حكم التبرك بالقبور مساً أو مسحاً
قوله: (ولا تمسوا قبراً): جاء النهي عن الجلوس والمشي عليها؛ وذلك لأنه إزراء بأصحابها وازدراء لهم، وهي حبس عليهم، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على القبور فاختلف العلماء في معناه، فقيل: المقصود النهي عن الجلوس عليها للحاجة، أي جلسة قضاء الحاجة فقط، وأما مجرد الجلوس عليها فليس النهي وارداً فيه، ولكن عموماً التربة التي دفن فيها الإنسان هي وقف عليه، فلا ينبغي الجلوس عليها، ولا المرور من فوقها أي: المشي عليها.
وكذلك الصلاة عليها، والصلاة إليها، فكل ذلك منهي عنه، والنهي عن الصلاة بالخصوص لأمور متعددة: الأمر الأول: سد ذريعة الشرك؛ لأن أهل الجاهلية كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح اتخذوا قبره وثناً، وقد رد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وسأل ربه ألا يتخذ الناس قبره وثناً.
وكذلك أن المقابر فيها تحللات لأجزاء الموتى، وجثث الموتى فيها خلاف: هل هي طاهرة أو نجسة، حتى المسلمون منهم.
فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الميت نجس مطلقاً سواء كان مسلماً أو غير مسلم، ورأوا أن الحياة علة للطهارة، فالشاة ما دامت حية فهي طاهرة، وإذا ماتت فإنها تنجس.
ورأى آخرون أن أجزاء الكفار نجس، وأن الأجزاء الداخلية من المسلمين نجس لمباشرتها للأنجاس كالدم والعذرة ونحو ذلك، وأن الأجزاء الظاهرة من أموات المسلمين طاهرة، ولذلك تغسل، ولو كانت نجسة لما غسلت؛ لأن النجس لا يتطهر، والذين يرون أنها نجس يقولون: الغسل تعبُّدٌ لا تطهير.
والخلاف فيها مذهبي بين المذاهب لا يمكن أن نحسم نحن فيه، ولكن أقرب ذلك أن يقال: المؤمن طاهر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي هريرة (المؤمن لا ينجس)، ومع ذلك فهذا الحديث يمكن أن يحمل على النجاسة الحسية والنجاسة المعنوية، مثلما جاء ذلك في قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28] فقد اختلف فيه: هل النجاسة حسية أو معنوية.
قوله: (أو تمسَّحوا) كذلك التمسح، وهو أشد من مجرد المس، فالتمسح على القبور لالتماس بركة أصحابها أشد من مجرد مسها، و (تمسحوا) حذفت منها التاء الثانية، فهي بحذف إحدى التاءين، وأصلها: أو تتمسحوا، وهذا كثير في اللغة والقرآن والسنة.(45/12)
حكم الطواف حول القبور
قوله: (ولا تطوفوا حوله أو تذبحوا): كذلك الطواف حول القبور يعتبر من الغلو فيها، والمقصود بالطواف حولها: ما كان طقساً يشبه عبادة، كأن يطوف الإنسان بها بقصد أمر يطلبه، أو لدعاء صاحب القبر أو نحو ذلك.
وأما التطواف عليها بمعنى المرور حولها للاتعاظ بها، وتذكر أن هذا الذي قد مات، وسفا عليه السافي، وأقصاه أهله، وانقطعت أخباره؛ قد كان يوماً من الأيام يحب الناسُ قربه ويتقربون إليه، وهو الآن قدم إلى ما قدم، وأصبح جدثاً تسفي عليه السوافي لا يسأله أحد شيئاً، ولا يسأل عن خبر، ولا يصل خبر عنه؛ فغير مراد هنا.
والتطواف بالقبور لقصد عبادة أهلها شرك أكبر مخرج من الملة، وكذلك تشريع الطواف بها، كمن شرع ذلك أو اعتقده فجعله مثل الطواف بالكعبة.
وأما اتخاذ ذلك عادة لغير عبادة ولا تشريع فهو محرم، ولكنه لا يصل إلى درجة الشرك، وأما المرور عليها للموعظة فهو من فضائل الأعمال الجائزة، ولكن لا ينبغي للإنسان أن يدور حولها؛ سداً لذريعة التشبه بالطواف.(45/13)
حكم الذبح للقبر
قوله: (أو تذبحوا): كذلك لا تذبحوا على القبور أو حولها، فالذبح عليها أو حولها من أعمال الجاهلية، فقد كانوا يذبحون وينحرون على القبور وينضحونها بالدماء، ويظنون أن تلك الدماء هي حظ الأموات من الذبائح، فيظنون أن الدم يصل إليهم في قبورهم، وقد كان أهل الجاهلية يبالغون في هذا، فينحرون ويتركون ما نحروه عند القبر لا يتعرضون له، وقد ذكرنا قول زياد بن الأعجم: إن السماحة والمروءة ضمنا قبراً بمرو على الطريق الواضح فإذا مررت بقبره فانحر به كوم الهجان وكل طرف سابح وانضح جوانب قبره بدمائها فلقد يكون أخا دم وذبائح فهذا على عادة الجاهلية وعملهم، والذبح لغير الله سبحانه وتعالى ملعون من فعله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في بطاقة علي بن أبي طالب التي أخرجها من قراب سيفه، ورواها عنه وهب بن عبد الله السوائي رضي الله عنه؛ فإن فيها لعن من ذبح لغير الله.
واختلف في المذبوح لغير الله وبالأخص عند القبور ونحوها، فقال جمهور العلماء: هو جيفة ميتة لا يحل أكله؛ لأن فيه إهلالاً لغير الله؛ والله تعالى حرم ما أهل به لغيره: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة:3].
وعن أحمد فيه روايتان، إحداهما بإجازته (بإباحته)، والأخرى بتحريمه.
والقول بإجازته لا يقصد به إطلاق ذلك، وإنما يقصد أن من عادة الناس أن يذبحوا ذلك فيفعلونه تقليداً لا شركاً، فمن فعل ذلك تقليداً وذكر اسم الله عليه فلا تكون ذبيحته محرمة ولا يكون مما أهل به لغير الله.
ومثل هذا التقرب إلى القبور والمشاهد بالأموال غير الذبائح، كوضع النقود عندها أو وضع الملابس أو نحو ذلك، فهذا مثل الذبح سواء بسواء، فيكون صاحبه ملعوناً، وهو من عمل الجاهلية، نسأل الله السلامة والعافية.(45/14)
دراسة علم العقائد
من أعظم المتون في مذهب مالك رحمه الله مختصر خليل بن إسحاق، وقد نظمه أحد العلماء نظماً بديعاً جعل أوله في علم العقائد السلفية مما رجع إليه الإمام الأشعري رحمه الله، وبين يديك شرح مقدمة النظم.(46/1)
فضل علم التوحيد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ثم أما بعد: فقد سبق أن قلنا: إن علم التوحيد هو من أفضل العلوم ولم نقل هو أفضل العلوم، مع أن كثيراً من الذين ألفوا فيه يقولون: هو أفضل العلوم كما قال المقري: وأفضل العلوم بالإطلاق علم به معرفة الخلاق لكن يجاب عن هذا: بأن هذا العلم ليس وحده هو الذي به معرفة الخلاق، بل علم التفسير كذلك، وعلم القراءات كذلك، وعلم الحديث كذلك، فمعرفة الخلاق لا تكون إلا بهذه العلوم مجتمعة، كما ذكرنا سابقاً في قضية القرآن وتناوله لكل هذه العلوم، فلذلك لا نجزم بأنه أفضل العلوم على الإطلاق؛ لأن هذه العلوم تكليفياً في مرتبة واحدة، ما يجب منها عيناً يجب في الجميع وما يجب كفاية يجب في الجميع، ويصعب علينا أن نضع مسطرة لها بحسب التفاوت في الفضل، بل نقول: هو من أفضل العلوم، ويكفينا هذا، حتى لا نجازف ونقول على الله بغير علم، فمعرفة الله ليست فقط بهذا العلم، بل تدخل في التفسير، وفي القراءات، وفي الحديث، وفي شرح الحديث، وفي كثير من العلوم الأخرى التي سنذكرها.(46/2)
نشأة علم التوحيد وتطوره(46/3)
علم التوحيد في عصر الصحابة
بالنسبة لتاريخ هذا العلم ونشأته وتطوره، أقول: إن الصحابة رضوان الله عليهم جاءهم هذا الوحي الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة، فأخذوا ذلك بتربيتهم؛ لأن المقصود بالعلم -كما ذكرنا- هو التوصيل إلى حصول الإيمان وخشية الله، وهم حصلوا على ذلك بتربية الرسول صلى الله عليه وسلم لهم.
فكثير منهم لم يكن من العلماء الكبار، ولم يستوعب كثيراً من المسائل العلمية، لكن مقصود العلم حصل لهم، وهو تحصيل خشية الله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، وقد حصل أقل الصحابة مستوى في العلم على مستوىً من الخشية أكبر من مستوى من وراءهم من العلماء بتربية الرسول صلى الله عليه وسلم له.
فإذاً حصلوا على فائدة العلم، وتجاوزوا كثيراً من المراحل، وقطعوا كثيراً من المسافات في فترة وجيزة، فقد مكث عتاب بن أسيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر يوماً فقط، وهو في الرابعة عشرة من عمره.
كم مكث معه ابن عباس؟ كم مكث معه أسامة بن زيد؟ كم مكثت معه عائشة؟ سنوات محصورة يقطعون فيها مراحل عجيبة لا تقطع إلا في الأعمار الطويلة جداً.
مالك بن الحويرث كم مكث معه هو وأصحابه؟ فترة وجيزة جداً قطعوا خلالها مراحل عجيبة.(46/4)
استغناء الصحابة عن تعلم التوحيد رواية ودراية برؤية النبي وسماعه
وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم، يقول أحد العلماء في معجزاته: نور به عن تهج صحبه غني وغير أصحابه مما وحى وهجا (نور به عن تهج صحبه غني): أصحابه استغنوا عن التهجي والقراءة والكتابة، (وغير أصحابه مما وحى وهجا) أي: مما كتب وقرأ، فنحن اشتغلنا بالقراءة والكتابة لأننا محتاجون إلى ذلك، ولكن النور الذي كان فيه هو أغناهم عن هذا.
ومن هنا فإن أتباع الصحابة أيضاً لم تكن حاجتهم إلى تفصيل هذه العلوم مثل حاجة أتباع التابعين، وبدأت الحاجة من عصر أتباع التابعين، فهو وليد الحاجة، ولا يقال: إن هذا العلم لم يكن موجوداً في عصر الصحابة ولم يهتموا به، بل كان موجوداً، لكن كان في ثنايا القرآن وفي ثنايا السنة مثل غيره من العلوم الأخرى، كذلك الفقه وكذلك الأصول وكذلك الحديث دراية وكذلك التفسير، كلها كانت مجتمعة مع الكتاب والسنة، وقد بينا من قبل أن الوحي يبحث فيه من جهتين: جهة الورود وجهة الدلالة.
وكل العلوم الشرعية راجعة إلى هذين البحثين: بحث الوحي من جهة الرواية وبحث الوحي من جهة الدراية، فالصحابة رضوان الله عليهم لم يحتاجوا إلى البحث في الجهتين معاً.
أما جهة الرواية فلسماعهم من الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]، فهو الصادق المصدوق، ولسماع بعضهم من بعض وهم جميعاً عدول؛ لأن الله تعالى عدلهم في كتابه فقال: {فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:96]، وقال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]، وقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18]، فأثبت لهم الرضا، وإذا ثبت لهم الرضا انتفى عنهم الفسق؛ لأنه لا يرضى عن القوم الفاسقين.
وإذا انتفى عنهم الفسق ثبت لهم ضده وهو العدالة؛ لأن المحل القابل للصفة لا يخلو منها أو من ضدها، فإما أن يكونوا عدولاً وإما أن يكونوا فساقاً، ولا يمكن أن يثبت لهم العدالة والفسق في وقت واحد، ولا يمكن أن يرتفعا عنهم في وقت واحد، إذا ارتفع عنهم الفسق وجبت لهم العدالة، فلما ثبت لهم الرضا، الذي لا يكون عن القوم الفاسقين ثبتت كذلك لهم العدالة، فإذاً هم عدول، فهذا المجال مجال الرواية.
أما مجال الدراية فلم يحتاجوا إلى البحث فيه كثيراً؛ لأن نور رسول الله صلى الله عليه وسلم وتربيته، وإزالة الشبهة وطرد الشيطان بمجرد وجوده كافٍ لتجاوزهم كل العقبات، فقد يشك الإنسان كثيراً من الشكوك، وتأتيه كثير من الوساوس والأوهام، وبمجرد أن يرى الرسول صلى الله عليه وسلم يذهب عنه الشيطان فيزول عنه كل ذلك.
فنحن اليوم مشكلتنا هذا الصراع الشديد المستعصي مع الشيطان، فيأتينا بالشبهات ويأتينا بالشهوات ونغرق في هذه الأمور، لكن هم بطرد الرسول صلى الله عليه وسلم للشيطان تنتفي عنهم هذه الأمور كلها وتزول، بعلاجه بكلمة واحدة أو بنظرة واحدة.
كذلك فإنهم عاشوا في البيئة التي نزل فيها الوحي، فحضروا نزول الآيات، وحضروا ورود الأحاديث، وفهموا لغة العرب على وجه السليقة، لأنها كانت لغتهم، ولم تختلط الحضارات بعد، ولم تتغير الدلالات، فلم يحتاجوا إلى البحث في مجال الدراية.(46/5)
علم التوحيد في عصور التابعين ومن بعدهم
جاء بعدهم أتباعهم وهم التابعون فلم يحتاجوا كذلك حاجة ماسة إلى البحث في الجهتين: أما جهة الرواية فلسماعهم من الصحابة المعدلين بتعديل الله، وأما جهة الدراية؛ فلأن الأوضاع لم تختلف ولم تتغير كذلك، فاللغة لم تتغير دلالات مفرداتها، وأوضاع الناس لم تختلف، والحضارات لم تختلف، وبقي فقط نقص هذه الأمة بتربية الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن أفضل جيل يمكن أن يوجد بعده هم الجيل الذين رباهم، فاستفادوا من هذا الجيل، وحتى ارتسم ذلك فيهم وتشكل، كما ذكرنا أن ابن مسعود رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يحكي هديه ودله، وربى ابن مسعود علقمة فكان يحكي هديه ودله، وربى علقمة إبراهيم النخعي فكان يحكي هديه ودله، وربى إبراهيم منصور بن المعتمر فكان يحكي هديه ودله، وربى منصور سفيان الثوري فكان يحكي هديه ودله، وربى سفيان وكيعاً فكان يحكي هديه ودله، وربى وكيع أحمد بن حنبل فكان يحكي هديه ودله، وربى أحمد بن حنبل أبا داود فكان يحكي هديه ودله، كل واحد ينقل صورة مما رأى فيكون مثالاً للآخر تماماً.
ويقول الشيخ محمد سالم حفظه الله في ذلك: ربى ابن مسعود مقيم الملة فكان يحكي هديه ودله وكان علقمة لابن أم عبد كهذا للنبي الأمي وكان إبراهيم يحكي علقمة واه له من نسب ما أكرمه وكان منصور لإبراهيم كذاك يحكي هديه القويم وكان سفيان بلا قصور مشبهاً بشيخه منصور وهكذا أيضاً وكيع كان مشبهاً بشيخه سفيان وكان أحمد لدى الجميع مشبهاً بشيخه وكيع كذا أبو داود عند مشبه بأحمد بن حنبل فهذه التربية الموروثة التي تتسلسل، فيكون الإنسان إذا أدركته كأنما رأيت صحابياً بالتسلسل، لذلك يقول أحد العلماء عندنا في مرثية الشيخ رحمه الله: يمثل من هدي الصحابة صورة ويا حبذا هدي الصحابة مغنما كما تعكس المرآة وجهاً أمامها ويحكي الصدى الصوت الفخيم المرخما إذاً الحاجة إنما جاءت في عصر أتباع التابعين، فاحتاجوا إلى البحث في الجهتين معاً، جهة الرواية وجهة الدراية، ومن هنا بدأ نخل العلوم وتفصيلها على ما ذكرنا.(46/6)
تسمية علم العقيدة
بالنسبة لهذه الأسماء التي ذكرناها لهذا العلم كلها اصطلاحات ولا مشاحة في الاصطلاح، والمهم من الاسم ما يميز المسمى ويعرف به، سواءً كانت تسمية له باسم يدل عليه أو تسمية له باسم لا معنى له؛ لأن الأعلام مسلوبة الدلالة، فلذلك لا اعتراض عليها في الجملة، وبما أنه لم يرد له اسم في الوحي، فإننا نبحث عن الأكمل في التسمية فقط.
أما تسميته بالإيمان فلم يرد أن أحداً سماه بالإيمان، والذين ألفوا كتباً في الإيمان إنما ذكروا فيها الأعمال الداخلة في مسمى الإيمان الذي هو الدين، ولم يخصصوا ذلك بهذا العلم.(46/7)
الاستدلال بخبر الآحاد في علم العقيدة
بالنسبة للاستدلال بخبر الآحاد في هذا العلم: فقد ذكرنا أن مستمده من الكتاب والسنة مطلقاً، والكتاب ليس فيه أخبار آحاد إلا شواذ الآيات، ولا يعرف في الشاذ من القراءات في القرآن ما يفيد بعض صفات الله، أو ما يفيد شيئاً من تفصيلات هذا العلم، إنما فيها ما يفيد في مجال الأحكام.
وأما في الحديث فإن الراجح أن أخبار الآحاد إذا صحت يستدل بها في هذا العلم، لكن لا يستدل بها في القطعيات إلا إذا وصلت إلى درجة القطع، وقد ذكرنا أن هذا العلم منه قطعيات ومنه ظنيات، فإذا كانت أخبار الآحاد ظنية فإنها يستدل بها في ظنيات هذا العلم، وما كان قطعياً منها مثل ما احتف بالقرائن فإنه يستدل به في القطعيات، فأخبار الآحاد الراجح أنها إذا احتفت بالقرائن أفادت العلم القطعي، هذا الذي نص عليه أحمد بن حنبل وذكره من دونه.
وبعض المحدثين يرى أن أخبار الآحاد إذا صحت صناعة أفادت العلم القطعي، وهذا يقوله كثير من المحدثين لكن لا معنى له، حتى إن العراقي رحمه الله ذكر الرد على هذا في ألفيته في الحديث حيث قال: وبالصحيح والضعيف قصدوا في ظاهر لا القطع والمعتمد إمساكنا عن حكمنا على سند بأنه أصح مطلقاً وقد خاض به قوم إلى آخر ما قال.
كذلك من المتكلمين من رأى أن أخبار الآحاد لا تفيد القطع مطلقاً، وعلى هذا رد الاستدلال بها في القطعيات مطلقاً، لكن هذا القول فيه شطط وغلو، ولهذا فإن معنى القطع: القناعة التي تجدها أنت في نفسك، ولاشك أن أهل السنة إذا بلغهم الحديث من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر وصلوا إلى قناعة عقلية به، وهذه القناعة هي المطلوبة.
فلذلك ما اختف بالقرائن يقتضي القطع، فإذا كان الحديث متفقاً عليه أخرجه البخاري في الصحيح ومسلم في الصحيح، فأهل السنة الذين ليسوا غالين فيها ولا جافين عنها فيكفيهم هذا، بحيث يصلون إلى قناعة عقلية بأن هذا صحيح، وهذا هو المطلوب وإن كانت القناعة متفاوتة.
ونحن نعرف أن أهل الغلو يمكن أن يقولوا: هذا الحديث أخرجه البخاري في الصحيح لكنه غير صحيح، أو أخرجه مسلم في الصحيح لكنه غير صحيح، لكن هذا غلو في السنة.
عامة المسلمين وعامة أهل السنة إذا كان الشيء في الصحيحين، وجدوا أنفسهم مسلمين به، وكذلك في الإسناد، مثلما قال العراقي: (وبالصحيح والضعيف قصدوا في ظاهر) فظاهره الصحة، أو ظاهره الضعف؟ لا القطع والمعتمد.
إمساكنا عن حكمنا على سند بأنه أصح مطلقاً وقد خاض به قوم فقيل مالك عن نافع بما رواه الناسك مولاه واختر حيث عنه يسند الشافعي قلت وعنه أحمد(46/8)
شرح البسملة الواردة في أول المنظومة
بسم الله الرحمن الرحيم.
يقول الشيخ حفظه الله: [بالبدء باسم الله في التقديم والوصف بالرحمن والرحيم] ابتدأ البسملة فذكرها كاملة في هذا البيت، وذكر متعلق الباء في باسم الله وهو (البدء) ومعناه: أبتدئ بسم الله الرحمن الرحيم، ومتعلق الباء محذوف أصلاً؛ لأن بسم الله الرحمن الرحيم جار ومجرور، والجار والمجرور لا يمثل جملة وإنما يتعلق بشيء محذوف، وهذا المحذوف إما أن يكون اسماً وإما أن يكون فعلاً، فيمكن أن تقول: ابتدائي بسم الله الرحمن الرحيم، فتكون الجملة اسمية، ويمكن أن تقول: أبتدئ بسم الله الرحمن الرحيم فتكون الجملة فعلية، والفرق بينهما فرق بلاغي؛ لأن الجملة الاسمية تفيد الدوام والاستمرار، والجملة الفعلية تفيد التجدد والحدوث، ومقام الإنسان هو الذي يحدد ذلك.
(بالبدء باسم الله في التقديم) معناه: في بداية هذا النظم وفي مقدمته، (والوصف بالرحمن والرحيم) معناه: الوصف لاسم الله بالرحمن والرحيم، وهذا تمام البسملة.
و (قال) هي التي نصب بها قوله: بالبدء؛ لأن (بالبدء) هو محكي قوله، قال: (بالبدء باسم الله) أي: قال بادئاً باسم الله.(46/9)
نسب مؤلف المنظومة
[قال محمد بسالم شفع نجل محمد بعال قد تبع الهاشمي والمنتمي بالأس إلى المبارك الذي للخمس] (محمد بسالم شفع) هذا اسمه هو، وهو اسم مركب، فاسمه الحقيقي محمد وشفع بسالم معناه: أضيف إليه سالم وركب معه، (شفع) معناه: أضيف إليه ذلك فكان به شفعاً بعد أن كان وتراً.
(نجل) معناه: ابن، (محمد بعال قد تبع) اسم أبيه أيضاً مركب وهو محمد عال، هكذا ينطق: عال! ولكن أصل التسمية: محمد علي، فـ (عال) وصف من علا يعلو فهو عال، وهذا الشيخ اسمه محمد عال، هكذا ينطقه العوام، فهو نطقه كما يعرف به ويشتهر، وهذا اللفظ صحيح في العربية، فالعالي معناه: المرتفع، وهو من الأسماء المنقوصة حذفت منها الياء إلى عالٍ بالتنوين مثل قاضٍ وداعٍ.
(قد تبع) أي: بذلك.
الهاشمي: هذا نسبه، وهو إلى بني هاشم، وهو من ذرية الحسين بن علي بن أبي طالب.
(والمنتمي بالأس إلى المبارك).
المنتمي معناها: المنتسب، بالأس معناها: بالنسب والأصل إلى المبارك وهو جده الأعلى وهو أبو قبيلته واسمه المبارك، قال: [ثم إلى يعقوب منها ينتمي بالله ربي أعتزي وأحتمي] (الذي للخمس ثم إلى يعقوب منها ينتمي) (الذي ينتمي) معناه: ينتسب بالحلف والمعاشرة والخئولة (للخمس) أي: إلى القبائل الخمس، وهي خمس قبائل كونت تحالفاً على نصرة دين الله، وحاولت إقامة دولة إسلامية ولكنها فشلت بعد حرب طويلة الأمد، فاشتهرت تلك الحرب التي أريد بها إقامة دين الله وإقامة دولة الإسلام وإقامة الجهاد في سبيل الله، وحاربها البرتغاليون والأسبانيون والفرنسيون، وأدى ذلك إلى اسقاط هذه الدولة بعد اثني عشر أميراً مبايعاً فيها، واشتهرت هذه القبائل باسم الخمس، وإحدى هذه القبائل هي بنو يعقوب، وهم من ذرية جعفر بن أبي طالب.
(إلى يعقوب منها ينتمي) معناه: ينتسب.
(بالله ربي أعتزي وأحتمي) يقول: إن هذا الانتساب لمجرد التعريف وليس للاعتزاء بعزاء الجاهلية، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تعزى عليكم بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا).
فليس للفخر بالنسب ولا لعبية الجاهلية وإنما هو لمجرد التعريف، ولذلك قال: (بالله ربي أعتزي وأحتمي) أي: فلا أتعزز ولا أحتمي إلا بالله عز وجل وحده، فلا عبرة بنسب ولا حسب إنما المعيار هو تقوى الله عز وجل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].(46/10)
شرح الحمدلة
قال: [أحمده جل كما ابتداني بنعم ما لي بها يدان] أثنى على الله سبحانه وتعالى وحمده وبين أن هذا الحمد ينقسم إلى قسمين: حمد لكونه يستحق الحمد وهذا قوله: أحمده جل، وحمد ثان في مقابل نعمته.
والحمد كله ينقسم إلى هذين القسمين: حمد مستحق لأن الله يستحق الحمد في ذاته، وحمد في جزاء نعمته؛ ففي مقابل النعمة يستحق حمداً آخر، فلذلك قال: (كما ابتداني)، معناه: قبل أن أسأله وقبل أن أدعوه أنعم علي بنعم (ما لي بها يدان) معناه: لا أستطيع أن أصل إليها بعملي ولا بغيره، فالنعم لا يمكن أن يقابلها الإنسان بشكر ولا بعمل؛ لأن شكره وعمله نعمة أخرى، فلذلك لا يمكن أن يقابل الإنسان نعمة الله تعالى بأي شيء، فكلمة واحدة من ذكر الله نعمة عظيمة لا يزنها شيء وهكذا.
(كما ابتداني) معناه: ابتدأه بالنعم قبل أن يسأله، فالله عز وجل يعطي قبل المسألة ويعطي إذا سئل، فما أعطاه قبل المسألة ابتدأ الإنسان به من معروفه، وهذا اللفظ قاله ابن أبي زيد في مقدمة الرسالة فقال: (وابتدأهم بنعمته) والشيخ أراد بذلك أن يجعل الإنسان الذي يدرس كتاباً من كتب العلم يرتبط ذهنه بالكتب الأخرى، كل كتاب يجد منه كلمة أو مصطلحاً فيتذكر ذلك.
(ما لي بها يدان) أي: ليس لي بها طاقة، ويقال: ما لفلان يدان بكذا وما له يد بكذا معناه: ليس له قدرة عليه.(46/11)
معنى الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام
[ثم أصلي وأسلم على محمد وآله ومن تلا] (ثم) أي: بعد حمد الله تعالى، وذكر (ثم) التي هي للعطف بانفصال؛ لأنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا ما شاء الله وفلان ولكن قولوا: ما شاء الله ثم ما شاء فلان)، وعندما قال الخطيب: (من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى، أنكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: بئس خطيب القوم أنت)، فبين له أنه لابد من الفصل، فلهذا قال: ثم بعد حمدي لله وثنائي عليه بما هو أهله أصلي وأسلم، أي: أسأل الله أن يصلي وأن يسلم.
وصلاة المخلوق إنما هي مسألة الله أن يصلي؛ لأن الصلاة هي رحمة الله المقرونة بالتبجيل، وهذه لا تستطيع أنت أن تنزلها على محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما تستطيع أن تسأل الله أن ينزلها عليه، فالله قد استجاب ذلك.
والصلاة هي الدعاء المجزوم بإجابته، ومعنى ما يذكره العلماء من أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عمل متقبل قطعاً، المقصود بذلك أنه دعاء مستجاب قطعاً؛ لأن الله أخبر عن نفسه بأنه يصلي عليه، قال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
(وأسلم على محمد) وسماه بهذا الاسم الذي سماه به عبد المطلب فقيل له في ذلك فقال: رجوت أن يحمده الأولون والآخرون، فحقق الله رجاءه.
وهذا الاسم فيه كثير من المزايا العظيمة فهو دليل على كثرة حمده على كل لسان فإنه يحمده الأولون والآخرون في المحشر في مقام الشفاعة الكبرى، ولذلك أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله يكيد له، فإن قريشاً حين أرادوا أن يذموه ذموا مذمماً، وهو محمد وليس مذمماً.(46/12)
معنى الآل في قوله: (وآله ومن تلا)
(وآله) معناه: الذين يئولون إليه ويرجعون إليه، وهم في الدعاء أتباعه مطلقاً ويدخل في ذلك المتقدم والمتأخر، فهم جميعاً من آله، فكل أتباعه من آله في مقام الدعاء، ولهذا قال عبد المطلب: فانصر على آل الصليـ ـب وعابديه اليوم آلك معناه: المضافون إليك وليس الذين يعبدونك، (آل الصليب) معناه: أتباع الصليب، وآل النبي صلى الله عليه وسلم يختلف إطلاقها بحسب المقام، فإذا قصد بها تحريم الصدقة والأحكام المختصة بالآل فهم المؤمنون من بني هاشم وقال الشافعي وأحمد: والمؤمنون من بني المطلب أيضاً ومواليهم يدخلون معهم.
وإذا قصد بها الثناء المخصوص فهم أهل العباءة الذين أنزل الله فيهم: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33]، وهم النبي صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحسن والحسين رضي الله عنهم.
(ومن تلا) معناه: ومن تبعهم إلى يوم الدين، ولم يصرح بلفظ الصحابة؛ لأنه لم يرد في الأحاديث التي علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها الصلاة ذكر الصحابة، إنما جاء فيها التصريح بآله فقط، وذكر الناس لأصحابه بعد ذلك إنما هو زيادة وإلا فإن آله يدخل فيهم أصحابه، فيدخلون في ذلك في مقام الدعاء.
أما ذكر أصحابه في الصلاة عليه فلم يكن معروفاً في الصدر الأول وإنما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث كعب بن عجرة الصلاة الإبراهيمية وفيها ذكر آله ولم يرد فيها ذكر أصحابه.(46/13)
معنى (أما بعد)
قال: [وبعد فالعبد الفقير نظما نظماً بفقه مالك يجلو الظما] (وبعد فالعبد الفقير نظما) كلمة: (بعد) أصل وضعها: (أما بعد) وهي التي تسمى فصل الخطاب، ويقصد بها التخلص من المقدمات إلى ما يريد الإنسان بيانه، وتوضع في الخطب وفي الكتب وفي مقدماتها، وهي من العناية بالكلام، فمن ذكرها فهذا عناية بكلامه وتنسيق له وترتيب، فلذلك يقول الشاعر: لقد علم الحي اليمانون أنني إذا قلت أما بعد أني خطيبها فهي تدل على العناية بالكلام، واختصرها الناس فصاروا يقولون: وبعد، اختصاراً معناه: وبعد ما ذكر.(46/14)
المعاني التي يطلق العبد فيها
(فالعبد الفقير): ويقصد نفسه بذلك.
والعبد: تطلق على أربعة أمور: تطلق على عبد الخلق، ومعناه: المخلوق لله سبحانه وتعالى، فكل الناس عباد لله لأنه خلقهم أجمعين، ولهذا قال: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:95]، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93]، معناه: خلقهم كذلك.
والثاني: عبد الملك، فالمملوك أياً كان يسمى عبداً لأنه رقيق لسيده ومالكه.
والثالث: عبد النعمة، معناه: المنعم عليه فهو عبد للنعمة التي في عنقه.
الرابع: عبد المحبة، وهذا الأخير فيه يقول الشاعر: يا عمرو ناد عبد زهراء يعلمه السامع والرائي لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي ويقصد بذلك المحبة، وهذه الأقسام الأربعة كل إنسان مسلم ينبغي أن تكون متحققة في تعامله مع الله، فهو عبده بالخلق؛ لأنه خلقه، وهو عبده بالملك؛ لأنه يملكه، وهو عبده بالنعمة؛ لأنه أنعم عليه بنعمة الإيمان وما دونها من النعم، وهو عبده بالمحبة، فينبغي أن يحبه حباً لا يحب به شيئاً آخر: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]، فتتحقق العبودية بهذه الأمور الأربعة.
(الفقير) أصل الفقير الذي بدت فقرات ظهره، ووزنها: فعيل، ولما كان من لا يملك مالاً لا يحسن التغذية فتضعف أعضاؤه وتظهر فقراته سمي من لا يملك -حتى لو كان سميناً- فقيراً، والمقصود بذلك الفقر إلى الله سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15].
(نظما) معناه: جمع.
(نظماً) معناه: كلاماً موزوناً.
(بفقه مالك يجلو الظما): أراد فيه أن يزيل العطش في فقه مالك، ولا يريد فيه التوسع أكثر من ذلك، فهذا تواضع وإلا فقد جمع فيه مائة ألف وعشرين ألف مسألة في فقه مالك.(46/15)
معنى قوله: (مما خليل قد وعى في المختصر)
رام به: رام بهذا النظم وطلب به (نعش ذماء المحتضر).
نعش إنعاشاً وتقوية، ذماء: بقية الروح، والمحتضر: الذي قد أشرف على الموت.
قوله: (مما خليل قد وعى في المختصر) معناه: مما جمع خليل في مختصره في الفقه المالكي، وهذا المختصر جمع فيه خليل فأوعى، ولذلك قال ابن القيم: لم تزل ألطاف الله بالمالكية حتى أخرج لهم غلاماً جمع لهم مذهبهم في كراريس يتأبطها الرجل ويخرج، يقصد بذلك خليلاً، أي: جمع المذهب كله في أوراق يتأبطها الرجل ويخرج.
فهذا معنى قوله: (مما خليل قد وعى في المختصر) وهو هنا يبين أن ما ذكر في المختصر أصبح محتضراً لقلة العناية به؛ ولأن الناس قد ابتعدوا عما كانوا عليه من قبل من العناية بهذا المختصر وحفظه وتداركه، فقد وضع عليه القبول وشرح ثلاثمائة وثمانين شرحاً، وطبع منها عدد كبير، وأصبح المرجع في الفتوى في مذهب مالك، وحتى في غيره فإنه مرجع نابليون في القانون الذي وضعه، وهو القانون الفرنسي، عندما قامت الثورة الفرنسية فقد صرح في مقدمة قانون نابليون أن من مراجعه مختصر خليل في الفقه المالكي.(46/16)
معنى قوله: وليدع بالتسهيل والتكميل لفقه متن سيدي خليل
قال: [وليدع بالتسهيل والتكميل لفقه متن سيدي خليل] (وليدع) معناه: هذا الكتاب وهذا النظم بـ (التسهيل والتكميل).
(بالتسهيل): هذا اسمه، والتسهيل معناه: التليين، والتكميل معناه: الإضافات.
(لفقه متن سيدي خليل) فـ خليل شهرته سيدي خليل، واسمه خليل بن إسحاق بن موسى الجندي المصري الذي توفي سنة سبعمائة وثمانية وعشرين للهجرة، وقد كان من الأئمة في زمانه في مختلف العلوم، وله في الفقه اليد الطولى، وكذلك في الحديث وفي الأصول، وله مؤلفات كثيرة غير المختصر، لكن أشهر مؤلفاته هذا المختصر الذي وضع الله له القبول.
وسماه التسهيل: لأنه سهله وشرح كثيراً من مسائله ورد كثيراً من إشكالاته.
والتكميل: لأنه أضاف عليه كثيراً من المسائل التي ليست فيه.
ومتن خليل هو هذا المختصر، وهذه التسمية مأخوذة من كتاب ابن مالك الذي سماه: تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد، فالتسهيل في النحو من أهم كتب النحو عموماً، ولذلك قال فيه أبو حيان: ألا إن تسهيل الفوائد في النحو كتاب جليل كل فائدة يحوي فما الكتب إلا أنجم هو شمسها سناهن يمحى عنده أيما محو ابن مالك سماه: تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد، والشيخ أخذ الفقرتين: تسهيل وتكميل فسمى بهما هذا الكتاب.(46/17)
مشروعية الاستعانة بالله في كل عمل
قال: [وأسأل الله تعالى النفعا لكل من فيه سعى والرفعا] من المناسب في خطبة أي كتاب وفي آخر أية خطبة الدعاء، فالخطب ينبغي أن تكون فيها رقة، والرقة لا تكون إلا بالضراعة إلى الله والتوجه إليه، ومن ذلك الدعاء فهو من أبلغ أحوال العبد عندما يبدي الضراعة والهوان بين يدي خالقه العزيز الجبار المتكبر، فهنا تتضح حاجة المخلوق إلى خالقه وفقره إليه وتواضعه بين يديه، وتذلله إليه، فلذلك يبدي الضراعة بالسؤال، والمسألة مذلة، فهو يتذلل إلى الله بالمسألة.
(وأسأل الله تعالى النفع لكل من فيه سعى) معناه: أن ينفع كل من سعى فيه سواء كان ذلك بدراسة أو علم أو تعلم، أو شرح أو نشر أو طبع أو غير ذلك.
(والرفع): معناه أن يرفعه الله بعد أن ينفعه بهذا الكتاب، لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، وهذا الرفع بين الله أنه للمؤمنين ولأولي العلم، والشيخ أراد بذلك أن يبين أن من درسه وأحاط بمسائله فإنه عرف الإيمان ومسائله، ويكون بذلك من أهل العلم فيرفع الله منزلته في الدنيا والآخرة؛ لأنه قال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، ولهذا قال: (والرفع).(46/18)
دراسة أهل السنة والجماعة لمسائل العقيدة
قال: [والحفظ والتوفيق في القصود وقبل أن أشرع في المقصود أذكر جملة من العقائد على طريق السلف الأماجد] قوله: (والحفظ والتوفيق في القصود): يسأل الله له الحفظ أيضاً، ومعناه: أن يحفظه من غوائل الشيطان والنفس الأمارة بالسوء والعداء من الآخرين مطلقاً.(46/19)
معنى التوفيق
(والتوفيق في القصود) معناه: أن يوفقه الله في القصود، وهي جمع قصد، ومعناه: في أي شيء يقصده.
والتوفيق معناه: أن يهيئ له أسباب ما يرضيه سبحانه وتعالى، وما يوافق ما أراده من عبده، وهذا التوفيق أن يكون هوى الإنسان تبعاً لما طلب منه شرعاً، فإذا كان الإنسان لا يرغب فيما حرم الله عليه ويرغب فيما أوجب عليه فهو موفق.(46/20)
طريقة الشيخ في نظم العقيدة
(وقبل أن أشرع في المقصود): معناه قبل أن يبدأ في الفقه وهو المقصود الكبير من هذا النظم الطويل.
(أذكر جملة) معناه مسائل، ولا يقصد بذلك التوسع، ولا استقصاء المسائل العقدية، وإنما يذكر مسائل، ولذلك سماها جملة.
والعقائد: جمع عقيدة وهي ما يعقد الإنسان قلبه عليه فيدين الله تعالى به ويجزم بصحته.
وقوله: (على طريق السلف الأماجد) أي: على مذهب السلف، والمقصود بهم أتباع التابعين، فإذا أطلق السلف إنما يقصد به رجال العقيدة أتباع التابعين، ولا يقصد به الصحابة ولا التابعين كما يتوهمه كثير من الناس.
فكثير من الناس يقول: مذهب السلف معناه مذهب الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، وهذا غلط؛ لأن هؤلاء ما تكلموا في أكثر هذه المسائل التي سنعرض لها هنا، إنما تكلم فيها أتباع التابعين، فهم المقصودون بإطلاق السلف.
والأماجد جمع ماجد، وهذا ثناء عليهم وهم يستحقون الثناء؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال في الذين جاءوا من بعدهم: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]، وقد قال مالك رحمه الله: إن من يلعن السلف أو يتكلم فيهم ليس من أهل الفيء ولا يستحق شيئاً منه.(46/21)
ذكر المتفق عليه وترك الخلاف
قال: [ولست ذاكراً سوى المتفق عليه من قبل نشوء الفرق] أي: أنه لن يتعرض لأقوال الفرق والمذاهب المختلفة، وإنما سيقتصر على المذهب الحق الصواب الذي دليله واضح، ولن يتكلم على المذاهب الأخرى، وحتى الردود عليها لا يشتغل بها في هذا النظم.
ولذلك قال: ولست ذاكراً سوى المتفق عليه من قبل نشوء الفرق لأن هذه الأمور التي فيها نصوص قرآنية ونصوص من الحديث متفق عليها قبل أن تنشأ الفرق، فالفرق نشأت بعد ذلك، فهذه العقائد كانت موجودة لأنها نصوص قرآنية ونصوص من الوحي والسنة، وفهم الصحابة لها هو على حسب ما كان معروفاً في زمانهم، ومن هنا فإنه حفظه الله يقول فيما يتعلق بظاهر النصوص: [الظاهر الذي عليه نطقي موهم تشبيه لرب الخلق هو الذي أهل اللسان فهموا إذ نزل الوحي به عليهم فلا أبو بكر لخير الرسل يقول أشكل عليّ اشرحه لي ولا أبو جهل يقول اختلفا أثبت ما من التماثل نفى] فالذي فهمه أولئك الذين نزل عليهم الوحي سواء من كان منهم مسلماً أو من كان كافراً هو ظاهر النص الذي يترك عليه، وما لم يفهموه منه وجاء بالفلسفة واللزومات فهذا ليس ظاهر النص.(46/22)
عقيدة السلف التي رجع إليها الأشعري
قال: [مما إليه الأشعري قد رجع متبعاً أحمد نعم المتبع] هذه المسائل التي يذكرها هنا ذكرها أبو الحسن الأشعري وقد رجع إليها، وهو إمام من أئمة أهل السنة المشاهير، وبالأخص أن جمهور الأمة من بعد ظهوره إلى زمانه هذا ينتسبون إليه، فينتسب إليه الملايين في مختلف بلدان العالم منذ اشتهر في القرن الرابع الهجري إلى هذا الزمان، فهذه عشرة قرون ينتسب إليه فيها جمهور أمة محمد صلى الله عليه وسلم في الاعتقاد، ويقصدون بذلك مخالفتهم للمعتزلة؛ لأنه هو عدو المعتزلة الأول، وهو أول من استطاع أن يرد مسائلهم.
(مما إليه الأشعري قد رجع): والأشعري قد رجع عن مذهب المعتزلة ورجع عن المذهب الأشعري الذي تحول إليه إلى مذهب أحمد وقد صرح بذلك، فصرح بأن طريقته في النصوص طريقة أحمد بن حنبل.
(متبعاً أحمد) هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الربعي، من بني ربيعة من بني شيبان من بني بكر بن وائل بن ربيعة، وهو إمام أهل السنة في زمانه وأحد الأئمة الأربعة المتبوعين.
(نعم المتبع): أثنى على أحمد بأنه نعم المتبع، وقد وفق الأشعري حين اتبعه بذلك، لأنه مرضي عنه، فلا يختلف اثنان من أهل السنة في ذلك.
قال: [لا ما يقول من لذا أو ذا انتمى زعماً ولم يسر على ما رسما] يقول: إن ما ذكره هنا موافق لما كان عليه أحمد بن حنبل وما رجع إليه الأشعري متبعاً أحمد في ذلك، (لا ما يقول من لذا أو ذا انتمى) أي: أنه لا يأتي بما يقوله المنتسبون إلى الأشعرية أو المنتسبون إلى أحمد ممن لم يسر على طريقتهما، فكثير من أتباع الأشعرية أحدثوا كثيراً من المسائل التي لم يقل بها الأشعري، وكثير من أتباع أحمد أحدثوا كثيراً من المسائل التي لم يقل بها أحمد، فهو تجنب أقوال المحدثين من الطائفتين وأتى بلب المسألة.
لذلك قال: (لا من يقول من لذا) ويقصد به الأشعرية.
(أو ذا): ويقصد به أتباع أحمد بن حنبل.
(انتمى): معناها: انتسب.
(زعماً): أي: في زعمه.
(ولم يسر على ما رسما)؛ لأنه خالفهما فأتى بأشياء لم يقولا بها.
ثم بدأ في العقيدة بعد هذه المقدمة.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(46/23)
شهادة أن محمداً رسول الله
الرسل حق، وأفضلهم خاتمهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، الذي اختاره الله من العرب وخصه على من قبله بخصائص وميزات، وجعل دينه خير الأديان، ولذلك ينبغي على المسلم أن يتعرف على جوانب من حياة هذا النبي ونسبه وميزاته وما يتعلق بذلك.(47/1)
وجوب اتباع محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الخلق
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول الشيخ حفظه الله: والرسل حق والنبي العربي خاتمهم أعلاهم في الرتب(47/2)
التكذيب بمحمد تكذيب بجميع الرسل
بعد أن ذكر الرسل عليهم الصلاة والسلام ووجوب الإيمان بهم على سبيل الإجمال، ذكر التعويل على شهادة أن محمداً رسول الله، وهي الشهادة الثانية من الشهادتين، وهما ركنا الاعتقاد: فالركن الأول: شهادة أن لا إله إلا الله، وكل ما سبق من التفصيلات داخل في هذه الشهادة.
والركن الثاني: شهادة أن محمداً رسول الله.
وإنما بدأنا قبل الكلام في هذه الشهادة بالكلام على الرسل لدخول تصديق الرسل في تصديق النبي صلى الله عليه وسلم، فمن كذب رسولاً واحداً فقد كذب كل الرسل، ومن صدق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد صدق بكل الرسل؛ لأنه خاتمهم، ومصدق لما بين يديه كما وصفه الله بذلك.
ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى إذا ذكر تكذيب قوم لنبيهم ينسب إليهم تكذيب جميع الرسل، كما في قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105]، {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:176]، {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:160] وهكذا، فكلما ذكر نبياً كذبه قومه، يذكر أنهم كذبوا جميع المرسلين، وذلك أن مقصد الرسالة في الأصل واحد، كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5].
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا معاشر الأنبياء أبناء علات ديننا واحد)، وهذا تفسير قول الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13].(47/3)
ميزة محمد صلى الله عليه وسلم على غيره من الأنبياء
لكن شهادة أن محمداً رسول الله تقتضي تميزه عن غيره من الرسل، فلذلك ذكرها هنا، فالإيمان به مشروط على من سبقه ومن لحقه، فمن أتى قبله قد أخذ عليهم العهد بالإيمان به، لقول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:81 - 82].
فإذاً: كل من سبق قد أخذ عليهم العهد بالإيمان به صلى الله عليه وسلم، ونصرته إذا بعث، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى ورقة من التوراة في يد عمر: (مه يا ابن الخطاب! فلو أن موسى بن عمران حي ما وسعه إلا اتباعي)، وفي حديث آخر أخرجه أحمد في المسند، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن موسى وعيسى شهدا مبعثي لما كان لهما إلا أن يتبعاني)؛ ولذلك فإن عيسى عليه السلام إذا نزل حكماً عدلاً في آخر الزمان، سيكون من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم والعاملين بالملة والشريعة.(47/4)
قيام الحجة على من سمع بمحمد صلى الله عليه وسلم
ثم إن من لحقه لا يقبل منه الإيمان قطعاً حتى ولو آمن بجميع الرسل ما لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لم يؤمن بي إلا كبه الله على وجهه في النار).
واختلف في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يسمع بي)، فكثير من الذين يسمعون الحديث من الذين يهتمون بالمجال الفكري يقولون: تقوم الحجة بمجرد أن يسمع الإنسان باسم محمد صلى الله عليه وسلم وبرسالته وبالدين الذي جاء به، حتى لو سمع به مشوهاً، مثل أكثر المعاصرين من أهل الكتاب والكفرة، فإنهم لم يسمعوا به إلا مثل ما سمعوا بـ بوذا مثلاً.
وذهب آخرون إلى أن المقصود بالسماع السماع غير المشوه، فهو الذي تقوم به الحجة، ومعناه أن يعلموا أنه رسول، وأنه رسول آخر الزمان الذي تنسخ ملته كل ما سبق.
وهذا يؤخذ من وصف النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه؛ ففي حديث جبير بن مطعم الذي ختم به مالك الموطأ: (لي خمسة أسماء، فأنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمه، وأنا العاقب)، فهذا يقتضي أن من لم يسمع به على وصفه، ولم تبلغه دعوته كما هي لا تقوم عليه الحجة بمجرد السماع، ولكن دلالة هذا دلالة بعيدة، في مقابل التصريح بالسماع في الحديث السابق.
وعموماً يترتب على هذه المسألة كثير من الفروع: منها: لعن من مات من الكفرة ولم تبلغه الدعوة كما هي.
ومنها: استباحة دمائهم وأموالهم في حياتهم إذا سمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولم تبلغهم الدعوة كما هي، كالكفرة في زماننا هذا، فكثير منهم لم تبلغهم الدعوة كما هي، فهل تستباح دماؤهم وأموالهم بمجرد هذا البلاغ والسماع الذي حصل أو لا؟ وأما تكفيرهم فلا شك ولا اختلاف فيه بين الناس، فهم كفار قطعاً، حتى لو سمعوا بهذه الشريعة سماعاً مشوهاً كما ذكرنا، ومن تساهل فلم يصفهم به على اعتبار أنهم بمثابة من لم تبلغه الدعوة، فقد تساهل تساهلاً زائداً؛ لأن الذي يستدلون به ويأخذون به هو بعض المفهومات من الآيات، وكلها من مفهومات المخالفة، مثل قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} [البينة:6]، فـ (من) هنا يزعم بعض الناس أنها تبعيضية، وأنه ليس كل أهل الكتاب ولا المشركين كفرة.
ولكن هذا الوجه أبعد ما يكون عن الصواب، فـ (من) بيانية للذين كفروا، وبيانهم أنهم ينقسمون إلى قسمين: إما أن يكونوا أهل كتاب وإما أن يكونوا مشركين.(47/5)
عروبة النبي صلى الله عليه وسلم
والنبي صلى الله عليه وسلم ختم الله به رسالات الرسل، وجعله من هذا الجيل المعروف بالعرب، فلذلك وصفه بالعربي.(47/6)
أقسام العرب
والعرب ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: إلى عرب بائدة، أي: قد انتهت ولم يبق لها بقية، وهؤلاء منهم طسم وجديس ووبار وجرهم.
فجرهم هم الذين تعرب فيهم إسماعيل عليه السلام، ولكنهم بادوا ولم تبق لهم بقية حين جاروا في الحرم فأهلكهم الله؛ ولذلك يقول أحدهم وهو عمرو بن مضاض الجرهمي: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر بلى نحن كنا أهلها فأبادنا صروف الليالي والجدود العواثر ومن ذلك طسم وجديس فقد اقتتلا حتى تفانيا، وكذلك وبار، فقد هلكت ولم تبق لها بقية.
القسم الثاني: العرب العاربة: وهم ذرية قحطان، وقد نسب النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الترمذي في السنن إلى سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان عشر قبائل، وهي: حمير والأزد ومذجح وأنمار والأشعريين، وكندة، وهذه القبائل الست من أهل اليمن، ثم القبائل الأربع الباقية هي: لخم وجذام وعاملة وغسان، فهذه أربع قبائل تشاءمت، أي: خرجت إلى شمال الجزيرة العربية.
فهذه القبائل العشر من ذرية قحطان قطعاً، وقحطان اختلف فيه هل هو هود عليه السلام أو ابنه؟ فجمهور النسابين يعدونه ابن هود، ولذلك قال أبو الطيب المتنبي: إلى الثمر الحلو الذي طيء له فروع وقحطان بن هود له أصل إلى سيد لو بشر الله أمة بغير نبيٍ بشرتنا به الرسل ويدخل في عداد القحطانيين على الراجح قبائل قضاعة كلها، وإن كانوا سكنوا في العدنانيين واستوطنوا بلادهم؛ ولذلك انتحل لهم النسابون نسباً بـ عدنان لا يصح، وهو أن قضاعة من ذرية معد؛ لكن الراجح أن قضاعة هو ابن مالك بن حمير، فهم من حمير على كثرة أعدادهم، فمنهم بنو كلب بن غمرة الذين منهم زيد بن حارثة ودحية الكلبي، وهي قبائل ذات عدد، منهم: بنو عذرة، الذين اشتهروا بالعشق قديماً في الجاهلية، وكذلك بنو طيء.
أما القسم الثالث: فهو العرب المستعربة، وهم من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وهؤلاء هم الذين منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومعنى كونهم (مستعربة) أنهم لم يكونوا ناطقين بالعربية ثم تعلموها بسكناهم في العرب.(47/7)
اختيار الله لقريش
فالعرب من ذرية إبراهيم عليه السلام، وإبراهيم عليه السلام، بعث في البداية في أرض الفينيقيين بالعراق، ثم هاجر إلى الشام ولم يكن يتكلم بالعربية، وأتى بولده إسماعيل بأمر الله سبحانه وتعالى إلى مكة، وأول من جاوره بمكة العمالقة، ثم لما طغوا في الحرم أخرجهم منه مضاض الجرهمي، وساكن إسماعيل الجرهميين وصاهر فيهم، وهم أجداد أولاده، ثم أهلكهم الله وتغلب بعدهم على الحرم ذرية إسماعيل من معد بن عدنان، ثم بعدهم تغلبت خزاعة، حتى أخرجهم قصي بن كلاب، ومن ذلك التاريخ تغلبت قريش على مكة، وهؤلاء عداد نسبهم كله مرجعه إلى معد بن عدنان على الراجح، وقيل: كان مع معد أخ له اسم عك، وهو جد قبائل تنسب إلى عدنان، من ذرية عك بن عدنان، وليسوا من معد بن عدنان.
وأشهر أولاد معد نزار بن معد وكان له أربعة أولاد: هم مضر وربيعة وإياد وأنمار ومن هؤلاء انتشرت قبائل عدنان.
ومن هذه القبائل قبائل مضر، ومنها: قريش، وهي أعظم قبائل مضر بالاختيار الرباني، لأنه صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله اختار من ذرية إبراهيم كنانة، وفي رواية: (من ذرية إسماعيل الكنانة، واختار من ذرية كنانة قريشاً، واختار من قريش بني هاشم، وجعلني من بني هاشم في المحل الأسمى، فأنا خيار من خيار من خيار، ولا فخر).
وهذا الاختيار الرباني يترتب عليه عدة أحكام: منها: أنه لا يسترق سبيهم في الجاهلية ولا في الإسلام، ومنها: أنه لا يقتل أسيرهم صبراً بعد غزوة بدر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقتل قرشي بعد اليوم صبراً).
ومنها: اختصاصهم بالإمامة العظمى، وليس ذلك تبعاً لعصبية العرب عليهم؛ بل عصبية فارس وعصبية الروم أعظم من عصبية العرب، وأولئك أرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسلموا فهو مرسل للبشر كلهم، فالعبرة بالاختيار والاصطفاء الرباني فقط، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فذلك الاختيار الرباني هو الذي شرفهم الله فيه للإمامة وشرفهم لما هو أعظم منها، وأن بعث منهم محمداً صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك قال ابن الرومي: قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم كلا لعمري ولكن منه شيبان تسمو الرجال بآباءٍ وآونة تسمو الرجال بأبناء وتزدان وكم أبٍ قد علا بابن ذرا شرف كما علا برسول الله عدنان(47/8)
نسب النبي صلى الله عليه وسلم إلى عدنان
وقد نسب النبي صلى الله عليه وسلم نفسه إلى عدنان، ولم يثبت عنه ما فوق ذلك، فقد ثبت عنه أنه قال: (أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان).
وتوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح عند هذا الحد، ومع ذلك جاء في عدد من الأحاديث الأخرى وعدد من الآثار التي صحت عن عدد من الصحابة كـ ابن عباس وحكيم بن حزام، وغيرهم من الصحابة النسابين: أن عدنان بن أد بن أدد بن الهميسع بن قيدار بن نبت -أو نابت- بن حمل بن إسماعيل بن إبراهيم بن آزر بن ناحور بن عابر بن فالغ بن أرفخشد بن متوشلخ بن سام بن نوح بن لامك بن مهلائيل بن اليارد بن أخنوخ بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم.
وقد اختلف النسابون في ضبط بعض هذه الأسماء كاليارد، فقد جاء فيه: يرد فقط، وكذلك الهميسع والهميساع، كذلك قينان وقينن، كذلك لامك ولمك، وهذه اختلافات في ضبط الأسماء لأنها من لغات مختلفة، فينطق بها أهل كل لغة على ما يوافق نطقهم اللغوي.
وهذا نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة أبيه، وأما نسبه في العرب قد عرف لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة أم، أكثرهن من العرب، ولم تبق قبيلة من العرب إلا وله فيها خئولة ما عدا بني تغلب وحدها.
وقد اشتهرت خئولته في الأنصار وفي بني سليم لأنه صرح بذلك، ففي الأنصار سلمى بنت عمرو أم عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك في سليم، فهو ابن العواتك من سليم، وعواتكه هن: أم هاشم، وأم عبد مناف بن زهرة، وأم عبد مناف بن قصي، فهن ثلاث، وهن عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال، وعاتكة بنت مرة بن هلال، وعاتكة بنت هلال، الصغرى وعمتها وعمة عمتها أيضاً على هذا الترتيب، وهذا الذي قال فيه البدوي رحمه الله في الأنساب: عواتك النبي أم وهب وأم هاشم وأم الندب عبد مناف وذه الأخيره عمة عمة الاولى الصغيره وهن بالترتيب ذا لذي الرجال الأوقص بن مرة بن هلال وقد صح في صحيح البخاري أن وفد كندة حين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: (يا رسول الله! أنت ابن آكل المرار ونحن بنوه، فقال: إنا بنو النضر بن كنانة لا ننتسب إلى غيره).
هو وإن كان من ناحية الخئولة له خئولة في كندة، لكنه لم يرد أن يتفاخر مع الناس بالأنساب الدنيوية، فمفاخر كندة إنما هي بالملك والغنى ونحو ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم اختار الله له ما هو خير من ذلك.(47/9)
الحكمة من عروبة النبي صلى الله عليه وسلم
واختلف في اشتقاق لفظ العرب، فقيل: من أعرب الكلام إذا أبانه، لفصاحتهم.
وقيل: من تعرب إذا سكن البادية؛ لأنهم الأمة التي لم تكن لها حضارة مستقرة قديماً.
وقيل: من أعرب الشيء بمعنى حسنه، لحسن صورهم ووجوههم، فهم من أحسن الأمم خلقة.
وقد شرفهم الله بنسبة النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، لكنه لم يرسل إليهم خاصة، بل أرسل إلى الناس كافة.
ومن الحكم في اختيار أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل من العرب أن لغة العرب من أطيب اللغات وأكثرها بياناً ووضوحاً؛ فلذلك اختير أن تكون لغة هذه الرسالة التي يراد عمومها وشمولها، فلو كان القرآن باللغة الإنجليزية أو باللغة الفرنسية، أو بأي لغة أخرى غير العربية فإنه سيتعداه تطورات في اللغة؛ ولذلك لو عرض شعر الشعراء الإنجليز قبل مائة سنة على الناس اليوم لوجدوا أكثر الكلمات التي فيه لم تعد مستعملة، وكثير من الكلمات التي استعملت فيه قد تغيرت دلالتها، وجاءت في معنى آخر، ولو أخذت شعر امرئ القيس الذي كان قبل ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم بمائة سنة وعرضته على صبيان العرب لفهموا مفرداته، كقوله: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل وهذا الركود يقتضي استمرار دلالات الألفاظ ووضوحها على مدى الزمان، ولا يوجد في لغة من لغات العالم مثل هذا الركود إلا اللغات المتخلفة جداً مثل لغة الصين، التي ليس لها إعراب ولا تركيب، وإنما الكلام فيها كله مفردات، فجميع كلامهم مفردات فقط؛ ولذلك حروفها أكثر من ثلاثة آلاف حرف، بينما حروف العربية تسعة وعشرون حرفاً فقط.(47/10)
ذكر رسل العرب قبل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
وليس النبي صلى الله عليه وسلم الرسول العربي الوحيد للعرب، بل كان فيهم رسل آخرون، فمن رسل العرب هود وصالح، وقد أرسلا في جزيرة العرب، أحدهما في شمالها، والآخر في جنوبها، فهود أرسل في الربع الخالي في أرض الأحقاف، وصالح أرسل في شمالها في الحجر.
وكذلك في العرب أنبياء آخرون على الراجح، وقد سمي منهم: حنظلة الذي يقال إنه رسول أصحاب الرس، ويزعم الناس أنه دفن في بير في صنعاء، وأنها عند مسجد صنعاء الكبير، وهذا المسجد إنما بني بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن مكانه معروفاً قديماً حتى أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى فيروز بن باذان أن يبني لأهل صنعاء مسجداً، وأن يجعل قبلته بين نقم وعيبان، وأن يجعله بين الصخرة وبستان باذان، ففعل ذلك فيروز، وبنى المسجد وجعل فيه الأسطوانتين المشهورتين إحداهما تسمى بالمسمورة والأخرى تسمى بالمنقورة، وصلى فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كـ علي بن أبي طالب، وأبي موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل وغيرهم من كبار الصحابة، وقد شهد توسيعات بعد ذلك، كتوسيعات عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب حين ولاه علي بن أبي طالب رضي الله عنه على اليمن.
ويزعم الناس أن حنظلة هذا دفن في مكان معروف في هذا المسجد، لكن لا يثبت مدفن أحد من الأنبياء مع عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك منهم خالد بن سنان العبسي، فقد جاء في حديثٍ (أن ابنته أتت النبي صلى الله عليه وسلم وسألها عن أبيها فذكرت بعض حكمه، فقال: ذلك نبي ضيعه قومه).(47/11)
الرسول الخاتم وما شرفه الله وميزه على من قبله(47/12)
ختم الرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم
لكن إذا أطلق النبي العربي اختص ذلك بالنبي العربي صلى الله عليه وسلم لمنزلته وجلالة قدره.
قال: (والنبي العربي خاتمهم)، أي: خاتم الرسل، فختمهم الله به، وحكمة ختم الرسل أن الله سبحانه وتعالى اختار للبشرية ديناً واحداً هو دين الإسلام؛ ولكنه علم أن هذه البشرية ستمر بكثير من المراحل في أطوار حياتها، كما في دعوة نوح: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح:14]، فتمر البشرية بكثير من الأطوار: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق:19].
ومن هنا فلو أنزل إليها الدين وأمرت به في الأطوار والأطباق الأولى في حياتها في الأرض، لكان فيه الكثير من العناء، فلو فرضت هذه الشريعة التي لدينا اليوم على أولاد آدم لحصل كثير من العناء مثل تحريم نكاح الأخوات، والبشر إذ ذاك أسرة واحدة هي ذرية آدم فقط وهكذا.
فكانت الشرائع ينزل منها في كل زمن ما يصلح لذلك الزمن، وفي علم الله أنه لا يصلح للتطبيق المستمر، حتى إذا أتمت البشرية أطوار حياتها وبلغت نضجها أرسل إليها الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا الدين الذي كانت كل الأديان إعداداً له كما قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، فختم الديانات بهذا الدين، وأتمه وارتضاه للبشر كلهم؛ ولذلك خاطب البشر بقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].
ومع ذلك فما يجد من الظروف راعاه الله سبحانه وتعالى في التشريع؛ ولذلك قال بعد ختم الدين: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3]، بيَّن الحلال والحرام لكن مع ذلك بعد إكماله للدين قال: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ)، أي: في جوع ونحوه مما يقتضي ضيق الحال: (غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ) غير منتهك له: (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
ومثل هذا قوله: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119]، ومن هنا جعل القواعد العامة والأسس الواقعة كفيلة بالتطور المستمر، فلا يمكن أن يتحجر التشريع ولا أن يقف عند حدّ معين، بل سيواكب مسيرة البشرية كلها، لعموم هذه القواعد وشمولها، ولله تعالى حكمة في كل جزئية منها.
وختم الرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم من المعلوم بالدين بالضرورة، فكل من ادعى النبوة بعده فإنه يكفر بذلك ويستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] وفي قراءة أخرى: (وخاتِم النبيين) ومعناهما واحد؛ لأن الخاتَم والخاتِم معناهما: المكمل.(47/13)
علو مرتبة النبي صلى الله عليه وسلم على الرسل قبله
قال: (والنبي العربي خاتِمهم أعلاهم في الرتب)، أي: أعلاهم منزلة عند الله سبحانه وتعالى، وذلك لسيادته عليهم أجمعين، فإنه قال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، وقد صلوا جميعاً خلفه ليلة الإسراء، وهو الشافع لهم أجمعين يوم القيامة، فيدخل في شفاعته الأولون والآخرون؛ ولذلك فإن عبد المطلب حين سماه محمداً، قيل له: أتسمي ولدك باسم لا يعتاد في آبائك ولا في قبيلتك فقال: رجوت أن يحمده الأولون والآخرون، فحقق الله رجاءه بالشفاعة الكبرى التي يحمده فيها الأولون والآخرون، فآدم ومن دونه يدخلون كلهم في شفاعته.
وأما ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: (لا تفضلوني على يونس بن متى)، وكذلك ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم عندما قال له رجل: (يا خير خلق الله، فقال: ذلك إبراهيم)، فإن للعلماء محامل لذلك، فقد حملوا قوله: (لا تفضلوني على يونس بن متى)، على أنه لا ينبغي التفضيل المقتضي للإزراء، بل الرسل أجمعون يجب توقيرهم واحترامهم، وعدم الإزراء بأحد منهم ولا بمنزلته، فالإزراء بمنزلة أي واحد منهم كفر؛ ولهذا لا يحل أن يوصف أحدهم بوصف مستبشع ولا بما يقتضي نزول منزلته أو نقص درجته، وليس المقصود النهي عن ذكر فضله صلى الله عليه وسلم؛ لكن إذا ذكر فضل الرسل ثم ذكر فضل النبي صلى الله عليه وسلم فهذا لا نهي فيه.
وكذلك قوله للرجل الذي قال له: (يا خير خلق الله، فقال: ذلك إبراهيم)، فإن هذا كان قبل أن يطلعه الله على اختياره للخلة، فقد أخبره الله أنه اختار إبراهيم خليلا: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125]؛ لكن إنما علمه هو باختياره صلى الله عليه وسلم للخلة بعد هذا، ودليل ذلك إخباره به، فقد أخبر أن الله أطلعه على أنه اتخذه خليلا، وقال: (لو كنت متخذاً خليلا لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله).
والخلّة أعلى منزلة في البشر؛ لأنها تقتضي أن لا يبقى في قلب الإنسان مكان للمحبة إلا محبة الله، فلا يكون الإنسان خليلاً لله حتى لا يبقى في قلبه أي مكان لمحبة أي شيء غير الله؛ ولذلك اختص الله بها إبراهيم ومحمداً صلى الله عليهما وسلم.
ولذلك قال الشيخ هنا: (أعلاهم في الرتب)، وذكر أفعال التفضيل المقتضية للاشتراك؛ لأن أفعال التفضيل لا تفاضل إلا بين مشتركين في الوصف، فكل الرسل عليهم الصلاة والسلام عالي الرتبة؛ لكن أعلاهم رتبة محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا أخذ الله عليهم العهد أجمعين أن يؤمنوا به.(47/14)
تميز معجزة النبي صلى الله عليه وسلم على معجزات الأنبياء
ثم قال: [وكلهم أوتي إذ جا بالبشر ما مثله عليه آمن البشر] وهو هنا ينظم الحديث الذي أخرجه البخاري في الصحيح: (ما من نبي بعثه الله قبلي إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة).
قال: [وكلهم أوتي إذ جا بالبشر ما مثله عليه آمن البشر وإنما كان الذي الأواه أوتيه وحياً إليه الله أوحاه فهو أكثر الجماعه متبعا يوم تقوم الساعه كما رجا.
] أي: كما رجا صلى الله عليه وسلم، وهذا كله نظم لهذا الحديث، فقوله: (وكلهم أوتي إذ جا بالبشر)، أي: كل الرسل آتاه الله حين جاء (بالبشر) أي: مبشرات، والمقصود بذلك دعوته التي تشمل المبشرات والمنذرات، فكل الرسل بشير ونذير.
والبشر جمع بشرى، والمقصود بها تبشيرهم بالدين الذي أتوا به من عند الله.
(ما مثله عليه آمن البشر)، أي: أوتي من المعجزات ما لو رآه البشر لآمنوا به، فمعجزاتهم باهرة، فكل معجزة لو جمع لها البشر فرأوها لقامت عليهم الحجة، والدين الذين أتى به كل رسول منهم يصلح للوقت الذي هو فيه؛ ولهذا كانت معجزاتهم، مادية تقوم بها الحجة على عصر فقط، وهو العصر الذي رئيت فيه أو تواترت، ثم إذا انقطع التواتر زال الإعجاز منها، فمثلاً ناقة صالح، لا شك أن من رآها أو نقلت إليه تواتراً تقوم عليه الحجة بها؛ لكننا نحن اليوم لو لم ترد في القرآن لما صدقنا بها؛ لأننا ما رأيناها ولا نقلت إلينا أخبارها تواتراً.
لذلك فالمعجزات المادية إنما تكون مع الرسالات المؤقتة، وأما معجزة النبي صلى الله عليه وسلم فنظراًَ لبقاء رسالته، كانت هذا القرآن الباقي الخالد، الذي تقوم به الحجة على الناس أجمعين؛ ولهذا قال: (وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي)، فمعجزته هذا الوحي، وإن كانت له معجزات كثيرة؛ لكن تلك المعجزات لا تقوم بها الحجة على كل الناس، والذي تقوم به الحجة على كل من بلغ هو هذا القرآن، وهو المعجزة الكبرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقوله: (ما مثله عليه آمن البشر)، أي: ما تقوم الحجة بمثله على الناس أجمعين، و (البشر): هذا الجنس الآدمي.
وإنما كان الذي الأواه أوتيه وحياً إليه الله أوحاه.
معناه: إنما كانت معجزته الكبرى التي آتاه الله وحياً أوحاه الله إليه، وهو هذا القرآن، والأواه معناه: كثير التوبة والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا ثناء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أثنى الله به على إبراهيم عليه السلام: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114] منيب.
والمقصود: بالوحي الموحى؛ لأن المصدر يطلق على الحدث ويطلق على ما تعلق به الحدث، فالحدث هو ظاهرة الوحي نفسها، فهو نزول الوحي إليه، وهو القرآن الموحى، فالقرآن يسمى وحياً بمعنى موحى؛ لأنه أوحي إليه.
وقوله: فهو أكثر الجماعة متبعاً يوم تقوم الساعة أي: فبسبب كون معجزته هذا الوحي فهو أكثر جماعة الرسل عليهم الصلاة والسلام أتباعاً يوم تقوم الساعة.
قوله: (كما رجا)؛ هذا الذي ترجاه بقوله: (فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم ذلك: (فإنه حين عرضت عليه الأمم، رأى النبي وحده، والنبي ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان والثلاثة، والنبي ومعه الرهط، والنبي ومعه القبيلة، ثم رأى سواداً قد ملأ الأفق قال: فأقول: هذه أمتي؟ فيقال: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق فرأى أمته أضعاف ذلك)، وهذا التزايد علو في المنزلة؛ لأنه يزداد أجره بعدد أتباعه، فكل فرد من الأفراد آمن به، فإن كل عبادة يعبدها وكل ذكر يذكره يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم مثل أجره على التتابع الذي لا ينقطع إلا بقيام الساعة.
ولذلك فإن أمته كانت مدتها أطول المدد.(47/15)
شهادة أمة محمد على غيرها من الأمم
ومن حكم ختم الأمم بهذه الأمة أن هذه الأمة هي شهود الله على الأمم يوم القيامة، والشهادة من شرطها العلم، لقول الله تعالى: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ} [يوسف:81]، ولقوله: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86]، وفي حديث ابن عباس الذي أخرجه البيهقي في السنن بإسناد ضعيف، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أترى الشمس؟ قال: نعم، قال: على مثلها فاشهد أو دع).
وعلى هذا فلا يشهد الإنسان إلا على ما علم، ومع ذلك فهذه الأمة شهود الله على الناس، فلو كانت هذه الأمة سابقة لوقتها، لما جاز لها أن تشهد على من يأتي بعدها من الأمم؛ لأن ما يأتي بعدها سيكون مجهول الخبر، فتقدمتها الأمم حتى تشهد عليها؛ ولهذا قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].
وما من نبي إلا يخاصمه قومه يوم القيامة فيقولون: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ} [المائدة:19]، فيقال: ومن يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، حتى أن نوحاً يخاصمه قومه فيقولون: ما جاءنا من بشير ولا نذير، فيقال: ومن يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيؤتى برسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته فيستشهدهم نوح فيقولون: بلى قد مكثت فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، فيشهدون له.
ولا عبرة بكثيرة الانتساب إلى الديانات المحرفة، فملة عيسى وأتباع عيسى انتهت تبعيتهم لعيسى ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن عيسى بريء منهم بعد أن أخذ عليهم العهد إذا جاء النبي صلى الله عليه وسلم أن يتبعوه؛ وكذلك أتباع موسى فبمجرد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم انتهى أتباعه؛ لأنه أخذ عليهم العهد أن يتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فكل من بعد النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى ليسوا من أتباع عيسى ولا من أتباع موسى؛ بل هم من أتباع الشيطان، فقد غيروا العهد الذي أخذ عليهم أجمعين.
ومن هنا فلا تغتر بكثرة الذين يزعمون أنهم نصارى اليوم، ويزعمون أن أكثر الأديان انتشاراً في العالم الدين النصراني، فهذا ليس دين عيسى الذي جاء به، بل دين عيسى الذي جاء به مقتض لاتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث، وترك ما كان معهم بالكلية.(47/16)
الأسئلة(47/17)
عدم اختيار النبي صلى الله عليه وسلم من العرب العاربة
السؤال
لماذا كان النبي من العرب المستعربة لا من العاربة؟
الجواب
أما كون النبي صلى الله عليه وسلم من العرب المستعربة وليس من العرب العاربة، فهذا يقتضي زيادة شرف، فإن العرب المستعربة أشرف وأفضل عند الله تعالى وعند الناس، حتى قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا شك أن قبائل عدنان كانت لها المنزلة العظمى في جزيرة العرب، فلا يفخر عليها أحد من العرب العاربة، بل كانوا يتنافسون في التقرب إليهم.(47/18)
إباحة ذبائح أهل الكتاب ونسائهم مع أن دينهم غير مقبول
السؤال
إذا كان دين اليهود والنصارى باطلاً، فلماذا أبيحت نساؤهم وذبائحهم؟
الجواب
بالنسبة لإباحة نساء أهل الكتاب وذبائحهم وتسميتهم أهل كتاب ودينهم لا يقبل عند الله تعالى، فهذا ليس تشريفاً لهم، وإنما هو تشريف لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن تشريف الله للمسلمين أنه أباح لهم ذبائح أهل الكتاب ونساءهم، ووسع عليهم وما جعل عليهم في الدين من حرج، وقد كان أهل الكتاب يزعمون أن لهم شفوفاً على المشركين حتى أنزلت سورة البينة، فجاء فيها قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة:6]، فقال أبو بكر: استوت أكتافهم ورب الكعبة، فليس لهم أي شفوف على المشركين، فهم جميعاً شر البرية عند الله، وهم جميعاً إلى النار.
لكن إنما أبيحت ذبائحهم وأحل نساؤهم تشريفاً للمسلمين، لا تشريفاً لهم، هم ما لهم أي مزية في ذلك، بالنسبة لتشريف المسلمين بإباحة هؤلاء؛ لأنه على الأقل يجمعهم وإياهم بعض الأخلاقيات، ولهم مرجع يرجعون إليه وهو مرجع الدين، فلهذا أبيح للمسلمين نكاح نسائهم وأكل ذبائحهم، وأما المشركون الآخرون فليس لهم مرجع، بل إنهم يغيرون دينهم متى شاءوا، وحتى نساؤهم لم يكن مؤتمنات في أي شيء، لأنه لا يحبسهن أي شيء؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: [كانت نساء الجاهلية على قسمين: من لا ترد يد لامس ومن لها خدن]، وفي حديث علي بن أبي طالب: أنه كان النكاح في الجاهلية على قسمين أيضاً، وهذا كله يقتضي عدم الوفاء، وعدم العفة والحصانة، وهذه القيم توجد في أهل الكتاب نظراً لما معهم من القيم الباقية من دياناتهم المحرفة.
ونحن لا ننكر بعض الميزات المختصة بأهل الكتاب من الأحكام مثل ما ذكرنا، ومثل أن الله جعل الذين آمنوا بعيسى من أهل الكتاب أقوى من جميع الكفرة، فهذه ميزة ضمنها الله لعيسى: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:55]، فسيبقون أقوى من اليهود وأكثر منهم أعداداً وأكثر منهم قوّة دنيوية.
ومن هنا فقوله تعالى: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:55]، يوجد خلاف للمفسرين في معنى قوله: (اتبعوك)، فمنهم من قال: المقصود بذلك الحواريون وأتباع عيسى عليه السلام الذين سلكوا ملته قبل التحريف والتغيير، وهم من جاء قبل أن يغير بطرس النصرانية، فهؤلاء ضمن الله لهم هذه المكانة، و: (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) ليس ضماناً لبقائهم إلى يوم القيامة، بل النهايات كلها إلى يوم القيامة.
ومنهم من قال: المقصود بذلك كل من انتسب إليه حتى لو كان الاتباع مجرد انتساب، وليس المقصود أن يتبع ملته، وعلى هذا يدخل فيه من عاصرنا ومن يأتي بعدنا من النصارى الذين يزعمون الانتساب إلى عيسى عليه السلام.
وبعض الميزات الأخرى التي اختصوا بها في الأحكام مثل ما يختص بدعوتهم، فدعوتهم ليست كدعوة أهل الشرك، بل تختلف عنها في بعض الأصول كما في قول الله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت:46]، وكذلك إخبارهم بإيماننا برسلهم ونحو هذا، فدعوتنا أهل الكتاب متميزة عن دعوة ما سواهم.
ومما امتازوا به أن من آمن منهم برسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانه يؤتى أجره مرتين، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: العبد إذا أدى حق الله وحق مواليه، ورجل كانت له أمة فعلمها وأدبها فأحسن تعليمها وأحسن تأديبها ثم أعتقها فتزوجها، ورجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بي)، أي: كان على ملته قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ثم لما بلغته الدعوة آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يؤتى أجره مرتين.
فهذه ميزة لكنها بعد الإسلام، وهذه الميزة أيضاً هي نفسها المذكورة في قول الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة:82]، فالمقصود بهم الذين آمنوا من النصارى، وليس المقصود النصارى على كفرهم؛ ولذلك قال: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} [المائدة:83 - 85] فهؤلاء هم الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بدخول عدد كبير من النصارى في الدين، وأخبر أن اليهود قوم بهت؛ ولذلك قال: (لو آمن بي من اليهود عشرة وفي رواية: عشرون، لآمنوا كلهم)، فلم يؤمن به من اليهود في زمانه -مع أنه عاشرهم وعاش بينهم- عشرون شخصاً، بل الصحابة الذين هم من أصل اليهود قلة جداً، ولهم مزية وفضل عظيم جداً، وأكثرهم مشهود له بالجنة مثل عبد الله بن سلام ومخيريق؛ لأنهما خرجا من هذا الشعب المتعصب المصاب بالحسد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان تصديقهم للنبي صلى الله عليه وسلم وإيمانهم به واتباعهم له مزية عظيمة جداً، يضاعف لهم بها الأجر.
أما النصارى فقد أسلم منهم عدد كبير ودخلوا بعد ذلك في دين الله حين فتحت بلادهم.
وقد اختلف في مزية اليهود والنصارى من العرب: هل لهم مزية على اليهود والنصارى من غير العرب، فذهب قوم إلى دخولهم في المزية؛ لأن اصطفاء الله لهذا الجنس من الناس يقتضي اختياراً لهم، وعلى هذا يترتب بعض الأحكام، منها: أن عمر رضي الله عنه لم يفرض عليهم الجزية كما فرضها على غيرهم، بل صالحهم على أن يدفعوا الزكاة كما يدفعها المسلمون، وكان ذلك سبباً لإسلام كثير منهم.
وهذه الميزة لم يجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل فرض على نصارى نجران الجزية، وهي أربعة دراهم على كل حالم وأربعة آلاف حلة في السنة لكن لم يجعلها على أفرادهم إنما جعلها عليهم جميعاً، فكانت الجزية بمثابة الصلح، لأن الجزية تترتب على كل محتلم، والرسول صلى الله عليه وسلم جعل عليهم أربعة آلاف حلة ولم يحصهم عدداً، وكذلك يهود اليمن، وكذلك يهود خيبر بعد الهزيمة، فإنه أقر معهم التعامل على أن يأخذوا نصف ثمار خيبر، وأن يردوا عليهم نصفها، على أن تؤخذ منهم الجزية، ثم أخرجهم عمر.
أما الذين هم من العرب فقد أقرهم عمر ولم يخرجهم من جزيرة العرب، فقد أقر نصارى نجران، ويهود اليمن، وبني تغلب، فلم يخرجهم من جزيرة العرب مع أنهم أهل دين، وأخرج اليهود والنصارى الذين هم من غير العرب.
وعموماً هذه المسألة محل خلاف، ويترتب على هذا الخلاف أحكام فيما يتعلق بأخذ الجزية منهم ومعاملتهم معاملة مختصة.(47/19)
مسمى أهل الكتاب
السؤال
هل يطلق مسمى أهل الكتاب على غير اليهود والنصارى؟
الجواب
مسمى أهل الكتاب، إنما يطلق على اليهود والنصارى، وأطلق في سورة المائدة على فئة ثالثة هي فئة الصابئين، وقد اختلف في الصابئين، فذهب بعض الناس إلى أنهم صابئة أهل العراق وأهل حروراء، وهؤلاء طائفة من النصارى قد حرفوا ملتهم مثل السامرية من اليهود.
وقالت طائفة أخرى: بل هم أتباع يحيى بن زكريا عليهما السلام.
ولكن الراجح أن يحيى لم يكن له أتباع يختصون به، بل كان مجدداً لملل الأنبياء من قبله ومعاصراً لعيسى عليه السلام، ومصدقاً به كما أخبر الله بذلك في وعده لزكريا عليه السلام: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران:39]، فهو مصدق بعيسى بن مريم.
وذهب آخرون إلى أن الصابئين هم أتباع إبراهيم عليه السلام، وقد أثبت الله في كتابه أن إبراهيم اتبعه قومه؛ ولذلك قال: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:68]، فقوله: (الذين اتبعوه) يقتضي جمعاً، وهو لم يؤمن به من قومه إلا لوط وسارة، لذلك قال: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26]، وعلى هذا فقد اتبعه قومه، ولا ندري أين استقروا، ولكن أرجح الأقوال في تفسير الصابئين أن الذين أطلق عليهم هذا الاسم في القرآن هم من أتباع ملة إبراهيم، وقد بقي في ذريته بعض ملته، كما بقي في ذرية إسماعيل من ملته الحج وعقد النكاح وغسل الجنابة، والضيافة، وخصال الفطرة.
وعموماً فالصابئة الموجودون اليوم في العراق الراجح فيهم أنهم ليسوا أهل كتاب أصلاً وإن سموا أنفسهم صابئة؛ ولذلك فإن ملتهم أو ما يسلكونه من الطقوس يشبه إلى حد كبير ديانة البوذيين، ويزعم بعض الناس أن أحد فلاسفة المسلمين هو الذي سماهم صابئة؛ كما سيأتي.
ومذهب الجمهور أن الجزية لا تؤخذ إلا من اليهود والنصارى فقط، لقول الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29].
وذهب مالك إلى جواز أخذها من الكفرة جميعاً، وقال: إن الأصل في إباحة أخذ الجزية من الكافر أنه سيكون من رعايا الدولة الإسلامية، وأن الشعوب بكاملها إذا أذعنت لا يمكن أن تعرض على السيف، فليس لها حل إلا أن أخذ الجزية؛ ولذلك رأى أن الشعوب إذا دعيت فلم تستجب إلى الإسلام، ولكن قبلت الدخول تحت حكمه فإنها تؤخذ منها الجزية بغض النظر عن ديانتها، هذا مذهب مالك.
لكن مذهب الجمهور أن الجزية تختص بأهل الكتاب من اليهود والنصارى، ويلحق بهم المجوس لحديث عبد الرحمن بن عوف: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير آكلي ذبائحهم ولا محلي نسائهم)، وفي رواية: (ولا ناكحي نسائهم)، ولم يبق من سنة أهل الكتاب إلا أخذ الجزية منهم.
ويقال: إن المأمون أراد أن يعرض هؤلاء القوم وهم بالعراق على السيف أو يسلموا؛ لأنهم ليسوا أهل كتاب ولم يرد أن يأخذ جزيتهم، فشكوا إلى أحد فلاسفة المسلمين، فقال: ادعوا أنكم الصابئة، فادعوا ذلك، فلما أراد المأمون محاكمتهم جاء هذا الفيلسوف فجادل عنهم، وقال: إن أهل الكتاب لا ينحصرون في اليهود والنصارى فقط، بل الصابئون كذلك بنص القرآن -وقرأ عليه الآيات الواردة في ذلك- وهؤلاء هم الصابئون فتركهم، ومن ذلك الوقت سموا أنفسهم بالصابئين.
ويترتب على الخلاف السابق قضية أخرى، هي قضية استباحة دماء الكفار دون دعوة، فمذهب الجمهور: أنه لا يحل استباحة دمائهم وأموالهم إلا بعد دعوتهم، وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: يجوز أن تهاجم الكافر فتقتله ولو لم تنذره، واستدل على ذلك بقول الله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5]، فيقول: الذي يقعد في المرصد لن ينادي من يترصده ويقول: يا فلان أسلم أو أقتلك، لأنه إنما اختفى يريد أن يقتله.
ولعل مذهب الجمهور في هذا أولى؛ لأن سبب النزول يقيد، وبالأخص انتهاء الأشهر الأربعة التي أعطى الله تعالى مهلة للمشركين بعد منعهم من دخول المسجد الحرام بسورة براءة في العام التاسع من الهجرة.
وعلى كل ينبغي عدم التسرع في الحكم في مسألة السماع وقيام الحجة، فإنه مما لا خلاف فيه بين الأمة أن بلوغ الدعوة شرط من شروط وجوب الأحكام.
وبلوغ الدعوة لا يكون إلا عن طريق المسلمين، أما بلوغها عن طريق وسائل الإعلام المشوهة، فقد لا يتحقق به بلوغ الدعوة تماماً.(47/20)
كيد الأعداء لهذه الأمة
إن الكفر لم يزل يحارب الإسلام في كل مجال، ويحاول مسخ هوية المسلمين بكل ما يقدر عليه، ومن ذلك مهاجمة القيم والأخلاق، وفرض السياسات الغربية والعادات الجاهلية على المسلمين، وإن دين الله محفوظ، لكن يجب على المسلمين العمل لنصرته، وسبيل ذلك هو الاهتمام بعلوم الدين والمحافظة على لغته وتعاليمه، وصيانتها من غزو الكفار.(48/1)
مشروع العولمة ومهاجمته للإسلام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:(48/2)
العولمة وفرض اللباس الغربي على المسلمين
إن من الخطوات التي تدخل في إطار العولمة ما يتعلق بالقيم الأخلاقية والالتزام العادي؛ فإن الملابس مما تتميز به الشعوب، وكل شعب له ملابس تميزه، وهذه الملابس لها ضوابط شرعية، فلباس الرجل تعتريه أحكام الشرع كما قال محمد مولود رحمه الله: ثم لباس الشرع تعتريه الـ أحكام حتمٌ منه ما يقيه إلى أن يقول: لباس موسرٍ لباس معسرٍ شُحٌ وضده ثوب السري على الدني خيلا والضد مهانةٌ والمستجاد القصد والعلما يندب حسن الزي لهم ليعظموا لكف الغي وحسنه يندب للمصلي وللمؤذن وذات البعل فإذا جاءت الخطوة اللاحقة من العولمة فسيفرض لباس الغربيين على الناس، وقد سبقت تجربة هنا في هذا البلد، حيث فرضت الملابس الغربية فيما يتعلق بالعمل المكتبي كله، وقد فرضت من قديم هذه الملابس على الجيوش في العالم كله، فالجيوش والشرط وغيرهم فرض عليهم اللباس الغربي من زمان، وسيأتي هذا تباعاً، حتى أن النساء سيفرض عليهن الزي الغربي من الملابس، وسيكون ذلك متدرجاً، فسيأتي في البداية بالدعاية في برامج مصورة وأشرطة للفيديو، ثم يؤتى بجس النبضِ بالمباشرة في الحفلات الخليعة الماجنة، ثم بعد ذلك فرضاً، وتكون هذه القيم مما يعاقب عليه، وقديماً كنا ندرس في القانون أن من خصائص القاعدة القانونية أنها مُلزمة؛ وأن قواعد القانون الدولي العام غير ملزمة، وبهذا فليست قواعد قانونيةً في الواقع لأنها غير ملزمة.
لكنه بعد حرب الخليج الثانية، أصبحت قواعد القانون الدولي ملزمة، لأن أية دولة خالفت هذه القواعد سيفرض عليها الحصار، أو تضرب كالحال الآن في ليبيا وفي السودان وفي العراق وبعض الدول الإسلامية الأخرى، فباكستان الآن تهدد بهذا الحصار، وبذلك ستفرض القيم بالقوة، وهذا الأمر إذا لم تحس به الأمة ولم تستعد له، فسيأتي بالتدريج: كالموت مستعجلاً يأتي على مهلِ يأتي بالتدريج والتقسيط حتى يترسخ، وحينئذٍ من وقف في وجهه كان كمن يضرب في حديد بارد.
أما إذا انتشر الوعي بين الناس فعرفوا أن الهجوم الذي يشن على اللغة العربية ليس على وسيلة للتفاهم، أو على لغة من لغات العالم فقط، وإنما هو هجوم على الإسلام في قيمه وعقيدته ووحيه المنزل، وأخلاقه، وكل ما فيه، وأن الهجوم الذي يشن على التعليم ليس هجوماً على المؤسسات التعليمية أو تغييراً أو رُقياً في هذا المجال فقط، بل هو هجومٌ شرسٌ على الإسلام لاقتلاعه من جذوره، وأن الهجوم الذي يشن في الإعلام إنما يقصد به الوصول إلى من لا تصل إليه مؤسسات التعليم من الناس حتى يشارك في بناء عقليته وتصوره، ومن هنا فإن الإعلام لا يخرج فيه من الأخبار غالباً والتحاليل إلا ما كان مضللاً مبنياً على كذب ومجازفة متعمدة.
ولذلك فالتشويه الحاصل اليوم للمسلمين في كل مكان مبناه على أن وسائل الإعلام المؤثرة إنما يمتلكها أعداء الدين وأعداء الحق، وهم يخرجون فيها ما شاءوا، ومن هنا فلا يتوقع من هؤلاء أن يخرجوا دعايةً للإسلام ولا إنصافاً له، بل هم أعداؤه ويريدون القضاء عليه، ويودون ذلك، والقرآن صريح في هذا: {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة:2].
فهم لا يرضون منكم إلا الكفر {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، ومن هنا لا يرضون أبداً عن أي إنسان إلا إذا تبع ملتهم، لكنهم يرضون منه بالتدريج خطوة خطوة، وهذه سياستهم.
كذلك الهجوم على ما يتعلق بالقيم، فنحن نشاهد في كثير من البلدان الإسلامية اليوم قوانين تفرض على النساء إذا درسن في المؤسسات التعليمية أن يمتنعن من ارتداء الحجاب أو ستر رءوسهن، وهذا موجود في البلدان الإسلامية المجاورة، وهو مفروض بقوة النظام ولكنه خطوة واحدة من خطوات هذا الغزو في مجال القيم.(48/3)
العولمة وفرض الديمقراطية لصالح الغرب
ومثل هذا في المجال الاقتصادي ومثله في المجال السياسي في فرض الديمقراطية وفرض الكلام في حقوق الإنسان وغيرها، فهذه إنما هي على مكيال الغرب، فالديمقراطية إذا أدّت إلى وصول الفاسدين المرضين للغرب فهي ديمقراطية صحيحة شفافة مقبولة، وإذا أدّت إلى خلاف ذلك فهي منبوذة، ومعناها أن الشعب لم يصل إلى الوعي الكافي، ولابد من انقلاب عسكري يغير ذلك.
وكذلك في حقوق الإنسان في فلسطين، فإن المقصود بالإنسان فيها هو اليهودي فقط.
وحقوق الإنسان في كل بلد من البلدان التي فيها أقليات غير مسلمة، المقصود بها الإنسان غير المسلم فقط، فحقوق الإنسان في مصر يقصد بها حقوق الأقباط فقط، حقوق الإنسان في السودان يقصد بها حقوق الجنوبيين فقط، وهكذا فهذه الدعايات البراقة الخلابة التي يخدع بها الناس لها مفاهيم عند الغربيين، وإن الشعوب غير واعيةٍ لهذه الدلالات، وغير واعيةٍ لهذه المصطلحات المقصودة، ومن هنا ينخدعون بهذه الدعايات وتؤثر فيهم.
إن المؤتمرات التي تقام لترسيخ (الفرانكفونية) والإنفاق الكبير الذي يبذل فيها، لم يأت من فضاء، ولم يقصد به مجرد التقاءٍ أو تحاورٍ بين الشمال والجنوب كما يسمون ذلك الحوار، وإنما يقصد بها التحاور بين الجانب القوي والجانب الضعيف، وهذا الحوار بين جانبين أحدهما قويٌ (100%) والآخر ضعيف (100%)، ولن يكون فيه عدل أبداً بل سيكون الجانب الضعيف هو المهضوم وهو المهزوم، وهو الذي تفرض عليه قيم الجانب الآخر، ومن هنا فإذا لم يعم الوعي في الشعوب الإسلامية، فستأتي هذه الخطوات متسارعة.
وقد شاهدنا في السنوات الأخيرة تسارعها، فعندما أصبح القطب العالمي واحداً، وأصبح النظام العالمي الجديد ليس له من يقف في وجهه، أصبحت هذه الخطوات سريعةً جداً، فيأتيك قرار بفرض الديمقراطية من غير مطالبة، ثم يأتيك قرار آخر بتغيير التعليم، ثم يأتيك قرار آخر بتغيير القيم، ثم يأتيك قرار آخر بترسيخ الربا، ثم يأتيك قرار آخر قاضٍ على الصناعات والإنتاج كمنظمة (الجات) وغيرها، وهكذا تتسارع الخطوات في ظل غياب الوعي في الشعوب.(48/4)
توظيف الغرب لحقوق الإنسان لصالح الكفر
أما إذا حصل الوعي فبالإمكان أن تمتنع هذه الشعوب عن الانجراف والمسارعة والهرولة إلى اليهود والنصارى، فالذين يسارعون إلى اليهود والتطبيع معهم يظنون أنهم بذلك سيكسبون شهرةً عالميةً وأموالاً طائلة، أو على الأقل ستجدول ديونهم، ويقضى عليها، ولكن الواقع خلاف ذلك، فاليهود أنفسهم كل ميزانيتهم مستوردة من الخارج، ودولتهم دولة فقيرة مازالت تُدعم إلى اليوم من الولايات المتحدة الأمريكية، ومن غيرها من البلدان الأوروبية، وهم يسعون كذلك للتعويض من البلدان الغربية في كل سنة، فيفتعلون قضايا ويرفعونها عند المحاكم لينالوا مالاً، ففي العام الماضي أخذوا تعويضاً كبيراً من الألمان عن المحرقة اليهودية، وهذا العام أخذوا تعويضاً كبيرا من الهولنديين، والعام القادم سيأخذونه من دولة أخرى وهكذا.
فإذا كانوا أصحاب هلع وطمع، ولم يكن لديهم ما يكفيهم لتوسعهم في مشروعهم الحضاري وكانوا دولةً تعيشُ على حساب الدول، فكيف يطمع فيها من أغناه الله عنها، وبالأخص إذا عرف أنهم أهل المكر والدهاء من قديم العهد، فقد شهد الله عليهم بذلك في كتابه، وشهد عليهم بالكذب وأكل السحت وأكل الربا، وأنواع الفجور، وتحريف الكلم عن مواضعه، وبالأخص أن عداوتهم لهذه الأمة هي أعظم العداوات: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82]، فعداوتهم لهذه الأمة هي أشد العداوات، حتى حاولوا التخلص من شخص النبي صلى الله عليه وسلم برمي الحجر عليه، عندما أمروا عمرو بن جحاش أن يصعد فوق الدار، وأن يرمي الحجر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في الظل، وحاولوا وضع السم له في غزوة خيبر، وحاولوا كذلك التخلص من القرآن، وسحر النبي صلى الله عليه وسلم على يد لبيد بن الأعصم وبناته.
هذه مؤامراتهم على شخص النبي صلى الله عليه وسلم فقط، ثم مؤامراتهم بعد ذلك على الأمة لا حصر لها ولا نهاية، ومن هنا فلا يرجى منهم خير، ولا يمكن أن يطمع طامعٌ في خيرٍ يأتيه من قبل اليهود الذين شهد الله عليهم بهذه الشهادات المخزية، التي أخزاهم بها وبين بها حقيقتهم، وبين بها عوارهم وما هم فيه من أنواع المذلة والمهانة {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} [آل عمران:112].
فماكان هكذا فكيف يريد الإنسان التعزز به؟!(48/5)
بيان ضلال اليهود والنصارى وأن العلم عند المسلمين
إن المؤمن ينبغي أن يتذكر قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8]، ولا يمكن أن يطلب العزة لدى اليهود الأذلاء الذين كتب الله عليهم الذلة والمسكنة، وكذلك النصارى الضالين الذين لا علم لهم، كيف يطلب منهم العلم وقد شهد الله عليهم بذلك في كتابه، بل إن من ضل من علماءنا كان كاليهود، وجهالنا من ضل منهم كان كالنصارى، فاليهود هم المغضوب عليهم، والنصارى هم الضالون، فاليهود أضلهم الله على علمٍ، والنصارى ضلوا عن جهل، إن قوماً شهد الله عليهم بالجهل لا يمكن أن يطلب منهم العلم.
والذي يقول نحن نصلح التعليم لنحتذي بالنصارى ونريد منهم العلم، أول ردٍ عليه أن يقال: النصارى ليس لديهم علم، وقد حكم الله عليهم بذلك، وشهد عليهم به في كتابه، فكيف تطلب العلم من غير موضعه؟ إن هذا انتكاس في المفاهيم، وعدم وعي وإدراك للواقع، وهو من كيد هؤلاء الكائدين الماكرين، فيجب على الأمة أن تنتبه له، وأن لا تقبله بحال من الأحوال، ويجب على المسلمين أن يتعلموا لغة القرآن، وأن يهتموا بها وأن يعلموا أولادهم هذه اللغة، وأن يحافظوا عليها، وأن يعلموا أن المدارس النظامية التي هي من وضع الغربيين، لا يمكن أن تخرج العلماء، مادامت من وضع الغربيين.
هل رأيتم عالماً قط خريج جامعة لم يدرس في غيرها؟! لا يمكن أن يتم هذا، فلذلك لابد أن يعتني الناس بتعليم اللغة العربية، وأن يدرسوا أولادهم هذه اللغة، وقد أدركنا أسلافنا قبل سنوات، في بداية هذا الجفاف والناس ما زالوا يدرسون أولادهم ديوان الستة الجاهليين، والمعلقات السبع، وكان كل ناشئٍ بلغ عشرين سنة وهو لا يحفظ ألفية ابن مالك يعتبر ذلك سُبةً عليه، ومهانةً ومذلة بين الناس، واليوم شُغل الناس عن ذلك فأصبحت ترى الذين يراد منهم أن يكونوا قادة الأمة في المستقبل وحراس الدين، وهم لا يهتمون بشيء من هذا، ولا تعلق لهم بهذه اللغة ولا يعرفون شيئاً عنها، وهم بهذا يخادعون أنفسهم ويهملون ما فُرض عليهم، ونحن نعلم أن المكانة العالية التي تبوأها علماؤنا وقادتنا وخلفاؤنا عبر التاريخ إنما كانت في الأساس بهذا العلم.(48/6)
اعتناء المسلمين بعلم اللغة وذكر نماذج من ذلك
لاحظوا كلام الخلفاء الراشدين وقارنوه بكلام من دونهم، فستجدون مستواهم اللغوي وعنايتهم بهذه اللغة:(48/7)
ذكر نماذج من كلام علي رضي الله عنه
كتب علي رضي الله عنه إلى أحد عماله: غرك عزك فصار قصار ذلك ذُلّك، فاخش فاحش فعلك فعلّك تهدا بهذا كل كلمة تشبه الأخرى التي قبلها في الخط، وليس لديهم نقاط إذ ذاك، فقوله: (غرك عزك) تتشابهان في كتابتهما (فصار قصار) متشابهتان أيضاً (ذلك ذُلّك) كذلك، (فاخش فاحش) (فعلك فعلّك) (تهدا بهذا) كل كلمتين تشبه إحداهما الأخرى، وكذلك قال لكاتبه: ألصق روانفك بالجبوب، وخذ المزبر بأباخسك، واجعل جحمتيك إلى قيهلي، حتى لا أنبس نبسةً إلا أوعيتها في حماطة جلجلانك! وقد سئل مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي عن تفسير هذا الكلام فقال: ألصق معناها: ألزق، وروانفك: عضرتك، والجبوب: الصلة، وخذ المسطر: خذ المزبر، بأباخسك: بشناترك، واجعل جحمتيك: اجعل حندورتيك، إلى قيهلي: إلى أثعباني، حتى لا أنبس نبسةً: حتى لا أنغي نغية، إلا أودعتها: إلا أوعيتها، في حماطة جلجلانك: في لمظة رباطك.
ففسرها بما يشبهها من كلام العرب، ونحن نعلم أن كثيراً من الناس اليوم تتعلق نفوسهم بأن يكونوا كأسلافهم الصالحين، وأن يدركوا بعض ما أدركوه، فكثير من الذين اشتهروا في بلادنا هذه بالعلم، إنما كان تبريزهم فيه على أساس فهمهم في الكتاب والسنة لإحاطتهم باللغة، ولهذا فإن هذه البلاد يجب أن تبقى قلعةً للغة العربية، وأن يحافظ أهلها على ذلك، ولهذا فمن المعروف في العالم كله، بأن أهل هذه البلاد هم أهل العربية على وجه السليقة، وإذا زال ذلك وانمحى فليس لهم شيء يذكرون به غير هذا، فالشيخ محمد المامي رحمه الله يقول: فكانت في جزيرتها حجازاً ونحن لها معداً آخرينا لا بد أن تبقوا معداً آخرين وأن تبقى هذه البلاد حجازاً كما كانت.(48/8)
ذكر رسالة المجيدري إلى أمه
ومن المشاهير المبرزين من أهل هذه البلاد المجيدري المشهور وهو محمد بن حبيب الله بن الفاضل اليعقوبي، وحين أتى المغرب وهو في الخامسة عشرة من عمره لم يجد من يستطيع مناظرته في العلم، وذلك لتبريزه في اللغة وإحاطته بمفرداتها، فلا يمكن أن يأتوا بنصٍ إلا وله فيه فهمٌ وله عليه شواهد، وبذلك استطاع أن يخطف الأضواء ولم يجد من يستطيع مناظرته، وقد وجد تاجر كتبٍ في طريقه إلى هذه البلاد فأرسل معه رسالةً إلى أمه، هي عبارة عن سلهام وزربية وعبد وتسعين درهماً، وكتب له كتاباً فيه: (سلامٌ بزيادة لام ماءٍ إلى لامه وإحدى خبر كأن في قوله ترديت إلى آخر كلامه، وإياك نعبد وإياك نستعين).
فأخذ صاحب الكتب هذا الكتاب فقرأه فلم يجد فيه ذكراً للرسالة التي معه، فأراد أن يأخذ الرسالة، وأن يأتي بالكتاب إلى المرأة، فأتى العجوز بالكتاب فقالت: هات الزربية والسلهام، والعبد والتسعين، فقال: من أين أخذتها؟ فقالت: لام ماءٍ هاءٌ لأنه يجمع على (أمواه) ويصغر على (مويه)، والهاء إذا أضيفت إلى لام سلامٍ كان سلهاماً.
وإحدى خبر كأن في قوله ترديت إلى آخر كلامه، تقول: راجعت ذهني في أبيات الشعر المبدوءة بترديت فوجدت قول غيلان: ترديت من أعلام نورٍكأنها زرابي وانهلت عليك الرواعدُ فإذاً: (كأن) خبرها هنا (زرابيُ) واحدتها (زربية).
وأما (إياك نعبد وإياك نستعين) فلم أفهمها، فعرفت أنها مصحفة، فقرأتها بدون نقاط فإذا هي: أتاك بعبدٍ وأتاك بتسعين! ففهمت الكلام كما هو.(48/9)
ذكر أنموذج للاعتناء بعلوم اللغة
ونظير هذا جرى لعدد كثير منهم، فـ الحسن بن زين القنامي رحمه الله الذي ألف توشيح اللامية، وسبب تأليفه لهذا الكتاب أنه خرج في رفقةٍ إلى بلاد بوتة، وكان أهلها يعتنون بعلم اللغة إذ ذاك وكانوا من المبرزين فيها من عهد قيام دولة (السوكوتو) أو قبلها، فلما أتى هو ورفقته هذه البلدة، سألوهم هل هم من طلاب العلم؟ فقالوا: نعم.
فقالوا: فماذا تقرءون؟ قالوا: نقرأ الألفية، فسألوهم: ما وزن أرعوا؟ فلم يعرفوا وزنها، فقطع الحسن طريقه ورجع لدراسة الصرف، والتمكن فيه، حتى أضاف إلى اللامية قوله عند قول ابن مالك رحمه الله: وافعل لذا ألفٍ في الحشو رابعةٍ أو عارياً وكذاك بيخ اعتدل قال: والعيب واللون معناه به انعزل وعن مداه ارعوا كاحووا وخارجةٌ وارقدّ وازور عن معناته انفصل ومن ذلك ما حصل للعلامة البدوي رحمه الله عندما أتى قوم وهو في رفقتهم فسألوه عن أم آمنة بنت وهب فلم يعرفها، فقطع طريقه ورجع لطلب العلم، حتى نظم عمود النسب، وسماها فيه برة بنت عبد العزى، ولذلك فالحفاظ على اللغة العربية كان مسئوليةً مشتركة في أهل هذه البلاد، فكثير مما حصل من المناظرات والهجاء في هذه البلاد كان انتصاراً للغة العربية، ألا ترون أن التهاجي الذي حصل بين عدد كبير من الشعراء في هذه البلاد كان بسبب الانتصار للغة العربية فقط؟ ليس على أي أساس آخر، ومن ذلك ما حصل بين الشيخين المبرزين في اللغة الشيخ سيدي محمد بن شيخ سدية والشيخ محمد بن أم حمدي رحمهما الله فقد كان بسبب الانتصار للغة العربية.
وكذلك ما حصل بين الشيخين المبرزين في اللغة العربية أبي مدين بن الشيخ أحمد دو والشيخ محمد بن أحمدي فقد كان أيضاً بسبب الانتصار للعربية، وكثير من التنافر الذي يحصل بين العلماء كان بسبب الانتصار لهذه اللغة.(48/10)
ذكر نماذج لاعتناء نساء المغرب العربي بالعلوم
وكان للنساء كذلك المشاركة الواضحة في هذا الباب، فعندما قال محمد مولود بن أحمد رحمه الله: حنانك ذا الحنان لمن يروم شفاء حيث تطلع النجوم إلى أن يقول فيها: إذا ابتسمت بعيد النوم وهنا وقد خلفت مباسم من ينوم يلوح البرق ثم يبوح مسكٌ فحسبك ما تشم وما تشيم فقال: (ينوم)، قال له أحد العلماء المعاصرين له، وهو العلامة عبد الودود بن عبد الله إن (نام) مضارعها (ينام) فلم يجد شاهداً يشهد لقوله، لكنه اقتنع بأنه موافق للسليقة وأن ما قاله لابد أن يكون لغة بعض العرب، وكانت أخت زوجته مغتربة في أرضٍ بعيدة، فكانت ذات يومٍ تطالع كتاب معجم الشعراء الأدباء للمرزباني فقرأت فيه قول الشاعر: أكابد من تماضر برح همٍ وذو التهيام عزك أن ينومَ فإذا هو شاهدٌ في عين المسألة فأرسلت به راكباً حتى أتاهم به.
وكذلك فإن ابنة هذا الرجل وهي سكينة رحمها الله، أتاها ضيوف في عام من الأعوام التي كانت تمر بأهل هذه البلاد من القحط والجدب، فقدمت لهم رسل نوقٍ لديها، فأنشد الضيف رفيقه قول ابن مالك رحمه الله في النعت: ونعتوا بجملة منكراً فأعطيت ما أعطيته خبرا وامنع هنا إيقاع ذات الطلب فالجملة الطلبية لا ينعت بها، وإذا نعت بها فإن ذلك على تقدير قولٍ مضمرٍ وشاهد ذلك قول الراجز: بتنا بحسان ومعزاه تئط من لبن لها وسمن وأقط حتى إذا جنَّ الظلام واختلط جاءوا بمذقٍ هل رأيت الذيب قط فلم يذكر الشاهد وإنما ذكر قول ابن مالك: وامنع هنا إيقاع ذات الطلب ففهمت أنهم يقصدون الشاهد على هذه القاعدة، فقالت: كلا والله ما مسه ماءٌ ولكنه رسل نوقٍ ليس لها مرعى إلا ماء ضبة، فعرف الرجل أنها فهمت المسألة قبل أن يفهمها رفيقه.
ونظير هذا ما حصل لزوجة العلامة محمد فال بن بابا بن أحمد بيبا رحمها الله، فإن رجلاً من الطلاب كتب لها بعد قدوم محمد فال من سفر كان سافره: لا يرفع المريد للأشياخ من حاجاته إلا الذي منها بطن ورفعه الظاهر نزر ومتى عاقب فعلاً فكثيراً ثبتا فأرسلت إليه بكحل وكان هذا جواب البيتين، لأنه هو يريد مسألة الكحل في ألفية ابن مالك وهي: ما رأيت رجلاً أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد، وهذه المسألة هي التي يقول فيها ابن مالك في أفعال التفضيل: ورفعه الظاهر نزر ومتى عاقب فعلاً فكثيراً ثبتا كلن ترى في الناس من رفيق أولى به الفضل من الصديقِ ففهمت هذا بهذا اللغز، ونظير هذا كثير جداً، مما يقتضي منا المحافظة على مثل هذه القيم، وهذا التراث العريق الذي نحن بحاجة إليه، والأمة بحاجة كذلك إلى من يقوم بحفظ تراثها ونشره بين الناس.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(48/11)
مسائل الإيمان
من المسائل التي يتكلم فيها العلماء مسألة الإيمان، ومذهب السلف أنه قول واعتقاد وعمل، وأن العمل جزء من الإيمان، وقد خالف في العمل بعض السلف، وقد بين الشيخ مرتبة هذا الخلاف وما يترتب عليه.(49/1)
تعريف الإيمان لغة واصطلاحاً
قال الناظم: [ذلك والإيمان كل قد شمل عقداً بقلب مع قول وعمل بنية في سنة وبالعمل زيادة ونقصاً المثل احتمل] قوله: (ذلك)، أي: اعرف ذلك، وهذا يسمى الاقتضاب، فبدأ الكلام على توحيد الله سبحانه وتعالى وهو الركن الأول من أركان الإيمان؛ لأن أركان الإيمان ستة هي: الإيمان بالله.
والإيمان بملائكته.
والإيمان بكتبه.
والإيمان برسله.
والإيمان باليوم الآخر.
والإيمان بالقدر خيره وشره.
وقد سبق الكلام على القدر عرضاً في ذكر صفات الله سبحانه وتعالى، وكل ما سوى ذلك فهو داخل في الإيمان بالله سبحانه وتعالى، فلهذا اقتضب هنا فقال: (ذلك) ومعناه: اعرف ذلك، وهذا مشهور في لسان العرب وهو دليل على بلاغة صاحبه، ويأتي بلفظ (هذا) أو (ذلك) وقد كثر في القرآن، ومنه قول الله تعالى: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4]، (ذلك) معناه: اعرف ذلك، أو: اعرفوا ذلك، {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ} [محمد:4].
وقد يكون بلفظ (هذا)؛ لأنه اسم إشارة معناه: اعرف هذا، وإذا قلت: (ذلك) فهو اسم إشارة للبعيد، معناه: اعرف ما سبق المشرف التعظيم؛ لأن اللام بعد (ذا) تأتي للبعد إذا كانت مع الكاف، وهذا البعد المقصود به التعظيم، وإذا كان بلفظ (هذا) بالإشارة للقرب فالمقصود به: هذا الذي سبق، وهذا هو الذي يعنينا هنا، ومنه قول أبي الطيب المتنبي: هذا وإن مقام القول ذا سعة فإن وجدت لساناً قائلاً فقل(49/2)
اختلاف معنى الإيمان باختلاف حرف التعدية
وبدأ في المسألة الأخرى وهي تحديد الإيمان وتعريفه: والإيمان في اللغة: مصدر آمن، تطلق معداة باللام ومعداة بالباء، فالمعداة باللام معناها التصديق فيقال: (آمن له) بمعنى: صدقه فيما يقول، ومنه قول الله تعالى في قصة إخوة يوسف: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17]، أي: وما أنت بمصدق لنا ولو كنا صادقين.
وترد أيضاً معداة باللام بمعنى التسليم، فيقال: (آمن له) بمعنى سلمه أو حفظ غيبه فلم يتكلم في عرضه ولم يلمه في غيبته، ومنه قول الله تعالى في سورة التوبة: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:61]، (يؤمن للمؤمنين) معناه: يأمنونه بظهر الغيب فلا يعتدي عليهم ويسلمهم.
ولذلك تلاحظون أنه فرق بين التعدية بالباء والتعدية باللام، قال: (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين).
وأما قوله تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26]، فإن اللام هنا ليست هي اللام التي كنا نذكرها في تعدية (آمن)، وليس المقصود بذلك أن لوطاً صدقه أو أنه سلمه بظهر الغيب، وإنما المقصود بذلك أن لوطاً آمن وكان ذلك له، أي: في ميزان حسنات إبراهيم، أو: اتباعاً له، فآمن اتباعاً له لوط، فمفعول آمن هنا محذوف معناه: فآمن بالله لوط له، أي لإبراهيم، والمعنى: اتباعاً له.
وأما (آمن) المعداة بالباء فإنها تقتضي زيادة على التصديق وهو التصديق الجازم الذي لا يقبل الشك، والذي يقتضي عملاً، ولهذا لا يحل أن تعدى (آمن) بالباء إلا على ما هو ركن من أركان الإيمان، فتقول: آمن فلان بالله أو آمن بالرسول أو آمن بالكتاب أو آمن باليوم الآخر أو آمن بالملائكة أو آمن بالقدر، لكن لا يحل أن تقول: آمن بفلان من الناس، بمعنى: صدقه، ولا أن تقول: آمن بالمذهب الفلاني؛ لأن هذا وإن كان تصديقاً لكنه لا يقتضي الجزم، لكن يجوز أن تقول: آمن للمذهب الفلاني، أو آمن للخبر الفلاني، أو آمن لفلان، بمعنى: صدقه، لكن تعديتها بالباء تقتضي التصديق الجازم الذي لا يقبل الشك ويقتضي العمل، فلذلك تقصر على ما يجب الإيمان به مطلقاً.(49/3)
معنى الإيمان في كلام الشرع
والإيمان جاء في الشرع على إطلاقين: الإطلاق الأول: على الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو دين الإيمان ودين الإسلام، وحينئذٍ يترادف الإيمان والإسلام في التسمية، فهذا الدين اسمه الإسلام واسمه الإيمان أيضاً، فيدخل في ذلك شعبه كلها، وهي كما في الحديث: (الإيمان بضع وستون شعبة) وهذا لفظ البخاري، وفي صحيح مسلم: (بضع وسبعون شعبة)، وقد ذكر منها أن أدناها إماطة الأذى عن الطريق، وأعلاها قول لا إله إلا الله.
فالمقصود: أن كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الاعتقادات والأقوال والأعمال والأخلاق والقيم، داخل في مسمى الإيمان بإطلاقه العام، وهذا الإطلاق هو الذي تجدونه في بعض النصوص الشرعية التي لا يذكر فيها الإسلام معه، مثل حديث وفد عبد قيس، فإنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: (آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟)، وعلمهم الإيمان بالله وحده، وهو أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله وأن يقيموا الصلوات الخمس، وأن يؤدوا خمس المغنم، فهذا كله من الأعمال، وهو مسمى الإسلام أيضاً.
أما الإطلاق الثاني للإيمان: فهو على جزء الاعتقاد من هذا الدين، أي: على الجانب العقدي من هذا الدين، وهو الذي يسمى إيماناً بالمعنى الخاص، وقد جاء ذلك في قول الله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]، وجاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل حين سأله عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)، وجاء كذلك في حديث سعد بن أبي وقاص في الصحيحين: (أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالاً وترك رجلاً، فقلت: يا رسول الله، مالك عن فلان فإني والله لأراه مؤمناً؟ فقال: أو مسلماً؟ فسكت، ثم غلبني ما أعرف منه فقلت: يا رسول الله، والله إني لأراه مؤمناً؟ فقال: أو مسلماً؟ ثم سكت، ثم عدت فعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لمثل مقالتي، ثم قال: يا سعد إني لأعطي أقواماً خشية أن يكبهم الله على وجوههم في النار).
فهذا الحديث فيه تفريق بين الإيمان والإسلام، وكذلك في حديث جبريل السابق، وكذلك في آية سورة الحجرات، والمقصود بذلك أن الجانب العقدي من الإيمان يسمى إيماناً من باب تسمية الشيء باسم بعضه، مثل تسمية الإنسان الذي يُعتَق رقبة، والرقبة إنما هي جزؤه، ومثلما تقول: لدي خمسون رأساً من الغنم أو خمسون رأساً من الإبل، فهذا من تسمية الشيء باسم بعضه.(49/4)
ذكر اختلاف السلف في مسمى الإيمان وأدلتهم
ونظراً لاختلاف هذين المدلولين من ناحية العموم والخصوص كثر الخوض فيهما من لدن التابعين إلى زماننا هذا، فقد اختلف الناس في تحديد مسمى الإيمان من لدن عصر التابعين إلى وقتنا، فذهب جمهور التابعين وأتباعهم إلى أن الإيمان بالإطلاق الأول يدخل في مسماه كل الأعمال.
وذهب حماد بن أبي سليمان وعدد معهم من أئمة التابعين من أهل العراق، وتبعهم على ذلك كثير من أتباع التابعين مثل أبي حنيفة وأتباعه؛ إلى أن المقصود به عمل القلب فقط.
وهذا الخلاف، وإن كان قد اشتهر وانتشر وكثر الكلام فيه إلا أن الذهبي وشيخ الإسلام ابن تيمية ذكرا أنه خلاف لفظي؛ لأن الجميع لا يختلفون في أن من صدق بقلبه ولم يتبع ذلك أي عمل أنه لا يتقبل منه، ولا يختلفون كذلك في أن من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان سيخرج من النار يوم القيامة، ولا يختلفون كذلك في أن هذه الأعمال شرطها الإيمان، فمن لم يكن مؤمناً بقلبه لا يتقبل الله منه أي عمل ولا ينفعه ذلك في شيء، فالخلاف إذاً خلاف لفظي.
لكن بعض الناس توهم أن الذين قالوا بالإطلاق الأخص للإيمان يقصدون بذلك مذهب المرجئة، فالمرجئة قوم بالغوا في ردة الفعل على الخوارج الذين يكفرون بالذنوب، فكانوا يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهؤلاء لم يقصدوا هذا المعنى ولا أرادوه وإنما أرادوا تفسير النصوص الشرعية، وفسروا الإيمان بمعناه الخاص الذي تدل عليه آية الحجرات، ويدل عليه حديث جبريل، ويدل عليه حديث سعد بن أبي وقاص.
والآخرون أخذوا بالجانب الآخر، أعني بالإطلاق الأول العام الذي يدل عليه عدد كبير من الأحاديث مثل حديث عبد القيس، ومثل حديث (الإيمان بضع وسبعون شعبة)، ومثل حديث: (دعه فإن الحياء من الإيمان)، ومثل حديث: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً)، ومثل حديث: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً)، وحديث: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً)؛ كل هذا يقتضي أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان.
ومع هذا فقد أخطأ بعض المتأخرين حين صنف أولئك الأئمة من التابعين وأتباعهم بأنهم مرجئة الفقهاء، وهذا الاسم خطأ في حد ذاته؛ لأن فيه جراءة على هؤلاء الأئمة من السلف الذين هم أبعد شيء عن الإرجاء، فلا ينبغي أن يوصفوا بشيء لم يقولوه، والذي قالوه إنما هو تفسير للنصوص باعتبار الاستدلال الذي ذكرناه، ويعتمدون في ذلك على نصوص صريحة صحيحة مثل آية الحجرات، وحديث سعد بن أبي وقاص، وحديث جبريل.(49/5)
الكلام على زيادة الإيمان ونقصه
وقد تفرع عن هذه المسألة مسائل منها: مسألة زيادة الإيمان ونقصه.(49/6)
أقوال السلف في زيادة الإيمان ونقصه
ومسألة زيادة الإيمان ونقصه، قد اختلف فيها أيضاً على ثلاثة أقوال: فذهب جمهور السلف إلى أن الإيمان يزيد وينقص، واستدلوا على ذلك بعدد من الآيات التي فيها ذكر زيادة الإيمان مثل قول الله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124]، وكذلك قول الله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]، وكذلك قوله تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]، وكذلك قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]، فهذا يقتضي زيادة الإيمان، وقد صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ذكر أن الإيمان يخلق ويجد في القلوب.
المذهب الثاني: ما ذهب إليه هؤلاء الأئمة الذين ذكرناهم من أهل العراق مثل: حماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة وغيرهما، حيث قالوا: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص.
والمقصود عندهم القناعة القلبية؛ لأن من لم يصل إلى درجة اليقين الجازم الذي لا يقبل الشك لا يسمى مؤمناً؛ لأننا عرفنا الإيمان في القلب بأنه التصديق الجازم الذي لا يقبل الشك ويقتضي العمل، فعلى هذا من لم يكتمل هذا الجزم في يقينه وفي قلبه لم يؤمن بعد؛ لأن من شك أقل شك فهو غير مؤمن.
المذهب الثالث: ما روي عن مالك رحمه الله رواية لا أدري مدى صحتها، ولكنها مذكورة في بعض كتب العقائد، أنه قال مرة: إن الإيمان يزيد ولكنه لا ينقص، أو امتنع عن القول بنقصه، واستدل على ذلك بحرفية النصوص؛ لأن النصوص جاء فيها ذكر الزيادة ولم يرد في نص واحد منها ذكر النقص، فقال: أقف عند النص في مسمى الإيمان ولا أتعداه.
وكان رحمه الله يعجبه التقيد بالنصوص في المجال العقدي، لما ذكرناه من أن قاعدة العقائد التسليم بالنص وعدم مجاوزته، ولم يرد في أي نص لا من كتاب ولا من سنة ذكر النقص، إلا قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان يجد ويخلق)، فقوله: (يخلق) يدل على النقص.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن،)، ونحو ذلك؛ فهذا لا يقتضي نقصه فقط بل يقتضي مفارقته لصاحبه، وقد اختلف في المقصود به فقيل: الوازع الناشئ عن الإيمان الذي يمنع الإنسان من اقتراف المعصية سماه النبي صلى الله عليه وسلم هنا إيماناً، وهذا يفارق صاحبه وقت المعصية قطعاً.
وقالت طائفة أخرى: بل المقصود نور الإيمان؛ لأن الله تعالى قال: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52]، فنور الإيمان يفارق الإنسان وقت مقارفته للمعصية، فسمي ذلك مفارقة للإيمان كله.
وقيل: إن النفي مجازي لا حقيقي؛ لأن المقصود أن هذا الإنسان لو كان يؤمن بأن الله ينظر إليه وهو الذي حرم عليه هذا لما فعله واقترفه؛ لأنه لو نهاه ذو سطوة وقوة عن أمر وكان قائماً عليه بالسيف لم يمكن ليفعله بين يديه وهو يخافه؛ لكن هذا من نقص العقل لا من نقص القناعة؛ لأنه قد يكون أحمق، فيقع فيما نهي عنه وهو يعلم أن العقوبة ستحل به، فيكون هذا نقصاً في عقله لا نقصاً في قناعته.
وعموماً فهذه الأقوال الثلاثة ينبغي أن تكون أيضاً على الخلاف السابق، وأن يكون المقصود أن الإيمان بمعنى فعل القلب، ولا خلاف بأنه لا يزيد ولا ينقص على هذا؛ لأن من كان شاكاً لم يتم جزمه بعد لا يعتبر مؤمناً، وإذا قصد به الإطلاق العام فلا شك أنه يزيد وينقص؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)، وهذا يقتضي كمال الإيمان، وقد ذكر أن له ذروة سنام، وأن له شعباً من استكملها استكمل الإيمان.
فإذاًَ: الخلاف لا ينبغي أن يعود خلافاً جوهرياً أيضاً.(49/7)
اختلاف القائلين بزيادة الإيمان في معنى ذلك
لكن المشكلة أن القائلين بزيادة الإيمان اختلفوا في المقصود بزيادة الإيمان التي تتعلق بالزيادة والنقص: فقالت طائفة: الزيادة والنقص إنما يقعان في نور القلب تبعاً للعمل، فمن كثرت طاعاته ازداد نور الإيمان في قلبه، ومن كثرت معاصيه انتقص نور الإيمان في قلبه، وعلى هذا فالزيادة والنقص على قدر زيادة العمل ونقصه، فالعمل الصالح يزيد الإيمان بزيادته وينقص بنقصه، والعمل الفاسد يزيد الإيمان بنقصه وينقص بزيادته.
ودليل هذا أنه ذكرت معه الأعمال، كما في حديث شعب الإيمان، وكحديث: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً)، (ومن صام رمضان إيماناً واحتساباً)؛ فدل هذا على أن زيادة الإيمان تتعلق بالعمل نفسه.
القول الثاني: أن المقصود بزيادة الإيمان زيادة أجزاء ما يؤمن به الإنسان، فالإنسان في بداية معرفته بالله لا يعرف كثيراً من التفاصيل فيؤمن بأشياء قليلة، وكلما ازدادت معرفته بالله ازداد إيمانه، بمعنى: ازدادت أجزاء ما يؤمن به على ما كانت قبل ذلك، ولذلك فإن قول الله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [التوبة:124]، لأنهم كانوا يؤمنون بالسور التي سبقت، وقد زاد ذلك بهذه السورة فآمنوا بها أيضاً، فازداد عدد ما يؤمنون به، وعلى هذا فإنها تزيد جزئيات ما يؤمنون به.
وأهل الإيمان كلما تعلموا شيئاً مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ازداد إيمانهم بذلك؛ لأنهم يؤمنون بتصديقه بهذه المسألة بعينها، كما قال أبو بكر: (إن كان قالها فقد صدق)، ولهذا إذا سمعت أي خبر يتعلق باليوم الآخر وعرفت صحته فقد ازداد إيمانك بتلك الجزئية؛ لأنك كنت تؤمن من قبل لكن كان إيمانك بالتفصيل فيما يتعلق باليوم الآخر يتعلق بما تعرفه فقط ولا يتعلق بما تجهل إلا إجمالاً، وقد عرفت بعض تلك الجزئيات فزاد إيمانك؛ لأنه زادت أفراد ما تؤمن به.
القول الثالث: أن المقصود بزيادة الإيمان قوته وتمكنه من القلب، وسمي ذلك زيادة مجازاً، والإيمان هو الإيمان، لكن بعض الناس يكون هذا الإيمان راسخاً فيه يباشر بشاشة قلبه ويتأثر به تأثراً بالغاً ويبقى معه دائماً، فيتصف بصفات الإيمان ومقتضياته من الأمانة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا إيمان لمن لا أمانة له)، ومن تمام خلقه لقوله: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) وغير ذلك، فيكون الإيمان صفة راسخة في النفس.
والمقصود بنقصه أن يكون هذا الإيمان لم يرسخ بعد في النفس، فلم يؤثر تأثيراً بالغاً، فهو صبغة الله، ولا شك أن صبغة البياض مثلاً يتفاوت فيها المصبوغ، فمن المصبوغات ما يثبت فيه اللون ولا يسقط عنه ولا يغسله الماء، ومن المصبوغات ما يسقط لونه الماء أو ينقصه، فكذلك الناس يتفاوتون في الإيمان بحسب الصبغة، ولهذا عرف الله تعالى هذا الدين بأنه الصبغة بقوله: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة:138]، بعد ذكره للإيمان به.
وهذه الأقوال الثلاثة يمكن الجمع بينها جميعاً فيكون كل هذا مقصوداً بزيادة الإيمان ونقصه.(49/8)
اشتراط الإخلاص في الإيمان
ذكر الشيخ أطراف هذه المسألة فقال: (والإيمان كله)، والكل يشمل جزئيات متعددة، وهذا يدل على أنه ذو جزئيات سواء تعلق الأمر بفعل الجوارح لتفاوت الناس به، كما قال: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)، أو تعلق الأمر بعمل القلب؛ لأن الناس متفاوتون فيه بحسب ما يعلمونه تفصيلاً، وبحسب تمكن الإيمان منهم ورسوخه في نفوسهم، فلهذا قال (كل)، وكل (كلٍّ) لابد أن تعلم جزئياته، فلذلك ذكر الجزئيات بقوله: (قد شمل عقداً)، ومعناه: اعتقاداً بقلب، أي: بمكان الاعتقاد من النفس.
قوله: (مع قول)، وهو النطق بالشهادتين وبذكر الله سبحانه وتعالى، والإقرار بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به.
قوله: (وعمل) وهو أعمال الجوارح الأخرى، مثل أركان الإسلام الخمسة.
قوله: (بنية)، معناه: لا يتم هذا الإيمان إلا بنية، أي: بقصد لذلك، فمن أقر باعتقاد قلبه مع قول ومع عمل لكنه لم ينو بذلك التقرب إلى الله سبحانه وتعالى وتصديق ما أرسل به رسله، فإنه لن ينفعه إيمانه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات)، والإيمان من الأعمال، وهذا محل بحث: فقد ذكر بعض أهل العلم أن عمل القلب لا يحتاج إلى النية وإلا لاقتضى ذلك دوراً؛ لأن النية نفسها عمل قلب، ولا يمكن أن تكون النية محتاجة إلى نية، وإلا لاحتاجت تلك النية إلى نية ولاحتاجت تلك الأخرى إلى نية فيقع التسلسل، وهذا ممنوع.
لكن يجاب عن هذا بأن المقصود بنية الإيمان الإخلاص، والإخلاص شرط لكل عمل، فإذاً الإخلاص فيه لله هو المقصود بالنية هنا، وهذا معنى قوله: (بنية)، أي: بإخلاص.(49/9)
اشتراط المتابعة في أعمال الإيمان
قوله: (في سنة)، معناه: بموافقة لما شرع الله؛ لأن الإيمان عمل صالح والعمل الصالح له ركنان: أحدهما: الإخلاص.
والثاني: المتابعة والموافقة لشرع الله.
والمقصود بالسنة طريقة الأنبياء، والسنة في اللغة تطلق على الصبيب من كل شيء ومنه قول غيلان ذي الرمة: تريك سنة وجه غير مقرفة ملساء ليس بها خال ولا ندب وتطلق على الطريق في الجبل فيقال: في هذا الجبل سنة تصل إلى كذا، معناه: طريق.
وتطلق على الطريقة المعنوية في الخير كانت أو في الشر، ومن إطلاقها على الخير قول الله تعالى: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا} [الإسراء:77]، ومن إطلاقها على الشر {سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:38]، وقوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} [آل عمران:137]، أي: المكذبين.
وأما في الاصطلاح: فيختلف إطلاق السنة باختلاف العلم الذي تطلق فيه، فهي عند المحدثين ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، أو وصف خلقي أو خلقي سواءً صلح ذلك دليلاً لحكم شرعي أو لم يصلح، فهي موافقة للحديث على هذا، وقيل: الحديث أخص منها؛ لأن الحديث في الأصل يطلق على الأقوال دون الأفعال والتقريرات، والسنة تشمل كل ذلك.
وهي عند الفقهاء: صفة الفعل الشرعي المأمور به أمراً غير جازم، فالفعل الشرعي المأمور به إما أن يؤمر به أمراً جازماً فهو الواجب، وصفته الوجوب، وإما أن يؤمر به أمراً غير جازم فهذا يسمى سنة، وفي ذلك تفصيلات تذكر في الأصول، وهي التفريق بين السنة والندب والتطوع والمستحب.
وأما في علم العقائد فالمقصود بالسنة: ما يخالف البدعة، ولهذا جاءت مخالفة للبدعة ومعارضة لها في مثل قول حسان رضي الله عنه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الذوائب من فهر وإخوتهم قد بينوا سنة للناس تتبع يرضى بها كل من كانت سريرته تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا سجية تلك منهم غير محدثة إن الخلائق فاعلم شرها البدع ولذلك كان مالك رحمه الله يقول: فخير أمور الدين ما كان سنة وشر الأمور المحدثات البدائع والسنة هنا المقصود بها ما يخالف البدعة، فالشيخ هنا ينظم رحمه الله كلام ابن أبي زيد في الرسالة، فإنه ذكر أن الإيمان لا يتم إلا باعتقاد، ولا يتم الاعتقاد إلا بقول، ولا يتم القول إلا بعمل، ولا ينفع اعتقاد وقول وعمل إلا بنية، ولا ينفع الاعتقاد والقول والعمل بالنية إلا بمتابعة السنة، والمقصود بذلك السنة عند أهل العقائد لا السنة عند من سواهم.
قوله: (وبالعمل زيادة ونقصاً المثل احتمل)، يقول: إن الإيمان يزيد وينقص بالعمل، وقوله: (المثل احتمل)، أي: الإيمان يحتمل الزيادة والنقص، فبزيادة العمل يزداد الإيمان وبنقصه ينقص، وهذا اختيار من الشيخ للمذهب الأوسط من المذاهب الثلاثة التي ذكرناها في الكلام على زيادة الإيمان ونقصه.(49/10)
الأسئلة(49/11)
تفاوت الناس في الإيمان بقدر ما يقوم بقلوبهم
السؤال
ما معنى قول حنظلة: (نافق حنظلة)، وما علاقته بالإيمان وزيادته؟
الجواب
بالنسبة لحديث حنظلة رضي الله عنه أنه خرج يبكي فلقيه أبو بكر فسأله: (ما يبكيك؟ فقال: نافق حنظلة.
فقال: ولم؟ قال: إنا إذا كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تذكرنا الجنة والنار، فإذا خرجنا من عنده وعاشرنا أهلنا لم نستشعر ذلك)، الحديث في صحيح مسلم، وهذا الحديث وإن كان يشعر بأن مقام التذكر والتأثر يتفاوت إلا أنه هنا يتعلق بالإحسان لا بالإيمان من ناحية المصطلح العقائدي.
فقد ذكرناه أن الدين ثلاثة عناصر: الإيمان.
والإسلام.
والإحسان.
فحديث حنظلة هنا يتعلق بالإحسان، لأنه فيما يتعلق بإيثار الآخرة على الأولى والانشغال بها، وتعلق القلب بالله وبما عنده، والخوف منه ورجائه، فهو فيما يتعلق بالرجاء والخوف والاتصال بالله، لا فيما يتعلق بالإيمان من حيث الجانب العقدي.
كذلك ما ورد في الآثار من نسبة زيادة الإيمان لبعض الناس مع أن أعمالهم ليست أكثر من أعمال من سواهم، لكن إخلاصهم وأعمالهم الباطنة قد تكون أكثر، والعمل هنا يشمل الجميع.
وأيضاً: فقد تطلق زيادة الإيمان على الإطلاق الأول الذي لا خلاف فيه، وهو إطلاق الإيمان على كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون المقصود بذلك الاجتباء.
فإن الله سبحانه وتعالى قسم أهل الإيمان إلى قسمين: القسم الأول: الذين اجتباهم، وهؤلاء ملأ الله قلوبهم من الإيمان دون أن ينشغلوا ودون أن يتعبوا أنفسهم بالمجاهدة.
والقسم الثاني: الذين هداهم، وهؤلاء هم الذين أتعبوا أنفسهم بالمجاهدة وبمحاولة زيادة القناعة وزيادة الطمأنينة في القلب.
وذكر الله سبحانه وتعالى القسمين في قوله: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى:13]، فالاجتباء لم يشرطه إلا بمشيئته، والهداية اشترطها بالإنابة، والإنابة من عمل المكلف وفعله، وبهذا يتبين الفرق بين الأمرين.
وهذا المعنى قد أخذه الصوفية حين فرقوا بين الجانبين، فذكروا أن الواصلين لله سبحانه وتعالى بمعرفة الله ينقسمون إلى قسمين: أهل اجتباء، وأهل هداية.
فأهل الاجتباء سموهم بالمجذوبين، وأهل الهداية سموهم بالسالكين، ولذلك يقولون: المجذوب لا يُسلِّك، والسالك يمكن أن يُسلِّك.
المقصود هنا: أن من ملأ الله قلبه بقناعة الإيمان دون أن يتعب نفسه بالعمل ودون أن يتعب نفسه بالتعلم والمجاهدة لا يستطيع أن يربي غيره؛ لأنه ما عرف المفاوز ولا عرف كثيراً من العلل والمشكلات التي تمر بها النفوس.
أما السالك الذي تعب بالمجاهدة والصبر، فصبر عن معصية الله وصبر على طاعته، وعانى مزالق النفوس وعرف أوقات الضعف وأوقات الإقبال على الله سبحانه وتعالى؛ فإنه يستطيع أن يُسلِّك، بمعنى: يستطيع أن يربي.
وهذا الكلام وإن كان في الأصل مصطلحاً من مصطلحاتهم لكنه مقبول شرعاً؛ لأنك تعرف الآن أن بعض الناس أذكياء بفطرتهم، يمكن أن يقرأ أحدهم الكتاب فيستوعبه بالمرة الواحدة لكنه لا يستطيع شرحه، أما من درس الكتاب وشرح له وفهمه، فإنه يستطيع أن يشرحه وأن يبين كثيراً من الأمور التي لا يمكن أن يعرفها الأول بمجرد القريحة.
فإذاً: هذا فرق بين الأمرين، فهو مثل الفرق بين طريقتي الجذب والسلوك.
وعلى هذا فأولئك الإخوان الذين جاءت فيهم بعض القصص والحكايات وبعض الآثار الصحيحة، واتصفوا بزيادة منسوب الإيمان ومستواه، لعلهم من الذين اجتباهم الله ولم يتعبوا أنفسهم بالمجاهدة والعمل، ولهذا جاء في حديث أبي موسى الأشعري في صحيح البخاري: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أسلم وأقاتل، أم أقاتل ثم أسلم؟ فقال: أسلم ثم قاتل، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وقاتل فقتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد عمل هذا قليلاً وأجر كثيراً)، فهذا أصبح من أعلى الصحابة منزلة؛ لأنه أصبح من الشهداء مع النبي صلى الله عليه وسلم.
ومثل هذا يقال فيما يتعلق بالذين ماتوا قبل أن ينزل كثير من القرآن، فإن خديجة بنت خويلد توفيت ولم تصل الصلوات المفروضة، ولم تصم؛ لأن رمضان ما فرض بعد، ولم تحج حجاً واجباً؛ لأن الحج ما فرض إلا بعد موتها، ولم تزك؛ لأن الزكاة لم تفرض إلا في المدينة، ومع ذلك فهي من أكمل الناس إيماناً، وكثير من التفصيلات لم تتعلمها قط.
وكذلك صاحب عبد الله بن عمرو الذي قال له: (إني لاحيت أبي فأريد المبيت عندك إلخ)، فليس عنده كثير صلاة ولا كثير صيام ولا ذكر، لكنه كان لا يجد في قلبه ضغينة على مسلم، فبهذا شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة.(49/12)
معنى أن المؤمن لابد أن يخرج من النار
السؤال
يذكر أهل العلم أن النجاة الأخروية مشروطة بالإيمان، فهل ينفع ذلك بدون عمل؟
الجواب
بالنسبة لما يذكره أهل العلم من أن النجاة الأخروية مشروطة بالإيمان، فهذا لا خلاف فيه بين الناس؛ لأن من لم يؤمن فإنه لو عمل أمثال الجبال من الأعمال الصالحة فإنها لا تنفعه، لقول الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، ولقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39].
فالمقصود أن من كان مؤمناً فإنه سيخرج من النار إذا مكث فيها قدر ما ينقيه؛ لأن الله سيقول: (وأخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان).
وأما من كان كافراً بالله وليس في قلبه مثقال ذرة من إيمان فإنه إلى النار قطعاً، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي، إلا كبه الله على وجهه في النار)، فمن مات على الكفر سيدخل النار خالداً مخلداً لا يخرج منها أبداً، ومن مات وفي قلبه مثقال ذرة من إيمان فصاعداً فإنه لابد أن يخرج من النار حتى لو دخلها، وهذا المقصود بأن الإيمان شرط النجاة.
وكذلك حديث القبضة الربانية التي يقبضها الله سبحانه وتعالى من أهل النار فيدخلها الجنة، فإنه يحمل على من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان؛ لأن من ليس كذلك لا يدخل الجنة، ويمكن أن يحمل على الذين لم يكلفوا أصلاً، ولعلهم ممن دخل بسوق آدم، لأن آدم سيخرج بعث النار بأمر الله تعالى له من أرض المحشر، من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، فتكون القبضة من هؤلاء، ولذلك جاء في حديث الشفاعة: (انتهت شفاعة الشافعين وبقيت شفاعة أرحم الراحمين)، فالله سبحانه وتعالى يشفع لمن لم يشفع له ممن في قلبه مثقال ذرة من إيمان، فهذه شفاعة أرحم الراحمين سبحانه وتعالى عندما تنقضي الشفاعات الأخرى.(49/13)
التوفيق بين غضب الله الشديد في المحشر وادخاره للرحمة إلى يوم القيامة
السؤال
جاء في حديث الشفاعة: (إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله)، أين هو من رحمته حيث ادخر تسعاً وتسعين رحمة، وأنزل في الدنيا رحمة واحدة فبها يتراحم الخلائق فيما بينهم، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها إلخ؟
الجواب
تلك الرحمات التسع والتسعين مدخرة لعباده المؤمنين في الجنة فقط، وأما أهل المحشر فإن رحمتهم إنما هي من رحمة أهل الدنيا؛ لأنهم يرحمون بمحمد صلى الله عليه وسلم بشفاعته، وهو رحمة مهداة إلى أهل الدنيا، فهي من الرحمة الواحدة.(49/14)
فتور المؤمن في مقامات اليقين
السؤال
الخوف والإشفاق والخشية من مراتب الإيمان، والإنسان قد تضعف عنده هذه الأمور أحياناً، فما السبب، وهل يكون ذلك من ضعف الإيمان؟
الجواب
بالنسبة للإشفاق والخوف والخشية كلها مراتب متقاربة من مراتب الإحسان، وكلها من مقامات اليقين ومن أقسام الإحسان، وليست من مراتب الإيمان.
وبالنسبة للفتور الذي يصاب به أهل الإيمان في بعض الأحيان فإنه ينشأ عن أمور متعددة، منها: أولاً: المطاعم والمشارب، فهذه كثيراً ما تؤثر في إيمان صاحبها، فكم من شربة يشربها الإنسان أو لقمة يلتقمها تعطله عن طاعة عظيمة، وقد تكون هي مباحة في حد ذاتها لكنها غير مباركة، لم يبارك الله فيها، فتقعد بصاحبها عن بعض الأعمال.
ولذلك فالبركة شيء في المطاعم والمشارب نفسها، فمثل ما نقدر نحن اليوم الفيتامينات والبروتينات في التغذية فكذلك البركات مثلها تماماً، لكننا لا نستطيع قياسها ولا نستطيع اكتشافها مثلما نكتشف البروتينات والفيتامينات.
ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في موانع استجابة الدعاء الأكل من الحرام، قال: (إن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون:51]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟).
كذلك من أسباب هذا الفتور الاندفاع الشديد؛ لأنه يقتضي من الإنسان حصول المشقة في بدنه فتكون نفسه قد سبقت بدنه، فتبذل نفسه ما لا يستطيع البدن تحمله فتخونه قواه، وهذا ما نبه إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: (فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى) وفي قوله: (فأوغلوا فيه برفق).
وكذلك أخرج البخاري في صحيحه قال: حدثنا عبد السلام بن مطهر، قال: حدثنا عمر بن علي، عن معن بن محمد الغفاري، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدين يسر ولن يشاد الدين إلا غلبه)، وفي رواية: (ولن يشاد الدينُ إلا غلبه) وفي رواية: (ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا قاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة).
السبب الثالث من أسباب هذا الفتور: استعجال النتائج: فكثير من الناس يعلق آمالاً بحصول نتائج معينة، وهذه النتائج ليست بنات الأسباب، فالنتائج من قدر الله والأسباب من قدر الله، لكن لا يحل التوكل على الأسباب والاعتماد عليها، بل هو شرك، ولا يحل تركها، بل هو معصية، فعلى الإنسان أن يباشر الأسباب وهو يعلم أن النتائج إلى الله إن شاء أداها وإن شاء لم يؤدها، وعلى هذا فإن من تعلق قلبه بتلك النتائج كثيراً ما يمتحنه الله بتأخرها.
وفي القاعدة الفقهية المعروفة: من تعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، فكثيراً ما يعاقب بحرمان ذلك، ومن هنا يصاب بإحباط فيقتضي ذلك فتوراً منه.
ومن أسباب الفتور: عدم وجود المنافسة، فالنفوس مبنية على الملل، وإذا شعر الإنسان بالمنافسة ازداد تضحية، فإذا لم يشعر بالمنافسة فإنه يكسل، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، وكانت منافسة الصحابة فيما بينهم للتضحية في سبيل الله والبذل.(49/15)
أقسام رضوان الله ومن يستحقه
السؤال
ورد في حق أهل بدر: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، وفي حق عثمان: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم)، فما حكم الذنوب التي يفعلونها بعد ذلك؟
الجواب
لا شك أن بعض الأعمال قد يرتب الله سبحانه وتعالى عليها رضوانه الأكبر، فإذا رضي عن قوم رضاه الأكبر الذي لا خطر بعده فإنه لا يضرهم ما فعلوا، وقد اختلف العلماء في معنى ذلك: فقالت طائفة منهم: يفعلون الذنب وهو مغفور، فتسبق المغفرة الذنب أصلاً، فنحن الآن قد يغفر الله لنا إذا تبنا واستغفرنا، وأولئك ذنوبهم سبقتها المغفرة، فهم يفعلون الذنب وهو مغفور أصلاً.
وقالت طائفة أخرى: بل يفعلونه ذنباً مبغوضاً إلى الله سبحانه وتعالى، ثم يتوب الله عليهم وقد تعهد لهم بذلك فتوبته عليهم تأتي بعد وقوعهم في الذنب.
فمن الذين حل عليهم رضوان الله الأكبر الذي لا سخط بعده، الذين شهدوا معركة بدر، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).
وكذلك الذين بايعوا تحت الشجرة، فأنزل الله فيهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} [الفتح:18]، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة).
وفي حديث جابر في صحيح مسلم أنه قال لهم حين بايعوه تحت الشجرة: (أنتم أفضل أهل الأرض)، وفي رواية: (أنتم خير أهل الأرض).
وكذلك في حديث عثمان بن عفان: (لا يضر عثمان ما فعل بعد اليوم)، وذلك حين جهز جيش العسرة واشترى بئر رومة فجعل دلوه فيه كدلاء المسلمين، ونحو ذلك من الأعمال.
لكن هذا لا يمكن أن يكون نوعاً من العمل يقاس عليه فمن فعله أثيب هذا الثواب، وإنما يعرف هذا بالوحي: هل حل رضوان الله الأكبر وعلى فلان من الناس أو لم يحل.
فقد عرفنا نحن بالوحي أن رضوان الله الأكبر حل على كل من حضر معركة بدر وكل من بايع تحت الشجرة، فهم أقوام بأعيانهم، أخبر الله عنهم رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن لا يمكن أن نقول: الآن من جهز ثلاثة آلاف مجاهد مثلما فعل عثمان حلَّ عليه رضوان الله قياساً على عثمان، بل لا يعلم من تقبل منه، قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27].
فإن قيل: يمكن أن يحل رضوان الله الأكبر يقع على بعض الناس اليوم؟ فالجواب: قال جل وعلا: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:20]، نسأل الله أن يحل علينا رضوانه الأكبر الذي لا سخط بعده، ونحن لا نمنعه أبداً لكننا لا نطلع عليه؛ لأن الوحي قد انقطع، وهو لا يعلم إلا عن طريق الوحي، لكن نسأل الله أن نكون ممن حل عليه رضوانه الأكبر الذي لا سخط بعده.
والرضوان ينقسم إلى قسمين: رضوان أصغر، ورضوان أكبر.
فالرضوان الأصغر: هو المتعلق بذنب بعينه، كمن أسلم بعد الكفر، أو تاب من ذنب معين فتاب الله عليه، فهذا رضوان أصغر، يمكن أن يذنب الإنسان بعده ويكتب عليه ذلك الذنب.
والرضوان الأكبر: هو الذي يغفر ما تقدم من الذنب وما تأخر، ومما يدخل في الرضوان الأكبر ما أخرجه البخاري في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد يذنب ثم يقول: يا رب أذنبت وعلمت أنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فقد استغفرتك وتبت إليك فاغفر لي، ويقول الله: قد فعلت، ثم يمكث ما شاء الله أن يمكث ثم يذنب، فيقول: يا رب أذنبت وعلمت أنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فقد استغفرتك وتبت إليك فاغفر لي، فيقول الله: قد فعلت، ثم يمكث ما شاء الله أن يمكث ثم يذنب، فيقول: يا رب أذنبت وعلمت أنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فقد استغفرتك وتبت إليك فاغفر لي، فيقول الله: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، لا يضر عبدي ما فعل بعدها أبداً)، فهذا يحل عليه رضوان الله؛ لكننا لا نعرف هذا بعينه، ولا نعرف أن الله أجاب أحداً منا بهذا إلا عن طريق الوحي، والوحي قد انقطع بموت النبي صلى الله عليه وسلم.
لكن هذا من الرضوان الأكبر، لأنه في المرة الأولى قال: (قد فعلت)، وهذا رضوان أصغر، والمرة الثانية أيضاً رضوان أصغر، والمرة الثالثة رضوان أكبر.(49/16)
حسن الخلق وكمال الإيمان
السؤال
ما المقصود بحسن الخلق في حديث: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)؟
الجواب
بالنسبة لحسن الخلق الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقا) المقصود به ما يكون من حسن التعامل مع الله ومع الناس، فهو يشمل ما يقتضي من الإنسان الإحسان عموماً الإحسان في أدبه مع الله، والإحسان في معاملته لوالديه والإحسان في معاملة أهله ولده، والإحسان في معاملة جيرانه، والإحسان في معاملة عامة المسلمين، والإحسان في معاملة سائر الناس.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول فيما روي عنه من حديث أبي ذر رضي الله عنهما: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)، وهذه هي الرحمة، والله كتبها على نفسه فقال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54].
ولذلك يقول الحكيم: ارحم بني جميع الخلق كلهم وانظر إليهم بعين الرفق والشفقه وقّر كبيرهم وارحم صغيرهم وراع في كل خلق حق من خلقه فهذا الخلق هو ركن ركين من أركان هذا الدين، وهو أساس القيم التي جاء بها هذا الدين وفرضها وشرعها، ولذلك من أراد أن يتعامل مع هذا الدين في برود وجفاف ولا يستعمل جانبه العاطفي فيه ولا يهتم به، لا يمكن أن يكون من أكمل المؤمنين إيماناً أبداً، لأنه يهمل هذا الجانب فتقع منه مجازفات وتنطع وتشدد على الناس في غير موضعه.
وقد أخرج عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج أن رجلاً قال لـ عطاء بن أبي رباح: (يا عطاء! إنك يجتمع في مجلسك الناس -يقصد الفرق الإسلامية- وإني أكلمهم فاشتد عليهم ولا أراك تفعل ذلك، فقال: إني سمعت قول الله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83])، فيدخل في ذلك اليهودي والنصراني.(49/17)
من خصائص المصطفى صلى الله عليه وسلم
لا منة علينا لأحد -بعد الله- مثل ما لهذا النبي الكريم، إذ هدانا الله به إلى الصراط المستقيم، ووقانا من حر نار الجحيم، وقد خصه الله بخصائص عظيمة، ومناقب كبيرة، منها أنه صاحب المقام المحمود الذي يحمده عليه جميع الخلائق حتى الأنبياء.(50/1)
الشفاعة في الآخرة
قال الشيخ: كذا من الذي اصطفي به الشفاعة لأهل الموقف قد اصطفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرف بعدة أمور عمن سواه، منها الشفاعة العظمى، وقد جاء فيها عدد من الأحاديث، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (أوتيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي)، وفي الحديث الآخر: (وأوتيت ستاً لم يعطهن نبي قبلي)، فذكر منهن: أنه كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعث إلى الناس عامة.
وأنه جعلت له الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل.
وأنه أحلت له الغنائم ولم تكن مباحة لمن سبقه.
ومنها الحوض المشهود الذي يرده الناس، فهو مختص به صلى الله عليه وسلم.
ومنها الشفاعة الكبرى، فهي من خصائصه صلى الله عليه وسلم.
فهذه بعض الميزات التي اختص الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أعظمها الشفاعة.
قال: (كذا) معناه: مثل ما سبق من اختصاصه بعموم الرسالة المترتب على أن معجزته الوحي الذي أوحاه الله إليه؛ كذلك مما (اصطفي به) أي: شرف به على غيره من الرسل؛ (الشفاعة)، والشفاعة مصدر شفع يشفع إذا طلب الإذن أو الصفح عن غيره، أو قضاء حاجة، فهذا هو الذي يسمى شفاعة.
والشفاعة تزاد بها منزلة صاحبها؛ لأنها وجاهة له ومنزلة، ويزاد بها أجره أيضاً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء)، وقال: (إني لأرجئ الأمر وأنا أريد أن أفعله رجاء أن يشفع فيه أحدكم)، فهذا مما يزيد منزلة الشخص.
والشفاعة عند الله سبحانه وتعالى يشترط لها -بالإضافة إلى وجاهة الشافع- الرضا عن المشفوع له، فمن ليس مرضياً عند الله لا يمكن أن يشفع له أحد، لذلك قال الله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28]، وكما قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، فلا يشفع عنده إلا لمن أذن في الشفاعة له.
والشفاعات ثمانية أقسام اختص الله رسوله صلى الله عليه وسلم بثلاث منها هي: 1 - الشفاعة العظمى.
2 - والشفاعة الصغرى.
3 - والشفاعة الوسطى.
وهذه الثلاث من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم.(50/2)
الشفاعة العظمى
الشفاعة العظمى هي: الشفاعة في أهل المحشر جميعاً بعد أن يطول بهم الموقف، وهذه الشفاعة صح بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدد من الأحاديث، منها قوله: (إن الناس إذا جمعوا في الساهرة يلجمهم العرق إلجاماً، وتدنو الشمس حتى تكون كالميل، ويطول بهم الموقف، فيذهبون إلى العلماء فيقولون: كنا نرجع إليكم في أمورنا في الدنيا، فيقولون: ليس اليوم لنا إنما هو للأنبياء، فيذهبون إلى آدم فيقولون: يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيمينه، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول آدم: نفسي نفسي، ربي! لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد عصيت الله وأكلت من الشجرة، ولكن اذهبوا إلى نوح.
فيأتونه فيقولون: يا نوح! أنت أبو البشر بعد آدم فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار -وفي رواية أنهم يقولون: أنت أول الرسل إلى أهل الأرض- فيقول: نفسي نفسي، ربي! لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني سألت الله ما لم يأذن لي به, ولكن اذهبوا إلى إبراهيم.
فيأتونه فيقولون: يا إبراهيم! قد اصطفاك الله لخلته، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول: نفسي نفسي، ربي! لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني كذبت ثلاث كذبات، ولكن اذهبوا إلى موسى.
فيأتونه فيقولون: يا موسى! قد اصطفاك الله برسالاته وبكلامه فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول موسى: نفسي نفسي، ربي! لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفساً لم يؤذن لي بقتلها، ولكن اذهبوا إلى عيسى.
فيأتونه فيقولون: يا عيسى! أنت روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول عيسى: نفسي نفسي، ربي! لا أسألك إلا نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني عبدت من دون الله -لا يجد شيئاً يذكره إلا هذا- ولكن اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
فيأتونه فيقولون: يا محمد! أنت خاتم الرسل، فاشفع لنا إلى ربنا إما إلى جنة وإما إلى نار، فيقول محمد صلى الله عليه وسلم: أنا لها، فيخر ساجداً تحت العرش، ويلهمه الله ثناء عليه لم يلهمه أحداً قبله، فيناديه: يا محمد! ارفع رأسك، واشفع تشفع، وسل تعط.
فيشفع للناس، فيخرجون من هول الموقف).
وهذه هي الشفاعة الكبرى التي تشمل آدم ومن دونه، فكل الخلائق يدخلون فيها.(50/3)
الشفاعة الصغرى
الشفاعة الثانية: الشفاعة الصغرى، وهي أخص الشفاعة، وهي الشفاعة لرجل من أهل النار قد أوجب، فيشفع له رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخفيف العذاب عنه، فيقف على ضحضاح من نار يغلي منه دماغه، وفي رواية (تجعل جمرتان تحت أخمصيه يغلي منهما دماغه)، والراجح أنه أبو طالب، لا يمسه شيء من عذاب النار إلا جمرتان تحت أخمصيه يغلي منهما دماغه، وهذا بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا تحل الشفاعة لأي كافر سواه، وهذه من خصائصه لأن الله قال لإبراهيم عليه السلام: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة:114]، وأخبرنا أنه جعل لنا أسوة حسنة في إبراهيم إلا قول إبراهيم لأبيه: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة:4]، هذا ليس لنا أسوة فيه.(50/4)
الشفاعة الوسطى
الشفاعة الثالثة: الشفاعة الوسطى: وهي الشفاعة في دخول الجنة، وهي أيضاً من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، فهو أول من يحرك حلقة الباب، فيشفع لأهل الجنة في دخول الجنة بعد مجاوزة الصراط.
فهذه ثلاث شفاعات مختصة برسول الله صلى الله عليه وسلم.(50/5)
ذكر أنواع الشفاعة الأخرى
بعد هذه الشفاعات تأتي شفاعة مختصة برب العالمين، وهي أنه إذا انتهت شفاعة الشافعين، ومكث أهل النار فيها ما مكثوا، فإن الله تعالى يقول: انتهت شفاعات الشافعين، وبقيت شفاعة أرحم الراحمين، فيؤمر بأقوام قد اسودوا وامتحشوا فيخرجون من النار، وهؤلاء هم الذين قالوا: لا إله إلا الله، ثم الذين في قلوبهم مثقال ذرة من إيمان، أو الذين في قلوبهم مثقال خردلة من إيمان إلى آخره، وهؤلاء يتفاوتون بحسب ذلك، فأول من يأمر الله بإخراجهم من النار بعد نهاية شفاعة الشافعين من قال: لا إله إلا الله، ثم بعد ذلك من كان في قلبه شيء من إيمان، ثم من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، ثم مثقال ذرة من إيمان، وهكذا.
وهذه الشفاعات ليست التي فيها الحثيات، بل هؤلاء يخرجون من النار بشفاعة أرحم الراحمين.
ثم بعد هذه تأتي الشفاعات الأخرى ومنها: الشفاعة الخامسة: الشفاعة في إخراج المذنبين من الموحدين من النار، فإن أهل التوحيد من كل الأمم يدخلون النار بمعصيتهم، ويخرجون منها بإيمانهم، من شاء الله له منهم ذلك، ومن شاء الله عفا عنه ولم يعذبه أصلاً، ومن شاء عذبه في البرزخ عذاب القبر ويذهب عنه به عذاب النار؛ لأن عذاب القبر من مكفرات الذنوب، ومن شاء عذبه بناره لكنه لا يخلد فيها، فمن كان من أهل الإيمان لا يخلد في النار، وهؤلاء يخرجون منها بالشفاعات، شفاعة الرسل والأنبياء والصالحين والملائكة، فهذه الشفاعة عامة شاملة من ناحية الشافع، خاصة من ناحية المشفوع، فهي مختصة بالذين في النار من أهل الإيمان.
ثم الشفاعة السادسة: وهي الشفاعة في الحقوق، فإن بعض الناس يأتي وله حقوق على غيره، فيجازيهم الله عنها بالشفاعة، ويقول: (يا عبدي! لك على فلان كذا وكذا، أيرضيك أن أعطيك كذا فتسامحه؟).
ثم بعد هذا الشفاعة السابعة: وهي الشفاعة في تخفيف العذاب عن بعض المجرمين من المؤمنين، وهؤلاء لا يصلون إلى درجة الخروج من النار، ولكنهم يخفف عنهم العذاب بشفاعة الشافعين كنقص المدة ونقص أنواع العقاب، نسأل الله السلامة والعافية! ثم الشفاعة الأخيرة: الشفاعة لأهل الجنة في إعلاء منزلة بعضهم، وجمعه بأهله وأقاربه، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21]، وفي القراءة الأخرى (ألحقنا بهم ذرياتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء).
فهؤلاء تلحق بهم ذرياتهم، وتجمع معهم، والذرية تطلق على الآباء والأبناء، فمن إطلاقها على الآباء قول الله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس:41]، فذريتهم التي حملت في الفلك المشحون معناها: آباؤهم الذين حملوا مع نوح.
وإطلاقها على العقب مثل قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ} [الأنعام:84]، الآية.
فهذه هي الشفاعات الأخروية.(50/6)
الكلام على الشفاعة في الدنيا
الشفاعة في الدنيا هي الشفاعة عند الله تعالى في الوصول إلى الحقوق؛ وهي باستجابة الدعاء، وهذا لكل الرسل وللصالحين من عباد الله تعالى، وللملائكة المقربين فإنهم يشفعون للمؤمنين، وقد جاءت في ذلك آيتان إحداهما مطلقة والأخرى مقيدة.
فالمطلقة قول الله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى:5].
والمقيدة في قوله تعالى في سور المؤمن: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر:7 - 9].
فدعاء الملائكة لأهل الأرض مختص بالذين آمنوا واتبعوا.
كذلك الشفاعة بالدعاء للمطر ونحو ذلك، وقد كان الناس يلجئون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا، فيدعو لهم فينزل المطر، ولذلك سره صلى الله عليه وسلم حين أتاه رجل وهو على المنبر كما في حديث أنس فقال: يا رسول الله! هلكت البهائم وانقطعت السبل، فادع الله لنا أن يسقينا، فاستسقى وما في السماء قزعة فرأوا غمامة من قبل سلع، وجاء المطر واستمر أسبوعاً ثم جاء الرجل وهو على المنبر في الجمعة الأخرى يستصحي، فتهلل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (من يحفظ قول أبي طالب؟) فأنشده أبو بكر رضي الله عنه قول أبي طالب: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل يلوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل ومن هذا النوع استسقاء عمر بدعاء العباس، كما أخرج البخاري ذلك تعليقاً في الصحيح، فهذا الاستشفاع بدعاء الناس في الدنيا من قبيل الشفاعة؛ لكن من قبيل الشفاعة الدنيوية فقط، وإنما يختار له من يدعو ممن يظن به الخير ممن يعرف بذلك، ولهذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب إذا أتاه أويس القرني أن يسأله أن يستغفر له.
والشفاعة العامة هي أعظم الشفاعات، وهي المقام المحمود الذي وعد الله به رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، المقام المحمود الذي يحمده فيه الأولون والآخرون هو مقام الشفاعة، وهي المنزلة الرفيعة التي ادخرها الله لعبد عنده، وقد رجا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون هو، فحقق الله له ذلك، وهذه الشفاعة هي مقصود الشيخ في قوله: كذا من الذي اصطفي به الشفاعة لأهل الموقف وأهل الموقف هم أهل المحشر، وسمي موقفاً لوقوف الناس أجمعين؛ لأن الناس حينئذ يقومون لرب العالمين، ولا يجلس أحد منهم من هول الموقف، ويطول بهم الوقوف حتى يذهب عرقهم في الأرض كثيراً، وحتى يلجمهم العرق ويتفاوت الناس في ذلك بحسب أعمالهم، منهم من يصل العرق إلى ثدييه، ومنهم من يصل إلى ترقوتيه، ومنهم من يلجمه إلجاماً.(50/7)
وجوب الإيمان بالسنة والعمل بها
فآمنوا به وما أتى به فاقفوا وإن لم يأت في كتابه أي: فآمنوا به صلى الله عليه وسلم، فإن الإيمان به هو شهادة أن محمداً رسول الله، وهو مكمل لشهادة أن لا إله إلا الله، لا يمكن أن تقبل شهادة أن لا إله إلا الله بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلا ممن شهد أن محمداً رسول الله، لذلك قال: (فآمنوا به).
والله تعالى أمر بذلك في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء:136].(50/8)
ما أتى في السنة فقد أمر القرآن باتباعه
فآمنوا به وما أتى به فاقفوا وإن لم يأت في كتابه فمن تمام الإيمان به صلى الله عليه وسلم أن يصدق في كل ما أخبر به، وأن يطاع في كل ما أمر به، وألا يعبد الله إلا بما شرع، وهو ما بين النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا قوله: (وما أتى به فاقفوا).
أي: كل ما جاء به من عند الله تعالى فيجب اقتفاؤه أمراً كان أو نهياً، فالأمر اقتفاؤه بعمله، والنهي اقتفاؤه باجتنابه، ولهذا قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
(وإن لم يأت في كتابه)، أي: في القرآن، (فإنه أوتي مثله معه)، وهذا ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث متعددة منها حديث المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك أن يأتي رجل شبعان متكئ على أريكته يأتيه الأمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، ما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله)، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه).
فعلى هذا فإن كل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من التشريع سواء جاء في القرآن أو في السنة يجب اتباعه واقتفاؤه، ولذلك صح عن ابن مسعود أن امرأة أتته فقالت: (يا أبا عبد الرحمن سمعت أنك تلعنني، فقال: ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله، وكانت هذه المرأة واشمة تشم النساء، فقالت: لقد قرأت المصحف من الجلدة إلى الجلدة وما وجدت فيه ذلك، فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، أما وجدت قول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلعن الواشمات والمستوشمات).(50/9)
علاقة السنة بالقرآن
وعند قوله: (وإن لم يأت في كتابه) تأتي علاقة السنة بالقرآن، وقد ذكر العلماء ستة أوجه في علاقة السنة بالقرآن: الوجه الأول: أن تكون السنة مفسرة للقرآن، أي: شارحة له، وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث حفصة: (ألا إن الورود العبور)، وذلك تفسير لقول الله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71]، فبين أن الورود المقصود به العبور على الصراط.
ومثل قوله: (المغضوب عليهم اليهود، والضالون النصارى).
الوجه الثاني: أن تكون مخصصة لعام القرآن، وذلك مثل قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38]، فهذا عام؛ لأن (أل) في السارق حسية تشمل كل سارق، وكذلك السارقة، وقد خصص ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق النصاب، وبين أنه ليس فيما دون ثلاثة دراهم قطع، وأنه من أخذ بفيه غير متخذ خبنة فلا قطع عليه، فهذا كله تخصيص للعام.
الوجه الثالث: أن تكون السنة مقيدة لمطلق القرآن، مثل قول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196]، فإن الله أطلق الصيام والصدقة والنسك، ولكن قيد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث كعب بن عجرة فقيد الصيام بثلاثة أيام، والإطعام بستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، والنسك بشاة.
الوجه الرابع: أن تكون السنة ناسخة للقرآن، وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني خذوا عني فقد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)، كما في حديث عبادة بن الصامت.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث).
فالحديث الأول ناسخ لآية النساء وهي قول الله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء:15] , فبين ذلك السبيل السنة.
والحديث الثاني ناسخ لقول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:180].
وهذه وإن كانت محل خلاف لكن الراجح أنها منسوخة بالسنة فقط وليست بالكتاب؛ لأن السنة هي التي بينت أنه لا وصية لوارث، أما الكتاب فليس فيه تصريح أنه لا وصية لوارث.
الوجه الخامس: أن تكون السنة منسوخة بالكتاب، وذلك مثل صلاته صلى الله عليه وسلم سبعة عشر شهراً إلى الشام بالمدينة فنسخ ذلك بقوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144]، فنسخت السنة بالكتاب.
الوجه السادس: أن تكون مضيفة حكماً ليس في الكتاب، وذلك مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (كل ذي مخلب من الطير فأكله حرام، وكل ذي ناب من السباع فأكله حرام).
ومثل حديث أبي هريرة رضي الله عنه (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على عمتها وخالتها).
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، فهذه إضافة أحكام ليست في القرآن، لكن الحكم الأخير وهو تحريم نشر الحرمة بالرضاع، أصله في القرآن وهو قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء:23]، لكن لم يذكر الخالات من الرضاعة ولا العمات من الرضاعة ونحو ذلك، وقد ذكر ذلك في هذا الحديث.
أما الحديثان الأولان حديث النهي عن كل ذي مخلب من الطير، وكل ذي ناب من السباع، وحديث النهي عن أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها، فهذا قطعاً فيه إضافة حكم ليس في القرآن.(50/10)
معاني السنة لغة واصطلاحاً
قال: فإنه أوتي مثله معه من حكمة وسنة متبعة بين أن ما أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم يسمى سنة ويسمى حكمة، والسنة في اللغة: الطريقة خيراً كانت أو شراً.
فمن إطلاقها على طريقة الخير قول الله تعالى: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا} [الإسراء:77]، ومن إطلاقها على الشر قول الله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [آل عمران:137].
وتطلق كذلك على الصميم من كل شيء كقول غيلان: تريك سنة وجه غير مقرفة ملساء ليس بها خال ولا ندب وتطلق على الطريقة في الجبل.
واصطلاحاً: يختلف إطلاقها باختلاف العلم الذي هي فيه، ففي علم العقائد تطلق السنة على مقابل البدعة.
وقد تطلق على ما يقابل الشيعة بالخصوص فيكون ذلك إطلاقاً جزئياً يقال: أهل السنة والشيعة، تكون هنا غير مقابلة لكل بدعة، بل مقابلة لبدعة الشيعة فقط.
والسنة في اصطلاح أهل الحديث هي: ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، أو وصف خلقي أو خلقي، سواء صلح دليلاً لحكم شرعي أو لم يصلح.
وعند الأصوليين هي: ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير مما يصلح دليلاً لحكم الشرع.
وعند الفقهاء هي: صفة المأمور به أمراً غير جازم.
وفي اصطلاح آخر لبعض الفقهاء أنها: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأظهره في ملأ وواظب عليه ودل الدليل على عدم وجوبه، وهذا عند الذين يفرقون بين السنة والندب.
والسنة تسمى حكمة، والحكمة في الأصل جعل الشيء في موضعه، وتمام العقل وإتقان كل شيء، فهي من (أحكمه)، أي: أتقنه، والسنة تسمى حكمة، ولذلك عطفت على القرآن في عدد من الآيات كقول الله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]، وكقوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران:164]، وكقوله تعالى في سورة الجمعة: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2].
فالحكمة التي يعلمها والتي تتلى هي السنة، وهي بيان للقرآن، ولذلك قال: (من حكمة وسنة متبعه).
قوله: (متبعة) هذا تقييد للسنة، وهو تقييد مهم؛ لأن العمل مهم في مجال الاستنان؛ لأن الحديث إذا روي قولاً دون عمل، أي: لم يعمل به الصحابة ولم يعرف تطبيقه فإنه لا يكون العمل به سنة، وكذلك السنة الفعلية إذا لم يصحبها عمل فذلك دليل على نسخها، وأبلغ دليل في هذا الباب أن كثيراً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لم تصل إلينا ولم تنقل، والكتب التي ذهبت ولم تنقل قد استغنت عنها الأمة بما نقل، فهو كاف، والله تعالى تعهد بحفظ الدين، والدين نصفه في السنة، فما بلغنا من السنن ونقلته الأمة وعملت به فهو الدين المحفوظ، وما سواه فهو الأمور الشاذة التي هي من المتشابهات التي لا ينبغي اتباعها.
ولهذا حذر عدد من أئمة السلف من الذي يأخذ الغرائب ويتتبعها ويشذ عن جمهور الأمة ويخالفها، ولهذا فإن كثيراً من الشواذ يبحثون عن أي حديث فإذا وجدوه حتى لو لم يفهموا معناه أو كان محتملاً لعدة أوجه؛ حملوه على المعنى الشاذ الغريب وعملوا به، وأرادوا بذلك إظهار الفتنة والفوضى بين الناس، وهذا مخالف للمقصود الشرعي، ولذلك قال: (وسنة متبعة).
وقد نص عدد من الأئمة على هذا الشرط، منهم ابن عون وهو من أئمة التابعين، وسفيان بن عيينة، وكذلك الثوري وفي كلام الزهري تصريح بذلك حيث قال: آية محكمة أو سنة متبعة.(50/11)
الأسئلة [1](51/1)
ذكر بعض أشعار الجن ومدى صحتها
السؤال
يذكر العلماء أشعاراً للجن في كتبهم، فكيف رويت هذه الأشعار، وكيف اطلعوا على صحتها؟
الجواب
بالنسبة للأشعار والمقامات الواردة عن الجن والمروية في كتب السير، فإن كثيراً من هذه الكتب القديمة لا يظن بأهلها الكذب مثل محمد بن إسحاق فهو حديث عهد جداً؛ لأنه من كبار أتباع التابعين، فقد لقي عدداً كبيراً من التابعين وعهده قريب، فهي مروية عن الصحابة.
وقد صح من أشعارهم بعض ما روي في صحيح البخاري مثل بكائهم على عمر بن الخطاب، ومثل أشعارهم في وقت الهجرة، فقد كان بعضهم من المسلمين لم يعرفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك، ومنهم الصارخ الذي سمعه أهل مكة ينوه بـ أم معبد: جزى الله عنا والجزاء بفضله رفيقين حلا خيمتي أم معبد هما نزلا بالحق وارتحلا به فيا سعد من أمسى رفيق محمد وكذلك قول الآخر: فإن يسلم السعدان يصبح محمدٌ بمكة لا يخشى خلاف المخالفِ فيا سعد سعد الأوس كن أنت ناصراً ويا سعد سعد الخزرجين الغطارفِ أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا على الله في الفردوس منية عارف وأشعارهم كثيرة، لكن بعض الأشعار تنسب إليهم ولم تثبت، مثل: نحن قتلنا سيد الخز رج سعد بن عباده رميناه بسهميـ ـن فلم تخط فؤاده ونحو هذا، فهذا لا يصح عنهم.
والمقصود بصحة ذلك أن يسمعه الناس ولا يعرفون له قائلاً، بل يسمعون هاتفاً يصيح فيسمع الناس الكلام ويحفظونه ولا يعرفون له قائلاً، ولا يرون أحداً، فهذا المقصود من صحة الرواية عنهم.(51/2)
الصلاة على الأنبياء
السؤال
نرجو منكم الكلام على صيغة الصلاة على النبي، وهل تجوز الصلاة على غيره؟
الجواب
أما ما يتعلق بالصلاة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإن الله أخبرنا أنه يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وأمرنا أن نصلي ونسلم عليه، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله صلى على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في حديث كعب بن عجرة، وهذا يقتضي الصلاة عليهم أجمعين؛ لأن آل إبراهيم يدخل فيهم دخولاً أولياً الأنبياء والرسل.
لكن اختلف أهل العلم في مشروعية ذلك، وأجمعوا على أنه يجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مرةً في العمر وعند ذكره، وأن ما زاد على ذلك مندوب، إلا في التشهد فقد اختلف فيه في التشهد الأخير هل هو على الوجوب، أو على السنية؟ وكذلك في خطبة الجمعة، هل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيها ركن من أركانها كما لدى الحنابلة في المشهور عنهم؟ أو ليس كذلك فتكون سنةً فقط.
وأما من سواه من الرسل فلا تجب الصلاة عليهم، لكنها من السنن والمندوبات، وذكرهم بالصلاة والسلام هو المروي عن كثير من السلف، فقد كانوا يقولون: إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وتجدون ذلك في صحيح البخاري في كثير من المواضع، وقالت طائفة من الناس: بل الأفضل أن يخصص ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي أخبر الله أنه يصلي عليه، وأمرنا أن نصلي ونسلم عليه، وأما من سواه فيقال: (عليه السلام)، وهذا اللفظ أيضاً لا يختص بالرسل بل تجدون في صحيح البخاري إطلاقه على علي بن أبي طالب مثلاً وغيره مثل فاطمة عليها السلام.
وصيغة الصلاة والسلام على النبي إذا كانت بالعطف فلا خلاف أيضاً في أنه يجوز أن يلحق به من سواه، ولهذا يصلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وآله يشمل كل مؤمن به كما سبق بيان ذلك، وكذلك على عباد الله الصالحين كما في حديث كعب بن عجرة، لكن البحث في الصلاة والسلام على غير النبي منفرداً دون عطف.
وقد صح في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم صل على آل أبي أوفى)، وأبو أوفى رجل من الأنصار، وهو والد عبد الله بن أبي أوفى، كان يأتي بصدقته قبل أن يأتيه الساعي، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة قال: (اللهم صل على آل أبي أوفى).
ولم يكن مستنكراً في الصدر الأول أن يقال: صلى الله عليك يا فلان! أو نحو هذا، أو إذا ذكر فلان فقيل: صلى الله عليه من باب الدعاء، فهذا لم يكن مستنكراً في الصدر الأول، لكنه اليوم مستبشع أن تذكر شخصاً من الناس فتقول: صلى الله عليه وسلم مثلاً، ولهذا ينبغي أن يخصص في زماننا هذا بالنبي صلى الله عليه وسلم وإذا أطلق على نبي من أنبياء الله فلا إشكال أيضاً، لكن لا ينبغي أن يطلق على من دونهم ولا من سواهم.
ومما كان في الصدر الأول قول جرير: صلى على عزة الرحمن وابنتها لبنى وصلى على جاراتها الأخرِ(51/3)
أنساب الأنبياء
السؤال
ذكرتم أن الأنبياء يكونون من أوسط قومهم نسباً، فهل ورد ذكر أنسابهم في الشرع؟
الجواب
بالنسبة لأنساب الأنبياء، لم تكن العناية بها قويةً في النصوص الشرعية، وإنما نسب بعضهم إلى آبائهم وبعضهم إلى أجدادهم، فإبراهيم سمى الله أباه آزر، وذكر نسبة بعض الأنبياء إلى آبائهم أو أجدادهم، ونسب عيسى إلى أمه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم)، وهذا من أشرف الأنساب، حيث يجتمع فيه أربعة أنبياء في سرد واحد، وهو الذي يمثل به أهل البلاغة لنوع من أنواع البديع يسمى بالاطراد، وهو الذي يقول فيه السيوطي في عقود الجمان: الاطراد ذكرك اسم من علا فأبه فجده على الولا بلا تكلف على وجهٍ جلي مثل عليٍ بن الحسين بن علي فهو مثل هذا الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في نسب يوسف عليه السلام، لكنه جاء في بعض الآثار عن الصحابة فرفعوا بعض الأنساب، وقد رفع النبي صلى الله عليه وسلم نسب نفسه إلى عدنان ونسب بعض من سواه، فقد نسب لـ سبأ بن يشجب بن يعرب بن قطحان عشر قبائل في الحديث الذي أخرجه الترمذي في السنن، وكذلك عد نسبه إلى عدنان فقال: (أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان).
وجاء عنه أيضاً أنه قال: (إلى معد بن عدنان)، لكنه نسب معداً أيضاً إلى عدنان.
والمقصود هنا القبيلة والنسبة.
وكذلك قوله لقوم من كندة: (نحن بنو النضر بن كنانة لا نستنسب لغيره).
وقد عرفت خئولات النبي صلى الله عليه وسلم وعموماته، فيذكر له أهل النسب: خمسمائة أُمٍّ معروفة، بعضها ثبت فيها أحاديث، مثل: (أنا ابن العواتك من سليم)، وعواتك سليم: أم وهب بن عبد مناف، وأم هاشم بن عبد مناف بن قصي، وأم عبد مناف بن زهرة، فهؤلاء هن عواتك النبي صلى الله عليه وسلم، وفيهن يقول البدوي رحمه الله: عواتك النبي أم وهب وأم هاشم وأم الندب عبد مناف وذهِ الأخيره عمة عمة الأولى الصغيره وهن بالترتيب ذا لذي الرجال الأوقص بن مرة بن هلال عاتكة بنت الأوقص، وعاتكة بنت مرة، وعاتكة بنت هلال والصغرى: عمتها التي تليها، والأخرى عمة الصغرى، فالصغرى منهن عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال، والتي تليها: عاتكة بنت مرة بن هلال، والكبرى: هي عاتكة بنت هلال مباشرة.
وكذلك في القبائل العشر: يقول البدوي رحمه الله في الأنساب: لسبأ بن بشجب بن يعرب سليل قحطان قريع العرب نسب خير مرسل بيننا عشرة الأزد الاشعرينا وحميراً ومذحجاً وكنده أنمار سادس لهم في العده وقد تيامنوا ومن تشام له غسان لخم وجذام عامله هذه القبائل العشر.
وقد نص بعض الصحابة على نسب النبي صلى الله عليه وسلم من جهة أبيه، فرفعوه أيضاً إلى إسماعيل، أما كونه من ذرية إسماعيل فهذا لا اختلاف فيه، لكن تسمية الرجال إلى إسماعيل محل خلاف، والراجح والمشتهر بين الناس أن عدنان: ابن أد بن أدد بن الهميسع بن قيدار بن نبت -أو نابت- بن حمل بن إسماعيل بن إبراهيم.
وبعضهم يعكس فيقول: عدنان بن أد بن أدد بن الهميسع بن قيدار بن حمل بن نابت بن إسماعيل، وخلاف قليل هنا؛ لكنهم يتفقون أن إسماعيل هو السابع لـ عدنان.
وعلى هذا فأنساب الأنبياء مثل أنساب الناس يرجع فيها لذوي النسب، وليست هي في حكم الشرع فيرجع فيها إلى النصوص الشرعية وحدها، وأهل الأنساب هم الذين يعتنون بهذا من حيث ضبطه وحفظه.
وكذلك ذكرنا أنهم ذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة أُمٍّ، ولم تبق قبيلة من العرب إلا وله فيها أُمٌ، إلا ما كان من بني تغلب وحدها.
وبالنسبة لما ورد عنه أنه قال: (كذب النسَّابون فيما فوق عدنان)، ما أظن أنه يصح، وإن كان مشتهراً أيضاً، وحمله كثير من النسابين على أن المقصود به: أنهم كذبوا في الأسماء حيث لم تكن من لغة كثير منهم، فحرفوا فيها، وأكثر هذه الأسماء محل خلاف في ضبطها، مثل: مهلائيل ومهلال؛ وكذلك لامك ولمك، وفالغ وفالج وعابر وعيبر.
السؤال: هل لفظة (إلياس) موجودة في كلام العرب؟ الجواب: (إلياس) غير موجودة، لكن هذه لغات أخرى، فلذلك كان الخلاف فيها إنما هو فيما يتعلق بالجزم بصيغة الاسم وضبطه؛ لأن أهل كل لغة إذا نطقوا باسم، فإن أهل اللغة الأخرى يحرفون فيه غالباً، لأنه يصعب عليهم النطق به على هيئته الحقيقية.(51/4)
معنى كون حسنات الأبرار سيئات المقربين
السؤال
ما المقصود بقولهم: (حسنات الأبرار سيئات المقربين)؟ المقولة التي فيها (إن حسنات الأبرار سيئات المقربين)، المقصود بها أن تفاوت الناس في التكليف على قدر تفاوتهم في التشريف، وهذا يشهد له كثير من النصوص الشرعية، وتفاوت درجات الناس بحسب ذلك من الموافق للحكم، وللمقتضى العقلي ومقتضى الفطرة؛ ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإقالة العثرات، وقال: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم)، وأمر أن ينزل الناس منازلهم كما في حديث عائشة رضي الله عنها.(51/5)
حصر الرسل من الملائكة
السؤال
كم عدد الرسل من الملائكة؟
الجواب
الرسل من الملائكة لم يرد فيهم حصر مثل الرسل من البشر، ولكنه من المجمع عليه أن جبريل عليه السلام من رسل الله من الملائكة، فهو أمين الله على الوحي إلى كل الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ ولذلك فإن بني إسرائيل كانوا يعادون جبريل في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، ويزعمون أنه عدوهم من الملائكة، كما أخبر الله بذلك في كتابه: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98].(51/6)
عدم امتناع القتل في حق الرسل
السؤال
لماذا لا يمتنع القتل في حق الرسل؟
الجواب
ليس مما يمنع في حق الرسل أن يقتلوا؛ لأن الموت كتبه الله على البشر: ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد ولذلك لا يستحيل في حقهم القتل؛ ولهذا قال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]، وقد قتل بنو إسرائيل عدداً كبيراً من أنبياء الله، ونص على ذلك في القرآن، وهؤلاء جمعوا المقامات المختلفة، فجمعوا النبوة والرسالة والشهادة في سبيل الله، وهي أعلى درجات البشر، ومن هؤلاء زكريا ويحيى عليهما السلام، فقد صح أن بني إسرائيل قتلوهما، وكذلك حاولوا قتل عيسى بن مريم فرفعه الله، وشبه لهم بشخص فقتلوا ذلك الشخص وصلبوه.
وكذلك قتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسم الذي وضعوا له بشاة خيبر، قال: (ما زالت أكلة خيبر تعادوني والآن حان انقطاع أبهري).
فهؤلاء من الرسل الذين قتلوا في سبيل الله، والآيات مصرحة بكثرتهم، لقول الله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:146 - 147].
و (كأين) من الألفاظ التي تدل على التكثير والمبالغة، وهذا مبني على الاختلاف في القراءة في قوله: {قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران:146]، ففي قراءة: (قتل معه ربيون كثير)، وهو اختلاف لا يغير هذا الحكم؛ لأن القراءتين كالآيتين، فيثبت حكماهما لتواترهما معاً.
وعلى هذا: فالشهادة في سبيل الله منزلة عظيمة، ودرجة عالية، وقد صح في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لوددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا فأقاتل فأقتل، ثم أحيا فأقاتل فأقتل!) تمنى رسول الله هذا على الله سبحانه وتعالى.(51/7)
امتناع الخسائس على الأنبياء
السؤال
هل تعتبر المهن الخسيسة ممتنعة في حق الأنبياء؛ وكذلك غيرها من الخسائس؟
الجواب
أما الأعمال غير الخسيسة وغير الممتهنة فتجوز في حقهم؛ فقد كانوا يخصفون نعالهم، ويزرعون ويغرسون، ويشاركون الناس في أعمالهم كلها.
وكذلك يصابون بالأمراض غير المنفرة، بل يوعك أحدهم كما يوعك رجلان من الناس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لزيادة ثوابهم، وعلو منزلتهم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل)؛ وليكونوا أسوة حسنة يتسلى بهم من سواهم، فإذا أصيب أحدنا بمصيبة تأسى بأولئك الرسل الذين هم خيرة الخلق وأشرفهم، وأكرمهم على الله، فقد ابتلاهم الله بذلك فصبروا وصمدوا، فنتسلى بما أصابهم، ونتأسى بهم ونتعزى.
والمهن التي لا تؤثر في المروءة كرعاية الغنم لا تمنع في حقهم، بل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه ما من نبي إلا وقد رعى الغنم، فقيل: وأنت يا رسول الله؟ فقال: وأنا، كنت أرعى غنماً لقريش على قراريط).
وعلى هذا فرعي الغنم مهنة غير خسيسة بل هي تعويد على القيادة والنصح والصبر، وتعويد على الخلوة بالنفس؛ لأن راعي الغنم لا يستطيع أن يجلس مع الناس؛ لأنه يخاف عليها من الذئب وكل عادية، فيكون دائماً خالياً بنفسه، فيقتضي ذلك جرأته وشجاعته، ويقتضي نباهته وقوة عقله؛ لأنه يخادعه الذئب وغيره من الحيوانات المفترسة عن غنمه، فراعي الغنم لا بد أن يكون نبيهاً ولا بد أن يكون صاحب فطنة وذكاء لكيد الأعداء.
وكذلك فإنها رياضة بدنية وروحية لما فيها من الخلوة والحركة الدائمة، ومثل هذا ما يتعلق بالتجارة والزراعة وغير ذلك.
فموسى عليه السلام رعى الغنم أيضاً كما صرح بذلك في سورة القصص، والنبي صلى الله عليه وسلم خرج بتجارة خديجة إلى الشام، وكذلك في الزراعة شارك في غرس النخل الذي كان سلمان كاتب عليها مواليه؛ وكذلك في البناء، فقد شارك في بناء المسجد وفي حفر الخندق وحتى بناء بيوت الناس فقد كان يشارك فيها، كما صح في صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انتزع ميزاباً للعباس بن عبد المطلب كان في داره يصب في المسجد، فلما انتزعه، قال العباس: والله لقد وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فبكى عمر بكاءً شديداً ثم أقسم على العباس أن يركب ظهر عمر حتى يعيد الميزاب إلى مكانه، وعمر خليفة إذ ذاك، فركب العباس مع ضخامة العباس وجسامته، حتى أعاد الميزاب إلى مكانه.
ونظير هذا من الأعمال كخياطة ثياب ونحوها، كل ذلك من الأعمال التي لا تزري بدين ولا مروءة ولا تنفر، فيحل أن يشتغل بها.
لكن يحرم في حق النبي ما يكون منفراً أو مقتضياً لعدم الاستجابة لدعوته، ومن هذا أخذ العلماء أن على من يدعو إلى الله سبحانه وتعالى، ويسلك طريق الأنبياء؛ أن يتزين للناس حتى لا ينفرهم بنفسه.
وما يطلب من الزهادة والتقشف في أمور الدنيا لا يطالب به الذين يدعون إلى الله ويخالطون الناس لهدايتهم؛ لأن ذلك ربما نفر كثيراً من الناس فلم يصلوا إلى تأثير في مستويات معينة من المجتمع، لكن ينبغي أن يكون ذلك في أيديهم وأن لا يكون في قلوبهم، وأن لا يغتروا بزخارف هذه الدنيا وما فيها، فليسوا أكرم على الله ممن سواهم، ولا ينبغي لهم أن يأمنوا مكر الله {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]؛ لذلك ذكر أهل العلم في اللباس أنه يندب فيه للعلماء والدعاة وخطباء المساجد تحسينه، وأن يكون من أرقى الأنواع وأثمنها، ليؤثروا بذلك في قلوب من لا يعتبرون إلا بمثل هؤلاء الذين ينظرون إلى المظاهر ويعنون بها.(51/8)
الحكمة في أن الرسل من أهل القرى
السؤال
لماذا ذكر الله أنه ما أرسل رسولاً إلا من أهل القرى؟
الجواب
أما كون الأنبياء جميعاً من سكان القرى كما أخبر الله بذلك في كتابه، فإن ذلك مقتض منهم لحصول الرفعة، وأهل البوادي دائماً أشد عنجهية وأسوأ أخلاقاً، وأقل نظافةً ممن سواهم؛ ولذلك قال الله تعالى في كتابه: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [التوبة:97]، وليس التحضر نسباً، حتى يقال: فلان بدوي، معناه: أن أباه كان كذلك، بل المقصود هو في نفسه، فلو سكن شخص من أهل البادية في الحاضرة، فإنه ليس من الأعراب ولا يدخل في ذلك؛ بل المقصود به من يتصف بهذه الصفة بنفسه لا بنسبه.
الرسل عليهم الصلاة والسلام يراد بهم أن يسوسوا البشرية وأن يقودوها، فلا بد أن يعرفوا طرق تدبير المعاش، وهذه لا يعرفها أهل البوادي، ولا يعتنون بها، فأهل البوادي إنما يعيشون من الصيد -مثلاً- أو اتباع البهائم، ويعيشون مع الأحلام والأوهام كثيراً، وقد أخرج أحمد في المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من طلب الصيد غفل، ومن بدا جفا)، ومعناه: من سكن البادية غلظ طبعه، (ومن طلب الصيد غفل)، أي: نقص عقله بقدر ذلك؛ فلهذا اختير الرسل من أهل القرى.(51/9)
معنى أمر الله لرسوله باتباع إبراهيم ونهيه عن التشبه بيونس عليهم السلام
السؤال
لماذا أمر الله رسوله باتباع ملة إبراهيم ونهاه عن التشبه بيونس عليهم السلام؟
الجواب
أما أمر الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم، ونهيه عن أن يكون كصاحب الحوت الذي هو يونس عليه السلام، في قوله: {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم:48]، فنهيه عن أن يكون كصاحب الحوت مقيد؛ لأنه قال: {إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم:48]، فالمنهي عنه اتباعه في حال واحد وهو تعجله في الدعاء، وأمره باتباع ملة إبراهيم يقتضي منه صبراً وأناة وحلماً وعدم استعجال في الدعاء على قومه.
فيونس تعجل عقوبة قومه فدعا عليهم كثيراً، وتأخرت الاستجابة، فاستعجل في الإجابة فغاضب الله سبحانه وتعالى بأن سافر في البحر، وكادت السفينة أن تغرق، فاستهموا على من يلقوه في البحر فكان من المدحضين، فرموه في البحر فالتقمه الحوت، ثم بعد ذلك أنجاه الله، فعاد إلى قومه بعد فترة طويلة، فدعاهم فأسلموا أجمعين، فتحقق الوعد، وارتفع عنهم العذاب، وكانت خاصة لأمته أن الله رفع عنهم العقوبة بعد أن رأوها، ولم ير قط قوم الآيات إلا نزلت بهم العقوبة، وقد استثناهم الله من ذلك فقال: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98].
وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لا تفضلوني على يونس بن متى).
والوجه المعروف لدى المحدثين عموماً: أنه لا ينبغي الجزم بالتفضيل الذي يقتضي تنقصاً، فلو فضلته بوجه لا يقتضي تنقصاً فلا إشكال فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق؛ لكن إذا كان ذلك على وجه به تنقص مثل أن تتنقص نبياً من الأنبياء بسبب قصة حصلت له أو نحو ذلك، فهذا هو المنهي عنه شرعاً.
لكن ابن سيد الناس ذكر وجهاً آخر بعيد المنال؛ ولذلك اشتهر به بين الناس، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أسري به وعرج به فوق سبع سماوات حتى أعلا الله منزلته هذا الإعلاء العظيم، ويونس كان في قعر البحر في جوف الحوت؛ لكنه ليس أقرب إلى الله منه، فالله تعالى قريب في علوه علي في دنوه، فهذا معنى التفضيل هنا، وهذا وجه استحسنه العلماء ورضوه، واشتهر به الرجل بين الناس.(51/10)
خلو الأنبياء من المنفرات
السؤال
ذكرتم اشتراط خلو النبي عن منفر طبعاً، فما تقولون فيما يذكره المفسرون عن أيوب من أنه تساقط أعضاؤه من المرض؟
الجواب
ما يذكر في بعض كتب التفسير التي تذكر الإسرائيليات عن نبي الله أيوب عليه السلام: أن النصب الذي أصابه به الشيطان كان مرضاً منفراً في بدنه، وأنه تساقط بعض أعضائه ونحو هذا؛ فهذا لا يصح، ولا يمكن أن يعتمد عليه بوجه من الوجوه؛ بل هو كما أخبر الله عنه أنه أصابه الشيطان بنصب وعذاب، وقد أزال الله أذاه ورفع منزلته وأعاد إليه عافيته، فكان من أدبه مع الله سبحانه وتعالى أنه لم يقل: (أصبتني)، إنما قال: (مسني الشيطان بنصب وعذاب)، ولذلك أثنى الله عليه بأنه كان عبداً أوّاباً.(51/11)
تعدد الزوجات للأنبياء
السؤال
هل يدل قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38] على تعدد زوجات الأنبياء؟
الجواب
ما يذكر من أن جميع الأنبياء قد عددوا زوجاتهم أخذاً من قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38]، فهذا مأخذ بعيد جداً وفهم لا يستقيم مع الآية؛ لأن الآية قوبل فيها الجمع بجمع، والأصل أن الجمع إذا قوبل بجمع فكل واحد يقابله واحد، مثل قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184]، ولا تقتضي الآية إثباتاً لذلك ولا نفياً له؛ لكن منهم من ثبت له تعديد الزوجات كنبينا صلى الله عليه وسلم، وكسليمان عليه السلام، ومنهم من لم يتزوج أصلاً وثبت له ذلك كيحيى عليه السلام، إذ قال الله فيه: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران:39]، فلم يتزوج أصلاً حتى يعدد، ومنهم ما سكت عنه، فلا يخالف في مثل هذا.
فالآية المذكورة بينت أن من الرسل الذين أرسلهم الله قبل النبي صلى الله عليه وسلم من آتاهم الله أزواجاً وذرية، أي: فليس وجود الأزواج والذرية طعناً في النبي صلى الله عليه وسلم ولا عيباً فيه؛ لأن أعداءه قالوا: كيف تزعم أنك نبي يأتيك الوحي، وأنت تتزوج النساء ويأتيك الأولاد، فرد الله دعواهم بأن من سبقه من الرسل كذلك، فالمقصود أنها سيقت لرد هذه الشبهة والدعوى فقط.(51/12)
قوة الأنبياء
السؤال
هل كان الأنبياء جميعاً يتميزون بالقوة على غيرهم، وما الحكمة من ذلك؟
الجواب
أما ما يذكر في قوة أبدانهم فالظاهر أنهم جميعاً كانوا كذلك، لأنهم يكلفون بأعمال هائلة جداً، ويضحون تضحيات جسيمة، فيؤيدهم الله تعالى على ذلك، وبالأخص كلام الملائكة واجتماعهم، فإن زيد بن ثابت رضي الله عنه قد ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مسنداً ركبته إلى فخذه، فنزل عليه الوحي فرضت فخذه حتى كاد يموت من شدة وطئه؛ وذلك من شدة الوحي، فمن لم يقو غاية القوة لا يمكن أن يتحمل الوحي؛ لذلك قواهم الله، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أفضلهم، حتى فيما يتعلق بالقوة، فقد ذكر عنه قوة عجيبة، وكان الناس يشاهدونها في كل الأمور، فكانت فيه قوة العقل وقوة الروح، وقوة البدن، حتى قوة الجماع، وقد عقد لها القاضي عياض رحمه الله باباً مستقلاً.(51/13)
إرسال يحيى وعيسى في زمن واحد
السؤال
هل أرسل يحيى وعيسى في زمن واحد لبني إسرائيل، ولماذا؟
الجواب
بالنسبة لقصة عيسى وزكريا والوحي المنزل إليهما وأنهما أمرا بتبليغه، فهذا يقتضي أن بني إسرائيل يشكون في خبر الواحد، حتى لو عرفوا أنه نبي فإنهم يؤذونه ويكذبونه ويشكون بخبره؛ لكن إذا جاءهم من ليس معه في مكان بنفس الخبر صدقوه، فهذا من باب أن بني إسرائيل قوم بهت، لا يصدقون خبراً حتى لو كان من نبي مرسل يعرفون صدقه، لذلك قال موسى فيما حكى الله عنه في بني إسرائيل: {يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} [الصف:5].(51/14)
حياة الأنبياء في قبورهم
السؤال
هل يصح ما يقوله بعض الناس أن الأنبياء لا زالوا في قبورهم أحياء؟
الجواب
ورد ستة عشر حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون وقد حرم الله على الأرض أن تأكل أجسادهم، لكن حياتهم حياة برزخية ليست كحياة الدنيا على الأرض، وإذا قبضهم الله إليه، فمنهم من يبقى في مدفنه الذي دفن فيه، ويعرف مكانه، ومنهم من ينقله حتى بجسده إلى حيث شاء، ولا يعرف اليوم قبر نبي من الأنبياء بالجزم غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لكن يعرف أن بمكة قبر إسماعيل عليه السلام، وكذلك آدم عليه السلام وعدد من الأنبياء، قال بعض الصحابة: إن حول الكعبة سبعين نبياً، وبالشام دفن عدد كبير منهم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في وصف قبر موسى أنه عند الكثيب الأحمر في طريق الشام، وأنه لو كان عنده لأراهم إياه.
أما بالنسبة لقبر إبراهيم عليه السلام فيقال إنه في المكان الذي سمي بمدينة الخليل، لكن لا يعرف القبر بعينه، إنما يتلقى عن خبر بني إسرائيل وليس لهم إسناد متصل ولا تواتر، والإسناد من خصائص هذه الأمة، فلذلك انقطع الخبر، فلا يعتمد عليه، لكن يظن ذلك.
بنو إسرائيل يقولون: هذا مكان قبر إبراهيم، وهناك قبور عندهم واضحة كقبر إبراهيم وقبر زوجته، وقبر إسحاق ويعقوب، ولكن الله أعلم بحال ذلك، والذي يبدو أن يعقوب توفي بمصر؛ لأنه هاجر إليها.(51/15)
زوجات الأنبياء
السؤال
نريد الكلام على زوجات الأنبياء وهل يختارهن الله اختياراً، وما هي خيانة زوجة نوح وزوجة لوط؟
الجواب
بالنسبة لزوجات الأنبياء: أكثرهن يختارهن الله لذلك اختياراً، كما قال تعالى: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور:26]؛ وبذلك فأكثر زوجات الأنبياء زوجات لهم في الدنيا وفي الآخرة، ومنهن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللواتي أنزل الله فيهن القرآن وأعلى منزلتهن، وشرف درجتهن؛ فهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا، وزوجاته في الدار الآخرة، وهن أمهات كل المؤمنين به، ويجزم بأنهن جميعاً من أهل الجنة، ويلزم الإيمان بذلك.
وأما زوجة نوح وزوجة لوط فقد جعلهما الله مثلاً للكافرين، وذكر أنهما خانتاهما، ونص العلماء على أن هذه الخيانة ليست خيانة فيما يتعلق بالزنا أو نحو ذلك، وإنما هي خيانة فيما يتعلق بما اؤتمنتا عليه من الأسرار، فكانتا تنقلان أخبارهما وأسرارهما إلى أعدائهما؛ ولذلك لم ينجهما الله، فأهلك امرأة نوح مع قومه، وأهلك امرأة لوط مع قومها، أي قريباً منهم: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83].
فليست هاتان المرأتان من أهل هذين النبيين، بل عوضهما الله خيراً منهما، فليستا زوجتين لهما في الآخرة، وإنما هما زوجتان في الدنيا، وانقطع ذلك بكفرهما، ثم زوجهما الله خيراً منهما، ولا شك أن هذا من ابتلاء هذين النبيين الذي هو إعلاء لمنزلتهما، ورفع لدرجتهما.
وكذلك ما جاء في جواب الله تعالى لنوح عليه السلام عندما قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:45 - 46]، فلا يقصد به أنه ليس من ذريته، بل المقصود أنه ليس من المؤمنين؛ لأن أهله الذين وعده الله بإنجائهم هم الذين آمنوا به؛ ولذلك قال: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]، فأهله هم المؤمنون به، وهذا الولد كان يظنه من المؤمنين به، ولكن الله أخبره أنه ليس كذلك فقد كان منافقاً؛ ولهذا حين أمره أن يركب في السفينة امتنع عن ذلك، وقال: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود:43].
وأما قوله: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46]، فمعناه أن عمله غير صالح، هذا أرجح شيء في التفسير؛ ولذلك فالقراءة الأخرى: (إنه عَمِلَ غَيْرَ صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم).
وقالت طائفة من أهل العلم: معنى (إنه عمل غير صالح) أنه كسب غير صالح، فكأنه هو لم يصلح، فالولد عمل من الأعمال من كسب أبيه؛ لكن هذا الولد غير صالح، حيث لم يكن من أهل الجنة.
انظر عتاب الله لنوح عليه السلام لدعائه هذا؛ لأنه بين أن العتاب على مسألته، وأنه ظن أن الله أخلف الوعد، فأراد أن يذكره بالوعد، وأن ينجي هذا الولد لأنه من أهله؛ ولذلك اعتذر نوح من هذا فقال: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:47]، فتاب الله عليه، فتوبته كانت من دعائه؛ لأنه دعا ما لم يأذن له به؛ ولذلك يعتذر بها يوم القيامة عندما تطلب منه الشفاعة كما سنذكر في حديث الشفاعة.(51/16)
رفع إدريس ورفع عيسى عليهما السلام
السؤال
ذكر الله أنه رفع إدريس مكاناً علياً، فما الفرق بين رفعه ورفع عيسى؟
الجواب
رفع إدريس ليس كرفع عيسى، فإدريس لم يرد فيه أنه سينزل، بل أخبر الله أنه رفعه مكاناً علياً، وهذا الرفع يحتمل أن يكون رفعاً معنوياً ويمكن أن يكون رفعاً حسياً، ويمكن أن يكون لروحه وجسده، ويمكن أن يكون لجسده بعد موته، ويمكن أن يكون لروحه فقط؛ كل ذلك محتمل، ولم يرد فيه شيء يفسره؛ لكنه رفع بعد موته.
وأما عيسى فإن الله توفاه في الدنيا، بمعنى: أنهى رسالته وأنه قد أدى مهمته وانتهت رسالته، وهذا معنى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55]، وقد رفعه الله حياً بروحه وجسده؛ ولذلك سيعود كما رفع، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سينزل حكماً عدلاً، وقت صلاة الفجر عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، وسيحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فسيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، وهذا في الأحاديث المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويشهد له أيضاً قول الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء:159]، وسينزل بين ملكين يمنيه على أحدهما ويساره على الآخر، كأنما خرج من ديماس إذا رفع رأسه تحدر منه مثل الجمان، وإذا طأطأه تساقط منه، ولا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات من حينه، ونفسه يبلغ حيث يبلغ بصره، وهو الذي يقتل المسيح الدجال.(51/17)
الأسئلة [2](52/1)
الوسوسة طاعة للشيطان
السؤال
أجد وسوسة في الغسل فأمضي ثلاثين دقيقة أو خمساً وأربعين دقيقة وأنا في الغسل، فيضيع الكثير من الوقت وكلما غسلت عضواً يخيل إلي أنني لم أغسله، فأرجع إليه، وكذلك شعر الرأس أو اللحية، فيضيع فيه الكثير من الوقت؟
الجواب
هذا الإنسان مصاب بوسوسة، وهي من عمل الشيطان، فعليه أن يحذر أن يجعل للشيطان عليه سبيلاً، وعليه ألا يطيع الشيطان وهو يعلم أنه عدوه، بل عليه أن يطيع الله، وأن يجتنب عمل الشيطان، وإذا أخبره الشيطان بأنه لم يفعل، فليرغم أنف الشيطان وليترك ما ألقى عليه.
ومن هنا، فالذي يشعر بالوسوسة عليه أن يكثر من التعوذ بالله من الشيطان الرجيم، صادقاً بقلبه، وعليه ألا يتبع وساوس الشيطان، فإذا غسل عضواً تجاوزه وغسل غيره، وإذا خيل إليه الشيطان أنه لم ينته فلا يراجع نفسه في ذلك، ولا ينظر إليه، لأنه قد يريه الشيطان أنه لم يغسل بعد، فليس له أن ينظر إليه بعد ذلك، وعليه أن يتجاوزه بالكلية وأن يلقي ما ألقى إليه الشيطان وألا يصدقه بشيء، وسواء كان ذلك في الغسل أو غيره أو في الصلاة، وعليه أن يكثر التعوذ، وألا يتبع الشيطان فيما يلقيه عليه مطلقاً.(52/2)
حكم زيارة النساء للمقابر
السؤال
هل تجوز زيارة النساء للقبور؟
الجواب
جاء النهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيارة النساء للقبور، وجاء عنه: (لعن زوارات القبور) ثم بعد ذلك جاء عنه صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة رضي الله عنها أنها سألته: ماذا نقول إذا زرنا المقابر، فعلمها الدعاء الذي يدعى به عند زيارة القبور، وعلى هذا فإن جمهور أهل العلم على جواز زيارة النساء للقبور.
لكن ليس لهن أن يتخبطن بين الأجدر، بل المشروع لهن أن يقفن أمام المقبرة ويذكرن الدعاء الذي أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم عائشة، ويتذكرن الموت والآخرة، والزيارة التي فعلتها عائشة رضي الله عنها مع النبي صلى الله عليه وسلم هي هذه الزيارة: أن تقف أمام القبور وأن تدعو، وأما التخبط بين الأجدر فلم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمر به عائشة ولا غيرها من الناس، ورأي الجمهور من العلماء أنه غير مشروع مطلقاً، ويتأكد ذلك في حق النساء.(52/3)
الحكمة في زيارة القبور
السؤال
ما الهدف من زيارة القبور؟
الجواب
المقصود بالزيارة هي الموعظة وتذكر الآخرة، وإنما يحصل ذلك بثلاث رتب: الرتبة الأولى: أن يتذكر الإنسان أن هذا القبر الذي يراه، إما أن يكون روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، وأن القبر الواحد أو القبرين الملتصقين، قد يكون أحدهما في غاية النعيم، والآخر في غاية العذاب، ولا هذا يشعر بعذاب هذا ولا هذا يشعر بنعيم هذا، بل قد تختلط العظام، فهذا في غاية النعيم والآخر في غاية العذاب، ولا يصل شيء من نعيم هذا إلى هذا، ولا شيء من عذاب هذا إلى هذا.
المرتبة الثانية: أن يستحضر أن هذا الموت حاجز حصين، انتقل به الإنسان الذي كان أهله يثقون به، ويكلون إليه أمورهم، فانقطعوا عنه، وانقطع عنهم، ولم يعد مطلعاً على شيء من أخبارهم وأمورهم، وأصبح في هذه الأجداث، ومن عمار القبور الذين هم أسارى ذنوب لا ينفكون وأهل قرب لا يتزاورون، أخبارهم منقطعة، وأملاكهم قد خرجوا منها: {وتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94]؛ كل ما كان لديه من الأسرار والأمور التي يختص بها أصبحت بيد من سواه، فهذه موعظة عجيبة.
المرتبة الثالثة: أن يستحضر الإنسان أن هذا هو مصيره، وأحسن الأحوال أن يموت بين المسلمين فيدفن في مقابر المسلمين، فيتذكر نفسه محمولاً على الرقاب إلى المقابر، ويتذكر الساعة التي يسلم فيها نفسه إلى الله سبحانه وتعالى، ويستسلم فيها وتنزع روحه من كل عرق من عروق جسده، ويذهب به إلى هذه المقابر ليس له مشاركة في الرأي ولا في الأمر ويوضع في هذا الحال، وهذه موعظة عجيبة.
وقد حصل لرجل في أيام معاوية رضي الله عنه، أن رأى جنازة تحمل إلى المقبرة في دمشق فخرج في تجهيزها، فلما دفن الميت، وقف على قبره وبكى، وأنشد قول الشاعر: ياقلب إنك من أسماء مغرور فاذكر فهل ينفعنك اليوم تذكير فبينما المرء في الأحياء مغتبط إذا هو الرمس تعصره الأعاصير يبكي عليه غريب ليس يعرفه وذو قرابته في الحي مسرور فلما أنشد الأبيات قال له أحد الحاضرين: أتدري لمن هذه الأبيات؟ قال: لا.
قال: إنها لهذا الميت الذي دفناه آنفاً، وأنت الغريب الذي يبكي عليه، وهذا ابن عمه ووارثه أقرب الناس إليه كان عدواً له وأصبح مسروراً بموته، فهذه موعظة عجيبة يتذكرها الإنسان في مثل هذه المواقف إذا رأى القبور، وانتقال الناس إلى الدار الآخرة.(52/4)
الأعمال التي يصل ثوابها للميت
السؤال
هل يصل ثواب القرآن إلى الميت؟ وعليه فهل يشرع ختم القرآن عند موت الميت؟
الجواب
أجمع العلماء على أن الميت يصل إليه في قبره مما يهدى إليه من الأعمال الصدقة والدعاء فقط، فالتصدق على الأموات يصل، وكذلك الدعاء لهم يصل، وأما الدليل على الصدقة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة أن يتصدق عن أمه.
ودليل الدعاء قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذه القبور مظلمة على أهلها، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم) وكذلك قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].(52/5)
الرد على من زعم أن ابن تيمية مات في السجن كافراً
السؤال
إمام كفر أحد أهل العلم، وقال إنه سجن ومات في السجن بسبب كفره وإلحاده، وقال بأنه كفره مائة عالم، هل هذه المقولة صحيحة، وهل الموت في السجن دليل على أن الإنسان كافر أو ملحد؟
الجواب
إن تكفير المسلم كقتله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم منه غاية التحذير، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا قال المؤمن لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما) وقال: (فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه)، وفي رواية: (وإلا حارت عليه) قد جاء في ستة أحاديث في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم تحذيره من التكفير، كتكفير المسلمين، وبالأخص العلماء، الذين ائتمنهم الله على الوحي، وجعلهم من ورثة الأنبياء، والله سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة، وإذا اختار الله إنساناً ليأتمنه على وحيه، فهو غير مكره ولا عاجز، فاختياره لا بد أن يكون ذا دلالة.
ومن هنا فعلى الإنسان أن يحترم أهل العلم وأن يوقرهم ولا يكفرهم، وأن يعلم أن الله سبحانه وتعالى قد ائتمنهم على الوحي، فلذلك عليه أن يحترمهم من هذا الوجه.
والسائل هنا يسأل عن الإمام ابن تيمية رحمه الله، وليس معنى هذا أن أهل العلم معصومون، وأنهم لا يخطئون، بل يقعون في الخطأ كغيرهم، لكنهم أولى بالمغفرة، لما قدموه من الأعمال الصالحة، وما لهم من العلم والعمل.
وأيضاً فإن خطأهم إنما كان عن اجتهاد في وسائل ليس فيها قاطع من الشرع، ولذلك فهم مأجورون فيه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران، وإن اجتهد وأخطأ كان له أجر).
وأما سجن العالم أو تعذيبه أو نحو ذلك في سبيل الحق فهو دليل على إخلاصه، وهو من سنة الأنبياء السابقين، فقد سجن يوسف عليه السلام وقتل عدد كبير من الأنبياء، كما قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ} [آل عمران:146 - 148].
و (استكانوا) بمعنى: ذلوا.
هو يسأل عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو بعيد من الكفر، وهو أحد ورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد علماء هذه الأمة ومحدثيها، بل قال الذهبي رحمه الله: كل حديث لم يروه ابن تيمية فليس بحديث.
وهو من أعلم الناس بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بل قل في زمانه من يستطيع مناورته أو القرب منه في هذا المجال، فقد كان يندر في زمانه من هو في مستواه في العلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن ليس معنى هذا أنه معصوم، بل هو بشر يخطئ ويصيب مثل غيره، وما أخطأ فيه فإنما أخطأ فيه عن اجتهاد، وهو معروف بالورع والتقوى، وما أصاب فيه فمن توفيق الله وفضله، وليس من عند نفسه.(52/6)
التوبة من الطعن في أهل العلم
السؤال
هل تجب التوبة على من طعن في العلماء؟
الجواب
نعم، فالذي طعن في العلماء عليه أن يبادر بالتوبة، وأن يستغفر الله تعالى، وأن يعلم أنه قد تعرض لسخط الله -نسأل الله السلامة والعافية- وكثيراً ما يكون هذا سبباً لتعصبه ضد الحق، ولعدم قبوله له.(52/7)
الإمام الغزالي بشر يخطئ ويصيب
السؤال
إني أعيش مشكلة حيرتني، فأنا أرى الكثير من العلماء ينتقد الإمام الغزالي، وبعضهم يبالغ في مدحه، فما هو الرأي الحق فيه؟
الجواب
الإمام الغزالي هو أحد علماء المسلمين، كما أشرنا عن ابن تيمية، فهو عالم من علماء المسلمين يخطئ ويصيب، وصوابه بفضل الله، وخطؤه من نفسه ومن الشيطان، وما أصاب فيه أكثر مما أخطأ فيه، وما أخطأ فيه لم يكن خطؤه فيه باتباع للهوى، وإنما كان بطلب للحق واجتهاد فهو معذور فيه.
ومن هنا فعلينا أن نلتمس العذر للمسلمين، وبالأخص لخلفاء النبي صلى الله عليه وسلم، الذين حملوا هذا العلم وأوصلوه إلينا، وأن نلتمس لهم العذر فيما أخطئوا فيه، ونعلم أنهم بشر يخطئون ويصيبون، وطوبى لمن شغلته عيوب نفسه عن عيوب الناس.(52/8)
رؤية ابن بطوطة لشيخ الإسلام ابن تيمية
السؤال
قرأنا في رحلة ابن بطوطة قوله إنه رأى شيخ الإسلام ابن تيمية، يخطب يوم الجمعة في جامع دمشق إلخ القصة؟
الجواب
بالنسبة لهذه القصة كلها مكذوبة، لأن مجيء ابن بطوطة إلى دمشق كان بعد موت ابن تيمية بقرابة عشرين سنة، فإذا كان رآه فقد رآه في النوم بعد موته بعشرين سنة.(52/9)
حكم الزينة للمرأة
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تشتري بعض الزينة من الأساور والخواتم لتتزين بها؟
الجواب
نعم {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32]، وقد اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم الزينة لبنات أبي أمامة أسعد بن زرارة رضي الله عنه.
لكن يجب عليهن أن يسترن ما أوجب الله ستره، والله تعالى لم يحرم عليهن الزينة ولكن قال: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].(52/10)
حكم صبغ المرأة لشعرها
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تصبغ رأسها وليس فيه شيب وإنما ذلك لزيادة شعرها وطوله؟
الجواب
إن الصبغ بالسواد قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في حديث جابر في صحيح مسلم، وقال: (جنبوه السواد) وعلى هذا فلا يحل الصبغ بالسواد مطلقاً لا للرجال ولا للنساء، سواء وجد الشيب أو لم يوجد.
أما الصبغ بغير السواد فإن كان ذلك لمصلحة راجحة ولم يكن فيه محاولة تغيير خلق الله، كما يفعله بعض الناس بصبغ بعض الشعر بألوان تكون خلقة في بعض الشعوب، كصفرة الشعر ونحو ذلك، فهذا النوع مثل الوشر والوشم وغيره من التغيير الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الواشمات والمستوشمات، والواشرات والمستوشرات، المغيرات خلق الله) فهذا من تغيير خلق الله الذي يأمر به الشيطان كما أخبر الله بذلك في كتابه.
أما بالنسبة لجعل الحناء على الشعر فلا حرج فيه للرجال ولا للنساء، بل هو الخضاب الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وفعله عدد كبير من أصحابه.(52/11)
حكم مسح الرأس للوضوء مع تلبيده بالحناء
السؤال
هل يجوز للمرأة أن تمسح على رأسها للوضوء وهو ملبد بالحناء، بدون أن تزيله؟
الجواب
إذا كان هذا الحناء بثمن غال، فيجوز لها أن تمسح عليه، لئلا تتلف هذا المال بإزالته، وإذا كان ثمنه رخيصاً، واضطرت إلى الوضوء بأن ضاق الوقت، فلا بد أن تزيله عن رأسها وأن تمسح على رأسها بالمباشرة.(52/12)
صلاة المنفرد خلف الصف
السؤال
ماذا يفعل من أتى إلى الصف ولم يجد فيه مكانا؟
الجواب
الإنسان مأمور بأن يصف مع المؤمنين كما تصف الملائكة عند ربها، فإذا وجد مكاناً في الصف فليصله (من وصل صفاً وصله الله، ومن قطع صفاً قطعه الله) فإن وجد طريقاً لأن يصف مع الإمام سواء كان عن يمينه أو عن شماله فله الحق في ذلك، لكن يكره أن يصف الناس مع الإمام فيكونون عن يمينه وشماله، وعند الحنابلة أن ذلك حرام.
أما الانفراد خلف الصف فقد اختلف فيه، فذهب الحنابلة إلى بطلان الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه، والأصل في النهي أنه يقتضي الفساد، وقالوا: يجذب أحداً من الصف وعلى المجذوب أن ينجذب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لينوا في أيدي إخوانكم) وهذا يكون من التعاون على البر والتقوى، ومحله إن لم يكن المجذوب سيقطع الصف ويجعله فيه فرجة، وقال آخرون: لا يجذب أحداً.
والمالكية رحمهم الله يرون أن النهي في الإنفراد خلف الصف على سبيل الكراهة لمن يستطيع أن يصف، أما من لا يستطيع أن يصف ووجد المسجد مغلقاً، ولا يستطيع أن يصل إلى الإمام ولم يجد إلا أن يصلي خلف الصف فليصل وراءه وصلاته صحيحة حينئذ إن شاء الله.
وهذا القول هو الأقوى لمن لم يستطع أن يصف مع الإمام ولم يجد من ينجذب له، فما له إلا أن يصلي حيث وجد.(52/13)
دخول وقت الصلاة
السؤال
هل لهذه المقولة أصل: (حتى لا يبقى شاك)؟!
الجواب
هذا في الوقت ويقولها بعض الناس، ومعناها: أن على الناس أن ينتظروا حتى لا يبقى شاك في دخول الوقت، وهذه المقولة شيطانية، فهي من كلام الشيطان وليست من الوحي، وليست مما شرعه الله لعبادة، بل لا بد أن يبقى في الناس شاك أبداً، وإذا تتبعنا شك الشاكين والمرضى والموسوسين فلن نصلي الصلاة في وقتها أبداً.
لكن من لطف الله سبحانه وتعالى أن جعل التقليد ممكناً في دخول الوقت، فإذا أذن المؤذن وكان عارفاً بالوقت فلنقلده في الوقت والعهدة عليه، ولذلك فصلاتنا صحيحة حتى لو كانت خارج الوقت إذا قلدنا من هو عالم بالوقت يعرفه.
وكذلك صيامنا إذا قلدنا من يعرف الوقت فأفطرنا بأذانه، أو أمسكنا بأذانه، فصومنا صحيح ومجزئ قطعاً من الناحية الشرعية إلا إذا كان المقلد ليس محلاً لذلك؛ فليس من أهل العلم ولا يعرف الوقت، أو لم ينظر إليه، فهذا خطأ.
والأصل في المسلمين العدالة، ومن لا تعرفه فالأصل فيه الستر، فإذا كنت لا تعرفه بشر فالأصل فيه الستر.(52/14)
الرقية الشرعية
السؤال
في البادية يوجد بعض الناس لديهم ما يسمونه حكمة، لمن لدغته أفعى يقرؤها عليه ويمسحون مكان اللدغة حتى يذهب الألم، ويعود اللديغ كأنما نشط من عقال، وهم يعتبرونها سراً خاصاً بهم لا يجوز لهم أن يخبروا به غيرهم، ما مدى جواز ذلك؟
الجواب
إذا كان هذا بكتاب الله أو بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بالثناء على الله سبحانه وتعالى وذكر أسمائه وصفاته فهو من الرقى الجائزة، والناس فيها متفاوتون بحسب إيمانهم، وبحسب قوة يقينهم، وإذا كان هذا فيما لا يفهم معناه أو بالكلام الأعجمي؛ فهو محرم، وكثيراً ما يكون فيه الشرك، وإنما ينتفع به على يد أقذر الناس، وهو ضد الرقية الشرعية، فرقية الباطل إنما تجري على يد الفجرة الفسقة، لأنهم هم الذين يخدمهم الشياطين كما قال تعالى: {قل هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء:221 - 222]، وغالباً ما يكون هذا الشخص الذي يجري على مثل هذا كذاباً، أما الرقية الشرعية، فهي ما كان بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأسماء الله وصفاته والثناء عليه، ويتفاوت الناس فيها بحسب يقينهم وإيمانهم.
وأما بالنسبة لكتمان الرقية الشرعية، فليس بمشروع، لأنها من تعليم الحق، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بتعليمها، فقال للمرأة التي كانت تعلم حفصة (هلا رقية النملة) وأمرهم أن يعرضوا عليه رقى الجاهلية، فما كان منها خالياً من الشرك وفيه ثناء على الله أقره، وما كان منها متضمناً شركاً رده ورفضه.(52/15)
السنة في تعليم القرآن
السؤال
ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد في مسنده أن رجلاً قال: (يا رسول الله! إني أقرأ القرآن؛ فلا أجد قلبي يعقل عليه، فقال: إن قلبك حشي القرآن وإن الإيمان يعطاه العبد قبل القرآن).
الجواب
معنى هذا أن هذا الإنسان إنما أشرب القرآن فقرأ الكثير منه قبل أن يعرف معناه، وهذا مخالف لسنة تعلم القرآن، فسنة تعلم القرآن أن لا يقرأ الإنسان شيئاً منه حتى يعرف معناه وحتى يعمل به، فإذا حفظ القرآن كاملاً دون معرفة شيء من معناه فقلما يخشع به وقلما يبكي عند سماعه، ولذلك فالصبيان الذين يُحَفَّظُون القرآن كاملاً ويحفظونه على أنه ألغاز لا يفهمون معناها ولا يتدبرون شيئاً منه، قلَّما يستطيع أحد منهم بعد ذلك الخشوع بالقرآن، أو التأثر به تأثراً بالغاً، ولهذا قال أبو عبد الرحمن السلمي: أخبرنا الذين كانوا يعلموننا القرآن من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنهم عثمان، وعلي وابن مسعود، وأبو هريرة، وابن عباس، وأبي بن كعب.
قالوا: ما كنا نقرأ عشر آيات فنتجاوزها حتى نتعلم ما فيها من العلم والعمل قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل.
فهذه سنة تعلم القرآن.(52/16)
ما يجب على المرأة من الطاعة لزوجها
السؤال
هل طاعة الزوج واجبة في كل الخدمات أم تقتصر الزوجة على طاعته بنفسها؟
الجواب
لا يلزم المرأة طاعة الزوج في كل الخدمات، بل يلزمها طاعته فيما يتعلق بالفراش، وعدم الخروج من البيت إلا بإذنه ونحو ذلك، أما الخدمة فهي راجعة إلى العرف والعادة، فإن اقتضت العادة خدمة معينة كانت من المعروف، لأن المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً، وإن لم تكن العادة مقتضية لذلك بأن كانت المرأة من مستوى أهله يُخدَمون ولا يَخدِمون، فلا تجب عليها الخدمة، فإن فعلت فهو تطوع منها ومعاشرة بالتي هي أحسن، وذلك فيه خير لا شك، وعلى هذا فكل ما يقتضي أُلفةً بين الزوجين واستمراراً لهذه العلاقة فهو مطلوب شرعاً، وعلى الزوجين ألا يتحاقا بينهما في كل الحقوق، وعلى كل واحد منهما ألا يقتصر فقط على الحق الواجب عليه، وأن يسامح في حقوقه إذا استطاع أن يؤدي ما زاد على الحقوق الواجبة؛ ليكون ذلك أدعى لاستمرار هذه العلاقة الشرعية.(52/17)
الجمع بين النهي عن إسبال الثوب والأمر بعدم كف الشعر والثوب في الصلاة
السؤال
أريد التوضيح في الجمع بين النهي عن إسبال الثوب، و (أمرنا ألا نكف شعراً ولا ثوباً في الصلاة)؟
الجواب
الإسبال جاء النهي عنه مطلقاً، والنهي عن كف الكم والشعر في الصلاة؛ المقصود به: أن يحذر الإنسان في وقت سجوده من أن يسجد وثوبه أو شعره يلامس الأرض، فإنه بذلك سينصرف باله وقلبه عن الصلاة وينشغل بالحذر على ثوبه أو شعره من أن يمس التراب، والشعر والثوب يسجدان لله سبحانه وتعالى، فإذا سجدت فكل خيط من خيوط ملابسك وكل شعرة من شعرك تسجد معك لله سبحانه وتعالى، وأنت تثاب على كل ذلك بسجدة كاملة، وعلى هذا فالإنسان أمر أن لا يكف.
أما الإسبال في حال القيام، فقد جاء فيه بعض النصوص، منها ما أخرجه أبو داود في سننه من حديث ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلي الرجل سادلاً، والمقصود بالسدل الإسبال في الصلاة، وعقب أبو داود هذا الحديث بما يقتضي تضعيفه، فقال: جاء عن ابن جريج أنه قال: كنت كثيراً ما أرى عطاء بن أبي رباح سادلاً في الصلاة.
قال أبو داود وهذا مما يضعف هذا الحديث.
لكن جاء في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في الحرم يصلي مسبلاً، فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة، ولكن لا يقاس على هذا؛ لأنه راجع إلى الوحي، فقد يكون النبي صلى الله عليه وسلم عرف عن طريق الوحي أن هذا الرجل فعل ذلك خيلاء، لذلك أمره بإعادة الوضوء، ولكن الإسبال غير ناقض للوضوء، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر هذا الرجل بخصوصه أن يعيد الوضوء والصلاة.
والأرجح في هذه المسألة أن الإنسان في حال القيام ليس له أن يسبل مطلقاً، أما في السجود فليس له أن يكف شيئاً من ثوبه ولا من شعره عن الأرض.(52/18)
النوافل أوقاتها وعدد ركعاتها
السؤال
أريد تفصيلاً حول النوافل الراتبة وما يقرأ في كل منها، والقول الأرجح في عددها وعدد ركعاتها؟
الجواب
الرواتب هي سي الفرائضِ.
والسيّ هو ما يظهر في الضرع قبل أن ينزل فيه اللبن، فالذي ينزل على فم الفصيل عندما يرضع قبل أن تدر أمه هو الذي يسمى بالسي.
ويسمى بالسيء أيضاً، وقد جاء في حديث ضعيف سيوا صلاتكم أو سيئوا صلاتكم فإن كثرة السي تدل على قوة الحشك، أي: تمام الدرار.
فإذا كانت الفريضة محوطة بسياج من النوافل قبلها وبعدها إذا كان ما بعدها وقت إباحة، أو كان ما قبلها وقت إباحة فإن ذلك مما يكمل الفريضة ويقتضي من الإنسان إقبالاً عليها، لأن الإنسان يتطهر بالصلاة، ولذا جعلها النبي صلى الله عليه وسلم بمثابة (النهر الجاري على باب أحدكم ينغمس فيه في اليوم والليلة خمس مرات، فهل ترون يبقى من درنه شيء) فكذلك النافلة يتطهر بها الإنسان للفريضة.
ولذلك فالنوافل الراتبة هي: ركعتان قبل صلاة الفجر خفيفتان، ولم يرد تعيين شيء في السور التي يقرأ بها في هاتين الركعتين، لكن ورد الحض عليهما في قول النبي صلى الله عليه وسلم (ركعتا الفجر؛ خير من الدنيا وما فيها).
وأخرج أبو داود في السنن بإسناد ضعيف، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صلوهما ولو طردتكم الخيل) وبالغ في الأمر بهما والحض عليهما ولذلك سميا بالرغيبة، أي رغب فيهما الشارع ترغيباً شديداً، فأما بعد الفجر فلا نافلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب.
ثم بعد هذا من الرواتب: أربع قبل الظهر، واثنتان بعدها أو أربع، وكل ذلك وارد، وراتبه الظهر سواء كانت قبلية أو بعديه تسن في المسجد كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها، أما ركعتا الفجر فكان يصليهما في بيته، ولم يكن يصليهما في المسجد، وكذلك قبل العصر ورد ركعتان كما في حديث ابن عمر في الصحيحين وفي حديث ميمونة كذلك، وقد واظب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما في المسجد.
وورد أربع ركعات في حديث أخرجه الترمذي في السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعاً) وهذا الحديث فيه لين، لكن مع ذلك عمل به كثير من أهل العلم وحتى الترمذي وغيره، ثم بعد هذا لا راتبة بعد العصر، لأن الوقت وقت نهي كما بينا.
أما المغرب فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صلوا قبل المغرب ركعتين، صلوا قبل المغرب ركعتين، صلوا قبل المغرب ركعتين ثم قال في الثالثة: لمن شاء)، فاختلف العلماء في حكم هاتين الركعتين، فذهب الشافعي إلى ندبهما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر هذا الأمر، والأمر ليس للوجوب بل هو مقتضٍ للندب، وذهب مالك رحمه الله إلى الكراهة فيهما، لأنه قال: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (صلوا قبل المغرب ركعتين) في البداية ليس للوجوب لأنه قال: (خمس صلوات فرضهن الله على العباد في اليوم والليلة)، ولأن الله قال له ليلة المعراج: (هن خمس وهن خمسون ما يبدل القول لدي).
وعلى هذا فلن تزيد الفرائض على الخمس، فلما قال: (صلوا قبل المغرب ركعتين) كان للندب فقط، ثم قال بعده: (لمن شاء) فنزل عن الندب، وإذا نزلت الصلاة عن الندب، فإنها لا تصل إلى الإباحة المستوية الطرفين؛ لأن العبادة لا تكون مباحه، فلن يبقى إلا أن تصل إلى الكراهة فقط، ومع ذلك فقد صلاهما مالك رحمه الله ذات يوم، فقد كان واقفاً في المسجد فجاء طفل صغير فقال: يا أبا عبد الله! ألا تركع، فأحرم مالك وركع، فلما سلم اجتمع الناس عليه وقالوا: يا أبا عبد الله! لقد ركعت هاتين الركعتين، وما رأيناك ولا أحداً من ولدك يركعهما، فقال: خشيت أن أكون من الذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون.
لقد أمره هذا الصبي الصغير أن يركعهما.
كذلك فإن أحمد بن حنبل رحمه الله كره المواظبة عليهما، وقد صلاهما مرة حين روى الحديث.
ثم بعد المغرب ركعتان وهما من آكد الرواتب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليهما في بيته كما في حديث ابن عمر، وقد ذهب الشافعية إلى كراهة صلاتهما في المسجد، بل ذهب بعضهم إلى أن صلاتهما في المسجد معصية، لمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على صلاتهما في بيته.
وكذلك ركعتان خفيفتان بعد العشاء إذا رجع الإنسان إلى بيته بعد صلاة العشاء، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يركع ركعتين خفيفتين، وربما أخرهما فافتتح بهما صلاة الليل، فقد كان يفتتح صلاة الليل بركعتين خفيفتين قبل أن يصلي أربعاً طوالاً، لذلك جاء في حديث عائشة في وصف قيام النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (كان يصلي ركعتين خفيفتين، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يركع)، وفي حديث ابن عمر: (صلاة الليل مثنى مثنى)، وفي رواية الموطأ: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى)، فهذا الأصل في النوافل، لكن مع ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع تسعاً بسلام واحد، وجمع سبعاً بسلام واحد، وجمع خمساً بسلام واحد، وجمع ثلاثاً بسلام واحد، وهذا وتر النبي صلى الله عليه وسلم، أوتر بواحدة، وأوتر بثلاث، وأوتر بخمس، وأوتر بسبع، وأوتر بتسع، وكذلك جمع بين أربع بسلام واحد، وكل هذا على الجواز.
فهذه هي الرواتب، ويضاف إليها غيرها من النوافل، وهي مثلاً: قيام الليل، وهو ما تيسر مطلقاً، وليس محدداً بعدد، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ثلاث عشرة ركعة من الليل أو إحدى عشرة ركعة، وكذلك صلاة الضحى التي حض عليها النبي صلى الله عليه وسلم حضاً بالغاً، وأكثرها ثمان، وأقلها أربع أو اثنتان، وهما ركعتا الشروق، واثنتان وقت ارتفاع الشمس، وهي صلاة الأوابين حين ترمض الفصال فيكون الجميع أربعاً، وأوسطها ست، فهذه هي أهم النوافل.
أما قضاء النافلة في غير وقتها فقد جاء فيه أن رجلاً من الأنصار صلى بعد صلاة الفجر فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: (يافلان: ماذا تصلي؟ فقال: ركعتا الفجر شغلت عنهما بالصلاة فسكت)، وهذا معارض لحديث ابن عباس في الصحيحين أنه قال: (شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر بن الخطاب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب) ولذلك فإن المالكية والحنفية تركوا حديث ابن عباس على إطلاقه حين عملوا بالترجيح قبل الجمع، وذهب الشافعي وأحمد إلى الجمع قبل الترجيح، فرأيا إخراج ذوات الأسباب من حديث ابن عباس قياساً على ركعتي الفجر، والاحتياط أن يؤخر الإنسان الصلاة حتى ترتفع الشمس؛ لأن في الباب أحاديث أخرى كحديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه، وحديث ابن عمر في الساعات التي نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيها، أو أن نقبر فيها أمواتنا.
أما إذا جاء الإنسان بعد أن صلى الرغيبة فدخل المسجد فقد جاء في حديث أخرجه الدارقطني في السنن، أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتيه -وفي رواية- إلا ركعتين) لكن الحديث فيه ضعف، ومع ذلك فقد عمل به بعض العلماء، فرأوا كراهة الصلاة بعد صلاة الرغيبة، لكن إذا جاء الإنسان قبل الصلاة ووجد الناس ينتظرون الصلاة، فلابد أن يحيي المسجد لحديث أبي هريرة: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين).(52/19)
جواز خروج المرأة للبيع والشراء في العدة
السؤال
هل يجوز للمرأة إذا كانت في العدة أن تمارس التجارة وتمارس الذهاب إلى السوق؟ وهل يجوز لها الكلام مع الأجانب؟
الجواب
يجوز لها كل ذلك, ولكن يجب عليها أن تبيت في مكانها، ويحل لها الخروج لحاجاتها طرفي النهار لكن لا بد أن تسكن في مكانها، لقول الله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق:1].
وأما الكلام مع الأجانب فيجوز لها منه ما كان يجوز لها قبل أن تكون في عدتها، ولم يحرم عليها بطلاقها أو بموت زوجها من الكلام مع الأجانب شيء إلا ما كان حراماً عليها من قبل، فخلطة الأجانب كانت محرمة عليها في كل ما كان فيه ريبة، لكن مخالطتهم بالبيع والشراء دون ريبة كانت تجوز لها في حياة زوجها، وهي زوجة قبل طلاقها، ولم يطرأ عليها شيء بعدتها.(52/20)
حكم مسح العين بالريق عند قول المؤذن: أشهد أن محمداً رسول الله
السؤال
عندما قال المؤذن: محمد رسول الله، رأيت رجلاً بل إبهامه وسبابته بالريق ومسح بهما على عينيه، ورأيته لما قال المؤذن: لا إله إلا الله، تفل في يده اليمنى ومسح على رأسه، فهل لهذا أصل أم هو بدعة؟
الجواب
هذا لا أصل له، وإنما يعتمد فيه الناس على رؤيا رآها رجل في النوم، وهذه المرائي تسر ولا تغر، ولا يمكن أن تؤخذ منها الأحكام، ولا أن يعتمد عليها في مثل هذا، فعلى الناس أن يتركوا هذا، وأن لا يفعلوه، لأنه لو كان خيراً لجاءنا به محمد صلى الله عليه وسلم، ونحن قاعدتنا الشرعية: (لو كان خيراً لسبقونا إليه)، وهي ضد قاعدة الكفار الذين قالوا: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف:11] فنحن نقول: (لو كان خيراً لسبقونا إليه)، وكل خير لم يسبقنا إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس خيراً، وكل عمل لم يسبقنا إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس خيراً، وكذلك الذي يبصق في يده ويمسح على رأسه، فلا دليل على هذا، ولا ينبغي أن يفعل.(52/21)
توجيه لمن أراد أن يكون عالماً
السؤال
كيف أكون عالماً، أريد التوجيه منكم والنصيحة، وأريد أن تدلوني على الطريق الذي أصير به عالماً من علماء السنة؟
الجواب
لقد دل رسول الله صلى الله عليه وسلم على طريق العلم، فيما أخرج عنه البخاري تعليقاً في الصحيح، وأخرجه ابن أبي عاصم النبيل في السنة متصلاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم)، فمن أراد أن يكون عالماً؛ فلا بد أن يتعلم، ولذلك فالعلم خمس رتب: فالرتبة الأولى: إحسان الاستماع له؛ أن يملك الإنسان سمعه عند العلم حتى يستمع إليه.
الثانية: الفهم لما يسمع.
الثالثة: العمل بما سمعه وفهمه.
المرتبة الرابعة: الحفظ لما سمعه وفهمه وعمل به.
المرتبة الخامسة: النشر لذلك وتعليمه.
فهذه خمس مراتب بها يكون الإنسان عالماً، فمن لم يعمل بواحدة منها لم ينل هذه المرتبة.(52/22)
حكم عيادة المرأة للمريض الأجنبي
السؤال
هل يجوز للمرأة عيادة المريض إذا كان أجنبياً؟
الجواب
نعم، يجوز لها أن تعوده، وقد أخرج البخاري في الصحيح أن عائشة رضي الله عنها عادت بلال بن رباح رضي الله عنه في مرضه في الهجرة، وعقد البخاري على هذا باباً لعيادة المرأة للأجنبي، لكن عيادتها هي أن تقول له: كيف تجدك؟ كما قالت عائشة لـ بلال رضي الله عنهما، فيجوز للمرأة عيادة الأجنبي، لكنها لا تمس جسده، وإنما تقول له كيف تجدك، وتدعو له، وهذه هي فائدة العيادة: أن يدعو الإنسان للمريض، وأن يخفف عنه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل في عيادته، فيقول: (لا بأس طهور)، ويذكر الإنسان بأجر الصبر والبلاء، ويخفف عنه بذلك، وهذا لا خلاف فيه، ولا خلاف في جواز عيادة المرأة للمريض الأجنبي، وكذلك عيادة الرجل للأجنبية من الأمور الجائزة، فيعودها لكن لا يرى ما لا يجوز له رؤيته، ولا يسمع إلا ما يجوز له سماعه، بل يأتي ويسلم ويقول: كيف تيكم؟ أو كيف حالها؟ أو كيف أنت؟ ويدعو لها أيضاً، ويخفف عنها.(52/23)
قراءة الفاتحة للمأموم
السؤال
هل الأفضل بعد انتهاء الإمام من قراءة الفاتحة جهراً أن يقرأ المأموم أم الأفضل له أن يسكت؟
الجواب
الأحوط للمأموم أن يقرأ الفاتحة في الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج) فالأحوط للمأموم أن يقرأ الفاتحة لكن عليه أن يقرأ بها في نفسه، كما أخرج مالك في الموطأ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال (اقرأ بها في نفسك يا فارسي) فعلى الإنسان أن يقرأ بها احتياطاً، فإن سكت الإمام فبها ونعمت، وإذا لم يسكت فليبادر الإنسان ليقرأ الفاتحة، لذلك قال عروة بن الزبير رضي الله عنهما: إن للإمام ثلاث سكتات فاجتهد أن تقرأ فيها الفاتحة، أو أن تكمل فيها الفاتحة، والسكتة الأولى بعد الإحرام قبل القراءة، والثانية بعد الفاتحة قبل السورة، والثالثة بعد السورة قبل الركوع.
ولا إشكال بالنسبة للمأموم فإنه لا يقرأ السورة، وإنما يقرأ الفاتحة فقط، لكن يقرأ بها في نفسه، وهو بهذا لن يفوت الإنصات؛ لأنه أنصت للفاتحة، وأنصت لما أدرك من السورة أيضاً.
أما بالنسبة لحكم هذه السكتات فإنها غير واجبة، بل السكتة بعد الفاتحة لا نعلم فيها شيئاً مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هي من هدي الصحابة والخلفاء الراشدين، فقد كانوا يفعلونها.(52/24)
من أدرك الثانية والإمام في القنوت
السؤال
من أدرك الركعة الثانية من الصبح ووجد الإمام يقرأ القنوت فهل يقرؤه معه أم يقرأ الفاتحة؟ أم ماذا يفعل؟
الجواب
يجب عليه أن يقرأ الفاتحة؛ لأن الإمام حينئذ لا يقرأ القرآن وإنما أمر المأموم بالإنصات للقرآن فقط، لقوله تعالى: {إِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204]، وقد أجمع أهل التفسير أن المقصود بذلك ما كان في الصلاة.
وبالنسبة للقنوت نفسه فليس واجباً والحمد لله، وإنما اختلف في حكمه، فيرى الشافعي سنيته، وأن من تركه لزمه السجود، ويرى المالكية سنيته، وأن من تركه لا يلزمه السجود، ويرى الحنابلة والحنفية مشروعيته عند الحاجة فقط وعدم مشروعيته في غير ذلك.(52/25)
حكم قول: ما شاءت الأقدار
السؤال
ما حكم الكلمات الشائعة، وهل لها أصل شرعي وهي: (ما شاءت الأقدار)، (فوافق القدر)؟
الجواب
إن القدر لا يشاء، وإنما يشاء الله سبحانه وتعالى، فالقدر صفة من صفات الله سبحانه وتعالى فينبغي للإنسان أن يتأدب بالأدب الشرعي، وأن يقول: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، كما أمر الله بذلك، وكما حكاه الله في كتابه، وكما أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا ما يقوله بعض الناس: يقول القرآن، أو قال القرآن، فالقران قول وليس قائلاً، فعليه أن يقول: قال الله أو يقول الله، ولا يقول: قال القرآن، وأما القسم بالقرآن فجائز لأن القرآن كلام الله.(52/26)
حكم قول: سمحت الظروف ولم تسمح
السؤال
حكم قول: سمحت الظروف أو لم تسمح الظروف؟
الجواب
قول: شاءت الظروف وسمحت الظروف مما لا ينبغي، لأن الظروف هي الأزمنة.
والزمان كان أهل الجاهلية يطلقونه على قدر الله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الدهر) فنهى عن سب الدهر؛ لأن أهل الجاهلية كانوا يطلقونه على القدر، فلهذا لا ينبغي للإنسان أن يأخذ بعادة من عادات أهل الجاهلية.(52/27)
النهي عن سب الدهر
السؤال
لماذا نهى الشرع عن سب الدهر؟
الجواب
النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تسبوا الدهر) والمقصود به: القدر؛ لأن الناس إذا قالوا: هذا الدهر سيء، أو مكائد هذا الدهر عجيبة، وبدءوا يسبون الدهر، فإنهم يصلون بذلك إلى الاعتراض على قدر الله وقضائه.(52/28)
حكم قول: (صدق الله العظيم) بعد تلاوة القرآن
السؤال
ما حكم كلمة (صدق الله العظيم) بعد تلاوة القرآن؟
الجواب
هذه الكلمة إذا كانت بعد خبر، فإنها مطلوبة من الإنسان، لقول الله تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} [آل عمران:95] أما إذا كانت بعد أمر، أو إنشاء فلا تطلب لأن الأمر لا يحتمل الصدق والكذب، فإذا كان القارئ يقرأ قصة من قصص القرآن، أو خبراً من أخبار الله سبحانه وتعالى التي أخبر بها، فله أن يقول بعدها: (صدق الله العظيم).
أما إذا قرأ أمراً: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق:7] فقال: (صدق الله العظيم)، فهذا ليس محتملاً للتصديق أصلاً.
فإذاً لابد أن يفرق الإنسان بين المقروء، فإن كان خبراً صدقه وشرط عليه ذلك ولزمه.
وإن كان إنشاء، فالإنشاء لا يحتمل التصديق والتكذيب أصلاً.
فلا يشرع بعده أن يقول: صدق.(52/29)
الحكم بصحة مؤلفات رشيد رضا
السؤال
ما هي صحة الكتب التالية للشيخ رشيد رضا: محمد رسول الله، وأبو بكر الصديق، وسيرة عمر، وسيرة عثمان، وسيرة علي؟
الجواب
بالنسبة لهذه الكتب كلها يؤخذ منها ويرد، ولا يمكن أن يحكم على كتاب بأن كل ما فيه خطأ وباطل، ولا أنه صواب؛ لأن الشافعي رحمه الله حين ألف الرسالة سلمها إلى الربيع بن سليمان المرادي، فقال: يا ربيع خذ هذا الكتاب على خطأ كثير فيه، قال: قلت: يا أبا عبد الله! أصلحه لنا، قال: كيف وقد قال الله تعالى: {لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82] أبى الله العصمة إلا لكتابه، وكل الكتب غير كتاب الله لابد أن يكون فيها شيء من الأخطاء.(52/30)
حكم الأخذ بما في تفسير الصاوي وتفسير الخازن من شطحات وإسرائيليات
السؤال
ما حكم اعتماد ما في تفسير الصاوي والخازن من شطحات وإسرائيليات؟
الجواب
الصاوي ليس له تفسير مستقل، إنما له حاشية على تفسير الجلالين، وهذه الحاشية إنما هي منطبعة بتخصصه هو، وقد كان رحمه الله موغلاً في التصوف، وفي ثقافة أهل زمانه، ولذلك أتى بشطحات كثيرة، وبأمور مخالفه، حتى رد بعض الأحاديث الصحيحة بمجرد عادات، فلذلك لا يؤخذ بما خالف الشرع مما أتى به، ويلتمس له هو العذر، ويستغفر له مثل غيره من علماء المسلمين، ونسأل الله أن يغفر لهم أجمعين.
كذلك بالنسبة لتفسير الخازن مثله، إلا أن الخازن رحمه الله، حاول جمع الكثير من قصص الإسرائيليات اعتماداً على أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) فأتى بكثير من قصص بني إسرائيل، وبعضها مخالف قطعاً، ولا ينبغي الإتيان به، مثل: أن الشجرة كانت تأكل منها الملائكة، ونحو ذلك من الأمور التي يستنكرها العقل وتخالف الشرع بالكلية، فهذا النوع من الحكايات ينبغي أن تنزه عنه الكتب، ولذلك قال القرطبي رحمه الله في مقدمة تفسيره: أنه خلص كتابه من الإسرائيليات التي تخالف الوحي والعقل.(52/31)
العمل الصالح طريق إلى الجنة
السؤال
{ أنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43] يقول الرسول صلى الله عليه وسلم (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله) السؤال: عن الجمع بين النصوص؟
الجواب
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لن يدخل أحد الجنة بعمله.
قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) والمقصود هنا بقوله: (بعمله) أي: في مقابل عمله، والنصوص الواردة في أن الجنة جزاء بما كانوا يعملون، ونحو ذلك في القرآن كثير، والمقصود: بسبب ما كانوا يعملون.
فالباء في الآيات سببية، والباء في الحديث جزائية بدلية، فبينهما فرق كبير من ناحية المعنى، فالجنة لا يستحقها الإنسان بالعمل، لأن العمل مقابل للنعمة.
وانظر هل تستطيع أن تعوض نعمة واحدة من نعم الله عليك بعملك؟! نعمة الإيمان وحدها نعمة الجوارح نعمة التوفيق للعبادة، فأنت لا يمكن أن تعبده إلا إذا أنعم عليك بالتوفيق لذلك، وإذا أعانك على تلك العبادة، فلن تستحق الجنة أبداً بعملك، لكن طريق الجنة وسبب دخولها هو هذا العمل: (اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له) فالعمل سبب لدخول الجنة وليس بدلاً للجنة؛ لأنه ناشئ من النعم.(52/32)
القول بدوران الأرض
السؤال
ما هو رأي أهل السنة في دوران الأرض، وما يترتب على ذلك من حساب للزمن وقياسات هندسية أرضية ومائية؟
الجواب
هذه المسألة ليس فيها نص من كتاب ولا من سنة صريح، لا نص مثبت ولا نص معارض، وإنما يفهم من بعض النصوص دوران الأرض، كقول الله تعالى بعد أن ذكر الأرض وغيرها من الكواكب: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40] وكذلك قال: {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ َ} [النحل:15]، وقال: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء:30 - 31] فمعناه: أن من طبعها الميدان، ,وأنها قابلة لذلك، لكن هذا من دلالات تفهم فقط وليس من النص، ومن هنا فلم يرد في القرآن نص على كروية الأرض ولا على دورانها ولا في السنة، بل هذا من الأمور العادية ينظر فيها إلى ما أثبتته العادة، فإن أثبتت شيئاً في ذلك أخذ به، ولا منافاة بينه وبين النص، وإن لم تثبته فلا حرج؛ لأنه ليس مما يجب الإيمان به وليس مما يتوقف عليه شيء يتعلق بالدين، ونفس الشيء بالنسبة للشمس، أخبر الله أنها تجري لمستقر لها.(52/33)
حكم مصافحة النساء الأجنبيات
السؤال
هل توجد رخصة لإخراج النساء المسئولات في الدولة عن دائرة الإثم المترتب على مصافحة الضيوف، وكذلك بالنسبة للمسئولين في مصافحة الضيوف من النساء؟
الجواب
إن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] ويقول: {قُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ} [النور:31] فمخالطة الأجانب أعظمها مخالطة الفروج، وأدناها مخالطة البصر، وقد حرم الله الطرفين، فدل هذا على تحريم ما بينهما.
وهذا ليس من القياس وإنما هو من مفهوم الموافقة، ومفهوم الموافقة هو أن يكون المسكوت عنه موافقاً للحكم، وأن يكون أولى بالحكم منه، فالمصافحة أولى بالتحريم من مجرد النظر، فإذا كان النهي عن النظر نصياً في القرآن، فالمصافحة أولى منه بذلك، ولذلك قال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] وهذا أدنى شيء في مخالطة النساء: {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] وهذا أعلى شيء في مخالطة النساء، فذكر الحدين وذكرهما مقتض لتحريم ما بينهما، فلذلك تحرم المصافحة مطلقاً، وهذا نص بين، ولا يحل استباحته بالوظيفة، لأن الوظيفة ليست إلجاء ولا ضرورة، بل ليس الإنسان مضطراً لأن يعمل في هذه الوظيفة أصلاً، فيمكن أن يعيش بالاحتطاب، ويمكن أن يعيش بالبيع والشراء، ويمكن أن يكتسب مما جعل الله في الأرض من أنواع المعايش التي يعيش منها الناس.
والشيطان هو الذي يخيل للإنسان أنه مضطر لمثل هذا، وأعرف أحد العلماء كان وزيراً فكان إذا اضطر لمصافحة الكفار الرجال لا يصافحهم إلا بشماله، وفي لقاءات مع بعض الرؤساء الكبار، كان يظهر كأنه يأخذ شيئاً في فمه بيمينه ثم يصافحهم بشماله، فكان أصحاب التشريفات يسألون: هل هو محب للشيكولاته، أو (للعلكة)، لأنه يمسك بيمينه شيئاً كأنه يخرجه من فمه، ويصافح الرئيس بشماله، وذلك أن الشمال هي التي جعلها الله تعالى للقذر، والكفار قذر، فلا يصافحهم إلا بشماله، ومع ذلك مكث في الوظيفة فترة طويلة حتى تركها ولم يصافح قط كافراً بيمينه، ولم يصافح امرأة قط ولا اقترب من ذلك، وما اضطر إلى شيء ولا نقصه أي شيء في هذا.(52/34)
الاختلاف في القبض والسدل في الصلاة
السؤال
ما قول المالكية في القبض -الضم- والسدل في الصلاة، وما هي أدلتهم في هذا؟
الجواب
قبض اليدين هو جعل اليد اليسرى على الصدر وإمساكها باليمين، وجعلها فوقها، وهذا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم الثابتة في الصلاة، وقد وردت فيه ثمانية أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أما السدل فهو إرسال اليدين إلى الجنبين، وهذا لم يرد فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً، لكنه ثبت عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما فيما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف بإسناد صحيح، وثبت كذلك عن عدد من التابعين منهم: سعيد بن المسيب، وعكرمة عن ابن عباس، وأبو العالية، وقتادة بن دعامة، ومحمد بن كعب القرظي.
ولذلك اختلفت الرواية عن مالك رحمه الله، فقد وجد كثيراً من علماء المدينة على السدل، لأن سعيد بن المسيب وهو إمام التابعين في المدينة، كان يسدل يديه، وكذلك عكرمة، ومحمد بن كعب القرظي، وأبو العالية، وكذلك ما ثبت عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو عبد الله بن الزبير بن العوام.
الرواية المشهورة عن مالك، التي رواها أصحابه جميعاً، هي رواية القبض، وهي التي ذكرها في الموطأ، وهي الأقوى دليلاً لأنها يعضدها ثمانية أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أما الرواية الأخرى وهي السدل، فقد رواها عنه ابن القاسم في المدونة، واشتهرت لأن المدونة أشهر كتب المالكية، ومع ذلك فلم يكن ابن القاسم في حكايتها صريحاً بل أتى بها في باب الاعتماد والاتكاء في الصلاة، قال: وسألته عن الرجل يجعل يمينه على شماله على صدره أو على نحره في الصلاة، فقال: لا أعرفه، وهذا في باب الاعتماد والاتكاء في الصلاة، ولذلك اختلف المتأخرون في تأويل ما ذكره ابن القاسم في المدونة، لأن ابن القاسم روى في الموطأ عن مالك القبض، وكذلك كل أصحاب مالك، وقد روى عنه الموطأ تسعمائة رجل، وكلهم رووا عنه القبض.
فالذي يريد أن يتجاهل السدل بالكلية، يقول: ما قصد ابن القاسم هنا سدل اليدين في مقام القبض، وإنما أتى به في باب الاعتماد والاتكاء في الصلاة، وهذا في الواقع غلط، لأنه لا شك في أن بعض أهل المدينة كانوا يسدلون قبل مالك، ولا شك أن السدل كان معروفاً في المدينة في أيام التابعين، فلهذا أرى أن الأمر اختلفت فيه الرواية عن مالك بسبب الاختلاف الوارد عن السلف، وقد كان مالك رحمه الله يحب العمل، فيعرض النصوص على العمل لأن العمل هو معيار النسخ، ولذلك تردد مرة فرأى السدل، ورواه عنه ابن القاسم.
وأما ما أخرجه مالك في كتابه الذي لم يضع فيه شيئاً حتى يستخير الله فيه، وكان كلما شك في شيء أنقصه، فهو القبض، فقد أخرجه في موطئه وقال: ماكان لله فسيبقى، ولهذا فهو أقدم كتاب لدى المسلمين اليوم، وقد اعتنى به مالك عناية شديدة، وكل ما شك فيه حذفه منه، وقد بقي فيه القبض إلى زماننا هذا يحفظه الناس.
وحديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه فيه القبض، وكذلك حديث مالك بن الحويرث وكذلك حديث جابر، وحديث أبي وائل، وكذلك حديث ابن مسعود في جعل يده اليسرى على يده اليمنى فنزعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأحاديث في هذا ثمانية صحيحة.
أما رواية مالك لحديث القبض فإنما أخرجه من رواية أبي أمية عبد الكريم بن أبي المخارق، وهو رجل ضعيف، لكنه غر مالكاً بحسن صلاته، ولم يرو مالك في الموطأ عن ضعيف إلا هذا الرجل، وجميع أحاديث القبض صحيحة ليس فيها كلام، وإنما تُكلم فقط في الحديث الذي أخرجه مالك في الموطأ من طريق عبد الكريم بن أبي المخارق وقد روي من غير طريقه وهو صحيح من غير هذا الوجه.(52/35)
الضمان على سائق السيارة دون مالكها والتأمين حرام
السؤال
رجل له سيارة نقل وسلمها إلى سائق أجير يعمل فيها، واصطدمت بسيارة أخرى ومات السائق، أو انقلبت به فمات السائق، فعلى من تكون الجناية؟ وهل دية السائق تلزم مالك السيارة أو لا؟ وهل هناك ما يتعلق بالتأمين؟
الجواب
هذا السائق جنى على نفسه فديته على عاقلته هو وبني عمه، وليست على مالك السيارة ولا على عاقلة مالك السيارة، وإنما مات هذا الرجل خطأً، ولا هدر في الإسلام؛ فديته على عاقلته.
وأما صاحب السيارة فليس عليه ضمان في شيء مما يحصل؛ سواء بموت الأشخاص أو بما أتلفته من غير ذلك، فهو غير مسئول عن شيء من ذلك أصلاً، لأنه ليس هو المتصرف إنما المتصرف السائق، فكل ما أتلف فجنايته خطأ على عاقلة السائق.
أما التأمين فقد سبق السؤال عنه على هذا المنبر، وذكرنا حرمته وأنه لا يتوقف عليه أي شيء شرعاً، وأن الله سبحانه وتعالى بين أقدس المبادئ القانونية وأقدمها في قوله: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} [النجم:36 - 41] وأن التأمين ظلم سافر، لقول الله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: {قالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ} [يوسف:79].
فلذلك هو ظلم بنص القرآن، وهو مخالف لهذه القاعدة التي هي: شخصية الجريمة، والتي هي أقدس المبادئ القانونية وأقدمها شرعاً، وهي منزلة على إبراهيم وموسى.
كذلك هو مقتض لجراءة الناس على الإتلاف والتعدي، فلهذا إذا اضطر الإنسان إليه فليجعله من باب الإكراه ولا يتوقف عليه أي شيء، ولا يأخذ شيئاً من شركة التأمين، ولا بينه وبينها أي علاقة، والرجل إذا جنى هو فجنايته على نفسه إذا كان متعمداً، أو على عاقلته إذا كانت جنايته خطأ.
وكذلك إذا حصلت حوادث وأصيب أناس فعلاجهم إذا كانت الجناية واقعة بالخطأ من السائق على عاقلته وليس على مالك السيارة منها شيء.(52/36)
حكم الخروج بالعباءات المزركشة للنساء
السؤال
ما حكم العباءات النسوية المزركشة المزخرفة والخروج بها، وهل ذلك من التبرج؟
الجواب
لقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم النساء إذا خرجن إلى المساجد أو خرجن لحوائجهن أن يخرجن غير متعطرات ولا متزينات، بل قال (وليخرجن إذا خرجن تفلات)، وقال: (أيما امرأة تعطرت وخرجت من بيتها فهي زانية) وعلى هذا فلا يحل للمرأة أن تلبس لباس الزينة فتخرج به، والعباءات المزركشة المزينة إذا كانت زينة واضحة بارزة فهي داخلة في قول الله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور:31] فلا يحل لها إظهارها، إلا إذا كانت الزركشة والزخرفة شيئاً يسيراً لا يؤبه له، أو كان مما جرت به العادة فلم يعد زينة لدى الناس، أما إذا كان ذلك مما يتزين به فلا يحل لها الخروج به.(52/37)
حكم لبس المرأة للثياب الملونة
السؤال
ماحكم اللباس الملون للمرأة؟ وهل صحيح أنه ورد عن ابن عباس رضي الله عنه أن اللباس الملون من التبرج؟
الجواب
جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33].
قال: كن يلبسن الرقيق الملون من الثياب، فليس التلوين وحده منهي عنه وإنما هو منهي عنه إذا كان معه الرقة التي تشف عما تحتها، فإذا حصلت الرقة فهذا هو التبرج، سواء حصل التلوين أو لم يحصل.
وقوله: (الملونة من الثياب)، هذا من باب حكاية الحال لما كان عليه نساء الجاهلية ولا يقتضي ذلك تحريم التلوين في حد ذاته، بل لباس المرأة يجوز في كل لون على الراجح، وقد ذهب ابن القيم رحمه الله إلى حرمة لبس الحمرة بالنسبة للنساء، واعتمد في ذلك على أحاديث، لكن لا أرى هذا الذي ذهب إليه، فلا أرى تحريم التلوين في الثياب، لكن ما كان منها زينة لافتاً للانتباه مقتضياً لأن يتابعه الإنسان ببصره، فهذا يحرم على المرأة الخروج فيه من بيتها، وما كان معتاداً كالألوان المعتادة عند الناس التي لا تقتضي لفت انتباه أو متابعة نظر، فلا حرج في الخروج بها.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.(52/38)
الإنفاق في سبيل الله
استخلفنا الله عز وجل على الأموال التي بين أيدينا، وحثنا سبحانه على الإنفاق في سبيله، وبين لنا حقارة هذه الحياة الدنيا، حتى لا نغتر بزينتها، فمن يوق شح نفسه، وينفق مما آتاه الله؛ فهو من المفلحين.(53/1)
مسائل في الإنفاق في سبيل الله(53/2)
الحكمة من الأمر بالإنفاق في سبيل الله
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى جعل التكليف امتحاناً لبني آدم، وجعل رضاه فيما كان مخالفاً للهوى، فللإنسان هوىً يدعوه إلى الانسياق وراءه، فمن انساق وراءه لم ينجح في أي امتحان، ومن خالف هواه فإن الله وعده على ذلك بالجنة.
وإن من أبلغ الامتحانات التي امتحن الله بها عباده مما يخالف الهوى: إنفاق المال في سبيل الله؛ وذلك أن الناس يقولون: المال شقيق النفس، ويظنون أن بقاءها مشروط ببقاء المال بأيديهم، ولا ينالونه في الغالب إلا بجهد ومشقة وعنت؛ فلذلك كان إنفاقهم امتحاناً شاقاً، قل من ينجح فيه من الناس؛ لكن الله سبحانه وتعالى بايع عباده المؤمنين على ما آتاهم من الأنفس والأموال بيعة أكدها في التوراة والإنجيل والقرآن، فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111]، ودعاهم سبحانه وتعالى إلى التجارة الرابحة معه فيما آتاهم من الأموال، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف:10 - 11]، وبدأ هنا بالأموال قبل الأنفس.
وكذلك فإنه سبحانه وتعالى عندما دعا الناس إلى الإنفاق في سبيله، علم مشقة ذلك على النفوس، ومخالفته للهوى، فرتب عليه من الأجور الشيء الكثير، فجعل النفقة مضاعفة إلى سبعمائة ضعف كما في سورة البقرة.(53/3)
نحن مستخلفون على الأموال وليست لنا حقيقة
قال الله تعالى: {وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد:36 - 37].
ثم أكد بعد ذلك على الإنفاق فقال: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]، وقد عطف الله سبحانه وتعالى هذا الامتحان على الامتحان بالإيمان، فقال تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7].
وهذه الآية فيها تلميح عجيب!! بيّن الله فيه: أن كل ما في هذه الدنيا من الأموال والمنافع هو من الخلق الذي خلقه الله في الأيام الأولى من خلق العالم، فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت:9 - 10]، فكل أقوات الأرض وما فيها من الأموال والمنافع، كانت قد خلقت في الأيام الأولى من خلق العالم، فلم تنقص بعد ذلك، فما يأكله الناس منها راجع إلى الأرض، يخلفه الله سبحانه وتعالى فيما بقي في الأرض {كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات:25 - 26]؛ ولكنه دولة بين الناس، يخرج من يد هذا ليصل إلى يد هذا إما بالبيع وإما بالتفليس وإما بالسرقة وإما بالغصب، وإما بالميراث، كحال المساكن في هذه الأرض، فما من بيت معمور اليوم بالسكان إلا وقد سكنه سابقون، وسيسكنه لاحقون، وهكذا أمر الدنيا كلها، فإذا كان الأمر كذلك فعلينا أن نعلم أن ما تحت أيدينا ليس ملكاً لنا؛ ولهذا قال الله تعالى: {مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]، فأنت مستخلف أي: خالف لمن سبقك، ومخلوف أيضاً فيما تحت يدك، وستسلمه لآخرين إما طوعاً وإما كرهاً، ومن هنا يعلم أن الله ما ملكنا الأموال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1]، فالله تعالى لم يملكنا الأموال، وإنما استخلفنا فيها، فجعلها تحت أيدينا أمانة عندنا، ووكالة فقط، والوكيل ينتظر العزل في كل حين؛ ولذلك فعزله إما بالموت، وإما بالحجر، وإما بالفقر، كل ذلك عزل للإنسان عن التصرف فيما تحت يده، ولا يدري الإنسان متى يقع ذلك: وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعول(53/4)
اختلاف الناس في الأرزاق
الأرزاق بقدر الله سبحانه وتعالى، ووفق الحكمة البالغة: {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد:41]، فلهذا: جعل الله الأسباب التي تجمع بها الأموال مقسومة إلى حلال وحرام، وجعل من الناس من يبذل الجهد الكثير فلا ينال إلا القليل مقابل ذلك، ومنهم من يبذل الجهد اليسير، فينال الكثير من الدنيا إذا أقبلت.
وكم من إنسان أعطاها وقته، فلم يبق أي وسيلة يمكن أن يعملها في جمع المال إلا أعملها، ومع ذلك مات فقيراً، ولم ينل من الدنيا مراده! ولا حول ولا قوة إلا بالله، وكم من إنسان أعمل الحيل لجمعها، فلما بلغ المستوى الذي يطلبه كان على موعد مع ملك الموت، فبينما هو ينعم بزهرتها انتهت حياته.
وكم من إنسان لم يعمل من الحيل إلا الشيء اليسير فاجتمع عنده أكثر من حاجته.
كل ذلك نراه ونشاهده بين ظهرانينا من الذين يعملون للدنيا، فليس الغنى عن كثرة العرض، ولا عن إعمال الحيل، بل هو قدر يكتبه الله سبحانه وتعالى في الدنيا بحكمته، ولا مبدل لحكمه؛ ولهذا قال الحكيم: باتت تعيرني الإقتار والعدمَ لما رأت لأخيها المال والنعمَ تباً لرأيك ما الإقتار عن جلد ولا من الكسب بل مقسومة قسما فالدنيا كلها مقسومة قسماً، وكذلك إعمال الحيل ليس هو الموصل إلى الغنى، بل الموصل إليه هو القدر؛ ولذلك قال ابن زريق في عينيته: لا تعذليه فإن العذل يولعه قد قلت حقاً ولكن ليس يسمعه جاوزت في نصحه حداً أضر به من حيث قدرت أن النصح ينفعه فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلاً من عذله فهو مضني القلب موزعه يكفيه من حزن الترويع أن له من النوى كل يوم ما يروعه ما آب من سفر إلا وأزعجه عزم على سفر بالبين يجمعه كأنما هو من حل ومرتحل موكل بفضاء الله يذرعه إذا الزمان أراه في الرحيل غنى ولو إلى السند أضحى وهو يزمعه وما مكابدة الإنسان واصلة رزقاً ولا دعة الإنسان تقطعه قد قسم الله رزق الناس بينهم ما يخلق الله من خلق يضيعه لكنهم كلفوا رزقاً فلست ترى مسترزقاً سوى الغايات يقنعه والدهر يعطي الفتى من حيث يمنعه أرباً ويمنعه من حيث يطمعه إذاً: على الإنسان أن يجمل في الطلب أولاً، ثم ليعلم أن ما جعل تحت يده ليس بالضرورة أنه سينتفع به، بل كثير من الناس يبتلى بكثرة العرض، وتجعل تحت يديه أملاك طائلة، ومع ذلك لا يرزق منها إلا الشيء اليسير، فيكون هو خادماً للدنيا، بعد أن كانت الدنيا خادمة له.
إن كثيراً من الناس يعيش مهموماً مغموماً في مكابدة هذه الدنيا؛ فإذا اختل منها أي ركن من الأركان، أو أي لازم من اللوازم، ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وظن أن الآخرة قد أقبلت، وقد أقبلت فعلاً؛ لكن ليس معنى ذلك أن ما اختل من الدنيا شيء لم يكن من قبل، بل هكذا حيل الدنيا كلها، وقد قال الحكيم: مثل الرزق الذي تطلبه مثل الظل الذي يمشي معك أنت لا تدركه متبعاً فإذا وليت عنه تبعك فلن تنال من الدنيا إلا حظك.(53/5)
حقارة الدنيا وما فيها من الأموال
عليك أن تعلم قيمة هذا المال، وقيمة هذه الدنيا كلها، وأن تعلم أنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً شربة ماء، فالله سبحانه وتعالى جعل الآخرة خيراً وأبقى؛ ولذلك خاطب رسوله صلى الله عليه وسلم -وخطابه خطاب لأمته- بهذا الخطاب البليغ فقال: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:131 - 132]، فالعاقبة للتقوى، وما في هذه الدنيا من الأعراض سيزول، وبقاء الحال من المحال، فأمرها إلى زوال، وعلى هذا، فإن على الإنسان التقليل من الدنيا ما استطاع، وهذا خير له؛ ولهذا قال الله تعالى: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23]، فعلى الإنسان ألا ييئس على ما فاته من هذه الدنيا، وعليه ألا يفرح بما نال منها، فإن ذلك امتحان يمتحنه الله به، فإذا كان كذلك فليعلم المؤمن أن عليه في أموال الدنيا حقين: الحق الأول: أن يأخذها من حلها.
والحق الثاني: أن يضعها في محلها.
فأخذها من غير حلها محادة لله ورسوله، ووضعها في غير محلها غاية السفه والخسران، فعلى الإنسان حينئذ ألا يأخذها إلا من حلها، وألا يتبع نفسه ما ليس من حله؛ فإن الإنسان الذي يتبع نفسه هواها، ويريد الوصول إلى المال مطلقاً -سواء جاء من حله، أو من غير حله- مفتون بهذه الدنيا، والمفتون لا رأي له؛ لأن الهوى قد تملك قلبه فأصبح عابداً لهواه، وقد جعل الله سبحانه وتعالى عبدة الهوى أضل الناس: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص:50].
فالذين يتبعون الهوى هم أضل الناس؛ ولهذا على الإنسان قبل الجمع أن يقدر الهدف.(53/6)
أصناف الناس تجاه أموالهم
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الخيل لثلاثة: هي لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر) قال أهل العلم: المال كله كذلك، وإنما مثل النبي صلى الله عليه وسلم بالخيل؛ لأهميتها عند العرب، وإلا فالمال كله كذلك، وهذا على القاعدة في تفسير السلف للقرآن، فإن تفسير السلف للقرآن يقصد به ضرب الأمثلة للتفهيم، كمن سألك عن الخبز فقال: ما هو؟ فأخذت خبزة فقلت: هذا الخبز، فليس معنى ذلك أنك تزعم أنك ترفع له ما في أيدي الناس من الخبز، وإنما معنى ذلك: أنك تبين له ما يفيده مدلول هذه الكلمة في لغة العرب، فكذلك ضرب المثل بالخيل هو ضرب مثال للمال كله، فالمال كله على ثلاثة أنواع: هو النوع الأول: من له أجر، وهو: من لم يأخذه إلا من حله، ولم يضعه إلا في محله، وابتغى به وجه الله سبحانه وتعالى، وأعده لما كلفه الله به، فكان في يده ولم يكن في قلبه، لا يحزن على ما فاته منه، ولا يفرح بما ناله منه، وما كان منه تحت يده فهو في يده فحسب، ولا يدخله داخل قلبه، فالمال محله اليد، وليس محله القلب.
الثاني: من هو له ستر: وهو من أراد به التعفف عما في أيدي الناس والاستغناء عنهم، والحرية والاستقلال في الرأي، ولم يأخذه إلا من حله، وأراد أن يأخذ ما أحله الله له منه؛ لقول الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32]، فهذا النوع يستره من الزلل، فلا يذمه الناس بألسنتهم؛ لأنه جعله وقاية دون عرضه.
النوع الثالث: من هو عليه وزر، وهو ما حصل عليه من غير حله، أو بعد أن جمعه -ولو من حله كمن ورثه- صرفه فيما لا يرضي الله سبحانه وتعالى، فجعله إرصاداً لمن حارب الله ورسوله، وتجبر به على عباد الله، وطغى وبغى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7]، فهذا المال يكون عليه وزراً، يأتي ويحمله يوم القيامة: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:13]، فسيأتي يحمله جميعاً؛ لأنه أخذه من غير حله، وهذا ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم في ذكره الغلول، فعظم من شأنه، والغلول: أخذ المال العام قبل القسمة أي: قبل أن يأخذ الإنسان نصيبه من الغنيمة، فعظم من شأنه، فقال: (لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته فرس لها حمحمة، يقول: يا محمد! أغثني.
لست له بمغيث.
ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته بعير له رغاء، يقول: يا محمد! أغثني.
لست له بمغيث!! ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته بقرة لها خوار، يقول: يا محمد! أغثني.
لست له بمغيث!! ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته شاة تيعر، يقول: يا محمد! أغثني.
لست له بمغيث!! ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته صامت يقول: يا محمد! أغثني.
لست له بمغيث!! ألا لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته رقاع تلوح، يقول: يا محمد! أغثني.
لست له بمغيث!! ألا هل بلغت؟ ألا هل بلغت؟).
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حذر من هذا الخطر الداهم، الذي يتكالب عليه أقوام جهلوا أو تجاهلوا المصير الوارد، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كذلك خطراً في بعض أنواع المال خصوصاً، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من اغتصب شبراً من الأرض طوقه الله يوم القيامة من سبع أرضين).
طوقه: أي: جعل قلادة في عنقه يوم القيامة من سبع أرضين، فيقطع له من كل الأرض المغصوبة، فيجعل في عنقه يوم القيامة.
إن هذا المال ذو خطر جسيم، وأمر عظيم، وهو مع ذلك وقاية للإنسان، ويمكن أن يفتدي به في الدنيا؛ فإن كل إنسان يوم القيامة يستظل بظل صدقته، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، والله سبحانه وتعالى بسط يده بالخير إلى عباده، وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} [البقرة:245].
إن الله سبحانه وتعالى: هو القابض الباسط الرزاق الوهاب، وهو الذي دعا عباده إلى أن يقرضوه قرضاً حسناً، مع غناه عما في أيديهم، وما قدموه إنما يقدمونه لأنفسهم، قال الله تعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها.
فمن وجد خيراً فليحمد لله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) هنا بين سبحانه وتعالى: أن من قدم له شيئاً فإنه يضاعفه له أضعافاً كثيرة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك على وجه التقريب، فصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وما تصدق عبد بصدقة طيبة إلا أخذها الله بيمينه، فلا يزال ينميها له كما ينمي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تكون كالجبل) والفلو: هو ولد الفرس، والفصيل: ولد الناقة، وتنميته: تربيته والإنفاق عليه حتى يتم ويصل إلى غاية الثمن.
إن الثقل والضخامة التي في الجبال تحصل بما هو دونها من الإنفاق إذا تقبله الله؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه: (لا تسبوا أصحابي؛ فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مُد أحدهم، ولا نصيفه) لو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهباً، ما بلغ مد أحدهم أي: مد شعير تصدق به أحدهم، ولا نصيفه أي: نصفه، أو النصيف الذي تجعله المرأة على رأسها، وهو ثوب صغير.(53/7)
الإنفاق في وقت الرخاء وفي وقت الشدة
إن الإنسان الذي أنفق في وقت الرخاء، لا يقاس بالذي أنفق في وقت الشدة؛ ولهذا قال الله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10]، إن الذين أنفقوا في وقت الشدة يصدق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سبق درهم مائة ألف درهم) , جاء قوم من الأعراب مجتابي النمار، عامتهم من مضر، فرآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكان أرحم بالمؤمنين من أنفسهم- فتمعر وجهه رحمة بهم بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (أنفق رجل من صاع تمره، من صاع بره، من صاع شعيره، من درهمه، من ديناره).
جاء رجل من الأنصار وقدم درهماً واحداً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبق درهم مائة ألف درهم) إن درهم ذلك الأنصاري عند الله أكبر وأربح من مائة ألف درهم ينفقها من سواه، لأنه كان من السابقين الذين يقتدى بهم، فكل من اقتفى أثره يكتب له من حسناته دون أن ينقص ذلك من أجر المنفق شيئاً.(53/8)
فوائد الإنفاق
إن الإنفاق له فوائد أخرى غير الجوائز الأخروية التي فيها ثقل كفة الحسنات: فبه كذلك رفع الدرجات في الدنيا، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اليد العليا خير من اليد السفلى)، فالمنفق خير من المنفَق عليه؛ وكذلك هو مدعاة للغنى، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقول الله تعالى: يا ابن آدم! أنفق أُنفق عليك)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وملكان ينزلان، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: أعط ممسكاً تلفاً) هذا في كل يوم تطلع فيه الشمس، ملكان ينزلان يرسلهما الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن يدعو الملك إلا بما عين له كالشفاعة لا تكون إلا بإذنه: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28]، فلا يمكن أن يدعو الملك إلا لمن أذن الله بالدعاء له.
ثم إن من فوائد الإنفاق الدنيوية أنه يرد الله به البلاء، فإن الصدقة تصطرع مع البلاء في السماء، وترده عن أهل البيت؛ ولهذا رتب الله على ابن آدم ثلاثمائة وستين صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، مقابل ما فيه من المفاصل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس)، وفي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق ابن آدم على ستين وثلاثمائة مفصل، وجعل على كل مفصل صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس)، في كل مفصل من المفاصل، سواء كانت مما يعرفه الأطباء، ومما يدرك بالتشريح، أو كانت من المخفيات التي لا تعرف بالعين المجردة، فإن كل تلك المفاصل -عظيمها ودقيقها- رتب الله عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، ويجزئ من ذلك أن يصلي المؤمن ركعتين وقت الضحى، فركعتان وقت الضحى تقومان مقام ثلاثمائة وستين صدقة؛ لكن لا شك أن هذا الترتيب هو إرشاد للعبد، ونفع له، وتقوية لهذه الجوارح، وسعي لتمتيعه بها، ودفع للضرر عنها، فما أحوجنا إلى مثل هذه الصدقات التي ترفع البلاء عن أهله في الدنيا، وترفع المنازل وتطفئ غضب الرب سبحانه وتعالى، وهي مع ذلك تضمن للإنسان الزيادة؛ فالصدقة لا تنقص المال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما نقصت صدقة من مال)، فالصدقة لا تنقص المال، بل تزيده، وما يبذل الإنسان من المال؛ ابتغاء مرضات الله سبحانه وتعالى مخلوف عليه قطعاً، لا بد أن يناله في هذه الحياة الدنيا، فضلاً عن أجره يوم القيامة، والله سبحانه وتعالى غني عن دراهم الناس ودنانيرهم، وأعطياتهم وإمدادهم، وإنما امتحنهم ليعلم الذين يؤثرون الآخرة على الأولى، ويتقربون إليه بما آتاهم.(53/9)
وجوه الإنفاق في الخير
إن المؤمنين في الصدر الأول أدركوا قيمة الإنفاق ومنزلته، فقد جاء فقراء المهاجرين إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقالوا: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور، يصومون كما نصوم، ويصلون كما نصلي، ويتصدقون بفضول أموالهم، فقال: أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به؟! إن بكل تسبيحة صدقة، وبكل تحميدة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة)، وبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم كثرة طرق الخير وأبوابه، ومما قال: (وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! هل يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: أرأيت لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر).(53/10)
مفهوم الصدقة
الصدقة لها مفهومان: مفهوم عام واسع شامل لكل خير: (تعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وتبسمك في وجه أخيك صدقة)، فهذا من مفهوم الصدقة العامة الشاملة، وللصدقة نوع آخر أخص من سابقه، وهي الصدقة الجارية، التي لها أجر بالغ في إزالة الشح والبخل عن الإنسان، وهذا الأثر التربوي هو الذي نحتاج إليه؛ فإن كثيراً من الناس لا يشعر بأنه بخيل، بل يظن نفسه كريماً، لكنه إذا راجع نفسه لن يذكره الشيطان بما أنفق من ماله إلا ما كان في سبيل الله ليستكثره، ومن هنا لا يستشعر أنه بخيل في التعامل مع ربه الكريم الذي أنعم عليه بأنواع النعم، ولطف به بأنواع الألطاف، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].(53/11)
اشتراك جمع في الأجر على عمل واحد
الصدقة الواحدة يدخل الله بها الجنة عدداً من الناس، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أهمية التعاون في الخير، فكل عمل جماعي يشترك فيه الناس يثابون فيه الثواب الجزيل العظيم، والصدقة التي تخرجها المرأة من بيت زوجها، يشترك معها في الأجر، لأنه هو الذي اكتسبها، والمرأة هي التي أنفقتها، وكذا الرسول الذي بلغها، والخازن الذي كان يحفظها، فكل هؤلاء شركاء في الأجر، ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم في شأن السهم: (إن السهم الواحد يدخل الله به الجنة ثلاثة: الذي اقتطعه، والذي براه، والذي رمى به) هؤلاء جميعاً يدخلون الجنة بالسهم الواحد الذي يرمى به في سبيل الله، وهذا يدلنا على غنى الله عن خلقه.
الله لا يريد منكم شيئاً، وإنما يريد منكم أن تقدموا لأنفسكم؛ لذلك بين أن الاشتراك في الأجر يحصل بمجرد المساعدة على الخير، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدال على الخير كفاعله)، وقال: (من سن في الإسلام سنة حسنة، كان له أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً).(53/12)
وساوس الشيطان لسد باب الإنفاق
إن المنفق إذا تذكر أنه عندما يدخل يده في جيبه، أو يأخذ قلمه ليوقع العطية التي سينفقها؛ أن الكريم الوهاب الرحيم الرزاق ينظر إليه في تلك الساعة، وأنه مطلع على ما في قلبه، فإن ذلك يقتضي منه الإسراع والمبادرة قبل أن يحول الشيطان بينه وبين ذلك، فالشيطان لا يعد الناس إلا الفقر، كما قال الله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة:268]، وهذا عكس ما أمر الله به: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، فإذا علم الإنسان عداوة الشيطان له، حاول أن يبادر كيده الضعيف، حتى يفوته بما ينفق؛ ولهذا فإن كتمانه لذلك عن نفسه مما يضاعف الأجر: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة:271]، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة أنه قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمامٌ عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجلان تحابا في الله: اجتمعا عليه، وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)، هؤلاء يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فالصدقة من الأمور التي يفوّت بها الإنسان على الشيطان كيده، فالشيطان يحاول منع الإنسان من التصدق من ماله، ولو بالتأخير؛ ومن حيلة الشيطان على بعض الصالحين أنه يقول: لا تخرج هذا المال على غير أولادك؛ فهم بحاجة إليه.
فينازعه، ويقول: لا بد أن نقدم شيئاً للآخرة.
فيقول: افعله وصية بعد موتك، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك ما هو إلا من البخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فيقول عندما يغرغر: كذا لفلان، وكذا لفلان، وقد كان لفلان) وقد كتب له ذلك بالقدر؛ لكن (خير الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح شحيح) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فإنك لن تتغلب على محاولة الشيطان إلا عندما تكون صحيحاً شحيحاً، وتخرج من مالك الذي تعبت في استخراجه، وأنفقت فيه الأوقات، ثم أنفقته ابتغاء مرضات الله سبحانه وتعالى.
ثم إن من مكائد الشيطان ومجاهدته مع الإنسان أنه إذا أراد الإنفاق، وغلبه فلا ينفق إلا شرار ماله، فلا ينفق خيار ماله، وكرائم أمواله، بل يحاول أن يدخر الكرائم، وأن يستخرج المعيب، وهذا ما حذر الله منه في الصدقة الواجبة فقال: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة:267] أي: لا تقصدوا السيئ من المال المعيب منه؛ لتنفقوه في سبيل الله: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267] أي: لو كنتم تطالبون أحداً بدين، فقضاه بذلك الخبيث لم تكونوا تأخذوه، إلا أن تغمضوا فيه، فتتغاضوا عن بعض حقكم!! ومع هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ معاذ: (إياك وكرائم أموال الناس! واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، لكن هذا في حق الذي سيأخذ من الناس صدقات أموالهم، وهذا لا ينبغي له؛ لأنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيبة نفس منه، لكن عليه هو أن تطيب نفسه بما يقدمه لنفسه.
إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ذات يوم: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، فقال: فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر).
وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: (يقول ابن آدم: مالي، مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟!) إن مالك هو الذي سيصحبك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم تبعه أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع ماله وأهله، ويبقى عمله).
إن الذين ينفقون هذه الأموال التي هي من حلال يتحدون الشيطان، ويخالفونه ويتغلبون عليه، ويفعلون ما أمروا به من عداوته، فإن الله جمع الخبر والأمر فيما يتعلق بالشيطان في آية واحدة فقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} [فاطر:6]، هذا الخبر وهو صدق: {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر:6]، وهذا هو الأمر، فعلينا تصديق الخبر وامتثال الأمر؛ لكن لا يمكن أن نتخذ الشيطان عدواً إلا إذا جاهدناه، والذي يطيعه فيما يأمره به ليس ولياً لله قطعاً، بل هو صديق وولي من أولياء الشيطان، والذي يفوت الشيطان بالخير، ويجاهده، ويراغمه، فينفق دون أن يحول الشيطان بينه وبين ذلك، ليس هو من أولياء الشيطان قطعاً، بل هو من أعدائه ومن أولياء الله؛ ولهذا فإن المنفق المخلص هو الذي يوفقه الله سبحانه وتعالى، بخلاف المنفق غير المخلص، وقد ضرب الله له مثلاً عجيباً بالصخرة التي يجتمع فوقها التراب، فيأتي المطر فيذهب به؛ فتبقى صلداً ليس فوقها شيء؛ فكذلك غير المخلص يجتمع حوله المال كالتراب الذي يجتمع على الصخرة، ثم يأتي المطر فيذهب به فتبقى الصخرة وليس عليها ما يرد ويدفع عنها عوامل النحت والتعرية.(53/13)
الزكاة حق واجب
إن الإنسان المخلص الصادق يعلم أن الله امتحنه بما جعل تحت يده، وأن عليه أن يقوم لله بالحق الذي فيه، فإن لله حقاً في هذا المال، وهذا الحق لا بد أن يعرفه الإنسان في ماله، وأن يؤديه، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25]، وقال الله تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:19]، لا بد أن يعلم الإنسان هذا الحق أولاً ثم يؤديه بعد ذلك.
فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج:24] أي: يقدرونه في أنفسهم، ويعلمون الحق الذي عليهم؛ فلذلك يقوم الأغنياء بمسئوليتهم تجاه الفقراء، ولا يعفى الفقراء أيضاً من الإنفاق، بل الإنفاق خطاب عام يستوي فيه الغني والفقير، الجميع مخاطب، لكن كل ينفق على حسب طاقته، فالله عز وجل يقول: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، وقد بين أنس رضي الله عنه كما في الصحيح: أن الفقراء القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يذهبون إلى الجبل فيحتطبون، فيبيعون الحطب، فيتصدقون بثمنه على الفقراء، وكانوا يقومون الليل، ويعلمون الناس القرآن، فيأخذ أحدهم حبله في الصباح ويذهب إلى الجبل، فيأتي بالحطب، فيبيعه، فينفق به على أسرة فقيرة، فيكون قد زكى نفسه وماله: زكى نفسه بإعمالها في مرضات الله، وتحركها في عمل الخير، والنفوس التي لا تتحرك ستبقى جامدة، ويركبها الشيطان عند ذلك، لكن الحركة في الخير بركة؛ فلذلك يتحرك هؤلاء للزكاة التي قال الله فيها: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [الأعراف:156].
وقد قال تعالى عن الكافرين: {الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:7]، فبين أن المرحومين هم المؤمنون الذين يؤتون الزكاة، وأن المشركين -المسخوط عليهم، الذين لهم الويل- هم الذين لا يؤتون الزكاة، وهذه الزكاة تشمل الصدقة الواجبة وغيرها، وهي شاملة لزكاة البدن، وزكاة المال، وزكاة الوقت، وزكاة الجاه، وزكاة العلم، كل ذلك داخل فيما تجب زكاته.(53/14)
وصول المال إلى غير المستحقين
إن الإنسان الذي ينفق ابتغاء مرضاة الله، ينفق ولو وصلت نفقته إلى من لا يستحقها، فإنه يثاب عليها، ويتقبلها الله منه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن رجلاً من بني إسرائيل، قال: لأتصدقن الليلة بصدقة -عاهد الله أن يتصدق بصدقة يخلص فيها- فجمع تلك الصدقة من ماله، والناس نيام فخرج بها، فوضعها في يد بغي، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على بغي! فقال: لك الحمد، على بغي.
ثم قال: لأتصدقن الليلة بصدقة، فأخذ صدقته والناس نيام فخرج بها فوضعها في يد غني، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على غني! فقال: لك الحمد، على غني.
ثم قال: لأتصدقن الليلة بصدقة، فأخذ صدقته، فجعلها في يد سارق، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على سارق، فقال: لك الحمد على سارق، فأتاه ملك في النوم فقال: إن الله تقبل صدقتك؛ فالبغي ما حملها على البغاء والزنا إلا الجوع، فقد أغنيتها عن ذلك، والغني: لم يكن يستشعر أن عليه حقاً، فلما تصدقت عليه عرف أنه ينبغي أن يتصدق، والسارق ما حمله على السرقة إلا الجوع، فقد أغنيته عن ذلك)، فتقبل الله سبحانه وتعالى منه هذا العمل الذي ظاهره أنه وقع في غير محله، ولكن صاحبه كان مخلصاً لله، فأثابه الله على ذلك.
والإنفاق إذا وقع في محله كانت له فوائد عظيمة على المجتمع كافة، تخيل -يا أخي- عندما تأخذ المال الذي اكتسبته من حلال، وأخفيته عن نفسك، وعن حوائجك، وآثرت به الآخرة على الأولى، وجعلته في كمك، وخرجت به تلتمس الفقراء والمحرومين، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله، فوجدت أسرة لا ترى فيها مواقد النار، وليس بها غنى، أهلها متعففون لا يتكففون الناس، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس الفقير الذي يتردد على الأبواب، وترده اللقمة واللقمتان، والطعمة والطعمتان، إنما الفقير المتعفف)، فالفقير المتعفف إذا وصله خيرك -وهو في داره- كتب الله لك أجر ذلك، ووجدته أمامك يوم القيامة.(53/15)
من قصص وأخبار المنفقين والمتصدقين(53/16)
إنفاق النبي صلى الله عليه وسلم
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق فيعطي عطاء من لا يخشى الفقر، كان الأعرابي إذا جاء أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيرجع إلى قومه فيرفع عقيرته فيقول: يا قوم! أسلموا؛ فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
ولذلك حين ألجأه الأعراب يوم أوطاس إلى شجرة فأمسكت رداءه قال: (ردوا عليّ ردائي، فلو كان عندي مثل شجر تهامة نعماً؛ لقسمته بينكم، ثم لن تجدوني جباناً، ولا بخيلاً، ولا كذاباً) وقال للأنصار حين أتوه وتوافدوا عليه في صلاة الفجر: (لعله بلغكم أن أبا عبيدة قدم من البحرين بمال، فما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس في منصرفه من تبوك: (إنه ليس لي من هذا المال إلا الخمس، وهو مردود عليكم).
كان صلى الله عليه وسلم من أجود الناس وأسخاهم؛ ولذلك قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، ما سئل شيئاً قط فقال: لا) إن كان عنده أعطى، وإلا رد بميسور من القول.
وهذا الأدب أدبه الله به في قوله: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا * وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا * وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء:26 - 29]، هذا تأديب الله له، وقد تأدب به صلى الله عليه وسلم، كما قال: (أدبني ربي فأحسن تأديبي).
وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان يدارسه القرآن في كل ليلة من ليالي رمضان، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة).(53/17)
إنفاق عائشة رضي الله عنها
كان الإنفاق من هدي الصحابة، وقد تعلموا ذلك منه صلى الله عليه وسلم، فهذه عائشة رضي الله عنها تعلمت من إنفاق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (ذبح في بيتي شاة ذات يوم، فدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بقي عندكم من الشاة؟ قلت: كتفها، فقال: بقيت كلها إلا كتفها)؛ لأنها كلها أنفقت في سبيل الله، تقول مولاة عائشة رضي الله عنها: جاء إلى عائشة عطاء وهي صائمة في شدة الحر، وكان العطاء عشرة آلاف درهم، فوزعته في مجلسها، فلم تمسك منه أي شيء، فلما انتهى قلت: رحمك الله! لو أمسكت لنا ما نفطر عليه، فقالت: لو ذكرتيني لفعلت! لم تتذكر أنها بحاجة إلى ما تفطر عليه فقط!!(53/18)
إنفاق أبي بكر رضي الله عنه
أبو بكر رضي الله عنه أتى بماله كله مرتين في سبيل الله، يحمله فيجعله بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيدخل عليه السرور، حتى تبرق أسارير وجهه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تركت لأهلك؟ قال: الله ورسوله)، وهو الذي عندما ارتد العرب عن دين الله، وبلغه الخبر، سل قراب سيفه، وقال: أينقص هذا الدين وأنا حي؟!، لا يتحمل أن يلحق هذا الدين أي نقص وهو حيّ؛ لأنه قائد للدين، وهو محام عنه ومدافع؛ فلذلك أنفق ماله كله في الدفاع عن دين الله.(53/19)
إنفاق عمر وعثمان رضي الله عنهما
كان عمر رضي الله عنه ينفق كثيراً وقد سابق أبا بكر فأنفق نصف ماله، فأتى به؛ فإذا أبو بكر قد جاء بماله كله!! وكذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه عندما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يحض على الإنفاق في تجهيز جيش العسرة، فجاء بتسعمائة بعير برواحلها، ومراكبها، ونفقاتها، وسلاحها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يضر عثمان ما فعل بعد اليوم)؛ فقد حل عليه رضوان الله الأكبر، الذي لا سخط بعده.
وكانت بئر رومة تستعذب في المدينة أي: ماؤها عذب، وقال صلى الله عليه وسلم: (من يشتري بئر رومة -وكانت ليتيمين-، فيجعل دلوه فيها مع دلاء المسلمين وله الجنة؟ فقال: عثمان: أنا لها.
فاشتراها، فلما ساوم أصحابها فيها، أغلوا عليه بالثمن فأعطاهم ضعف ذلك، وجعلها في سبيل الله، وجعل دلوه فيها مع دلاء المسلمين).(53/20)
إنفاق علي رضي الله عنه
كان علي رضي الله عنه ينفق ولا يبقي لنفسه درهماً ولا ديناراً، وكان يقول: (مالي وللدنيا، إنني لست من أهلها، مالي وللدنيا؛ إنني لست من أهلها).
فقد باع نفسه لله، وخرج من مكة وليس معه إلا ثوبه، وعندما تزوج سيدة نساء العالمين -بضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاطمة رضي الله عنها- لم يكن له إلا شارفان من الإبل، منحهما إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يخرج بهما إلى الفلاة؛ ليأتي بإذخر؛ فيبيعه، فيجهز أهله من ذلك، فلما أناخهما بعرصة الدار، وعقلهما، شرب حمزة إذ ذاك خمراً مع فتية من الأنصار، فغنته جارية، فحثت حمزة على نحر الناقتين، فقام إليهما، فنحرهما، فحرمت الخمر بعد ذلك، وكان رضي الله عنه من أشد الناس تعاهداً لقرابته، وصلة رحمه، وكان رضي الله عنه ينفق على كثير من أصحاب البيوت، وهم لا يعلمون أن النفقة من عنده.
وكان قبل موته -وهو خليفة يقسم كل ما في بيت المال على المسلمين، ويقمه بردائه، وينضح فيه الماء، ويصلي فيه ركعتين، ويشهد فيه على المسلمين.
ولم يترك إلا أربعين درهماً، كان ميراث علي جميعه أربعين درهماً، وله أربعة وعشرون من الأولاد، وله عدد من الزوجات، ومع ذلك لم يترك إلا أربعين درهماً، كان يريد بها رقبة يعتقها في سبيل الله.
وعندما غنم المسلمون كنوز كسرى وقيصر، جيء ببنات كسرى إلى عمر بن الخطاب، فتردد عمر في شأنهن: هل يعتقهن، أو يستعبدهن ليكون ذلك نكاية في الفرس، أو ماذا يعمل بهن؟ فجمع أهل الشورى من المهاجرين والأنصار، فقال له عبد الرحمن بن عوف: بعهن، واجعل ثمنهن في تجهيز الجيوش؛ فإننا بحاجة إلى ذلك.
فعرضهن عمر للبيع، فاشتراهن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بكل ماله، ووزعهن بين أولاد الصحابة، فأعطى إحداهن الحسين بن علي فكانت أم علي بن الحسين، وأعطى الأخرى لـ عبد الله بن عمر، فكانت أم سالم بن عبد الله، وأعطى أخرى لرجل آخر أظنه عبد الله بن الزبير بن العوام، فكانت أم بعض أولاده.
هكذا كان علي رضي الله عنه، فقد كان الذين يعرفونه يقولون: (والله! لهو أجود مما هو أشجع، ولكن شجاعته أذكر في الناس) أي: أشهر في الناس، فهو أجود مما هو أشجع.(53/21)
إنفاق عبد الرحمن بن عوف
عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه كان تاجراً يضرب في الأرض، أتته عير في (عام المجاعة) تحمل أنواع الأرزاق والبضائع، فأتاه تجار المدينة يساومونه بالعير، فقالوا: نجعل لك على الدينار ديناراً، وعلى الدرهم درهماً، فقال: أعطيت أكثر من ذلك.
فقالوا: نجعل لك على الدرهم درهمين، وعلى الدينار دينارين، فقال: أعطيت أكثر من ذلك.
فقالوا: نحن تجار المدينة وليس فيها من سوانا، فمن أعطاك أكثر من ذلك؟ فقال: ربي أعطاني عشرة أضعاف ما قلتم، فأنفقها بأحلاسها، وأقتابها، وما كانت تحمله في سبيل الله.(53/22)
إنفاق السلف
جاء بعد الصحابة من اتبعوا آثارهم، وهم كثير في هذه الأمة في كل العصور، فهم الذين يتولون الإنفاق على المحتاجين، فكم من نساء هذه الأمة تقتدي بـ زينب بنت جحش التي كانت تكنى بـ أم المساكين!! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً)، وكانت أطولهن يداً في الإنفاق، ولم تكن أطولهن يداً في الواقع، فكانت أول من التحق بالنبي صلى الله عليه وسلم من أزواجه.
وكان علي بن الحسين رضي الله عنهما ينفق على مائة بيت من فقراء المدينة، وكانوا لا يعلمون أنه الذي ينفق عليهم، كان يأتي في آخر الليل، وقد نام أهله، فيحمل الدنانير والدراهم، ويتسور تلك البيوت؛ فيجعلها فيها، فيصبح أهلها والدنانير عند رءوسهم، ولا يدرون من أين أتت!! وكان الحسن بن علي رضي الله عنه مطلاقاً، وكان ينفق على مائة مطلقة: فيتولى كل مصاريفها، وكل ما تحتاج إليه من نفقة وسكنى.
وهكذا كان عدد كبير منهم وليسوا معدودين في الأغنياء، لكنهم معدودون في الكرماء، كان عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما ينفق على فقراء المدينة وفقراء مكة، ثم ازداد ماله فأنفق على فقراء الحجيج، ثم أنفق على فقراء أهل الشام، وكان يقول: لو بقي لي عمر لازداد مالي؛ فأنفقت على غيرهم من الفقراء؛ لأنه يعلم أن القضية فقط هي قضية العمر، فهذا المال الذي تعتني به هو إنفاق من الله عليك، فإذا كنت أميناً في توزيعه استمر الإنفاق عليك، فما هو إلا بمثابة الحنفية إذا فتحت استمر الماء، وإذا أغلقت توقف.
هكذا كان إنفاق أولئك القوم ومن بعدهم: فـ محمد بن مسلم بن شهاب الزهري رحمه الله كان من الأجواد المشاهير، وكان يكثر من النفقة على طلاب العلم فكان يقول: (إن هؤلاء قد شغلهم العلم، عن اكتساب المال، وإنهم لا يسألون الناس؛ فهم أحق بهذه النفقة) فكان ينفق عليهم، وكان إذا أتى المدينة اجتمع عليه طلاب الحديث من أصقاع الأرض، فيقضي عنهم كل ديونهم، وكذلك: عبد الله بن المبارك سيد أهل مرو وعالمهم، فإنه رحمه الله كان غنياً؛ لأنه كان مجاهداً في سبيل الله -والجهاد كفيل لصاحبه بالغنى- فكان إذا رجع من غزوة، أتى بالغنائم ليقسمها بين الذين يتأهبون للجهاد، فيقول: (هذا المال مال الجهاد، أخذناه منه وسنعيده إليه) فأخذه للجهاد حين غنمه، ثم يعيده على الجهاد بتجهيز الجيوش، وكان إذا خرج إلى الحج أخذ من رفقته الحجاج أموالهم، فقال: (هي أمانة عندي أنفق بها عليكم)، فإذا رجعوا من الحج، وظنوا أنه قد أنفق عليهم من مالهم، رد عليهم أموالهم كلها، فإذا به كان ينفق عليهم من ماله الخاص!! إن الإنفاق يحتاج إليه هذا الدين في كل مشروع؛ لأنه لا يمكن لمشروع أن يقوم إلا بتموين، وأعظم المشاريع وأكرمها مشروع إقامة دين الله عز وجل، فلا يمكن أن يقام دين إلا بمال؛ لأن كثيراً من الأمور لا يتوصل إليها إلا به، ولا يمكن سدادها إلا به.
على المسلمين أن يدركوا خطر هذا المال، وامتحانهم به، وأن يقدموا منه اليوم لأنفسهم، وما زال -ولله الحمد- كثير من الذين يؤثرون الآخرة على الأولى، ويتصدقون بفضول أموالهم، وينفقون، وهم بمثابة الأودية في الأرض، يأتي المطر فينزل على مكان ناءٍ، فتذهب به الأودية، فتسقي به مواقع لم يسقها المطر؛ فكذلك هؤلاء الأجواد في الأرض: يأتي المال، فيجتمع في مكان، فينقلونه إلى مكان آخر لم يصل إليه، فهم مثل الأودية تجود في أرض الله عز وجل!!(53/23)
من أسخياء القرن العشرين
إن كثيراً من المتصدقين لهم في هذا الميدان باع واسع، ولهم آثار طيبة في الدفاع عن الإسلام، وإعلاء كلمة الله، أذكر أن تاجراً من التجار أتاه قوم من المجاهدين ذات يوم، فذكروا له ما يعانون من بطش (الروس)، وراجماتهم بعيدة المدى، وأنهم لا يمكن أن يقارعوهم إلا بصواريخ (سنجر)، وهي غالية ليس لديهم ما يشترونها به، فتمعر وجه الرجل، وقال: ليس بينكم وبين أن تقاتلوا الروس في سبيل الله إلا شراء هذه الصواريخ؟! قالوا: نعم، فقال: هي عليّ في سبيل الله! فتهلل المجاهدون لذلك، واستبشروا في الصفوف، وسمع التكبير في صفوفهم، وفعل الرجل ما وعد، فكان لذلك الأثر البالغ في هزيمة الروس النكراء.
ومثل ذلك: ذات يوم كنا في وقت الظهيرة في شدة الحر مع رجل من قادة المجاهدين الأفغان، وهو عبد رب الرسول سياف، وكان يتحدث عن الضائقة التي يعانيها المجاهدون في قمم الجبال من بطش الروس، فبينما هو يتحدث ذلك الحديث -والناس صائمون في وقت الظهيرة- إذ بشاب يطرق الباب، فاستقبله أحد الحاضرين، فقال: إن معه أمه، وإنها تريد الشيخ لحاجة ضرورية، فتعجب الناس من هذه العجوز التي تأتي في وقت الظهيرة، وتريد الشيخ؛ ليخرج إليها وهو في وقت شرح حال المجاهدين وبيان حالهم!! فما كان من الشيخ إلا أن خرج إليها، فإذا هي جالسة عند الباب، فقالت: إنها عجوز كبيرة السن، وقد ورثت مالاً حلالاً، وتريد أن تقدمه لآخرتها، وقد جاءت به تحمله، وتريد رسولاً أميناً يحمله لها إلى الدار الآخرة، فسلمته ليد الشيخ، فجاء الشيخ يبكي وقد ابتلت لحيته بدموعه، وما ذلك إلا لأنه كان يحب أن يكون هو الذي أنفق هذه النفقة، كحال الأشعريين الذين كانوا يحبون الغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن لهم مالٌ يفعلون ذلك به، فأنزل الله فيهم: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92].
كذلك أعرف تاجراً من تجار المسلمين ليس بأغناهم، ولا بأطولهم يداً، خرج ذات يوم إلى جامعة أهلية من الجامعات الإسلامية، فرأى فيها الطلاب من مختلف الجنسيات يدرسون العلم، وهذه الجامعة تسعى للتكوين التربوي؛ فتلزم طلابها بصيام الإثنين والخميس وقيام الليل، بالإضافة إلى دراسة العلم، وحضر معهم الإفطار، ورأى ضآلة طعامهم وضعف إمكانات الجامعة، فقطرت دموعه، فعرفت أنه مستعد لأن يبذل شيئاً للجامعة، فسألته: هل تريد أن تتبرع للجامعة بشيء؟ قال: نعم، فقلت: إن أحوج ما تحتاج إليه هذه الجامعة أن تشتري لها مطبخاً كبيراً، فاشترى لها مطبخاً كبيراً من اليابان، ووصل إليها بالفعل، وكان هذا المطبخ فتحاً عظيماً للجامعة، سد حاجة الطلاب جميعاً، وما هو إلا من لحظة واحدة تأثر بها الرجل عندما رأى الناس يجتمعون على الإفطار بوسائلهم الضعيفة المتواضعة.(53/24)
الإنفاق على المجاهدين واجب ديني على المستطيعين
إن الذين يجاهدون في سبيل الله، ويقارعون أعداء الله سبحانه وتعالى، أغلبهم شباب لا يملكون نفقة، ولا سلاحاً؛ ولذلك هم يحتاجون إلى من يوصلهم أولاً إلى أرض العدو، ثم يشتري لهم السلاح بعد ذلك، فالذين يجاهدون الآن في (الشيشان) أغلبهم من الشباب الفقراء الذين ليسوا بموظفين ولا تجار، ولا يقاتلون إلا بأموال تجار المسلمين في مختلف الأنحاء، فليس هناك دولة من الدول الإسلامية تدعمهم مع استحقاقهم للدعم على الجميع، ومع أن منظمة المؤتمر الإسلامي، ومنظمة رابطة العالم الإسلامي، والمجمع الفقهي، كل هذه الهيئات قد أصدرت فتوى لجميع المسلمين -وبالأخص لحكومات المسلمين- بوجوب مساعدة هؤلاء، وحرمة خذلانهم، وحرمة إسلامهم للعدو، لكن -مع ذلك- لم ينالوا دعماً من الدول الإسلامية، وإنما ينالون دعماً من تجار المسلمين، وحتى في بعض الأحيان من فقراء المسلمين.
أعرف بعض الفقراء يجمع في حيه التبرعات العينية: يأخذ بعض حلي النساء، وساعات الرجال والثياب وغيرها، فيبيعها بما يزيد فيها من الثمن، ويحل بذلك مشكلات كثيرة، مثل مشكلة عطش قرية من القرى النائية، أو علاج وباء منتشر في بلد، أو جوع يشمل طائفة من المسلمين.(53/25)
حاجة المسلمين اليوم إلى المال
المسلمون اليوم يحتاجون إلى هذا الإنفاق غاية الاحتياج، فقد تكالب عليهم أعداؤهم، وصدق عليهم الوعد، وأنا أعرف في جنوب فرنسا وحدها مخيمات كبيرة أقيمت لأولاد المسلمين في البوسنة، ينصرون فيها وهم من أولاد المسلمين، وتنفق عليهم الكنيسة الأموال الطائلة، فهؤلاء من المسلمين، ولا يستشعر التجار حقوقهم عليهم، ولا يستشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين)، إنه من العيب علينا أن نطلب المساعدات الخارجية، وأن نبحث عمن يكفلون أيتامنا من خارج بلادنا، فأين الذين يكفلون الأيتام، ويتبرعون للفقراء، والمساكين؟! وأين الذين يقومون بالحقوق في كل بلد، ويعرفون الحاجة الماسة إليها؟! أنتم تعرفون في العام الماضي ما حصل في (تشير) وغيرها من القرى التي جاءها المطر الذي هدم البيوت، وأفسد أملاك الناس، وبقي الناس بلا مأوى تحت رحمة المنظمات التنصيرية، فهل هذا يسوغ عند المسلمين؟! هل يسوغ أن يكون بعض الناس ينعم في غاية ما يمكن أن يناله، ويتبع هواه في كل ما يبتغيه، وإخوانه المسلمون في أشد الحاجة وأمسها؟! إن هذا مخالف لقيم الإسلام بالكلية، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)، وقال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً).
فلذلك لا يحل للمسلم أن يخذل المسلم، ولا أن يسلمه، والنبي صلى الله عليه وسلم بين هذا فقال: (المسلم أخو المسلم: لا يخذله، ولا يحقره، ولا يكذبه.
التقوى ها هنا -ويشير إلى صدره ثلاثاً- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه).
إن كثيراً من المسلمين اليوم يحتاجون إلى نفقاتكم، وهذه النفقات سواء كانت مباشرة، كحال الفقراء، أو كانت في مقابل ما يحتاجون إليه من الخدمات، فأنتم تعرفون كثيراً من الأحياء الريفية البدوية التي تحتاج إلى تفريغ معلم بعلمهم، أو إمام يصلي بهم، ومن لم يكن يعرف ذلك منكم فليأتني فأنا أعرف كثيراً من الأحياء التي ليس بها من يستطيع القيام بحقوق الله عز وجل.
ذات يوم أتينا حياً من الأحياء البدوية، فأعجبني ما قاله عجوز من أهل ذلك الحي حين قام إلينا فقال: يا إخواني! نحن إخوانكم في الله، أرسلوا إلينا رسولاً واحداً يعلمنا حظنا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وجهلناه.
ونحن عاجزون عن الاستقرار في ذلك المكان، لكن لو وجدنا حينئذٍ من يتبرع بالجلوس معهم ولو شهراً أو أقل؛ ليعلمهم فقط الفاتحة وقصار السور، ويعلمهم أركان الإيمان الستة، وأركان الإسلام الخمسة، ويعلمهم إقامة الصلاة جماعة، ويعلمهم تجهيز جنائزهم، وإقامة أنكحتهم، وبيوعهم؛ لكان هذا فضلاً عظيماً نحن بحاجة إليه.(53/26)
التفرغ لتعليم المسلمين
من التعاون على البر والتقوى: أن يوجد من يفرغ الذين يستطيعون الجلوس في تلك الأحياء للتعليم، قديماً في صدر الإسلام كان الرجل إذا غزى يجهزه غيره، فيشركه في الأجر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من جهز غازياً فقد غزا)، فالذي يفرغ داعية أو إماماً أو معلماً -حتى ولو كان معلماً للقرآن فقط، وليس لديه من العلم ما يحمله كثيرٌ منكم- فإنه يشركه في الأجر، وأجرهما واحد عند الله سبحانه وتعالى، ومن الفضل العظيم أن تبقى في مكانك تزاول أعمالك ولا يتعطل شيء منها، ويكتب لك أجر ذلك الذي يقطع المسافات الشاسعة، ويغامر، ويقطع السيول، ويجلس في المستنقعات، وفي البيئات الموبوءة؛ ليعلم الناس الخير، وأنت شريك له في الأجر.
كذلك فإن كثيراً من بلاد المسلمين بحاجة إلى الرحلات الدعوية النافعة التي ترد -على الأقل- بعض كيد المنصرين الذين يجوسون خلال الديار، وهذه الرحلات لا يمكن أن تتم إلا بتبرع غالباً، فليس لديها جهات رسمية تتبناها وتقوم بأمرها، فأين الذين يسارعون إلى فعل الخير، ويقرضون الله قرضاً حسناً، ويريدون مثل هذا الخير في ميزان حسناتهم؟(53/27)
بناء المساجد
الأجر العظيم يمكن الوصول إليه بالعمل اليسير، والمشاركة اليسيرة، فمن شارك في عمل الخير ولو بالشيء اليسير، كتب له الأجر كاملاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من بنى لله مسجداً -ولو كمفحص قطاة- بنى الله له بيتاً في الجنة).
ومفحص القطاة: المكان الذي تستقر فيه وهذا مبالغة، ولا يقصد به أن يكون المسجد على قدر مفحص قطاة، وإنما يقصد به المشاركة، فالمشاركة مطلوبة في بناء المسجد ولو بطوبة واحدة، قدر مفحص قطاة- تكون سبباً في أن يبنى لك بها بيت في الجنة.
وتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (والله! لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها)، وعندما جاء خالد بن الوليد بأكيدر دومة، عجب المسلمون من حسن ملابسه، وكان يلبس الديباج الأبيض، فجعلوا يلمسون ملابسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من ملابس هذا).(53/28)
النية الصالحة ترفع صاحبها درجات في الجنة
على الإنسان أن يعلم أن بيوت الجنة يمكن أن تبنى بالعمل اليسير، وما أحوجنا إلى أن تكثر بيوتنا في الجنة، ما أحوجنا إلى أن تكون لنا القصور الشاهقة في الجنة: في الفردوس الأعلى، تحت عرش الرحمن، وإن الأمر لميسور سهل، وبالإمكان أن نصل إليه إذا قدمنا الشيء اليسير، فمن كان لديه مال فإنه ينال ذلك بماله، ومن لم يكن لديه مال، فإنه ينال ذلك بنيته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدنيا لأربعة: رجل آتاه الله مالاً، وآتاه علماً، فهو ينفق المال فيما أمر بإنفاقه فيه، فهو بأعلى المنازل، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهو يقول: لو كان لي مال لفعلت فيه مثل ما يفعل هذا، فهو مثله في الأجر، ورجل آتاه الله مالاً: ولم يعطه علماً، فهو ينفق المال في غير حله، فهذا بشر المنازل، ورجل لم يعطه الله مالاً ولا علماً، فهو يقول: لو أن لي مالاً لفعلت فيه مثل ما يفعل هذا، فهو شريك له في الوزر)، نسأل الله السلامة والعافية.
ولذلك فإن النية الصادقة يبلغ بها الإنسان المبالغ العالية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن رجلاً من بني إسرائيل خرج ذات يوم فمر بكثيب أهيل من الرمل، فقال: لو أن لي مثله سويقاً؛ فأنفقه في سبيل الله، فلما مات عرض الله عليه صحيفة عمله، فإذا فيها كثيب أهيل من السويق متقبل عند الله، فقال: يا رب! من أين لي هذا وما رأته عيناي قط؟ قال: إنك مررت ذات يوم بكثيب رمل، فقلت: لو أن لي مثله سويقاً فأنفقه في سبيل الله فقد قبلته منك) فنية المؤمن أبلغ من عمله، ومن لم يكن لديه ما ينفقه فلينو إذا حصل على مال أن يتصدق به، وينفقه، وعليه ألا يخلف الوعد، وأن يتذكر حال المنافقين الذين قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة:75 - 77].
إن على الإنسان -إذا عاهد الله مثل هذا العهد- أن يفي لله بعهده؛ حتى لا يكون منافقاً مسخوطاً عليه، لا يتقبل الله منه عملاً، وعلى الإنسان الغني إذا رأى حاجة الناس أن يعلم أنها فرصة عرضت له، فإما أن يبادر إليها فينجح، وإما أن تفوته الفرصة.
واذكر فضيلة صنع إذ جعلت إليك لا لك عند الناس حاجات من جعل الله حاجات الناس إليه، فهذه نعمة ابتلاه الله بها، واختبار اختبره به، وكان بالإمكان أن يجعل له الله حاجات لدى الناس، ولكن الله شرفه فجعل الناس يحتاجون إليه، ولا يحتاج إليهم، وهي نعمة عظيمة، بالإمكان أن يتذكرها الإنسان إذا كان يركب سيارته في الطريق، وهو يرى الواقفين على الطريق الذين لا يجدون ما يوصلهم إلى حاجاتهم، فيتذكر نعمة الله عليه، ويتذكر قول الله تعالى: {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء:94]، فيبادر لحمل أولئك، وإذا كان في بيت يكنه من الحر والبرد، ويجد فيه الهدوء والراحة، عليه أن يتذكر حال آخرين في خيام تحطهم الرياح حيث شاءت، فيرحمهم، ويعلم أن حاله كان كذلك من قبل، وإذا وجد ما يكفيه، ويسد خلته، ويجنبه ما كان يخشاه من الجوع، فليذكر حال آخرين هم في أمس الحاجة إلى ذلك، وهم جميعاً عباد لله، وقد امتحن بهم: هل سيؤدي إليهم حقهم أم لا؟!(53/29)
قصة الأعمى والأقرع والأبرص
اذكروا حديث الأعمى والأقرع والأبرص، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله امتحنهم بالملك الذي أرسل إليهم، فاللذان أنكرا النعمة، ولم يعرفاها، سخط الله عليهما فردهما إلى حالهما السابق، والذي عرف النعمة، وأدى حقها، أدام الله عليه نعمته، وتقبل منه.(53/30)
شكر النعم
يجب أن نتعرف على نعمة الله علينا، وألا ننكر هذه النعم، ولنتذكر حال المشركين الذين قال الله فيهم: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل:83]، إن علينا أن نشكر هذه النعمة وأن نقيدها، ولا يكون قيدها إلا بشكر الله، وقد تعهد الله بالزيادة لمن شكر فقال: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]، فعلينا أن نذكر نعم الله ونشكرها، وأن نؤدي الحقوق التي علينا، وأن نعلم أن ما ننفقه منها، وما نقدمه منها لن يضع، وإنما هو محسوب مكتوب نجده: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:30].
إن من فضل الله علينا -حين سلط علينا الشهوات، وجعلنا عرضة لاستخفاف الشيطان، ولم يجعلنا معصومين- أن يسر لنا ما نفتدي به، ونتصدق به؛ حتى تكفر عنا سيئاتنا، وتحط عنا خطايانا، فما منا أحد إلا وهو مقصر مفرط في جنب الله، يتذكر ذلك كثيراً، وإذا نسيه فإن الله لم ينسه، ومع ذلك فإن الله قد آتاه ما يكفر به ما مضى، ويغسله به، ويزيله، وما ذلك إلا بصدقة يخلص فيها لله، فإنها مزيلة لآثار تلك الآثام التي قد ذهبت لذاتها، وبقيت تبعاتها، وهي شر الذنوب، فشر الذنوب ذنوب ذهبت ملذاتها، وبقيت تبعاتها، فهي مقيدة في الصحائف يجدها الإنسان يوم القيامة، وإنما تكفر بمثل هذا العمل الصالح الذي يقدمه الإنسان: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن).(53/31)
وضع القبول للمنفقين في الأرض
إن الله يضع للمنفقين القبول في الأرض؛ وما ذلك إلا بسبب القبول في السماء، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أحب الله عبداً نادى جبريل: إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله عبداً نادى جبريل: إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً، فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء، ثم يوضع عليه البغض في الأرض)، نسأل الله السلامة والعافية.
فأصحاب الجود والسخاء قد وضع الله لهم القبول والمحبة في الدنيا، وهذا يدل على محبتهم في السماء، وقبولهم، فلذلك علينا أن نحاول اللحاق بهؤلاء، فتخلقوا بهم إن لم تكونوا مثلهم.
فيحاول كل إنسان منا أن يجعل نفسه في هذا المساء من المنفقين، والأمر ميسور؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لـ سعد رضي الله عنه: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فيّ امرأتك)؛ فلذلك على الإنسان أن يحاول أن يكتب في مساء هذا اليوم الذي ستغرب فيه الشمس، وترفع الأعمال فيه إلى الله من المنفقين المتصدقين، وأن يحرص على الصدقة في كل يوم، وألا يسقط اسمه من لائحة المتصدقين المنفقين، وأن نتذكر آيات سورة الحديد، وما ذكر الله فيها من الترغيب في الإنفاق في سبيله.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يأخذ بنواصينا إلى البر والتقوى، وأن يجعلنا أجمعين هداة مهديين، غير ضالين ولا مضلين، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، وأن يجنبنا الشيطان وخطواته، وأن يعيننا على البر والتقوى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.(53/32)