله خص نبينا عليه الصلاة والسلام بهذا، وفي (8/608) منه – أي من فتح الباري عند كتاب التفسير في تفسير سورة النجم تعرض لهذا المبحث، فقال: "فإن جازت الرؤية في الدنيا عقلاً فقد امتنعت سمعاً، لكن من أثبتها للنبي صلى الله عليه وسلم له إن يقول: أن المتكلم لا يدخل في عموم كلامه".
فإذن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشمله العموم السابق فهو مستثنىً، وهذا كما أنه صلى الله عليه وسلم أخبر هذه الأمة بأنه لا يحل لهم أن يجمعوا بين أكثر من أربع نسوة وقال لمن أسلم وعنده تسع نسوة [اختر أربعاً وفارق سائرهن] ، فهو لم يدخل في هذا الكلام بل له حكم خاص خصه الله به.
وهنا في هذا الحديث لا يدخل النبي صلى الله عليه وسلم في عموم هذا الكلام ولا يقال إنه لن تحصل الرؤية حتى يموت صلوات الله عليه وسلامه.
وعليه فقد اختلف أهل السنة في مسألة رؤية نبينا عليه الصلاة والسلام لربه ليلة الإسراء والمعراج على أربعة أقوال أذكرها على سبيل الإجمال ثم أفصل الكلام فيها عازياً كل قول لأهله من أهل السنة والسلف مبيناً دليله، مرجحاً – بعد ذلك – ما يظهر لي أنه راجح والعلم عند الله.
القول الأول: حصلت الرؤية بعيني رأسه صلى الله عليه وسلم.
القول الثاني: حصلت الرؤية بقلبه.
القول الثالث: لم تحصل الرؤية.
القول الرابع: التوقف، فلا نقول حصلت له، ولا نقول: لم تحصل.
وسنفصل الكلام فيها الآن:(7/174)
المحاضرة الخامسة عشر 9/4/1412هـ
القول الأول:
أن رؤية نبينا عليه الصلاة والسلام لربه جل وعلا حصلت بعيني رأسه:
... قال بهذا جمّ غفير من أئمة الإسلام، منهم: الإمام الحسن البصري، وكان يحلف على ذلك وقد أورد الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء (7/381) في ترجمة العبد الصالح إبراهيم بن طهمان وهو من رجال الكتب الستة ثقة وفوق الثقة، توفي سنة 163هـ، أورد في ترجمته أنه كان يقول: "والله الذي لا إله إلا هو لقد رأى محمد عليه الصلاة والسلام ربه".
... قال الإمام ألألوي في روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع مثاني (27/54) : "وأنا أقول برؤية نبينا عليه الصلاة والسلام لربنا".
... وهذا القول قال به الإمام السخاوي وهو تلميذ الحافظ ابن حجر وصاحب كتاب المقاصد الحسنة – التحفة اللطيفة في أخبار المدينة الشريفة (1/30) .
... والتحفة اللطيفة تتكلم عن المدينة المنورة كما أنه ألفت كتب في أخبار مكة مثل أخبار مكة لأزرقي، وشفاء الغرام بأخبار البلد الحرام، والعِقد الثمين في أخبار البلد الأمين للإمام الفاسي، وهذا أحسن ما كتب في أخبار مكة ومن دخلها يقع في (8 مجلدات) ، وكذلك ألفت كتب في أخبار المدينة من ذلك الكتاب السابق الذكر الذي ألفه الإمام السخاوي وهو كتاب جليل، وكتاب المغانم المطابة في أخبار طابة للفيروز آبادي.
... الشاهد أنه قال في التحفة اللطيفة: "وأنا أقول برؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه" وقد انتصر لهذا القول الإمام ابن خزيمة في كتاب التوحيد وقرره في صفحات كثيرة تزيد على الثلاثين (من 197 - 230)
دليل هذا القول وعمدته خمسة أمور:
أولها: آثار ثابتة عن الصحابة لها حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام:
1- روى ابن خزيمة في كتاب التوحيد ص 199 بإسناد قوي قاله الحافظ في الفتح 8/108 عن أنس رضي الله عنه قال [رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه] .(7/175)
2- روي الإمام الطبري في تفسيره، وابن خزيمة في كتاب التوحيد، والحاكم في المستدرك 2/469 بسند صحيح على شرط الشيخين أقره عليه الذهبي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [اصطفى الله إبراهيم بالخلة، واصطفى موسى بالتكليم، واصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم بالرؤية؟؟؟؟؟؟؟؟ له الرؤية، وأي هذه التحف والعطايا أغلى؟
حتما إنها الرؤية فهي أغلى العطايا.
... فموسى اصطفاه الله بالكلام، وإبراهيم اصطفاه الله بالخلة، ونبينا عليه الصلاة والسلام حصل له التكليم – كما سيأتيننا – وحصلت له الخلة، وخلته أكمل خلة لربه ولذلك يقول خليل الله إبراهيم – كما في حديث الشفاعة وهو حديث متواتر – عندما يذهب الخلق ويقولون اشفع لنا فقد اتخذك الله خليلاً فيقول [إنما كنت خليلاً من وراء وراء، اذهبوا إلى محمد عليه الصلاة والسلام فإن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر] .
... فإذن هو خليلٌ وكليمٌ، وله فضل لم يحصل لغيره من النبيين وهو الرؤية.
3- روي الطبراني في معجمه الأوسط بسند لا بأس به – والأثر في مجمع الزوائد (1/79) – عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه مرتين، مرة ببصره ومرة بفؤاده] . إذن فهذه آثار مصرحة بأن نبينا عليه الصلاة والسلام حصلت له الرؤية للعزيز الغفار.
ثانيها: احتمال الآيات لهذا القول:
... انتبه!! هناك فارق كبير بين قولنا نص الآيات وبين احتمالها، وإذا احتملت الآية هذا فاللائق بكرم الله ومنزلة رسول الله عليه الصلاة والسلام حصول هذا الأمر له.
ونقول: إذا احتملت وكان الاحتمال صحيحاً وجيهاً فهذا كافٍ في الدلالة.
... فإذن الآيات تحتمل ولا تنص، لأنها لو نصت لما كان هناك مجال للخلاف في هذه القضية والذي دفعنا لقول هذا الاحتمال – كما قلنا – تفضيل الله لنبيه عليه الصلاة والسلام على غيره من؟؟؟ ولا مانع من أن تفضيله الله تعالى بهذا الأمر.(7/176)
.. أي أن منزلة نبينا عليه الصلاة والسلام يليق بها حصول هذا التفضيل، فإذا احتملت الآيات ما يليق بكرم الله ومنزلة رسول الله عليه الصلاة والسلام ثبت هذا له كما سيثبت للمؤمنين في جنات النعيم، والله على كل شيء قدير.
أما الآيات التي تحتمل هذا، فهي أربع آيات:
1- قول الله تعالى (إنه هو السميع البصير)
وقد تقدم الكلام عليها عند آية الإسراء وقلنا في تفسير الضمير ومرجعه قولان:
الأول: أن يعود على الله، وهذا هو المعتمد أي أن الله سميع بصير.
الثاني: وحكى هذا أبو البقاء العُكْبري يمكن أن يعود على النبي صلى الله عليه وسلم أنه، أي هذا النبي الذي أسري به وعرج سميع لأوامري بصير بي حصلت له الرؤية وليس حاله كحال نبي الله موسى وهذا القول ليس هو المعتمد في تفسير الآية لكن الآية تحتمل هذا وليس في هذا الاحتمال؟؟؟ حتى نقول إنه مطروح وهذا هو المطلوب وهو كافٍ في الدلالة.
2- قوله تعالى (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس)
وقد تقدم ذكر هذه الآية، وقلنا إنه ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: [هي رؤيا عين لربنا رسول الله صلى الله عليه وسلم] .
وهذه الرؤيا شاملة للآيات العظيمة التي رآها في الأرض وفي السماء وفي؟؟؟.
إذن إطلاق الآية بأن الله أرى نبيه عليه الصلاة والسلام آيات عظيمة بعينيه، أفلا يدخل في هذا الإطلاق رؤيته لربه جل وعلا؟ يدخل.
وهذا احتمال في الآية وهو احتمال مقبول.
3- قوله تعالى في سورة النجم (ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى) .
في بيان المراد بالضمائر في قوله (دنا فتدلى) قولان لسلفنا الكرام:(7/177)
الأول وهو الظاهر: أنها تعود على جبريل عليه السلام، اقرأ الآيات وانظر إلى الترتيب (والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علَّمه شديد القوى) . الذي علمه هو شديد القوى جبريل، تابع الآيات (ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا) أي جبريل (فتدلى فكان) من النبي عليه الصلاة والسلام (قاب قوسين أو أدنى) ؟؟؟ الله إلى نبيه محمد عليه الصلاة والسلام بواسطة هذا الذي دنا فتدلى في تلك الساعة ما أوحى.
... وهذا هو الظاهر من الآيات، وهو أن هذه الرؤية حصلت من نبينا لجبريل وما رآه إلا مرتين في صورته الحقيقية، مرة في حادثة الإسراء والمعراج، ومرة رآه بأجياد، وله ستمائة جناح قد سد الأفق، (ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى) هذه هي الرؤية الثانية (عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ... ) الآيات.
الثاني: أنها تعود على الله سبحانه وتعالى فتقول (ثم دنا) أي الرب جل وعلا، وقد ثبت هذا في صحيح البخاري في حديث الإسراء: [ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى] من نبينا عليه الصلاة والسلام وحصل بينهما ما حصل (فأوحى إليه ما أوحى) وحصلت له الرؤية.
إذن فالدنو والتدلي هنا للرب جل وعلا، ولا يقال كيف دنا وكيف تدلى؟ لأن صفات؟؟؟ إقرار وإمرار، نقر بالصفة ولا نبحث في كيفيتها فعندما يقول (الرحمن على العرش) استوى نقول الاستواء معلوم والكيف مجهول، وكل ما خاطر ببالك فالله بخلاف ذلك.
... وإذا بحثت في الكيفية فقد مثلت، وإذا نفيت النص فقد عطلت، فلا تمثيل ولا تعطيل (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) .
والعجز عن دَرَك الإدراك إدراك ... والبحث في كنه ذات الإله إشراك
فلو قيل لنا: ما معنى استوى؟ نقول: معناها استوى، وما معنى دنا فتدلى؟ نقول: دنا فتدلى، فتفسيرها قراءتها وقراءتها تفسيرها فقط دون أن نكيف معنىً من المعاني نتخيله بأذهاننا.(7/178)
وعليه نقول: ليس الدنو بأغرب من نزول الرب إلى السماء كل ليلة [وهو حديث متواتر نؤمن به ومنكره ضال] .
وهذا الحديث: مع أنه صحيح البخاري إلا أنه جرى حوله كلام، رواية شريك؟؟؟ لذلك قيل: إن شريك وهم في هذا اللفظ المذكور.
... السند في صحيح البخاري صحيح لكن يوجد في المتن وهم، وهذا كما يوجد حديث في صحيح مسلم انقلب على الراوي مع أن الإسناد صحيح [حتى لا تعلم ما أنفقت شماله] والأصل [حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه] ؟؟؟؟؟ وهنا كذلك قيل إن آفة هذا الحديث وهم الراوي لا ضعف السند.
لكن الحافظ ابن حجر في الفتح كأنه لم يرتض اتهام شريك بالوهم في هذا اللفظ المذكور فقال: روى الأموي في مغازيه بسند حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: [ثم دنا منه ربه فتدلى] يقول: وهذه الرواية شاهد لرواية شريك وأنه ليس بواهم فيها.
... ويكفي أن يدخل هذا المعنى – الثاني – في الآية وأن لا يقال دخوله باطل وغير محتمل، لكن هل هو راجح أم مرجوح؟ فهذا موضوع آخر.
4- قوله تعالى (ألم نشرح لك صدرك)
وتقدمت معنا، وتقدم معنا أن الشرح يراد منه أمران:
الأول: شرح معنوي، أي عن طريق شق صدره عليه صلوات الله وسلامه أربع مرات ثابتة صحيحة.
الثاني: شرح معنوي أي أن الله ألقى في قلبه العلم النافع والسكينة والطمأنينة وشرح صدره بذلك ووفقه للعمل بما ألقى في قلبه ثم رفع ذكره وأعلى مقامه ورتبته فحصل له الشرح من جميع الجهات.
فنقول: أليس من أعظم أنواع شرح الصدر رؤية الله جل وعلا؟ بلى.
وحقيقة كل شرح دون حصول رؤية الله فليس بشرح كامل، فإن الله سبحانه يمن على نبيه عليه الصلاة والسلام بأنه شرح له صدره على وجه التمام والكمال بحيث لم يبق في هذا الصدر؟؟؟ للشرح مرة ثانية، فلو لو تحصل له الرؤية فهل حصل الشرح التام الكامل؟ أم أننا نقول إنه يحتاج إلى شرح آخر مرة ثانية؟.(7/179)
.. ولذلك يكتمل نعيم الجنة ويطيب برؤية الله جل وعلا، ولولا هذا لما تلذذ أهل الجنة في الجنة، فكما أن هذه الدنيا لا تطيب إلا بمعرفة الله والأنس بذكره سبحانه وتعالى ولولا هذا؟؟؟ الحياة علينا، فهناك كذلك الجنة بلا رؤية لله كالدنيا بلا معرفة لله، فماذا تكون الفائدة من هذه الحياة إنما تكون كحياة البهائم.
... يقول الإمام الحسن البصري – عليه رحمة الله – كما في كتاب الاعتقاد للإمام البهيقي -: "والله لو علم العابدون أنهم لن يروا ربهم في الآخرة لزهقت أنفسهم" أي لماتوا، فكيف نعبد إلهاً في هذه الحياة، لم نره في الحياة لحكمة وهي حتى لا يكون الإيمان إيمان مشاهدة، لكن أن تصبح الحياة كلها إلى ما لا نهاية لن نرى فيها نور وجه ربنا الكريم؟ فهذا مما لا يرضاه أحد.
... وإن أحدنا لا يرضاه مع الزوجة فضلا ً عن المعبود، ولله المثل الأعلى – فيتزوج زوجة لا يراها ولا تراه بل مجرد كتابة عقد هي في الهند وهو في رأس الخيمة، فهل هذا مما يرضاه أحد؟ لا هذا مما لا يرضاه أحد – وهي زوجة – فكيف بالمعبود الذي نعبده جل وعلا ثم لا نتمتع برؤية نور وجهه.
وألا يتمنى أحدنا أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!!!.
كما في معجم الطبراني عن أنس رضي الله عنه – مرفوعاً بسند حسن – [سيوشك أحدكم يتمنى أن ينظر إليَّ ولو بأهله وماله] وواقع الأمر كذلك، ولو قيل: يمكن لكم أن تروا نبينا صلى الله عليه وسلم، فكيف رؤية رب العالمين؟ وكيف نعبد إلهاً لا نراه؟!!.
ساء ظن الإباضية بربهم – وهم فرقة من الخوارج – حيث يقولون رؤية الله ضلال ومن؟؟؟؟ وهل يوجد عندنا حبيب أعظم من ربنا جل وعلا الذي خلقنا ونعبده؟!!.
فإذن آنسنا الله في هذه الحياة بذكره وفي الآخرة بعد الممات لا نأنس إلا برؤية وجهه سبحانه وتعالى، إذن دخول هذا المعنى في الآية لا مانع منه والآية تحتمله، وهذا غرضنا. هذا هو الدليل الثاني.(7/180)
ثالثها: من أثبت الرؤية فمعه زيادة علم، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ:
وعندنا قاعدة مقررة: المثبت مقدم على المنافي.
... وقد حصل عندنا الإثبات في أثر ابن عباس وليس رؤية مطلقة بل قيد فقال مرة ببصره ومرة بفؤاده، فالتصريح برؤية النبي صلى الله عليه وسلم بعيني رأسه ثابت ولنضرب مثالا ً: لو قلت للأخ إبراهيم: رأيت والدك هذا اليوم في رأس الخيمة، فقال: أنا أعلم أن والدي في مكة، فأنا أثبتُّ وهو ينفي فبكلام من نأخذ؟
نأخذ بكلام المثبت، ولا يعني هذا أن كلام النافي باطل أو أنه كذاب، لكن النافي يخبرنا ما كان، والأصل عدم ثبوت مجيء والدك إلا ببينة، فأنا أثبت – وأنت متعلق بالحال السابق، وهنا من نفى الرؤية فهو متعلق بالحال السابق، ومن أثبت فمعه دليل زائد فيقدم على النافي.
رابعاً: خصوصيات نبينا عليه الصلاة والسلام كثير وفيرة، فما المانع من أن يخصه بهذا؟!.
س: فهل هناك محظور أو مانع؟ وهل الرؤية في الدنيا مستحيلة أم ممكنة؟
جـ: ممكنة لكن ورد الشرع بأنها لا تحصل لغير نبينا عليه الصلاة والسلام فنحن ننفيها عن طريق منع الشرع لا عن طريق الاستحالة العقلية، ولو كانت مستحيلة عقلاً لما سألها موسى عليه الصلاة والسلام (قال رب أرني أنظر إليك) ، ومعنى المستحيل أنه كفر، فهل يسأل موسى عليه السلام كفراً من ربه؟!.
... فدل هذا على أنه كان يعلم أن الرؤية ممكنة، فإذا أراد الله أن يكرم بعض عباده بها أكرمه، فموسى تطّلع لهذا فقال الله له: إنك لا تتأهل لذلك في الدنيا، لكن انظر إلى الجبل إن استقر فسوف تراني، وتعليق الرؤية على ممكن يدل على أن الرؤية ممكنة، فلو ثبَت الله الجبل لرأى موسى ربه، لكن لما تجلى ربنا للجبل (جعله دكاً وخرّ موسى صَعِقاً) الشاهد؟؟؟ أنه علق الرؤية على ممكن فدل ذلك على أن الرؤية ممكنة.(7/181)
.. وإذا كان الأمر كذلك فموسى سأل الرؤية ولكنه أخبر أنه لا يتأهل لهذا في الدنيا لأنه دون نبينا عليه الصلاة والسلام لا لنقص فيه، ولكن – كما قلنا - الكمالات تتفاوت فنبينا أفضل من موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه قطعاً وجزماً، بل قلنا – إن خليل الرحمن إبراهيم أفضل من موسى.
... فإذن الرؤية جائزة عقلاً ممتنعة سمعاً وشرعاً للحديث الذي ذكرنا [واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا] وقلنا المتكلم لا يدخل في عموم كلامه، فبقي النبي صلى الله عليه وسلم مستثنىً، فهي إذن خصوصية فما المانع منها؟ لا يوجد شيء يمنع من ذلك.
خامسها: في هذا القول تأكيد لحصول الرؤية للمؤمنين في جنات النعيم:
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ فنحن إذا قلنا بهذا القول نقطع الطريق على المعتزلة والخوارج الذين ينفون رؤية المؤمنين لربهم؟؟؟ هل يمكن لمخلوق أن يرى ربه؟ فنقول لهم حصل لنبينا عليه الصلاة والسلام فإذن هي ليست مستحيلا ً فنحن سنراه في الآخرة.
لكن عندما نقول لم تحصل لنبينا عليه الصلاة والسلام فيبقى البحث في الرؤية في الآخرة هل حصلت له ولنا أن لن تحصل لأحد؟!!.
... أما إذا قلنا أن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه حصلت فإن هذا مما سيريحنا من مجادلتهم ونقاشهم.
القول الثاني:
يثبت رؤية نبينا علية الصلاة والسلام لربه، لكن بقلبه لا بعيني رأسه.
س: وما المراد بالرؤية القلبية هل هي العلم؟(7/182)
المراد من الرؤية القلبية أن يراه بقلبه كما يراه ببصره، وليس المراد منها العلم عند أصحاب هذا القول، لأن العلم مشترك بينه وبين سائر المؤمنين فكلهم يعلمون الله ولو كان المراد (رآه بقلبه) أي علمه ليلة المعراج، فهذا لا يستقيم فإنه كان يعلمه قبل ذلك وكلنا نعلم هذا فما الداعي إذن للقول بأن نبينا عليه الصلاة والسلام رأي ربه بقلبه أي علمه؟!!!! وقد قال أصحاب هذا القول: ولا يشترط عقلاً لحصول الرؤية أن يرى الإنسان بعينيه اللتين هما في رأسه، فقد يرى بأصبعه وقد يرى برجله وقد يرى ببطنه وقد يرى بظهره وقد يرى بقلبه.
فإنه لم ير ربنا بعيني رأسه، لكن جعل له في قلبه بصراً فرأى ربه، كما كان للنبي صلى الله عليه وسلم رؤية من وراء ظهره وله عينان يبصر بهما، ويرى من ورائه كما يرى من أمامه وهكذا جعل الله له في قلبه.
وقد قال بهذا القول أئمة أجلاء منهم:
الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، والإمام ابن كثير وجمّ غفير وفي تقديري وعلمي أن هذا القول ضعيف لعدة أمور:
إطلاق الرؤية ينصرف إلى رؤية البصر لا إلى رؤية القلب، ونحن عندنا قد ثبتت الرؤية مطلقة ومقيدة، فالمقيدة أثر ابن عباس (ببصره) ، والمطلقة – كقول أنس [رأى محمد عليه الصلاة والسلام ربه] .
ولا أعلم من أين أتى أصحاب هذا القول بقولهم إنه رآه بقلبه؟!
نقول: وثبت عنده [ببصره] وبقية الروايات عن الصحابة مطلقة، فعندما يقول أنس: [رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه] فهذا اللفظ المطلق عندما يسمعه الإنسان يفهم منه أنها رؤية بصرية، لأن الرؤية إذا أطلقت فهي رؤية بصرية بعيني الرأس، فنقول: إطلاق الآثار المصرحة بحصول الرؤية لنبينا عليه الصلاة والسلام تدل على أن الرؤية بالبصر لا بالقلب.
؟؟؟ رضي الله عنهما بأنه رآه ببصره.
3- أن هذا خصوصية وذاك خصوصية فما الداعي لاعتبار هذا وإلغاء ذاك، وما الذي يرجح خصوصيتكم على خصوصيتنا.
4- القول بالقول الأول يدخل فيه هذا القول دون العكس.(7/183)
فلو قلنا إنه رآه بقلبه فقط لما دخلت رؤية البصر، ولو قلنا إنه رآه ببصره فلا مانع من أن يراه بقلبه أيضاً.
إذن فالرؤية البصرية لا تمنع الرؤية القلبية، بخلاف العكس، وإذا كان الأمر كذلك فالذي يتناسب مع فضل الله ومع منزلة رسول الله عليه الصلاة والسلام ودلالة الآثار أنه قد رآه بالأمرين، ببصره وبقلبه والله على كل شيء قدير.
والإباضية والخوارج والمعتزلة خالفوا في موضوع الرؤية ونفوا حصولها وقالوا هي مستحيلة فنقول نبي الله موسى سأل الرؤية، وهذا من أعظم أدلة أهل السنة على أن رؤية الله في الدنيا ممكنة فضلا ً عن الآخرة، لأنها أي الرؤية لو كانت كفراً وضلالاً فهل كان يسألها نبي من أولي العزم؟!!
وانظر إلى سفاهة الزمخشري عند هذه الآية (لن تراني) يقول لن تفيد التأبيد وهذا في الدنيا والآخرة، ونقول له: ألم يقل الله عن اليهود (ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم) ؟ ثم أخبر عنهم وعن أهل النار عموماً بأنهم سيتمنون الموت (ونادوا يا مالك ليقضي علينا ربك) فإذن المراد بـ (لن تراني) أي في الدنيا، فما الذي جعلك تقول إنه في الآخرة أيضاً لن تراه.
ثم بعد ذلك هجا أهل السنة ببيتين من الشعر في (كشافه) فيقول:
لجماعة سَمَّوا هَواهم سنة ... لجماعة حُمْرٌ لعمري موكفه
قد شبهوه بخلقه فتخوفوا ... شنع الورى فتستروا بالبلكفه
(حمر موكفة) هي حمير عليها الأكاف فهي مستعدة للركوب، والأكاف هو الذي يوضع على ظهر الحمار كالسراج للخيل.
(البلكفة) هي قولنا نراه بلا كيف، ويقصد أننا لما قلنا بأننا نرى ربنا خفنا أن يقول النار عنا مشبهة وأن يشنعوا علينا ويقولون كيف شبهتموه بالورى فتسترنا بالبلكفة، فحذار حذار من البلكفة فإنه من منصوبات طواغيت شيوخهم، هذا كلامه، وهو اعتقادنا بأننا كلما ذكرنا صفة قلنا: نؤمن بها من غير كيف لأن الله يقول (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) .
ونحن نقول إن كان هو شاعراً أفلا يوجد عندنا شعراء، فانظر بماذا أجابه أهل السنة:(7/184)
هل نحن من أهل الهوى أم أنتم ... ومن الذي منا حمير موكفه
اعكس تصب فالوصف فيكم ظاهر ... كالشمس فارجع عن مقال الزخرفه
أترى الكليم أتى بجهل ما أتى ... وأتى شيوخك ما أتوا عن معرفه
إن الوجوه إليه ناظرة بذا ... جاء الكتاب فقلت هذا سفه
نطق الكتاب وأنت تنطق بالهوى ... فهوى الهوى بك في الهاوي المتلفه
فليلزم هو وكذلك الإباضية حدهم وليقفوا عنده، هل صار أعظم نعيم نتمناه ضلال؟ والذي يسأله يكون من الكافرين؟ نعوذ بالله من هذا.
القول الثالث:
ينفي الرؤية، أي لم تحصل هذه الرؤية للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج.
تبنى هذا القول أمنا عائشة غفر الله لها ورضي عنها.
ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث مسروق أنه قال لأمنا عائشة: [يا أمتاه هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ فقالت: لقد قفّ شعري مما قلت] ومعنى هذا أن شعري؟؟؟ من هول هذه الكلمة العظيمة فكيف تقول هذا، والإنسان إذا اعتراه وجل يصاب بمثل هذا كما قال جل وعلا (الله أنزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين لا يخشون ربهم) فإذا اعتراك وجل وهم ينقبض جلدك وكأن هناك برداً شديداً وتشعر بشعر رأسك كأنه انتصب، فهذا هو القف، ثم قالت له: [أين أنت من ثلاث، من حدثك أن محمد صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب، [وفي رواية فقد أعظم على الله الفرية] ورحمة الله على الإمام ابن خزيمة يقول في كتاب التوحيد ويلتمس عذراً لأمه: "قالت هذا في حال انفعال وغضب، ولا يجوز أن نقول إن من قال هذا إنه أخطأ فضلاً عن أن نقول إنه افترى فضلا ً عن أن نقول إنه أعظم الفرية" أي أن هذا الكلام صدر منها في حالة من الغضب ولا علم عندها في هذه المسألة فقالت على حسن ما عندها من العلم هذا اللفظ القاسي، فهي مخطئة في هذا وهي أمنا نستغفر لها ونترضى عنها ونسأل الله بفضله ورحمته أن يشفعها فينا إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.(7/185)
وهذه شفاعة شرعية، وليست شركية، فإنك إذا سألت الله أن يشفع فيك أحداً من خلقه فهذه شفاعة شرعية بالإجماع، أما لو قلت: يا عائشة اشفعي لنا، فهذا هو المحظور وهي شفاعة شركية، لكن لو قلت اللهم شفع في أبا بكر، عمر، عثمان، علي ... اللهم شفع فيّ نبيك عليه الصلاة والسلام، شفع فيّ أمنا عائشة فهذا خالص التوحيد، فتطلب من الله أن يشفع لا تطلب من المخلوق، لأنه لا يشفع أحد إلا بعد أن يأذن له الرحمن ويرضى للمشفوع بحصول الشفاعة له، ولذلك نحن نطلب من الله أن يشفع فينا هذه الصديقة رضي الله عنها، ثم قالت: [؟؟؟ والله يقول (لا تدركه الأبصار) ] ولو أردنا الوقوف معها لقلنا هل يصح هذا دليلاً على نفي الرؤية عن نبينا عليه الصلاة والسلام؟ ليس فيه دليل على الإطلاق، فالإدراك هو رؤية مع إحاطة والله جل وعلا يُرى ولا يُحاط به، فإذن الإدراك معنىً زائد على الرؤية هذا هو المعنى المعتمد.
وقيل لا تدركه: على التنزل لنجعل قول أمنا معتبراً، ويكون المعنى لا تدركه أي لا تراه في الدنيا بإحاطة أو غيرها ونستثني من هذا نبينا عليه الصلاة والسلام.
وقيل: وهو المعنى الثالث: لا تدركه في الآخرة إذا تجلى بنوره الذي هو نوره، فإذا تجلى بنوره الذي هو نوره فإنه لا يراه شيء في الدنيا ولا في الآخرة إلا مات واحترق والمؤمنون عندما يروه يكون بصورة تناسب قواهم في الآخرة، فإنه لو تجلى بنوره الذي هو نراه لم يره يابس إلا ند؟؟؟ ولا حي إلا مات، والأمر الثاني:
[ومن حدثك أن محمداً صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً مما أنزله الله عليه فقد كذب، والله يقول (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) ومن حدثك أن محمداً صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب فقد كذب، والله يقول (قل لا يعلم من في السموات والأرض إلا الله) ] .(7/186)
ورد في صحيح مسلم عن عبد الله بن شقيق (من التابعين) [أنه التقى بأبي ذر رضي الله عنهم أجمعين فقال له: ليتني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسأله؟ ققال: وماذا تريد أن تسأله؟ فقال: كنت سأسأله: هل رأيت ربك؟ فقال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، هل رأيت ربك؟ فقال: [نورٌ أنّى أراه] فهذا الأخير من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام ومعظم من أورد هذا الحديث يقول هذا دليل على نفي الرؤية.
أنا أقول: هل هذا دليل على نفي الرؤية أم على حصولها؟
الجواب: هذا الحديث دليل على حصول الرؤية، كيف هذا؟
يا إخوتي الكرام ... عندما أقول هذا رجل أنّى أراه، ما معنى هذا، معناه أنه كيفما أراه وفي أي حالة أراه فهو رجل.
وهذا هو جواب الإمام ابن خزيمة وتعليله فيقول أنّى ليست للاستبعاد وإنما لبيان أن هذا هو حال الله في جميع الأحوال.
فالمعنى هو أن الله جل وعلا كيفما أراه فهو نور، وهذا كقوله تعالى (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم) أي كيف شئتم، وليس المعنى أنّى لا رآه ومستبعد أن أراه.
فإذن هو يدل على حصول الرؤية، يدل على هذا الرواية الثانية في صحيح مسلم [رأيت نوراً]
وقال النافون للرؤية: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يره لكن رأى النور الذي هو حجابه، فإن الله لا يُرى في الحياة الدنيا، وحملوا أنّى على الاستبعاد لا على هذا العموم الأحوال.
المحاضرة السادسة عشرة
وقد حاول أصحاب القول الثاني [الذين قالوا الرؤية قلبية ليست بصرية] أن يجمعوا بين القول الأول والثالث وأن يردوهما إلى القول الثاني فقالوا:
من أثبت الرؤية فمراده الرؤية القلبية.
ومن نفى الرؤية فمراده الرؤية البصرية.
وعليه فالأقوال الثلاثة بمعنىً واحد ولا اختلاف بينها، وهذا هو رأي الإمام بن تيمية وتلميذه ابن القيم، والإمام ابن حجر في فتح الباري (8/608) مال إلى هذا وجمع بين الأقوال الثلاثة فردها إلى قول واحد.(7/187)
وهذا مع جلالة من رجحه وقال به – هو في نظري جمع ضعيف لأمرين معتبرين:
الأمر الأول: لا معارضة بين القول الأول والثاني عند أصحاب القول الأول فلا يجوز أن نرد قولهم إلى قول غيرهم.
ووجه عدم المعارضة وضحته لكم سابقاً: أن من أثبت الرؤية البصرية لا ينفي الرؤية القلبية بل يقول: إذا حصلت رؤية البصر فرؤية القلب حاصلة من باب أولى، وعليه فلا داعي للجمع بين القولين لأن أصحاب القول الأول لا يخالفونكم في قولكم.
الأمر الثاني: نقول: القول الثاني والثالث ينفيان الرؤية – أي الرؤية البصرية – وتقدمت معنا قاعدة ذهبية وهي أن المثبت مقدم على النافي.
فعندما تأتينا رواية الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: [رأى محمد عليه الصلاة والسلام ربه مرتين مرة ببصره ومرة بفؤاده] فهذا إثبات والإثبات لا يجوز أن نتركه لأجل نفي لأن المثبت مقدم على النافي، ومَنْ حفظ حجة على من لم يحفظ.
والعلم عند الله.
القول الرابع: التوقف، فلا نقول رآه ببصره ولا بقلبه ولا ننفي الرؤية، إنما نقول هذه مسألة لا يتعلق بها حكم دنيوي والنصوص متعارضة في الظاهر، فالسكوت أسلم ونفوض الأمر إلى الله جل وعلا.
إذن لما تعارضت الأدلة وكان لا يتعلق بها حكم ظاهري أو دنيوي لنجمع أو لنرجح، إذ لو كانت في حكم دنيوي لكان لابد من الترجيح أو الجمع لأجل أن نعمل ببعض النصوص، لكن بما أن الحالة ليست كذلك والمسألة من أمور الغيب فالسكوت عنها أولى.
وهذا ما ذهب إليه عدد من الأئمة منهم الإمام أبو العباس القرطبي، (ليس صاحب التفسير المشهور إنما هو صاحب كتاب المُفهِم في شرح صحيح مسلم) وقال: النصوص فيها متعارضة وأقاويل السلف مختلفة فمنهم من يثبت ببصره ومنهم من يثبت بقلبه ومنهم من ينفي، ولا يتعلق بهذه المسألة حكم دنيوي فالسكوت أسلم.(7/188)
وذهب إلى هذا سعيد بن جبير من أئمة التابعين كما حكي ذلك عن القاضي عياض في كتابه (الشفا في التعريف بحقوق المصطفى) وهو كتاب سيرة نبوي – في ص 97 حيث نقل القاضي عن سعيد بن جبير عليه رحمة الله أنه قال: لا أقول رآه ولا أقول لم يره.
ويفهم من كلام الإمام الذهبي عليه رحمة الله أنه يميل إلى هذا القول ففي سير أعلام النبلاء (10/114) يقول: "والذي دل عليه الدليل عدم الرؤية مع إمكانها فنقف عند هذه المسألة فإثبات ذلك أو نفيه صعب والوقوف سبيل السلامة والله أعلم، وإذا ثبت شيء قلنا به".
انظر لهذا الكلام الذي هو أصفي من الذهب وأحلى من العسل، وهذا الإنصاف وهذا هو حال أئمتنا في البحث العلمي فلا نعنف من أثبت الرؤية لنبينا عليه الصلاة والسلام في الدنيا ولا من نفاها بل نقول الله ورسوله أعلم، بلى نعنف ونبدع من أنكر الرؤية في الآخرة، إذ رؤية الله في الآخرة تثبت بنصوص متواتر.
وهذه المسألة أشار إليها الإمام الذهبي أيضاً في (2/167) وقد ذكرته سابقاً، فيقول: "ولم يأتنا نص جلي بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الله بعينيه، وهذه المسألة مما يسع المرء المسلم في دينه السكوت عنها، فأما رؤية المنام فجاءت من وجوه متعددة مستفيضة وأما رؤية الله سبحانه عياناً في الآخرة فأمر متيقن تواترت به النصوص وجمع أحاديث الرؤية الإمام البهيقي والإمام الدارقطني وغيرهما" فهذا فيما يظهر ميل الذهبي إلى هذا القول، أنه يتوقف ولا يعنف من قال بخصوص الرؤية ولا يعنف من نفاها.
وخلاصة الكلام ... في هذه المسألة أربعة أقوال ثابتة عن سلفنا الكرام وهي مما يسع الإنسان في هذه المسألة أن يقول بواحد منها، وإذ قال بواحد منها فلا يعنف ولا يبدع ولا يضلل لاختلاف السلف في هذه المسألة.
نعنف نعنف من أنكر الرؤية في الآخرة فذاك يخالف أمراً مجمعاً عليه، فنبدعه ونحكم عليه بالضلال فانتبه لهذا.(7/189)
أخوتي الكرام ... العمدة والضابط في التماس عذر للمخالف من أمور الشرع وعدم التماس عذر له أمر واحد وهو اتفاق السلف واختلافهم فهم في العقائد والأحكام العملية (عبادات، معاملات، عقوبات) فمن خالفهم فيما اتفقوا عليه فهو ضال مبتدع ومن خالفهم فيما لم يتفقوا عليه فالمخالف في سعة فلا يبدع ما دام لم يقصد الهوى ولم يخبرنا أنه يفعل هذا شططاً وسفهاً.
وهذا له نظائر كثيرة سواء كان في العقائد أو في الأحكام فالأمر مستوٍ فيهما، فإذن ننظر لحال واقع السلف في هذه المسألة فإن أجمعوا فالمخالف ضال وإن اختلفوا فالأمر فيه سعة، وهنا لا نعنف المثبت ولا نعنف النافي ولا نعنف المتوقف.
ولأضرب لكم مثلا في أمر فرعي:
آية الوضوء: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ... )
فهناك أربعة أعضاء ثلاثة تغسل وواحد يُمسح لا خلاف فيها بين المسلمين، فمن خالف في هذا فهو ضال شيطانٌ رجيم، لكن بعد ذلك في كيفية الإتيان بهذه الأعضاء في الوضوء اختلف العلماء قالوا: هل يلزم الترتيب أم لا؟!، فلو جاء إنسان وتوضأ ولم يرتب صح الوضوء أم لا؟
عند الحنفية صح الوضوء، والترتيب بين هذه الأعضاء الأربعة مستحب لأن الله يقول (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ... ) والواو بإجماع أهل اللغة تفيد التشريك مع عدم الترتيب لا بمهلة ولا بدون مهلة، هذا كما تقول جاء زيد وبكر ومحمد وقد يكون محمد أولهم مجيئاً بخلاف ما لو قلت جاء زيد فبكر فمحمد فهنا الفاء للترتيب مع التعقيب فالأول وبعده الثاني مباشرة، وبخلاف ما لو قلت جاء زيد ثم إبراهيم فهنا ثم للترتيب مع التراخي.
فإذن الترتيب عند الحنفية سنة، وهو عند الجمهور واجب، وعليه لو جاء رجل وتوضأ ولم يرتب فهل يجرؤ إنسان أن يقول له وضوؤك باطل؟!.(7/190)
لا، لأن المسألة وقع الخلاف فيها بين السلف. وأبو حنيفة تابعي أدرك ستة من الصحابة، فالمسألة فيها سعة.
مثال آخر:
مسح الخفين بدل غسل الرجلين هذا لا خلاف فيه بين علماء الأمة، فإذا لبس الخفين على طهارة وجاء ليتوضأ فلا يلزمه أن ينزع خفيه بل يكفيه أن يمسح عليها.
فلو خالف أحد وقال لا يجوز المسح على الخفين ولو مسح ما صحت صلاته، فماذا نقول له؟
مبتدع وضال لأنه لا خلاف في هذا بين أئمتنا، والمخالف في هذا هم الشيعة فقط يقولون لو مسح على خفيه لم يصح وضوؤه، ولو غسل رجليه لم يصح وضوؤه بل يمسح على رجليه مسحاً فقط.
فخالفوا أهل السنة في الأمرين، في غسل الرجلين وفي المسح على الخفين، لكن نقول هل سبقهما إلى هذا أحد من السلف؟! وإن سبقهم أحد من السلف فلا يحق لأحد أن يضلل المخالف.
وأحاديث المسح على الخفين رويت عن العشرة المبشرين بالجنة وعلى رأسهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه - الذي يزعمون زوراً وبهتاناً أنهم ينتمون إليه، وكان يمسح على الخفين، كما نقل عنه تحريم نكاح المتعة – وهذا ثابت في صحيح مسلم عنه وهم يخالفونه في الأمرين، ولا يمسحون على الخفين، وينكحون نكاح متعة ويدعون أنهم ينتسبون إلى آل البيت، والزنا في البلدان كلها يقع في دور العهر والفجور والفنادق إلا في إيران فإنه يقع في المساجد عن طريق نكاح المتعة، فتذهب إلى هناك ويأتي آية الله – بل هو آية الشيطان – فيعقد لك على من تريد وهناك نساء جالسات ينتظرن من يأتي ليعقد عليهن نكاح متعة يوماً أو يومين أو ليلة أو ليلتين كما تريد، وهذا عندهم لا حرج فيه بل هو من الأمور الفاضلة كما أنه لا يعتبر نكاحاً كالنكاح المعروف، فلو كان عندك أربع نسوة وأردت أن تعقد على غيرهن نكاح متعة فلا حرج في ذلك، وإذا تمتعت مرة فأنت في درجة الحسن – كما يقولون – ومرتين في درجة الحسين، وثلاثة في درجة علي ... نعوذ بالله من هذا الضلال والعار.(7/191)
فإذن ننظر إلى المسألة هل تحتملها الأدلة أم لا؟ وكيف ذلك؟
نقول: خير من فيهم دين الله هم سلف هذه الأمة، فإذا اختلفوا دل هذا على أن الدليل يحتمل ويحتمل، ولا يوجد نص يرجح، فالمسألة بقيت محتملة والأقوال كلها جائزة، والإنسان يأخذ بما هو أقرب للمراد حسب اجتهاده، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
وإذا لم يختلفوا – فهم خير من فهم دين الله – فاتفاقهم هذا يدل على أن النص ليس له معنىً إلا هذا ولذلك المخالف ضال ومبتدع.
ولذلك إخوتي الكرام ... كل من يدعو إلى الكتاب والسنة – كما يوجد في هذه الأيام – دون الرجوع إلى فهم السلف فهو ضال زنديق يريد أن يضلل الأمة وأن يقضي على الكتاب والسنة باسم الكتاب والسنة، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخوارج المتقدمين الجدد والحديث في الصحيحين [يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرميّه، يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وقراءته مع قراءتهم لا تجاوز قراءتهم حناجرهم] هذا حال الخوارج، وقد تواترت الأحاديث في ذم الخوارج، فهؤلاء ماذا يقولون؟ يدعون إلى تحكيم الكتاب ويقولون لا حكم إلا لله، وعليّ عندما حَكَّم الرجال كفر.
ويوجد جماعة الآن يسمون بالقرآنيين يقولون ليس عندنا لا أبو بكر ولا عمر ولا أحمد ولا الشافعي، ليس عندنا إلا القرآن وعقولنا.
فانظر لألفاظ علمائنا لا نعنف من أثبت الرؤية، ولا نعنف من نفاها، فماذا تختار؟ يقول: السكوت أسلم وإذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب وهي ما لا يتعلق به حكم دنيوي وهي من أمور الغيب فلنكِلْ أمرها إلى الرب جل وعلا ولا نخوض فيها والعلم عند الله.(7/192)
انتبهوا لهذا طالب العلم لابد أن يحيط بهذه الأقوال الأربعة حتى إذا سمع قائلاً يقول بقول منها فليتمهل عليه ولا ينبذه بالبدعة ويقول له أنت مبتدع خالفت أهل السنة، انتبهوا المسألة مما اختلف فيها أهل السنة وفيها سعة وقد سبقنا في الخلاف فيها من قبل الصحابة والسلف الصالح رضوان الله عليهم، فابن عباس يثبت وأمنا عائشة تنفي والعلماء بعد ذلك على هذا المسلك وما دام الأمر كذلك فليسعنا ما وسعهم ولا يبدع بعضنا بعضاً والعلم عند الله.
س: ما المراد بالسلف هنا؟
جـ: المراد بالسلف هنا الصحابة والتابعون وتابعوهم، وهم القرون المفضلة بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم ثم بعد ذلك يفشوا الكذب كما يخبر النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث في صحيح البخاري: [خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم] ، قال عمران بن الحصين أو الراوي عنه: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثاً] ثم يأتي بعد ذلك أقوام يشهدون ولا يستشهدون ويحلفون ولا يستحلفون ويخونون ولا يأتمنون [وفي بعض الروايات ينذرون ولا يوفون] ويظهر فيهم السِمَن يسبق يمين أحدهم شهادته وشهادته يمينه] أي يتعجل في كلامه ولا يتروي وهذا في العصور المتأخرة.
ولذلك الحديث المرسل الذي يرفعه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم احتج به الجمهور، قالوا: لأن ذلك لم يفشُ فيه الكذب، فإنه حصل في العصور المتأخرة.
خامساً: كلام العزيز الغفور لنبينا عليه الصلاة والسلام المبرور:
كلمة الله جل وعلا فوق سبع سموات، فحصلت له الرؤية وحصل له الكلام ن وتقدم معنا ما يشير إلى هذا عند فرض الصلوات وفيه أن الله جل وعلا قال له بعد أن انتهت إلى خمس [أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي، هي خمس وهن في الآخرة خمسون] .
وهذا كلام يسمعه النبي صلى الله عليه وسلم من ربنا في ذلك الوقت، وهذا هو مما أطلعنا عليه من أنه حصل بينهما كلام، لكن ما الذي حصل بعد ذلك من مناجاة وتكليم؟ لا يعلم هذا إلا رب العالمين.(7/193)
وقد أشار الحافظ في الفتح (7/216) إلى هذا عند هذه الجملة من الحديث: "هذا من أقوى ما استدل به على أن الله كلم نبيه صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج بغير واسطة"
إن قيل: من أين علمنا أن هذا التكليم كان من غير واسطة؟
الجواب: من لفظ الحديث [أمضيت فريضتي] ، ولو أن الملك هو الذي بلغه لقال أمضى الله فريضته يا محمد [خففت عن عبادي] هذا كلام من؟ إنه كلام الله، هذا كما يفعل ربنا كل ليلة حين ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: [من يدعوني فاستجب له، ومن يسألني فأعطيه ومن يستغفرني فأغفر له] والحديث متواتر، فجاء المؤولة وقالوا: معنى [ينزل ربنا] أي ينزل ملكه ونقول لهم: لو نزل الملك فهل يجوز أن يقول من يدعوني فأستجب له، ومن يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له بل لو نزل أعلى الملائكة لما جاز له أن يقول هذا الكلام، لكن يقول لو كان الملك الذي ينزل – من يدعو الله فيستجيب له ... وهكذا.
وهنا لفظ الحديث يدل على أن المتكلم هو الله سبحانه وتعالى إذ لا يصح أن يتكلم بهذه الصيغة غير الله جل وعلا.
وقال الإمام ابن القيم في زاد المعاد في هدي خير العباد (1/80) – وهذا الكتاب لا ينبغي أن يخلو منه بيت مسلم وهو في خمس مجلدات وهو كتاب نافع ضروري ضموه إلى ما ذكرناه سابقاً كتاب الأذكار ورياض الصالحين والتبيان في آداب جملة القرآن – يقول عند تعداد مراتب الوحي فذكر مرتبة ثامنة للوحي وهي آخر المراتب وهي خاصة بنبينا عليه الصلاة والسلام ولم تحصل لغيره: "زاد بعضهم مرتبة ثامنة وهي تكليم الله لنبيه عليه الصلاة والسلام كفاحاً (أي من غير حجاب) على مذهب من يقول إنه رأى ربه، وهي مسألة خلاف بين السلف والخلف".(7/194)
وهي كما قلنا لم تحصل لغير نبينا عليه الصلاة والسلام، أما الكلام الذي حصل لموسى بحجاب، فهذه زيادة رآه وكلمة، والله يقول في كتابه ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء فاستثنى من هذا نبينا عليه الصلاة والسلام فكلمه كفاحاً ومشافهة دون أن يكون هناك حاجز أو حجاب.
وإذا لم نقل بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه فنقول الكلام حصل له بحجاب كما حصل لموسى عليه السلام.
والآن انتهينا من مبحث الإسراء والمعراج.
س: متى وقع الإسراء والمعراج بالتحديد؟
جـ: لا يُعلم زمن وقوعه بالتحديد لا في أي يوم ولا في أي شهر ولم يثبت هذا بسند صحيح عن أحد وكل تحديد لشهره أو ليومه أو لليلته فهو محض التخرص والكذب والافتراء على النبي عليه الصلاة والسلام.
أما الاحتفالات المزيفة بليلة الإسراء والمعراج فهذه احتفالات المنافقين الذين عادوا نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام، فبعد أن محوا نوره وشرعه أراد الشيطان أن يخدّرهم , أن يخّدر الناس باحتفالات وتواشيح وأناشيد وشيء من الخطب وأحياناً بكاء، ثم يزول أثر كل ذلك بعد قليل.
وهل احتفل الصحابة في حياتهم أو التابعون أو من بعدهم بإسراء ومعراج أو بمولد نبوي أو بحادث هجرة أو بغير ذلك؟ لا، ولكن هذا الآن صار عندنا أعظم الغايات وما كان الصحابة يبالون به ولا يعطونه شيئاً من الاهتمام، مع أنهم يعلمون في أي يوم أسري به صلى الله عليه وسلم ومتى عرج به لكن ما خطر ببال تابعي – لسلامة عقولهم – أن يسأل صحابياً عن اليوم بالتحديد، ولو سأله لأخبره لكن لا فائدة من هذا السؤال فليس من وراء معرفته على التحديد فائدة.(7/195)
ولكننا ما عملنا هذا إلا لما انحرفنا عن دين الله وحاربنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدأنا نحتفل بهذه الشكليات التي هي بدع وصار حالنا كالنصارى فإنهم احتفلوا بعيد الميلاد – عندهم - بعد أن ضيعوا دينهم وغيروا هذا الدين وضيعوه فلذلك صاروا يحتفلون بهذه المراسيم، وهكذا نحن سلكنا مسلكهم وسنسلك مسلك من كان قبلنا شبراً بشبر وذراعا ً بذراع.
فإذن لم يضبط تاريخ هذه الحادثة ولعله لحكمة يشاؤها الله:
أولا ً: لئلا يعكف المسلمون على هذه الليلة ويجعلون لها مراسيم، وهذا واضح فإنهم عملوا لها مراسيم الآن مع أنها لم تعلم بالتحديد فكيف لو عُلِمتْ.
ثانياً: ليخبرنا الله أن هذه الأمور شكلية ولا وزن لها ولا قيمة، فليس المهم معرفة الزمن بالتحديد الذي وقعت فيه، لكن المهم الاتعاظ والوقوف عند هذه العبرة العظيمة وأخذ الأحكام والفوائد التي في هذه الحادثة.
س: إذا اختلف الأئمة بعد القرون المفضلة، فهل في الأمر سعة كما لو اختلفوا في عهد السلف؟
نقول: إن خالفوا في أمر متفق عليه بين الصحابة وتابعيهم ومن بعدهم فالمخالف حينئذ ضال وهذا لا يوجد في المذاهب الأربعة قطعاً.
وإن كانت المسألة جديدة وحادثة واختلفوا في حكم الله فيها ليلحقوها بأحد النصوص الشرعية الثابتة عن خير البرية عليه صلوات الله وسلامه، فاختلفوا في هذا فهنا الأمر فيه سعة ما دامت النصوص تشهد له.
إذن جرت مسألة ولا نص فيها فبحث العلماء في حكمها وشأنها فاختلفوا فبعضهم ألحقها بدليل وحاظر وبعضهم ألحقها بدليل مُبيح فيبقى الأمر كما لو حصل الاختلاف في زمن الصحابة رضوان الله عليهم والأمر فيه سعة، ورحمة الله واسعة.
المبحث الثاني:
مبحث الحَوض:
معناه في اللغة: مجمع الماء، بمعنى البركة كما هو معروف لدينا في هذه الأيام فنقول: بركة، مسبح، حوض وجمعه حياض وأحواض.
والمراد من الحوض:
الحوض الذي يكون لنبينا صلى الله عليه وسلم في الآخرة.(7/196)
وهذا الحوض قد تواترت به الأحاديث، فأحصى الحافظ ابن حجر الصحابة الذين رووا أحاديث الحوض فبلغوا (56) صحابياً، ثم قال: بلغني أن بعض المعاصرين جمع الصحابة الذين رووا أحاديث الحوض فبلغوا (80) صحابياً.
فهذا إذن متواتر.
قال الإمام الداوودي عليه رحمة الله:
مما تواتر حديث من كذب ... ومن بنى لله بيتاً واحتسب
ورؤية شفاعة والحوض ... ومسح خفين وهذي بعض
أي هذه بعض الأحاديث المتواترة وهي أكثر من ذلك بكثير.
(من كذب) حديث [من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار] ، روي عن جملة كبيرة من الصحابة منهم العشرة المبشرون بالجنة.
(ومن بنى لله بيتاً واحتسب) :
حديث [من بنى لله بيتاً واحتسب فله بيت في الجنة] .
وحديث [من بنى لله بيتاً ولو كمَفْحَص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة] .
وحديث [من بنى لله بيتاً ليذكر الله فيه بنى الله له بيتاً في الجنة] . فهذا متواتر عن نبينا عليه الصلاة والسلام.
(ورؤية) أي أحاديث الرؤية، أي رؤية المؤمنين لربهم في جنات النعيم.
(شفاعة) أي أحاديث الشفاعة، ويأتينا مبحث الشفاعة إن شاء الله بعد الحوض.
(الحوض) فأحاديث الحوض متواترة.
(ومسح الخفين) رويت أحاديث المسح على الخفين عن العشرة المبشرين بالجنة وغيرهم.
وسنتكلم عن الحوض ضمن خمسة أمور متتالية ننهي بها الكلام على الحوض إن شاء الله تعالى.(7/197)
الأمر الأول: وصف الحوض لا يستطيع عقل بشري أن ينعت الحوض أو يصفه، لأنه يتعلق به غيب، فالطريق لمعرفة صفة الحوض المنقول لا المعقول والرواية لا الرأي، فلا طريق لوصف الحوض إلا عما جاء عن نبينا عليه الصلاة والسلام – من قرآن أو أحاديث – الذي لا ينطق عن الهوى فلنذكر بعض الأحاديث التي تعطينا وصفاً لهذا الحوض، إيماناً برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء عن الذي لا ينطق عن الهوى. ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [حوضي مسيرة شهر ماؤه أبيض من اللبن وريحه أطيب من المسك وكيزانه (جمع كوز وهو القدح والكأس) كنجوم السماء من شرب منه لم يظمأ بعده أبداً] .
... إذن هذا الحوض طوله مسيرة شهر نؤمن بهذا ولا نبحث بعد ذلك في كيفية هذا المسير هل هو مسيرة شهر على الجواد المسرع؟ أم مسيرة شهر على حسب السير في الدنيا؟ أم مسيرة شهر على حسب سير أهل الجنة؟ فالله أعلم، نحن نثبت اللفظ ولا نبحث في كيفيته فإنه مغيب.
وكيزانه كنجوم السماء ولا يعلم عددها إلا خالقها سبحانه وتعالى.
وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن طول الحوض وعرضه بمسافة واحدة فطوله مسيرة شهر وعرضه مسيرة شهر، ثبت في صحيح مسلم من رواية ابن عمر في الحديث المتقدم [حوضي مسيرة شهر وزواياه سواء] أي أطرافه متساوية فشهر طولا ً وشهر عرضاً فتصبح الزوايا متساوية، أي على هيئة مربع كالبركة المربعة أضلاعها متساوية [ماؤه أبيض من الورِق] أي الفضة والرواية المتقدمة أبيض من اللبن، [وريحه أطيب من المسك وكيزانه كنجوم السماء فمن شرب منه لم يظمأ بعده أبداً] .
يكفي هذان الحديثان لوصف الحوض بصفة مختصرة.(7/198)
إذن حوض نبينا عليه الصلاة والسلام في الآخرة أضلاعه متساوية وهو مربع مسيرة شهر في شهر، زواياه سواء، الماء الذي فيه ينعش النفوس، ويصح الأبدان لونه من أحسن الألوان كلون اللبن وكلون الفضة بياض خالص ليس فيه شائبة ولا عكر ولا كدر، ريحه أطيب ريح وهو ريح المسك بل أطيب منه، وهو أحلى من العسل والكيزان التي عليه لأجل كثرة الواردين على حوض نبينا عليه الصلاة والسلام كنجوم السماء، هذا هو الوصف مختصراً.
الأمر الثاني: عدد الأحواض لنبينا عليه صلوات الله وسلامه:
له حوضان:
1- واحد يكون قبل دخول الجنة في ساحات الحساب وعَرَصات الموقف.
2- والآخر يكون في داخل الجنة، وكل منهما يقال له حوض ويقال له كوثر.
يقال لكل منهما حوض لأنه ينطبق عليه التعريف اللغوي (مجمع الماء) .
... ويقال لكل منهما كوثر لأن الحوض الذي في ساحة الحساب وعَرَصات الموقف يستمد ماءها من نهر الكوثر الذي في الجنة، فنهر الكوثر له ميزابان - كما سيأتي وهذا لا دخل لعقل الإنسان فيه – يصبان صباً بدفق وقوة في حوض النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو في ساحة الحساب وعَرَصات الموقف، فنجد أن الحوض الذي في ساحة الحساب يأخذ من نهر الكوثر قيل له كوثر وحوض، والنهر الذي في الجنة اسمه الكوثر وبما أنه في مكان محصور قيل له حوض، فكل منهما حوض وكل منهما كوثر.
... وقد أنزل الله سورة كاملة يمتن بها على نبينا عليه الصلاة والسلام بهذا الخير الذي أعطاه إياه (إنا أعطيناك الكوثر) والكوثر: على وزن فوعل من الكثرة وهو الخير الكثير في الدنيا والآخرة ويدخل في ذلك النهر العظيم الذي يكون لنبينا عليه الصلاة والسلام في جنات النعيم، وفيه ميزابان يغتّان غتاً (يصبان صباً) ويشخبان من مائه في حوضه الذي هو في ساحة الحساب وعَرَصات الموقف فهذا خير عظيم أعطاه الله لنبيه الكريم عليه صلوات الله وسلامه.(7/199)
ولذلك ثبت في صحيح البخاري عن سعيد بن جبير رحمه الله – تلميذ العبد الصالح عبد الله بن عباس رضي الله عنهما – [أنه سئل عن تفسير الكوثر فقال هو الخير الكثير الذي أعطاه الله لنبيه عليه الصلاة والسلام في الدنيا والآخرة، فقالوا له: يقولون إنه نهر في الجنة؟، فقال سعيد بن جبير: النهر الذي في الجنة من الخير الكثير الذي أعطاه الله لنبيه عليه الصلاة والسلام] . وهذا التفسير أعم وأشمل وأحسن من أن نقصر الكوثر على خصوص النهر فنقول: الكوثر خير كثير في الدنيا والآخرة وهبة من الله لنبيه عليه الصلاة والسلام 0 من جملة ذلك الحوض، ونهر الكوثر والشفاعات والمقام المحمود ورتب كثيرة في الدنيا والآخرة مَنَّ الله بها على نبيه عليه صلوات الله وسلامه.
... وإذا مَنَّ الله عليك بالنعم فالواجب أن تشكر المُنعِم (فصلِّ لربك وانحر) أي اجعل صلاتك خالصة له، ونحرك خالصاً له – أي ذبحك – فيكون على اسم الله خالصاً له لا تشرك معه أحداً (إن شانئك) أي مبغضك (هو الأبتر) ، فالنعم تستدعي الشكر.
... ولذلك إخوتي الكرام ... ربطاً بحادثة الإسراء والمعراج – كان نبينا عليه الصلاة والسلام – كما ثبت هذا في المسند والسنن بسند حسن – [لا ينام حتى يقرأ بني إسرائيل والزمر] وما رأيت أحداً من أئمتنا وَجَّه الحكمة في ذلك؟ ويمكن استنباطها مما سبق تقريره في سورة الكوثر.(7/200)
.. فنذكر أن النعم تستدعي الشكر وهناك عندما يريد أن ينام يقرأ سورة بني إسرائيل ليستحضر فضل الله عليه وكيف مَنَّ الله عليه بهذا الأمر الجليل وهو الإسراء والمعراج وفي ثنايا السورة ذكر الله سبحانه الآيات التي منحها لنبينا عليه الصلاة والسلام وكيف حفظه من شياطين الإنس والجن (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك) (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً) ، وآيات كثيرة غيرها يخاطبه الله فيها في سورة الإسراء. إذن في هذه السورة ذِكْر فضل النبي عليه الصلاة والسلام؛ فكان لذلك يقرأها ليتذكر فضل الله عليه وهذا يستدعي ويتطلب الشكر.
... وكان يقرأ سورة الزمر لأنها – كما قال الإمام ابن تيمية رحمه الله – سورة تمحضت في توحيد الله جل وعلا فموضوعها من أولها إلى آخرها حول توحيد الله وإخلاص الدين له.
إذن فبعد أن يذكر نعمة الله عليه ماذا يفعل؟(7/201)
.. يوحده ويقرأ السورة التي فيها توحيد الله وعبادته كما يريد بما يريد، وانتبه لآيات هذه السورة (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم، إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين، ألا لله الدين الخالص، والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار، لو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار) ثم بعد ذلك في جميع آيات السورة يستعرض ربنا جل وعلا ما يقرر هذا الأمر (ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلا ً سلماً لرجل هل يستويان مثلاً الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) وفي آخر السورة يتحدث ربنا جل وعلا عن هذا (قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون، ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين) وفي نهاية السورة يقول (وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين) .
فإذن شكر وتوحيد، وهنا كذلك (إنا أعطيناك الكوثر، فصل لربك وانحر) .
إذن لنبينا عليه الصلاة والسلام حوضان يقال لكل منهما: حوض ويقال لكل منهما: كوثر.(7/202)
.. قال الإمام القرطبي في التذكرة في أحوال الموتى، وأمور الآخرة في ص 362، وقد نقل صاحب شرح العقيدة الطحاوية الإمام ابن أبي العز كلام القرطبي لكن بواسطة الإمام ابن كثير في كتابه النهاية (2/31) لأن ابن كثير شيخ شارح الطحاوية، وابن كثير له كتاب البداية والنهاية في التاريخ طبع الكتاب البداية فقط ولم يطبع معه النهاية، ثم طبع في جزء بعد ذلك مستقلاً منفرداً، وقد تكلم ابن كثير في النهاية في الجزء الثاني في أول صفحة منه عن الحوض وتتبع طرق أحاديثه بما يزيد عن ثلاثين صفحة والبداية يقع في 14 جزءاً في 7 مجلدات كبيرة، وكتاب التذكرة كتاب نافع وطيب وفيه خير كثير لولا ما فيه من أحاديث تالفة لا خطام لها ولا زمام وما تحرى عليه رحمة الله الصحة ولا تثبت في رواية الأحاديث، وليت الكتاب حقق وخرجت أحاديثه ليكون طالب العلم على بصيرة عند قراءة هذا الكتاب.
... الحاصل.. قال الإمام القرطبي في الموضوع الذي حددناه "الصحيح أن للنبي عليه الصلاة والسلام حوضين أحدهما في الموقف قبل الصراط، والثاني في الجنة، وكلاهما يسمى كوثراً".
قال الحافظ في الفتح (11/466) :" يطلق على الحوض كوثر لكونه يُمدّ منه"0 – كما عللته لكم – ثبت في صحيح مسلم من حديث ثوبان رضي الله عنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه (النبي) صلى الله عليه وسلم قال عند وصف الحوض: [يغتُّ فيه ميزا بان يمدانه من الجنة أحدهما من ذهب والآخر من ورِق] والغت: هو جريان الماء بصوت، غتّ يَغُت غَتًّا إذا جرى الماء وصار له صوت عند جريانه من شدة هذا الماء وقوته واندفاعه، وهو الدفق بتتابع إذن معنى يغت فيه، يتدفق فيه ماء متتابع لا ينقطع.
... وثبت في صحيح مسلم من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يشخب فيه ميزا بان من الجنة] ، شخب يشخب أي يسيل فيه ميزا بان من الجنة.(7/203)
.. وثبت في سنن الترمذي بسند حسن صحيح، والحديث رواه ابن ماجه وأحمد في مسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [الكوثر نهر في الجنة] وهذا هو النهر الذي له ميزا بان يغتان ويشخبان في الحوض [حافتاه من ذهب ومجراه الدّرّ والياقوت وتربته أطيب من المسك وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج] .
(مجراه) أي أرضه التي يجري فيها، ممر الماء، (حافتاه) أي جانباه.
إذن بالنسبة للبياض صار معنا ثلاثة أوصاف أبيض من اللبن، ومن الورق، ومن الثلج، والثلج ترى بياضه يزيد على الماء.
... وهو أحلى من العسل وأطيب من المسك هذا كله في هذا النهر الذي هو في الجنة وهو نهر الكوثر وفيه ميزابان من ذهب وفضة يشخبان ويغتان في حوض نبينا عليه الصلاة والسلام.
س: هل هذه الأوصاف تكون لنهري دجلة والفرات أيضاً؟
جـ: لا، لا يكون هذا إلا للكوثر فقط، فهو خاص به حتى الأنهار الأخرى التي في الجنة ليس لها هذه الميزات والصفات.
... وسيأتينا في الأمر الرابع أن لكل نبي حوضاً، لكن ليس حلاوة مائه وطيب رائحته كحوض نبينا عليه الصلاة والسلام.
الأمر الثالث: مكان الحوض وموضعه:
... كما ذكرنا هما حوضان، فأما الحوض الثاني الذي هو نهر الكوثر فهذا في الجنة بالاتفاق، وأما الحوض الأول الذي يستقي ماءه من الكوثر فهو قبل الجنة بالاتفاق، لكن اختلف في موضعه ومكانه بالتحديد، فهل يكون قبل الميزان وقبل مرور الناس على الصراط؟ أم يكون بعدهما؟
في المسألة قولان لأئمتنا الكرام:
وانتبه إلى أن هذين القولين ليسا من باب التقدير العقلي، إنما من باب فهم هذا من النصوص الشرعية، فالفهم من النصوص هذا غير اختراع شيء من العقول ...(7/204)
القول الأول: - وعليه المعول – أن الحوض يكون قبل الميزان وقبل مرور الناس على الصراط المستقيم وقبل الحساب لأمرين معتبرين: أولهما: الحكمة من وجود الحوض ما أشار إليه نبينا صلى الله عليه وسلم [من شرب منه لم يظمأ..] ، الناس يخرجون من قبورهم عطشى، لاسيما عندما يحشرون في الموقف [حفاة عراة غرلاً] نسأل الله حسن الخاتمة والعافية – والشمس تدنو من رؤوسهم ويلجمهم العرق فيسبحون فيه كأنهم في أحواض ماء، فما الذي يحتاجونه في ذلك الوقت؟ إنه الحوض، لذلك يكرم الله الموحدين في ذلك الحين بالشرب من حوض نبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه، وهو فرطنا على الحوض، كما أخبرنا عليه الصلاة والسلام، فإذن أول ما يحصل لنا عند البعث لقاء نبينا عليه الصلاة والسلام، كما أخبرنا عليه الصلاة والسلام على حوضه يقول: هلم، هلم، ويسقينا.
... فإذن لتظهر كرامة نبينا عليه الصلاة والسلام وليظهر فضله على أتم وجه، يكون هو الذي يزيل عطش الناس المؤمنين من أمته لما منّ الله عليه في الآخرة من تلك النعمة، كما أزال عنا في هذه الحياة الهم والغم بواسطة النور الذي بلغه إلينا فاطمأنت قلوبنا (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) .
... فإذن أول ما يستقبلونه بعد البعث حوض النبي عليه الصلاة والسلام، فمن كان مؤمناً موحداً سقاه النبي صلى الله عليه وسلم وشرب، وإذا شرب لم يظمأ أبداً، طال الموقف أو قصر فإنه لا يبالي بذلك.
ثانيا: تواتر في حديث الحوض المتواتر أنه يُذاد وسيأتي ذكر الحديث- يدفع ويبعد أناس عن حوضه فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: أمتي أمتي، يُذادون ولا يشربون فيقال: لا تدري ماذا أحدثوا بعدك والحديث في الصحيحين فأقول سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي. فهذا الذود متى يكون؟(7/205)
لو كان بعد الصراط لسقطوا في النار، ولا يوجد بعد الصراط إلا الجنة، فدفع الناس لكونهم منافقين مرتدين يكون قبل الصراط لأنهم لو مروا على الصراط ونجوا لدخلوا الجنة وإذا سقطوا في جهنم لن يَرِدُوا الحوض لِيُدْفَعُوا عنه ويُبْعَدُوا.
وهذا الذي ارتآه ورجحه الإمام القرطبي في التذكرة في المكان المتقدم أي صـ (362) .
والإمام ابن كثير في النهاية رجحه أيضاً كما قلت لكم إنه بحث في أحاديث الحوض فيما يزيد على 30 صفحة من أول الجزء الثاني إلي ص35 كلها في الحوض، وقد روى جميع الأحاديث بالسند الذي رواها به أصحاب الكتب المصنفة فإذا ذكر حديثاً في المسند ذكر إسناد الإمام أحمد وهكذا البخاري وغيره ولذلك طالت صفحات الكتاب والحقيقة أن أكثر صفحات الكتاب متشابهة فيورد عشرة أحادث في وصف الحوض عن الصحابة مثلا ًكلها بمعنىً واحد ولذلك لم أطل في ذكرها ومردها لا لزوم له لأنه يغني عن البقية وقلت لكم إن الحافظ ابن حجر تتبعها فوصلت إلى (56) صحابياً رووا أحادث الحوض، قال وبلغني أن بعض المعاصرين جمعها فبلغت (80) طريقاً، ولعل الحافظ ابن حجر كان يقصد بقوله (بعض المعاصرين) الإمام العَيْنِي، أقول لعله يقصده، فقد كان بينهما شيء من النفرة فيكني عنه الحافظ دائماً في الفتح ولا يصرح به، فلعله يقصده والعلم عند الله.
والإمام ابن حجر شرح صحيح البخاري في فتح الباري
والإمام العَيْنِي شرح صحيح البخاري في عمدة القاري(7/206)
والكتابان متقاربان في الحجم، فعمدة القاري (12) مجلداً في 25 جزء، وقد كان ابن حجر والعيني – في بلدة واحدة - مصر- لكن أصل الإمام العيني من بلاد الشام ثم هاجر بعد ذلك إلي مصر واستوطن فيها، وشرحا صحيح البخاري في وقت واحد، وكان كل منهما قاضياً ابن حجر قاضي الشافعية والعيني قاضي الحنفية، والأقران في الغالب يجري بينهم شيء مما يجري بين بني الإنسان، لكن دون أن يصل ذلك إلى معصية أو اعتداء، هذا في الغالب وكما قال الإمام الذهبي: ما أعلم أحداً سلم من الحسد إلا الأنبياء..، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم – والحديث في درجة الحسن – [ثلاثة لا ينجو منهن أحد، الظن والطيرة والحسد، وسأخبركم بالمخرج من ذلك: إذا ظننت فلا تتحقق] أي إذا رأيت شخصاً أو تصرفاً فلا تقل لعل هذا حوله ريبة - فهذا ظلم كفارته ألا تتحقق هل توجد تلك الريبة أم لا؟ [وإذا تطيرت فامض ِ] مثلا ً خرجت في صباح ذات يوم فرأيت صورة مكروهه فقلت هذا صباح مشئوم، فلا ترجع إلي البيت، بل امض ِ إلى طريقك وقل: اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك، لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يصرف السيئات إلا أنت. [وإذا حسدت فلا تبغي] أي لا تتجاوز وتعتدي. وأنا لا أجزم أنه يقصد الإمام العيني لكن في غالب ظني أنه كذلك.
وأنا أعجب حقيقة لاشتهار فتح الباري بين الناس وعدم انتشار عمدة القاري بينهم ولله في خلقه سر لا يعلمه إلا هو، ولا أقول ذلك لم ينتشر بل هو منتشر لكن ليس له من القدر والمكانة – كما يقال – ما لفتح الباري.
الحاصل.. إن الإمام ابن كثير رجح هذا القول في النهاية (2/3) للأمرين المعتبرين اللذين ذكرتهما لكم.
القول الثاني: أن الحوض بعد المرور على الصراط.(7/207)
وإلى هذا مال الإمام البخاري عليه رحمات ربنا القوي، وفقهه في تراجم أبوابه ومذهبه في تراجم أبوابه، فأورد أحاديث الحوض بعد أحاديث الميزان والشفاعة والصراط، في كتاب الرقاق قال الحافظ ابن حجر:"أشار البخاري إلى أن الحوض يكون بعد الصراط، أورد أحاديث الحوض بعد أحاديث الشفاعة والصراط"
ويفهم من كلام الحافظ ابن حجر الميل إلى هذا القول، حيث قال معللا ً ما سبق
(1) لأن الصراط بين الجنة والموقف ميزابان يغتان ويشخبان في الحوض، فلو كان الحوض في عَرَصَات الموقف وفي ساحة الحساب لكان الصراط حاجزاً بين هذين الميزابين وبين الحوض، فكيف سيصب الميزابان ماءهما في الجنة إلى الموقف وبينهما هذه الفجوة صراط وتحته جهنم. نسأل الله العافية وكل من سقط منه يسقط في جهنم وبئس المصير فإذا كان الأمر كذلك فالحوض بعد الصراط وهو قُبيل الجنة قََبل أن يدخلها المؤمنون يشربون من الحوض ويستقبلهم نبينا عليه الصلاة والسلام عندما ينتهون من الصراط فيسقيهم من حوضه فينتعشون ويفرحون بعد أن مَنَّ الله عليهم بالسلامة ثم يدخلون دار النعيم، وهذا دليل.(7/208)
(2) دليل آخر قرروا به هذا القول وهو: أنه ثبت في الحديث أن مَنْ شرب مِنَ الحوض لم يظمأ بعده أبداً، وقالوا: إذا لم يكن الحوض بعد الصراط فسنقع في إشكال من هذا النص والنصوص الأخرى وهو أن عصاه الموحدين سيعذبون في نار الجحيم ولا بد أن يعذب منهم قسم لم يغفر الله لهم لأن الأحاديث تواترت في إخراج العاصين من النار وهذا يعني أن هناك عذاباً للعصاة لكن هناك أناس يعفى عنهم وأناس يعذبون، قالوا: فهؤلاء الموحدون اللذين عذبوا في النار هل شربوا من الحوض أم لا؟ إن قلنا لم يشربوا، فالأمر ليس كذلك لأنهم موحدون وليسوا من المخلدين في نار جهنم فهم يستحقون السقيا والشراب إذ كيف يعامل الموحد معاملة المنافق والملحد. وإن قلنا شربوا، فكيف سيلقون في النار، وفي النار سيعطشون. لكن إذا كان الحوض بعد الصراط فلا إشكال لأن من شرب منه دخل الجنة فالذي يعذب في النار، ثم يخرج يجوز على الصراط ثم يشرب من الحوض ويدخل الجنة وحينئذ لا إشكال هنا على هذا القول. وهذا القول على ما وجاهة ما عُلِّلَ به فهو مردود لأمرين:
الأمر الأول: لا مانع أن يكون بين الحوض والجنة فاصل، والميزابان يصبان فيه بطريقة يعلمها الله ولا نعلمها، كما قلنا في النيل والفرات فإنهما يَصبُّ فيهما نهر من أصل سدرة المنتهى بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها وكم بينهما من حواجب وفواصل وليس عندنا ميزاب متصل من سدرة المنتهى إلى النيل والفرات إنما هو أمر غيبي أخبرنا عنه نبينا عليه الصلاة والسلام آمنا به ولا نبحث في كيفيته.
والأمر الثاني: قولهم إذا شرب عصاة الموحدين من الحوض وعذبوا في النار سيجدون العطش والظمأ، نقول: لا يشترط هذا فيعذبون بغير أنواع العطش، وذلك ليتميز العصاة في النار عن غيرهم من الكفار الأشرار في أنهم يعذبون ولا يعطشون كرماً من الله وفضلا ً.(7/209)
.. فالأمران مردودان، ثم نقول لهم أخبرونا كيف سيذاد ويدفع أناس عن الحوض إذا كان الحوض بعد الصراط؟! فهذا لا يأتي أبداً , فأدلتكم يمكن أن يجاب عنها، أما أدلة القول الأول فلا يمكن الإجابة عنها مطلقاً؛ ولذلك القول الأول هو الصحيح وعليه المعول بأن الحوض قبل الصراط والعلم عند الله.
الأمر الرابع: هل للأنبياء عليهم الصلاة والسلام أحواض في عَرَصَات الموقف وساحة الحساب كما لنبينا عليه الصلاة والسلام حوض:
سبق أن ذكرنا أن العبرة في هذا الموضوع على النقل لا على العقل، فعمدتنا المنقول الثابت ولا دخل للاجتهاد ولا للمعقول.
... وقد ورد في ذلك حديث لكن اختلف في درجته، روى الإمام الترمذي في سننه عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [إن لكل نبي حوضاً ترده أمته وإنهم ليتباهون أيهم أكثر وارداً، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم وارداً] .
(يتباهون) أي يتحدثون بنعمة الله عليهم بمنزلة حوضهم وبمن سيرده.
(أيهم أكثر وارداً) أي جماعة يردون على حوضه.
وهذا الرجاء والذي رجاه الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث حققه الله له، فأكثر أهل الجنة من أمته، وأكثر الأحواض التي سيردها الموحدون المؤمنون هو حوض نبينا عليه الصلاة والسلام ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يقول ربنا فيه: [يا آدم قم فابعث بعث النار من كل ألف واحد إلى الجنة وتسعمائة وتسع وتسعون إلى النار، فخاف الصحابة وارتاعوا فقال صلى الله عليه وسلم: أنتم في الأمم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض، ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبروا، ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، فكبروا، قال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا، وقال: إني لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة] والحديث في الصحيحين.(7/210)
وقد ثبت في المستدرك وغيره بسند صحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [أهل الجنة عشرون ومائة صف، ثمانون صفاً منهم من هذه الأمة] ونحن مع ذلك نرجو أن يكون كل صف من هذه الأمة أضعافاً مضاعفة على سائر الصفوف الأخرى، فهي ثلثان في عدد الصفوف لكن نرجو أن تكون في عدد الأفراد أكثر بكثير، ونسبة هذه الأمة في الجنة لا تنقص عن الثلثين وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، إنما كان الذي أوتيت وحياً أوحى الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة] وهذا لفظ مسلم.
فهذا الرجاء حققه الله لخاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام.
ومعنى الحديث أن كل نبي أعطى من الآيات ما آمن على مثله البشر، أي البشر يؤمنون بمثل هذه الآيات عندما تظهر وهي خوارق العادات (المعجزات كما أيد الله أنبياءه السابقين بمعجزة، فكل من رأى تلك المعجزة يُؤمن كما هو الحال في نبي الله عيسى عليه السلام يبرأ الأكمة والأبرص ويحي الموتى بإذن الله، لكن تلك المعجزة مضت وانقضت، فالذين جاؤوا بعد ذلك لم يروها، ولذلك قد يحصل عندهم ارتياب في أمر النبي عليه صلوات الله وسلامه، أما ما يتعلق بهذه الأمة، فمعجزة نبينا عليه الصلاة والسلام هي القرآن، وهذه المعجزة يراها المتأخر كما رآها المتقدم، فأبو بكر رضي الله عنه وآخر فرد في هذه الأمة بالنسبة لرؤية معجزة النبي عليه الصلاة والسلام سواء، فجعل الله معجزة نبينا عليه الصلاة والسلام عين رسالته ودعوته وهي القرآن الكريم الذي أُمِر بتبليغه.
فالحاصل.. أنه قال: [أرجو أن أكون أكثرهم تابعاً] ، وفي حديث سمرة قال: [لأرجو أن أكون أكثرهم وارداً] فحقق الله له هذا الرجاء.(7/211)
وحديث سمرة كما قلنا رواه الترمذي، وقد قال عنه: غريب، وغرائب الترمذي لا تسلم من مقال فهي ضعيفة والسبب في هذا أن الحسن البصري عليه رحمة الله عنعن الحديث عن سمرة أي رواه بصيغة عن ولم يصرح بالسماع، وفي سماع الحسن عن سمرة اختلاف، وأئمة الحديث على ثلاثة أقوال في ثبوت سماعه من سمرة:
1- لم يسمع منه مطلقاً.
2- سمع منه مطلقاً.
3- وهو المعتمد، سمع منه حديث العقيقة، وقد صرح في سنن النسائي بأنه سمع حديث العقيقة من سمرة بن جندب رضي الله عنه.
والحسن مدلس بالاتفاق وقد عنعنه – كما ذكرنا – ورواية المدلس إذا لم تكن بصيغة السماع فهي محمولة على الانقطاع، فالسند إذن منقطع بين سمرة وبين الحسن.
... كما أن الحسن رفعه في بعض الطرق إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسقط سمرة فصار إذن مرسلاً لأن المرسل هو مرفوع التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
مرفوع تابع على المشهور ... مرسل أو قيده بالكبير
كما قال هذا الإمام عبد الرحيم الأثري العراقي في ألفيته المشهورة.
وقوله (أو قيده بالكبير) فهذا قول آخر في تعريف المرسل وهو أن التابعي لابد أن يكون كبيراً، من كبار التابعين لا من أوسطهم ولا من صغارهم.
والمعتمد أن التابعي صغيراً كان أو كبيراً، إذا رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو حديث مرسل، فالحسن إذن أسقط سمرة رضي الله عنه، ولذلك قال الترمذي: وورد أن الحسن لم يذكر سمرة فهذا مرسل وهو أصح.
والرواية المرسلة رواها ابن أبي الدنيا بإسناد صحيح إلى الحسن، أن الحسن البصري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن لكل نبي حوضاً ... ] الحديث.
لكن مراسيل الحسن – كما يقول أئمتنا -، أشبه بالريح لا يعول عليها ولا يأخذ بها، لأنه كان لا يبالي عمن أرسل بخلاف مراسيل سعيد بن المسيب فهذه كلها يأخذ بها، حتى مَنْ ردَّ المرسل أخذ بمراسيل سعيد بن المسيب كالإمام الشافعي عليه رحمة الله.(7/212)
فإن سعيد بن المسيب كان يسمع من عمه والد زوجته أبي هريرة أحاديث ويحدث عنه أحياناً، ويسقطه ولا يصرح به أحياناً أخرى لاعتبارات، منها أمور سياسية، فقد ينقل عنه سعيد رواية تتعلق بأمور العامة فلا يصرح بها بإضافتها لأبي هريرة لئلا تصبح هناك مشاكل وابتلاءات كما هو الحال في العصور التي جاءت بعد عصور الخلفاء الراشدين، وهذا من جملة أغراض التدليس حذف الصحابي أو الشيخ الذي أخذ عنه التلميذ فيسقطه لأن حوله ما حوله من الاعتبارات، وكأنه يقول لئلا ندخل في مشاكل مع الدولة، فنرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونسقط الواسطة (أبا هريرة) لئلا يُستدعى ويحقق معه وما شاكل هذا.
وفعلا ً كان أبو هريرة يحفظ أحاديث فيها الإشارة إلى ذم بني أمية، فعلم سعيد بن المسيب أنه إذا حدث بها وسمى أبا هريرة، فهذا سيجر بلاءً عليه – أي على عمه – وقد كان أبو هريرة رضي الله عنه – كما في صحيح البخاري - يقول: [حفظت من النبي صلى الله عليه وسلم وعاءين، أما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم] أي لقطعت رقبتي، وهذا الذي كتمه لا يتعلق بالأحكام العملية، لأنه لو كان في الأحكام العملية لبثه أبو هريرة ولم يكتمه وهو يعلم وزر كتمان العلم، إنما كان ما يكتمه هو شيء فيه الإشارة إلى ذم الأمراء الذين سيأتون بعد معاوية وأولهم الفاسق المشهور يزيد بن معاوية الذي جاء وأفسد في دين الله، وفعل ما فعل ويكفيه عاراً وشناراً قتل الحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم [قلت: لم يثبت بأي سند صحيح هذا الأمر، وقد ألف في هذه الرسالة] ، ولذلك كان أبو هريرة يستعيذ بالله من رأس الستين وإمرة الصبيان قبل أن يأتي رأس الستين، فمات رضي الله عنه عندما قبل رأس الستين وسلم من الفتن التي جاءت بعد الستين.(7/213)
سعيد بن المسيب عندما يروي الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسقطاً الواسطة ففي الغالب هو أبو هريرة، وقد تتبع أئمتنا مراسيل سعيد فوجدوها موصولة من طرق ثابتة وصحيحة عن الصحابة؛ ولذلك احتجوا بمراسيله.
الحاصل.. أن وراية الترمذي مرفوعة إلا أنها منقطعة ورواية ابن أبي الدنيا هي بسند صحيح إلى الحسن والحسن رواه مرسلاً، فالحديث من هذين الطريقتين ضعيف مرفوعاً.
لكن يتقوى بالقواعد المقررة في شرع الله وهي أن ما ثبت لهذه الأمة يثبت للأمم الأخرى، وعليه فالحوض في الآخرة في عَرَصَات الموقف كما يكون لنبينا عليه الصلاة والسلام يكون لسائر الأنبياء الكرام عليهم السلام، إذ لا يليق بكرم الله وحكمته أن يسقي موحدي هذه الأمة ويترك الموحدين من الأمم السابقة.
ثم أضيف هنا وأقول: الحديث يتقوى (1) ليصل إلى درجة الحسن إن شاء الله، لأن له ثلاث شواهد متصلة عن أبي سعيد الخدري كما أخرجه ابن أبي الدنيا، وعن ابن عباس كما أخرجه ابن أبي الدنيا أيضاً عن عوف بن مالك، هذا بالإضافة إلى الشاهد المرسل الصحيح الذي أخرجه ابن أبي الدنيا أيضاً، فالحديث بمجموع هذه الطرق يكتسب قوة ويرتفع إلى درجة الحسن، والعلم عند الله.
إذن فلكل نبي حوض في الآخرة في عَرَصَات الموقف كما لنبينا عليه الصلاة والسلام، لكن يمتاز حوض نبينا عليه الصلاة والسلام بأمرين:
الأمر الأول: أن ماء حوض نبينا عليه الصلاة والسلام أطيب المياه فهو من نهر الكوثر، وهذا لا يثبت لغيره من الأحواض.
الأمر الثاني: أن حوض نبينا عليه الصلاة والسلام هو أكبر الأحواض وأعظمها وأجلها، وهو أكثرها وارداً.
__________
(1) وانظر السلسلة الصحيحة 4/117 حديث رقم (1589) – ز-(7/214)
.. وإلى جانب هذا ذهب أئمة الإسلام، يقول الحافظ في الفتح (11/467) عند أحاديث الحوض في كتاب الرقاق: "إن ثبت (1) – أي خبر الترمزي ومرسل الحسن – فالمختص بنبينا عليه الصلاة والسلام "أن حوضه يكون ماؤه من الكوثر".
... والأمر الثاني قال فيه الإمام ابن كثير في النهاية (2/38) حوض نبينا عليه الصلاة والسلام أعظمها وأجلها وأكثرها وارداً".
تنبيه: ورد في مطبوعة مكة من شرح العقيدة الطحاوية بتحقيق أحمد شاكر، وفي مطبوعة المكتب الإسلامي بتحقيق جماعة من العلماء تصحيف بدل كلمة (أجلها) وقع عندهم (أجلاها) ، وإن كان كلا المعنيين صحيح.
الخلاصة: أن لكل نبي حوضاً يوم القيامة، لكن حوض نبينا عليه الصلاة والسلام يمتاز بأمرين ماؤه أطيب المياه، ووارده أكثر من بقية الأحواض.
الأمر الخامس: يتعلق بأمرين:
أبيان من يرد حوض النبي صلى الله عليه وسلم.
ب بيان من يتقدم في الورود عليه ويسبق غيره.
أبيان من يرد حوض النبي صلى الله عليه وسلم:
كل موحد ختم له بالتوحيد سيرد ذلك الحوض المجيد
ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: [أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة (يعني البقيع) فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون] وفي بعض الروايات في زيارات نبينا عليه الصلاة والسلام للقبور يقول: [السلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم السابقون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون] .
و (السلام عليكم) هذا خطاب من يسمع ويعقل ويعي ويفهم، وسماع الأموات أدق من سماع الأحياء، ولذلك لو دخل داخل إلى المعهد وسلم عند باب المعهد لن يسمعه مَنْ في الفصل بل حتى لو كان أقرب من ذلك، بينما لو كنا موتى لسمعناه فبمجرد أن يدخل رجل إلى المقبرة ويقول السلام عليكم لسمع كل مدفون في تلك المقبرة – ولو كانت واسعة ما كانت – سلامه وردوا عليه في قبورهم.
__________
(1) وقد ثبت كما ذكرت ولله الحمد.(7/215)
و (إن شاء الله) هل هناك شك في اللحوق بهم؟ لا لكنها من باب التبرك وتعليق الأمر على أنه تابع لمشيئة الله، كقوله تعالى (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) ، وسيأتينا بحث الاستثناء في الإيمان إن شاء الله تعالى فهو من المباحث المقررة عندنا، وأن الاستثناء يجوز في الإيمان لأربعة أمور معتبرة من جملتها هذا من باب التبرك باسم الله، فتقول أنا مسلم إن شاء الله تعالى، ولا بأس في ذلك.
ثم قال نبينا وحبيبنا عليه صلوات الله وسلامه – وهذه تكملة الحديث [وددت أنا رأينا إخواننا فقال الصحابة رضوان الله عليهم: أولسنا بإخوانك يا رسول الله؟!، قال: بل أنتم أصحابي، وإخواني الذين يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني] عليك صلوات الله وسلامه، انتبه!! (أنتم أصحابي) أي أنتم لكم مزية على الأخوة العامة فقد فزتم بشرف الصحبة فأنتم إخوان وأصحاب.
وَمَََنْ بعدكم إخوان لي، كما تقول هذا ابني ولا تقول هذا أخي، فهو أخوك في دين الله ولكن تقول له ابني لأن هذا أخص من الأخوة العامة وهنا كذلك الصحبة أخص من الأخوة العامة.
فانظر لحب نبينا عليه الصلاة والسلام لنا، فلنكافئ هذا الحب بمثله، فهو يتمنى أن يرانا ووالله نتمنى أن نراه بأنفسنا وأهلينا وأموالنا ولو قيل لنا تفوزون بنظرة إلى نور نبينا عليه الصلاة والسلام مقابل أن تفقدوا حياتكم وأموالكم وأهلكم، لقلنا هذا يسير يسير، ضئيل حقير، ولذلك ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [من أشد أمتي لي حباً ناسٌ يكونون من بعدي، يود أحدهم لو رآني بأهله وماله] وهو في مختصر مسلم برقم (1604) .(7/216)
وتتمة الحديث الذي معنا [فقال الصحابة: يا رسول الله، كيف تعرف من يأتي من أمتك ولم تره؟! فقال: أرأيتم لو أن رجلا له خيلٌ غُرٌّ محجلة بين ظهري خيل دُهْم بُهْم، أما كان يعرفها؟ قالوا: بلى، قال: فإن أمتي يدعون يوم القيامة غرّاً محجلين من آثار الوضوء وأنا فرطهم على الحوض، ألا ليذادنّ رجالٌ عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم ألا هلمّ، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول سحقاً سحقاً] اللهم لا تجعلنا منهم بفضلك وكرمك يا أرحم الراحمين.
(غرّ) : الغرّ بياض في الوجه، وهو من الصفات الجيدة في الفرس، وهذه الأمة تبعث يوم القيامة والنور يتلألأ في وجهها من آثار الوضوء، والوضوء حلية المؤمن.
(محجلة) : بياض في قوائم الفرس، وهو من الصفات الجيدة فيها أيضاً، وهو من علامة جودتها، وهذه الأمة تأتي يوم القيامة وأعضاء الوضوء فيها تتلألأ (الوجه والأيدي والأرجل) ، ففي وجوههم نور وفي أطرافهم نور.
(دُهْم) سوداء
(بُهم) سوادها خالص ليس فيها لون آخر.
فهذه الأمة تأتي يوم القيامة غراًُ محجلين، فالوضوء ثابت لهذه الأمة وللأمم السابقة لكن أثر الوضوء (الغرة والتحجيل) ثبت لهذه الأمة ولم يثبت للأمم السابقة، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، ولذلك ورد في صحيح مسلم أنه [سيما ليست لغيركم] أي هذه السمة الغرة والتحجيل ليست لغيركم.
إذن إخوانه عليه الصلاة والسلام ونسأل الله أن يجعلنا منهم يأتون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، وجميع أهل الموقف ليس لهم هذا الوصف، وبالتالي فيميز نبينا صلى الله عليه وسلم أمته الكثيرة من تلك الأمم الوفيرة الغفيرة.(7/217)
ثم أخبرنا صلى الله عليه وسلم عن صنف شقي، أظهر الإيمان وأبطن النفاق والكفران، فيأتون إلى حوض النبي عليه الصلاة والسلام فيذادون ويدفعون تدفعهم الملائكة وتطردهم فيناديهم النبي صلى الله عليه وسلم: ألا هلم، هلم فأنتم من أمتي ويبدو عليكم – في الظاهر – علامات الوضوء!! لكن بعد ذلك يخفت ذلك النور ويذهب، فيقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك وفي بعض الروايات: [إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ أن فارقتهم] وقد حصل هذا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فيمن ارتدوا، وهذا حاصل في هذه الأيام بكثرة فيمن يدعي الإسلام ويحارب النبي عليه الصلاة والسلام يقول لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين، فهل يرد هذا حوض النبي صلى الله عليه وسلم؟
لا، إن هذا أكفر من أبي جهل وألعن من إبليس، فهو وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم فقد أتى بما ينقض به إيمانه، حيث زعم أن شريعة الله لا تصلح لهذه الحياة، فهي أمور كهنوتية فقط، في داخل المسجد نصلي ونرقص (رقص الصوفية) وخارج المسجد ليس لله شأن في حياتنا وأمورنا، كما قال سعد زغلول "الدين لله والوطن للجميع".
وكما قال شاعر البعث عليه وعلى حزبه لعنة الله:
سلام على كفر يوحد بيننا ... وأهلا وسهلا بعده بجهنم
ويكتبون في شعاراتهم الضالة في الأمكنة البارزة على الأركان وغيرها:
كذب الدعي بما ادعى ... البعث لن يتصدعا
لا تسل عني ولا عن مذهبي ... أنا بعثي اشتراكي عربي
ولا يقولون: أنا مسلم، بل الإسلام في المسجد فقط.
ويكتب الآن في لوحات المدارس: لو مثلوا لي وطني وثناً لعبدت ذلك الوثن.
كلمة وطن ووطنية فما هي الوطنية؟!!
إن الجنسية المعتبرة بين العقلاء والتي يمكن أن تجمع بين الناس جميعاً هي جنسية الإسلام فقط، وكل ما عداها يفرق بين المسلمين ويوقع بينهم العداوة.(7/218)
الحاصل.. من يدعو إلى الأفكار الهدامة الباطلة، فماذا سيكون حاله؟ هل يشرب من الحوض؟! وهل يستوي مع المؤمنين في الشرب منه؟
لا يستوي إخوتي الكرام.
وليس معنى يذادون للرجال فقط أي أن النساء لا تذاد، بل هذا من باب تعليق الشارع الأحكام بصنف من الصنفين وما يشمل أحدهما يشمل الصنف الآخر، كقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام) و (الذين) خطاب للذكور، (وعليكم) خطاب للذكور أيضاً ويشمل الذكور والإناث، لأن ما ينطبق على الرجل ينطبق على المرأة سواءً بسواء إلا إذا قام دليل على التخصيص فالنساء شقائق الرجال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
فمثلا ً: لو جاءت هدى شعراوي للحوض فهل تتمكن من الشرب منه؟ لا فهذه أعتى من أبي جهل، وأعتى من عبد الله بن أبي بن سلول.
وكذلك نزلي سعد زغلول وميادة أو مي الشاعرة (هؤلاء الثلاثة صاحبات الصالونات في مصر االتي أفسدت العالم) .
وأنا أعجب حقيقة – إخوتي الكرام – لمضاء عزيمة النساء وكيف غيرت هذه النساء الثلاثة الحياة في هذه الأوقات.
وفي المقابل تأتي للنساء الصالحات فلا ترى بعد ذلك إلا خمولاً وانعزالية وعدم بصيرة في هذه الحياة وتدبير لما يراد بهن فهذا لابد له من وعي – إخوتي الكرام – ولابد له من عزيمة ولابد من تحرك.
فإذن هناك رجال يذادون ونساء يذدن ويدفعن فليس هو عقوبة للرجال فقط.
وثبت في الصحيحين من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [أنا فرطكم على الحوض، ومن ورد شرب ومن شرب لم يظمأ أبداً، وليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم] .
وفي رواية أبي سعيد الخدري في تكملة حديث سهل بن سعد الساعدي [فأقول إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، سحقاً، سحقاً لمن بدل بعدي] .
(والفرط) هو المتقدم أي أنا أتقدمكم على الحوض.
إذن يرده كل الموحدين إلا من بدل وغير ونافق وكفر.
ب بيان من يتقدم في الورود عليه ويسبق غيره:(7/219)
أول مَنْ يتقدم في الورود عليه عندما يخرج الناس من قبورهم وهم عطاش هم صعاليك المهاجرين وفقراؤهم.
المحاضرة التاسعة عشرة: الأربعاء 10/4/1412هـ
ثبت في سنن الترمذي بسند حسن عن ثوبان رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [أول الناس وروداً على الحوض فقراء المهاجرين، الشُعث رؤوساً، الدُنُس ثياباً، الذين لا ينكحون المنعمات ولا تفتح لهم أبواب السدد] .
(الشعث) : جمع أشعث، أي شعره متلبد وليس عنده وقت لتمشيطه وتسريحه وتجميله.
(دُنس) : أي ثيابهم دنسة، وليس المراد من الدنس فيها نجاسة أو قذارة لكنها ثياب ممتهنة عند الناس قي قلة ثمنها، هذا كما ثبت في سنن الترمذي وغيره بسند حسن [البذاذة من الإيمان] والبذاذاة هي رثة الهيئة وعدم الاعتناء بالملبس، فمتى ما كوى ملابسه فليست دنسة حينئذ فلا يكوي ملابسه لا بنفسه ولا يضعها في دكان كي.
فخلاف حالنا الآن فعندما يريد أن يلبس الغُترة (الكوفية) فتراه لابد أن يجعلها مثل السيف من الأمام ولا نقول هذا حرام لكنها درجة دون الكمال أي أن يأْسِرَ الإنسانَ لباسُه، فليفرض أن هذا اللباس لم يتهيأ له ولذلك البذاذة من الإيمان [من ترك اللباس الفاخر وهو قادر عليه دعاه الله يوم القيامة وخَيَّرَهُ من حُلل الجنة ما شاء] .
(الذين لا ينكحون المنعمات) هذا وصف ثالث أي الثريات الموسرات بنات المترفين والأغنياء، فلا يقبلون الزواج بهن.(7/220)
(ولا تفتح لهم أبواب السُدد) وهذا هو الوصف الرابع، والسُدد هي القصور والمقصورات التي تكون خاصة بالمترفين، مثل بيوت الأمراء ومثل المقاصر التي عملها معاوية وهو أول من عمل المقصورة في المسجد وهي مكان خاص في المسجد لا يدخلها إلا هو وحاشيته ويوجد منها للآن في أكثر بلاد الشام وبلاد مصر وتكون على شكل طابق ثان ٍ لكنه ليس واسعاً وله مصعد خاص وغالباً ما يصلي عليه أناس خاصون فلو جاء إنسان مسكين لاسيما في العصر الأول ليصعد إلى هذه السدة منعوه، فهؤلاء أي الممنوعون هم أول من يرد حوض نبينا عليه الصلاة والسلام.
لِما امتاز الفقراء بهذا الورود؟ ولم يكن هذا للأغنياء من المهاجرين؟ فهم قد تركوا بلادهم وأوطانهم وأموالهم وما يملكون وخرجوا في سبيل الحي القيوم ابتغاء مرضاته ولا غرابة إن كوفئوا بالورود قبل غيرهم، لكن لم يحصل ذلك وفرق بينهم وبين الفقراء؟
إن الإنسان إذا هاجر وكان غنياً وعنده في هجرته ما يستعين به فإن ألم الهجرة والغربة يخف عليه، وإذا هاجر وكان فقيراً فيجتمع عليه أمران ومُصيبتان: الهجرة والفقر.
وإذا كان كذلك فبما أنه في هذه الحياة اعترتهم هذه الشدة فينبغي إذن أن يكرموا قبل غيرهم يوم الفزع الأكبر، لأنه قد اعترتهم شدة وكربة في هذه الحياة من أجل الله سبحانه وتعالى، فَيُطَمْأَن بالشرب أولاً مقابل ما حصل من قلق وخوف في هذه الحياة إذن. والمهاجر الغني ليس أمره كذلك.
وهؤلاء حالهم وإكرامهم كحال خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، فإن الناس يحشرون يوم القيامة حُفاة عُراة غُرْلاً (1) (كما بدأنا أول خلق نعيده) ويكون أول من يُكسى من هذه المخلوقات خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام والحديث في الصحيحين – لعدة اعتبارات فإن الجزاء من جنس العمل.
__________
(1) فتعاد الجلدة التي قطعت من رأس الذكر، وهي محل الختان.(7/221)
1- فإن إبراهيم عليه السلام ألقي في النار ولما ألقي جرد من ثيابه كيوم ولدته أمه وقُيّد ثم رمي بالمنجنيق في النار العظيمة، وهو نبي من أولي العزم الكرام بل خليل الرحمن!!.
فإذا كان الأمر كذلك وامتهن من قبل الأشرار في هذه الحياة فسيكسى يوم القيامة أول المخلوقات وأهل الموقف كلهم عراة كما ولدوا الرجال والنساء لا ينظر أحد إلى أحد كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام، كما قال تعالى: (لكل امرئِ منهم يومئذ شأن يغنيه) .
فأول من يكسى إبراهيم وهكذا من حصل له مثل حاله، وهذا يحصل للمؤمنين في هذا الحين من قبل المخابرات في الدول العربية عندما تأخذ شباب المسلمين لتعذبهم فتجردهم من ثيابهم ثم يعمشون أعينهم حتى لا يعلموا إلى أين يساقون، نسأل الله أن يكفينا شر الشريرين إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، فهؤلاء الذين عذبوا في السر ليستحقون هذا الإكرام وهو الكسوة قبل غيرهم؟!(7/222)
2- لأن إبراهيم عليه السلام هو أول من سن لبس السراويل وهي أستر شيء لاسيما للنساء فإذا كان السروال طويلاً يصل إلى الكعبين بالنسبة للمرأة ويزيد على الركبة بالنسبة للرجل فهو ساتر للإنسان يحول دون كشف عورته لو سقط أو جلس ولم يحطت في جلسته، وأما هذه السراويل القصيرة التي يلبسونها في هذه الأيام من لا خلاق له ثم يخرج فتراه إذا جلس بدا فخذاه، وإذا سقط – لا سمح الله – بدت عورته. ولذلك ورد في معجم الطبراني وغيره – والحديث ضعيف لكن يستدل به في الفضائل: [أن النبي عليه الصلاة والسلام كان جالساً أمام البقيع بعد دفن بعض الصحابة، فمرت امرأة تركب على دابة لها فتعثرت الدابة فسقطت فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم عنها بوجهه فقيل: يا رسول الله إنها مستورة – أي تلبس السراويل – فقال: اللهم اغفر للمتسرولات من أمتي] ، فخليل الرحمن إبراهيم من شدة حيائه هو أول من سن السراويل، فإذا كان فيه هنا الحياء فلا يصلح لأن يترك مكشوفاً كبقية المخلوقات، بل إنه تعجل له الكسوة قبل غيره.
3- لأنه كان أخوف الخلق لرب العالمين وكان يسمع أزيز قلبه من خشوعه وخوفه من مسافة ميل، فإذا كان هذا الخوف وهذا الاضطراب وهذا القلق فينبغي أن يعجل له الأمن 0 والكسوة علامة الأمن وأنه مرضي عنه.
فإذن خليل الرحمن إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه تعجل له الكسوة لهذه الاعتبارات وفقراء المهاجرين أوذوا وليس عندهم شيء يَتَسَلَّوْنَ به من مال يستعينون به في غربتهم فإذا بعثوا من قبورهم ينبغي أن يكون لهم شأن على أغنياء المهاجرين فضلاً عن سائر الأمة بعد ذلك.(7/223)
ولما بلغ هذا الحديث – حديث ثوبان رضي الله عنه – عمر بن عبد العزيز رحمه الله بكى وقال: "لقد نكحت المنعمات" ويقصد بها فاطمة بنت عبد الملك، مع أنها تقول – أي زوجته: "ما اغتسل عمر بن عبد العزيز من جنابة - من مباشرة أو احتلام منذ ولي الخلافة حتى لقي ربه". وكانت خلافته مدة سنتين إلا شهرين، ثم قال: "وفتحت لي أبواب السدد" فالقصور تفتح لي عندما أذهب لها "لا جرم لا أغسل رأسي حتى يشعث، ولا ثوبي الذي يلي جسدي حتى يتسخ"؛ لينال هذا الوصف رحمه الله تعالى، أي أن ما مضى مني أسأل الله أن يتجاوز عنه ويعفو بفضله ورحمته، وأما من الآن بعد أن بلغني هذا الحديث فلن أفعل هذه الأمور.
وفاطمة بنت عبد الملك، والدها خليفة وزوجها خليفة، وأخوها خليفة – بل إخوتها الخمسة سليمان والوليد وهشام وغيرهم كانوا خلفاءً، وجدها خليفة فهذه من أعظم المنعمات وما حصل هذا لامرأة أخرى، وهي التي قيل فيها:
بنت الخليفة والخليفة جدها ... أخت الخليفة والخليفة زوجها
فإذن بكى رحمه الله لما بلغه هذه الحديث مع أنه رضي الله عنه جمع زوجته وإماءه وقال لهن: طرأ عليّ ما يشغلني عنكن فإن أردتن الفراق فلكن هذا، وإن أردتن البقاء فليس لي صلة بواحدة منكن.. فبكين بحيث سُمع البكاء في بيوت الجيران، ثم تحدثوا وسألوا ما السبب؟ فقالوا: عمر بن عبد العزيز خيَّر نساءه.
ثم بعد ذلك قال لزوجته فاطمة هذا الحلي الذي عليك لا يحق لنا أخذ تيه من والدك عبد الملك وهذا من بيت المال فأرى أن نعيده في بيت المال، فقالت سمعاً وطاعة فأخذت حليها وأعطته إياه فأعطاه لخازن بيت المال، وخازن بيت المال احتاط فوضعه في زاوية وما صرفه في مصالح المسلمين – وبيت المال في عهد عمر بن عبد العزيز ممتلئ بالخيرات، وقد ثبت في مسند الإمام أحمد [أن الحبة من القمح كانت في عهد عمر بن عبد العزيز كرأس الثوم] وحفظ هذا بعد موته وكتب عليه: هذا كان ببيت في زمان العدل.(7/224)
ولما قيل له: إن الخيرات كثرت ونطلب من نعطيه الصدقة فلا نجد، فقال: اشتروا أرقاء وأعتقوهم واجعلوا ولاءهم لبيت المال.
وكان في عهده ترعى الذئاب مع الغنم، وقد ثبت في حلية الأولياء أن بعض التابعين مرّ على راع ٍ يرعى الغنم فوجد عنده ما يزيد على ثلاثين كلباً، فقال له: ما تفعل بهذه الكلاب؟ وواحد يكفي!! فقال: سبحان الله، ألا تعلم أن هذه ذئاب وليست كلاب: فقال: ومتى اصطلح الذئب مع الشاة، فقال الراعي: "إذا صلح الرأس فما على الجسد بأس"، إذن إذا عدل أمير المؤمنين واتقى الله فإن الله يحول بين المخلوقات وبين الظلم.
ورعاة الماشية في البادية علموا بموت عمر بن عبد العزيز رحمه الله ليلة انقضت فيها الذئاب على الغنم، فلما مات عمر وهم في البادية انقضت الذئاب على الغنم، فقالوا: أرخوا هذه الليلة – أي اكتبوا تاريخها – ثم ابحثوا عما حصل فقد مات عمر فلما تحققوا من الخبر علموا أن عمر مات في تلك الليلة رحمه الله ورضي عنه.
هذا هو عمر بن عبد العزيز، فخازن بين المال عندما أعطاه عمر رحمه الله حلي فاطمة، وضعه في زاوية وما تصرف فيه فبعد أن مات عمر رضي الله عنهم أجمعين جاء إليها وقال: هذا حليك الذي أخذه عمر احتفظت به كما كان، فإذا أردتيه فخذيه، فقالت: ما كنت لأزهد فيه في حياة عمر ولأرغب فيه بعد موته.
فانظر لهذا العبد الراشد وهو خامس الخلفاء الراشدين كما قال الشافعي: "فالخلفاء خمسة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وعمر بن عبد العزيز"وهو خليفة راشد باتفاق أئمتنا وهو مجدد القرن الثاني باتفاق أئمتنا لأنه توفي سنة 101 هـ عليه رحمة الله فعاش شيئاً من نهاية القرن الأول وبداية القرن الثاني.
وهو أول مجددي هذه الأمة، وقد ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام في سنن أبي داود وغيره بإسناد جيد [إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها] .
س: هل جاء مجددون بعده؟(7/225)
ج: لا شك في ... ذلك، فقد جاء مجددون في كل قرن ولا يشترط أن يأتي واحد بعينه، فمجدد القرن الثالث الإمام الشافعي باتفاق أئمتنا لأنه توفي سنة 204 هـ، ـ ويشترط في المجدد كما قلت لكم أن يدرك نهاية القرن المنصرم وبداية القرن التالي فالشافعي ولد سنة 150 هـ، فهو المجدد الثاني إذن، وهكذا سرد أئمتنا عدداً من المجددين إلى زماننا ولا يشترط أن يكون واحداً بعينه فأحياناً يوجد عدد من المجددين بحيث أن واحداً يجدد مثلاً في أمر العقيدة وتصحيح الأذهان من الخرافات، وآخر يجدد في نشر الحديث، وآخر في الجهاد، وهكذا في رأس كل مائة سنة.
ونحن في هذه الأيام – لا أقول كما يقول الناس نشهد صحوة بل في بلوى وفي عمىً – يوجد من فضل الله شيء من مظاهر التجديد وأموره ونحن في بداية قرن، وهو القرن الخامس عشر الهجري فحقيقة قد حصل تجديد في هذا الوقت كثير لكن لا أقول صحوة كما يفهم الناس ويخدرونهم بهذا الكلام لكن حصل التجديد وحصل الوعي وهذا من فضل الله.
فمصر مثلا ً سنة 1970 م لما ذهبتُ إليها لم تكن لترى فيها امرأة متحجبة، ولا ترى رجلاً في وجهه لحية، فمن فضل الله المتحجبات الآن في مصر لا أعلم لحجابهن نظير على وجه الأرض، إلا نساء الصحابة، فأنا لم أر امرأة تلبس جلباباً يجر على الأرض ذراعاً إلا في مصر، ولا أقول شبراً، وجر الثياب بالنسبة للرجل حرام ولا ينظر الله إلى من جر ثيابه خيلاء، وما نزل عن الكعبين في النار.
وانظر لعادات الناس في البلاد المتغطرسة المتكبرة، فالرجال تجر الثياب والنساء تقصرها إلى الركبتين بل إلى ما فوقها فسبحان الله!!.
والمرأة يجوز لها أن تتحجب بحيث تستر رجلها ويستحب لها أن ترخي ثيابها شبراً فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم [أترخيه شبراً قالت امرأة: يا رسول الله، إذن تبدو قدمها، فقال: لترخيه ذراعاً ولا تزد] .(7/226)
(تحدث الشيخ عن أطماع الغرب في أن نقلده في كل شيء إلا في المرأة، وفوجئ بأن نساءنا قلدنه تقليداً لا مثيل له فوجه سهامه لهن وخطط لإشراكهن في ميادين الحياة العامة ما ينفعها ولما لا ينفعها ومنه ما يسمى بتطوع النساء للقتال والدفاع المدني وكيف صارت المرأة سلعة مبتذلة بسبب هذه المخططات ثم ذكر قول علي رضي الله عنه، شر خصال الرجل خير خصال المرأة، وأن المرأة تكون سلسلة مع زوجها نافرة عنيدة مع غيره.)
وقبل أن ندخل في مبحث الشفاعة عندنا فائدتان:
الفائدة الأولي:
أنكر الخوارج والمعتزلة حوض نبينا عليه الصلاة والسلام، وحقيق بهم ألا يردوا ذلك الحوض وألا يشربوا منه.
فقالوا: لا يوجد لنبينا عليه الصلاة والسلام حوض ولا للأنبياء الآخرين عليهم السلام وحجتهم أن هذا لم يثبت في القرآن، وأمور الاعتقاد لابد من أن تكون في القرآن أو في حديث متواتر.
نقول: أما أن الحوض لم يثبت في القرآن فنحن معكم، لكن قلنا: إن الأحاديث متواترة وقد رواها ما يزيد على (56) وبلغت إلى (80) صحابياً، فهي إذا لم تكن متواترة فلا يوجد متواتر إذن فيقولون: إنها ليست متواترة عندنا بل هي أحاديث آحاد لا يؤخذ بها في الاعتقاد.
وقد ضل الخوارج والمعتزلة ومعهم الشيعة في قاعدة خبيثة انتبهوا لها:
أما الخوارج والمعتزلة فقالوا: كل حديث ورد في أمر الاعتقاد وليس له أصل في القرآن يطرح وهو مردود باطل.(7/227)
تقول لهم كلام النبي صلى الله عليه وسلم يقولون لك يطرح ولا قيمة له، وهو باطل ولو كان في الصحيحين ولو أجمعت الأمة على تلقيه بالقبول، ولذلك أهل المدرسة العقلية كالضال محمد عبده وأمثاله كما ذكرت لكم سابقاً هكذا يفعلون بالأحاديث، يقولون: آحاد ولا يؤخذ بها في الاعتقاد، فأحاديث نزول عيسى عليه السلام مثلا ً– بلغت سبعين حديثاً وهي متواترة باتفاق المحدثين، يقول محمد عبده: "لنا نحو هذه الأحاديث موقفان: الأول: أن نقول هي آحاد فلا يؤخذ بها في الاعتقاد، الموقف الثاني، على فرض التسليم بثبوتها فنؤولها بأن المسيح الدجال هو رمز للدجل والخرافات وهي الجاهيلة التي كانت قبل بعثة خير البرية عليه الصلاة والسلام، والمسيح عيسى بن مريم رمز للنور والهدى وهو الإسلام الذي جاء وأزال الجاهلية، أما أنه سينزل عيسى ويقتل الأعور الدجال فيقول هذه خرافة!! لأن عيسى عندما أراد اليهود قتله هرب وذهب إلى الهند ومات هناك وقبره معروف هناك في قرية (سُرى نكر) واسم قبره (قبر عيسى الصاحب) والصاحب عند الهنود بمنزلة الشيخ في بلاد العرب وبمنزلة الخوجة عند الأتراك، وأما قول الله تعالى: (بل رفعه الله إليه) يقول رَفْعُه هو رفع مكانة لا مكان، وكأنه وضيعاً قبل ذلك!!!.(7/228)
وأما الشيعة فقد زادوا على الخوارج والمعتزلة ضلالاً فقالوا: الأحاديث إذا كانت متعلقة بأمر الاعتقاد أو بالأحكام العملية وليس لها أصل في القرآن فهي مردودة 0إذن زادوا الأحكام العملية على الخوارج والمعتزلة، ولذلك الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها في النكاح محرم إلا عند الشيعة فعندهم يجوز أن تجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها باتفاقهم، والحديث قد ثبت في مسلم وغيره [نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الجمع بين أربع نسوة بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها] لكنهم يقولون لا وجود لهذا في القرآن ولتقرؤوا آية المحرمات من النساء (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم....) ولم يقل وأن تجمعوا بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها، نعم وأن تجمعوا بين الأختين فقط فالجمع بين الأختين محرم ولا مانع أن يجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها، والحديث لا قيمة له فهذا قد أثبت حكماً لا وجود له في القرآن نعوذ بالله من هذا الضلال، فهؤلاء الشيعة، هم أضل من الخوارج والمعتزلة بل هم أضل من فرق الأمة على الإطلاق، لو خلقهم الله طيراً لكانوا رَخْماً والرخم طائر أحمق لا يأكل إلا العذرة، ولو خلقهم الله بهائم لكانوا حُمُراً- جمع حمير-، وهكذا حال الشيعة لا عقل ولا نقل، وجمعوا الضلال الذي تفرق في الفرق بأسرها، ولم يدخلوا في الإسلام رغبة ولا رهبة، إنما دخلوا كيداً للإسلام ومقتاً لأهله.
الفائدة الثانية:
روى ابن جرير في تفسيره عن ابن أبي نَجيح عن أمنا عائشة رضي الله عنها أنها قالت: [من أحب أن يسمع خرير الكوثر فليضع أصبعيه في أذنيه] .
ضع أصبعيك في أذنيك الآن واسمع صوت الكوثر حقيقة كصوت الفرات عندما يجري، وقد جربتُ هذا مراراً.
وهذا الأثر منقطع عن أمنا عائشة رضي الله عنها فابن أبي نَجيح لم يسمع منها قال الإمام ابن كثير في تفسيره وقد روى ابن أبي نَجيح هذا الأثر عن رجل عن أمنا عائشة والرجل مبهم.(7/229)
وعلى كل حال فالأثر من حيث الإسناد ضعيف، وإذا ثبت عن أمنا عائشة فله حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام لأنه يتعلق بمغيب لا يدركه عقل الإنسان.
وما أتى عن صاحب بحيث لا ... يقال رأياً حكمه الرفع على
ما قال في المحصول نحو من أتى ... فالحاكم الرفع لهذا أثبتا
فإذا قال الصحابي قولا ً لا يدرك بالرأي فله حكم الرفع إلى نبينا عليه صلوات الله وسلامه.
ومعنى الحديث _لو ثبت_ قال الإمام ابن كثير في تفسيره: "ومعناه: أنه يسمع نظير صوت الكوثر ومثل خريره لا أنه يسمعه بنفسه".
تم بحمد الله مبحث الحوض
المبحث الثالث:
مبحث الشفاعة:
الشفاعة: مأخوذة من الشفع وهو خلاف الوِتْر والوَتْر وهو الفرد، فالشفع هو الزوج.
والله وِتّر ووَتّْر، والشفع هي المخلوقات، هذا من جملة ما قيل فيه، فقوله تقال (والفجر وليال عشر والشفع والوتر) الواو واو القسم فالشفع قسم بالمخلوقات، والوتر قسم بنفسه سبحانه وتعالى.
والشفع قيل: يوم النحر، والوِتر قيل: عرفة، هذا من جملة ما قيل لأن هناك أقوالا ً كثيرة.
أنما هنا الشفع هو الزوج لأنه شفع غيره فصار زوجاً، والوتر انفراد بنفسه فهو فرد، وسمي الشفع شفعاً لأنه شفع الوتر أي صاحبه وانضم إليه فجعله زوجاً بعد أن كان فرداً. إلى هنا تم التصحيح
ويحصل بالشفع – كما ترون – معنى الزيادة؛ لأن الوتر والفرد عندما زيد عليه مثله صار شفعاً فحصل فيه إذن معنى الزيادة.
ومنه الشُّفعة – بضم الشين – وهي ضم الشفيع المبيع إلى مكله فيشفعه به، كأنه كان وتراً فصار زوجاً شفعاً، كما جاء في لسان العرب لابن منظور في مادة شفع (10/50) ، وهو أكبر معاجم اللغة العربية.(7/230)
وصورة الشفعة: اشتركت أنا وأنت في بيت، ثم بعت نصيبي بمائة ألف درهم لغيرك فأنت لك حق الشفعة لتدفع الضرر عنك فتأتي وتقول لي شفعت في بيعك، أي ضممت بيعك إلى ملكي بمثل القيمة التي بعت بها نصيبك، فيفسخ البيع بيني وبين المشتري الغريب الذي ليس بشريك ويثبت لك كل البيت، وتدفع قيمة نصيبي، فإذن الشفعة ضمَّ الشريك المبيع إلى ملكه فصار ملكين وجزأين بعد أن كان جزءاً واحداً، وصار شفعاً بعد أن كان وتراً.
المحاضرة العشرون
ومعناها في الاصطلاح: طلب الخير للغير وفيها المعنى اللغوي.
أي المعنى الاصطلاحي فيه المعنى اللغوي، فالشفيع عندما يطلب الخير من غيره يضم صوته وطلبه إلى طلب المشفوع له.
فأنت تقول (رب اغفر لي) تطلب من الله المغفرة، ويجئ آخر فيدعو لك فيقول: (اللهم اغفر له وأجب دعواه) فهذه شفاعة، فكان السائل والطالب فرداً واحداً، وعندما طلبت أنت تحقيق طلبه صيّرته شفعاً وزوجاً وصار الطلب من جهتين من السائل لنفسه ومن الشافع.
فالشافع إذن شفع السائل والطالب فصارا اثنين، فإذن شفع الشافع المشفوع له، وشفع الشافع المطلوب منه الشفاعة، حيث ضم الشافع رأيه إلى رأي من طُلبت منه الشفاعة فأنت ذهبت مثلاً إلى مدير تطلب منه حاجة، فأنا شفعت لك عنده فضممت صوتي إلى صوتك وصار الطلب من جهتين، وضممت رأيي إلى رأي المشفوع عنده.
إذن شفعت للمشفوع له، وللمشفوع عنده، فأعطيت رأيي مع صاحب الحاجة وأعطيت رأيي مع من سيقضي هذه الحاجة، فشفعت لهذا وشفعت مع هذا.
أما لهذا فطلبت قضاء حاجته. وأما ذاك فقد حرضته على قضاء حاجة الطالب فأنت شفعت لاثنين.
أو تقول: شفعت الطالب والمطلوب منه، شفعت الطالب واضحة، وشفعت المطلوب منه أي الذي سيقضي حاجة الطالب.(7/231)
أو تقول: شفعت المشفوع له وشفعت المشفوع إليه، أو: شفعت المشفَّع والمشفِّع، فالمشفَّع هو طالب قضاء الحاجة والمشفِّع هو الذي سيقضي الحاجة، ولو ضربنا هذا مثلاً للخليقة مع ربهم جل وعلا، فالمشفِّع هو الله سبحانه وتعالى، والمشفَّع هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو غيره، فالرسول صلى الله عليه وسلم [أول شافع وأول مشفَّع] .
وقبل أن أنتقل إلى مباحث الشفاعة أحب أن أذكر مقدمة لها، وكل مباحثها تدور حول مبحثين فالشفاعة مطلوبة من المسلمين نحو بعضهم في الدنيا وفي الآخرة.
يقول تعالى عن الشفاعة في الدنيا: (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان الله على كل شيء مقيتاً) ، فقد حثنا الله تعالى في هذه الآية على الشفاعة الحسنة التي فيها قضاء مصالح العباد، وحذرنا من الشفاعة السيئة.
وقد حثنا نبينا عليه الصلاة والسلام أيضاً على الشفاعة في أحاديثه الكثيرة الصحيحة الثابتة، ففي الصحيحين والسنن الثلاثة أبي داود والنسائي والترمذي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء] وفي رواية أبي داود [اشفعوا لي] أي في طالب الحاجة [لتؤجروا وليقضي الله على لسان نبيه ما شاء] .
وهذه الشفاعة – كما قلت – ينبغي أن تكون في تحصيل الخير للغير في الدنيا والآخرة ولكن بشرط عدم تعطيل أحكام الله الشرعية، لأنك إذا شفعت في حد من حدود الله أو في إسقاط واجب أو استحلال محرم فهذه شفاعة محرمة وهي مضادة لله في حكمه، (قصة سرقة المخزومية والتي شفع فيها أسامة)
والشفاعة في الدنيا تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1- شفاعة حسنة مستحبة وتكون في:
أالمباحات.
ب المستحبات.
ولها صور كثيرة ولا يعجزكم التمثيل لها فلو طلب شخص مباحاً من مسئول أو مستحباً، فامتنع عليه، فشفعت له من أجل قضاء حاجته وطلبه، فهذه شفاعة حسنة ومستحبة.(7/232)
وقد بوب البخاري عليه رحمة الله في كتاب الطلاق باباً بهذا الخصوص فقال: باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في زوج بريرة.
وزوجها هو مغيث، وحديثه ثابت في الكتب الستة، فقد كانت بريرة تحت مغيث وكانت أمة وهو عبد – على أرجح القولين – ثم اعتقت بريرة والتي أعتقتها أمنا عائشة رضي الله عنها – وعندنا في الشريعة أن الأَمَة إذا كانت تحت عبد ثم أعتقت وصارت حرة فهي مخيرة إن شاءت أن تفارقه وإن شاءت أن تبقى معه، وإذا كانت تحت حر فاختلف في ذلك والجمهور يقولون بالتخيير وأبو حنيفة يقول بالتخيير سواء كان الزوج حراً أو عبداً.
الحاصل أن مغيثاً كان عبداً فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لبريرة: أنتِ بالخيار ما لم يمسسك – أي يقربك – فقالت لا أريده يا رسول الله، وقالت لأمنا حفصة رضي الله عنها: هو الطلاق هو الطلاق هو الطلاق.
فتشفع النبي صلى الله عليه وسلم لمغيث لأجل أن تعود له بريرة، فقد كان مغيث متعلقاً بها وكان قبل أن يحصل الطلاق بينهما يتبعها في سكك المدينة وهو يبكي وراءها والدموع تسيل على خديه وعلى لحيته ويسترضيها فتأبى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمه العباس: [ألا تعجب يا عمِّ إلى حب مغيث لبريرة وإلى كراهية بريرة لمغيث، ثم قال لها النبي صلى الله عليه وسلم، ارجعي إليه يا بريرة هو زوجك وأبو أولادك، فقالت: أتأمرني يا رسول الله؟ قال: لا، إنما أنا شافع] أي ألتمس منك العودة إليه، [فقالت: لا أريده يا رسول الله، الطلاق الطلاق الطلاق] فطلقت منه وما اجتمعت به بعد ذلك.
فهذه شفاعة مستحبة وقد شفع خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه في هذا الأمر لكن عنصر النساء عجيب، ووالله لو كنت مكانها لو كان ثوراً أسود لقبلته من أجل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وتطييباً لخاطره، وهل يقول النبي صلى الله عليه وسلم كلمة وأردها؟ ! لكن هذا حال النساء.(7/233)
لكن مع ذلك انظر لإيمانها، فليس عندها نقص فيه، حيث أرادت أن تتحقق هل هذا أمر واجب أم لا؟ فهي تعلم قول الله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) .
وهذا الحديث يقول الحافظ ابن حجر: استنبط أئمة الإسلام منه (300) فائدة، وأوجزها في فتح الباري وأشار إلى هذه الفوائد في الإصابة في ترجمة بريرة رضي الله عنها وعن زوجها.
ونسأل الله أن لا يعلق قلوبنا إلا به، وأنا حقيقة لا أتعجب من بريرة إنما أتعجب من مغيث فالنساء سواها كثير، وما عند هذه عند تلك، وعلام المشي وراءها والبكاء عليها! لكن هذا هو حال الضعف الإنساني، وصدق الله إذ يقول (وخلق الإنسان ضعيفاً) .
رفع إلى ابن عباس رضي الله عنهما في يوم عرفات رجل قد صار كالفَرْخ من ضعفه ومرضه، فقال: ما به؟ قالوا: العشق، فبدأ ابن عباس رضي الله عنهما – في يوم عرفات – يستعيذ بالله من العشق حتى مغيب الشمس.
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم ... العشق أعظم مما بالمجانين
العشق لا يستفيق الدهر صاحبُه ... وإنما يصرع المجنون في الحين
إن هذه الشفاعة الأولى الدنيوية مستحبة في مباحات ومستحبات وقولوا ما شئتم لها من أمثلة.
2- شفاعة واجبة وتكون في:
أ) تحصيل الواجبات.
ب) دفع الظلم عن المؤمنين والمؤمنات.
فإذا كان الطلب في أمر واجب ولأخذ حقه، أو كان الطلب لدفع الظلم عنه – وهو حق – فلم يجبه ولي الأمر لا في إعطائه حقه ولا في دفع الظلم عنه وأراد أن يوقع به عقوبة لا يستحقها أو أراد أن يمنعه حقاً هو له، وعلمت أنت بهذا فيجب عليك أن تشفع، لكن هذا الوجوب على حالتين، فهو فرض كفاية إن علمت وعلم غيرك ومنزلتك ومنزلتهم عند ولي الأمر سواء فيجب عليكم كلكم أن تشفعوا، فإذا قام البعض بتلك الشفاعة سقط الإثم عن الباقين كصلاة الجنازة.(7/234)
ويكون واجباً وجوباً عينياً إذا لم يعلم بحالة طالب الحاجة إلا أنت، أو علم غيرك أيضاً لكن أنت لك منزلة إذا شفعت بحيث تقضي حاجته ويُحصّل الواجب ويُرفع الظلم فهنا تعين الوجوب عليك وإذا لم تشفع فأنت آثم.
الإمام الشافعي استدعاه – ذكرها ابن عبد البر في كتابه الانتقاء في تراجم الأئمة الثلاثة الخلفاء – هارون الرشيد فأحضر من مكة إلى بغداد مقيداً، فما خلصته إلا شفاعة عبد صالح، إنه محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة، وذلك أن الشافعي زوِّر عليه أنه يريد أن يبايع رجلاً من آل علي لينقلبوا على العباسيين وبالأخص على الخليفة هارون الرشيد فجن جنونه فأرسل لإحضاره، فعلم بذلك محمد بن الحسن فاغتنم الغنم فتحين قدوم الشافعي فكان في مجلس هارون الرشيد، فلما دخل الشافعي عرّف محمدُ بن الحسن هارونَ بمنزلة الشافعيّ وبين له أن هذا من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وأن هذا إمام المسلمين....، ثم قال له هارون: يا محمد خذه إلى بيتك حتى يتبين لي الأمر، ثم ارتفع قدره (أي الشافعيّ) عند هارون بعد ذلك وأكرمه غاية الإكرام وأمر له بخمسين ديناراً.
فلولا أن الله لطف بالشافعي بشفاعة محمد بن الحسن لطارت رقبته في مجلس هارون، ولو أن محمداً ما شفع للشافعي لشارك في إثم دمه لأنه يعلم قدره ومنزلته وعلم بحاله، فانتبه لهذا!! إذن هذه شفاعة واجبة.(7/235)
وأخبرنا بعض شيوخنا الشيخ عبد الرحمن زين العابدين عليه رحمة الله عن قصة جرت لبعض العلماء الصالحين في الزمن القديم، حاصلها أن افتُري على طالب علم فاستدعاه ولي الأمر، فلما جاء إليه أعلم هذا الشيخ الصالح أن طالب العلم الفلاني قد استدعاه ولي الأمر وقد يفتك به – وقد كان للشيخ منزلة عند ولي الأمر ومكانة وكلمة مسموعة – فسارع الشيخ إلى منزل ولي الأمر وكان عنده اجتماع وطال الاجتماع والشيخ لا يزال جالساً وكان محصوراً - يحبس البول – فلما خرجوا دخل على ولي الأمر وكان مشغولاً في الكلام فانفجرت مثانة الشيخ ومات في مجلس الأمير فقال الأمير: ماله، وما الذي طرأ عليه حتى جاءني وقد كان الأصل أن آتي إلى بيته فهذا الشيخ هو شيخ المسلمين في بلدتنا؟ فقالوا: بلغه أن طالب علم ادُعىّ عليه وأحضر إليك فخشي أن تفتك به فجاء ليُعرِّف له وليشفع له , وكان محصوراً وهو رجل كبير لا يمسك هذا، فانفجرت مثانته فمات، فقال الأمير: والله لو علمت لأعطيته حِجْري ليبول فيه، ولجئت إلى بيته لأقبل شفاعته.
فهذه شفاعة واجبة لتوصل الحق إلى صاحبه ولتدفع الظلم عنه.
وأنا أقول لكم من باب شكر أهل الشفاعات والفضل على شفاعاتهم فمن تحدث بالنعمة فقد شكرها ومن كتمها فقد كفرها، وصاحب الشفاعة يعلم الله أنه لا يريد التحدث بها ولما أخبرني بها قلت له جزاك الله خيراً، فقال: وأنت كذلك، ولكنني ما أخبرتك من أجل أن تثني عليّ أو من أجل المنة عليك، إنما أخبرك من باب إخبارك بما يصدر ممن يكيد لك، ولمكانتك عندي، ونسأل الله أن يكفينا شر كل ذي شر.(7/236)
هذا الشيخ صاحب الشفاعة هو عبد الله المصلح عميد كلية الشريعة وأصول الدين بأبها بجنوب السعودية، وقد عاشرته ما يقارب (12) سنة وجرى لي معه مواقف كثيرة، ومن جملتها الذي يتعلق بمبحث الشفاعة فقد أُرسِلَ مرة كتاب من بعض الضالين من لهم شأن إلى الجامعة وفيه: أنه يوجد في كلية الجنوب فلان – يقصدني – وهو ضال يضلل الطلاب ويفسد عقائدهم ... إلخ، فأرسل إليه كتاب بهذا الخصوص فلما ذهب الشيخ عبد الله المصلح إلى الرياض أطلعوه على الكتاب نفسه وفيه أن عندكم أستاذاً ضالا ً ووضعه كذا وكذا – فهنا الشفاعة واجبة ومتعينة أم لا؟ وبيان الحق والدفاع متعين أم لا؟
فقال الشيخ عبد الله لمدير الجامعة سبحان الله لا أعلم بم أجيبكم!! إذا كان الشيخ عبد الرحيم ضالاً فوالله إذن ما عندنا في كلية الشريعة وأصول الدين أحد مهتدي، وأولهم أنا عبد الله المصلح، ولذلك أرى أن تلغوا الكلية من أولها لآخرها.
وبدأ يسرد لي بعض ما حصل وقال: لا أريد أن أذكر لك ما حصل، لكن من جملة كلامه أنه قال لهم، والله لا يوجد في هذه الكلية أستاذ إلا ولي عليه ملاحظة إلا فلان فهذا الذي يلاحظ علينا وينصحنا وأحيانا ينبهنا لأمور نحن نقصِّر فيها، وأنا لا أذكر مرة – وهذا كله من كلام الشيخ عبد الله المصلح – أنني نبهته على شيء، فاتقوا الله في أنفسكم، فهل هذا يتهم بمثل هذا الأمر الذي تذكرنه؟!.(7/237)
ولم يُنهِ الأمر إلى هنا مع أن الأوراق والشكوى قطعت في مكتب مدير الجامعة ورميت في سلة الأوساخ وقيل له: دعك من هذا الأمر، فلم يقبل وواصل متابعة القضية وقال أنا سأتابع الأمر فذهب إلى من زكى كتابه من كتب الشكوى، فقال له: هل تعرف فلاناً – أي الشيخ الطحان؟ فقال: ليس لي اطلاع على حاله على وجه التمام، لكن فلان وفلان الذين جاؤوا إليّ ثقات وقالوا لي إن هذا الشيخ يضلل ويفسد، لذلك يجب التخلص منه والحذر، فقال الشيخ المصلح له: ما رأيك فيّ؟ فقال: أنت يا شيخ عبد الله لا تدور حولك تهمة ولا نعرف عنك سوءاً، فقال له: والله لو طعنتم فيّ لكان هناك مجال للتصديق، وأما أنكم تطعنون في هذا الشيخ المسكين، والله لن يصدقكم أحد في الدنيا ولا في الآخرة فاتقوا الله واستحيوا منه وبعد كلام طويل قال هذا المسئول للشيخ عبد الله المصلح: هات كتاباً أكتب لك بالثناء عليه والتزكية له وأرد على كلامي السابق – وهذا الشيخ المسئول الذي زكى شيخ صالح لكن يُخدع أحياناً من قبل بعض الناس فقال الشيخ المصلح: لا أريد الآن تزكية، وما جئت الآن من أجل التزكية، لأن المسئول عنه في النهاية أنا ولا يمكن أن يُفعل معه شيء إلا بعد أخذ رأيي، فأنا الذي أدير الكلية ولم آت من أجله، لكنني جئت من أجل أن تتقوا الله في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وحتى لا يتكرر هذا منكم، فلا يأتيك شخص صاحب هوىً ويتهم بعض طلبة العلم بنقيصة ليست فيهم ثم تزكيهم وليس لهؤلاء الطلبة مدافع، ثم قال له في النهاية، هَبْ أنكم آذيتموه وفصلتموه من الكلية أتظنون أنكم بذلك قد ضررتموه، لا والله، إن هذا مؤمن وسيتولاه الله أينما كان وسيرفعه من عز إلى عز، ولن يخسر من فصله إلا كليتنا وسنكتسب الوجه الأسود في الدنيا والآخرة.(7/238)
أي افرضوا لو أن هذا الشيخ فُصِل، فهل إذا فصل يعني فصلت رقبته، وإذا فصلت رقبته هل حرم من الجنة أم ماذا جرى؟! ولو فصل من هذه الجامعة أفلا يوجد في هذه الدنيا مكان آخر فاتقوا الله وقفوا عند حدكم.
فهذه الشفاعة تعينت عليه، فحقيقة لا يعلم بحالي على وجه التمام والكمال إلا هذا العميد ولا يعلم بهذه الشكاية إلا هو، فقلت له جزاك الله خيراً، فقال: والله لو لم أفعل هذا لأكبني الله على وجهي في نار جهنم، ولا تظن أن هذا الذي فعلته من باب المنة عليك إنما هذا تعين عليّ.
وجاءت بعد ذلك تهمة وتطورت إلى بعض الجهات المسؤولة فقال لي من ضمن كلامه يا شيخ عبد الرحيم أنت نائم مع أهلك ولا تدري ما الذي يفعله لك وما الذي يحصل والله في وسط الليل أزج بنفسي من بيت إلى بيت ومن جهة إلى جهة، ويقول عندما يتصل ببعضهم: يا عباد الله اتقوا الله واستحيوا منه، والله أخشى أن يخسف الله بكم الأرض، إلى هذا الحد وصل بكم العنف والغلظة، فيقولون له: إنه يفعل كذا وكذا، فيقول لهم: استحيوا من الله يا جماعة فإن بعض ذلك مزوّر عليه ومفترىً وبعض ذلك لا حرج في فعله، وبعض ذلك حق وأنتم مخطئون.
وبالنسبة لقضاء الحوائج واصطناع المعروف والشفاعات ألّف أئمتنا كتباً مستقلة في هذه المواضيع، من هذا ما وجد ضمن كتاب (أربعون حديثاً في اصطناع المعروف) للإمام المنذري صاحب الترغيب والترهيب وقد تكلم فيه عن الشفاعات وقضاء الحوائج، وإذا لم يوجد عندكم فانظروا في مجمع الزوائد (8/190 - 195) لزاماً عند كتاب البر والصلة باب في قضاء الحوائج ويدخل في قضاء الحوائج الشفاعات لاسيما إذا كانت واجبة.(7/239)
من جملة ما ورد فيه – المجمع – من أحاديث: ما رواه الطبراني في الأوسط والصغير – وإسناده لا بأس به – عن أمنا عائشة رضي الله عنها، قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من كان وصلة – واسطة – لأخيه المسلم إلى ذي سلطان في مبلغ (بلوغ) بر ٍ أو تيسير عسير أعانه الله على إجازة الصراط عند حفي الأقدام] .
ولذلك أثر عن الإمام الشافعي عليه رحمة الله أنه قال: "لكل شيء زكاة وزكاة المروءات الشفاعات" أي إذا كنت صاحب مروءة وجاه فزكاة هذا أن تشفع.
ومنه ما رواه الطبراني في الأوسط بسند جيد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من مشى في حاجة أخيه كان خيراً له من اعتكافه عشر سنين، ومن اعتكف يوماً ابتغاء وجه الله جعل الله بينه وبين النار ثلاث خنادق كل خندق أبعد مما بين الخافقين] و (الخافقان) أي بين الأرض والسماء وبين المشرق والمغرب.
وذكر الإمام ابن رجب الحنبلي في كتابه (جامع العلوم والحكم) عند شرحه لحديث النبي صلى الله عليه وسلم الثابت في صحيح مسلم [ ... والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه ... ] ذكر قصة في هذا الموضوع فقال: "وبعث الحسن البصري قوماً من أصحابه في قضاء حاجة لرجل وقال لهم: مروا بثابت البناني - وكان من العباد – فخذوه معكم، فأتوا ثابتاً، فقال: أنا معتكف، فرجعوا إلى الحسن فأخبروه، فقال قولوا له: يا أعمش، أما تعلم أن مشيك في حاجة أخيك المسلم خير لك من حجة بعد حجة فرجعوا إلى ثابت، فترك اعتكافه وذهب معهم" وقول الحسن هذا ورد في أحاديث لكن ضعيفة.
المحاضرة الحادية والعشرون
3- شفاعة محرمة مذمومة وتكون في
أ) المكروهات.
ب) المحرمات.
(يصلح مثالاً لها قصة الشفاعة في المخزومية التي سرقت) .
كشفاعة أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز، ثم تابت من شفاعتها، حيث قالت لعزة يقول كثيّر (الذي كان مغرماً بعزة) :
قضى كل ذي دينٍ علمتُ غريمَه ... وعزةُ ممطول معنّى غريمها(7/240)
أي كل من عليه دين قضى صاحب الدين حقه إلا عزة فلم تقضي ديني، فقالت لها: ما هذا الدين الذي يقوله كثيّر وماذا له عليك من حق؟ فقالت عزة: كنت وعدته قبلة (عن طريق الحرام) فما طلته وما أعطيته ذلك، فقالت لها أم البنين: سبحان الله، أعطيه ذلك وما كان من إثم فعليّ. ثم ندمت بعد ذلك وتابت رحمها الله وعفا عنها، وأعتقت أربعين رقبة، وقالت ليتني خرست وما تكلمت بهذه الكلمة حيث شفَعتْ في أمر محرم. وانظروا القصة في صفة الصفوة (4/299) .
فالشفاعة في المحرم والمكروه حرام.
فهذا هو ضابط الشفاعة: الحسنة المستحبة، والحسنة الواجبة، والمذمومة المحرمة، والتمثيل لا يخفي عليكم بعد ذلك.
والشفاعة الحسنة مطلوبة، والشفاعة السيئة مذمومة، وأكثر شفاعة الناس في هذه الأيام من الشفاعات المذمومة الملعونة ولا تجد من يشفع شفاعة حسنة إلا ما قلَّ وندر، وإذا طلبت منه شفاعة حسنة في تخليصك من ظلم أو بلاء يتعلل، وعندما يجب عليك حق شرعي أو تنتهك محرماً وستنزل بك عقوبة فما أكثر الشفعاء حينئذ وهذا هو الضلال عندما تضاد الشفاعة شرعية ذي العزة والجلال.
فلنشفع في أمور لخير الدنيا، ونسأل الله أن يشفعنا في بعضنا في الآخرة إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
وسنأتي الآن إلى مباحث الشفاعة.
المبحث الأول:
شرط حصول الشفاعة عند الله جل وعلا:(7/241)
تقدم معنا أن الشفاعة طلب الخير للغير من الغير، وقلنا إن الشفاعة فيها ضم الشفيع صوته إلى المشفوع إليه كما في ضم صوته إلى المشفوع له، والله جل وعلا فرد أحد ليس له شفيع سبحانه وتعالى، فكيف ستحصل الشفاعة عنده؟ هل يعطي أحد رأيه لله كما هو الحال في ملوك الدنيا فهؤلاء تعطيهم رأيك وتضم رأيك إلى رأيهم؟ لا، الشفاعة عند الله تختلف عن سائر المعلوم من أنواع الشفاعات عند المخلوقين قاطبة، فهي شفاعة من نوع خاص لها شروط تميزها عن غيرها، فهذه الشفاعة لا تضم رأيك إلى رأي المشفوع عنده انتبه!! إنما أنت تشفع بعد أن يأذن لك سبحانه وتعالى، وهل هذا هو حال ملوك الدنيا؟ فقد تشفع بما لا يريد وترغمه فينفذ شفاعتك لأنه وإن كان عنده رغبة ورهبة فهو أيضاً يرغب ويرهب ويقول أخشى أن يدبر هذا لي مكيدة أو أن يغتالني إن أنا رددت شفاعته.
فهذه الشروط – التي سنذكرها – لننفي بها ضم الشافع صوته إلى المشفوع عنده وأنه لا أحدٌ يشفع الله فهو وتر سبحانه وتعالى وهو أحدٌ ليس معه نظير ولا أحد يضم قوله إلى قوله.
ولذلك اتفق أهل السنة الكرام على أن الشفاعة لا تحصل عند ذي الجلال والإكرام إلا بشرطين:
الشرط الأول: إذن الله للشافع بحصول الشفاعة منه.
دل على هذا آيات القرآن الكثيرة منها:
? قوله تعالى في آية الكرسي سورة البقرة 255 (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) .
? وقوله تعالى في سورة سبأ آية 23 (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) .
? وقوله تعالى في سورة يونس آية 3 (ما من شفيع إلا من بعد إذنه) .
الشرط الثاني: رضا الله عن المشفوع له بحصول الشفاعة له من الشافع فإذن أذن للشافع بأن يشفع، وليس هذا إذن مطلقاً، بل يُحِدّ له حداً أو يسمي له جماعة أو فرداً، فيقول اشفع لهذا بدخول الجنة، إذن هذا بتخصيص الله ومشيئته وإرادته.
س: لم أشفع، وقد حَدَّه لي وليس على اختياري مطلقا؟(7/242)
جـ: لينيلني الأجر عندما أشفع (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها) ، وليحصل مزيد حب وود بيني وبين المشفوع له، وبالتالي يحصل مزيد ربط بين قلوب المؤمنين وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام يفعل هذا في الدنيا فكانت إذا عرضت عليه حاجة يؤخر قضاءها ليشفع الصحابة ثم يقول لهم – ما قلت لكم – [اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء] ، فالرسول صلى الله عليه وسلم سيقضي الحاجة لكن إن قُضيت بعد شفاعة فالمستفيد هو أنتم حيث سيحصل الربط فيما بينكم وتقضى الحاجة مع ذلك، فقضاء حاجة بلا شفاعة أنزل من قضائها بعد شفاعة، فهناك تكثير الخيرات من عدة جهات وهذا ما يحرض عليه النبي عليه الصلاة والسلام.
لذلك قلت لكم ندبنا إلى شفاعة في الدنيا والله يشفعنا في بعضنا في الآخرة، إذن يحدد الله المشفوع له، ويأذن للشافع بحصول الشفاعة منه لهذا المشفوع له. دل على هذا قول الله جل وعلا في سورة الأنبياء في الآية (28) : (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) .
وقد جمع الله الشرطين في آيات كثيرة من كتابه:
1) منها سورة النجم آية (26) : (وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يساء ويرضى) .
2) وهكذا في سورة النبأ آية (38) يقول الله تعالى: (يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن) . فهذا هو الشرط الأول (وقال صواباً) أي أذن له ولم يتكلم بعد ذلك على حسن رأيه ويشفع لمن يريد دون إذن ربه بحصول الشفاعة له فلا يتكلم إلا على حسب ما يحدد له، والصواب هو رضا الله عن المشفوع له بحصول الشفاعة وهذا هو الشرط الثاني.
3) وقال ربنا جل وعلا في سورة طه آية (109) : (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضى له قولاً) وهذا كقوله تعالى (أذن له الرحمن وقال صواباً)(7/243)
إذن لا بد من هذين الشرطين إُذنُ الله للشافع ورضاه عن المشفوع له لحصول الشفاعة له، وعليه فمرد الأمر لله جل وعلا فهو خالق الشفاعة وموجدها وهو الآذن لبعض الناس بالشفاعة لمن يشاء ويريد ويرضى سبحانه وتعالى، ولذلك لا تطلب إلا منه سبحانه وتعالى أن يشفع فينا الصالحين من عباده فهو على كل شيء قدير.
يقول الله تعالى مقرراً هذا في سورة الزمر آية 43 و 44: (أم اتخذوا من دون الله شفعاء، قل: أولو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون، قل لله الشفاعة جميعاً له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون) ، فلله الشفاعة جميعاً من بدايتها إلى نهايتها فهو الذي يأذن للشافع وهو الذي رضي عن المشفوع له بحصول الشفاعة له، إذن مردها إلى الله جل وعلا، نسأل الله أن يرحمنا وأن يشفع فينا نبينا عليه الصلاة والسلام والصالحين من عباده إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
إشكال وجوابه:
إن قيل: وردت آيات في القرآن الكريم ظاهرها يشعر بنفي حصول الشفاعة يوم الدين، فكيف سنوفق بينها وبين الآيات التي أثبتت الشفاعة في ذلك؟ ومن هذه الآيات:
? قول الله جل وعلا في سورة البقرة - وسأقتصر على هذه السورة فقط - آية 48 (واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم يُنصرون) .
? وقوله تعالى في آية 123 من السورة نفسها: (واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون) .
? وقوله تعالى في الآية 254 (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أي يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون) .
إذن هذا اليوم ليس فيه شفاعة، وقد مرت معنا الآيات بثبوت الشفاعة وحصولها، فما التوفيق بين الأمرين؟(7/244)
الجواب: أن الشفاعة المنفية هي الشفاعة الشركية التي يدعيها المشركون لآلهتهم وطواغيتهم من البشر أو الحجر أو البقر أو الشمس أو القمر وغيرها حيث كانوا يزعمون بأنها ستشفع لهم يوم القيامة، فإن هؤلاء لا تحصل لهم الشفاعة والشفاعة منتفية عنهم، وقد وضح هذا آيات القرآن (1) يقول الله تعالى في سورة المدثر – وانتبه لسياق الآيات – (كل نفس بما كسبت رهينة، إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر قالوا لم نَكُ من المصلين ولم نَكُ نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين) فما هي النتيجة؟ (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) التي كانوا يدعونها لآلهتهم، ويفترون ويزعمون أن آلهتهم ستشفع لهم، فهذه الشفاعة الشركية لا تنفعهم وهم مشركون لا تنفعهم شفاعة.
إذن (كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين) ، وما المراد بأصحاب اليمين؟
قيل: هم من يأخذ كتابه بيمينه.
وقيل: هم الملائكة المقربون.
لكن التفسير الدقيق الوارد في هذا عن صحابيين – ولذلك حكم الرفع – عن علي وعن ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين، عن علي في المستدرك بسند صحيح، وعن ابن عمر في تفسير ابن المنذر بسند صحيح: [ (إلا أصحاب اليمين) إلا أولاد المسلمين الذين ماتوا قبل أن يبلغوا] قبل أن يجري عليهم القلم.
وهذه إحدى آيتين في القرآن تدل على أن أولاد المسلمين في الجنة إذا ماتوا قبل التكليف والآية الثانية في سورة الطور آية رقم (21) وستأتي ص (256) وهذا هو المقرر عند أهل السنة والجماعة، فإذا مات ولد من أبوين مسلمين أو من أحد أبوين مسلمين قبل أن يبلغ فهو في الجنة.
وفي هذه الآية قرينتان على أن هذا التفسير هو المعتمد – وإن كان التفسيران الآخران يمكن أن يدخلا في الآية – ولكن هذا هو المعتمد وأقوى من غيره لقرينتين هما:
القرينة الأولى:(7/245)
قوله (رهينة) فإن معناها: مرتهنة ومحبوسة لتحاسب على عملها، فإن كان خيراً أثيبت وإن كان شراً عوقبت، لكن عندنا صنف ليس عنده ما يرهن عليه ويحبس من أجله فلم يعمل خيراً أو شراً ولم يجر القلم عليه، إذن فكل نفس مرتهنة بعملها إلا هؤلاء فليس عندهم عمل، ولذلك أولاد المسلمين في الجنة بمجرد موتهم [وصغارهم دعاميص الجنة] كما ثبت في مسلم عن نبينا عليه الصلاة والسلام والدعاميص جمع دعموص وهي دودة لا تفارق الماء والولد الصغير بمجرد أن يموت لا يفارق الجنة، والدعموص أيضاً هو الذي يُكثر زيارة الملوك والأمراء فلكثرة زيارتهم ومخالطتهم لهم يدخل عليهم بغير استئذان، وهؤلاء دعاميص يدخلون ويسرحون حيث يشاءون ولا يمنعهم منها مانع وفلا يقيدون ويحاسبون.
القرينة الثانية:
قوله (يتساءلون) لأن سؤالهم هذا سؤال غرٍ جاهل سؤال من لا يدري الحقائق ولا ما جرى في عرصات الموقف، فهؤلاء – أي أصحاب اليمين الذين يتساءلون – لو شهدوا الحساب في عرصات الموقف وحضروا الميزان وأن هؤلاء ثقلت موازينهم فهم في عيشة رضية وهؤلاء خفت موازينهم فأمهم هاوية لو حضروا هذا لما سألوا هذا السؤال، فهو معلوم لديهم لأنهم حضروه، لكنهم لم يحضروا ولم يُحبسوا إنما دخلوا الجنة دون محاسبة ودون تقييد ورَهْن.
الشاهد هنا أنه (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) الشفاعة الشركية هي المنفية.(7/246)
3) وهكذا يقول الله في سورة الشعراء آية (100) : ( ... فمالنا من شافعين ولا صديق حميم) فالشفاعة المنفية هي حصول الشفاعة للآلهة وقد ذكروا قبل هذه الآية بثماني آيات وأيضاً قال في آية (96) من هذه السورة (قالوا وهم فيها يختصمون، تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين، وما أضلنا إلا المجرمون، فمالنا من شافعين ... ) إذن يسوون آلهتهم برب العالمين ويجعلونهم أنداداً له، وعدلاً ومثلاً له، يعبدونهم كما يعبدون الله، فهؤلاء لا تحصل لهم الشفاعة والله جل وعلا يقول: (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم) أي جعلتموهم نظراء وعدلاً له، فسموهم وانعتوهم فماذا فيهم من صفات يستحقون أن يكونوا بها آلهة، هل خَلقوا أم خُلقوا؟ هل يملكون لغيرهم ضراً أو نفعاً أو يملكون هذا لأنفسهم؟!!
كل من عدا الله مخلوق مقهور مربوب مسير في الحياة والموت والرزق رغم أنفه مخير في ما عداها جاء إلى الدنيا على غير اختياره وسيخرج منها على غير اختياره، في الصورة التي على غير اختياره، إذن فكيف يستحقون أن يكونوا آلهة مع الله أو من دون الله؟!!.
4) وهكذا يقول الله سبحانه وتعالى في سورة غافر آية (18) (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) .
5) وقال جل وعلا في سورة الأنعام آية (94) : ( ... وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء....) .
6) وقال جل وعلا في سورة يونس آية (18) : (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله، قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض، سبحانه وتعالى عما يشركون) .
فالشفاعة المنفية هي الشفاعة الشركية التي تقع بغير إذن الله وبغير رضاه عن المشفوع له، وهذه كان الضالون يدعونها لمعبوداتهم وما أكثر من يدعيها من المسلمين لطواعيتهم الذين يعكفون حولهم.(7/247)
وهناك قصة لبعض الضالين في بلاد الشام من الصوفية المخرفين الذين يتبعون شيخاً ضالاً يقول لهم: أولادي لا تخافوا، فإذا صار يوم القيامة أضعكم في رقبتي كما تضع المرأة القلادة في عنقها، ثم أمر من فوق جهنم فأطير إلى الجنة، وتلامذته ينقلون هذه القصة عنه ويبتهجون ويفرحون ويقول: نحن سيشفع لنا هذا الشيخ العظيم، فقلت لواحد منهم عندما كلمني: وإذا سقط شيخك في جهنم، فكيف سيكون حالكم؟ ووالله إذا لم يرجع عن اعتقاده هذا سيسقط رغم أنفه ما دام يدعي هذا الأمر الذي يحاد ويضاد به الله:
ألم يسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم:
[يا فاطمة لا أغني عنك من الله شيئاً، اعملي] .
[يا عباس يا عم النبي، لا أغني عنك من الله شيئاً، اعمل] .
[يا صفية سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً] .
هذا يقوله النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه سيد الشافعين المشفعين والشفاعة له ثابتة بإجماع أهل السنة ودلت عليها النصوص الصحيحة الثابتة، ومع ذلك يقول كَوني سأشفع لهذا أو لهذا هذا مرده إلى الله جل وعلا!!.
ولذلك في صحيح مسلم [لما جاء ربيعة بن كعب الأسلمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان دائماً يحضر للنبي صلى الله عليه وسلم وضوءه ليتوضأ منه، فقال له ذات يوم لما أحضر له وضوءه: سلني فقال ربيعة: أسألك مرافقتك في الجنة، فقال أَوَغير ذلك؟ فقال: هو ذاك يا رسول الله فأطرق النبي عليه الصلاة والسلام يقول ربيعة – وظننت أنه يوحى إليه – ثم رفع فقال إني فاعل، فأعني على نفسك بكثرة السجود] ، نعم ما سأل ربيعة وهذه هي همم النفوس العالية.(7/248)
فهنا النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل له من أول الأمر شيئاً لا أملك ولا لا أملك بل سكت فهولا يستطيع أن يتكلم من عنده، فهذا ليس في وسعه، فقال له، ألا تريد شيئاً آخر أستطيع قضاءه لك بنفسي؟، فقال: هو ذاك ولا أريد غيره، إذن فتحتاج المسألة إلى استئذان الله سبحانه وتعالى وانتظار الجواب منه، فأطرق الرسول صلى الله عليه وسلم رأسه ونزل عليه الوحي، فلما رفع رأسه قال لربيعة: إني فاعل فأعني على نفسك بكثرة السجود فهذا شرط لا تفرط فيه حتى تكون في درجتي إن شاء الله في جنات النعيم.
المبحث الثاني:
أنواع الشفاعات يوم القيامة:
مجموع الشفاعات ثمانية أربعة منها خاصة بنبينا عليه الصلاة والسلام والأربعة الأخرى مشتركة بينه وبين غيره من أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم ومن الملائكة والصالحين من عباده.
أما الشفاعات الخاصة بنبينا عليه الصلاة والسلام:
1- الشفاعة العظمى:
ويقصد بها: الشفاعة لأهل الموقف قاطبة من إنس وجن وحيوانات، ليحاسبهم رب الأرض والسموات، فحتى الحيوانات ستنالها هذه الشفاعة (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وتكون نتيجة حسابها أن تكون تراباً لكنها مجموعة ليقضي الله للجماء من القرناء، وليظهر العدل الإلهي على أتم وجه، فيجتمعون في ذلك الموقف العصيب الرهيب، ولا يقضي بين هذه المخلوقات إلا بشفاعة خير البريات عليه صلوات الله وسلامه.
وقد تواترت الأحاديث بذلك، وفيها:(7/249)
(أن الله يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد وتدنو الشمس من منهم ويتصبب منهم العرق ويطول هذا الجمع ويبلغ الغم والكرب بالناس ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تظنون من يشفع لكم عند ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم فيذهبون إليه ويقولون: [يا آدم اشفع لنا عند ربك، فيقول لست لها] أي لا أبلغ هذا المقام وهذه الرتبة ليست لي، ثم يقول [إن ربي قد نهاني عن الشجرة فعصيته اذهبوا إلى نوح فإنه أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض] وكان بين نوح وبين آدم عشرة قرون كلهم على التوحيد، كما ثبت هذا في المستدرك بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما، وله حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام.
والمراد من القرن: قيل مائة سنة، وعليه تكون المدة بينهما ألف سنة. وقيل المراد بالقرن مدة فناء جيل من الأجيال، وكان كل جيل يعيش ألف سنة فأكثر، فالألف تضرب في عشرة يصبح المجموع عشرة آلاف سنة بين نوح وآدم والله أعلم أيهما المراد.(7/250)
[فيذهبون إلى نوح ويقولون اشفع لنا إلى ربك فأنت أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض فيقول: لست لها، ويذكر سؤاله لربه ما ليس له به علم] وهذا وراد في قوله تعالى (رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين، قال: يا نوح إنه ليس من أهلك) أي ليس من أهل ملتك وليس على دينك، وليس المراد أنه ليس من أولادك فهو ابن حرام كما توهم هذا بعض سفهاء الأنام حيث يقولون هذا ليس من أهلك أي ليس بولدك وإنما ولد على فراشك فامرأتك خانتك فيه، هذا كلام باطل وما بغت امرأة نبي قط، وزنا الزوجة منقصة في حق الزوج، فإن قيل قد تكون الزوجة كافرة، نقول: لا حرج لأن الكفر ليس بتعيير عند أهل الأرض وليس بمنقصة في حق الزوج بخلاف العهر، فهو – أي العهر – منقصة عند الكفار وعند المؤمنين بل عند الناس كلهم هو مذموم ولذلك القوانين الوضعية الوضيعة في هذا الوقت أباحت الزنا إلا زنا الزوجة، وعند النصارى لا يوجد طلاق إلا إذا ثبت أن الزوجة زنت فعند ذلك للزوج أن يطلقها.
الشاهد أنَّ زنا المرأة طعن في زوجها ومعنى ليس من أهلك أي ليس من أهل ملتك وليس على دينك.(7/251)
[فيقول نوح: اذهبوا إلى إبراهيم خليل الرحمن، فيقول لست لها، وإني كنت كذبت ثلاث كذبات] وهي قوله (إني سقيم) مع أنه يجاهد ويجادل بها عن دين رب العالمين، وقوله (بل فعله كبيرهم هذا) وقال عن سارة (إنها أختي) وهو صادق في كل ما قاله فهي أخته في دين الله بما أن هذا الكلام يوهم خلاف الظاهر فاستحى واعتذر فقال لست هنالك، ثم يقول إبراهيم [اذهبوا إلى موسى عليه السلام فإن الله قد كلمه فيذهبون إليه فيقول: لست هنالك، ويذكر ذنبه ويستحي وأنه قتل نفساً..] مع أن النفس تستحق القتل لكن كأنه يرى أنه تعجل ولعله كان بالإمكان أن يصلح أمره، ثم يقول: [اذهبوا إلى عيسى فإنه عبد الله ورسوله وكلمته وروحه، فيذهبون إليه فيقول: لست هنالك ولا يذكر ذنباً] أي أنا لست في هذا المقام ولا أتأهل له سواء كان عليّ ذنب أستحي به من الله أم لا، ثم يقول [اذهبوا إلى محمد عليه الصلاة والسلام فإنه عبد صالح قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيذهبون إليه ويقولون اشفع لنا إلى ربك، فيقول صلى الله عليه وسلم أنا لها وأنا صاحبها، فآتي تحت العرش فأسجد فيدعني الله ما شاء أن يدعني ويلهمني محامد أحمده بها لا أستحضرها الآن، ثم يقول لي: يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك واشفع تشفّع، فأقول: اللهم أمتي اللهم أمتي اللهم أمتي] فتنصب الموازين وتنشأ الدواوين.
يقول العبد الفقير وهذا الحديث ورد عن طرق متعددة وبروايات كثيرة من ذلك أن كل نبي لما تطلب منه الشفاعة يقول: [إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ثم يذكر ذنبه ويقول: نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى غيري....] .
وكذلك لما يذهب الناس إلى كل نبي يثنون عليه بما هو فيه فمثلاً يقولون لآدم: [أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك اشفع لنا إلى ربك ... ] .(7/252)
وفي بعض الروايات يعتذر نوح عليه السلام عن الشفاعة فيهم بقوله: [وإنه قد كان لي دعوة دعوتها على قومي ... ] ولا يذكر أنه بسبب سؤاله ما ليس له به علم.
ومن ذلك أيضاً أنه لما يطلب من أي نبي الشفاعة يعتذر فيقول: [لست هنالكم] ، وفي روايات [ليس ذاكم عندي] وفي روايات [لست هناك ولست بذاك فأين الفعلة؟] أي الخطيئة أو الفعل الذي ارتكبه واستحى به من الله، وفي روايات [لست هناك] فقط. وهناك ألفاظ وروايات أخرى يطول ذكرها.(7/253)
وعلى كل حال الحديث الطويل الذي ذكرناه هو ما قد أفادته عدة روايات، وإلا فرواية الصحيحين – وهي الرواية المشتهرة – ليس فيها التصريح بهذه الشفاعة العظمى للقضاء بين الخليقة بل اقتصر رواتها على ذكر شفاعة واحدة أخرى، ولكن يستفاد من نص الحديث في الصحيحين أن شفاعته ستكون للقضاء بين الخليقة بما ذكر في أول الحديث من اغتمام الناس وتضايقهم وكربهم وفزعهم من طول الاجتماع في هذا الصعيد الواحد، ثم إن ابن خزيمة بعد إيراده للحديث في كتابه (كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل) – أي الحديث الذي في الصحيحين – أراد أن يدلل على أن الشفاعة المذكورة فيه إنما هي الشفاعة التي يشفع بها النبي صلى الله عليه وسلم ليقضى بين الخلق حيث بوّب باباً بعد إيراده لرواية الصحيحين فقال: (باب ذكر الدليل على أن هذه الشفاعة التي وصفنا أنها أو الشفاعات هي التي يشفع بها النبي صلى الله عليه وسلم ليقضي الله بين الخلق فعندها يأمره الله عز وجل أن يدخل من لا حساب عليه من أمته الجنة من الباب الأيمن فهو أول الناس دخولاً الجنة من المؤمنين) ثم أورد حديثين يقرران ذلك: الأول: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم، وقال إن الشمس تدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن وبينما هم كذلك استغاثوا بآدم عليه السلام فيقول: لست بصاحب ذلك، ثم بموسى فيقول: كذلك ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم فيشفع ليقضى بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة الجنة فيومئذ يبعثه الله مقاماً محموداً يحمده أهل الجمع كلهم.(7/254)
الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [للأنبياء منابر من ذهب يجلسون عليها – قال – ويبقى منبري لا أجلس عليه ولا أقعد عليه قائماً بين يدي ربي مخافة أن يبعث بي إلى الجنة وتبقى أمتي بعدي فأقول يا رب أمتي أمتي، فيقول الله عز وجل: يا محمد، ما تريد أن تصنع بأمتك؟ فيقول: يا رب عجل حسابهم فيدعى بهم فيحاسبون فمنهم من يدخل الجنة برحمة الله ومنهم من يدخل الجنة بشفاعتي – فما أزال حتى أعطى صكاً برجال قد بعث بهم إلى النار، وحتى إن مالكاً – خازن النار – يقول: يا محمد، ما تركت النار لغضب ربك في أمتك من نقمة] وقد اشترط ابن خزيمة في كتابه هذا ألا يورد إلا حديثاً يرويه عدل عن عدل وبعد صفحات ذكر باباً آخر فقال: (باب ذكر بيان أن للنبي صلى الله عليه وسلم شفاعات يوم القيامة في مقام واحد، واحدة بعد أخرى) ثم قال: "أولها ما ذكر في خبر أبي هريرة رضي الله عنه – ويقصد الحديث الطويل الذي رواه الشيخان أيضاً – وخبر عمر، وابن عباس – وقد تقدم قبل قليل ذكرها – وهي شفاعته لأمته ليخلصوا من ذلك الموقف وليعجل الله حسابهم ويقضي بينهم فرقة بعد أخرى - " ثم ذكر أن الصحابة رضوان الله عليهم ربما اختصروا أخبار النبي صلى الله عليه وسلم إذا حدثوا بها وربما اقتصروا الحديث بتمامه وربما كان اختصاراً بعد الإخبار أو أن بعض السامعين يحفظ بعض الخبر ولا يحفظ جميع الخبر وربما نسي بعد الحفظ بعض المتن فإذا جمعت الأخبار كلها علم حينئذ جميع المتن والسند ودل بعض المتن على بعض، انظر: كتاب التوحيد لابن خزيمة (ص 242-247) . (وهذا الكلام الذي كتبه هو من كلامي أنا وليس للشيخ الطحان أي مسؤولية عنه فما كان فيه من صواب فمن الله وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان والله الموفق) .
وقد أشار الله إلى هذه الشفاعة في كتابه فقال: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً) .(7/255)
وقد فسر (المقام المحمود) بأربعة معان ٍ:
أولها: أنه هو الشفاعة العظمى. قد حكى الواحدي إجماع المفسرين على القول بهذا، وقد روى ابن أبي عاصم في (السنّة) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم [في قوله تعالى: (عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً) قال: الشفاعة] وإسناده ضعيف لكن الحديث صحيح لشواهده وقد حسنه الترمذي.
وروي أيضاً عن كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: [إذا كان يوم القيامة كنت أنا وأمتي على تل، فيكسوني حلة خضراء، ثم يأذن لي تبارك وتعالى أن أقول ما شاء الله أن أقول وذلك المقام المحمود] وإسناده جيد (وهذان الحديثان ذكرتهما أنا ولم يذكرهما الشيخ الطحان) .
ثانيها: أنه لواء الحمد:
ولا تعارض بينهما فهو يحمل لواء الحمد عندما يشفع وتحت لوائه آدم فمن دونه، فإذن لواء الحمد والشفاعة في وقت واحد.
ثالثها: أن المقام المحمود
هو كل خصلة حميدة يحمده عليها الأولون والآخرون في الدنيا والآخرة.
رابعها: أن يجلس معه على العرش
وهذا روي في تفسير الطبري وغيره [أن الله يُجْلِسُ نبيه على عرشه معه وهذا هو المقام المحمود] .
والأقوال الثلاثة الأولي كلها مقبولة، والأخير الرابع جرى حوله كلام حتى أن بعض الأئمة استنكروه.
المحاضرة الثانية والعشرون
والأثر الذي رواه الطبري هو عن مجاهد فهو إذن ليس بمتصل إلى نبينا صلى الله عليه وسلم ولم يثبت عندنا عن طريق موصول صحيح.(7/256)
والمعتمد عند أهل السنة الكرام أن هذا ونظائره إذا ثبت نؤمن به دون البحث في كيفيته، إقرار وإمرار، لكنه كما قلنا لم يثبت مرفوعاً فلذلك نتوقف فيه لا نرده ولا نثبته ونقول بموجبه وأكثر ما يمكن قوله أنه مرسل له حكم الرفع، والمرسل ضعيف لا يحتج به في الأحكام العملية فكيف في أمور الاعتقاد؟ لذلك لا نعتقد بموجبه لأن هذا يحتاج إلى نص ثابت لأنه كما لا يجوز أن تنفي أمراً ثابتاً في العقيدة لا يجوز أن تعتقد ما لم يثبت، فنتوقف فيه ونبين أنه روي أي من جملة الأقوال المروية.
عدد من الأئمة ومن جملتهم الواحدي والرازي وأبو حيان وعدد من المفسرين قالوا، لو ثبت لكان مشكلاً فينبغي أن نطرحه – وأكثر من تبني رد هذا الإمام الواحدي قال: هذا التفسير باطل لا يصح، فالله يقول (عسى أن يبعثك) وهذا يفسر البعث بالقعود والجلوس، والبعث ضد الجلوس فكيف يفسر الشيء بضده؟! هذا الأمر الأول، أما الأمر الثاني: قوله (مقاماً محموداً) وهنا يقول مجلساً، والمقام ما يحصل فيه القيام.
وأنا أقول هذا الأثر لو ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام فيمكن الخروج من هذه الاعتراضات فنقول: (يبعثك) أي يظهرك في مقام محمود وليس المراد منه البعث الذي هو ضد الجلوس والقعود.
والمقام هنا ليس المراد منه أنه ضد الجلوس، بل المراد من المقام المنزلة والرتبة والشرف والفضيلة والفخر، وعلى هذا المعنى يحصل المقام للإنسان إذا جلس أو إذا قعد ولا فرق فليس المراد خصوص قيام أو خصوص قعود وجلوس، وهذا على تقدير ثبوته.
وكان أئمتنا يقولون: لمجاهد قولان غريبان، وأنا أقول ثلاثة أقوال، وهي:
1) هذا الذي ذكرناه: تفسيره للمقام المحمود.
2) قال في قوله تعالى (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) قال: تنتظر الثواب من ربها ولا يراه شيء من خلقه.(7/257)
وهذا الأمر ثابت بإسناد صحيح إلى مجاهد وهي زلة من زلاته وهفوة من هفواته فلترد ولتطرح، ولو نقلت عن صحابي – وحاشاهم رضوان الله عليهم – لطرحت لأجل الحديث المتواتر بأن المؤمنين يرون ربهم في جنات النعيم، يقول ابن كثير بعد نقله لأثر مجاهد هذا: هذا باطل، يقول ابن كثير في تفسيره: (ومن تأول ذلك بأن المراد بإلى مفرد آلاء وهي النعم..... فقد أبعد هذا الناظر النُّجْعَة وأبطل فيما ذهب إليه ... ) .
3- القول الثالث: ولم يذكره العلماء وأضيفه أنا وهو مردود على مجاهد، قال تعالى (فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين) قال مجاهد هذا مثلٌ ضربه الله لهم ولم تمسخ أبدانهم، أي أن المسخ حصل لقلوبهم فصاروا بمنزلة القردة وخستها لا أن أبدانهم مُسِخت حقيقة وهذا باطل قطعاً وجزماً.
ثلاثة أقوال: القول الأول نتوقف فيه، والقولان الآخران – الثاني والثالث – نردهما بلا بلا توقف وكل إنسان يؤخذ من قوله ويترك إلا المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن أخذ بشواذ العلماء ضلّ، ومن تتبع رخص العلماء اجتمع فيه الشر كله، ولذلك مفتي عمان أخذ هذا الأثر عن مجاهد وجعله مثل قميص عثمان، يلوح به في رسالته يقول قال مجاهد: "تنتظر الثواب من ربها ولا يراه شيء من خلقه" نقول له: مجاهد على العين والرأس ونبينا عليه الصلاة والسلام فوق العين والرأس وعندما يتعارض كلام مجاهد مع كلام النبي صلى الله عليه وسلم فبكلام من نأخذ؟!
طبعاً بكلام من لا ينطق عن الهوى، فنقول مجاهد أخطأ فكان ماذا؟ أما نبينا عليه الصلاة والسلام فهل يمكننا أن نقول إنه أخطأ؟!! فأنت يا مفتي بين أمرين إما أن تخطئ النبي صلى الله عليه وسلم وإما أن تخطئ مجاهد!!.(7/258)
فكيف رضيت أن تخطئ النبي صلى الله عليه وسلم واستصعب عليك أن تخطئ مجاهد، وإني لأعجب أعظم العجب لهذا المفتي جاء لأثر مجاهد وجعله هو العمدة في مسألة الرؤية، وأما الأحاديث المتواترة في الموضوع فأَعْرَضَ عنها صفحاً ولم يأخذ بها.
إخوتي الكرام ... للإمام الذهبي رحمه الله - وهو تلميذ ابن تيمية – كتاب اسمه (العلو للعلي الغفار) احرصوا على شرائه ففيه خير كثير والكتاب كله في مسألة واحدة وهي إثبات العلو لربنا العلي.
وقد تعرض فيه لأثر مجاهد في أربعة أماكن في (صـ 94) ، (صـ 99) ، (صـ 124) ، (صـ171) وسأقرأ لكم مكانين فقط من هذه الأمكنة وارجعوا إلى البقية:
أولاً:
في (صـ 94) قال: " [عن مجاهد: (عسى أن يبعثك ربك مقاماً) قال: يجلسه أو يقعده على العرش] لهذا القول طرق خمسة، وأخرجه ابن جرير في تفسيره وعمل فيه المروزي مصنفاً وسيأتي إيضاح ذلك بعد".
ثانيا:
في (صـ 124) قال: "قال المروزي سمعت أبا عبد الله الخفماف يقول: سمعت ابن مصعب وتلا: (عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً) قال نعم: يقعده على العرش".(7/259)
ذكر الإمام أحمد ابن مصعب فقال قد كتبت عنه وأي رجل هو!، ثم قال الذهبي: فأما قضية قعود نبينا عليه الصلاة والسلام على العرش فلم يثبت في ذلك نص – كما قلتُ لكم ما ثبت مرفوعاً إلى نبينا عليه الصلاة والسلام – بل في الباب حديث واهٍ، وما فسَّرَ به مجاهد الآية كما ذكرنا فقد أنكره بعض أهل الكلام، فقام المرْوَزي وقعد وبالغ في الانتصار لذلك وجمع فيه كتاباً، وطرقُ قول مجاهد من رواية ليث بن أبي سليم، وعطاء بن السائب، وأبي يحيى القتات وجابر بن زيد، فمن أفتى في ذلك العصر بأن هذا الأثر يسلّم ولا يُعارض: أبو داود السجستاني صاحب السنن، وكان يقول: من رده فاتهمه – أي أنه من أهل البدع - , إبراهيمُ الحربي (وقع في طبعة المطبعة السلفية بالمدينة لهذا الكتاب الجربي – وهو خطأ) وخلقٌ بحيث أن ابن الإمام أحمد قال عقيب قول مجاهد: أنا منكر على كل ما رد هذا الحديث وهو عندي رجل سوءٌ متهم، سمعته عن جماعة وما رأيت محدثاً ينكره، وعندنا إنما تنكره الجهمية" ثم بدأ يسوق الأسانيد عن مجاهد في قوله السابق الذكر.
وهذه الشفاعة العظمى الثابتة لنبينا عليه الصلاة والسلام، وردت بها أحاديث كثيرة – كما قلت إنها متواترة – وذكرت حديث الشفاعة الطويل، ومن تلك الأحاديث المتواترة:
ما ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فإيما رجل أدركته الصلاة فليصل، وأعطيت الشفاعة، وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة] .
وقد امتازت رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام بأمرين:
أولهما: الختام فهي خاتمة الرسالات.
ثانيهما: العموم عامة لكل الناس وللجن أيضاً.
والمقصود بالشفاعة الواردة في الحديث الشفاعة العظمى فهو الذي يشفع في أهل الموقف بعد أن يعتذر باقي الأنبياء عنها.(7/260)
وثبت في صحيح مسلم وسنن الترمذي وأبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه أنه قال: [أنا سيد ولد آدم يوم القيامة] وفي رواية أبي داود بحذف: [يوم القيامة] ولا تعارض بينهما، فهو سيد مطلقاً في الدنيا وفي الآخرة، لكن متى تظهر السيادة؟ هنا في الدنيا يوجد من ينازعه، وأما هناك فلا يوجد أحد يستطيع أن يدعي أنه سيد، هذا كما قال تعالى: (مالك يوم الدين) وهو مالك الدين والدنيا، لكن هنا يوجد من ينازعه ويقول: لا إله والحياة مادة، و (إنما أوتيته على علم عندي) ، و (هذه الأنهار تجري من تحتي) وأنا ربكم الأعلى فيوجد من يقول هذا، وأما هناك في الآخرة فلا يوجد من يقول هذا كل واحد يقول (ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون) .
إذن سواء حذفت يوم القيامة أو ذكرت لا إشكال، لأنه إذا ذكرت فالسيادة تظهر في ذلك اليوم لعدم المنازع.
ثم قال [وأنا أول من تنشق عنه الأرض] فأول من يبعث هو نبينا عليه الصلاة والسلام.
ثم قال [وأنا أول شافع وأول مشفَّع] وليس بين اللفظين [شافع ومشفع] تكرار، فالشافع هو الذي يطلب الشفاعة لغيره والمشفَّع هو الذي تقبل شفاعته، فنبينا عليه الصلاة والسلام سابق بالأمرين لا يشفع أحد قبله ولا يشفَّع أحد قبله، لأنه لو لم يُشفَّع قبل غيره، فقد يشفع بعض الأنبياء إذن بعد، لكن يجابون قبله فيكون غيره أول مشفّع، فإنه لا يلزم من ثبوت الشفاعة حصول التشفيع فقد يشفع ويؤخر سنة.
ولو قال صلى الله عليه وسلم: أنا أول شافع فقط (ربما توهم البعض أن نبينا عليه الصلاة والسلام يسبق في طلب الشفاعة لكن تؤخر إجابة نبينا عليه الصلاة والسلام، فدفعاً لهذا التوهم قال: كل من الأمرين سيحصلان لي على سبيل الأولية فأنا أول من يشفع وأول من يجاب في قبول الشفاعة، عليه الصلاة والسلام) .(7/261)
وثبت في سنن الترمذي بسند حسن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه، أنه قال [أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا وأنا خطيبهم إذا وفدوا وأنا مبشرهم إذا أيسوا، ولواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر] .
إذن هو أول الناس خروجاً عندما يبعث الناس، وهو الذي يخطب الناس إذا وفدوا على الله عز وجل واجتمعوا وهو مبشرهم إذا أيسوا بطريق الشفاعة العظمى ...
س: بخصوص الدعاء الوارد بعد الأذان (اللهم رب هذه الدعوة التامة ... ) هل يعتبر هذا الدعاء شفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم؟ وإذا كان شفاعة فكيف تكون الشفاعة لخير البرية الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهو الذي نرجو منه أن يشفع لنا عند رب العزة سبحانه وتعالى؟
جـ: هذه الشفاعة منا لنبينا عليه الصلاة والسلام بأن يعطيه الله الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود إنما تحصل بعد إذن من الله، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بذلك فقال [سلوا الله لي الوسيلة] ثم أخبرنا بفضيلةٍ لهذا السؤال وهو أن من سأل الله لنبيه الوسيلة [حلت له الشفاعة] وحلت من الحلول والنزول لا من الحل ضد التحريم، أي نزلت عليه شفاعتي أي استحقها كان الله قال لنبيه عليه الصلاة والسلام: بشر أمتك بأن من سأل لك هذا ستشفع له يوم القيامة، فإذن هذه الشفاعة بإذن من الله عز وجل لنشفع لنبيه صلى الله عليه وسلم في أمر حاصل وثابت.
س: فإن قيل ما فائدة هذه الشفاعة إذن؟
الجواب: لأوضح لكم الجواب أضرب لكم مثالاً مشابهاً:(7/262)
ألم يقل الله سبحانه وتعالى (إن الله وملائكته يصلون على النبي) ؟ يصلون ولم يقل صلوا، وفعل المضارع يفيد التجدد والحدوث، فصلاة الله على نبيه لا تنقطع وصلاته عليه أن يثني عليه في الملأ الأعلى وأن يتحدث بذكره ومحامده (ورفعنا لك ذكرك) فلا يذكر الله إلا ويذكر معه نبيه عليه صلوات الله وسلامه، فماذا قال الله بعد ذلك؟ (يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) وصلاتنا على نبينا عليه صلوات الله وسلامه أن نقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وغيرها من الصيغ نحقق فيها الصلاة على نبينا عليه الصلاة والسلام.
إذن الله يصلي عليه ونحن نقول اللهم صلِّ فما فائدة هذا والصلاة من الله لا تنقطع؟ انتبه!! هذا مثل ما ورد في حديث الشفاعة [حلت له شفاعتي] وهنا فائدة الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم [من صلى عليّ واحدة صلى الله عليه بها عشراً] فصلاة الله حاصلة لنبيه صلينا عليه أوْ لم نصل، لكن فائدة هذا تعود إلينا وذلك حتى ننتفع من هذه القربة، وفائدته لنعلم قدر نبينا عليه صلوات الله وسلامه وهذه فائدة عائدة لنا.
وفائدته لنتحدث بفضائله عليه الصلاة والسلام وفائدة هذا عائدة لنا، وأما هو - صلى الله عليه وسلم – فعالي القدر رفيع المنزلة، الله يصلي عليه وسيعطيه الوسيلة، سواء قلنا هذا أو لم نقل.(7/263)
وفائدته ليغرس نبينا عليه الصلاة والسلام في قلوبنا حبه، وليغرس في قلوبنا أمور الاعتقاد وأنه رسول الله وليغرس في قلوبنا أن الشفاعة ثابتة له، وهذا من أمور الاعتقاد، وليغرس فينا معاني الإيمان أمرنا بأن نقول هذا الدعاء، وإلا لو اجتمع أهل الأرض قاطبة على سب النبي صلى الله عليه وسلم هل ينقص ذلك من قدره؟! لا، فماذا سيفعل العباد له بعد قول الله تعالى (ورفعنا لك ذكرك) ، وماذا سيفعل العباد بعد قول نبينا عليه الصلاة والسلام [آتي باب الجنة] فأستفتح فيقول الخازن: من؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك] .
وكذلك ما فائدة ثناء العباد عليه صلى الله عليه وسلم وما مضرة ذمهم؟
إنما هذا عائد لهم، فنحن لا نسأل هذا لنبينا عليه الصلاة والسلام لكونه غير حاصل ليحصل بدعائنا له إنما هو حاصل ثابت، فإذا كان ثابتاً ليحصل لنا من رواء هذا الأجر والمغنم وغرس عقائد الإيمان في ذلك.
وقد كان أبو هريرة رضي الله عنه إذا رأى غلاماً صغيراً في المدينة يمسح على رأسه ويقول يا بني إن أدركت عيسى بن مريم فسلم عليه، فما مراد أبي هريرة من هذا؟
مراده أن يغرس في قلب هذا الغلام الإيمان بنزول عيسى عليه السلام، وإلا فإن أبا هريرة موقن أن هذا الغلام لن يدرك عيسى بن مريم عليه السلام، لكن هذه لابد من أن تُغرس في القلوب بأساليب مختلفة، تارة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنا أول شافع وأول مشفَّع، وتارة يقول [سلوا الله لي الوسيلة] فمن سألها لي [حلت له شفاعتي] ، إذن هذا ليحصل لنا الإيمان بالشفاعة لأنها من أمور الاعتقاد وليحصل لنا الأجر ولتتعلق قلوبنا بنبينا عليه الصلاة والسلام، ولا شيء يغرس الإيمان في القلوب كالتكرار.(7/264)
وهنا طلب الشفاعة من هذا الباب وهو كذكر الله وعبادته فالفائدة تعود لنا، وإلا من المستفيد من قولنا: لا إله إلا الله، سبحان الله، الله أكبر، نحن أم الله؟ نحن، فلسانك يتلذذ وقلبك يخشع وينتعش ونفسك تتنور، وتحصل على أجر بعد ذلك في الدنيا والآخرة وليس معنى أنه إذا ذكرنا الله وأثنيا عليه يرتفع قدره، وإذا كفرناه ينقص؟ حاشاه بل فائدة هذا تعود لنا كما قلنا، ولذلك يقول الله تبارك وتعالى فيما يرويه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: [يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً] .
وللتقريب أقول لكم ولله المثل الأعلى: لو دخلت أنت على مدير مثلاً فقلت له السلام عليك أيها المدير، ودخل آخر وقال السلام عليكم، فقط فإنك ستجد أن المدير يرحب بك ويكرمك أكثر من الآخر لأنك بكلمتك هذه أظهرت له أنك تعترف وتقر بأنه مدير وليس معنى ذلك أنك إن لم تقل له ذلك أنه فُصِل لكن لكلمتك اعتبار في الخاطر، إذن ففائدة هذه الكلمة تعود إليك ولا ينتفع منها المدير أبداً.
الحاصل أن فائدة سؤال المقام المحمود لنبينا عليه الصلاة والسلام عائدة لنا ونحن الذين سننتفع من وراء ذلك والله أعلم.
2- استفتاح باب الجنة:
وطلب الشفاعة بفتحها فلا تفتح أبواب الجنة حتى يشفع نبينا عليه الصلاة والسلام بفتحها فتفتح له.
وقد ثبت هذا في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم وهو أول حديث في الجامع الصغير – عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [آتي باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن من؟ فأقول: محمد، فيقول: بل أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك] .(7/265)
فالجنة لا يدخلها أحد ولا تفتح لأحد من متقدمين ومتأخرين حتى يشفع نبينا عليه الصلاة والسلام بفتح أبواب الجنة فيأتي ويستأذن ويطلب من الله الدخول، ثم يدخلها أهلها بعد أن يدخلها نبينا عليه الصلاة والسلام.
وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث أنس أيضاً عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه أنه قال: [أنا أول من يقرع باب الجنة] ، هذه هي الشفاعة الثانية من الشفاعات الخاصة بنبينا عليه الصلاة والسلام.
3- إدخال قوم الجنة بغير حساب:
فيشفع لهم إلى الكريم الوهاب فيدخلون الجنة بغير حساب، ولا ينشر لهم ديوان ولا ينصب لهم ميزان.
نسأل الله أن يمن علينا بالجنة إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين وأما أن تتعلق همتنا بأن نكون من هؤلاء، فوالله إننا لنستحي من ربنا أن يعلم منا أننا نتطلع إلى هذه المراتب، وكل واحد يعرف نفسه (بل الإنسان على نفسه بصيرة) ، فنسأل الله حسن الخاتمة.(7/266)
وقد ثبت هذا في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه قال: [عُرِضت عليّ الأمم] أي مثلت له وكيف ستعرض يوم القيامة [فرأيت النبي ومعه الرُّهَيْط] تصغير رهط وهي الجماعة دون العشرة [والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد، إذ رُفع لي سوادٌ عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فنظرت فإذا سوادٌ عظيم فقيل لي: هذه أمتك، ومنهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم نهض، فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال بعضهم فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يُشركوا بالله شيئاً، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما الذي تخوضون فيه؟ فأخبروه، فقال: هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون، فقام عكاشة بن مِحصَن فقال ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم، ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: سبقك بها عكاشة] هذه الرواية من مختصر صحيح مسلم.
ومحل الشاهد هو طلب عكاشة من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون منهم فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم [أنت منهم] ونبينا عليه صلوات الله وسلامه لا ينطق عن الهوى، فشفع إلى الله فأخبره الله أن عكاشة من هؤلاء.
وقد ورد في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [اللهم اجعله منهم] وورد في بعض الروايات أن عكاشة قال بعد أن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أوصاف السبعين ألف، قال: [أمنهم أنا يا رسول الله؟ قال نعم] .
إذن هنا شفع نبينا عليه الصلاة والسلام لعكاشة وسيشفع لهؤلاء بأن يدخلوا الجنة بغير حساب، هؤلاء لهم الأعمال الجليلة وهي:(7/267)
أولاً: (لا يكتوون) أي لا يسألون غيرهم أن يكويهم، والكي معروف وقد ثبت في صحيح البخاري عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [الشفاء في ثلاثة: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنهى أمتي عن الكي] .
والمراد بقوله [شرطة محجم] : أي الحجامة، فيشرط الجلد ويشق وبعد ذلك يمص الدم، فأما [وأنهى أمتي عن الكي] والسبب في ذلك أنه فيه ما يشبه تعذيب الناس في جهنم، فجهنم نار وعندما يكتوي الإنسان كأنه عذب نفسه بالنار، ثم إن هذا العلاج لم يتعين عليك فما أكثر العلاجات التي يعالج بها المخلوقات، فما الذي ألجأك إلى أن تكتوي بالنار، يضاف إلى هذا أن العلاج بالكي قد ينتج عنه أذىً، وقد اكتوى بعض الصحابة – وغالب ظني أنه سعد بن عبادة ولا أستحضر اسمه بالضبط الآن – لكن الأثر ثابت – اكتوى فمات من أثر الكي، وكان قد اكتوى في رقبته. فإذن أحياناً قد يكتوي الإنسان ويتضرر، وقد يصبح هناك تشويه للجسم والجلد، ولذلك [أنهى أمتي عن الكي] .
ثم إن أئمتنا قالوا: الكي دواء موهوم، وليس بمظنون، ولأمور ثلاثة:
1) مقطوع به وهو سبب لحصول المراد.
2) مظنون به وهو سبب – في الظن الغالب – لحصول المراد.
3) موهوم لا حقيقة فيه.
فأما الأمر الأول: المقطوع به فيجب عليك أن تأخذه مثل الغِذاء، فلو تركت الطعام حتى مت تدخل النار، ولو قال إنسان: أنا أتوكل على الله ولا آكل فمات فهو من أهل النار.
وأما الأمر الثاني: المظنون: وهو سائر أنواع العلاجات – غير الكي والرقية – إذا كانت غلبة الظن في الشفاء.(7/268)
ومعظم العلاجات التي تجري الآن في المستشفيات كلها من باب الظن لا من باب القطع الأخذ بها جائز وتركها أحسن وأفضل، وعدم التداوي عزيمة والتداوي رخصة، فمثلاً إذا أرادوا أن يجروا له عملية جراحية بأن قالوا له: في بطنك آفة لا تشفى منها إلا بعملية جراحية، فهذا مظنون، لأنه قد يفتح بطنه ويموت وقد يخطئ الطبيب في تشخيص الداء، وقد يخطئ في وصف الدواء وما شاكل هذا، فلو قال المريض: لا تفتحوا بطني، أموت على فراشي إذا جاءتني المنية ولا أريد العلاج لكان أفضل، ولو قال: افتحوه وأنا أتوكل على الله ومات فليس عليه إثم.
وأنا أعرف بعض إخواننا من الطلاب في كلية أصول الدين في أبها أصيب بالسرطان – نسأل الله العافية – وهو في سنة أولى أصول الدين، ودرسته الفصل الأول وأصيب في الفصل الثاني وسرى السرطان في كفيه ثم انتشر بعد ذلك إلى ذراعه فعرضوه على الأطباء فقالوا لابد من بَتْر يده من الكتف، لأن علامات السرطان بدأت تمشي وتنتشر، فجاءني إخوته فقالوا لي: ما رأيك؟ فقلت: رأيي أن لا تعالجوه بقطع يده، دعوه لقدر الله، فإذا قدر الله له أن يموت فكل نفس ذائقة الموت، وإذا شفاه الله بغير علاج فهو على كل شيء قدير، لكن من ناحية الجواز جائز قطعاً، إنما أقصد أن يده تقطع من الكتف ثم بعد ذلك النتيجة ليست محققة بل هي غلبة ظن لكن ثم رأي الأهل بعد مدارسات على بتر يده فقطعت وبعد شهر توفي رحمه الله، لأن السرطان انتشر في سائر جسده حيث كان انتشاره خفياً ولم يكشفه الأطباء.(7/269)
وأعرف آخر أيضاً – بعده – من إخواننا، انتشر السرطان في معدته وكبده – نسأل الله العافية – وقرر بعد ذلك إجراء عمليات فجلس الأطباء – كما يقال يلعبون به – وهم أطباء من أعلى التخصصات يعملون له عملية في أبها على يد أمهر طبيب هناك، ثم أجريت له عملية أخرى في الرياض في أحدث مستشفى هناك تقريباً وهو مستشفى فيصل التخصصي – وأجرى عمليات خارج السعودية، لكنه مات بعد ذلك بعد أن جئت إلى رأس الخيمة، وما نفعه أحد من هؤلاء الاختصاصيين، وعلمت بوفاته عن طريق الاتصال بأبها والسؤال عنه، عليهم جميعاً رحمة الله. وما أعطى الناس من اليقين والإيمان خيراً من الصحة.
إذن هذا مظنون إن أخذه لا حرج عليه وهو جائز، وإذا تركه جائز والترك أولى. وأنا أنصحكم ألا تلجأوا إلى عمليات، خصوصاً عمليات فتح البطن ولو استدعى بكم ذلك إلى الموت هذه نصيحة لا من باب أن هذا واجب، لأنه في الغالب عندما يفتح البطن تحصل مضاعفات اشد مما كانت ولا يعود الإنسان إلى طبيعته إذا فتح بطنه، بل تلازمه الآفات حتى يُلقى في الحفرة ميتاً، فاصبر على ما أنت عليه إذا قدر الله لك الحياة فالحمد له، وإذا قدر لك الموت فالموت لا يُخوِّف، وكل نفس ذائقة الموت، نسأل الله حسن الخاتمة.
وأما الأمر الثالث: الموهوم، وهو كالكلي فهو وهمي ليس بمظنون، فهو شيء من تضخيم الأمر وتوهمت أن الكي فيه علاج مع أنه توجد أدوية أخرى تنوب عنه ليس فيها مضرة الكي، ثم قد يوسع دائرة الضرر عليك عندما تتداوى به – كما ذكرنا.
ثانياً (لا يتطيرون) : أي لا يتشاءمون بالطيور والأسماء والألفاظ والبقاع ونحوها، فالتطير والتشاؤم موهوم فاتركه وابتعد عنه.
وقد ثبت في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً [الطيرة شرك الطيرة شرك] وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. (هذا الحديث من زياداتي) .(7/270)
ثالثاً: (لا يسترقون) : أي لا يطلبون الرقية، والرقية معروفة، وقد ورد في صحيح مسلم في رواية [ولا يرقون] ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "هذه الزيادة وهم من الراوي، لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم ولا يرقون".
والرواية التي معنا وهي في الصحيحين أيضاً: [لا يسترقون] والذي يظهر لي – والعلم عند الله – أن كلاً من الروايتين ثابت، والإمام ابن تيمية عليه رحمة الله واهم في رد تلك الرواية.
وهو يقول: لا يسترقون: أي لا يطلبون الرقية من غيرهم لأن هذا ينافي التوكل، أما أنه يرقي غيره فلا حرج لأن هذا من باب نفع الغير،
نقول والله أعلم – ما في الاسترقاء موجود في الإرقاء، فعندما يأتي غيرك ليرقيك ينبغي أن تمتنع إن كان هذا ينافي التوكل، وأنت لا ينبغي لك أن ترقيه إن كان هذا ينافي التوكل.
والأصل أن الرقى الشرعية جائزة، فما الحكمة من أن السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب لا يرقون ولا يسترقون مع أنها جائزة وحالها كحال العلاجات الأخرى؟
الذي يبدو لي – والعلم عند الله – وما رأيت من نبه على هذا من أئمتنا وقد رأيتهم يحومون حول الحديث فأقول:
أولاً: الذي يسترقي فهو وإن كان يطلب علاجاً شرعياً، لكنه قد يضع في قلبه – لا أقول شرك – أن هذا الإنسان له مزية ودعاءه له أثر، وهو عند الله معتبر فإذن كأنه صار فيه شيء من رجم الغيب، وكأنه صار فيه شيء من الاعتماد على الرقية وعلى الراقي، لذلك تحد أنك لا تأتي تطلب الرقية إلا من أناس معينين.(7/271)
ونحن نقول إنه يعتقد في الراقي أنه يشفي لا، لأنه لو فعل هذا لأشرك، بل نقول صار في توكله شائبة وهذا بخلاف ما لو وصف لك الطبيب دواءً حسياً فهنا لا أثر له على توكلك ولا تتعلق به نفسك، وتتناوله كما تتناول الطعام، وأما الرقية فليست شيئاً حسياً فإنه يقرأ الفاتحة مثلاً وسورة الفلق والناس وآية الكرسي ويدعو فيقول (اللهم رب الناس أذهب الباس اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك ... ) وينفث عليه، فقد يقع – بالتالي – في نفسك شيء من الأثر.
ثانيا: الراقي: فهو عندما يرقي أيضاً كأنه صار في نفسه شيء يقدح في توكله من حيث أنه يرى أنه صار له شيء من المزية والمكانة حتى صار يرقي، ولذلك نقول لا حرج في رقية نبينا عليه الصلاة والسلام لغيره لأنه مزيته ثابتة وهو خير خلق الله، وسيد ولد آدم وأما من عداه فهل يستطيع أن يجزم لنفسه بمزية؟ وهل يستطيع أن يقول: أنا رجل مبارك ودعائي له أثر؟!! لا يستطيع، وبالتالي من رَقَى فكأنما صار في نفسه هذا المعنى، والعلم عن الله.
ومما ينبغي أن نعلمه أن هؤلاء السبعين ألفاً ليسوا أفضل من غيرهم بإطلاق، فانتبهوا فإن المزية لا تقتضي الأفضلية، فقد يكتوي صديق ويحاسب وهو عند الله أعلى منزلة من هؤلاء فهذه ميزة لهؤلاء فقط أن يدخلوا الجنة بغير حساب، ولا يلزم أن تكون منزلتهم أعلى من غيرهم.
ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الوصف والأصل الجامع الذي تفرعت عنه هذه الأفعال والخصال فقال: [وعلى ربهم يتوكلون] .
وقد ورد أيضاً وصف آخر وقيد آخر، لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون، ووصف آخر يخرجون من البقيع، فهذه خاصة بمن يدفن في البقيع بالمدينة المنورة.(7/272)
ثبت هذا في رواية الطبراني من حديث أم قيس بنت محصن عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: [يحشر من هذه المقبرة – وأشار إلى البقيع سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب كأن وجوههم القمر ليلة البدر] إذن لهم شرطان: الأول: فعلهم فهم لا يسترقون ولا ولا والشرط الثاني: مكانهم: فهذا خاص بمن يتوفى بالمدينة ويدفن في البقيع.
وأما من عداهم فقد يحاسب ويكون أعلى درجة منهم، وقد ورد لهذا شاهد، فقد ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح ابن خزيمة وصحيح بن حبان – والحديث صحيح – عن رفاعة الجهني عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه أنه قال: [وعدني ربي أن يدخل من أمتي سبعين ألفاً الجنة بغير حساب، وأنا أرجو ألا يدخلوها حتى تتبوءوا أنتم ومن صلح من أزواجكم وذرياتكم مساكن في الجنة] .
إذن أنتم تدخلون قبلهم وتتبوءوا المنازل، لكن هم لهم خصوصية الدخول بغير حساب.
المحاضرة الثالثة والعشرون
تنبيه: لا يشفع النبي صلى الله عليه وسلم للسبعين ألفاً كلهم ليدخلوا الجنة بغير حساب، بل يشفع لبعضهم ليكونوا منهم ويدخلوها بغير حساب، والبعض الآخر يكونون منهم ويدخلوها بغير حساب السبب ما جرى منهم من أعمال وبفضل الله عليهم.
أي أن هذا النوع من الشفاعة – أي الثالث – لا يثبت لغير نبينا عليه الصلاة والسلام، فلا يوجد أحد يشفع لغيره في أن يدخل الجنة بغير حساب، ولم نورد حديث ابن عباس هنا لإثبات شفاعته صلى الله عليه وسلم للسبعين ألفاً بل لإثبات شفاعته لعكاشة ابن محصن، وكيف شفع له النبي صلى الله عليه وسلم فصار من هؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب.
فائدة:(7/273)
هؤلاء السبعون ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ورد عن نبينا عليه الصلاة والسلام ما يشير إلى أن مع كل ألف منهم سبعون ألفاً أيضاً، ورد الحديث بذلك في سنن الترمذي وابن ماجه ومعجم الطبراني الكبير وصحيح ابن حبان – والحديث صحيح – عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً بغير حساب ومع كل ألف سبعون ألفاً] .
فالسبعون ألفاً اقسمها على ألف يصبح معك سبعون، ثم اضرب السبعين هذه بسبعين ألف (أخرى غير الأولى) يصبح معك أربعة ملايين وتسعمائة ألف (4.900.000) يدخلون الجنة بغير حساب بفضل الله ورحمته.
وثبت في صحيح ابن حبان ومعجم الطبراني الكبير عن عتبة بن عبيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ثم يشفع كل ألف في سبعين ألفاً ثم يحثي ربي ثلاث حثيات] . ونسأل الله أن لا يبقى أحد من أمة نبينا عليه صلوات الله وسلامه إلا ويخرج بهذه الحثيات.
و (الحثية) ملء الكفين.
فيحثو ربنا ثلاث حثيات من هذه الأمة ويدخلهم الجنة بفضله ورحمته، [ثلاث حثيات] إقرار وإمرار، لا نبحث في كيفية هذه الحثيات.
المحاضرة الرابعة والعشرون
س: هل السبعون ألفاً الذين يدخلون الجنة مع كل ألف لابد أن تكون فيهم نفس الصفات المذكورة في السبعين ألفاً الأصليين؟
جـ: لهذا العدد الذي يدخل مع السبعين ألفاً هم يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب قطعاً كحال السبعين ألفاً المتقدمين، لكن هل يعملون بمثل عملهم أم لا؟ يحتمل الأمر الأمرين، ولم يرد ما يدل على واحد منهما عن نبينا عليه الصلاة والسلام:
أ) فيُحتمل أنه لابد من وجود هذه الصفات الخمس فيهم (لا يكتوون ولا يسترقون، ولا يرقون، ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون) .
فإن قيل: إذا وجدت فيهم هذه الصفات الخمس فلمَ لم يكونوا من السبعين ألفاً؟(7/274)
نقول: اعلم أن كل أمر له شروط لابد من وجودها، وموانع لابد من انتفائها لحصول ذلك الأمر، فهؤلاء السبعون ألفاً الآخرون قد توجد فيهم هذه الصفات كلها لكن لعله عندهم نقص في صفات أخرى، افرض مثلا ً– وكل بني آدم خطاء – أن عندهم نقصاً أحياناً في تأخير بعض الصلوات، فهم لم يحصّلوا جميع الشروط المطلوبة، إذن هذا الوصف – وهو دخول الجنة بغير حساب – لمن التزم بالأوامر والنواهي فعلاً وتركاً وحافظ بعد ذلك على هذه الصفات الخمس، إذ أنه عندنا شروط خاصة وشروط عامة، وشروط عامة هي الالتزام بكل مأمور وترك كل محظور، (انظر فتح الباري 11/410) .
ب) ويحتمل أن يكون هؤلاء السبعون ألفاً الآخرون ليس فيهم صفة من هذه الصفات الخمس أو فيهم تفريط في بعض الصفات، فتوكلهم ليس بالدرجة الكاملة التي يقوم بها الراسخون في التوكل فربما رقوا أو استرقوا أو صدر منهم أحياناً تطير، فيمكن أن يكون قد وجد فيهم شيء من هذا.
إذن لعله وجدت فيهم الصفات الخاصة كلها لكن تخلف فيهم بعض الصفات العامة ولعله وجدت فيهم الصفات العامة لكن الصفات الخاصة لم توجد بالكلية أو وجد بعضها، ولا يوجد دليل يوضح ذلك فالمسألة تحتمل الأمرين والعلم عند الله.
4- شفاعته صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب:
هذه هي آخر الشفاعات الخاصة لنبينا عليه الصلاة والسلام، وهي خاصة بعمه فقط، والسبب في ذلك أن أبا طالب مات على الكفر، والله أخبرنا عن الكفار – كما تقدم – أنه لا تنفهم شفاعة الشافعين (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) ، فالكافر إذن لا تنفعه شفاعة باستثناء أبي طالب.
والله سبحانه يقول في سورة البقرة (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون) أما هذه فخاصة فإنه يخفف عن أبي طالب، لكن لا يخرج من النار.
فإن قيل: كل كافر لا يخفف عنه فلماذا أبو طالب يخفف عنه؟(7/275)
نقول: شفاعة خاصة لنبينا عليه الصلاة والسلام بأبي طالب فتنفعه شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم مع أن الله قال (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) ، ويخفف عنه العذاب مع أنه أخبر عن الكفار أنه (لا يخفف عنهم العذاب) .
وهذا دل عليه أحادث النبي صلى الله عليه وسلم:
ففي الصحيحين وغيرها عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه أنه قال [أهون أهل النار عذاباً أبو طالب، يوضع في أخمص قدميه جمرتان من نار جهنم يغلي منهما دماغه، وإنه لأهون أهل النار عذاباً، ويرى نفسه أنه أشد أهل النار عذاباً]
(أَخْمص) على وزن أَحْمر، وهو الانخفاض الذي يكون في وسط القدم من الأسفل.
وقد ثبت في الصحيحين أيضاً وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه [أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم أرأيت عمك أبا طالب، كان يحوطك وينصرك فهل نفعه ذلك؟ فقال: نعم، كان في غمرات من نار، فأخذته] أي بشفاعته عليه الصلاة والسلام [فوضعته في ضحضاح من نار] ، وروي الحديث عن العباس رضي الله عنه أيضاً.
(كان في غمرات من نار) أي كان يخوض فيها وتغطي رأسه كأنه يسبح في نار جهنم.
(ضحضاح) أصل الضحضاح الماء القليل كالذي يخوض فيه الأولاد ولا يجاوز كعبيهم ولا يُخشى منه غرق ولا تلف.
فهذه شفاعة خاصة نؤمن بها ونثبتها لنبينا عليه الصلاة والسلام.
إذن هذه أربع شفاعات خاصة لا يشاركه فيها أحد من المخلوقات.
وأما الشفاعات العامة المشتركة بينه عليه الصلاة والسلام وبين غيره من الشافعين: من الملائكة المكرمين ورسل الله وأنبيائه المباركين والصالحين إلى يوم الدين.
1- شفاعة أهل الجنة في قراباتهم اللذين دخلوا الجنة، لكن منزلتهم دون منزلتهم:
فيشفعون لهم فيرفع الله درجة النازل إلي درجة العالي دون العكس، فلا ينزل العالي إلى درجة النازل، فالزوج يشفع لزوجته والزوجة لزوجها، والابن لأبيه والأب لابنه وهكذا بقية الأقرباء.(7/276)
ونبينا عليه الصلاة والسلام له أعلى درجة في الجنة فسيشفع لزوجاته قطعاً وجزماً، ليكنّ معه، وهل يتصور أن تكون أمهاتنا زوجات نبينا عليه الصلاة والسلام في مكان منفرد عنه؟!! وهنّ كما كن معه في الدنيا فهنّ معه في الآخرة.
لكن هل وصلن إلي ذلك بعملهن؟ أم بشفاعة خير خلق الله لهن؟
بل بشفاعته لهن صلى الله عليه وسلم.
لكن هل يلزم من هذا تفضيل أمهات المؤمنين على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وهم سيكونون دون أمهات المؤمنين في المنزلة قطعاً وجزماً؟
فمنزلة عائشة رضيَّ لله عنها فوق منزلة أبيها أبي بكر، لكن أباها أفضل منها وكيف هذا؟!
نقول: لا تعارض لأن المزية لا تقتضي الأفضلية، فهي أعلى منه في الدرجة ولم تستحقها أصالة إنما تبعاً لزوجها نبينا عليه الصلاة والسلام، ولا يشترط لوجودها في تلك الدرجة أن يحصل لها من النعيم والتجليات ما يحصل للنبي عليه الصلاة والسلام وما يغدق على النبي عليه الصلاة والسلام من نعيم وأعظمه التجلي لله ورؤيته لا يشترط أن يحدث لهن هذا.
وأبو بكر درجة أنزل من درجة أمهات المؤمنين لكن النعيم الذي يحصل له أكثر مما يحصل لهن، لأن كل واحد ينعم على حسب حاله – إن رفع – فهو في المنزلة مع صاحبه وقريبه لكن هذا ينعم بما لا ينعم به ذاك وكل واحد في شغل فاكهون.
وأضرب لكم مثلا ً حسياً لأقرب لكم هذا ولله المثل الأعلى، الأمير عنده من يصب القهوة والشاي وهذا يدخل عليه ويختلط به كثيراً بل هو في غالب الأحيان يجلس في مجلسه ويقابله وجهاً لوجه ويخالطه بكثرة، فهل هذا الخادم يشعر بالمكانة التي يشعر بها الأمير وله من المنزلة ما للأمير؟.(7/277)
وفي المقابل هناك آخر عند الأمير مثلاً وزير فهو بعيد عن الأمير وقد لا يلتقي به في الشهر إلا مرة، لكن له من المنزلة ما ليس للخادم، فالذي يصب القهوة حصلت له مزية على غيره من الناس بأنه يجتمع مع الأمير صباح مساء، لكن هل يقتضي هذا أنه أفضل من الوزير؟!! لا يقتضي هذا فالمزية لا تقتضي الأفضلية.
س: بالنسبة لمنزلة أبي بكر رضي الله عنه. نعلم أنه أفضل هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فهل يعني هذا أن منزلته يوم القيامة أعلى من الأنبياء والرسل أومن بعضهم، لأنه هو الذي يليه؟!
ج: نقول إن منزلة كل نبي أعلى من غيره مهما علا شأنه وفضله فمنزلة أدني الأنبياء منزلة أعلى من رتبة أعلى الصديقين وأفضلهم، فرتبة أبي بكر الصديق بعد نبينا عليه الصلاة والسلام في هذه الدنيا فقط، ونحن نقول هذا لأجل إثبات فضيلته ومنزلته في هذه الأمة، لا في الأمم، فمنزلة الجنة موضوع آخر، نبينا عليه الصلاة والسلام ثم خليل الرحمن ثم بقية أولو العزم من الأنبياء على ترتيبهم ثم يأتي بعد ذلك أعظم الصديقين من الأولين والآخرين أبو بكر.
س: ما المانع من أن يشفع الرسول صلى الله عليه وسلم لصاحبه حتى يكون معه في نفس المنزلة؟
جـ: لا يمكن هذا، لأن درجة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة لا يشاركه فيها أحد غيره، ودونه الأنبياء والمرسلين عليهم السلام ولا يمكن لصديق أن تكون درجته أعلى من درجة نبي، فهي درجة عالية وكلهم يأخذون قربهم من ربهم على حسب درجاتهم وأعمالهم، فدرجة نبينا عليه الصلاة والسلام أعلى الدرجات تليه درجة خليل الرحمن ثم بقية الرسل أولي العزم المكملون للخمسة نوح وموسى وعيسى عليهم السلام وبعد ذلك الرسل علي حسب ترتيبهم كما ذكرنا لكن مع كل رسول أهله ولابد، تبعاً لا أصالة.(7/278)
وأما إذا أردت أن تسحب هذا الآن فالنبي صلى الله عليه وسلم يشفع لأبي بكر وأبو بكر يشفع لأسرته وبالتالي صاروا كلهم فوق منزلة أنبياء الله ورسله، هذا لا يحصل فذاك له مقام وهذا له مقام والعلم عند ربنا الرحمن.
وقد ألف ابن حزم كتاباً سماه (المفاضلة بين الصحابة) وجزم في كتابه بأن أمهات المؤمنين أفضل هذه الأمة بعد نبينا عليه الصلاة والسلام.
فقال: خديجة وعائشة وسائر أزواج نبينا عليه الصلاة والسلام أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي فقيل له من أين لك هذا؟
فقال: نحن نعلم ضرورة أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم معه في الجنة، ونعلم ضرورة أن منزلة النبي صلى الله عليه وسلم أعلى من منزلة أبي بكر فمن دونه، فيلزم من هذا أن تكون منزلة زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ورتبتهم أعلى من منزلة أبي بكر ورتبته.
فقال له أهل السنة كلاماً قطعوه به وأبطلوا قوله قالوا: يلزم من قولك أن تكون أم رمان وهي زوجة أبي بكر أفضل من عمر؟
قال: لا. قالوا له بطل قولك.
إذن زوجاته معه صلى الله عليه وسلم، لكن لا يلزم من هذا أنهن أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. وقد اتفق أهل الحق على تفضيل الشيخين بعد نبينا عليه الصلاة والسلام بلا خلاف عند أهل السنة فخير هذه الأمة بعد نبينا عليه الصلاة والسلام أبو بكر ثم عمر، واختلفوا في عثمان وعلي، والمعتمد عند جمهور المحدثين: ثم عثمان رضي الله عنه ثم علي رضي الله عنه.(7/279)
فهن لهن هذه المزية ولهن أيضاً مزية أخرى حيث امتزن بخلطة النبي صلى الله عليه وسلم، وصحبته بما لم يحصل هذا لأبي بكر، ونقصد العشرة التي حصلت بين نبينا عليه الصلاة والسلام وبين عائشة لم تحصل هذه لأبي بكر ولا لعمر، فهي عشرة خاصة تطلع فيها هذه المرأة على نبينا عليه الصلاة والسلام، فهذه مزية تذكر لها وتعرف بها، لكن لا يقتضي أنها أفضل من أبي بكر رضي الله عنه، ولو جمعت الفضائل والمزايا والخصوصيات التي في أبي بكر، والفضائل والمزايا التي في أمنا عائشة أو في غيرها، لوجدت أن أبا بكر يفوق على غيره ممن له مزايا، وأنه يفوق غيره من الصحابة والصديقين.
وابن حزم – رحمه الله – هو صاحب شذوذ كثير مع علم كبير فلنطرح شذوذه الذي يخالف فيه أهل السنة ولنأخذ بعلمه فيما عدا ذلك.
وكان أئمتنا يقولون: "هو كالبحر يقذف بالدرر، ويرمي بالجيف" فالجيف اتركها واطرحها وخذ الدرر منه، ومن جملة ما شذ فيه وخالف فيه إجماع العلماء واتفاقهم، إباحته للمعازف والمزامير، ويطعن في حديث البخاري في ذلك [ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف] , ويقول هذا الحديث ضعيف لأنه معلق، وذلك أن البخاري لما رواه قال: قال هشام بن عمار ولم يقل حدثنا، وهشام بن عمار من شيوخ البخاري عليهم جميعاً رحمة الله، وإذا روى التلميذ عن شيخه بـ (قال) أو بـ (عن) أو بـ (سمعت) ونحوها فهذه الصيغ كلها تحمل على السماع إن لم يكن التلميذ مدلساً، والبخاري ليس بمدلس قطعاً وجزماً، وقوله قال هشام كقوله سمعت هشام.
واجزم على التحريم أي جزم ... والحزم ألا نتبع ابن حزم
ويقول الإمام العراقي:
وإن يكن أول الإسناد حذف ... مع صيغة الجزم فتعليقاً عرف
ولو إلى آخره، أما الذي ... لشيخه عزا بقال فكذي
عنعنه، كخبر المعازف ... لا تصغ لابن حزم المخالِف
س: المرأة إذا تزوجها أكثر من واحد لمن تكون؟
ج: لعلمائنا ثلاثة أقوال وردت فيها والمعتمد منها آخرها:
فقيل: تكون للزوج الأول.(7/280)
وقيل: تكون للزوج الأخير.
وقيل – وهو المعتمد – كما في المسند وغيره والحديث في درجة القبول – وأمنا أم سلمة رضي الله عنها تسأل عن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [تكون لأحسنهم خلقاً، ذهب حسن الخلق بخيري الدنيا والآخرة] فتخير يوم القيامة بين من تزوجها لتختار من كان يُحسن عشرتها.
إذن الشفاعة الأولى شفاعة أهل الجنة لقراباتهم، وقد ورد في كتاب الله ما يشير إلى هذا قال جل وعلا في سورة الطور (والذين آمنوا واتبعهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء) .
(ما ألتناهم) أي ما أنقصناهم فنلحق النازل بدرجة العالي دون العكس.
وثبت في مستدرك الحاكم (2/468) بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنه قال: [إن الله يرفع ذرية المؤمن معه في الجنة، وإن كانوا دونه في العمل، ثم قرأ (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان.....) الآية] والأثر موقوف على ابن عباس وله حكم الرفع لأنه يتعلق بمغيب ولا يمكن للعقل أن يستنبط هذا.
وقد ورد هذا في مسند البزار مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن عباس أيضاً، انظر مجمع الزوائد (7/114) وزاد بعد قوله في العمل [لتقرّ بهم عينه] ، وهو صحيح أيضاً.
وورد في معجم الطبراني الكبير والصغير تفسير ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده، فيقال إنهم لم يبلغوا درجتك، فيقول: يا رب، عملت لي ولهم، فيؤمر بإلحاقهم به، ثم قرأ: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان.....) الآية] ، وهذا الأثر ضعيف، لأنه من رواية محمد بن عبد الرحمن بن غزوان وهو ضعيف، لكن يشهد له الأثران المتقدمان.
وهذا التفسير هو أحد تفسيرين في الآية المتقدمة، على أن المراد من الذرية هنا: الأهل الكبار، وقيل - وهو التفسير الثاني – المراد من الذرية الأولاد الصغار.(7/281)
وقد ثبت في مسند الإمام أحمد بسند حسن عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه أنه قال [إن المؤمنين وأولادهم في الجنة، ثم تلا (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان.....) ] وهذه هي الآية الثانية التي تدل على أن أولاد المؤمنين في الجنة وتقدمت معنا الآية الأولى ص225 وهي (كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين) .
ويقول الحافظ بن حجر عن الحديث الذي في مسند الإمام أحمد المتقدم وهذا خير ما فُسِّرت به الآية، والإمام الشافعي مال إلى أن أولاد المؤمنين في الجنة ورجحه في أحكام القرآن، وعدد من الأئمة واستدلوا بهذه الآية على أن أولاد المؤمنين الصغار في الجنة.
ونحن نقول: الأمران، فالأولاد مع أبويهم إذا لم يبلغوا التكليف، والذرية تكون مع آبائهم إذا كانوا كباراً أيضاً إذا لم يؤهلهم عملهم لارتفاع درجتهم إلى درجة الأبوين، أو العكس، فقد يكون الأولاد في درجة أعلى من الآباء، فيرفع الله الآباء إلى درجة الأبناء، وهكذا الزوجين، ليكتمل السرور والأنس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم [لتقرَّ بهم عينه] ، والعلم عند الله.
2- الشفاعة في قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم بدخول الجنة:
من رجحت حسناته على سيئاته: يدخل الجنة، ومن رجحت سيئاته على حسناته: يدخل الجنة حتى يطهّر ويعذب ما لم تكن السيئة شركاً فلا ينفعه شيء من حسناته حينئذ بل يخلد في النار (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) ، من استوت حسناته وسيئاته: المعتمد أنه يحبس على الأعراف، وهو سور بين الجنة والنار.(7/282)
قال الإمام ابن كثير في تفسيره: "اختلفت عبارات المفسرين من السلف والخلف في بيان المراد بأهل الأعراف، وكلها قريبة ترجع إلى معنىً واحد، وهم من استوت حسناتهم وسيئاتهم، فما عندهم ما يدخلهم الجنة وما عندهم ما يدخلهم النار ويرجح إحدى الدارين في حقهم، فيسجرون على الأعراف، ثبت معنى هذا عن ابن عباس وابن مسعود وعن غير واحد من السلف"، وهذا القول هو الراجح المعتمد من اثني عشر قولاً قيلت في بيان المراد بأهل الأعراف.
فيحبسون على سور بين الجنة والنار – كما ذكرنا – وفي نهاية الأمر سيدخلون الجنة بفضل الله ورحمته ثم بتشفيع الله للصالحين من عباده فيهم فيشفعون لهم ويدخلون.
وقد أشار الله جل وعلا إلى أنهم سيدخلون الجنة في كتابه إشارةً لطيفة ظريفة فقال جل وعلا (وعلى الأعراف رجال يعرفون كلاً بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون) هذا هو الشاهد (لم يدخلوها وهم يطمعون) .
قال أئمتنا: ما أطمعهم الله في دخولها إلا وهو يريد أن يدخلهم، ومعنى الآية أي جعل في قلبهم هذا الطمع وهذا الرجاء وسيحقق الله لهم ذلك، ثم قال تعالى (وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين) فهنا دعوا الله ألا يجعلهم مع هذا الصنف، أما إذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب الجنة يتمنون ويطمعون أن يكونوا فيها مع أهلها.
خلاصة الكلام: أهل الأعراف هم من استوت حسناتهم وسيئاتهم يشفع لهم النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من أنبياء الله ورسله والصالحين من عباده.
3- الشفاعة لقوم من العصاة قد استوجبوا دخول النار لرجحان سيئاتهم على حسناتهم ألا يدخلوها:
فيشفع لهم النبي صلى الله عليه وسلم أو الصالحون من عباد الله بعد إذن الله لهم ورضاه عن المشفوع فيه، فيشفع الله الشافعين ويمنع هذا الإنسان من دخول نار الجحيم.(7/283)
دليل هذا: ما رواه الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه وابن ماجه في سننه أيضاً وأبو داود والدارمي – والحديث قال عنه الترمذي غريب، وغرائب الترمذي لا تسلم من مقال فهي ضعيفة عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [لقارئ القرآن إذا أحل حلاله وحرم حرامه أن يشفع في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت لهم النار] ، وورد عن علي أيضاً بلفظ آخر مرفوعاً [من قرأ القرآن وحفظه أدخله الله الجنة وشفعه في عشرة من أهل بيته كلهم قد استوجب النار] ، وهو ضعيف أيضاً.
والحديث ورد له شاهد يقويه، رواه الطبراني في الأوسط انظر مجمع الزوائد (7/162) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما – وهو ضعيف أيضاً فيه جعفر بن الحارث وهو ضعيف لكن يتقوى الضعيفان ببعضهما ولا ينزل هذا الحديث عن درجة القبول إن شاء الله – عن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: [لقارئ القرآن إذا أحل حلاله وحرم حرامه أن يشفع في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت له النار] .
فإذ قرأ القرآن ثم أتى بشيء آخر حتى لا يكون من القراء الفسقة فأحل حلاله أي فعل الحلال معتقداً حله، وحرّم حرامه أي ترك الحرام معتقداً تحريمه، فهذا له جزاء عظيم عند الله يدخله الجنة ثم يشفعه في عشرة من أهل بيته وقرابته ممن استوجب دخول النار لرجحان سيئاته على حسناته فيشفع لعشرة منهم فيدخلون الجنة، والحديث كما قلت لا ينزل عن درجة القبول لأنه لا يوجد في رواتهما أحد كذاب أو متروك أو منكر الحديث، بل في رواتهما ضعف دون ذلك والضعف اليسير يزول بتعدد طرق الحديث، والعلم عند الله.
المحاضرة الخامسة والعشرون
4- الشفاعة فيمن دخل النار بالخروج منها:
من دخل النار استحق أن يمكث فيها فترة طويلة فيشفع له الشافعون فيخرجه الله منها قبل أن تتم مدة عذابه.(7/284)
دليل هذا ما ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي] والحديث صحيح بل هو مستفيض ودرجة الاستفاضة دون المتواتر وفوق المشهور.
الحديث:
1) ثبت عن أنس بن مالك رضي الله عنه في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وأبي داود وصحيح ابن خزيمة ومستدرك الحاكم.
2) وثبت أيضاً من رواية جابر بن عبد الله في سنن الترمذي وابن ماجه وابن خزيمة في كتاب التوحيد ومستدرك الحاكم.
3) وثبت أيضاً عن ابن عمر رضي الله عنه في مسند أبي يعلى والسنن الكبرى للبهيقي لابن أبي عاصم ومسند البزار.
4) وروي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أيضاً.
5) وعن كعب بن عجرة.
6) وعن عوف بن مالك رضي الله عنهم أجمعين.
وهذه الشفاعة شاملة لمن استوجب دخول النار ألا يدخلها، ولمن دخلها أن يخرج منها، فهي إذن شاملة للنوع الثالث والنوع الرابع. وستأتينا أحاديث تنص على إخراج أهل الكبائر من النار. إذن هذه أربع شفاعات عامة مشتركة.
فائدة:
خالف أهل البدع من المعتزلة والخوارج في مبحث الشفاعة وكان خلافهم في بعض أنواع الشفاعات المتقدمة، أما الشفاعات الخاصة فلا خلاف فيها، وأما الشفاعات العامة ففيها شفاعة واحدة لا خلاف فيها وهي الشفاعة الأولي بأن أهل الجنة يشفعون لذريتهم.
فبقيت ثلاث شفاعات خالف فيها المعتزلة والخوارج وهي:
1- الشفاعة فيمن استوت حسناته وسيئاته.
2- ومن استوجب دخول النار.
3- ومن دخلها.
فقال الخوارج والمعتزلة: من لقي الله بكبيرة، لم يتب عنها فيجب على الله أن يعذبه ولا يجوز أن يغفر له، وإذا عذبه فهو مخلد في نار جهنم لا يخرج منها.
أما الخوارج فقالوا: إن فاعل الكبيرة كافر وبالتالي فهو مخلد في النار.
وأما المعتزلة فقالوا: إن فاعل الكبيرة في منزلة بين منزلتين، أي ليس بمؤمن ولا كافر لكن مخلد في نار جهنم.(7/285)
إذن الحكم الأخروي متفقون عليه وهو الخلود في نار جهنم، لكن الحكم الدنيوي اختلفوا فيه، فأولئك تجاسروا على إطلاق الكفر عليه وأما هؤلاء فتهيبوا من إطلاق الكفر عليه فقالوا في منزلة بين منزلتين وهذا القول الذي قرره الخوارج والمعتزلة باطلٌ لأربعة أمور:
1) تواترت الأحاديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام بخروج عصاة الموحدين من نار جهنم بعد أن يعذبوا فيها فترة من الزمان.
ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: [يدخل أهل الجنةِ الجنةَ وأهل النارِ النارَ ثم يقول الله: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان] .
وثبت في صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه بُرَّة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذَرَّة من خير] .
(بُرَّة) البرة هي حبة القمح والحنطة وهي تكون أخف وزناً من حبة الشعير، لأن قشرة الشعير غليظة وسميكة فلها وزن بخلاف قشرة الحنطة، يضاف إلى هذا أن حبة الشعير أطول من حبة الحنطة، وورد بدل لفظ (خير) في الألفاظ لفظ (إيمان) .
وصحّف أبو بِسطام شعبة بن حجاج أمير المؤمنين في الحديث، صحّف اللفظ الثالث (ذرَّة) إلى (ذ ُرَة) أي حبة الذرة فقد اشتبه عليه الأمر رحمه الله لما وردت حبة الشعير وحبة القمح فظن أن الذرّة هي الذ ُرَة لأن رسم كتابتها واحد، والتشكيل هو الذي يختلف وإذا أخطأ المحدث خطأً يسيراً فلا يضره هذا ولا ينزله عن أعلى درجات الحفظ، ولا يعصم أحداً من خطأ، رحمه الله.(7/286)
و (الذرَّة هي أقل شيء يوزن، هذا قول، وقيل: هي الهباء الذي يخرج ويتطاير عندما تسطع أشعة الشمس، وخصوصاً إذا سطعت الشمس داخل حجرة فإنه يُرى بشكل واضح) . وقال ابن عباس هي أن تضع يدك على التراب ثم تنفخها فالذي يتطاير من يدك من ترابٍ هو الذرات. وقيل: وهو القول الرابع – المراد من الذرّة النملة الصغيرة، وهي دون البرّة في الوزن.
إذن من قال لا إله إلا الله وعمل من الكبائر ما عمل وعنده وزن شعيرة من خير، برة من خير ذَرَّة من خير فيخرج من النار إلى الجنة.
وثبت في مسند الإمام أحمد ومسند أبي يعلى – انظر المجمع (10/384) عن أنس رضي الله عنه – والحديث فيه ضعف يسير وله شواهد كثيرة تجبره إن شاء الله وتقويه – عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [إن عبداً لينادي في النار ألف سنة يا حنان يا منان] أي ألطف بي ومنّ عليّ بالخروج من هذه الدار الخبيثة [فيقول الله لجبريل عليه السلام: اذهب فأتني بعبدي هذا، فينطلق جبريل فيجد أهل النار منكبين يبكون، فيرجع إلى ربه فيخبره] أنه نظر في أهل النار فلم يميزه عن غيره ولم يعرفه [فيقول الله جل وعلا: ائتني به فإنه في مكان كذا وكذا، فيجيء به، فيوقفه على ربه عز وجل، فيقول: يا عبدي كيف وجدت مكانك ومقيلك] أي المكان الذي استقررت فيه وتنام فيه [فيقول: يا رب شر مكان وشر مقيل، فيقول: ردوا عبدي فيقول: يا رب ما كنت أرجو إذا أخرجتني أن تعيدني فيها، فيقول: دعوا عبدي] .
الشاهد من هذا كله: أنه تواترت الأحاديث بخروج أناس من النار، وقد تواترت أحاديث كثيرة أن ذلك الخروج يكون أيضاً بشفاعة الشافعين، كما يكون برحمة رب العالمين، ومن تلك الأحاديث:(7/287)
ما ثبت في صحيح البخاري وسنن أبي داود والترمذي عن عمران بن حصين رضي الله عنه عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [يخرج قوم من النار بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فيدخلون الجنة، يسمون الجهنميين] أي: نسبة إلى الدار التي كانوا فيها وهي جهنم، ويسمون الجهنميين في البداية عندما يدخلون فيقال هؤلاء الجهنميين ثم بعد ذلك يصب عليهم أهل الجنة من ماء الجنة فيذهب عنهم القَتَر والسواد ويصبحون كأهل الجنة في النعيم والبهجة والسرور.
وثبت في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يخرج قوم من النار بالشفاعة كأنهم الثغارير] وضبط بالعين المعملة: الثعارير [فقيل وما الثعارير؟ فقال: الضغابيس] وهي صغار القثاء، وهي التي تشبه الخيار لكن تكون معكوفة في الغالب وملتوية، وهي من أنواع الخضار ومن فصيلة الخيار، وتسمى قتة في بلاد الشام، وتسمى في الإمارات فقّوس.
أي يخرجون من النار وفيهم هذا الذل، وهذا الامتهان وهذا الاحتراق بحيث أن أبدانهم صارت بهذا الحجم من ضمورها وهزالها، فذهبت صحتهم حتى صار الواحد منهم كأنه صغار القثاء، ثم يخرجون من النار بالشفاعة كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول مفتي عمان في كتاب الحق الدامغ صـ 191:
"وعقيدتنا معشر الأباضية أن كل من دخل النار من عصاة الموحدين والمشركين مخلدون فيها إلى غير أمد" قلت: هل يستقيم هذا في رحمة أرحم الراحمين أن يجعل المؤمن الموحد الذي له حسنات أكثر من الجبال عدداً ووزناً كأبي جهل، كيف سيسوي الله من وحده بمن جحده وألحده؟!!.
ثم يقول: "كما أن من دخل الجنة من عباد الله الأبرار لا يخرجون منها"!! ما هذا المقياس مع الفارق الكبير فأولئك دخلوا الجنة ولا يخرجون منها، وأما هؤلاء فعلى حسب أعمالهم فيدخلوا النار من أجل أن يطهروا وينقوا من الذنوب.(7/288)
ثم يقول: "إذ الداران دار خلود"!!! نحن لا نقول إن النار تفنى، بل هي دار خلود لكن في حق من يخلد فيها، لكن هذا هو التلاعب بالحقائق!!.
يقول: "ووافقنا على ذلك المعتزلة والخوارج على اختلاف طوائفهم"، أي وافقهم في أن من دخل النار لا يخرج منها، سبحان الله!! هلا كان من وافقك هم أهل السنة والجماعة!!!
ثم يقول: "وإنما خالفنا الخوارج من حيث إنهم يحكمون على كل معصية تؤدي إلى العذاب بالشرك المخرج من الملة، فخالفوا بذلك نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة"!!! وأنت ماذا خالفت يا مفتي!!.
نحن الآن في موضوع خروج عصاة الموحدين من النار في هذا المبحث المختصر ذكرنا (5) أحاديث فقط وقلنا الأحاديث متواترة، فكيف تخالف هذا؟!!!
وإذا كان الخوارج قد حكموا على فاعل الكبيرة بالكفر والله إنهم لأعقل منك عندما حكمت عليه بالإيمان وقلت إنه مخلد في النيران، ولذلك هم يقولون: إن تخليد العصاة في النار هذا دليل على أنهم كافرون، فإذن هم يقولون بكفرهم وخلودهم، فكلامهم مستقيم مع بعضه وإن كان ضلالاً وباطلاً، وأما كلامك يا مفتي ففيه سفاهة من وجهين:
أولا: إن كلامك باطل من ناحية الشرع.
ثانيا: أنه يناقض بعضه بعضاً
فإنك تقول هو مؤمن وهو مخلد في النار، كيف هذا؟!! ولا يخلد في النار إلا الكفار.
ثم إنك خالفت الخوارج في هذه الجزئية لكنك وافقت المعتزلة، حيث يقولون: لا نكفره لكن نحكم عليه بالخلود في النار، إخوتي الكرام ... هذا قول باطل فاحذروه.
إذن تواترت الأحاديث بخروج أقوام من النار بالشفاعة بعد دخولها.
2- تواترت الأحاديث أيضاً بأن من لقي الله على التوحيد وقال لا إله إلا الله محمد رسول الله عليه صلوات الله وسلامه في هذه الحياة ثم مات مآله إلى الجنة، إذا لم يأت بما ينقص إيمانه من مُكَفِّر أو ردة.(7/289)
أما المعاصي فلا تعتبر كفراً ولا ردة، لأنها لو كانت كذلك لما رتب الشارع عليها حدوداً مقدرة، فالزاني مثلاً يجلد ولو كان الزنا كفراً لقال الشارع: اقتلوه.
وقد أجمع الصحابة على أن مخالف المأمور أو مرتكب المحظور ليس بكافر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: [لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، المفارق لدينه التارك للجماعة] والحديث في الصحيحين، إذن فكيف نستحل دم إنسان مسلم إذا لم يفعل أحد هذه الأمور الثلاثة؟!! فإذا شرب الخمر لا يستحل دمه، ولو استحل دم من زنى وهو ثيب أومن قتل نفساً أخرى فلا يموت على الكفر، إنما إذا استُحل دم من ارتد فهذا الذي يموت كافراً مخلداً في نار جهنم.(7/290)
من تلك الأحاديث ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال أبو ذر: وإن زنى، وإن سرق؟، فقال وإن زنى وإن سرق، فأعاد أبو ذر وإن زنى وإن سرق؟ فأعاد النبي صلى الله عليه وسلم الجواب وإن زنى وإن سرق فأعاد أبو ذر السؤال ثالثة] يستبعد هذا ويستغرب منه غاية الغرابة، يدخل الجنة وهو مقصر في حق الله معتدٍ على حقوق العباد، وذكر السرقة والزنا للإشارة إلى حق الله وحق عباده ويدخل في هذا سائر الحقوق، فتعديه على حق الله عندما يزني، وتعديه على حق العباد عندما يسرق منهم [فقال النبي صلى الله عليه وسلم في الثالثة: وإن زنى وإن سرق، فأعاد أبو ذر السؤال رابعة، فقال: وإن زنى وإن سرق على رغم أنفك يا أبا ذر] فلا داعي لإعادة السؤال مرة خامسة، لأن التكرار ثلاث مرات، وفي الرابعة تستحق هذا الجواب حسماً للسؤال، [فكان أبو ذر رضي الله عنه إذا حدث بالحديث يقول من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق على رغم أنفي] يعني أنا ضاقت نفسي من هذا ولم أسترح إليه لكن على رغم أنفي سيدخل الجنة وهذا هو حكم الله وهذا هو تبليغ رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام النووي عليه رحمة الله في شرحه هذا الحديث في صحيح مسلم (1/217) : "أفاد حديث أبي ذر فائدتين:
الفائدة الأولي: أن عصاة الموحدين لا يقطع لهم بنار الجحيم.
الفائدة الثانية: لو عذبهم الله فمآلهم إلى الجنة".
وإنما لا يقطع لهم بنار الجحيم لأنه ورد في الحديث [من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ... وتقدم، وهذا الدخول قد يكون سابقاً وقد يكون لاحقاً، فإذا غفر الله له دخل مع السابقين، وإذا عذبه لحقهم بعد حين، فلابد من الدخول ولن يخلد في نار جهنم.(7/291)
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (3/111) : "يدل الحديث على أن من فعل الكبيرة لا يخلد في النار" وهذه فائدة كالتي ذكرها الإمام النووي لكنه ذكر فائدة ثالثة: "ويدل على أن فاعل الكبيرة لا يُسلب عنه اسم الإيمان" أي فاعل الكبيرة مؤمن ولا يخرج عن الإيمان بفعلها المجرد فهو مؤمن بإيمانه فاسق بعصيانه.
3- أنتم تقولون من لقي الله بكبيرة فهو مخلد في نار جهنم ولن تنفعه أعماله الصالحة أي بطل ثوابها وحبطت، وهذا منكر عظيم لا يستقيم في عدل ورحمة أرحم الراحمين.
فكيف تضيع الحسنات أمثال الجبال بسيئة من السيئات، والله جل وعلا لم يجعل شيئا من الأعمال المنكرة محبطاً للأعمال الصالحة إلا شيئاً واحداً هو الشرك، وبشرط الموت عليه، فمن كان مؤمناً وعمل الصالحات ثم ارتد حبط عمله، فإذا آمن رجع إليه ثواب عمله الصالح، ولذلك لو حج ثم ارتد ثم آمن لم يجب عليه أن يعيد الحج مرة أخرى.
فلا يحبط العمل إلا بالكفر والموت عليه، الله قرر هذا في كتابه فقال جل وعلا في سورة البقرة آية (217) : (ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) .
فإذن من لقي الله بمعصية من المعاصي لا نقول إنه صديق، وكذلك لا نقول إنه كافر عنيد بل نقول مؤمن عاص ٍ، إن غفر الله له فرحمته واسعة، وإن عذبه فبِعَدْلِه، ولن يخلده في نار جهنم إذ كيف سيسوي الله هذا مع الكافر الذي لم يسجد لله سجدة واحدة؟! إن التسوية بين المؤمنين والكافرين هذا مما لا يستقيم في عدل ورحمة أرحم الراحمين يقول الله تعالى: (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) ، فإن قيل: فاعل الكبيرة ليس بمتقٍ؟، فنقول: التقوى قسمان: تقوى الشرك وتقوى المعاصي، فالمؤمن الذي ارتكب المعاصي هو متقٍ للشرك لكنه لم يتق المعاصي فتقواه ناقصة وليست معدومة بينما الكافر والمشرك ليس عنده نوع من أنواع التقوى.(7/292)
4- قولهم يجب على الله أن يعاقب العصاة ولا يجوز أن يغفر لهم في وقت من الأوقات لا عند الحساب ولا بعد دخولهم النار، أي لا يجوز أن يغفر لهم ولا أن يخرجهم من النار، هو قول باطل يصادم النصوص القطعية:
1- قال الله عز وجل في كتابه: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) ، (ما دون ذلك) أي ما دون الشرك من جميع الكبائر والموبقات (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فإذا عذب الله فاعل الكبيرة فهذا بِعَدْلِه سبحانه وتعالى، وإن غفر له فهذا بفضله، وأفعال الله سبحانه وتعالى بين عدل وفضل ولا ثالث لفعله فالظلم والجور منتفٍ عنه، بل هذا من أفعال العباد، والفعل المطلق للإنسان لا يخرج عن واحد من ثلاث إما أن يكون عدلاً أو فضلاً أو جوراً.
إذن لو عفا عنه فهذا فضله ورحمته سبقت غضبه، ولذلك ثبت في سنن الترمذي بسند حسن عن علي رضي الله عنه أنه قال: [ما في القرآن آية أحبَّ إليَّ من هذه الآية] ، وهي عنده أرجى آية في القرآن أيضاً، وثبت هذا عن حفيده علي بن الحسين زين العابدين حيث قال: [هذه أرجى آية في القرآن] ، ووجه كونها أرجى آية في القرآن إخوتي الكرام ... كما قلت العذاب عدل والمغفرة فضل وإذا دارت أفعال الله بين العدل والفضل فالمرجح في حقه الفضل؛ لأن رحمته سبقت غضبه، يضاف إلى هذا أن كل عاصٍ لم يقع في الشرك يطمع في أن يكون ممن شاء الله له المغفرة، وما أطمعنا الله إلا ليعطينا كما قال في حق أهل الأعراف (لم يدخلوها وهم يطمعون) ، وقد قال الله في الحديث القدسي [أنا عند ظن عبدي بي فليظن ما شاء] وظننا بربنا أن يغفر لنا وأن يتجاوز عنا ذنوبنا وأن يعاملنا بفضله وإحسانه إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.(7/293)
2- وقد ثبت في مسند الإمام أحمد والصحيحين وسنن الترمذي وابن ماجه عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة (10-40) من أصحابه: [بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفّى منكم فأجره على الله] . هذه هي الحالة الأولي، والحالة الثانية [ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له] لأن الحدود زواجر وجوابر، فهي تزجر الفاعل بالناس، وتطهّر الفاعل والأمة من سخط الله، فالحدود مطهّرة ولو لم يتب المحدود، فإذا سرق وقطعت يده غُفِرَ ذنبه تاب منه أم لم يتب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في ماعز: [إنه الآن في أنهار الجنة ينغمس فيها] بعد أن أقام عليه الحد، والحديث في صحيح مسلم، أما الحالة الثالثة فبينها بقوله [ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه، فبايعناه على ذلك] إذن أنتم بين ثلاثة أحوال، وهو حديث صحيح صريح في بابه.
3- وثبت في مسند أبي يعلى والبزار وكتاب السنندة لابن أبي عاصم، والخرائطي في (مكارم الأخلاق) والبهيقي في (البعث والنشور) عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من وعده الله على عمل ثواباً فهو منجزه له، ومن وعده على عمل عقاباً فهو بالخيار إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه] فالثواب ينجزه والعقاب قد ينجزه، وقد لا ينجزه (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) .
ومما يبين أن قول المعتزلة والخوارج بأنه يجب على الله أن يعاقب العصاة – باطل هذه المناظرة المحكمة السديدة، التي جرت بين إمامين أحدهما مهتدي ٍ والآخر ضال غوى:(7/294)
1- أما المهتدي فهو شيخ أهل السنة وأحد القراء السبع أبو عمرو بن العلاء، وهذا قارئ البصرة، والبصريان إذا أطلقا فيراد بهما أبا عمرو هذا ويعقوب، فالبصريان هذان الاثنان والكوفيون أربعة والمدنيان اثنان والمكي واحد، والشامي واحد فالمجموع عشرة فهؤلاء هم القراء العشرة الذين قراءتهم متواترة.
2- وأما الضال فهو عمرو بن عبيد، أبو عثمان، ولا يتعمد أحد إذا قلنا كذا عن عمرو بن عبيد كما اعترض بعضهم على ذمنا للحجاج، ولا يقول كيف نقول على عمرو بن عبيد هذا وهو من أئمة الإسلام وله شأن، وهو خليل وصفي الخليفة العباس أبي جعفر المنصور وكان من الزهاد العباد وكان أبو جعفر يقول: "كلكم يمشي رويد كلكم يطلب صيد غير عمرو بن عبيد" أي كل واحد منكم يريد الدنيا إلا عمرو بن عبيد، وكان إذا دخل على أبي جعفر المنصور لا يستطيع أبو جعفر أن يبقى في مجلس الخلافة، بل يأمر بأن تجهز له غرفة ليس فيها إلا فراش على الأرض ليجلس عليه إجلالاً لعمرو بن عبيد، وليستمع إلى نصح عمرو بن عبيد له.(7/295)
وهو مع زهده وتنسُّكه ضال، كما قال بن كثير: والزهد لا يدل على صلاح في الإنسان، فعباد الهنود والمتقشفون فيهم عندهم من الزهد والانزواء عن الدنيا والامتناع عن الطعام والشراب ما لا يوجد في كثير من زهاد المسلمين، لكنهم لجهنم حطباً، بل لا بد من أن يكون الزاهد على المسلك الشرعي وإلا فزهده لوحده لا يكفيه، وأبو العلاء المعري كان زاهداً لدرجة أنه لم يتزوج، بل اعتبر الزواج جريمة، وبلغ من إعراضه عن الدنيا أنه يقول إن أعظم المجرمين في حق الأبناء هم الآباء، وأوصى أن يكتب على قبره هذا جناه أبي علي وما جنيت على أحد، لعنة الله على هذا الزهد، ولذلك اتفق أئمة الإسلام على "أن الزهد إنما يكون فيما يلهيك عن الله ويضرك عنده" فهل النكاح فيه ذلك؟!!! بل فيه حسنات لا تستطيع أن تحصلها من كثير من الطاعات، وهل يجب إلى خير البريات عليه صلوات الله وسلامه شيء مؤذٍ وضار، وهو سيد الطيبين وهو الذي يقول: [حبب إليّ من دنياكم الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة] .
ولذلك إخوتي الكرام.... لا يقبل الله من العمل إلا ما كان صالحاً ولوجهه خالصاً، ولا يوجد عندنا أن كل واحد يعبد ربه برأيه، ويخترع شريعة ما أنزل الله بها من سلطان ثم نقول زاهد عابد، إن زهده لن يوصله إلا إلى نار جهنم ورضي الله عن عمر عندما كان يرى عباد النصارى في الصوامع فيتلو قول الله تعالى (وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة) .(7/296)
فعمرو بن عبيد من أولئك الزهاد الذين لم ينفهم زهدهم بل هو ضال باتفاق أئمتنا، ووالله لا نعرف عمرو بن عبيد ولا نعرف أبا عمرو بن العلاء لكن عن طريق ما نقله عنهم أئمتنا وأخبرونا به عنهم، فذاك طالح فأبغضناه وذاك صالح فأحببناه وليس بيننا وبينه قرابة ولا بيننا وبين الآخر عداوة، وعندما نحب عمر بن عبد العزيز وهو من بني أمية – لأننا أمويون!!، ونكره الحجاج الضال الخبيث لأننا عباسيون!! أهذا هو السبب في حبنا لواحد وبغضنا للآخر أم نحن نحكم حبنا وبغضنا على حسب شرع ربنا جل وعلا؟!!
انتبه لهذه المناظرة المحكمة:
اجتمعنا في مجلس فأراد عمرو بن عبيد أن يرد على مذهب أهل السنة:
فقال: يا أبا عمرو إن الله وعد (1) وعداً وأوعد إيعاداً فهو منجز إيعاده كما هو منجز وعده (2) .
__________
(1) الوعد في المسرة، والإيعاد في المضرة، تقول: وعدته جائزة وأوعدته عقوبة.
(2) أي كما أنه ينجز الوعد فهو سينجز الإيعاد، هذا كقول مفتي عُمان "لأن الله لا يخلف الميعاد" والميعاد شامل للوعد والوعيد، فالله عندما يخبرنا بأن من شرب الخمر في هذه الدنيا كان حقاً على الله أن يسقيه من ردغة الخبال وهي عصارة أهل النار والقيح والصديد الذي يسيل من أجسادهم، يقول: لو أخلف الله هذا وعفا عن شارب الخمر في الآخرة لكان كذاباً فلابد من أن يعاقبه وأن يسقيه من ردغة الخبال وألا يخرجه من نار جهنم.(7/297)
فقال: أبو عمرو: إنك أعجمي (1) ، إنّ خُلْفَ الوعيد كرم، وإن خُلْفَ الوعد لؤم (2) .
ثم قال له: ألم تسمع إلى قول الشاعر:
__________
(1) ولا أقول إنك أعجم اللسان بل أنت فصيح منطيق، لكنك أعجم القلب، وعجمة القلب هي عدم الفهم عن الرب، أي أن لا يكون القلب زكياً ولا طاهراً ولا نقياً، وليس في عجمة اللسان منقصة، لكن عجمة القلب هي التي فيها منقصة وهي المذمومة سواء كانت في العرب أو في العجم، وكما أن من كان أعجم اللسان لا يفهم لغة العرب فمن كان أعجم القلب لا يفهم عن الرب.
(2) فإذا لم يوقع الله العقوبة بالعاصي هذا كرم منه، وأنا إذا قلت لشخص - مثلاً – إن خالفت أمري لأضربنك مائة سوط ثم خالف أمري، وقضيت عليه، فقال لي: اعف عني، فقلت له: عفوت عنك، فهل يقول لي أحد الآن كذبت، بل ماذا يقولون؟ عفوت وتكرمت، العفو عند المقدرة من شيم الكرام، ولذلك وصف الله عباده بأنهم (والدين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) ووصفهم بأنهم (والعافين عن الناس) فكيف هذا؟! الجواب: كان سلفنا يكرهون أن يُستذلوا فإذا قدروا عفوا، فهو عندما يصيبه البغي لا يعفو بل يمسك بالمجرم ويكاد أن يقتله، فيقول له ذاك عندها: اعف عني، فيقول: عفوت عنك، فإذن هم يعفون بعد تمكنهم من الانتصار لأنفسهم، أما من يعفون في حال الضعف فهذا يعتبر هنا خوراً وذلاً وجبناً، ولذلك قال (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) فأثنى الله عليهم بأخذهم لحقهم ثم إذا تمكنوا من الباغي عليهم عفوا عنه، ولذلك ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل مكة بعد أن تمكن منهم وكانوا قد آذوه إحدى وعشرين سنة ثلاثة عشر سنة في مكة وثماني سنين في المدينة يعارضونه فبعد أن تمكن منهم قال لهم ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم ... إذن هنا قدر عليهم – فقال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء، فهذا يعتبر كرماً وشهامة ومروءة في حق المخلوق فكيف في حق الخالق.(7/298)
وإني وإن وعدته أو أوعدته ... لمخلف إيعاد ومنجز موعدي (1)
وقول الآخر:
إذا وعد السراء أنجز وعده ... وإن أوعد الضراء فالعفو مانعه
ولذلك كان أبو عثمان عمرو بن عبيد أعجمي القلب، لأنه لا يفقه عن الله شيئاً فالله إذا هدد العصاة فله ذلك، وكذلك إذا عاقبهم له ذلك، وإذا عفا عنهم له ذلك ولا يقال أخلف إيعاده، بل يقال: ما أكرمه، ما أحلمه، ألم يقل الله (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة) فهو حذرنا من مخالفته وعصيانه ولكنه لم يؤاخذنا بكل ما نعمله إذن فهو يؤخرنا ويمهلنا إذن فهو رؤوف رحيم غفور حليم، ووالله لو عاملنا الله بأعمالنا لاستأصلنا من أولنا لآخرنا، وإذا كان نبينا عليه الصلاة والسلام يقول – والحديث في صحيح ابن حبان وحلية الأولياء بسند صحيح: [لو يؤاخذني الله وابن مريم بما جنت هاتان – وأشار إلى الإبهام والسبابة – لعذبنا ثم لم يظلمنا] هذا يقوله خير خلق الله صلى الله عليه وسلم وهذه الجوارح تستحق شكر أم لا؟!! وأنت لن تستطيع أن تفي بشكر جارحة واحدة فضلاً عن جارحتين، فلو حاسبك الله على الإبهام والسبابة لألقاك في نار جهنم كالعابد الذي في بني إسرائيل عبد الله خمسمائة سنة وما عصاه طرفة عين، وسأل الله أن يقبضه في سجوده وألا تأكل الأرض جسده وأن يبقى ساجداً إلى يوم الدين فأعطاه الله ذلك فإذا كان يوم القيامة يقول الله له: ادخل الجنة برحمتي، فيقول: بل بعملي يا رب، فيقول الله: حاسبوه، فتوضع نعمة البصر في كفة وعبادة خمسمائة سنة في كفة أخرى فلا تكفي عبادته لنعمة البصر، فيقول الله: خذوه إلى النار، فيقول: يا رب أدخلني الجنة برحمتك. وهذه القصة رواها الحاكم في المستدرك.
__________
(1) أي إن أنا وعدته مثلاً جائزة، أو أوعدته مثلاً عقوبة، فأخلف إيعادي من باب كرمي ونبلي وشهامتي وأنجز موعدي وهو السراء والجائزة، فانظر للشاعر العربي يتمدح بهذا.(7/299)
فإذن فالله سبحانه وتعالى عندما يعفو عنا ويرحمنا ويتجاوز عن خطايانا فهذه منقصة فيه أم كرم؟ بل كرم، [يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً] (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم) إذن هذا مما يتمدح به رب العالمين.
فانظر إلى المعتزلة كيف قلبوا الأمر وقالوا لو عفا الله عنهم لكان كذاباً وهذه منقصة في حقه يتنزه عنها، فجعلوا الفضيلة رذيلة، وهذا خلاف ما فطر الله عليه أهل الأرض قاطبة أنهم يعتبرون العفو مكرمة.
وهذه المناظرة المحكمة انظروها في تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (12/175) ، وفي تهذيب التهذيب للحافظ بن حجر (8/71) ، وفي مدارج السالكين للإمام ابن القيم (1/396) وهذا الكتاب نافع جداً احرصوا على شرائه، وإذا لم يتيسر لكم فلا أقل من شراء تهذيبه ومختصره، ومن قصد البحر استقل السواقي، أي الذي يقتني المدارج ليس كالذي يقتني المختصر، ودائماً لتكن هممكم عالية ولا تقنعوا بالمختصرات، واطلبوا الأمور من مصادرها وعلو الهمة من الإيمان.
وتوجد هذه القصة أيضاً في مجموع الفتاوى وكررها في مواضع مختلفة، وموجودة في غير هذه المراجع أيضاً.
مسألة مهمة: ذكرها ابن أبي العز في شرحه
وهي: ما حكم سؤال المخلوقِ الخالقَ أو المخلوقَ بمخلوق؟
أي: مسألة التوسل: فما حكم أن تتوسل إلى الخالق بمخلوق، وأن تتوسل إلى المخلوق بمخلوق؟
مثال الصورة الأولى: (توسل إلى خالق بمخلوق) : أن تقول لله: أتوسل إليك يا رب بنبيك صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر أن تقضي حاجتي.
مثال الصورة الثانية: (توسل إلى مخلوق بمخلوق) أن تقول لشخص: أتوسل إليك يا فلان بأبيك وأمك وزوجك أن تقضي حاجتي.
فما حكم هذا؟(7/300)
قال الإمام ابن تيمية عليه رحمات رب البرية في (القاعدة الجلية في التوسل والوسيلة) : "قول القائل أسألك بكذا، يحتمل أمرين، لأن الباء أما أن تكون للقسم وإما أن تكون للسبب".
الحالة الأولي: فإذا كانت الباء للقسم فلا يجوز أن يصدر هذا من مخلوق سواء كان الإقسام به على خالق أو مخلوق.
فلا يجوز أن تقول: أقسم عليك يا رب بنبيك أن تقضي حاجتي ولا أن تقول: أقسم عليك يا فلان بالنبي أن تقضي حاجتي. ومثلها قول القائل يا رب بنبيك اقضي حاجتي. ويا فلان بالنبي اقضي حاجتي، فلا يجوز أيضاً، لأن الباء هنا (بنبيك، بالنبي) للقسم كما أن الواو حرف للقسم، وحروف القسم التي يقسم بها الواو والتاء والباء، والله، تالله، بالله، وهكذا بمخلوق: ورأس أبيك، ترأس أبيك، برأس أبيك.
فهذا لا يجوز لما ثبت في مسند الإمام أحمد والكتب الستة باستثناء سنن أبي داود عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت] ، وللحديث سبب في وروده: وهو أن عمر بن الخطاب كان يحلف بأبيه، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال، [إن الله ينهاكم ... ] الحديث، وكذلك الصحابة كانوا يحلفون بآبائهم ثم نهوا عن ذلك.
وثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي ومستدرك الحاكم بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من حلف بغير الله فقد أشرك أو كفر] .
وهذا الأمر المذكور في هذه الحالة مجمع عليه بين علماء الإسلام، وما وقع فيه خلاف إلا في صورة من صورة، فانتبهوا لها وهي:
خصوص القسم بالنبي عليه الصلاة والسلام فهل يجوز أن تقول أقسم عليك بالنبي أن تذهب إلي بيتي، وإذا قلت ذلك فهل انعقدت اليمين وعليك الكفارة أم لا؟(7/301)
الجمهور – وهو الحق – أن القسم بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز وهو كالقسم بغيره، وعند الإمام أحمد يجوز القسم بالنبي صلى الله عليه وسلم كما هو مذكور في كتاب المغني (11/209) لابن قدامة يقول فيه: وقال أصحابنا: إن القسم بالنبي صلى الله عليه وسلم يمين منعقدة وإذا حَنِث فعليه الكفارة، ونقل هذا عن أبي عبد الله – أي الإمام أحمد – وهذا القول الذي قاله الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالي علله بتعليل شرعي – مع وجاهته نرده ولا نأخذ به – وهو: أن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم هو أحد شطري الشهادة فالشهادة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) إيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم فكما يجوز القسم بالشطر الأول، يجوز بالشطر الثاني.
وهذا التعليل مع وجاهته نقول إنه يعارض النصوص، ولا اجتهاد عند ورود النص ولا قياس مع ثبوت النص، فنقول له نِعم ما قلت وأحسنت فيما قلت، لكنه اجتهاد يخالف النص فغفر الله لك وأثابك لكننا لا نقتدي بك في هذه المسألة، ولا نقول: إن القسم بغير الله شرك والإمام أحمد يجيز الشرك بل نقول إن كل إنسان يخطئ ويصيب لكن المهم أن يكون بحثه ضمن الأدلة الشرعية ولا يتبع الهوى.
إذن فانتبه حال الإمام أحمد ليس كالحجاج فهذا عندما يقطع رقاب المسلمين هل هذا ضمن أدلة شرعية أم ضمن هوىً؟!! بل ضمن هوىً.
* أتدرون ماذا فعل الحجاج؟(7/302)
ضرب مكة بالمنجنيق حتى طارت القذائف إلى الكعبة فاحترقت وهدم قسم منها، وأُحصي عدد الأرواح التي قتلها الحجاج فبلغت – كما في شذرات الذهب لابن العماد (120.000) نفساً، وكلهم من الموحدين الذين يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله، وعلي رأسهم ابن عمر رضي الله عنهما، وعلى رأس المقتولين أيضاً الصحابي الجليل عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، قتله وصلبه ومثل به بعد ذلك في حرم الله في مكة وقد مر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قبل أن يُقتل بجوار عبد الله بن الزبير وهو مصلوب فقال مخاطباً إياه: رحمة الله عليك يا أبا خُبيب – وهذه كنية عبد الله بن الزبير – والله لقد كنت صواما ً قواما ً وإن أمة أنت شرها إنها على خير، فأرسل إليه الحجاج أحد شرطته فضربه بحربة مسمومة – وهو في صحن الطواف – لأنه قال هذه الكلمة لعبد الله بن الزبير، ثم مات بعد ذلك بسبب هذه الضربة، والحديث ثابت في الصحيح.
وكان يقول لأنس بن مالك رضي الله عنه أيها الشيخ الخرف، فذهب أنس إلي الشام من البصرة، إلى عبد الملك بن مروان يشكو الحجاج فقال: والله لو أن النصارى رأوا من خدم عيسي لأكرموه فكيف بمن خدم من هو أفضل من عيسى عليه السلام، خدم النبي صلى الله عليه وسلم ويهينني الحجاج، فأرسل عبد الملك بن مروان بعد ذلك إلي الحجاج: أنْ لا إمرة لك على أنسً ووالله لو رأى إنسان أنس بن مالك وعنده إيمان لقبل رجليه وليس رأسه ووالله لو كان يجوز شرب بوله لشربت بوله وتقربت بذلك إلى الله فهذا يخدم النبي صلى الله عليه وسلم.
فهل الحجاج يكون مجتهداً ضمن أدلة شرعية عندما قتل هؤلاء وأهانهم؟ وقد ورد في الحديث [ولا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما ً حراما ً] ولو اجتمع أهل الأرض على قتل نفس مؤمن لأكبهم الله على وجوههم في نار جهنم.(7/303)
ويقول الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء (4/343) " الحجاج: أهلكه الله في رمضان سنة 95 هـ كهلا ً وكان ظلوماً جباراً ناصبياً خبيثاً سفاكاً للدماء، وكان ذا شجاعة وإقدامٍ ومكرٍ ودهاءٍ وفصاحةٍ وبلاغةٍ وتعظيم للقرآن، وقد سقت في سوء سيرته في تاريخي الكبير وحصاره لابن الزبير في الكعبة ورميه إياها بالمنجنيق وإذلاله لأهل الحرمين ثم ولايته للعراق والمشرق كله عشرين سنة وحروب بن الأشعث له وتأخيره للصلوات إلى أن استأصله الله، فنسبّه ولا نحبّه بل نبغضه في الله فإن ذلك من أوثق عرى الإيمان وله حسناتٌ مغمورة في بحر ذنوبه وأمره إلى الله جل وعلا ".
ولما بلغ الحسن موت الحجاج سجد شكراً لله، وكان الحسن البصري يقول: "اللهم كما أمته أمت سنته" وسنته بدعة وظلمة وهو أول من أخر الصلوات عن وقتها، ولما بلغ إبراهيم النخعي موت الحجاج بكى من شدة الفرح، ولما بلغ ابن عمر مقتل ابن الزبير رضي الله عنهم قال: عدو الله استحل حرم الله، وضرب بيت الله وقتل أولياء الله، انظر تذكرة الحفاظ للذهبي (1/37) .
إخوتي الكرام.... ولما نذكر هذا عن الحجاج لا يُقال هذا فيه انتهاك لحرمة الميت، إنما انتهاك حرمة الميت يحصل إن كان الميت قد عصى ربه ثم تاب أو عصاه بمعصية بينه وبين ربه، أو عصاه وجاهر بمعصيته، أما إن كانت المعصية تتعلق بحقوق العباد فهذا ظلم فيجب أن يُبين للناس ليعلموه وليجتنبوا وليبتعدوا عن مثل هذا الظلم ولا يقعوا فيه.(7/304)
إخوتي الكرام.... لا يقال لنا بعد ذلك كله أنتم عندكم ميزانان تأتون للحجاج وتتكلمون عليه وتأتون للإمام أحمد وتترضون عنه، نقول: قف عند حدك، من يبحث في النصوص الشرعية فهو على هدىً أصاب أم أخطأ إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر فهذا إمام بذل ما في وسعه للوصول إلى مراد ربه ضمن أدلة شرعية، ولو قال هذا القول عن طريق الهوى لقلنا إنه ضال، فلابد من أن نزن الأمور بالميزان الشرعي، ونسأل الله أن يجعل هوانا تبعاً لشرع مولانا إنه أرحكم الراحمين وأكرم الأكرمين.
الحالة الثانية: وإذا كانت الباء للسبب – لا للقسم – فهذه لها صورتان:
الصورة الأولي: أن تسأل مخلوقاً بسبب مخلوق فهذا جائز بالاتفاق مثالها: أن تقول لشخص أسألك بحق أبيك، أو أسألك بكرامة جدك، أو أسألك بمنزلة زوجتك ونحو هذه من الأسباب فتتوسل بمخلوق إلى مخلوق بالسبب والمنزلة التي له عندك والمكانة والمقام الذي له عندك.
وقد ثبت أن ابن جعفر بن أبي طالب كان إذا أتى عمه علياً – رضي الله عنه – وسأله بحق أخيه جعفر – والذي هو أبو السائل – قضى عليٌّ حاجته؛ لأن له منزلة عنده، وهذا من باب إكرام الأخ لأخيه؛ فإذن هذا السؤال بالمنزلة والسبب والحق وما شاكل هذا، وهذا الباب من التوسل لا حرج فيه وجائز بالاتفاق – كما ذكرنا – وعلى هذه تنزل قراءة حمزة، وأحد التوجيهين في قراءة الجمهور من قول الله جل وعلا (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) .
فـ (الأرحام) قرئت بالنصب، وهي قراءة الجمهور (التسعة) وقرئت بالخفض – الكسر – وهي قراءة حمزة فقط، فـ (الأرحام) على قراءة الجمهور، منصوبةً عطفاً على لفظ الجلالة (واتقوا الله) أي: فلا تعصوه، واتقوا (الأرحام) فلا تقطعوها لأنها مما أمر الله به أن يوصل، وحينئذ فلا شاهد فيها على هذه الصورة، وهذا أحد توجيهي الجمهور لنصبها.(7/305)
و (الأرحام) عن حمزة، بالكسر، هي التي فيها الشاهد بأننا نسأل ونتوسل بحقها ومنزلتها، وهي على أنها معطوفة في هذه الحالة على لفظ الضمير المجرور (به) لا على محله.
والتوجيه الآخر للجمهور لقراءة النصب قالوا: أن (الأرحام) معطوف على محل الضمير المكني (به) لا على لفظه، فمحله هو النصب، ولفظه هو الجر، هذا كما تقول: مررت بعمرَ وزيداً، فعمر محله النصب وإن جر بحرف الجر فلذلك تعطف زيداً على المحل لا على اللفظ، وعلى هذا فالقراءتان بمعنىً واحد تكون في هذا التوجيه شاهد لهذه الصورة، والمعنى: يسأل بعضكم بعضاً بالله ويسأل بعضكم بعضاً بالرحم، فتقول: أسألك بحق الرحم عليك أن تقضي حاجتي، وأنشده بالرحم التي بيني وبينك أن تقضي حاجتي، كما كان ولد جعفر يسأل عمه علياً بالرحم التي بينه وبين أخيه جعفر ...
وقراءة حمزة جرى حولها كلام كثير، ولما شرحتها للطلاب في العام الماضي في المستوى الثاني / الفصل الثاني، أخذت معنا ما يزيد على خمس محاضرات)
س: لو قال شخص: أسألك بحياة أبيك، فما الحكم؟
جـ: قوله أسألك بحياة أبيك كقوله أسألك بمنزلة / برأس / برجل / بعين / بوجه / بشرف أبيك/، كلها سواء، لأن هذا القول توسل إلى مخلوق بمخلوق، وهو جائز – كما قلنا – ليس من باب القسم، وليس من باب التوسل إلى الله، إذ سيأتينا أنه لا يجوز التوسل إلى الله بذات مخلوق أو حياته أو شرفه، وما شاكل كل هذا.
س: هل يجوز أن يسأل شخصٌ بحق ميت؟
جـ: لا حرج في ذلك.
وفي قصة سؤال جعفر علياً رضي الله عنه دليل على ذلك لأن جعفر استشهد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة مع زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة، لكن لأجل مكانته ومنزلته عند أخيه علي رضي الله عنه، كان أولاده بعد موته إذا جاءوا إلى عمهم توسلوا إليه بأبيهم.
الصورة الثانية: أن تسأل الخالق بسبب مخلوق:(7/306)
قال الإمام ابن تيمية عليه رحمات رب البرية: "ينبغي أن نعلم أن ذوات المخلوقين ليست سبباً لقضاء الحوائج، فلابد من سبب إما من المتوسِل، وإما من المتوسَّل به" إذن عندنا فرعان لهذه الصورة:
الفرع الأول: أن يصدر سبب من المتوسِّل نحو من توسل به يرضاه الله فيصبح توسله بذلك السبب، والتوسل في هذا الفرع شرعي.
مثاله: أن يتوسل المخلوق بمحبته للنبي عليه الصلاة والسلام وباتباعه له في قضاء حاجته، أو قد يقول المتوسل: اللهم إني أسألك بحبي لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي أن تفرج كربي وأن تقضي حاجتي وأن تغفر ذنبي وأن تدخلني الجنة مثلاً.
فهو هنا لم يتوسل بذات المخلوق، بل توسل بفعل منه – أي من المتوسِّل – وهو طاعةٌ فهو كما لو توسل بطاعاته الأخرى، وهو جائز فقال اللهم إني أسألك بإيماني بك أن تغفر ذنبي وهو من أفضل أنواع التوسل.
مثاله من السنة:
ما ثبت في مسند الإمام أحمد والصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه [أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟، فقال له ويحك [وفي رواية: ويلك] وما أعددت لها قال: لا شيء (1) [وفي رواية: ما أعددتُ لها كبير صلاة ولا صيام] ، لكني أحب الله ورسوله] وأكرم بهذا العمل، وهل بعد هذا العمل عمل؟!! [فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت] وهذا فيه بشارة عظيمة لهذا السائل.
__________
(1) هذا احتقار لعمله، أي ليس عندي شيء يبيض الوجه وليس عندي من الأعمال الكبيرة التي تسطر وتذكر وتذاع، وهذا حال التقي دائماً يهضم نفسه ويخرج من الدنيا ولم يشبع من أمرين: أ) ثناء على ربه. ب) اعتراف بعجزه وتقصيره ولوم لنفسه، لكن بيّن أن عنده عملا ً جليلا ً جميلا ً، وهو حب الله ورسوله عليه الصلاة والسلام.(7/307)
لكن الشاهد من الحديث هو قول أنس بعد أن رواه [فما فرحنا بشيء بعد الإسلام فرحنا بقول نبينا عليه الصلاة والسلام: أنت مع من أحببت] ثم قال – وانظر لهذا التوسل منه – [فأنا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن كون معهم بحبي إياهم] هذا لفظ البخاري وزاد مسلم [فأنا أحب الله ورسوله ... ] .
ولفظ حديث [أنت مع من أحببت] [المرء مع من أحب] هو حديث متواتر، وقد ألف أبو نُعم كتاباً مستقلاً حوله سماه (المحبين مع المحبوبين) تتبع فيه طرق هذا الحديث.
إذن هنا توسلٌ إلى الله بمخلوق لكن جرى من المتوسِّل سبب نحو ذلك المخلوق، ولا حرج في ذلك بإجماع أهل السنة، وأنا أعجب في هذه الأيام حقيقة من المتنطعين الذين تَصْغُر أذهانهم ويضيق عقلهم ويأتي ليزجَّ نفسه في أمر ممنوع – كما سيأتي – فيقول: أسألك بجاه رسولك صلى الله عليه وسلم أن تغفر ذنبي، مع أن الجاه والذات ليست سببا للمغفرة فهذا التوسل أقل ما فيه أن فيه خلافاً وإن كان غير معتبر، فلماذا يترك ذاك المتنطع التوسل الذي لا خلاف فيه ويعمل ما فيه خلاف؟!!!.(7/308)
مثال آخر أيضاً: ثبت في الصحيحين ومسند الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا يُنْجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قلبهما أهلاً، ولا مالاً، فنأى بي في طلب شيء يوماً، فلم أُرِح] عليهما حتى ناما، فجلست لهما غَبُوقهما (1)
__________
(1) الغبوق شرب اللبن وقت العشي..(7/309)
فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أَغْبِق قبلهما أهلاً أو مالاً فلبثت والقدح على يديّ أنتظر استيقاظهما حتى الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج، قال النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عمٍ كانت أحب الناس إليّ، فأردتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألمتُ بها سنة من السنين، فجاءتني، فأعطيها عشرين ومائة دينار على أن تخلّي بيني وبين نفسها ففعلت حتى إذا قدرتُ عليها، قالت: لا أُحِلُّ لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرّجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليّ وتركتُ الذهب الذي أعطيتُها، اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، قال النبي صلى الله عليه وسلم وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمّرتُ أجره حتى كَثُرَت منه الأموال فجاءني بعد حين، فقال: يا عبد الله أدِّ إليَّ أجري: فقلت له: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئاً، اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون] .
فانظر، هنا الأول يتوسل إلى الله ببره لوالديه، والثاني توسل إلى الله بعفته، والثالث بأمانته، لذلك لو وقعت في كرب فقل – مثلا ً– أسألك يا ربي ببري لوالدي أن تفرج كربي فهو جائز بالإجماع.
إخوتي الكرام ... هذا الحديث للإمام ابن الجوزي رحمه الله تعليقُ بديع حوله في كتابه صيد الخاطر، والكتاب نافع احرصوا على شرائه ففيه خير كثير، ولم يؤلفه في موضوع معين بل كان يقيد فيه ما يعنّ له من فوائد واستنباطات وإرشادات وتوجيهات.(7/310)
يقول في صـ321 من الكتاب كلاماً في منتهى الإحكام، وكأن المعلق عليه لم يَرُق له هذا الكلام فانتبهوا لذلك!!!
يقول: "التقرب إلى الله عز وجل إذا تم على الإنسان لم ير لنفسه عملاً وإنما يرى إنعام الموفق (1) لذلك العمل الذي يمنع العاقل أن يرى لنفسه عملاً أو يعجب به (2) وذلك بأشياء" هذه الأمور منها أن الله وفق لهذا العمل، ومنها أنه إذا قيس ذلك العمل بالنعم لم يفي بمعشار عشرها، ومنها ... منها.... ومنها...." ثم يقول:
__________
(1) الموفق هو الله ولذلك الحديث [فمن وجد خيراً فليحمد الله] .
(2)) أي أنك وفقت لعمل صالح فلا تنظر إلى العمل، إنما تنظر إلى الموفق، فلا تهتم بالعمل ولا تصاب بغرور ولا إدلال، وهذا هو ما قاله الصحابي [ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام] .(7/311)
"وهذا شأن جميع العقلاء فرضي الله عن الجميع" ثم ذكر بعد ذلك قصصاً كثيرة منها: قول الخليل إبراهيم (والذي أطمع أن يغفر لي) فلم يُدّلَ بعمل بل يطمع من الله بالمغفرة، ومنها قول أبي بكر وهل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله، وذلك لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما نفعني مال كمال أبي بكر، فقام أبو بكر وقال ذلك، فانظر لحال العقل الكامل، وهكذا أورد كلاماً لعدد من الصالحين ثم يقول: "وهذا شأن جميع العقلاء فرضي الله عن الجميع" فإذن هذا فعل عقلاء هذه الأمة، وانظروا لصلحاء بني إسرائيل، ومنهم هؤلاء الثلاثة يقول:"وقد روي عن أقوام من صلحاء بني إسرائيل يدل على قلة الإفهام لما شرحتُه لأنهم نظروا إلى أعمالهم فأدلوا بهما (1) ، فمنه حديث العابد الذي تعبد خمسمائة سنة في جزيرة، وأخرج الله له كل ليلة رمانة، وسأله أن يميته في سجوده فإذا حشر قيل له: ادخل الجنة برحمتي قال: لا بعملي، فيوزن جميع عمله بنعمة واحدة فلا يفي، فيقول: يا رب برحمتك (2) ،
__________
(1) أدلّوا بها: يعني تقربوا بها ورأوا لها مكانة تستحق أن تطلب حاجةٌ بسببها.
(2) حديث العابد رواه الحاكم في مستدركه (4/251) ، وقد أوردته لكم مختصراً، وأوله: [أن رجلا كان في جبل وطلب أن يخرج الله له عيناً يشرب منها (أي حتى لا يختلط بالناس) وأن يخرج له شجرة رمان فأخرج الله له عيناً وشجرة رمان كانت تحمل كل يوم رمانة فيأكل الرمانة ويشرب من الماء ويتعبد في صومعته، وسأل الله أن يميته وهو ساجد فأماته....] .إلخ الحديث – وفيه [فيحاسبه الله على نعمة البصر فلا تفي عبادة خمسمائة سنة] ثم قال جبريل: [يا محمد إنما الأشياء برحمة الله جل وعلا] ، ثم قال الحاكم: وهذا حديث صحيح الإسناد، فإن سليمان بن هَرم العابد من زهاد أهل الشام والليث بن سعد لا يروي عن المجهولين" وعلق الذهبي على هذا الحديث في تلخيصه للمستدرك: "صحيح!! قلت لا والله، وسليمان غير معتمد، وقال في ميزان الاعتدال – أي الذهبي – في ترجمة سليمان بن هرم: "قلت: لم يصح هذا، والله يقول (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) ، ... ولكن لا يُنجي أحداً عملُه من عذاب الله كما صح، بلى أعمالنا الصالحة هي من فضل الله علينا ومن نعمه لا بحول منا ولا قوة، فله الحمد على الحمد له" إذن كأن الحافظ الذهبي يريد أن يقول الحديث ضعيف لأن فيه هذا المجهول، وأراد أن يؤكد هذا فقال الحديث يعارض نصوصاً، فأراد أن يرده من جهة المعنى، وقبله أراد أن يرده من جهة السند.
قلت: أما من ناحية سليمان بن هرم (أي من ناحية السند) فكأن الحافظ ابن حجر في لسان الميزان لم يرتضِ كلام الذهبي، فنقل هنا كلام الحاكم عن سليمان وأقره فقال: "وقد قال الحاكم عقيب رواية الحديث والليث بن سعد لا يروي عن المجهولين" فكأنه يريد - أي ابن حجر – أن يقول إن سليمان بن هرم ليس بمجهول.
وأقول أيضاً: الحديث صحيح الإسناد وما فيه إلا سليمان بن هرم فقد جرى حوله كلام وكأن الحافظ ابن حجر يوافق الحاكم على أن سليمان ليس بمجهول وأما من ناحية المعنى فالمعنى صحيح أيضاً، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [لا يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته] ، وقد حقق الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه مفتاح السعادة ومنشور ولايتي العلم والإرادة (1/8) حقق هذا المبحث غاية التحقيق وقال عند حديث [لا يدخل أحد الجنة بعمله] وقوله تعالى (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) : "وصفوة الكلام أن الباء هنا ليست بمعنى الباء هناك" أي الباء في الحديث غير الباء في الآية، فهي في الحديث للمعارضة والمقابلة، وفي الآية الباء للسببية أي جعل الله الأعمال منا سبب لذلك الجزاء بفضله ورحمته، لا أن العمل منا يستحق الجنة، أو أنه يكون عوضاً عنها، نستحقه كما نستحق في هذه الحياة عوضاً عندما ندفع ثمناًً مقابل سلعة، فهذه ليست مبايعة ومعاوضة فنحن لا نعمل والجنة تكون في مقابل العمل، بل نحن نقوم بواجب علينا وحق لله – وهو عبادته – دخلنا الجنة أم لا، فهذا هو الفرق بين الباءين، ثم قال ابن القيم كلاماً ينبغي أن ترددوه وأن تنقشوه في قلوبكم: "كل من ينجو من النار فبفضل الله، وكل من يدخل الجنة فبرحمة الله، وأهل الجنة يقتسمون منازلهم على حسب أعمالهم".
إذن عندنا أمران لا دخل للعمل فيهما، النجاة من النار والدخول في الجنة، لكن منازل الجنة هذه بحسب عمل الإنسان.
فمن نجا من النار فبفضل الله، ومن دخل الجنة فبرحمته، وكل من ألقي في النار فبعد له يقول الشاعر:
ما للعباد عليه حق واجب ... كلا ولا يسعى لديه ضائع
إن عذبوا فبعد له أو فعموا ... فبفضله وهو الكريم الواسع
فالآن هذا العابد هو حاله كحال الصحابة الذين كانوا يستصغرون أعمالهم؟
شتان بين الاثنين، فانظر لهذا العبد المسكين كيف يُدلّ بعمله يقول الله له: ادخل الجنة برحمتي فيقول: بل بعملي!!!.
ولذلك قال ابن الجوزي: "وقد روي عن قوم من صلحاء بني إسرائيل ما يدل على قلة الأفهام لما شرحته لأنهم نظروا إلى أعمالهم فأدلّوا بها".(7/312)
وكذلك أهل الغار الذين انطبقت عليهم الصخرة فإن أحدهم توسل بعمل كان ينبغي أن يستحي من ذكره – وهو أنه عزم على الزنا ثم خاف العقوبة فتركه – فليت شعري بماذا يُدلّ من خاف أن يعاقب على شيء فتركه لخوفه العقوبة (1) إنما لو كان مباحاً فتركه كأن فيه ما فيه، ولو فَهِم لشغله خجله من الإدلال، كما قال يوسف: (وما أبرئ نفسي (2)) والآخر ترك صبيانه يتضاغنون إلى الفجر ليسقي أبويه وفي هذا البر أذىً للأطفال (3) ، لكن الفهم عزيز، وكأنهم لما أحسنوا قال لسان الحال أعطوهم ما طلبوا، فإنهم يطلبون أجرة ما عملوا، ولولا عزة الفهم ما تكبر متكبر على جنسه، ولكان كل كامل خائفاً محتقراً لعمله حذراً من التقصير في شكر ما أنعم عليه، وفهم هذا المشروح ينكّس رأس الكبر ويوجب مساكنة الذل، فتأمله، فإنه أصل عظيم" أ. هـ إي والله إنه أصل عظيم، وما رأيت هذا المعنى إلا في صيد الخاطر، وهو أن هؤلاء توسلوا إلى الله بعمل كان ينبغي أن يستحي بعضهم من ذكره، لكن الفهم عزيز، فقضى الله حاجتهم، وهو أرحم الراحمين.
إذن أن يصدر سبب من المتوسل نحو المتوسل به، وهذا هو أحد الفرعين للصورة الثانية.
الفرع الثاني: أن يصدر سبب من المتوسل يقتضي حصول طلبك والتوسل في هذه الحالة أيضاً شرعي.
__________
(1) أي ترك الشيء لخوف منه لا يستحق الرجل عليه أجراً، وهذا كما لو ذهب شخص إلى الأمير وقال له: أنا لن أسلبك، لأنني أخشى أن تقطع رقبتي فأسألك بعدم سلبي لك أن تعطيني ألف درهم. فهل يستحق هذا الألف؟ كلا ... لأنه ترك سلب الأمير خوفاً من العقوبة لا إجلالاً له.
(2) المعتمد أن (وما أبرئ نفسي من قول) امرأة العزيز.
(3) أي هو من ناحية بر ومن ناحية أخرى أذىً، وكان بإمكانه أن يسقي الأطفال ثم ينتظر أبويه حتى يستيقظا.(7/313)
مثاله: أن يتوسل مخلوق إلى مخلوق فيقوم المتوسل به فيدعو يشفع للمتوسل أو: أن يقول شخص: نتوسل إليك يا رب بالعبد الصالح فلان – ولابد من أن يكون موجوداً بينهم ليس بغائب – فيقوم ذاك العبد الصالح ويقول: يا رب اقض حاجتهم وفرج كروبهم والطف بهم وردّ عنهم عدوهم، إذن دعا لنا ونحن طلبنا من الله أن يجيب دعاءه.
كذلك: إذا جرى من المتوسَل به سبب نحو المتوسِل إلى المتوسِل إليه وهو الله جل وعلا فدعا لك من توسلت به، وشفع لك.
وهنا أنت لم تتوسل بذات المتوسل به، ولا بجاهه ولا بمنزلته بل بسبب صدر وجرى منه من دعاء وشفاعة وطلب ونحو هذا.
مثاله من السنة: ثبت في صحيح البخاري (2/495- مع الفتح) عن أنس رضي الله عنه قال: [إن عمر بن الخطاب كان إذا قَحِطوا (1) استسقى بالعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، فيقول – أي عمر: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا (2) عليه الصلاة والسلام فتسقينا وأنا أتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال أنس: فيسقون] .
وورد في رواية الإسماعيلي (3) عن أنس رضي الله عنه قال: [كانوا إذا قحطوا عهد عهد رسول صلى الله عليه وسلم استسقوا بالنبي عليه الصلاة والسلام، فيستسقي لهم فيسقون، فلما كانت إمارة عمر رضي الله عنه استسقى عمر بالعباس] رضي الله عنهم أجمعين.
وورد في المصنف لعبد الرزاق أن عمر رضي الله عنه قال بعد أن قال ما تقدم في صحيح البخاري: [قال للعباس: يا عباس يا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قم فادع] أي نحن طلبنا من الله أن يقضي حاجتنا بدعائك، فقم ونفذ هذا الطلب وادع لنا ليقضي الله لنا حاجتنا.
__________
(1) أي أصابهم القحط والجدب.
(2) أي بدعائه في حياته صلى الله عليه وسلم
(3) الاسماعيلي عمل مستخرجاً على صحيح البخاري، أي روي أحاديث البخاري نفسها، لكن بأسانيد لنفسه ويسمى مستخرج الاسماعيلي.(7/314)
وورد في كتاب الزبير بن بكار في تاريخ المدينة المشرفة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال عندما قحطوا: [إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى العباس للعباس ما يرى الولد للوالد – أي من المنزلة – فاقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في عمه العباس واجعلوه وسيلة لكم بينكم وبين الله] والمراد بالوسيلة هنا الواسطة الذي سيدعوا ونحن نؤمن على دعائه.
وثبت في كتاب الزبير بن بكار أن العباس رضي الله عنه دعا فقال: [اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولا يرفع إلا بتوبة وقد توجه (1) القوم بي إليك لمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه أيدينا إليك بالذنوب (2) ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث] قال: أنس رضي الله عنه: فأرخت السماء مثل الجبال (3) حتى أخصبت الأرض وعاش الناس] .
وهذا الذي فعله عمل لم يفعله تخرصاً من رأيه ولا اجتهاداً من ذهنه ـ إنما فعله بناءً على أثر ثابت – كما ذكرنا – عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه كان يوجه أمته إلى مثل هذا التوسل، وهو أن نتوسل بدعاء فلان.
__________
(1) أي توسلوا بي إليك.
(2) أي مغفرة مقرة وتائبة منيبة.
(3) هذه الكلمة وردت في الفتح (الجبال) وأخشى أن يكون تصفحاً وأن يكون الصواب (مثل الحبال) أي مثل الحبال المدلاة، فالمطر منصب كأنه حبال متصلة وصلت السماء بالأرض، وإن كان (الجبال) فالمعنى أنه نزل مطر كثير غزير يشبه الجبال من كثرة تصببه واندفاعه وأنه صار سيولاً عظيمة والعلم عند الله.(7/315)
إخوتي الكرام..... بالنسبة للجدب الذي يقع فيه الناس ينبغي أن يتوبوا إلى الله جل وعلا وأن يلجأوا إليه ليغيثهم ويفرج كروبهم، واستسقاء عمر كان في عام الرمادة الذي وقع سنة (18) هـ وفي ذلك العام لم ينزل من السماء قطرة ماء وبقي الحال على ذلك تسع أشهر، وسمي رمادة لأن الأرض صارت كالرماد ينسف نسفاً فليس فيها حشيشة خضراء ونتيجة لذلك كادت المواشي أن تهلك وتموت، ويموت الناس تبعاً لذلك لاسيما في العصر الأول لأن قوتهم من الأرض ومن هذه المواشي التي تتغذى على الأرض فاشتد الأمر على المسلمين ثم قدم عمر رضي الله عنه العباس فاستسقى فسقي الناس.
والعباد عندما تكثر منهم المعاصي يبتليهم الله جل وعلا بأنواع المحن، ولما حصلت رجفة في المدينة المنورة قال عمر: "أحدثتم والله، والله لو رجفت ثانية أساكنكم فيها وسأخرج منها" فالقحط يقع عندما يعصي العباد ربهم كما قال العباس [ما نزلت عقوبة إلا بذنب ولا ترفع إلا بتوبة] وهكذا الزلازل والفيضانات التي تقع هذه الأيام في بلاد الكفر ونسأل الله أن يغرقهم على بكرة أبيهم كما غرّق قوم نوح، إنه على كل شيء قدير، وأن يلهمنا رشدنا وأن يتوب علينا.(7/316)
ووالله الذي لا إله إلا هو ما يمنع الله عقوبته عن الكفار إلا لفساد فينا، ولو كان فينا صلاح واستقامة لأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، فإذا كنا ضعافاً وليس عندنا قوة على مقاومتهم فإن معنا القوي الذي يمكر من حيث لا يعلم العباد، وأسلحتهم التي يجبرون بها ويتكبرون يدمرهم الله بها والله على كل شيء قدير، كما دمر أهل اليمن عندما فعلوا ما فعلوا وعتوا عن أمر ربهم، دمرهم بالسد الذي بنوه كما قال تعالى: (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق الله واشكرا له بلدة طيبة ورب غفور فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم (1) وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتى أُكُلٍ خمطٍ وأثلٍ وشيء من سدر قليل ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور) .
وهكذا تلك البلاد التي تجبرت وتكبرت وأنعم الله عليها فطغت وبطرت ولو وجد عندنا ما يستدعي عقوبتها لعاقبها الله، لكن يوجد عندنا من ينبغي أن يعاقب قبل أولئك، وما تأخرت عقوبتنا أيضاً إلا لما فينا من بقايا الصالحين.
يذكر ابن كثير في (البداية والنهاية) في حوادث 718 هـ، وكان قد أدرك ذلك الأمر وهو في سن السابعة عشر تقريباً، فيخبر عن القحط الذي وقع في بلاد المشرق في الجزيرة بلغ عن ذلك القحط أنهم أكلوا الجيف ونبشوا القبور وأكلوا الموتى وأكلوا الكلاب، حتى أن الأم بدأت تأخذ ولدها وتبيعه من أجل أن يستعمله ويعطونها ثمناً خمسين درهماً، وبدأ الناس يذبحون أولادهم أيضاً ليأكلوهم ويذكر أبو شامة في كتابه (الذيل على الروضتين) أنه حدث في سنة 597 هـ ما لا يخطر ببال بشر، كان الناس يدعون الأطباء إلى بيوتهم بحجة العلاج فإذا دخلوا ذبحوهم وأكلوهم حتى أنهم أكلوا القطط والكلاب أيضاً ونبشوا القبور وأكلوا الموتى والجيف، حتى أن الأم كانت تمسك ولدها ليذبحه الوالد وأكلانه، وصلب السلطان كثيراً من الناس الذين فعلوا هذه الفعلة الشنيعة.
__________
(1) هو سيل العرم، بنوه، وجعل الله حتفهم فيه.(7/317)
وهذه النعم التي الآن نأشر بها ونبطر، والله الذي لا إله إلا هو أتوقع زوالها أكثر من توقعي لمجيء الغد، وقدر الله إذا حلَّ ونزل ينزل كلمح البصر وليس له نذر تتقدمه (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس) ولا يوجد عصر تنطبق عليه هذه الآية كعصرنا، فنسأل الله لطفه ومعونته وستره إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
س: ما الفرق بين البلاء والابتلاء؟
جـ: إذا نزل البلاء بالإنسان واعتبر به وحسَّن حاله فهذا مكفر له، وإذا نزل البلاء بالإنسان ولم يكن هناك اعتبار منه ولا انزجار فهذه نقمة له.(7/318)
مثال آخر له: - كتوسل عمر بالعباس – ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمزي وابن ماجة، ومستدرك الحاكم بسند صحيح عن عثمان بن حُنَيْف أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادع الله أن يعافيني، قال: إن شئت دعوتُ لك، وإن شئت صبرت فهو خير لك، فقال: بل ادع (1)
__________
(1) أي أريد أن يعود إلي بصري، وهذا لا حرج فيه لكن لو صبر لكان أفضل، وهذا ونظائره من الأدلة – كما قال أئمتنا – يؤخذ منه أن الصبر على المرض خير من التداوي، وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لعطاء [ألا أريك امرأة من أهل الجنة، فقال بلى، فقال: هذه المرأة السوداء جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت يا رسول الله إني أصرع وأتكشف، فادع الله لي أن لا أصرع فقال: إن شئتِ دعوت لك، وإن شئتِ صبرت ولك الجنة – فكان جوابها خير من الأعمى – قالت: بل أصبر يا رسول الله، لكن ادع الله لي ألا أتكشف، أي عندما أصرع وأقع أخشى أن يبدو مني شيئ أكرهه – فدعى الله لها أن لا تتكشف] ففي هذا الحديث دليل على أن الصبر على المرض عزيمة والتداوي رخصة، وهذا هو المقرر عند أهل السنة والجماعة ومن صبر على المرض حتى مات دخل الجنة، ومن صبر على الجوع مع قدرته على الأكل حتى مات دخل النار، انتبه لأن ذلك سبب يفضي إلى المسبَّب حتماً حسب ما ربط الله الأسباب بالمسببات، وأما هذا فكما تقدم معنا إما ظن وإما وهم فليس هو سبب لحصول الشفاء قطعاً وجزماً فقد تأخذ العلاج ويزداد مرضك وذكرت لكم حوادث في ذلك، وكم من إنسان أجريت له عملية ومات فالتداوي رخصة والصبر عزيمة، وهذا الأمر لو رعيناه لما أكثرنا من فتح المستشفيات، لكن لم تظهر الفاحشة في قوم إلا فشى فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم، فهذا عقوبة من رب العالمين لعباده عندما ينحرفون عن شرعه (مخدرات – عهر – فجور – لواط- ... ) .وهذا سينتج عنه أمراض خبيثة كثيرة كالهِرْبز والإيدز الذين انتشرا في بلاد الغرب ولا يعرف لهما علاج فهو موت بطيء للمصاب بهما، وحقيقة كثير من الأمراض نسمع بها لم يكن أسلافنا يعلمون بها.(7/319)
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: توضأ فأحسن الوضوء ثم صلِّ ركعتين وقل (1) اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي لي اللهم فشفعه فيّ (2) ] زاد الحاكم: [وشفعني فيه] ، فما برح الأعرابي من مكانه حتى رد الله عليه بصره.
فهنا الأعرابي توجه لله سبحانه وتعالى بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وليس بذاته فانتبهوا!! رحمة الله على الإمام النووي يذكر عند شرحه للحديث المتفق عليه [الكمأة من المن (3)
__________
(1) أي قل الدعاء فهو الآن يتوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم.
(2) أي اقبل دعاءه عندما يدعو لي بأن يرد الله بصري ومعنى (وشفعني فيه) أي اقبل يا ربي دعاء نبيك صلى الله عليه وسلم في أن ترد علي بصري، أي قال له النبي صلى الله عليه وسلم أنا سأدعو لك، وأنت اطلب من الله أن يقبل دعائي، ليحصل الطلب من جهتين وليعظم الانكسار لله عز وجل ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم كافٍ، لكن من أجل أن يرغب هذا السائل بالخير فقال له توسل إلى الله بي، أي بدعائي، وسل الله أن يجيب دعائي، وليعلم هذا السائل أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما يدعو فهو بشر، وليس هو كحال الرب جل وعلا يرد البصر من نفسه، وأيضاً حتى لا يحصل في هذا النبي صلى الله عليه وسلم غلو كما حصل في عيسى عليه السلام، إذن أنا أشفع لك بأن يرد الله بصرك وأن ِ اشفع لي في أن يُقبل دعائي لك برد بصرك.
(3) أي حالها كحال المن الذي مَنَّ الله به على بني إسرائيل، فهي لا يزرعها العباد إنما تتصدع الأرض في أيام الشتاء وتخرج منه الكمأة كالبطاطس، فتخرج بلا زراعة ولا كلفة وبلا بذور.
وجاء في الفتح: الكمأة نبات لا ورق له ولا ساق يوجد في الأرض من غير أن يزرع، يخرج إلى سطح الأرض ببرد الشتاء وينميه مطر الربيع فيتولد ويندفع متجسداً ولذلك كان بعض العرب يسميه جدري الأرض.(7/320)
وماؤها شفاء العين] في شرح صحيح مسلم أن بعض شيوخه في بلاد الشام عَمِيّ، فتداوى بالكمأة تبركاً بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم إلى العلاج الذي فيها للعين، فأخذها وغلاها في الماء وبدأ يقطر هذا الماء في عينيه فما مضت عليه إلا أيام يسيرة حتى عاد إليه بصره بإذن الله.
والتداوي بالقرآن وهكذا التداوي بعد ذلك بالأدوية النبوية التي أخبرنا بها خير البرية عليه صلوات الله وسلامه، هذه حجبنا عنها بما عندنا من الأدوية المركبة، وقد كان يكفينا العلاج القرآني والنبوي، ومن ينظر في المجلد الرابع من كتاب زاد المعاد يجده كله من أوله لآخره يتكلم عن الطب والعلاج، ويذكر أحاديث نبوية وأذكاراً تقال عند بعض الأمراض كالأرق، واللدغ، ونحوهما ... وهذا الذي حصل للضرير الذي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم يعتبر خارقاً للعادة ويسمى معجزة لأنه جرى على يدي نبي.
س: هل لما طلب الأعرابي العلاج بعد التخيير لن يدخل الجنة؟
جـ: قطعاً سيدخل وليس عندنا شك في ذلك، فهو لما قال له إن شئت صبرت فهو خير لك أي لك الجنة ليس المراد من هذا أنه إن صبر له الجنة بل المراد شيئاً أعلى من البشارة بالجنة فهو إن صبر له الجنة مع رفعة المكانة، وإن لم تصبر فليس لك هذه الرفعة للمكانة إنما لك الجنة مصداقاً لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم – في البخاري – [إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه – أي عينيه – فصبر، عوضته منهما الجنة] ثم إنه صحابي مؤمن، والمؤمنون في الجنة فكل من بُشر بالجنة هو ليس له بشارة بالدخول فقط، بل له بشارة بالدخول مع شيء آخر مع ذهاب الخوف والفزع يوم الفزع الأكبر مع منزلة خاصة ...
وسأضرب لذلك مثلاً: لو أن إنساناً عمل حفلة ودعى الناس إلى هذه الحفلة دعوة عامة بحيث أن كل من جاء سيدخل، لكنه وجه بطاقات دعوة خاصة لأشخاص مقربين، فإذا جاء الناس إلى الحفلة كلهم سيدخلون لكن من عنده بطاقة دعوة ستأخذه إلى غرفة خاصة، فهم الآن لهم شأن، ولله المثل الأعلى.(7/321)
فهذا إذا بُشر ونحن إذا أكرمنا الله ودخلنا الجنة فيكون كلنا قد دخلها، هو ونحن لكن هو له اعتبار خاص ومزية خاصة إن كان قد صبر، وإن لم يصبر فله أيضاً مزية وهي بسبب الصبر على هذه البلية، هذا هو المعنى وليس المعنى أنه إن دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فلن يدخل الجنة، ونحن نجزم أن الصحابة كلهم من أهل الجنة لكن دون تحديد لأعيانهم إلا من ورد فيه النص، كما أننا نجزم بأن جنس المؤمنين كلهم من أهل الجنة لكن دون تحديد لأعيانهم لأننا لا ندري بأي شيء سيختم لهم، لكن لو علمنا أن هذا خُتم له على الإيمان فهو من أهل الجنة قطعاً وجزماً، وسيدخلها إن عاجلاً مع الباقين، أو آجلاً بعد أن يعذب ويطهر، لا، الله أعطانا عهداً بأن من ختم له على الإيمان سيدخله غرف الجنان.
إخوتي الكرام.... هذا الحديث – حديث عثمان بن حنيف – قال عنه الإمام الشوكاني في كتابه (تحفة الذاكرين) صـ37 وصـ138 صلاة الحاجة: "في هذا الحديث دليل على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، مع اعتقاد أن الفاعل هو الله، وأنه المعطي المانع ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن".
وهذا الكلام الذي قاله الشوكاني لا يزيل الإشكال الذي زيد إزالته، فنقول: إن هذا التوسل ليس بذات النبي صلى الله عليه وسلم، فكان ينبغي أن يقول: "إن هذا التوسل بدعائه ... " ولذلك عَلّقوا على كلام الإمام الشوكاني، قال شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله، في كتابه النفيس (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة) واحرصوا على هذا الكتاب فهو أحسن ما كتب في التوسل، قال في صـ65: "وهذا التوسل – أي توسل الأعمى بالنبي عليه الصلاة والسلام هو من النوع الثاني" أي من التوسل بدعاء المتوسَل به، فهو كنظير توسل عمر بالعباس رضي الله عنهم أجمعين.
إخوتي الكرام.... إذن لابد من سبب إما من المتوسِل نحو المتوسَل به وإما من المتوسَل به.
الرسم التخطيطي(7/322)
بعد أن انتهينا من هذه المسألة المهمة عندنا سؤال، وهو يرد على كثير من الأذهان فلابد من الجواب عليه.
سؤال: لو قال قائل: أسألك يا رب بجاه / بمنزلة / بشرف / بنبوة / بمكانة / نبيك صلى الله عليه وسلم أن تقضي حاجتي وكذلك لو قال أسألك يا رب بجاه / بمنزلة / بشرف / بنبوة / بمكانة / أبي بكر رضي الله عنه أن تقضي حاجتي وكذلك لو قال في حق غيرهما أيضاً، وهذا النوع فاشٍ في هذه الأيام، فهل يجوز التوسل بهذه الكيفية أم لا؟
والجواب: أنه لا يجوز مثل هذا النوع من التوسل ويمكن تقرير هذا الجواب بخمسة أجوبه:
الجواب الأول: أننا نعلم يقيناً أنه لا حق للمخلوق على الخالق فمن توسل بحق مخلوق على الخالق، فقد خالف الأمر الشرعي.(7/323)
فإن قيل: ورد عن نبينا عليه الصلاة والسلام حديث يشير إلى أن للمخلوق حقاً على الخالق، والحديث في المسند والصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: [كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار اسمه عُفير، وليس بيني وبينه إلا مثل مؤخرة الرحل (1) فقال لي: يا معاذ قلت: لبيك رسول الله وسعديك (2) ، فسار النبي صلى الله عليه وسلم ساعة (3) ، ثم قال ثانية: يا معاذ، قلت لبيك رسول الله وسعديك ثم سار ساعة، فقال في الثالثة: يا معاذ، قلت: لبيك رسول الله وسعديك، فقال: أتدري ما حق الله على عباده؟، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ثم سار النبي عليه الصلاة والسلام ساعة فقال في الرابعة: يا معاذ، قلت: لبيك رسول الله وسعديك] انتبه!! [قال أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه (4) ،
__________
(1) مؤخرة الرحل: هي الخشبة التي توضع على ظهر البعير لأجل أن يتمسك بها أو يستند إليها الراكب عندما يركب والمراد لم يكن بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم إلا حاجز يشير بمقدار شبر وهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم أنه يركب على الحمار ويردف أصحابه خلفه.
(2) (لبيك) ألبَّ بالمكان إذا قام به وعكف عليه ولزمه، والمراد أنا مقيم على طاعتك مواظب على سماع أوامرك (سعديك) إسعاداً لك بعد إسعاد وهو من باب الدعاء، أي أنا مقيم على طاعتك وأدعو لك بالسعادة فمرني بما شئت وهذا من أدبه رضي الله عنه.
(3) أي فترة من الوقت، وليست بالساعة الزمنية.
(4) أي إذا عبدوا الله ولم يشركوا به شيئاً، وقد قال تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) ، وكان كل رسول يقول لقومه (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) ..(7/324)
قلت الله ورسوله أعلم، قال: حقهم على الله ألا يعذبهم، قلت: يا رسول الله، أفلا أُبشّر الناس، قال: لا تبشرهم فيتكلوا] أي خشية أن يصبح عندهم شيء من الغرور والأماني وترك العمل ويقولوا ما دمنا موحدين فلن يعذبنا الله، فيفتر عزمهم في الطاعات – وهذا حال البشر – فلا يتهجدون ولا يتنفلون ولا يكثرون من الصدقة ولا من الذكر ولا من الدعاء ولا يتنافسون في أمور الخير (1) .
إخوتي الكرام ... الشاهد أنه أوجب لهم حقاً في هذا الحديث ونقول: لا إشكال في هذا الحديث، لأن هذا الحق هو محض فضل من الله ومحض كرم منه والعبد لا يستحق هذا على ربه لأنه مخلوق له وتوفيقه بالطاعة هو من فضل الله، فكيف إذن يستحق على الله شيئاً؟!!
وقد تقدم معنا أنه لن ينجو أحد النار إلا بفضل الله، ولن يدخل الجنة إلا برحمته:
فإن يثيبنا فبمحض الفضل ... وإن يعذبنا فبمحض العدل
__________
(1) إخوتي الكرام كثير من الناس يحملون أخبار الوعد على غير محلها مع أن أخبار الوعد ينبغي أن تدعوك لزيادة العمل لا للفتور عن العمل، ولذلك كل رجاء لا يبعث على عمل فهذا غرور وأماني لا صحة له، فمثلاً: أنت إذا كنت تريد أن تتزوج زوجة فتطلبها أم تهرب منها وتبتعد؟ بل تطلبها وتكدح وتعمل وتقدم الهدية بعد الهدية لأنك راج ٍ، ومن علامة الرجاء الطلب لا الهرب، ولذلك كان سلفنا يقولون: "عجبنا من الجنة نام طالبها، وعجبنا من النار نام هاربها" إذن في حال الرجاء طلب وفي حالة الخوف هرب، وقد وقع في هذا كثير من طلبة العلم فهو لما سمع (أن النظرة إلى المرأة صغيرة) قال ما دامت صغيرة فلا مانع من أن أنظر وسمع قيام الليل سنة والسنة لا يعاقب تاركها، إذن لا داعي أن أقوم الليل، وصلاة الفجر مستحبة قال: إذن لا عليّ شيئاً في تركها، فهل هذا طالب علم شرعي؟!! العلم هو ما يكسبك خشية الله، وإذا لم يُكسبك خشية وبال عليك.(7/325)
إذن فحق العباد هنا هو تفضل الله به عليهم، وقد ثبت في سنن أبي داود وابن ماجه وصحيح بن حبان ومسند الإمام أحمد عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي قال: [لو عذب الله أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم] وهذا محض عدل [ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم] أي: خيراً من أعمالهم.
إذن فأنت عندما تقول: أسألك بحق نبيك، فهل للمخلوق حق على الخالق؟ لا، وقد تقدم معنا أنه "لو عذب الله وحاسب نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وعيسى بن مريم بما جنت السبابة والإبهام لعذبهما ثم لم يظلمهما" ولو عذب الله جبريل فمن دونه من المخلوقات في العالم الأعلى والأسفل لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم.
تنبيه:
إن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى معاذاً عن البشارة وقد بلغنا، وقد ورد في آخر الحديث، فأخبر معاذ بها – أي بهذه البشارة – عند موته تأثماً أي خشية الإثم، فكيف ينهى عن التبشير ثم يبلغ ويبشر بهذا الحديث؟
أجاب العلماء عن ذلك بأربعة أجوبة:
أولها: وهو اختيار الحافظ ابن حجر، وهو: أن معاذاً فهم من المنع كراهة التنزيه (خلاف الأولى) أي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه مرشداً له إلى الأكمل، لا أن عليه إثماً إذا أخبر بذلك، فتعارض هذا مع الأحاديث الآمرة بالبيان وعدم الكتمان لحديث [من كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار] فأخبر بذلك دفاعاً للوقوع في المحرم وهو الكتمان وإن وقع في خلاف الأولي وهو التبشير.(7/326)
ثانيها: وهو اختيار القاضي عياض وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد من نهي معاذ عن البشارة النهي لا التحريم ولا التنزيه، إنما أراد أن يكسر عزمه، لئلا يذهب معاذ إلى الأسواق والمجامع وينادي حقكم على الله ألا يعذبكم إذا عبدتموه وبالتالي يحصل سوء فهم لهذه البشارة على حقيقته فكسر عزمه وقال لا تخبرهم أي الآن في هذا الوقت وأنت مندفع ومتحمس، لكن أخبرهم بعد أن تتروى ويخف الأمر على نفسك. وهذا الجواب لعله أوجه الأجوبة.
ثالثها: وقد ذكره القاضي عياض ذكراً فقط، وهو: أن معاذاً فهم المنع والتحريم من النهي، ثم تبين له النسخ بعد ذلك بالأحاديث التي فيها حض على نشر العلم وتحريم كتمانه، فبلغ الحديث. وهو وجه ضعيف، لأنه لو كان الأمر كذلك لما أخر معاذ هذا إلى وقت وفاته.
رابعها: وقد ذكره الإمام ابن الصلاح: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى معاذاً عن البشارة العامة ورخص له بالبشارة الخاصة، وهذا هو الذي فعله معاذ، فإنه لم يخبر الناس في مجامعهم، لكنه أخبرهم عندما احتضر، والعادة أنه لا يحضر مجلس المحتضر إلا خواصه وأصحابه ليسلوه ويثبتوه ويدعوا له فأخبرهم عند موته.
أظهر الأجوبة والعلم عند الله الجواب الثاني، وأما الجواب الثالث ففيه بعد، والجوابان الأول والرابع مقبولان والعلم عند الله.
الجواب الثاني:(7/327)
إذا قيل: ورد عن نبينا عليه الصلاة والسلام السؤال بحق السائلين وهذا توسل بحق مخلوق، ثبت الحديث بذلك في مسند الإمام أحمد ومسند بن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري والحديث رواه الإمام ابن السني في كتابه (عمل اليوم والليلة) من حديث بلال وأبي سعيد الخدري، ورواه أيضاً أبو نُعيم في كتاب الصلاة، وابن خزيمة في كتاب التوحيد، ولفظ الحديث. عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: [من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءً ولا سمعةً، خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، فأسألك أن تعيذني من النار وأن تدخلني الجنة وأن تغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قال ذلك: أقبل الله عليه بوجهه واستغفر له سبعون ألف ملك] فهنا ورد [بحق السائلين] فكيف هذا؟
والجواب: أن السؤال بحق السائلين هو توسل إلى رب العالمين بما جعل الله سبباً لإجابة دعاء المخلوقين وذلك السبب هو: دعاء الله وعبادته، وكأن القائل للدعاء المتقدم يقول: يا رب إنك وعدت السائلين الإجابة وقطعت وعداً على نفسك بذلك لما قلت (ادعوني أستجب لكم) فأسألك بذلك الوعد الذي قطعته على نفسك وأسألك بحق السائلين هذا أن تجيرني من النار وأن تدخلني الجنة وأن تغفر لي ذنوبي (1) وهذا توسل بمعنىً مقبول فإن هناك ارتباطاً وملازمة بين المتوسَل به وبين المتوسِل.
__________
(1) هذا كما لو أن رجلاً مثلاً نشر في جريدة بياناً أن من يأتي إلي بيته في يوم كذا سيعطيه مائة درهم فذهبت ولم يعطك إعانة فتقول له أسألك بشرطك الذي نشرته بعرضك الذي وعدته أن تعطيني مائة درهم.(7/328)
وليس من هذا النوع سؤال المخلوق الخالق بحق مخلوق أو بصلاحه أو بجاهه أو بمنزلته، لأن كون المخلوق له منزلة وله جاه وله قدر وله شرف وله رتبة ليس ذلك بمعنىً موجب لإجابة الدعاء، فأي مناسبة بين صلاح إنسان ما وبين توسلك إلى الله بصلاحه في إجابة دعائك؟!! وأي مناسبة بين نبوة وجاه ومنزلة النبي صلى الله عليه وسلم وبين دعائك.
ثم إن السؤال بالجاه والمنزلة يستوي فيه الكافر والمؤمن فلو قال الكافر يا رب أسألك بجاه بينك أن تقضي حاجتي، ولو قال المؤمن يا رب أسألك بنبيك صلى الله عليه وسلم – أن تقضي حاجتي لاستوى الأمر، فهذا الكلام لو قاله الكافر لما أمر به ولو صار مؤمناً بقوله هذا، ولو قاله المؤمن لما دل على أنه متبع، بل لابد من سبب منك نحو المتوسّل به، أو منه، أو نفس الجاه والمنزلة فليس بعله في إجابة الدعاء ولا يوجب قضاء الجوائج، ولا يلزم من حصول ذلك الجاه، قضاء حاجتك إلا إذا آمنت به، فقل: اللهم إني أسألك بإيماني بمنزلة نبيك صلى الله عليه وسلم أن تقضي حاجتي، ولا حرج في ذلك، ثم إن التوسل هنا بحق السائلين إنما توسل بأمر قد وعد الله به عباده فآل الأمر إلى توسل بسبب من المتوسِّل، لأن الله قطع على نفسه عهداً أن يجيب السائل، فنحن كأننا نقول: نسألك يا رب بذلك الحق الذي آمنا به وصدقنا أن تجيب دعاءنا والدليل على إيماننا هذا الدعاء منا.
تنبيه:
حديث أبي سعد وبلال هذا ضعيف على انفراده، قال أئمتنا: هو مسلسل بالضعفاء. وقد حكم عليه بالضعف الإمام النووي في الأذكار والإمام المنذري في الترغيب والترهيب، لكن الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله حسنه في تخريج أحاديث الأذكار لكثرة طرقه وشواهده.
وعليه فهو ضعيف على انفراده، لكن له شواهد ترفعه لدرجة الحسن، فلا مانع من الدعاء به إذا خرج الإنسان إلى المسجد.
الجواب الثالث:(7/329)
قررنا في الجواب السابق أن هذا التوسل يؤول في النهاية إلى أنه توسل إلى الله بفعلنا، ويمكن أن يقال هنا في هذا الجواب، أن هذا من باب التوسل إلى الله بأفعاله أيضاً، فالله جل وعلا عندما وعد السائلين العطاء والداعين الإجابة فهذا فعل من أفعاله، ويجوز أن نتوسل إلى الله جل وعلا بأفعاله وصفاته كما يجوز بذاته، فكأننا نقول: يا رب كما أنك تعطي السائلين وتجيب الداعين نتوسل إليك بهذا الفعل الذي يجري منك والذي تكرمت به علينا وأن تقضي حوائجنا وأن تعطينا طلبنا (دخول الجنة، والإجارة من النار، ومغفرة الذنوب) .
وكل من الجوابين أفادهما الإمام ابن تيمية في كتابه الجليل (قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة) من صـ52 إلى صـ65، وأعاده في صـ145 إلى صـ147.
الجواب الرابع: في جواب أنه لا يجوز أن نقول بحق فلان ...
أنه لو كان التوسل بالجاه مشروعاً لاستوى الأمر في ذلك كون المتوسَّل به حياً أو ميتاً وإذا كان الأمر كذلك فجاه نبينا عليه الصلاة والسلام أعلى جاه وأرفعه وأتمه، فلو كان التوسل بجاهه جائزاً لما عَدَل عمر عن التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى العباس، لان جاه نبينا عليه الصلاة والسلام جاه رفيع عالٍ لا يختلف سواء كلن حياً أو ميتاً.
ولم ينقل عن صحابي أنه توسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، بل غاية ما قاله عمر كما تقدم في صحيح البخاري [إنا كنا نتوسل إليك بنبينا عليه الصلاة والسلام فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا عليه الصلاة والسلام فاسقنا] .
فإذن عدول الصحابة عن التوسل بجاه نبينا عليه الصلاة والسلام بعد موته دل على أنه لا يجوز التوسل بجاهه في حياته لأن الجاه لا يختلف حياً أو ميتاً، نعم كانوا يتوسلون به لكن بدعائه واستشفاعه لا بجاهه، ولو كانوا يتوسلون بجاهه في حياته لتوسلوا بجاهه بعد مماته.
الجواب الخامس: وهو آخر الأجوبة:(7/330)
نقول: أمور الاعتقاد ينبغي فيها غاية الاحتياط ولو سلمنا جدلاً وتنزلاً – بعد أن قررنا في الأجوبة الأربعة الماضية أنه لا يجوز – لو سلمنا أن هذا النوع من التوسل اختلف في جوازه مع أن المذاهب الأربعة يقولون: "ولا يُسأل الله إلا به (1) فلا تقل: أسألك بملائكتك أو أنبيائك أو رسلك" وهذا نص متن الحنفية في كتاب (الاختيار) وهذا على سبيل المثال لو سلمنا أن فيه خلافاً فتركه متعين عند المهتدي خشية أن يكون فيه ضلال وهو لا يدري فليترك الصيغة المختلف فيها فليقل صيغة لا اختلاف فيها.
إخوتي الكرام.... انتبهوا!! نظير هذه المسألة مسألة شد الرحل لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم هل يجوز أم لا؟
فالإمام ابن تيمية قال: لا يجوز شد الرحل لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد] ، فجاء الإمام السُبكِي ورد عليه بعد ذلك بكتاب سماه (شفاء السقام في زيارة خير الأنام) ، ثم ألف الإمام الحافظ ابن عبد الهادي بعد ذلك كتاباً رد فيه على السبكي سماه (الصارم المُنْكِي في الرد على السُبْكِي) .
__________
(1) أي لا يسأل الله إلا بالله، أو بسبب مشروع كطلب الدعاء من إنسان أو عمل صالح منك تتوسل به إلى الله، إذن فتتوسل إلى الله بالله، وتتوسل إلى الله بدعاء إنسان وتتوسل إلى الله بعمل صالح، والأول أعلى أنواع التوسل أن تتوسل إلى الله بالله يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث [في رواية: بك أستغيث] فأصلح لي شأنيَ كُلَّه ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين.(7/331)
إخوتي الكرام ... والله ما أدري أن الأمر يستدعي هذا الخلاف الطويل الشديد، ولا أرى هذا مشروعاً، فالمسألة تحل بسهولة، قال لي بعض الإخوة مرة، وأنت ما رأيك في المسألة فقلت: والله إن المسألة أقل من أن نبذل جهداً في حلها، ثم قلت له: هل تجوز زيارة مسجد النبي عليه الصلاة والسلام أم لا؟ قال: بالإجماع تجوز، قلت: وإذا دخلنا المسجد فهل يجوز أن نسلم على النبي عليه الصلاة والسلام وأن نبكي في الروضة المشرفة شوقاً إليه وحزناً على عدم رؤيته أم لا؟ قال: يجوز، قلت: إذن لا خلاف في المسألة، فلماذا بدلاً من أن أقول شددت الرحل إلى زيارة النبي صلى الله عليه وسلم أقول شددت الرحل لزيارة المسجد ثم بعد دخول المسجد أزور النبي عليه الصلاة والسلام، فلماذا لا ينوي من يريد زيارة النبي صلى الله عليه وسلم نية مجمعاً على جوازها ولا يقول لأى أحد إنك قد ابتدعت، لأنه نحن في الأصل لا خلاف بيننا في النهاية أنا وأنت سنزور النبي صلى الله عليه وسلم، لكن اختلافنا في القصد هل نشد الرحل للزيارة المجردة أو للمسجد قلت: ما أحد يشد الرحل للزيارة المجردة، فهل يعقل أن يذهب أحد إليه ولا يصلي فيه مع أن الصلاة فيه تعدل ألف صلاة؟!! وهل يعقل أن يذهب أحد للروضة ولا يصلي فيها؟!! هذا مستحيل.
إذن فالذي يذهب إلى المدينة المنورة فلينو الذهاب إلى المسجد ثم يقول بعد ذلك: سأزور النبي صلى الله عليه وسلم، ولا حرج في ذلك إن شاء الله.
بعض المتوسلين ممن كان يتوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم قال لي – وهو يعلم أنني لا أجيز هذا – وكأنه يريد أن يتحداني -: يا شيخ هؤلاء الوهابية يقولون لا يجوز التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يكن للنبي جاه فمن له جاه؟!(7/332)
إخوتي الكرام ... لو أردت أن أقابل عنفه بعنف فلن نصل إلى حل، فقلت له: يا عبد الله لا أريد الآن لا وهابية ولا صوفية، هذه الشريعة إسلامية ونحن نعبد الله بها، وأقل ما في هذه الصورة التي تقولها أن فيها خلافاً وعندنا صيغة أخرى تؤدي مدلولها وفيها زيادة عليها ولا خلاف في جوازها، قل: أسألك بحبي لنبيك عليه الصلاة والسلام أن تقضي حاجتي وأرح نفسك وخلص الأمة من الخلافات والمشاكل وهل صار الدين نكاية ببعضنا، فلكوني لا أجيز هذا أنت ستتحداني، بل تعال يا عبد الله لنقل كلمة مجمع عليها، أنا أقول لك جزاك الله خيراً، وأنت تقول لي جزاك الله خيراً، وأنت مهتد وأنا مهتدي إن شاء الله تعالى.
إخوتي الكرام.... بالنسبة لتوحيد كلمة الأمة والتأليف بين القلوب هذا مطلوب لاسيما إن لم يكن في ذلك ترك لركن أو شعيرة، ولم يكن فيه احتقار للنبي صلى الله عليه وسلم، أما لو كان فيه ذلك وكان فيه احتقار للنبي صلى الله عليه وسلم فإننا لا نوافق أهل الأرض على كلامهم بحجة التأليف وتوحيد الكلمة فلا مجاملة في دين الله، والأمر الذي عندنا ليس كذلك فليس في توحيد الكلمة فيه ترك لركن أو شعيرة بل وهو مما ليس فيه أيضاً احتقار للنبي صلى الله عليه وسلم.
ولذلك يجب على المهتدي أن يقول صيغة في توسله لا خلاف فيها حتى، لا يُعترض عليه لاسيما أننا في أمر اعتقاد، وليس في أحكام عملية فرعية حتى يُقال دعوا الأمة في سعة، وقد تقدم معنا إخوتي الكرام ما يشير إلى هذا عند كلام الإمام أحمد في(7/333)
أنه يجوز القسم بالنبي صلى الله عليه وسلم وذكرت لكم هذا، وأننا إذا أقسمنا بالله فهو قسم جائز بالإجماع، وإذا أقسمنا بالنبي عليه الصلاة والسلام فهو مما فيه خلاف، فلنترك ما فيه خلاف إلى ما لا فيه خلاف، وهنا كذلك، التوسل بحب النبي صلى الله عليه وسلم أو بنحوه من التوسل الجائز أفضل من التوسل بالجاه لأنه مما أُجمع على جوازه، ثم إن فيها معنىً أعلى من التوسل بالجاه أيضاً، بالإضافة إلى ما فيها من توحيد القلوب وتآلفها، ودين الله ليس نكاية ببعضنا البعض، فنحن كلنا نتبع نبياً واحداً عليه الصلاة والسلام ونعبد إلهاً واحداً، فأنا إذا رأيت فعلك شرعياً، وعندي بعد ذلك رأي يمكن أن يخالف فعلك، فأقول: أفعل الفعل الشرعي الذي تفعله كي أوافق أخي وأترك رأيي وإن كان شرعي خير وأحسن من فعل يفعله واحد وهو شرعي.
... إخوتي الكرام ... الاحتياط في أمور الاعتقاد مطلوب، وإذا رأيتم من يفعل هذا النوع من التوسل – وما أكثرهم – فعظوه برفق ولطف، وقل له: أدري أنك لا تقصد بدعة ولا ضلالاً ولا انحرافاً بدعائك هذا، بل أنت لا تقصد إلا خيراً، لكني سأرشدك إلى صيغة أحسن من هذه وأكمل وتدل على تعلقك بنبيك عليه الصلاة والسلام – وأنت إذا قلت هذا فسيفرح حتماً ويقول لك: وما هي التي أعلى منها؟ فقل له قل: أسألك بحبي للنبي عليه الصلاة والسلام، فبالرفق ادعوه وأما إذا رأيته يتوسل بالجاه وقلت له: هذه بدعة، فإنه سيسبك أنت وأبويك والذي علمك ومن هم على طريقتك من أهل الأرض لأنه يفسّر هذا القول منك بأنه احتقار للنبي صلى الله عليه وسلم وامتهان له مع أن الأمر ليس كذلك، واللهِ إن الذي يقول لا يوجد جاه للنبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر، وإذ لم يكن للنبي جاه فمن الذي له جاه؟!! وهو الذي يقول عن نفسه: [أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر] فهل بعد هذه السيادة من سيادة؟!!!.
واختموا الكلام عن هذا السؤال وأجوبته بقول أئمتنا، وهو:(7/334)
إن السؤال بجاه مخلوق هذا من باب الاعتداء في الدعاء، وهو حرام، وقد نهانا نبينا عليه الصلاة والسلام عن الاعتداء في الدعاء.
ففي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وابن ماجه – والحديث صحيح – عن عبد الله بن مغفّل رضي الله عنه [أنه سمع ابناً له يدعو فيقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة، فقال: يا بني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: سيكون في هذه الأمة أقوام يعتدون في الدعاء وفي الطُّهور، فإذا دعوت فسَل الله الجنة واستعذ به من النار] .
هذا التحكم وهذا التحديد وهذا الشطط من باب الاعتداء في الدعاء، بل الواجب أن تسأل الله الجنة، وأن تستعذ به من النار، ولا تحدد وتتحكم.
والاعتداء في الطهور هذا موجود وهو الإسراف في الوضوء والغسل، فتراه يتوضأ ببرميل واثنين وأكثر ويرى أنه لم يتطهر ولم يغتسل ولم يسبغ الوضوء، حتى أن البعض ينغمس في البركة خمس مرات ثم يخرج ويقول الماء لم يبلغ جسمي!!!.
وقد رأيت أمثال هؤلاء الموسوسين في حلب لما يأتي للصنبور (الحنفية) يضربها برجله خشية أن يكون مسها إنسان ونجسها ثم يجلس يتوضأ من بداية الآذان وتنتهي الصلاة وما زال يتوضأ وكلما قام رجع وقال لم أسبغ الوضوء بعد!!!.
وجاء رجل إلى الإمام ابن عقيل الحنبلي فقال له أغتسل في البركة ويوسوس لي الشيطان بأنني لم أبلّغ أعضائي ولم يسقط غسل الجنابة عني، فماذا أعمل؟ فقال له الإمام: تسمع مني؟ قال: نعم، قال: اترك الصلاة، قال: وكيف أتركها؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رفع القلم عن ثلاث ذكر منهم: وعن المجنون حتى يعقل، ولا يفعل هذا إلا مجنون.
الحاصل أن الإسراف في الماء من الاعتداء في الطهور، والطهور إنما شُرع لأجل أن يزيل الخطايا والذنوب لا ليطهّر الأعضاء الحسية، فلا داعي للإسراف وإياكم أن تعتدوا!!!.
وكذلك الدعاء بجاه النبي صلى الله عليه وسلم هذا من باب الاعتداء في الدعاء، فإياكم أن تعتدوا!!!.
تنبيه ثانٍ:(7/335)
روي الحاكم في المستدرك (2/615) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [لما اقترف آدم الخطئية (1) ، قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي (2) ، فقال الله: يا آدم، وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه (3) ، قال: يا رب إنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله، صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إليّ ادعني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك] ، ثم قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد.
فقد يقول قائل: هذا حديث في المستدرك على الصحيحين وقد صححه الحاكم مع أن فيه: أن آدم توسل بحق محمد – عليه الصلاة والسلام – فكيف تقولون: إنه لا يجوز أن نسأل الخالق بحق مخلوق؟
والجواب: إن الإمام الذهبي علق على كلام الحاكم في تلخيص المستدرك وهو مطبوع مع المستدرك في حاشيته: "صحيح الإسناد!! قلت: بل موضوع، وعبد الرحمن واهٍ" إذن هذا حديث موضوع مكذوب فلا حجة فيه.
والسبب في أن الحاكم أخطأ في كثير من الأحاديث وصححها وهي ضعيفة بل موضوعة، أن كتابه المستدرك هذا كتبه تلامذته وكان هو يمليهم من صدره، فلما كتبه التلاميذ بقى في حيز المسوّدات ولم يبيضه الحاكم وكان ينوي أن يعيد النظر فيه، ويراجعه، فتوفي قبل ذلك رحمه الله.
__________
(1) أي أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها.
(2) أي أسألك بحق محمد أن تغفر لي.
(3) أي ما الذي أدراك به وأنت أول البشر، ولم يحصل لك للآن نسل أو أولاد، فكيف عرفت به وهو آخر رسل الله على الإطلاق.(7/336)
والإنسان أحياناً عندما يحدث من حفظه قد يشتبه عليه بعض الرواة فيكون الراوي ضعيفاً أو كذاباً ولا ينتبه له عندما يحدث من حفظه، لكن عندما يجلس ليؤلف ويصنف فهناك يتحقق، ودائماً الحديث الشفوي النظري ليس له من التحري والتأكد كما يكون في حال الكتابة والتوثيق، فهذا مثلاً في هذا الحديث عند الرحمن بن زيد بن أسلم واهٍ لكن خفي هذا الكلام على الحاكم، لأنه في مجلس إملاء – كما قلت – ومجالس (1) الإملاء كانت في سلفنا وانقضت بانقضاء السلف الصالح وما خلفهم أحد يسد مسدهم والعجب لموقف الإمام ابن تيمية عليه رحمات رب البرية نحو هذا الحديث، ففي كتاب الاستغاثة الذي سماه في الرد على البكري، يقول في صـ5: هذا الحديث لا يوجد في شيء من دواوين الإسلام فلم يخرجه أحد من أصحاب الصحيحين ولا المسانيد ولا السنن ولا الحاكم في المستدرك ولا غيرهم.
__________
(1) مجالس الإملاء: كان الشيخ يجلس فيها ويملي من صدره لا من كتابه، فأحياناً يملي في المجلس الواحد ألف حديث أو خمسمائة حديث أو مائة حديث بأسانيدها ومتونها من صدره، وهذا كان يتميز به سلفنا عمن بعدهم؟ فالعلم في صدورهم لا في كتبهم، وكما قيل: العلم ما حواه الصدر لا ما حواه القِمَطْرُ.
وحقيقة مجالس الإملاء تدل على نبل العلماء لكن كما ذكرت ليس فيها من التحري ما يوجد في التصنيف، والتأليف والتحقيق فهذه كما قال البخاري: لم أودع حديثاً في الجامع الصحيح إلا بعد أن اغتسلت وصليت ركعتين واستخرت الله في وضعه، فانظر لهذا التحري من الإمام البخاري؛ لأن هذا تصنيف وليس من إملائه على أحد، لكن الحاكم ليس كذلك كان يملي وتلامذته يكتبون وراءه ما يملى عليهم، فمات قبل أن ينظر فيما كتب عنه وكانت فيه أحاديث ليست بصحيحة فجاء الإمام الذهبي واستدركها على الحاكم وسماه تلخيص المستدرك.(7/337)
وجاء في كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة فقال صـ69 بعد أن ذكر هذا الحديث: "رواه أبو عبد الله الحاكم في المستدرك وهذا مما أنكر عليه".
وفوق كل ذي علمٍ عليم – وهذا حال البشر – فلعله – والعلم عند الله – ألف كتاب الاستغاثة في أول الأمر وما علم بوجود هذا الحديث في المستدرك ثم اطلع عليه بعد ذلك فتعرض له في كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة وبين أن هذا الحديث موضوع.
فهذا الحديث باطل قطعاً وجزماً [لولا محمد ما خلقتك] ، والحديث الموضوع الآخر [لولاك لما خلق الله الأفلاك] أي الكواكب والنجوم والحديث الموضوع الآخر [خلق الله الورد من عرق النبي صلى الله عليه وسلم] .
هذه الأحاديث كلها أحاديث موضوعة يضعها بعض المخرفين الذين يزعمون أنهم بوضع هذه الأحاديث يحبون النبي الأمين عليه صلوات الله وسلامه، وعندنا فرقة ضالة في الأمة الإسلامية أجازت وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب هم الكرامية (1)
__________
(1) الكرامية هم أتباع محمد بن كرام السِّجستاني الذي هلك سنة 225هـ، هؤلاء أجازوا وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب يقول أئمتنا في ترجمة هذا العبد المخذول – محمد بن كرام -: التقط من المذاهب أردأها، ومن الأحاديث أوهاها – وهؤلاء أولاً: يقولون بتشبيه الخالق بالمخلوقات. ثانياً: يقولون بجواز وضع الأحاديث على خير البريات وقالوا: نحن نكذب له لا عليه ونحن نروج دعوته، وكأن دين الله الحق ليس فيه ما يحبب الناس فيه حتى احتاج إلى كذب الكذابين وإفك الآفكين؟!! سبحان الله!! منزلة نبينا عليه الصلاة والسلام وهي أعلى منزلة بلا خلاف.
وأفضل الخلق على الإطلاق ... نبينا فمِلْ عن الشقاق
لكن لا يجوز بعد ذلك أيضاً الإطراء والغلو أيضاً، كما حذرنا عليه صلوات الله وسلامه ففي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب مرفوعاً [لا تطروني كما أَطْرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله] والإطراء هو المدح بالباطل والمجازفة في المدح والمبالغة فيه بحيث تذكر في الممدوح ما لا يوجد فيه، فهل خلق الله الكون من أجل محمد عليه الصلاة والسلام؟!! أم أنه ما خُلِق هو، والخلق كلهم إلا لتوحيد الله وعبادته؟!! (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) ، فلماذا هذا الإطراء والافتراء على رب الأرض والسموات لولا محمد ما خلقتك، ولولا محمد ما خلق الله الأفلاك، هذا كلام باطل وهو من الإطراء المنهي عنه فاحذروا، وعندنا في التفسير آيات تسمى آيات العتاب، قال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام (عفى الله عنك لم أذنت لهم) (لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم) (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين) (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) . ثالثاً: يقولون الإيمان مجرد نطق باللسان وإن لم يعتقد بالجنان (القلب) ، فهذه هي ضلالات الكرامية الثلاثة.(7/338)
وجوز الوضع على الترغيب ... قوم ابن كرّام وفي الترهيب
س: حُكمنا على هذا الحديث جاء من المتن أو الإسناد؟
جـ: جاء من الأمرين معاً: فالسند كما قلنا فيه عبد الرحمن بن زيد وهو ضعيف بالاتفاق، وخفي ضعفه على الحاكم، فليس هو من رجال البخاري ولا من رجال مسلم، وأخرج له الترمذي وابن ماجه القزويني، ولذلك إذا نظرت في ترجمته في تقريب التهذيب ترى الحافظ ابن حجر قال: "عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من الثامنة ضعيف، ت، ق" أي هو من طبقة الرواة الثامنة، وهو من رجال الترمذي والقزويني ابن ماجة.
ثم إن معنى الحديث كما قلت باطل ومردود منكر، فالآفة من الأمرين، والحاكم في الأصل أنه يورد في المستدرك أحاديث الرواة الذين أخرج لهم البخاري ومسلم، ولكن عبد الرحمن بن زيد ليس كذلك بل وليس هو أيضاً على شرط الصحيح مطلقاً.(7/339)
.. حكم عليه الإمام الذهبي بالوضع، وإلا فالسند لا يقوى على الوضع، والراوي الضعيف أحياناً نحكم على روايته بالوضع لا لأنه ضعيف إنما لأن هذه الرواية خالفت عندنا الأصول الشرعية الثابتة، فلعله لضعفه التبس الأمر عليه ووهم، لكن شتان بين من يتعمد الوضع وبين من يخطئ ويهم وينسى ولا يضبط، فنحن بالنسبة لعبد الرحمن على انفراده لا نقول عنه إنه وضاع كذاب لكن نقول: هذه الرواية موضوعة ووهم في روايتها، هذا كما لو جاءنا راوٍ ثقة برواية مقلوبة، فما معنى مقلوبة؟ يعني موضوعة لكن أئمتنا أرادوا أن يهذبوا اللفظ لأن لفظ الوضع فيه شناعة لا يليق أن توصف به رواية الراوي الثقة كالحديث الثابت في صحيح مسلم عن السبع الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله [رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما أنفقت شماله] هذا مما انقلب على الراوي والصحيح الثابت عند البخاري وغيره من الأئمة [حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه] ، كأن القلب وضع، لكن هناك فرق بين يكون الراوي تعمد ذلك وبين أن يكون قد أخطأ، فلما أخطأ قلنا هذه مقلوبة في المتن، والمقلوب ليس من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه موضوع لكنه لا يوصف بأنه موضوع كما ذكرنا ولا يوصف الراوي بأنه وضاع بل يبقى عندنا ثقة، وهنا كذلك الراوي ضعيف لكن الرواية موضوعة نص على وضعها الذهبي في تلخيص المستدرك، ونص على وضعها أيضاً الإمام ابن تيمية عليهم جميعاً رحمة الله.
س: لماذا أورد الحاكم هذا الحديث مع بطلانه وضعف سنده؟(7/340)
جـ: بالإضافة إلى ما ذكرناه من أنه رحمه الله لم يصنف هذا الكتاب إنما أملاه إملاءً وكتبه تلامذته وراءه، نضيف هنا فنقول: الإمام الحاكم رحمه الله يجمع ما بلغه وما نُقل له وما حَدَّث به ثم يبقى بعد ذلك دور الغربلة والتنقية: هل هذا الحديث صحيح أم لا؟ يحتاج لنظر ولو صح هل وجد ما يعارضه أم لا؟ فإذا وجد ما يعارضه هل هذا أقوى أم ذلك حتى نعمل بينهما ترجيحاً؟ فشتان بين جمع الأحاديث فقط وبين جمعها للاستدلال بها. ففي الحالة الأولي (الجمع) يجمع فقط، وفي الثانية (الاستدلال) يختار ويمحص.
... وقد قلت مرة لأحد شيوخنا الشيخ مصطفى الحبيب الطير في مصر، وهو من المشايخ الصالحين الطيبين قلت له: موضوع أئمة الإسلام المتقدمين كأمثال ابن جرير (ت: 310هـ) وغيره كأبي نُعيم والخطيب البغدادي ملأوا كتبهم بالأحاديث الضعيفة، بل في بعضها موضوع أيضاً، فهذا العمل منهم يحيرني وهم الجهابذة وعلماء السنة والرجال والتاريخ.
فقال لي: يا بني، إن عصرهم كان عصر جمع فقط، وهذا من أمانتهم وتقاهم وخشوعهم لربهم وتحريهم جمعوا ما بلغوا لكن لا تظنوا أنه جمع كجمعنا كحاطب ليل، بل جمع بأدق وأحسن وأتم طرق الجمع معه علامات تدل على قبول الرواية أوردها، وهذه العلامات هي الإسناد، وكأنهم يقولون لنا: هذا الكنز الذي نقلناه إليكم لم نخنكم فيه، بل أعطيناكم علامات تدل على ثبوته أو على رده وهي الإسناد.
ولذلك قال أئمتنا: الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء. وقالوا أيضاً: إذا روى الإنسان حديثاً موضوعاً فلا يبرأ من عهدته ولا يخرج من إثم روايته إلا بأحد أمرين:
أ) إما أن يرويه بالسند، فمن أسند لك فقد حملك.
ب) وإما أن يبين أنه موضوع.
وإذا لم يفعل أحد هذين الأمرين فهو آثم، وهو أحد الكاذبَيْن على رسول الله صلى الله عليه وسلم [من كذب علي....] وهو هنا الذي نشر الكذب، لا الذي أنشأه وصاغه.(7/341)
وقال السخاوي في فتح المغيث في شرح ألفية الحديث، كان الإسناد من جملة البيان عند المتقدمين، وفي الأعصار المتأخرة صار ذكر الإسناد وعدمه سواء عند الناس فإذن هذا من أمانة العلماء المتقديمن.
ثم قال لي – وهو جواب على ما استشكل على -: يا بني قد يكون الحديث ضعيفاً عند الطبري، والضعف يسير محتمل، وقد يوجد هذا الحديث نفسه عند أبي نُعيم من طريق آخر ضعيف أيضاً، وكذلك يوجد الخطيب البغدادي الحديث نفسه من طريق آخر ضعيفاً فلو أن كلاً منهم أهمل هذا الحديث بحجة أنه ضعيف عنده لأهملوا لنا ثروة عظيمة وهي الشواهد والمتابعات، فهذا الحديث الذي رواه الطبري وهو ضعيف يتقوى بما رواه أبو نعيم ويتقوى بما رواه الخطيب، فيصل لدرجة الحسن ويصبح مقبولاً.
مبحث الميثاق
يقول الإمام الطحاوي عليه رحمات ربنا الباري:
"والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق"
إخوتي الكرام ... الميثاق معناه في اللغة: العهد المؤكد، والوثاق هو حبل أو قيد يشد ويربط به الأسير أو الدابة، يقول الله تعالى: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق) ، ما معنى الوثاق؟ حبل وقيد، فما يقيد به يسمى وثاق لأن فيه أحكاماً وربطاً وهكذا الميثاق عهد مؤكد، لكن العهد معنوي إن أكدته بيمين أو بالتزام وتصميم يقال له ميثاق كما أن ذاك إذا قيدته بالحبل يقال له أحكمت وثاقه وجعلته في ميثاق محكم لكنه ميثاق حسي.(7/342)
إنما أصل الميثاق – كما قلت – عهد مؤكد ولذلك قال الله جل وعلا في سورة النساء (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً) الميثاق هنا عهد مؤكد، وقوله، (غليظاً) أي ميثاقاً مؤكداً كثيراً وكثيراً، إذن التأكيد فيه كثير ولذلك [إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج] كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام، والحديث في صحيح مسلم، فالميثاق الغليظ هذا هو عقد النكاح عندما يتم إيجاب وقبول، هذا ميثاق غليظ فهو عهد مؤكد أمرنا الله أن نرعى هذا العهد وأمرنا ولي المرأة أن نرعى هذا العهد وأن نتقي الله في عرضه وهكذا المرأة جاءت إلى الرجل لتكون في كنفه ورعايته وأعطاها عهداً بذلك عن طريق العهد فإذن هذه ميثاق غليظ وعهد مؤكد بمزيد التأكيد.
فالمراد بالميثاق إخوتي الكرام ... أقام الله جل وعلا ميثاقه على عباده وحججه عليهم بأمور كثيرة، كثرتها تنضبط في ثلاثة أمور:
أولها: وهو أولاها بالاعتبار – إرسال الرسل.
الثاني: العهد الذي أخذ عليهم في عالم الذر عندما استخرجوا من صلب أبيهم آدم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، ومن أصلاب آبائهم.
الثالث: الفطرة المستقيمة التي فطر الله عباده عليها.
أما إرسال الرسل فهو آخر الأمور وآخر المواثيق التي أخذها الله على عباده وهو أهمها، وأول المواثيق التي أخذها الله على المكلفين هو الميثاق الذين أخذ عليهم في عالم الذر، وبين هذين الميثاقين ميثاق الفطرة، وهذه المواثيق الثلاثة هي شيء واحد فكل المقصود منها هو أخذ العهد على العباد وإقامة الحجج عليهم بأن يعبدوا الله وحده لا شريك له، جرى هذا في عالم الذر، وفطر الله العباد عليه بعد أن خلقهم وأرسل إليهم الرسل بعد أن أوجدهم ليؤمنوا بالله ويعبدوه وحده لا شريك له.(7/343)
.. وسنتكلم عن هذه المواثيق كلها لنعرف الميثاق من جميع وجوهه، ولنعرف بعد ذلك الميثاق الذي أُخذ علينا في عالم الذر وأشار إليه ربنا في سورة الأعراف (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى (شهدنا (أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون، وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون) آية 172، 173.
1- الميثاق الأول: إرسال الرسل:
يشترك لتكليف العباد إرسال الرسل إليهم وغالب ظني أنه تقدم معكم في السنة الأولى أنه يشترط في تكليف العباد بتوحيد ربهم أربعة شروط:
أولها: العقل.
وثانيها: البلوغ.
ثالثها: سلامة إحدى حاستي السمع أو البصر، فلابد من وجود واحدة منها، أما لو كان أعمى وأصم في آنٍ واحد فيرفع عنه التكليف كما لو كان مجنوناً، أما لو كان أعمى أو أصم، فلا يرفع عنه التكليف، لأنه إن كان أعمى فنبلغه دعوة الله عن طريق السمع، وإن كان أصم فنبلغه دعوة الله عن طريق الإشارة.
رابعها: بلوغ الدعوة عن طريق رسل الله الكرام.
والذين لا توجد فيهم هذه الشروط لتكليفهم بتوحيد ربنا المعبود يمتحنون في عَرَصات الموقف كما امتحنا نحن في هذه الحياة فمن أطاع الله منهم دخل الجنة ومن عصاه دخل النار وهذا القول ثبتت به الأحاديث تقارب الأحاديث المتواترة حكم عليها أئمتنا بأنها مستفيضة وهذا القول هو الذي يجمع بين الأحاديث التي وردت في هذه المسألة.
فقد وردت بعض الأحاديث التي تخبر بأن أولاد المشركين في النار، وبعض الأحاديث تقول إنهم في الجنة، وبعض الأحاديث تقول الله أعلم بما كانوا عاملين، وبعض الأحاديث – كما قلت لكم – أخبرت أنهم يمتحنون فالجمع بين هذه الأحاديث أن نقول:
? إن الأحاديث التي أخبرت أنهم في النار أي هم في النار بعد أن يمتحنوا ويعصوا.(7/344)
والأحاديث التي أخبرت أنهم في الجنة أي هم في الجنة بعد أن يمتحنوا ويطيعوا.
? وأما الأحاديث توقف فيها نبينا عليه الصلاة والسلام وقال الله أعلم بما كانوا عاملين، أي الله أعلم بمصيرهم هل هو إلى الجنة أو على النار قبل الامتحان، فهذا لا نعلمه نحن قبل أن يمتحنوا بل الله وحده هو العالم بما سيعملون بعد امتحانهم.
? والأحاديث التي أخبرت أنهم سيمتحنون هذا هو الواقع وهذا هو الذي سيحصل فيمتحنون فيظهر معلوم الله فيهم، فبعضهم يدخل الجنة وبعضهم يدخل النار.
إذن أولاد المشركين وهكذا الذين ماتوا في الفترة ومن في حكم من لم تكتمل فيهم شروط تكليفهم يمتحنون في عرصات الموقف وساحة الحساب فمن أطاع دخل الجنة ومن عصى دخل النار كما امتحنا نحن في هذه الحياة.
... إذن الميثاق الأول هو إرسال الرسل وهو حجة عظيمة أقامها الله جل وعلا على عباده بواسطة الرسل فأخبرنا الله في كتابه أنه لا يعذب العباد إذا لم يرسل إليهم رسولاً قال في سورة الإسراء آية رقم 15 (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) ، وأخبرنا الله جل وعلا أنه لو عذب العباد قبل إرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم لاحتجوا على ربهم جل وعلا يقول الله جل وعلا في سورة طه آية رقم 134 (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى) (من قبله) : أي من قبل إرسال الرسل إليهم، يعني لو عاقبنا الكفار من عتاة قريش وغيرهم قبل إرسال رسول إليهم لاعترضوا وقالوا كيف تعذبنا ولم يأتنا منك رسول ليبلغنا دعوة الله على أتم وجه، ولذلك قلت لكم هذا الميثاق الثالث الذي هو آخر المواثيق به يتعلق ويربط التكليف، فإذا لم يوجد فلا عبرة بميثاق الفطرة ولا بالميثاق الذي أخذ علينا في عالم الذر.(7/345)
وأخبرنا الله في كتابه أنه أرسل الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة فقال جل وعلا في سورة النساء آية 163-165 (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبوراً رسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليماً رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيماً)
الشاهد: رسلاً مبشرين ومنذرين.
... وأخبرنا الله جل وعلا في سورة الزمر أنه يقول للكفار يوم القيامة إن الرسل جاؤوكم فكذبتم واستكبرتم وما أعذبكم إلا بعد قيام الحجة عليكم، فقال جل وعلا 54-59 (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون، واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون، أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين، أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرَّةً فأكون من المحسنين، بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين)
الشاهد: بلى قد جاءتك آياتي.
... ولذلك أخبرنا الله في آخر السورة بعد ذلك أن الكفار يعترفون بأن الرسل أرسلوا إليهم وبلغوهم دعوة ربهم (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسلٌ منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم قالوا بلى ... ) الآية 71 سورة الزمر.(7/346)
.. وأخبرنا الله في أوائل سورة الملك أن الله أعد للكفار عذاب جهنم وبئس المصير وأنهم يعترفون بأنهم لو كانوا يسمعون أو يعقلون ما كانوا في نار الجحيم، يقول الله جل وعلا (وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير، إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور، تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير، قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير، وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير، فاعترفوا بذنوبهم فسحقاً لأصحاب السعير) . سورة الملك آية 6-11.
... وثبت في صحيح البخاري وصحيح ابن خزيمة – وهذا حديث يقرر إرسال الرسل إلى المخلوقين من أجل إقامة الحجة عليهم – عن عديّ بن حاتم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [وليلقين أحدكم ربه فيقول الله له: ألم أرسل إليك رسولاً فيبلّغْكَ؟ فيقول: بلى] أي بلى أرسلت إليّ رسولاً بلغني وثبتت الحجة عليّ.
2- الميثاق الثاني: إشهاد العباد على أنفسهم في عالم الذر عندما أخرجهم من صلب آبائهم وصوّرهم وكلمهم قُبُلاً وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى.
وقد وقع هذا في عالم الذر للأرواح والأبدان فاستخرج الله الصور والأبدان من المواد التي ستخلق منها بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها، ثم بعد أن استنطقهم وأشهدهم أعادهم إلى تلك المواد التي سيُخرجون منها بعد ذلك والله على كل شيء قدير، ولم يكن الخلق للروح فقط، ولا للبدن فقط – بل كما قلنا – للأرواح والأبدان خلقها الله وبثها بين يده وكلمنا قبلا ً.
هذا الميثاق وردت آية من القرآن تدل عليه، وحديثان مرفوعان إلى نبينا عليه الصلاة والسلام يقررانه، وآثر موقوف صحيح، كما سأورد أحاديث تشهد لمعناه – وهي كثيرة – ولكن ليس فيها التصريح بأن الله أخرج الذرية من صلب آدم في ذلك الوقت.(7/347)
أما الآية ... فهي في سورة الأعراف وتقدم ذكرها، يقول الله جل وعلا: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم (1) ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى (شهدنا (أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) .
فإذاً تم جوابهم عند قوله بلى، فتكون كلمة شهدنا إما من الله أو من الملائكة أي فقالت لهم الملائكة شهدنا، أو قال الله شهدنا عليكم بذلك: (أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) فلا تتعللوا بأحد أمرين: الأول: لا تقولوا نحن في غفلة عن هذا وما عندنا علم به فأنا أشهدتكم وأنتم في عالم الذر، الثاني: لا تقلدوا آباءكم في الضلالة ولا تقولوا نحن تبعنا آباءنا فهم كانوا على ضلال ونحن على طريقتهم، لا تقولوا هذا أيضاً فكل نفس بما كسبت رهينة أنا أخرجت كل واحد منكم وأشهدته على نفسه من ربك ومن إلهك؟ فقال: أنت إلهي وأنت ربي، فنحن إذ شهدنا عليكم بذلك ولذلك يحسن الوقف على كلمة بلى إذ كان جوابهم ينتهي عند هذه الكلمة (بلى) .
وإذا تم جوابهم عند قوله شهدنا فيكون المعنى: أخذنا عليكم العهد والميثاق في عالم الذر لئلا تقولوا (إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) .
__________
(1) قال (من ظهورهم) ولم يقل (من ظهره) لأن هذه الفروع مأخوذه من ذلك الأصل فهم أخرجهم الله من ظهر آدم ثم هذه الفروع أيضاً أخرها من بعضها، إذن أخرج الأحفاد من الآباء، والآباء من الأجداد، وكل من سيولد من أب بعد ذلك سيكون ممن أخرج من ظهره.(7/348)
إذن كلمة (شهدنا) إما أن تكون من الله ومن ملائكته أي: شهدنا لئلا تقولوا إنا كنا ... وإما أن تكون من قول الذرية، أي أخذنا من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدناهم على أنفسهم لئلا يقولوا إنا كنا.... وكلا التقديرين حق وأنت على حسب ما تلاحظه من المعنى تحدد الوقف.
وأما الحديثان المرفوعان:
أولهما: ثبت في مسند الإمام أحمد – بسند رجاله رجال الصحيح كما في المجمع (7/25، 189) – والحديث رواه الحاكم في المستدرك (1/28) وقال صحيح الإسناد وأقره الذهبي، ورواه ابن جرير في تفسيره وابن أبي حاتم في تفسيره وابن مردُوْيَهْ في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنَعْمان – يعني عرفة – فأخرج من صلبه كل ذرَّيّة ذرأها، فنثرها بين يديه (كالذر) ثم كلمهم قُبُلاً، قال: (ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون) ] .
(قُبُلاً) أي مشفاهة بدون واسطة.
فكان هذا الميثاق عليهم إذن فى عرفة وهي معروفة والتي يقف فيها الحجاج في اليوم التاسع من ذي الحجة، في مكان معروف اسمه نعمان من عرفات أخذ الله علينا العهد في ذلك الوقت، أخرج من ظهر آدم ذريته إلى يوم القيامة وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالو: بلى.(7/349)
وهذا لم يكن في الجنة، بل كان بعد أن أهبط (1) آدم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه إلى الأرض، وهذا الذي وقع في عالم الذر هذا من الإيمان بالغيب نؤمن به ولا نبحث في حقيقته.
وقد حاول الإمام ابن كثير أن يحكم على هذا الأثر بالوقف لأن الرواة اختلفوا فيه فمنهم من رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم من وقفه على ابن عباس وهي محاولة غير مرضية لأن مثل هذا لا يقدح في المرفوع فمن حفظ حجة على من لم يحفظ، وزيادة الثقة مقبولة، فإذا رفع راوٍ ثقة الحديث، ووقفه راوٍ آخر فيحكم بالزيادة وبرفع الحديث؛ لأن معه زيادة علم، فلعل ذاك شك فوقف الحديث على ابن عباس، وهذا تأكد وتحقق بأنه مرفوع وأنه سمعه من شيوخه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فصرح برفعه.
على أننا لو سلمنا أن هذا الأثر موقوف فله حكم الرفع قطعاً وجزماً لأن مثله لا يقال من قبل الرأي ولا الاجتهاد ولا الاستنباط.
__________
(1) هل كان إهباط آدم وإنزاله في عرفات أو في الهند؟ أقوال قيلت في ذلك لا دليل علي شيء منها أنه ثبت صحيح أن نزوله كان في مكان كذا، لكن أخذ على ذريته الميثاق في ذلك المكان، وهذا فيما يظهر والعلم عند الله أنه يرجح أن نزوله كان من الجنة إلى هذه البقعة المباركة الطاهرة (عرفات) ولا مانع أن يكون نزوله في أرض الهند ثم أتى به إلى هذا المكان واستخرج الله من صلبه وظهره كل ذرية ستكون إلى يوم القيامة ثم كلمهم قبلاً.(7/350)
الثاني: رواه ابن جرير الطبري في تفسيره (9/77) عند تفسير هذه الآية – التي تقدم ذكرها – من سورة الأعراف – عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [أُخذوا من ظهره كما يؤخذ بالشطر من الرأس، فقال لهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، فقالت الملائكة (1) : (شهدنا أن تقولوا ... ) الآية] .
... قال الإمام ابن جرير بعد أن روى هذا الأثر: لا أعلمه صحيحاً، فإن الثقات رووه عن سفيان الثوري فوقفوه على عبد الله بن عمرو ولم يرفعوه. ويعني بقوله: لا أعلمه صحيحاً أي لا أعلمه صحيحاً مرفوعاً، إنما أعلمه أنه موقوف على عبد الله بن عمرو.
نقول: لو ثبت الوقف فله حكم الرفع، والرواية المتقدمة ورد التصريح بأنها مرفوعة وهي صحيحة. فهذان هما الحديثان المرفوعان.
وأما الأثر الموقوف:
__________
(1) هنا كلمة شهدنا مصّرحٌ بأن قائلها هم الملائكة وليست ذرية بني آدم، والآية تحتمل الأمرين فلا مانع من أن يقول الذرية شهدنا، وأن تقول لهم الملائكة بعد ذلك شهدنا على قولكم وشهادتكم. وتقدم.(7/351)
.. فهو ما رواه الإمام أحمد في المسند أيضاً، والحاكم في المستدرك (2/324) وقال إسناده صحيح وأقره الذهبي، والحديث رواه أصحاب التفاسير الثلاثة المتقدمة أيضاً: ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مَرْدُوْيَهْ – فهؤلاء الخمسة رووا الحديث الأول المرفوع عن ابن عباس، ورووا هذا الأثر أيضاً – عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال في قول الله جل وعلا: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم....) الآية. قال فيها: [جمعهم فجعلهم أرواحاً ثم صورهم فاستنطقهم فتكلموا ثم أخذ عليهم العهد والميثاق وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قال (1) : فإني أُشهد عليكم السموات السبع والأراضين السبع وأشهد عليكم أباكم آدم – عليه السلام – أن تقولوا يوم القيامة لم نعلم بذلك، اعلموا أنه لا إله غيري ولا رب غيري فلا تشركوا بي شيئاً، إني سأرسل لكم رسلي (2) يذكرونكم عهدي وميثاقي، وأُنزل عليكم كتبي، قالوا: شهدنا (3) بأنك ربنا وإلهنا لا رب غيرك فأقَرّوا بذلك] .
وهذا الإيجاد الذي حصل لهم في عالم الذر أخبرنا به من لا ينطق عن الهوى عليه صلوات الله وسلامه فنؤمن به دون البحث في كيفيته إذ هو من باب الإيمان بالغيب.
فإن قيل: إن العلم بهذا الميثاق الذي أخذ علينا في عالم الذر غير معلوم لنا، فما فائدته؟
فنقول: تحصل لنا فائدتان:
__________
(1) أي قال الله هذا بعد أن قالت الذرية بلى، ولم يذكر أبي جواب الذرية لأنه معلوم وقد ذكر في القرآن الكريم.
(2) هذا هو الميثاق الأخير والذي تدارسناه أول شيء، لأنه أهمها.
(3) فكلمة شهدنا هنا إذن من كلام ذرية بين آدم وقلت لكم الآية تحتمل الأمرين ونجمع بينهما بأنهم قالوا شهدنا فقال الله وملائكته شهدنا على شهادتكم فحذار حذار من إهمالها ونسيانها، والله أعلم.(7/352)
الفائدة الأولي: أنه قد أخبرنا به من لا ينطق عن الهوى رسولنا صلى الله عليه وسلم، وأتانا بما يقرره ويوضحه ويثبته في رسالته ودعوته، فإذا آمنا بهذا يحصل لنا شرف وفضل الإيمان بالغيب.
الفائدة الثانية: أنه يحصل علينا بهذا الميثاق مزيد من حجة وإثبات، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لنا: انتبهوا!! أنتم إذا لم تتبعوني فإنكم تعتبرون عاصون لله مباشرة حيث أخذ الله عليكم العهد في عالم الذر بتوحيده وعدم الإشراك به.
... إذن جحدتم إقراركم أمام ربكم ثم عصيتم أمري ولم تتبعوني فانتبهوا فليس الكفر بي يعتبر رداً لدعوتي فقط، إنما هو رد لشهادتكم التي صدرت منكم أمام ربكم جل وعلا أيضاً.
... وكلما كثرت وسائل الإثبات على الإنسان كلما دعاه هذا للاستحياء من نفسه ومن ربه، فالله عندما يقول لعبده: أنا أشهدتك على نفسك بين يدي فشهدتّ، وأوجدت في فطرتك ما يدل على أنني إلهك وربك، وأرسلت إليك رسلاً يقررون هذا ففي هذا الكلام تحذير للعبد من المخالفة، فليست هي شهادة واحدة ولا حجة واحدة ولا بينة واحدة فقط.(7/353)
.. ولذلك الله جل وعلا عندما يحاسب عباده يوم القيامة هل يحاسبهم أيضاً بشهادة واحدة وببينة أم بشهادات وبينات؟ بشهادات وبينات فالملائكة والأرض تحدث أخبارها بما عمل ابن آدم على ظهرها من خير أو شر فتشهد عليك يوم القيامة، والصحف تشهد، والجوارح تشهد، والله كفى به شهيداً لا تخفى عليه خافية، قال الله جل وعلا (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم) ، وقال جل وعلا في سورة النور في حق القاذفين (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) وقال في سورة فصلت: (حتى إذا جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم (1) بما كانوا يعملون) ، وثبت في صحيح مسلم عن نبينا عليه الصلاة والسلام [أنه كان بين أصحابه فضحك، فقالوا له: أضحك ألله سنك يا رسول الله، ما الذي أضحكك؟، فقال ضحكت من محاجة العبد لربه، يقول: فإني لا أقبل على نفسي شهيداً إلا من نفسي فيقول الله له: لك ذلك، فيختم على فيه، ويقول لجوارحه انطقي فتشهد عليه يداه ورجلاه وجوارحه بما عمل، ثم خلى الله بينه وبين الكلام فقال لجوارحه بُعداً لكُنْ وسحقاً فعنكُنَّ كنت أناضل] أي عنكن كنت أدافع، فقالت الجوارح (أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء) فضحك الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الحادثة.
(وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء)
العمر ينقص والذنوب تزيد ... وتُقال عثرات الفتى فيعود
هل يستطيع جحود ذنب واحد ... رجلٌ جوارحه عليه شهود
__________
(1) كثير من المفسرين قالوا: المراد من الجلود خصوص الفرج، فكنى بالجد عن الفرج الذي إذا فعل الإنسان حراماً يشهد عليه، ولفظ الجلد أعم من ذلك يشمل الفرج وغيره من الجوارح الأخرى، فلو كشف فخذه سيشهد عليه هذا الفخذ بأنه كشف أمام من لا يحل أن ينظر إليه، وهكذا لو كشفت المرأة يدها أو شعرها أو شيئاً سيشهد عليها ذلك أمام الله، لأنها كشفته أمام من لا يحل أن ينظر إليه.(7/354)
.. فأنت يكلمك الله قبلاً وجهاً لوجه في عالم الذر دون واسطة ويقول عبدي ألست بربك فقلت: بلى يا رب وإلهي وسيدي وخالقي، ولا أشرك بك شيئاً، ويقول لك انتبه!! ملائكتي تشهد وأنا أشهد شهدنا عليك بهذا الإقرار فإياك إذا خلقتك في الحياة أن تقول إنا كنا عن هذا غافلين، وإياك أن تقلد آباءك في الضلالة، فكل نفس بما كسبت رهينة فأنت عبدي وأنا خالقك وربك أشهدتك وأخذت إقرارك فإياك أن ترجع فإذا رجعت وبال ذلك عليك، ومع ذلك لن يكون حسابي لك في الآخرة على حسب هذا الميثاق فقط، بل سأجعل معه ميثاقاً آخر وهو الفطرة وسأجعل معه ميثاقاً آخر وحجة أقوى وهي أن أرسل إليك رسلاً تكلف بإتباعهم بعد بلوغك ووجود عقلك وسلامة إحدى حاستيك وأن تبلغك الدعوة، فرفعت الأعذار عنك؟ فلم يبق لك عذر ولا شبهة، ولذلك يقول الكفار (لو كنا نسمع أو نعقل) لأنهم حقيقة لا يسمعون ولا يعقلون، وينطبق عليهم قوله تعالى (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع) وقوله (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل) وينطبق عليهم قوله تعالى (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً) وقوله تعالى (كمثل الحمار يحمل أسفاراً) وقوله تعالى (كأنهم خشب مسندة) ، وكذلك قوله (كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث) .
... إذن كان لهم سمع وكانت لهم قلوب وما أرادوا بهذا أنهم كانوا في حكم المجانين ليس لهم قلوب وليس لهم أسماع، لا، إنما لا يسمعون آيات الله كما قال جل وعلا عن الكفار (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه) فلا يسمعونها سماع تلذذ أو تدبر، ولا سماع قبول لأجل العمل، لا هذا ولا ذاك، بل إعراض من جميع الجهات.(7/355)
.. إذن هذا الميثاق – ميثاق عالم الذر - لا ينبغي أن يقول أحد نحن لا نعلم به فما فائدته؟!!!.
... هذه الآثار الثلاثة المتقدمة عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو وأبيّ بن كعب رضي الله عنهم أجمعين ورد ما يدل عليها ويقررها من حيث المعنى العام لا من حيث التصريح بأن الله أخرجنا من ظهور آبائنا ومن صلب أبينا آدم في عالم الذر، ومن هذه الأحاديث:
1- ما ثبت في المسند والصحيحين عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يقول الله جل وعلا للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء، أكنت مفتدياً به؟ فيقول: نعم رب، فيقول الله: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك العهد في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي] . فالحديث فيه دلالة على أنه أخذ علينا العهد في ظهر أبينا آدم لكن كيف كان؟ هذا لم يفصله الحديث.
2- وثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وأبي داود وموطأ مالك ومستدرك الحاكم وصحيح ابن حبان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إن الله لما خلق آدم مسح على ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته فقال: هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج من ظهره ذرية فقال هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من خلقه الله للجنة فسيوفق لعمل أهل الجنة حتى يختم له بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة، ومن خلقه الله للنار فسيوفق لعمل أهل النار ويختم له بعمل أهل النار فيدخل النار] ، فهذا الحديث فيه دلالة على أنه استخرجهم الله جل وعلا من صلب أبيهم آدم، فوقع هنا استخراج، والأحاديث المتقدمة دلت على أنه حصل استنطاق وإشهاد مع الاستخراج.(7/356)
وهذا التقدير الأزلي ليس فيه شائبة إكراه ولا قسر ولا جبر إنما ربنا جل وعلا يعلم الأمور الماضية والحاضرة والمستقبلة ويعلم ما سيقع في كونه وفي ملكه، فكونه يعلم أن هذا سيختار الكفر أو أن هذا سيختار الإيمان ليس في هذا جبر ولا إكراه، فالله جل وعلا لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء وليس حاله كحال المخلوقات لا نعلم الأشياء إلا بعد وقوعها ولو قيل لنا فلان سيختم له على الإيمان أو الكفر؟ لقلنا لا ندري، ولو كان الله سبحانه وتعالى كحالنا لما كان إلهاً، سبحانه وتعالى وتنزه بل هو بكل شيء عليم يستوي في عمله ما وقع وما سيقع فالكل عنده سواء ولذلك العلم صفة انكشاف يعلم بها ربنا جل وعلا الأشياء على ما هي عليه وقعت أم لم تقع.
... ولو أن فلاناً من الناس قبل أن يتزوج قيل لنا ماذا سيولد له؟ هل نعلم؟ لا طيب ولو تزوج واستقر الحمل في بطن زوجته بعد أربعة أشهر يمكن أن نعلمه أم لا؟ يمكن أن نعلم ما في بطن زوجته هل ذكر أم أنثى لأنه لا يحول بيننا وبينه إلا جلدة البطن، فلو علمنا ما في الرحم بواسطة الأشعة فهذا ليس علماً بغيب وليس مختصاً بالرب بل علمته الملائكة التي تبعث إلى الجنين وهو في الرحم، فليس هذا العلم من العلم بالغيب الذي اختص به الرب جل وعلا، فإذا علمه الأطباء وقبلهم الملائكة فلا حرج في ذلك، لكن قبل أن تنفخ فيه الروح وهو نطفة لو اجتمع أطباء الأرض ليعرفوه هل هو ذكر أم أنثى لن يستطيعوا.
... ثم إن علم الأطباء هذا قاصر وجزئي، فإنهم لا يعلمون هل سيولد أعمى أم بصير، سميع أم أصم؟ ذكي أم بليد؟ طويل أم قصير؟ سمين أو ضعيف؟ سيقولون لك لا ندري، إذن لم يعلم الأطباء من الجنين إلا كونه ذكراً أو أنثى.
... إذا علمت هذا علمت سخف من يزعم أن القرآن متناقض ويقول كيف يقول الله في كتابه (يعلم ما في الأرحام) ونحن قد علمنا؟!! سبحان الله الحمد لله على نعمة العقل.(7/357)
.. الشاهد إخوتي الكرام ... ليس في قول ربنا [هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون] إكراه أو جبر لأن الله يعلم الغيب والمستقبل كما يعلم الحاضر، فهؤلاء للجنة أي سيؤمنون ويدخلون الجنة وأنَّ الله أعلم ما سيقع في المستقبل، [وهؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون] فسيكفرون وأنَّ الله أعلم ما سيكون في المستقبل، فكلام الله جل وعلا هذا ليس من باب الإكراه وإلا لارتفع التكليف، ولذلك لما قال الصحابة ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، فحسب ما يختار يكون الأمر.
إخوتي الكرام ... لا يلتبس عليكم الأمر ولا بمقدار شعرة والشيطان يستغل مثل هذه الأحاديث ليلبس على الناس، عندنا للإنسان في هذه الحياة حالتان:
الحالة الأولي: هو فيها مكره، مجبور مقسور مسيّر لا اختيار له فيها ولا يستطيع أن يخرج عنها أبداً، فإذا وجدت هذه الحالة فلا ثواب ولا عقاب إلا إذا صدر منه رضاً أو كراهية نحو هذا الأمر الذي قُسِر عليه فيثاب أو يعاقب على العمل الذي صدر منه لا على ما وقع عليه قسراً
مثلاً: أنت خلقت ذكراً وتلك خلقت أنثى فهل لذكورتك فضل عند الله، وهل لأنوثتها نقص عند الله أو العكس؟ كلا، هذا غير حاصل لأن هذا (الذكورة والأنوثة) مما لا اختيار لواحد من الصنفين فيه، ولو كانت إحدى الصفتين باختيار الإنسان لربما قلنا في هذه مدح أو في هذه نقص، لكن ليس في هذه مدح ولا في هذه نقص (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض) ، فلا ثواب على الذكور ولا عقاب على الأنوثة والعكس كذلك لا ثواب على الأنوثة ولا عقوبة على الذكورة، إنما يثاب الإنسان إن شكر الله على ذكورته أو أنوثته، ويعاقب إن كفر وسخط على ذلك وإن لم يحصل منه شكر ولا سخط فلا ثواب ولا عقاب.(7/358)
والحالة الثانية: هو فيها: مختار، مريد، شاءٍ (له مشيئة) ، مخيّر، انتبهوا لهذا لإزالة هذا الإشكال الذي يستفعله أحياناً الشيطان يقول للإنسان: إذا كنت مكرهاً ومقسوراً إذن لا حرج عليك في أن تفعل ما شئت إن كنت من أهل الجنة فستدخلها، إن كنت من أهل النار فلا داعي لأن تهتم وتجد وتجتهد في العبادة ونحو ذلك من الوساوس، هذا كلام باطل بل أنت مخير ومريد فيما يريد الشيطان أن يثني عزمك عن فعله في كل ما كلفنا به فعلاً أو تركاً نحن مخيرون مريدون.
المأمورات بأسرها والمنهيات بأسرها لنا فيها اختيار أو نحن مجبورون مكرهون؟ بل لنا فيها اختيار قطعاً وجزماً، فليس صلاتي كذكورتي، لأن ذكورتي لا يمكن أن أغيرها وأما صلاتي فيمكن لي أن أصلي ويمكن أن لا أصلي، وليس إيماني كلوني أيضاً.
فالإيمان والصلاة هذا اختياري، فكل ما كُلفنا به وهو محل الثواب والعقاب فهذا لك فيه اختيار والفارق بين الحالتين كالفارق بين تحريك اليد اختياراً أو اضطراراً، فالمرتعش تتحرك يده بغير اختياره اضطراراً فهو مجبور ولا يستطيع أن يسكنها، فذكورتنا وأنوثتنا، طولنا وقصرنا، جمالنا ودمامتنا، طول أعمارنا وقصرها، هذا كله كحركة المرتعش، مجبور مقسور.
... والأعمال الاختيارية التكليفية من أمر ونهي كالصلاة والصوم وترك الزنا والخمر، هذا كتحريك اليد باختيارك يمكنك تحريكها وتسكينها.
... فانتبهوا رحمكم الله فهذه المسألة ليست من باب القسر والجبو فكل ميسر لما خلق له، فما علمه الله منه سيقع، فعلم الله من هذا أنه سيؤمن، ومن ذاك سيكفر لكن ليس هذا العلم فيه قسر للعباد ولا إكراه لهم.
س: هل الإنسان الذي خلق للجنة سيوفق لعمل أهل الجنة؟ والذي خلق للنار سيوفق لعمل أهل النار أرجو توضيح هذا.(7/359)
جـ: لا شك عندنا أن الله جل وعلا منّ على المؤمن وخذل الكافر، فالتوفيق هذا شيء لا شك فيه. ولذلك المؤمن إذا عمل الطاعة فبجده واجتهاده أم بتوفيق الله له؟ بتوفيق الله له، وذاك عندما يعمل المعصية بحيله ومكره أم بخذلان الله له؟ بخذلان الله له هذا مما لا شك فيه يقول الله تعالى (ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين) لكن هو لا يكره إلا من يستحق الكراهة كما قال الله تعالى (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) (وزادهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون) ، فإذن ما عندنا شك في أن من وفق لطاعة فهذا بفضل الله وأن من عمل معصية هذا بخذلان الله له، لكن عندنا بعد ذلك ما يقرر على سبيل القطع أن الله حكيم، أقول – ولله المثل الأعلى – أنت لو عندك ولدان وهما من صلبك واحدٌ تكرمه، والآخر تهينه فهل تفعل هذا اعتباطاً وسفاهة أو لأنك ترى واحداً مطيعاً نجيباً، والآخر عاقاً شقياً، فبالنسبة لنا ظهر فعل اختياري هنا، أفلا يعلم الله معادن الناس؟ أفلا يعلم الله نحاسة ونجاسة معدن الكفار عندما قال (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون) أفلا يعلم نجاسة هذه المعادن وأنها بكيفية لا تقبل التطهير؟! ولذلك خذلها وامتهنها وأعرض عنها وجعلها في دار غضبه وسخطه.(7/360)
يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [نظر الله في قلوب العباد فرأى قلب محمد عليه الصلاة والسلام خير القلوب وأتقاها فاختاره لرسالة، ثم نظر في قلوب العباد فوجد قلوب الصحابة خير القلوب وأتقاها فاختارهم (1)
__________
(1) أي أن الله سبحانه وتعالى عندما اختار أبا بكر لصحبة نبينا عليه الصلاة والسلام وهكذا سائر الصحابة لم يخترهم اعتباطاً بل هو حكيم يضع الأمور في مواضعها، يعني هل يتصور أن يكون قلبنا أو قلب أحد من الصحابة كقلب أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي أو غيرهم من الصحابة؟ هذا مستحيل، إذن قلوب طاهرة علم الله فيها هذا فجعل لها هذه المكانة وبعد ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم والحديث في صحيح مسلم [لا يأتي عليكم عام إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوني على الحوض] فما معنى شر منه؟ يعني هل الأيام فيها شر وتتغير أو أهلها والناس الذين يعيشون فيها؟ بل الناس، وتأمل أحوال العالم منذ أن كان نبينا عليه الصلاة والسلام إلى هذا اليوم خير يقل وشر يتزايد فإذن القلوب كلما تأخرت تدنست وتنجست وفسدت وخبثت هذا علمه الله من أحوال القلوب، فإذن هل تصلح مثل هذه القلوب لأن تكون في العصر الأول؟ الحمد لله مع شوقنا والله لرسولنا صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي لم يخلقنا في ذلك الوقت لأنه لو خلقنا آنذاك لخذلنا نبينا عليه الصلاة والسلام فنحن لسنا بأهل لأن نصحبه، وما عندنا شك في ذلك، ونسأل جل وعلا أن يكرمنا بجنات النعيم برؤيته ورؤية نبيه صلى الله عليه وسلم بفضله وكرمه، لكن هل نحن عندنا جد الصحابة وعزيمتهم واجتهادهم؟ هيهات هيهات..(7/361)
لصحبة نبيه فاعرفوا لهم قدرهم] ، فأمر الرسالة أسند إلى من هو بكل شيء عليم فعندما اختار محمداً عليه الصلاة والسلام لحمل رسالته ليس الأمر اعتباطاً بل لأن (الله أعلم حيث يجعل رسالته) فإذن هو عندما وضعها في ذلك المكان فهذا هو الجدير بها لكن يبقى الأمر من فضل الله عليه ولا شك في ذلك، (بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان) (فألهمها فجورها وتقواها) (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن) أي خلقكم كافراً ومؤمناً على أصح القولين في التفسير، وقيل: هو الذي خلقكم فانقسمتم إلى كافر ومؤمن، لكن هذا الانقسام لا يكون إلا على حسب التقدير الذي سبق عند الرحمن ويبقى الأمر كما قلت لا قسر فيه ولا إجبار، فهذا وفقه الله وذاك خذله لكن هل هذا فيه إكراه؟ لا، وكل واحد يميز هذا من نفسه عندما يريد أن يعصي ربه، فمثلاً عندما يريد أن يشرب الخمر سل عصاة أهل الأرض أجمعين هل جاء أحد وأخذك من بيتك إلى الفندق في الساعة الواحدة ليلاً وأضجعوك وفتحوا فمك وصبوا فيه الخمر دون رضاك؟ أم أن الواقع هو أنه ذهب باختياره ودفع الفلوس وسكر، وسل الزاني هل جاء أحد وأخذك من فراشك ودارَ بك على بيوت الناس حتى ألقاك على أنثى وأكرهك على عملية الزنا؟ أم أن الواقع أنك تراه يجوب الشوارع هنا وهناك من أجل أن يحصل على خبيثة مثله، فهل هذا إذن كان باختياره أو باضطراره؟ باختياره، يعني عندما قال الله جل وعلا (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) انظر لهذا الحافظ الذي جعله الله عندنا، فلما كانت العين تتعرض لرؤية ما لا يحل، جعل الله جل وعلا منع النظر في منتهى السهولة لئلا يقول إنسان كيف سأتصرف إذا عرض لي ما لا يحل لي النظر إليه، فقال الله لك لا يحتاج هذا منك إلى تصرف كبير لا دخول سرداب ولا دخول حجرة، الحل كله يتمثل في إطباق الجفن على الجفن (قل للمؤمنين يغضوا) ما معنى الغض؟ أن تطبق الجفن على الجفن.(7/362)
.. ثم هذا اللسان الذي هو ثعبان وتراه يلدغ الحي والميت والكبير والصغير والحاضر والغائب جعل الله له أيضاً حافظاً هو الشفتان إذا ضممتهما لن تتكلم فتسلم، ولست مجبوراً على الكلام فلم يأت أحد ولن يأت ويحرك لسانك دون إرادة وقصد منك، وهذا لو حصل لو حصل فأنت تكون مجبوراً لأنك لا تريد الكلام ولكن غيرك يحرك لسانك ويتكلم وحينئذ يرفع التكليف عنك [رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه] فإذا أكرهنا لن يكلفنا ربنا، لن يبقى من اهتدى منا فبفضل الله، ومن شقي فبعدل الله والله خذله ووكله إلى نفسه لكن ذلك التوفيق بسبب أنه معدن طيب، وهذا الخذلان بسبب أنه معدن نحس، ولذلك قال الله (فلما آسفونا انتقمنا منهم) ما معنى الأسف هنا؟ شدة الغضب أي لما أغضبونا غضباً شديداً بسبب ما قاموا به من أعمال خبيثة انتقمنا منهم، إذن هم أغضبوا الله وآسفوه فحل عليهم مقته وغضبه ولعنته وسخطه، والذي يقرر هذا كما قلنا أن من يموت قبل التكليف أو قبل البلوغ أو قبل بلوغه الدعوة وإذا لم يكن عنده عقل، فالقلم مرفوع عنه، فإن كان من أولاد المؤمنين تفضل الله عليه بأن يكون من أهل الجنة، وإن كان من أولاد الكافرين فنقول هنا سيظهر العدل الإلهي، سيمتحنه الله في عرصات الموقف، فإن أطاع دخل الجنة وإن عصى دخل النار.
قد يقول قائل: لِمَ لم يجعل الله ابن الكافر كابن المؤمن؟(7/363)
نقول: الزم حدك، هذا فضل ولصاحب الفضل أن يعطيه لمن يشاء لكن لا يجوز له أن يظلم ويجور، فمثلا ً: لو كان عندك ألف دينار فلك حرية التصرف في أن تعطيها لأي أحد فلو أعطيتها لخالد مثلاً فهل يحق لي أن أقول لك أنت ظلمتني لأنك أعطيت خالداً ولم تعطني؟ لا يحق فتقول أنت: هذا فضل، وهو مالي وحقي أعطيه لمن أشاء ما دمت لم أظلمك ولم أعتد على مالك ولم آخذ منك شيئاً، وهنا كذلك الله سبحانه وتعالى ما جار على ابن الكافر وكونه رحم أولاد المؤمنين هذا فضله يعطيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، ولا يجوز عليه الظلم (ولا يظلم ربك أحداً) [إني حرمت الظلم على نفسي] ، هذا حال الرب جل وعلا.
إذن هذا حديث عمر رضي الله فيه دلالة عامة على أن العباد أخرجوا من صلب أبيهم في عالم الذر، وهذا الحديث الثاني.(7/364)
3- روى الإمام الترمذي في سننه والحاكم في مستدركه وابن حبان في صحيحه والبهيقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط كُلُّ نسمة من ظهره كائنة إلى يوم القيامة وجعل جل وعلا بين عيني كل إنسان وبيصاً من نور (1) ثم عرضهم على آدم عليه السلام فقال من هؤلاء يا رب؟ قال: هؤلاء ذريتك إلى قيام الساعة، فرأى فيهم إنساناً أعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: أَيْ رَبِّ، من هذا؟ قال: هذا ابنك داود، قال كم عمره؟ فقال الله له: ستون عاماً، قال: زده يا رب أربعين، فقال الله جل وعلا: لا أزيده إلا أن تزيده من عمرك (2) ، فقال: قبلت يا رب أعطه من عمري أربعين سنة، فلما جاء ملك الموت إلى آدم قبل الألف بأربعين سنة ليقبض روحه، قال له آدم: بقي من عمري أربعون سنة، فقال له ملك الموت إنك وهبتها لابنك داود، فقال ما وهبته شيئاً ما وهبته شيئاً، فذهب وعاد إلى ربه وأخبره بذلك فأمر الله ملك الموت أن يزيد في عمر آدم أربعين سنة، وأن لا ينقص هذه الأربعين من عمر داود، يقول نبينا عليه الصلاة والسلام بعد ذلك: فنسي آدم فنسيت ذريته، وجحد آدم فجحدت ذريته وخَطئ آدم فخطئت ذريته] وإسناده صحيح، ارتكب الخطيئة وذريته تخطئ، نسي ولم نجد له عزماً وذريته تنسى.
فإن نسيت عهوداً منك سالفة ... فاغفر فأول ناس ٍ أول الناس
ولعل جحود آدم – والعلم عند الله – سببه نسيان ولا يستبعد أنه بعد أن مر عليه تسعمائة وستون سنة أن ينسى العهد الذي أعطاه على نفسه، أو أن هذا الجحود من باب التدلل على الرب المعبود جل وعلا أي كأنه يقول: يا رب ينقص من ملكك إن تركت الأربعين لي كما كانت وزدت عبدك وداود أربعين من فضلك فحقق الله الأمرين.
__________
(1) أي شيئاً من نور وضوءاً من نور.
(2) وكان عمر آدم الذي قدره الله ألف سنة، وتقدم معنا أن الأنبياء لا يقبضون إلا بعد أن يخيروا.(7/365)
الشاهد: أنه مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة كائنة إلى يوم القيامة فهذه الأحاديث تشهد في الجملة للأحاديث الثلاثة المتقدمة الحديثان المرفوعان وحديث أُبيّ الموقوف.
... وكما قلت لكم عن الذي حصل في عالم الذر هو إخراج للأرواح مع الصور (الأجساد) ، استخرجها الله من موادها بكيفية يعلمها ولا نعلمها ثم بعد أن أشهدها أعادها إلى موادها بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها، أما ما قاله ابن حزم من أن الخلق في عالم الذر كان للأرواح فقط، وذلك يقول خلقت الروح قبل الجسد فأشهدها الله ثم وضعها في مكان عنده سبحانه وتعالى فإذا خلق الجسد جاءت روح كل إنسان إلى بدنه فدخلت فيه، فقوله هذا لا تدل عليه الآثار المتقدمة، إنما ما ذكرته لكم هو الذي حصل وإذا ثبت هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام فنؤمن به دون أن تحيط عقولنا بكيفيته، فعقولنا أعجز من ذلك، وإذا كانت الروح التي بين جنبينا نحن عاجزون عن إدراك ماهيتها وحقيقتها أو أي صفة من صفاتها (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) فكيف سندرك بعد ذلك ما هو مغيب عنا مما يدهش العقول ويحير الألباب (إشهاد الذرية) ، وتقدمت معنا قاعدة (كل ممكن رود به السمع يجب الإيمان به) (آمنا به كل من عند ربنا) .
3- الميثاق الثالث: ميثاق الفطرة:
وهو الميثاق المتوسط بين ميثاق عالم الذر وميثاق إرسال الرسل ويراد بالفطرة: ما ركزه الله في طبيعة الإنسان وجِبِلّتِه من الإقرار بربوبية الله جل وعلا وألوهيته، وأنه وحده لا شريك له يستحق منا العبادة سبحانه وتعالى.
وهذا الدليل أعني الاستدلال بالفطرة من الأدلة المعتبرة عند أئمتنا الكرام وقد قرر أئمتنا الكرام أن الأدلة التي يستدل بها دليلان:
الأول: سلفي شرعي وله نوعان والثاني:
خلفي بدعي وله نوعان، فالمجموع أربعة أنواع:
أما السلفي الشرعي، فالنوع الأول منه: النصوص الشرعية من كتاب وسنة، أما الكتاب:(7/366)
أ) قال تعالى (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولون الله) ، فالله خلقهم وفطرهم بصورة يقرون بأن الله ربهم ومالكهم وخالقهم.
ب) وقال الله جل وعلا في كتابه مبيناً استدلال الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام على أقوامهم بدليل الفطرة: (قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى) وقبلها حكى الله عن الأقوام أنهم قالوا: (إنا لفي شك مما تدعونا إليه مريب) فقالت لهم رسلهم أفي الله شك، فلم يجبهم الأقوام عن هذا ولم يذكر الله جوابهم لأنه معلوم ضرورة أن ليس في الله شك وهو الذي خلقنا وخلق كل شيء.
جـ) وقال جل وعلا في سورة النمل آية 51 وما بعدها (قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون أمن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماءً فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تُنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون أمن جعل الأرض قرارا ًوجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزاً أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون (61) أمن يجيب المضطر أذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلاً ما تذكرون (62) أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى عما يشركون (63) أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (64) .)(7/367)
أذن فاستدل الله عليهم بما ركزه في فطرهم أإله مع الله ... ، واستدل عليهم بما يُسلّمون به. وهو الإقرار بوجود الله جل وعلا وأنه خالق كل شيء علي ما يخالفون فيه وهو إفراده بالعبودية. فهم يقولون الله موجود لكن ينبغي أن نجعل بيننا وبينه وسائط وشفعاء فنقول لهم: اطرحوا الشفعاء، فهذا الموجود هو الذي يُقصد ويُعبد ولا يجوز أن تلجأوا إلى غيره، ولذلك قال أئمتنا توحيد الربوبية باب إلى توحيد الألوهية، فأنت إذا أقررت بأن الله ربك وسيدك، ومالكك ويتصرف في أمرك فيجب عليك أن تعبده وأن توحده وأن تفرده بالعبادة سبحانه وتعالى.(7/368)
إذن هذا دليل الفطرة المستقيمة وهو أن الله فطرنا على الإقرار بوجوده، ويترتب على هذه فطرة ثانية وهي وجوب تعظيمه لأن العقل يقول: إذا كان الله خالقنا وخالق كل شيء فيجب أن يعبد وأن لا نصرف العبادة لما سواه سبحانه وتعالى، وقد قرر الله هذا المعنى في آيات كثيرة من كتابه فأخبرنا الله في قرآنه أننا فقراء وهو الغني، وهذا مما يقرر دليل الفطرة الذي فينا فكل واحد يلحظ هذا من نفسه بأنه فقير لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، جاء إلى الدنيا على غير اختياره وسيخرج منها على غير اختياره ويلحظ أن الذي يملك أمره وأمر العالمين هو رب العالمين قال تعالى (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد) ولذلك العلة في احتياج العالم بأسره إلى ربه هي الفقر وهذا خلاف ما يقوله الفلاسفة والمتكلمون يقولون العلة في احتياج العالم هي الحدوث أي كون العالم حادث والحادث لابد له من محدث وموجد، ويقولون العلة في احتياج العالم بأسره إلى ربه هي الإمكان أي ممكن الوجود ليس بواجب الوجود، وهذا كلام باطل نقول الإمكان والحدوث علامتان على الفقر وليستا بعلة لاحتياج العالم إلى الله، فالفقر ممكن الوجود، فالإمكان في هذا علامة فقره لأن يمكن أن يوجد ويمكن أن يُقدم والذي رجح أحد الضدين هو الله جل وعلا والحدوث علامة فقر لأنه لا يمكن أن يوجد إلا بحادث وموجد وهو الله رب العالمين.
ولذلك أخص وصف في المخلوق أنه فقير وأخص وصف في الخالق أنه غني ويوجد للإمام ابن تيمية عليه رحمة الله قصيدة من (11) بيتاً تتعلق في بيان حقيقة الخالق والمخلوق وقد ذكرها تلميذه الإمام ابن القيم عليه رحمة الله في مدارج السالكين (1/520، 521 – ط دار الكتاب العربي) يقول الإمام ابن القيم: "وبعث إليّ في آخر عمره قاعدة في التفسير بخطه، وعلى ظهره أبيات بخطه من نظمه:
أنا الفقير إلى رب البريات ... أن المسكين في مجموع حالاتي(7/369)
أنا الظلوم لنفسي وهي ظالمتي ... والخير إن يأتنا من عنده ياتي
لا أستطيع لنفسي جلب منفعة ... ولا عن النفس لي رفع المضرّات
وليس لي دونه مولىً يدبرني ... ولا شفيع إذا أحاطت خطيئاتي
إلا بإذن من الرحمن خالقنا ... إلى الشفيع كما قد جا في الآياتِ
ولست أملك شيئاً دونه أبداً ... ولا شريك أنا في بعض ذراتي
ولا ظهير له، كي يستعين به ... كما يكون لأرباب الولايات
والفقر لي وصف ذاتٍ لازمٌ أبداً ... كما الغنى أبداً وصفٌ له ذاتي
وهذه الحال حال الخلق أجمعهم ... وكلهم عنده عبد له آتي
فمن بغى مطلباً من غير خالقه ... فهو الجهول الظلوم المشرك العاتي
والحمد لله مِلء الكون أجمعه ... ما كان منه وما من بعد قد ياتي
... وأما السنة فقد قرر نبينا عليه الصلاة والسلام الفطرة المستقيمة في أحاديثه الكثيرة:(7/370)
أ) ففي مسند الإمام أحمد والصحيحين وسنن الترمذي وأبي داود وموطأ مالك عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [كل مولود يولد على الفطرة] أي على الإسلام الحق وعلى الدين الحنيف [فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه (1) كما تُنْتَج (2) البهيمة جمعاء (3) هل تحسون فيها من جدعاء (4) ] أي هي تولد سليمة الأطراف لكن صاحبها هو الذي يغيرها، وهكذا بالنسبة للناس في صغرهم فطرهم الله على الحنيفية السمحة، لكن من الذي غيّر من تغير منهم؟ آباؤهم أو أمهاتهم أو مجتمعهم وغيرهم ولذلك ثبت في كتاب السنة لابن أبي عاصم (حديث رقم 192) بسند ضعيف – لكن هذا الحديث يشهد له – عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [مغيِّر الخُلُق كمغّير الخَلْق] ، أي مغير الأخلاق الطيبة إلى خبيثة ومغير الإسلام إلى عصيان وشرك بالرحمن كمغير الخلق أي كما لو غير بعض أطراف المولود، أو لو أن المرأة بدلت خلقتها وصورتها وهكذا الرجل بالنمص (ترقيق الحواجب أو إزالتها) أو بالوشم، أو حلق اللحية بالنسبة للرجل أو قص الشعر من الرأس بالكلية بالنسبة للمرأة فهذا كله من تغيير خلق الله.
__________
(1) كان بعض شيوخنا إذا روى الحديث يقول [أو يرذلانه] أي إذا كان أبواه مسلمين رذيلين بالفساد والفجور فسيرذلانه، وأول الفساد الآن جهاز التلفاز جهاز الشيطان فاتقوا الله، وحذار حذار أن ترذلوا أولادكم.
(2) أي توجد وتخلق.
(3) جمعاء: أي كاملة الخلق سليمة الأطراف.
(4) جدعاء: أي مقطوعة الأنف والأذن أو مشقوقة ونحو ذلك من التشويه.(7/371)
.. إخوتي الكرام ... والمراد بالفطرة في الحديث دين الإسلام والحنيفية السمحة، وقد قرر الإمام ابن تيمية عليه رحمات رب البرية في كتابه (درء تعارض العقل والنقل) ويسمى (موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول) في مائتي صفحة متتابعة بأن المراد من الفطرة هي الإسلام، فانظروا بحثه المحكم الرشيد فيه (8/370) وما بعدها، والحافظ ابن حجر عليه رحمة الله في فتح الباري (3/248) نقل عن عامة السلف أن المراد من الفطرة الإسلام، والإمام ابن القيم عليه رحمة الله ختم كتابه (شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والتعليل) بهذه المسألة، فانظروا الكتاب من صـ283 إلى آخر الكتاب صـ307 وهذا الكتاب (شفاء العليل) هو أحسن ما كتب في قدر الله جل وعلا.
ب) وأشار نبينا عليه الصلاة والسلام إلى هذه الفطرة المستقيمة أيضاً في صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: [ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا: كل مال (1) نحلته عبداً حلالاً، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم (2) عن دينهم وحرّمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل سلطاناً، وإن الله عز وجل نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء....] إلخ الحديث، ومعنى حنفاء أي مائلين عن الشرك إلى الهدى مستقيمين مهتدين على الفطرة.
__________
(1) ؟؟؟؟؟ عذراً الحاشية غير واضحة في التصوير.
(2) الحاشية غير واضحة في التصوير.(7/372)
جـ) ويكفي دليلاً على الفطرة ما ثبت في الصحيحين [أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للجارية أين الله، فقالت في السماء.....] الحديث. وأما النوع الثاني من الدليل السلفي الشرعي فهو الفطرة المستقيمة، فإن في النفس فطرة توجب عليه الإيمان بأن الله ربنا وخالقنا ورازقنا ومدبرنا فهي فطرة توصل إلى التوحيد لو لم تغير.
... ولذلك عندما جلس أبو المعالي إمام الحرمين غفر الله له ورحمه وقد رجع عن هوسه وهذيانه جلس يقرر نفي علو الله على مخلوقاته فقال: كان الله ولا مكان ولا زمان وهو الآن على ما عليه كان أي ليس فوق عرشه على سمواته، فقام الإمام الهمذاني وقال: يا إمام دعنا من العرش والزمان والمكان وأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في أنفسنا ما قال أحد يا رب يا الله إلا طلب المعونة فمن فوقه، فبماذا نؤول هذا الشعور الذي في داخل نفوسنا، فلطم إمام الحرمين رأسه وقال حيرني الهمذاني حيرني الهمذاني.
... أي حيره في الجواب، لأن الأدلة الكلامية يمكن التلاعب بها والتصرف فيها وتأويلها لكن هذه الضرورة في النفس ماذا سيقول عنها؟ وبماذا سيفسر هذا الالتجاء من الإنسان حيث يلجأ إلى فوق ولا يلجأ إلى يميناً ولا يساراً ولا تحتاً؟!! إن هذا الشعور وهذه الضرورة هي الفطرة التي فطر الله عباده عليها (مناقشة الشيخ الطحان لآراء الدكتور البوطي حول العلو لما جاء إلى دبي وألقى محاضرة في ذلك) .
... وكل نص من كتاب أو سنة مما سبق ذكره هو من حيث وروده هو دليل على الفطرة من النصوص الشرعية، وهو من حيث دلالته هو دليل على ميثاق الفطرة من الفطرة.
2- وأما الدليل الخلفي البدعي فالنوع الأول منه:
دليل العقل المتعمق المتكلف فيه من جوهر وحيز وعرض وغيرها من الاصطلاحات التي نعتها المتكلمون وعكفوا عليها كما عكف المشركون على الأصنام.(7/373)
.. وهذا كما هو عند المتكلمين فهو عند الفلاسفة ولم يوصلهم هذا إلا إلى متاهات عندما عولوا على العقل وتركوا النقل، وتقدم معنا أن العقل مع النقل كالعين مع الشمس، فمن أراد أن ينظر بدون شمس ونور لا يرى، ومن أراد أن يفكر بدون وحي لا يهتدي.
والنوع الثاني منه:
... دليل الكشف، الذي ابتدعه الصوفية، يقول: ألقي في روعيَ كذا، ووقع في قلبي كذا، وحَدثت بكذا حدثني قلبي عن ربي، وما شاكل هذا، كما كان ابن عربي الصوفي صاحب الضلالات يقول حديث [كنت كنزاً لا أُعرف، فأحببت أن أُعرف فخلقت الخلق فبه عرفوني] يقول هذا الحديث لم يثبت عند المحدثين عن طريق الإسناد لكن ثبت عن طريق الكشف.
وقد كان شيوخ التصوف الصالحين الصادقين يحذرون من هذا الدليل، فكانوا يقولون: دوروا مع الشرع حيث دار لامع الكشف، فإنه يخطئ، وكان أبو سليمان الداراني عليه رحمة الله يقول: "إنه لتقع في قلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين الكتاب والسنة" أي إذا وقع في قلبي معنىً من المعاني، واستنباط ومن الاستنباطات عن طريق الكشف والفتح والإلهام فإني لا أجزم بثبوت هذا حتى أتحقق من ذلك بشاهدين عدلين هما القرآن والسنة هل يشهدا بصحة ما وقع في قلبي أم لا؟ ولذلك قال أئمتنا:
وينبذ الإلهام بالعراء ... أعني به إلهام الأولياء
وقد رآه بعض من تصوفا ... وعصمة الباري توجب اقتفا
أي لا يستدل بالإلهام بل ينبذ فهو من الأدلة البدعية، وبعض الصوفية رأوا الإلهام والكشف دليلاً شرعياً معتبراً يُقدم على النصوص الشرعية، لكن عصمة الباري للأنبياء توجب أن نقتفي أثرهم وأن نتبعهم؛ لأن وحيهم وإلهامهم معصوم وأما إلهام الأولياء فليس بمعصوم.
... هذه هي مواثيق ثلاثة أخذت علينا أو خذاً ما أخذ علينا في عالم الذر يليه ما ركز في فطرنا يليه إرسال الرسل وإقامة الحجة على العباد.(7/374)
.. والميثاق الأخير (الذي جعلناه أولاً – إرسال الرسل) لم يذكره عندما شارح الطحاوي وهو في الحقيقة أقوى المواثيق وأعظمها وأبلغ الحجج، وهو مناط التكليف ولا يحصل تكليف إلا به، ولذلك يقول الله جل وعلا في سورة النحل آية 89: (ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيداً على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدىً ورحمة للمسلمين) ومثل هذا في سورة النساء آية 41 (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً) .
... الشاهد في الآيتين أن أعظم المواثيق إرسال الرسل فالله جل وعلا يقول للأمم ألم أرسل لكم رسلاً؟ فيكذبون ويجحدون ذلك، فيأتي برسلهم ويقولون: يا رب بلغنا دعوة الله فيقول الله للرسل السابقين من يشهد لكم؟ فيقولون: أمة محمد صلى الله عليه وسلم تشهد بأننا بلغنا أقوامنا، فيستشهد الله هذه الأمة فيشهدون، فيقول الله: كيف تشهدون وأنتم لم تروا ذلك؟ فيقولون: بعثت إلينا رسولاً فأخبرنا بذلك وأنزلت علينا ذلك في كتابك بأن نوحاً وغيره من الأنبياء بلغوا دعوتك إلى أقوامهم وهذا هو معنى (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس) ثم يشهد الرسول عليه الصلاة والسلام على شهادة هذه الأمة ثم بعد ذلك يعاقب الله المكذبين من الأمم السابقين الذين جحدوا إرسال الرسل إليهم، وهذا الجحود منهم يحصل في الموقف قبل أن يقضى بالناس إلى الجنة أو النار، يطنون أن هذا الجحود ينفعهم.
وقول الله سبحانه وتعالى (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ... ) الآية، نتحدث عن ميثاقين اثنين:
1- ميثاق عالم الذر.
2- ميثاق الفطرة.(7/375)
فلاهما مراد بالآية هذا القول الصحيح وقد خالف هذا بعض أئمة الإسلام – وسيأتي ذكرهم – وقالوا: الآية لا تشمل إلا ميثاق الفطرة وسأذكر شبهتهم فيما بعد وأدحضها إن شاء الله تعالى، وأما ميثاق عالم الذر – لم تثبت به الأحاديث؟؟؟؟؟؟ يقولون لكن ثبت موقوفاً ووهم بعض الرواة في رفعه وقد تقدم معنا إن زيادة الثقة مقبولة وهذا لا يدعونا إلى أن نرد الرواية المرفوعة لأن بعض الرواة وقفها وبعضهم رفعها ولو سلمنا بوقفه فله حكم الرفع ومحاولة هؤلاء الأئمة على جلالتهم وتقربنا إلى الله بحبهم محاولة ضعيفة في غير محلها.
... والقول بأن الآية تشمل ميثاق عالم الذر لا ينفي أنه ركز الله في فطرتنا، لكن القول بقصر الآية على ميثاق الفطرة فإنه ينفي بذلك ميثاق عالم الذر.
... فعلى القول بأن الآية تشمل ميثاق الذر يكون معنى الآية (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ... ) أي قالوا بلى بلسان مقالهم.(7/376)
.. وعلى القول بأن الآية لا تشمل ميثاق عالم الذر يكون معنى الآية، قالوا بلى بلسان حالهم أي حالهم يدل على أنهم مربوبون مخلوقون لخالقهم الحي القيوم، هذا كقوله تعالى (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت ... ) فالجمال والسماء هذه لو لم تنطق وتقل الله خلقني والسماء تقول الله رفعني لو لم تقل هذا بلسانها بصوت نسمعه لكان حالها يدل على هذا، وكذلك الإنسان (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) فحالك يا إنسان يدل على الحي القيوم ولو لم تنطق وكل إنسان – مهما كفر وطغى وتجبر – حاله تشهد بذلك بأنه فقير إلى غني وأنه مخلوق لخالق ضعيف لقوي، ولذلك قال موسى لفرعون (لقد عملت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر..) أي أنت تعلم يا فرعون أني رسول من رب العالمين، وإن هذه الآيات والدلائل لم ينزلها ولم يعطني إياها إلا رب العالمين، فإذن شهادتك بحالك ثابتة لكن لسانك لم ينطق بهذا، وكذلك هو حال العالم كله يدل على أن الله خالقه وهذا بدلالة الحال لا بدلالة المقال، هذا كقول العربي:
امتلأ الحوض وقال قطني ... مهلاً رويداً قد ملأت بطني
فهنا (قال) بحاله فالحوض امتلأ ولم يعد يمسك ماءً وإذا صببت فيه نزل فحاله هذه كأنه يقول لك لا تصب في الماء.
إذن فحال المخلوقات بأسرها تدل على أنها فقيرة إلى ربها، ولا يوجد أحد من خلقه مستغن ٍ عنه:
الله قل وذر الوجود وما حوى ... إن كنت مرتاداً بلوغ كمال
فالكل دون الله إن حققتهم ... عدم على التفصيل والإجمال
واعلم بأنك والعوالم كلها ... لولاه في محوٍ وفي اضمحلال
من لا وجود لذاته من ذاته ... فوجوده لولاه عين محال
والعارفون بربهم لم يشهدوا ... شيئاً سوى المتكبر المتعالي
ورأوا سواهم على الحقيقة هالكاً ... في الحال والماضي والاستقبال
فقوله تعالى (كل شيء هالك إلا وجهه) أي هالك في الحال والماضي والاستقبال، من مضى هلك ومن هو موجود سيهلك ومن سيأتي سيهلك.
س: هل الحال تعتبر شهادة أو لابد ومن نطق اللسان؟(7/377)
جـ: إنسان يقر بقلبه أنه مقهور مجبور فقير لخالق جليل فهذه شهادة وإن نفاها بلسانه، وإذا جحد بلسانه، فشهادة القلب ثابتة، ولهذا أمثلة:
1- كقوله تعالى في سورة التوبة (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر) أي مقرين على أنفسهم بالكفر بحالهم، فلا يشترط أن يقول الكافر: أنا كافر، بل حاله يدل على أنه كافر.
2- كقوله تعالى (أنه على ذلك لشهيد) فعلى أن الضمير في (أنه) يعود على الإنسان فالتقدير: أن الإنسان لشهيد على كنوده وجحوده كيف هذا الشهود؟ بأنه مغمور بنعم الله فلا يشكر الله وهذا جحود ولا يشترط أن يقول عن نفسه: أنا جاحد، فإذن هذه شهادة من الإنسان على نفسه بالحال لا بالمقال. وهو محل الشاهد.
... وعلى أن الضمير في (أنه) يعود على الله سبحانه وتعالى فالتقدير وأن الله لشهيد على كنود الإنسان وجحوده ولا تخفى عليه خافية. وكلا المعنيين والتقديرين ثابت. فالإنسان يشهد على جحوده بحاله والله يشهد عليه بعلمه فلا تخفى عليه خافية من أمور العباد
3- وكقوله هنا معنا في الآية (أشهدهم) أي بحالهم على أن الآية تشمل ميثاق الفطرة فقط، أي ركز هذا في فطرهم وعلموه وثبت عندهم بعد أن خلقهم وجعلهم خلائف في الأرض جيلاً بعد جيل.
إذن هذا هو المعنى على أنه ميثاق الفطرة فقط وعلى أنه ميثاق عالم الذر تشمل الآية أيضاً فالمعنى مسح ظهر آدم وأخرج من صلبه كل نسمة كائنة إلى يوم القيامة ثم كلمهم قبلاً، فهنا – ميثاق الفطرة – أشهدهم على أنفسهم بما ركزه في فطرهم وهناك أشهدهم على أنفسهم وكلمهم مقابلة بلا حاجز ولا واسطة هنا جعل هذا في فطرهم أنهم يقررون بربهم، وهناك قالوا بلى بلسانهم وهنا قالوا بلى بحالهم وهذا هو معنى الآية على القولين وكل منهما تشمله الآية، وهذا هو المعتمد في تفسيرها.(7/378)
وقد ذكر هذا عدد من المفسرين من جملتهم الإمام القرطبي والإمام ابن الجوزي في زاد المسير والإمام الألوسي في روح المعاني وغيره. (الآية تشمل الميثاقين) .
? واقتصر كثير من المفسرين على الميثاق الأول وحملوا الآية عليه وهو الذي حصل في عالم الذر فقط، منهم الإمام الثعلبي والإمام البغوي في معالم التنزيل.
? وقد ذهب بعض أئمة الإسلام ومنهم الإمام ابن تيمية والإمام ابن كثير والإمام ابن القيم وشارح الطحاوية ابن أبي العز إلى أن آية الأعراف لا تشمل إلا ميثاق الفطرة، ورجحوا حمل الآية عليه.
وقولهم – كما قلت لكم – مردود ومن جملة من رد عليهم شيخنا المبارك الشيخ الشنقيطي عليه رحمة الله في أضواء البيان (2/336) ، والشيخ أحمد شاكر عليه رحمة الله في تعليقه على مسند الإمام أحمد وبين أن الآية تشمل الميثاق الذي أخذ علينا في عالم الذر والقول به لا يتنافر مع الميثاق الثاني (ميثاق الفطرة) بخلاف الاقتصار على الميثاق الثاني بإن بالقول به إلغاء للميثاق الأول.
... وأما ما احتج به الإمام ابن كثير وابن أبي العز – وهو موجود عندكم في شرح الطحاوية – فمردود منقوض لا حجة فيه ولا دلالة على أن المراد من الميثاق ميثاق الفطرة فقط.
وهذه الحجج التي ذكروها وهي (عشر حجج) أولوا بها الآية وأن المراد منها ميثاق الفطرة فقط لو لم يذكرها صاحب الكتاب ابن أبي العز لأعرضت عنها صفحاً فحقيقة لا فائدة منها، لكن بما أنها مذكورة أذكرها على سبيل الإيجاز وأنقضها إن شاء الله، وهذه الحجج موجودة في كتاب الروح لابن القيم أيضاً من ص ـ167 إلى صـ168.
حجة من قال بأن الآية يراد بها ميثاق الفطرة فقط: (عشر حجج)
1) الحجة الأولى: قالوا: الله سبحانه وتعالى قال (من بني آدم) ولم يقل من آدم، فإذن هو جعلهم خلائف في الأرض ولم يخرجهم من صلب أبيهم آدم في عالم الذر.(7/379)
والجواب عن هذا: لا عبرة بهذا القول ولا يعترف به على ما قلناه لأن ذكر آدم معلوم في؟؟؟؟؟؟؟ (آدم) أخرج الذ رية منهم وأخرج الذرية التى يستخرج من تلك الظهور إلى يوم القيامة فهي ليست من صلب آدم فقط بل هي من ظهر كل من سيخلق. فذكر الآباء لأن ذكر الأب معلوم وهؤلاء الأبناء لا يكونون إلا بعد وجود أبيهم.
2) الحجة الثانية قالوا: قال (من ظهورهم) ولم يقل من ظهره.
والجواب عن هذا: كالجواب عن الحجة الأولى، فأخذ العهد من الفرع مستلزم لأن يخرج ذلك الفرع من الأصل، فذلك الفرع لا يكون إلا بعد وجود الأصل.
3) الحجة الثالثة: قالوا: الله سبحانه وتعالى قال (من ذريتهم) ولم يقل من ذريته.
والجواب عن هذا: كالجوابين المتقدمين، فبما أن هذه الذرية أخرجت من صلب آدم وهم بنوه فما يشملهم يشمله ولم يذكر هو لأنه معلوم، فلا يمكن أن توجد هذه الذرية إلا بواسطة وجود الأصل وهو آدم فأضيفت الذرية إلى الفرع الذي أخذت منه كما تضاف إلى الأصل الذي خرجت منه، ولذلك ورد في الحديث إضافتها إلى ظهر أبيهم، وفي الآية إضافتها إلى ظهور آبائها.
4) الحجة الرابعة: قالوا: الله سبحانه وتعالى قال (وأشهدهم) فهذا دليل على أن المراد من هذه الشهادة ما ركز في فطرهم لا أنهم شهدوا بألسنتهم، لأن معنى أشهدهم جعلهم شاهدين ولابد لحصول تلك الشهادة من كون الشاهد ذاكراً لشهادته وهم في هذه الحياة لا يذكرون الشهادة التي صدرت منهم في عالم الذر بل يذكرون الشهادة التي ركزت في فطرهم.
والجواب عن هذا: أن الشهادة التي حصلت منهم في عالم الذر يدل على أنهم شهدوا في ذلك الوقت على أنفسهم وتحققت الشهادة منهم وعلموا بها ثم ذكرهم الرسل بها في هذه الحياة فكأنهم علموها في هذه الحياة وكأنها ركزت في فطرهم، فصار كأنه أمر علمناه في هذه الحياة ونحن نشهده ونحن نذكره ونحن نستحضره عندما أعلمنا بها الرسل.(7/380)
5) الحجة الخامسة: قالوا: الحكمة من الإشهاد إقامة الحجة على العباد والحجة لا تقام عليهم إلا بالفطرة وبإرسال الرسل وأما ما وقع في عالم الذر فهذا لا تقوم الحجة به على أحد.
والجواب عن هذا: إذا أخبرنا الرسل الكرام عليه الصلاة والسلام بتلك الشهادة فقط فقد أقيمت الحجة علينا بذلك.
6) الحجة السادسة: المقصود من أخذ الميثاق عليهم (ميثاق الفطرة) تذكيرهم بهذا الميثاق لئلا يقولوا (إنا كنا عن هذا غافلين) وهم لا يذكرون إلا ميثاق الفطرة فلم يغفلوا عنه طرفة عين وأما الميثاق في عالم الذر هم في غفلة عنه ولا يعلمونه.
والجواب عن هذا: بعد أن يعلموه صار له من المكانة كميثاق الفطرة بل ما هو أشد من ذلك.
قال الإمام القرطبي: ومثال هذا مثال من طلق زوجته ثم نسي وغفل عن طلاقه فإذا قامت عليه البينة لشهادة شاهدين على أنه طلق، فإنه يثبت عليه الطلاق مع أنه في غفلة عنه.
... وهنا شهدنا ثم غفلنا عن تلك الشهادة ونسيناها فذكرنا بها الرسل فصار لها من الثبوت والمنزلة كثبوت دليل الفطرة ومنزلته بل ما هو أشد من ذلك.
7) الحجة السابعة: قالوا: إن الله جل وعلا ذكر حكمتين اثنتين لذلك الميثاق أولها: لئلا يقول الناس إنا كنا في غفلة عن هذا، والثانية لئلا يقولوا إننا قلدنا آباءنا وما عندنا ما يردعنا ويبين الحق لنا، وهاتان الحكمتان لا تحصلان إلا بعد دليلين معتبرين وحجتين عظيمتين: إرسال الرسل والفطرة، فالفطرة لا يجوز للإنسان أن يجحد خالقه، وبإرسال الرسل لا يجوز للإنسان أن يجحد خالقه وبهما أيضاً لا يجوز أن يقلد آباءه على الضلال والشرك.(7/381)
والجواب عن هذا: هذا الاعتراض الذي ذكرتموه منقوض في حق دليل الفطرة فهل يعاقب الله عباده إذا كانوا في غفلة عن عبادته، ولم يوحدوه وقلدوا آباءهم في شركهم وضلالهم إذا لم يرسل لهم رسولاً؟ لا، إذن فالفطرة وحدها ليست كافية وهكذا نقول أيضاً إن ميثاق عالم الذر ليس بكافٍ وحده لإقامة الحجة بل لابد من إرسال رسول وقلت لكم هذا هو مناط التكليف، فإذن فميثاق الفطرة وحده لا تثبت به حجة وكذلك ميثاق عالم الذر لا تثبت به وحده حجه وعليه فهما متساويان فكيف تحملون الحكمة من الإشهاد على دليل الفطرة دون دليل وميثاق عالم الذر.
8) الحجة الثامنة: قالوا: إن الله جل وعلا لا يعذب عباده إلا بعد الإعذار ولا يحصل قطع عذر العباد إلا بدليل الفطرة وإرسال الرسل ولذلك يقول الله جل وعلا مشيراً إلى نفي عذر الناس وأنه أخذ عليهم الميثاق لئلا يتعللوا ويتعذروا (أفتهلكنا بما فعل المبطلون) أي كيف تهلكنا ونحن لم تقم علينا الحجة.
والجواب عن هذا: كالجواب عن الذي قبله تماماً فالحجة لا تثبت على الناس بميثاق الفطرة فقط ولا تثبت عليهم بميثاق عالم الذر، فالإعذار لا يقطع إلا بإرسال الرسل فعلام أنتم حملتم هذا الميثاق في الآية على ميثاق الفطرة فقط وهذا لا يقطع عذر العباد، (قلت: ز- والحجة السابعة والثامنة والله أعلم – كأنها ناشئة من توهم أننا نرى أن ميثاق عالم الذر تحصل به الحكمتان ويحصل به الإعذار ونحن لا نقول بهذا على الإطلاق، فإن الظاهر من ميثاق احتجاجهم علينا أنهم يقصرون الحكمتين والإعذار على ميثاق الفطرة وإرسال الرسل فقط ويقولون لنا ميثاق عالم الذر لا يحصل به شيء من هذه الأمور الثلاثة (الحكمتين والإعذار) !! فكان الجواب كما ذكر شيخنا حفظه الله أن هذه الأمور الثلاثة إنما تثبت في حق ميثاق واحد هو ميثاق إرسال الرسل، ولا تثبت في حق ميثاق الفطرة كما زعمتم، ولا تثبت في حق ميثاق عالم الذر كما نقول نحن والله أعلم) .(7/382)
9) الحجة التاسعة: قالوا إن الله أشهد كل واحد على نفسه واحتج عليهم بتلك الشهادة وهذه الشهادة التي يحتج بها عليهم هي ما ركز في فطرهم، ولذلك قال الله تعالى (ولإن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله) .
والجواب عن هذا: نقول وكذلك الشهادة التي شهدوا بها في عالم الذر يحتج بها ربنا علينا فقال في هذه الآية (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) ، فإن قيل: إن كثيراً من الناس لا يستحضرونها، أو كل الناس لا يعلمونها، نقول: إذا أعلمهم الرسل بها فصارت كما لو علموها كدليل الفطرة كما تقدم معنا.
10) الحجة العاشرة: قالوا: إن الله جل وعلا بعد أن ذكر هذا الميثاق قال: (وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون) والآيات جمع آية والآية هي الدلالة الواضحة البينة التي لا يختلف عنها مدلولها، ودليل الفطرة لا يختلف عنها مدلوله. وهو الإقرار بأن الله ربهم وخالقهم.
والجواب عن هذا: كم من إنسان يقر بفطرته بأن الله خلقه لكنه يجحده؟ فإذن لا يلزم من الإقرار الفطري أن يعبده ولا يلزم من الإقرار في عالم الذر أن يعبده وعليه فهذه الحجج كلها لا تقوم ولا تنهض، بل هي مجرد تكلف في أن المراد من الآية ميثاق الفطرة لا ميثاق عالم الذر.
المواثيق الثلاثة وحجج الله على عباده التي أقامها عليهم انتهينا منها وعندنا تعليق يسير على هذا المبحث.
الميثاق الفطري لا ينكره أحد فهذا موجود في الفطرة هو غريزة من الغرائز الموجودة في الإنسان، فالعباد فيهم غرائز يقومون بموجبها لأفعال في هذه الحياة منها غريزة التدين أو غريزة الجنس أو غريزة حب التملك، لذلك فالغريزة أصوات إلهية تقود المخلوقات بأسرها إلى إيجاد ما جعله الله فيها (ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) .(7/383)
فمثلا ً سواء وردت شريعة بحل النكاح أو لم ترد سيحصل اتصال بين الذكور والإناث لأن هذه غريزة جعلها الله في قلوب الناس فالأنثى عندها غريزة لا تهنأ إلا إذا صارت أماً والرجل لا يهنأ إلا إذا صار أباً ولذلك إذا تزوج ولم يأته أولاد تراه يبحث عن أطباء الأرض من أجل إنجاب ذرية.
فإذن هذه (الجنس) غريزة تقود المخلوقات فترى الناس يسعون لتنفيذها لكن المؤمن هنا يتميز عن الكافر أو الفاسق، فالمؤمن يقوم بإشباع هذه الغريزة على حسب هدي الشرع فيثاب عليها [وفي بضع أحدكم صدقة] وأن الكافر أو الفاسق فيقوم بإشباع هذه الغريزة غالباً عن طريق الشهوة البهيمية والمتعة الحرام فيعاقب.(7/384)
وكذلك التدين غريزة فلابد لكل إنسان أن يتدين لكن إما أن يتدين تديناً معوجاً وإما أن يتدين تديناً مستقيماً، فإما أن يتدين لله وهو التدين المستقيم وإما أن يتدين التدين المعوج فيتدين لبشر كحال الشيوعية أنكرت وجود الإله وقيام الساعة وكذبت وخونت الرسل عليهم الصلاة والسلام لكنهم يتدينون رغم ذلك لمن؟ يعبدون لينين بدلا ً من أن يعبدوا رب العالمين، وإما أن يتدين لبقر، أو لحجر أو لذكر، أو لشمس أو لقمر، لكن لابد من تدين فالإنسان عندما يشعر بضعفه وفقره ومسكنته يريد أن يلجأ إلى ما يراه أنه أقوى منه وأغنى منه، فالمؤمن يلجأ إلى الغني الحقيقي القوي، والمشرك تراه إما أن يلجأ إلى بشر أو إلى شمس أو إلى قمر أو حجر وما شاكل هذا، وما عبادة الأحجار والأشجار والأبقار إلا دليل على إشباع غريزة التدين، ولذلك فلابد لكل مخلوق مهما كان شأنه من عبادة لكن إما أن يعبد الله وإما أن يعبد غيره وإما أن يعبد نفسه (أرأيت من اتخذ إلهه هواه) ، والقلب لابد له من تعلق لكن إما أن يتعلق بالرب وإما أن يتعلق بالخلق بصور أو بفرد أو بنساء أو بخمر أو ببقر ووصل هوس المهوسيين في موضوع التعلق بالمقبورين أنهم كانوا يقولون إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور، أي الجؤوا للأموات سبحان الله!! ماذا يغنون عنكم بل ماذا يغنون عن أنفسهم؟؟ لكن هذا هو القلب الخربان وهذه هي الذلة لغير الله، وأعز الناس في هذه الحياة وهو صاحب الحرية الحقيقية من لا تنحني جبهته إلا لخالقه سبحانه وتعالى ولا يذل نفسه إلا لربه وأما من عداه فلا يذل نفسه له.
تغرب لا مستعظماً غير نفسه ... ولا قابلاً إلا لخالقه حكماً(7/385)
أي لا يستعظم إلا نفسه (عزة إيمانية) ولا يقبل إلا حكم الخالق جل وعلا وحقيقة هذه هي الحرية هذا هو العز وهذه هي الكرامة وليس في تذلل الإنسان لخالقه منقصة، لكن في تذلله لغيره كل المنقصة ولذلك السؤال في حالة ضرورة يجوز لكن تركه أولى، لأن السؤال ذل ولا يليق أن يتذلل المخلوق لمخلوق؟! لا، إن الموت أحسن من أن تتذلل لمخلوق، ثم إن في سؤال المخلوقين ثلاث أنواع من الظلم:
أولها: في حق نفسك حيث امتهنتها والله أمرك أن تعزها.
والثانية: في حق المسئول لأنك أضجرته وآذيته، فبنو آدم عندما يسألون يتضجرون.
والثالثة: اعتديت على الخالق لأن الله هو الذي يقول يا عبادي سلوني لأقضي حوائجكم.
لا تسألن بُني آدم حاجة ... وسل الذي أبوابه لا تُحجبُ
الله يغضب إن تركت سؤاله ... وبُني آدم حين يُسأَل يغضب
فإذن التدين غريزة، ركز في فطرنا وكذلك التملك غريزة، فكل واحد يحب أن يتملك وأن يكون في جيبه دراهم، فهذا فطر الله القلوب عليه (وتحبون المال حباً جماً) (وإنه لحب الخير لشديد) وبعض الناس وصل الآن سفاهتهم أنهم قالوا الدراهم مراهم، ولكن الحقيقة قالها بعض الأكياس الفطناء سمي الدرهم درهماً لأنه يُدِرُ الهم أي يجلبه ويأتي به.
الشاهد أن حب التملك غريزة يحبها الإنسان ولا حرج عليه في ذلك إذ أخذها عن طريق شرعي [نِعْم المال الصالح للرجل الصالح] فيأخذه من حله ويضعه في حقه، وليس في جلب المال منقصة ما دمت تأخذه من حله وأنت مأجور وتضعه في حقه وأنت مثاب على ذلك وكما في الصحيحين [لأن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس] فلا حرج عليك في جمعه ولا تجعله يطغيك ولا تسرف فيه ولا تبطر به.(7/386)
.. وليس في حب النساء منقصة للإنسان ما دام على حسب شريعة الله وكذلك حب المال ما دام على حسب شريعة الله وقد قال سيد الكاملين عليه الصلاة والسلام [حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء وجُعلت قرة عيني في الصلاة] فمثل هذه الطيبات لا حرج في حبها ما دامت على حسب شريعة الله، قال تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ... ) فهذه الطيبات يتمتع بها المؤمن والكافر في الحياة الدنيا، أما في الآخرة فلا يشارك المؤمن فيها أحد. (هذا الكلام كله جعلته كالتمهيد للإشكال الذي سيأتي، وهو مأخوذ من كلام الشيخ حفظه الله)
الإشكال:
قد يقول قائل: إذا أخذ الله علينا الميثاق في عالم الذر – كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحيحة – على أنه خالقنا وربنا ومالكنا، وأودع هذا في فطرنا وغرزه فينا – وهو الميثاق الثاني – فجعلنا نقر بوجوب عبادته، فعلام توقف التكليف على إرسال الرسل ونزول الكتب، وقد أخذ علينا ميثاقين (في عالم الذر، والفطرة) ؟
الجواب عن الإشكال: توقف التكليف على إرسال الرسل ونزول الكتب لأمرين:
الأمر الأول: أن العباد يكلفون قبل إرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم بتوحيد ربهم، لكن الله جل وعلا كرماً منه وفضلاً رفع عنا العقاب قبل إرسال الرسل وإنزال الكتب فقط لأن الغريزة الفطرية وإن كانت مركوزة في النفس الإنسانية إلا أنها في عرضة – أحياناً – للتغيير وللتلاعب وللخطأ، فلابد من إرسال الرسل لتكون الغريزة مستقيمة تهتدي بهدي ذلك الرسول، فغريزة التدين موجودة لكنها عرضة للتغيير.
... والعباد إذا أشركوا بالله قبل إرسال الرسل وإنزال الكتب ظالمون معتدون مسرفون لكن لا عقاب على ظلمهم كرماً من الله وفضلاً.(7/387)
.. وقد قرر الله هذين الأمرين (أن العباد ظالمون إذا لم يوحدوا الله قبل إرسال الرسل، وأنه لا عقاب عليهم مع ظلمهم) في سورة الأنعام يقول الله جل وعلا: (ويوم يحشرهم جميعاً يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا، قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم، وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون، يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسلٌ منكم يقصّون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين، ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون) الآيات 128- 131 (ألم يأتكم رسل منكم؟؟؟؟؟؟؟؟) وهو إرسال الرسل، (ذلك أن لم يكن..) هذا هو الشاهد أي إرسال الرسل وإقامة الحجة على العباد لئلا يهلك الله القرى بظلم منهم وبشرك منهم وضلال منهم، وهم غافلون عن بلوغ الدعوة ووصول الرسالة.
... إذن فأثبت لهم الظلم في حال غفلتهم وعدم إرسال الرسول إليهم إذ لم يعبدوه ولم يوحدوه ومع ذلك لا عذاب عليهم كرماً منه وفضلاً سبحانه وتعالى، وكان الأصل أن يعذبوا لأنهم جحدوا الميثاق الفطري لكن الله تكرم فقال أنا لا أعذب إلا بعد قيام الحجة على أتم وجه فانتبهوا يا عبادي أشهدتكم على أنفسكم في عالم الذر، وركزت في فطركم الإقرار بوجودي ووجوب عبادتي وأرسلت إليكم الرسل وأنزلت عليكم الكتب وتركتكم على المحجة البيضاء، فمن ضل بعد ذلك فلا يلومن إلا نفسه ولو عذبنا على الميثاق الفطري لاستحققنا العذاب لأننا ظالمون.(7/388)
الأمر الثاني: الفطرة وإن دلت على وجود الله ووجوب تعظيمه إلا أنها لا تستطيع أن تحدد الأشكال التي يحصل بها تعظيم ذي العزة والجلال أي لا تستطيع أن تحدد شكل العبادة وشكل التعظيم الذي يتقرب به إلى الله، فقد يقول هذا أنا أعبد الحمار الذي خلقه الله تقرباً إلى الله، ويأتي هذا ويقول أنا أعبد هبل، وآخر يقول: اللات، وآخر لنين وآخر الشمس وآخر القمر وآخر الحجر وهكذا كلٌ سيعبد ما شاء إن لم يرسل رسولاً وينزل كتاباً على البشر.
... ولذلك كل ما يحصل به تعظيم الله جل وعلا هو عبادة والعبادة توقيفية لا مجال للعقل فيها، فنعبد الله بما يشاء لا بما نشاء ولذلك [من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد] .
(ذكر الشيخ قصة عن الشيخ صالح الجعفري من علماء الأزهر حيث كان يقول لا يوجد شيء اسمه بدعة فكل ما نقصد به الخير فهو جائز مستدلاً بالآية (وافعلوا الخير..)) .
(ذكر الشيخ قصة المهوس عيسى؟؟؟ وضلالاته التي يقررها من جواز الاستغاثة بغير الله، وأن أهل السنة حذفوا لفظ وعترتي من حديث فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين وغير ذلك من الضلالات ... )
فمن أجل الأمرين السابقين توقف التكليف على إرسال الرسل وإنزال الكتب.
مبحث القَدر
يقول الإمام الطحاوي عليه رحمات ربنا الباري:
"وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه لم يطّلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبيُّ مرسَل والتعمق والنظر في ذلك ذريعة (1) الخِذلان، وسلم الحرمان ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسةً (2) فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى في كتابه: (لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون) فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب ومن رد حكم الكتاب، كان من الكافرين". أ. هـ.
__________
(1) أي سبب وطريق.
(2) أي احذر أن تنظر أو تفكر أو توسوس في موضوع القدر كما سيأتينا إن شاء الله في مسألة الوسوسة في القدر.(7/389)
.. هذا المتن للإمام الطحاوي شرحه الإمام ابن أبي العز في عشر صفحات (ط. أحمد شاكر) أو أكثر، وسأضم إليه ما تقدم معكم موجزاً مبحث الإرادة وانقسامها إلى إرادة شرعية وإرادة كونية لتأخذوا هذا المبحث بصورة متكاملة من أطرافه إن شاء الله.
القدر مسألة عظيمة من مسائل شريعتنا القويمة
سنبحث مبحث القدر ضمن ست مباحث
المبحث الأول
تعريف القدر لغة واصطلاحاً:
القدر لغة: مصدر قَدَرْت الشيء أقدِره – أقدَرُه قَدْراً وقَدَراً ـ إذا أحطت بمقداره.
اصطلاحاً: هو علم الله بمقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها ثم إيجادها حسبما سبق في علم الله جل وعلا، فكل محدَث وكل مخلوق وكل موجود صادر عن علم الله وإرادته وقدرته، هذا الأمر معلوم من الدين بمحكم البراهين، وعليه كان الصحابة الكرام والتابعون لهم بإحسان وهو مذهب أهل السنة الكرام.
... والإيمان بالقدر من أركان الإيمان كما ثبت في الصحيحين وغيرها من حديث أبي هريرة، وفي مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث جبريل الطويل وفي آخره [قال جبريل: ما الإيمان؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره] وفي رواية: [حلوه ومره من الله تعالى] وهذا الحديث – حديث جبريل – هو أم السنة كما أن الفاتحة أم الكتاب، والإمام البغوي عليه رحمة الله جعله أول حديث في كتابه (مصابيح السنة) مشيراً إلى أن هذا الحديث ينبغي أن يُقدم على الأحاديث كما قدمت الفاتحة على سور القرآن.
وثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تَعْجِزْ فإن أصابك شيء فقل قدّر الله وما شاء فعل ولا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا فإن لو تفتح عمل الشيطان] أي ما فيها إلا حسرة وندامة.(7/390)
.. والمراد بالقوة هنا قوة القلب أي المؤمن القوي الذي قلبه فيه قوة وعنده عزيمة قوية لأن قوة البدن تتبع قوة القلب، والذي يثبت في المعركة هو قوي القلب ولا عبرة بقوة البدل دون قوة القلب، فإن صاحب القلب القوي يثبت في المعركة ولو قطعت أطرافه الأربع ولا يتحرك ولا يولي الأدبار، وصاحب القلب الضعيف يجبن ويفر.(7/391)
.. فالمؤمن القوي الذي إيمانه تام وعزيمته تامة أحب إلى الله من المؤمن ناقص الإيمان ضعيف الإيمان ففي قلبه رخاوة وليس فيه ثبات، لكن في كل خير فهذا مع ضعف إيمانه إلا أن فيه خيراً ولم يخرج عن حظيرة الإيمان وليس هو كأهل النفاق والكفران فهؤلاء كما قال تعالى (قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلاً أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوقم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيراً، يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بادون في الأعراب يسألون عن أنبائكم ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلاً) فهم من رعبهم وضعف عزيمتهم وخورهم وجبنهم يحسبون الأحزاب لم يذهبوا مع أنهم ذهبوا وهؤلاء في المدينة وإن يأت الأحزاب يودون لو أنهم بادون في الأعراب أي لو أنهم في بادية وليسوا في المدينة لئلا يلاقوا الخوف مرة أخرى كما حصلوه في المرة الأولى، ولذلك المؤمن قوته في قلبه وضعفه في بدنه أي تظهر عليه علامة الهزال وعلامة الخشوع وعلامة الإخبات من أجل صيامه وقيامه يذبل جسمه ويصغر فترى عليه علامة الإعياء والتعب، لكن عندما يفعل نتعجب من صدور هذه الأفعال وهذه القوة من هذا الضعف، والمنافق على العكس فهو قوي في بدنه لكن ضعيف في قلبه (1) .
__________
(1) والله إخوتي الكرام كما قال الله عن اليهود (لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرىً محصنة أو من وراء جدر) فهؤلاء لو وجدوا من يقاتلهم ومعه الله لحصل النصر الذي لا يخطر ببال من الله، هذا كلام الله (لا يقاتلونكم جميعاُ إلا في قرىً محصنة) هذا من رعبهم لا يستطيع واحد منهم أن يقاتل وجهاً لوجه، لو وقف مائة ألف يهودي لا أقول ألف يهودي لو واجهوا مسلماً واحداً بسكين لماتوا رعباً فضلاً عن إطلاق رصاص، هذا كلام الله الذي يعلم طبائع عباده لكن لما استوينا نحن وهم في المعصية صاروا أسوداً علينا في هذه الأيام لأننا نحن صرنا مثلهم إن لم نكن أعتى منهم فصار لهم الفضل علينا بالقوة الظاهرة ونحن لا توجد عندنا قوة باطنية وهم لا توجد عندهم أيضاً قوة باطنية فإذن استوى الحالان في الباطن ضال يقاتل ضالاً والذي هو أقوى في الظاهر سينتصر فهم الذين سينتصرون لعدم وجود صاحب قوة قلبية يردعهم.
إذا ما خلا الجبان بأرض ... طلب الطعن وحده والنزالا
فهؤلاء يطلبون الطعن والنزال ويتحدون العالم بأسره لأن الساحة أمامهم مكشوفة ولا يوجد من يوقفهم عند حدهم، فهذا حال اليهود وحال الأمة الكافرة الأخرى التي جعلناها قدوتنا وكل ما جاءنا من عندهم حسن حتى قال أغا أوغلي أحمد من تركيا من زعماء الكماليين أتباع مصطفي كمال أتاتورك: "عزمنا على أن نأخذ كل مما عند الغرب حتى الالتهابات التي في رئيهم (جمع رئة) والنجاسات التي في أمعائهم".(7/392)
[احرص على ما ينفعك] أي لا تتواكل وتلقي الأمر على القدر بل ابذل ما في وسعك لتحصيل ما يجلب إليك منفعة ويدفع عنك مضرة.
[فإن أصابك شيء] حرصت ورتبت الجيش مثلاً لكن قدر الله أن يقع انكسار وهزيمة (1) .
[لو أني فعلت كذا..] أي عمل عملية لابنه فمات فقال لو لم يعمل العملية لكان سيحيى ويعيش مثل هذا لا يجوز أن تقوله فهذا تسخط على القدر وجحود وقد تكفر وأنت لا تدري، وهذا يا عبد الله مات بأجله سواء أجريت له عملية أو لم تجر له فسيموت، فدعك من هذا الكلام وقل قدر الله وما شاء فعل.
__________
(1) والمسلمون خسروا في عدد من المعارك لكنهم لم يخسروا حرباً، وشتان بين الخسارتين، والمسلمون لم يخسروا الحرب أما في المعارك فلا حرج لنا يوم ولهم يوم قال تعالى [وتلك أيام نداولها بين الناس] ، وعندما قال هرقل لأبي سفيان – والحديث في صحيح البخاري – هل قاتلتموه، قالوا: نعم، فقال كيف كان قتالكم إياه قال كانت الحرب بيننا وبينه سجالاً ينال منا ونناله منه، فقال وكذلك (..............) فكرة التعايش السلمي التي نشرت بيننا الآن حاصلها أن نأكل وننام ولا نعادي لا يهوداً ولا نصارى فضلا ً عن محاربتهم وجهادهم بل نعيش في هذه الحياة ونأكل ونتمتع (والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوىً لهم) ، فلا نكلم اليهود والنصارى في شيء من الدين بل نتركهم وحالهم ولو أدى الحال إلى أن نصبح مثلهم، وكل من دعا إلى التعايش السلمي فهو مرتد لأن الله تعالى يقول (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) أي شرك ثم قال (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) فهم لا يهنأون ما دام على وجه الأرض مؤمن، ونحن إذا كنا مؤمنين لا نهنأ ما دام على وجه الأرض كافر.(7/393)
والقدر – كما سيأتينا – حجة في المصائب لا في المعايب، فإذا زنيت فلا تقل قدر الله وما شاء فعل وإذا شربت الخمر فلا تقل قدر الله وما شاء فعل، فهذا (الزنا والسرقة) وقع بقدر الله لكنك تقول قدر الله وما شاء فعل نقصد بذلك أن تنفي اللوم عن نفسك وأنت ملوم، وأما إذا سقط عليك حجر أو انهدم جزء من بيتك أو مات لك قريب أو صديق ونحو ذلك فهذه كلها مصايب فتقول قدر الله وما شاء فعل، فالكلام صحيح قدر الله وما شاء فعل فالزاني بقدر وشرب الخمر بقدر ولا يقع شيء إلا بقدر الله لكن ذاك لك فيه اختيار (الزنا وشرب الخمر ... ) فأنت ستعاقب عليه، وأما هذا (موت القريب، سقوط الحجر) فهو اضطرار وقع عليك دون اختيارك ولذلك تقول قدر الله وما شاء فعل.
وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الإيمان لا يحصل في قلب الإنسان حتى يؤمن بقدر الرحمن.
(1) ثبت في سنن الترمذي بسند حسن من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن البني صلى الله عليه وسلم قال: [لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره من الله تعالى وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه] .
[وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه] فما أصابك هو بقدر الله ولا يمكن أن يزول عنك.
[وما أخطأه لم يكن ليصيبه] فلو فاتك شيء محمود كنت تمناه فقل قدر الله وما شاء فعل لأنه لم يكتب لك في هذا الوقت وقد يكتب لك فيما بعد وقد لا يكتب لك بل لأحد غيرك أيضاً فلن تستطيع أن تنال وتحصل ما فاتك مهما حاولت ولهذا كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام والحديث في المسند وسنن الترمذي وغيرهما – قال لابن عباس عندما كان رديفه: [.... واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، رفعت الأقلام وجفت الصحف] فإذن ما كتبه الله لك وجعله من نصيبك لن يذهب إلى غيرك، وما كتبه لغيرك وجعله من نصيبه لا يمكن أن تناله وتحصله مهما حاولت.(7/394)
(2) وثبت في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والترمذي بسند صحيح عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه [أنه قال لابنه عند الموت: يا بني إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، فإني سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم: إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، قال: يا رب وماذا اكتب – قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة] ، يا بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [من مات على غير هذا فليس مني] أي ليس منه صلى الله عليه وسلم لأنه ترك ركناً من أركان الإيمان.
... والحديث هذا رواه الإمام الترمذي برواية أخرى فيها شيء من الطول وفيها شاهد لموضوع تقدم (1)
__________
(1) تقدم في محاضرة (27) ذكر أحاديث تدل على أن فرعون مات كافراً وأنه في النار وأنه مخلد مع بعض الكافرين المجرمين، وكان هذا جواب لسؤال طالب ولم أكتب هذا هناك لضيق الوقت وسأذكر هذه الأحاديث هنا:
1- روى ابن حبان عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوماً فقال: [من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم يكن له برهان ولا نور ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وهامان وفرعون وأبي بن خلف] وهذا الحديث رواه الإمام أحمد في المسند (2/169) ، وقال الهيثمي في المجمع (1/292) : ورواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله ثقات.
2- روى الطبراني بسند جيد كما قال الهيثمي في المجمع (7/193) كان نبينا عليه الصلاة والسلام قال: [خلق الله فرعون في بطن أمه كافراً وخلق الله يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمناً] .
3- ثبت في مسند الترمذي ومسند الإمام أحمد والحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال [عندما أغرق الله فرعون قال آمنت وأنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، قال جبريل: يا محمد فلو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر أي من طين البحر فأدسه في فمه مخافة أن تدركه رحمة الله] وفي رواية [ذكر أن جبريل جعل يدس في فم فرعون الطين خشية أن يقول لا إله إلا الله فيرحمه الله أو خشية أن يرحمه] وفعل جبريل هذا ليس باختياره بل هو مضطر فقد سخره الله سبحانه وتعالى وهيأه وأمره بأن يدس التراب في (فمه) فهذه أحاديث تدل على كفر فرعون وأنه في النار ومنها هذا الحديث الذي سنذكره.(7/395)
معنا – يقول [قال عبد الواحد بن سليم: قدمت مكة فلقيت عطاء بن أبي رباح فقلت له يا أبا محمد إن بالبصرة قوماً يقولون لا قدر، فقال عطاء يا بني أتقرأ القرآن، قلت: نعم، قال: فاقرأ الزخرف، فقرأت: (حم والكتاب المبين إن جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم) ثم قال – أي عطاء – أتدري ما أم الكتاب؟ قلت: لا، قال: فإنه كتاب كتبه الله قبل أن يخلق السموات والأرض فيه: إن فرعون من أهل النار وفيه تبت يدا أبي لهب ثم قال – أي عطاء – ولقد رأيت الوليد بن عبادة بن الصامت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألته ما كانت وصية أبيك لك عند الموت؟ فذكر الوصية التي تقدم ذكرها وهذا الذي أشارت إليه الأحاديث النبوية ودلت عليه الآيات القرآنية أذكر بعضها:
أ – قال جل وعلا في سورة الأنعام: (وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) وهو – أي الكتاب – اللوح المحفوظ فلا يوجد شيء وقع أو سيقع إلى يوم القيامة إلا وهو مسطر فيه.
ب- وقال ربنا جل وعلا في سورة الحديد: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير، لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كلا مختال فخور) .
ج- وقال جل وعلا في سورة التغابن: (ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهدى قلبه والله بكل شيء عليم) .
وسعي العباد وعمل المخلوقات بأسرها تنتهي إلى آيتين من كتاب الله:
1- قوله تعالى في سورة الإنسان: (وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً) .
2- قوله تعالى في سورة التكوير: (لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين) .
خلاصة قولنا في قدر ربنا:(7/396)
.. أن الله علم الأشياء ومقاديرها وأزمانها قبل وقوعها ثم أوقعها وأوجدها حسبما علم ربنا جل وعلا ولذلك كل مخلوق وكل محدث وكل شيء يقع بعلم الله وإرادته وقدرته؛ أي علم الله وقوعه في الأزل قبل أن يقع وأراد الله وقوعه إرادة كونية لا يختلف مقتضاها، وقدر عليه فأوجده وخلقه فالله خالق كل شيء (والله خلقكم وما تعملون) ، إذن فـ: (1) العلم. (2) والإرادة. (3) الإيجاد والخلق. كل هذا لله جل وعلا فلا يوجد مخلوق إلا وقد أحاط به علم الله وتعلقت به إرادته وأوجدته قدرته خيراً كان أو شراً.
المبحث الثاني
إرادة الله جل وعلا تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: إرادة كونية قدرية:
... وهي عامة شاملة لا يتخلف مقتضاها وتكون فيما يحبه الله وفيما يكرهه فـ[ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن] كما ثبت هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام في مسند أبي داود وغيره.
... وهذه الجملة – ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن – من نفيس اعتقاد أهل السنة والجماعة كما قرر ذلك الإمام أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن (3/1234) ، وقال الإمام ابن القيم في كتاب الفوائد صـ 95 – ونعمت هذه الفائدة التي سيذكرها – "أساس كل خير أن يعلم العبد أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن".
ووجه ذلك: أنه إذا أصابه خير وصدرت منه طاعة فيعلم أن هذا بمشيئة الله وتقديره وفضله وإحسانه فيشكر الله ويحمده ولا يفتخر ولا يعجب ولا يُدلِّ ولا يتكبر لأن هذا بتقدير الله [فمن وجد خيراً فليحمد الله] ، فليس لك في فعل الطاعة فضل إنما الفضل كله لمن قدر لك فعل هذه الطاعة وأقدرك عليها.(7/397)
وإذا عمل معصية أو أصابه سوء فيعلم أن هذا وقع بسبب خذلان الله له وهذا الخذلان وضعه الله في موضعه بسبب تقصير الإنسان أو فساده أو جُُرْمهِ فيدعوه هذا إلى الإقلاع عن ذنبه والتوبة إلى ربه ليقدر الله له الخير وييسره عليه، لأن الله أخبرنا أن العبد عندما يضل يزده الله ضلالاً (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) سورة الصف / آية 5، (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون) سورة الأنعام 110.
[فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه] فليتب إلى ربه وليسأله إصلاح قلبه فبيده قلوب العباد فهو على كل شيء قدير، إذن إذا عمل طاعة يقول بفضل الله وإذا عمل معصية يقول بعدل الله، ولهذا كان أساس كل خير أن يعلم العبد أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
الأدلة من القرآن على هذا القسم من الإرادة:
1- قال الله جل وعلا (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء) ، فالمراد من قوله (فمن يرد الله أن يهديه – يرد أن يضله) إرادة كونية قدرية لا يختلف مقتضاها، فمن أراد الله هدايته كوناً وقدراً فسيهتدي ولا بد ومن أراد إضلاله كوناً وقدراً سيفعل ولابد، وهو الحكيم سبحانه يضع الأمور في مواضعها.
2- وقال جل وعلا في سورة البقرة آية 253 (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض، منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم ومن كفر، ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد) فقوله (ولو شاء الله ما اقتتل ... ) المراد منه مشيئة كونية قدرية لا يتخلف مقتضاها.
والآيات في هذا كثيرة.
القسم الثاني: إرادة دينية شرعية:(7/398)
وتكون في خصوص ما يحبه الله ويرضاه فقط وقد يوجد مقتضاها وقد يتخلف، وفي الغالب يتخلف مقتضاها ولا ينتج عن تخلف مقتضاها أي إشكال لأن المشيئة الدينية بمعنى الأمر فإذا أمرنا الله بشيء ولم نمتثله ولم نفعله نعاقب وليس في عدم فعلنا إلغاء لأمر الله جل وعلا، وإذا قمنا به أثابنا الله ورضي عنا.
الأدلة من القرآن على هذا القسم من الإرادة:
1- قال تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) ، (يريد الله بكم السير) أي يأمركم باليسر، فقد يمتثل أشخاص وقد يخالف أشخاص في ذلك، ولو كانت الإرادة هنا إرادة كونية قدرية لما وقع عسر في هذه الحياة أبداً بل لكان كل شيء يُسْراً، لكن ليست الإرادة كذلك بل هي دينية شرعية قد يوجد مقتضاها وقد يتخلف، فالله يحب اليسر وأمرنا به ويكره العسر وينهانا عنه وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [يسروا ولا يتعسروا، بشروا ولا تنفروا] ، لكن كم من إنسان ينفر ولا يبشر، وكم من إنسان يعسِّر ولا ييسِّر؟!.
2- وقال جل وعلا في سورة المائدة (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم) فالإرادة هنا دينية شرعية يحبها ربنا جل وعلا، ولا يحب الله أن يكون عليكم حرج أو شقة، ولكن يريد أن يطهركم، ولو كانت إرادة كونية لانتفى الحرج في هذه الحياة ولحصلت الطهارة لجميع المخلوقات لكنها إرادة دينية قد يوجد مقتضاها وقد يتخلف وفي الغالب يتخلف فمن يعصي الله في هذه الحياة أكثر ممن يطيعه وأهل النار من كل ألف 999 وواحد من الألف إلى الجنة (ويوم يحشرهم جميعاً يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس) فهي نسبة كبيرة كثيرة لم يَسْلم من الألف إلا واحد.(7/399)
ولذلك ثبت في المسند والصحيحين من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يقول الله يوم القيامة لأهون أهل النار عذاباً أرأيت لو كان لك الدنيا وما فيها أكنت مفتدياً بها من عذاب يومئذ، فيقول: نعم يا رب، فيقول الله له: أردت منك ما هو أهون من ذلك ألا تشرك بي وأنت في صلب أبيك آدم (1) فأبيت إلا الشرك] .
... فقوله [أردت منك ... ] المراد بالإرادة هنا الإرادة الدينية الشرعية أي أحببت منك وأمرتك بما هو أهون من ذلك فإن وحدت حصل المطلوب وأثبتك وإن جحدت عاقبتك، إذن فقد يوجد مقتضى هذه الإرادة وقد يتخلف ولذلك هذا – في الحديث – كفر ودخل النار فلم يحقق مقتضى الإرادة وليس في هذا إلغاء لقدر الله.
س: لفظ (أهل النار) ألا يشمل المؤمنين العصاة الذين سيعذبون ثم يخرجون؟
ج: لفظ (أهل النار) إذا أطلق ينصرف لأهلها الذين هم أصحابها، أما المؤمنون فليسوا بأهلها ولا من أصحابها فوجودهم فيها عارض وليس للاستيطان فهم كالمسافر فإنه لا ينسب إلى البلد التي يجلس فيها فترة وجيزة بل ينسب إلى بلده الذي يقيم فيه، ولا ينسب إلى بلد إلا من هم أهله أصلاً أو جاءوا وأطالوا المكث في البلد وأطالوا الإقامة فينسبون له، فالنار لا تنسب إلا لأهلها الأصليين وهم الكفار وأما المؤمن العاصي فهذا مروره في النار عارض بل ليطهر ثم لينقل بعد ذلك إلى جنات النعيم برحمة أرحم الراحمين.
... وعند المحدثين لا ينسب الإنسان إلى بلده إلا إذا أقام فيها، أربع سنين، فيصح أن تنسبه إليها وتقول مستوطن أصلي ولا أقول كتعبير الجاهلية في هذا الحين مواطن، فليس عند المؤمنين إلا جنسية واحدة هي جنسية (لا إله إلا الله) .
وصفوة الكلام وخلاصته: إرادة الله ومشيئته قسمان:
__________
(1) أي في صلب أبيك آدم أخذت عليك الميثاق وأقررت على نفسك وشهدت عليك ثم لما خرجت إلى الحياة أبيت إلا الشرك برب الأرض والسماء.(7/400)
1- إرادة أمر وتشريع وتكون هذه الطاعات والمعاصي سواء وقعت أو لم تقع، والمقصود أن ما أمرنا به الله ونهانا عنه مرادٌ له إرادة دينية شرعية.
2- إرادة قضاء وتقدير وهي شاملة لجميع الكائنات محيطة بجميع الحادثات لا يخرج عنها شيء على الإطلاق، ولذلك كانت من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم: [أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بَرُّ ولا فاجر من شرما خلقت] فكلمات الله هنا هي: الكونية لأنه قال لا يجاوزها ولا يخرج عنها بر ولا فاجر.
إذن الإرادة الدينية الشرعية قد تقع وقد لا تقع، والإرادة الكونية لابد من وقوعها والإرادة الدينية الشرعية تتعلق بما يحبه الله ويرضاه، والإرادة الكونية تتعلق فيما يحبه وفيما يكرهه فمن لازم ما يريده الله إرادة دينية شرعية أن يحبه ويرضاه، ومن لازم ما يريده إرادة كونية قدرية أن يقع ولا يتخلف.
المبحث الثالث
العلاقة بين الإرادتين:
تتحدد العلاقة بينهما في أربع صور ليس لها خامس:
? الصورة الأولي: اجتماعهما:
أي: أن توجد الإرادة الكونية المقدرية والإرادة الدينية الشرعية.
مثالها: إيمان المؤمن، تحجب المرأة الصالحة، باختصار: كل طاعة تقع في هذه الحياة، فهي تقع بإرادة الله الدينية والكونية، بإرادة الله الدينية حيث أمر الله بها وأحبها، وبإرادته الكونية حيث قدرها وشاءها فلولا ذلك ما حصلت.
... فإذن الله أراد الإيمان من المؤمن إرادة دينية لأنه يحب هذا ويرضاه، وأراده إرادة كونية لأنه وقع منه، ولو لم يرده منه كوناً لما وقع منه.
? الصورة الثانية: انتفاؤهما:
أي: لا توجد الإرادة الكونية القدرية ولا الإرادة الدينية الشرعية.
مثالها: انتفاء الكفر في حق المؤمن.(7/401)
.. فانتفى الكفر في حق المؤمن لانتفاء الإرادتين، لا، هم لم يأمروا به (إن الله لا يؤمر بالفحشاء) وبالتالي فلم تتعلق به الإرادة الدينية الشرعية، وكذلك لم يقدرهم عليه حيث لم يكفروا وبالتالي لم تتعلق به الإرادة الكونية القدرية، فإذن انتفت الإرادتين.
... ومثله: انتفاء السفور في حق المرأة المتحجبة، وباختصار: كل شيء لم يقع مما يكرهه الله ويبغضه فلانتفاء الإرادتين الكونية لأنه لم يقع، وانتفت الإرادة الكونية لأنه مما يبغضه الله.
? الصورة الثالثة: وجود الإرادة الدينية الشرعية فقط وتخلف الإرادة الكونية القدرية:
مثالها: طلب الإيمان من أبي جهل وأبي لهب ومن الكفار جميعاً فالله سبحانه وتعالى أراد الإيمان منهم وأمرهم به (اعبدوا الله مالكم من إله غيره) إرادة دينية شرعية لأن الإيمان مما يحبه الله، ولكن الله جل وعلا لم يرد هذا منهم كوناً وقدراً لأنه لم يحصل منهم لأنه لو أراده كوناً وقدراً لحصل منهم، فلما لم يحصل منهم علمنا أن الإرادة الكونية منتفية في حقهم.
? الصورة الرابعة: (عكس السابقة: وجود الإرادة الكونية القدرية) : وتخلف الإرادة الدينية الشرعية:
مثالها: كفر أبي جهل: فالله لم يأمر أبا جهل ولم يرد منه الكفر إرادة دينية شرعية بها طلب منه الإيمان، وقع هذا بإرادته الدينية لا الكونية، لأنه لو وقع طلب الإيمان بإرادة كونية قدرية لما تخلف مقتضاها، لكن ليس الحال كذلك فالذي وقع بإرادة الله الكونية القدرية هو الكفر، فلذلك إذن وجدت الإرادة الكونية القدرية فقط، وتخلفت الإرادة الدينية الشرعية لأن الكفر ليس مما يحبه الله ويرضاه.
... هذه هي الصورة الرابعة للإرادتين
س: بالنسبة لأمر الله هل ينقسم إلى أمر كوني قدري وأمر ديني شرعي؟
ج: لا شك أن أمر الله وإرادته ومشيئته وكلماته كل هذا ينقسم إلى كوني وشرعي قال الله تعالى في سورة الإسراء: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً) .(7/402)
(أمرنا مترفيها) اختلف أئمتنا الكرام في الأمر هنا على قولين: فقيل: أنه من الأمر الذي هو ضد النهي وقيل: أنه من الأمر الذي هو بمعنى التكثير وعلى القول الأول – الأمر الذي هو ضد النهي – فيحتمل معنيين أيضاً:
الأول: أي أمرنا مترفيها بالفسق ففسقوا وعليه فالآن هنا أمر كوني قدري، كما قال الله تعالى: (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازيّنت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً ... ) أي الأمر الكوني القدري، بمعنى شئنا لهم ذلك وقدرناه عليهم لما نعلمه من حكمة فيهم.
الثاني: قيل يوجد في الآية شيء محذوف والتقدير: أمرناهم بالطاعة فعصوا وفسقوا عن شرع الله وعليه فالأمر هنا ديني شرعي.
... والمعنيان تحتملهما الآية وكل منهما مقرر في كتب التفسير، وهو قول حق مقبول، وانظروا هذا في تفسير ابن كثير وغيره.
وعلى القول الثاني – أي بمعنى التكثير – فمعنى كثّرنا، يقال: أَمِرَ كذا بمعنى كثّر، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم – والحديث في المسند ومعجم الطبراني بسند رجاله ثقات كما قال الهيثمي: [خير مال المرء مُهْرة مأمورة أو سكة مأبورة] .
... فمعنى مأمورة هنا كثيرة النتاج والنسل، وهذا حقيقة من خير مال المسلم أن تكون له خيل تنتج الأولاد الذين يُغزى عليهم في سبيل الله ويستعان بهم على أمور الحياة والخيل هي وسيلة الجهاد المفضلة لاسيما عندما كان الجهاد بالسلاح الأبيض لا بالسلاح الأسود، والآن يجلسون في الخنادق ويحاربون، هذه ليست شجاعة، بل الشجاعة هي المواجهة وجهاً لوجه والتبارز.
[أو سكة مأبورة] أي طريق مصطف بالنخل، مأبورة أي مؤبرة ملقحة بوضع طلح الذكر على الأنثى لئلا يسقط الحمل.(7/403)
ويشهد لهذا المعنى قراءة يعقوب وهو من القراء العشرة المتواترة قراءاتهم، حيث قرأ الآية (وإذا أردنا أن نهلك قرية آمرنا..) والقراءة متواترة، أي أكثرناهم كثرة زائدة، لا، المسرفين إذا أكثروا وكثر الترف والبطر والأشر تستحق الأمة بعد ذلك العقوبة، قال الإمام الكسائي: آمرنا وأمرنا بمعن ً واحد بمعنى أكثرنا.
... وهناك قراءة للحسن البصري وهي شاذة لا يجوز القراءة بها لكن توجه من ناحية المعنى واللغة بتشديد الميم ( ... أمّرنا ... ) أي جعلناهم أمراء مسلطين.
الأمر يكون كونياً ويكون دينياً، فهو كوني قدري لكن حسب التقدير: أمرنا بالطاعة فالأمر ديني، أمرنا بالفسق فالأمر كوني.
المبحث الرابع
الضالون الزائغون في قدر الحي القيوم:
ضل في قدر الله وإرادته وتقديره ومشيئته فرقتان:
1- قدرية مجوسية.
2- قدرية جبرية.
الفرقة الأولي: القدرية المجوسية:
فقد ظهرت بذورها في أواخر أيام الصحابة الكرام وأول من دعا إليها نصراني ملعون اسمه (سوسن) (أي هو أول من أظهر بذورها دون تحديد معالم هذا القول الباطل) .
وهذه الضلالة التي أحدثها تلقاها عنه شيطان رجيم هو معبد الجهنمي وحاصل قوله:
1) أن الله لا يعلم الشيء إلا بعد أن يقع. 2) وأنه لم يقدر شيئاً. 3) أنه لم يرد شيئاً ولم يشأه. وكان هو أول من قال بهذا، وهذا هو قول المتقدمين من القدرية المجوسية ويسمون القدرية الغلاة ثم انقرض من قال هذا القول بعد ذلك وذهب أهل هذا القول، فجاء بعدهم من انتسب إليه وقال بقول آخر، سنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى.
فإذن أول من قال بهذا الضلال معبد الجهنمي فهو الذي حدد معالم هذا القول، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يقول له، يا تيس جهينة لست من أهل السر ولا من أهل العلانية، لا ينفعك الحق ولا يضرك الباطل أي أنت أحمق سفيه لا تصلح لا لليسر ولا للجهد ولا للسلم ولا للحرب ثم بعد ذلك لو علمت الحق لا تنتفع به ولو عرفت الباطل لا تتضرر به.(7/404)
وقال مسلم بن يسار: احذروا معبداً فإنه ضال مضل، إنه يقول بقول النصارى، وهكذا قال الحسن البصري.
... ولما ظهرت مقالة معبد هذه أخذه الحجاج – بأمر من عبد الله بن مروان – فقطع يديه ورجليه ثم صلبه وحرّقه بالنار، وهذه من حسنات الحجاج لكنها مغمورة في بحر سيئاته كما تقدم معنا.
... وأول حديث في صحيح مسلم في كتاب الإيمان يتعرض لذكر معبد الجهنمي وضلاله، فعن يحيى بن يَعْمُر (ويصح: ابن يَعْمَد) قال: كان أول من قال بالقدر في البصرة معبد الجهنمي، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن حاجين أو معتمرين، فقلنا لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عمَّا يقول هؤلاء في القدرى، فَوُفِّق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلاً المسجد فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: أبا عبد الرحمن، إنه قد ظهر قِبَلَنا أناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم (1)
__________
(1) أي يتتبعون غوامضه ويبحثون عن خفيه بعد أن أحكموا ظاهره وواضحه وجليله [وذكر من شأنهم] أي عن عبادتهم واجتهادهم في طاعة الله لأنهن كانوا في البصرة وأهل البصرة ظهر فيهم النسك والتقشف والزهد في أول الأمر كما ظهر في الكوفة الفقه والاستنباط والاجتهاد ولذلك كان أئمتنا إذا أرادوا أن يخبروا عن تنسك إنسان يقولون عبادته عبادة بَصْرية وإذا أرادوا أن يخبروا عن فقهه وسعة نظره واستنباطه واجتهاده قالوا فقهه فقه كوفي وأول من بنى دويريه للعبادة الزهاد في البصرة هو عبد الواحد بن زيد عليهم جميعاً رحمة الله..(7/405)
وذكر من شأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه في سبيل الله ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر ثم ساق حديث جبريل الطويل وفيه: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأن تؤمن بالقدر خيره وشره ... الحديث.
الشاهد في الحديث: قول يحيى بن يعمر كان أول من قال بالقدر في البصرة معبد الجهنمي، فقال إن الأمر أُنُف أي مستأنف جديد، ولم يقدر الله شيئاً في الأزل ولا يعلم الشيء إلا بعد وقوعه، وهؤلاء أصحاب هذا القول هم أهل جد واجتهاد وحزم في العبادة ولذلك ذكر يحيى بن يعمر وصفهم لعبد الله بن عمر فقال له يتقفرون العلم وذكر من شأنهم أي عن عبادتهم واجتهادهم في طاعة الله.
... وهؤلاء هم القدرية الغلاة والقائل بقولهم كافر عند المؤمنين والمؤمنات وهم الذين نفوا علم الله وقالوا الله لا يعلم الشيء إلا بعد وقوعه، وفي الحقيقة هذا فيه أعظم نقص في الله عز وجل إذا انتفى علمه وكان لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها ثم إن العباد لا يعلمون الشيء بعد وقوعه فكيف نسوي الخالق بالمخلوق؟!! إن الله سبحانه وتعالى 1) بكل شيء عليم 2) على كل شيء قدير 3) فعال لما يريد، فهذه الأمور الثلاثة على إطلاقها وعمومها لا تكون إلا لربنا سبحانه وتعالى (إنما أمره إذا أراد شيئاً إن يقول له كن فيكون) وأما أنا وأنت فيما يكون مما لا نريده أكثر مما يكون مما نريده، وكم من إنسان يتمنى أماني لعله لا يقع عشر معشارها.(7/406)
.. الحاصل: أنه بعد أن قتل الحجاج معبداً ذهبت البدعة من البصرة إلى الشام، والذي تولى نشر البدعة في بلاد الشام – بعد قتل معبد – هو غيلان الدمشقي – وقال بقول معبد فاستدعاه عمر بن عبد العزيز وكان خليفة المسلمين آنذاك – وناظره فرجع عن ضلاله، ثم قال – أي غيلان -: يا أمير المؤمنين كنتُ أعمىً فبصَّرْتني وضالاً فهديتني، وأصم فأسمعتني، جزاك الله خيراً لن أعود إلى هذه الضلالة، فقال عمر بن عبد العزيز: اللهم إن كان عبدك غيلان صادقاً ثبته واشرح صدره، وإن كان كاذباً فعجل عقوبته.(7/407)
.. فبقي غيلان في عهد عمر على حاله لم يصدر شيئاً بدعياً أو شيئاً من وساوس الشيطان التي تاب عنها ظاهراً وأما في السر فبقي على ضلاله ولذلك بمجرد موت عمر بن عبد العزيز رحمه الله أعلن غيلان بهذه البدعة ودعا إليها، فاستدعاه الخليفة في ذلك الوقت هشام بن عبد الملك وناظره سيد المسلمين في ذلك الوقت الإمام الأوزاعي ليرجع عن ضلاله فلم يرجع، فقال الإمام الأوزاعي: يا أمير المؤمنين لا يستحق إلا القتل، فقتله هشام، وقد كان هشام بن عبد الملك من أكثر الخلفاء تورعاً في الدماء وكان لا يتعجل في قتل من يثبت عليه الكفر ويقول لعله يتوب لعله يقلع لعله..لعله - وهذا في الحقيقة أمر حسن في الخليفة والمسؤول – فلما أفتى الإمام الأوزاعي بقتله كأنه اعترى هشام شيء من الندم بعد قتله وقال ليتني توقفت ولم استعجل بقتله، فكتب إليه رجاء (1) بن حَيْوَهْ: يا أمير المؤمنين: بلغني أنه وقع في نفسك شيئٌ من دم غيلان، والله إن قتله أفضل عند الله من قتل ألفين من الروم (2) .
وبمقتل غيلان زالت بدعة القدرية الغلاة ولم يبق قائل بتلك البدعة بعد غيلان، لكن المنهج تغير إلى المعتزلة فآل القول إليهم ونحتوا المذهب بعض النحت فانظروا ماذا قالوا:
1) قالوا: إن الله يعلم الأشياء بعد وقوعها – وبهذا خالفوا قول القدرية الغلاة لكنهم ضلوا في الباقي، فقالوا:
2) إن الله لم يقدر على عباده شيئاً.
3) إن الله لم يرد إلا ما أمر به وأحبه.
__________
(1) وكان من شيوخ أهل الشام الصالحين، وكان مسلمة بن عبد الملك بقول بدعاء رجاء يسقينا الله غيث السماء وبدعائه ينصرنا الله على الأعداء.
(2) أي فطب نفسك ولا تملها، لأن غيلان هذا الآن مرتد، ثم إنه يفسد الإسلام، باسم الإسلام، فهو أخطر ممن يفسد الإسلام باسم الكفر فهو كافر (باقي الحاشية لا تظهر في التصوير)(7/408)
فبالقول الأول فارقوا القدرية الغلاة وبالقولين الأخيرين فارقوا أهل السنة، فليسوا بقدرية غلاة وليسوا بأهل هداة، وهذه الاعتقادات الثلاثة تدخل تحت أصل من أصولهم الخمسة – وستأتي – يسمونه العدل.
وأول من قال بهذا القول – قول المعتزلة – واصل (1) بن عطاء الغزّال وتبعه عليه أبو عثمان عمرو بن عبيد، وهؤلاء المعتزلة أتوا بأصول خمسة هدموا بها أركان الإيمان - وهي من مباحثنا المقررة -:
أصول المعتزلة الخمسة:
الأول: العدل
__________
(1) وضع المعتزلة سوّء الله وجوههم حديثاً موضوعاً في واصل، في طبقات المعتزلة لقاضي القضاة عبد الجبار المعتزلي، يقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ليكونن في أمتي رجل اسمه واصل يفصل الله به بين الحق والباطل] وعمرو بن عبيد شغف بشيخه الضال واصل شغفاً كبيراً، بحيث زوجه أخته – أي عمرو وزوج لواصل أخته – وقال: أريد أن يأتيها ولد منك فيقال خال أولاد واصل هو عمرو بن عبيد، فقطع الله نسله ولله الحمد وما أنجبت شيئاً، وواصل بن عطاء كان فصيحاً مفوهاً بليغاً وكان من العلماء، وهكذا عمرو بن عبيد، وقد كان – أي عمرو تلميذاً للحسن البصري، ويقول الحسن في عمرو بن عبيد: (نعم الفتى عمرو لو لم يحدث) والحسن البصري قال هذا قبل أن يجهر عمرو ببدعته وكأنه كان يتوسم فيه هذا وإن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم، قال أئمتنا: فأحدث والله أعظم الحدث، وكانوا يقولون نحن أرجى للحجاج منا لعمرو بن عبيد لأنه بدعة الحجاج زالت وانقضت وأما هذا فقد ترك الأمة على مثل لُجج البحار، فهذه بدعة لم تَزُل، وأما بدعة الحجاج فزالت لأن المبتدع خطره أعظم من فاعل الكبيرة.(7/409)
.. وإليه ينسبون أنفسهم فيقولون الطائفة العدلية، ويقصدون بالعدل نفي عموم مشيئة الله، يعني هم لا يقولون على جهة العموم – ما شاء الله كان، بل يقولون: الله يريد الخير ولا يريد الشر – وقد قلنا إن أكثر ما يقع في هذه الحياة الدنيا مخالفات ومعاص ٍ فهذه تقع بغير مشيئته سبحانه وتعالى يقولون: لا، نقول: إذن بمشيئة من تقع؟!! هذا بزعمهم عدل، إنه جور.
الثاني: التوحيد:
... ويقصدون بالتوحيد نفي الصفات عن الله سبحانه وتعالى فليس له صفة تقوم به، فنفوا الصفات وتعللوا بأمرين:
الأمر الأول: إن إثبات الصفات يقتضي تعدد القدماء، والله واحد، فلئلا يتعدد القدماء تنفى الصفات عن رب الأرض والسماء، وهذه الصفات رحمة، قدره، علم وما ورد به القرآن قالوا: هذه أعلام محضة مترادفة تدل على الذات فليس لها معنىً آخر هذا كما تقول: حسام ومهند وحازم وصمصام فهذه كلها أعلام محضة مترادفة تدل على ذات معينة وهي قطعة الحديد التي هي السيف.
نقول: هذا باطل من جهتين:
1) هذه الأسماء لها معانٍ وهذه المعاني مختلفة وليست بمعنىً واحد وليست مترادفة، فليس الحال كما هو في أسماء السيف.
2) نقول: هذه الأسماء ليست هي الذات إنما تقوم بالذات، فمثلا ً، علمك وقدرتك ووجهك وسمعك وبصرك ليست هي ذاتك بل هي تقوم بذاتك، فكذلك الله سبحانه وتعالى، وله المثل الأعلى سبحانه.
الأمر الثاني: قالوا: لو أثبتنا لله الصفات للزم من هذا مشابهته بالمخلوقات، أي لو أثبتنا لله جل وعلا وجهاً وعلماً وقدرة وإرادة وسمعاً وبصراً للزم من هذا تشبيهه بنا.
نقول: إننا نرى الفرق واضحاً بين يد الإنسان ويد الكلب، ويد الباب فلكل واحد يد تناسبه مع أنها مخلوقات فكيف سيلزم التشبيه بين الخالق والمخلوق إن كان مخلوق مع مخلوق لم تتشابه أيديهم وله المثل الأعلى.(7/410)
ونقول لهم يلزم التشبيه في حالة واحدة إذا اتحدت الذوات والصفات تتشابه فمثلاً ذاتي وذواتكم متشابهة فعندما أقول لي عين نقول مباشرة: كعيني، ولا يصح إذا قلت لك لي وجه ولك وجه أن تقول كوجه الصرصر لأن هنا الذرات اختلفت فذات البشر غير ذات الصرصر، فإذا اختلفت صفاتنا لاختلاف ذواتنا، فكذلك الخالق سبحانه وتعالى ذاته ليست كذواتنا وصفاته ليست كصفاتنا فلا يلزم التشبيه من باب الأولي، والله ليس كمثله شيء ولذلك إيماننا بالصفات – كما تقدم – إقرار وإمرار، نقرّ بالصفة ونمرها دون البحث في كيفيتها.
إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأول ما يقضي عليه اجتهاده
فهم أرادوا أن يعملوا عقولهم في أمر غيبي فضلوا وأخلوا، كيف نأتي لصفات مدح الله بها نفسه فننفيها، وهل تعقل ذات بلا صفة؟!! ونفي الصفات هو التعطيل المحض ولذلك قال أئمتنا المعطل يعبد عدماً، والممثل يعبد صنماً وتوحيدهم في الحقيقة تلحيد.
الثالث: المنزلة بين منزلتين:
وهذه من أحكام الدنيا لا من أحكام الآخرة، ويعنون بها أن من فعل كبيرة ولم يتب منها ومات على ذلك فهو مخلد في نار جهنم – هذا في الآخرة – لكنه ليس بمؤمن ولا كافر – هذا في الدنيا -، وهذا هو قول الإباضية وتقدم معنا، وأما الخوارج فكفَّروا فاعل الكبيرة، وأخرجوه من الإيمان وخلدوه في النيران، وأهل السنة قالوا فاعل الكبيرة: مؤمنٌ عاص ٍ فلم يكفَّروه، وقالوا مآله إلى الجنة مهما عذب إذا لم يغفر الله له ابتداءً.
... وأما المعتزلة فتذبذبوا فقالوا لا نكفره كما كفره الخوارج ولا نحكم له بالإيمان كما قال أهل السنة، فهو لا مؤمن ولا كافر في منزلة بين منزلتين بين الإيمان والكفر، وأما في الآخرة فلأنه لا يوجد إلا داران إما جنة أو نار فقالوا هو مخلد في النار.(7/411)
نقول: كيف لم تكفروه وحكمتم عليه بالخلود في النار، ولذلك قول الخوارج – مع ضلاله – أوفق مع بعض فهم كفروه وخلدوه، وأما هؤلاء فقالوا ليس بكافر وخلدوه في النار ولذلك كان أئمتنا يقولون عن المعتزلة في هذه المسألة: إنهم مخانيث الخوارج لأنهم وافقوهم في النتيجة (الخلود في النار) .
الرابع: إنفاذ الوعيد:
... يعنون به أنه يجب على الله أن يعاقب العاصي ولا يجوز أن يغفر له وذلك العقاب هو؟؟؟ وتقدمت معنا مناظرة أبي عمرو بن العلاء وأبي عثمان عمرو بن عبيد.
نقول: هذا الوجوب باطل لأن كل وعيد مقيد بقيدين:
1) عدم مغفرة الله للعاصي، فإذا غفر له لا يناله الوعيد، لحديث عبادة مرفوعاً [..ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه] كما رواه الإمام أحمد والستة إلا أبا داود، وتقدم معنا أن أعظم آيات الرجاء رجاءً قول الله تعالى (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) .
2) عدم التوبة، فإذا تاب لا يناله الوعيد، والمعتزلة سلموا بهذا القيد – عدم التوبة – فقالوا من تاب لا يناله الوعيد فإذن هو قيد مجمع عليه، قالوا: هذا قيد لأنه ورد بدليل منفصل (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات) ، (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً) .(7/412)
وهذا حق من المعتزلة، لكن نقول لهم كما جعلتم عدم التوبة قيداً فتجعلوا عدم المغفرة قيداً، قالوا: لا نجعله قيداً لأنه إذا غفر له فيكون قد أخلف وعيده فهذا كذب منه، فنقول لهم: ذلك الوعيد مقيد بعدم المغفرة كما أنه مقيد بعدم التوبة، وكما أخرجتم قيد عدم التوبة بدليل منفصل فأخرجوا القيد الثاني (عدم المغفرة) بدليل منفصل، فلم تؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟!، فالله سبحانه وتعالى قال: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) وقال (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب) .
وقد دلت الأدلة الشرعية على أن التوبة مقبولة ما لم يصل الإنسان إلى أحد حالتين:
أ) الغرغرة، فإذا وصلت روح الإنسان إلى حلقومه لم تقبل توبته لأنه يدخل في أول حالة من أحوال الآخرة وهي البرزخ، والدنيا انتهت في حقه الآن، لما ثبت عن عبد الله بن عمر – والحديث رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم وابن حبان – بسند صحيح – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر] .
ب) طلوع الشمس من المغرب، فإذا طلعت من مغربها لا تقبل توبة التائبين، لأن نظام الحياة انتهى ودخل الناس في أحوال الآخرة.
الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
ويقصدون به وجوب الخروج بالسيف على أئمة الجور، هذا يدَّعون أنه أمر بمعروف ونهي عن منكر، والله إنه توسيع للمنكر وليس نهياً عن المنكر.
نقول: الأئمة ثلاثة أصناف:(7/413)
1- إمام إيمان وعدل، وصفاته بالإجماع: أن يكون ذكراً، حراً، عاقلاً، بالغاً، بايعته الأمة عن رضاً واختيار، يحكم بشريعة العزيز القهار (ستة) ، واختلف في السابع وهو القرشية والمعتمد عند جمهور أهل السنة اشتراط القرشية في الإمام ليكون من أئمة العدل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [الأئمة من قريش] والمراد بالإمام هنا الإمام الأعظم الذي هو خليفة المسلمين، لا ولاته ووزراؤه وأعوانه فهؤلاء لا يشترط فيهم القرشية بالاتفاق، وكما قال أبو بكر رضي الله عنه للأنصار [نحن الأمراء وأنتم الوزراء] .
(؟؟؟؟) صلى الله عليه وسلم، وحب هذا الإمام من أفضل خصال الإيمان، وإنه هو الإمام الذي يحفظ بَيْضة الإسلام ويجمع كلمة المسلمين.
2- إمام جَوْر: وهو من يحكم بشريعة الله جل وعلا في رعيته لكنه يفرط في حق نفسه فيشرب الخمر أو يعمل الفواحش.
هذا الإمام لا يجوز الخروج عليه بالسيف، لأن شريعة الله منفذة وأما وزره فيبقى في رقبته، فلا نخرج عليه لأن الخروج عليه سيزيد الأمر سوءاً وبلاءاً وفتنة وضرراً، فلا ندفع مفسدة بمفسدة هذا كحال كثير من خلفاء الدولة الأموية والعباسية وغيرها، فمثلا ً الحجاج كان سفاكاً وكانت شريعة الله منفذة فلو أن السلف لم ينازعوه ولم يقاوموه لما أريقت هذه الدماء التي أراقها والتي بلغت (120.000) نفساً كما ثبت في سنن الترمذي عن هشام بن حسان مقطوعاً عليه، فمثل هذا ينبغي أن يترك ويلجأ إلى الله بأن يصلح حاله وحالنا.(7/414)
.. قال أئمتنا: هذا الإمام لا يجوز الخروج عليه، لكن إن أمكن عزله بلا فتنة وبلا إراقة قطرة من دم وجب، وهذه صورة نظرية ليست عملية فهي تتوقع في حالة واحدة وهي لو أن الإمام جرى منه شيء من الجور وحصل منه بعض الفسق فذهب إليه بعض أهل الخير ونصحه بالتوبة أو يترك الإمامة فقال – أي الإمام – إن كنتم لا ترغبون فيَّ فقد عزلتُ نفسي، فهذه هي الصورة التي يمكن أن يعزل بها الإمام دون إراقة دماء، وما عدا هذه الصورة ستراق الدماء هذا عند أهل السنة الكرام.
... وعند أهل المعتزلة: قالوا إذا فسق الإمام وجب الخروج عليه بالسيف ولو أن الأمة كلها ستهلك هذا قاله المعتزلة ولم يطبقوه فكان كلاماً نظرياً، فإنه لم يكن يسير وراء خلفاء الجور ويمشون وراءهم إلا المعتزلة، فمثلاً عمرو بن عبيد كان صديقاً حميماً لأبي جعفر المنصور، وأبو الهذيل العلاف من أئمة المعتزلة كان أستاذاً للخليفة العباسي المأمور، وأحمد بن دؤاد كان قاضي القضاة – وهو معتزلي – لثلاثة من خلفاء بني العباس.(7/415)
.. فالمعتزلة أوجبوا الخروج عليهم – ولا أقول سكتوا – بل خالطوهم، وأما أهل السنة فاعتزلوا الخلفاء مطلقاً ولم يتصلوا بهم ورأوا في العزلة السلامة، ولما جاء الخليفة المتوكل ليزور الإمام أحمد اعتذر الإمام عن زيارته والخليفة واقف على الباب، فخرج ولده – ولد الإمام أحمد – عبد الله فقال لأبيه الخليفة يستأذن لزيارتك، فقال: قل له ولم يخرج لمقابلته أمير المؤمنين أعفاني مما أكره وهذا مما أكره، أي أكره دخول الخليفة إلى بيتي، فانصرف الخليفة المتوكل، فانظر أولئك يذهبون يتمسحون بالخلفاء وانظر لأئمة أهل السنة يأتيهم الخلفاء فيرفضون دخولهم منازلهم، ولذلك قال عبد الله بن مسعود – كما في سنن الدارمي – "ومن أراد أن يكرم دينه فلا يخلون بالنسوان، ولا يدخلن على السلطان، ولا يجادل أهل الأهواء"، فامرأة لا تخلو بها ولو خدعك الشيطان بأن تعلمها القرآن فانتبه واحذر!! ولذلك كل من كان سبباً لفتنة كان أئمتنا يعبسون في وجهه ولا يضحكون، فإياك أن تضحك في وجه امرأة ليست من محارمك، أو أن تسمعها كلمة ليونة، وإذا قابلت مبتدعاً فإياك أن تبشر في وجهه فذاك يطمع في إغوائك، وهذه تطمع في إغوائك، قال بعض المبتدعة لأيوب السختياني: قف حتى أكلمك كلمة، قال أيوب: ولا نصف كلمة.
3- إمام كفر: وهو الذي لا يحكم بشريعة الله المنزلة، هذا بالإجماع من قدر على إزالته فلم يُزله إثمه في رقبته، وإذا لم يقدر فيجب عليه أن يغير على حسب استطاعته، وإذا لم يقدر فيجب عليه أن يهاجر إن أمكنه، وإذا لم يقدر فليصبر وليلجأ إلى الله جل وعلا فيلقى الله معذوراً إن شاء الله و (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) .
مناقشة أصل (العدل) الذي نسبوا إليه أنفسهم، ومناظرتهم في قولهم، إن الله علم الأشياء في الأزل، لكنه لم يقدر على عباده شيئاً ولا يريد إلا ما أمر به:(7/416)
قول المعتزلة بأن الله قدر الخير وأراده ولم يقدر الشر ولم يرده والعباد يخلقون أفعالهم، قولٌ باطل دلت الأدلة الشرعية على بطلانه، وقد أشار أئمتنا إلى تلك الأدلة ووجهونا إلى مناظرتهم بها، من ذلك:
أ) ما قاله إمام أهل السنة الإمام الشافعي: "ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصموا وإن أنكروه كفروا". ونِعْم ما قال.
أي الأمر يسير في مناظرة المعتزلة قولوا لهم:
... هل الله يعلم الأشياء قبل وقوعها أم لا؟ أي الله يعلم ما سيعمله العباد أم لا؟ إن قالوا نعم، خصموا وبطل قولهم، ووجه ذلك: أن الله إذا علم الأشياء في الأزل قبل وقوعها إذن علم الخير والشر فإذن قدر على عباده ما سيعملونه، وإن قالوا لا، التحقوا بالقدرية الغلاة وهم الذين كفروا وتقدم أنهم أنكروا سبق علم الله لوقوع الأشياء.
ب) وقال الإمام أبو الفضل العباسي الشَّكْلي – كما في كتاب الشريعة للآجرّي صـ244 – "أمران يقطع بهما المعتزلي، فنقول له: هل قدر الله فلم يرد، أو أراد فلم يقدر".
... أي إن قالوا قدر الله على هداية الناس جميعهم فلم يرد، فحينئذ يكون قولهم قد بَطل وانتقض، فهذا هو قول أهل السنة إذ من يستطيع أن يهدي من لم يرد الله هدايته (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً) ، فقدر لكنه لم يرد، لحكمة بالغة تامة له سبحانه وتعالى.
... وإن قالوا أراد الله هدايتهم لكنه لم يقدر فحينئذ هم كفروا بهذا القول لأنهم وصفوا الله بالعجز حيث غلبت الناس إرادته تعالى الله عن ذلك.
... ولذلك قال الإمام عبد الرحمن العلامي (ت 795 هـ) في السنة التي توفي فيها ابن رجب الحنبلي
قالوا يريد ولا يكون مراده ... عدلوا ولكن عن طريق المعرفَهْ
(يريد) أي يريد للناس الإيمان ولا يكون مراده.
(عدلوا) أي مالوا عن الهدي إلى الباطل والضلال، فالله أراد هداية الناس لكنهم عارضوه وخالفوه فما اهتدوا.(7/417)
ومن جملة مناظرات أئمتنا الهداة للمعتزلة الضالين في إبطال قولهم هذه المناظرة المحكمة السديدة (موجودة في طبقات الشافعية الكبرى (4/261) و (5/98) ، الفتح (13/451) ، وأوردها شيخنا في دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب صـ286 في تفسير سورة الشمس عند قوله تعالى (فألهمها فجورها وتقواها) .
وحاصلها: أنه اجتمع في مجلس ٍشيخان أحدهما مهتدٍ والآخر ضال، أما المهتدي: من شيوخ أهل السنة الكرام أبو إسحاق الإسفراييني، وأما الضال: عبد الجبار المعتزلي.
فقال عبد الجبار (مُعرِّضاً بأهل السنة الأبرار) : سبحان من تنزه عن الفحشاء (1) .
فقال أبو إسحاق: كلمة حق أريد بها باطل ثم أجابه فقال: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء.
فقال عبد الجبار: أفيريد ربنا أن يُعصى (2) ؟
فقال أبو إسحاق: أفيُعص ربنا مكرهاً (3) ؟
فقال عبد الجبار: أرأيت إن قضي عليّ بالردى (4) ومنعني من الهدى أحسَنَ إليّ أم أساء؟
فقال أبو إسحاق: إن كان الذي منعك ملكاً لك فقد أساء، وإن كان ملكه فهو الذي يفعل ما يشاء.
... فَبُهِتَ عَبْدُ الجبار، وقال الحاضرون: لا يستطيع أن ينازع هذا أحد، فهذا الآن من أئمة الهدى أي إن أعطاك ففضل وإن منعك فعدل، ولا يظلم ربك أحداً، وهذه المناظرة حقيقة تبطل مذهب المعتزلة بهذه الحجة المحكمة الدامغة.
... يقول إياس بن معاوية الذي يضرب به المثل بالذكاء والفراسة والألمعية: "ما ناقشت أحداً بجميع عقلي إلا القدرية" ثم قلت لهم، أخبروني عن الظلم ما هو؟ قالوا: الظلم أن تعتدي على غيرك بأن تأخذ حقه من غير إذنه أو تتصرف في ماله بغير إذنه.
__________
(1) ويقصد بذلك أن الله لم يقدر الشر ولم يرده.
(2) كان يعرِّض والآن يصرح.
(3) هنا جواب وحجة على الجواب، والمعنى: أنه يريد لأنه لو لم يرد لأكره العبد ربه في فعل المعصية.
(4) الهلاك.(7/418)
.. فقال لهم إياس: فهذا الكون ملك مَنْ؟!! هو ملك الله، فإذا تصرف الله فيه فهل يُعد هذا ظلماً؟! لا، مَنَّ على هذا بالهدى وخذل هذا ولم يوفقه.
... نعم أقام الحجة على جميع العباد وأرسل الرسل وأنزل الكتب ومنحنا العقول ثم بعد ذلك لطف بهذا المؤمن فوفقه، وخذل ذلك الكافر وما مَنّ عليه بالهداية، فأي ظلم في هذا؟!! الظلم هو أن تعتدي على حق غيرك وأن تتصرف في ماله بغير إذنه، ولا يدخل الظلم في دائرة أفعال الله سبحانه وتعالى وهذه المناظرة عن إياس أوردها الإمام ابن تيمية وهي في مجموع الفتاوى (18/139و 140) .
... إذن قول القدرية بأن الله لم يقدر الشر ولم يرده ولو قدره لكان ظلماً للعباد، هذه سفاهة وقلة أدب منهم مع ربهم جل وعلا، فلا يقع شيء إلا بعد تقدير الله له ذاك أمرنا به هذا نهانا عنه وأقام علينا الحجج، ذاك مَنَّ على من فعله وهو الطاعة، وهذا أخذل من فعله وهي المعصية (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعاً) أليس من الممكن أن يجعل الله أبا جهل كجبريل؟! ممكن لكنه لم يرد ذلك، فهل يقال ظلمه؟ نقول: لا فإن ذاك أعطاه الاختيار والعقل وأرسل الرسل وأنزل الكتب، فلا يقال عن ترك المنّ إنه الظلم، ولا يقال على عدم الفضل إنه ظلم ونحن نعلم يقيناً أنه لم يهتد مهتدٍ إلا بفضل الله لا بعقله ولا باختياره ولا بجده ولا بذكائه ولا بألمعيته، وقد ترى البدوي لا تلقي بالاً لخفة عقله ولكنه لا يفتر عن ذكر الله وترى صاحب العقل الضخم كافراً فما مَنَّ الله عليه بأن يوحده، فكون الله لم يعط فضله للكافر هذا لا يقال إنه ظلم فهذا ملكه يتصرف فيه كما يريد نعم نقول الله منّ على البدوي بالإيمان وشرح صدره (فألهما فجورها وتقواتها) .(7/419)
.. وهذا الأمر أشار إليه نبينا صلى الله عليه وسلم وكان سلفنا الكرام يُذّكر بعضهم بعضاً استمعوا إلى هذا الحديث في صحيح مسلم في كتاب القدر (2650) (10) عن أبي الأسود (1) الدَّئلي يقول [قال لي عمران بن حصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قُضي عليهم ومضى عليهم مِنْ قدر ما سَبَق (2) ، أو في ما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم وثبتت الحجة عليهم؟
فقلت (القائل أبو الأسود) : بل شيء قضي عليهم ومضى عليهم، فقال عمران: أفلا يكون ظلماً؟ يقول أبو الأسود: ففزعت من ذلك فزعاً شديداً (3) ، وقلت: كل شيء خَلق الله وملْك يده فلا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون.
... فقال لي - عمران -: يرحمك الله إني لم أرد بما سألتك إلا لأَحزِر (4) عقلك، إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضي ومضى فيهم من قدر ما سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم.
فقال: لا، بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم، وتصديق ذلك في كتاب الله: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) ] فجواب أبي الأسود كجواب النبي عليه الصلاة والسلام تماماً وسؤال عمران كسؤال الاثنين الذين أتيا من مزينة.
__________
(1) ويقال الدِّئلي، ويقال الدُّؤلي، ولا يذكر إلا بكنيته وهو تلميذ علي رضي الله عنه وصاحبه وهو الذي وضع قواعد النحو واسمه ظالم بن عمرو، وكان أئمتنا يتجنبون ذكر اسمه هذا فيقولون الكنية فقط، وهو سمي بهذا الاسم في الجاهلية وهو مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام ولم ير النبي عليه الصلاة والسلام.
(2) أي في اللوح المحفوظ وأن هذا مقدر.
(3) أي هذه كلمة خشنة كبيرة أفزعتني.
(4) أي اعرف واخبر واستفسر وتبين ونحوها، فامتحن فهمك وعقلك ومعرفتك وأختبر ذلك.(7/420)
وسيأتينا إن شاء الله تعالى – أن الإنسان له اختيار لكنه مضطر في اختياره (وما تشاءون إلا أن يشاء الله) (فألهمها فجورها وتقواها) فالمُلْهِمُ هو الله والهادي هو الله والمضل هو الله (يهدي من يشاء ويضل من يشاء) يهدي من يشاء بفضله، ويضل من يشاء بعدله وإذا قلت هذا للمعتزلي ينتفض يقول: الله يضل؟ قل له: هذا كلام الله وليس كلامي.
أتدرون بماذا يفسرون كلمة (يضل ويهدي) يضل: أي حكم لهم بالضلال بعد أن ضلوا (1) ، ويهدي: أي حكم لهم بالهداية بعد أن اهتدوا.
ولذلك شيء قضى عليهم ومضى فلا يمكن أن يتخلف طرفة عين، والله جل وعلا – كما قلنا – من مقتضى ألوهيته وربوبيته أنه يعلم الشيء قبل وقوعه وهو المقدر سبحانه وتعالى لا إله غيره ولا رب سواه.
جاء أعرابي إلى أبي عثمان عمرو بن عبيد (الشيخ الثاني لمذهب المعتزلة) وهو في مسجد البصرة فقال الأعرابي: يا أبا عثمان إن حمارتي قد سُرقت، فادع الله أن يردها عليّ فرفع عمرو بن عبيد يديه وقال: اللهم إن حمارته سُرقت وأنت لم تُرِد سرقتها، فأرددها عليه فقال الأعرابي: يا شيخ السوء كف عن دعائك (الخبيث) ، إذا لم يرد سرقتها وقد سُرِقت، فقد يريد ردها ولا ترد.
أي إذا كان العبد يغلب الرب فهذه مشكلة المشاكل، فانظروا للأعرابي ولفطنته ولفطرته وسداد جوابه.
__________
(1) أي لما اهتدوا قال لهم مهتدون، ولما ضلوا قال لهم ضالون!!! نقول هذا حكم البشر لا حكم خالق البشر، والله يقول في الآية (فألهمها) أي جعلها تختار وجعل في روعها وقلبها، فألهمها فجورها وألهمها تقواها، لكن الله لا يعذب إلا بعد أن يصدر هذا الفجور أو التقوى من الإنسان(7/421)
اجتمع في سفينة رجلان أحدهما: مجوسي والآخر معتزلي، فقال المعتزلي للمجوسي: أسلم، فقال المجوسي: حتى يريد الله، فقال المعتزلي: الله أراد لك الإسلام لكنك أنت الذي لم تُرِدْه والشيطان هو الذي لم يُرد لك الإسلام، فقال المجوسي، إذا أراد الله لي الإسلام والشيطان لم يرد لي الإسلام وغلبت إرادة الشيطان إرادة الرحمن فأنا مع أقواهما. أي إذا كان الشيطان يغلب الله، فلماذا تقول لي أسلم لله.
ونحن – أهل السنة – نقول لهذا المجوسي: أسلم، فإذا قال لنا حتى يريد الله، نقول هذه كلمة حق أريد بها باطل فلا نسلم له بجوابه، بل نقول له، الله أمرك بالإسلام ووضح لك الأمر وأزال عنك الأعذار فكتاب الله بين يديك وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بين يديك أيضاً حججٌ قائمة تدعوك للإيمان فيجب عليك أن تؤمن، فلا يجوز لك أن تتعلل بقدر الله – بعد ذلك – في عدم إيمانك، لأن قدر الله غيب، فلا يجوز أن تستدل بما لا تعلم وتقدم معنا أن القدر يستدل به في المصائب لا في المعايب.
فإذن جوابك حق أريد به باطل أريد به تبرئة النفس من المعصية والشين، نعم إذا لم يرد الله لك أن تصلي فلا يمكن أن تصلي، لكن من الذي أعلمك أن الله لم يرد لك الصلاة، ومن الذي يُعلم الإنسان أن الله قدر له السوء ولم يقدر له الخير، فتجده يتعلل بعد ذلك بهذا القدر.
وقلنا كل واحد يشهد من نفسه ضرورة التفريق بين ما جبر عليه وبين ما خيّر فيه، فما جبرت عليه لا اختيار لك فيه وأما ما خيرت فيه فلك فيه اختيار وهذا الاختيار يعلمه الله ويقدره ويحصل.(7/422)
فعليك إذن أن تعمل بما في وسعك وألا تبرئ نفسك، فليست الذكورة والأنوثة كالطاعة والمعصية، فتلك مجبور فيها وأما هذا – الطاعة والمعصية – فمخير فيها وليس ذلك كهذا كل منهما بقضاء وقدر، فتثاب وتعاقب على اختيارك، فإن اخترت الخير نقول جرى به قدر الله وهذه منة الله عليك، وإن اخترت الشر نقول جرى به قدر الله وهذا خذلان الله لك [فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه] .
وقد سماهم – أي هذه الفرقة الضالة المعتزلة نبينا عليه الصلاة والسلام بالمجوس (1) ثبت الحديث بذلك في سنن أبي داود ومستدرك الحاكم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وروي الحديث من روايته عدة صحابة كرام اذكر لكم أسماءهم مع الاختصار في ذكر المخرجين: حذيفة بن اليمان، في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وكتاب السنة لابن أبي عاصم، وعن جابر بن عبد الله في سنن ابن ماجه ومعجم الطبراني الصغير والشريعة للآجرّي والسنة لابن أبي عاصم، وعن أمنا عائشة في السنة لابن أبي عاصم، وعن أبي هريرة في السنة لابن أبي عاصم والشريعة للآجرّي وعن سهل بن سعد في كتاب تاريخ بغداد والطبراني في معجمه الأوسط، وكتاب السنة للإمام اللالكائي، وعن أنس في معجم الطبراني الأوسط.
__________
(1) المجوس يقولون لهذا العالم إلهان إله الخير وإله الشر، والمعتزلة يقولون الله يقدر الخير ولا يقدر الشر فالشر من الشيطان والإنسان والله لم يرده، بل وصل الأمر بثمامة بن أشر الضال أنه قال: إن الله لم يخلق الكافر، قالوا: وكيف؟ قال: لأن الكافر إنسان كفر فلو قلنا إن الله خلقه للزم من هنا أنه خلق الكفر، أي إذا قلنا بأن الله خلق الكافر بطل قولنا معشر المعتزلة، نعوذ بالله من هذا الضلال، ويترتب عليه أنه يحق للكافر أن لا يقر بعبوديته لأنه ليس عبداً لله، فانظروا إلى الضلالات كيف توصل أصحابها إلى الخروج من الدين وهم لا يشعرون.(7/423)
ولفظه: [القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم] والحديث في درجة الحسن نص على تحسينه الحافظ العلائي، وأقره على ذلك الإمام ابن حجر العسقلاني والإمام السيوطي، وعدد من أئمة الحديث وذكروا أن الحديث في درجة الحسن منهم الحافظ أبو الفضل زين الدين عبد الرحيم العراقي رحمهم الله جميعاً.
وثبت في سنن الترمذي وسنن ابن ماجه، وكتاب السنة لابن أبي عاصم عن ابن عباس رضي الله عنهما والحديث روي أيضاً عن غيره من الصحابة الكرام منهم جابر بن عبد الله في كتاب السنة لابن أبي عاصم وسنن ابن ماجه ومنهم أبو هريرة في الشريعة للآجرّي، ومنهم أبو بكر في مسند إسحاق بن راهُويَهْ، ومنهم معاذ بن جبل في كتاب التاريخ الكبير للإمام البغدادي، ومنهم أنس بن مالك رضي الله عنه في حلية الأولياء.
ولفظ الحديث:
أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال [صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب، القدرية والمرجئة] والحديث حسنه الإمام الترمذي ووافقه على التحسين الإمام ابن ماجه وغيره من الحفاظ.
قال ابن العربي في عارضة الأحودي شرح سنن الترمذي: "إنما قرن النبي صلى الله عليه وسلم بين القدرية والمرجئة لأن واحدة منهما أفسدت الحقيقة والأخرى أفسدت الشريعة" ولا يراد بالحقيقة هنا التصوف فانتبهوا!! بل المراد منها هنا: أمور الاعتقاد هو لم يحدد أي الفرقتين أفسدت الحقيقة وأيهما أفسدت الشريعة.
(المرجئة) يقولون: إنه لا يضر مع الإيمان خطيئة وذنب، أي أنهم يرجئون ويؤخرون الأعمال عن الإيمان، فالإيمان عندهم قول واعتقاد وليس العمل من سماته، وغلاتهم يقولون إذا قال الإنسان لا إله إلا الله محمد رسول الله ولم يأت بمأثم ولو لم يترك محظوراً دخل الجنة، فلا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة.
مت مسلماً ومن الذنوب فلا تخف ... حاش المهيمن أن يُرى تنكيداً
لو رام أن يصليك نار جهنمَ ... لما كان ألهم قلبك التوحيدا(7/424)
.. فالمرجئة أصالة أفسدت الشريعة لأنها عطلتها، حيث قالت إذا وحدت فلا تبال ِ بالعمل فعلاً أو تركاً فبدعتهم فيها تعطيل للأحكام، لكن أيضاً عطلت الحقيقة لأن هذا الاعتقاد اعتقاد باطل.
والمعتزلة أصالة أفسدت الحقيقة لأنها عطلتها، حيث قالت: إن الله لم يقدر الشر ويقع السوء في هذه الحياة يغير تقديره أي يفعله العبد جبراً عن الرب فهذا مما يتعلق بالعقيدة.
... لكن إفساد كل فرقة يؤول إلى الأخرى، فالمرجئة أفسدت الشريعة وأفسدت الحقيقة أيضاً لأن اعتقادها اعتقاد باطل، والمعتزلة أصالة أفسدت الحقيقة فهذا اعتقاد باطل ولزم من هذا إفساد الشريعة.
ولذلك يقول الإمام ابن تيمية: "قرن النبي صلى الله عليه وسلم بين المرجئة والقدرية لأن كلا ً منها يفسد الأمر والنهي والوعد والوعيد" فالأمر والنهي يُترك عند المرجئة، ونصوص الوعيد كلها تلغى ولا قيمة لها، وأما المعتزلة فأفسدت الأمر فقالت: من فعل معصية فقد خرج من الإيمان وهو في منزلة بين منزلتين، وألغت نصوص الوعد (نصوص المغفرة والرحمة) بكاملها، وأخذت بنصوص الوعيد فكل منهما ألغى الأمر والنهي والوعد والوعيد، والعلم عند الله.
قبل أن ننتقل لمناقشة الجبرية، من باب التعليق على هذه الفرقة الضالة:
حال هؤلاء المعتزلة ليس كحال مؤسسي المذهب وأولئك كما قلنا انتهت بدعتهم لكن خرج منها بدعة أخرى وليس حال أصحابها كحال أوائل القائلين بمذهب القدر، ولم اختلف الأمر؟ السبب في الاختلاف أن حكام بني أمية – مع ما فيهم من جور- لم تنتشر البدع في حياتهم، ففي عهدهم ظهرت فجوات وسلبيات لكن الحكام لم يتبنوا البدع ودافعوا عنها بل على العكس كانوا ينكلون بالمبتدعة ويوقفونهم عند حدهم.(7/425)
لكن لما آل الحكم إلي بني العباس ففي عهد واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد تبني مذهب الاعتزال الخلفاء والأمراء وأول من امتحن الناس ببدعة المعتزلة الخليفة المأمون وأول من عرب كتب الفلسفة وشغل الأمة بما كانت لا تعرفه وليست في حاجة إليه هو المأمون، وكان الإمام أحمد عليه رحمة الله يقول: "ما أظن أن الله سيغفل عن المأمون"، فهو أول من فتح باب (1) التيارات الخبيثة على هذه الأمة وإن كان بتأويل وحب الاطلاع أو غير هامة التأويلات والمسوغات والمبررات.
فبانتقال هذه البدعة (بدعة المعتزلة في القدر) إلى الأمراء والخلفاء صار لها ردءٌ وشأن وصارت تأوي إلى ركن شديد بعد أن كانت تحارب من قبل الحكام، وشتان شتان بين أن يتولى الحاكم نشر بدعة وبين أن يتولى القضاء عليها، فإذا تولى القضاء عليها فلا توجد – ولو وجدت – إلا في الخفاء، وإذا تولى نشرها فإذا وجد الحق ففي الخفاء والله يزع بالسلطان ولا يزع بالقرآن.
وقلت لكم المسئول إذا أراد تغيير منكر لا يحتاج إلى منابر ولا إلى سيوف ولا إلى مساجد، بل بجرة قلم أو بكلمة في الإذاعة ينتهي الأمر.
__________
(1) ولذلك في عهد المأمون لما طلب من رؤساء النصارى أن يرسلوا إليه الكتب التي في كنائسهم من أجل أن تعرب وتدرس بين المسلمين، جمع رؤساء النصارى جميع القسس وعرضوا عليهم الأمر فكلهم قالوا: لا ترسلها أيها الملك لئلا ينتفعوا بها ويطلعوا على علومنا إلا قسيس ملعون قال: أرسلها أيها الملك فوراً، فقالوا: علام؟!، قال: ما دخلت هذه الكتب على أمة عندهم دين سماوي إلا أفسدت دينهم وأوقعت الخلاف بينهم، وبالفعل وقع الخلاف بين المؤمنين قبل وفاة المأمون وأفسدت دين رب العالمين وامتحن أهل السنة وعذبوا في عهد المأمون ومن بعده من الخلفاء كالمعتصم وغيره.(7/426)
فمثلا ً سفور النساء لو أصدر الحاكم قراراً بمنعه وأن من خرجت سافرة إن كانت من أهل البلاد سجنت وعزرت، ومن كانت من خارج هذه البلاد من المقيمات فيه سجنت وعزرت وأبعدت عن البلاد، فلن ترى امرأة تكشف عن شيء بعد ذلك، فهذا القرار لا داعي معه إلى حكم شرعي لا حلال ولا حرام بل هذا يكفي، أما أن يصبح العلماء في المساجد فقط دون تحرك الحاكم فلن يكون هناك أثر لهذا الكلام في مقابل أمر الحاكم بذلك، ولذلك قال الله تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد.. ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب) .
فهل اقتصر في الآية على الكتاب والميزان فقط؟ لا، ولذلك ميزان وكتاب بلا حديد لا وزن له ولا اعتبار وحديد بلا كتاب ولا ميزان ظلم وجور بل لابد إذن من حديد مع الكتاب وميزان، لتوزن الأمور على حسب شريعة الرحمن.
إذن في عهد خلفاء بني العباس تبنوا نشر هذا المذهب الضال فصار المذهب له انتشار.
أسباب ظهور بدعة المعتزلة وانتشارها وعدم زوالها واضمحلالها: لذلك عدة أسباب نبرزها في ثلاثة:
? السبب الأول: تبني الخلفاء لها ودفاعهم عنها بعد أن اتصل بهم أركان المعتزلة وأفسدوهم فعمرو بن عبيد كان جليساً حميماً وصفياً مخلصاً لأبي جعفر المنصور وأبو الهذيل العلاف كان أستاذاً للمأمون وهكذا، أحمد بن أبي دؤاد كان قاضي القضاة لثلاثة من خلفاء بني العباس، إذن صار الباطل تسانده قوة.
? السبب الثاني: وجود جماعة من أهل اللَسن والفصاحة والبلاغة بين المعتزلة فخدعوا الناس ببريق كلامهم ومعسول ألفاظهم، والأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحراً" وهذا ليس ذماً للبيان إنما لبيان منزلة البيان فإذا كان البيان في الحق هذا حسن، وأما البيان في الباطل فمذموم لأنك تلبس على الناس فتظهر لهم الباطل في صورة الحق، فخدعوا الناس بهذا الكلام المنمق.(7/427)
مثلا ً: واصل بن عطاء كان ألثغ أي تخرج الراء منه غيناً، فكان في خطبه الطويلة إذا خطب يتجنب حرف الراء ولا ينطق بكلمة فيها راء، مع أنها من أكثر الحروف دوراناً في الكلمات، وهذا من فصاحته، وخشية أن يلثغ فيصبح مستهجناً أمام الناس.
وآخر: الهذيل العلاف كان في المجلس الواحد يورد مائتي بيت من الشعر، من أشعار العرب ويستدل بها شواهد على كلامه.
? السبب الثالث: تعونهم فيما بينهم حتى ضرب بهم المثل في ذلك، لا يوجد على وجه الأرض أناس يتعاونون ويتساعدون ويتساندون كفرقتين ضالتين المعتزلة والشيعة وهم أي الشيعة أخبث من اليهود بآلاف الدركات، لا بدركة واحدة، فالمعتزلة يتدينون بنصرة المعتزلي وإن كان على باطل، والرافضة يتدينون بنصرة الرافضي وإن كان على باطل أي عندما يكذبون لنصرة فرقتهم في خصومة أو مشكلة فهذا من أكبر التدين، ونحن معشر أهل الحق عندنا ورع يكفنا (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا) فلو اختلف سني مع نصراني مثلا ً عندنا ننصف النصراني عن السني، فلو كان السني مخطئاً فنأخذ على يديه.
قال الإمام الأعمش: والله ما آمنهم أن يقولوا وجدنا مع الأعمش امرأة يزني بها، أي من كثرة ما يكذب هؤلاء الشيعة.
ويقول هارون الرشيد: "طلبت الصدق والمروءة فوجدتها في أهل الحديث، وطلبت الكلام والشغب فوجدته في المعتزلة، وطلبت الكذب فوجدته في الرافضة" أي إذا أردت الكذب فاذهب إلى الشيعة فلا يوجد مثلهم في الكذب وتلفيق الأخبار، ولذلك الدجل الذي عندهم والتزوير والله إنه لتستحي منه الحمير.(7/428)
وقد علم أئمتنا كذب الشيعة فرودا روايتهم، ومن أركان دينهم التقية، ويأثرون عن جعفر الصادق رضي الله عنه وهو بريء منهم ومن انتسابهم له – أنه قال: "التقية ديني ودين آبائي"، وكذبوا دين جعفر ودين آل البيت التقوى لا التقية، والتقية هي: أن يظهر خلاف ما يبطن فيُظهر أنه سني مع أهل السنة وأنه معهم فإذا تمكن من السني ذبحه، فهي دين المنافقين لا دين آل البيت وفي عقائد الشيعة المقررة التي إذا لم يلتزم بها الشيعي فليس بشيعي أنه يجب على الشيعي أن يقتل السني إذا خلا به فإن عجز يجب عليه أن يهمّ بقتله، وإذا لم يفعل فليس هو من الشيعة والجنة عليه حرام.
وفي بلاد الشام عندنا النصيرية – عليهم لعنات رب البرية – كانوا إذا انفردوا بمسلم علموا أنه لا يوجد معه نصير قتلوه وذبحوه، وإذا كان بارزاً في الأسواق والشوارع العامة يمشون على ظله وخياله حتى يشفى غليله.
وكذلك الشيعة إذا أراد أن يذبح الشاة سماها عائشة ثم ذبحها، وإذا أراد أن يذبح التيس سماه أبا بكر ثم ذبحه، حتى يذهبوا الغيظ والحقد وينفسوا على أنفسهم ويرووا غلهم وحقدهم.
ويروى أن شيعياً كانت عنده بغلتان سمى أحدهما أبا بكر والأخرى عمر – في عهد أبي حنيفة – وفي أحد الأيام دخل إلى الإسطبل فرفسته إحداهما، فبلغ الأمر أبا حنيفة فقال: انظروا من هي البغلة التي ضربته ورفسته، فلعلها التي سميت بعمر، وكان الأمر كما قال رحمه الله، وهذا من كراماته.
الشيعة لا عقل ولا نقل هذا حالهم أكذب الناس في النقليات وأجهلهم في العقليات، فإذا جاء إليهم شخص اسمه عمر فإنهم يتقربون إلى الله بقتله وذبحه!!.(7/429)
ولو جاء إليهم من اسمه علي أو حسن أكرموه وإن كان خصمهم وعدوهم، وهذه هي الحماقة!! فانظر إلى تعاون الشيعة ولو أشار إمام منهم بأصبعه لأقام البلدة وأقعدها، وانظر بعد ذلك إلى حال شيوخنا وعلمائنا – إذا سلموا من العامة – فضلاً عن الحكام – فهنيئاً لهم، وإذ لم يسلموا من الحكام والعوام فالحال لا يخفى عليكم وكل سفيه ينتسب لأهل السنة يأتي ليؤذي علماء أهل السنة بكلامه بفعله بتشويهه فهل مثل هذا يقع بين الشيعة؟! لا، هذا مستحيل، وانظر إلينا بعد ذلك لا أننا تمسكنا بديننا وبأدب الإسلام وأخلاقه، ولا – على الأقل – تخلقنا بمثل أخلاق الشيعة، ونحمد الله أن حفظنا من التشيع.
ولذلك كان أئمتنا إذا أرادوا أن يخبروا عن إكرام إنسان لإنسان وأنه أكرمه غاية الكرم يقولون: احتفى به كاحتفاء الشيعي بالشيعي والمعتزلي بالمعتزلي، أي لأنه ليس بعد إكرامهم لبعض إكرام.(7/430)
فهذا الاعتداد فيما بينهم أكسبهم قوة وأكسبهم قولهم بعد ذلك قوة أيضاً فمثلا ً: أحمد بن أبي دؤاد الذي كان قاضي القضاة لثلاثة من خلفاء بني العباس – كما قلنا – من البديهي أنه لن يولى القضاء في الدول الإسلامية في أمصارها إلا للمعتزلة، وسيقول بكل ما فيه نفع للمعتزلة، وسيسعى بكل ما فيه إضرار لأهل السنة، بل وصل الأمر بأحمد أن الواثق أراد أن يستفك أسرى المسلمين من الروم مقابل فدية، قال له أحمد: من قال بخلق القرآن فأفده وأعطه من بين المال ألف دينار، وإذا لم يقبل بذلك فاتركه عند الروم!! أي اترك المسلم الذي لا يقول بخلق القرآن عند النصارى ليعذبوه، سبحان الله!!، وللأسف مازال مذهبهم ينتشر ويقرر للآن في الكتب ويدرس في المدارس، ودرجت عليه أجيال وأجيال، وتلوثت به أذهان المسلمين بعد أن انتشر مذهب الاعتزال – كما قلت – بسبب وجود قوة حامية له فقرر وانتشر وسطر في الكتب، ثم بعد ذلك عاد الأمر لأهل السنة لكن بعد أن امتلأت الكتب بالضلالات والبدع، فكم من كتاب في التفسير للمعتزلة، فمثلا ً كتاب الكشاف للزمخشري كله ضلال من أوله لآخره، وقد جعل بداية مقدمة كتابه: "الحمد لله الذي خلق القرآن"، فقيل له: لن ينظر فيه أحد إن تركت هذه العبارة، فقال: "الحمد لله الذي جعل القرآن عربياً"، ويقصد بجعل خلق، وقد قال أئمتنا يحرم النظر في كتابه على العالم والعامي، أما العامي فأمره معلوم، أي لأنه جاهل ولا يميز الغث من السمين والضلال من الهدى وأما العالم فيحرم عليه أيضاً لعدة أمور:
1- أنه يقدم المفضول على الفاضل بل مرذولاً على فاضل.
2- يُخشى عليه من الزيغ وأن يعلق في ذهنه شيء من الشُبه وهو لا يدري، لأن الزمخشري مع ضلاله واعتزاله صاغ الاعتزال بألفاظ لم يصرح فيها بأنه على مذهب المعتزلة فهذا مما يزيد في الخديعة.
3- تَخْدع العامة، حيث سيقتدون بك دون أن يعلموا نيتك.(7/431)
وقد ألف الإمام السبكي عليه رحمة الله رسالة سماها (سبب الانكفاف عن إقراء الكشاف) وقد كان يقرأ الكشاف ويُقرؤه لتلاميذه فلما وصل إلى قول الله جل وعلا (عفى الله عنك لم أذنت لهم) ، قال الزمخشري – وهذا موجود في تفسيره –: "بئس ما فعلت يا محمد"، فطوى الإمام السبكي الكتاب وقال أستحي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ هذا الكتاب وفيه هذه القاذورات.
الله الذي هو سيده يقول له (عفى الله عنك) وهذا لا لجرم وقع منه إنما على عادة العرب في الملاطفة وفي الخطاب يقولون عفى الله عنك استمع لي، فالله يلاطف نبيه، ولو قال له بئس ما فعلت لتحملها منه لأنه سيده وربه، أما أن تقولها أنت، فمن أنت يا صعلوك حتى تقول هذا لخير خلق الله عليه الصلاة والسلام.
مثال آخر: كتاب المغنى للقاضي عبد الجبار، 20/ مجلد في التفسير وفي أحكام الشريعة، كله يقطر ضلالات كل مجلد لا يقل عن 600/ صفحة من القطع الكبير، وهو للأسف منتشر وموجود، وكتب أخرى غيرها.
س: ذكَرْتَ الأحاديث المرفوعة السابقة القدرية والمرجئة، فهل كانوا موجودين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟
ج: لم يكن للقدرية أو المرجئة وجود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك لم تكن الرافضة موجودة وكذلك الخوارج وغيرهم من الفرق.(7/432)
.. إنما هذا من باب إخبار نبينا عليه الصلاة والسلام لنا بما سيقع في أمته فهو من باب الإخبار بالغيب وقد ذكر أئمتنا هنا عن معجزاته وأودعوه في كتب دلائل النبوة – وإن أردتم أن تتحققوا من هذا فانظروا في كتاب (دلائل النبوة) للإمام البهيقي وهو في 7/ مجلدات، وأنصحكم بشراء هذا الكتاب: يقول الإمام البهيقي عليه رحمة اله (6/547) : باب ما جاء في إخباره بظهور الروافض والقدرية، أي إخبار خير البرية صلى الله عليه وسلم بأن الروافض (الشيعة) سيظهرون وهكذا المعتزلة الضالون، وسنذكر ما يتعلق بمبحثنا وهم القدرية، يقول: عن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول [سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر] وهذا الحديث رواه الإمام أحمد وابن ماجه والترمذي بسند صحيح، وفيه: أن ابن عمر رضي الله عنه كان له صديق في بلاد الشام، فأرسل ذاك مع بعض الناس إلى ابن عمر رسالة يسلم عليه فيها، فقال ابن عمر: بلغني أنه أي صديقه الذي هو في بلاد الشام – قد تكلم في شيء من القدر فإن كان كذلك فلا تُقرئه مني السلام (1) ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [إنه سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر] .
__________
(1) كما تقدم معنا أول المبحث: "إذا لقيت أولئك فأخبرهم إني برئ منهم وأنهم برءاء مني" أولئك في البصرة وهذا في الشام.(7/433)
.. والحديث رواه أيضاً أبو داود والحاكم في المستدرك بسند صحيح، وفي بعض روايات الحديث يكون في أمتي مَسْخٌ وخَسْفٌ وقَّذْفٌ (1) وهو في القدرية، قال الإمام ابن القيم عليه رحمة الله: تواترت الأحاديث بوقوع المسخ في هذه الأمة في بعضها مطلقاً، وفي بعضها مقيد بصنفين بعلماء السوء، والثاني بالمجاهرين بالفسق (2) وفي بعض الأحاديث مطلقاً لكل من ينحرف في هذه الأمة.
وهذا لا استبعده فإن كل بيت فيه تليفزيون إذا وقع الخسف أو المسخ أو القذف فهو أول من يُمسخ لأن هذا مجاهر، فكل من في بيته هذا الجهاز اللعين فهو مهدد بالمسخ إذا وقعت عقوبة المسخ، ولا يعلم متى ستقع عقوبة الله بالتحديد لكن لابد من أن تقع لأنه أخبر بذلك من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) المسخ تبدل الأجساد، والخسف: خسفت الأرض: غارت بمن فيها، والقذف: أن يرسل عليهم حجارة من السماء، كما مسخ وخسف وقذف الأمم السابقة (فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض) .
(2) وهم أهل العهر والخمور الذين وردت الإشارة إليهم في صحيح البخاري: [ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ثم يصحون وقد مسخوا قردة وخنازير] .(7/434)
فإذن أورد في كتب (دلائل النبوة) وذلك للإشارة إلى أنه غيب سيقع وإذا وقع هذا الغيب دل على أنه القائل رسول الله لا ينطق عن الهوى عليه صلوات الله وسلامه فانظروا من جملة عناوين الكتاب باب ما جاء في إخباره بقوم في أيديهم مثل أذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات فكان كما كان، أي هذان دلائل نبوته.. والحديث عن أبي هريرة في صحيح مسلم وغيره وفيه يقول نبينا عليه الصلاة والسلام [صنفان من أهل النار لم أرهما رجال معهم سياط كأذناب البقر يضربون بنا الناس] وهم المخابرات ورجال الشرطة، ولذلك جميع أئمتنا يقولون من دلائل النبوة إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بوجود الشرطة وكثرت الشُرَط ويقال للشرطي يوم القيامة دع سوطك وادخل النار، والصنف الثاني [ونساء كاسيات عاريات (1) مائلات (2) مميلات (3) رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا] أي خمسمائة عام كما ورد في رواية أخرى.
الفرقة الثانية: القدرية الجبرية:
خلاصة قولهم في قدر ربهم:
أن الله قدر على العباد كل شيء وفي ذلك التقدير قّسْر للعباد وإكراه لهم على فعل ما قدِّر عليهم وإذا كان الأمر كذلك فالعبد مجبور وكل ما يجري منه يعتبر طاعة للعزيز الغفور لأنه ينفذ مشيئة الله وقدره، قال قائلهم:
أصبحت منفعلاً لما يختاره ... مني فقعلي كله طاعات
نعوذ بالله من هذا!!
(منفعلاً) أي محل الفعل ومحل ظهور قدر الله، فكل ما يجري مني طاعة لأنني أنفذ مشيئة الله وقدره.
__________
(1) (كاسيات عاريات) أي تلبس ملابس شفافة، أو كاسية لكن تبدو بعض أطرافها من الساقين أو الفخذين أو غيرهما.
(2) مائلة عن الحق.
(3) مميلة لغيرها.(7/435)
.. ويقال لهم قدرية جبرية، وقدرية مشركة، لأنهم سيقولون كقول المشركين (لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء) أي: الله شاء لنا هذا وقسرنا عليه، وهذا هو قول المشركين تماماً!! (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين) ، فقالوا لو شاء الله ما أشركنا ولو شاء الله ما عبدنا من دونه وهكذا قال الجبرية نحن مضطرون مجبرون وكل ما يجري منا فهو طاعة.
هذا القول معلوم بطلانه لعدة أمور:
أولها: كل واحد منها ذكراً كان أو أنثى، مؤمناً أو كافراً يشهد الفرق بين عمله الاضطراري وعمله الاختياري فهو إذن قول يصادم العقل ويعاكس الفطرة.
الثاني: قررت شريعة الله أنه إذا وجد الإكراه فلا تكليف ولا ثواب ولا عقاب ولا مدح ولا ذم [رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه] فإذا كان العبد مكرهاً مقسوراً فكيف إذن مدح الله الطائعين وذم العاصين وجعل لهؤلاء الجنة ولأولئك النار.
الثالث: الثواب والعقاب، والمدح والذم منوط ٌ بالأعمال الاختيارية لا بالأعمال الاضطرارية فلا يثاب الإنسان – كما تقدم معنا – على كونه ذكراً أو أنثى، إنما يثاب على كونه مطيعاً، ويعاقب إذا كان عاصياً.
الرابع: الطاعة لا تكون إلا بموافقة الأمر الديني الشرعي لا بموافقة الأمر الكوني القدري، فالإنسان لا يعتبر مطيعاً إلا إذا وافق ونفذ أمر الله الشرعي.
الخامس: وكنت أقوله للأخوة – يناقشون مناقشة فعلية لا قولية لأنه في الغالب لا تنفعهم المناظرة الكلامية أي اضربه بحيث تؤذيه فإذا قال لك: علام تضربني؟ قل له: قدر الله، وأنا مجبور وأنا مطيع كما تقولون فعلي كله طاعات فلا تلمني وأنا مُثاب لأنني نفذت مشيئة الله وإرادته، فإذا قال لك: أنت الذي رفعت يدك وأنت الذي ضربتني بها، فقل له: بطل مذهبك.(7/436)
.. ولذلك هذا المذهب مما فطر الله عقول الناس وقلوبهم جميعهم على رده، وهل إذا أساء إنسان في حقك تقبل منه أن يقول لك معتذرا أنا مجبور!! ولذلك كان أئمتنا يقولون: أنت عند الطاعة قدري، وأنت عند المعصية جبري، أي مذهب شئت تمذهبت به؟! وهذا من التعريض بهم.
... أي إذا صدرت منه الطاعة يقول ليمدح نفسك – قدري ومعتزلي أي أنا خلقتها وأوجدتها دون تقدير ربي وعند المعصية يقول: جبري ليبرأ نفسه من اللوم والذم!!!.
هذا هو العقل البشري عندما ينحرف عن وحي الله الرباني، فإنه يقع في هذه التناقضات.
وإذا لم يكن من الله عون للفتى ... فأول ما يقضي عليه اجتهاده
يُقضى على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
وهذا القول بالجبر يوجد في الفرقة الضالة الجَهْميَّة.
وأول من قال به منهم هو شيخ الجبرية الجهم بن صفوان، والجهم هو تلميذ الجعد بن درهم وقد كان الإمام عبد الله بن المبارك يقول:
عجبت لشيطان دعا الناس جهرة ... إلى النار واشتُق اسمُه من جهنم
يعني بذلك جهماً أي اشتقها من جهنم، وقد قتل هذا الضال سَلْم بن أحوز سنة 128هـ أي في عهد بني أمية كما أن شيخه الجعد قتله خالد القّسْري، ولما قبض سلّم على الجهم، قال له: اسبقتني فإن لي أماناً من أبيك، فقال سلْم: ما كان له أن يؤمنك، ولو أمنك ما أمنتك، والله لو كنت في بطني لشققته حتى أقتلك، ولو أنزلْتَ عيسى بن مريم وملأتَ هذه العباءة كواكب لما نجوت مني ثم ضربه فقتله.
... وقد أخذت الجبرية هذه المقالة عن اليهود كما أن بدعة القدر أُخذت عن النصارى، كما أن بدعة التشيع أخذت عن اليهود عن عبد الله بن سبأ اليهودي من بلاد اليمن، والشيعة الآن يبرءوا أنفسهم من هذه النسبة يقولون عبد الله بن سبأ صورة أسطورية فلا وجود لرجل اسمه عبد الله بن سبأ، إنما أهل السنة يتهموننا به!! ونقول: إن وجود عبد الله بن سبأ من التحقق كتحقق وجود السبت في أيام الأسبوع – أي لا شك في وجوده.(7/437)
.. والشيطان طه حسين (1)
__________
(1) نقول له إن كنت تقول عن كلام الله خرافة فمن باب أولى أن تقول عن عبد الله بن سبأ قصة أسطورية وضعها أهل السنة، نعوذ بالله من عمى البصيرة، لأن طه حسين أعمى البصر لكن عمى البصر مصيبة وعمى البصيرة معيبة (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) وقد جمع الله له بين الأمرين عمى البصر وعمى البصيرة، هذا هو طه الشين لا حسين، وهو الذي كان يقال له عميد الأدب العربي – وقد أفضى إلى ما قدم ونسأل الله أن يملأ قبله جمراً من نار جهنم إذا لم يتب من كفره الذي سطره في كتابه الأدب العربي (بل هو الجاهلي) وهذا الذي سبق قاذورة من قاذوراته، إن قاذوراته التي لا تحصى فأنتنت منها الدنيا فهو الذي يدعو إلى تقليد الغرب والتبعية المطلقة لهم وأن نأخذ كل ما عند الحضارة الغربية نافعاً كان أو ضاراً يقول: "لأن الأمة العربية ليس عندها عقول ولا يمكن أن ترفع رأسها إلا إذا جعلت أنفها في ذنب الحضارة الغربية"، هذا يسطره في كتابه مستقبل الثقافة في مصر، وذاك إنكار ما في القرآن – يسطره في كتابه الأدب الجاهلي، وضلالاته لا تحصى ولا غرو في ذلك ولا عجب ممن ربي في باريس وأشرف على تدريبه القسس والنصارى، ولما جاء طه حسين إلى سعد زغلول أو غيره من أجل أن يرسل إلى فرنسا قال بعض العلماء الضالين: أن سعد زغلول أفضل من محمد رسول الله لأن محمداً عندما جاءه الأعمى عبس في وجهه وسعد زغلول عندما جاءه طه حسين ما عبس في وجهه!! نعوذ بالله من هذا الكفر وهذا يقوله عالم أزهري وشرار هذه الأمة في آخر الزمان علماء السوء نسأل الله أن لا نكون منهم..(7/438)
– وقد أفضى إلى ما قدم – هو من جملة من يدور في هذا الفلك لما يحصله من دعم الشيعة فيقول: لا يوجد شخصية اسمها عبد الله بن سبأ إنما هذا افتراه أهل السنة، وهو الذي يقول أيضاً إن قصة الفيل لم تحصل بل هي خرافة أخذها محمد صلى الله عليه وسلم ونسجها، وهكذا أيضاً بناء الخليل لبيت الله الجليل ومجيء هاجر مع ابنها إسماعيل إلى البيت هذا كله خرافة.
... فالجهم أول من قال بالجبر في هذه الأمة كما أن أول من قال بالتشبيه في هذه الأمة هشام بن الحكم الرافضي الشيعي الذي كان يصف الله بالأمتار والأشبار ويقول أن جبل أبي قبيس أكبر من الله جل وعلا!! تنزه الله عن ذلك، كما أن أول من قال بأنه لا قدر – باستثناء سوسن – هو معبد الجهنمي فهؤلاء هم أصول الضلالة ولم يدخلوا في الإسلام رغبة ولا رهبة بل كيداً للإسلام وأهله.
... قال الجهم أيضاً – يقرر مذهب الجبر – إن العبد بالنسبة لأفعاله كالريشة في مهاب الهواء يطيرها حيث شاء فلا اختيار لها وهكذا العبد عندما يعمل فليس له اختيار.
وقد أتى الجهم بخمس ضلالات هذه –
1- القول بأن الإنسان مجبور إحداها.
2- نفس الصفات عن الله.
3- القول بفناء الجنة والنار، أي أن الجنة والنار تفنيان بعد أن يعذب أهل النار في النار وينعم أهل الجنة في الجنة كما أنه كان الله ولا شيء معه سيعود الأمر كذلك، وما سبق لهذا أحد لا من جن ولا من أنس.
4- الخروج بالسيف على أئمة الجور، ومنه أخذها بعد ذلك المبتدعة وانتقلت إلى المعتزلة وانتقلت إلى الخوارج.
5- قوله: إن الإيمان معرفة بالقلب فقط فلا يشترط النطق ولا العمل ولا الاعتقاد بل مجرد المعرفة: قال أئمتنا وعلى تعبيره ينبغي أن يكون إبليس مؤمناً لأنه اعترف بل قال: رب أنظرني إلى يوم القيامة، فإذن كان يعرف الله.
المبحث الخامس
سبب ضلال الضالين في قدر رب العالمين من قدرية جبرية وقدرية مجوسية:(7/439)
سبب ضلالهم التسوية بين إرادتي الله وجَعْل الإرادتين إرادة واحدة وجعل النوعين نوعاً واحداً لكن اختلف جَعْلهم فبعضهم ألغى الشرعية وبعضهم ألغى الكونية القدرية:
... أما القدرية الجبرية المشركة فهؤلاء ألغوا الإرادة الدينية الشرعية حيث بقولهم الذي ذكرناه كأنهم قالوا: إن لله إرادة واحدة، وكل ما يقع يحبه الله ويرضاه وكل ما نفعله مجبورون عليه ونحن ننفذ به إرادة الله ونحن نطيعه في ذلك.
... أما القدرية المجوسية فهؤلاء ألغوا الإرادة الكونية القدرية حيث بقولهم كأنهم قالوا: ليس لله إلا أمر ونهي (الإرادة الدينية) وهو لم يقدر عليك شيئاً والعبد يفعل أفعاله بدون تقدير رب العالمين لها، فالله يأمر وينهى فقط ولا يعلم ماذا ستفعل ولم يقدر عليك شيئاً، فإذن هم ألغوا بهذا الإرادة الكونية القدرية التي هي كما قلنا مشيئة الله العامة وإرادته النافذة في كل شيء فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فألغوا المشيئة العامة وجحدوها وأنكروها، وقالوا: ليس له إلا مشيئة دينية افعلوا ولا تفعلوا، أقيموا الصلاة ولا تقربوا الزنا، لكن هل ستصلي أو ستزني ليس لله عليك تقدير في ذلك ولا يعلم إنما أنت الذي تقدر لنفسك، وأنت الذي تخلق لنفسك فهو نهاك عن الزنا لكن بإمكانك أن تعارضه وأن تزني فإذن غلبته تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
... وضلال كلٍ من الفرقتين لا يخفى حسب ما تقدم معنا من تقسيم إرادة الله إلى دينية وذكرنا الأدلة عليها وإرادة كونية وذكرنا الأدلة عليها وأهل البدع لما سووا بينهما فجعلوهما واحدة هذا ضلال مبين.
المبحث السادس
يدخل تحته عدة تنبيهات وإيضاحات مهمة:
الإيضاح الأول: هل الإنسان مُسَيّرٌ أو مُخَيّر؟ مختار أم مضطر مريد أم مجبور؟
... كنت ذكرت هذا لكم سابقاً في بعض الدروس المتقدمة، وهو أن الإنسان له حالتان:(7/440)
الحالة الأولي: حالة هو فيها مكره مجبور مسير وهي: ما لم يطالب فيه بأمر ولم ينه عنه مما يقع منه أو عليه بغير اختياره وإرادته ككونه ذكراً أو أنثى جميلاً أو قبيحاً، طويلاً أو قصيراً فهذه وما شاكلها لم يطلب منه اختيار واحدة منها فلم يطلب منه مثلاً أن يكون ذكراً أو أنثى ولذلك فهنا لا فضل للأنثى على الذكر لأنها أنثى وليس للذكر فضل على الأنثى لأنه رجل بل كل واحد بعمله مرتهن، فقد تدخل المرأة الجنة ويدخل الرجل النار، وحذاء المرأة المسلمة أطهر من ملء الأرض كفاراً مع أنها قد تكون هذه المرأة فقيرة مسكينة، لكن نقول هذه مؤمنة وليس للكافر – مهما علا شأنه – وزن عند الله (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) ، وهكذا لو كانت هناك امرأة مسلمة ورجل مسلم، لكن صلاحها كان أكثر من صلاحه، فالمرأة أعلى منزلة عند الله من الرجل المسلم الصالح الذي لم يبلغ لدرجتها في الصلاح.
إذا نظرت إلى أبي لهب تراه جميلاً – وكما يقولون: وكان عربياً – ولكن مع ذلك يقول الله له (تبت يدا أبي لهب) ، وما سمي بأبي لهب إلا لأن وجهه كان يلمع كالشمس حمرة وشقرة.
وإذا نظرت إلى بلال الحبشي رضي الله عنه تراه أسوداً وكان عبداً لكن مع ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم له: [إني لأسمع قرع نعليك في الجنة] إذن فلا ثواب ولا عقاب على مجرد الحسن أو السواد بل بحسب العمل.(7/441)
الحالة الثانية: حالة نحن فيها مختارون وهي: كل ما يتعلق فيما أُمرنا به ونُهينا عنه، لنا اختيار ومشيئة وليس علينا قسر في فعلنا وعملنا، فكل واحد يعمل عمله باختياره، لكن ذلك الاختيار وتلك المشيئة التي تجري منا مرتبطان بمشيئة الله وتقديره، فنحن في فعلنا مختارون وفي مشيئتنا مضطرون ولهذا دليل في سورة النحل يقول الله جل وعلا (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون) فانتبهوا لهذا الإحكام في كلام ذي الجلال والإكرام كيف أنه أثبت لنا مشيئة وأن مشيئتنا مقيدة بمشيئته لكن لا ينفي ذلك المسئولية عنا، أي لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة على الحنفية السمحة، مسلمين أجمعين ولفظ (الأمة) يأتي في القرآن لخمسة معانٍ، ولا يخرج لفظ الأمة عنها في كتاب الله جل وعلا:
1) الملة: كقوله تعالى (إن هذه أمتكم أمة واحدة) أي ملة، ودينكم دين واحد وكالآية هنا، كقوله (كان الناس أمة واحدة ... ) أي على دين واحد.
2) الجماعة: كقوله تعالى (ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يعقلون) أي جماعة.
3) القائد الإمام المتبع الذي بفرده يعدل أمة: كقوله تعالى: (إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين) سورة النحل آية 120.
4) الحين: وقد ورد هذا في آيتين من كلام رب العالمين في سورة هود (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة) أي حين ومدة معدودة، ومنه قول الله تعالى في سورة يوسف (وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة) أي بعد حين ومدة.
5) الصنف: كقوله تعالى (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم) أي أصناف أمثالكم.(7/442)
أي هذه الدواب وهذه الطيور مثلكم في أي شيء؟! مثلنا في أنها تأكل كما نأكل وتشرب كما نشرب وتتناسل كما نتناسل، وتعرف ربها كما نعرف ربنا جل وعلا، فهذه أمم وتتعارف فيما بينهما كما نتعارف فيما بينها فالطيور يكلم بعضها بعضاً وهكذا الحيوانات لكن لا نحن نفهمها ولاهي تفهمنا، فهي أصناف وجماعات فالذكر يميز الأنثى ويعرفها، وهذه تعرف صاحبها وتعرف بيتها.
... ولعل أحدكم عاش في قرية ورأى الغنم عندما يعود قبيل المغرب والله إنه ليوحد الله هكذا عفوياً من غير قصد، فتراه يعود بأعداد كبيرة مختلطة ببعض قبل دخول القرية، لكن عندما يدخلون القرية كل واحدة تعرف صاحبتها وبيتها ولا يحصل أي خلط أو خطأ فسبحان الله!! فهي أمم أمثالكم كما أننا نعرف بيوتنا دون أن نخطئ.
ولذلك يقول أبو محمد سفيان بن عيينة عليه رحمة الله وهذا من بديع استنباطه من كلام ربه، يقول في قوله تعالى (إلا أمم أمثالكم) أي وأنتم على شاكلتهم:
يقول ما حاصله: "وهذه المثلية لما انعدمت من حيث الشكل الظاهري والصورة الظاهرة، وتعين المصير إلى أن هذه المثلية في الحقيقة الباطنة، فبعضكم على خُلُقِ الأنعام وبعضكم على خُلُقِ الحمير وبعضكم على خُلُقِ الكلاب وبعضكم على خلق العقارب وبعضكم على خلق الحيايا وبعضكم على خلق الذئاب، وبعضكم على خلق الخنزير، وبعضكم وبعضكم....." فهذه البشر في الحقيقة صور للحيوانات فترى أنساناً أحياناً لا يأتي منه إلا الأذى لا يقول كلمة فيها ذكر الله ولا نفع لعبد من عباد الله، فهذا في الحقيقة عقرب، وكم من إنسان لا ينجب إنساناً إنما أنجب ثعباناً يلدغ، أو لم ينجب إلا ودلداً بليداً كالحمار، أو لا غيرة له (ديوث) كالخنزير، ومن الناس من يلد شاة وهذه في الحقيقة أحسن المماثلات.(7/443)
ولذلك المرأة إذا كانت سكينة وساكنة وطاهرة فإنها تشبه بالشاة وهي أحسن الأوصاف والسكينة والأناة في الغنم، كما أن الغلظ والجفاء في الإبل، كما أن البلادة في الحمير، فكل واحد يأخذ شكل من يصاحبه.
ولذلك حرم الشارع علينا أكل لحم الخنزير، لأنك ستتأثر بلحمه وتأخذ خصائصه (عدم الغيرة) ولحم الإبل – مع أنه حلال – أُمرنا أن نتوضأ بعد أكل لحمه، لما يحدث في قلبنا من كبر وزهو وخيلاء كحال البعير عندما تراه يمشي ويتمايل فبالتالي يصبح مثل هذا بالإنسان فيتوضأ ليزيل هذا المعنى الذي علق فيه من أكل لحكم البعير، أما إذا أكل لحم الغنم فيكتسب سكينة وطمأنينة ولا يحتاج لوضوء.
وحقيقة الأمر كذلك الناس لا تختلف عن البهائم إلا في الصورة الظاهرة:
أبني إن من الرجال بهيمة ... في صورة الرجل السميع المبصر
فَطِنٌ بكل مصيبة في ماله ... وإذا أصيب بدينه لم يشعر
أي صورته صورة إنسان يسمع ويبصر لكنه في الحقيقة بهيمة من الحيوانات إذ لو شاء الله لجعل الناس كلهم مؤمنين (ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء) فهو الهادي وهو المضل، وهدى من شاء فضلاً وكرماً، وأضل من شاء عدلاً وعلماً وهذا قدره السابق سبحانه وتعالى.
س: لكن هل كونه سبحانه وتعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء يسقط المسئولية أمام رب البرية؟
ج: لا، (ولتُسألن عما كنتم تعملون) فالضلال الذي يصدر منكم ستُسألون عنه، وهكذا الهداية، فتثابون إذا اهتديتم وتعاقبون إلا ضللتم.(7/444)
فهذا يجمع ما قلنا ومن أن فعل الإنسان باختياره لكن مشيئتة تابعة لمشيئة ربه، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ولذلك يفعل الإنسان ما يشاء، لكنه لا يشاء ما يشاء بل ما تشاؤه تابع لمشيئة الله فليست مشيئتك استقلالية، إنما تابع لمشيئة رب البرية (قل لله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين) (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) وهو على كل شيء قدير فما نوع المشيئة في قوله تعالى (ولو شاء لجعلكم) ؟ مشيئة كونية قدرية، أي لو شاء الله ذلك مشيئة كونية قدرية لما تخلف، فلو أراد الله أن يجعل المخلوقات بأسرها على حقيقة وكيفية نبينا أفضل خلق الله صلى الله عليه وسلم لما أعجزه ذلك فهو على كل شيء قدير إذا شاء ذلك لكن له الحكمة البالغة والحجة التامة.
س: هل الله سيحاسب عباده على تقديره أم على فعلهم؟
ج: على فعلهم (ولتُسألن عما كنتم تعملون) فلن تُسألوا عما قدرته لكم، إنما ستحاسبون على ما صدر منكم فقد أرسلت الرسل وأنزلت الكتب وأعطيتكم العقول فأقمت عليكم الحجة (فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضلّ فإنما يضل عليها) ، فمن يهتدي هدايته مرتبطة بتقدير الله ومشيئته، ومن يضل فضلاله مرتبط بتقدير الله ومشيئته، لكن الفعل في الحالتين – كما قلنا – مخير فيه، فالإنسان يفعل ما يريد لكنه لا يريد ما يريد، بل يريد ما يريده الله المجيد وسعي العباد كلهم ينتهي عند آيتين اثنتين لا ثالث لهما:
(وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً) ،
(وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين)(7/445)
فللعباد مشيئة لكنها تابعة لمشيئة ربنا جل وعلا، ولذلك إذا قال لك شخص: أنا شاء قل له: مشيئة استقلالية أو تابعة لمشيئة رب البرية؟ فإن قال: استقلالية، فهذا قول القدرية لأنهم يقولون ما شاء الله شيئاً ولا قدره، وإن قال: أنا لا مشيئة لي، فهذا قول الجبرية، وإن قال: لي مشيئة لكن مشيئتي تابعة لمشيئة ربي، فهذا قول أهل السنة الفرقة المرضية، ولو كانت مشيئة العبد استقلالية فإنه سينازع ربه وقد يتغلب عليه كما يقول المعتزلة، تعالى الله عن ذلك، وكيف يقع في ملكه ما لا يريده؟!! فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن (1) .
2- الإيضاح الثاني: إن قال قائل كل شيء بقضاء وقدر وكل ما يقع سبق به تقدير الله وتعلقت به مشيئته فكيف يريد الله أمراً لا يحبه ولا يرضاه؟ (هذا مترتب على الأمر الأول) .
الجواب: لا إشكال في ذلك ويتضح هذا بهذا التحقيق الذي ينبغي أن تعضوا عليه بالنواجذ، وهو: أن الأسباب مع مسبباتها أربع أقسام، اثنان منهما يتعلق بهما قدر الرحمن وهما محل أقضية الله وأقداره فيما يحبه ويكرهه، واثنان منهما لا يتعلق بهما قدر ربنا.
? الاثنان اللذان يتعلق بهما قضاء الله جل وعلا وقدره وإرادته ومشيئته:
1) سَبَب محمود محبوب يوصل إلى مُسَبّب محمود محبوب:
مثال: قدر الله وجود الإيمان فهذا سبب محمود، ونتيجته أنه يفضي إلى توحيده ورضوانه فهو مسبب محمود.
مثال آخر: خلق الله الأنبياء والمرسلين سبب محمود يحبه الله يفضي إلى مسبب محمود.
__________
(1) يقول الإمام الشافعي:
ما شئتَ كان وإن لم أشأ ... وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن
خلقت العباد على ما علمت ... ففي العلم يجري الفتى والسنن
على ذا مننت وهذا خذلت ... وهذا أعنت وذا لم تُعِن
فمنهم عني ومنهم فقير ... ومنهم قبيح ومنهم حسن
ومنهم شقي ومنهم سعيد ... وكل بأعماله مرتهن
انظروا هذه الآيات في كتاب الانتقاء في تراجم الأئمة الثلاثة الفقهاء صـ80 لابن عبد البر (ت 463 هـ) في الإيمان بالقدر.(7/446)
2) سبب مكروه يوصل إلى مسبب محمود محبوب:
مثال: الكفر قدر الله وجوده وهو سبب مكروه لكنه يوصل إلى مسبب محمود محبوب، فإذا:
1- تاب هذا الكافر، فهذا مسبب محمود حصل بعد كفره ولولا أنه كافر ما تاب، فإذن أوصل إلى توبة لله، وهو مسبب محمود،
2- ومسبب محمود آخر وهو جهاد المؤمنين للكفار ومحبة الله للمؤمنين المجاهدين (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً) .
3- ومسبب محمود ثالث: وهو أنه يترتب على الكفر إدخال الكافرين النار فهذا محمود لله عندما يدخل الكفار النار لإظهار عدله وتحقيق بطشه وانتقامه فهو منتقم وهو شديد العقاب وهو يتصف بصفة الغضب فظهور صفة الغضب محمود للرب كما أن ظهور صفة الرضا محمود للرب، كما أن ظهور أثر اسم التواب محمود للرب، فلو لم يكن هناك كافر لبقي غضب الله معطلاً وبقيت دار غضبه ولعنته (النار) معطلة، فإذن مكروه أوصل إلى محبوب ولا يقضي الله شراً محضاً.
مثال آخر: إبليس خلقه الله وهو من أعظم الأسباب المكروهة لكنه يوصل إلى أعظم المسببات المحمودة المحبوبة (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً) فإذا عادينا الشيطان فالله يحب هنا الفعل منا، ولذلك لولا الشيطان لما تميز أهل التقى من أهل العصيان، لكن عندما يجاهد التقي نفسه ويذل عدوه و [والمؤمن يُنضي شيطانه كما يُنضي أحدكم بعيره في السفر] كما ثبت هذا في مسند الإمام أحمد عن نبينا عليه الصلاة والسلام، ومعنى (يُنضي) يتعب ويُهزل، أي يجعله نضواً أي ضعيفاً جلده ملتصق على عظمه حتى كأنه لا لحم عليه.
... فالمؤمن إذا أكل سمى الله وإذا شرب سمى الله وإذا لبس سمى الله، وإذا دخل البيت سمى الله وإذا اتصل بأهله سمى الله وبالتالي يذل الشيطان، والشيطان يكون كالجزور فإذا صاحب المؤمن طار كالعصفور.(7/447)
.. وضبط ابن مُفْلح لفظ ينضى بالصاد المهملة بدل الضاد المعجمة في كتاب صيانة الإنسان من وساوس الشيطان، فقال اللفظ هو (يُنصيء) بدل يُنضي أي يأخذ بناصيته ورقبته ويقتله ويتحكم فيه كما يريد، وعندما تتعب الشيطان وتهزله وكذلك عندما تذله وتتحكم به يفرح ربنا بهذا ويرضى ويحب هذا.
... إذن الشيطان مكروه لكن نتج عنه محبوب، وكذلك ينتج عنه قتال أوليائه والله يحب هذا (فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً) فهو إذن محمود أيضاً.
... إخوتي الكرام ... كما يوجد في الجن من يصرع الإنس، يوجد في الإنس من يصرع الجن، فما أكثر من يصرع من الجن بنور المؤمن، والجني يأتي للمؤمن فإذا وصل إليه وذكر الله يصرع على الأرض ويتخبط (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) ، وتقدم معنا في محاضرة مداخل الشيطان إلى نفس الإنسان في الفجيرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لعمر (ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك غير فجك) والحديث في الصحيحين، وفي بعض روايات الحديث في معجم الطبراني الكبير عن سَدِيسَة (ويقال سُدَيسَة) مولاة حفصة، وفي معجم الطبراني الأوسط عن أمنا حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لعمر [والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان منذ أسلمت إلا خرّ على وجهه] أي مصروعاً.
إذن سبب مكروه مبغوض لكنه أوصل إلى مسبب محمود محبوب:
لعلّ عتبك محمود عواقبه ... وربما صحت الأجساد بالعلل
? الاثنان اللذان لا يتعلق بهما قضاء الله جل وعلا وقدره:
3) سبب مكروه يوصل إلى مسبب مكروه: فهذا لا يقدره الله ولا يقضيه ولا يفعله ولا يخلق الله شيئاً مكروهاً لا حكمة من ورائه، فهذا عبث لا يقضيه الله، كما سيأتينا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم [والشر ليس إليك] .
4) سبب محمود يوصل إلى مسبب مكروه: فهذا أيضاً لا يقضيه الله ولا يقدره ولا يفعله.(7/448)
إذن لابد من أن تكون النتيجة والمسببات محمودة، فهذا الذي يقدره الله جل وعلا أما أن تكون المسببات مكروهة مذمومة فهذه مما لا يقدره الله ولا يقضيه مطلقاً.
قال أئمتنا الكرام: المراد نوعان:
النوع الأول: مراد لنفسه محبوب لذاته، وما فيه من الخير مرادٌ إرادة الغايات والمقاصد وهذا الذي سميناه محبوب يوصل إلى محبوب، كخلق النبيين، وتقدير وجود الإيمان والطاعة فهو مقصود، أي خلقه الله لأنه يحبه.
النوع الثاني: مرادٌ لغيره – لا لنفسه – مكروه من حيثُ نفسِه وذاته، مرادٌ من حيث إيصاله إلى المراد المحبوب لنفسه، فاجتمع في هذا المراد حب الله وإرادته وبغضه وكراهيته، ولا منافاة بينهما لاختلاف متعلقهما، وهذا الذي سميناه مكروهاً يوصل إلى محبوب، فهو مكروه بالنظر إلي نفسه، وهو محبوب بالنظر إلى نتيجته، فاختلف متعلق الكُره ومتعلق الحب، إن قيل: هل لهذا مثال بيناً في الحسيات؟ نقول: الأمثلة كثيرة، فمثلاً: الدواء – ونسأل الله أن يعافينا من كل داء وبلاء – الدواء المر هذا مراد لغيره مكروه لنفسه لأن مثل هذا الدواء تنزعج بشربه لمرارته ولما يسببه لك من ضيق فهذا شيء مكروه ولذلك تراه لا يشربه إلا عند الحاجة، فتشربه لأنك تعلم أنه يوصل إلى محبوب وهو الشفاء فأنت لم ترده لنفسه بل لما يوصل إليه فاجتمع الأمران حب وبغض، إرادة وكراهية لاختلاف متعلقهما فمتعلق الحب غاية الدواء ونتيجة ولتعلق الكراهية للدواء نفسه وهكذا قدر الله فيما يبغضه ويكرهه ويوصل إلى محبوب.
... وقد قرر أئمتنا الكرام حِكماً كثيرة في تقدير الله وإرادته لما يشاؤه مما يكرهه ويبغضه، ولنأخذ مثالاً على ذلك في نوع من أنواع الشرور المكروهة ما يترتب عنها من خصال محمودة محبوبة، هذا الشر هو رأس الشر ومنبعه هو: الخسيس إبليس فهل في خلق هذا المخلوق مصلحة ومحمدة وهل يترتب على خلقه حُسن ومصالح؟(7/449)
.. نعم يترتب على خلقه مصالح كثيرة ومحامد وفيره ومحبوبات جليلة مع أنه مكروه في نفسه فهذا كالعلاج والدواء – وليس الشرب – بل العلاج الذي ستُبتر فيه أربعة أطراف المتعالج اليدين من الكفين والرجلين من الفخذين، فيرضى بقطع هذه الأعضاء ليحمي نفسه من السرطان الذي سينتشر في جميع جسمه ويقضي عليه ويُميته فهل هو رضي بقطع الأعضاء لأنه يحب ذلك؟ لا، بل لأن قطعها يؤدي ويوصل إلى محبوب وهو البقاء حياً، فلذلك رضي بهذا الشر.
من هذه الخيرات التي تترتب على إبليس، وسأذكر خمساً والباقي يمكن استنباطه، وقد ذكرته في درس المعمورة الحكم من تقدير الذنوب حِكم بالنسبة للذنب وبالنسبة للمزين (إبليس) ، بالنسبة للنفس، بالنسبة للرب وهذه تصل إلى حكم:(7/450)
1) ظهور قدرة الرب على خلق المتضادات، المتناقضات، المتقابلات، المتعارضات المتفاوتات، هذا في الحقيقة أمر عظيم، والله عظيم عظيم وهو على كل شيء قدير ولابد من هذا الوصف من مثال فخلق ذكراً وأنثى، وخلق ليلاً ونهاراً، وخلق خيراً وشراً، وخلق حياة وموتاً، وخلق داءً ودواءً، خلق جبريل وخلق إبليس، وجبريل أطهر المخلوقات وأفضلها وأعظمها بالنسبة للملائكة وذاته لا تقبل شراً وفي المقابل خلق إبليس وهو على عكس جبريل تماماً لا يقبل الخير أبداً، بل هو شرير، فيه شهوة وشبهة منبع الشهوات وأم الشبهات، فكل شهوة عنده وكل شبهة عنده، فالخمر شهوة (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر) ، والاعتراض على الله شبهة وأول من اعترض على الله هو (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) ، فإذن لابد من إظهار هذا الأمر أن الله قدير على خلق المتضادات، فلو خلق الناس كلهم مؤمنين لقال الناس: ليس بمقدور الله أن يقدر شيئاً آخر، ولو خلق الله نهاراً بلا ليل لقال الناس: هذه طبيعة، ولو خلق الله فصلاً واحداً وهو الشتاء لقال الناس: هذا هو الدهر، الحاصل أن هذه المتضادات تظهر قدرة الله جل وعلا وهي مقصودة محبوبة محمودة.
2) ظهور آثار أسماء الله القهرية، فهو سبحانه وتعالى المنتقم، المذل، الخافض، (شديد العقاب) ، (أخذه أليم شديد) ، نقول: العقاب والانتقام والبطش والإذلال والخفض يكون لأوليائه وأحبائه أم لأعدائه؟ لأعدائه للشيطان وذريته وأتباعه، فلما خلق الله الشيطان ووجد لهذا الشيطان أتباع من أنس وجان ظهرت آثار أسماء الله القهرية فحصل غضب الله وحصل مقته، وحصلت عقوبته، وحصل بطشه وحصل انتقامه، وحصل إذلاله لهؤلاء، وحصل خفضه لهم في الدنيا والآخرة، وأذلهم وعاقبهم ونكد حياتهم وأدخلهم جهنم، فهذه الآثار متعلقة بصفات للعزيز القهار فلابد من أن تأخذ متعلقها وآثارها وإلا تتعطل تلك الصفات.(7/451)
3) ظهور آثار أسماء الله المتضمنة لعفوه ومغفرته ورحمته ولطفه بعباده فهو تواب رحيم، حليم غفور ستّير، فهذه كلها لا يمكن أن تظهر إلا إذا وقع شر وفساد ومسبب هذا المخلق وإبليس.
فإذا وقعت معصية بواسطة تزيين هذا الشيطان للإنسان ثم يتوب هذا الإنسان لربه جل وعلا فإنه تظهر آثار أسماء الله الحسنى – كما قلنا – المتضمنة لعفوه ومغفرته، وكذلك لو أن هذا العاصي لم يتب بل استمر على معصيته فالله سبحانه وتعالى أمهله وأمد له في حياته ورزقه وأسبغ عليه فضله فهذا من ظهور آثار اسم الله الحليم الذي لا يعاجل بالعقوبة فهو حليم غفور رحيم.
... فهذه كلها لابد من ظهور آثارها كما أنه منتقم شديد العقاب، فإذا عاقب ظهرت آثار تلك الأسماء وإذا أمهل وأخر – وهو سبحانه يمهل ولا يهمل ولا يفوته شيء – ظهرت آثار اسم الله الحليم، وإذا عفى وتجاوز ظهرت آثار اسم الله الرحيم العفو.
لذلك ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي أيوب الأنصاري، وأبي هريرة ... رضي الله عنهم أجمعين والحديث رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء يقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم] فهل هذا لأن الله يحب الذنب؟ لا، بل هو يكره ويغضب على فاعله، لكنه يحب التوبة، وإذا لم تتب فالله يحب أن يتجاوز عن عباده وأن يعفو عنهم، فإذا لم تقع ذنوب فلن تكون هناك توبة والله يحب التوابين ولن يكون هناك آثار اسم الله الحليم العفو وبهذا تتعطل صفات الله سبحانه وتعالى وليس في تعطيلها كمال له جل وعلا.
... ولذلك عندما يتوب الإنسان لا يناجي الله بقوله يا منتقم تب علي، بل يناجيه بقوله يا رحيم تب علي فينادي ربه بالأسماء التي تتضمن الرحمة والمغفرة والعطف والحنان والحلم.(7/452)
4- ظهور آثار أسماء الله المتضمنة لحكمته وأنه يضع الأمور في مواضعها فهو حكيم يضع الشيء في موضعه، وهل في تقدير الذنب على الإنسان ووسوسة الشيطان له حتى أغواه حكمة؟
نعم حكمة ليس بعدها حكمة. كيف هذا؟
الإنسان لو لم يكن له شيطان يزين له أحياناً بعض أنواع الإثم والعصيان ليقع فيها وليرتكبها لربما ظن نفسه أنه ند لله وأنه شريك لله وأنه يساوي الله وأنه أفضل من النبيين أفضل من الملائكة المقربين لكنه عندما يعصي ربه يحصل له انكسار ويصبح في قلبه من الفقر والالتجاء والمسكنة ما به يدخل على ربه ولذلك لولا المعصية لوقع الناس فيما هو أكبر منها وهو الكبر والعجب والغرور ويرى أن السموات والأرض لا تسعه مع أن عبادته قد تكبه على وجهه في جهنم، وعبادة 500 عام ما وفّت بنعمة البصر كما تقدم معنا، ولو حاسب الله خير خلقه عليه الصلاة والسلام مع روح الله عيسى بن مريم على أصبعين فقط الإبهام والسبابة لعذبهما ربهما ثم لم يظلمهما، فمن أنت؟!! لكن الإنسان يغفل عن نفسه وعن العيوب التي في طاعاته فيقع أحياناً في بعض المعاصي الظاهرة من نظر حرام ومن غناء، أو كلمة باطلة، فمثل هذه المعاصي وغيرها كسرت قلبه.
وقد ثبت في مسند البزار وشعب الإيمان للبيهقي بسند صحيح جيد عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [لو لم تكونوا تذنبون لخفت عليكم ما هو أكبر من الذنب، العُجْبَ العُجْبَ] أي أخاف عليكم العجب، حقيقة العجب مهلك للإنسان، لا طاعة أعظم من انكسار النفس والتذلل بين يدي الله، ولا معصية أشنع من إعجاب المرء بنفسه ورأيه، والعجب هو معصية إبليس.
ولذلك إذا ابتلي الإنسان بشيء من المعاصي فإذا جاءه الشيطان ليوسوس له بالعُجب وأنه يعبد الله ولم يعصه يقول: يا نفس تذكري يوم كذا ماذا عملت واستحي من الله وقفي عند حدك، والمجاهد من جاهد نفسه في الله جل وعلا.(7/453)
ولذلك هذا هو الجهاد الأكبر هو أن تجاهد هواك، وأن تجاهد تطلعات النفس إلى الكبر والزهو والخيلاء والعجب ومضادة الرب في حكمه، فإذا وقع شر بسبب إبليس لكن هذا الشر خير، فمعصية طردت عنك أشنع الآفات وهي معصية العجب والكبر والغرور.
لعل عتبك محمودٌ عواقبُه ... وربما صحت الأجسام بالعلل
يعني ما تبتني فما عدت لذنبي، وصرت كما تريد فهذا العتب (المذموم) وهو عدم الوقوع في الخطأ مرة أخرى، وهنا كذلك فكان في القلب آفة دفينة من عجب وكبر وغرور وخيلاء وفخر – وهذه كلها مهلكة – من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر لا يدخل الجنة – فابتلاه الله بجريمة الزنا مثلاً، فنكس رأسه وانكسر وبقي يقوم في السحر يقول يا رب، يا رحيم يا كريم استرني في الآخرة كما سترتني في الدنيا، تب علي، فإذن معصية وقع فيما لكنها دفعت عنه معاص ٍ ستدخله أسفل سافلين وهو لا يدري، وحقيقة هذه حكمة لولا الوقوع في المعصية بسبب الشيطان لوقع الناس في أشد من المعاصي الظاهرة.
... ولذلك لا يدخل العباد على الرب إلا من باب الذل والانكسار، وكل من تعالى غضب الله عليه يريد وكان أئمتنا يقولون: "من تعالى لله وترفّع لقي عطباً، ومن طأطأ لقي رطباً" فمن تعالى لقي هلاكاً، والذي يريد الرطب يطأطئ رأسه ليتناوله، وهنا كذلك تعاظم يغضب الله عليه (إن عليك لعنتي إلى يوم الدين) بسبب قول إبليس (أنا خير منه) فكلمة قالها أوبقت دنياه وآخرته، أفسدت عاجله وآجله.
وخذ المعصية التي قدرت على نبينا آدم صلى الله عليه وسلم جعلت حاله بعد المعصية خيراً من حاله قبلها بكثير ولا نسبة بين تلك وبين هذه، صار بعد المعصية نبيناً من أنبياء الله كلمه الله قبلاً وأرسله بعد ذلك إلى بنيه وجعله أصل البشر ثم أخبرنا الله أنه اجتباه وتاب عليه وهدى، فمعصية وقعت منه جرته إلى هذه الكلمة التي لا يدخل إنسان على ربه إلا من طريقها (قالوا: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) .(7/454)
.. وكل عبد لا يجعل هذه الكلمة ديدنه، فهو بعيد عن الله، ولا يدخل الإنسان الجنة إلا من هذا (الطريق ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) ، فنحن معترفون بذنوبنا وتقصيرنا وتفريطنا لكن مع ذلك نطمع في رحمتك وفي فضلك وأنت واسع المغفرة، ولمن تكون الرحمة إلا للمذنبين أمثالنا.
5- حصول أنواع العبودية التي يُتقرب بها إلى رب البرية بسبب خلق الذات الإبليسية، حصلت عبادات متنوعة منها:
أ) مجاهدة النفس ... ب) مجاهدة الكافرين ... جـ) الاستعاذ بالله من الشيطان الرجيم
والله يحب هذا (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله) ولنا عدوان: عدو ظاهر مكشوف (الكافر) ، وعدو باطن مستور (الشيطان) أما العدو الظاهري فنداريه ولا نقاتله ونحاربه، وأما العدو الباطن المستور فلا سبيل إلى محاربته إلا بالالتجاء إلى ربنا، فنقول يا رب، سلطت علينا من يرانا ولا نراه فنسلطك عليه فأنت تراه وهو لا يراك فاكفنا شره وشر أتباعه إنك على كل شيء قدير.
... فهذه إذن عبوديات متنوعة حصلت بسبب الشيطان الرجيم، فهذا السبب المذموم يوصل إلى نتائج محمودة، وهذه بعض الحكم من خلق إبليس ذكرناها على عجل وفي بيانها بيان للحكمة من خلق الشرور وأنواع الضر وتقديرها.(7/455)
.. وبهذا نتحقق من قول نبينا عليه الصلاة والسلام الذي كان يقوله عندما يناجي ربه في صلاة الليل [والشر ليس إليك] والحديث في صحيح مسلم بشرح النووي (6/59) عن علي رضي الله عنه قال [كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يصلي يفتتح صلاته فيقول: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرتُ وأنا من المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعاً إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك , وأتوب إليك] هذا يقوله في دعاء الاستفتاح قبل أن يقرأ الفاتحة، وهذا من جملة الأدعية المشروعة التي يقولها المصلي إن شاء وإن شاء أن يقتصر على قوله: [وجهت وجهي للذي فطر السموات.... من المسلمين] ، وإن شاء أن يقول سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك وإن شاء قال الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله وبحمده بكرة وأصيلا ً – إلخ دعاء. وإن شاء غيرها.
وانظروا كتاب الأذكار للإمام النووي في أدعية الاستفتاح التي يخير المصلي بين شيء منها في أول صلاته.
الشاهد: والشر ليس إليك، هذه الجملة تحتمل خمس معان ٍ أحدها الذي نتكلم عنه:
المعني الأول: أنك لا تقضي شراً محضاً خالصاً، والشر الذي تقضيه وتقدره هو خير بالنسبة لحكمتك وقضائك وتقديرك، وإن كان شراً بالنسبة لمن يقع عليه، فإذن لما تقدره لما يترتب عليه من حكمة وخير.(7/456)
مثال للتقريب: المطر هو خير، لكنه شر للمسافر ولذلك يقول الله (يريكم البرق خوفاً وطمعاً) ، من جملة ما قيل في تفسيرها: خوفاً للمسافر لأنه إذا نزل أتعبه ويخشى من السيول، وطمعاً للمقيم فبمجرد أن يرى البرق يطمع في نزول المطر، ... فلو قدر أن مطراً نزل وسالت وديان وجرف بعض المسافرين وأغرقتهم فهو شر بالنسبة للمسافر، وهو شر جزئي، لكنه ترتب عليه خير عام حيث فرح الناس بنزول المطر وحي العالم بنزوله.
مثال آخر: قطع يد السارق، شر في حق السارق، لكن هو خير عام للمجتمع، حافظنا على أموال الناس، منعنا أنفسنا سخط الله، فإنه إذا انتشرت المعاصي ولم يؤخذ على يد العاصي نُزعت البركة، والله يعاقبنا بعقوبة عاجلة تعم.
إذن لا تقضي شراً محضاً لا تقدره لا تشاؤه، إذا قدرت شراً فلحكم نتج عنه، وهذا المعنى هو محل الشاهد في بحثنا.
المعنى الثاني: أي لا يُتقرب بالشر إليك، وهذا قاله الخليل بن أحمد والنضر بن شُميل والأزهري وهؤلاء كلهم من علماء اللغة، ونُقِل عن إسحاق بن راهُوْيَهْ وابن معين وابن خزيمة وهم من أئمة الحديث الشريف.
المعنى الثالث: أي لا يضاف إليك الشر على انفراده فلا يُقال يا خالق الكلاب والخنازير ولا يُقال: يا رب إبليس، قاله الإمام المزني، مع أنه خالق الكلاب والخنازير ورب إبليس لكنه يشعر بذم ويوهم بنقص بل تقول يا رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، أو تقول يا رب النبي محمد صلى الله عليه وسلم فهذا فيه مدح لأنك تضيف ربوبية الله جل وعلا إلى مخلوق فاضل.
... وأما أن تقول يا رب الطلاب والخنازير وإبليس فرج كربي، فهذا في الحقيقة سوء أدب في مناجاة الله مع أنه ربهم، ولذلك قال أئمتنا: الشر لا يضاف إلى الله على انفراده، وذلك لأنه لم يخلقه لأنه شر، بل خلقه لما يوصل من حكمة وخير.
وإذا أردت أن تضيف الشر فلك أحد أساليب ثلاثة:(7/457)
الأسلوب الأول: أن تضيفه إلى الله عن طريق العموم فتقول: الله خالق العالمين، الله رب العالمين، يا رب المخلوقات والأرض والسموات، يا رب كل شيء ونحوها فدخل في هذا الخير والشر، الفاضل والضال.
الأسلوب الثاني: أن تحذف فاعله فلا تضيفه إلى معلوم وقد تأدب الجن بهذا الأدب فقالوا كما أخبر الله عنهم في سورة الجن (وأنا لا ندري أشرٌ أريد بمن في الأرض أم أراد بهم رشداً) الرشد خير يضاف إلى الله، وأما الشر فهذا لا نضيفه إلى الله جل وعلا على سبيل الانفراد والاستقلال فنعرف فاعله ونضيفه إلى مجهول، فانظروا لهذا الأدب (أشر أريد بمن في الأرض) فلم يضيفوه لأحد مع أن هذه الإرادة لله وإرادته هي النافذة.
... وانظر إلي خليل الله إبراهيم وإلى أدبه يقول (وإذا مرضت فهو يشفين) فأضاف المرض إلى نفسه.
... ومن هذا قول الخضر لموسى عليه السلام (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها) وعيب السفينة نقص، فلم يقل: أراد الله أن أعيبها مع أنه في آخر الآيات قال (وما فعلته عن أمري) أي أمرني الله بذلك، وهو عاب السفينة لمصلحة لكن ظاهر اللفظ فيه نقص فلا يضاف إلى الرب، وانظر ماذا قال بعد ذلك: (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنزُ لهما وكان أبوهما صالحاً فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما) فقال أراد ربك ولم يقل فأردت، لأن هذا خير فيضاف إلى الله بخلاف الشر، والخير يجوز أن تضيفه إلى نفسك وإلى الله كما قال الخضر في حق الغلام (فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً منه زكاة وأقرب رحمة) ، كما أنك إذا صليت يجوز أن تقول صليت بقدر الله.(7/458)
الأسلوب الثالث: أن تضيف الشر إلى السبب الذي نتج عنه ووجد بسببه، كما قال تعالى (من شر ما خلق، ومن غاسق إذا وقب، ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد) ، فهذا الشر يقع من مخلوقات الله ولم يضفه لنفسه، فأضافه إلى الخلق، ثم بعد ذلك أضافه إلى أفراد بأعيانهم: الغاسق إذا وقب، النفاثات، والحاسد.
المعنى الرابع: الشر لا يصعد إليك إنما يصعد إليك ما هو خير طيب كما قال جل وعلا (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) .
المعنى الخامس: أي ليس عدادك من أهل الشر ولا ينسب إلى الشر حكاه الإمام الخطابي في معالم شرح السنن أبي داود، يقال فلان ليس من بني فلان، وفلان من بني فلان، إذا كان عداده فيهم أو ليس عداده منهم، أي لست من أهل الشر بل أنت طيب كريم.(7/459)
.. ذكر الإمام الرازي في تفسيره في (13/93) في تفسير سورة الأنعام، عند قوله تعالى (إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلك الله فأنى تؤفكون) يقول ما حاصله كان بعض الملوك الجبارين يتفنن في تعذيب المسلمين المساكين، فأتى مرة بشيخ صالح فأراد أن يعذبه بنوع من أنواع العذاب وهو أن يسقيه الأفيون (المخدر) فأسقاه ذلك لأجل أن يموت بسبب فقدان الحرارة الغريزية، ثم وضعه في بيت مظلم تحت الأرض يقال له سرداب وقبو وملجأ، ثم بعد فترة جاء الملك ليتفقد هذا الشيخ هل مات أم لا؟ وكان يظن أنه مات لكنه أراد أن يتأكد فلما جاءه وجده حياً فاستغرب الملك وحار في أمره، فقال له: ما شأنك؟ فأخبره الشيخ: أنه لما وضعتني في هذا السرداب جاءني ثعبان عظيم فلدغني، فبهذا حييت، ثم كف هذا الملك عن الظلم بعد ذلك، فقيل للملك كيف هذا؟ فقال: إن الأفيون يفقد الحرارة الغريزية فيقتل بقوة برده، بعكس السم فإنه يزيد الحرارة الغريزية ويقتل بقوة حره، والجسم لابد من توازن الحرارة والبرودة فيه، فتوازنت الحرارة في جسم الشيخ وما تأثر بلدغ الحية مع أنها شر لكنه فيها خير، فالله سبحانه لا يخلق شراً محضاً، وإذا قدرته فلما ينتج عنه من حكم.
3- الإيضاح الثالث: كيف يرضى الله لعبده شيئاً ولا يعينه عليه؟
فالله جل وعلا رضي لنا الإيمان والطاعة، لكن لم يعن العباد جميعاً على ذلك، بل أعان قسماً منهم وهم الموحدون، وخذل قسماً منهم فلم يعنهم، فكيف يرضى الله لعباده شيئاً ولا يعينهم عليه؟!.
نقول: لا إشكال في ذلك مطلقاً، لأنه لو أعانه على ما رضيه لهم لترتب على هذا محذوران أو أحد محذورين:
المحذور الأول: قد تستلزم إعانة الله جل وعلا لعباده على ما رضيه لهم وأحبه قد تستلزم فوات محبوب لله هو أعظم من حصول تلك الطاعة التي رضيها لعباده وأحبها لهم.(7/460)
المحذور الثاني: قد تستلزم إعانة الله جل وعلا لعباده على ما رضيه لهم وأحبه قد تستلزم وقوع مفسدة هي أكره لله جل وعلا من فوات تلك الطاعة التي أحبها لعباده ورضيها لهم، فدُفع أعظم المكروهين بأحدهما، مثال:
يقول الله جل وعلا في كتابه عن المنافقين (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين) الله أحب الجهاد وأمرهم به وأمرهم بالخروج لكن كره الله خروجهم، وعدم خروجهم مفسدة، لكن في خروجهم مفسدة أعظم فانظر إلى النتيجة بعد ذلك لو خرجوا.
(لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً) هذه المفسدة الأولى، أي ما زادوكم إلا ضعفاً وخذلاناً لأنهم لن يقاتلوا بجد ونشاط وعزم إنما سيخذلون ويجبنون، وإذا جبن فرد في الجيش قد تسري العدوى على أفراد الجيش، والجيش يزداد عزمه وقوته عندما يرى الأفراد يتسابقون إلى الاستشهاد، لكنه عندما ينظر إلي زملائه يفرون ويضعفون ويجبنون فهو بالتالي سيجبن ويهن (ولأوقعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم) والإيقاع هو الإسراع في الإفساد ونقل النميمة والتحرش بين المسلمين، وأمر هؤلاء لا يخفى على الكثير وفيكم سماعون لأنهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، وهذا التحريش هو مفسدة ثانية في حد ذاتها فإذا ضعف المسلمون وتحرشوا فيما بينهم بعد فعل المنافقين فهذه أيضاً مفسدة ثالثة فتركهم للجهاد مفسدة ولكن في إعانة الله لهم على الخروج وجهادهم مفسدة أعظم، فدفع أعظم المكروهين بأدناهما، وفي خروجهم أيضاً فوات لمحبوب هو أعظم عند الله من حبه لخروجهم.
مثال آخر: (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين) فمصلحة هذا الرجل المؤمن من آل فرعون الذي نصح موسى مصلحته في أن يشير عليه ويبتعد عنه لا في أن يعينه ويساعده لأنه لو ساعد لأذي وقتل، إذن فمصلحة الناصح هنا تتعلق بالأمر لا بالمعونة. ولله المثل الأعلى.(7/461)
مثال آخر للتقريب: ولله المثل الأعلى – لو أن هناك امرأة صالحة تعد نفسك لخطبتها والزواج منها، من فترة طويلة لأنك تعرف أسرتها ونشأتها، فجاءك بعض الصالحين وقال لك: ما رأيك في فلانة بنت فلان أريد أن أتزوجها؟، وكانت هي التي تعد نفسك لها، فأنت الآن قد تستحي أن تقول له أنا أريد أن أخطبها، وكذلك لا يجوز لك أن تذمها كذباً لتبعده عنها فأنت ستقول الحق وتقول له هذه امرأة صالحة من أسرة طاهرة وسعيد الحظ من يتزوجها وهي فرصة لك – مع أنه في قرارة نفسك تدعو الله ألا يتم هذا النكاح – فإذا قال لك زميلك: اذهب معي لنكلم أهلها فستعتذر ولن تذهب معه، فإذن أنت نصحته ودللته ولم تعنه فإذن الإعانة شيء آخر، ولا يلزم من النصح والأمر الإعانة – ولله المثل الأعلى، فكم من إنسان تأمره وأنت لا تريد حصول هذا له لأنه يتضمن مضرة عليك أو يتضمن زوال محبوب لك هو أعظم من ذلك المحبوب الذي سيحصل له.
مثال: لو أعان الله عباده كلهم على الإيمان ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة لكن هذا لو حصل لترتب عليه ولفات به محبوبات كثيرة عظيمة لله جل وعلا منها:
1) تقدم معنا إظهار قدرة الله على خلق المتضادات.
2) إظهار آثار أسماء الله المتضمنة لقوة بأسه وانتقامه فإذا كان كل من في الأرض مؤمنين لفاتت هذه الآثار وهي محبوبة لله جل وعلا.
3) ويترتب على الكفر والذنب طاعة أحب إلى الله منها وهي التوبة فلم يعنه على الطاعة من أول الأمر ليترتب عليها حصول طاعة أعظم بعد ذلك ولو حصلت من أول لفات هذا الأمر المحبوب لله.(7/462)
4) لو حصلت الطاعة من أول الأمر قد يترتب عليه مفسدة أعظم وهي العُجب فوقع في الذنب حتى ينكسر ولا يتكبر فزالت مفسدة أعظم مما لو لم تحصل تلك الطاعة، أي لو لم تحصل مفسدة يسيرة لحصلت مفسدة كبيرة، فدفعت الكبيرة باليسيرة كما تقدم معنا في الحكم، ولو كان الخلق كلهم مؤمنين فمن سيدخل النار؟ فهذا لابد من وعيه ولا تظن أن الحكمة تقتضي أن يكون جميع الناس مؤمنين، ليس كذلك، لأنه لو كان هذا هو الحكمة لقدرة الحكيم العليم (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) هود (118، 119) ، (ولذلك خلقهم) فيها تفسيرأن كلاهما ثابت عن سلفنا الكرام: خلقهم أي ليأمرهم بالإيمان ليكونوا ملة واحدة ليرحمهم بعد ذلك فالإرادة دينية شرعية وقيل: خلقهم أي ليختلفوا فيحاسب كلاً على عمله فالإرادة كونية قدرية، وأحد التفسيرين لابن عباس والآخر للحسن لكن لن أذكر تحديداً النسبة الصحيحة لكل قول.
ولذلك قال أئمتنا من أمره الله وأعانه فقد تعلق بالمأمور خلقه وأمره إنشاءً ومحبة (وجدت فيه الإرادة الشرعية والكونية) ومن أمره الله ولم يعنه فقد تعلق بالمأمور أمره لا خلقه لعدم الحكمة، قل لله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين وليس في هنا أي إشكال، والشر ليس إليك وأسباب الخير ولا يستلزم الخير حصولها بكاملها إنما قد يوجد الله الثلاث في بعض العباد وقد يوجد بعضها في بعض ... العباد فهو المتفضل والمنعم على عباده:
السبب الأول: إيجاد: خلقه لإبليس وللكافرين نعمة.
السبب الثاني: إعداد: أعد قلوبهم بحيث جعلها صالحة للهدى والإيمان كما قال لنبيه موسى عليه السلام (واصطنعتك لنفسي) هذا من به على بعض العباد.(7/463)
السبب الثالث: إمداد: بعد أن هيأه وأعده جعله يقبل ذلك الإيمان ويطمئن إليه ويأخذ به، فلا يخلو مخلوق من فضل الله لكن إما في نعمة الإيجاد وإما في نعمة الإيجاد والإعداد والإمداد.
فالله جل وعلا أوجد نبيه محمداً صلى الله عليه وأعده وأمده، والله يقول للنبي صلى الله عليه وسلم (ووجدك ضالاً فهدى) (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) والله يقول (وما كنت ترجو أن يلقى إليه الكتاب إلا رحمة من ربك) لكن قف عند نقطة: هل هذا الاختيار مبناه على العبث والسفه أم هو وضع للأمور في مواضعها؟ إذا كنت تؤمن بأن الله حكيم فستعلم أنه اصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم لما يعلمه مما في قلبه، واختياره كان في محله كما قال (الله أعلم حيث يجعل رسالته) (الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس) (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون) و (ما) هنا نافية وهذا أقوى القولين في تفسيرها، ويتم الوقف عند قوله (ويختار) ، أي ما يحصل لهم هذا ولا يقومون به، وقيل: (ما) موصولة، المعنى صحيح أيضاً ويختار الذي فيه خير لهم وهو أرحم بنا من أنفسنا.
... والله جل وعلا أوجد أبا جهل ولم يعده ولم يمده، لما له من الحكمة التامة ولو شاء أن يجعله كالأنبياء لجعله لكن له الحجة البالغة والحكمة التامة، فخذله لما يعلم في قلبه من الخبث والكبر والطغيان، إذن الله سبحانه وتعالى أوجده وخلقه بشراً سوياً عاقلاً مدركاً ذكياً لكنه لم يعده ولم يمده لحكمته التامة وعلمه سبحانه وتعالى ولله على خلقه نعمتان: الأولى خلق وإيجاد، والثانية هداية وإرشاد، الخلق والإيجاد مبذولة للجميع (وما بكم من نعمة فمن الله) (الله خالق كل شيء) ، ونعمة الهداية والإرشاد (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) ، وهنا كذلك إيجاد وإعداد وإمداد.
4- الإيضاح الرابع:(7/464)
يترتب على ما تقدم قول القائل والله لأفعلن كذا إن شاء الله، أو إن أحب الله ثم حنث، فهل عليه كفارة أم لا؟ وما الفارق بين الصيغتين؟
مثال لو قال: والله لآكلن التفاح هذا اليوم إن شاء الله، والله لآكلن التفاح هذا اليوم إن أحب الله ولم يأكل فهل هناك فرق في الحكم؟ نعم هناك فرق كبير بعد أن تعرف هذا المبحث الجليل.
إذا علقته بالمشيئة ولم تفعله لم تحنث مطلقاً لأن الله لم يشأ ذلك سواء كان المخلوق عليه طاعة أو معصية أو مباحاً كأن يقول أحد: والله لأسمعن الغناء إن شاء الله في هذا اليوم ولم يسمع لم يحنث لأن الله لم يشأه فتركه له دليل على عدم مشيئة الله له، ولو كان شاءه لحصل، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لأن المشيئة الكونية لا يتخلف مقتضاها كما تقدم معنا بخلاف المشيئة الدينية.
وأما إذا علقته بالمحبة فإن كان طاعة من واجب أو مستحب، فحلفت ولم تفعل فعليك كفارة وإن لم يكن طاعة فحلفت ولم تفعل فلا كفارة عليك، فلو حلف على غير طاعة من مباح أو معصية قال لأسمعن الغناء إن أحب الله، فلم يسمع فلا كفارة عليه لأن الله لا يحب هذا الفعل وتعليقك كان في محله، ولو قال لأصلين في المسجد إن أحب الله اليوم، فإن لم يصل فعليه كفارة، لأن الصلاة يحبها الله، فوافق تعليقه المحل فتعلقت الكفارة به إن حنث.
والسبب في التفريق بين التعليق على المشيئة والتعليق على المحبة: يُعلم مما تقدم معنا وهو أن الإرادة الشرعية الدينية قد يوجد مقتضاها وقد يتخلف والإرادة الكونية القدرية لابد من وجود مقتضاها فعندما يعلق فعله على مشيئة الله الكونية القدرية ولا يتيسر له الفعل نقول هذا يدلنا على أن الله لم يشأ لك ذلك، لأنه لو شاءه لابد من حصوله، فأنت إذن ربطت القسم بالمشيئة فإذا شاء الله فعلت وإذا لم يشأ لك فلن تذهب، وعندما تعلقه على محبة الله وكان طاعة فنعلم إذا وقع أنه إرادة كوناً وقدراً، وإذا لم يرده فلأنه أراده ديناً وشرعاً.(7/465)
هذا كله إذا قصدت بالاستثناء (إن شاء الله) التعليق، أما إذا قصدت التبرك أي من باب البركة فاليمين منعقدة وحالّة وتحنث بترك الفعل فإذا لم تف بما حلفت حنثت، كأن يقول: لآتينك غداً إن شاء الله، ويقصد التبرك والبركة عملاً بقوله تعالى (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله) ، فإن لم يأت حنث وعليه كفارة.
وقد يقول الإنسان صيغة الاستثناء ولا يقصد منها التعليق، فأحياناً تكون في محقق ولا تكون في مشكوك فيه معلق ومنه قول الله جل وعلا ( ... لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ... ) اللام في لتدخلن للقسم، والاستثناء للتبرك فالله يقسم على أنهم سيدخلون المسجد الحرام، والآية نزلت في صلح الحديبية ليبشرهم بدخول مكة ومنه قوله صلى الله عليه وسلم عندما كان يزور المقابر والحديث في صحيح مسلم وغيره [السلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم السابقون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون] فهذه أيضاً للتحقيق والتبرك لأنه سيلحق بهم قطعاً صلى الله عليه وسلم، وليس هذا من باب الشك.
ولذلك من جملة تعليلات سلفنا للاستثناء في الإيمان أي إذا قال المؤمن أنا مؤمن إن شاء الله هذا الوجه أي للتبرك والوجوه الأخرى اكتبوها أيضاً لارتباطها بمبحثنا.
1- من باب التبرك، وقلنا هذا هو الذي نحن فيه.
2- من باب دفع المدح عن النفس، لأن أعظم ما يمدح به الإنسان أن يقول أنا مؤمن، فيدفع هذا المدح وهذه التزكية.
3- من باب الشك في الكمال لا في الأصل، لأنه لا يجزم بكمال إيمانه.
4- من باب الشك في الخاتمة، لا في الحال الحاضرة.
5- الإيضاح الخامس:
يدور حول إجمال كلام في القدر:
الأول: القدر – كما تقدم – سر الله في خلقه لم يطلع عليه ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً.
سئل أذكى الناس في وقته إياس بن معاوية: ما رأيك في القدر؟ فقال: رأي لا أعلم من قدر الله إلا ما تعلمه ابنتي وهكذا حال الأنبياء والملائكة وخلق الله أجمعين.(7/466)
فهذا استأثر الله به ولم يطلع عليه أحداً فهو سر الله في خلقه فلا تفشوه أي ليس بإمكانكم أن تطلعوا عليه وليس المراد أنه أعلمنا به ثم أمرنا بكتمانه.
... وقد يجد الإنسان في نفسه أحياناً شيئاً من التساؤلات والاستفسارات والشبه التي يلقيها الشيطان حول قدر الله فإذا وجد شيئاً من ذلك في قلبه فليقل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لا يسأل عما يفعل، قدر الله وما شاء فعل، رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبنبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبيناً ورسولاً.(7/467)
ثبت في سنن أبي داود ومسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجه وكتاب السنة لابن أبي عاصم بسند صحيح عن عبد الله بن فيروز الديلمي (وورد في كتب الحديث تسميته بابن الديلمي) قال ذهبت إلى أبي بن كعب فقلت: أبا المنذر، قد وقع في نفسي شيء من القدر (1) فحدثني لعل الله أن يذهبه من قلبي، فقال له: أبي بن كعب رضي الله عنه: [لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً من أعمالهم (2) ، ولو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما قبل الله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك (3) ولو مت على غير هذا مت على غير الإسلام، يقول ابن الديلمي: فذهبت إلى ابن مسعود وإلى حذيفة (4) ، فقالا لي مثل ما قال أبي ثم ذهبت إلى زيد بن ثابت فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك (5) ] فإذا وقع في أنفسكم شيء من القدر فاستحضروا هذا الحديث.
ولذلك أمرنا رسولنا ونبينا صلى الله عليه وسلم إذا بحثنا في القدر أو تكلمنا فيه أن لا نسترسل وأن نقصر الكلام في ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم – والحديث في مسند الإمام أحمد ومعجم الطبراني وغيرهما بسند صحيح [إذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا وإذا ذكر النجوم فأمسكوا] .
__________
(1) شبه واشتباهات وتساؤلات حول القدر وقعت في نفسي فحدثني وعظني بما يثبت العقيدة في نفسي من أحاديث ومواعظ.
(2) وهذا في الحقيقة يذهب القلق الذي يقع في القلب من القدر.
(3) ما فاتك لم يكن ليحصل لك وما حصل لك لن يفوتك، جف القلم بما أنت لاق ٍ.
(4) أي يطلب منهم أيضاً أن يحدثاه بشيء من القدر ليذهب ما وقع في نفسه.
(5) فالكلام من مشكاة واحدة مشكاة النبوة، لكن أبي لم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا ابن مسعود ولا حذيفة، وأما زيد فرفعه ولم يقفه.(7/468)
[إذا ذكر القدر فأمسكوا] لا تسترسلوا في الكلام، لكن لا مانع أن تبحث عن طريق الأدلة الشرعية لتعرف ما ينبغي أن تعتقده وأن الله قدر كل شيء وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأما كلمة لِم؟ وما السبب؟ وما العلة؟ فلا تقلها ولا تفكر فيها فأنت عبد ولا تعترض على ربك، فإن هذا لا يفعله إلا من يجعل نفسه نداً لربه لا عبداً له، والعلة إذا ظهرت لك تزداد بصيرة على بصيرة، وأما إذا لم تظهر لك فلا تقل لم؟ فلا تسترسل في الكلام فيه، وإن أبيت فلن تصل إلى إحدى ثلاث بليات ستأتي.
[وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا] أي وإذا ذكر ما حصل بينهم من خلاف فأمسكوا. فحذار حذار من إطالة الكلام في الصحابة تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم، بل نسأل الله أن يغفر لهم وأن يرحمهم وأن يجمعنا معهم في جنات النعيم، ولا مانع أن يخطئوا فهم بشر لكن حذار أن تشيع خطأهم وأن تتلذذ به، فهذا لا يفعله إلا من غضب الله عليه فإذا مر معك شيء من خطئهم في أثناء بحثك فقل كل بني آدم خطاء، ولهم حسنات، أعظم من الجبال الراسيات وما جرى من السيئات مغمور في بحار حسناتهم.(7/469)
[وإذا ذكر النجوم فأمسكوا] أي ما يتعلق بها من إسعاد ونحاسة ونزول مطر ورياح وغير ذلك كما يستدل به المنجمون فهذا كله من هوسهم يقولون إذا وقع برج كذا صار كذا (خيراً) أو صار كذا (شراً) فهذا مما لا يجوز الخوض فيه، فالنجوم مدبَّرة لا مدبِّرة، فلا يستدل بها على شقاوة أو إسعاد أو خير أو شر، بل نقتصر على معرفة ما فيها من عبر وآيات جعلها الله لذلك منها أنها علامات لتستدل منها في ظلمات البر والبحر ومنها أنها زينة للسماء ومنها أنها تضيء السماء ونحو هذه العبر ولا نخوض في أكثر من ذلك والشبه التي تقع في قلبك أيها الإنسان هذه إذا وقعت فجاهدها وادفعها ولا حرج عليك في وقوعها – أي وقوع الشبه حينئذ – وقد ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والحديث رواه الإمام مسلم أيضاً من حديث ابن مسعود، رضي الله عنه، ولفظ حديث أبي هريرة: [أن رجالاً جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله يجد أحدنا في نفسه (1) ما يتعاظم أن يتكلم به ولأن يخرمن السماء أحب إليه من أن يتكلم به، فقال صلى الله عليه وسلم: أوجدتم ذلك؟ قالوا نعم، قال: ذاك صريح الإيمان] .
ولفظ حديث ابن مسعود: [سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة، فقال: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة ذلك محض الإيمان] .
... ذلك الذي تجدونه في أنفسكم صريح الإيمان أي خالص الإيمان، ومحض الإيمان أي خالص الإيمان، فكيف جعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الوسوسة محض الإيمان وصريحه مع أنها مذمومة؟!.
... نقول: إن الصحابة رضوان الله عليهم لما عرضت لهم الوسوسة لم يطمئنوا بها ولم يرضوها ولم يأنسوا بها بل جاهدوها وقاوموها، فإذن هم لم يرضوا بها ولذلك لم تكن مذمومة.
__________
(1) أي وساوس تتعلق بقدر الله وبما شاكل هذا.(7/470)
وهكذا أنت عندما تكره الوسوسة وتجاهدها لا ضير عليك في ذلك، ولا يخلو الإنسان من وجود وساوس في قلبه، لكن يذهبها بعد ذلك – إن شاء الله – الإيمان الحق.
... ومعنى الحديث يتلخص في أمرين ومعنيين كما قرر الإمام النووي والقاضي عياض رحمه الله.
التأويل الأول: كراهية الوسوسة: لأنه يكرهها إلا مؤمن، فلولا الإيمان لما كرهتها.
التأويل الثاني: الشعور بالوسوسة دليل على الإيمان، فلولا الإيمان في نفس الإنسان لما وسوس الشيطان فالقلب الخرب لا يوسوس فيه الشيطان.
والمعنيان متلازمان فالمؤمن من يشعر بوسوسة فإذا شعر بها كرهها، فشعوره بها علامة إيمانه وكراهيته لها دليل على إيمانه.
والقلوب ثلاثة:
1- قلب تام النور لا يقربه الشيطان لكرامته وطهارته، وإذا اقترب احترق كما لو أنه اقترب من السموات يرمي بشهاب ثاقب كقلب الأنبياء والصديقين، فقلب المؤمن التام النور أعظم حرمة عند الله من السموات.
2- قلب خرب لا يقربه الشيطان لنجاسته، كقلوب الكافرين.
3- قلب مريض فيه نجاسة وطهارة، فهذه يُقبل الشيطان عليها، كقلوبنا وهي حال أكثر قلوب المؤمنين، فيكر الشيطان عليها فأحياناً ينتصر وأحياناً ينكسر والمعصوم من عصمه الله.
وحال الشيطان مع القلوب كحال اللصوص مع البيوت في حياتنا، فالبيوت ثلاثة:
1) بيوت الملوك ... 2) بيوت خربة ما فيها إلا عذرة ... 3) بيوت عوام الناس
فاللص لا يقترب البيت الأول (بيت الملك) لما عليه من الحرس ولا يقرب البيوت الخربة لأنه لا يوجد فيها شيء يُسرق، وأما البيوت العادية التي ليست كبيت الملك وليست كالخرب فهذه يأتيها اللص ويحاول أن يسرقها إذا غفلت عنه، فإذا انتبهت لم يستطع سرقتها، وهكذا الشيطان يفعل فإذا كنت مؤمناً فغفلت مرة أتى على القلب وأغواه، وإذا ذكرت الله خنس ولذلك سماه الله الخناس.
... قيل لابن عباس: إن اليهود يزعمون أنهم لا يوسوسون في صلاتهم، فقال: صدقوا!! فقالوا: كيف ذلك؟ قال: ماذا يفعل الشيطان بالقلب الخرب.(7/471)
(والذي يدخل الكنائس اليوم أو يسمع ما فيها لا يرى إلا كل رذيلة وفساد فماذا يعمل الشيطان بهؤلاء؟!، إنهم زادوا على إبليس ولعله إذا دخل عليهم الكنيسة أفسدوه لأنه كما قال الشيطان كنت ألقى الناس فأعلمهم فصرت ألقاهم وأتعلم منهم) وقال الشاعر المخذول:
وكنت امرأ ً من جند إبليس فارتقى ... بيَ الحالُ حتى صار إبليسُ من جندي
فلو رأت قبلي كنت أحسن بعده ... طرائق فسق ليس يحسنها قبلي
وغاية ما وقع من الشيطان أنه عصى ربه، لكنه لم يتقرب إليه بالمعصية أما هؤلاء النصارى يتقربون بالمعصية فتراه يصلي ويزني....
... وقد نهانا نبينا عليه الصلاة والسلام عن المجادلة والنزاع والأخذ والرد والقيل والقال في مسائل القدر، ثبت في سنن الترمذي بسند حسن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: [خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر فغضب حتى احمرت وجنتاه (1) كأنما فقيء في وجهه حب الرمان (2) ثم قال: أبهذا أمرتم أم لهذا أرسلت إليكم (3) ؟، إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر عزمت عليكم ألا تنازعوا فيه] فمن كان مؤمناً فليحفظ عزيمة النبي عليه الصلاة والسلام وقسمه وتشديده وطلبه وإلزامه لنا.
__________
(1) أي خداه.
(2) أي كما لو أتيت بحب الرمان وفقأته في وجه إنسان فتراه يغضب وينفعل ويحمر وجهه من الانفعال والغضب وكان النبي عليه الصلاة والسلام أبيض اللون مشرباً بحمرة ومثله لو انفعل تظهر وجنتاه كأنهما جمرتان من النار من أثر الصفاء الذي في وجهه والحمرة الأصلية، فأراد أبو هريرة رضي الله عنه أن يخبر عن حاله بهذا الوصف.
(3) أي هل أمركم الله بهذا وهل رخصت لكم به أن بهذا أرسلت إليكم أي هل أرسلت إليكم بأن تتنازعوا وتختلفوا في هذا الأمر؟.(7/472)
وفي مسند الإمام أحمد وسنن بن ماجه بسند صحيح من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: [خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يختصمون في القدر فكأنما فقيء في وجهه حب الرمان من الغضب، ثم قال: بهذا أمرتم أو لهذا خلقتم؟، تضربون القرآن بعضه ببعض بهذا هلكت الأمم قبلكم] .
... ولذلك إذا ذكر القدر فأمسكوا وإياك أن تسترسل في هذه المباحث ولا أقول هذا الأمر لا تدركه العقول ولا تعلمه كما بينه لنا نبينا الرسول عليه الصلاة والسلام، لا أقول هذا لكن أقول البحث عن الحكمة في التقرير هو الذي لا تدركه العقول، فالعقول تدرك أن الله يعلم كل شيء وأنه قدره وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لكن عندما تريد أن تسترسل في بيان الحكم فهذا في الحقيقة مجال للتعثر.
فإذا استرسل الإنسان في القدر وما عصمه الله وما حفظه قد يقع في إحدى ثلاث بليات:
1) بلية الزندقة: وهي توهم معارضةٍ بين أمر الله وقدر الله، فيُسلم بأن الله خالق كل شيء – وهذا بقدره – لكنه يقول: إن هذا يعارض أمره ونهيه، وهذا يدل على سفاهته وعدم حكمته، وهؤلاء قدرية زنديقية، ويقولون الله أمر ونهى وقدر وخلق لكن أمره ونهيه يعارض قدره وخلقه.
... أول من قال هذا إبليس حيث سلم بالخلق لكنه قال الأمر يخالف الحكمة لذلك أول المعترضين إبليس، أمره الله بالسجود فاعترض وقال كيف تأمر الفاضل أن يسجل للمفضول؟! أي أنت يا رب لا تعرف الحكمة سبحانه وتعالى عما يصفه الضالون علواً كبيراًً، الله أمرك يا إبليس أن تسجد فلماذا تفلسفت وصرت تقول: لم؟ وهذا ليس من شأنك أن تسأل عنه فالله رب العالمين يعلم الحكمة ويعلم الغيب وأنت لا تعلم شيئاً من ذلك فلماذا تعترض؟، وأنت لا تعرف شيئاً حتى عن نفسك هل تعرف ماهية روحك؟ لا أحد يعلم، فأنت كما قال الله (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ً)
أنت آكل الخبز لا تعرفه ... كيف يجري فيك أم كيف تبول
كيف تدري من على العرش استوى ... لا تقل كيف استوى كيف النزول(7/473)
أين منك الروح في جوهرها ... هل تراها فترى كيف تجول
هذه الأنفاس هل تحصرها ... لا ولا تدري متى عنك تزول
فأنت إذا كان هذا حالك فلماذا تعترض؟، فاعرف قدرك، فهل أنت ستساوي الله في إدراك حكمة كل شيء، ولو ساويته لكنت إلهاً مثله بل تبقى حالتك أنك تعلم شيئاً وتخفى عليك أشياء، وما تجهله هو أضعاف أضعاف أضعاف أضعاف ما تعلمه فقف عند حدك، إذ قد يؤدي به التعمق في القدر إلى التزندق ولذلك كان الفلاسفة يقولون: "لا يوجد أضر على المخلوق من الخالق"، فنعوذ بالله من هذا الكفر، نعمه علينا لا تحصى ورحمته وسعت كل شيء ووالله هو أرحم بنا من والدتنا وأرحم بنا من أنفسنا أرسل لنا الرسل وأنزل علينا الكتب، فكيف يكون أضر شيء علينا؟!!
... ويقول هؤلاء الفلاسفة أيضاً: "شريعة الله من أولها لآخرها سفاهة"!!! سبحان الله، لكن هذا هو حال المخذولين ومنهم العبد المخذول أبو العلاء المعري الذي هلك سنة 449 هـ حيث يقول:
يد بخمس مئين عسجد وديت ... ما بالها قطعت في ربع دينار
تناقض مالنا إلا السكوت له ... وأن نعوذ بمولانا من النار
فهذه هي الزندقة يقول (تناقض..) ويقول أيضاً في أبيات أخرى:
أنهيت عن قتل النفوس تعمداً ... وأرسلت أنت لقتلها ملكين
وزعمت بأن لها معاداً ثانياً ... ما كان أغناها عن الحالين
أي لم هذه السفاهة يا رب أنت تنهانا عن القتل وأنت ترسل ملائكة تقتلنا؟ ولماذا تقول هناك معاد ثان ٍ وخلق ثان ٍ، لا حاجة لا للخلق الأول ولا الثاني؟!! سبحان الله هل صرت إلهاً حتى تحدد ملك الله وأفعاله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً لكن هذا هو حال من غضب الله عليه، ووصل في نهاية أمره يقول:
حياة ثم موت ثم بعث ... حديث خرافة يا أم عمرو
وكان يقول أيضاً:
وما حج لأحجار بيت ... كؤوس الخمر تُشرب في ذراها
إذا رجع الحليم إلى حجاه ... تهاون بالشرائع وازدراها(7/474)
أي الحليم إذا رجع إلى عقله فإنه يحتقر الشرائع من عهد آدم إلى عهد محمد صلى الله عليه وسلم!!! هذا هو نتيجة التعمق بالقدر مع أنه كل ما قاله يرده العقل البشري – وكل من يزعم أن هناك تناقضاً وتعارضاً بين أمر الله ونهيه وبين خلقه وقدره فهذا من سفاهته وقصر عقله وحماقته – فاليد الحكمة أن تُغلظ ديتها حتى لا يتعاون الناس في قطع أعضاء بعضهم البعض، والحكمة تقتضي أن تخفف نصاب السرقة لأننا إذا غلظناه وجعلناه كالدية خمسمائة دينار (80.000 درهم إماراتي تقريباً على أقل تقدير) أي لا تقطع اليد في السرقة إلا إذا سرق (80.000 درهم فما فوق) لفتحنا باب السرقة على مصراعيه، لكن الشارع خفف نصاب السرقة فجعله ربع دينار حتى يصون الأموال ولا يتساهل الناس في السرقة، وغلظ دية قطع اليد خطأ لا عمداً حتى لا يتساهل الناس في قطع أطرافهم، فأين السفاهة ما معري؟!! إن كلامك سفاهة يا سفيه، وإذا كنت تتقن الشعر ألا يوجد عندنا من يتقنه – كما حصل مع الزمخشري، وتقدم – يقول علم الدين السخاوي في الرد عليه (على أبيات المعري يد بخمس....)
عز الأمانة أغلاها، وأرخصها ... ذل الخيانة فافهم حكمة الباري
أي عندما كانت أمينة جعلناها ديتها ثمينة عالية، ولما صارت خائنة صارت اليد رخيصة، لما كانت أمينة كانت ثمينة فلما خانت هانت، وقال الشيخ عبد الوهاب المالكي عليه رحمة الله، في الرد عليه:
صيانة العضو أغلاها وأرخصها ... صيانة المال فافهم حكمة الباري
وهذه هي عين الحكمة التي يجب أن يقولها العقلاء لو فرضنا عدم نزول شريعة بذلك، حفاظاً على المال وعلى أعضاء الناس وأطرافهم، فكيف به وقد وردت به شريعة أحكم الحاكمين؟!.(7/475)
.. وإننا نقول للمعري، لإبليس أولاً أنت تعترف بأن الله ربك فتقول يا رب، فإذن هو خالقك فكيف تخالف خالقك، أي هل هو أعطاك الحكمة وبقي هو بدون حكمة؟!! سبحان الله، ثم نقول للمعري أيضاً من خلقك سيقول الله، فتقول له الذي خلقك أعطاك الحكمة ورضي لنفسه بالسفاهة؟!! فأنت بما أنك سلمت بأنه خلقك يجب أن تقر وتسلم بحكمة الله وأن لا تتوهم أو تقول إن هناك مخالفة ومصادمة بين شرع الله وقدرته، فهذا حال من تعمق بالقدر وصل إلى حد الزندقة وكذلك المخذول الآخر أحمد بن يحيى الراوندي الذي هلك سنة 298 هـ وذكره ابن حجر في اللسان ليلعنه، فعليه وعلى أمثاله لعنات رب العالمين وهكذا إمامهم الأول الشيطان الرجيم هؤلاء كلهم يعترضون على أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين، ولذلك كان المعري يقول: ما هجوت أحداً بشعري، فقال له بعض المعاصرين: صدقت إلا الله ورسوله. أي ما هجوت أحداً من البشر لكنك هجوت رب العالمين وخير المرسلين، فشعرك كله تسفيه لكلام الله جل وعلا ولحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول:
إذا رجع الحليم إلى حجاه ... تهاون بالشرائع وازدراها
فهل هذا هو الحليم الحكيم؟!!! يرجع إلى عقله فيستهزئ بشرع ربه، سبحان الله، وقد تقدم معنا أن شريعة الله لعقولنا كالشمس لأعيننا، فكيف أنت تريد أن تستقل بتدبير نفسك؟!!!
إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأول ما يقضى عليه اجتهاده
يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث فأصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.(7/476)
2) إذا سلم من هذه الطريقة (الزندقة) فسيسلك الطريقة الشركية الجبرية: حيث يقول كل ما نفعله أحبه الله ورضيه، (لو شاء الله ما أشركنا) فلما تعمق في القدر دون أسس شرعية أدَّاهُ أمره إلى أن يقول كل شيء بقضاء وقدر، وهذا صحيح لكن رتب عليه محذور فقال: كل ما قضاه الله يحبه وعليه فنحن نطيع الله ونحن وإن خالفنا أمره إلا أننا قد وافقنا إرادته، والموافق لإرادته مطيع، وقد تقدم معنا أن الطاعة هي موافقة الأمر الديني لا الأمر الكوني القدري.
3) وإذا سلم من هذه والتي قبلها فسيقع في الطريقة المجوسية، فيقول: الله أمر ونهى وشرع وحكم لكنه لم يخلق ولم يقدر، فأداه تعمقه في القدر إلى نفي القدر، لأنه على زعمه لو أثبت القدر لكان الله ظالماً!! فلينزه الله عن الظلم قال لم يقدر عليه شيئاً ولم يخلق شيئاً بل العبد هو الذي يقدر ويخلق.
فانظر للضلالات التي ستعتري من يتعمق في القدر دون أسس علمية شرعية، فابحث في قدر الله على حسب ما تلكمنا وضع أمامك كتاب الله وسنة نبينا عليه الصلاة والسلام وحذار أن تخرج عنهما، فإذا كان عندك بحث شرعي فتقرره ثم تقف عند هذا، وأما إذا ما أردت، أن تبحث في هذا المبحث على حسب مقتضيات العقول فستخذل وتضل كما ضل من قبلك.
الثاني: جميع الأمور بتقدير العزيز الغفور:
فكل ما يقع من إيمان وكفر وخير وشر وطاعة ومعصية سبق به تقدير الله، ولا يقع شيء إلا حسب قدر الله وعلى حسب ما سطر في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق مخلوق أو يوجد موجود.(7/477)
ثبت في صحيح مسلم وموطأ الإمام مالك عن طاووس –، قال: [إن كنت أدركت ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا يقولون كل شيء بقدر، وسمعت ابن عمر يقول سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "كل شيء بقدر حتى العجز والكَيْس] أي حتى الحماقة والذكاء أي كل ما يقع بتقدير الله فهذا مما تواتر عن الصحابة وثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذا الأمر ورد فيه الحديث أشار ربنا إليه في آخر سورة القمر قال (إنا كل شيء خلقناه بقدر) ، ثبت في صحيح مسلم وسنن الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [جاء المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجادلوه في القدر (1) فأنزل الله إنا كل شيء خلقناه بقدر وما أمرنا إلا واحدة كلمح البصر] ، إذن كل ما يحصل من طاعة ومعصية فهو بقدر الله لكنه يثاب على الطاعة ويعاقب على المعصية.
3) الثالث: مبحث القدر الذي بحثناه يدعونا إلى أن يعظم الخوف في قلوبنا مما سبق به تقدير ربنا لنا، ولذلك قال أئمتنا المؤمنون يخافون سوء الخاتمة، والصديقون يخافون سوء السابقة، ولا يكون سوء الخاتمة إلا على حسب سوء السابقة، فأولئك (المؤمنون) يتعلقون بحالتهم فقط فيخشون من سوء الخاتمة لكن هؤلاء (الصديقون) عندهم خوف أعظم من خوف سوء الخاتمة وهو سوء السابقة، أي ماذا كتب لهم في الأزل من أهل النار أو من أهل الجنة؟.
... والسعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه، وأنت لما كنت في ظلمات ثلاث كتب رزقك وأجلك وشقي أم سعيد، لكن ليس في هذا إجبار ولا إكراه، كما تقدم.
__________
(1) وقد كان المشركون يقولون لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا.(7/478)
.. لكن تطيش عقول الصديقين نحو السابقة التي قدرها رب العالمين والسابق مجهول، ولذلك ينبغي عليك أن لا تسترسل في الفساد وتقول هذا قدر علي لا ينبغي هذا منك فإذا كنت كيساً عاقلاً فإنك تأخذ الأهبة والحذر وتخاف ومن خاف هرب من سخط الله إلى رضوانه ولجأ إليه بالدعاء والتضرع وأن يحسن خاتمته، فمن خاف هرب ومن رجا طلب وإذا رجوت ولم تطلب فأنت متمنٍ أحمق، وإذا خفت ولم تهرب فأنت كذاب أحمق، ولذلك كان الصالحون يقولون: عجبنا للجنة نام طالبها وعجبنا للنار نام هاربها.
لكن ضربت الغفلة على قلوبنا ونسأل الله أن يحسن خاتمتنا إخوتي الكرام ... الإنسان إذا أراد أن يحصل شيئاً تراه يطلبه ويسعى وراءه فمن أراد بناء بيت لم يجلس بل سعى في تحصيل مواده وأمواله وما شكل كل هذا وكذا من يريد الزواج، فكيف ينبغي أن يكون حال طالب الجنة؟ لابد من السعي إليها والهرب من النار.
... ولذلك قال الله عن أهل الجنة (إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم) (كانوا قليلاً من الليل يهجعون) فإذن ينبغي الخوف مما سبق، التقدير والخوف يدعوان إلى الابتعاد عن سخط الله وملازمة طاعة الله.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء بهذه الجملة المباركة [يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك] ثبت ذلك في سنن الترمذي وابن ماجه ومستدرك الحاكم، والحديث رواه ابن أبي عاصم في السنة، والآجري في الشريعة وسنده صحيح كالشمس عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [كان يكثر أن يقول يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، فقلنا: يا رسول الله آمنا بك وصدقناك فهل تخاف علينا فقال: إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبهما كيف يشاء] .(7/479)
والحديث روي من رواية أمنا أم سلمة وعبد الله بن عمرو بن العاص والنواس ابن سموان رضي الله عنهم أجمعين بألفاظ متقاربة في بعضها [اللهم ثبت قلوبنا ثبت قلوبنا على دينك] وفي بعضها [اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك] هذه ألفاظ للحديث كلها ثابتة.
وثبت في معجم الطبراني الأوسط بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه والحديث في مجمع الزائد (10/176) أن الرسول صلى الله عليه وسلم [كان يدعو بقول: يا ولي الإسلام وأهله (1) ثبتني حتى ألقاك] .
4- الرابع: مبحث القدر يدعونا إلى أمر عظيم في حياتنا ينبغي أن نتصف به إذا آمنا بقدر ربنا وهذا الأمر هو: أن نكون أقوياء وأن نتوكل على رب الأرض والسماء لأن ما قُدر له، فعلام الوهن والضعف والجبن وعلام التواضع والاستكانة للمخلوق مع أن ما قدر لك كائن وسيأتيك ورزقك لا يأكله غيرك وحياتك لا تصرف إلى غيرك فلا ينبغي التذلل لغير الله (قل لن يصيبنا إلا ما كبت الله لنا)
ولذلك المؤمن هو أقوى أهل الأرض وإن كان فرداً ولو أن أهل الأرض قاطبة أجمعوا على حربه وعلى معاداته لقابلهم بنفسه لأنه واثق بأن الله إذا قدر له النصر سينتصر وإذا لم يقدر له النصر فلو كان معه أهل الأرض سينكسر ولذلك يقول الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم – وهذا شامل لكل مؤمن – (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك) لم يوجد أحد معك قاتلهم بنفسك وكذلك المؤمن نتيجة لذلك لا يتذلل ولا يتضع لغير ربه، وقد صان الله جبهة المؤمن من الذل إلا له فيسجد له ويعظمه، سجد الفاني للإله القوي الباقي فهذا هو الذل الذي هو عز، لكن الذل الحقيقي والإهانة عندما يسجد الفاني للفاني.
__________
(1) أي: يا ولي الإسلام والمسلمين.(7/480)
جاء رجل من البادية وكان قد زاد عمره على (160) سنة إلى معاوية رضي الله عنه فسأله معاوية عن عمره وعما رآه في حياته فقال الأعرابي: سنوات مختلفة خصب وجدب يولد مولود ويموت موجود، لولا الموت لضاقت الدنيا بمن فيها ولولا الولادة لهلك أهل الأرض، فقال معاوية سل حاجتك، فقال: لا حاجة لي إليك، فقال: لابد، قال، إن كان ولابد فأريد أن ترد إليّ ما مضى من عمري، فقال: لا أملك ذلك أيها الرجل، قال: ادفع عني أجلي إذا حضرني، فقال: لا أملك ذلك، فقال الأعرابي: فكيف أسألك وأنت لا تملك شيئاً.
ولذلك السؤال لغير الله ذل، ولذلك إذا احتاج الإنسان إلى طعام بحيث إذا لم يأكل مات يباح له السؤال لكن الأولى أن يصبر حتى يموت جوعاً وسؤال المخلوقين فيه:
1) ظلم لله واعتداد على حقه والله يحب أن يُسأل والسؤال نوع من العبادة، فلما صرفت السؤال منه إلى غيره فهذا فيه اعتداء وظلم.
2) ظلم للمسئول لأن المخلوق أبغض الخلق إليه من يسأله وأحب الخلق إليه من لم يسأله والأمر مع الله على العكس أحب الخلق إلى الله من يسأله وأبغضهم من لم يسأله [ومن لم يسأل الله غضب عليه] كما ورد في الحديث.
3) فيه ظلم لك لأنك امتهنت نفسك وأذللتها عندما تذللت لمخلوق مثلك.
فالأولى أن تصبر وأن تموت جوعاً وأن لا تقول أعطني رغيفاً من خبز، أو حفنة من تمر وحقيقة هذه هي عزة المؤمن.(7/481)
.. ثبت في سنن ابن ماجه ومستدرك الحاكم وصحيح ابن حبان من حديث جابر بن عبد الله، والحديث رواه الحاكم والبيهقي في شعب الإيمان من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [إن روح القُدُس نفث في رُعي (1) أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها وأجلها فاتقوا الله وأَجمِلوا في الطلب] أي ترفقوا بأنفسكم في طلب الرزق فلا داعي للحرص ولا للحماقة ولا للتعب ولا للنصب ولا نقول اجلس في بيتك فأنت مطالب بالسعي لكن ليس بالركض قال تعالى (فامشوا في مناكبها) ولم يقل اركضوا في مناكبها وأسرعوا، بل امشوا ببطء وتؤدة وسكينة، والله لو قدر عليك الغنى لو قلبت الحجر لوجدت تحته ذهباً ولو قدر عليك الفقر، لو أعطيت الذهب لضاع منك.
... ولذلك قال أئمتنا:
كم من قويٍ قويٌ في تقلبه ... مهذب الرأي عنه الرزق ينحرفُ (2)
وكم من ضعيفٍ ضعيفٌ في تقلبه ... كأنه من خليج البحر يغترفُ (3)
هذا دليل على أنه الإله له ... في الخلق سر خفي ليس ينكشفُ (4)
وحقيقة هذا موجود بيننا ترى الذي شكله قوي وألمعي لكنه لا يحصل من المال والرزق شيئاً وآخر تراه هزيلاً بليداً لكنه يحصل من الرزق والخير الشيء الكثير.
رحمة الله على الإمام الشافعي عندما يقول:
تجوع الأسد في الغابات جوعاً ... ولحم الضأن تأكله الذئاب
وكم عبدٍ ينام على حرير ... وذو نسب مفارشه التراب
وكان يقول مخبراً عن نفسه عليه رحمة الله:
علىَّ ثياب لو تقاس جميعها ... بفلس لكان الفلس منهن أكثر
__________
(1) الرّوع بفتح الراء الخوف قال تعالى (فلما ذهب عن إبراهيم الروع) ، وبضمها القلب، أي أوحى إلى جبريل وألقى في قلبي هذا.
(2)) قوي في تقلبه: أي قوي البدن سديد الرأي ذكي لكن الرزق عنه مصروف فلا يحصل قوته إلا بتعب.
(3) أي كأنه يغترف من الأموال كما لو كان يغترف من البحر، لكن لو نظرت إليه لقلت هذا لن يحصل تمرة على حسب جهده وعمله.
(4) أي لا أحد يكشف سر الله وهو القدر (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) .(7/482)
وفيهن نفس لو تقاس ببعضها ... نفوس الورى كانت أعز وأكبر
وما ضر نصل السيف إخلاق (1) غمده ... إذا كان عضباً حيثما وجهته فرا
وهذا يدعوك إلى أن تربط قلبك بربك ولا داعي للحماقة أو التعب ما قدر لك سيأتيك كله بعز وبطاعة وإياك أن تطلبه بذل والله الذي لا إله إلا هو لو أن السارق ما سرق لجاءه المسروق من طريق حلال، والله الذي لا إله إلا هو لو صبر القاتل عن مقتوله لحظة لمات دون أن يقتله:
وميت بعمره من يقتل ... وغير هذا باطل لا ينقل
فعمر المقتول انتهى سواء قتلته أم لا لكنك تحاسب لأنك باشرت القتل.
__________
(1) أي ما الذي يضر السيف البتار إذا كان غمده خلقاً بالياً.(7/483)
كان بعض شيوخنا الشيخ جمعة أبو زلام توفي عليه رحمة الله يحكي لنا قصة عن بعض طلبة العلم من الصالحين تأخرت نفقته واشتد جوعه فخرج في الشوارع لعله يجد كسرة خبز أو أي شيء يأكله فرأى بيتاً مفتوحاً فتأمله فإذا ليس به أحد – لكنه مسكون – ووجد خزانة للطعام تسمى عندنا في بلاد الشام (شعرية، غلية) فلما رآها فقال الميتة تحل للمضطر وكذلك المسروق يحل لي ففتحها فإذا بها طعام يسمى المحشي فأخذ واحدة فلما أراد أن يأكلها استحضر أن هذا لا يصح له لأنه لم يبلغ درجة الاضطرار وخوف الموت فطرح المحشي من يده وخرج فلما ذهب إلى الشيخ من أجل حلقة العلم قال له الشيخ أين كنت؟ فقال كنت في حاجة (ولم يخبره حياءً منه) فقال له: اجلس، هل لك رغبة في الزواج فقال له يا شيخ أنا جائع لا أستطيع إطعام نفسي وتريد أن تزوجني، فقال له الشيخ تُكفى كل شيء السكن والطعام، فقال، ومن يزوجني؟ فقال: هذه المرأة وكان زوجها قد توفى وتبحث عن زوج لابنتها منه وهي تطلب طالب علم ليتزوج ابنتها ويجلس معها، فقال: على بركة الله فعقد له الشيخ في ذلك المجلس ثم في المساء أخذه إلى بيت الزواج وإذا هو البيت الذي فيه المحشي في تلك الشعرية فلما دخل إلى البيت بدأ يبكي فظنت المرأة أن الرجل قد غير رأيه، فقالت له: علام تبكي؟، فقال: ما أبكي من أجل عدم استحساني لابنتك، إنما أبكي لأنه حصل معي كذا وكذا وأخبرهم بقصته ولولا أن الموقف يستدعي الإخبار لما أخبرتكم هكذا قال هذا الصالح، فتركها عن طريق الحرام فجاءت عن طريق الحلال.(7/484)
وهذا تحقيق كلام النبي صلى الله عليه وسلم [إن روح القدس نفث في رُوْعي أنه ليس من نفس تموت (نكرة في سياق نفي دخلت من نص في العموم لا يخرج عن هذا مخلوق) حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجلوا في الطلب] اطلبوا لكن بطريق تتجلمون وتتزينون ولا تذلون ولا تمتهنون، أناس في هذه الأيام كأنه ركز فيهم أنهم إن عصوا الله يرزقون وإذا أطاعوه فترى من يعمل بالبنك عن عمله يقول إني إذا تركت فمن أين أعيش؟!! سبحان الله، ولذلك كان المؤمن أقوى خلق الله، لأنه يتوكل على الله والتوكل ثقة القلب بالرب ولذلك لا يجبن المؤمن عند ملاقاة الأعداء لإيمانه بالقدر وخالد بن الوليد رضي الله عنه حضر ما يزيد على 80 معركة وفتحاً ولما حضرته الوفاة قال: "ما في بدني موضع شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة رمح وها أنا أموت على فراشي كما يموت البعير فلا نامت أعين الجبناء" ولذلك حقيقة المؤمن يحرص على الموت أكثر مما يحرص أعداء الله على الحياة فخالد رضي الله عنه رغم هذا العدد من المعارك ورغم هذه الضربات والطعنات إلا أنه لم يخف لأنه يعلم أن ما قدر له سيأتيه أينما كان ولذلك قال الله جل وعلا (يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم) أي لو قدر أن الذين قتلوا في المعركة لم يخرجوا لأصابهم الموت في فروشهم في تلك الساعة، لذلك إخوتي الكرام ... كان للقدر شأن عند المسلمين رفع من معنوياتهم وأعزهم وجعلهم سادة في الدنيا قبل الآخرة.
5 - الخامس: لا يعني إيماننا بقدر ربنا أن تتواكل وأن نغفل الأسباب وأن نتركها فالمؤمن الموحد يقوم بالأسباب ويدفع بعضها ببعض ويربط قلبه بمسببها وخالقها وموجدها.(7/485)
ولذلك قال أئمتنا، وهذا الكلام انقشوه في صدوركم: "الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد (1) وإنكار الأسباب أن تكون أسباباً قدح في الشرع والحكمة (2) ، والإعراض عن الأسباب قدح في العقل (3) وتنزيل الأسباب منازلها ومرافقة بعضها ببعض (4) محض العبودية لرب البرية".
إذن أربعة أحوال: قال الله لمريم (وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً) فلابد من سبب (هزي) لكن الذي سخر سقوط التمر هو الله، فهي ضعيفة (نفساء ثم هل هزها سيحرك النخلة؟!، لكن هذا هو بذل السبب وهذا هو جهدها، ولذلك قال بعض الظرفاء الأكياس:
ألم تر أن الله قال لمريم ... فهزي الجذع يساقط الرطب
ولو شاء أدنى الجذع من غير هزها ... إليها ولكن كل شيء له سبب
__________
(1) أي تلتفت إلى السبب وتجعله الموجد والخالق والرازق أي لولا هذا السبب لما حصل لك هذا الأمر فهذا شرك فلا يجوز أن تقوله لولا الباب الذي على بيته لدخل اللصوص وأخذوا متاعي، لكن قل: لولا أن الله قدر لي أن أجعل الباب لدخل اللصوص، لا حرج في مثل هذا القول.
(2) أي بأن يقول: ما قدر لي سيأتيني وأنا سأجلس على فراشي، والسبب لا قيمة له وأنا أنكر هذا، فهذا عاص ٍ لأنه مأمور بالسعي (فامشوا في مناكبها) .
(3) أي يثبت أن للأسباب أثراً لكنه يعرض عنه ويقول أنا متوكل على الله.
(4) أي هذا أخذه بالأسباب ودافع بعضها ببعض، فدفع الذنب بالتوبة، والجوع بالأكل وهكذا ...(7/486)
قال الشيخ عبد القادر الجيلاني عليه رحمة الله: "كان الناس إذا وصلوا إلى مبحث القدر وفقوا وأما أنا ففتحت لي رَوّزنة (فتحة) " فنازعت أقدار الحق بالحق للحق (1) ، والمؤمن من ينازع القدر بالقدر، لا من يستسلم للقدر (2) " وحقيقة هذا هو محض العبودية، وقد شرح هذا الكلام ابن القيم في المدارج (1/199) والإمام ابن تيمية في الفتاوى (8/547) ، وهذا الكلام أجمل ما قاله الشيخ عبد القادر رحمه الله.
... إذن لابد من الأخذ بالأسباب والعمل للوصول إلى المراد، وليس التوكل أن يعرض الإنسان عن السبب فهذا تواكل، فالتوكل هو ثقة القلب بالرب ثم يبذل ما في وسعه نحو هذه الأسباب ضمن استطاعته كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم [فاتقوا الله وأجملوا في الطلب] ، ولو توكلنا على الله حق التوكل لرزقنا كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً وانتبه إلى تعبير الرسول صلى الله عليه وسلم فأثبت لها سعيها (تغدو) و (تروح) أي تعود في المساء والعشى شبعى، فهذا هو حالها وهذا هو تقدير الله لرزقها، ولذلك قال عمر لرجل جلس يدعو يقول اللهم ارزقني، فقال له: ويحك إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة وكذلك لو جلس شخص في خلوته يدعو يقول اللهم انصرنا وهو جالس فهذا تواكل بل لابد من الجهاد والإعداد وأخذ الأسباب ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج للجهاد مع أن دعاءه يكفي لأنه لو دعى الله أن ينصره دون حرب لنصره جل وعلا، إذن لابد من عمل الأسباب (فامشوا في مناكبها) وإذا عملنا فلا نختال ولا نعجب ولا نغتر (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً) .
اقنع بما ترزق يا ذا الفتى ... فليس ينسى ربنا نملهْ (3)
__________
(1) أي قاومت أقدار الحق بإقدار الحق طلباً للحق ولرضوان الله وللتقرب له.
(2) لا من استسلم فهو متواكل.
(3) (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) .(7/487)
إن أقبل الدهر فقم قائماً (1) ... وإن تولى مدبراً نم له (2)
6- السادس: كلام للشيخ عبد القادر الجيلاني يرحمه الله يلخص لنا فيه دين ربنا:
يقول: دين الله جل وعلا يقوم على ثلاثة أمور:
1) أمر يجب أن نقوم به. ... 2) نهي يجب أن نجتنبه. ... 3) قدر يجب أن نرضى به.
فهذه ثلاث حالات، وهذا الكلام للشيخ عبد القادر شرحه الإمام ابن تيمية في الفتاوى (10/455-550) ، يقول الإمام ابن تيمية: جمع الشيخ عليه رحمة الله في هذه الجملة الدين بأكمله ولا يخرج شيء من دين الإسلام عن هذه الأمور الثلاثة، والعلم عند الله.
س: ما العلاقة بين القدر والدعاء؟
جـ: الدعاء سبب، وهذا السبب مقدر وهو كالأسباب المعروفة، فالله قد يقدر بلاءً ويجعل من أسباب رفع البلاء الدعاء فدفعنا القدر بالقدر ولذلك لا يرد البلاء إلا الدعاء ويعتلج الدعاء والبلاء في الفضاء فيغلب الدعاء فهذا مقدر وهذا مقدر لكن في النهاية لا يقع إلا ما قدره الله، وهذا السبب كوجود الزوجة سبب لوجود الولد لكن قد يوجد ولد ولا يوجد زوجة، كما يقول الشاعر:
فعليك بذر الحب لا قطف الجني ... والله للساعين خير ضمين
__________
(1) أي إن جاءتك الأسباب والأرزاق فقم وصرفها في مصارفها، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه تأتيه الأسباب والأرزاق، فقد كان يقلب الحجر فيجد تحته ذهباً من تيسير الله عليه أمور الرزق، ولما توفي صولحت إحدى نسائه الأربع عن ربع الثمن بـ80.000 درهم فكم يكون ماله رضي الله عنه؟!! مع أنه جاء مهاجراً لم يكن يملك شيئاً، وأول ما جاء إلى المدينة تزوج أنصارية على وزن نواة من ذهب 5 درهم، ثم انظر إلى الغنى والرزق كيف جاءه من كل جهة.
(2) أي إذا تولت عنك الأسباب وأعرضت فنم واسترح وفوض أمرك إلى الله.(7/488)
أي عليك أن تبذر لكن ليس عليك الجني لأنك قد تبذر ولا تجد ثمراً تجنيه، ولذلك ما من مسلم يدعو بدعاء ليس فيه إثم أو قطيعة رحم إلا عجل الله الإجابة، وإما أن يصرف عنه من السوء، وإما أن يعطيه من الخير بمقدار ما دعا لا عينه وإما أن تدخر له الإجابة ليوم القيامة، ولذلك ضمن الله له الإجابة في الوقت الذي يريد لا في الوقت الذي تريد، وضمن لك الإجابة كيفما يشاء لا كيفما تشاء، ولو كنت تضمن الإجابة في الوقت الذي تريد كما تريد لكنت إلهاً.
مبحث علو الرحمن وفوقيته على مخلوقاتهردوا آية ثانية ليقروا هذا الضلال وهي قوله تعالى في سورة الزخرف (وهو الذي في
هو أشرف مباحث علم التوحيد وأجلها وهو العَلَم الفارق بين أهل السنة وبين سائر فرق المبتدعة فالمؤمن السني الموحد يقول: الله فوق عرشه على سمواته بائن من خلقه، والمبتدع عندما تقول له أين الله؟، يقول لك كيف تقول أين؟ الله لا يُقال عنه أين، الله لا فوق ولا تحت ولا شمال ولا يمين ولا أمام ولا وراء ولا داخل العالم ولا خارجه، لا جوهر ولا عرض، قل له، يا مسكين هذا ليس حي قيوم بل هو إله معدوم، وهذا كمن يزعم أن في بيته نخلةٍ ثم تسأله عن أوصافها، فيقول لك لا أوصاف لها فقل له إذن هذه نخلة في ذهنك لذلك حقيقة قول المعطلة تقضي إلى أن الله عدم لذلك قال أئمتنا: المعطل يعبد عدماً والممثل يعبد صنماً وهذه المسألة سأقرر أدلتها المتنوعة وهي خمسة:
1) أدلة الكتاب. ... 2) السنة. ... 3) الإجماع الصحيح القطعي.
4) العقل الصريح. ... 5) الفطرة المستقيمة.
أولاً أدلة الكتاب:
دل على أن الله فوق عباده على عرشه سبحانه وتعالى، من أوجه كثيرة أحاول أن أوجزها وأن أجمعها في سبعة أوجه:(7/489)
الوجه الأول: تصريح آيات القرآن بأن ربنا الرحمن فوق عباده ومخلوقاته (فوق) قال الله جل وعلا: (يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) في حق الملائكة. وقال جل وعلا: (وهو القاهر فوق عباده) . وهذا الدليل في منتهى الظهور والوضوح، وهذه الفوقية شاملة لفوقية الذات ويلزم منها فوقية القَدْر المنزلة والرتبة والمكانة فذاته عالية فوقنا ومنزلته ورتبته أيضاً فوقاً فله الفوقية من جميع الاعتبارات.
... وقبل الانتقال إلى الدليل الثاني سأذكر تأويل المبتدعة للفوقية وندحضه إن شاء الله ثم نذهب إلى الوجه الثاني من أدلة القرآن، وقبل أن أذكر الوجوه دائماً إذا مررت على شبهة فندتها حتى لا نفرد الشبهة في مبحث مستقل.
تأويل لبعض المبتدعة حول هذا الوجه:
قالوا: المراد من الفوقية هنا الفوقية المعنوية، أي هو فوق عباده في الرتبة والمنزلة أي شأنه أعلى من شأنهم (يخافون ربهم من فوقهم) أي يخافون ربهم الذي هو أعلى منهم رتبة ومنزلة، كما تقول الملك فوق الوزير رتبة، وحقيقة قد يخدعون كثيراً من السذج والدهماء بهذه العبارات المعسولة.
ونجيب: لو صح ما قلتم لكان في هذا ذمٌ لربكم، إن قالوا: كيف؟ نقول: أنتم تقولون: إنه فوقهم في الرتبة فإذن عندنا فاضل ومفضول اشتركا في فضيلة فالمفضول هو المخلوق والفاضل هو الله جل وعلا، أي أنه يشترك مع عباده في الفضائل لكنه يزيد عليهم في الفضالة، كما لو قلت الدينار فوق الدرهم فإن بإمكانك أن تشتري بالدينار وبالدرهم، فهناك قدر يشتركان فيه – أي الدرهم والدينار – لذلك نقول لهم: أف لكم ولتأويلكم، فما المزايا التي اشترك فيها المخلوق مع الخالق حتى قلنا إن الخالق أفضل من المخلوق؟!! والله إن هذا ذمٌ للخالق من حيث لا يشعرون.(7/490)
ولو قال إنسان عندي سكين أَحدُ من الخشبة لاتهمناه بالخرف لأنه لا مفاضلة بينهما بل إن المفاضلة بينهما عين الذم. وهذا كما لو قال شخص الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل من اليهود وأبي جهل، فهذا ذم له صلى الله عليه وسلم لأنه لا فضيلة فيهم بل لا قيمة لهم حتى تفاضل بينهما، لكن لو قلت نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أفضل النبيين لكان كلامك وجيهاً وفي محله.
إذن فكيف ستفاضل بين الخالق والمخلوق وقد تقدم معنا أن أخص وصف في المخلوق الفقر وأخص وصف في الخالق الغنى فأين فضل الفقير حتى تفاضل بينه وبين الغنى؟!! وكيف ستسووا بينهما؟!! لكننا نقول (وهو القاهر فوق عباده) أي هو فوق عرشه على سمواته، فيدخل العلو الذاتي والمعنوي (المنزلة) لا علو المنزلة فقط كما يزعمون.
إذن فلا تُعقد المفاضلة إلا بين موصوفين يشتركان في فضائل ويزيد أحدهما على الآخر وإذا كانت المفاضلة بين السيف والعصا ذم للسيف فكيف بعقد مفاضلة بين الفاني والباقي.
ألم تر أن السيف ينقص قدره ... إذا قيل السيف أمضى من العصا
فإن قيل (اعتراض) : جاءت نصوص في التنزيل فيها تفضيل الخالق على المخلوق وهذا خلاف ما تقولونه قال الله تعالى في سورة يوسف مخبراً عن نبيه يوسف لما قال لصاحبه في السجن (أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) فهذا فيه عقد مفاضلة بين أوثان وبين الله، وقال تعالى (آلله (1) خير أما تشركون) .
... وهكذا قول السحرة في سورة طه (والله خير وأبقى) ، ففي هذه الآيات عقد مفاضلة فكيف تقولون لا تجوز المفاضلة بين الخالق والمخلوق؟
__________
(1) هذا مد كلمي مثقل، والتعبير صحيح عنه أن يقال مد فرق، ويمد ست حركات باتفاق القراء.(7/491)
.. والجواب: تفضيل الخالق على المخلوق ابتداءً يعتبر نقصاً لكن إذا كان الكلام خرج لمجادلة الخصم الذي يزعم أنه لآلهته شأن ومنزلة فلا حرج به حينئذ فنبي الله يوسف يريد أن يبين لهم زيف آلهتهم المتنوعة فلم يخرج الكلام منه قضية مبتدأة أنما هو جدال مع مشركين يرون لآلهتهم شأناً، أي أنتم تقولون أن للآلهة شأناً فلو سلمنا لكم بذلك فأي الشأنين أعظم شأن آلهتكم أم شأن الله؟ فسيقولون كلهم شأن الله، فتكون نتيجة النقاش اطرحوا آلهتكم ما دمتم تسلمون بأن الله شأنه أعظم.
... وهكذا (والله خير وأبقى) منك يا فرعون يا من تدعي أنك رب وأنك ملك مصر فالله خير منك وما عنده لا ينفذ وما عندك نافذ ونظير هذا قول الله تعالى في سورة النور (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون) أي خير لكم من الدخول بغير استئذان وخير لكم من تحية الجاهلية.
نقول: هل للدخول بغير استئذان والتحية بتحية أهل الجاهلية خيرية؟
لا، ولا خيرية لها، لكن لأنهم كانوا يرون في دخولهم بغير استئذان عزة والوقوف على الباب ذلة لهم، فكأن الله يخيرهم أنه لو كان في فعلكم خير فهناك خير منه وهو الاستئذان فافعلوه لأنه هو أخيرهما، وإن كان لم يثبت لفعلهم خيرية لكن هذا على سبيل المجادلة.
... ونظير هذا النوع من الجدال والخصام مجادلة إبراهيم عليه السلام للنمرود حين حاجه بعد أن ادعى أنه يحيي ويميت فحاجه بأمر آخر وكأنه من باب التسليم له وتنزلاً له فحاجه بقضية أخرى تسكته وهي أن يطلع الشمس من مغربها.
ولهذا إذا تجادلت مع مكابر فدع ما فيه نزاع وانتقل إلى ما لا نزاع فيه.
الوجه الثاني: إخبار الله جل وعلا في كتابه بصعود العمل الصالح إليه ورفع بعض المخلوقات إليه، ومن المعلوم أن الصعود والرفع يكون من أسفل إلى أعلى.(7/492)
.. قال الله جل وعلا في كتابه (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) وقال جل وعلا في حق عيسى عليه السلام (بل رفعه الله إليه) وقال جل وعلا (يا عيسى إني متوفيك (1) ورافعك إليّ) وهذا الرفع وهذا الصعود معلوم ضرورة في اللغة أنه من، أنزل إلى أعلى ومن أسفل إلى أعلى، والدلالة واضحة.
الوجه الثالث: تصريح الله في كتابه بأنه عليّ، قال تعالى في آية الكرسي: (وهو العلي العظيم) ، وهكذا قوله تعالى: (إن الله كان علياً كبيراً) وهناك آيات كثيرة تصف الله بالعلو وتسميته بأنه عليّ وهذا يفيد علو الذات وعلو الصفات وعلو المنزلة والقدر، ويقال فيه ما يقال في الفوقية، فهو فوقهم وهو عليّ عليهم , إذا ثبتت الفوقية والعلو فكيف تقولون يا مبتدعة لا يجوز أن نقول إنه فوقنا وأعلى منا؟!.
__________
(1) قيل بمعنى الوفاة الصغرى، أي منيمك وقد ألقى الله على نبيه عيسى النوم عندما أراد اليهود قتله ورفعه وهو نائم لئلا يفزع والنوم في حالة الحرب والخوف هذا سكينة من الله، (إذ يغشيكم النعاس أمنة..) فاعلم أنه متى ما نام المجاهد فقد نزلت عليه سكينة، وقيل: بمعنى الوفاة الكبرى (الموت) وعليه يكون في الآية تقديم وتأخير، والتقديم: إذ قال الله يا عيسى إني رافعك إلي ومتوفيك أي سأرفعك ثم سأنزلك لتتوفى في الأرض، ورفع نبي الله عيسى عليه السلام إلى السماء إلى الله جل وعلا ثابت في القرآن ومتواتر في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وأنه سيخرج في آخر الزمان وهو من أشراط الساعة الكبرى، وبلغت الأحاديث المتواترة في نزوله (70) حديثاً، وهذا الأمر يخالف فيه علماء الأزهر وينفوه فانتبهوا لهذا!! واشتروا كتاب (التصريح بما تواتر في نزول المسيح) للشيخ محمد أنور شاه الكشميري، يقارب 400 صفحة جمع فيه الأحاديث الصحيحة في هذا الباب.(7/493)
الوجه الرابع: تصريح الله جل وعلا في كتابه بتنزيل أشياء من عنده، قال جل وعلا: (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم) ، (تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم) ، (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) إلى غير ذلك من الآيات، والنزول ضد الصعود فهو هبوط من أعلى إلى أسفل، فالقرآن نزل من الرحمن أي هبط من أعلى إلينا، لذلك قال أئمتنا:
لفظ الإنزال للقرآن يدل على فوقية ذي الجلال والإكرام.
الوجه الخامس: إخبار الله جل وعلا عن الملائكة بأنهم عنده في جواره الكريم، والملائكة فوقنا وأعلى منا ومسكنها السموات المباركة، قال الله جل وعلا في آخر آية من سورة الأعراف: ( ... إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون) ، وفي سورة حم السجدة (فصلت) آية 38 (فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسئمون) وهكذا في سورة الأنبياء (وله من في السموات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستسحرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون) وهكذا في سورة الزخرف (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً ... ) هذه قراءة، وقرأ المدنيان نافع وشيخه يزيد بن القعقاع وابن عامر وابن كثير قارئ مكة ويعقوب قارئ البصرة: (وجعلوا الملائكة هم عند الرحمن) وكلا القراءتين متواترتان، فهم عباده وهم عنده.
... وهذه العندية تحدد لنا أين رب البرية، فالملائكة في السموات العلى والله هو العلي الأعلى ولو كانت هذه العندية الثابتة لهم عنديتنا لما كان لهم ميزة علينا ولما كان لتخصيصهم بالعندية فائدة، بل لهم مزيد من قرب إلى الرب جل وعلا.(7/494)
الوجه السادس: تصريح الله جل وعلا بأنه في السموات في آيات كثيرة متواترة غراء: (أأمنتم من في السماء (1)) .
... علماء الكلام أصحاب الثرثرة والهذيان أكثروا اللغظ والشغب والخصام حول هذا الدليل من القرآن فقالوا: الآية لا تدل على علو الله وفوقيته، لأنه ليس المراد من كون الله في السماء وذاته في العلو بل المراد سلطانه وقهره.
... وهذا التأويل أبرد من الثلج كتأويل الضالين السابقين في الفوقية، لأنه إن كان هو السلطان في السماء فمن إذن السلطان في الأرض؟!!.
... السلطان هو الله في السماء والأرض لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه، لذلك يقول الله جل وعلا (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان) أي بسلطان منه وتمكين وقوة وقدرة إذا أمدكم بذلك فيمكنكم لكن هو جعلكم ضعفاء وعاجزين لا يخرج أحد منكم من سلطانه سبحانه وتعالى.
__________
(1) كلمة (السماء) تحتمل معنيين على كل احتمال يتضح لنا معنى في، فقيل: المراد من السماء العلو المطلق، فكل ما علاك فهو سماك وليس المراد السموات الاصطلاحية، فتكون (في) ظرفية على حقيقتها، أي أأمنتم من في العلو، إذن فكل ما علاك فهو سماك قال تعالى (من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ) فالمراد بالسماء هنا سقف البيت أي من كان يظن أن الله لن ينصر رسوله صلى الله عليه وسلم وأن الله لن يعلي شأنه فسيعلي شأنه وإذا انغاظ هذا فليمدد حبلاً إلى السقف ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ، وهذا من أساليب اللغة.، وقيل: المراد من السماء الأجرام السمواية المعروفة وهي السبعة ويكون معنى (في) : علا، أي أأمنتم من على السماء أي من فوق السموات لأن الله ليس بداخل السموات، وهذا كقوله تعالى (فسيحوا في الأرض) ، وقوله (لأصلبنكم في جذوع النخل) أي على جذوع النخل، حروف الجر تتناوب كما قال أئمتنا.(7/495)
.. ومما يقرر هذا أن العاتي فرعون عليه لعنة الله قال لقومه عندما أراد أن يلبس على قومه: (يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى) فهذا يفيد أن نبي الله موسى أخبر قومه ومنهم فرعون بأن الله في العلو على السموات فوق العرش فاستغل فرعون هذه الدعوى فطلب من هامان أن يبني له بناءً عالياً لينظر إلى إله موسى الذي هو في السماء.
ولو كان كلام فرعون باطلاً لرد عليه موسى عليه السلام بأن الله ليس في السماء وفرعون يكذب وهذه القصة التي جرت من فرعون جرت من بعض المشايخ المصريين وقد أفضى لما قدم إذ أنه لما تناقل الناس خبر الصعود إلى القمر فسُأل هل الصعود للقمر ممكن أم لا؟ فقال لهم: أخبركم بالجواب غداً. ففي اليوم التالي امتلأ جامع الأزهر بالناس وجلس الشيخ وقال: هؤلاء كذابون دجالون لأني بقيت البارحة أنظر إلى القمر فلم أر شيئاً!!.
... ولا أعلم جوابه هذا كان من باب البله والغفلة أم هو من باب العتو كفرعون إذ كيف سيرى القمر وهو في الأرض؟! كيف سيراه بعينه المجردة؟ فالأفضل لو أنه سكت عن الجواب ولم يجب بهذا.
ولذلك قال أئمتنا: من نفى علو الله فهو فرعوني، ومن أقر بعلو الله فهو موسوي (1) محمدي بعد أن قالوا إن المراد بمن في السماء أي بمن في السماء سلطانه قالوا: توجد آيات تعكر على قولكم تدل على أن الله في السموات وفي الأرض كقوله تعالى في سورة الأنعام: (وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون) ، فلماذا تقولون إنه فوق عرشه على سمواته وهذه الآية ترد عليكم؟.
نقول: من سوء فهمكن أتيتم وجعلتم الآيات تتضارب ويرد بعضها بعضاً فهذه الآية تحتمل ثلاث معان ٍ كلها صحيحة:
__________
(1) أي من أتباع نبي الله موسى الذي أخبرنا بأن الله فوقنا.(7/496)
المعنى الأول: عليه جمهور السلف أن الوقف لازم على لفظ (السموات) فيكون معنى (في) أي ظرفية أي في العلو المطلق، والأرض متعلقة بيعلم أي ويعلم سركم وجهركم وما تكسبون في الأرض، أي مع علوه لا تخفى عليه خافيه من أمركم، وانظر هذا المعنى الذي نقل عن جمهور السلف تدل عليه آية الاستواء في سورة الحديد (هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير) فهذه الآية كآية سورة الأنعام حث أخبرنا بأنه فوق السموات على العرش ومع ذلك يعلم ما يلج في الأرض، وهذا الوجه هو أرجح الوجوه وأقواها.
المعنى الثاني: (في السموات وفي الأرض) متعلق بيعلم، والآية لم تسق لبيان أين الله بل لبيان إحاطة الله وعلمه بكل شيء، والتقدير: وهو الله يعلم سركم وجهركم أينما كنتم في السموات أو في الأرض فهو يعلم ما تكسبون ولهذا قال أئمتنا هذا وقف حسن على لفظ الجلالة (وهو الله) ثم تستأنف كلاماً آخر يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض ... ، وانظروا هذا في كتاب منار الهدى في الوقف والابتداء للإمام الأشموني، يقول: الوقف على لفظ الجلالة، ويتم المعنى بذلك.
المعنى الثالث: الآية لم تسق لبيان أين الله ولا لبيان إحاطة علمه بكل شيء، إنما سيقت لبيان أنه هو الإله الحق المعبود الذي يجب على أهل السموات وأهل الأرض أن يألهوه ويعبدوه ولا يشركون به شيئاً فالإله هو المألوه أي المعبود، والتقدير: وهو المعبود في السموات وفي الأرض....فأين الفهم الذي فهمتموه؟!! وهذه المعاني الثلاثة أمامكم ليس في واحدة منها أن الله موجود في الأرض كما تزعمون وأو السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم) يقولون: إذن فهو موجود في السماء والأرض وليس في السماء كما تقولون.(7/497)
والجواب: هذه الآية معناها كالمعنى الثالث لآية سورة الأنعام، أي وهو المعبود في السماء وفي الأرض وهو إله من في السماء وإله من في الأرض وهو المألوه في السماء وهو المألوه في الأرض، فلا إله إلا هو.
... ونحن نقول لهم أيضاً إن كان في الأرض فعلام يصعد الكلم الطيب إليه وعلام يعرج إليه أشياء ويرفع أشياء؟!! ولو كان الله في الأرض فلماذا عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى ما فوق السماء السابعة؟!!.
الوجه السابع: تصريح الله في كتابه بأنه استوى على عرشه في سبع آيات من كتابه ضمن سبع سور:
1) آية سورة الأعراف آية 54: (إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يُغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) .
2) آية سورة يونس: آية رقم 3.
3) آية سورة الرعد: آية رقم 2.
4) آية سورة طه: آية رقم 5.
5) آية سورة الفرقان: آية رقم 59.
6) آية سورة السجدة: آية رقم 17.
7) آية سورة الحديد: آية رقم 4.
والمفسرون بحثوا مسألة الاستواء عند أول آية وهي آية سورة الأعراف إلا شيخنا المبارك الشيخ محمد الأمين الشنقيطي فإنه تكلم على الاستواء في الآية الثالثة من سورة يونس (الموضع الثاني) في أضواء البيان.
والاستواء معناه في اللغة: يأتي لأربعة معان ٍ: استقر، وارتفع، وعلا، وصعد، وقد ثبت في صحيح البخاري عن مجاهد أنه قال (الرحمن على العرش استوى) قال: علا، انظر صحيح البخاري في كتاب التوحيد (13/403- مع الفتح) وفيه أيضاً – أي في صحيح البخاري – قال أبو العالية: (الرحمن على العرش استوى) : ارتفع، وقد ورد هذا في التفسير الثاني في معالم التنزيل للبغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما.(7/498)
هذا تفسير الاستواء في اللغة فله العلو والارتفاع والفوقية على سائر مخلوقاته، وهذا الدليل والواضح (سبع آياتٍ) جاء المؤولة وتلاعبوا فيه وقالوا: استوى أي: استولى وقال فريق منهم: كناية عن الهيمنة والسيطرة وتدبير الملك. هذا تفسير باطل قطعاً وجزماً لغةً ومعنىً.
أما اللغة فلا تشهد لهذا قطعاً، أي تفسير استوى باستولي لا يعرفه علماء اللغة كما قال الأزهري في تهذيب اللغة وابن الأعرابي وهو من أئمة اللغة. وقد أبطل الإمام ابن القيم تفسير استوى باستولي باثنين وأربعين وجهاً في كتابه الصواعق المرسلة في الرد على الجهنمية والمعطلة، انظروا مختصر الصواعق (2/126-152) ، أما المعنى فهو معنىً باطل بل هو أبطل من بطلانه من ناحية اللغة لأن الاستواء أخذ الشيء بعد غلبة ومنازعة، فهل كان العرش في ملك أحد غير الله حتى نازعه الله فقهره حتى غلبه وانتصر عليه وأخذ العرش واستولى عليه؟!! لا، يقولون: هذا استيلاء بلا غلبة ولا منازعة، كما قال الأخطل:(7/499)
قد استوى بِشْرٌ (1) على العراق ... من غير سيف ودم مراق
فهو استوى على العراق من غير منازعة بالسيف أو بقتل وإراقة الدماء.
نقول: لا زلنا معكم، يعني هل كان في يد غيره ثم أخذه منه؟ يعني هل خرج العرش عن ملك الله طرفة عين حتى تقول إنه استولى عليه إذن فكلا جوابيكم باطل وقلتم استولي بغلبة ومنازعة أو بدون ذلك، ثم إنه لا يجوز الاستدلال بهذا البيت على تفسير استوى باستولى لأن هذا مخلوق والله ليس كمثله شيء، ولأن البصرة حقيقة لم تكن في أمرته ولا تحت ولايته بل عهد إليه أخوه عبد الملك بذلك فيصح أن نقول إنه استولى، لكن هل كان العرش كذلك؟ لا والله، فهو لم يخرج عن ملكه طرفة عين، ولذلك يقول الإمام ابن تيمية:
قبحاً لمن نبذ الكتاب وراءه ... وإذا استدل يقول قال الأخطل
ويقول الإمام ابن القيم:
__________
(1) هو بشر بن مروان، أخو عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي، وهو أول من ولي على البصرة في بلاد العراق، وامتدحه الأخطل الشاعر النصراني بهذا البيت، ومعناه: أن بِشْراً استولى على العراق بعهد من أخيه عبد الملك بن مروان دون مقاتلة وقتل وقطع رقاب وقال أئمتنا في ترجمة بِشْر: كان من الكرماء وكان لا يغلق بابه عن أحد من رعيته، ومن أقواله – ونعم ما قال -: وليس الأمراء في هذا الوقت يقتدون بهذه الحكمة التي أثرت عنه – يقول: "إنما يحتجب النساء فالأمير لا يحتجب" ولما احتضر يقول الحسن البصري ولما احتضر أدركته وكان على سريره فنزل وهو يتلوى على الأرض ثم نادى بأعلى صوته: يا ليتني كنت في البادية أرعى الماشية، فقيل هذا لأبي حازم فقال: الحمد لله الذي جعلهم عند الموت يفرون إلينا ولا نفر إليهم، والله لازال الله يرينا فيهم عبراً، فالعالم أو غيره لا يتمنى عند موته لو أنه كان أميراً، لكن الأمير يتمنى عند موته لو أنه لم يكن أميراُ بل كان راعياً أو غيره ولما يراه عند سكرات الموت، توفي سنة 74 هـ رحمه الله.(7/500)
ولهم في ذلك بيت قاله ... فيما يقال الأخطل النصراني
نون اليهود ولام جهميًّ هما ... في وحي رب العرش زائدتان
(نون اليهود) قال الله لهم قولوا حطة أي حُط َّ الذنوب عنا، فلم يقولوها وزادوا نوناُ فقالوا: حنطة أو حبة حنطة أو حنطة في شعرة استهزءوا بكلام الله جل وعلا، وهذا حال اليهود، فانظر كيف بدلوا كلام الرب المعبود.
والجهمية زادوا لاماً، فهى استوى فزادوها استولى، ومعنى (هما في وحي رب العرش زائدتان) أي لم ينزل رب العالمين لا نون اليهود ولا لام الجهمية.
ولذلك قال الإمام مالك وشيخه ربيعة وأمنا أم سلمة رضي الله عنها والإسناد ثابت إلى مالك وإلى ربيعة ولكنه ضعيف عن أمنا أم سلمة رضي الله عنها وثبت عن الإمام أبي جعفر الترمذي ليس صاحب السنة أبو عيسى الترمذي، قالوا: "الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة".
(الاستواء معلوم) أي معلوم في اللغة استقر، ارتفع، علا.
(والكيف مجهول) أي كيفية استواء الرب مجهولة لان الصفة تتبع الموصوف، فإذا كانت الذات مجهولة فالصفات كذلك ولذلك إيماننا بصفات ربنا كإيماننا بذاته، والمخلوقات تتفق في مسمى الصفة وتختلف في حقيقتها، فمثلاً لك يد للقط يد لكن لم تشبه اليدان بعضهما، فكيف ستشبه يد المخلوق الخالق!! فلكل موصوف ما يناسبه من الصفات (ليس كمثله شيء) .
(والإيمان به واجب) لأنه ورد في كتاب الله وإذا تركته فقد ضللت.
(والسؤال عنه بدعة) وكان بدعة لأمرين: الأمر الأول: لأنه سؤال عما لا يمكن لعقول البشر أن تدركه، والأمر الثاني: لأنه لم يجر هذا السؤال في عهد خير هذه الأمة وأطهرها وأبرها، والبدعة ما حدث بعدهم فلم يسأل الصحابة رضوان الله عليهم النبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية صفة بل يسألون عن الإيمان بها وثبوتها وهكذا المؤمن يسأل في القدر – كما تقدم معنا – من الحكم ووجوده لا عن العلة من الحكمة، ولذلك لا تقل لم؟ بل قل بم؟.(8/1)
ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجه بسند حسن عن أبي رزين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ضحك ربنا عند قنوط عباده وقرب غِيَرِه (1) ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب فقال أبو رزين: أوَ يضحك ربنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، فقال: لن نعدم من رب يضحك خيراً] ، فسأل أبو رزين هنا عن ثبوت صفة الضحك لا عن الكيفية ومن ضحك الله له لن يحاسبه كما ورد في الحديث، أي من فعل فعلاً أضحك به الرب فلن يحاسبه الله، وهذا الاستواء كما يليق بربنا.
مبحث العرش والكرسي
(هما مبحثان مستقلان لكن ندخلهما في هذه الآيات)
العرش في اللغة: سرير المَلِك، والمراد كرسي عظيم مرصع بالجواهر والأحجار الكريمة كحال الملوك القدماء.
__________
(1) أي وقرب غير القنوط وتغير الحال، وقنوط العباد كان بسبب القحط والبلاء وهنا، أي قرب تغير الحال من العسر إلى اليسر.(8/2)
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن ثلاث عروش: عرشين لمخلوقين وعرش له سبحانه وتعالى استوى عليه: أحد عرشي المخلوقين عرش ملكة سبأ (1) وهو عرش بلقيس: ( ... وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم) والثاني عرش نبي الله يوسف ( ... ورفع أبويه على العرش) والله جل وعلا استوى على هذا العرش بكيفية يعلمها ولا نعلمها.
ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال [سمي العرش عرشاً لارتفاعه] ، والله يشير لهذا المعنى في كتابه يقول: (وهو الذي أنشأ جنات معروشات) أي مرتفعة (وغير معروشات) أي منبسطة ليس لها ساق تقوم عليه وذكر العرش معلوم في أشعار العرب في الجاهلية والإسلام، قال أمية بن أبي الصلت (جاهلية) :
مجدوا الله فهو للمجد أهل ... ربنا في السماء أمسى كبيرا
بالبناء الأعلى الذي سبق الناس ... وسوى فوق السماء سريرا
شَرْجَعَنْ (2) لا يناله ناظر العين ... ترى دونه الملائكة صورا (3)
__________
(1) [ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة] ، وقد حكي أن رجلا ً من أهل اليمن افتخر في مجلس عبد الملك ابن مروان، فقال عبد الملك: من يرد على هذا المفاخر؟ فقام بعض الحاضرين وقال: أيها الملك، ماذا تقول في قوم ملكتهم امرأة، ودل عليهم هدهد وغرقتهم فأرة وهم ما بين حائك برود ودابغ جلد وسائس قرد وكل بلدة فيها نقائص والمؤمن لا يوصف لوجوده في مكان من الأمكنة وألفاظ العموم لا يدخل فيها الأخيار كما قال أئمتنا، أهل الشام أذل الناس وأطوعهم في معصية الله وأهل مصر أظرفهم صغيراً وأحمقهم كبيراً وأهل العراق أسرع الناس في فتنة وأعجزهم عنها، وكل مصر وبلد له وصفه لكن يتنزه عنه الأبرار.
(2) أي بناءاً عالياً مرتفعاً.
(3) جمع أصْور أي: مائل الرقبة، والمراد أن الملائكة مائلة العنق من خشيتها وتذللها.(8/3)
وقال عبد الله بن رواحة (قال الإمام ابن عبيد ابن عبد البر في الاستيعاب وهذه القصة ثابتة رُويناها من أوجه صحيحة مشهورة) ، وذلك أنه عندما جاءته سٌرِّيته وواقعها على فراش زوجته، فعلمت زوجته بالأمر فاعتراها شيء من الغيرة، فقالت في حجرتي وعلى فراشي، فقال: ما فعلت شيئاً؟ أي لم أفعل شيئاً حراماً، فقالت اقرأ القرآن إن كنت صادقاً لأن الجنب لا يقرأ القرآن، فقال: عبد الله رضي الله عنه:
شهدت بأن الله حق ... وأن النار مثوى الكافرين
وأن العرش فوق الماء طافٍ ... وفوق العرش رب العالمين
وتحمله ملائكة كرام ... ملائكة الإله مسوِّمين (1)
وقال أيضاً:
وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشق معروف من الفجر ساطعا
وبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استقلت بالمشركين المضاجع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع
فقالت زوجته: آمنت بالله وكذبت بصري والكلام أو سع من أن يكذب ظريف كما قال أئمتنا، فإذا اضطررت للكذب فلا تكذب بل استعمل التورية (2) كما كان إبراهيم انخعي يعمل حيث كان يطلب من ابنه أن يقول لمن يطرق بابه في وقت لا يريد فيه مقابلة أحد، يا بني قل لهم إن إبراهيم ليس هنا، أي ليس موجود في المكان الذي يتكلم فيه أي يشير إلى مكان ليس فيه والده إبراهيم موجوداً فيه، والسامع يظن أن إبراهيم ليس في البيت والدار، وولده صادق، وهو لو قال لهم مشغول فقد يلحون عليه بطلب الدخول أو قد يتضايقون من هذا الجواب (أي لو قال لهم مشغول) فيصرفهم بالتي هي أحسن.
__________
(1) ويصح مسِوَّمين، كما ورد في سورة آل عمران (بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوِّمين) وقرئت مسوَّمين، وهما قراءتان متواترتان عن نبينا عليه الصلاة والسلام، ومعنى مسوَّمين: معلِّمين، ومعنى مسوَّمين معلَّمين أي عليهم علامة يتميزون بها.
(2) وهي أن تسمع السامع شيئاً وأنت تعتقد في نفسك حقاً غيره.(8/4)
.. وصفة الاستواء على العرش نقول فيها ما نقول في سائر الصفات فالاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، وتقدم معنا أن إيماننا بصفات ربنا إقرار وإمرار (ليس كمثله شيء) إمرار (وهو السميع البصير) إقرار فنقر بالصفة دون البحث في كنها وكيفيتها وكل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك.
والعجز عن درك الإدراك إدارك ... والبحث في كنه ذات الإله إشراك
والصفات تختلف باختلاف الموصوفات، فلكل موصوف معنىً يناسبه من تلك الصفة على حسب ذاته، فمثلاً اليد تختلف فينا بني الإنسان عنها في الكلاب عنها في الأبواب فمن بابٍ أولى أن تختلف يد الخلاق جل وعلا.(8/5)
وعرش الرحمن فوق المخلوقات كلها، ولا يوجد فوقه شيء مخلوق لا يوجد إلا الخالق جل وعلا، فالمخلوقات كلها تحت العرش ولذلك يُقال "العالم من عرشه إلى فرشه مخلوق" أو من علوه إلى سفله وهو الأرض السابعة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [والله فوق العرش يعلم ما أنتم عليه] ، والعرش هو أكبر المخلوقات تحمله ثمانية من الملائكة، كما أخبرنا الله عن ذلك في كتابه (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) وهؤلاء الثمانية يتجاوبون بصوت رقيق رخيم فأربعة منهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك ويجيبهم الأربعة الآخرون سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، هذا هو تسبيح حملة العرش، وهذا ثبت بإسناد صحيح عن حسان بن عطية وله حكم الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى هذا: الله سبحانه وتعالى يعلم ما نعمل، ولولا حلمه لما ترك على الأرض من دابة، وهو قدير على عقوبتنا فلولا عفوه لأهلكنا، وثبت في تفسير ابن جرير أن الله خلق حملة العرش قالوا ربنا لم خلقتنا؟، قال: لتحملوا عرشي، قالوا: ومن يقوى عليه وعليه جلالك ووقارك وأنت رب العالمين؟ فقال: قولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقالوا هذه الكلمة وبها أطاقوا حمل العرش، وقد قال أئمتنا هذه الكلمة (لا حول ولا قوة إلا بالله) لها تأثير عجيب وخاصية مجربة بأن من قالها ذلل الله له الصعاب وفرج عنه الكروب وأعانه على الشدائد ومعنى هذه الكلمة لا تحول من حالٍ إلى حال من معصية إلى طاعة ومن ضعف إلى قوة ومن فقر إلى غنىً ... ولا تحصل قوة إلا بالله جل وعلا.
وأما الكرسي:
... فهو دون العرش أي أنزل منه وأصغر، والعرش أكبر المخلوقات وأولها وهو موضع قدمي الرب سبحانه وتعالى,(8/6)
.. وقد ثبت تفسير الكرسي بذلك في مستدرك الحاكم بسند صحيح على شرط الشيخين وكتاب التوحيد لابن خزيمة والأسماء والصفات للبيهقي وتفسير ابن جرير، والأثر رواه الإمام الخطيب في تاريخ بغداد والطبراني في معجمه الكبير بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال: [الكرسي موضع القدمين والعرش لا يعلم قدره إلا الله] .
... قال الله في وصف الكرسي (وسع كرسيه السموات والأرض) فهذا الكرسي يسع السموات والأرض وهو أعظم منها.
... والكرسي ذكر في موضعين فقط في القرآن:
1) آية الكرسي من سورة البقرة (وسع كرسيه السموات والأرض) .
2) في سورة ص (ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب) ، فالكرسي الأول له جل وعلا، والثاني في سورة ص والكرسي واحد الكراسي وهو معروف كما قال علماء اللغة.
وهذا التفسير – الأول – الذي نقل عن ابن عباس، ثبت أيضاً عن أبي موسى الأشعري في تفسير ابن جرير والأسماء والصفات للبيهقي، وفي تفسير ابن المنذر بإسناد صحيح قاله الحافظ في الفتح (8/199) وثبت في تاريخ بغداد عن أبي ذر مرفوعاً وموقوفاً، والموقوف أثبت وله حكم الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه مما لا يدرك بالرأي.
... وهذا هو المعتمد عند أهل الحق أن الكرسي هو موضع قدمي الرب، وهناك أربعة أقوال باطلة في تفسير الكرسي احذروها وكونوا على علم بها:
أولها: - وهو أرذلها – نُقل عن الزمخشري المعتزلي، وهو من شر ما قاله في صفات الله – يقول "الكرسي: تخييل حسي " أي لا يوجد هناك كرسي لا صغير ولا كبير، لكن الله أراد أن يظهر لنا عظمته ويقرب لنا شأنه فذكر هذا الأمر لذلك يعني المراد من الآية: لو كان له كرسي لوسع السموات والأرض، لكنه لا يوجد، ومعنى قول الزمخشري (حسي) أي أتى بتعبير محسوس ليقرب المراد.(8/7)
.. وهذا التفسير الذي ابتدعه الزمخشري هنا في الكرسي عول عليه في كثير من آيات الصفات في الكشاف فانظر مثلاً تفسير قول الله تعالى في سورة الزمر (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه) ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن الله يقبض الأرضين بشماله ويطوي السموات بيمينه، ويقول أنا الملك أين ملكوم الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟] .
... فالزمخشري يستعمل هذا الأسلوب أيضاً في نفي صفة اليمين والشمال والقبض والطي، فيقول هو في هذه الآية: هذا تخييل حسي فالله يريد أن يخيل لنا عظمته فجاء بهذا المثال الحسي الذي فيه كأن السموات بيمينه وكأن الأرض بشماله وليس له لا طي ولا قبض وليس له يمين ولا شمال، وهذا كما قلت لكم من أشنع ما قيل في صفات الله سبحانه وتعالى لأن مؤداه أن الله يكذب علينا، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
ثانيهما: الكرسي بمعنى العرش فهما سواء، ونقل هذا عن الحسن البصري، وروي هذا عنه من طريق جويبر عن الضحاك، وهذا الأثر لا يثبت عن الحسن البصري (1) ، لأنه فيه علة وهي: ضعف الأسناد فجويبر تالف.
... قال الإمام ابن كثير والإمام البيهقي في الأسماء والصفات، والصحيح عن الحسن وغيره من السلف أن العرش غير الكرسي.
ثالثهما: قيل الكرسي بمعنى العلم، (وسع كرسيه السموات والأرض) أي علمه، نقل عن ابن عباس رضي الله عنه بإسناد – قال عنه ابن كثير والبيهقي في الأسماء والصفات وأبو منصور الأزهري في تهذيب اللغة إنه شاذ أي هذا الإسناد شاذ والرواية المحفوظة عنه الثابتة أن الكرسي موضع القدم.
__________
(1) حكى الشيخ الفوزان هذا القول عن الحسن في كتابه شرح العقيدة الواسطية، ولم يتعقب القول، وهو قول غير صحيح كما بينا؟؟؟(8/8)
.. وهذا التفسير رده الإمام ابن جرير في أول الأمر وقال: "إن الرواية الثابتة عن ابن عباس في تفسير الكرسي وهو موضع القدمين، هي المعتمدة" ثم انتكس الإمام ابن جرير عليه رحمة الله في تفسيره عند آية الكرسي فنقل هذه الرواية الشاذة وقال هي المعتمدة في تفسير الكرسي، فبعد أن قرر أن القول الأول هو المعتمد نقضه وقال القول الثاني هو المعتمد وهذا عجيب من مثل الإمام ابن جرير، وقد قرر الإمام ابن جرير هذا القول الشاذ بقوله تعالى حكاية من الملائكة (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً) ، وهذا الاستدلال في الحقيقة لا يتناسب مع حذق الإمام ابن جرير وفهمه لأنه يلزم على قوله أن يفسر الكرسي بالرحمة كما فسر بالعلم، لأن ذكرت الآيتين، ثم إنه لا مناسبة بين الكرسي والعلم، لأن الكرسي واحد الكراسي وهو معروف، والعلم معروف فلا مناسبة بينهما ولو صح تفسير الشيء بما لا يدل عليه في لغة العرب لصح أن نفسر بعد ذلك الأحكام الشرعية كما نريد (1) وهذا التفسير تبناه محمد عبده في هذا العصر وعليه جمهور المؤولة.
رابعهما: تبناه الرازي في تفسيره فقال: لا يصح تفسير الكرسي بالعرش ولا تفسيره بالعلم فقد دلت الآثار على أنه جسم عظيم أعظم من السموات والأرض – وهذا كله حق مقبول لكن انظر بعد ذلك للانتكاس يقول: لكن الرواية الثابتة عن ابن عباس موهمة مشكلة فيجب أن نقف نحوها موقفين:
__________
(1) فالله جل وعلا يقول: (كتب عليكم الصيام) فيأتي الباطنية ويفسرون اللفظ بما لا يدل عليه فيقولون: الصيام هو حفظ سر الشيخ فهذا هو معنى الصيام عند الدرزية والنصيرية، وعندهم – الباطنية – الحج هو زيارة الشيخ، ويقولون في الآية: (حرمت عليكم أمهاتكم) المقصود (بأمهاتكم) عندهم: مراتب شيوخهم، فلا تتمنوا رتبة الشيخ، أما أمك فلا حرج عليك في وطئها – وهذا كله عندهم – وكذلك لا حرج في وطء أختك أو بنتك!! فهذا كله يشبه تفسير الكرسي بالعلم لأنه من قبيل تفسير اللفظ بما لا يدل عليه.(8/9)
الموقف الأول: أن نردها، لأنها توهم التشبيه.
الموقف الثاني: وإذا قبلناها فلابد من تأويلها (1) ، وقال: موضع القدمين أي موضع قدمي الروح الأعظم الذي هو جبريل أو موضع قدمي ملك آخر غيره (2) وهذا تأويل باطل يجب طرحه.
... والأقوال الثلاثة قبله باطلة أيضاً والمعتمد هو قول ابن عباس وأبي موسى الأشعري وأبي ذر، وتقدم ذكره وقد ورد أن الكرسي بجانب العرش كحلقة في فلاة والسموات السبع والأراضين السبع بجانب الكرسي كحلقة في فلاة.
2- وأما السنة:
... تواترت الأحاديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام بأن الله فوق عرشه على سمواته بائن من خلقه سبحانه وتعالى، وهذه الأحاديث المتواترة لن أفيض فيها إنما سأذكر ثلاثة منها:
__________
(1) وهذا حال المبتدعة يتذبذبون بين أمرين إما أن يرد النص وإما أن يؤوله، والتأويل أخو الرد، وهذا كالحديث الصحيح [لا تزال جهنم تقول هل من مزيد حتى يضع الجبار عليها قدمه (وفي رواية رجله) فينزوى بعضها إلى بعض، فتقول قط قط] يقول المبتدعة: القدم هنا معناها أي قوم قدمهم للنار، [ورجله] هذا مأخوذ من رجل الجراد وهو الجماعة والمعنى حتى يضع عليها جماعة مثل جماعة الجراد، يلقيهم فيها فتمتلئ وتقول [قط قط] ، سبحان الله هل هذا هو معنى الرجل ومعنى القدم؟ هلا قلتم إقرار وإمرار، ولا داعي بعد ذلك للتلاعب وكل يؤول على مزاجه.
(2) وقد وصل الشطط بالرازي في تفسيره سورة الفجر آية (وجاء ربك والملك صفاً صفاً) قال هذه الآية موهمة لابد من تأويلها ذكر ستة أوجه في تأويلها أحد الأوجه يقول (وجاء ربك) أي الملك الذي كان يربيك يا محمد وهو أعظم الملائكة فهذا سيأتي يوم القيامة ويأتي معه الملائكة صفاً صفاً!!!(8/10)
أولها: الأحاديث بمجموعها متواترة، لكن هذا الحديث متواتر بنفسه، قال الإمام الذهبي في كتابه (العلو للعلي الغفار) صـ16: من الأحاديث المتواترة في علو الله وفوقيته حديث معاوية بن الحكم السُّلمي، وحديثه ثابت في صحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي – وهو حديث متواتر – وخلاصة الحديث: يقول معاوية رضي الله عنه [كانت لي جارية ترعى غنماً لي فجاءت في يوم من الأيام وقد أخذ الذئب شاة منها، يقول: وأنا امرؤ من بني آدم (1) – آسف كما يأسفون فحزنت على هذه الشاة، وصككت الأمة ثم ندمت فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته بالقصة وقلت له: ألا أعتقها، (وفي رواية: إن عليّ كفارة ألا أعتقها؟) فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ادعها لي، فجاءت فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ فقالت في السماء، فقال: من أنا؟ قالت: رسول الله، فقال اعتقها فإنها مؤمنة] .
قال الذهبي والحديث فيه أمران:
1- جواز السؤال عن الله بأين (2) ، فهو شرعي سأل بهذا نبينا صلى الله عليه وسلم.
2- والجواب عن هذا السؤال، أن الله في السماء كما تواترت الأحاديث بذلك.
ولفظ السماء تقدم معناها إن كان المراد العلو فـ (في) ظرفية على حقيقتها أي في العلو، وإن كان المراد من السماء الأجرام السبعة فـ (في) بمعنى على أي على السماء وهذا الحديث فيه رد على المؤولة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل عن سلطانه وقهره جل جلاله فلم يقل أين سلطان الله؟.
__________
(1) يريد بهذا أن يذكر عذره في عمله الذي فعله بالأمة، أي أنا امرؤ من بني آدم آسف كما يأسفون وأحزن كما يحزنون.
(2) إذن هو جائز ومن قال لا فقد رد فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وا