الإخلاص والتعلق بالله
انظر إلى هذا الشهر كيف يسكب في قلوبنا المعاني العظيمة المهمة التي نحن في أمس الحاجة إليها! أولاً: الإخلاص والتعلق، إخلاص لله، وتعلق به، وحسن صلة دائمة بالارتباط بذكره وطاعته وعبادته، ففي الحديث: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به) إنه عمل خالص لله عز وجل، هو أبعد ما يكون عن الرياء؛ إذ ليس له آثار ومظاهر يمكن أن يرائي بها الإنسان، هو عمل لا تجرحه ولا تتركه إلا مخافة من الله عز وجل؛ إذ يمكن أن تفطر ولا يراك أحد، وأن تجرح صومك ولا يشعر بك أحد، لكن الذي يمنعك أنك عالم موقن بأن الله سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية، وأنت موقن بأنه جل وعلا هو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ذلك الذي يمنعك، يبث ويزيد وينمي ويغرس هذا الإخلاص في قلبك لله سبحانه وتعالى، وأنت حينئذ معلق القلب بالله عز وجل؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات:7].
في هذا الشهر الجليل وهذه العبادة العظيمة زادك من الإيمان كبير، وحرصك على إحياء قلبك بمعانيه وأعماله عظيم جداً، وحال غيرك في غير هذه العبادة، بل حالك أنت في غير هذه العبادة كان ربما على غير ذلك، أو -على أقل تقدير- دون ذلك، وكل تعلق للقلب بغير الله عز وجل محبة وهوى هو نوع من طمس نور القلب ووأد حقيقة الإيمان فيه، كما أخبر الحق جل وعلا عن بني إسرائيل بقوله: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة:93] أي: أشربوا حبه والتعلق به، فلم تعد قلوبهم محبة لله جل وعلا ولا متعلقة به.
فهذا الشهر العظيم شهر للتدرب والتعود والتأكد من تجريد القلب من كل قصد سوى الله، ومن إخلاص النية أن تكون فيها شائبة لغير الله، ومن عظيم التعلق بالله عز وجل، فنحن في هذا الصوم منذ انشقاق الفجر إلى غروب الشمس إلى سواد الليل إلى تكرار اليوم ما نزال مستشعرين هذه المعاني، حياتنا صلة دائمة بالله عز وجل، قلوبنا عامرة بذكره وبالاتصال به سبحانه وتعالى، فنحن نصوم نهارنا ونتسحر ليلنا، ونبقى في سائر شهرنا متصلين بالله عز وجل على هذه العبادة.(140/3)
الرقة والرحمة
الرقة والرحمة: كم قست القلوب غفلة عن ذكر الله، وإعراضاً عن تلاوة كتابه سبحانه وتعالى، وإيغالاً في كثير من الأعمال المحرمة الآثمة التي تطفئ أنوار القلب وتذهب رقته، والله جل وعلا قد امتدح رسوله صلى الله عليه وسلم بتلك الرحمة القلبية فقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، كم هي قاسية تلك القلوب التي لا تتعظ ولا تدكر! تسمع الآيات وكأنها لا تؤمن بها أو لا تعرف معانيها، أو لا تلقي لها بالاً، نسمع الذكرى والموعظة فلا تتهيج النفوس ولا تتحرك القلوب، ثم نرى صور القسوة جفاءً في المعاملة، وشدة مع المسلمين والإخوان، بل نوعاً من الخصومة والمكر والكيد، والحرب والشحناء والبغضاء التي كأنما لم تسمح ولم تفسح في القلوب لرقة ولا رحمة، نسأل الله عز وجل السلامة.
إذا تأملنا ذلك ندرك حقيقة الإيمان، وأنه هو جوهر تلك الرحمة والرقة التي تفيض على غير المؤمنين قبل المؤمنين؛ لأننا نرى أن الكافر قد استوجب سخط الله عز وجل، فنرحمه لكي ننقذه من هذا الكفر الذي هو فيه، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، فجعل الفراش والهوام يقعن فيها، وجعل يذبهن عنها، فأنا آخذ بحجزكم من النار).
أو كما قال صلى الله عليه وسلم.(140/4)
المحبة والمودة
كم رأينا الآيات التي تذكر لنا الوصف القلبي الرحيم الذي يريد الخير للناس في قلب محمد صلى الله عليه وسلم: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] لعلك -يا محمد صلى الله عليه وسلم- مهلك نفسك، تتبع القوم، وتأتي إلى مجالسهم لتخرجهم من الظلمات إلى النور، لتخرجهم من الكفر إلى الإيمان، لتخرجهم من الجحود إلى اليقين.
تلك القلوب الرحيمة يصب فيها هذا الصوم الرقة والرحمة فتلين، سواء أكان لينها بلين العبادة والطاعة والذكر، أم كان لينها بلين المحبة والألفة والأخوة: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22] قال ابن كثير: هل يستوي هذا ومن هو قاسي القلب بعيد عن الحق، وقوله: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) أي: فلا تلين لذكره، ولا تخشع، ولا تعي، ولا تفهم.
فهذا حظنا من شهرنا، رقة ورحمة تفيض بها القلوب، ثم تأتي من بعد ذلك الأخوة والألفة التي تفيض مياه محبتها ومودتها في القلوب، فنرى الأواصر وهي تمتد، ونرى الصلات وهي تزداد، ونرى الرحم وهي توصل، ونرى البِشر ونرى المحبة وهي تفيض، نرى صوراً تمنع تلك الشحناء والبغضاء، لماذا؟ لأن هذه العبادة فيها صلة بالله، وفيها شعور بألم الجوع والحرمان، وفيها رجاء رحمة الله عز وجل، (الراحمون يرحمهم الرحمن)، فمن أراد أن يتعرض لرحمة الله فليعرض نفسه إلى رحمة عباده، فيكون حينئذ مهيأ القلب لذلك، ولعلنا ندرك تماماً المنة العظمى التي امتن بها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم عندما خاطبه في شأن أصحابه: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:62 - 63] تلك القلوب والمحبة التي كانت صورة نموذجية في حياة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يوم اقتسموا الأموال والديار، يوم اختلطوا كأنما أخوتهم أعظم وأقوى من أخوة الرحم واللحم والدم والنسب، وذلك الذي صاغه الإيمان يتجدد في مثل هذه الفريضة؛ لأننا نشعر تماماً بحقيقة هذه الأخوة والألفة والمحبة من هذا الوجه.(140/5)
الخوف والخشية
ووجه آخر -أيضاً- ينسكب في قلوبنا من أثر هذه العبادة الجليلة، هو الخوف والخشية، خوف الله وخشيته؛ لأننا مع الطاعة والعبادة نتذكر ما سلف من التفريط والتقصير، نتذكر كلما دعونا الله في صلواتنا وفي سجودنا تلك الذنوب والآثام، نخشى من آثارها وأضرارها، نخشى من عدم غفرانها ومحوها، فما تزال قلوبنا متقلبة بين هذا وذاك، روى الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت -أي: في مرض الموت-، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كيف تجدك؟ فقال الشاب: والله -يا رسول الله- إني لأرجو الله وأخاف ذنوبي.
فقال صلى الله عليه وسلم: ما يجتمعان في قلب عبد مؤمن في مثل هذا الموقف إلا أعطاه الله ما يرجوه وآمنه مما يخافه)، ألسنا نشعر ونحن في هذه الفريضة العظيمة والعبادة الجليلة بشيء من رجاء يعظم كلما تلونا وكلما ذكرنا وكلما دعونا؟ كأنما نستشعر رحمة الله ومغفرته، كأنما نريد أن ننالها بأيدينا، كأن أشواق قلوبنا وآمال نفوسنا معلقة حقيقة بهذه الرحمة والمغفرة، ونحن نستحضر ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إذا بقي الثلث الأخير من الليل فيقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟ وذلك الدهر كله) ألا تتوق نفوسنا؟ ألا تشتاق قلوبنا؟ ألا تتعلق أرواحنا؟ ألا نستشعر بأن قلوبنا تحس هذه المعاني من تعلقها برجاء الله وخوفها من معصية الله أكثر مما نكون عليه في غير هذا الموسم العظيم والعبادة العظيمة؟! إنها نفحات القلوب، يصبها هذا الشهر العظيم فيها: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]، كم نسمع في هذا الشهر من ذكر الله؟! كم نتلو من آيات الله؟! كم نشعر بأن قلوبنا تخفق خوفاً أو تتحرك رجاءً من هذه المعاني التي نتصل بها؟ وذلك من رحمة الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:57 - 61] كل يوم ندعو ونقول: اللهم! تقبل صيامنا وقيامنا، نعمل ونحن في خوف أن لا يقبل منا، أليست هذه من مشاعر الإيمان؟! قال النبي صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين عائشة لما قرأت هذه الآية وقالت: (هو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر يا رسول الله؟ قال: لا يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخشى أن لا يقبل منه) ونحن اليوم -بحمد الله- نشعر بذلك، نصلي ونصوم ونتصدق ونقول: اللهم! اقبلنا.
اللهم! اقبلنا.
نخاف أن لا تقبل أعمالنا، كما قال الحسن رحمه الله: لقد أدركت أقواماً هم أخوف منكم من أن تحاسبوا على سيئاتكم من أن تقبل منهم أعمالهم أي: كان خوفهم من قبول الأعمال أعظم من خوفنا على محاسبتنا على الآثام.
وذلك أمر عظيم في شأن القلوب متى وجد فيها، فإنه كما قال الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:61] ومعنى ذلك أنك تكثر من صيامك، وتزيد من صلاتك، وتعظم من نفقتك، ثم بعد ذلك ترى أنك لم تعمل شيئاً، وترى أنك ما زلت تأمل في قبول الله عز وجل، فما تزال تعمل وتعمل، وما تزال تتحين تعرضك لرحمة الله وكثرة دعائك له ورجائك في قبول عملك عنده، وهذه كلها فيوض إيمانية قلبية لا نشعر بها كما نشعر بها في هذا الشهر العظيم وهذا الصوم الجليل، فلنتنبه لذلك ولنحرص عليه.(140/6)
الطهارة والنقاء
طهارة القلوب ونقاؤها أمر عظيم، كم في القلوب من ظلمة سوداء من أثر المعصية! كم في القلوب من مشاعر حسد ومشاعر منافسة بين أهل الإيمان لا تنبغي ولا ينبغي أن يكونوا عليها؟! فهذه صورة كبيرة، فكيف تتطهر قلوبنا؟ طهارتها هي الطريق إلى العفة عن المحارم، والبعد عن المآثم، تلك هي الطريق التي بها تشرق أنوار القلوب، روى حذيفة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأيما قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء.
وأيما قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى يصيرا على قلبين: أسود مرباداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه) نكتة سوداء من منكر أو معصية، ثم أخرى وليس ثمة استغفار ولا توبة، فلا جلاء ولا نقاء ولا صفاء، فما تزال النقاط السوداء حتى يظلم القلب نسأل الله عز وجل السلامة.
وإشراقة القلب تكون باجتناب المعصية، فإنه صقل وتطهير لذلك القلب: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] طهارة القلوب عفة الجوارح، غض بصر، وإغضاء سمع، وإمساك لسان، وضبط جوارح، كل ذلك يؤدي إلى تلك الطهارة وذلك النقاء؛ لأن أي انحراف إنما مصبه ومرده إلى القلب، العين تنظر إلى المحرم والقلب يظلم، الأذن تسمع إلى الإثم والقلب يظلم، الأيدي تأخذ ما لا يحل والقلب يظلم، فما يزال يظلم ويظلم حتى تنطمس أنواره، نسأل الله عز وجل السلامة.
روى النسائي في سننه من حديث أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يجتمعان في قلب عبد: الإيمان والحسد) وفي رواية أخرى عند النسائي في سننه وعند أحمد في مسنده: (الشح والإيمان) تلك المشاعر التي نخرج بها اليوم أموالنا، والتي نبذل فيها مشاعرنا من المحبة هي نوع من التعليم والتعويد والتربية والتزكية للقلوب لتخرج منها تلك الأوضار وتلك الأقذار وتلك الأكدار التي هي شح أو حسد، أو هي ظلمة من آثار تلك المعاصي، نسأل الله عز وجل السلامة.(140/7)
التذكر والتدبر
التذكر والتدبر كم نحن في حاجة إليهما! كم هي شواغل الدنيا التي جعلت قلوبنا غافلة لاهية ساهية لا تكاد تدكر ولا تعتبر! {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، فنحن في هذه العبادة خير منا -بحمد الله- فيما قبلها؛ لأننا نقرأ القرآن كثيراً، ونجتهد في تدبره؛ لأن كثرة القراءة ملجئة إلى ذلك، نعتكف فلا يكون لنا وقت إلا وقت العبادة، فما نزال إما نصلي وإما نقرأ، وإما نتذكر أو نعتبر، فكل ذلك يعين على هذا، ونحن نعظم صلتنا بكتاب الله سبحانه وتعالى بوجوه كثيرة، منها الحفظ، والمراجعة والتلاوة وقراءة التفسير، أو سماع دروس العلم أو المواعظ، كلها تتصل بهذا المعنى فتحيي موات القلوب بإذن الله، وصدق الله تعالى حين قال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، وتأمل قول الله عز وجل في شأن المعرضين الذين لا تنتفع قلوبهم بذكرى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء:2]، فكم نحن نلعب! وكم نلهو! وكم نشتغل بأمور لعلي أوجز بعضاً منها فيما يأتي! نحن نجعل قلوبنا في غفلة وسهو ولهو ولغو لا ينبغي أن تكون عليه، وقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى بحديثه العظيم الذي رواه أبو هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاه)، ولذلك نحتاج إلى هذا المعنى العظيم وكل هذه المعاني، ويضاف إليها الطمأنينة والسكينة، فهي من آثار هذه العبادة؛ لأن كثيراً من تلك المعاني التي تحيي القلوب وتبث فيها هذه الخيرات مقرونة بالعبادات والطاعات، والإقبال على الله الذي نشهده في هذا الشهر: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] ونحن نذكر الله عز وجل.(140/8)
الاستقامة والثبات
في شهر رمضان نستقيم -بحمد الله- ليس يوماً ولا يومين، بل شهراً كاملاً، بل من عقل ووعى وادكر كان لأثر هذه العبادة استمرار في استقامته بإذن الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى جعل من دعائنا في كتابه: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8] استقامت قلوبنا على الطاعات، شعرنا بتلك الوصية التي أوصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قل آمنت بالله ثم استقم) شعرنا بالثبات كما في قوله تعالى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:14]، نشعر أن قلوبنا مثبتة بالإيمان واليقين، فلنحمد الله عز وجل على ذلك، ولنشعر بأن هذه المعاني هي الخلاصة العظيمة التي ينبغي أن نحرص عليها في هذه العبادة.
نسأل الله عز وجل أن يعمر قلوبنا بالإيمان، وأن يرسخ فيها اليقين، وأن يجعل قلوبنا متعلقة به سبحانه وتعالى، وأن يملأها بحبه والرضا بقضائه وقدره والإنابة إليه والخوف منه ورجائه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(140/9)
وقفات مهمة في شهر رمضان
أيها الأخ المؤمن! هاقد أظلنا موسم من مواسم التقوى العظيمة، شهر الصوم الذي من مقاصده العظيمة التقوى.
ووقفتنا الأخيرة تأكيد على أن يكون حظنا من شهرنا هو حظ قلوبنا وأرواحنا، وأن لا نعكس، وأن لا نغير، وأن لا نبدل كما يحصل -وللأسف- في واقع حياتنا، فإذا بنا نرى هذا الشهر وكأنه شهر الأجساد والأبدان، شهر الشراب والطعام، لم أر بعيني في كل هذه الشوارع التي أجوبها إعلاناً واحداً يشير إلى معنى من المعاني أو ينبه على شيء من التذكير والعظة، بل إما أن نرى شراب العصير، وإما أن نرى أنواع الطعام، وإما أن نرى الجانب الآخر الذي سأشير إليه.
قال بعضهم: جعله الله عز وجل شهراً للقلوب والأرواح فجعلوه لغير ذلك من الطعام والشراب.
حتى إننا نرى أطعمة كأن من المحرم أن تؤكل قبل رمضان أو بعده، أو كأن الصوم بدونها لا يصح، وهذا كله من استزلال الشيطان، ومن صرف الأذهان عن حقائق الإيمان، ومن الخروج عن حكم العبادات إلى أمور من الصوارف والملهيات والمشغلات، فلا ينبغي لنا أن نكون من أولئك الذين يضيعون عقولهم، ولا ينظرون إلى المواسم والفرص والحكم والمنافع التي ساقها الله إليهم، إن لله في أيام دهركم نفحات فتعرضوا لنفحات الله، فكيف نتعرض لها ونحن لا نفكر إلا في هذه الطوابير التي نراها قبيل المغرب تصطف لتأخذ هذا النوع من الطعام أو ذاك، ويختصمون ويضيعون الأوقات العظيمة في آخر كل يوم قبيل الغروب، ويغفلون في ذلك الوقت عن الذكر والدعاء والتضرع والاستعداد للإفطار؟! وأمر آخر، وهو الجانب المؤلم المحزن الذي تحدثت عنه من قبل، ونراه أيضاً في الإعلانات، إنها البرامج والتمثيليات وغيرها مما يعرض في القنوات، كل الذي نقول: إنه يصب في القلوب من هذه الأمراض منه، فإن ذكرت جاءتك بالغفلة، وإن خشيت جاءتك بتركها، وإن كان عندك صفاء كدرت قلبك من جديد، وإن كان عندك استقامة أزاغتك من بعدها، نسأل الله عز وجل السلامة.
فلماذا مرة أخرى وثانية وثالثة تتخصص وسائل الإعلام لمعاكسة ومعارضة كل حكم عظيمة ومنافع جليلة، تجيء بها هذه الفريضة أو غيرها من الفرائض؟ بل تختص بهذا الشهر، فثمت برامج لا يمكن أن تكون إلا فيه، ولا تذاع أو تبث في غيره، وقد قلنا ذلك من قبل، لكنني أخاطب هنا قلوبكم وعقولكم، لا تكونوا من سفهاء العقول فتضيعوا هذه الخيرات، ولا تكونوا من ضعاف القلوب فتميلوا إلى الشهوات.
وأخيراً -وهو الأمر الثالث كذلك- أنه كلما أردنا لهذه الخيرات في قلوبنا أن تزداد فطريقها مجانبة المعاصي بكل شيء، كالكلمة التي تتكلمها، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً)، وكما قال لـ معاذ: (ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم!) لغو القول، وخيانة النظر، وسماع الإثم، والسعي إلى المحرم، كل ذلك يعاكس كل ما ذكرناه، فنحن الذين نستطيع أن نفتح الأبواب ليدلف إليها الخير والنور، أو نكون قد حرمنا أنفسنا.
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لطاعته ومرضاته، وأن يأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن يلهمنا الرشد والصواب.
اللهم! وفقنا للصالحات، واصرف -اللهم- عنا الشرور والسيئات، واغفر -اللهم- لنا ما مضى وما هو آت، اللهم! وفقنا لحسن الصيام والقيام وصالح الأعمال، واجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم، واجعلها زيادة لإيماننا، وترسيخاً ليقيننا، ونوراً لقلوبنا، وزكاة لنفوسنا، وطهارة لأرواحنا، ومضاعفة لأجورنا، ورفعة لدرجاتنا، وتكفيراً لسيئاتنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم! تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا -اللهم- فيما يرضيك آمالنا، اللهم! إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم! إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا، اللهم! املأ قلوبنا بحبك، وأنطق ألسنتنا بذكرك، واجعل أيدينا منفقة في سبيلك، وأقدامنا ساعية إلى طاعتك، وجباهنا خاضعة لعظمتك، وشفاهنا لهجة بتسبيحك وحمدك، واستخدمنا -اللهم- في طاعتك، وسخرنا لنصرة دينك، واجعلنا -اللهم- ستاراً لقدرك في نصر الإسلام والمسلمين يا رب العالمين.
اللهم! إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم، اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء، اللهم! أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء، اللهم! مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم! انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم! رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين، والمعذبين والمشردين، والمبعدين والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين.
امسح -اللهم- عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء، اللهم! اجعل بلدنا آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح -اللهم- أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم! وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سمع الدعاء.
اللهم صلِّ وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(140/10)
وجاء الصيف
موضوع الإجازة الصيفية من المواضيع المهمة التي يجب أن نفهم حقيقتها، والممارسات الخاطئة التي تحدث فيها، وكيفية اجتنابها، ولنعلم أن ميادين الخير كثيرة والمشاريع الخيرة في استغلال الإجازة وفيرة، حتى نفوت على أعداء الإسلام مخططاتهم التي يسعون من ورائها إلى قضاء هذه الإجازة في المحرمات والملهيات والمنكرات.(141/1)
الإجازة والمفاهيم الخاطئة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين.
أما بعد: فيا أيها الإخوة الكرام! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
هذا الدرس الأسبوعي وعنوانه اليوم: (وجاء الصيف)، وهو الدرس التاسع والعشرون، وكلنا يعلم أن التغيرات الاجتماعية تلقى تجاوباً وتغيراً في أحوال الناس أو ممارساتهم؛ لأن هذه القضايا تعم وتشمل الناس والمجتمع، إذ حينما تنتهي الدراسة أو يبدأ العمل أو تمنح فرص الإجازة تكون هناك من الأعمال والمناسبات ما لا يكون في غيرها، وموسم الصيف أيضاً فيه كثير من القضايا التي تحتاج إلى لفت النظر والتنبيه؛ لعل الفائدة تتم من خلال ذلك بعون الله جل وعلا، وسنذكر جملة من الموضوعات تحت هذه العناوين الرئيسة الخمسة: أولها: مفاهيم خاطئة.
الثاني: ممارسات خاطئة.
والثالث: ميادين الخير.
والرابع: مشاريع مقترحة.
والخامس: تتمات مما يتصل بالموضوع.(141/2)
مفهوم العطلة
ونبدأ بالمفاهيم الخاطئة، إذ إن كثيراً من الأعراف والممارسات تنطلق أصلاً من المفهوم الذي يستقر في أذهان الناس، والمفاهيم تنحرف وتتبدل وتتغير إذا لم يكن هناك ارتباط بالثوابت وأصالة مع المنهج الإسلامي، ووضوح فيما يجب وما لا يجب، وما يجوز وما لا يجوز ونحو ذلك.
وتتغير المفاهيم أيضاً بالاختلاط والامتزاج بمجتمعات وثقافات وديانات مغايرة لما نحن عليه، تهب علينا منها بعض الأفكار وبعض التصورات، ويميل إليها بعض الناس وتتبدل حينئذ المقاييس والموازين.
ووقفتنا في هذه المفاهيم مع ما يتعلق بالصيف، سيما في قطاع عريض وهو قطاع الطلاب، ويتبعه قطاع الأسرة والمجتمع؛ فهناك مفهوم العطلة أو الإجازة، والحقيقة أن بعض الألفاظ تلقي ظلالاً من المفاهيم الخاطئة، فإن كلمة (العطلة) من حيث الاشتقاق تلقي ظلالاً من المفهوم الخاطئ الذي ينتشر عند بعض الناس، ففي لسان العرب يقول: تعطل الرجل، إذا بقي لا عمل له.
والاسم (العطلة) مشتق من الفعل (عطل) الذي هو البقاء بلا عمل، قال: والمعطل: الموات من الأرض، وإذا ترك الثغر من ثغور المسلمين مهملاً بلا حماية من الجند والجيش سمي ثغراً معطلاً، والمواشي إذا أهملت بلا راع عطلت، وكذلك الرعية إذا لم يكن لها وال يسوسها، وقد عطلوا، أي أهملوا.
وإبل معطلة، أي لا راعي لها.
ثم قال: والتعطيل التفريغ.
قال: وقد يستعمل العطل في الخلو من الشيء، وإن كان أصله في اللغة في الحلي.
أصل الكلمة يقال: امرأة عطلة أو عطلاء.
أي لا حلي لها، يعني: أنها مجردة من الزينة، خالية منها.
قال: وقد يستعمل العطل في الخلو من الشيء وإن كان أصله في الحلي، فيقال: عطل الرجل من المال والأدب، فهو عطل ومعطل، يعني: لا مال عنده ولا أدب.
فإذا تأملنا هذه الكلمات واشتقاقها، فإننا نرى أن الظاهر في معنى العطلة أنه البطالة والفراغ والخلو من العمل، والركون إلى الكسل وعدم الجد أو النشاط أو الاكتساب أو الزيادة في أي أمر من الأمور التحصيلية التي يعتادها الناس.
فرجل عطل أو عنده عطلة، يعني: أنه خال من كل شيء.
ومن خلال الواقع نجد أن مفهوم هذه الكلمة ينطبق على هذا المعنى عند كثير من الناس، فتجد أن قطاعاً من الطلاب ومن المجتمع يقولون: العطلة تعني الفراغ، وكأننا نعتبر هذا الوقت الطويل بما فيه من الساعات والأيام والأسابيع والشهور عطالة وبطالة من العمل والجد والإنتاج، ولك أن تستغرب بل أن تستنكر أن يكون هذا المدى من الزمن الذي يبلغ نحو ربع العام، عطلة، ولو مد الإنسان في الحساب فإنه بالنسبة للطالب أو من يرتبط بترك العمل والتفرغ بنفس منهج وزمن الطلاب؛ فإن ربع عمره عطلة.
فإذا قال القائل: العطلة شهر شهران شهران ونصف، ولا بأس أن تكون فراغاً وبطالة ما دام أن هناك جداً، لكن المعلوم أن الباقي ليس فيه جد، بل هو مخلوط في أكثره بكسل وخور.
أقول من لطائف ما ذكرت بعض الصحف في قراءة قديمة: أنهم حسبوا بعض الأوقات اليسيرة في اليوم، ثم في الأسبوع، ثم بعد ذلك في وقت طويل؛ فإذا بها زمن.
ذكرت بعض الصحف عن حلاقة الذقن عند غير المسلمين، وحتى عند المفرطين من المسلمين، فقالت: يستغرق زمن الحلاقة ما بين عشر دقائق إلى ربع ساعة، فإذا بها في أربعة أيام ساعة وإذا بها في الأسبوع تبلغ ساعتين إلا ربع ساعة، ثم حسبها في العام فإذا بها أيام، ثم إذا حسبتها في عدة سنوات إذا بها تبلغ مبلغ الشهور، فيتعجب الإنسان يقول: هل يعقل، لو قلت لإنسان ما: إن رجلاً يصرف شهرين أو ثلاثة من وقته في حلاقة ذقنه لما صدق، لكن في الواقع يقع مثل هذا كثيراً.
فالمعنى المفهوم الخاطئ هو أن يتصور الناس أن هناك عطلة.(141/3)
مفهوم الإجازة
وآتي أيضاً بالكلمة الأخرى وهي كلمة (الإجازة) التي تستخدم أيضاً في التعبير عن هذه الفترة من الزمن فيقولون: العطلة الصيفية، وكذا الإجازة الصيفية.
أيضاً جاء في لسان العرب يقول: جزت الطريق جوزاً وجوازاً، وجاز به وجاوزه وأجازه وأجاز غيره، وجازه أي سار فيه وسلكه.
فمعنى: جزت الطريق أو أجزت الطريق: سرت فيه وسلكته، قال: وأجازه خلفه وقطعه، يعني: خلفه وراءه، وقطع الطريق أي: انتهى من مرحلة ويستقبل مرحلة أخرى جديدة، ولذلك قال أيضاً: الاجتياز هو السلوك، فمعنى: اجتاز الشيء سلك فيه حتى يتجاوزه.
نحن نقول في الدعاء: اللهم تجاوز عنا، يعني: اغفر لنا، وبمعنى أن يكون هناك انتقال من المؤاخذة على هذا العمل إلى غيره.
ثم قال: والجواز صك المسافر، أي: الذي يجوز به المراحل وينتقل به من منطقة إلى منطقة أو من مرحلة إلى مرحلة، ولا أعلم فيما اطلعت أو قرأت من التاريخ أن هناك جوازات كانت فيما مضى، لكن ربما يكون هناك جواز عند الاحتياج، مثل السفير أو مثل الذي يبلغ رسالة، فيفيد أنه يسمح له بالدخول إلى مكان ونحو ذلك.
قال: والجواز صك المسافر، وأجاز البيع أي: أمضاه، وفي الحديث: (أجيزوا الوفد) أي: أعطوهم الجائزة، والجائزة: العطية، وتكون العطية والجائزة في مقابل ما قطع من المرحلة، وفي هذا المعنى أيضاً: الإجازة في العلم، يقولون مثلاً: أجازه الشيخ إذا ختم الكتاب وقطع مرحلة، أي: أعطاه الجائزة المعنوية بأنه قد نال هذا العلم وشهد له به، أو الإجازة بمعنى الشهادة كما أشرت، فمعنى الإجازة على هذا المفهوم أنه اجتاز مرحلة وأجيز بها، يعني: قطعها وشهد له بقطعها، والذي ينتهي من مرحلة في غالب الأمر هل انتهى من مراحله كلها؟ إذا كان انتهى من المراحل كلها فله أن يرتاح وأن يركن وأن يسكن، ولكن نعلم أن المسلم ليست عنده مرحلة ينتهي فيها إلى حد حتى يلقى الله جل وعلا، ويلفظ آخر أنفاسه، كما قال الله جل وعلا: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99].
إذاً: هذان المفهومان الخاطئان يمكن أن نصوغهما في معنيين، نحتاج إلى التنبيه عليهما بشيء من التذكير والقصص والحوادث.
يتبين من خلال هذه الكلمات والمقدمة: أن هناك فترة نبحث فيها عن الراحة والبطالة، ونصرف كل صورة من صور الجد والعمل، وأن هناك فراغاً يحتاج الإنسان فيه إلى تضييع الوقت.
هذان مفهومان عند الناس: أن هذا الوقت ينبغي أن يكون للراحة والسكون والخلود والكسل، أو إذا كان هناك من حركة فإنها حركة في تضييع الوقت ومحاولة الاستمتاع، دون النظر إلى ما سيترتب على هذه الممارسة من فائدة، ولذلك نقف عند هذين المفهومين من خلال هذه التعليقات اليسيرة.(141/4)
موقف الإسلام من البطالة والوقوف عن العمل
بالنسبة للراحة والبطالة والوقوف عن العمل، هو أمر لا يليق بالإنسان المسلم، وليس في تصور المنهج الإسلامي، قيل لبعض السلف: علام تتعب نفسك؟ قال: راحتها أريد.
فإنما تكون الراحة في العمل والجد والطاعة، وبذل كل ما من شأنه أن يحصل للإنسان منفعة دنيوية أو أخروية ما دامت في إطار الشرع، قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (لكل نفس شرة وفترة)، (شرة): جد وعزم في الطاعة، (وفترة) ضعف.
قال: (فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى) يعني: لا يخرج في حال الضعف عن السنة وعن أعمال الخير والطاعة إلى أن يكون خلواً من العمل، فضلاً عن أن يمارس المعصية والمخالفة الشرعية.
وعندما نتأمل في ضم المفهومين معاً، فإن حياة المسلم ليس فيها فراغ، وتأمل قول الله جل وعلا في خطابه لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} [الشرح:7] قال ابن كثير رحمة الله عليه: إذا فرغت من شأن الدنيا وأحوال العباد فانصب لعبادة ربك.
فليس هناك فراغ أصلاً في حياة الإنسان المسلم، بل كل وقت وكل لحظة ينبغي أن يشغلها بعمل وجد يكتسب فيه من أمر الدنيا ويغتنم فيه من أجر الآخرة ما شاء الله له أن يغتنم، ولذلك حس يتجاوب الإنسان المسلم مع المهمة والغاية التي خلق لها، ومع التصور الإسلامي الذي يدور معه: قد هيئوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل وفي صحيح البخاري أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)، أي أن هذا الفراغ سمي فراغاً من حيث إن فيه فرصة للعمل والاكتساب، لكن القعود والنكوص والتخلف يجعل الإنسان في صفقة غبن؛ لأنه لم يأخذ بقدر ما أعطى، فهو قد صرف الوقت لكنه لم يجن من ورائه منفعة دنيوية مشروعة، ولا أجراً أخروياً هو مفتقر إليه؛ لذلك إذا تأمل الإنسان المسلم هذا المعنى وجده مرتبطاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس -وذكر منها-: الحياة قبل الموت، والفراغ قبل الشغل، والشباب قبل الهرم، والصحة قبل السقم).
كل هذه المعاني لو تأملناها سنجد أنها تتركز في معنى أن المسلم لا يليق به أن يفرط في الوقت ولا أن يفرط في الجد والعمل، ولذلك لم يجعل النبي عليه الصلاة والسلام الانبعاث للعمل أمراً هيناً بأن يقول: اعملوا أو استغلوا، بل جاء النداء النبوي الكريم فيه نوع من الحض؛ إذ قال عليه الصلاة والسلام: (بادروا بالأعمال سبعاً: هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنى مطغياً، أو هرماً مفنداً، أو مرضاً مقعداً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر).
إذاً: هذا التصوير منه عليه الصلاة والسلام يدل على أن الأمر لا يحتمل التواني والكسل والخلو من العمل، بل العكس هو الصحيح، والله عز وجل يقول: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] وقال جل وعلا: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21]، وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133]، وقال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] وسيرة السلف الصالح رضوان الله عليهم شاهد عظيم على أن مفهوم الراحة والخلود وترك العمل وتبديد الوقت في المتع والأعمال الفارغة السخيفة التافهة، ليس وارداً في حس الإنسان المسلم، ولم يكن في سيرة أسلافنا رضوان الله عليهم.(141/5)
نماذج من السلف في حفظ الوقت واستغلاله
ورد في ترجمة الشافعي رحمة الله عليه كما في سير أعلام النبلاء أنه قسم الليل أثلاثاً: ثلثاً يكتب، وثلثاً يصلي، وثلثاً ينام، قال الذهبي: قلت: أفعاله الثلاثة عبادة بالنية، حتى النوم وحتى الكتابة للعلم تعتبر عبادة لما نوى فيها من الخير، فإذا كان هذا في الليل الذي هو موضع الراحة، فكيف بالنهار الذي هو موضع العمل، والله عز وجل ما خلق الليل والنهار ولا تتابعهما إلا ليكونا محل عمل وجهد في الطاعة، كما قال سبحانه وتعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:61 - 62]، (خلفة): يخلف بعضهما بعضاً، (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا)، أي: أن يغتنم هذا الوقت، وقد ورد في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أعذر الله إلى امرئ أخر عمره حتى بلغ الستين) أي: قد مد له في العمر وانقطعت حجته وفرط في عمره فلم يكن له حينئذ من عذر له إذا كان مواجهاً بالعقاب من الله سبحانه وتعالى.
أبو الوليد الباجي وهو من علماء المالكية يخاطب نفسه في مسألة استغلال الوقت فيقول: إذا كنت أعلم علماً يقيناً بأن جميع حياتي كساعه فلم لا أكون ضنيناً بها وأجعلها في صلاح وطاعه العمر مثل غمضة عين يمر كأنه أحلام، وتمر الأيام كأنها لحظات، فلماذا ألا يكون المرء ضنيناً بوقته كما كان شأن السلف الصالح.
وهذا أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي يقول عن نفسه: قد عصمني الله في شبابي بنوع من العصمة، وقصر محبتي على العلم، وما خالطت لعباً قط.
أي: لم يكن هناك وقت للعب، ولو تجاوزنا وقلنا: إن هناك وقتاً للعب فإنه يكون وقتاً بين عملين ليخفف من الأول وينشط للثاني، أما أن يكون اللعب والتفريط في الأوقات هو الغاية فهذا ما لا ينبغي أن يكون.
يقول: وما خالطت لعباً قط ولا عاشرت إلا أمثالي من طلبة العلم، وأنا في عشر الثمانين -يعني: في العشر الثامنة من عمره- أجد من الحرص على العلم أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين.
ويخاطب نفسه ويقول: لا أجد حلاً وجوازاً في أن أفرط في وقتي، ثم يقول: فإن تعبت عيني من نظر وكلت يدي من كتابة، فلا أقل من أن أنطرح وأشغل فكري في أمر أو مسألة من الخير.
كان أبو عبيد القاسم بن سلام -كما في وفيات الأعيان- يفكر في المسألة من مسائل العلم، فإذا فتحت عليه قفز من شدة الفرح، وربما مضى ليلة كاملة يفكر في بعض مسائل العلم حتى يفتح عليه فيها.
وأبو بكر محمد بن عبد الباقي وهو من سلالة كعب بن مالك رضي الله عنه يقول: حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وما من علم إلا وقد نظرت فيه وحصلت منه الكل أو البعض إلا هذا النحو فإني قليل البضاعة فيه، ثم قال: وما علمت أني ضيعت ساعة من عمري في لهو أو لعب! وكان ابن عساكر -كما في السير- مواظباً على صلاة الجماعة وتلاوة القرآن، وقيل في وصفه: وكان يحاسب نفسه على لحظة واحدة تذهب في غير طاعة.
قال تلميذه: كان يشتغل منذ أربعين سنة بالجمع والتصنيف والتسميع حتى في نزهته وخلواته فهو حتى النزهة لا يخليها من الفائدة؛ لأنه ليس هناك وقت للفراغ وللبطالة.
وهذا الإمام الحافظ عبد الغني المقدسي كان لا يضيع شيئاً من زمانه بلا فائدة.
ثم ذكر الذهبي جدوله اليومي، وهو جدول عجيب ليس فيه إلا الصلاة والتحديث والقرآن والمذاكرة في العلم بلا انقطاع وبلا ضياع وقت.
ولذلك كانت هذه الصور وغيرها مما سيأتي ذكرها تتنافى مع مثل هذه المفاهيم التي تروج، وربما روجها بيننا أعداؤنا لنخلد إلى الراحة ونترك الجد والعمل، وما من سبب من أسباب البطالة والعطالة يمكن أن تأخذ به الأمة أو أن يسري في صفوفها إلا نجد من يعيننا عليه من أعدائنا، فإذا كان الفراغ يحتاج إلى لعب فعندهم من الألعاب ما يكفي الإنسان ليضيع عمره كله، ولو أضيف إلى عمره عمر آخر لضاع معه.
فهناك للفراغ أفلام وتمثيليات، ولماذا يصنعون لنا هذا؟ إنما هو لتمرير هذه المفاهيم وتخليدها وتطبيقها عملياً؛ لتنصرف الأمة عن الجد والعمل، ولا يكون عندها مراجعة ولا وقفة مع الذات يخاطب فيها الإنسان نفسه، ويستحضر قصر عمره وإقباله على ربه كما قال القائل: أيا نفس ويحك جاء المشيب فماذا التصابي وماذا الغزل تولى شبابي كأن لم يكن وجاء مشيبي كأن لم يزل كأني بنفسي على غرة وخطب المنون بها قد نزل فيا ليت شعري ممن أكون وما قدر الله لي في الأزل فلا بد أن نقاوم مثل هذه المفاهيم الضعيفة التي تفت في العضد، وتضعف العزيمة، وتميل بالإنسان إلى الهامشية في الحياة وإلى الانسياق وراء مخططات الأعداء بصورة أو بأخرى.
وكان سفيان الثوري رحمة الله عليه كثيراً ما يتمثل بهذين البيتين فيقول: أطريف إن العيش كدر صفوه ذكر المنية والقبور الهول دنيا تداولها العباد ذميمة شيبت بأكره من نقيع الحنظل وذلك ليذكر نفسه أن الحياة قصيرة.
وابن القيم يبين لنا عظمة الوقت وعظمة الجريمة المرتكبة في تبذيره وتضييعه، حينما يقول: إضاعة القلب وإضاعة الوقت: إضاعة القلب من إيثار الدنيا على الآخرة، وإضاعة الوقت من طول الأمل، فاجتمع الفساد في اتباع الهوى وطول الأمل.
ولذلك يقول رحمة الله عليه: لذة كل أحد على حسب قدره وهمته وشرف نفسه، أي: على حسب همة الإنسان وقدره وشرفه يكون اهتمامه واستغلاله للوقت.
قال: فأشرف الناس نفساً وأعظمهم همة وأرفعهم قدراً من لذتهم في معرفة الله ومحبته والشوق إلى لقائه والتودد إلى ما يحبه ويرضاه.
ويقول ابن كثير عن الحافظ أبي الحجاج المزي وكان قد أصهر منه: وقذتني كلمة سمعتها من أبي الحجاج المزي الحافظ، سمعته يقول على هذه الأعواد -يعني: على أعواد المنبر-: إن امرأً ذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له لحري أن تطول عليه حسرته يوم القيامة.
خرج شريح يوماً فوجد قوماً من الحاكة يلعبون، فقال لهم: ما لكم تلعبون؟! قالوا: إنا تفرغنا، قال: أوبهذا أُمر الفارغ؟! اقرءوا قول الله جل وعلا: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} [الشرح:7].
ولذلك لا بد للإنسان المسلم أن يعلم أنه ليس هناك وقت يسمى وقت فراغ، ولا وقت يسمى وقت خلو وبطالة من العمل، ولذلك قال ابن الجوزي: ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، وليس فقط لا يضيع بل يقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل، ولتكن نيته في الخير قائمة من غير فتور، ولربما يعجز عنه البدن من العمل.
فإذاً ليس فقط مجرد استغلال الوقت، بل لا بد أن يقدم الأفضل فالأفضل، فلا يقنع بما هو أقل إذا كان يستطيع ما هو أعلى وأشرف.
وقال الشاعر: إن الفراغ والشباب والجده مفسدة للمرء أي مفسده وكما قال أحدهم: الفراغ والصحة والمال ثالوث مدمر، ما لم يوجه التوجيه السليم.
وهذه المعاني كما أشرت تصحح ذلك المفهوم الخاطئ الذي يتلازم مع مقدم الصيف.(141/6)
ممارسات خاطئة في الإجازة الصيفية(141/7)
ممارسات خاطئة فيما يتعلق بالسفر إلى ديار الكفار
نذكر الممارسات الخاطئة أمرين اثنين: أولهما: ما يتعلق بالسفر إلى الخارج وإلى ديار الكفر على وجه الخصوص.
وثانيهما: ما يقع من العطالة والبطالة للشباب على وجه الخصوص في الداخل.
كثيراً ما يتزامن السفر مع هذه الإجازات والعطل كما درج على الألسن، فأريد أن أبين مخاطر السفر إلى الخارج في نقاط محددة.
أولاً: الخطر العقائدي: ونعني بهذا السفر -كما أشرت- إلى بلاد الكفر، أو إلى بلاد العلمنة التي هي أقرب في ممارساتها إلى بلاد الكفار، وإن كانت متسمية ببلاد إسلامية.
ويتمثل الخطر العقائدي في إلقاءات لا تظهر أو قد ينفيها صاحبها، لكنها في الحقيقة تتراكم شيئاً فشيئاً، منها: حب الكفار والميل نحوهم وتعظيمهم والانبهار بهم، وكم نرى ممن يكثرون السفر من يعظمون أهل الكفر ويميلون إليهم ويخلصون لهم الحب ويكنون لهم التقدير ويشابهونهم في الأفعال، وهذا يسبب ضعف البراء من الكفار، وهي عقيدة أصيلة كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: (إن من أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله)، وليس المجال مجال إطناب، إذ سيأتي من القول لأهل العلم ما يشمل هذا أيضاً.
الخطر الثاني: هو الخطر الأخلاقي، إذ يترتب على ذلك انفراط عقد المروءة، فبالنسبة للرجال ينطبع في نفوسهم وقلوبهم ذهاب الغيرة والحفظ للأعراض، وفي النساء يقل الحياء ويأتي التبرج، إضافة إلى ما يقع من انحلال في ممارسة المحرمات، مثل ممارسة الزنا والفواحش والمخدرات والمسكرات، وغير ذلك مما يقع فيه كثير من الناس.
الخطر الثالث: الخطر الاجتماعي الذي ينطبع في كثير من الصور، منها: الميوعة في الشباب، والتبرج والفتنة في البنات والشابات، هذا ينعكس على الأوضاع الاجتماعية، إضافة إلى ما ينعكس أيضاً من العادات والتقاليد، وكما يسمونها: (الإتكيت) والنظم حتى أصبحنا نشابه القوم في كثير من التصرفات التي فيها حرمة ومخالفة شرعية من مثل أعياد الميلاد ورأس السنة والمناسبات الأخرى وغير ذلك.
قبل فترة من الزمن لم يكن شيء من ذلك، لكن هذه الخلطة وهذا السفر أدى إلى انعكاس في مثل هذا الأمر، إضافة إلى أن هناك مشكلات اجتماعية واقعية تقع من خلال هذا، فكم يقع نزاع بين الأسر في السفر، المرأة تقول: لا بد أن نسافر، والرجل يقول: ليس هناك مال، تقول له: لا بد أن تدبر المال، والأولاد يقول أحدهم: لا، نسافر إلى الشرق، والآخر يقول: إلى الغرب، بل ويحصل طلاق وتتفكك للأسرة وتحصل نزاعات كثيرة، من خلال هذه القضية، وكأن الاختلاف في أمر واجب أو فرض عيني.
حتى إن هناك صوراً ومفارقات عجيبة، بعض النساء يغيرن كل شيء بحسب ما يتغير في الأحوال، وكذلك الرجال، فتجد المرأة متحجبة مثلاً هنا في البلد وإذا ركبت في الطيارة أزالت حجابها، وفي طريق العودة قبل هبوط الطيارة بدقائق ترى اللون الأسود يظهر في الطائرة، بينما كان قبل لحظات كأن لم يكن هناك شيء، وهذا نوع من ضعف الإيمان والاستهانة بأمر الله سبحانه وتعالى.
الخطر الرابع: هو الخطر الاقتصادي، وصرف الأموال في غير موضعها، وإنعاش اقتصاد دول الكفر.
أضرب مثالاً ربما الإحصائيات فيه ظاهرة ومنشورة بشكل كبير: بريطانيا تعاني من بطالة شنيعة ومن عجز اقتصادي كبير، وتعول كثيراً على النشاط السياحي، إذ يبلغ عدد السياح الذين يردون على العاصمة أكثر من مليون سائح، نسبة كبيرة منهم من دول الخليج العربي والجزيرة العربية وبعض الدول العربية، وينفقون هناك الأموال في تقويم ودعم هذه البلاد؛ لأنها تعتمد في جزء كبير من دخلها على السياحة، ولا شك أن الإنسان في إقامته يأكل ويشرب ويتنقل ويسكن ويشتري، ويصرف الأموال في تلك الديار، وفي المقابل يكون قد اكتسب هذه الأموال من ديار المسلمين ثم سلمها إلى الكفرة، وهذا لا شك أن له أثراً سلبياً.
بعض الناس يقول: الأموال التي سأنفقها عشرة آلاف أو عشرين ألفاً، هل هذه الأموال ستقيم هذه الدولة وتقوي ذلك الاقتصاد؟ نقول: نعم: لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى أنت تصرف عشرة آلاف وهذا عشرة آلاف حتى يبلغ عدد السياح عشرات الآلاف، فتبلغ المصروفات ملايين فيكون لها تأثير واضح، ونحن نعلم أن قوة الاقتصاد تستخدم كثيراً من دول الكفر ضد الإسلام والمسلمين، فأنت بهذا تكون عوناً مع أعداء الله على أولياء الله سبحانه وتعالى وعلى المسلمين.
الخطر الخامس: ضياع الوقت في غير الطاعات، فلو تنزه الإنسان عن مقارفة المعاصي فإنه في غالب الأحوال يعجز ويضعف عن الطاعة ولا يأتي بها على كمالها، فلن يرد المسجد الذي يشهد فيه الجماعات باستمرار، وقد تفوته الجمع، وبحكم أنه مسافر لا بأس أن يفعل كذا وكذا، ولن يجد هناك في الغالب دروس العلم، ولن يجد المحاضن الإسلامية التربوية؛ لأنه في بلد كفري، لا يقابل سمعه ولا نظره ولا فكره إلا أمور كلها انحراف ومخالفات شرعية، ومن أجل ذلك فإنه لا يستطيع أن يستغل الوقت في الطاعات، إلا إن بقي في حجرته مغلقاً بابه يصلي ويصوم، إذاً لماذا يسافر؟! فليبق في بلده.
الخطر السادس: من خلال الممارسات التي يقوم بها بعض الناس يحصل خطر مهم: وهو تشويه صورة الإسلام وتشنيع صورة هذه البلاد وغيرها من بلاد المسلمين.
كثيراً ما يصد بعض الراغبين في الإسلام أو الذين يمكن أن تميل قلوبهم ونفوسهم للإسلام عن الإقبال، بسبب ما يرون من ممارسات منحرفة وسلوكيات بشعة انحلالية يقوم بها ويمارسها المسلمون، بل قد استغل الإعلام الغربي والشرقي صورة هؤلاء المنحرفين، ولبسوها على صورة كل مسلم وعربي، وسمعنا كثيراً من الأفلام والمقالات والتحقيقات التي استغلت هذه التصرفات لتضرب الإسلام ولتشوه سمعة وصورة المسلمين، وأنت داخل في هذا الضرر بصورة أو بأخرى.
الخطر السابع: وهو التعرض للمخاطر المادية المباشرة، وفي السنوات الماضية زادت عمليات القتل والخطف والسرقة والتهديد والابتزاز، فلماذا يعرض الإنسان نفسه لمثل هذا وهو كريم معزز في بلده آمن على نفسه مطمئن على ماله؟ تسافر لتكون هناك عرضة لأن يسرق مالك، وتبقى منقطعاً في بلد لا يكرم كريماً ولا يرقب في مؤمن إلاً ولا ذمة؟! ورأينا وسمعنا عن حوادث كثيرة من مثل هذا النوع، وهي من المخاطر التي تتزايد في الفترات الأخيرة، إذ إن العداء يتوجه نحو الإسلام والمسلمين والعرب كذلك واستهداف أموالهم، وأنهم هم الذين يتمتعون بالأموال، وأن عندهم هذه الثروات، وأنهم أغبياء وحمقى يصرفونها في غير ما ينبغي أن تصرف، فإذاً لا بد أن نسرقها منهم وأن نخطفهم وأن نقتلهم، والقتل عندهم أسهل من شرب الماء، وعندهم السرقة أيسر من تنفس الهواء، ليس عندهم هناك أمان ولا ضوابط ولا شيء من هذا القبيل، ومثل هذا يقع كثيراً، والمسلم ينبغي أن يحصن نفسه عن مثل هذه القضايا.
وضمن هذا السفر تقع ممارسات أكثر خطورة بأن يسافر الشاب وحده وهنا كما يقال: خلا لك الجو فبيضي واصفري.
يعني: لا يكون عنده على الأقل نوع من الحياء من أب أو أم، إن كان هناك حياء أو توقير أو تقدير، وإذا اجتمع بعض الشباب مع بعض ولم يكونوا على خير وصلاح أعان بعضهم بعضاً على المعصية، وجرأ الجريء منهم من ليس جريئاً، وشجع المبادر منهم الذي عنده تردد، وللأسف نجد أن بعض الشباب يزين لغيره ويدفعه وينقل له تجربته وخبرته في مثل هذه القضايا.
والقضية الأخرى أن بعض الرجال يسمحون لعوائلهم أن يسافروا وحدهم، أو يسافر معهم ويتركهم في تلك البلاد ويعود هو، وكأن تلك البلاد فيها أمان وفيها إسلام وفيها دعوة إلى الخير، ما يشعر أنه حينما يترك هؤلاء كأنه ضيعهم ولم يقم بحق الله وبأمر الله سبحانه وتعالى فيهم، وهذه صور واقعة وللأسف وكثيرة في مثل هذا الأمر.
ولعل من استشعار هذه المخاطر أن جاءت بعض النظم الجيدة، مثل منع السفر لمن دون سن الحادية والعشرين من العمر إلا بإذن ولي أمره؛ لأنه دون ذلك غالباً ما يكون في مثل مجتمعاتنا وواقعنا لم يبلغ مبلغ العقل والحزم والحكمة، فيضحك عليه ويقع في كثير من القضايا، وإن كان حتى بعد هذا السن قد يقع منه بعض هذا، وكذلك لما رئي كثرة الفساد والإشكالات الكثيرة في جانب السفر إلى بعض البلاد مثل (تايلاند) وغيرها منع السفر إليها؛ لما فيه من الفساد، ولما فيه أيضاً من التعدي على الحرمات بالقتل وغير ذلك، وكذلك سفر المرأة بدون محرم، وإن كان هناك أسلوب وهو أن المحرم إذا وافق يمكن أن تسافر المرأة وحدها، وهذا فيه خطر كثير وكبير، ويقع وللأسف في بعض الأحايين.
أذكر ختاماً لهذا الموضوع الذي يقع فيه كثير من الناس فتوى سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز في هذا، وبعض الفتاوى الأخرى في غير هذا الموضوع، لكنها تدلنا على أن هذا من باب أولى، قال الشيخ في جوابه على سؤال عن السفر إلى الخارج: أنعم الله عز وجل على هذه الأمة بنعم كثيرة، وخصها بمزايا فريدة، وجعلها خير أمة أخرجت للناس؛ تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، وأعظم هذه النعم نعمة الإسلام الذي ارتضاه الله جل وعلا لعباده شريعة ومنهج حياة، وأتم به على عباده النعمة، وأكمل به الدين، قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].
لنتأمل إلى نظر وكلام الشيخ في معرفة أن هذا الأمر هو نوع من الغزو ونوع من الحسد ونوع من الإضرار للمسلمين، قال: ولكن أعداء الإسلام قد حسدوا المسلمين على هذه النعمة الكبرى، فامتلأت قلوبهم حقداً وغيظاً، وفاضت نفوسهم بالعداوة والبغضاء لهذا الدين وأهله، وودوا لو يسلبون المسلمين هذه النعمة أو يخرجونهم منها، كما قال تعالى في وصف ما تختلج به نفوسهم: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:11(141/8)
ممارسات خاطئة فيما يتعلق بالبطالة والضياع للشباب
الصورة الثانية بعد السفر إلى الخارج: ما يقع من أعمال البطالة والضياع من الذين لا يسافرون: بعض الشباب -هدانا الله وإياهم- يقعون في تفاهات وتضييع للأوقات وممارسات خاطئة ومحرمة، فتجد ظواهر مثل: قضاء الوقت في التسكع في الأسواق، المعاكسة في المنتزهات والملاعب، الاجتماع على اللعب بالورق وغير ذلك، وكذا السهر إلى آخر الليل على (الفيديو) والتلفاز وما فيه من المفاسد والفتن والأفلام التي تهيج الغرائز وتدعو إلى الفتنة وتحض على الجريمة في بعض الأحوال، وكذلك قضاء الوقت في النوم والخور والكسل، حتى إن الإنسان يدهش ويعجب من سهرهم وضياع أوقاتهم ثم نومهم الكثير.
وتظهر من وراء ذلك صور مثل: التميع والتشبه بالكفار ونحو ذلك، كل هذه صور وممارسات خاطئة تنشأ عن عدم حصول الفهم والتصور، وللأسف أن الذي يساعد على مثل هذا هو ما يرسم من خلال الإعلام صحافة وتلفازاً، وغير ذلك ما هو تكريس لهذه الظاهرة الخطرة: كيف تقضي وقتك؟ كيف تستمتع؟! كيف ترفه؟! كيف كذا؟! ليس هناك أي إشارات إلى القضايا الجادة والمهمة، فترسخ في نفوس الناس هذه المعاني ويميلون إليها.(141/9)
ميادين الخير
ميادين الخير التي يمكن أن يكون فيها انتفاع بالوقت وجد وعمل، أذكر منها جانبين اثنين:(141/10)
المراكز الصيفية
المراكز الصيفية التي تتبناها جهات فطنت لأهميتها ولضم الشباب إليها، وشغلهم بالنافع المفيد، ومن ذلك جامعة الإمام محمد بن سعود ووزارة المعارف، والجمعيات الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم، هذه المؤسسات تقيم مثل هذه المراكز لتكون مجالاً للانتفاع واستثمار الأوقات وحصول كثير من المنافع والفوائد، ومنها: الأولى: حفظ الأوقات من الضياع، أقل ما يمكن أن يعان به الإنسان في مثل هذه المراكز أن يحفظ وقته من الضياع في المحرمات أو في التوافه والسخافات.
الثانية: الحفظ من الوقوع في المخالفات؛ لأن الإنسان إن كان في جانب من ميادين الخير، فإنه يغلب على الظن أن تشغله الطاعة عن المعصية بإذن الله جل وعلا.
الثالثة: توفير الأجواء الإسلامية التي تعين الشاب على الخير وتربيه على الأخوة، فهي تهذب نفسه، تقوم أخلاقه، تصحح تصوراته؛ لأن الإنسان لا يكفيه الكلام، حتى إذا عاش في جو مناسب تجسدت أمامه صور الأخوة، ورأى أمثلة العلم ورأى قدوات المسابقة إلى الخير، ورأى نماذج الحرص على أمور الطاعات، فإن هذا يكون مانعاً من المفاسد التي تحدث عندما يعيش أو يسافر إلى بيئة غربية أجنبية كفرية، كذلك يعكس الأثر عندما يعيش في بيئة إسلامية طيبة، وفي أجواء تحث على الخير وتعين عليه.
الرابعة: الإفادة العلمية، فإن مثل هذه المراكز تشتمل على دروس علمية ومحاضرات ثقافية ومسابقات فيها إعداد لبحوث أو تلخيص لكتب نافعة أو نحو ذلك، إضافة إلى حفظ القرآن الكريم، وحفظ الأحاديث النبوية الشريفة، فإن هذا لا يستطيع في غالب الأحوال أن يقوم به المرء بنفسه؛ لأنه يعجز ويكسل، وأحياناً بعض الأعمال بطبيعتها تحتاج إلى الاشتراك، فإن العلم يحتاج إلى من يعلمه حتى يستمع، وهناك أيضاً بعض الأعمال تحتاج إلى المنافسة والحماس، حتى ينبعث إليها وتقوى همته وعزيمته عليها، وهذا جانب مهم أيضاً.
الخامسة: اكتساب الخبرات وتنمية المهارات، فإنه إلى جانب هذا العلم وإلى جانب الفائدة العلمية فهناك ممارسات وفوائد تقدمها كثير من أنشطة هذه المراكز، سواء من التدريب على بعض المهارات والأعمال كمعرفة (الكمبيوتر)، أو الضرب على الآلة الكاتبة، أو تعلم الخطابة، أو تعلم أسلوب الكتابة، أو التربية البدنية أو نحو ذلك من البرامج المختلفة، فإنها تفيد كثيراً في مثل هذا الجانب.
السادسة: التعرف على الجديد النافع، من خلال الزيارة لبعض المؤسسات العلمية والثقافية، أو بعض المنشآت الصناعية والحضارية، وهذا يربط الإنسان وينفعه ويفيده، ولذلك فالحديث عما يتصل بمثل هذه المراكز لا يحتاج إلى تطويل؛ لأن واقعها يشهد بكثير من الخير الذي فيها، ولذلك ينبغي أن يتبنى الآباء تشجيع أبنائهم، ولا بد أن يتبنى الأبناء والشباب ترغيب إخوانهم، ولا بد أن تكون قنوات الإعلام مشجعة عليها ودافعة إليها؛ لما تتضمنه من الخير وتدرأ من المفسدة، ولما تحصل من عوائد ومنافع حتى على البلاد وعلى الطلبة، وعلى المؤسسات التي تقوي وضعها ودورها في المجتمع وتزيد من نشر خيرها، فالجمعيات الخيرية للتحفيظ عندما يأتيها الطلاب يرتبطون بعد ذلك بحفظ القرآن، وجامعة الإمام عندما يأتيها الطلاب يرتبطون بعد ذلك بمعاهدها العلمية وكلياتها الشرعية، وغير ذلك من الفوائد، فلا بد أن تتضافر الجهود لدعم مثل هذا العمل.(141/11)
المشاركة في الأعمال الإسلامية من خلال الهيئات
الجانب الثاني: وهو جانب الأعمال والمشاركة في الأعمال الإسلامية من خلال الهيئات الإسلامية: وأعني بذلك المشاركة في أعمال الدعوة وأعمال الإغاثة، فإن هناك برامج تتاح وتعرض وتزيد في فترة الإجازة من قبل هيئات، مثل: هيئة الإغاثة الإسلامية، ومثل الندوة العالمية للشباب الإسلامي.
وهناك برامج دعوية، وبرامج إغاثية يسافر الإنسان من خلالها إلى بلاد الإسلام ويرى أحوال المسلمين ويساهم في العمل، وتجد أن هناك كثيراً من الفوائد والأعمال يجنيها الإنسان من مثل هذا العمل، منها: الأولى: تفقد أحوال المسلمين، وهذا عمل إسلامي مطلوب، فإن من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.
الثانية: مساعدة المحتاجين بتقديم العون المباشر، وشعورك بأنك تؤدي واجباً، وأنك تعين مسلماً، وأنك تمسح دمعة يتيم، وأنك تواسي امرأة ثكلى، وأنك تعين شيخاً كبيراً، وهذا أمر كبير ومفيد ونافع.
الثالثة: تعليم الجاهلين، فإن الذي يشارك في البرامج الدعوية يرى صوراً من الجهل في بلاد الإسلام، كما تقوم بعض الهيئات ببعث الطلاب من حفظة القرآن إلى بلاد إسلامية، يمكثون فيها الشهر والشهرين، يتفرغون لتعليم المسلمين القرآن وتجويده وتلاوته وحفظه، ولا شك أن في هذا أجراً عظيماً، وكأنك مع أجر هذا العمل تنال أجر الرحلة إليه وما تكبدته من المشقة فيه، فبدلاً من أن تتحمل مشقة وتنال وزراً وإثماً؛ تتحمل مشقة وتنال عليها مثوبة وأجراً.
من الفوائد أيضاً: الشعور بنعمة الله سبحانه وتعالى، فإنك عندما ترى الخائفين تشعر بنعمة الأمن، وعندما ترى الجائعين تشعر بنعمة الطعام والشراب والرزق الوفير، وعندما ترى المشردين والمهجرين تشعر بنعمة الله سبحانه وتعالى، فتكون أحرص عليها وعلى استدامتها بشكر الله عز وجل أكثر، بحيث لا تكون مفرطاً في هذه النعم غير عابئ بها ولا مكترث لها.
من الفوائد أيضاً: معرفة حقيقة العداء ضد الإسلام والمسلمين، ترى عندما تذهب للبوسنة والهرسك ترى القتلى والجرحى، ترى المساجد المهدمة، وعندما تذهب إلى أفريقيا ترى أعمال التنصير وأصابعه الخبيثة، فتعرف حقيقة المعركة، وتعرف أنك مستهدف، وأنك جزء من أمة.
وهذا أمر مهم، بدلاً من أن يضيع الشباب في السخافات والتفاهات، فإنهم لو ذهبوا إلى تلك البلاد لرجعوا بغير العقل والقلب والوجه الذي ذهبوا به، فيرجعون بقلوب وعقول تتناسب مع ما ينبغي أن يكون عليه شباب الإسلام في مثل هذه المرحلة المعاصرة من حياتهم.
ومن الفوائد أيضاً: تعميق روح الأخوة والوحدة بين المسلمين، هنا تأكل وتشرب وتنام، وتسمع أن هناك بلداً مثل البوسنة والهرسك، أو أن هناك بلداً يقال له كذا وكذا، لكن إذا ذهبت شعرت أنك جزء من هؤلاء الناس، وأن تلك الديار هي ديارك، وأن الاعتداء عليها اعتداء عليك، هذا الشعور لا يمكن أن يأتي إلا من خلال هذه الأعمال.
هناك برامج كثيرة في هذه الإجازات يمكن للإنسان أن يسافر من خلالها وأن يخدم الإسلام والمسلمين وأن يحصل له الأجر والثواب، وأن يحصل له النفع والفائدة، ومن أكثر البرامج اتساعاً برامج الدعوة في الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفيتي سابقاً، وهناك نحو عشرين مخيماً تربوياً دعوياً تنظمها الندوة وهيئة الإغاثة العالمية الإسلامية، وهناك أيضاً برامج دعوية وقوافل تسمى قوافل الدعاة، تجوب في أفريقيا تقوم بها الندوة العالمية أيضاً، فإذا كان عندك وقت وعندك جهد وطاقة، فإنك تصرفها في هذا الميدان من ميادين الخير.(141/12)
المشاريع المقترحة في الإجازة الصيفية
المشاريع المقترحة، قد لا يكون هناك فرصة لهذا ولا لذاك، فهناك أيضاً مشاريع ومقترحات تضاف إلى مثل هذا الخير الذي يمكن أن يحوزه الإنسان وأن يحصله: الأول: القيام من قبل الشباب بجولات دعوية في بعض القرى والمناطق النائية، فإذا لم تستطع السفر إلى أفريقيا، وإذا لم تر الجهل في بعض ديار الإسلام فإنك تجده في بلاد ومناطق قريبة منك، وأعرف بعض الإخوة يذهبون إلى مناطق الساحل مثل: القنفذة وما يتلوها من مناطق ساحل تهامة، فيصفون أموراً عجيبة من الجهل، ومن المخالفات الشرعية، والأقوال والعادات التي تخالف حكم الله سبحانه وتعالى.
لو أخذت جمعاً من إخوانك وذهبت أياماً قليلة في زيارة إلى مثل هذه المناطق لنفع الله بك وانتفعت، وعرفت من الأحوال وذكرت الآخرين، وساهمت في لفت النظر إلى مثل هذه الأعمال، ويحصل من ذلك خير وأجر ومثوبة.
الثاني: مسألة صلة الأرحام، كثير من الشباب والملتزمين ينشغلون بأعمالهم عن أقرب المقربين إليهم، في هذه الإجازات فرصة أن يتبنى مشروعاً يستقدم فيه بعض أقاربه ليزوروا أهله، ثم يعد لهم برامج جميلة ومرغبة، وفيها بعض الخير من التذكير وتوزيع الشريط أو إهداء الكتاب الصغير، لماذا يريد بعض الشباب أن يجلس الناس أمامه ليلقي عليهم خطبة عصماء أو يقرأ عليهم كتاباً طويلاً؟! يمكن أن ينظم برنامجاً قصيراً لأيام محدودة لمجموعة من الأسر من أقربائه، فينال بذلك منزلة، ويرون أنه يحرص على نفعهم، ويرون أنه متودد إليهم، لا أنه منشغل عنهم، أو كاره لهم أو معارض لهم، فلينتهز الفرصة في مثل هذا الجانب.
الثالث: كثيراً ما يقول الشباب: إذا جاءت إجازة سأحفظ أو سأقرأُ أو سأدرس أو نحو ذلك، أقول: ينبغي الحرص على العلم وتحصيله، لو كنت مشاركاً في مركز أو مواظباً على محاضرة أو نحو ذلك في وقت الإجازة، فالوقت فيه اتساع أكبر، وإمكانية العمل فيه أوسع، فلا تكتف بأقل القليل مما يقع لك، بل يمكن أن يكون لك حرص على أن تنتظم في درس أو درسين أو ثلاثة من الدروس النافعة الموجودة والمنتشرة، تزيد ما أنت فيه من الخير.
الرابع: التحصيل والتكوين الذاتي الذي ليس فيه مساعدة من الآخرين: لماذا لا يجعل لنفسه برنامجاً في حفظ القرآن، في حفظ بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ولو قليلاً؟ ولتكن الحصة معتدلة أو قليلة حتى يمكن أن ينجح فيها.
ويمكن للشاب أن يمارس العمل وأن يكون في وظيفة؛ لأن هذا يحصل به خبرة ويحصل به مالاً، فلماذا لا يمارس أعمال الخير سواء بالاشتراك في مركز أو محاضرة أو كذا، ولا يجعل النهار كله للنوم؟ لا أرى ولا أقبل مثل هذه الصورة مطلقاً، وللأسف أن هذا يقع من كثير من الشباب الذين نحسبهم على خير، فلو ربط نفسه بعمل ولو عملاً تطوعياً في جانب من جوانب الخير، أو عمل بأجر يكتسب فيه خبرة ويكتسب فيه مالاً لحصل له كثير من الخير.
ويمكن التحصيل الذاتي الذي قد يقصر الوقت أو يعجز الجسم أو يقل العزم عنه في أوقات الدراسة، ومن ذلك كثير من الأمور العبادية التطوعية مثل قيام الليل، يقول: لا أستطيع أيام الدراسة لأن الدراسة مبكرة، ثم يأتي هذا الموسم الذي ينبغي أن يكتسب فيه تعوداً على هذا الأمر، فليجعل لنفسه برنامجاً يحرص عليه وحده مرة ومع غيره مرة وهكذا؛ والمقصود أنها برامج ذاتية تنفع الإنسان في تحصيله العلمي وفي تكوينه الذاتي وفي تربيته الإيمانية.
الخامس: البرنامج الأسري: هذا موجه للآباء؛ وذلك إذا لم يسافر الأبناء ولم يشاركوا في بعض هذه الأعمال، وحتى لو شاركوا فيمكن أن يجعل الأب في أسرته برامج خفيفة، لماذا يتركهم للتلفاز يقضون ليلهم ونهارهم فيه، لو عمل لهم مسابقة في حفظ جزءٍ من القرآن أو سورة أو أحاديث أو قراءة كتاب، أو يعمل لهم درساً، أو يقرأ لأبنائه إن كانوا صغاراً قصصاً، ويكون هذا بداية لأن يستمر مثل هذا العمل بعد ذلك ولو بصورة أقل، فإن ترك الأمر وترك الأبناء والأسرة على ما تحب يحصل فيه أن الصغار ينشغلون بأفلام الكرتون، وينشغل الشباب بالخروج هنا وهنا كما أشرت في أعمال العطالة والبطالة، وتنشغل النساء مثلاً بالهاتف وأحاديث النساء من هنا وهناك كما هو معلوم، وبحضور المناسبات وغير ذلك، لا بد أن يوجد رب الأسرة شيئاً من الجد والعمل والمنافسة الخيرة في مثل هذا الجانب.
السادس: البرامج الإعلامية: نرى مسابقات تكون في رمضان، فما دامت هناك إجازة أو عطلة أو وقت، لم لا تكون هناك برامج، مثل المسابقات في الصحف أو حتى برامج إعلامية فيها تعليم، وفيها زيادة من الحصص العلمية والتوجيهية واكتساب الخبرات؟! لماذا لا تكون هناك برامج لتعليم الحرف ونحو ذلك، ما دمنا نقول إن هناك فراغاً، فهناك بعض الدورات كانت تقام مثلاً في المعاهد المهنية لا أرى لها الآن ظهوراً وأحسبها قد انتهت، نريد أن يكون المجتمع فيه تعاون على استغلال الأوقات في أمور جادة ونافعة، فوسيلة الإعلام مع وسيلة التعليم مع وسيلة توجيه الأسرة، مع رعاية المجتمع وتوجيهه، حتى تكون هذه الفترة فترة جد، لا أن تكون فترة الصيف محلاً للفراغ الذي يمحو كل أثر للدراسة التي درسها الطالب، حتى يأتي العام الجديد وهو صافي الذهن خال من المعلومات، ليستقبل معلومات جديدة أخرى.
السابع: الاستفادة مما يقع دائماً في الإجازة الصيفية من موسم الزواجات: كثيرة هي الزواجات حتى إنها تملأ أيام الأسبوع، وينشغل الناس فيها، فلا بد أن يكون هناك حرص على أن يحصل بعض النفع، أذكر أن واحداً حدثني قبل فترة يقول: كنا في مناسبة زواج قبل عدة أيام فكنت أقول: لو أن الناس خففوا في هذه المناسبات من المبالغة في الإنفاق، وخصصوا ما كانوا يعتزمون إنفاقه للتبرع للمسلمين، لبلغت هذه الأموال عشرات الملايين، لأن الناس ينفقون أموالاً كثيرة بعضها في غير محلها وبعضها زائدة عن حدها، فأول الأمر: لو كنت صاحب زواج أو كان لك قريب، فاقتصر في المناسبات، وخفف من المصاريف، وجعل بعض هذا المال في وجوه الخير، فلا يخفف من المصاريف ليوفر المال في جيبه، بل من أجل أن ينفق في سبيل الله عز وجل، فهو أصلاً قد قرر أن ينفق هذا المال، فليجعل شطره لله وشطره لإقامة المناسبة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أولم ولو بشاة)، فلا يحتاج أن يدعو الأولين والآخرين والمقيمين والمرتحلين الأحياء منهم والأموات ليشهدوا هذا الحفل، فإن هذا يشق على الناس، وأكثر الناس الآن إذا دعي إلى مناسبة زواج كأنه وقعت فوق رأسه طامة؛ لأن عنده مناسبة أخرى وثانية وثالثة وعنده عمل ويريد أن ينجز بعض الأشياء، فأصبحت الأعباء الاجتماعية ثقيلة؛ لأن كل من له صلة بأحد من بعيد أو قريب يدعوه، فيحصل مشقة للناس، فلو خفف مثل هذا لكان خيراً.
الأمر الثاني وهو أمر بوادره جيدة: أن تستغل هذه المناسبات وجمع الناس فيها في الموعظة والتذكير اليسير واللطيف، لا يأتي في وقت الفرح ويقص عليهم أخبار الموت والقيامة، فإن لكل مقام مقالاً، وكذلك لا يطيل عليهم.
أيضاً القيام بأعمال ومشاريع خيرة، كأن يوزعوا شريطاً أو كتيباً صغيراً أو مقالة لطيفة، هذه أمور فيها كثير من الخير.
ويمكن أن ينتفع بأكثر من ذلك، وهذه أمور للتنبيه على أن هناك مجالات كثيرة، لا يعجز الإنسان أن ينتفع من وقته وأن يقوم بالعمل، والمرفوض هو أن يكون الإنسان خالياً من العمل ومضيعاً للوقت.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لاستثمار الأوقات واستغلالها في الخير، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(141/13)
الأسئلة(141/14)
معنى العطلة من حيث اللغة
السؤال
من الوقفة الأولى علمنا أن التعبير عن العطلة والإجازة خطأ، فما هو التعبير الأصح؟
الجواب
لم أقل إنه خطأ، تعبير العطلة أرى أنه في معناه اللغوي لا يصح إلا إن قلنا: إنه خال عن الالتزام بالدراسة، باعتبار أنه ليس مكلفاً بالدراسة في هذا الوقت، فيقال: إن عنده عطلة أي: خلواً من الدراسة، لأن معنى التعطيل كما قلنا: هو الخلو من الشيء، أما الإجازة فصحيح هو أجيز الآن إلى مرحلة أخرى، فينبغي أن يجتاز المرحلة الأولى.
وعلى كل حال يسمي ما شاء أن يسمي، المهم هو المضمون.(141/15)
خطأ محاربة المراكز الصيفية
السؤال
إن بعض الناس لا يرون فائدة ولا تأييداً للمراكز الصيفية، وأنهم يمزقون إعلاناتها؟
الجواب
هذا في غالب أحواله أنه مخطئ، قد يكون مجتهداً في فعله لكنه خاطئ، إذ الأمور بمضامينها، فهل في مثل هذه الاجتماعات أو اللقاءات في المراكز محرمات أو دعوة إلى الباطل، أو أصلها مبني على تزيين الشر والدعوة إليه، كل الوقائع والشواهد والحقائق تدل على غير ذلك كما أشرت إيجازاً في هذا الدرس، وكثير من المشايخ وأهل العلم يرتادونها ويحاضرون فيها ويدرسون فيها ويثنون عليها؛ لأن فيها فائدة عظمى يشهد بها القاصي والداني، وربما قصر نظر هذا عن مثل هذا الأمر، أو يرى أن غيره أفضل منه، فإن رأى ذلك فليس له أن يمنع ما هو أدنى إن كان يراه أدنى من هذا.(141/16)
التوفيق بين العمل في المراكز الصيفية وكسب المال
السؤال
أحدهم ينصحه بالاشتراك في المراكز، والآخر ينصحه بالعمل لكسب المال وغير ذلك، فهو واقع في حيرة؟
الجواب
ليس هناك حيرة، إن كان صاحب همة استطاع أن يجمع بينها كلها، يعمل في الصباح ويحضر المراكز في العصر، ويقوم بالصلاة في الليل، والوقت أوسع مما يتصوره إن كانت همته كبيرة.(141/17)
طلب بالتذكير لزيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في العطلة
السؤال
لو ذكرتم للإخوة المصلين والأسر إذا كان هناك وقت أن يغتنموا الوقت في الاعتمار وزيارة المدينة المنورة ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
لا شك أن هذا من الأمور النافعة والمفيدة، وكثير من الناس يستغلون بعض الوقت في مثل هذا وهو خير، والتذكير به حسن وجيد.(141/18)
عدم صحة تأثير المراكز الصيفية على التحفيظ
السؤال
كثير من الشباب يقول: إن المراكز تؤثر على التحفيظ؟
الجواب
ليس هناك تأثير إلا من ضعف الإنسان نفسه، وإلا فبالإمكان أن تقول: إن الدراسة تؤثر على التحفيظ، وإن الارتباط بالأهل يؤثر على حفظك للقرآن، لكن لو أعطى الإنسان كل شيء وقتاً كافياً وجهداً مناسباً وكان عنده الاهتمام والاعتناء بكل أمر بحسبه لاستطاع أن يحصل مثل هذا، والذي يدل على نقض هذا القول أن بعض الأمثلة تنقضه واقعاً عملياً، لماذا أنت الذي يؤثر على تحفيظك بينما زميلك يحفظ ويقرأ ويستمع للدرس ويكتب ويلخص؟! من أين جاءه الوقت؟! وهل عنده وقت غير وقتك؟ وهل عنده عضلات وقوة غير قوتك وعضلاتك؟! لا، عنده شيء واحد وهو أن همته وعزيمته وانبعاثه للخير أقوى وأفضل.(141/19)
حكم تأليف الروايات والقصص وتمثيلها
السؤال
ما حكم تأليف الروايات والقصص، ربما أيضاً جاء هنا سؤال بما يتعلق بتمثيل هذه الروايات خاصة فيما يقع في بعض الأنشطة الصيفية؟
الجواب
وقفة مناسبة هنا حول هذا الموضوع، بعض أهل العلم ذكر الإباحة، وبعضهم ذكر المنع، وفي هذا بعض التفصيل.
أقول بإيجاز: الذين ذكروا الإباحة استدلوا بعمومات أدلة كثيرة، منها قاعدة أن الأصل في الأشياء البراءة من الحرمة حتى يثبت التحريم بدليل مخصوص، ومنها عمومات أدلة ليست أدلة في نفس القضية، مثلما استدلوا ببعض ما جاء في القرآن من قصة إبراهيم الخليل عليه السلام لما كسر الأصنام وقال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:63] وقال: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:88 - 89] أي: أنه ماشاهم وأظهر لهم شيئاً غير الذي هو على الواقع والحقيقة.
وذكروا أيضاً من عمومات الأدلة: قصة يوسف عليه السلام {فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} [يوسف:58] ثم جاراهم على أنه لا يعرفهم ووقع ما وقع من قصته مع أخيه، ثم أيضاً بعض الأحاديث، مثل حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه لما توضأ وضوءه للصلاة وقال: (إنما أردت أن أعلمكم وضوء النبي صلى الله عليه وسلم) أي: أنه مثل لهم وضوء النبي عليه الصلاة والسلام، وأقوى وأظهر منه حديث مالك بن الحويرث، قال: (إني لأصلي الصلاة ولا أريدها، إنما أريد أن أعلمكم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم).
وقد استشكل هذا وذكر ابن حجر تعليقاً عليه، وكان من ضمن قوله أنه قال: في هذا الحديث أن التعليم بالفعل أوضح من التعليم بالقول، وقال: إنه لا يقصد فيه أنه لم يرد العبادة أصلاً، وإنما أنه ليس هناك سبب باعث، يعني: أنه لم تكن هناك فريضة ولم تكن سنة وإنما كان الباعث هو باعث التعليم، هذه عمومات أدلة.
في الجانب الآخر: هناك من منع لعمومات لا تنطبق بالضرورة على هذا، من ذلك حرمة الكذب.
الثاني: الخوف والبراءة من التشبه بالكفار.
الثالث: ما قد يقع من المحظورات.
ولكن في الجملة هناك فتوى للشيخ محمد بن صالح العثيمين ذكر أنه ليس فيه كذباً، إذ الكذب هو أن يكون السامع مصدقاً لك بهذا الأمر وهو غير صحيح، لكن إن كان يعرف أنه غير صحيح فلم يعد في ذلك كذب، بمعنى: هذا الذي يقول إنه زيد، وذاك الذي يقول إنه عبيد، يعرف الناس أنه ليس زيداً ولا عبيداً، وأن ليس هذا أباً لهذا ولا هذا ابناً لذاك، فما دام أن العلم حاصل بأن هذا هو تصوير وتمثيل فلم يقع الكذب.
ويقول الشيخ ابن جبرين: التمثيليات إذا كانت هادفة ومفيدة فهي أكثر فائدة من الكلمات التي تلقى على الحاضرين، وتأثيرها أكثر من تأثير الكلمات؛ وذلك لأنهم يشاهدونها بالنظر ثم يطبقونها ويحرصون عليها، ويتذكرونها تذكراً زائداً، فالحاضرون يعلمون أنها ليست حقيقة إنما هي تمثيل، فلا ينطبق عليهم حديث: (ويل للذي يحدث ويكذب ليضحك القوم، ثم ويل له ثم ويل له) فهؤلاء ما كذبوا، وإن كانوا كاذبين فالحاضرون يعلمون أن هذا ليس هو فلان، لأجل ما فيها من التأثير والأهداف الطيبة، أنا أقول: لا بأس بها -يعني الشيخ يقول-، وقد كان مشايخنا يحضرونها في الأندية وفي قاعات المحاضرات في كلية الشريعة والمعاهد العلمية، فهذه إن شاء الله نافعة ومؤثرة، حتى وإن تسمى باسم شيخ الإسلام أو باسم أبي جهل؛ لأن الحاضرين يعلمون أن هذا تنزيل لقصة واقعة حتى ينتبهوا لها أكثر مما لو خطب الخطيب.
فمقال حصل لـ شيخ الإسلام كذا وكذا، يقول: فقد لا ينتبهون لما قال ولا يتمثلونه كما يتمثلونه إذا صور أمامهم.
ثم سئل عن الضوابط فقال: إذا كان الحاضرون يعلمون أنها ليس فيها شيءٍ من الإيهام، أو كذلك إذا كان فيها استهانة بشخصيات محترمة وتمثيل بأشياء غير واقعية فهو محظور، بمعنى: إن كان فيها تنقص لصاحب فضل كأن يمثل عالماً لكن يحتقره، أو يمثل صورة العالم الإسلامي أو الفقيه في صورة محتقرة أو نحو ذلك مما هو مقصود، كما يقع في التمثيليات الفاسدة والإعلام الذي يمارس من خلاله تشويه صورة الدين، فهذا من أحد المحاذير.
وسئل الشيخ لو مثل أحدهم ابن حنبل والآخر مثل ابن أبي دؤاد وما وقع من الفتنة؟ قال: لا بأس وأرى أنه مفيد، فقيل له: ولكنه تمثيل دور مبتدع، قال: نعم لا بأس به؛ لأن تأثيرها أكثر من تأثير الكلمات، وفيها مصلحة، والحكم يدور مع المصلحة، وقيل له: فيه تقليد للكفار كعيد الشعانين وكذا ونحو ذلك، فقال ليس كذلك، بل ورد ما يدل على أنه ليس المقصود بها هذه المتابعة، وليس كل ما يفعله الكفار نحن ممنوعون منه، إذا لم يكن التمثيل مشابهة للكفار يقول: ليس التمثيل من خصائصهم حتى تكون المشابهة مطابقة، وهذا ليس من خصائصهم فما يضر المسلمين.
وأيضاً في فتوى للشيخ عبد الله بن حميد رحمة الله عليه سئل عن حديث: (لا تمارضوا فتمرضوا) قال: هذا الحديث ليس صحيحاً، ثم قال: إن كان هذا التمارض احتاج إليه من باب التأويل المباح فلا حرج في ذلك؛ لأنه يقصد بذلك غرضاً صحيحاً، وليس في هذا العمل ما يتنافى مع الشرع، فأرجو أن لا حرج في ذلك.
وذكر بعضهم هنا ضوابط: الأول: ألا يكون كما أشرنا فيها محرم، وتدعو إلى محرم أو إلى شيء من الفساد، فهذا لا شك أنه ممنوع.
الثاني: ألا يكون فيها تمثيل للنبي عليه الصلاة والسلام أو الصحابة؛ لأن هذا قد أفتى العلماء بحرمته.
الثالث: ألا يكون فيه إيهام للناس.(141/20)
قراءة دعوية في السيرة النبوية
إن المتتبع لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنه مر أثناء دعوته بمراحل مختلفة، وتعامل مع الأحداث التي كانت تواجهه بحسب ما يحقق المصلحة للإسلام، ولذلك ينبغي للدعاة أن يقرءوا سيرته قراءة واعية؛ كي يستفيدوا منها في دعوتهم إلى الله تعالى.(142/1)
أهمية قراءة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في كل حال وفي كل آن، ونصلي ونسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين، وسيد الأولين والآخرين، نبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! أما بعد: أيها الإخوة الكرام الأحبة! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
نسأل الله جل وعلا أن يمن علينا وعليكم بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، وأن يوفقنا للهدى، وأن يرزقنا التقوى، وأن يجعلنا وإياكم من أهل الاستقامة، وأن يمن علينا بالثبات حتى الممات، إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.
هذا موعدنا مع الدرس الثامن والثمانين، في اليوم العاشر من شهر شعبان عام أربعة عشر وأربعمائة وألف، وعنوان هذا الدرس: (قراءة دعوية في السيرة النبوية).
أيها الأحبة! نحن نعلم أننا ما تُعبِّدنا باتباع أحد إلا اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو قدوتنا وأسوتنا كما قال جل وعلا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21] وإذا عرفنا ذلك ظهرت لنا أهمية سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، وأهمية تعلمها، والاقتباس منها، والاقتداء بها، سيما في مثل هذه الأعصر التي كثر فيها التخليط، وازدادت فيها الشبهات، وتكاثرت الفتن، وأصبح كلُّ يقول بقول، ويدعو إلى دعوة، ويبقى المسلم لا يربطه شيء إلا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
من رحمة الله عز وجل بعباده المؤمنين، وبهذه الأمة على وجه الخصوص، وبالناس أجمعين عامة: أن هذه السيرة واضحة مفصلة كأنما ولد عليه الصلاة والسلام على ضوء الشمس كما يقول بعض المؤرخين، فليس هناك شيء خفيٌ من سيرته، فنحن نعلم عن مولده، وعن طفولته، وعن قبيلته وأسرته، وعن نسبه، وعن حسبه، كما نعلم أيضاً عن حياته في بيته، ونعلم أقواله وأفعاله حتى في أدق الأمور وأبسطها، وذلك من النعمة الكبرى، حتى يجتني المسلم من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام كل ما يحتاج إليه.
ومن هنا فإن السيرة النبوية يمكن أن تقرأ قراءات عديدة: فيمكن أن نقرأها قراءة عسكرية، وذلك في حنكته عليه الصلاة والسلام في الغزوات التي قادها، والسرايا التي أنفذها، وما يلحق بذلك من الأمور، ويمكن أن نقرأها قراءة اجتماعية، وذلك في سيرتة عليه الصلاة والسلام زوجاً وأباً ومربياً ومعلماً، كما يمكن أن نقرأ السيرة قراءة فكرية، وذلك فيما كان يبينه النبي عليه الصلاة والسلام من دحض الشبه، وإبطال الباطل، وإقامة الحجة، إلى غير ذلك من الأساليب والمقتبسات التي يمكن أن تؤخذ من سيرته عليه الصلاة والسلام.
أما قراءتنا: فهي قراءة دعوية في السيرة النبوية، وهي صفحات متنوعة من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، إلا أنها متدرجة ومرتبة بحسب التاريخ الذي وقعت فيه هذه الأحداث، وقرئت فيه هذه الصفحات، إضافة إلى أن هذه القراءة تأتي بصورة منهجية مرتبط بعضها ببعض، فهي تعبر عن البداية والخطوة التي بعدها وما يلحق بذلك، مع بيان الأولويات وترتيبها؛ ولذلك فهذا الدرس محاولة لاختصار السيرة من خلال عرض الدعوة فيها، فنحن نريد أن نرى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، والملامح والمعالم التي ينبغي أن يستقيها الدعاة والمربون من هذه السيرة العطرة؛ ليكون تأسيسهم وبناؤهم ودعوتهم على طريقة قويمة، ولكي تؤتي -بإذن الله عز وجل- الثمار المرجوة المنشودة.(142/2)
تجنب التأثير السلبي للمجتمع المنحرف
نبدأ أولاً بما كان من حياته عليه الصلاة والسلام قبل مبعثه، وهذه هي الصفحة الأولى: روى ابن إسحاق في (السيرة) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لقد رأيتني في غلمان قريش ننقل الحجارة لبعض ما يلعب به الغلمان -أي: في سن الصبا- وكلنا قد تعرى وأخذ إزاره وجعله على رقبته، يعني: أنهم عند نقل الحجارة رفعوا الأزر على العواتق؛ ليحملوا عليها الحجارة، فكان يبدو منهم جزء من العورة.
قال: فإني لأُقبل معهم كذلك وأدبر إذ لكمني لاكم -وفي بعض الروايات: ما أراها شديدة، أي: اللكمة، وفي بعضها: إذ لكمني لكمة شديدة ثم قال: شد عليك إزارك، فشددته عليّ، ثم جعلت أحمل الحجارة على رقبتي وإزاري علي من بين أصحابي).
وروى البخاري من حديث جابر في المغازي والسير مثل هذه الرواية، إلا أن هذه الرواية التي عند البخاري تذكر أن ذلك في سن شباب النبي صلى الله عليه وسلم أثناء نقل الحجارة للمشاركة في بناء الكعبة، وأنه كان قد شد عليه إزاره فرآه عمه العباس فقال: ارفع إزارك -يعني: حتى تقوى على حمل الأحجار- قال: فلما فعلت ذلك غشي علي، فلم أعد إلى ذلك أبداً، أو كما جاء في الرواية.
وروى الحاكم عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد من ذلك، وما هممت بسوء حتى أكرمني الله عز وجل برسالته، فإني قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى معي بأعالي مكة: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر الشباب، فقال: أفعل، فخرجت أريد ذلك، حتى إذا جئت أول دور من دور مكة سمعت عزفاً بالدفوف والمزامير فقلت: ما هذا؟ قالوا: فلان بن فلان تزوج فلانة بنت فلان، فجلست أنظر إليهم، فضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا مس الشمس، فجئت إلى صاحبي فقال: ما خبرك؟ فقصصت عليه الخبر، قال: ثم كان ذلك ثانية، فلما جلست لأستمع ضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا مس الشمس، قال: فلم يقع منه عليه الصلاة والسلام إلا مثل هذا) قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وضعف بعضهم هذا الحديث بعلل معتبرة عند بعض أهل العلم، فقال ابن كثير رحمة الله عليه في تاريخه: هذا غريب جداً.
ولكن هذه الروايات تتقوى بمجموعها خصوصاً مع وجود رواية صحيحة في البخاري، وهي التي نريد أن نقف فيها الوقفة الأولى؛ إذ إن هذه الصفحة من سيرته عليه الصلاة والسلام تبين لنا معلماً مهماً من معالم الدعوة، وهو تجنب التأثير السلبي للمجتمع المنحرف، وذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام عاش في هذه الجاهلية التي كانت منحرفة في أفكارها وعقائدها، وكانت منحرفة في سلوكها وأخلاقياتها، وكانت منحرفة في قوانينها وعاداتها، إلا أنه عليه الصلاة والسلام لم يشرك أولئك القوم في شيء من هذا، ولم يخالطهم فيه، ولم يقبل منهم ذلك، بل كان -بما وفقه الله عز وجل إليه، وما عصمه به- مجتنباً هذه الصور الانحرافية كلها.
وهذا أمر مهم في شأن الدعوة، وهو سياج الوقاية والحماية، ولا بد لنا أن ندرك أن الوقاية أهم وأولى في التقديم من العلاج، خصوصاً في مجال الدعوة، سيما في الأعصر التي تختلط فيها المفاهيم الإسلامية، ولا تتمثل معالم المجتمع الإسلامي تمثلاً كاملاً، وإذا بمبادئ ومذاهب فكرية تخالف دين الله عز وجل، وإذا بشرائع وأحكام وقوانين لا تتفق مع شريعة الله سبحانه وتعالى، وإذا بأوضاع وعادات وتقاليد لا تتطابق مع هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا بالمسلم في وسط هذه البيئة إن خالطها، أو أخذ شيئاً منها، أو قبلها، أو فتن بها، أو اعتقدها، أو دعا إليها، فلا شك أنه سيكون متأثراً غاية التأثر، وسيضع هذا الاشتراك بصماته على فكره، وعلى قلبه، وعلى سلوكه وتصوراته.
ولذلك لا بد أن نؤكد على هذا المعنى، وهو أن يعتزل المسلم كل انحراف في الجاهلية التي يعيش فيها، وألا يكون موافقاً لها من ناحية المبدأ، وألا يكون مائلاً لها من ناحية الشعور، وألا يكون متطابقاً معها من ناحية السلوك، وألا يكون مساعداً لها من ناحية الغض عنها، أو عدم السعي لإنكارها وتضييق سبل ترويجها وقوتها وانتشارها؛ ولذلك ذم النبي صلى الله عليه وسلم بني إسرائيل، وتلا عليه الصلاة والسلام قول الله جل وعلا: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79] ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وقعيده وشريبه، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض).
فهذا معلم مهم ينبغي أن يرسِّخه أهل الدعوة وأهل العلم والإيمان في قلوب المسلمين، وأن ينشئوا في قلوب المؤمنين تلك العزلة الشعورية، والمفاصلة القلبية، والمفارقة من حيث الاعتقاد والمبدأ لكل صورة انحرافية يعيشها المسلم في وسط أي مجتمع من المجتمعات؛ وذلك حتى يبرأ من الآثار؛ لأن السمع والبصر جهازا استقبال، فإذا سمع المرء الخنى، وإذا رأى الفحش والفجور، وإذا سمع مقالات الباطل، فإنه يوشك أن ينطبع بعضها في قلبه، وأن يغير في فكره، وأن يؤثر في سلوكه، وهذا معلم مهم يعد أول الخطوات، ألا وهو الوقاية استعداداً لما بعدها.(142/3)
خلوة الإنسان بنفسه كي يتدبر أموره ويحاسب نفسه، ويخلو من الناس ومشاغلهم
الصفحة الثانية من سيرته عليه الصلاة والسلام: أنه كان يتحنث الليالي ذوات العدد في حراء، وفي رواية خديجة رضي الله عنها قالت: فكنت أزوده لذلك، فيختلي في غار حراء الشهر والشهرين أو أكثر من ذلك، وورد في بعض الروايات في سيرة ابن هشام: أنه كان يمكث شهراً من كل سنة، وفي بعض الروايات: أنه كان يمكث ستة أشهر.
وهذا المعلم معلم مهم أيضاً في حياة المرء المسلم في البيئة الجاهلية، فكما أنه فارقها بقلبه، فإنه يحتاج إلى خلوة يخرج بها من صخب الدنيا إلى الهدوء الذي يتأمل فيه في ملكوت الله عز وجل، ويخرج من فتنة إغراء ومدح المادحين وذكر محاسنه ومناقبه، إلى خلوة يتذكر فيها أمره، ويحاسب نفسه.
كما أنه يخرج من هذه المشكلات والمعضلات التي قد تؤثر على نفسه وعلى إيمانه، فيصفو قلبه في لحظات من المناجاة لله عز وجل، والدعاء له، والسكينة إليه سبحانه وتعالى، ولذلك يحتاج المسلم بين الفينة والأخرى إلى أوقات قليلة من يومه، وإلى أوقات أطول قليلاً في أسبوعه وشهره؛ حتى يجعل لنفسه هذه المحطات التي يراجع فيها نفسه، ويخلصها من أدرانها وأوضارها، وأن يكون أيضاً مستقلاً فيها عن كل ما يؤثر على فكره ورأيه وموقفه؛ ليكون ذلك أدعى له إلى تجديد نشاطه، وإلى تقويم مسيرته.
وقد كانت هذه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته، فكانت معينة له ومهيئة له لاستقبال الوحي بعد ذلك، وما تلقاه من الرسالة.(142/4)
بدء الوحي
في الصحيح من حديث النبي صلى الله عليه وسلم في وصف أول اتصال بين الأرض والسماء، وأول نزول للوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فلما كان في بعض أيامه ولياليه في غار حراء؛ إذ نزل عليه جبريل فقال له: اقرأ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أنا بقارئ، قال عليه الصلاة والسلام: فأخذني فغتني، وفي رواية: فغطني -أي: ضمني- حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني -أي: أطلقني- فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، ثم غطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ؛ قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق:1 - 4]) فكان هذا أول نزول للوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذه الصفحة معلمان مهمان في حياة الإنسان المسلم، وفي سيرة الدعوة التي ينبغي أن ننتبه لها:(142/5)
الصلة بالله تعالى والالتجاء إليه
أولهما: الصلة بالله عز وجل، فإنه لا يمكن للإنسان المسلم أن يواجه الباطل، ولا أن يقف في وجوه الأعداء، ولا أن يتغلب على شهوات النفس، ولا أن يستعلي على فتن الدنيا، إلا أن يكون موصول الحبل بالله عز وجل.
فهذا النبي صلى الله عليه وسلم منذ أن أكرمه الله تعالى بهذه النبوة وهذه الرسالة بقي مشدوداً بهذا الحبل المتين في الصلة بالله عز وجل، تلك الصلة التي تجعل المرء كلما احلولكت في وجهه الظلمات، وسدت في وجهه الأبواب، وجد أن النور والشعاع والضياء فيما عند الله عز وجل، ووجد أن الفرج والتنفيس والنصر من عند الله عز وجل، كما ورد في قوله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173].
وهذه الصلة بالله عز وجل هي الأساس المكين، والركن الركين الذي يقوي الإنسان المسلم، فيجعله في صورة يستطيع بها أن يطبق هذا الدين، وأن يسعى فيه، وأن يثبت عليه بإذن الله عز وجل، أضف إلى ذلك أن هذه الصلة هي التي تفرغ في قلبه السكينة، وتنشئ في نفسه الطمأنينة، وتجعله مُطمئن البال، مجتمع الفكر، فليس عنده حيرة ولا اضطراب ولا قلق، ولا نوازع نفسية، ولا أمراض قلبية، ولا غير ذلك مما يعتري الناس عندما لا يركنون إلى الله عز وجل، وعندما يركنون إلى هذه الدنيا، أو يخافون من البشر، فإذا بهم قد تفرقت بهم الأهواء، وقد انخلعت قلوبهم خوفاً، وقد تفرقت نفوسهم في شعاب الأرض تطلب كل جهة، أما المؤمن فينطبق فيه قول الله عز وجل {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، فهو راسخ إلى هذا الوعد الرباني، وإلى هذا الزاد الإيماني الذي تمثل في هذه الصورة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
وأمر الصلة بالله أمر طويل، وقد سلف لنا فيه حديث عندما تحدثنا عن التربية الإيمانية، ونحن نعلم الزاد الإيماني الناشئ عن العبادة والصلة والخضوع والذلة والابتهال والدعاء والمناجاة لله سبحانه وتعالى.(142/6)
القوة والشدة في أخذ هذا الدين والتمسك به
المعلم الثاني في هذه الصفحة: القوة والشدة: فليس أمر هذا الدين هيناً ليناً، فهو لا يؤخذ بالنوم والكسل، ولا يمكن أن يلتزمه المرء دونما جهد وعمل، ولذلك فإنه في اللحظة الأولى التي كان الوحي فيها غريباً عن النبي صلى الله عليه وسلم، كان المتصور والمتوقع أن يأتيه في صورة هينة لينة، وبأسلوب تدريجي تقليدي، ولكن الأمر فيه دلالة على عظمة هذه الرسالة، وعلى شدتها، وعلى أنها تحتاج إلى ذلك الجَهد الذي حصل للنبي صلى الله عليه وسلم عندما غطه جبريل أول مرة وثاني مرة وثالث مرة؛ حتى يكون هناك استعداد وتأهل وإدراك لعظمة هذه الرسالة كما قال الله عز وجل: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5]، وكما قال الله عز وجل في شأن يحيى عليه السلام: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12].
ولا بد لنا أن ندرك أن من أهم المعالم الدعوية: أن نبين للناس عظمة هذه الرسالة، وعظمة حملها، وعظمة الأمانة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في قوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، فلا بد من الإعداد منذ البدايات؛ حتى يمكن -بعد ذلك- أن يسير المرء ليبلغ النهايات، أما أن تكون البداية ضعيفة، وأن تكون البداية نوعاً من الترف، أو التأمين في هذه الدنيا، أو التيسير الذي يتعدى حده ليوهم الإنسان أن هذا الدين يمكن أن يكون محققاً لبعض المكاسب الدنيوية، ليأكل، أو ليشرب، أو لينعم، أو ليعيش بعيداً عن أي مهمة ورسالة، أو جهد وعمل، فإن ذلك لا يتفق مع هذه الصورة من صور سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، بل يظهر فيها القوة التي ينبغي أن يؤخذ بها أمر الله عز وجل؛ لأنه أمر مهم عظيم في حياة الإنسان.(142/7)
الدعوة إلى الله تعالى في كل زمان ومكان
الصفحة الرابعة من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، وهي من أعظم الصفحات، وقد أشرتُ إلى أمر التدرج، فإننا نحتاج أولاً إلى تلك المفارقة في الجاهلية؛ لئلا تنعكس علينا آثارها، وكذلك نحتاج إلى تلك المراجعة والخلوص من هذه الدنيا وأهلها؛ حتى نقوم المسيرة، ونحتاج إلى هذين المعلمين صلة بالله عز وجل لا تضعف؛ كي تُهيئنا هذه الصلة لحمل هذه الرسالة بكل قوة وعزم ومضاء، ثم نأتي إلى الصفحة الرابعة فإذا فيها قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:1 - 7].
وهذه الآيات يعلق عليها صاحب (الرحيق المختوم) تعليقاً جيداً فيقول: فغاية الإنذار (قُمْ فَأَنذِرْ) أن يبلغ به العالم كله، فلم يحدد في هذه الآية أي نوع من الناس الذين يُنذَرون، بل هو إنذار للعالم كله، وللبشرية جمعاء، وغاية التكبير ألا يكون لأحد في الأرض كبرياء إلا وتكسر شوكته؛ حتى لا يبقى كبرياء إلا لله عز وجل، وغاية التطهير للثياب، وهجران الرجز، أن يتطهر الباطن، وتتزكى النفس من الشوائب، وغاية عدم الاستكثار بالمنة ألا يرى لنفسه ولجهده ولبذله في سبيل الله عز وجل أي شيء يذكر، بل ما يزال يبذل في سبيل الله عز وجل.
قوله تعالى: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:7] إشعار بأن هذا الطريق فيه ابتلاء، وفيه عناء، وفيه معضلات ومشكلات تحتاج إلى هذا الصبر الذي يعين على هذا الطريق، ولذلك نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما رجع من غار حراء، وجاء إلى زوجه خديجة وهو يقول: (دثروني زملوني)، فتنزلت عليه هذه الآيات، وكذلك قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1 - 2]؛ وهنا: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2] هذا الذي تدثر بالأغطية؛ ليهدئ من روعه، وليجلب الدفء إلى جسمه، جاءه هذا الأمر؛ ليبين أن معلم الدعوة المهم هو ألا يكون المرء مسلماً في نفسه، ولا صالحاً في سلوكه فحسب، ولا يكفيه ما في قلبه من المشاعر، حتى ينطق لسانه، ويحرك جوارحه، ويمضي بهذه الدعوة مشرقاً ومغرباً بكل صورة؛ حتى يبلغ الغاية والمنتهى في الإنذار، وفي التكبير لله عز وجل، وفي هجران الرجز، وفي التطهير للنفس، وفي عدم الاستكثار فيما يطلبه في هذا الطريق، مما يدل على أن هذا المعلم مهم جداً.
فلا بد أن نربي الناس، وأن نعلمهم أن من تعلم شيئاً وجب عليه تبليغه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية)، وأن كل امرئ في عنقه مسئولية وأمانة أن يبلغ من دين الله عز وجل ما عرفه من حكم، أو من حكمة، أو من إصلاح يحتاج الناس إليه في هذه الحياة؛ حتى يشع نور هذا الدين في كل مكان، وحتى تغزو هدايته كل قلب، وحتى تطرق حلاوته كل أذن ومسمع.
ولذلك نجد في هذا المعلم: الدعوة وتبليغها، ونجد الدعوة وطريقها، ونجد الدعوة وأسلوبها الذي توافق في قوله سبحانه وتعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، فهذه الآية نزلت في سورة الشعراء، وقد كان في أولها قصة موسى عليه السلام منذ بعثته إلى خروجه من أرض مصر، ثم رجوعه ومواجهته لفرعون، ثم خروجه مع بني إسرائيل، وجاءت بعد ذلك قصص الرسل والأنبياء مع أقوامهم، وجاء بعد ذلك هذا الأمر الرباني، وكل ذلك التلخيص -سيما لسيرة موسى عليه السلام- بيان لطريقة الدعوة، وأنها -كما أمر الله عز وجل- تبدأ بالأقربين، وبالصورة التي ستأتي انتقاء وتجميعاً لأهل الإيمان، ثم مفارقة لأهل الباطل ومواجهة لهم.
فإذاً: بعد أن ندرك عظمة هذه الرسالة، فإن ذلك ينبغي ألا يكون أمراً فكرياً؛ لأن هذه الرسالة عظيمة، ولأن هذه المهمة خطيرة، ولأن هذا العمل جليل، بل ينبغي أن يتحول ذلك كما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمر واجب التنفيذ، وهو أن ينطلق المرء بالدعوة إلى الله عز وجل، وكما أمر سبحانه وتعالى.(142/8)
الحكمة في الدعوة والتدرج فيها
الصفحة الخامسة، وهي صفحة مندرجة أيضاً في هذا الباب، وهي: الحكمة والتهيئة منه صلى الله عليه وسلم في تنفيذ هذا الأمر، والدعوة إلى الله عز وجل.
لقد بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالأقربين، وليس كل الأقربين، وإنما كان يختار اختياراً، وينتقي انتقاءً، ويتوسم توسماً، ويتفرس فراسة، فيختار الأدنى والأقرب من هذا الدين في خلقه وسمته، ورجاحة عقله، وطهارة سلوكه، فكان أول من أسلم من الرجال أبو بكر رضي الله عنه، وقد ورد في كثير من الآثار: أنه ما شرب خمراً، ولا سجد لصنم قط، وكان أنسب قريش لقريش، وكان أشهر رجالها في تجارتهم، وكانت هذه الملامح هي ملامح الانتقاء التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم في أبي بكر.
وكان أول من أسلم من الغلمان علي بن أبي طالب، وكان لصيق النبي صلى الله عليه وسلم، ورفيقه، وأول من أسلم من الموالي زيد بن حارثة، وكان مولىً للنبي عليه الصلاة والسلام، ومن النساء زوجه خديجة رضي الله عنها، وكانت قريبة منه، فكان صلى الله عليه وسلم يبذر الدعوة في الأقربين المقربين، لقربهم من هذه الدعوة، ولوجود الملامح التي يؤمل فيهم من خلالها أن يكونوا أسرع في القبول، وأسرع في التأثر، وأسرع في أن يعضدوا هذه الدعوة، وأن يسيروا في ركابها، وأن يدعموها، إضافة إلى القرب الحسي، سواء كان قرباً في النسب أو كان قرباً في البيئة.
وهذا لا شك أنه مهم؛ لأن بعض من يحبون الدعوة، ويرغبون في نشرها، يشرقون ويغربون، ويدعون هنا وهناك، فينفع الله بهم، إلا أن النفع الأكثر والأظهر في تأثيره، والأسرع فيما يعود على الدعوة والمجتمع الإسلامي من أثر، هو هذا الأسلوب الدعوي الذي يختص بهذه الدوائر القريبة حساً ومعنىً، فإذا أردت أن تدعو اليوم فإنك تدعو من يصلي ولو في بيته، فهذا أدنى إلى القبول ممن قد ترك الصلاة، أو ترك بعضها، أو أخرها عن أوقاتها، وتدعو من يصلي في المسجد، فتكون استجابته أدعى وأقوى ممن يصلي في بيته، وتدعو من لا يقارف المعاصي والمنكرات، ولا يتوغل في الشهوات، فيكون أقرب استجابة ممن هو واقع فيها.
فالأقرب إلى هذه الدعوة هو الأقرب استجابة إليها، ولا يعني ذلك بحال من الأحوال ألا يُدعى غير هؤلاء، ولكن هذه أولويات وانتقاءات، والنبي عليه الصلاة والسلام قد أنذر عشيرته أجمعين، لكنه خص أولئك ابتداءً كما رأينا، حتى كان اختياره عليه الصلاة والسلام في موضعه ومكانه، فإذا بهذه الكوكبة: امرأة وغلام ومولىً وشريف من الأشراف، تنطلق بهذه الدعوة، فإذا أبو بكر يسجل في صحيفته عثمان وطلحة وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين، ويدخلون في هذا الدين بدعوة أبي بكر رضي الله عنه، بسبب ما كان عنده من إيمان وحصافة ورجاحة عقل إضافة إلى شرفه وكلمته المسموعة.
إذاً: من هذه الصفحة نقرأ حكمة الدعوة، والأسلوب الذي تطبق به هذه الدعوة، فإنها ليست مجرد اندفاع، وإنما هي دراسة وفراسة، وتحليل وتقويم، ثم تأتي بعد ذلك خطوات مبنية على دراسة وعلى تهيؤ وتدرج؛ حتى يكون لها أثرها، ويكون لها رصيدها وثمارها المرجوة.(142/9)
عالمية هذه الدعوة وشمولها لكل الناس
ننتقل إلى صفحة أخرى ملامسة ومقاربة لما قبلها، وهي عموم هذه الدعوة للناس أجمعين.
فلا يظن ظان أن الدعوة خاصة بفئة معينة، بل هي عامة لجميع الناس؛ ولذلك بدأ النبي صلى الله عليه وسلم -عندما نزل قول الله جل وعلا: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]- بإنذار قومه، فصعد إلى الصفا، ودعا قريشاً بطناً بطناً، وقال لهم: (ما تقولون لو أخبرتكم أن خيلاً ببطن هذا الوادي تريد أن تغير عليكم؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب أليم، فقال أبو لهب عليه لعنة الله!: تباً لك ألهذا جمعتنا؟!).
ثم كان النبي عليه الصلاة والسلام يأخذ بمبدأ التوسع في الدعوة، فلما جاءت المواسم التي كان يجتمع فيها العرب ويفدون فيها إلى مكة كان عليه الصلاة والسلام يطوف على القبائل قبيلة قبيلة، ويمر بمجالس القوم مجلساً مجلساً، ويدعو الناس هنا وهناك، إلا أن تلك الصفوة التي ذكرنا سابقاً هي التي أولاها عليه الصلاة والسلام جهده وتربيته؛ لأنها كانت قريبة منه، وكانت مستجيبة له، وكانت متلقية عنه، فكان تأثيره فيها واهتمامه بها عظيماً، وكان نتاج ذلك فيما بعد أعظم وأعظم في مسيرة الدعوة.
وفي الوقت نفسه وسع عليه الصلاة والسلام دائرة الدعوة، فبلغها لكل أحد، وأسمعها لكل أذن، وهكذا ينبغي أن يكون دعاة الإسلام اليوم: يدعون كل أحد، ويرفعون راية الإسلام، ويظهرون محاسنه، ويؤلفون الكتب، وينشرون القول الحسن، إلا أن ذلك رغم فائدته ونفعه يحتاج إلى أن يكون هناك ذلك التخصيص الذي نبه عليه النبي عليه الصلاة والسلام بفعله، سيما في المرحلة الأولى من دعوته عليه الصلاة والسلام، وسيأتي ما يؤكد هذا المعنى أيضاً في بقية الصفحات التي نقرأ فيها معالم دعوته صلى الله عليه وسلم، فإنه رغم هذا التوسع والانتشار في هذه الدعوة إلا أن ذلك التركيز كان يختص بتلك الفئة، فهذان معلمان مهمان: الحكمة والانتقاء، والدعوة والاتساع، وينبغي أن يسيرا معاً جنباً إلى جنب، فليست الدعوة مجرد كلمات تُذر هنا وهناك، ولا مؤلفات تكتب هنا وهناك، وإنما هي صياغة وتربية وتوجيه وتكثيف، وسيأتي ذكرها فيما يلي:(142/10)
الدروس الدعوية من اتخاذ دار الأرقم بن أبي الأرقم
صفحة دار الأرقم بن أبي الأرقم: فإن النبي عليه الصلاة والسلام كان قد أخذ بالدعوة سراً حتى أُمر بالجهر بالدعوة، وجهر بها وهي لا تزال سرية، أي: جهر بها هو عليه الصلاة والسلام، وأما أصحابه فكانوا يستخفون بدينهم، ويسرون إسلامهم، ويستترون بعباداتهم، فيصلون في الشعاب والمناطق البعيدة عن أهل مكة، ويختفون بدينهم، ولذلك لما رأى النبي عليه الصلاة والسلام ما بدأ به أهل الكفر من قريش من الإيذاء والاضطهاد، ولما رأى تكاثر هؤلاء الذين استجابوا لدعوته، عزم عليه الصلاة والسلام أن يجمع القوم، فكانت دار الأرقم بن أبي الأرقم ملتقى الصحابة رضوان الله عليهم، وكانت هذه الدار في أدنى الصفا بمكة، فكان الصحابة يأتونها سراً، حتى إن بعضهم كان يلقى بعضاً ولا يعرف أنه من المسلمين، فيقول له: أين تذهب؟ فيقول: أقضي حاجتي؛ ويقول الثاني: أين تذهب؟ يقول: أذهب إلى كذا وكذا، ثم إذا بهما يلتقيان في دار الأرقم بن أبي الأرقم.
وفي هذه الصفحة معلمان مهمان من معالم الدعوة: الأول: هو المعرفة والتعليم، والثاني: هو التربية والتكوين.(142/11)
المعرفة والتعليم
أما الجانب الأول: فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الدار يعلم الصحابة رضوان الله عليهم، فيتلو عليهم آيات القرآن، ويبين لهم أحكام الإسلام، ويعرفهم أيضاً بما يجري في واقعهم ومجتمعهم، وما يحاك حولهم، فلا بد للفئة المؤمنة أن تنشر العلم الشرعي، والمعرفة الإيمانية، والأخبار الواقعية، والأحداث القديمة التاريخية، في المساجد وبيوت الله، وفي المنتديات والمحاضرات، وفي اللقاءات والمؤتمرات، وتكون كذلك في كل آن وفي كل حال، في الحل والترحال، وفي السفر والحضر، وفي بيوت الناس ومجامعهم؛ لأن المعرفة والعلم أساس مهم كما قال الله عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19].
وليس المقصود بالمعرفة والعلم الناحية الشرعية فحسب، بل كذلك الناحية المعرفية التي فيها استقراء التاريخ، واستنطاق العبر، ومعرفة الواقع، وإدراك ما يدور حول الدعوة والمسلمين من أمور، فينبغي أن يعرفوها، وأن يحتاطوا لها، وأن يعدوا لها العدة، ولذلك كانت هذه الدار تمثل هذه المرحلة المهمة، فإنه ينبغي لنا ألا نرضى من الناس بالعواطف، وألا نكتفي منهم بأن يؤدوا عباداتهم، بل لا بد أن نزيدهم ونعطيهم من العلم الذي جاء في كتاب الله، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن نوسع دائرة معرفتهم، وأن نعمق الوعي في عقولهم؛ لأننا نحتاج ونفتقر إلى شخصية المسلم العالم الواعي، فإذا ذكرت شبهات وطعون في الإسلام كان عنده من العلم ما يمنعه من التأثر بها، بل عنده من العلم ما يفندها ويرد عليها، ويثبت بطلانها، فيكون ذلك انتصاراً لهذا الدين، وإقناعاً للآخرين، ويكون عنده أيضاً من العلم والمعرفة حتى لا ينخدع، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لست بالخب، ولا الخب يخدعني، فإذا ما تستر الباطل في ستور مختلفة، وإذا ما جاء الأعداء في لبوس الأصدقاء؛ لم يخدعه ذلك، بل كان عنده الوعي والمعرفة والإدراك الذي يميز به بين الحق والباطل، ويدرك به ما وراء السطور، ويعرف ما يحاك للأمة الإسلامية، وما يمكر به الماكرون، وما يدبره المنافقون، فإن الأمة اليوم مستهدفة من أعدائها، ومغزوة من داخلها ببعض أبنائها، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث عنهم: (من بني جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا).(142/12)
التربية والتكوين
الجانب الثاني: وهو جانب التربية والتكوين: فإن العلم وحده لا يكفي، بل كان النبي عليه الصلاة والسلام في هذه الدار يربي الصحابة، ويبين لهم ما يواجهون من الأخطار، ويركز فيهم المعاني الإيمانية التي تقوي عزيمتهم، ويؤكد لهم أن بعد العسر يسراً، ويبين لهم أن الاستمساك بالمنهج هو الذي يؤدي إلى النصر والتمكين، ويبين لهم عليه الصلاة والسلام من واقع سير الرسل والأنبياء قبله، ومن واقع حياة المؤمنين في كل وقت وأوان، أنه لا بد لهم أن يثبتوا، وأن يسعوا إلى تكامل شخصياتهم، وذلك كله يؤذن بأن يوسع دائرة الدعوة، وأن يضعضع ويضعف جهود الأعداء، وينخر في صفوفهم، وأنه ينبغي لهم ألا يغيروا وألا يبدلوا، ولذلك لا بد من معرفة العلم، مع التطبيق العملي، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، هذا هو الزاد الذي يقوي في الإنسان المسلم التزاماً صادقاً، ووعياً وإدراكاً، إضافة إلى أمل وثقة بالله عز وجل لا تنقطع، ولا تنفصل.
إن هذه الدار كانت هي المدرسة العظيمة التي تخرج منها كبار الصحابة من المهاجرين، والسابقين الأولين إلى الإسلام، من أمثال أبي بكر وعمر، والعشرة المبشرين، ومن جاء بعدهم من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، ونعلم جميعاً أن هذه الفترة المكية الأولى لم يكن عدد المسلمين فيها كثيراً؛ وذلك لظروف هذا الإيذاء والاضطهاد، ولظروف سرية الدعوة، إلا إن نوعية المسلمين الذين رباهم النبي عليه الصلاة والسلام في مثل هذه الدار كانت نوعية فريدة، فكان الواحد بألف، بل بآلاف، ولذلك فإن هذا المعلم يبين لنا أهمية صياغة الشخصية المسلمة، والتربية والتكوين الإسلامي الصادق الخالص القوي، فإننا نريد مسلماً صادقاً خالصاً كاملاً، وربما يكون أجدى وأنفع لهذه الأمة، وأقوى في نصرة هذا الدين من كثرة كاثرة أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنهم غثاء كغثاء السيل، وأنهم يقذف في قلوبهم الوهن، فلما سئل عنه عليه الصلاة والسلام قال: (حب الدنيا، وكراهية الموت).
فقد تكون هناك صفوف متراصة، لكن فيهم جبان، وفيهم خائف، وفيهم متردد، وفيهم متشكك، فما أسرع ما تُخترق هذه الصفوف، بينما إذا كان هناك صف واحد، ولبناته قوية متماسكة مترابطة، فإن كل هجوم على هذا الصف يبوء بالفشل، ويرجع خائباً، وهذه القوة والمكانة هي التي تحتاجها الأمة الإسلامية اليوم، ونحن في غنى عن ذكر الأمثلة التي كانت في حياة النبي عليه الصلاة والسلام من قبل صحابته رضوان الله عليهم، فإنهم قد ثبتوا في المحن، وثبتوا أمام الإغراءات، إضافة إلى أنهم لم يتأثروا بالشبهات، وكل ذلك كان يبين أهمية تلك التربية التي رباهم عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فـ بلال تحت الصخر يقول: أحد أحد، وما تغير ولا تردد، بل تغير من كان يجلده، فأسلم بعضهم، وهذا كعب بن مالك جاءه الإغراء من قبل الدولة العظمى في ذلك الوقت الذي كان الصحابة قد نهوا عن كلامه، وأمروا بمقاطعته، ومع ذلك لم يستجب لهذا النداء، ولم يضعف، ولم يستوحش من المسلمين، ولم يقطع رابطته بهم؛ لأن التربية والتكوين كانت في أعلى المستويات المطلوبة، وهذه الدار هي التي أخرجت تلك الكوكبة من صحب النبي صلى الله عليه وسلم.(142/13)
الانتشار في الأرض عند الأذى والتسلط
ثم صفحة سابعة وهي الهجرة الأولى إلى الحبشة: وذلك عندما اشتد إيذاء كفار قريش للمسلمين من صحابة النبي عليه الصلاة والسلام، وكثر تتبعهم لهم، واستقصاؤهم وتفتيشهم عن هؤلاء المسلمين المستخفين بدينهم، ثم إنهم صبوا عليهم العذاب صباً، وكان هذا العذاب متنوع الأساليب: فمن عذاب حسي، ومن عذاب معنوي، ومن سخرية وتحقير وصور كثيرة، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الهجرة أمراً مهماً، ومعلماً أساسياً من معالم الدعوة وهو مبدأ الحماية والانتشار.
فقد كان المسلمون في ذلك الوقت قلة، وكانوا مستضعفين؛ نعم كان إيمانهم في قلوبهم عظيماً، وكان يقينهم في نفوسهم راسخاً، وكانت ثقتهم بالله كبيرة، وكان معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه عليه الصلاة والسلام أراد أن يعلمنا من خلال سيرته السنة الإلهية التي ينبغي أن تراعى وأن تتبع، فلم تدفعهم حماستهم للحق الذي آمنوا به، والدين الذي اعتصموا به أن يواجهوا الباطل مواجهة سافرة، وفي معركة هي بالمقياس المادي خاسرة، ولم تكن الحماسة هي التي تقودهم ليواجهوا الباطل كيفما اتفق، لماذا؟ لأنهم يريدون أن يعملوا ما يعود على هذا الدين بالنفع والفائدة، وما يعود على الدعوة بالقوة والانتشار، ولذلك كما يقول محمد الصادق عرجون في كتابه (محمد رسول الله): أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزع فتيل التوتر، فقد كانت قريش في شدة حميتها، وقوة توجهها نحو ضرب المسلمين والأمة الإسلامية ضربة إبادة، وكان المسلمون كثير منهم من العبيد والموالي والضعفة الذين هم في طبيعة ذلك المجتمع ليس لهم حول ولا طول، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يهدئ الأوضاع، وأن يحمي هذه الكوكبة القليلة من الفئة المؤمنة، ليكون ذلك أدعى لانتشار الدعوة في وقت آخر.
فليست المسألة مسألة تسلط، أو تشدد، وإنما هي مصلحة الدعوة حيثما كانت، ولذلك ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في مَثَل المؤمن أنه كالخامة من الزرع تميلها الريح ولا تكسرها، فإذا جاءت الظروف العصيبة فإنه يمكن أن يجعلها بهدوئه وسكينته، وثباته على مبدئه، تمر دون أن تقصم ظهره، أو أن تعيق انطلاقته، وهكذا كان هدف النبي عليه الصلاة والسلام.
إضافة إلى ما كان منه عليه الصلاة والسلام من حكمة ودراية ومعرفة بالواقع، فقد اختار أرض الحبشة، وهي أرض قريبة من مكة، فليس بينها وبين مكة إلا مسافات قصيرة من ناحية البحر، ثم إنها كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن فيها ملكاً عادلاً لا يُظلَم عنده أحد)، ولم يطلب المسلمون في هذه الهجرة سلامتهم، ولم يختاروا العيش الرغيد، والأمن الوافر، وإنما أرادوا أن يقوّوا الصفوف، وأن يبذروا الدعوة في مكان آخر، وأن ينطلقوا بها مشرقين ومغربين.
ولذلك لا بد أن ندرك في مسيرة الدعوة أنها ليست ملكاً لفرد أو لفئة من الناس، وإنما هي ملك للأمة كلها، فلا ينبغي أن يتهور متهور فيورد الدعوة وأهلها والعلماء والمصلحين موارد الهلكة، دون أن يكون هناك أي أثر إيجابي، وأما ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى حاكم ظالم فأمره ونهاه فقتله) فقد ذكر أهل العلم أن ذلك إذا كان مختصاً بنفسه، وذكر بعضهم أن ذلك فيما لا يؤثر على من وراءه؛ إذ قد يكون الإنسان مضحياً بنفسه، لكن ينبغي أن يحرص على نفع الأمة ومصلحتها، فلما كانت هذه المرحلة هي المرحلة التي اشتد فيها الأذى من كفار قريش أراد النبي أن يلتمس للمسلمين مخرجاً، وأن يخفف من غلواء ذلك العداء، وأن يبعد أسباب النقمة الشديدة من أولئك الكفار، وأن يهيئ أسباب الانتشار في ظل ما قد يكون من سكينة أو هدوء، أو ضعف في مواجهة الاعتداء على المسلمين من أبناء هذه الأمة.(142/14)
الجد والاجتهاد في البحث عن طرق لنشر هذه الدعوة
نلمح أيضاً معلماً عظيماً في الصفحة الثامنة من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المعلم الذي تمثل في خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عندما لم تكن هناك استجابة من قريش وأهل مكة، فخرج عليه الصلاة والسلام إلى الطائف يدعو أهلها، ونعلم ما قام به الكفار من أهل الطائف في ذلك الوقت من الإيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم، والإعراض والصد عنه، وإغراء السفهاء به، فقذفوه بالحجارة حتى دميت أقدامه عليه الصلاة والسلام.
في هذه الصفحة معالم أخرى، وأسس مهمة في الدعوة التي رسمها لنا النبي صلى الله عليه وسلم، فهي تمثل لنا صورة مهمة من صور الحماسة والانطلاق، فليس الأمر دائماً هو نوع من السكون أو الهدوء، بل كان النبي عليه الصلاة والسلام في قلبه من الغيرة لهذا الدين والحماسة له، ما جعله يلتمس طُرُقاً إلى أي قوم، أو إلى أي بلد يمكن أن يلقى فيه قبولاً لهذه الدعوة.
والأمر الثاني هو: أن هذه الدعوة عالمية وليست إقليمية، فليست مختصة بعرب دون عجم، ولا ببلاد دون بلاد، بل ينبغي أن يسير بها المسلمون إلى البشر أجمعين، وإلى كل الأقطار بلا استثناء، فإذا أعرض عنها قوم فإن قوماً آخرين سيَقْبلون ويُقبِلون بإذن الله عز وجل، وهذا أيضاً يدلنا على صورة ثالثة وهي: عدم اليأس، وعدم الركون أو القعود عن الدعوة؛ لأجل إعراض المعرضين، أو صد الذين يصدون عن دين الله عز وجل، فإن قريشاً عندما صدّت وامتنعت التمس النبي عليه الصلاة والسلام الطريق إلى الطائف، وعندما صد أهل الطائف وامتنعوا، عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة، وظل يدعو حتى شرح الله صدور الكوكبة الأولى من الأنصار في بيعة العقبة إلى الإسلام، وكانوا بذرة من البذور التي أثرت في الدعوة الإسلامية.(142/15)
الهجرة النبوية
الصفحة التاسعة هي: الهجرة النبوية إلى المدينة: وهي أيضاً مهمة غاية الأهمية في حياة الدعوة الإسلامية؛ ذلك أنها تمثل مرحلة التخطيط والتمكين، فالنبي عليه الصلاة والسلام قد هيأ لهذه الهجرة تهيئة عظيمة، فإنه قد يسّر أولاً من خلال البيعة الأولى للأنصار كوكبة آمنت به وبرسالته عليه الصلاة والسلام، ثم بعث معهم مصعب بن عمير رضي الله عنه ليوسع دائرة الدعوة في هذه الأرض الجديدة؛ لتكون أرضاً لهذه الدعوة، ولإقامة دولة الإسلام فيها، ثم جعل أصحابه بعد ذلك يهاجرون إليها زرافات ووحداناً، فلما شاع الإسلام في المدينة، أحكم النبي عليه الصلاة والسلام خطته، وهيأ أمره كما نعلم في هجرته من الأسباب الكثيرة التي اتخذها، وليس هذا موضع سردها، فإنه أخذ جنوباً إلى غار ثور بدلاً من أن يأخذ شمالاً إلى طريق المدينة، ونعلم أنه اختبأ في الغار ثلاثة أيام، وأنه اتخذ طريقاً غير الطرق المسلوكة إلى غير ذلك، فهذه الصورة تبيّن لنا: أن الدعوة الإسلامية ينبغي أن تسعى إلى أن تمكن في الأرض، وإلى أن تهيأ لها الأسباب لإقامة المجتمع الإسلامي الذي يحكّم شرع الله عز وجل، ويصبغ الحياة كلها صبغة إسلامية ليس فيها قبول لحكم ولا لشرع ولا لأمر ولا لعادة ولا لتقليد إلا وفق شرع الله سبحانه وتعالى.
فلا يُكتفى أن يكون المسلم مسلماً في نفسه، ولا يُكتفى أن يكون جمع من المسلمين في بيئة جاهلية، أو في أوضاع كفرية، بل ينبغي أن يسعى المسلمون إلى أن يوجدوا مجتمعاً كاملاً برجاله ونسائه وأطفاله وبيوته، مجتمعاً كاملاً باقتصاده واجتماعه وسياسته، مجتمعاً كاملاً في أفراده وفي جماعاته، مجتمعاً كاملاً في سلمه وفي حربه كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام.
فكل تلك المراحل التي مرت بها الدعوة في حياته عليه الصلاة والسلام كانت مراحل ممهدة ومهيأة، وكان عليه الصلاة والسلام يرنو إلى هذه المرحلة، وإلى هذا المعلم المهم من معالم الدعوة، وقد أخذ له أهبته بصور كثيرة شتى مما مضى: فتلك التربية والتكوين لهذه الفئة القوية الراسخة، وذلك الانطلاق الذي شرق فيه وغرب حتى وجد القلوب المؤمنة من الأنصار، وتلك التهيئة الدعوية ببعثة مصعب بن عمير رضي الله عنه الداعية الذي فتح بيوت الأنصار في المدينة المنورة، ونورها بهذا الإسلام، إضافة إلى إحكامه عليه الصلاة والسلام لخطة هجرته حتى قدم عليه الصلاة والسلام إلى المدينة؛ فقد كانت هذه المرحلة من المراحل المهمة في حياة الدعوة، وهي مرحلة التخطيط الذي له بُعد في المدى، وبعد في الزمن، وعمق في النظرة، وشمول فيما يحيط بالدعوة من المتغيرات والمستجدات، واختيار وانتقاء، ثم كان بعد ذلك التمكين وإقامة دولة الإسلام.
فعندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة إذا بها تستقبله، وهي قد أعطته بيعتها في بيعة العقبة الأولى والثانية، وقد أعطته قيادها فهو القائد المسود فيها، وقد أعطته حكمها فهو الذي يبلغ شرع الله لها، فكان ذلك هو الفتح الأعظم، وقد ورد في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أمرت بقرية تأكل القرى، وإني أراها ذات نخل، بين لابتين) يعني أنه أمر بالهجرة إلى قرية هذا وصفها، تأكل القرى: أي تكون منطلقاً وقاعدة للدعوة الإسلامية، وهكذا كان فعله عليه الصلاة والسلام، فلابد أن توجد أرض، ويوجد مجتمع وحكم وشرع إسلامي يكون منطلقاً لهذه الدعوة.(142/16)
الاستمرار في الدعوة وتصفية الطريق أمامها بالجهاد وغيره
الصفحة التي تليها، وهي صفحة مهمة، فقد بلّغ النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر مبلغاً، وحقق غاية عظمى، ولعل قائلاً أن يقول: يكفي النبي عليه الصلاة والسلام ما حققه من إيجاد دولة الإسلام في المدينة! وهذه نظرة خاطئة قاصرة لا تفقه هذا الدين، ولا تعرف رسالته، ولا تعرف أنه خاتم الأديان، وقد ارتضاه الله عز وجل لهذه البشرية جمعاء، فعندما استقر الأمر للنبي عليه الصلاة والسلام بدأت صفحة جديدة أخرى، وهي الاستمرار في الدعوة، وهذا يبين لنا معلماً مهماً وهو: أن هذه الدعوة لا منتهى لها، لا في الزمان، ولا في المكان، ولا في الأشخاص، كما قال صاحب (الرحيق المختوم) في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2]؛ ولذلك لا توقف في الدعوة، فإن هذه المرحلة السابقة في إيجاد المجتمع المسلم إنما هي مرحلة قوية، ونقلة نوعية لمزيد من العمل لأجل الدعوة ولهذا الدين.
أما أنها مرحلة نوعية: فلأن الناس يرون مجتمعاً إسلامياً كاملاً تتمثل فيه الأحكام والآداب والأخلاق والأعراف الإسلامية، فهذه دعوة ناطقة من خلال المشاهد الحية، والممارسة الحياتية اليومية في مجتمع المدينة المنورة، ثم هي أيضاً نوع من التكامل والقوة التي تساعد على تأسيس الدعوة نفسها، وتأخذ كل أسباب قوتها؛ لتنطلق انطلاقة أكثر وأقوى مما إذا كانت الدعوة عند فئات مسلمة قليلة، وفي مجتمعات منحرفة، أو تكون كثرة في ظل حكم كافر أو نحو ذلك من الصور، فإن الصورة المثلى والأقوى في التأثير هي ما يكون بعد وجود هذا المجتمع المسلم، والأرض الإسلامية.
ولذلك فإن الصفحة العظمى، والصفحة الأساسية الظاهرة البينة في هذه المرحلة هي صفحة الجهاد الإسلامي، وهذا يبين لنا -كما قلت- استمرارية الدعوة وشمولها وانطلاقها الذي لا يحده حد من زمان ولا من مكان، وقد ذكر ابن القيم رحمة الله عليه في (زاد المعاد) المراحل التي مر بها الجهاد أو القتال في الإسلام: من كف الأيدي، ثم الانتصار فقط ممن اعتدى، إلى المرحلة التي فيها الجهاد والانطلاق إلى أهل الكفر في كل مكان: فإما أن يسلموا، وإما أن يعطوا الجزية، ويفتحوا الطريق للمسلمين ليعيشوا في هذه البلاد، ويدعوا فيها، ويعلوا كلمة الله عز وجل، دون إكراه في الدين، وإما أن يقاتلوا حتى تزاح هذه العوائق التي تحول بين الناس وبين هذا الدين.
ولذلك فإن الجهاد هو نوع من إزالة العوائق عن طريق الدعوة، والجهاد العسكري هو صورة من صور الدعوة؛ فكما أن هناك جهاداً قولياً، وهناك جهاداً تربوياً، وهناك جهاداً نفسياً؛ فهناك جهاد عسكري، وكلها مرتبطة بغاية الدعوة، فليس الجهاد في الإسلام إراقة دماء، ولا إزهاق أرواح، ولا تدمير بيوت، ولا إحراق زروع وثمار، بل الأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية: (لا تسألني قريش خطة يعظمون بها البيت، ويحقنون بها الدماء إلا أعطيتهم إياها) وكما فعل عليه الصلاة والسلام في يوم فتح مكة عندما عفا عمن كانوا ناوءوه؛ ليبين استعلاء هذا الدين عن الانتقام والثأر النفسي، وليبين رسالة هذا الدين في أنها تهدف إلى إيجاد الغايات، وإلى تحقيق الرسالة، وإلى نشر الدعوة لا أقل ولا أكثر.
فكانت هذه الصفحة في المدينة المنورة صفحة الجهاد الإسلامي، وهذه الصفحة المهمة ليس هذا موضع الحديث فيها، فإنها قد استغرقت مثل ما استغرقت الفترة المكية وأكثر من ناحية الزمن، ولئن كان المسلمون قد خسروا أو أرهقوا بالمقياس المادي في الفترة المكية، فإنهم في الفترة المدنية قد جاهدوا، وبذلوا أرواحاً وأموالاً، وأجروا دماءً في سبيل الله عز وجل، وهذا يبين أن الدعوة متلازمة مع التضحية والبذل في سبيل الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة:111].
ويبين لنا أيضاً من وجه آخر: أن هذه الدعوة بانطلاقتها الجهادية يتلازم فيها وجود المسلمين مع دعوتهم لدين الله عز وجل؛ فلا ينبغي أن يكون هناك مسلمون ولا تكون هناك دعوة، أو لا يكون هناك جهاد، بل حيثما وجد مسلمون صادقون عارفون بهذا الدين وجدت الدعوة، ووجد الجهاد في سبيل الله عز وجل، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الجهاد ماض إلى يوم القيامة) وهذا الحديث في سنن أبي داود بسند صحيح، وفي بعض الروايات: (لا يبطله بر ولا فاجر)، وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: (الجهاد ماض مع كل بر وفاجر) أي: وإن كان القائد فيه فجور أو فسق إلا أنه يرفع راية الإسلام، ويجاهد في سبيل الله عز وجل، فإنه يجاهد معه؛ إعلاءً ونصرة لدين الله عز وجل.(142/17)
استكمال البناء الإسلامي بإرساء قواعد الأحكام
الصفحة الأخيرة في الفترة المدنية هي: استكمال جوانب البناء الإسلامي في شتى صور الحياة: فقد جاءت الأحكام والتشريعات في هذه الفترة؛ لتكمل بناء المجتمع الإسلامي في الناحية الاقتصادية، فجاءت الأحكام في البيوع، وتحريم الربا، وتنظيم صور التعامل كلها استقصاءً وتفصيلاً، وجاءت أحكام الحياة الاجتماعية، فجاءت أحكام الزواج والطلاق والمحارم من النساء وغير ذلك تفصيلاً وتفريعاً، وجاءت كذلك الأحكام السياسية مما يتعلق بالحرب والسلم، والعقود والمواثيق تفصيلاً وتفريعاً.
وقد جاءت كل هذه المعالم لتبين تكامل هذا الدين في الناحية العملية، وتجسده في الصورة الواقعية للناس، ولذلك ينبغي للمسلمين في ظل غياب المجتمع الإسلامي المتكامل في بلاد كثيرة أن يوجدوا صوراً للمعالم الإسلامية في جوانب الحياة: أن يوجدوا صوراً للإسلام في الاقتصاد، وفي الحياة الاجتماعية، وفي الحياة السياسية؛ حتى يرى الناس بأم أعينهم هذه النماذج في الاقتصاد الإسلامي، وفي السياسية الإسلامية، وفي الاجتماع الإسلامي، وفي الأخلاق الإسلامية، من خلال تجمعات ومجموعات إسلامية، ومن خلال مشاريع وأعمال إسلامية تمثل هذه الجوانب؛ لتكون نماذج مصغرة تبين للناس هذا الواقع، فإذا فقد الناس واقعاً متكاملاً في صورة مجتمع وأمة ودولة، فلا يفقدوا ذلك في صورة تجمعات وأفراد من المسلمين يظهرون هذه المعالم، ويرفعون هذه المعاني في حياة الأمة؛ حتى لا يبقى الناس في شك، وحتى لا يكون عند بعض الناس ضعف في يقينهم بتكامل تشريع هذا الإسلام، وظهور الآثار الإيجابية لهذه التشريعات، ومع ذلك يبقى هناك نوع من النقص؛ لعدم التكامل في هذه المجتمعات من الناحية الإسلامية.
هذه -كما قلت- قراءة سريعة دعوية في المراحل التي مرت بها دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، والحقيقة أن كل واحد من هذه المعالم، أو كل صفحة من هذه الصفحات فيها تفريعات تستحق أن يتأملها المسلم، وأن يستنبط منها الداعية منهجه وطريقه، وأن تستلهم منها الأمة المخرج الذي تخرج به من أزماتها، ولذلك ينبغي لنا أن نفقه في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام هذه المراحل الدعوية، وأن نفقه من ناحية الأحداث التفصيلية أو الكثيرة فروع هذه المعالم كلها؛ لتتجسد لنا صورة واضحة لمنهج الدعوة على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، بدلاً من أن يكون هناك الاجتهاد الذي لا يسترشد بهذه السيرة، ولا يرجع إليها، لأنه عليه الصلاة والسلام كما أسلفت في بداية الحديث: ولد على ضوء الشمس، وجاءت سيرته شاملة لجميع الجوانب، ومثل لنا في سيرته وحياته ما ينبغي على الدعاة أن يأخذوا به، وأن يمتثلوه.(142/18)
أهم المراجع التي سلطت الضوء على الجوانب الدعوية من السيرة النبوية
في هذا المقام لا بأس من إشارة سريعة إلى ما يمكن أن تستقى منه بعض هذه الملامح والمعاني التربوية، والدعوية.
وأختم هذا الحديث بذكر بعض الدراسات التي تسلط الضوء على مثل هذه الجوانب في الدعوة من خلال سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، فمنها على سبيل المثال لا الحصر: كتاب (الدعوة في المرحلة المكية) للدكتور علي جابر الحربي، وكتاب (أسباب نجاح الدعوة في الفترة المكية)، وكتاب (أسباب نجاح الدعوة الإسلامية) وهو كتاب مركز في هذا الجانب، وكتاب (المنهج الحركي في السيرة النبوية) للغضبان، وكتاب (محمد رسول الله) لـ محمد الصادق عرجون، وقد ناقش الروايات من حيث صحتها، وهو متخصص في هذا الجانب، وقد تميز أيضاً بذكر كثير من الأمور والفوائد المتعلقة بالدعوة، وبما يتعلق بحكم أوضاع معينة في حياة الأمة الإسلامية، ويلحق بذلك أيضاً كتب السيرة المتأخرة التي يحرص أصحابها على ذكر الفوائد والدروس والعبر من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام؛ لما في ذلك من الفائدة، فإنه لا ينبغي أن يكون انتفاعنا بالسيرة النبوية، أو صلتنا بها مجرد قراءتها، أو سرد أحداثها، بل استنباط ما ينفع ويفيد من هذه الأحداث التي كلها عبر ودروس وفوائد ومصالح؛ ولذلك كانت هذه السيرة هي موضع القدوة والأسوة في كل الجوانب، ومنها هذا الجانب المهم والخطير في حياة الأمة اليوم، وهو جانب الدعوة إلى الله عز وجل، وهذه المحاضرة -كما أشرت- قراءة دعوية في السيرة النبوية.(142/19)
الأسئلة(142/20)
حكم كذب المرء ليخفي أعماله الصالحة
السؤال
هل يجوز الكذب عندما يسألني صديق: إلى أين أنت ذاهب؟ فأقول: إني ذاهب إلى مكان كذا وكذا، وليس الأمر كذلك، ولكن لأخفي بعض الخير الذي قد أقوم به من أمر العلم، أو الدعوة، أو نحو ذلك؟
الجواب
جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام: (إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب) والمعاريض: أن تقول قولاً وهو في حقيقته صحيح وليس بكذب، لكنه يحتمل عدة معان، ويكون المعنى الأقرب إلى فهم السامع هو المعنى الذي لا تريده، فهذا فيه نوع من الفائدة التي قد تتحقق للمسلم عندما يحتاج إليها، فينبغي للإنسان أن يكون صادقاً، ولا يلجأ إلى الكذب الصريح مطلقاً؛ لأنه قد ورد النهي والذم له بما هو معلوم، ولا يلجأ إلى المعاريض إلا عند وجود الحاجة والمصلحة، وينبغي ألا يتوسع المرء في هذا، فإنك ترى بعض الناس يتوسعون توسعاً يوقعهم في الكذب، ويظنون أنهم ما زالوا يقولون المعاريض!(142/21)
معنى التصفية والتربية في الدعوة إلى هذا الدين
السؤال
هل نوافق على أن الدعوة تكون إلى تصفية الدين من كل ما ليس منه، ثم التربية على هذا الدين المصفى؟
الجواب
معنى هذا أن التصفية قبل التربية، بغض النظر عن المسميات، والمعنى في حد ذاته صحيح، فينبغي أن يخرج الإنسان من نفسه ومن قلبه كل حكم، وكل مبدأ، وكل شهوة لا تتوافق مع شرع الله عز وجل وسنضرب مثالاً لتوضيح هذا الأمر: إذا أردت أن تجلس في مكان ما، فأول أمر هو أن تنظف هذا المكان، ولا تضع الفرش الذي تريد أن تجلس عليه إلا على مكان نظيف؛ لأن عدم فعلك لهذا لا يجعلك تحقق الفائدة من هذا الفرش، إذ قد تأتي هذه القاذورات مرة أخرى وتفسد عليك مرادك، وإذا أردت مثلاً أن تخرج من مكان ما بعض القاذورات في وقت ريح، فلا بد أن تجعل هناك حاجزاً ثم تخرج هذه الأشياء؛ حتى لا تعيدها الريح مرة أخرى.
ونحن أيضاً نحتاج في هذه العصور التي غلبت فيها الكثير من الأفكار والشهوات والسلوكيات على بعض المسلمين أن يخرجوها من قلوبهم، ومن عقولهم، وأن يبطلوها من سلوكهم وواقعهم، وأن يتحلوا بعد ذلك بهذا الدين، وهذا ما يسمى بالتصفية ثم التربية، أو ما يسمونه أحياناً التخلية ثم التحلية، أي: قبل أن تحلّي لا بد أن تخلي الشوائب، ثم تحليه حتى تنتفع به، ولا شك أن هذه الازدواجية الموجودة في بيئات المسلمين تجعل الأمرين متلازمين معاً، فنحن ننكر الباطل، ونعارض المنكر، ونبين خطأه وحرمته للناس، وفي الوقت نفسه نبين لهم الحل الإسلامي، والشرع الإسلامي، فنحن نقول للناس: إن التبرج وإن الزنا من المحرمات، وإن الله عز وجل قد شرع الزواج والتعدد بدلاً عن هذا، ونقول لهم على سبيل المثال: إن الربا حرام، وإن البيع حلال.
فلابد أن نبين لهم الأمر وما يكافئه، فعندما ننقض الباطل فإننا نظهر الحق، فيكون بياننا لعوارِ الباطل مهيئاً لقبول الحق، ومحاسن هذا الحق ستجعل الناس متشبثين به بعد أن رأوا معالم بطلان الباطل، وقد كان هذا الأمر نظرياً في وقت من الأوقات، إلا أنه بحمد الله قد صار في كثير من الأحوال عملياً، فكان الناس في الأول يحدثهم الدعاة والعلماء عن خطر الشيوعية والاشتراكية، وبطلانها وفسادها، ويطيلون القول في ذلك لمن اقتنعوا بها وتأثروا بها؛ حتى يثبتوا لهم أن الإسلام هو الصحيح، فكانت هناك قناعات إلا أن هذه القناعات قد تكون ضعيفة، ولكن عندما يؤكد الواقع العملي بطلان هذه المذاهب فإن المسألة تكون سهلة، فاليوم لو كان هناك عاقل لا يزال في عقله بعض أفكار الشيوعية والاشتراكية فإنك عندما تناقشه، والواقع الذي في الحياة قد سقط وهوى، فإنه لا شك سيكون اقتناعه أقوى وأكبر.
وإذا قلنا للناس: إن العري والتفسخ والاختلاط مضر، وسيؤدي إلى نكبات، فهذا أمر حسن، ولكن عندما يرون اليوم واقع البلاد الكفرية، ويرون ما فيها من البلاء والأمراض والجرائم وغيرها من آثار ذلك، فإن هذا أبلغ وأقوى في الإقناع، فلا بد من الأمرين معاً.(142/22)
قيام العلماء والدعاء بالدعوة إلى الله وخطأ التفرقة بين العلماء والدعاة
السؤال
من يقوم بالدعوة: العلماء أم شباب الصحوة؛ لأن العلماء تفرقوا واختلفوا؟
الجواب
هذه قسمة غير صحيحة، ويريد الأعداء أن يعمقوها في بيئات المجتمع الإسلامي، وخاصة صفوف الملتزمين من أبناء هذا الدين، فيقولون: هناك علماء، وهناك دعاة، ونحن نقول: لا دعوة ولا دعاة إلا بالعلم، ولا يكون العالم عالماً إلا أن يعلم ويدعو، فالعالم الحق هو الذي يبلغ علمه، وينشر الدعوة، والداعية الصادق هو الذي يتزود بالعلم، ويتحصن به.
ولا بد أن نعرف أن تاريخ الأمة كان دائماً فيه هذا التلازم، بل كان فيه أكثر من هذا التلازم، ففي كثير من النماذج التي في تاريخ الأمة الإسلامية كان الفرد المسلم يمثل العالم والداعية والمجاهد والمنفق وغير ذلك من الصور، ونعرف ذلك مثلاً في سيرة ابن تيمية رحمة الله عليه، فقد كان عالماً، وكان داعيةً، وكان مجاهداً، كلها في شخص واحد، فليس عندنا عالم لا يعلم إلا الفقه أو المواريث أو نحو ذلك، وليس عندنا داعية لا يتكلم إلا في الفكر.
وفي الواقع المعاصر، كلا، فليس عندنا هذا الانفصال ولا نعرفه، وإنما يعرفه أهل العلمانية، وأهل المذاهب الذين عندهم هذه التقسيمات، أما أمة الإسلام فعلماؤها دعاتها، ودعاتها طلبة العلم فيها، والدعاة يطلبون الإرشاد من العلماء، ويستفيدون من العلم، والعلماء يوجهون الدعاة، ويشجعونهم على الانطلاق في الدعوة، وهذا التكامل هو الذي يغيظ أعداء الله عز وجل، ولذلك فإنهم يسعون لشق هذا الصف المسلم الذي تحرك فيه العلماء فاختلطوا بالناس، وظهر علمهم، وأفتوا السائلين، ووجهوا المسترشدين، وتحرك الدعاة والشباب الذين تحركت الغيرة في قلوبهم، فصاروا يدعون، وإلى العلماء يرجعون، فيسألون ثم ينطلقون، فأراد أعداء الله أن يقطعوا هذا الحبل، فيجعلوا للعلماء مسلكاً، وللدعاة مسلكاً، ويجعلوا للكبار مسلكاً، وللشباب مسلكاً، وهذا ليس من دين الله عز وجل.
فينبغي أن نقوي اللحمة والرابطة بين علمائنا ودعاتنا في سائر بلاد الإسلام والمسلمين، مع علمنا بأن هناك من العلماء من لا يمثل صورة العالم المسلم الحقيقي؛ لأنه قد أعطى الدنية في دينه، أو لأنه باع دينه بدنياه، وهذه صور يعرفها العامي المسلم فضلاً عن العالم أو الداعية أو الشاب، وهؤلاء قطعاً ليس لهم في نفوس الناس ذلك التعظيم ولا التوقير، وليس لهم عند الناس قبول ولا اجتماع، ونحن نعرف أن من يكون هذا مسلكه بصورة واضحة بينة فيفتي بحل أمور معلوم حرمتها في دين الله عز وجل، كحل الربا، أو حل الاختلاط أو غير ذلك، فإن بسطاء الناس يسمعون هذا ولا يصدقونه، بل يعرفون أن الحق في هذا الدين، ومع من يبين حكمه، وأن الباطل مع من قال هذا القول، وإن كان قد تزيا بزي العلماء، أو ظهر أنه من كبار العلماء.(142/23)
شاهد من حياته صلى الله عليه وسلم بعد البعثة يشابه تحنثه قبل البعثة
السؤال
هل لتحنث النبي عليه الصلاة والسلام في غار حراء شاهد من حياته بعد البعثة؟
الجواب
إن كان من شاهد يقاربه فهو خروجه عليه الصلاة والسلام -كما ورد عن عائشة رضي الله عنها- في الليل إلى البقيع، يزور الموتى، ويتذكر الآخرة، فهذه وقفات للمحاسبة، وللتذكر، ولتقويم المسيرة، وليس المقصود بها -حتى لا يفهم الأمر فهماً غير صحيح- أن يكون لها منهج معين، وأوقات معينة، وطريقة معينة، وكتابات، فهذه ليست مطلوبة، وليست واردة، وإن فعل الإنسان منها شيئاً فلا يلتزمه ويواظب عليه، ولا يلزم به، وإنما هي مجرد أن يخلو المرء بنفسه؛ ليقوم مسيرته، وليصفي قلبه، وليناجي ربه، وليستعين بهذه الخلوة على اختلاطه بالناس رغم ما عندهم من لغو وباطل وغير ذلك، فهذه فائدتها لا تنكر، ولكن -كما قلت- ليست لها هيئة، ولا زمن بعينه، ولا طريقة معينة.(142/24)
الاستفادة من الفترة المكية للدعاة
السؤال
هل يمكن أن يستفاد من الاستخفاء في الدعوة، والهجرة إلى الحبشة، والفترة المكية، في تطبيق ذلك في واقع المسلمين اليوم بعد انتشار الإسلام؟
الجواب
كثير من المراحل في عالم المسلمين اليوم في -غالب الأحوال- تتطابق مع تلك البيئة وذلك المجتمع والبلد المسئول عنه، فلا يقال: قد انتهت مرحلة السيرة بمعنى: أنها ليس لها أي تشابه مع واقعنا، وليس لنا أي استنباط منها، ولا أي فائدة، وإلا لكان في ذلك نوع من القصور أو النقض الذي لا يتصور، فكل ما في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام له فائدته، سواءً كان للفرد أو للأمة، وسواء كان في وقت معاصر أو في وقت لاحق؛ ولذلك كل يأخذ من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام ما يحتاج إليه، فمن كان يحتاج إلى التربية، أو الموضوعات الاجتماعية والأسرية، فليأخذ من النبي عليه الصلاة والسلام جانب الأبوة، وجانب الزوجية، وغيرها من الجوانب، وكذلك بالنسبة لهذه الأمور المسئول عنها، فمن كان في بلاد كفر فإن له من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام صوراً للتعامل، ومن كان في بلاد يضطهد فيها الدعاة فله من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام ما يمكن أن يستنبطه، وأن يستفيده، ومن كان في بلد فيها راية الإسلام خفاقة، وشريعة الله تعالى مصدقة معلنة فهو يستفيد من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام ما يناسب أمره، وكل السيرة بمراحلها لا ينقضي الانتفاع منها.(142/25)
كيفية التعامل مع من صد عن سبيل الله
السؤال
هل يقوم الجهاد ضد من يصد عن تبليغ الدعوة، أو يقف ضد دعاة الإسلام؟ وأي نوع من أنواع الجهاد يكون؟
الجواب
لا شك أن كل صاد عن سبيل الله ينبغي أن توجه له الدعوة هو نفسه؛ لأنه إن كان من المسلمين فينبغي أن يكون من المدعوين، وينبغي أن ندرك أمراً مهماً، وهو أن أصل توجه المسلمين لجهاد أعدائهم أنهم يقومون بدعوتهم إلى الله عز وجل، فأصل الإسلام وواجب المسلمين أن يدعو غير المسلمين، فنحن نريد للكافر أن يسلم، فكيف بالمسلم إذا كان مخالفاً؟! فنريده أن يزيل مخالفته.
فالصاد عن دعوة الله عز وجل، أو الواقف في طريق الدعاة ينبغي أن توجه له الدعوة، وأن يبصر بخطورة ومغبة هذا الأمر، وبالخير الذي يرتجى له وللناس إذا نصر هذا الدين، ونصر حملته ورافعي رايته، وبعد ذلك لا شك أن إنكار المنكر، وإبطال الباطل أمر مطلوب، لكنه يخضع لضوابط شرعية تتعلق بتحقيق المصلحة، فإن كان الأمر يترتب عليه ما هو أكثر ضرراً منه فتركه واجب، وفعله محرم، وإن كان الفعل الذي تقوم به من إنكار المنكر سيترتب عليه صلاح وإصلاح، ويزول المنكر والفساد فالفعل واجب والترك محرم، وإن كان الأمر مستوياً فإنه -كما ذكر ابن القيم وغيره- يكون راجعاً إلى اجتهاد المحتسب بحسبه، فإن غلب هذا على هذا فله أن ينكر الباطل، وله أن يتركه، وتركه ليس إقراراً له، وإنما تركه رعاية للمصلحة، وخوفاً مما هو شر منه.(142/26)
آخر أخبار إخواننا في البوسنة والهرسك
السؤال
ما هي آخر أخبار إخواننا في البوسنة والهرسك؟
الجواب
قد ذكرنا في الدرس الماضي خلاصة جيدة ونافعة في ذلك إن شاء الله، وأما الأخبار الأخيرة فهي أيضاً جيدة والحمد لله، ففي أخبار اليوم أن هناك هدوءاً نسبياً في القتال، وأن هناك قتالاً مستمراً في الشمال بين الصرب والكروات، نسأل الله عز وجل أن يزيده، وأن يمد في أمده ومداه؛ حتى يكون ذلك إبطالاً لقوتهم، وإفناءً لها فيما بينهم، وأما المسلمون فقد أعلن رئيسهم في الوقت الأخير: لسنا في وضع مضى أفضل منا في هذه الأوضاع، فنسأل الله عز وجل أن يعينهم، وأن يثبتهم، وأن ينصرهم، إضافة إلى أن الوقائع تكشف كل يوم مزيداً من تآمر المتآمرين.
وفي الأخبار الأخيرة: أن الدول الأوروبية تريد أن تعزل مبعوثها السابق؛ لأنه فشل في التوصل إلى اتفاق، وفي الحقيقة أنه كان عاملاً من عوامل الفتنة، وعاملاً من عوامل العداء والمصائب التي حلت بالمسلمين، وهذا يثبت فشلهم، ويثبت أن هذه الصور إنما هي نوع من تغطية العورة، فالإنسان إذا كشفت عورته، فإنه يريد أن يغطيها بأي شيء، ولكن في حقيقة الأمر قد بان الحق والنور لذي عينين، وعرف المسلمون حقيقة أعدائهم، والمسلمون من إخواننا هناك قد أدركوا طبيعة الصراع والمعركة، وتشبثوا بهويتهم، ووحدوا صفوفهم، وقووا أخوتهم، وعملوا على أن يظهروا في حياتهم التجاءهم إلى الله عز وجل، واستمساكهم بدينه سبحانه وتعالى، وهذه مبشرات يكون فيها الأمل والخير إن شاء الله.
نسأل الله عز وجل أن يثبتهم، وأن يعينهم، وأن يوفقهم، كما نسأله عز وجل أن يحقن دماء المسلمين في أفغانستان، وأن يبطل هذه الحرب الدائرة، وأن يحقق أسباب الوئام والقوة للإسلام والمسلمين، وأن يجعل الدائرة على الكافرين، وأن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(142/27)
الصوم طريق إلى الجنة
كثيرة هي الطرق الموصلة إلى الجنة، والصوم هو إحدى تلك الطرق الواسعة السريعة؛ وذلك لما يحمل في طياته من عبادات عظيمة، ولما جعل الله فيه من الفضل العظيم من رفع للدرجات، وتكفير للسيئات، وعتق من النيران، واستجابة للدعوات وغير ذلك.
ومن طرق الجنة العظيمة أيضاً الجهاد في سبيل الله، والإنفاق لوجه الله، وعلى كل فأبواب الجنة كثيرة، والموفق من وفقه الله.(143/1)
وصف الجنة من القرآن والسنة
الحمد لله، الحمد لله يسمع من حمده، ويطمئن من ذكره، ويزيد من شكره، ويعطي من سأله، له الحمد سبحانه وتعالى؛ شرح الصدور بالإسلام، ونور القلوب بالإيمان، وهدى البصائر بالقرآن، نحمده سبحانه وتعالى على فضله وجوده وكرمه في شهر رمضان، وعلى ما يسر فيه من البر والمعروف والإحسان، له الحمد جل وعلا كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، هو أهل الحمد والثناء لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه؛ فله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله، أرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين؛ فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثر به من بعد قلة، وأعز به من بعد ذلة، وفتح به قلوباً غلفاً، وأسمع به آذاناً صماً، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك؛ فجزاه الله خير ما جزى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أمنية الأمنيات، وغاية الغايات التي تتعلق بها قلوب المؤمنين، وتتشوق إليها نفوسهم وتنشغل بها أفكارهم، وتقضى في سبيل تحصيلها أوقاتهم، وتبذل لأجل بلوغها كل طاقتهم وإمكاناتهم، هي الجنة.
وما أدراك ما الجنة؟! تلك التي جعلها الله سبحانه وتعالى داراً للمؤمنين، ومثوىً للمتقين، والصوم طريق إلى الجنة؛ ذلكم أمر ينبغي الانتباه له ليتم الاغتنام على وجهه الصحيح، وليحيي في القلب والنفس من معاني التعلق بالجنة والجد في السعي إليها ما ينبغي أن يكون شعاراً ومناراً في هذه الفريضة الجليلة وهذا الشهر الكريم.
الجنة التي هي غاية الغايات وأمنية الأمنيات ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه حتى كاد أن يكون القرآن كله ترغيباً في الجنة وترهيباً من النار، والفوز العظيم هو مجرد النجاة من النار ودخول الجنة: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185]، ويقول الحق سبحانه وتعالى في مثل هذه المعاني الجليلة العظيمة: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:72]، ليس هناك فوز حقيقي، ولا كسب عظيم، ولا أمر يستحق أن يبذل له كل شيء مثل هذا الفوز بالنجاة الكبرى والغنيمة العظمى بدخول جنة الله سبحانه وتعالى.
الجنة وما أدراك ما الجنة، وما أدراك ما فيها من النعيم المقيم؟ روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، عن رب العزة والجلال تقدست أسماؤه وجل جلاله أنه قال: (أعددت في الجنة لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ثم قال صلى الله عليه وسلم: اقرءوا إن شئتم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17])، فهل هناك أعجب بل أعجز من هذا الوصف الذي مهما عظمت الأمنيات، واتسعت الخيالات، وتنوعت اللذات تقصر عن أن تحيط بشيء منه أو أن تقترب من ظلال حقيقته؟ (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، فليخطر بقلبك من النعيم أوسعه، ولتفهم ولتتعلق بالنصوص الواردة في الكتاب والسنة؛ فإن ما عند الله من النعيم أعظم من كل ما تجول به الخواطر، وتتعلق به النفوس والقلوب من تلك اللذات وذلك النعيم، وذلك لا شك أنه يهيج الشوق في قلب كل مؤمن إلى الجنة، ويبعث إلى التعلق بها، ويحث على السعي إليها.
والأمر أوسع من ذلك؛ ففي الصحيح من حديث سهل بن سعد ما هو من جوامع كلم المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث قال: (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها)، هذه الدنيا التي تتعلق بها قلوبنا، وتخطف أبصارنا، وتسبى نفوسنا، ونصطرع في ميادين المنافسة على أخذها ونيلها، موضع سوط واحد في الجنة خير من الدنيا وما فيها.
ويح الملوك، وويح الذين لا يكون لهم هم إلا دنياهم، وويح الذين تعلقت قلوبهم بهذه الدنيا يريدون أن يستكثروا منها ليكونوا أثرى الأثرياء وأغنى الأغنياء، فسوط واحد في الجنة خير من الدنيا وما فيها أعظم مما يملكه الملوك، ومما يحوزه الأثرياء، ومما يتسلط به أهل الدنيا كلهم من أولهم إلى آخرهم، فهل ثمة أعجب أو أعظم من ذلك؟ وامض كذلك لتستمع إلى ما هو أعظم وأجل في تلك الأوصاف العظيمة، بما ورد من حديث ابن مسعود عند البخاري ومسلم، وهو حديث عظيم قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها، وآخر أهل الجنة دخولاً فيها، رجل بعد أن قضى ما عليه من عذاب الله أدركته رحمة الله بتوحيده لله فأدخل الجنة، فلما دخلها رآها ملأى فرجع يخاطب ربه: يا رب! إني رأيتها ملأى -ليس فيها موطن له ولا مكان يضمه- فقال الله جل وعلا له: ادخلها ولك الدنيا وعشرة أمثالها، فيقول العبد: أتهزأ بي يا رب؟ فيضحك الرب سبحانه وتعالى)، ويضحك الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يروي هذا الحديث.
أفلا يكون ذلك صارفاً للقلوب عن تلك الشهوات والملذات التي لا يمكن بحال من الأحوال لمؤمن عاقل أن يقيسها أو يزنها أو يقارنها بشيء ولو يسيراً من مثل هذا الذي وعد الله به عباده؟! وتأمل في هذه المعاني والنصوص وامض معها.
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه وصف أختم به بعض هذه النصوص، وهو يصف جنة الله سبحانه وتعالى: (لبنة من ذهب ولبنة من فضة، ملاطها مسك الإذفر -والملاط هو ما يوضع بين اللبنات لتتماسك- وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، ولا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم)، وصدق الحق سبحانه وتعالى وهو يقول: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان:20].
رمضان موسم الخير الأعظم، والصوم طريق إلى جنة الخلد بإذن الله، فلندرك هذه الخصائص في هذه العبادة حتى ندرك عظيم منة الله علينا، وحتى نعرف فضله سبحانه وتعالى علينا، وحتى نلتفت إلى تقصيرنا وتفريطنا، وحتى لا نظن أننا قد قمنا بعمل كثير، وأننا سعينا السعي الكافي، واجتهدنا الجهد اللازم لنحصل هذه السلعة الغالية، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة.(143/2)
طرق الصوم الموصلة إلى الجنة(143/3)
الوقاية والمباعدة من النار
الصوم أيها الأحبة طريق للجنة، ووجوه ذلك كثيرة: وحسبنا تلك الآية التي صدرنا بها حديثنا: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185] و (زحزح) أي: كأنما كان يخرج من النار بشيء من الثقل لا يتحرك إلا قليلاً قليلاً، فكيف بك والصوم يدفعك دفعاً، ويبعدك مسافات هائلة عن النار؟ نسأل الله عز وجل أن يقينا وإياكم عذابها وحرها.
هذا حديث أبي سعيد في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً)، سبعين عاماً، وذلك أمد عظيم ليوم واحد يصام في سبيل الله، وسياق هذا النص لا ينبئ أن المراد هو صوم الفريضة بل صوم النفل، فما ظنك بصيام أيام رمضان -شهر كامل- تخلص فيها لله وتصومها في سبيل الله، كم يباعدك ذلك من النار؟ أما الوقاية فقد روي عن جابر بسند حسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الصيام جنة يستجن بها من النار) رواه الإمام أحمد والبيهقي في شعب الإيمان.
قوله: (جنة يستجن بها من النار) أي: درع وحصن ووقاية تسلمك وتؤمنك بإذن الله عز وجل من عذاب النار.
وفي حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصوم جنة من عذاب الله) رواه الإمام أحمد في مسنده، والنسائي في سننه، وابن خزيمة في صحيحه.
تأمل هذا المعنى؛ أفتكتفي من بعد أن يكون حظك من الصوم شهر رمضان، وأن يكون صومك في رمضان فيه تفريط وتقصير، فتفوتك تلك الوقاية والحماية، وتفوتك تلك المفاوز التي تبتعد بها عن سخط الله وعذابه في جهنم؟ نسأل الله عز وجل أن يقينا عذابها وحرها.(143/4)
التهيئة والمقاربة للجنة
ومن جهة أخرى: التهيئة والمقاربة إلى الجنة، فكما أن هناك مباعدة عن النار فثمة مقاربة للجنة تختص بهذا الشهر الكريم وهذه الفريضة العظيمة، فما أحرانا أن نجد ونجتهد.
تأمل كذلك ما رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن إلا ابن ماجة، وهذا لفظ الترمذي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار؛ وذلك في كل ليلة)، أفليس واضحاً أن للصوم صلة عظيمة بدخول الجنة والقرب منها، والتعرض لأسباب دخولها، والتقرب إلى الله عز وجل بما يمن به على عبده بدخول جنته، وحصول رضوانه، والعتق من نيرانه؟ أبواب الجنة مشرعة مفتوحة، ومعنى ذلك أن نسمات الخير، وبرد الجنة، ولذة ما فيها من النعيم يكاد أن يلامس وجوهنا، ويخالط نفوسنا، ويداعب خواطرها، ويجعلنا كأنما نريد أن لا يختم هذا الشهر إلا وقد صرنا من أهل الجنة ومن العتقاء من النار؛ نسأل الله عز وجل من فضله.
أفليس هذا ينبغي أن يكون حاضراً في قلوبنا وأذهاننا؟ أفليس حرياً بنا أن نعيده ونكرره في مجالسنا وبيوتنا بدلاً من لغو القول وسفساف الحديث وأعمال أخرى نسأل الله عز وجل أن يبرئنا منها، وأن يبعدنا عنها؛ إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.(143/5)
الاختصاص بباب الريان للصائمين
كلنا يحفظ حديث سهل بن سعد رضي الله عنه في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة باباً يقال له الريان، يدخل منه الصائمون، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل فيه غيرهم).
لماذا؟ أجاب أهل العلم عن ذلك: لما كان الصوم عبادة سر بين العبد ومولاه ليس فيها مدخل لرياء، وفيها تخلٍ عن الشهوات والملذات ابتغاء وجه الله، وفيها تحمل وصبر ومشقة ابتغاء التحقق بطاعة الله، ولما كان فيها مجاهدة للنفس، وكبح لجماحها، وإسلام لقيادها، وقوة في سيرها نحو طاعة ربها؛ كان ذلك الجزاء من جنس العمل، {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60].(143/6)
الصوم موسم لتكثير الحسنات وتكفير السيئات
نمضي عن طريق الصوم إلى الغفران والتكفير، ورمضان وفريضة الصوم وموسمه أطول مدة وأعظم موسم فيه تكثير للحسنات، وتكفير للسيئات: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
(من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
(من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).
(ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن من الخطايا ما اجتنبت الكبائر).
وفي حديث حذيفة أن الفتن يكفرها الصوم والصلاة والصدقة.
فما أعظمه من موسم، وما أجلها من عبادة يمحو الله بها ما سلف من كثير الخطايا، وعظيم الذنوب التي أثقلت كواهلنا وسودت صحائفنا، نسأل الله عز وجل أن يبيضها، وأن يمحو ما سلف من تلك الآثام، وأن يعيننا على الاستقامة على الطاعات والصالحات.(143/7)
الصيام والقيام والقرآن
وإذا مضينا وجدنا سبباً آخر، وهو عظيم جليل يحتاجه المؤمن؛ {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]، يوم يطلب الإنسان ويبحث يمنة ويسرة في يوم القيامة، يوم الحشر، يوم المشهد الأعظم والهول الأكبر؛ هنا نتذكر الصيام، عندما نتذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص عند الإمام أحمد في مسنده، والطبراني في معجمه بسند صحيح، قال عليه الصلاة والسلام: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب! منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن: أي رب! منعته النوم بالليل فشفعني فيه؛ فيشفعان فيه).
والصيام والقيام بالقرآن كلاهما في رمضان، وهما من أسباب الشفاعة المنجية بإذن الله عز وجل من عذاب الله والمفضية بإذن الله إلى نعيم الله، أفلا نستكثر من ذلك؟ أفلا نجتهد في الطاعة؟ أفلا نخلص في النية؟ أفلا نتحرى التشوق والتطلع إلى كل ما فيه مرضاة لله عز وجل وطاعة له، وإقبال عليه وتعلق به، وخوف منه، وتوكل عليه، وتقوى له، وإنابة إليه؟ أفهذا كله مما نعلمه ونقرؤه ونسمعه ونحفظه، ثم يكون حال كثير منا في رمضان غفلة ونوم بالنهار وسهر ولهو بالليل، وشاشات عاهرة داعرة، وأغان فاضحة ماجنة، وأحوال من الصفق بالأسواق لا تسر مؤمناً، نسأل الله عز وجل السلامة.
أفبعد أن يفيض الله علينا كل هذا الخير، ويبشرنا النبي صلى الله عليه وسلم بكل هذا الفضل؛ تكون القلوب عنه معرضة بسفساف الدنيا وشهواتها منشغلة ملتهية؟ أفليس ذلك مما يعظم حزن المؤمن على نفسه وحاله مع فضل الله الذي يسوقه ويبسط به يديه جل وعلا وهو الغني عن عباده، ثم لا يكون هناك إقبال مناسب ولا اجتهاد مكافئ، ولا حرص يدل على تغلغل معاني هذه النصوص في القلوب والنفوس؟(143/8)
الدعوة المستجابة للصائم
وفوق ذلك كله أيضاً باب عظيم من أبواب الجنة مرتبط بالصوم وخاص به، وذلك في الدعوة المستجابة، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة: (ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يفتح الله لها أبواب السماء ويقول: لأنصرنك ولو بعد حين)، رواه الإمام أحمد والترمذي بسند حسن، وفي حديث عبد الله بن عمرو: (إن للصائم عند فطره دعوة لا ترد).
فهذه دعوة مقبولة مجابة بنص حديث الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ونحن أهل إيمان ويقين بأن ما أخبر به عليه الصلاة والسلام هو كما أخبر به.
وخذ ما يبشرك ويجعلك لا تنسى حظك من الدعاء والفوز بالجنة في شهر الصوم، وإدراك هذه الفضيلة، تأمل هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من رواية أنس عنه عليه الصلاة والسلام قال: (ما سأل الله أحد الجنة ثلاثاً إلا قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة، ولا استجار رجل مسلم من النار ثلاثاً إلا قالت النار: اللهم أجره مني)، رواه أحمد وابن ماجة وابن حبان في صحيحه.
أفلا نكثر من الدعاء بدخول الجنة والنجاة من النار؟ وفوق ذلك أيضاً خذوا من هذا الباب مزيداً من الفضل، وهي دعوات خاصة بك أيها الصائم في بعض أحوالك، تدعو بها الملائكة المقربون الذين: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، والذين: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20].
هذا حديث أم عمارة الأنصارية: (جاء إليها النبي صلى الله عليه وسلم فقدمت له طعاماً، فقال لها: كلي، فقالت: إني صائمة، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الصائم تصلي عليه الملائكة إذا أكل عنده حتى يفرغوا، أو ربما قال: حتى يشبعوا).
وفي رواية: (الصائم إذا أكل عنده المفاطير صلت عليه الملائكة)، رواه الترمذي بسند صحيح.
ملائكة الله تدعو لك وتستغفر، ودعاء الملائكة وما أدراك ما دعاء الملائكة؟ هذه كلها بشريات خير تدلنا على أن هذه الشعيرة عظيمة، وأن هذا الزمان أعظم مواسم الجنة التي تقربنا إليها وتدنينا منها، وتيسر لنا سلوك الطريق المفضية إليها، وتجعلنا بإذن الله عز وجل في أحسن الأحوال التي نكون فيها أقرب من ربنا، وأكثر ما نكون استحقاقاً لرحمته وفضله وجوده وكرمه بالعتق والنجاة من النيران، والدخول إلى الجنة والنعيم المقيم فيها.(143/9)
طرق أخرى للجنة
لعلي أختم هذا المقام بالحديث عن غير ما يدخل الجنة سوى الصوم، حتى لا يظن ظان أن الجنة عربونها هو الصوم فقط؛ فإن الأمر أوسع من ذلك وإن كان يسيراً بإذن الله عز وجل، فالفرائض هي العمد كلها، فلا ينبغي أن يكون صوم بلا صلاة، ولا صوم وصلاة ثم تشح النفس فلا تخرج الزكاة.
ومثل ذلك الحج كما نعلم من حديث جابر رضي الله عنه، عن الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أرأيت إذا صليت المكتوبات، وصمت شهر رمضان، وأحللت الحلال، وحرمت الحرام، أأدخل الجنة؟ قال: نعم، فقال الرجل: والله لا أزيد على ذلك شيئاً).
وأوسع من هذا وأشمل وأجمل: حديث معاذ لما كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم، فاستغل تلك الرفقة العظيمة، والتفت سائلاً عن أعظم ما يسأل عنه المؤمن، وعن أهم ما يشغله، فقال: (يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: كف عليك هذا، وأمسك بلسان نفسه عليه الصلاة والسلام، قلت: يا رسول الله! أو محاسبون بما نتكلم به بألسنتنا؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس على وجوههم أو على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم؟).
فما أحرانا أن نعرف هذا الفضل في هذا الشهر، وأن نستكمل الفرائض حتى يأذن الله عز وجل برحمتنا، ويمن علينا بفضله وجوده وكرمه فيعتق الرقاب من النار، ويمن علينا بدخول الجنان، نسأل الله عز وجل من فضله، ونسأله سبحانه وتعالى من رحمته ولطفه، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(143/10)
الجهاد طريق إلى الجنة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وهذه فريضة التقوى، وهذا شهر التقوى، وما لم نذكره من تعلق الصوم برمضان كثير وجدير بالعناية والاهتمام؛ فشهر رمضان شهر القرآن، والقرآن هو الطريق إلى الجنان، وشهر رمضان فيه من الخصائص الأخرى ما له تعلق بهذا الأمر، غير أني أقف الوقفة الأخيرة في هذا المقام حول طريق آخر للجنة.
فإن من أعظم ما ينال به العبد المؤمن المراتب العليا في الجنان هو الجهاد في سبيل الله، والاستشهاد في سبيل الله، ولعلي هنا إنما أريد أن أذكر نفسي وإخواني بأن من إخواننا المسلمين المؤمنين من يجمعون من الخير أكثر مما نجمع، ومن لهم رغم ما في أحوالهم من الشدة والكرب العظيم ما قد يكونون به في خير أكثر وأعظم منا؛ ما قولكم فيمن يجمع بين صيام وشهادة؟ أفلسنا في كل يوم نسمع عن إخواننا في أرض فلسطين ذاك يقتل، وذاك يهدم بيته فوق رأسه؟ يمضون إلى الله عز وجل إن شاء الله شهداء صائمين فيكون فطرهم عند الله في الجنة، أفليس هذا أمراً جديراً بعنايتنا ورعايتنا؟ أفلسنا نتذكر أحوال غيرنا من إخواننا ونحن في أمن عظيم، وفي نعمة كبيرة، وأحوال كثيرة تجعلنا قادرين على أن نفعل وأن نبذل ما قد لا يتاح لغيرنا؟ أذكر فقط بعض ما هو منشور من الأحوال والأخبار عن بعض الأسر المسلمة في فلسطين، وهي تصوم هذا الشهر بعد أن فقدت قبله بأيام أو أشهر قليلة عائلها وربها والقائم على شئونها، هل فكرنا ما هي أحوال الصغار من الأبناء والبنات؟ ما هي أحوال الزوجات المكلومات؟ والأمهات الثكالى؟ هل نفكر في ذلك؟ لنستمع لقصة واحدة: عبد الله السبع سبع من السباع الفلسطينية القوية الفتية، حاصره اليهود عليهم لعائن الله وهم يريدون منه أن يخرج حتى يهدموا بيته، لكن أبت عزة إيمانه، وحمية إسلامه، ونخوة نفسه، وقوة بدنه إلا أن يجابههم حتى خر شهيداً بإذن الله عز وجل، دفاعاً عن عرضه وماله وداره، وقبله بأحد عشر يوماً فقط كان ابنه الأكبر مصعب قد مضى شهيداً على أيدي اليهود الخونة المجرمين عليهم لعائن الله، واستقبلت الزوجة الفاقدة لزوجها وابنها الأكبر هذا الشهر وهي تروي قصتها وتقول: في أول ليلة من الليالي التي أعلن فيها عن قدوم رمضان، وقبل أن نتناول السحور قدم إلي الأبناء وعانقوني وهم يبكون يتذكرون رمضان الذي مضى بوجود أبيهم وأخيهم الأكبر، ثم لها ابنة صغيرة في السابعة من عمرها عندما جاءوا إلى الإفطار في أول يوم جعلت تنظر إلى بقية إخوانها وينظرون إليها، ثم يبكي الجميع تذكراً لأولئك الراحلين المفقودين.
هل نفكر أيها الإخوة ونحن نجتمع مع أسرنا على ما لذ وطاب من الطعام مع كثير من الإسراف والتبذير، أحوال إخواننا هناك أو في العراق أو الشيشان أو غيرها من البلاد التي يلقى فيها إخواننا الضر والأذى، ويواجهون فيها الظلم والبغي والعدوان على أيدي أعداء الله وأعداء دينه من اليهود وأحلافهم وغيرهم ممن يتعاون معهم؟ أليس ذلك كله جديراً بأن نعلم أن من الطرق الموصلة إلى الجنة الإنفاق في سبيل الله، وبذل المعروف، وإغاثة الملهوف، وأن هذه الأحوال ينبغي أن لا تنسينا أننا جزء من هذه الأمة، وأننا فرع منها، وأن كل فرد منا إنما هو بهذا الكيان العظيم وتلك الأمة العظيمة.
أيها الإخوة! حقيق بنا أن نعرف هذه الفضائل، وأن نعرف تلك المناقب لأولئك الذين يرفعون رءوسهم، ويقدمون صدورهم فداءاً لدينهم، ودفاعاً عن أمتهم، وحفظاً لأعراضهم، وإعزازاً لدينهم، ورفعاً لراية الله عز وجل لئلا تنكس.
هذه معان لابد أن نذكرها ونحن نذكر الجنة وطريقها، وطريق الجهاد والاستشهاد من أعظم هذه الطرق شاء من شاء وأبى من أبى، وللجهاد ميادينه المعروفة في أعداء الله عز وجل وفي الكافرين المحاربين لدين الله ولعباد الله، وليس من ذلك في شيء ما يعلن عنه اليوم والأمس من هذه الممارسات التي أسلفنا القول بأنها لا تتفق مع شرع الله عز وجل، ولا تترتب عليها إلا المصائب والرزايا والبلايا، ولا تكون بحال من الأحوال قريبة ولا ملامسة ولا مشابهة للجهاد في سبيل الله عز وجل، وذلك أمر قد أفضنا القول فيه، ولكنها تذكرة.
نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا الشهر الكريم شهر عبادة وإخلاص وتقرب إلى الله عز وجل وتقوى له، يعظم فيه إيماننا، ويزداد به يقيننا، وتكثر به خيراتنا، ونسأله سبحانه وتعالى أن يمن علينا بالمغفرة والقبول والرضوان والعتق من النيران، ونسأله جل وعلا أن يوفقنا لما يحب ويرضى.
ونسأله سبحانه وتعالى أن يرفع الظلم والضيم والأذى عن إخواننا المسلمين في أرض فلسطين والعراق والشيشان وكشمير وكل مكان، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا الشهر غياثاً لهم ورحمة لقلوبهم، وطمأنينة وسكينة لنفوسهم، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعله تثبيتاً لهم في مواجهة أعدائهم، ونسأله عز وجل أن يجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية.
اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا هداة مهديين، اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، نسألك اللهم العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا، اللهم أجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم سخر جوارحنا في طاعتك، واستعلمنا في نصرة دينك، واجعلنا ستاراً لقدرك في نصر الإسلام والمسلمين.
اللهم ثبت إخواننا المسلمين المجاهدين في سبيلك في كل مكان يا رب العالمين، اللهم أفرغ على قلوبهم الصبر واليقين، وثبت أقدامهم في مواجهة المعتدين، وحد اللهم كلمتهم، وأعل رايتهم، وقو شوكتهم، وسدد رميتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، وقرب اللهم نصرهم، وادحر عدوهم، واجعل نصرهم عاجلاً غير آجل يا رب العالمين.
اللهم عليك بسائر أعداء الإسلام والمسلمين من الظلمة والمعتدين، نسألك اللهم أن تقذف الرعب في قلوبهم، وأن تجعل الخوف في صفوفهم، وأن تزلزل الأرض تحت أقدامهم، وأن تأخذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم إنهم قد روعوا الآمنين، وهدموا البيوت على المسالمين، واغتصبوا الأرض، واعتدوا على العرض وانتهكوا المقدسات، اللهم فأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم، وأرنا اللهم فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، اللهم اشف فيهم صدور قوم مؤمنين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجليل: أبا بكر وعمر وعثمان وعلي؛ وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، وأقم الصلاة (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(143/11)
صرخة إسلامية وغضبة نسائية
عندما ينطق الرويبضة في أمر الدين والعامة فإنه يحصل جراء ذلك الفساد العظيم، والخطب الجليل، وإننا نرى أبواب وسائل الإعلام مفتوحة لكل فاسد ومنحرف وطاعن في ديننا، بينما توصد أمام دعاة الحق والفضيلة، فما من يوم إلا وتطالعنا هذه الوسائل بفاسد أو فاسدة يتكلم في أمور الدين بما لا يعرف، ويلوي أعناق النصوص أو يلغيها ليقرر انحرافه وفساده الذي أملاه عليه أعداء الإسلام من اليهود والنصارى وغيرهم.(144/1)
استنجاد المرأة المسلمة من دعاة التبرج والسفور
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا وقائدنا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإنني أسطر هذه الكلمات بحزن وبألم، وأشعر بعجز وأحس بتقصير، ولا أبالغ إن قلت: إنه ينبغي لنا أن نطأطئ الرءوس على فقدان أمر مهم، ألا وهو غيرتنا الإسلامية وحميتنا الإيمانية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يغضب لنفسه، لكن إذا انتهكت محارم الله غضب غضباً لم يغضب كغضبه أحد من الناس.
إنها صرخة إسلامية وغضبة نسائية، تحدثت بها امرأة يوم سكت كثير من الرجال، وصدعت بها امرأة يوم تأخر كثير من الرجال، ولقد حذرت من قضية اختلال الأمر في بلادنا، واختلال التطبيع الإسلامي، حتى يصبح ما هو إيماني إسلامي في بلاد الحرمين ومنبع الإسلام ومهبط الرسالة أمراً شاذاً مخالفاً، ويصبح هذا الشاذ المخالف لديننا بعد فترة من الزمن مألوفاً مقبولاً.
وأتركك -أيها القارئ- قليلاً لنستمع إلى كلمات هذه الصرخة الإسلامية والغضبة النسائية، التي جاءت بعد توالي أحداث تنتظم في سلك واحد، يوجه إلى نسائنا المؤمنات في بلاد الحرمين خاصة، ويزعزع البنيان الإيماني والكيان الإسلامي من خلال التماسك والترابط الاجتماعي الأسري.
سأمضي مع هذه الصرخة وأعود من بعد إلى واقعها، واعذرني ابتداء إن خرج الحديث عن سياقه المعتاد وانضباطه المألوف، فإن في المسألة والحقيقة ما قد يؤدي إلى ذلك.
تقول هذه الصرخة النسائية: كل يوم تفجعنا صحافتنا حتى بتنا لا نثق بها ولا نحترمها، كل يوم يطالعنا مقال يسيء للنساء في بلاد الحرمين، فهذه صحيفة تصف عباءاتنا بأنها أكياس فحم، وتلك تصفنا بالنعاج، تركنا الصحف لهم وتركنا قراءة مقالاتهم، فبدءوا يطلون علينا في الشاشات، يخرج نساء ويتحدثن باسمنا وعلى ألسنتنا، تأتي امرأة متبرجة معترضة على الأحكام الشرعية، وتقدم على أنها امرأة سعودية ونموذج لنساء الحرمين، حتى طفح كيل النساء المسلمات العفيفات فصرخن مثل هذه الصرخات.(144/2)
أثر الإعلام في تشويه المرأة المسلمة وقلب الحقائق
تقول الصارخة المؤمنة: المتحدثات بألسنتنا قلة من البنات، بل إنهن في حكم الشاذات، إنهن يسعين لهدم الدين والتقاليد والعادات، والسبب أن الإعلام معهن وفي صفوفهن، ثم تبكي وتقول: ما أقسى كلمة التخلف والرجعية والتقليد إذا قالوها وهم يقصدون المرأة المسلمة المتحجبة العفيفة المصونة! وكل يوم يكتبونها ويقولونها دونما رادع أو مانع، ويحق لهم؛ لأن من أمن العقوبة أساء الأدب.
تأتي واحدة -كما تقول الكاتبة- فتحرض بناتنا على اختراق المجتمع وسياسة الدولة، وتأتي أخرى فتتهمنا بأننا نريد الفساد والتخلف، وكلامها يوحي بأننا ضعيفات وجاهلات ومتخلفات وأن لدينا ازدواجية.
كيف نسكت على من تقول: بأن الجنة والنار والآخرة أشياء لا وجود لها؟! ولقد أضنيت نفسي في البحث عن صحة هذه المقالة، فوجدتها بنصها على قناة للدولة، ومثل هذه المقالة تستهدف ديار الإسلام على وجه العموم، وديار الإسلام في بلاد الحرمين على وجه الخصوص.
تقول هذه المرأة المنحرفة على هذه القناة: إن (المطاوعة) -أي: الدعاة والعلماء- يخوفوننا ويربطون الحجاب بالجنة والنار والآخرة، وهذه أشياء لا وجود لها أصلاً.
تمضي هذه المرأة المسلمة الغيورة متسائلة: متى ستحاسب مثل هؤلاء النساء المنحرفات؟! ثم تقول من بعد مخاطبة المسئول الأول في بلادنا: أنت تحبنا وتعبر عن هذا الحب لنا، ولا نشك في ذلك أبداً، لكننا نريد البرهان اليوم، فإذا كنت تحبنا فهل ترضى أن يؤذينا أحد؟! أسألك بالله هل سترضى لنا بالأذى؟(144/3)
دور الإعلام في إبراز الفاسدات في صورة القدوات
تنقلنا إلى الحقيقة المهمة، إلى التطبيع الإسلامي الذي ذكرته، حيث تقول: إن امرأة أو عشراً من النساء أو مائة أو ألفاً لا يعبرن عن ملايين من النساء هن نصف مجتمعنا صينات عفيفات مخدرات، قائمات بإيمانهن عاملات بإسلامهن، منشغلات بدعوتهن، مربيات لأبنائهن، عالمات متخصصات في مجالاتهن.
أقول: إنه الإعلام يجعل الواحد بألف وآلاف، إنها الكلمة التي تكتبها الكاتبات فتطير في شرق الأرض وغربها، وأمثالنا صامتون ساكتون، وربما لا يجيدون هذا الفن، أو إذا أرادوا الظهور في تلك الشاشات أو الكتابة على تلك الصفحات حيل بينهم وبين ما يشتهون.(144/4)
الحقيقة الغائبة
هذه امرأة تعبر عن حقيقة تلمسها، وعن واقع تعيشه، عن أمثلة حية نراها بأعيننا، تقول لنا عن نساء هذه البلاد الطاهرات: ما رأيت امرأة اشتكت من السعادة والاستقرار وراحة البال؛ لأن المرأة المسلمة فرحة بدينها، راضية بإيمانها، مستقرة ومحبة لزوجها، حنونة على أبنائها، ملكة في بيتها، قائمة بواجبها.
والمفسدون يقولون: إنها مغلوبة على أمرها، إنها مقيدة تريد التحرر، إنها مكبلة تريد الانطلاق.
لكن نساءنا يقلن غير ذلك، تقول: كلا، فهم يريدوننا بالقوة أن نشتكي من الفضيلة والشرف الذي يمنحنا إياه الحجاب الذي فرضه الله علينا.
وتخبر عن نسائنا فتقول: العاقلات منهن في ازدياد، ولا يغرنكم البنات في الأسواق، فإن الماكثات في البيوت آلاف الأضعاف، ما رأيت مثل إقبالهن على الله، لو رأيتم صفوفهن في المساجد في رمضان، والبنات في المدارس ينتظرن الندوات ويخشعن أمام المحاضرات، ويقبلن على القرآن بشغف وشوق، وهن في أوج المراهقة، وكان عدد المعتكفات في هذه السنة في مسجد الملك خالد في الرياض في حدود ثمانين معتكفة اعتكافاً كاملاً، نصفهن شابات في ربيع العمر.
لقد أظهرت غيظها وحنقها على أولئك الإعلاميين الذين يقلبون الحقائق، وأظهرت حقيقة الأمر حيث تقول: أغلبيتنا الساحقة داعية مثقفة محترمة، تعرف المؤامرة، وتدرك خطورة الانسياق وراء الغرب من بعض شعوب العرب.
إنهن يدركن المآل الذي نراه اليوم في بلاد مسلمة لديها تصريحات لممارسة البغاء والزنا، وبلاد عربية مسلمة فيها ملاهي الليل التي تحتسي فيها الخمور، والتي تدار فيها الكئوس وتتعرى الأجساد، ليست هذه المظاهر في بلاد غربية أو غير مسلمة، بل هي في بلاد المسلمين، ترونها كلما سافرتم، وتسمعون عنها وتعلمونها يقيناً، وبعض الناس يقارننا ببلاد تقرب منا بمسافات قصيرة، وكأن الجغرافيا هي التي تفرض العقائد وتفرض الشرائع والدساتير والأخلاق والقيم، وكأننا نقتبس من أي أحد، وكأننا في أعماق الجب نريد من يخرجنا، وكأننا في غياهب الظلمات ننتظر من ينير لنا الطريق، وكأنه ليس بين أيدينا كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هناك تاريخ عظيم لنساء مؤمنات مسلمات عالمات على مر التاريخ الإسلامي.
ثم أعود مرة أخرى لندائها وهي تخاطب المسئولين في بلادنا فتقول: لابد للدولة من أن تتدخل لإلجام ألسنة الكاذبات من النساء اللاتي يقمن بتشويه سمعة هذه الدولة المباركة أمام العالم.
تأتي هذه الصرخات الكلمات والمواقف لتصور لنا الحقيقة، وتبين لنا الخروقات التي يوشك أن تتسع على الراقع، وأول الغيث قطر ثم ينهمر، ومعظم النار من مستصغر الشرر، وإن الجبال من الحصى.(144/5)
شبه المفسدين والمنحرفين حول الحجاب وغيره والرد عليهم
مسألة خطيرة في بنائنا الاجتماعي، بل في معتقدنا الإيماني وفي التزامنا الإسلامي، تلك المتحدثة المنحرفة تقول: ما العيب في أن تكون العباءة ملاصقة للجسم؟ ثم تخاطبنا في مقالة وليست في مقابلة تلفزيونية بحديث خطير يمرر ويقر ويقرأ، ويجوس خلال الديار، تقول: في الآونة الراهنة تشتد حاجتنا إلى إجراءات سريعة وحلول فاعلة، تقلل من احتمال تفاقم الميل إلى العنف عند الأجيال الجديدة.
إنها تريد أن تقدم لنا علاجاً لمشكلة العنف والإرهاب التي ركب موجتها كل أحد في قلبه غيظ على الإسلام والدين والعفة والحشمة، وفي فكره خلل.
ثم تعطينا بعض هذه الخطوات اللازمة حيث تقول: لابد منها وبسرعة شديدة، منها -على سبيل المثال لا الحصر- ضبط مرجعيات الإفتاء.
ولست أدري هل تريد أن تكون إحدى المفتيات، وهي تخبرنا عما هو موجود وما هو غير موجود! ثم تقول: وتغيير الخطب الدينية التي تلقى هنا وهناك في عرض البلاد وطولها.
أي خطب هذه التي تغير؟! هل سنتكلم بلسان غير لساننا؟ هل سنقرأ في المنابر نصوصاً من التوراة بدلاً من القرآن؟! وهل سنذكر سيرة غير سيرة محمد صلى الله عليه وسلم وأحاديثه؟! تريد تغيير الخطب الدينية في كل المساجد المؤسسة على التقوى في الحرمين الشريفين التي تنطق باسم المسلمين في كل مكان.
وتضيف قائلة: والبعد عن الاكتفاء بشجب التفجيرات واتخاذ الإجراءات الحاسمة.
وانظر إلى هذا القول: اتخاذ الإجراءات الحاسمة! وأقول: هل المراد اتخاذ الإجراءات الحاسمة تجاه المخدرات، وتجاه المسكرات، وتجاه العصابات، وتجاه الإجرام، أم تجاه أي تجمع ديني سواء كان لشباب أو على مستوى الندوات غير الرسمية التي تقيمها سيدات المجتمع في بيوتهن؟! تريد أن تقول: أيها النساء! لا تتحدثن في بيوتكن بآيات الله، ولا تقرأن أحاديث رسول الله، ولا تعظن أخواتكن؛ لأن ذلك فيه تغذية للإرهاب وزرع لبذور العنف! ثم تقول: إنها تريد الحسم ضد تجمعات النساء في بيوتهن.
وهذا من أعجب العجب، فكيف يسكت عنه؟! وكيف يمر دون حساب؟! وأحسب أن الأمر صار احتساباً تقدم فيه الدعارة في المحاكم؛ لأنه يتناولنا جميعاً بلا استثناء، ويتناول أخواتنا وزوجاتنا وبناتنا ونساء مجتمعنا وأحوالنا الطبعية، تلك هي بلاد الإسلام، الإسلام فيها في كل مكان وفي كل زمان وفي كل تجمع وفي كل بيت وفي كل مدرسة وفي كل جامعة، من أعجبه ذلك فليعجبه، ومن لم يعجبه فبلاد الدنيا كلها فيها من الفسق والعهر والفجور والكفر ما يكفيه ويكفي غيره من الآلاف.
فلماذا لا يريدون بلداً واحداً يبقى على طهارته وعفته وشرفه؟! لماذا يريدون أن يصلوا إلى معقل الإسلام وموئل الإيمان ومنبع الرسالة وبلاد الحرمين الشريفين؟! الأمر في هذا يطول والحديث فيه عظيم.
ثم تواصل أيضاً في قضية خطيرة، إنها ترى أن عندنا من الخطب والمحاضرات والمواعظ ما نحن في كفاية منه، فأوقفوه وأسكتوه ولا تزيدوا منه أبداً.
تقول: ليس الوقت بالملائم لتوعية أكثر في مجتمع متمسك بالإسلام وبتعاليم دينه؛ لأننا مسلمون متمسكون، فلماذا مرة أخرى تخطبون فينا؟ ولماذا تقولون المحاضرات؟ ولماذا تعدون برامج التوعية في المدارس والجامعات؟ وهذه المرأة تظهر متبرجة على الشاشات وتقول: يكفي فإن في مجتمعنا كفاية.
ثم ماذا تريد بدلاً عن ذلك؟ تقول: والتركيز عوضاً عن ذلك على إقامة مراكز للحوارات الدينية التي تتاح بها فرصة التحدث لكل الرؤى والمعتقدات.
فلنعقد في مساجدنا حواراً يكون المتحدث فيه يهودياً وإلى جواره نصراني وبينهما بوذي ليحدثونا عن أمورنا وعن شأننا، أليس هذا فحشاً من القول وشططاً؟ أليس حرياً بأن تكون هناك صرخات وغضبات عظيمة من معاشر الرجال قبل النساء؟!(144/6)
صور من تجاوزات المنحرفين المخالفة للدين والأخلاق
أيها الإخ الكريم! دعني أسرد لك جملة من الحوادث قريبة العهد، لتجمع بينها ولترى أن القضية ليست هينة، ولنعلم جميعاً أن الصفحة الأولى في كل جريدة الأصل أن يوضع في الركن الأيمن منها أو في صدرها الخبر الأساسي المهم، الذي غالباً ما يرتبط بحدث سياسي أو أمني خطير، لكننا نطالع في أكبر صحيفة عربية خبراً بصورته، ماذا يقول لنا؟ يقول: أول امرأة سعودية تشترك في سباق الراليات للسيارات.
إنه خبر مهم جداً حتى تصدر الصفحة الأولى بهذا العنوان! إنها امرأة سعودية لا تقود السيارة بل تشارك في سباق للسيارات، وتجرى معها مقابلة تقول فيها: إنها تعبر عن المرأة السعودية، وتفتخر بجسارتها وشجاعتها وأن أهلها لم يعارضوها، وأنها تأمل في المستقبل أن تشارك في السباقات العالمية لترفع اسم بلادها.
وغير ذلك مما تعلم.
وبعد ذلك بنحو أسبوع أو أسبوعين خبر آخر لامرأة سعودية تشارك في سباق آخر، وقبل ذلك بفترة أول امرأة سعودية تقود الطائرة، ولو بحثنا عن أول امرأة لوجدنا الكثير مما يبحثون فيه عن واحدة هنا أو هناك ثم يكون التسليط الإعلامي.
ووجه آخر، وهو إظهار هؤلاء النساء على أنهن يمثلن نساء بلادنا، وجلهن لم يعشن في هذه البلاد.
ولقد أتوا إلينا بامرأة عاشت ثلاثين عاماً في أمريكا، وهي تعيش حياتها متحررة من تعاليم دين الإسلام وضوابط الأخلاق، وجيء بها لتقدم محاضرة وهي سافرة متبرجة وتقول: إنها تعتز بانتسابها لهذه البلاد وتمثل المرأة المسلمة السعودية فيها.
ومثل هؤلاء النساء كذلك كلهن أقمن عشرات السنين خارج بلادنا، ثم يقدمن على أنهن النموذج الأمثل الذي يضرب للمرأة في بلادنا!!(144/7)
صور من حياة المرأة الغربية
أنتقل إلى ومضات أخرى ليست لنا، ولكنها لأولئك المفتونين والمأجورين الذين يتكلمون بلسان غيرهم، ويمررون مخططات غيرهم، ويأخذون ما يأخذون لأغراض لم تعد تخفى على كل صاحب عقل.
وفي صحيفة شهيرة أهدي لك هذه الإحصاءات لتهديها إلى أولئك المغرورين والمغرر بهم، فقد أجري استفتاء ودراسة على النساء في بريطانيا، ولا أحسب أحداً يمكن أن يتهم هذه الدولة بأنها منغلقة فكرياً، وأن نساءها معقدات، وأن رجالها على النساء متسلطون، لا أحد يتهمهم بذلك، ففي دراسة أجريت على ألف وخمسمائة امرأة، وظهرت النتائج أن (68%) من الشابات البريطانيات لا يشعرن بالرضا عن الحياة التي يعشنها.
نقول لهؤلاء المغرورين والمفتونين: فهل تريدون أن نصل إلى ذلك بنسائنا وأخواتنا وبناتنا؟! المرأة المسلمة تقول: إنها مطمئنة مستقرة، يفيض بريق الفرح من عينيها عندما ترى أبناءها حولها، وتشع ابتسامة الرضا على ثغرها عندما تستقبل زوجها.
وهناك إحصاءات أخرى تقول: إن (63%) من النساء في الغرب يردن تغيير ظروف حياتهن، (67%) يشعرن بأنه ليس لهن أهمية تذكر في مقابل المشاهير.
وانظر إلى الإحصاءات العجيبة، فهناك ما هو أعجب، فواحدة من أصل عشر نساء في الغرب قالت: إنها لا تريد العمل بدوام كامل وترك أولادها في الحضانة.
و (25%) يقلن: إنهن يرغبن في البقاء في المنزل للاهتمام بالأطفال.
ولو قالت امرأة من نسائنا اليوم ذلك لقيل لها: ما زلت متخلفة رجعية تريدين أن تحبسي نفسك في بيتك.
وهذه إحصائية في بلد غربي تقول: إن (70%) من النساء يقلن: إنهن لا يردن العمل مثل جيل أمهاتهن.
و (1%) فقط منهن قلن: إن مسيرتهن المهنية ستبقى تتصدر أولوياتهن بعد إنجاب الأطفال.
وفي دراسة أخرى أيضاً في ذات البلد على الفتيات المراهقات في سن الخامسة عشرة على عينة قدرها ألفا فتاة، منهن (35%) لا يشعرن بسعادة، فإن كانت في هذا السن لا تشعر بسعادة فما مصيرها؟! فبعد أعوام ستنتهك فيها عفتها، وتسلب حريتها، وتشتغل وتكد وتعمل، وتكون لقمة سائغة للذئاب البشرية من الرجال.
ثم تقول الإحصائية: إن (10%) منهن يقلن: إن الحياة لا تستحق مثل هذا المجهود، و (50%) يقلن: إن الضغوط التي يواجهنها أكبر من قدرتهن على الاحتمال.
والثلثان يقلن: إن حياة آبائهن وأمهاتهن كانت أسهل بكثير في وجهة نظرهن، و (37%) منهن لآباء وأمهات مطلقات منفصلات، أسر ضائعة مشتتة، و (32%) يشعرن بحب كبير من آبائهن، وخذ الباقي من هذه النسبة، وهي (68%) لا يشعرن بحب آبائهن لهن، و (94%) يشعرن بضغوط لكي يظهرن بصورة جميلة، أي: لابد للفتاة الغربية أن تظهر فتنتها وجمالها، فهي تحتاج إلى أن تشتري الملابس وليس لديها المال، وتحتاج إلى أدوات الزينة وليس عندها، فهي تشعر بالضغط النفسي الرهيب، بينما فتاتنا تلقي على نفسها حجابها وجلبابها وتخرج إلى أي مكان ونفسها مستقرة، وليس عندها مثل هذه الحروب النفسية والضغوط النفسية التي ابتلي بها نساء الغرب وصرن يجأرن من مرها وحرها وقرها.
وهناك كلية عريقة في بريطانيا خاصة بالبنات جاءتها ضغوط؛ لأنها كلية خاصة بالبنات، فأصرت على أنها ستبقى كلية خاصة للبنات، ولها قرن من الزمان وهي تمنع الاختلاط في هذه الكلية.
واليوم يقال: إن هذا ضرب من التخلف والرجعية.
وأحد الأجهزة في الاتحاد الأوروبي قام بدراسة اجتماعية إحصائية ميدانية عام (1999م) وتشمل هذه الدراسة ستاً وأربعين دولة، يبلغ إجمالي أعداد سكانها ثمانمائة وأحد عشر مليوناً من البشر، تقول هذه الإحصائية وهذه الدراسة: هناك انخفاض عدد الزواج في كل الأسر في هذه الدول إلا أربع دول شهدت ارتفاعاً طفيفاً من ست وأربعين دولة.
وتقول أيضاً: إن نصف النساء في سن الزواج لا يعقدن عقود زواج رسمية، بينما كان هذا العدد قبل ذلك (90%)، وأما الولادات خارج الزواج ففي ازدياد مستمر، وترصد في بعض الدول بـ (66%) من الولادات خارج نطاق الأسرة في أسكتلندا، و (50%) في النرويج، و (40%) في فرنسا، هل هذه قدوات نسعى إليها؟! هل هذه مجتمعات نريد أن ندخل في أتونها وحريقها ولهيبها؟! عجباً لأمر القوم، ولكنهم في كثير من أحوالهم مسيرون لا مخيرون.
وأقول أمراً أختم به في هذا المقام: إن هؤلاء حالهم كحال مثل ضربه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل رأيت النار إذا اشتعلت كيف تأتي إليها الفراش وتدخل فيها وتحترق؟ ذلكم هو الحال، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام ضرب المثل من نفسه فقال -كما صح في حديثه-: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، فجعل الفراش والهوام يقعن فيها، وجعل يذبهن عنها، فأنا آخذ بحجزكم من النار).
فيا أيها المسلمون! ذبوا عن نسائنا، وذبوا عن مجتمعاتنا، وذبوا عن ديننا، فلنحم أنفسنا من هذه النار المهلكة في الدنيا لننجوا من النار المحرقة والمهلكة في الآخرة.
أسأل الله عز وجل أن يحفظ علينا إيماننا وإسلامنا، وعفتنا وأخلاقنا، وشرف وحياء نسائنا.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(144/8)
دعوة إلى مواجهة دعاة السفور والمجون
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: فأيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، والتقوى هي الاستمساك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إن يقيننا بكتاب ربنا وسنة نبينا أعظم وأقوى وأثبت من أن تنال منه هذه الهرطقات وتلك الاعتداءات التي تهذي بما لا تعرف، والتي تناقض الواقع وتنقض الحقائق، ولكننا في الوقت نفسه ينبغي لنا أن ننتبه لهذه المخاطر الداهمة.
وإنني أشكر الصارخة المسلمة والغاضبة المؤمنة، ونحن معها جميعاً نرفع لولاة الأمر الرجاء بأن يضربوا بيد من حديد على أيدي المفسدين؛ لأن هذا هو الفساد بعينه، وهو الذي يسبب اضطراباً وفرقة في المجتمع، وهو الذي يوجد جذوراً لما قد يسمى بالعنف، ولنعلم جميعاً أن أحداً لا يمكن أن يسكت إذا رأى أن عرضه ينتهك، أو أن عفة نسائه تهاجم، أو أن خدر بيته يراد أن ينقض وأن يزعزع.
فالأمور أعظم؛ لأنها دين ندين الله عز وجل به، إن الحجاب ليس من عندنا ولا من بنات أفكارنا، إنه تنزلت فيه آيات القرآن الكريم: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31]، {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب:59].
إنه قرآن يتلى وأحاديث تروى: (ما تركت بعدي فتنة أضر على النساء من الرجال)، ثم تأتينا تلك وهذه وذاك وأولئك ليقولوا لنا أمراً يناقض ما قاله الله عز وجل وما قاله رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.
وهناك أمر آخر، وهو من الأمور المؤلمة المحزنة، ولعلي أختم به لأبقي الحزن والألم في القلوب، حتى لا نركن ولا نسكن، بل نتحرك ونغير لديننا ونناصح ونناشد وننبه ونحذر.
فهذا مركز يحمل اسم أم المؤمنين خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، كان فيه محاضرة سمع الناس الصدى العظيم الذي تركته اعتراضاً واحتجاجاً لما تضمنته من اعتداء على صحابي جليل، هو أعظم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثرة رواية الحديث عنه.
ويتجدد الأمر في ذات المركز وبلسان محاضرة من بلادنا ومن محافظتنا تقول في بعض تنبيهاتها للنساء: احذرن أن يذهب أبناؤكن إلى المساجد وتحفيظ القرآن لئلا يقعوا في اللواط! وانظر إلى العجب العجاب في الربط بين بيوت الله وكتاب الله وهذه الفاحشة الكبرى، فأي أمر هذا؟! وأي قول ورجم وقذف هذا؟! والأمر في هذا الشأن فيه خروقات، لكن هي قليلة وشاذة، ولا تعبر إلا عن قلة من الناس، لكن هذه القلة تكلمت وصمتنا، وظهرت واختفينا، وقالت وشاع قولها، ونحن إذا قلنا قيل: لماذا تتحدثون بهذا؟ وإذا غضبنا قيل: لماذا هذا التهييج؟ وأقول: عجباً! أينتهك ديننا ويعتدى على أعراضنا ويراد منا أن نضحك ملء أشداقنا، وأن ننام ملء أعيننا؟! إنها المفارقات العجيبة.
أسأل الله عز وجل أن يحفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، وأن يحفظ عليها أمنها وإيمانها، وسلمها وإسلامها، وأمنها ورغد عيشها، ونسأل الله عز وجل أن يصرف عنا كيد الفجار وشر الأشرار، وشر فتن ومحن طوارق الليل والنهار.
اللهم! إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم! تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم! إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم! احفظ نساءنا وأزواجنا وبناتنا، اللهم! جملهن بالحياء والعفة، واحفظهن بالحياء والحشمة، اللهم! من أرادهن بسوء فرد كيده في نحره، واشغله بنفسه، ولا تبلغه -اللهم- غاية، واجعله -اللهم- لمن خلفه آية.
اللهم! إنا نسألك أن تحفظ مجتمعنا من شرور الفساد والانحلال في الأخلاق، اللهم! يا أرحم الراحمين! يا رب العالمين! احفظ علينا إيماننا في قلوبنا، وإسلامنا في سلوكنا وأخلاقنا ومعاملاتنا، واحفظ عفتنا وحياءنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء.
اللهم! عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم! أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تغادر منهم أحداً.
اللهم! أرنا فيهم عجائب قدرتك وعظيم سطوتك، اللهم! إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك -اللهم- من شرورهم.
اللهم! لطفك ورحمتك بإخواننا المسلمين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم! امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم واحفظ أعراضهم واحقن دماءهم، وبلغهم -اللهم- فيما يرضيك آمالهم، واجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية.
اللهم! اجعل بلدنا آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، واحفظ -اللهم- أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم! وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء.
اللهم! أحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، وانصر -اللهم- عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام خصوصاً على أجلهم قدراً وأرفعهم ذكراً ذوي القدر الجلي والمقام العلي أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(144/9)
صور حزينة ومخاطر جسيمة
من أعظم المصائب التي حلت بالمسلمين سقوط بغداد بأيدي الأمريكان ومن تعاون معهم من الخونة والعملاء، وإن سقوط بغداد لهو بداية مسلسل أعدت حلقاته لينتهي بسيطرة اليهود على بلاد المسلمين دولة دولة، والقضاء على الإسلام في عقر داره، ولذا يجب على المسلمين حكاماً ومحكومين العودة إلى الله، وأخذ العبرة، والتنبه والحذر، والتعاون والتآزر ضد الأعداء.(145/1)
مأساة سقوط بغداد
الحمد لله، الحمد لله له الحكمة البالغة والرحمة الواسعة والنعمة السابغة، له الحمد جل وعلا سنته ماضية، ومشيئته نافذة، فله الحمد على ما قدر وأمضى، وله الحمد على ما أخذ وأعطى، وله الحمد على ما أزال وأبقى، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه على آلائه ونعمه التي لا تُعد ولا تُحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائد وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وكثرنا به من بعد قلة، وأعزنا به من بعد ذلة، وأرشدنا من بعد غواية، وبصرنا من بعد عماية، فأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].(145/2)
دعوة للمسلمين إلى الاتعاظ بسقوط بغداد
ألسنا نسمع اليوم بشكل مفصل وواضح عن ظلم نظام بغداد وما صنعه، وأن الأسباب التي أدت إلى ذلك هي كيت وكيت وكيت؟ ويعجب المرء! أليست هذه الأسباب موجودة هنا أو هناك بصورة قد تقل أو تكثر؟! أفلا ينطق لسان ليقول: بيدي لا بيد عمرو، ليكن تغييرنا بأيدينا، وليكن إصلاحنا من ذواتنا، ولتكن مراجعتنا قبل أن تأتينا الدواهي مرة أخرى، ونحن نعرف ونوقن أنها حرب لم تنته، وأنها مرحلة في بدايتها، وأن وراءها من الأهداف والخطط والأعمال ما وراءها مما يستهدف كل واحد منا في عقر بيته وفي فراشه الذي ينام عليه.
إنها ليست قضية هينة، ولا حادثة عابرة، ولا أسابيع ثلاثة، ولا قليل من هدم أو قتل أو تدمير، وإن كان المرء يعجب كيف يفرح أولئك الذين فرحوا وبجوارهم دماء إخوانهم وأقربائهم، وبجوارهم وعلى مرأى أعينهم دمار بلادهم؟! ولكنها المشاعر المتناقضة والأحوال المحيرة أحاطت بأولئك.
ولعلي هنا أيضاً أستحضر ما أسلفت القول فيه مراراً وتكراراً: الذين كانوا يقرءون أحاديث وأخبار الفتن، والذين كانوا يخدرون الناس بذلك الذي سيبطش بجيوش الروم، وسينهيها، وسيكون كذا، ويقع كذا، ويحصل كذا، ويرسمون صورة من خيال مريض وفهم سقيم ونفس منهزمة، ويضيفون إليها من أضغاث الأحلام وأخلاط الأقاويل ما يضيفون؛ ليكشفوا عن صورة من صور ضعفنا؛ لأننا تركنا ما بأيدينا من كتاب ربنا وسنة نبينا، وأردنا أن نبحث وننسق ذلك مع بعض الروايات الصحيحة وكثيراً من الروايات الضعيفة بل والموضوعة، بل ويضاف إلى ذلك أخبار من التوراة ومن الإنجيل والعهد القديم والجديد؛ لنقول: إن هذا هو الذي سيحدث؛ رجماً بالغيب، وتوهيناً للنفوس، ولعلها ليست المرة الأولى، بل قد سبقتها مرات! فهل ستعي الأمة وتعود من بعد لترسم صوراً أخرى، وتحدد تواريخ أخرى، وتعيد مرة أخرى غياب العقل وغياب القلب وغياب المنهج وغياب العمل الصحيح نحو ما ينبغي أن نواجهه تجاه أعدائنا، بدلاً من الكلام والتشقيق؟! ولعلي أذكر أيضاً القضية الكبرى التي تثار الآن، وهي: قضية الشعوب وآرائها وحرياتها وقدرتها على فعل ما ينفعها، وقدرتها على المشاركة في مصيرها، وكل الناس يتحدثون عن غياب دام نحو ثلاثة عقود في العراق، وأدى إلى مثل هذه المأساة أو كان سبباً فيها.
فأين هذا أيضاً من أمر أساسي في ديننا؛ ألا وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأمر الإصلاح للحاكم والمحكوم، أمر: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟! أمر الإسلام والإيمان الذي يوجد عزة لا تقبل ذلاً وقوة لا تقبل ضعفاً، وغير ذلك مما أسلفناه وذكرناه.
ولا أود أن أستطرد في هذا؛ فإن فيه بعض الأحزان والجراح، لكنها يقظة إن لم تكن كاملة تامة، فيوشك أن يقول كل أحد وكل مجتمع وكل بلد: أُكلت يوم أكل الثور الأبيض، وما ذلك عنا ولا عن غيرنا ببعيد.(145/3)
تشابه الخونة في كل زمان ومكان
ولعلي هنا أنقل صفحة مكتوبة منذ قرون طويلة، أنقلها بنصها؛ لعلنا نرى بعض صور التشابه، تلك الصفحات من البداية والنهاية لـ ابن كثير في الوقائع التي وقعت في سقوط بغداد سنة ست وخمسين وستمائة من الهجرة.
يقول ابن كثير: استهلت هذه السنة وجنود التتار قد نازلت بغداد، وجاءت إليهم أمداد صاحب الموصل يساعدونهم على البغاددة؛ وكل ذلك خوفاً على نفسه من التتار، ومصانعة لهم قبحهم الله، وقد سترت بغداد، ونصبت فيها المجانيق والعرادات وغيرها من آلات الممانعة التي لا ترد من قدر الله شيئاً، كما ورد في الأثر: لن ينجي حذر من قدر، وكما قال تعالى: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ} [نوح:4]، وكما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد:11].
قال: وكانوا مائتي ألف مقاتل وصلوا بغداد في الثاني عشر من شهر الله المحرم، وصل التتار بجنوده الكثيرة الكافرة الفاجرة الظالمة الغاشمة ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فأقاموا ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية، وجيوش بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة.
ولا أريد أن أعلق على هذه الصورة والصفحة؛ فهي غنية عن ذلك التعليق، ونود أن ننتبه وأن نلتفت إلى كثير مما ينبغي أن نتنبه له: إن هذه الصور الحزينة ينبغي ألا تمر فقط لتكون شيئاً من ألم يمكن أن يُخفف بعد قليل من الوقت، ولا شيئاً من حزن يمكن أن يُسرى عنه بشيء من اللهو، إنها لابد أن تغوص وأن تتعمق في أصول الفكر والنفس على قاعدة المنهج الواضح البين في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(145/4)
مأساة اعتزاز الخونة بالكفار
أليس حزيناً ما رأيناه مما فعله بعض أهل العراق؟ وربما يكون لهم عذر في كثير مما جرى لهم وجرى منهم، لكنه مشهد مؤلم أن يهتف المسلم العربي بحياة الكافر الأمريكي، وأن يتمنى عزه ورخاءه، وأن يطلب نجدته ومروءته، وأن يقبله، وأن وأن وأن إلى آخر ما رأينا من تلك الصور.
وغير ذلك أيضاً: كيف ذهبت تلك الجعجعة وتلك الأصوات التي صمت آذان الناس، حتى ظنوا أن وراء الجعجعة طحناً، فإذا بهم يسمعون جعجعة ولا يرون طحناً؟! وأين اختفى القادة والزعماء والأبطال والشرفاء؟! أتراهم قد ماتوا مثل الضعفاء تحت الأنقاض؟! أتراهم قد ذهبت أموالهم وأهدرت ثرواتهم وضاع مستقبلهم مثل الملايين المضيعة؟! أحسب -وليس عندي ولا عندكم- علم يقين أن مثل هذا لم يحدث، وأن غيره بعد سكون دام اثنتي عشرة ساعة في ليلة واحدة ثم أصبح الصباح وكأنه يوم من غير أيام الدنيا، كيف تم ذلك ووقع؟! إن كل ذي لب لا يكاد يفهم هذا إلا أن يدخله في دائرة من دوائر الاتفاقات والخيانات من كل الأطراف التي مصلحتها على حساب كل شيء بعد ذلك.(145/5)
ذلة وبلاء
أيها الإخوة المؤمنون! صور حزينة وأحداث أليمة ربما حيرت العقول، وربما بثت في النفوس وهناً ويأساً مشوباً بالحزن والألم، وما من شك أن كل ذي قلب مؤمن وكل ذي نفس حية وكل ذي عقل بصير يؤلمه ما جرى من هذه الأحداث، وما انتهت إليه من صورة أدخلت إلى النفوس صورة الذل بالقهر والتسلط، وصورة الضعف بالخيانة والاستسلام، وصورة الانخداع بالأوهام والشعارات.
ولكن الأمر المهم الذي كنا وما زلنا وسنظل نُعنى به: أصولنا الثابتة التي لا تتغير قرآننا الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه هدي رسولنا صلى الله عليه وسلم المعصوم من كل خطأ سيرة أمتنا التي تضمنت من سنن الله عز وجل عزها ونصرها وقوتها إذا ارتبطت بدينها، وذلها وضعفها وشتاتها إذا أعرضت عن نهج ربها.
فالسنن القرآنية الإلهية الماضية ينبغي ألا يفقدنا تذكرها هول ما يجري، ولا عظمة ما قد يداخل النفوس من حزن تلك الحقائق.
ولأن الأمور قد تؤدي إلى مؤداها التي انتهت إليه لابد أن نعلم أن مواجهتنا مع الكفر وأهله، وأن استهداف أعداء الإسلام للإسلام وأهله، ليس في جولة واحدة، وليس في دولة واحدة، وليس في ميدان واحد.
وما جرى في بغداد، وقبلها في أفغانستان، وما جرى قبل ذلك من أمور وأحداث، وما جرى ويجري ولا زال يجري في أرض فلسطين الحبيبة من تسلط للأعداء وتمكن لهم، لا يعني أن الأمر قد انتهى، وأن نرى ما نرى من تلك الصور الحزينة التي داخلت كثيراً من النفوس.
وأنا أعلم أن كلاً منا قد مرت به الأيام الماضية وهو كسيف البال، وهو عظيم الحزن، وهو شديد الاستغراب، وهو متحير اللب، وهو يضرب أخماساً بأسداس، لكننا - بحمد الله- ما زلنا نصلي في المحاريب، وما زلنا نسجد بين يدي الله، وما زلنا نتلو القرآن، وما زلنا نعرف أن خير البشرية هو محمد صلى الله عليه وسلم، فما زلنا كذلك، وينبغي أن نظل على ذلك، فإنه ليس نصر الأعداء -وهم يعرفون ذلك- بزوال نظام، أو بانتهاء طاغية، أو بالتآمر معه والاتفاق على الخيانة، ولا بتسلطهم على الثروات التي يريدونها ويريدون من خلالها التحكم في بلاد الإسلام وشعوبه.(145/6)
هدف أعداء الإسلام من حربهم على الإسلام
ولكن هدفهم الأعظم هو كما أخبرنا عنه الحق سبحانه وتعالى بقوله: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]، وكما قال الحق جل وعلا: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة:2]، وقال: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120].
فالعق أحذيتهم، ووافق سياستهم، وأعطهم ملذاتهم، ومكنهم من الثروات، ولا يعني ذلك أنهم قد بلغوا منتهى أملهم ولا غاية مقصدهم، حتى يدخلوا إلى أفكار العقول فيغيروها، وإلى مشاعر النفوس فيبدلوها، وإلى ما يُقرأ في المحاريب والمساجد لتقرأ من بعده أو معه أو في أثنائه التوراة والإنجيل، لا أقول ذلك مبالغة، بل إنه حق واقع نطقت به الألسنة، وأعُدت له الخطط، ونُشرت على أعين الناس.(145/7)
ظلم ومكر أعداء الإسلام في حربهم على الإسلام
ولعلي أشير إلى ومضات من هذه الصور الحزينة، ولابد أن نخرج منها بدروس ثمينة، ولابد أن ترشد العقول، وأن تنتبه وتلتفت الأنظار لجميع أمة الإسلام من أصغر صغير إلى أكبر كبير، ومن الفرد العادي إلى الحاكم الذي يسوس الأمور، ويدبر الأحوال في أمته أو دولته.
هذه الصور التي رأيناها رأينا معها عجباً، فكيف وقعت هذه الواقعة؟! ولاشك أن بعض النفوس بعواطفها الجانحة ما زالت لا تصدق ما جرى، وأن بعض العقول التي أصابتها لوثة العظمة الفارغة دون أن تدرك حقيقة المخالفة الصريحة للقرآن وللسنة ولمنهج الإسلام ما زالت تقول أقوالاً عجيبة وغريبة، ولا تكاد تبصر الأمر وهو واضح.
إنه الطغيان والظلم الذي مكن له الأعداء والأولياء، وكان على رءوس الضعفاء والبؤساء، فمن الذي مكن لهذا النظام ابتداءً؟ ومن الذي أعانه بالأسلحة؟ ومن الذي أمده بالقوة، ومن الذي غض الطرف عن جرائمه ليس في يوم ولا يومين ولا عام ولا عامين ولا عقد ولا عقدين بل أكثر من ذلك، أليسوا هم المحررين اليوم؟! ومن يطالع ويقرأ هذا يراه رأي العين في صور واضحة تمثل في علاقات قديمة، وفي عقود مبرمة قد أظهرتها اليوم الأخبار والأحوال.
ثم أين الدول العربية والإسلامية التي لا زالت إلى اليوم تظن أنها في قولها هذا محقة؟ إنه قد كان ظلم وبغي وعدوان، وقد وقعت إزاحته، لكن من الذي أزاحه؟ وأين العرب والمسلمون؟ ولماذا خرست ألسنتهم، وعميت أبصارهم، وصمت آذانهم، وشلت أيديهم، وتعطلت مسيرتهم؟! بل كانوا مساهمين في مثل هذا الظلم بصورة أو بأخرى: إما بمشاركة له، أو سكوت عنه، أو تغطية عليه، أو أية صورة من الصور الأخرى.(145/8)
حقائق أهداف الحرب على العراق(145/9)
تغيير مناهج التعليم الإسلامية
أظننا نفقه اللغة العربية، ونعرف أن هذا الكلام واضح، بل فاضح، ولا يحتاج إلى إثبات وأدلة، ومن أراد فسأخبره بما نشر بالأمس وليس قبل الحرب، واستمعوا إلى هذا الخبر الذي يقول: إن الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية قد طلبت قبل شهرين عروضاً لتجديد نظام التعليم العراقي بمبلغ قدره خمسة وستون مليون دولار، يشمل تأهيل الأساتذة، وإصدار كتب مدرسية جديدة، ويضع الأساس لممارسات ومواقف ديمقراطية، سواء لدى الأطفال أو لدى الأساتذة، آخذاً بعين الاعتبار توزيع اللوازم المدرسية، ويقولون: مثلما حصل في أفغانستان، حيث قدمت العروض وفازت شركة بها بمبلغ ستة عشر مليون ونصف، وقد قامت بإعداد ذلك، وتوزع في هذا العام عشرة ملايين كتاب مدرسي بتصميم منهجي أمريكي!! وفي هذه الفترة أيضاً نشر: أن اللجنة اليهودية الأمريكية قامت بدراسة شاملة للمناهج في المملكة العربية السعودية، وقدمت تقريراً مفصلاً في مائة صفحة، ومما جاء فيه: أن هذه المناهج تدرس أن القرآن كتاب الله، وأنه هو المحفوظ، وأن التوارة والإنجيل فيها تحريف وتغيير، وتدرس أن القرآن يقول: إن النصارى واليهود كفار.
وتدرس أيضاً: أن المسلمة لا يجوز لها أن تتزوج من كافر أو كتابي، والمسلم يجوز له أن يتزوج من كتابية، وتدرس كذلك: أن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، وأن الجهاد له غايتان: إما النصر على الأعداء، أو الاستشهاد في سبيل الله، وتدرس وتدرس واقرءوا هذا التقرير منشوراً في بعض الصحف والمجلات؛ لتعرفوا أن القضية لم تعد أقوالاً، بل لقد درست وبحثت، وهي في العراق وفي أفغانستان قد قدمت عروضاً، وهي في أفغانستان قد طبقت تطبيقاً عملياً.
وهذه هي القضية الخطيرة.(145/10)
إنشاء نظام جديد متآمر مع اليهود
ولعلنا أيضاً نقف وقفة مهمة، كنت ولا زلت أكرر القول فيها، ولا زلت أريد أن نفقهها، وأن تكون أساساً ثابتاًً: الصراع الأكبر مع اليهود عليهم لعائن الله، وهم الذين يحركون هذه الحرب وغيرها من الحروب التي جرت قبلها، وعندما نطق بذلك سياسي منتخب في مجلس الشعب الأمريكي لمدة نحو ربع قرن سبع مرات متتالية بهذه الحقيقة وقال: إن الذين يؤزون نحو الحرب هم اليهود في أمريكا، كان مصيره أن يستقيل من منصبه، وأن يقدم اعتذاراً، ثم جُرد من كل المشاركات في جميع اللجان.
وهذا بعض ما جاء في صحافة اليهود مرتبطاً بهذه الأحداث، يقولون: إن نجاح هذه الحرب في فرض نظام جديد في العراق يتمتع بالاستقرار، سيعني توجيه ضربة قوية للقوى الراديكالية الإسلامية في المنطقة، ولن ترسل هذه القوة مرة أخرى قواتها العسكرية إلى دول أخرى، ولكن إذا انتهت هذه الحملة بنجاح فإن الضغوط التي تمارسها على الدول ستؤتي ثمارها، وستفعل فعلها، وهي معركة أيضاً ضد التنظيمات الإرهابية في إسرائيل.
ما هو الجوهر المهم في هذا؛ فإن هذا الإنشاء للنظام الجديد إنما هو ليجعل هذا النظام متفقاً مع إسرائيل وعاقداً للسلام معها ومتحالفاً معها ضد غيرها، ومعروف هذا الغير الذي سيكون بين فكي كماشة العراق والدولة اليهودية الغاصبة.
ونحن عندما نقول هذا معاشر الأخوة الأحبة! لا نقوله لنفت في العضد، ولا لنحدث اليأس؛ ولكن لنوجد اليقظة، ولنشحذ الهمة، ولنوقد نار الحماسة، ولنؤسس انطلاقة العزم والجزم والحزم، والحيطة والحذر، والمقاومة الحقيقية، والوقاية الشاملة، والإصلاح الجذري الذي ينبغي أن نسعى إليه في أعماق نفوسنا، وفي حلس بيوتنا، وفي واقع مجتمعاتنا، وفي أنظمة تعاملنا، وفي سائر أحوال أمتنا ودولنا.
نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يلزمنا كتابه، وأن يلزمنا هدي رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يدرأ عنا الفتن ما ظهر منها وما بطن؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(145/11)
الاستيلاء على ثروات العراق والحركات الإسلامية
ولعلي أذكر الآن بالحقائق التي قيلت قبل هذه الأحداث وبعدها وأثناءها: ما هي الأهداف؟ وهل هي هذه الأسلحة التي لم يرها أحد؟ وهل هي هذه الأنظمة التي لم يقبض عليها أحد، ولم يقدمها للمحاكمة أحد، ولم يثبت أحد قتلها وإنهاءها؟ وهل كل الذي جرى لأجل هذا؟ هذا كاتب أمريكي قبل هذه الحرب بنحو شهرين -كما هو منشور في صحفنا العربية- يقول: تعلن قيادتنا أن هذه الحرب لأجل تدمير أسلحة الدمار الشامل، ولكننا نقول: إلا أن ذلك ليس كل ما نسعى لتحقيقه؛ إذ إننا نريد نفط العراق بكل ما يتأتى إلينا منه من فوائد كبيرة، كما أننا نعمل على إحداث تغييرات سياسية واقتصادية واجتماعية في دول عربية كثيرة.
ثم يقول ويكشف عن التهديد الأكبر: ليس هذا النظام وليس جعجعته الكاذبة وليس أسلحته التي لا وجود لها، وإن ما يهدد المجتمعات الغربية الحرة فعلاً ليس الرئيس العراقي الذي يمكن تجنبه وردعه فهو يحب الحياة أكثر من كرهه لنا.
إذاً: ما هو الخطر؟ يقول: إن الخطر الحقيقي الذي يواجهنا والذي لا يمكننا تجنبه وردعه هم أولئك الشباب العرب الذين يكرهوننا أكثر مما يحبون الحياة، ويشكلون فعلاً صواريخ بشرية تعتبر جزءاً من أسلحة الدمار الشامل، والقادرون على تدمير مجتمعاتنا الغربية المفتوحة.
ثم يقول: كيف يمكن تنشئة هؤلاء الشباب؟! وما هي الآلية التي تنتهجها هذه الدول لتنشئتهم؟! ثم يضيف: الحرب ضد العراق بمثابة رسالة قوية إلى هذه المنطقة، مفادها: إننا لن نترككم وحدكم بأي حال من الأحوال لتلعبوا بالكبريت؛ لأنكم حين قمتم بذلك في المرة الأخيرة احترقنا!(145/12)
أهمية أخذ الدروس والعبر من الحرب القائمة على الإسلام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه.
وإننا ونحن نذكر هذه الأحداث ينبغي لنا أن نعي الدروس والعبر، فالحرب على الإسلام لم تكن بنت اليوم ولا بنت الأسابيع الثلاثة الماضية، ولا بنت ما بعد أحداث سبتمبر الشهيرة كما يقولون، إنها حرب كانت منذ زمن طويل، وهي اليوم في أشد أوقاتها، ولكن ما بعد هذه الحرب العسكرية هو الأخطر والأشد.(145/13)
التعاون والتآزر بين المسلمين
وكذلك لابد أن يعظم تآزرنا، وأن تقوى روابطنا، وأن تترسخ أخوتنا على مستوى الأفراد والمجتمعات، وعلى مستوى الدول؛ فإن الدول العربية والإسلامية التي ما زالت نائمة وغير مدركة في حقيقة الأمر وفي حقيقة الفعل لمثل هذه الوقائع معنية اليوم لأن تمد أيديها إلى بعضها، وأن تتناسى خلافاتها، وأن تلتقي على أساس الوحدة الإسلامية والمنهج الرباني.
فإن هي فعلت أنقذت أممها وشعوبها من هذه الأخطار المحدقة، وإن هي غفلت عن ذلك فيوشك أن يكون ما لا تحمد عقباه.
نسأل الله عز وجل أن يرد كيد الكائدين، وأن يدفع شرور المعتدين، وأن يسلم ديار المسلمين، وأن يحفظ أعراضهم وأموالهم، وأن يحقن دماءهم.
اللهم أمن الخائفين، وأطعم الجائعين، واكس العارين، واسق العطشى، وعاف المرضى، واشف الجرحى، وفك الأسرى من عبادك المؤمنين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب، اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، وأخرجنا من الظلمات إلى النور.
اللهم لا تفتنا ولا تفتن بنا، ولا تجعلنا فاتنين ولا مفتونين، اللهم ثبتنا بتثبيتك، وأيدنا بتأييدك، اللهم اجعل بصيرتنا من كتاب الله، وهدينا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اللهم إنا نبرأ إليك مما فعل السفهاء منا، ونعوذ اللهم بك من شرورنا، ونسألك اللهم اللطف فيما تجري به المقادير يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين! اللهم لطفك ورحمتك بأمة الإسلام والمسلمين، اللهم اكشف الضراء، وارفع البلاء، والطف فيما يجري به القضاء، اللهم اكشف الغمة، وارفع البلاء عن الأمة.
اللهم يا حي يا قيوم نسألك أن تبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعز فيه أهل طاعتك، ويُذل فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء.
اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم ثبتهم بتثبيتك، وأيدهم بتأييدك، اللهم أنزل في قلوبهم الصبر واليقين، وثبتهم في مواجهة المعتدين، اللهم رضهم بالقضاء، وصبرهم على البلاء يا رب الأرض والسماء! اللهم اجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، أخص بهم منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
والحمد لله رب العالمين.(145/14)
مواجهة الأعداء في جميع الميادين
وقد ذكرت من قبل أن مواجهة الأعداء ليست في ميدان واحد، وذكرت أن كلاً منا على ثغرة، فأنت على ثغرة في تربية أبنائك، وأستحضر هنا أن سبعين عاماً من الشيوعية المهلكة الكافرة الملحدة انقشعت، ووجدنا بعض المسلمين كانوا يعلمون أبنائهم القرآن تحت الأرض في منتصف الليل على أضواء الشموع! فهل نستطيع أن نواجه لنكون متشبثين حتى آخر رمق من حياتنا؛ لا بتراب ولا ببناء ولا بحضارة حتى وإن زعموها حضارة معرقة في التاريخ، وإنما لنحافظ على دين الله، على الإسلام العظيم، على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى تاريخ أمة أرادها الله عز وجل لتكون خير أمة أخرجت للناس، وأن نعرف أننا مستهدفون؛ لأننا أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولأن بين أيدينا كتاباً محفوظاً، وعندهم كتباً محرفة يعرفون تحريفها، وعندنا نبياً معصوم صلى الله عليه وسلم، وعندهم أنبياء أدخلوا على سيرهم وألحقوا بهم، بل وفعلوا بهم ما لا يليق أن يُفعل بسقط الناس وأراذلهم، ولدينا شريعة صالحة لكل زمان ومكان، وعندهم قوانين وضعية تلعب بها الأهواء وتغيرها الآراء! وعندنا تماسكاً أسرياً وترابطاً أخلاقياً يكاد بنيانه أن يتصدع بعد أن ولجت فيه كثير من الآثار السلبية، لكن ذلك لم يكفهم، بل رأوا أن هناك بقية باقية وسنة ماضية، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك).
فقد رأوا كيف كان الأبناء وكيف كان الشرفاء والأبطال والمجاهدون في فلسطين بعد أكثر من خمسين عاماً من التهويد، ومن البطش، ومن التهديد والتعذيب والتشريد، رأوهم وهم يعودون من المساجد بأيدٍ متوضئة، وبألسنة مكبرة، وبجباه ساجدة، وبنفوس عزيزة، يقف أحدهم أمام دبابة لا يأبه بها، ولا يكترث لها! ورأوا من بعد ذلك مثلكم وكثيرون غيركم وهم يسيرون إلى رحاب الله، وهم يستمعون إلى كلام الله، وهم يستحضرون تاريخ أمتهم، وهم يعودون إلى مصادر قوتهم وعزتهم، وأما هم فهم في أفول نجمهم؛ فأعدادهم تتناقص، ومواليدهم أقل من موتاهم، وقد ألف أحدهم كتاباً حديثاً منذ نحو عام سماه (موت الغرب)، وأشار فيه إلى أن سبع عشرة دولة غربية أعداد الجنائز فيها أكثر من أعداد المهود! ثم ذكر بعد ذلك صوراً من الموت في الأخلاق والأنظمة والعرقية والعنصرية، وكيف يرضون ذلك وبأيديهم قوة عسكرية واقتصادية وسياسية؟! وذلك مؤذن ببداية مواجهة عظيمة، ينبغي أن يوطن الناس أنفسهم لها، وأعظم توطين أن نربط القلوب بخالقها، وأن نعلق النفوس ببارئها، وأن نرشّد العقول بمنهج الله سبحانه وتعالى.(145/15)
التعرف على مكمن الخلل وتلافيه
ولذلك لا ينبغي أن نقول: قد وضعت الحرب أوزارها لا عسكرياً ولا غير عسكري، بل ينبغي أن نشحذ هممنا وعزائمنا، وأن نعرف خللنا وقصورنا، وكنت قد تحدثت من قبل ووعدت أن يكون حديثنا اليوم عن الخطوات العملية التي ينبغي أن نأخذ بها بعد أن أسسنا القول في الخطوات الفكرية والخطوات النفسية، غير أن تجدد الأحداث أوجب أن يكون لنا حديث لعله يجمع بين ما نشعر به من حزن وما ينبغي أن نشحذ به النفس من عزم.
وكذلك قلت مراراً: ليس مقامنا في مثل هذه المنابر أن نصرخ، ولا أن نعيد ما يكرره الإعلام، مما يلعب بالعواطف أو يضلل العقول أو يسير بالناس وفق ما تقتضيه الصنعة الإعلامية والسبق الصحفي، وليس بمهمتنا كذلك أن نؤثر تأثيراً عاطفياً مؤقتاً فتذرف دموعنا ظاهراً، وإنما نقول: ليذرف كل واحد دمعه بينه وبين نفسه، وليذرف على حاله وعلى حال أمة الإسلام، وما أشك أن كثيراً من الدموع قد جرت وهي ترى ذلك في صور ما عرضته الشاشات من هذه الأحداث، لكن هل البكاء هو حلنا؟ وهل مثل هذا المقام نأتي فيه لنبكي؟ فليبك كل منا حقيقة لا صورة.(145/16)
صور متناقضة
إن الأمة الإسلامية تعيش أحوالاً عجيبة؛ فهي متأخرة عن ركب الأمم، ومع ذلك تجدها غارقة في اللهو واللعب، وفي تضييع الأوقات والطاقات والثروات وإهدارها! والأمة الإسلامية اليوم يحيط بها الأعداء من كل جانب، ومع ذلك تجدها مختلفة فيما بينها متنازعة متناحرة، فالزوج مع زوجته في نزاع وخصام، والقريب مع قريبه في شحناء وبغضاء، والجار مع جاره في منازعة ومشادة، وكل ذلك على الدنيا التي حذر الله منها، ودعا إلى نبذ الشقاق وإلى التسامح والإخاء فيها.(146/1)
الوقت بين العمل والكسل
الحمد لله، الحمد لله ذي الفضل والمن والإحسان، فضل ديننا على سائر الأديان، وحبب إلينا الطاعة والإيمان، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وندبنا إلى السماحة والإحسان، وحذرنا من الخصومة والعدوان، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً ملء الأرض وملء السماوات وملء ما شاء من شيء بعده.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، وهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثر به من بعد قلة، وأعز به من بعد ذلة.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].(146/2)
مفهوم العطلة والإجازة
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! صور متناقضة جالت بخاطري من واقع الزمن الذي نحن فيه في وقت الصيف، ومن خلال ملامسة لواقع ومشكلات الناس واختلافاتهم، ولعلنا ونحن نشير إلى هذه الصور ونبين تناقضها، نهيج النفوس إلى الترفع عما لا يليق، ولا يرضي الله جل وعلا، ولا يشرف في الانتساب إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي الوقت نفسه يشد ويجذب ويرغب ويحث على أن نأخذ الصور الإيجابية، ونتحلى بها؛ لنرقى في مدارج الكمال، ولنغير سيء الأقوال والأفعال والأحوال، ولست بمكثر، حتى يكون التركيز على ما يكون به النفع والفائدة: الوقت بين العمل والكسل: تناقض واختلاف بين من يحرصون على اغتنام الأوقات وملئها بالأعمال الصالحة المثمرة وبين من يضيعون هذه الأوقات فيما يعود عليهم بالضرر، أو فيما لا يجنون به النفع والفائدة، وكم هي المفارقات العجيبة التي نراها بدءاً من الكلمات والمصطلحات والمفاهيم والدلالات، وانتهاءً إلى الأعمال والممارسات! فماذا نسمي هذا الوقت؟! نسميه عطلة، والعطلة والعطالة والعطل في اللغة هو: ترك الشيء والتخلي عنه.
فامرأة عطل، أي: متخلية عن الزينة، والعطالة: ترك العمل وترك الجد، فكأننا بمثل هذه التسمية نوحي هذا الإيحاء.
والإجازة هي الانتهاء من الشيء والحصول على المراد، فكأن طلابنا قد انتهوا من أمر علمهم وتعلمهم ولم يعد لهم بذلك شأن، ونجد ذلك المفهوم يسري في دوائر المجتمع.
فالأسر في هذه الفترة لا تكلف أبناءها شيئاً، ولا تحثهم على أمر؛ لأنهم قد انتهوا من دراستهم، أو نجحوا في اختباراتهم، والإعلام كذلك يبث مثل ذلك، فهو يقول لنا في هذه الأوقات: اسهروا إلى آخر الليل، وتأتينا السهرات المطولة؛ لأنه ليس عندنا في الصباح عمل، بل نوم وكسل!(146/3)
تضييع الوقت في حياة المسلمين
ضياع الأوقات له أثر سيئ في السلوك، وللأسف الشديد فإن حال الكثير اليوم سهر وعبث حتى انشقاق الفجر، ونوم وكسل حتى انتصاف النهار.
إنها صورة مقيتة تتكرر في كل وقت في مثل هذه الأيام، صور نراها في زحام السيارات، وامتلاء الأسواق، واستمرار الأفراح والأعراس إلى آخر الليل، صور نراها في كثير من الجوانب السلبية التي تقتل الوقت قتلاً، وتبدد الثروة تبديداً، وتبين أن في عقول كثير منا ونفوسهم زللاً أو خللاً في الفكر، وهبوطاً وضعفاً في الهمة، وهذا هو السبب الذي يجعلنا نهدر هذه الثروة في أمة تحتاج إلى كل ثانية؛ لتعوض النقص، وتتدارك الخلل، وتحاول اللحاق بركب الأمم التي تقدمت.
نحن اليوم نأكل مما يزرعون، ونلبس مما يصنعون، ونحاول أن ندافع عن أنفسنا بما يعطونه لنا، فكيف نعوض هذا ونحن أمة تريد أن تنام ملء عيونها، وأن تأكل ملء بطونها، وأن تضحك ملء أشداقها، وأن تسترخي عقولها فلا تفكر في أمر يهمها، ولا في خطب جلل فيه مصيرها، ولا في قمة ترتقي إليها، ولا في مكانة تطمح إلى الوصول إليها.
تأملوا أنه إذا وقع حادث كانقطاع كهرباء أو تعطل قطارات أو نحو ذلك خرجت علينا الأخبار تخبرنا أن الخسائر تقدر بكذا وكذا مليون من الدولارات أو غيرها، فكيف حسبوها؟! قالوا: هذا الوقت -نصف ساعة مثلاً- من محسوب أوقات العمال والمدراء والموظفين، ومن أوقات المصانع، وتوقف الإنتاج فيها، ثم يقولون لنا: إن هناك خسارة كبرى، أما نحن فلا نحسن هذه الحسابات! إن أحدنا يقول: وماذا يحصل لو تأخرنا نصف ساعة أو ساعة؟ وماذا يحصل لو تأخرنا ونحن في وقت عطلة وإجازة؟ وكأننا نقول: إن هذه الثروة ليست لها عندنا قيمة، وليس لها وزن، وليس لها في حياتنا أثر، مع أن ديننا على عكس هذه المفاهيم في كل دلالة وإيحاء من آيات كتابنا وأحاديث رسولنا صلى الله عليه وسلم.(146/4)
أهمية الوقت في القرآن ومحاسبة الإنسان عليه
قال عز وجل: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان:61 - 62].
لم يأت الليل ويعقبه النهار ويتلو الليل نهاراً وتتوالى الأيام والأعوام عبثاً، بل لتُملأ بالذكر والشكر وعمران الحياة، وهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)، وكلنا يعلم ذلك الحث القرآني: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133] و {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21] {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148].
وكلنا يعلم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أبلاه، وعن شبابه فيما أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ما عمل فيه)، وكلنا يعلم قوله عز وجل: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، كل ذلك معلوم، ولكن أين أثره في واقع الحياة؟!(146/5)
صور من حياة السلف والعلماء في استثمار الوقت
ولنأخذ الصور المقابلة، ولنأخذ الفهم الصائب، ولنأخذ الروح الإيمانية الجدية العملية القوية التي نقتبس بعض صورها من كلام أئمتنا وعلمائنا ومواقفهم ومآثرهم في مثل هذا الشأن: قال عز وجل: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8]، وهذه آيات نقرؤها كثيراً.
قال ابن كثير: إذا فرغت من شأن الدنيا وأحوال العباد فانصب لعبادة ربك، فإذا فرغت فاعمل؛ فليس هناك فراغ، وليس هناك وقت لإضاعته أو قتله، أو البقاء ساعات طوالاً في لعب الورق، أو مشاهدة المسلسلات، أو قضاء الأوقات بالأحاديث اللاغية الباطلة.
وقوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} [الشرح:7]، يدل على أنه يُوجد بعد الفراغ نصب وجد وتعب، فأين إذاً تلك الراحة؟! إن الراحة لا تكون إلا بعد الجد والعمل، وحديث (ساعة وساعة) فهمناه في كثير من صور حياتنا فهماً خاطئاً، وقصته في السيرة وعند أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على غير ذلك الفهم؛ فقد جاء عنهم أنهم قالوا: (يا رسول الله! إنا إذا كنا معك كأنا نرى الجنة والنار، فإذا انصرفنا إلى أهلنا وعافسنا الأزواج والأبناء أنكرنا نفوسنا).
إنه شعور إيماني دقيق شفاف حساس، يجعلهم يرون الفرق بين ما هم عليه عند صحبة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم من إيمان قوي، وروح محلقة، وهمة عالية، ونفس أبية، وقوة فتية، وما قد ينحدرون إليه عندما ينشغلون بحياتهم وأهلهم وأزواجهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو تدومون على حالكم التي تكونون فيها معي لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولكن ساعة وساعة)، فتلك هي الساعتان، ليستا ساعة لهو وعبث ومعصية ومنكر، وساعة استغفار وقليل من صالح الأعمال هنا أو هناك.
ثم انظر إلى تأكيد هذه المعاني في كلام كثير انتخبت قليلاً منه بعد أن وجدت أن كلماته كأنما هي إيقاظ لكل واحد منا، لننظر كيف فهم وكيف ترجم علماؤنا هذه المعاني القرآنية؟ يقول القرطبي ناقلاً عن مجاهد في هذه الآية: إذا فرغت من دنياك فانصب في صلاتك.
وعن الجنيد: إذا فرغت من أمر الخلق فاجتهد في عبادة الحق.
والشنقيطي رحمه الله من العلماء المتأخرين في عصرنا يقول: الآية حل لمشكلة الفراغ التي شغلت العالم؛ حيث لم تترك للمسلم فراغاً في وقته؛ لأنه إما في عمل للدنيا، وإما في عمل للآخرة.
وقد روي عن ابن عباس: أنه مر على رجلين يتصارعان فقال: (ما بهذا أمرنا بعد فراغنا).
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (إني لأكره لأحدكم أن يكون خالياً سبهللاً، ليس في عمل دنيا ولا دين).(146/6)
ومضات من أفعال السلف وحرصهم على الوقت
ولو أردنا أن ننقل من الأقوال لرأينا كثيراً وسمعنا كثيراً من هذه المعاني المشرقة التي تبين الفهم الصحيح لقيمة هذه الحياة، ولكني أنتقل من الأقوال إلى الأفعال من الصور الأخرى: ذكر الذهبي في ترجمة الإمام الشافعي رحمه الله: أنه كان يقسم ليله ثلاثة أقسام: قسم يكتب فيه، وقسم يصلي فيه، وقسم ينام فيه.
قال الذهبي رحمه الله معلقاً على ذلك: أفعاله الثلاثة عبادة بالنية.
أي: حتى نومه صار عبادة؛ لأنه يأتي في سياق راحة تستأنف بها الأعمال، وتتجدد بها الهمة، ويتقد النشاط.
ويقول أبو الوليد الباجي من علماء المالكية: إذا كنت أعلم علماً يقيناً أن جميع ساعات حياتي كساعة، فلمَ لا أكون ضنيناً بها، وأجعلها في صلاح وطاعة؟! والعمر كساعة؛ تنقضي منها الثواني، وتتولى بعد ذلك الدقائق، ثم الأرباع والأنصاف، ثم تنتهي.
ففي قوله: (إذا كنت أعلم يقيناً أن حياتي كلها كساعة، فلمَ لا أجعلها في عمل وطاعة؟) فقه الحياة، وفقه الوقت، وفقه الدقائق والثواني.
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوانِ وبعضهم لو قلنا له: هذه ثانية، لقال: وما هذه الثانية؟ ولو قلنا: دقيقة، لقال: لا تدقق، ولو قلنا: ساعة، لقال: أمرها سهل، وإن كان يوماً فلا بأس، وإن كان أسبوعاً فكذا وكذا.
إذاً: فما قيمة العمر كله؟ وما قيمة هذا الوقت؟ قال صلى الله عليه وسلم: (أعذر الله إلى امرئ أخر عمره حتى بلغ الستين)، رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.
وتأمل معي كذلك حال ابن عقيل الحنبلي، وهو من العلماء الأفذاذ الذين ضربوا مثلاً عظيماً في اغتنام الأوقات، يقول: قد عصمني الله في شبابي بنوع من العصمة، وقصر همتي على العلم، وما خالطت في شبابي لعاباً قط، ولا عاشرت إلا أمثالي من طلبة العلم، وهأنا في عشر الثمانين - أي: في الثمانين من العمر- أجد من الحرص على العلم أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين! فهو يقول: ما خالطت لعاباً قط، ونحن اليوم نأتي باللعابين ليضيعوا لنا الأوقات، ونجد أن كثيراً مما يكون في هذه العطل أو الإجازات مخصص لتبديد الأوقات وتضييعها، مع أن الآمال قبلها تقول وخاصة عند الطلاب: إذا جاء الصيف سأفعل وأفعل، وإذا جاء الصيف سأحفظ وأحفظ، وإذا جاء الصيف سأقرأ وأقرأ، ثم نراه لاهياً عابثاً نائماً كسولاً إلى غير ذلك مما نراه.
وهكذا نرى مواقف عظيمة وكلمات جليلة: هذا أبو بكر محمد بن عبد الباقي من سلالة كعب بن مالك رضي الله عنه يقول: حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وما من علم إلا وقد نظرت فيه إلا النحو؛ فإن حظي فيه قليل، قال: وما علمت أني ضيعت ساعة من عمري في لهو أو لعب! وهذه الصور الكثيرة أختمها بصورة للإمام ابن كثير رحمه الله مع الإمام أبي الحجاج المزي، وكان شيخه في الحديث، ثم تزوج ابن كثير ابنته، فـ ابن كثير يحدث عن هذا الإمام العظيم فيقول: وقذتني كلمة سمعتها من أبي الحجاج - الوقذ هو: الحصاة تصيبك، أي: آلمتني وأيقظتني- قيل: ما هي؟ قال: سمعته يقول على أعواد المنبر: إن امرأً ذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له حري أن تطول عليها حسرته يوم القيامة! فكانت هذه الكلمة ترن في أذن ابن كثير وتجيش في نفسه، وكأنها سياط تضربه وتوقظه، وكلما فتر تذكر، وكلما كسل نشط، وحسبنا في هذا المقام مثل هذه التذكرة؛ فلا سهر ولا عبث، ولا نوم ولا كسل، ولا فوضى ولا أذى.
نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى هذه الخلال، وأن يحلينا بهذه الخصال، وأن يجعلنا مغتنمين للأوقات، وغير مضيعين للثواني والدقائق والساعات.(146/7)
علاقات الناس بين الالتزام والخصام
وأنتقل إلى صورة أخرى، هي كذلك من صور التناقض التي بين السيئ والحسن، وهي: علاقات الناس بين الالتزام والخصام.
أظنكم تشاركونني الرأي بلا خلاف أنه كثر النزاع، وعظم الخصام، وزاد الشقاق، فكم من مشكلات نعرفها ويعرفها كل أحد منا بين الأزواج والزوجات في دائرة قرابته أو معارفه، وكم من المشكلات والخصومات نعلم عنها بين أبناء العمومة أو الإخوة أو الأقارب، وكم نسمع ونقرأ عن الشركات والخصومات الواقعة فيها، فأين السماحة؟! وأين حسن الظن؟! وأين التزام الشرع بتوثيق الأمور؟! وأين حسن العشرة؟! وأين مثل هذه المعاني؟!(146/8)
الخصومات الزوجية
إنها صور عجيبة أصبحت اليوم كأنما هي الأصل وغيرها هو الفرع، وكأنما صورة العلاقة بين الزوج والزوجة هي الخصام الدائم والنكد المستمر والمعارك حامية الوطيس؛ لأن الصورة الاجتماعية والإعلامية تقول للمرأة: حقوقك لا يغلبنك الزوج عليها، كوني قوية حتى لا يستضعفك.
وتقول للرجل: كن عسكرياً في سكنك، وكن قائداً أمام الجند، اضرب بيد من حديد، أقطم رقبة القط في ليلة العرس، وكأننا في ميدان معارك ولسنا في بيت مودة وسكن! قال عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]، فهل هذه الصور التي نسمعها وهذه الرسائل الإعلامية التي تبثها المسلسلات وتبثها الأفلام هي بيت مودة؟! وهل تمثل أمر الله عز وجل في قوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]؟! وهل تمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يفرك مؤمن مؤمنة -أي: لا يبغض مؤمن مؤمنة- إن ساءه منها خلق رضي منها آخر)؟! أم أنها تجعلنا كما قلت: نتلمس النقائص، ونبحث عن المعائب، ونمسك الأخطاء ونسجلها في القوائم؟! وإذا بالحياة ضرب من الجحيم، وصورة من العناء والمشقة التي لا هدوء معها ولا سكينة فيها.(146/9)
خصومات الأقارب والجيران على الأراضي وغيرها
وانظروا إلى صلة الأقارب، بل أبناء العمومة، بل الإخوة الأشقاء، وقد افترقوا على لعاعة من الدنيا، أو على إرث يقتسمونه، وكم هي المشكلات في هذا! ولئن كان كل أحد منا يعلم شيئاً من ذلك فإن بعضاً منا ممن يكون في موضع يقصده الناس لمشكلاتهم أو للإصلاح بينهم يطلع على كثير وكثير من المحزن المؤلم الذي نرى فيه بعداً عن الالتزام، فلمَ لا يوثق الناس ما بينهم من عقود، كما أمرهم الله عز وجل بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] فلمَ لا يكتب الناس ولا يوثقون؟! ولمَ لا يُشهدُون ولا يتعاملون بالسماحة؟!.
قال صلى الله عليه وسلم: (البيعان إن صدقا وبينا بُورك لهما في بيعهما، وإن كتما وغشا لم يبارك لهما في بيعهما)، أو كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأين السماحة المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع سمحاً إذا اشترى)؟! وأين المودة والمحبة؟! وأين معاني الإيمان والأخوة؟! وأين صدق الوفاء والالتزام؟! وأين قوله صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا)؟! كل هذه المعاني تبين أننا عندما نترك الالتزام تأتي أسباب الشقاق والخلاف والخصام، وتتفرق الصفوف، ويحصل بيننا ما نراه ونلمسه في واقع الحياة.(146/10)
أخوة الإيمان وسماحة الإسلام
هذه -وللأسف- صور كثيرة، ولو أننا تلمسنا الكلام فيها لوجدنا أن ديننا مرة أخرى وثانية وثالثة هو في جهة، وبعض سلوكياتنا من هذا النوع في جهة أخرى.
قال عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، فأنتم معاشر المؤمنين وإن تفرقت بكم الأنساب، وإن تباعدت بكم الديار، فأنتم إخوة كإخوة الدم والنسب، بل وأكثر.
فالإسلام آوى بلالاً، وآخى صهيباً، ونادى بـ سلمان في العالمين، فكيف مزج الإسلام بين صهيب الرومي وبلال الحبشي وأبو بكر التيمي وعمر العدوي وعثمان الأموي وعلي الهاشمي، وبعد ذلك الفرس والروم وكل الخلق؛ ليكونوا سلسلة واحدة قلوبها متآخية، نفوسها متصافية، صفوفها متراصة! تلك هي الصورة التي ضربها لنا مثلاً سيد الخلق صلى الله عليه وسلم في قوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، فكيف واليوم الجسد يقطع بعضه بعضاً، واليمنى تقطع اليسرى! فإذا أسأت إلى أخيك المسلم، وإذا أخذت ماله بغير حق، إذا جرحته بكلمة، وإذا اعتديت عليه في أمر، فإنما يعود ذلك على نفسك.
قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) فما بال الشحناء والبغضاء تسري؟! ألم نستمع لحديث أبي الدرداء عند الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟، قالوا: بلى، يا رسول الله!) فأي شيء أخبرهم به عليه الصلاة والسلام؟ قال: (إصلاح ذات البين؛ فإن إفساد ذات البين هي الحالقة)؟! فمن الذي يسعى بين الناس بالإصلاح، ومن يبذل وقته، ومن يبذل جاهه، ومن يحاول دائماً أن يؤلف بين القلوب، ويقارب بين الصفوف، ويجمع بين الأزواج، ويذلل العقبات بين الأقارب والمعارف؟!(146/11)
التحذير من فساد ذات البين
في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صيغة في ذات المعنى، لكنها صيغة تحذير: (إياكم! وسوء ذات البين؛ فإنها الحالقة)، رواه الترمذي وقال: حديث صحيح.
فكم يسعى كثير من الناس اليوم في أن يفسدوا بين هذا وذاك، وأن ينقلوا الكلام على سبيل النميمة وإذكاء نار البغضاء والشحناء! وكم نرى صوراً من ذلك وننسى التحذير الخطير الذي رواه عبد الله بن الزبير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحذير استقرأ واقع البشرية وتاريخ الأمم في قوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم وداء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده! لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أخبركم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم).
وعقد البخاري باباً في صحيحه فقال: باب في الإصلاح بين الناس إذا تفاسدوا، وقول الله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114]، ثم قال: وخروج الإمام إلى المواضع ليصلح بين الناس لأصحابه، وذلك من فعله عليه الصلاة والسلام عندما أمر أبا بكر أن يبقى ويصلي بالناس، وذهب عليه الصلاة والسلام إلى بني عوف مع بعض أصحابه ليصلح ما بينهم من خصومة.
وفي حديث أبي هريرة الشهير عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر أنواع الصدقات قال: (وتعدل بين الناس صدقة).
وقال ابن حجر رحمه الله: أنواع الصلح كثيرة: صلح المسلم مع الكافر، والصلح بين الزوجين، والصلح بين الفئة الباغية والعادلة، والصلح لقطع الخصومة إذا وقعت المزاحمة في الأموال أو المشتركات.
وكلنا يعلم الحديث الذي ترويه أسماء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل الكذب إلا في ثلاث: تحديث الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، وفي الإصلاح بين الناس)، فعظيم هذا الدين الذي يجعل تأليف القلوب وجمع الصفوف يستثني الكذب للوصول إلى هذه الغاية، فأصلح بين الناس ولو قلت لأحد الخصمين: إنه يحسن الظن بك، وهو ليس كذلك، ولو قلت: أنه يذكرك بخير، وإن لم يذكره إلا بخير قليل؛ لأن في هذا القول هدفاً هو أسمى وأعلى، إنه هدف ألفة المسلمين وأخوتهم ووحدتهم وقوة رابطتهم واستمرار صلتهم وعلاقتهم.
وفي حديث أم كلثوم بنت عقبة عند البخاري في الصحيح وغيره: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً).
كل هذه المعاني هي في ديننا، فما بال القلوب قد استبدت بها البغضاء، والنفوس قد ملئت بكثير من الشحناء، وصار بين الناس ما نراه ونلمسه؟!(146/12)
سماحة النبي صلى الله عليه وسلم مع أزواجه
بينما لو رأينا لوجدنا صوراً أخرى، أذكر منها اليسير في هذا المقام: كيف كانت معاملة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم لأزواجه في الظروف والأمور الصعبة، وفي التحبب والتقرب؟ أهدي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من إحدى زوجاته طعام وهو عند عائشة في يومها، ففتحت عائشة الباب وإذا بالخادم يأتي بالطعام هدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم من زوجة أخرى، ولنا أن نتصور كيف يكون الموقف! وبصورة تلقائية ضربت عائشة على يده، فسقط ذلك الصحن وانكسر وتناثر الطعام، ألا تهديه إلا في يومي؟ ألا تتقرب إليه إلا وهو عندي؟ وماذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف؟ تبسم عليه الصلاة والسلام ولم يزد على أن قال: (غارت أمكم، غارت أمكم)، ولو أحد فعل زوجه مثل ذلك لأقام الغارة عليها، ولو رأينا صوراً أخرى لوجدنا الكثير.(146/13)
حرص الصحابة على الألفة والأخوة
أنتقل إلى صورة أختم بها بين أبي بكر رضي الله عنه وربيعة بن كعب رضي الله عنه: كان ربيعة شاباً صغير السن، وهو الذي كان يصب للنبي صلى الله عليه وسلم وضوءه في الليل، وينام عند بيوته، وهو الذي قال له عليه الصلاة والسلام: (سلني ما شئت؟ قال: أسألك مرافقتك في الجنة؟ قال: أعني على نفسك بكثرة السجود).
فتزوج وكان له مال، يقول: فاختلفت أنا وأبو بكر على نخلة في حائط، قال: فاختصمنا وعلت أصواتنا، قال: فانصرف أبو بكر رضي الله عنه، وتوجه إلى المسجد، فانطلقت في أثره أجري، فلقيني بعض قومي، قالوا: ما لك؟ قلت: كذا وكذا، قالوا: فإن الحق لك، فما لك تركض وراءه؟ قلت: ويحكم! يغضب أبو بكر، فيغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لغضبه، فيغضب الله لغضبهما فأهلك.
كان يريد أن يدرك أبا بكر قبل أن يصل إلى الشكوى فيستسمح منه ويعتذر، ويرأب الصدع، وكذلكم كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت السماحة والتنازل والوفاء بمثل هذه الأحوال، وحسن العشرة، والقصد الأعظم بقاء الألفة والأخوة والمحبة.
نسأل الله عز وجل أن يملأ قلوبنا بالحب لإخواننا، والمودة لهم، وصدق الوفاء بوعودهم وعهودهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(146/14)
أهمية استغلال الوقت في الخير
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه.
وإن من التقوى اغتنام الأوقات، وإن منها حسن الصلات، والإصلاح بين أهل الخصومات.
واعذروني فقد أطلت في هذا قليلاً؛ لأن ما يمر بي وما يأتيني من هذه المشكلات يجعلني أشعر بمزيد من الخطر على أحوال مجتمعنا؛ لتفاقم هذه الصور.
وحري بنا أن نقول عكس ذلك، أن نقول: لمَ لا يكون في صيفنا هذا تحصيل علم، وصلة رحم، واستزادة من خير، وعمل في دعوة، وغير ذلك مما يمكن أن يحصِّل كثيراً من المصالح والخيرات؟ ومن جهة أخرى: لمَ لا نجعل هذه الأوقات -وفيها شيء من السعة واليسر- في الارتباطات؟ ولمَ لا نجعلها سبباً من أسباب صلة الرحم والقرب بين الناس والتآلف بين المجتمع؟ فنحن نلهث في الحياة الدنيا كأنه لم يعد عندنا وقت لكلمة طيبة، ولا لابتسامة مشرقة، ولا لزيارة مخلصة، ولا لأنس يربط القلوب، ويقرب النفوس! ذلك ما أحب أن أشير إليه.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لطاعته ومرضاته، اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى.
اللهم إنا نسألك أن تأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن تلهمنا الرشد والصواب.
اللهم اهدنا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنك، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم اجعل في قلوبنا المحبة لإخواننا، وفي نفوسنا السماحة في معاملتهم، اللهم ألف بين قلوبنا، ووحد بين صفوفنا، واجمع كلمتنا على الحق والعدل والتقى والهدى يا رب العالمين.
اللهم أزل من قلوبنا الشحناء والبغضاء لإخواننا جميعاً في كل أحوالنا وأوضاعنا وأوقاتنا يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك أن تحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأن تجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء.
اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، أحصهم اللهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً.
اللهم إنهم قد طغوا وبغوا وتجبروا وتكبروا وأذلوا عبادك المؤمنين، وانتهكوا حرمات المسلمين، اللهم فأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، وأرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، يا قوي يا عزيز يا متين! اللهم اشف صدور قوم مؤمنين من الكافرين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم ارحم ضعف إخواننا المسلمين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الأجر واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، واجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم انصر إخواننا المجاهدين في أرض العراق وفي فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين! اللهم سهل خطواتهم، وسدد رميتهم، ووحد كلمتهم، وأعل رايتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، اللهم احفظ عليها أمنها وإيمانها وسلمها وإسلامها ورغد عيشها وسعة رزقها برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم وفق ولاة أمور المسلمين لما تحب وترضى، وفق اللهم ولي أمرنا لرضاك، واجعل عمله في رضاك، اللهم ارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وأخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وترضوا على سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم صل وسلم وبارك وأكرم على نبيك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(146/15)
الصياد الماهر
إن الداعية المسلم كالصياد الماهر، وذلك أن الداعية يصيد الناس من بحار الشهوات والمعاصي، ومن غابات الدنيا، بشباك الحكمة والموعظة الحسنة، فيجب عليه إذن أن يعد عدته، وأن يهيئ نفسه، وأن يستفرغ جهده في مهمته، وأن يستفيد من صيده.(147/1)
الدعاة صيادو الخلق بشباك الحق
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، نحمدك اللهم حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه على آلائك ونعمك التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما تحب يا ربنا وترضى، نحمدك اللهم على نعمك المتواليات، وعلى أفضالك الغامرات، نحمدك اللهم على كل حال وفي كل آن، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيد الأولين والآخرين إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من اقتفى أثرهم وسار على دربهم، ونهج نهجهم، إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نبرأ من الثقة إلا بك ومن التوكل إلا عليك، ومن الخوف إلا منك ومن الرجاء إلا فيك، أنت ولينا في الدنيا والآخرة، برحمتك يا أرحم الراحمين! وبعد:(147/2)
صفات الصياد الماهر
أيها الإخوة الأحبة! فمع الدرس الرابع من الدروس العامة نقضي هذا الوقت بعون الله جل وعلا، ودرس اليوم عنوانه (الصياد الماهر).
وأول ما نبدأ به من الحديث: ما يتعلق بالصياد ووصفه، وكيف يكون ماهراً؟ ثم ما شأننا وهذا الصياد؟ ثم بعد ذلك حينما نربط بين الأمرين، نمضي قدماً لننتفع بما نحتاج إليه في مهمة عظيمة من مهمات حياتنا، ينبغي لنا أن نعرفها وأن نتبصر بها، فنقول: أولاً: ما عرف الناس صياداً يصيد وهو قابع في قعر داره، أو جالس على حلس في بيته، بل لابد له أن يخرج إلى مكان الصيد حتى يصطاد.
والثانية: أنه لا يمكن أن يخرج خلواً من عدته ليس معه إلا يدين خاويتين، بل لابد له من عدة يأخذها معه حتى يصطاد بها، ونحن نعرف أيضاً أنه يحتاج إلى تفقد عدته؛ ليطمئن إلى صلاحيتها للصيد، ولينتبه إلى فعاليتها التي يحتاج إليها، ومن بعد ذلك فإننا نعرف أنه يختار لكل نوع من الصيد عدته التي تخصه، فهو يعد الشباك لصيد البحر، ويعد السهام لصيد البر، ويعد البندقية لصيد الطير، وكل عدة لا تنفع إلا لصيد معين، فهو إذن لابد أن يحدد العدة على حسب الصيد الذي ينطلق إليه ويرغب في صيده.
وكذلك نعلم أنه كلما هيأ عدته وكثر أسبابها فإن ذلك يعود عليه بغنيمة أوفر في الصيد، فالذي عنده شبكة صغيرة لا يصيد مثل الذي عنده شبكة كبيرة، والذي عنده ذخيرة قليلة لا يصيد مثل الذي عنده ذخيرة كثيرة، فلاشك أن للعدة وتهيئتها أثراً بالغاً في عظم الصيد وكثرته.
ثم نمضي مع هذا الصياد بعد أن هيأ عدته وكثرها وجعلها مناسبة لصيده، وخرج من داره، فإنه قطعاً ولا شك سينطلق إلى مكان مناسب يتحرك فيه، ويرجع منه بصيد وافر، فلن يذهب مثلاً إلى مياه ضحلة ليس فيها سمك، أو يذهب إلى أرض فضاء ليس فيها صيد؛ لأنه حينئذ لن يكون صياداً فضلاً عن أن يكون صياداً ماهراً، فإذاً: لابد أن يختار المكان المناسب، وهذا المكان هو الذي تتوفر فيه أعداد كثيرة، وأسباب من النجاح وفيرة.
ثم إذا وصل إلى ذلك المكان لاشك أنه يحتاج أولاً إلى أن يفحص المنطقة، وأن يدرس الموقع دراسة جيدة، حتى يحدد لنفسه المكان المناسب الذي يتهيأ فيه لصيده، فإذا كان الأمر يحتاج إلى تخف تخفى عن الوحوش أو عن الغزلان التي بمجرد رؤيته تفر منه، وإذا كان الأمر يحتاج إلى رحب من المكان لينطلق ويعدو فلا شك أنه سيختار ذلك الموقع.
فإذاً مجرد وصوله إلى المكان المناسب لا يكفي، بل يحتاج إلى أن يدرسه وأن يفحصه، ومن بعد ذلك أن يتفاعل معه، فيقدر الموقع ويقرر المكمن الذي يستعد فيه لصيده، ثم نرى الصياد من بعد ذلك متربصاً كامناً متحلياً بالصبر، موصوفاً بطول النفس، لا يمكث فقط خمس دقائق فإن وجد صيداً وإلا رجع! هذا إن كان هاوياً، أما إذا كان ذلك الصيد مصدر رزقه فإنه لاشك سيمكث مهما طال الزمن، ومهما امتد الوقت.
ومن بعد ذلك نجده إذا بصر بصيده يجتهد اجتهاداً كبيراً في إصابة الصيد، فلا يتعجل ويرمي بذخيرته كيفما اتفق، بل يتأنى، وكما يقال: ينشن تنشيناً دقيقاً، لماذا؟ لأنه إذا أخطأ في تلك الإصابة فلا شك أن ذلك سيفوت عليه الصيد، ويحتاج من بعد ذلك إلى كرة أخرى، وإلى زمن آخر أطول؛ فلذلك لابد له من أن يستفرغ جهده في أن تكون الضربة الأولى هي الصائبة، فحينئذ يوفر على نفسه وقته ويوفر عدته، ويوفر جهده.
ونمضي معه أيضاً فإذا به يحرص كل الحرص على عدم تنفير الصيد، وهذه صفة مهمة في الصياد، فتراه يسير على أطراف قدميه، ويتوقى إحداث الصوت؛ لئلا ينفر الصيد، بل هو يبالغ في إحكام الطعم الذي يقدمه حتى لا ينفر منه الصيد، وهذه سمة أساسية في الصياد، أما إن كان غير ذلك فتراه بحركة طائشة ينفر صيده أو بطعم فاسد يقتل صيده، وهذا لا يمكن أن يكون بحال ماهراً ولا صياداً.
ثم إننا نجده من بعد ذلك لا يدب إلى نفسه اليأس، بل إذا فاته الصيد في المرة الأولى عاود الكرة مرة أخرى في زمن آخر، وإذا كانت الأرض أو الموقع غير مناسب انتقل إلى غيره، لماذا؟ لأنه لابد له من الصيد؛ فهو لا يستغني عنه لأنه مصدر رزقه، ثم أيضاً نجده لا ينصرف عن مهمته بعوارض أخرى، فلا يصرفه مثلاً جمال المنظر في البحر وزرقته، والشمس ولون غروبها، فيتأمل في ذلك المنظر الجميل، أو يضع بندقيته جانباً، وينظر في رواء الأشجار، وطيب الثمار، وخرير المياه! فإنه بذلك قد توجه وجهة أخرى، ونسي المهمة التي خرج لأجلها، وبالتالي سيضيع الثمرة التي خرج ليقطفها.
وآخر الأمر: فإننا نجد ذلك الصياد إذا وصل بصيده انتفع به من وكل وجه من الوجوه، فإذا بلحمه يؤكل، وإذا بجلده يدبغ، وإذا بقرنه يباع، فلا يترك منه شيئاً إلا وينتفع به انتفاعاً كاملاً.(147/3)
المسلم الكامل وعلاقته بالخلق
هذه صورة لهذا الصياد، فما صلتنا به؟ وهل سنتحدث عن صيد اللؤلؤ أو عن صيد السمك، أو عن صيد الطيور، أو عن أي شيء من هذه الأمور؟ ليس ذلك هو مقصدنا وغايتنا، وإنما هي تقدمة وتوطئة لما نريد أن ننبه عليه، وأن نتأمل فيه، ونربط الربط الذي ينقلنا إلى جوهر الموضوع ولبه، فنمضي مع بعض أقوال عبد القادر الجيلاني وهو يبين لنا صفات المسلم الكامل، والزاهد البصير، فيقول لنا في وصفه: (الزاهد الكامل في زهده لا يبالي من الخلق، لا يهرب منهم بل يطلبهم)، ثم يقول: (المبتدي يهرب من الفساق والعصاة، والمنتهي يطلبهم)، يعني يخرج إليهم، قال: (وكيف لا يطلبهم وكل دوائهم عنده؟!).
ثم يأتي الموضع الذي سينقلنا إلى الربط بين القضيتين فيقول: (من كملت معرفته بالله عز وجل صار دالاً عليه، يصير شبكة يصطاد بها الخلق من بحر الدنيا) فإذاً: حديثنا عنك أيها المسلم! عنك أيها العالم! عنك أيها الداعية! عنك أيها الواعظ! وكما قال بعضهم: العلماء يصطادون الخلق بشباك الحق، فأنت صياد لكنك تصيد الناس، من الفسق إلى الطاعة، من الكفر إلى الإيمان، من الغفلة إلى التذكر، فمهمتك في هذه الحياة أن تكون صياداً ماهراً، وكما أشرنا سابقاً أن للصياد صفات، ورأينا كيف تتحقق له صفة المهارة، وكيف يحظى في آخر الأمر بالثمرة التي يرجوها، فكذلك نمضي معك وأنت صياد داعية، لنرى معاً كيف ينبغي أن تصيب، وكيف ينبغي أن تأخذ ذات المنهج، وأن تسير على ذات الخطى التي أخذ بها ذلك الصياد الذي أسلفنا ذكره.(147/4)
فضل الدعوة إلى الله
غني عن القول أننا لا نحتاج إلى الإفاضة في فضل ذلك الصيد، أعني: فضل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا أمر يطول الحديث فيه.
وحسبنا منه تذكرة أن الله جل وعلا أثنى على هؤلاء الدعاة الذين يتهيئون لصيد الخلق إلى حياض الحق، فيقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].
فتلك مرتبة عليا يبينها النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث علي بن أبي طالب عند الإمام البخاري: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، وكذلك يبينها لنا من حديث أبي مسعود عند الإمام مسلم: (من دل على خير فله مثل أجر فاعله)، فيدفعك ذلك إلى أن تعرف هذا الأمر، وأن تعرف كذلك عظمة الثواب الذي يتصل فلا ينقطع، ويدوم دواماً في الحياة وبعد الممات، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث)، وذكر منها: علمٌ ينتفع به، وهذا العلم هو ذلك التوريث للدعوة والسيرة الحسنة والقدوة الكاملة.(147/5)
من آداب الداعية(147/6)
حرص الداعية على الدعوة
بعد بيان الفضل للدعوة يأتي الحرص عليها، فالذي تكون المسألة بالنسبة له هواية عارضة، أو قضية ثانوية، أو عملاً يشغل به فضول أوقاته، ليس هو الذي نركز عليه في حديثنا، وليس هو الذي يعبر عنه قول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].
وليس هو الذي مضى طول عمره وهو في هذا الشأن، وهذا الطريق، امتثالاً لقول الله سبحانه وتعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99].
فلابد أن نعرف -كما مر بنا في وصف الصياد- أننا قصدنا به الذي يعتبر الصيد مهمته وطلبته ومصدر رزقه، فكذلك نقصد هنا: المسلم الذي يرى الدعوة مهمته، ويرى الدعوة فريضته، ويرى الدعوة واجبه، كما جاء في نصوص كثيرة متضافرة ليس في الوقت مجال لذكرها.
وتأمل في سياق سريع ذلك الحرص الفريد العجيب الذي مثله لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حينما جعل مهمته وغايته في الحياة هي هداية الناس، ودعوتهم إلى طريق الله سبحانه وتعالى، حتى خاطبه القرآن في شدة حرصه، فقال الله جل وعلا: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]، وقال الله سبحانه وتعالى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [النحل:37]، وقال سبحانه وتعالى: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127].
وذكر من حاله عليه الصلاة والسلام: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، أي: لعلك قاتل نفسك، ومتلف جسدك، ومضيع وقتك وأنت تتبع القوم، وتمضي في إثرهم، وهم يعرضون عنك، أنت تريد لهم الخير وهم يبتعدون عنك! ومع ذلك كان هذا الحرص من منطلق الفهم الصحيح لعظمة الرسالة، ولخيريتها، فالذي يعرف الخير ينبغي أن تكون نفسه -بتأثرها بذلك الخير- تحب الخير للآخرين، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، والنفس التي ترى النور تأسى وتحزن على الذين يعيشون في الظلام، يتخبطون فيه، وينزلقون مرة بعد مرة، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، فجعلت الهوام والفراش يقعن فيها، وجعل يذبهن عنها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار).
لابد لك أن تكون حريصاً غاية الحرص على هداية الخلق، وأن تعرف أن هذه المهمة واجبة، وأن هذه الرسالة عظيمة، وأنها ينبغي أن يستفرغ لها كل الوقت، ومعظم الجهد، وكل الفكر؛ حتى تؤتي ثمارها، كما كان على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.(147/7)
خروج الداعية لدعوة الناس
وقد ذكرنا أن الصياد لا يقبع في بيته بل يخرج، وتأمل هذه المقالات وهذه الأمثلة التي تنعي عليك جلوسك في بيتك، وقعودك عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتأخرك عن إرشاد الخلق، وعدم خروجك إليهم لتبصرهم بما هم فيه من الخطأ، وما يقعون فيه من الزلل: فهذا طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وأرضاه أحد المبشرين بالجنة، يقول: إن أقل العيب على المرء أن يجلس في داره! وما أقواها من كلمة! فكيف بما هو أكثر من ذلك؟ ثم استمع إلى عطاء بن أبي رباح، من جلة التابعين، ومن أئمة علمائهم في مكة المكرمة، وهو يقول: لأن أرى في بيتي شيطاناً خير من أن أرى في بيتي الوسادة؛ لأنها تدعو إلى النوم! فانظر إلى فقه القوم كيف دفعوا الجسد للنهوض، وكيف أرادوا ألا تركن أنفسهم إلى الدنيا، وألا يظلوا منكمشين عن الناس، يحبسون العلم بصدورهم، ويحبسون الحكمة بأفواههم، فهذا التابعي الجليل كان يرى أن مخدة النوم التي تدعو إلى الكسل وإلى التثاقل وعدم الخروج، كان يراها أشد عليه من الشيطان الذي يخطر بينه وبين نفسه.
ثم تأمل أيضاً تلك المقالة من الغزالي القدير -رحمة الله عليه- وهو يقول: (اعلم أن كل قاعد في بيته أينما كان فليس خالياً في هذا الزمان عن منكر)، عن منكر من حيث التقاعد عن إرشاد الناس، وتعليمهم وحملهم على المعروف، فما دمت قاعداً في بيتك فلابد أن يلحقك نوع قصور وبعض إثم؛ لأنك ما خرجت لتعرف الناس وتصحح نهجهم.
ونمضي من بعد ذلك مع فعل النبي صلى الله عليه وسلم منذ أن بزغ نور الإسلام في أول صلة بين الأرض والسماء، من قول (اقرأ) الأولى، التي نزل بها جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاءته: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، وجاء من قبلها {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2].
ولما نزل قول الله جل وعلا {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] خرج عليه الصلاة والسلام من بيته، ورقى الصفا وجعل ينادي: يا بني فهر! يا بني عدي! وجعل ينادي قريشاً بطناً بطناً، ثم يقول لهم عليه الصلاة والسلام: (أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً ببطن هذا الوادي تريد أن تغير عليكم، أفكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذباً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب أليم، فقال أبو لهب -عليه لعنة الله-: تباً لك، ألهذا جمعتنا؟!).
واسمع لهذا الحديث عند البخاري من رواية ابن عباس وعند أحمد بسند رجاله رجال الصحيح عن رجل من بني مالك بن كنانة -وهو صحابي، وجهالة الصحابي لا تضر- قال: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز يتخللها، فيقول: يا أيها الناس! قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، وأبو جهل في إثره يحثو عليه التراب، ويقول: لا يغوينكم هذا عن دينكم، فإنما يريد لتتركوا آلهتكم، وتتركوا اللات والعزى)، فتأمل هذا النص وهو يقول: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز يتخللها)، يعني: ينطلق إلى المواسم، إلى الأسواق، يخرج إلى الناس، يلقاهم في مجامعهم، يغشاهم في مجالسهم، وتلك أول خطوة في السير، وأول خطوة في طريق الدعوة، وروى البخاري أيضاً من حديث أنس رضي الله عنه: (أن الصحابة من الأنصار جاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا له: لو أتيت عبد الله بن أبي رأس المنافقين -يعني: لو أتيته لتدعوه، ولعلهم كانوا يقصدون أنه قد يصد عن الدعوة إن لم يؤت إليه؛ لشرفه ومقدراه، فما استعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك- فقال: انطلقوا بنا إليه، وانطلق عليه الصلاة والسلام يركب حماره، وانطلق المسلمون معه يمشون، فقال ذلك المنافق عليه لعنة الله للنبي: إليك عني! والله لقد آذاني نتن حمارك، فرد عليه بعض الصحابة رداً غليظاً يكافئ قوله).
وشاهد الحال أن النبي صلى الله عليه وسلم انطلق إلى أهل النفاق لدعوتهم.
ثم انظر إلى النص الآخر، وهو عند البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كنا جلوساً في المسجد، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: انطلقوا إلى يهود، انطلقوا إلى يهود).
يستنهض الناس معه انطلاقاً وخروجاً إلى الناس في مجامعهم، فلما جاءهم ودخل عليهم، وهم في بيت المدراس أي: الذي يتعلمون فيه قال: (يا معشر اليهود! أسلموا تسلموا أسلموا تسلموا قالوا: بلغت يا أبا القاسم! قال: ذاك أريد.
ثم أعاد عليهم مرة أخرى فقال: أسلموا تسلموا قالوا: قد بلغت يا أبا القاسم!).
ثم قال: (اعلموا أن الأرض لله ورسوله، وإني أريد أن أجليكم، فمن وجد منكم بماله شيئاً فليبعه، وإلا فاعلموا أنما الأرض لله ورسوله).
فهكذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحرك، ولاقى القوم من كفار قريش في أسواقهم، ولاقى القوم من اليهود في مدارسهم، ولاقى القوم من المنافقين في تجمعاتهم، وخرج في كل حدب وصوب، وخرج إلى الطائف لما وجد البيئة المكانية غير ملائمة، فأراد أن يشق للدعوة طريقاً في موضع آخر، ثم لقي ما لقي من السخط والإعراض، وجاءه ملك الجبال -كما في البخاري في الصحيح- وقال: (لو شئت أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت، فقال: لا، لعل الله يخرج من أصلابهم من يؤمن بالله ورسوله).
فانظر عظيم الحرص على هداية الخلق، وانظر عظيم التعلق بالدعوة وعدم اليأس، وانظر إلى سعة الصدر، وطول النفس، وعظيم الصبر عنده صلى الله عليه وسلم.
ثم نرى ذلك نهج الصحابة رضوان الله عليهم، نهج أتباع محمد عليه الصلاة والسلام، والأمثلة في ذلك تطول، فـ عمر رضي الله عنه ما فتحت بلد من بلاد الإسلام إلا وأخرج إليها علماً من أعلام الصحابة رضوان الله عليهم، فبعث إلى الشام معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبا الدرداء، بعثهم لأهل الشام، وبعث لأهل الكوفة ابن مسعود رضي الله عنه معلماً ووزيراً.
ولم يكن ذلك شأن الصحابة فحسب، بل هو شأن من جاء بعدهم وسار على نهجهم، فإذا نحن مع سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث رحمة الله عليه وهو يقول: والله لو لم يأتوني لأتيتهم في بيوتهم، يعني: أصحاب الحديث.
(لو لم يأتوني لأتيتهم في بيوتهم) فلا ينتظر الناس حتى يأتون إليه يطلبون العلم منه، وذلك شاهد حديث النبي صلى الله عليه وسلم، الذي أخبر أن مثله كمثل الغيث الذي أصاب أرضاً، فتنوعت هذه الأراضي التي جاءها ذلك الماء، فمنها ما هي قيعان سبخة لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، ومنها ما تمسك الماء ولكنها لا تظهره، ومنها ما تمسك الماء وتنبت الكلأ، فتلك التي تعلي راية الحق وتصدع بقول الحق، وتوصل كلمة الحق إلى كل أحد، فذلك كان دأب القوم.
وتأمل في قصة مالك بن دينار التي يذكرها ابن الجوزي، وهو يبين لنا عظيم الفطنة والحركة في مسألة اصطياد الناس: يذكر أنه جاء لص إلى بيت مالك ليسرق منه، فدخل -ومالك من الزهاد ليس عنده من الدنيا قليل ولا كثير- فجعل يقلب، فإذا بالبيت ليس فيه ما يستدعي السرقة، وبصر به مالك فقال: يا هذا! أفاتك حظك من الدنيا؟ قال: نعم.
قال: فهل لك في شيء من الآخرة؟ قال: فماذا؟ قال: توضأ وصل ركعتين، ثم ما لبث أن أخذه لصلاة الفجر، فقال له بعض الناس: من هذا؟ قال: جاء ليسرقنا فسرقناه! فهذه هي الروح التي بها ينطلق الداعية، وينطلق بها الصياد الذي يصيد الخلق إلى طريق الحق، وكما قال الشاعر: إني رأيت وقوف الماء يفسده إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب والأسد لولا فراق الأرض ما افترست والسهم لولا فراق القوس لم يصب الذي يبقى في مكانه لا يحصل له شيء، وفي الحديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً).
إذاً: لابد من الحركة، ولا يمكن للإنسان أن يكسب رزقه في الدنيا وهو جالس في بيته، فكذلك لا يمكن أن يكسب أجره في الآخرة بإرشاده للناس وتبصيرهم وهو جالس في بيته لا يتحرك ولا يتقدم، ولذلك كان فقه القوم من أهل البصيرة يعتمد على أن الإنسان لابد له أن يغشى مجامع الناس، وأن يخالطهم، أما العزلة والانحسار وعدم الاحتكاك فهذا ذم ليس بعده ذم، ولذلك حتى المتأخرون ينبهون على ذلك، فهذا الرافعي الأديب -وهو قريب العهد بنا- يقول عن الذي انعزل عن الناس: يحسب أنه قد فر من الرذائل إلى فضائله، ولكن فراره من مجاهدة الرذيلة هو في نفسه رذيلة لكل فضائله، ثم يتابع فيقول: وماذا تكون قيمة العفة والأمانة والصدق والوفاء والبر والإحسان، إذا كانت فيمن انقطع في صحراء أو على رأس جبل؟! أيزعم أحد أن الصدق فضيلة في إنسان ليس حوله إلا عشرة أحجار؟! مع من يصدق؟! وكيف نعرف صدقه وهو لم يدخل مع الناس ليخبرهم أو يعاشرهم فيعرفون حاله؟! ثم قال: وايم الله؛ إن الخالي من مجاهدة الرذائل جميعاً لهو الخالي من الفضائل جميعاً! فلذلك لابد من فهم المبدأ الأول والأساس الأول: وهو أنه لابد أن تخرج، ولابد أن تخالط، ولابد أن تعاشر، ويكون غرضك في ذلك أن تصلح وأن توجه، وأن ترشد، ولذلك يذكر ابن القيم عن بعض السلف أنه كان يقول: يا له من دين لو أن له رجالاً! الدين موجود في القرآن وفي السنة، لكن من ينقله؟ ومن يطبقه؟ ومن يمثله في واقع الحياة؟ ومن يبشر به الناس؟ ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37] أي: ذوي الرجولة الكاملة.(147/8)
عدة الداعية
عدة الداعية كثيرة، ولكن أسسها يمكن أن تذكر في إيجاز، ويندرج تحتها كثير من الفروع، ومن أساسها:(147/9)
إيمان الداعية بما يدعو إليه
الإيمان الصادق العميق، ذلك الإيمان الذي يظهر جلياً في ثلاثة أمور: إيمان بأن الأجل بيد الله.
وإيمان بأن الرزق بيد الله.
وإيمان بمراقبة الله سبحانه وتعالى.
هذا هو الإيمان المؤثر، وليس فقط الإيمان النظري أو الجدلي: يحفظ من الكتب، ويحفظ من المقالات، ويعرف من المعضلات والمشكلات الشيء الكثير ثم لا تجد له رقة في قلب، ولا قوة في حق، ولا ثباتاً على إيذاء، فذلك كما قال الله سبحانه وتعالى: {يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء:77]، ولا شك أن الذي يخرج من قلبه هذه الخشية لله سبحانه وتعالى، لا يمكن أن يكون ذلك النموذج الذي يتهيأ بعدته للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ولاشك أننا نعرف في ذلك أمثلة كثيرة سواء من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، أو من سيرة أصحابه رضوان الله عليهم.(147/10)
تقوى الله تعالى
العدة الثانية: وهي جامعة شاملة، تبين كل ما يلحق بذلك، وهي قول الله سبحانه وتعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:197].
زاد التقوى أعظم عدة الداعية، لأن فيها حياة للقلوب، ونور للبصيرة، فلا تتأثر بالشبهات، وهذه التقوى تحتاج إلى عهد وإلى ميثاق {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:91]، وتحتاج إلى مراقبة لله سبحانه وتعالى دائمة {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218 - 219]، وتحتاج إلى محاسبة كاشفة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18]، وتحتاج إلى مجاهدة دائمة موصولة {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69].(147/11)
حرص الداعية على التفقه في الدين
العدة الثالثة: العلم والفقه في الدين: والفقه أوسع دائرة من مجرد العلم الذي ينصرف الذهن فيه إلى ما يحفظ من كتاب الله، أو ما يعرف من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ما يعرف من أحكام الفقه، فإن الفقه في الدين هو نوع من العلم والبصيرة، وهذه مسألة مهمة وعدة من العدد اللازمة للداعية، وليس العلم بكثرة المحفوظ، وإنما بحسن الفهم، ولذلك لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس قال: (اللهم فقه في الدين، وعلمه التأويل).
الفقه في الدين: بصر بالمقاصد، معرفة بالأولويات، ترتيب للأهميات، إدراك لواقع الحال، معرفة لأثر المتغيرات، تنبه لاختلاف الأشخاص والنفوس، كل ذلك نوع من الفقه في الدين، ولذلك أحاط الله سبحانه وتعالى بكل شيء علماً، ثم منَّ على رسوله صلى الله عليه وسلم بمنة العلم، فقال جل وعلا: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113]، وقال قائل السلف: ليت شعري ماذا أدرك من فاته العلم، وماذا فاته من أدرك العلم.
من فاته العلم فلا حياة لقلبه، ولا صحة لعمله؛ لأنه فاقد للعلم الذي يبصر بذلك كله، ومن أدرك العلم فقد بصر بأمر الله سبحانه وتعالى، وبهدي الرسول عليه الصلاة والسلام، وحصل خير الدنيا، ويرجى له خير الآخرة، فماذا فاته؟! هل فاته شيء من رزق أو قوت أو مال؟ كل ذلك عند المسلم هين يسير.
وجاء عن لقمان الحكيم عند تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان:12] أنه قال لابنه: جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة، كما يحيي الأرض بوابل السماء.
والعلم مقدم على العمل، بل هو مفتاح العمل {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]، كيف تستغفر الله إن لم تكن على علم ومعرفة بالله سبحانه وتعالى وعظمته والإيمان به؟! كيف يمكن أن تسير في التزامك أولاً فضلاً عن دعوتك من غير ذلك الزاد المهم في هذا الباب؟! وينبغي أن ننبه إلى أن هذا العلم وهذا الفقه يشمل مسائل كثيرة، نوجزها في أمور، أولها: تعلم ما لا يسع المسلم جهله مما يحتاج إليه من أمور الإيمان وأحكام العبادات والمعاملات، وكما قال أهل العلم: إن العلم فرضان: الأول فرض عين، وهو إجمالاً: معرفة الله جل وعلا، ومعرفة أسمائه وصفاته، وتعظيمه سبحانه وتعالى، وخشيته ومحبته، ويلحق بذلك أيضاً تعلم المفروض عليك من أحكام الصلاة التي لابد لك منها، ومن أحكام الزكاة إن كنت صاحب مال، ومن أحكام الحج إن استطعت إليه، ومن أحكام البيع والشراء إن كنت ممن يدخلون في بابه، هذا أمر لا مناص منه.
والثاني: فرض كفاية، وهو: الاستزادة من العلم فوق هذا القدر، فلا تحرم نفسك أنوار القرآن والوقوف على معانيه، ولا تحرم نفسك هدي النبي صلى الله عليه وسلم والوقوف على سيرته، ولا تحرم نفسك مما نقل أو مما خلد التاريخ من آثار المتقدمين في أنواع العلوم فقهاً وأصولاً وحديثاً، وكل علم من علوم الدين والشريعة، فإن ذلك كلما زاد كانت العدة والذخيرة كثيرة، والشبكة كبيرة، وكلما أحسنت الصيد، فالعالم له أثر في الناس غير طالب العلم، والعامي غير طالب العلم، فبحسب ما تزيد من عدتك وتزيد من علمك وبصيرتك يكون لك في هذا الشأن قدم سابقة، ونتيجة أكبر.
ويلحق بذلك أيضاً مما يتعلق بالعلم: البصر بالواقع والعلم به، وهذه مسألة مهمة، فقد جد في حياة الأمة كثير من الفتن، وكثير من المذاهب الردية، وكثير من المفاسد، والحكمة تدعو أن يكون الداعية ملماً بها، لا أن يعيش في هذا العصر يقرأ كتبه فقط، بل يستنزل ذلك المكتوب ليطبقه أو لينفعل ويتفاعل به مع الواقع، حتى يمكن أن ينتفع به.(147/12)
تمثل القدوة في الداعية والتزامه بما يدعو إليه
العدة الرابعة: الالتزام والقدوة: لابد أن يكون من أعظم العدة التزامك بما تدعو إليه، وكونك قدوة للناس، فيما تحثهم وتحضهم عليه، ويشهد له قول الله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية أصحابه أن يحلقوا رءوسهم، وأن يحلوا إحرامهم؛ لأنه قد عقد الصلح، وعزم على الرجوع، شق ذلك على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سلمة مغضباً، فقال: (هلك الناس! قالت: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: أمرتهم فلم يأتمروا، قالت: يا رسول الله! فإن الناس قد دخل عليهم من ذلك الأمر شيء عظيم، لو أنك بادرت فحلقت لفعلوا، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وحلق رأسه، فابتدر القوم يحلقون، حتى اختلفت أمواسهم وسالت دماؤهم)، فكان ذلك التقدم بالفعل والتطبيق أقوى في التأثير من مجرد القول، وهذا هو شأن الإنسان الذي ينبغي أن يكون على هذا الأمر، ولذلك قال الشافعي: من وعظ أخاه بفعله كان هادياً، ولسان الحال أبلغ من لسان المقال، وهذا أمر مهم جداً.(147/13)
الربانية
العدة الخامسة: الربانية: فإن الداعية ما لم يكن موصولاً بالله، متميزاً في هذا الشأن، فإنه لا يمكن بحال من الأحوال أن ينجح في مهمته، ما لم يمرغ جبهته بالسجود، ما لم يعود عينه دمعة الخشوع، ما لم يستحضر قلبه في تلاوة القرآن، ما لم يدم رفع كفه دعاءً لله سبحانه وتعالى، ما لم يعود نفسه الإنفاق في سبيل الله، ما لم يكن لسانه رطباً بذكر الله، ما لم يكن متميزاً بهذه الصلة، فلا شك أنه مهما كان في ظاهر سلوكه الذي يظهر به أمام الناس قدوة، لكنه يحتاج إلى الصلة التي تخفى على الناس، وفيها تثبيته وقوته، وفيها يبقى على دعوته إلى أن يلقى الله سبحانه.
هذه كانت عبارات موجزة فيما يتصل بعدة ذلك الداعية وآدابه.(147/14)
معرفة الداعية مقامات المدعوين وفهم نفسياتهم
وقد قلنا: إن هذه العدة لا بد أن تكون مناسبة للصيد، فالشبك للبحر، والسهم للبر، والبندقية للطير، ونحو ذلك، فليس من الفطنة ولا من الحكمة أن تأتي للعامي فتحدثه في أصول الفقه، وتأتي للذي عنده بصر في العلوم الطبيعية فتحدثه عما ليس له به صلة.
هذا نوع من عدم الإتقان، كأنك جئت إلى البحر لتصطاد سمكة ببندقية! فإنها لن تصيب، وإن أصبت فهي إصابة طائشة، ولذلك فإن على الداعية معرفة مقامات المدعوين، وفهم نفسياتهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما سمع مقالة العباس له: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فلو جعلت له شيئاً! تلطف الرسول صلى الله عليه وسلم في المدخل إلى أبي سفيان، وصاده من هذا المكمن، فقال: (من جلس في داره فهو آمن، ومن دخل في البيت الحرام فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن)، ولماذا أبو سفيان على وجه الخصوص؟ لأجل هذه السمة التي كانت فيه، رضي الله عنه وأرضاه.
ويبين لنا صفوان بن أمية منطقاً آخر، يجعله أيضاً منهجاً في هدي الرسول عليه الصلاة والسلام، يقول: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبغض الخلق إليّ، فما زال يعطيني، -أي: من المال- حتى كان أحب الخلق إليّ.
وكذلك فعل النبي عليه الصلاة والسلام مع مسلمة الفتح يوم حنين، حيث أعطاهم وأعطاهم تأليفاً لقلوبهم، فكل إنسان له مدخل، وله مناسبة معينة، والمناسبة تختلف باختلاف الأشخاص وباختلاف أحوال الأشخاص، وقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر، فهذا سائل يقول له: (أوصني، فيقول النبي: لا تغضب)، والآخر يسأله: (أوصني، فيقول: لا يزال لسانك رطباً بذكر الله)، وثالث يسأله فيجيبه بإجابة أخرى، وما تنوعت الإجابات إلا لمناسبة أحوال هؤلاء الناس، فلابد أن تعرف ذلك الصيد، وما هي العدة التي تناسبه: إن كان من أهل العلم فمدخله العلم، وإن كان من أهل العلاقات الاجتماعية، فمدخله كيف راعى الإسلام تلك العلاقة وضبطها، وإن كان من أهل التجارة والاقتصاد، فمدخله كيف حث الإسلام على العمل والسعي في كسبه، وكيف يتعامل معه، ولابد أن يصدم الإنسان حينما لا يدرك هذه الغاية وهذه الحقيقة، فيتعثر في النجاح، فيأتي وليس عنده إلا نفس العدة، يريد أن يصيد بها كل خلق الله وبنفس الأسلوب، وهذا لا يحصل به الصيد، بل هو نوع من أنواع تنفير الصيد الذي سيأتي حديثنا عنه لاحقاً.
ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم نجابة ابن عباس قال: (اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل) ولما رأى في ابن عمر مزية العبادة قال: (نعم الرجل عبد الله! لو كان يقوم من الليل) ولما رأى في أبي بصير شكيمة الحرب قال: (ويل أمه مسعر حرب لو كان معه رجال).
فبحسب الحال الذي تقتضيه الدعوة، وبحسب الحال الذي في هذا الشخص كان النبي صلى الله عليه وسلم يوجه، ولذلك كان الصحابة مختلفين في التخصص، ولم يكونوا كلهم على شكل وتخصص واحد، بل كان كل منهم يتميز بميزة: فـ أبي أقرؤهم، ومعاذ أعلمهم بالحلال والحرام، وزيد أفرضهم، وهكذا، ومن راعى ذلك كانت له النفوس صيداً سهلاً لا يحتاج إلى مزيد عناء، والذي يأتي بمفتاح ويدخله في موضعه فإن بابه يفتح سريعاً، أما إن كان فيه نوع من عدم المناسبة فإنه يحاول ويحاول، وقد يفتح وقد لا يفتح، وقد يكسر مفتاحه بالكلية، وقد يكسر القفل أيضاً، ولذلك ينبغي أن تكون صاحب بصيرة، فإذا جئت إلى قفل تفتحه، وما دخل المفتاح، أو علمت أنه ليس مفتاحه، فلا تكن غبياً فتصر على أن تفتحه بهذا المفتاح، فإنك بذلك تعطل المفتاح وتعطل القفل، ولن تظفر بنتيجة، بل غير مفتاحك، وغير أسلوبك، وغير عدتك، فإن هذا هو الذي ينبغي أن يكون.(147/15)
انتهاز الداعية للفرص والمواقف
وكان النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً ينتهز الفرص، فذات مرة مر عليه الصلاة والسلام بجدي أسك ميت، أي: جدي ميت مقطوع الأذن فقال: (من يشتري هذا بدرهمين؟ فسكت القوم، فقال: من يشتري هذا بدرهم؟ فقالوا لما قال ذلك: والله يا رسول الله! لو كان حياً لما كان لأحدنا فيه حاجة! فقال: لهوان الدنيا على الله أهون من هذا عليكم) فالنبي صلى الله عليه وسلم انتهز هذه الفرصة وهذه المناسبة فرمى رميته؛ لأنه ليس في كل مرة تتاح الفرص، فلا ينبغي أن يكون الصيد في موضع مناسب وفي ظرف مهيأ وأنت تغفل عنه، فإذا هرب الصيد احتجت إلى أن تلاحقه، وأن تنصب له الشراك، فما دام قد تهيأ بين يديك، وجاء في الظروف المناسبة، فدونك فارم سهمك حتى تصيب.
وكذلك لما رأى النبي عليه الصلاة والسلام المرأة وهي تبحث عن ابنها، فلما رأته ضمته إلى صدرها وألقمته ثديها قال: (أترون هذه ملقية بولدها في النار؟ قالوا: هي أرحم به من ذلك، فقال: والله إن الله لأرحم بكم من هذه بولدها).
ونبه النبي عليه الصلاة والسلام معاذاً إلى طبيعة القوم الذين سيأتيهم عندما أرسله إلى اليمن، فقال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب) فهم ليسوا مثل غيرهم من أهل الشرك (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم استجابوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات، ثم أعلمهم إن استجابوا لذلك أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم).
ثم حذره بعد ذلك من الأساليب التي تنفر الصيد، فقال: (وإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب).
إذاً: أعطاه كل العدة التي يحتاجها باعتبار اختلاف الحال، ثم أعطاه التدرج الذي يحتاج إليه، ثم حذره من الأمور التي ينفر بها صيده، وتتعطل بها مهمته.
وقلنا من بعد ذلك إنه ينبغي على الصياد أن يتفقد عدته ويجهزها، كذلك الداعية إذا أراد أن يذهب لدرس أو لعظة أو لقوم في مجلسهم لابد أن يتهيأ له بمراجعة معلوماته، ويتهيأ بما يحتاج إليه المقام، وقلنا إنه كلما زادت عدته وذخيرته كلما كان صيده أكثر كما أشرنا، وقلنا لابد أن يفحص المنطقة ويحدد الموقع، وهذا المقصود به أن يعرف أحوال الناس: هل هم قوم قد غلب عليهم الانحراف في الاعتقاد، أو قوم غلب عليهم انحراف في سلوك، أو قوم غلبت عليهم الغفلة، فلا يمكن أن تأتي إلى قوم وإلى مجتمع وأنت لا تعرف طبيعة الإعلام الذي يوجههم، ولا طبيعة العلم الذي يدرسونه، ولا طبيعة الأعراف الاجتماعية المتحكمة فيهم، فالمجتمع القبلي غير المجتمع الحضري.
فلابد أن تدرس ذلك كله، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يدرس هذا الأمر، ويعرف التفاوت بين الناس، والاختلاف في شأن القبائل وفي شأن أعيان الناس، وفي شأن العادات التي كانت مترسخة فيهم، ولذلك حتى سياسة التدرج في التشريع كانت موافقة لذلك؛ فقد قالت عائشة: لم يكن أول ما نزل (لا تشربوا الخمر)، وإنما نزل أول الأمر آيات الإيمان والاعتقاد، فلما تاب الناس وفاء الناس إلى الإسلام نزل (لا تشربوا الخمر) وحرم الله سبحانه وتعالى بعد ذلك الخمر.(147/16)
صفات أساسية يجب على المسلم التحلي بها(147/17)
صبر الداعية وعدم استعجاله للنتائج
ثم بعد أن يتربص ويكمن الصياد يحتاج إلى الصبر، وكذلك هذا الداعية، لابد أن يتربص وأن يتأنى، ولذلك تأمل في نصيحة عائشة رضي الله عنها لقاص أهل المدينة في الحديث الذي رواه الإمام أحمد ورجاله رجال الصحيح، قالت له: ثلاثاً لتبايعني عليها أو لأناجزنك، فقال: ما هن؟ قالت له: اجتنب السجع من الدعاء، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا يفعلونه، ولا تمل الناس، ولا تحدثهم إلا في الجمعة مرة واحدة، فإن زدت فاثنتين، فإن زدت فثلاثاً، ثم قالت له: ولا ألقينك تأتي القوم وهم في حديثهم فتقطع عليهم، ولكن إذا فرغوا وأقبلوا عليك فحدثهم.
إذاً: انظر إلى مسألة الصبر، فلا ينبغي للإنسان إذا تعلم كلاماً أو أخذ مبدأ أن يقذف به على أول عابر، وأن يتخلص منه في أول مناسبة، كأن يأتي إلى ناس في مناسبة زواج فيحدثهم عن الموت، أو يعكس الأمور ويخلط بينها، عليه أن يكون كالصياد عندما يضع شبكته من الليل ويتأنى حتى يتجمع السمك فيها، ثم يأتي ويأخذها برفق، وقد كان لذلك الوقت ولذلك التأني حظه.
فلذلك قلنا: لا بد أن يتربص وأن يتحلى بالصبر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مضرب المثل في ذلك، فقد كانوا يعرضون عنه هنا فيأتيهم من هنا، وتفوت الفرصة الأولى فيلاحق الفرصة الثانية، وهذه مسألة مهمة جداً نلمحها كثيراً في المواقف العمرية، أعني مواقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه ورحمه الله؛ فقد كان يستعجل في بعض الأحيان ويريد أن يحسم القضية، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام ببصيرته النافذة وحكمته الكاملة يرجئ الأمر مرة بعد مرة، وبعد ذلك تظهر حكمة الرسول عليه الصلاة والسلام هي الصائبة، ويظهر قوله وتصرفه هو الذي أتى بالثمرة.
ومن ذلك ما جاء عن المقداد بن عمرو أنه قال: أسرت الحكم بن كيسان في معركة، فأراد أميرنا ضرب عنقه، فقلنا دعه حتى نقدم به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام فأطال، فقال عمر: علام تكلم هذا يا رسول الله! والله لا يسلم هذا آخر الأبد، دعني أضرب عنقه، ويقدم إلى أمه الهاوية، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يقبل على عمر، يعني: يتركه ولا يرد عليه ولا يقبل عليه، حتى أسلم الحكم، فقال عمر: فما هو إلا إن رأيته قد أسلم حتى أخذني ما تقدم وما تأخر، وقلت: كيف أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراً هو أعلم به مني، ثم أقول: إنما أردت بذلك النصيحة لله ورسوله، فقال عمر: فأسلم وحسن إسلامه، وجاهد في الله حتى قتل شهيداً ببئر معونة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم راض عنه ودخل الجنان، فهذا مثل نحتاج أن نتدبره ونتملاه.(147/18)
عدم اليأس من المدعوين والحذر من تنفيرهم
إذاً لابد للداعية أن يتحلى بالصبر وطول الأناة، وهذا يقتضي منا أن نقول: إنه ينبغي ألا يكون لليأس إلى نفس الداعية سبيل؛ لأنه يحتاج إلى أمور: يحتاج إلى أن يدقق التصويب، وأن يستفرغ الجهد في الإصابة، لئلا ينتج عن الخطأ نوع من تنفير الصيد.
وهذا أمر مهم، فتنفير الصيد قضية خطيرة تقع في أسلوب التعامل في الدعوة، فلا بد أولاً أن يحسن اختيار الطعم المناسب مهما كان غالي الثمن، فلا بد أيضاً أن يستخدم الداعية الطريقة التي يستميل بها القلوب، والتي يرغب فيها المدعو ترغيباً حسناً، فإن كان ممن يتألف بالمال فليكن طعمه المال، وإن كان ممن يتألف بحسن الكلام وفصيح البلاغة فليكن كذلك، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم -على ما مضى أيضاً من استغلال الاختلاف في النوعيات- كان يشجع حسان رضي الله عنه ويقول: (اهجهم وروح القدس معك)، ويقول عنه وعن غيره من الشعراء الذين نافحوا عن الإسلام: (والله لكأنكم تنضحونهم بالنبل)، فلا بد أن يقدم الأمر الذي يحتاج إليه، والذي يناسب ذلك الإنسان، فالذي يحب الأدب وهو مغرم بالبلاغة فليكن اجتهادك أن تقدم له هذه المادة، إن كنت بارعاً فيها، أو التمس له من يكون بها بصيراً وهكذا.
ثم الأمر الثاني: هو الخطأ الفادح الذي يقع به تنفير الصيد بسبب حركة معينة، أو صوت معين، ومن ثم قد يعود الصيد وقد لا يعود، فلذلك لا بد أن يكون الإنسان صاحب بصر وفطنة في ألا يفرط فيما يقع تحت يده قيد صيودك بالحبال الواثقة فمن الجهالة أن تصيد غزالة وتفكها بين الخلائق طالقة ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام وقعت له من الوقائع ما بين لنا بها كيف كان تصرفه مؤلفاً ومرغباً ومحصلاً للصيد، وكان بعض أصحابه يتعجل فينفر الصيد، ومن ذلك قصة الأعرابي الذي بال في المسجد، فابتدره الصحابة ليزجروه، فقال النبي لهم: (دعوه لا تزرموه) وفي رواية: (لا تقطعوا على الأعرابي بولته)، فلما قضى الأعرابي لم يأمره عليه الصلاة والسلام أن يغسل بولته، وإنما أمر الذين أرادوا أن يمنعوه، وقال: (صبوا على بول الأعرابي ذنوباً من ماء، ثم قال له: هذه بيوت الله لا يصح فيها شيء من الأذى)، وفي بعض الروايات -كما في رواية الترمذي - أن هذا الرجل قال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً.
وقصة معاوية بن الحكم السلمي معروفة، وذلك لما جاء ودخل في الصلاة، ثم عطس رجل فشمته، وكان لا يعلم منع الكلام في الصلاة، قال: (فجعلوا يحدون النظر إليّ -يعني: يرى الناس ينظرون إليه- فقال وهو في الصلاة: واثكل أمياه، مالكم تنظرون إليّ؟! قال: فجعلوا يضربون على أفخاذهم، فعلمت أنهم يسكتونني فسكت، فلما قضيت الصلاة دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما كهرني ولا نهرني، ولكن قال لي: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن منه) أو كما قال.
ومثل النبي صلى الله عليه وسلم تمثيلاً واضحاً في ذلك الرجل الأعرابي لما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل أحسنت؟ قال: ولا أجملت، فابتدره الصحابة، ثم أعطاه مرة أخرى وقال: هل أحسنت؟ قال: ولا أجملت، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته وأعطاه، وقال له: هل أحسنت؟ قال: نعم، وأجملت، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فإن في نفوس أصحابي شيئاً، فلو أعلمتهم أنك رضيت، فأعلن ذلك، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام في هذه الحادثة أو في غيرها كما في بعض الروايات: (مثلي ومثل هذا كمثل رجل نفرت منه دابته، فجعل الناس يسوقونها فتنفر منهم، فقال: خلوا بيني وبينها، وتوصل إليها بشيء من خشاش الأرض، فتألفها وجاءت) فبعض الناس ينفر الصيد إما بتجهم وغلظة في تعامله، أو بشدة ونبوة في لفظه، أو بجهل وخلط في علمه، وهذه كلها تسيء ولا تنفع.(147/19)
عدم انصراف الداعية عن مهمته الأساسية بصوارف الدنيا
وقلنا أيضاً في الصياد إنه لا يصرفه عن الصيد شيء من الصوارف كمنظر جميل أو نحو ذلك، وكذلك ينبغي ألا ينصرف الداعية إلى غير مهمته الأساسية، فتتعلق عيونه بأموال الناس ممن يدعوهم، أو يتعلق بحسن صورهم، أو بحسن ما يقع منهم من أمور فيها بعض الإيجابيات، أو حتى يفتن بما يسميه الناس لذة الاستتباع، فيرى الناس من حوله فيفرح بذلك، فينشغل بعد ذلك عن مهمته الأساسية بالبهرجة التي تحيط به، والناس الذين يمشون خلفه، وينصرف بذلك عن جوهر القضية.
وهذا مكمن خطر ومزلق وخيم، لأن الإنسان أحياناً يكون هذا أول قصده، ثم من بعد ذلك تحيط به ظروف فإذا به ينشغل عن مهمته بأمر آخر، وينسى أنه إنما أراد من الناس دعوتهم إلى الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يبتغي الأجر إلا من الله، وكل الرسل والأنبياء جاء القرآن يذكر على ألسنتهم {مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [يونس:72].
ذلك التجرد الذي لا يصرفه عن هدفه بأي أمر آخر حتى بلذة الاستبباع فقد ذكر ابن القيم في فوائده أن ابن مسعود كان يسير فسار في إثره ناس قال: هل لكم من حاجة؟ قالوا: لا.
ولكنا نحب أن نمشي معك، فقال: لا تفعلوا فإنه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع.
لماذا تذل نفسك لإنسان مثلك، ولو كان صاحب خير وصاحب حق، إن كانت لك به حاجة لتستفيد من علمه أو تنصره أو تسأله أو ترافقه في أمر فلا بأس، وفيه فتنة للمتبوع فإذا به ينشغل بعد ذلك فإذا لم يأته الناس ولم يحتفوا به امتنع عن أن يدعوهم فانحرف بذلك عن النهج، ولذلك كان من فضائل الإمام البخاري رحمة الله عليه أنه كان يقول: قد استوى عندي المادح والذام.
فلا يشغله المدح بأن يفرح وينصرف إليه، فإذا أطنب الناس في حسن بلاغته صار يحفظ الأشعار وينمق العبارات ويبعد عن المضمون وهو روح القول وحياة القلب وصدق اللهجة.
وإذا استحسنوا منه شيئاً آخر كحكمته أو حسن تصرفه في الأمور صار يبتكر أموراً حتى يبدي فيها تصرفاً حسناً وهكذا، فينبغي للإنسان أن ينتبه ألا ينصرف عن المهمة الأساسية بأي عارض من العوارض مهما كان هذا العارض مغرياً أو جميلاً أو ملفتاً للنظر فإن ذلك مكمن خطر ينبغي أن ينتبه منه.(147/20)
حسن رعاية الداعية للمدعوين والحرص على توجيههم
وقلنا في آخر الأمر: إن على الصياد أن ينتفع بصيده، فلا يتركه هملاً وإنما ينتفع به بكل وجه من الوجوه.
وهذا الذي بذرت في قلبه بذرة الخير، ووضعت في نفسه حب الالتزام لابد أن ترعى البذرة حتى تستوي على سوقها، وحتى تؤتي ثمارها، وحتى يكون هذا الذي تأثر صياداً آخر فيكثر الصيد، ويعظم الأثر، ولذلك لابد أن تنفذه في كل شأن من الشئون، وإن كان يتقن أمراً فلابد أن تشغله به، وأن تعهد به إليه، وأن ترعاه في مهمته الجديدة التي ينتقل بها من دور الأخذ إلى دور العطاء، ومن دور الطلب إلى دور التعليم والإرشاد، وهذا أمر مهم.
بعض الناس يذكر الناس ويعظهم، وربما يرشدهم ويربيهم، ثم لا يوجههم لأن يكونوا دعاة خير، وأن ينقلوا ما فطنوا إليه من العلم وما بصروا به من الحق، ولا يأخذ بيدهم في هذا الطريق، فإذا انقطع عنهم انقطعوا ورجعوا إلى حالتهم الأولى، وكان كالذي بذر بذراً وكان معه ماء، فهو يسقي الماء ثم يترك ولا يقف عند بذرته حتى تنمو وحتى يزيل عنها الآفات ويخرج عنها العوالق.
فلابد من الانتفاع بمن يستجيب للدعوة متأثراً بها، وهكذا كان فعل النبي صلى الله عليه وسلم ما دخل أحد في الإسلام ولا استجاب لدعوة الله إلا عهد به إلى من يعلمه ويرشده، وإلا أعطاه من المهمات ما ينشغل به، ويكون مجاهداً في سبيل الله، وداعية إلى دين الله سبحانه وتعالى، لما أسلم عمير بن وهب رضي الله عنه دفعه النبي عليه الصلاة والسلام إلى بعض أصحابه وقال: (خذوا أخاكم فعلموه أمر دينه) وكذلك كان الصحابة كلهم؛ فـ ربيعة بن كعب كان صغيراً فانشغل بالعبادة، وأسامة بن زيد تولى قيادة الجيش، والآخر ذهب سفيراً للإسلام من مكة إلى المدينة، وهو مصعب بن عمير، ما كان أحد منهم يبقى بلا استنفاذ لطاقته، ولا توجيه لإمكانياته لتصب الجهود كلها مع بعضها البعض.(147/21)
تسخير الداعية لكل الطاقات والجهود في سبيل الدعوة
وآخر الأمر الذي نلفت النظر إليه أن الداعية مثل الصياد في أمر مهم، وهو أن الصياد لا يستغني بقوته، ولا يكتفي فقط بفطنته، ولا يستخدم حاسة واحدة من الحواس، بل هو يستخدم حاسة النظر، ويستخدم حاسة الشم، ويستخدم العقل والتفكير، ويحتاج إلى القوة القلبية في الشجاعة لمواجهة المخاطر، ويحتاج إلى القوة الجسدية لمصارعة الصيد أو غير ذلك.
وكذلك الأمر في حال الداعية، فلا تتصور أنك يمكن أن تكون ناجحاً إلا إذا أخذت من كل جانب بحظ ونصيب، فأنت تحتاج إلى قوة الإيمان والقوة النفسية، لتقوى على المجابهة، وتحتاج إلى القوة البدنية لتجاهد في سبيل الله سبحانه وتعالى، وتحتاج إلى القوة العقلية لتكون صاحب بصر وحكمة في سياسة الأمور، وفي التخلص في المواقف المحرجة، وتحتاج أيضاً إلى النظر، وتحتاج إلى السمع وكل شيء، فكذلك ينبغي أن تسخر الجهود كلها في هذا الشأن وفي هذا الصدد.
وجملة القول الذي نحب أن نشير إليه وأن نختم به، أنه لابد أن نعرف أن الأمر ليس على سبيل التهاون أو سبيل الاختيار، وليس على سبيل الهامشية في حياة الإنسان المسلم، بل هو كما قال الله سبحانه وتعالى في شأن تحمل الرسالة وتحمل المهمة: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12].
وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5].
وأمر النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الأمر في قوله تعالى: {قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:2] وفي قوله: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، ووصف المؤمنين بأنهم بعضهم من بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فليس الأمر شيئاً عارضاً، وإنما هي مهمة لابد أن تكون ثابتة وأصيلة ودائمة ومستمرة، ويستفرغ لها الجهد كله، والطاقات كلها ليكون هذا الإنسان الداعية صياداً ماهراً، وكلنا ينبغي أن يكون ذلك الرجل، فلا تقعد في بيتك لأنك ستخلد إلى النوم، وتتعلم فن التثائب كما قال بعض الدعاة، ولن يكون لعلمك حينئذ -إن كنت صاحب علم- تأثر وتأثير، ولن يكون له أثر في الحكمة والبصيرة، وهذا أمر لابد أن يتعاون الجميع عليه، لأنه من أعظم البر والتقوى، {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] والله سبحانه وتعالى نسأل أن يوفق الدعاة إلى دينه، وأن يسدد خطاهم، وأن يوحد كلمتهم، وأن يلهمهم الرشد والصواب، وأن يوفقهم لما يحب ويرضى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العلمين، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(147/22)
الأسئلة(147/23)
وصف الجيلاني للمسلم الكامل في كتابه الفتح الرباني
السؤال
ما اسم الكتاب الذي ذكر فيه الشيخ عبد القادر الجيلاني تلك الكلمات في أول الدرس؟
الجواب
هي من كتاب الفتح الرباني، وهي من نقل صاحب المنطلق في الدعوة نقلها عن الفتح الرباني للجيلاني.(147/24)
توجيهات لطالب العلم
السؤال
لا أستطيع أن أعبر عن مدى المشكلة، فأنا أحاول القراءة، ولكن لا أجد لها وقتاً، وإذا قرأت لا أستفيد، وإذا استفدت في بعض الأحيان فإنه يداخلني الرياء بذلك.
الجواب
هذا ربما يكون قد مر الحديث عنه في الدرس الماضي، ونوجزه للأخ فنقول: إن أهم قضية هي صدق النية والإخلاص لله سبحانه وتعالى، ثم يأتي الشعور بالأهمية للعلم، والحاجة إلى البصر بالدين، وأن يكون متصوراً لمدى فائدة الاطلاع والقراءة -الفائدة العلمية، والفائدة العملية- في حياة قلبه وحماسه حينما يقرأ أقوال أهل العلم، وحينما يعرف سيرتهم ونحو ذلك من الأمور.
فلابد أولاً من توفر الأسس النفسية التي هي أساس الانطلاق في هذا الأمر، ثم من احتاج شيئاً استطاعه، من احتاج إلى المال وافتقر إليه وجد السبيل إليه، أما الذي يشعر بأنه مستغنٍ عن المال فلا يهمه ولو فاته المال ما التفت إلى ذلك، لكن إذا علم شدة الحاجة التمس الطريق، وإن كانت القراءة تشق عليه فعليه أن يخصص لها وقتاً يتوفر فيه فراغ الذهن، والصفاء الفهم، ثم يبدأ بالقليل ولا يكثر على نفسه، ثم كذلك يبدأ بالأقرب إلى نفسه، فإن كان يحب قصصاً بدأ بها، وإن كان يحب أدباً بدأ به، ليتعود الكتاب ويتعود النظر إليه، فحينئذ يمكن بعد ذلك أن تصبح المسألة دربة له وعادة عنده يستفيد منها.
وأما أنه لا يستفيد فلا يعجل على نفسه، فإن الإنسان في أول الطلب، وفي بداية الاطلاع لا يشعر بالفائدة المباشرة، ولا يرسخ في ذهنه كثير مما يقرأ وما يطلع عليه، فلا يستعجل في ذلك، فإن المسألة تحتاج إلى دوام، وإلى الكثير من الاطلاع، وحينما نسمع بعض أهل العلم، وبعض طلبة العلم وعندهم زاد من النصوص، وزاد من الأقوال، وزاد من الوقائع، فما جاء ذلك من قراءة أولى ولا من قراءة قليلة، ولكن نقول: إذا قرأت أول مرة فإنه يثبت عشرة بالمائة على سبيل المثال، ثم حينما تواصل القراءة يثبت في ذهنك من بعد عشرون بالمائة، ويمر بك مثلاً النص في كتاب، ثم يمر بك في كتاب آخر، ثم يمر بك شرحه في موضع آخر، ثم يمر بك إشارة إليه فيرسخ في ذهنك حينئذ، وكما أشرت من قبل فإن من أهم الأمور زكاة العلم، وإنفاق العلم زكاته، فلابد أن يخرج ما عنده، فإذا حفظ شيئاً فليحدث به، حتى يذاكره، فإن حياة العلم مذاكرته كما قال أهل العلم، فيذاكر العلم بينه وبين أصحابه وأقرانه، ثم يعلم من هو دونه، فإن التعليم هو الذي يثبت العلوم؛ لأنك حينما تعلم ترجع إلى الكتاب، وترجع إلى المسألة، ثم تحاول أن تحفظ، ثم تلقي فيكون من ذلك تضافر الحواس، وتضافر الحواس مهم، فإذا استخدمت في القراءة حاسة البصر، ثم استخدمت حاسة اليد في أن تضع خطوطاً، ثم استخدمت حاسة الكلام فتكلمت، أو كتبت بيدك لتدرس وتشرح، كلما زادت الحواس التي تتعامل مع المعلومة الواحدة كلما زاد ثبوتها ورسوخها، وليستعن بالله سبحانه وتعالى قبل ذلك وبعده، فإن الله سبحانه وتعالى هو المعين.(147/25)
توجيه الدعاة إلى ضرورة الخروج إلى الناس ومخالطتهم
السؤال
هناك الكثير من الصيادين الكسالى الذين يريدون أن يأتي الصيد إلى عتبة بابهم، فهلا أعطيتهم نصيحة موجزة بالغة؟
الجواب
أظن فيما ذكرناه من كلام طلحة بن عبيد الله ومن كلام عطاء بن أبي رباح ما يعبر عن هذا، وكما يقول الرافعي الأديب: إن لم تزد على الدنيا كنت أنت معنىً زائداً عليها.
إذا لم تكن لك إضافة من قول أو عمل أو جهد فأنت أصلاً زيادة لا قيمة لك ولا أثر لك، فإذاً أنت إنسان زائد في هذه الدنيا، وكما قال من علق على هذه المقالة: هذه صفعة وليست قولة، هذه صفعة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، لكن ميت القلب ضعيف الهمة يحتاج إلى إحياء، إذ هو بمثابة الميت الذي يحتاج إلى إنعاش، مثل الذي يكون في غرفة الإنعاش عنده ألف خط وخط، خط للتنفس وخط للتغذية، وأمور كثيرة يحتاج إليها، أما الذي فيه حياة القلب ولو بنسبة معينة فإن التذكرة والكلمة توجهه، ولذلك قال الحسن البصري: لا تكن أقل من شاة الراعي، قيل: وما شاة الراعي؟ قال: تحركها الإشارة وتفزعها الكلمة.
شاة الراعي إذا هشها من جهة تحركت، وإذا صاح بها أو أشار إليها تحركت، وأما أنت فتسمع القول وتسمع القرآن الذي تندك له الجبال، وتصدع به الأرض، وتسمع حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وتقرأ القصص والسير ثم لا تتحرك، فهذا كما قال ابن القيم: اطلب قلبك في ثلاثة مواضع: عند تلاوة القرآن، وعند الدعاء لله سبحانه وتعالى، إلى أن قال: فإن لم تجد قلبك فكبر على نفسك، فإنه لا قلب لك.
فلابد للإنسان أن يتنبه، وهذا الذي يريد أن يبقى في بيته من قال له أن يخرج ليكسب رزقه، أو ليذهب إلى وظيفته، أو ليبرز عند الناس حتى يأخذ منزلته الاجتماعية؟ لماذا لا يقعد في بيته؟ فالرسول عليه الصلاة والسلام، قال: (أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فنظر هل يهدى إليه) أفلا يقعد هذا أيضاً فيأتيه رزقه إلى بيته، ويأتيه الناس يعطونه الجاه والتقدير.
فنحن نراه في أمر الدنيا يسعى إليها، فيتفرغ بجهده وعمله ليكسب الرزق، ويهتم بهندامه وقوله حتى يلقى المنزلة والحظوة عند الناس، ولا يكون شيء إلا بالجهد والعمل، والكسالى وصفهم الله سبحانه وتعالى بأنهم من أهل النفاق؛ لأنهم كسالى حتى في العبادة، قال تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142].
ولا نريد أن نكون كمثل القائل الذي يريد أن يأتي إليه كل شيء: سألت الله يجمعني بسلمى أليس الله يفعل ما يشاء حتى في الأمور المهمة في حياة الإنسان يريد أن تأتي إليه من غير تعب، فهذه قضية مذمومة، وثمة كلمات كثيرة عظة في هذا الأمر، لكن حسبنا ما ذكرنا، فإن كانت له حياة قلب فإنه إن شاء الله متعظ، وإن كان غير ذلك فيحتاج إلى أن ينتبه أولاً إلى الأسس التي يحيي بها نفسه وقلبه.(147/26)
حاجة الدعاة إلى العمل الجماعي حتى تؤتي الدعوة ثمارها
السؤال
هل يستطيع الصياد أن يصيد منفرداً بهذه المهارة؟
الجواب
المهارة في أصلها فردية، لكن النتيجة لا تكون إلا جماعية، ونحن الآن تكلمنا عن الصياد، والصيادين يعملون معاً، ولهم سوق واحد يبيعون فيها، وربما يستعين بعضهم ببعض فيأخذ هذا شبكة ذاك أو يستعين به، وكما يقال: الناس بعضهم لبعض -وإن لم يفطنوا- خدم.
فلا يمكن للإنسان أن يستغني عن الآخرين في شئون الحياة، ولا في شئون المهنة، فالصياد لا يستغني عن الصيادين، والمهندس لا يستغني عن المهندسين، والطبيب لا يستغني عن الأطباء، والداعية لا يستغني عن الدعاة، وطالب العلم لا يستغني عن العلماء وطلبة العلم، فلابد أن تتضافر الجهود لتكون المسألة متكاملة، لأننا حينما نتكلم عن الصيد هنا فإننا نتكلم عن صيد قلوب وصيد عقول وصيد أرواح، لابد له أن يبقى حياً متنامياً، ونحن نريد أن نبعث أمة دب فيها الضعف، ووهنت قواها، وتسلط عليها أعداؤها فما يمكن لإنسان أن يملك سيفه وأن يفل الصفوف وهو واحد منفرد: تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً وإذا افترقن تكسرت آحادا وأعداؤنا تجمعوا أشتاتاً علينا فلابد أن يكون دأب المؤمن هذا الأمر، وليلتفت في ذلك إلى صيغة الأمر الجماعي في كل أقوال الله سبحانه وتعالى: يا أيها الذين آمنوا {تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43] {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، ما خوطب الفرد المسلم منفرداً، حتى في الأمور العامة في العبادات هو يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ويدعو له ولأمة الإسلام {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] وشعائر الإسلام كلها مبنية على الجماعية؛ فالصلاة في جماعة، والصوم في وقت واحد للأمة كلها، والحج يجمع أشتات الناس وأخلاطهم من أهل الإيمان في موضع واحد، وما من أمر إلا والانتداب إليه في هذه الصورة الجماعية، مما يؤكد أنه لابد لمثل هذا الأمر أن يكون على هذا النهج، وكان بعض السلف يدعو في رجال معه، وكان سهل بن سلامة -كما ذكر الطبري في أحداث عام مائتين وعشرة في تاريخه- يأخذ البيعة على الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان بعض السلف يخرجون ولا يستصحبون معهم إلا رجالاً لا يأكلون إلا من عمل يدهم، حتى يكون ذلك أدعى إلى الإخلاص، وإلى القبول وإلى التوفيق في حصول المقصود، فلا شك أن الإنسان الذي يكون منفرداً وحيداً لا يستطيع فعل الأمر على وجهه، بل حتى في المهمة الواحدة يحتاج المرء إلى من يعينه، فالصياد الذي يريد أن يصيد سمكاً بشبكة يحتاج إلى من يعينه، فيكون هناك غالباً اثنان أو ثلاثة أو أربعة يقومون بعمل مشترك، ويركبون زورقاً واحداً، وينصبون الشبكة ويفردونها، ويقتسمون العمل فيما بينهم فهذا تكون مهمته رمي الشبكة، وذاك تكون مهمته الأخذ، وذاك تكون مهمته توجيه الزورق، وهكذا.
والإنسان في طبيعة خلقته كل شيء فيه متكامل، وجسمه هذا يعلمه الجماعية، إذ لا يستغني عقله عن يديه، ولا يده عن قدمه، فلا يمكن أن يمشي على يده؛ لأن رجله جعلت لهذا الأمر، ولا يمكن أن يأخذ برجله؛ لأن يده جعلت لهذا الأمر.(147/27)
التطبيع الإسلامي
للتطبيع اتجاهان: الأول: التطبيع مع الخصم والعدو، فيتحول معه الأعداء إلى أصدقاء، وتنسى الجرائم التاريخية، والعدوان الغاشم، ولأجل هذا التطبيع ينبغي أن تغير المناهج، وأن يهجن الإعلام، وأن يجوس العدو خلال الديار في اختراق ثقافي، واغتيال عقائدي، وإضعاف اقتصادي! وهذا الاتجاه مرفوض جملة وتفصيلاً، لا يرضاه الله، ولا ترضاه الشعوب المسلمة.
والثاني: التطبيع مع الدول المسلمة، لتعيش تحت مظلة الإسلام، وتتخذه منهاجاً للحياة، وتعزز من قوتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وهذا الاتجاه مطلوب، بل يجب تطبيقه.(148/1)
التطبيع الإسلامي والتطبيع الآخر
الحمد لله الذي أكمل ديننا، وطمأن قلوبنا، وشرح صدورنا، ونور بصائرنا، وثبت أقدامنا، له الحمد سبحانه وتعالى ما أعظم حلمه بعد علمه، وما أوسع عفوه بعد قدرته! نحمده سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس أجمعين، وبعثه رحمةً للعالمين، وهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وأسمع به آذاناً صماً، وفتح به قلوباً غلفاً، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:(148/2)
معنى التطبيع وخطورته
أيها الإخوة المؤمنون! التطبيع الإسلامي موضوع حديثنا، وله أهمية أحسب أنها لن تظهر إلا بعد بيان معناه ودلالته، وبيان مرادنا من نسبته الإسلامية.
فالتطبيع في دلالته اللغوية يرجع إلى الطبع: وهو منتهى الشيء وغايته وختامه، ومن ذلك قول الحق جل وعلا: {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [التوبة:87]، أي: بلغت النهاية والخاتمة.
ومن معناه كذلك: الأمر الذي ينتهي إليه الإنسان في خلقه ودله وسمته، فنقول: طبع فلان كذا، أي: سجيته وخلقه الذي انتهى إليه واستقر عليه.
ومن هنا فإن قولنا عن شيء إنه طبعي، أي إنه وصل إلى أمر مستقر مألوف، مقبول معروف، مرتضىً عند صاحبه أو عند الناس.
وإذا جئنا إلى هذا المصطلح اليوم، فإننا نعرف اقترانه بالاصطلاح السياسي، فالتطبيع إذا أطلق فالمراد به التطبيع مع العدو والخصم، أي: تحويل العداوة إلى أمر طبعي مقبول مألوف، يتحول معه الأعداء إلى أصدقاء، وتنسى الحوادث والجرائم التاريخية، ويغض الطرف عن العدوان والحقائق الواقعية، ولأجل هذا التطبيع ينبغي أن تغير المناهج، وأن يهجن الإعلام، وأن يطوع الاقتصاد، وأن يصبح الطريق ممهداً ليجوس الأعداء خلال الديار في اختراق ثقافي، واغتيال اعتقادي، وإضعاف اقتصادي، وتسلط سياسي.
إنه باختصار شديد: أن تفقد الأمة مناعتها، وأن تزول عنها خصوصيتها، وأن تمسخ فيها هويتها، وأن يصبح جلدها غير جلدها، ولسانها غير لسانها، وتاريخها غير تاريخها.
فهل يعقل مثل ذلك؟! وهل يتصور مثله ويقبل؟! وكيف يمكن أن تغير العقول في الرءوس، وأن تغير العواطف في النفوس، وأن تبدل صفحات القلوب وتصورات الأفكار؟! وكيف ينسخ التاريخ بدهوره المتعاقبة؟! وكيف تغير العرف الاجتماعي المستقر في معاملاته الشائعة؟! إنه أمر عجيب، إن القضية في التطبيع تقتضي أن يكون الأمر طبعياً إذا كان متوافقاً مع الأصول الثابتة، والحقائق الراسخة، ومنسجماً مع الجذور التاريخية، والبيئة الواقعية، والحياة الاجتماعية، أما أن يكون شيئاً يخالف ذلك كله فلا يمت إلى معتقدك بصلة، ولا ينسجم مع واقعك في حقيقته، ولا يرتبط في تاريخك بجذوره؛ فأنى يكون كذلك؟! إنها قضية مهمة، وليست هي بالمناسبة موضوع حديثنا، فإن مثل هذا الأمر لا أحسب أن مؤمناً حقاً ومسلماً مدركاً لا يعرف أن مثل هذا فيه أمور كثيرة تخالف دين الله عز وجل من جهة، وتعارض مصالح الأمة الإسلامية من جهة أخرى؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال هذه الحقيقة عن الأعداء الذين عداوتهم صريحة باحتلال الأرض وإزهاق النفوس وسلب الأموال، فضلاً عن العدوان على العقائد والدين والأخلاق-: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [الممتحنة:9]، فأولئك القوم أعداء لا يمكن أن يتحولوا إلى أصدقاء وعدوانهم مستمر.(148/3)
صورتان متناقضتان
ليس هذا موضوع حديثي، غير أني أنقل لكم صورتين متناقضتين في هذا الشأن من صحيفة يومية من صحف هذا اليوم: الأولى: كلمات موجزة بلسان رئيس وزراء الكيان الصهيوني الغاصب المعتدي، مجرم الحرب الشهير، الذي تلطخت أيديه بالدماء، من صحيفة اليوم وليس قبل دهر ولا أمس، يقول في هذا اليوم: بفضل الاستيطان سنحافظ إلى الأبد على مواقع مهمة وأساسية لوجودنا في القدس عاصمتنا الموحدة إلى الأبد، وفي الأماكن الأكثر قداسةً في تاريخنا، وفي المناطق الأمنية الأساسية لدفاعنا.
وهي كلمات أحسب أنها لا تحتاج إلى ترجمة، ولا تفتقر إلى تعليق وشرح، ويفهمها كل أحد، إلا إن كان غبياً أحمق أو كان مداجياً مداهناً، أو كان متآمراً مدنساً.
وأنتقل إلى الصورة الثانية منشورة في صحيفة اليوم وفي ذات الصحيفة: وهي قصة أحد الأسرى الذين أطلق سراحهم قبل أيام قلائل، ظل في سجنه خمس سنوات، خرج وإذا أبوه قد فارق الحياة على حادث من الحوادث على إثرها منع أن ينتقل إلى المستشفى للعلاج من نوبة ربو قضى نحبه فيها، وقبل خروجه بعشرين يوماً كان أخوه الأكبر قد قضى شهيداً برصاص العدو، خرج وإذا البيت مدمر! والبناء مهدم! وإذا بنته -بنت التاسعة- لا تعرفه وتراه غريباً؛ لأنه قد غاب عنها نحو خمسة أعوام، ثم يقول بعد هذا كله- وهذا بيت القصيد والشاهد-: بعد كل هذا، بعد فقدان الأب والأخ ومشهد الدمار كل ذلك لا يغير من معتقدات الإنسان شيئاً، فمهما حدث يظل الاحتلال احتلالاً، ولا نستطيع أن نعطيه وصفاً آخر.(148/4)
التطبيع الإسلامي
وأكتفي بذلك؛ لأنه ليس موضوع حديثي، فأنا أتحدث عن تطبيع آخر هو التطبيع الإسلامي، وقد يكون هذا من دواعي الاستغراب؛ لأننا اليوم نسمع كل شيء يلصق به (إسلامي) حتى يجوز أو يروج عند المسلمين، لكنني هنا أقول: هذا معنىً مهم، وهي قضية خطيرة، إذ إن عندنا أموراً:(148/5)
صورة متقابلة في الموقف من الإسلام في السعودية
لعلي أذكر لكم صوراً هنا كثيرة، أحب أن أراها متقابلة: في صحافة هذا اليوم قول منسوب إلى أسماء من نساء هذه البلاد، تشكو إحداهن أن دوامها في العمل تسع ساعات، وأنها تتعرض لبعض الأذى في أثناء طريقها للعمل، ثم تقول بعد ذلك: إن طموح المرأة السعودية ليس له حد، ومنافستها للرجل مستمرة! ولست أدري هل نحن في معركة أو حلبة مصارعة أو ملاكمة ليكون هناك منافسة بين الرجل والمرأة، وإذا كانت هناك منافسة بين الرجل والمرأة فما مصير الأسرة؟ وما مصير الأنس الاجتماعي؟ وما مصير العلاقات التي كنا ولا زلنا نحرص عليها في داخل بيوتنا وفي علاقاتنا الاجتماعية؟! وتقول كذلك: على الرغم من وجود معوقات إلا أن المرأة استطاعت أن تجتاز شوطاً في مجالات عدة، فقد كانت محصورةً في إطار التعليم والطب، وتجاوزتها إلى الهندسة والصحافة والمحاماة.
ولست أدري هل تريد المرأة أن تصبح حمالةً تحمل الأثقال، أو بناءةً تبني في شمس الظهيرة، وقد أعزها الإسلام بأن تكون معززةً مكرمة مخدومةً، منفقاً عليها، وهناك من يتولى أمرها ويحرص عليها، وعملها في ميادين تحتاجها أخواتها وبغير اختلاط، وبغير إسفاف، وبغير تضييع المهمة الأولى؟!! عجباً أن يقال مثل هذه الأمور! وتقول أخرى: نحن اليوم نرى في بعض الشركات الكبرى المهندسات السعوديات وهن مسئولات عن رجال.
ولست أدري كذلك لم يقال مثل هذا؟! لكنني أنقلكم إلى صور أخرى كثيرة، هي الأصل.
لا تسمعوا إلى صوت واحد، وتنسوا آلاف وعشرات من الآلاف ومئات من آلاف الأصوات، فخلال الفترات الماضية كان هناك اكتتاب لبنك جديد، وأعلم أنكم تعلمون أن عشرات الآلاف كل يوم يتصلون ويسألون العلماء وطلبة العلم والدعاة: هل يجوز الاكتتاب؟ هل هذا البنك يعمل وفق الشريعة الإسلامية؟
و
السؤال
لماذا يسأل أولئك الآلاف، والأموال في جيوبهم، والأرباح معروفة عندهم؟! إنهم وقافون عند دين الله وشرع الله، إنهم يمثلون الحقيقة العظمى، وهي أن الإسلام طبع في نفوسهم وقلوبهم، فإذا جاءت بنوك إسلامية فهي الأصل وغيرها الشاذ، وإذا جاءت أعمال تفصل بين الرجال والنساء فهذا هو الأصل وغيره الشاذ، دعوا الشذوذ في البلاد الأخرى يعتدل إلى الأصل، ولا تطلبوا من الأصل أن يعود إلى الشذوذ؛ فذلك لا يفعله إلا الحمقى والمغفلون.
ونعود مرة أخرى إلى صور مختلفة ومغايرة ومتنوعة: ففي هذه الانتخابات البلدية، قال المسئول الأول عن الأمن: كلنا تيار إسلامي ونحن مسلمون في هذه البلاد.
عجباً من سيتقدم؟ إنهم مواطنو هذه البلاد، والأصل أنهم مسلمون، فإن شذ شاذ، أو رأى نفسه على غير ذلك، فهو وشأنه، لكن التيار العام الأصيل الغالب هو هذا الإسلام، والمسلمون هم الذين عاشوا وما زالوا يعيشون بروح الإسلام، وإن وجد تقصير أو تفريط أو تجاوز فهو الشذوذ الذي يرد بالدعوة والحكمة والموعظة الحسنة، والاستعانة بعد الله بأهل المسئولية، وقيام هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك كله ظاهر واضح، وهذا أمر يطول الحديث فيه.
خلاصة القول: بلد الإسلام دستورها الإسلام، وتاريخها الإسلام، وواقع أبنائها يدين بذلك، وكثير من المقيمين فيها ما جاء أكثرهم لدرهم ودينار فحسب، بل جاءوا يريدون أن يفيئوا إلى ظلال يتنفسون فيها أنفاساً طاهرةً نقية، ليس فيها عهر ولا فجور ولا اختلاط ولا تبرج ولا مجاهرة بنقد الإسلام والتجرؤ عليه، وذلك هو الحق الذي نحتاج أن نتعاون على إظهاره وإبقائه، وتطبيعه، فنعم هذا التطبيع! نسأل الله عز وجل أن يشيع الإسلام في قلوبنا ونفوسنا، وعلى ألسنتنا وأقوالنا، وفي أعمالنا وأحوالنا، وأن يجعلنا من عباده الصالحين، وأن يختم لنا بالصالحات.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(148/6)
لماذا ينكرون علينا تطبيع إسلامنا في مجتمعاتنا
إذا أردنا تطبيع إسلامنا أنكره علينا من ينكر، مع أن لنا الحق في ذلك، فنحن بلد دينه الإسلام، وهذه هي بلاد الإسلام، والمجتمع الذي يعيش في هذه البلاد مجتمع مسلم، ليس بين أفراده من يدين بغير الإسلام، ثم مع هذا كله نجد من يقول: لم يكون الإسلام حاضراً؟ ولم يكون حاكماً؟ ولم يكون هو في حياة الناس واقعاً وظاهراً؟ أمر عجيب، ولكنه يرى مع كل ذلك.
تعميم من ولي الأمر ورأس الدولة نصه يقول: إن السماح للمرأة بالعمل الذي يؤدي إلى اختلاط بالرجال، سواء في الإدارة الحكومية أو غيرها من المؤسسات العامة والخاصة أو الشركات والمهن أمر غير ممكن، سواء كانت سعوديةً أو غير سعودية؛ لأن ذلك محرم شرعاً، ويتنافى مع تقاليد هذه البلاد، وإن كان هناك دائرة تقوم بتشغيل المرأة في غير الأعمال التي تتناسب مع طبيعتها، أو في أعمال تؤدي إلى اختلاطها بالرجال فهذا خطأ يجب تلافيه، وعلى الجهات الرقابية الرفع عنه.
فلماذا نحن نرى أن هذا هو الأصل في ديننا، وفي نظام بلادنا، وفي توجيهات وتعليمات المسئولين عندنا، ثم بعد ذلك لا نزال نرى أن بعضاً منا قد يتحسس من أمر من أمور الشريعة أو يتوجس منه! إن الشاذ هو أن نرى امرأة غير متحجبة، إن الغلط والخطأ هو أن نرى صوراً من الاختلاط، والأصل أن يرد إلى أصله من دين الله ومن نظام البلاد؛ ولذلك ينبغي علينا أن نطبع الإسلام في واقعنا؛ لأنه ديننا، ولأنه نظام دولتنا، ولأنه واقع حياتنا الاجتماعية، ولأنه لم يكن غيره.
وانظروا إلى البلاد الأخرى، يكون فيها ما يسمى بالمعارك الطويلة العريضة؛ لأجل أن يضيفوا كلمة واحدة، مثل: دستور الدولة الإسلام، والأحكام أساسها الإسلام، ونحن ليس عندنا شيء من ذلك، كله في السياسة التعليمية والإعلامية يتطابق مع الإسلام، لكن نحن الذين نقصر في التشرف بديننا، وفي إعلان هذه الأنظمة وإشاعتها، والتشبث بها، وبيان أن مخالفها مخالف للدين أولاً، ولنظام البلاد ثانياً.(148/7)
دستور الدولة السعودية إسلامي بحت
نحن في بلد الإسلام، فمن الطبعي أن يكون الدين الإسلامي حاكمنا، وأن تكون شرائعه هي فصل ما بيننا، وأن تكون آدابه هي الأمر الذي يشيع في واقعنا، وأن تكون أحكامه وكل ما يتصل به هو الذي تخفق به قلوبنا وتتكلم به ألسنتنا، وغيره هو الشاذ المرفوض، وكل أحد يتعامل معنا ينبغي أن يعرف ذلك وأن يراعيه، فدستور هذه البلاد في أول مادة من مواده: المملكة العربية السعودية دولة عربية إسلامية ذات سيادة، دينها الإسلام، ودستورها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولغتها العربية.
وفي مادة أخرى وهي المادة الحادية والأربعون تنص على أنه: يلتزم المقيمون في المملكة بأنظمتها، وعليهم مراعاة قيم المجتمع السعودي، واحترام تقاليده ومشاعره.
هو الذي جاء إلى بلدي فعليه أن يتطبع مع واقعي، وأن يستجيب لحكمي والسائد في نظامي، هل رأيت بلداً ذهبت إليها غير نظامه لأجلك أنت أيها الزائر؟! فما بالنا نرى ملتقيات أو منتديات تكرس عكس ذلك، وتريد أن تقنعنا بأنه من لوازم ما نحتاج إليه لتحسين صورتنا في العالم! أي صورة هذه التي نريد أن نحسنها بتشويه انتمائنا إلى ديننا وعقيدتنا وتاريخنا وحضارتنا؟! وانظر كذلك إلى أمور كثيرة، نحن عندما نقول نريد الإسلام في كل شأن من الشئون، لاسيما في الناحية الاجتماعية، في حجاب المرأة المسلمة -مثلاً- وحشمتها وعفتها، ليس ذلك قولاً نقوله من عند أنفسنا، إنه كتاب الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:59].
ثم يأتينا النبي صلى الله عليه وسلم ويخبرنا بحقائق الاختلاط ومثالبه، فيقول عليه الصلاة والسلام: (إياكم والدخول على النساء، قلنا: يا رسول الله، أرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت) أي: أقارب الزوج، ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما).
ولقد عجبت أيما عجب، عندما شاهدت وسمعت بأذني حواراً عجيباً على قناة إعلامية، شاب وفتاة متبرجة يتحدثون بهذا الأمر، وبأن هناك حديثاً يقول كذا وكذا، فتنطق الفتاة في مقام الإفتاء، أو الإصدار عن قول لهيئة كبار العلماء أو نحو ذلك تقول: نعم، إن الرسول قال: (إن الشيطان ثالثهما)، لكنه لم يقل إنه سيغلبهما، فقد يكون ثالثهما، ولكنهما ينتصران عليه ويغلبانه، فلا يتأثران بشيء من هذه الشهوات الآثمة، ويمضي الفتى وبيده الفتاة، والآخرون يرون ذلك ضرباً من سهم سليم، وسلوك حضاري راق.
هذا الذي يراد أن يروج ويراد أن يطبع.(148/8)
محاربة الدين والترويج للمنكر
أمور شاذة مرفوضة، يراد لها أن تصبح في واقع الأمة طبعيةً مقبولة، وهذا مثل الذي ذكرته.
لكن هناك أمر أخطر، وهو تحويل ما هو مألوف وصحيح ومقبول من أسس ديننا، ومن أعراف مجتمعنا، ومن صفحات تاريخنا، ومن عراقة حضارتنا، إلى مرفوض وغريب وشاذ، فيأتينا من يرى أن امتلاء المساجد بالناس ظاهرة إرهابية، أو أن كثرة طلاب التحفيظ مظنة مخاطر إجرامية، أو أن انتشار الدعوة وشيوعها سيطرة فكرية إرهابية أو غير ذلك من الأمور، حتى إن المرء عندما يلحظ هذه الهجمة الإعلامية ينظر إلى نفسه، هل لا زال يقف على قدميه، أم أنه قد أصبح الأمر على غير ذلك؟! كيف يقال هذا في هذا المجتمع المسلم وفي هذه البلاد بلاد الحرمين، ومهبط الوحي، التي قامت في أساسها على التعاون بين الدولة والدعوة! تلك هي القضية الخطيرة، والأخطر منها أن يحصل الأثر بذلك، وتجد الناس قد أصبحوا يبتعدون عن مثل هذه الأمور ويخشون منها، ويرون فيها شبهةً أو غير ذلك، تلك هي القضية الخطيرة، سيما في هذه البلاد، بلاد الحرمين، يقول الله جل وعلا مخاطباً أمة الإسلام بخطاب رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة:49].
تحكيم الشريعة اليوم في عالم القرية الواحدة، وعصر العولمة النافذة، والإعلام الغازي، أصبح أمراً غير مقبول، إنه يناقش اليوم في دوائر السياسة العالمية، والمؤتمرات الدولية، وكأنه ليس لأمتنا حق في دينها وتاريخها وحضارتها وإرثها الاجتماعي وسموها الأخلاقي.
ولعلنا ننتبه كذلك إلى أمر مهم -ونحن نرى تعاظم الحملات على هذه البلاد- وهو ما سمعناه قريباً من تقارير عديدة تأتي من أقاصي الدنيا، مما وراء المحيطات، تقرير عن اختلال الحريات الدينية في بلاد الحرمين، وتقرير آخر عن الإرهاب الفكري المسوق إلى المساجد والمراكز الإسلامية في البلاد الغربية، عبر جهود مخلصة دعوية أو دبلوماسية، وتجد كذلك مناقشات عظيمة وتقارير عجيبة في مثل هذا الشأن، وذلك أحسب أنه لا يخيفنا من جهة، ولا يربكنا من جهة أخرى، فماذا نتصور؟ وهل نتوقع ممن لا ينطق بلغتنا أن يتكلم بلسان عربي مبين؟! ذلك أمر واضح، لكن الخطر أن نسمع مثل هذا القول أو قريباً منه بألسنتنا، ومن بعض أبناء جلدتنا، وفي بعض واقعنا، ذلكم هو الأمر الخطير الذي ينبغي أن ننتبه له، فباسم الانفتاح، وباسم إظهار الصورة المشرقة، قد يأتينا من يريد أن يغير الصحيح المألوف المعروف ويجعله شاذاً غريباً، ويريد في مقابل ذلك أن يجعل الغريب الشاذ هو الطبعي؛ ولذلك نحن لا نريد ذلك التطبيع، وإنما نريد التطبيع الإسلامي.(148/9)
ثلاث لفتات على الطريق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من تقوى الله سبحانه وتعالى الحفاظ على هذا الدين مستقراً في القلوب، مستكناً في النفوس، حاكماً في الواقع، ظاهراً في المعاملات، فلا يشذ عن هذا الدين شيء من اقتصاد ولا سياسة ولا قضاء ولا غيره.
وهناك لفتات ثلاث أختم بها، وأنبه عليها، وأحسب أنه بعد حديثنا الموجز هذا ينبغي أن نلفت أنظارنا إلى هذا المعنى، وهو أن نحرص على بقاء الأصل كما هو؛ لئلا يدور الزمن فنعود كغيرنا من البلدان، فنجد الشذوذ -لا قدر الله- قد صار أصلاً، والمنكر قد صار معروفاً، ونعود نطالب بأمور كانت هي الواقع الذي نعيشه، وهذه لفتات وكلمات ورسائل ثلاث: الأولى: ليعلم الذين يتكلمون ويجترئون على بعض الأمور، أنهم لا يجترئون على الأفراد والآحاد، ولا يجترئون على الأعراف الاجتماعية، إنما اجتراؤهم في الحقيقة اجتراء على نصوص قرآنية، وأحاديث نبوية، وعلى سيرة عطرة لرسول الهدى صلى الله عليه وسلم.
إن الذين يعارضون مثل هذه المسائل المحكمة في ديننا، من فرضية الحجاب، ومنع الاختلاط وغيرها، إنما هم في حقيقة الأمر يعارضون هدي رسولهم صلى الله عليه وسلم، والأحاديث والقصص في سيرته في هذا الباب كثيرة، منها الحديث المشهور عند الإمام أحمد من رواية أنس رضي الله عنه وهو غلام النبي صلى الله عليه وسلم وخادمه، لما نزلت آية الحجاب وقد كان أنس كبر قليلاً، قال: (فجئت أدخل، قال: على رسلك يا بني!)! فقد أصبح الأمر مختلفاً، وجاء التشريع بفرضية الحجاب.
ولما خرجت سودة رضي الله عنها تريد قضاء حاجتها، فرآها الفاروق عمر وكان غيوراً على حرمات المسلمين عموماً وعلى أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم خصوصاً، فقال: قد عرفناك يا سودة! ونزلت آيات الحجاب، واحتجب نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن قال عمر: (يا رسول الله! احجب نساءك).
وغير ذلك كثير، والقصص والروايات الصحيحة فيه وافرة.
الأمر الثاني وهو في نظري كذلك خطير: كل من يسعى إلى كسر المألوف الاجتماعي المعتمد على الأصل الشرعي، كأن يقوم بنشاط فيحدث فيه اختلاطاً بضم النساء إلى رجال، أو غير ذلك من صور الاختلاط، أو يحاول تغيير اللسان إلى لغة أخرى، والعملة إلى عملة أخرى في وسط بلادنا وفي عقر دارنا.
أقول: إنكم إذا اجترأتم على ذلك فإنكم إنما تضرون أنفسكم، وستعضون أصابع الندم، فإن غيرنا ممن ابتلاهم الله عز وجل في بلاد إسلامية وغير إسلامية قد جنوا الحنظل، وخرجوا بالشوك من مسيرة الاختلاط والفسق والفجور، وأول الغيث قطر ثم ينهمر.
وثالثة -أحبتي الكرام- لي ولكم: نحن أصحاب الحق، فينبغي أن ننطق به، نحن الأصل، والشذوذ ينبغي أن يقال إنه شذوذ، نحن أصحاب الدين القائم على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن خالفهما فنحن نقول له: أنت مخالف ولا كرامة، فكيف وحديث النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق).
وكذلكم نقول ذلك مستندين إلى نظم الدولة، وإلى تعليماتها وتصريحات المسئولين فيها، وقد كان أحد كبار المسئولين يقول: أمران لا مساومة فيهما: العقيدة الإسلامية، وأمن الوطن.
إذاً: نحن ندافع عن ديننا ونظام بلدنا، وتصريحات وتوجيهات وتعليمات القيادات العليا، وولاة الأمور فينا، فنحن كل شيء في صفنا، ونحن باقون على الأصل الذي ينبغي أن نحافظ عليه.
أسأل الله عز وجل أن يحفظ بلادنا من كل سوء ومكروه، وأن يحفظ عليها أمنها وإيمانها، وسلمها وإسلامها، وسعة رزقها ورغد عيشها، ومحافظتها وحسن أخلاقها، وانتظام وائتلاف مجتمعاتها.
اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم تولى أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم إنا نسأل العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا يا أرحم الرحمين.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، أحصهم اللهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، أرنا اللهم فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، يا قوي يا عزيز؛ يا منتقم يا جبار؛ اللهم أنزل بأعداء الإسلام والمسلمين بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين، والمبعدين والأسرى، والمأسورين، والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم اجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، واحفظ اللهم أئمتنا وولاة أمرونا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير، وتحثه عليه يا سميع الدعاء.
اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابةً لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
وترضوا على الصحابة الكرام، أخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(148/10)
تأملات في صيام عاشوراء
يوم عاشوراء هو اليوم الذي نجا الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وجنده، فصامه موسى عليه السلام شكراً لله، ولما كانت دعوة الرسل واحدة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصيامه محبة لموسى، واعترافاً بالشكر لله وحده، وقد احتسب أن يكفر الله به ذنوب عام كامل.(149/1)
وقفات في صيام عاشوراء
الحمد لله أكرمنا بالإيمان، وهدانا بالقرآن، وأعزنا بالإسلام، وجعلنا من أمة خير الأنام، له الحمد سبحانه وتعالى جعلنا من بين الأمم أمة وسطاً، وجعل لنا الشهادة على الأمم وإن كنا في آخرها زمناً، له الحمد جل وعلا على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً، هو أهل الحمد والثناء لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، وله الحمد في الأولى والآخرة حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا وقائدنا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم الله به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم، واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! تأملات في صيام عاشوراء، ونحن في هذا اليوم من شهر الله المحرم، ولهذه التأملات فوائد ومنافع أجلها وأعظمها استشعار نعمة الله جل وعلا بهذا الإسلام، وباتباع خير الأنام صلى الله عليه وسلم، إنه بقدر ما نعمق هذا المعنى في نفوسنا يكون اطمئنان قلوبنا، ورضا نفوسنا، وحبها لإسلامنا وإيماننا من جهة، وبقدر ذلك يكون التشبث والتعلق والثبات على هذا الدين من جهة أخرى، وبقدر ما يكون البذل والفداء والتضحية لأجل الإسلام والدين من جهة ثالثة، إن كثيراً من الأمور في حياتنا وفي تشريعات إسلامنا تمر بنا من غير أن نقف معها لنتلمس حكم التشريع، ولنتأمل في جليل نعم الحق جل وعلا، ولنبصر عظمة هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، نعم قد نؤدي العبادة، وقد نطبق السنة، وقد نسارع إلى الفضيلة، غير أننا لا نستشعر الإطار العام الذي يربطنا بهذه الشعائر، ويجذبنا إلى تلك السنن، ويبصرنا بحقائق الفضل والإنعام في شريعة الإسلام.
روى البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود تصوم عاشوراء، فقالوا: هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون، فقال لأصحابه: أنتم أحق بموسى منهم فصوموا)، وفي رواية مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وجد اليهود يصومون عاشوراء، فلما سأل قالوا: إن موسى صامه، وإنه اليوم الذي نجا فيه من فرعون، وغرق فيه فرعون، فصامه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه، وقال: نحن أحق بموسى منهم).
وفي رواية عند البخاري قال: (فصامه موسى شكراً لله تعالى) وفي رواية ثالثة: (أنه لما قدم المدينة فرأى اليهود يصومونه قال: ما هذا؟ قالوا: يوم صالح نجى الله فيه بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى عليه السلام، فقال عليه الصلاة والسلام: فأنا أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه).(149/2)
إيمان هذه الأمة بجميع الرسل السابقين
ثم انتبه إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بموسى منهم)، كل فضل فيما مضى، وكل خير وتشريع فيما سبق أقره الإسلام، ونحن أخذنا منه بالحظ الوافر.
ثم (نحن أحق بموسى منهم)؛ لأنا نؤمن بموسى عليه السلام، ونؤمن بمن جاء بعده وهو عيسى عليه السلام، ونؤمن برسل الله وأنبيائه لا نفرق بين أحد منهم، واليهود في جملتهم لم يؤمنوا بعيسى عليه السلام، وكفروا برسالته، وسعوا إلى قتله، ولم يؤمن جلهم كذلك بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وجحدوا بها وسعوا إلى قتله، ونحن نؤمن بالرسل والأنبياء، ونعظمهم ونوقرهم، ولا نفرق بين أحد منهم.
ثم ماذا كان شأن بني إسرائيل مع موسى عليه السلام؟ والقرآن قد قص علينا من ذلك قصصاً فيما جحدوا، وفيما أتعبوا فيه موسى، وفيما خالفوه فيه، وفيما استبدلوه من نعمة الله عز وجل، واتخذوا العجل إلهاً معبوداً لهم وغير ذلك كثير، فينبغي لنا أن ندرك نعمة الله عز وجل علينا، ورحمته بنا، وتفضيله لنا، وتمييزه لنا عن غيرنا قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143] {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] ينبغي أن يكون ذلك إيماناً ويقيناً راسخاً بفضل أمة الإسلام وأهل الإسلام، لا كبراً ولا استعلاء، ولكن علماً وتمييزاً وتعريفاً في هذا المجال.(149/3)
مخالفة أهل الكتاب
ثم تأمل كذلك مسألة مهمة في شأن المخالفة أشار إليها علماء السنة وشراح الحديث، فيما ساقه ابن حجر في شرحه على البخاري قال: ورد في مسلم: (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع)، فمات قبل ذلك، ثم أشار إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في أول الأمر يحب أن يوافق أهل الكتاب ويخالف أهل الأوثان، فلما فتح الله مكة وانتشر الإسلام أحب مخالفة أهل الكتاب، أي: تمييزاً لأمة الإسلام عنهم.
وهنا دروس كثيرة من فطنة، وحكمة، ومراعاة للواقع، والتفات إلى تحصيل المصالح، إن قارنا إيماناً ورسالات سماوية وكتباً ربانية، وإن وقع فيها تحريف وتغيير وتبديل، لا نستطيع أن نجعلها في مرتبة كفر وشرك وعبادة أوثان، فتلك أقرب، والموافقة لها أنفع، وكان ذلك من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليعلم الناس أن آثار النبوة واحدة، وأن أصلها من الله جل وعلا، وأن الوحي في أصله وفي الدين الذي جاء به إنما هو توحيد الله والإسلام.
ثم لما اقتضت الحكمة من بعد قوة الإسلام وانتشاره، وهزيمة الشرك واندحاره، وبطلان الجاهلية وانطفاء أنوارها، وذهاب هيبتها، أراد أن يعلم المسلمين وغير المسلمين بتميز الإسلام وفضله، فكانت له توجيهات وإرشادات إلى المخالفة المقصودة لذاتها تمييزاً وتفضيلاً كما قال أهل العلم، قال: (لأصومن التاسع) أي: وحده، وهذا قول وإن كان ليس هو الأقوى، أو لأضيفن إلى العاشر التاسع مخالفة لليهود والنصارى من جهة، وزيادة في الفضل والعمل من جهة أخرى، ومن هنا قال العلماء: إن صيام يوم عاشوراء على ثلاث مراتب: أن يصام وحده، فهذه مرتبة، وأفضل منها أن يصام معه التاسع، وأفضل منها أن يصوم يوماً قبله ويوماً بعده فيجمع فضل الصوم، وإدراك إصابة السنة، وتحقيق مخالفة اليهود، وزيادة العمل.
نسأل الله عز وجل أن يكتب لنا ولكم الأجر والثواب، وأن يوفقنا لمتابعة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأن يعيننا على شكر الله عز وجل على نعمه، والقيام بحقها، والحمد لله رب العالمين.
وأقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(149/4)
شرف الأمة المحمدية وسبقها على الأمم الأخرى
هنا تأملات، أولها: شرف الأمة المحمدية، وسبقها وفضلها على غيرها، وقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، إلا أنا أوتينا الكتاب من بعدهم)، (نحن الآخرون) أي: زماناً، (السابقون) أي: فضلاً يوم القيامة، (غير أنا أوتينا الكتاب من بعدهم) أي: من الناحية التاريخية والزمانية.
وأخبر صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: أن اليهود ضلت فاتخذت السبت، وأن النصارى ضلت فاتخذت الأحد، وأن المسلمين هدوا إلى الصواب والحق؛ فجعلوا الجمعة عيدهم، وسبقوا بها غيرهم.(149/5)
فضل الشكر
الشكر فضله كبير قال تعالى: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40]، ومن رحمته جل وعلا ما بينه في قوله: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء:147] فالشكر من أسباب دفع النقم، وحماية المؤمن، ووجود الأمن النفسي والواقعي، قال ابن كثير في هذا السياق: ثم قال جل وعلا مخبراً عن غناه عما سواه، وأنه إنما يعذب العباد بذنوبهم: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ)، وقال السعدي: إن الله لا يتشفى بعذابكم، ولا ينتفع بعقابكم، وإنما العاصي لا يضر إلا نفسه، كما أن عمل المطيع لنفسه.
وذلك ما ينبغي أن تتأمله أخي المسلم، فكل أمر من الأمور التي تحل بك إن خيراًَ أو شراً معقده ومربطه عملك ونيتك، إن شكرت وآمنت وعملت صالحاً وجدت طمأنينة قلب، وسكينة نفس، وهدوء بال، وسلامة جوارح، وبركة وقت ومال وغير ذلك، وإن كانت الأخرى فاعلم أن ما يصيبك من هم أو غم أو عثرة أو غير ذلك فإنما سببه جحد النعم، أو استعمالها في غير محلها، والله جل وعلا قد بين ذلك قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41].
ومن هنا ينبغي لنا أن نتأمل في هذا الموقف العظيم، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قدم المدينة فوجدهم يصومون عاشوراء -أي: وجد اليهود- فسأل، وهنا مسائل: قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لم يكن في شهر الله المحرم، والمقصود أنه لم يعرف ذلك إلا بعد قدومه للمدينة، ولم يعرفه في مقامه بمكة، وليس المقصود وقت قدومه، بل أقام في المدينة، فلما جاء هذا اليوم وجد اليهود يصومونه فسأل عنه، وصح الحديث عند مسلم من رواية عائشة: أن أهل الجاهلية كانوا يصومونه، وأن النبي صامه قبل قدومه للمدينة، وأنه لذلك لم يفعل أو لم ينشأ الصوم، ولا حكمه، ولا سنته، لما كان من شأن اليهود كما ذكر الأئمة من شراح الحديث كـ المازري وعياض والنووي وغيرهم، قالوا: لم يحدث ذلك استناداً إلى خبر اليهود، وإنما كان أمر اليهود وصف حال، وإجابة سؤال؛ لأنه كما قال المازري: خبر اليهود غير مقبول، فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أوحي إليه بصدق ما قالوه، أو تواتر عنده النقل حتى حصل له بذلك العلم، وكذلك قال غيره: أخبره بذلك بعض من أسلم من اليهود وهو مصدق مقبول القول، ثم حديث عائشة يشير إلى ذلك كما قاله عياض: روى مسلم أن قريشاً كانت تصومه، فلما قدم المدينة صامه، فلم يحدث له بقول اليهود حكم يحتاج إلى الكلام عليه، وإنما هي صفة حال وجواب سؤال.
ثم لننظر إلى أمر آخر جدير بالعناية والتأمل، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بموسى منهم)، ثم يأتينا التأمل في الروايات الأخرى من حديث النبي صلى الله عليه وسلم وهي عند مسلم: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع)، وفي رواية عند الإمام أحمد في مسنده بسند فيه مقال عن ابن عباس قال: (خالفوا اليهود صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده).(149/6)
معنى الشكر
شكر النعم أول درس نلمحه في ذلك، ويلفت إلينا فيه النظر رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، ويبين أن هذا نهج أهل الإيمان، فموسى النبي المرسل كليم الله عز وجل فعل ذلك، ورسول الله فعله، وأمر أمته بفعله، فصامه موسى شكراً فقال: (نحن أحق بموسى منهم).
ثم تأمل الشكر؛ فإن دلالته عظيمة: قال السعدي في معناه: هو خضوع القلب واعترافه بالمنعم، وثناء اللسان عليه بالقول، وعمل الجوارح بمقتضى طاعته، وعدم استخدام نعمته في معصيته.
فما أعظم هذا المعنى وأوسعه وأشمله! إنه يتناول القلب في سويدائه، والنفس في أعماقها؛ شعوراً بالامتنان والاعتراف، والإقرار بالمنعم الواهب الرازق المعطي سبحانه وتعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ} [النحل:53] وكم هي النعم التي لا يقدر أحد شكرها، ولا يستطيع بشر أن يؤدي حقها! وكلكم يعرف الأثر الذي فيه أن عابداً قضى عمره في عبادة الله، ثم بعثه الله جل وعلا، وأمر أن يدخل الجنة برحمته، فقال العبد: بل بعملي يا رب! فقال الله جل وعلا لملائكته: زنوا عمله بنعمة بصره، فرجحت نعمة البصر بعمله كله، ولم تستطع أن توفيها حقها، فقال: بل برحمتك يا رب! ومن هنا نعرف قول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: (لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).
ومن الشكر الثناء باللسان قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] كم من الناس من تسأله عن حاله فيدعو بالويل والثبور وعظائم الأمور، ويأتي بالهم والغم، ويذكر المآسي والشرور، ولا يحمد الله عز وجل أن رد إليه روحه بعد أن أنامه، ولا يحمد ربه أن حفظ عليه إسلامه وإيمانه، ولا ينظر إلى ما سلب من غيره من نعم وهو ما زال متسربلاً بنعمة صحته وعافيته! ومن الشكر عمل الجوارح بمقتضى النعم، أين البصر وأين يرسل؟ أين السمع وإلام ما يصغي؟ أين اللسان وبم ينطق؟ أين الأقدام وإلى أين تسير؟ أين الأيدي وماذا تخط وماذا تعمل؟ {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ} [سبأ:13].
ومن الشكر بالعمل ألا يستخدم نعمته في معصيته، كم نحن في حاجة إلى أن نتأمل في حكمة الشريعة نحن نصوم ونصوم ونتابع السنة غير أنا لا نلتفت إلى المعاني الدقيقة، وتجد اللفتات الإيمانية والتربوية في نصوص قليلة، وكلمات معدودة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.(149/7)
أهمية شكر الله عز وجل
ثمة وقفات كثيرة في صيام عاشوراء، منها أهمية شكر الله عز وجل على النعم، وأن النعم تكون بفضل الله عز وجل ثواباً وجزاءً لفعل الخير، وللتشبث بالإيمان واليقين، والثقة بوعد الله عز وجل، وصدق التوكل عليه، فإن نجاة موسى عليه السلام كانت أمراً خارقاً للعادة، ومعجزة لنبي الله عز وجل موسى.
وكانت أعظم دليل على عظيم يقينه، وقوة إيمانه، وصدق توكله على ربه، وعظيم ثقته بالمخرج الذي يسوقه الله عز وجل لكل مؤمن به وصادق معه: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] لم يروا للنجاة بصيص أمل، فقد كان فرعون من ورائهم، والبحر من أمامهم، مع قلة عددهم وعتادهم، وضعف إيمانهم، وعدم قوة يقينهم قالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]، واللفظ القرآني معجز في بيان بلاغة معناه (إنا) إما على سبيل التوكيد، وقد تقع جواباً لقسم، أي: والله إنا لمدركون، والإدراك: هو الإحاطة من كل جانب، فليس ثمة منجى ولا مهرب، غير أن لسان الإيمان، ودليل التوكل تجلى في قول موسى عليه السلام في جانبين اثنين: (كَلاَّ) أي: ذلك قول غير مقبول في منهج الإيمان، وغير مرضي عند أهل اليقين.
ثم قرر الحقيقة الأخرى بتقرير أشد في التوكيد، وأعظم في التصديق من قول أصحابه في التوهين والضعف فقال: (إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) والتوكيد في (إن)، وتقديم المعية؛ استشعار إيماني عظيم صادق كأنما هو رأي عين، كما حصل من المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم كان في الغار فقال أبو بكر: (لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لرآنا! فقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، وذلك من عظيم الإيمان واليقين.
{قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] لم يكن موسى عليه السلام يعرف كيف سيكون المخرج، ولم يكن يرى سبيلاً واضحاً للنجاة، غير أنه يملك إيماناً في قلبه، ويقيناً في نفسه، وثقة بربه، سوف يأتي الفرج لكن لا يعلم بأي وسيلة سيكون! ثم جاءت الوسيلة على خلاف كل معهودات البشر؛ لتبين أن الإنسان الضعيف ينصر بقوة القوي القادر سبحانه وتعالى: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء:63] وما عسى أن تغني العصا؟! وما عسى أن يغني الضرب بها في البحر؟! وأي شيء ينتج من ذلك؟!! حصلت النتيجة الهائلة العجيبة الغريبة التي ليس لها نظير: {فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:63] البحر ينشق طرقاً لا طريقاً واحداً، وهي طرق ليست كالطرق الإلكترونية البشرية، بل هي طرق إلهية ربانية، بعد أن نجى الله موسى ومن معه أطبق البحر على فرعون ومن معه، وهنا استشعر موسى عليه السلام أن نعمة إيمانه ويقينه وتوكله أفاضت عليه من ربه نعمة نجاته وسلامته، ودحر عدوه، فجدد هذه النعمة بنعمة أخرى، فصام ذلك اليوم شكراً لله جل وعلا على ما من به من النجاة.
وقد ساق الله جل وعلا لنا آيات الشكر في سياق قصة موسى عليه السلام، وفي معرض مخاطبته لقومه، قال جل وعلا: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]، ثم جاء القول على لسان موسى عليه السلام: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم:8].(149/8)
فضل صيام يوم عاشوراء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم، واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن، واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
ولا شك أن هذه معالم مهمة، معلم تذكر نعم الله والعمل على شكرها، ومعلم تميز أمة الإسلام والعلم بفضلها، ومعلم التميز بالمخالفة والمفارقة لغير أهل الإسلام فيما ورد به الشرع، ومعلم التجرد ومراعاة الواقع، وتحقيق المصالح فيما يكون من أمر المسلمين مع غيرهم بحسب تغير الأحوال وتبدل الأزمان، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بعد ذلك نرى الفضل والأجر والثواب، فقد صح عند مسلم من حديث أبي قتادة في حديث طويل عن الصيام، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحتسب في صيام عاشوراء أن يكفر السنة الماضية)، فيوم أو يومان يكفران عاماً كاملاً من الذنوب والخطايا، نعمة الله جل وعلا عظيمة، وفضله عميم، وعفوه ومغفرته ورحمته وسعت كل شيء.
فلا يتعاظمن أحد تلك المغفرة، فإنها عند الله عز وجل كما أخبر بها رسوله صلى الله عليه وسلم، فنحن نتبع السنة، ونبتغي الأجر والفضل من الله عز وجل، ويجدر بنا مع ذلك أن نتدبر المعاني، وأن نلتفت إلى هذه الدلالات والتوجيهات والإرشادات، سيما وأن هذا الشهر هو من أفضل الشهور التي يكثر فيها العبد من الصوم، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفضل الصيام بعد رمضان صيام شهر الله المحرم)، أي: الصيام منه والإكثار فيه من الصوم، وهو مفتتح العام، فكلما زدت فيه عملاً صالحاً رأيت لذلك أجراً وفضلاً.
وفيه كذلك فضيلة الصوم، وأنه من أجل العبادات التي يتقرب بها إلى الله، والتي تشكر بها نعم الله لما فيه من الإخلاص والسر بين العبد ومولاه.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لطاعته ومرضاته، وأن يمن علينا برحمته ومغفرته، وأن ينيلنا رضاه ورضوانه إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة، في الدين والدنيا والآخرة، اللهم ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم طهر قلوبنا، وزك نفوسنا، وأخلص نياتنا، وهذب أخلاقنا، وحسن أقوالنا، وأصلح أعمالنا، وضاعف أجورنا، وامح أوزارنا، وارفع درجاتنا، وبلغنا اللهم فيما يرضيك آمالنا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله محمد رسول الله، اللهم توفنا على الإيمان والتوحيد، وابعثنا على الشهادة، وثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويوم يقوم الأشهاد يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك المخلصين، وأن تكتبنا في زمرة المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن تحبهم وترضى عنهم، وتأخذ بأيديهم ونواصيهم إلى طريق الحق والسداد، وتلهمهم الرشد والصواب، أعذنا اللهم من مضلات الفتن، ومن وساوس الشيطان، ومن قرناء السوء، ومن فتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال يا رب العالمين! اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم إنهم طغوا وبغوا وتجبروا وتكبروا، وأذلوا عبادك المؤمنين، وانتهكوا حرمات المسلمين، اللهم فأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز يا متين! يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء! يا من أمره بين الكاف والنون! اللهم إنا ندرأ في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، اللهم اجعل بأسهم بينهم، وخالف كلمتهم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، ولا ترفع لهم راية، ولا تبلغهم غاية، واجعلهم لمن خلفهم آية، واشف اللهم فيهم صدور قوم مؤمنين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم أقر أعيننا بهزيمتهم ودحرهم، وردهم على أعقابهم صاغرين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، ثبت اللهم خطواتهم، ووحد كلمتهم، وسدد رميتهم، وأعل رايتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! اللهم لطفك ورحمتك بإخواننا المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، اللهم اجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وأقم الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(149/9)
تقديس وتدنيس
لقد عظم الله تعالى في الشرع أشياء وجعلها مقدسة مميزة على غيرها، فتعظيمها واجب، ولا يحل لمسلم أن يتناولها بالانتقاص أو الإهانة، وحرص المسلم على تعظيمها دليل على تقواه لله تعالى؛ لأن تعظيم شعائر الله من تقوى القلوب، وينبغي أن يعلم المسلم أنها ما عظمت إلا بتعظيم الله تعالى لها، إذ هو سبحانه يصطفي من خلقه ما يشاء ويختار، فلا راد لأمره ولا معقب لحكمه سبحانه وتعالى.(150/1)
مقدمة عن التقديس
الحمد لله لا إله غيره ولا رب سواه، لا يضل من استهداه، ولا يخيب من رجاه، ولا يحرم من دعاه، له الحمد سبحانه وتعالى جل جلاله، وتقدست أسماؤه، وعظمت صفاته، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه.
فله الحمد كما يحب ويرضى، وله الحمد كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، وله الحمد ملء السموات والأرض، وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جزى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن التقديس والتدنيس في أمور عظيمة جليلة لها في قلب كل مؤمن مخلص ومسلم غيور أعظم موقع وأسمى مكان، وإن المسلم اليوم يرى أموراً ويسمع أخباراً ما كان يخطر ببالنا -ولو على سبيل التخيل والرجم بالغيب- أن يكون مثلها.
وقد يعجب بعض الناس ويتساءلون عن السبب الذي أوصل الأمة إلى هذا الموقف، وكلنا يعلم كم مر في الآونة الأخيرة من جرائم على مقدساتنا، بدءاً بتسفيه آيات القرآن العظيم، ومروراً بالعدوان والانتقاص للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وتعريجاً على صور من التدنيس والإهانة لكتاب الله جل وعلا، وكذا العدوان على المقدسات الإسلامية كرّة بعد كرّة، ومرة بعد مرة، كما في بيت المقدس مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأحسب أن بإمكاننا في مثل هذا الموضوع أن نرفع الصوت عالياً، وأن نستجيش العواطف لتختنق الحلوق بالعبرات، وتذرف العيون بالدمعات، وتهتز الرءوس بشيء من الاعتراف، وتلهج الألسن بحوقلة واسترجاع، ثم نمضي دون أن يكون لنا من وراء ذلك ما هو أعظم من هذه الصور الظاهرة، ومن هنا آثرت أن لا يكون حديثي على ذلك النحو الذي قد وصفته، فنحن لسنا في حاجة إلى الصراخ، فإنه يملأ الأجواء؛ ولسنا في حاجة إلى الاستنكار؛ فإنه قد ملئت به القنوات والإذاعات والمؤتمرات.
ولكننا نحتاج إلى اكتشاف العلة ومعرفة الداء والنظر إلى المقدمات، ومعرفة الخلل الذي نشارك فيه جميعاً ولا يكاد يسلم فيه منا أحد إلا من رحم الله.(150/2)
معنى التقديس وأهميته في الدين الإسلامي
التقديس معناه في أصل اللغة التطهير والطهارة، ويدخل فيه ويرتبط به في هذا المعنى شرف الصفات والخلال، ويتبع ذلك التعظيم والإجلال، وفيه كذلك الخير والبركة وحسن الحال والمآل.
فكل أمر عظيم مقدس طاهر، منزه عن العيوب والنقائص، مشتمل على عظيم الصفات والخصال، ومن ثم فإن فيه الخير والبركة، ويجب له التعظيم والإجلال.
فمن الذي يقدس؟ ومن الذي يجعل الشيء عظيماً محترماً وله أحكام تخصه في معاملته وفي توقيره وتعظيمه؟ إنها مسألة في أصل ديننا ليست مبنية على اجتهاد علماء، ولا اتفاق فقهاء، وإنما هي أحكام ربانية من الله جل وعلا.
وهذا الاختيار من الله يدل على كمال الألوهية لله عز وجل {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68].
هو الذي يختار جل وعلا، فيجعل من البشر رسلاً هم صفوة الخلق، ولهم مقام من التقديس والتعظيم يليق بنبوتهم ورسالتهم.
وهو الذي يصطفي من البقاع بقاعاً فيجعلها مقدسة لها أحكام خاصة، ولها فضائل جليلة، وكل من يسيء إليها أو ينتقص من تعظيمها فله وعيد شديد وعذاب عظيم، بل وحد مشروع في الدنيا قبل الآخرة.
فالله تعالى هو الذي جعل هذه الخصيصة لنفسه، ففضل من الأزمان أزماناً وجعل لها خصائص، وفضل من البشر خلقاً وجعلهم رسلاً وأنبياء، وفضل من البقاع بقاعاً وجعلها مواطن لبيته المقدس ومسرى رسوله الكري، ومسجده العظيم صلى الله عليه وسلم.
هو الذي جعل ذلك حقاً له جل وعلا {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75]، {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] وذلك من خصائص الحق سبحانه وتعالى، لا يحق لأحد أن يكون له من ذلك شيء مطلقاً، كما لا يحق لأحد أن يعترض أو يجترئ على ما خصه الله جل وعلا بالتقديس والتعظيم.
والتدنيس في مقابل ذلك مرتبط بالنجاسة والإذلال والإهانة لما هو مقدس، فإنه يدخل على الشرف ما لا يناسبه، ويضيف أو يعترض على العظمة بما يناقضها، وذلك لا يجوز بحال من الأحوال، ولست هنا مفيضاً في هذا المعنى، لكني أقول: إن أعظم تقديس هو تقديس الله سبحانه وتعالى، فهو جل وعلا الملك القدوس المنزه عن كل النقائص التي تلحق بغيره من الخلق جل وعلا.
وتنزيه الله سبحانه وتعالى وتقديسه مقصود به تنزيهه عن كل ما لا يليق، كما قالت الملائكة: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30]، ومقام ذات الله عز وجل أعظم مقام عند المسلمين المؤمنين، وكذلك كلام الله سبحانه وتعالى القرآن العظيم له أحكام كثيرة ودقيقة، حتى إن الفقهاء فصلوا في كثير منها بحسب ما ورد من الاستفتاءات، ولعلي أشير إلى بعضها لنرى كيف يكون هذا التعظيم سارياً في كل أمر، حتى وإن كان في نظر بعض الناس صغيراً أو هيناً.
إن الفقهاء يسألون عن مد القدم إذا كان في تجاهها أو في مقابلها المصحف (كتاب الله عز وجل)، فيفتون بالحرمة إذا كان في ذلك شيء من الاستهانة وعدم التعظيم، وفي فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم -مفتي المملكة السابق- ورد قوله: أما وضع المصاحف في أكياس خلقة من الخيش ونحوه وتعليقها فهذا لا يجوز؛ لأن فيه إهانة للقرآن، ولو لم تكن متعمدة.
وسئل الشيخ يوسف الددوي -من علماء الأزهر الشريف- عن شرب الدخان في مجالس القرآن فقال: أما شربه في مجالس القرآن فهو حرام.
وأفاض في بيان ذلك بأن فيه إعراضاً عن التدبر بالتلهي، وأن فيه إشعاراً بالاستهانة، وأن فيه إيذاءً لمن يصغون ويستمعون لكلام الله جل وعلا.
وأمضي -أيضاً- إلى فتوى للعز بن عبد السلام إمام المجاهدين وعلم المفتين، فقد سئل: هل يجوز تسليم المصحف لذمي ليجلّده؟ وهل يجوز ترك كتب التفسير والحديث عند غير المسلمين؟ فأجاب رحمه الله: لا يجوز ترك كتب التفسير والحديث عندهم، ولا تدفع المصاحف ولا التفاسير ولا كتب الحديث إلى كافر لا يرجى إسلامه، وينكر على فاعله.
أي: على فاعل ذلك.
ولعل مثل هذه الصور عندما نسمعها نرى أن كثيراً منها يقع اليوم وليس في النفوس منه حرج، وأن غير ذلك -بل ربما أكثر منه- نراه في واقع أمة الإسلام.
ألست تسمع الإقسام بالله عز وجل يسرد ضمن الغناء مع الألحان، يقول مغنٍ وضيع أو راقصة داعرة؟! ألم تسمع أن مغنياً عربياً أدخل بعض آيات من القرآن في سورة يوسف عليه السلام في أغنية لحنها وغناها؟! ألست تسمع صوراً كثيرة في واقع المسلمين اليوم كلها عند من يدقق في معنى التقديس والتعظيم تجرحه وتخدشه، وقد تصل إلى صور عظيمة من الإهانة يأتي الحديث عن خطورتها وعن عظمتها وعما حكم به بعض أهل العلم بكفر فاعلها؟! إن مثل هذه الأحوال لا تجوز الاستهانة بها، ولا التهوين من شأنها، فإن كل صورة من صور الاستهزاء المناقض للتعظيم فيها أحكام صارمة {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66].
قالها قوم من المنافقين في غزوة تبوك أثناء مسير النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، قال بعضهم لبعض: ما رأينا مثل أصحابنا هؤلاء أرغب بطوناً وأجبن عند اللقاء -يعنون بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والصفوة المختارة من أصحابه رضوان الله عليهم- وبلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنزل عليه الوحي بهذه الآيات، وعلم المنافقون بهذا، فابتدر أحدهم إلى ناقة النبي صلى الله عليه وسلم يستعطفه والقرآن ينزل: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66].
ويأتينا مثل هذا كذلك فيما أجمع عليه علماء الأمة في شأن سب المصطفى صلى الله عليه وسلم، والانتقاص من قدره ومقامه ولو بصورة من الصور التي قد يراها بعض الناس تحتمل تأويلاً، فقد نقل أهل العلم الإجماع على ذلك.
قال القاضي عياض رحمه الله: أجمعت الأمة على قتل منتقصه من المسلمين وسابّه، وكذلك حكى غير واحد الإجماع على قتله وتكفيره.
وقال محمد بن سحنون: أجمع العلماء على أن شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم والمتنقص له كافر، والوعيد جاء عليه بعذاب الله، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر.
ليست هذه المسائل هينة، إنها عند علماء الأمة في ضوء كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أعظم المسائل وأجلها؛ لأنها تتعلق بالمقدسات.
وتأمل قول الحق جل وعلا: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25]، وتأمل قول الله عز وجل في حرمة البيت الحرام ودخول المشركين إليه، وتأمل كل الأحكام المتعلقة بكل ما قدس الله سبحانه وتعالى ونزه من هذه المقدسات التي جعلت لها أحكام خاصة تعظيماً وإجلالاً وتوقيراً.
ألا نعرف أحكاماً كانت لمناجاة النبي صلى الله عليه وسلم؟! ألا نعرف أحكاماً خاصة في خفض الصوت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم؟! ألا نعرف أحكاماً خاصة في طريقة نداء وخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم؟! ألا نعرف أحكاماً خاصة بالقرآن كيف يتطهر له، وكيف يحترم عند قراءته، وكيف يجل في تدبره، وكيف يعظم في العمل به؟! ألا نعرف كل ذلك؟! ولكننا نرى صوراً منه في واقع حياة أمتنا تتسرب قليلاً قليلاً، ويألفها الناس شيئاً فشيئاً، ثم نأتي إلى صور أعظم هي التي تكاد اليوم تلفت أنظار الناس، أصبح اليوم هناك من يسمع أو يرى المنكر الذي ليس بعده منكر فلا يتغير ولا ينكر، يسمع الكفر البواح وكأنه لا يعنيه شيء.
وما بعد ذلك من أمور عظيمة ومقدمات لما بعدها نجدها اليوم في واقعنا، حتى إننا نجد ذلك متفاوتاً في الأجيال، حيث تجد الكبير منا اليوم عنده من توقير رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوقير القرآن الكريم وتوقير بيوت الله عز وجل ما لا نجده بالقدر نفسه عند كثير من الجيل الناشئ؛ لأنهم لم يعودوا على التوقير والتعظيم المناسب الملائم الذي ينبغي أن يربى عليه الأبناء منذ نعومة أظفارهم.
لقد قال الحسن: كانوا يعلموننا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نُعلم الآية من القرآن.
وكان كذلك تعظيم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيما بينهم، حتى إن ابن عمر رضي الله عنه أراد أن يجيب النبي صلى الله عليه وسلم لما سأل عن شجرة مثلها بالمسلم هي النخلة، فاستحيا ابن عمر أن يجيب لأن في القوم أبا بكر وعمر! كل هذه المعاني كانت جلائل وعظائم في النفوس مبنية على تعظيم الإيمان وتثبيت وترسيخ اليقين في القلوب، فلما ضعف الإيمان وتزعزع اليقين وهانت وضعفت الهمم وذلت النفوس أصبحت لا تنتفض إلا في النادر.
عندما نستمع اليوم إلى تصريحات اليهود -عليهم لعائن الله- مرة بعد مرة وهم يزمعون على أن يدخلوا إلى بيت المقدس ويدنسوا المسجد الأقصى نسمع الناس يتحدثون، ونسمع الأخبار تتناقل، وكأن شيئاً في هذه الحادثة لا يحدث، وكأن الأيام والليالي والأعوام والأشهر والأحداث المتتالية والأفعال الإجرامية المتوالية والخطط الداعية إلى الحفر تحت بيت المقدس وغيرها لا تسمع ولا تُعلم ولا يلتفت إليها.(150/3)
وقفة مع الواقع المعتدى فيه على الشريعة
كأن الأمة تحتاج إلى ضربات قاتلة لتستفيق وتستيقظ، وكأنها أدمنت كثيراً على ما يحل بها في كل يوم وليلة، وقد سمعنا خبراً جلياً عن تدنيس بعض الجنود الأمريكيين للمصحف الشريف في معتقل غوانتنامو، وقد ورد ذلك في صحفهم وأخبارهم، وسمعنا أن بعض المحققين كانوا يضعون المصاحف في دورات المياه إهانة للمعتقلين، وأنه في بعض الوقائع وضعوا المصاحف داخل المراحيض نفسها، وأن سبعة من إخواننا في أفغانستان قتلوا في يومين في مظاهرات انتصاراً لكتاب الله عز وجل واحتجاجاً على هذه الأفعال الشنيعة.
وأحسب أننا بإمكاننا أن نثير الأشجان والأحزان، ولكنني أقول: هل نحن نعظم كتاب الله كما ينبغي؟! وهل نحن نعظم رسولنا صلى الله عليه وسلم كما ينبغي؟! وهل نحن نغار على حرمات الله عز وجل كما ينبغي؟! وهل دافعنا عن كل حدث قد مضى قبل ذلك؟! وقد مضت أحداث مشابهة ومماثلة، إلا أن صورة مهمة ينبغي لنا أن نتفقدها، أن نتفقد المقدسات المعظمة في دين الله عز وجل وفي نفوسنا هل نقص قدرها وهل نقص تعظيمها، وهل أصبحنا لا نلتفت إليها بالقدر الكافي ولا نعلمها أبناءنا، ولا نشيعها في مجتمعاتنا، أم أننا نرى التأويل كما رأينا من قبل في امرأة تكلمت على أبي هريرة رضي الله عنه وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأينا من الكُتّاب غير قليل يقولون: لم تهولون الأمر؟! ولم تحاسبون النيات؟! إن الحديث لم يكن المقصود به كذا، وإنما المراد به كذا، ولماذا نتقعر ونتشدد عند الوقوف مع الألفاظ؟! وغير ذلك.
يساء إلى كتابنا، ويعتدى على رسولنا، ويتهجم على قرآننا، ويساء كل يوم إلى تشريعاتنا، ويقال لنا من بعد: ينبغي أن تكونوا منفتحين على الآخرين، وأن يكون لديكم سماحة، وأن لا تتشددوا وتعيدوا لنا مرة أخرى اسطوانة الولاء والبراء، والعداء وغير ذلك! إنها خطة لقتل مشاعر الغيرة الدينية والحمية الإسلامية في النفوس، إنها كالمخدرات، تكون في أول الأمر قليلة ثم يدمنها الناس، ثم يوشك بعضهم أن يألفوها فلا تشمئز منها نفوسهم، ولا يحصل لهم على تجاهها إنكار، كما في حديث حذيفة رضي الله عنه الذي يروى مرفوعاً ويروى موقوفاً: (تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأيما قلب أُشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها نكتت فيه نكتة سوداء، حتى تصير القلوب على قلبين: أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة مادامت السماوات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً -أي: كالكأس المقلوب- لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه).
وأحسب أن درسنا الأعظم في هذا الحديث ليس هو في نقد أولئك الأعداء وأولئك الذين يمعنون اليوم في ظهور وكشف حقائقهم.
فبعد ظهور زيف حقوق الإنسان في أحداث سجن أبي غريب يظهر اليوم كذلك ظهور زيف حقوق الأديان في مثل هذه الأحداث، والعيب والنقد إنما هو موجه إلينا معاشر المسلمين لا لغيرنا، فإنه لا يهون دين أمة إلا إذا هانت في أوساطها، أين تحكيم شريعتنا في ديار الإسلام؟! أليست الخمور المحرمة قطعاً بنص صريح واضح في الكتاب والسنة تصنع أو تباع في كثير من ديار المسلمين؟! أليس في كثير من ديار المسلمين تعلن المحرمات وتشاع بين الناس حتى تألفها العيون وتقبلها النفوس وترضاها القلوب، ولا يكاد لسان ينكرها أو يقوى على ذلك؟! إن كثيراً من مقدساتنا هانت في مجتمعاتنا وضعفت مكانتها وقدرها وقيمتها، إن إقامة منكر محرم في القرآن وإقراره وتثبيته وإعلانه إنما هو إهانة المنزل ولآياته المحكمة ولأحكامه القاطعة، بل ولله جل وعلا الذي أنزله ليحكم به وليعمل به، فلنتأمل فإن الداء منا، وإن العلة فينا، وإن أعداءنا لم ينتصروا لقوتهم، وإنما لضعف بنياننا، كما تضع اليد على الجدار فيتهدم، وليس ذلك من قوتها ولكنه من تصدعه، فلنرجع إلى أنفسنا، ولنحاسبها فإنا سنجد من التقصير شيئاً عظيماً.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يعظم الإيمان والقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم في قلوبنا، وأن يجعل غيرتنا الإيمانية وحميتنا الإسلامية على ما يحب ويرضى، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(150/4)
تعظيم المقدسات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من تقوى الله سبحانه وتعالى تعظيم حرماته، قال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32].
وإن تعظيم المقدسات ينبغي أن يكون في حس كل مؤمن، وإن تكون أعظم شيء عنده، وأن نحرص على تفقد نفوسنا وقلوبنا لئلا يدخل إليها ضعف في هذا التعظيم والتقديس، ولا يسري فيها وهن تجاه كل ما يعارض ذلك ويناقضه.
وإني لأدعو نفسي وإياكم لنراجع سلوكياتنا الشخصية، فإن أموراً منكرة نفعلها نحن داخل بيوتنا، ولا أقول: في عموم المجتمع ليقال: إنها ليست بأيدينا وليست تحت سلطتنا.
إن في البيوت اليوم منكرات هي صور من الاستهانة بالمعظمات، والمقدسات، فإن ما يذاع ويبث في القنوات الفضائية من المحرمات وتجتمع عليه الأسرة أو يرى ويشاهد وهو يعارض عين ما جاءت به الآيات ونص ما وردت به الأحاديث إنه نوع من إضعاف التعظيم والتقديس لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في النفوس.
إنه نوع من إلف المنكرات والرضا بها والتقبل لها، وإضعاف الغيرة وإبعادها.
إن كثيراً من الأمور العملية التي نقوم بها والكسب المحرم الذي قد نتجاوز عنه وهو منتشر بين الناس في أخذ الرشاوى وفي أخذ ما يسمى (أموال الوساطة) وغيرها إنه -أيضاً- ضرب من ضروب التهوين لأحكام الله وشريعة الله، وما يتعلق بذلك من ورائه.
ولو خرجنا إلى مجتمعنا لرأينا الطرائف وهي تشتمل على الآيات والأحاديث وغيرها دون أن يكون هناك منع ولفت نظر إلى عظمة وخطورة ذلك، وأن الخطأ فيه خطره عظيم.
ولقد قال بعض أهل العلم: إن ساب النبي صلى الله عليه وسلم ومنتقصه لا تقبل توبته، بل يقتل حتى وإن ادعى توبة.
كثيرة هي الأمور التي نحتاج إلى مراجعتها في أنفسنا قبل أن نسب أعداءنا -وهم جديرون بذلك-، وقبل أن نكشف عوارهم وزيف ادعاءاتهم ودنو نفوسهم وحقارة سلوكياتهم، وكل ذلك فيهم، لكنه لا يغنينا ذلك قبل أن نعالج أنفسنا، فكم من قائل منهم: لم تعترضون علينا وفيكم من يقول: إن في القرآن أموراً خرافية ليست واقعية؟! وفيكم من يقول: إن في القرآن أحكاماً غير صالحة لهذا الزمان؟! وفيكم من يقول غير ذلك.
إذاً فنحن أولاً جديرون بأن نغير ما بأنفسنا ليغير الله أحوالنا، وليجعلنا قادرين على أن نوقف هذه الموجات المتكاثرة التي لا يكاد اليوم يحصيها العاد من كثرتها.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يعظم الإيمان في قلوبنا، وأن يرسخ اليقين في نفوسنا، وأن يعظم الحمية والغيرة في قلوبنا.
اللهم! إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى وأن تجعلنا هداة مهديين.
اللهم! تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم! إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم! لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم! مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد.
اللهم! أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
اللهم! إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم.
اللهم! إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا.
اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين.
اللهم! من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء.
اللهم! عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، أحصهم -اللهم- عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم! إنَّا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم! زلزل الأرض تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر.
اللهم! أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز يا متين، اللهم! اشف فيهم صدور قوم مؤمنين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين.
اللهم! اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح -اللهم- أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم! وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء.
اللهم! احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، واحفظ -اللهم- لها أمنها وإيمانها، وسلمها وإسلامها، ورغد عيشها وسعة رزقها برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم! انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، ثبت -اللهم- خطوتهم، ووحد كلمتهم، وسدد رميتهم، وقو شوكتهم، وأعلِ رايتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
وترضوا على الصحابة الكرام، أخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
اللهم! صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأقم الصلاة {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(150/5)
ثلاثيات
كثيراً ما يرد العدد في الكتاب والسنة، وذلك للتشويق إلى مضامين هذه الأعداد، وليسهل حفظها للناس، فمن هذه الأعداد الثلاثة، فقد ذكرت في القرآن في مواطن منها: آية الاستئذان في سورة النور، فذكر فيها أوقاتاً ثلاثة يجب الاستئذان فيها حتى على الأطفال والإماء والعبيد، أما ذكر هذا العدد في السنة والآثار والحكم والتجارب فكثير جداً، وفي هذه المادة ثلاثيات متفرقة ونافعة.(151/1)
ثلاثيات من الكتاب والسنة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، نحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى.
فله الحمد سبحانه وتعالى كما نقول وكما يقول، وخيراً مما نقول، وله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، نحمده حمداً كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه سبحانه وتعالى.
والصلاة والسلام الأتمان الدائمان الأكملان على المبعوث رحمة للعالمين، خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: فيا أيها الإخوة الكرام! أحمد الله جل وعلا أن جدد لنا العهد بهذا اللقاء المبارك في هذا اليوم المبارك في هذه الساعة المباركة في هذا المكان المبارك، ولقد كانت لنا من فضله جل وعلا ومنه وتوفيقه دروس عديدة في مثل هذا اليوم من كل أسبوع، وقد طال العهد بها قليلاً، وها نحن نصل الحاضر بما مضى، ونجعله بإذن الله عز وجل أساساً وبداية وصلة مستمرة فيما نستقبل من الأيام بمشيئة الله تعالى.
ولا شك أن مثل هذه المجالس يعم نفعها، وأول المنتفعين بها المتحدث الذي يفكر في الموضوع اختياراً، ثم يسعى لجمع مادته والبحث عن مضمونه في مظان مختلفة، ثم يجاهد نفسه في إخلاص النية وفي تحرير القصد لوجه الله عز وجل، وينتفع السامعون بما يمر بهم من آيات الله عز وجل وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وأقوال السلف، وتجارب الحياة، وكثير من الفوائد التي لا يستغني عنها مسلم وإن كان يعلمها؛ لقول الحق جل وعلا: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55].
وينتفع بها الجميع؛ لكونها في بيوت الله، ولكونها المجالس التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنها من رياض الجنة، وأن الملائكة تتنزل عليها، وأن الرحمة تغشاها، ونحن نحسن الظن بالله، ونعظم الرجاء فيه أن تكون مجالسنا من هذا النوع، فعسى الله عز وجل أن يتغمدنا بواسع رحمته، وأن ينزل علينا ملائكته، وأن ينزل في قلوبنا سكينته سبحانه وتعالى، وهذا لقاؤنا مع الدرس الثلاثين بعد المائة الأولى في يوم الجمعة السابع عشر من شهر ذي القعدة، عام (1416هـ) وعنوانه (ثلاثيات).
وقد رأيت في أول استئناف لهذا الدرس أن يكون موضوعه متنوعاً، وكما يقولون: فيه من كل بستان وردة، ومن كل بحر قطرة، حتى يكون أرغب للنفوس، وأقرب إلى القلوب، وحتى يتجدد النشاط الذي كان لنا، فإذا شرعنا في الموضوعات العميقة أو الدقيقة ربما عرضت بعض الاعتراضات كما مر في بعض الدروس السالفة.
وهذه الثلاثيات متنوعة في مضامينها وموضوعاتها، وفي نسبتها وإسنادها، وفي عمقها ودقتها، والذي يجمعها أمر واحد فحسب، وهو أن في كل قول منها وفي كل مسألة منها ثلاثة أفرع، أو ثلاثة جوانب، وقد قسمت هذا الموضوع أيضاً إلى ثلاثة أقسام حتى لا نخل بالثلاثيات التي فيه: ثلاثيات من الكتاب والسنة، وثلاثيات من الآثار والأخبار والحكم، وثلاثيات من تجارب الحياة.
نبدأ بثلاثيات من الكتاب والسنة، نقف مع بعضها وقفات مختصرة موجزة؛ لأن الغرض هو ما فيها من التنبيه والتوجيه، وما يقع فيه بعض منا من الأخطاء، وعدم مراعاة مثل هذه الجوانب.(151/2)
الاستئذان في ثلاثة أوقات
يقول الحق سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:58].
فهذه الآية تذكر حكماً من أحكام الاستئذان الفرعية، جعله الله عز وجل مخصوصاً بالعبيد وبالأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، لكنهم مع ذلك صاروا مميزين يعرفون العيب من غيره، ويعرفون بعض الحق من الباطل، ويعرفون ما يستحيا منه وما لا يستحيا منه.
ولذلك ذكر بعض أهل العلم استنباطاً من هذه الآية أن ثبوت الاستئذان وتكراره ثلاثاً مأخوذ من هذه الآية وهي قوله تعالى: (ثَلاثَ مَرَّاتٍ).
قال بعض أولئك: أي ثلاث دفعات، أي يستأذن ثلاث مرات، وهذا استنباط غير صحيح، بل الغالب الذي قاله أهل العلم كما نقله القرطبي عن ابن عبد البر: أن قوله: (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) أي: في ثلاثة أوقات متفرقة، أما الاستئذان ثلاثاً فإنه وارد ثابت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (من استأذن ثلاثاً فإن أذن له وإلا فليرجع).
وليست هذه الآية موضع هذا الاستنباط بتكرار الاستئذان في الوقفة الواحدة.
ثم قال القرطبي في تفسيره في علة التخصيص بالإماء والصغار، وعلة التخصيص بهذه الأوقات أدب الله عز وجل عباده في هذه الآية بأن يكون العبيد إذ لا بال لهم، والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، إلا أنهم عقلوا معاني الكشفة ونحوها.
أي: الأدب مخصوص بالعبيد؛ لأنهم لا يؤبه لهم؛ لكثرة ترددهم في بيوت الناس وخدمتهم لهم، قد لا يتحفظون منهم.
ونعلم أن هناك أحكاماً فقهية تختص بالعبيد والإماء، منها: أحكام تتعلق بجواز كشف العورات إلى حدود معينة، ومع ذلك جاء هذا الاستئذان؛ لأن هذه الأوقات كما سيأتي لها خصوصية معينة، والأطفال بطبيعة صغر سنهم قد لا يكترثون ولا يعبئون بالدخول والخروج، ولا يتنبهون إلى ما قد يقع من أثر ذلك من انكشاف العورات؛ لأن الناس يستصغرونهم، وهذا من بلايا ورزايا عصرنا الحاضر، أن كثيراً من الناس ينظر إلى الغلام، فيقول: إنه صغير وهو ابن خمس، ثم يقول: إنه صغير وهو ابن سبع، ثم ما زال يستصغره وهو ابن عشر، ثم تجد بعض الناس قد يكون الابن قد بلغ الخامسة عشرة وهو ما زال ينظر إليه على أنه صغير، وترى بعض النساء قد لا تتحرج منه ولا تحتجب منه، وهذا من التفريط.
وكذلك في أمر الفتيات والبنات؛ فإن كثيراً من الناس سهل عليهم الأمر ولم يراعوا مثل هذه الآداب، وتجد أنهم يستصغرون الفتاة وهي ابنة تسع وابنة عشر، وربما تكون أكثر من ذلك، وما يزالون يرونها صغيرة، لا يؤدبونها بالآداب الشرعية، ولا يلزمونها الحجاب ونحو ذلك.
ثم يقول القرطبي: علمهم هذا الأدب أن يستأذنوا على أهليهم في هذه الأوقات الثلاثة؛ لأنها الأوقات التي تقتضي عادة الناس الانكشاف فيها، وملازمة التعري.
أي: من عادة الإنسان أن يخلع ثيابه في تلك الأوقات، وقد يكون في وضع النوم أو نحو ذلك، فلا يتحرج من انكشاف عورته، فقبل الفجر وقت انتهاء النوم، وهو خروج من ثياب النوم ولبس ثياب النهار، ووقت ما بعد الظهيرة هو الوقت الذي يخلع فيه المرء ثياب النهار ويلبس ثياب البيت للراحة والقيلولة، وكذلك وقت ما بعد العشاء، فإنه وقت الاستعداد للنوم وتغيير الثياب، ولبس الخفيف منها مما لا يستثقله الإنسان، ولا يتحفظ منه في داخل بيته وبين أهله، فمن ثم جاء الاستئذان وتأكيده على هؤلاء الذين قد لا يكون الاستئذان عليهم واجباً في كل وقت، وإنما خص بهذه الأوقات لهذه المعاني.
وهذه وقفة أولى، وكما قلت: وقفاتنا متنوعة ولا يجمعها إلا هذه الثلاثيات، وفي الآيات غير هذا وإن كان غير مصرح به، لكني اكتفيت بهذه الآية.(151/3)
ثلاث دعوات مستجابات
أما في سنة النبي صلى الله عليه وسلم فالأحاديث في هذا الشأن أيضاً كثيرة، نذكر بعضاً منها مما يحصل التنبيه عليه والتذكير به، فهذا حديث أبي هريرة يرويه البيهقي في شعب الإيمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصائم، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر).
وفي رواية عند البزار من حديث أبي هريرة أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاثة حق على الله ألا يرد لهم دعوة: الصائم حتى يفطر، والمظلوم حتى ينتصر، والمسافر حتى يرجع).
قال الهيثمي عن بعض رجاله: لا أعرفه، وبقية رجاله ثقات.
هذا الحديث يخبرنا عن القطع بإجابة دعوة ثلاثة أصناف من الناس متلبسين بثلاثة أحوال، والغرض الذي نريد التنبيه عليه هو: لم جعل هذا الوعد والقطع بإجابة الدعاء لأولئك النفر الثلاثة أو الأنواع الثلاثة: الصائم حتى يفطر، والمظلوم حتى ينتصر، والمسافر حتى يرجع؟! لو سألنا سؤالاً: ما هو الأمر المشترك بين هؤلاء الثلاثة، الذي هو سر وعد الله عز وجل بإجابة الدعاء؟ نقول: السر في هذا هو كمال التجرد لله سبحانه وتعالى، والانقطاع عن الأسباب والخلق؛ لأن الله سبحانه وتعالى واحد فرد صمد، ويحب وحدانيته من عباده، ويحب إخلاص العبد له في عبوديته، وكلما كان القلب أكثر انقطاعاً عن الدنيا وعن الناس وعن الأسباب، وأكثر وثوقاً وتعلقاً بالله سبحانه وتعالى، وأعظم تجرداً له جل وعلا، كان ذلك دليلاً على عظمة الإيمان وصدق التوكل وكمال الثقة بالله عز وجل وشدة الافتقار له سبحانه وتعالى.
والعبودية إنما هي بمزيد التذلل والخضوع والانكسار والافتقار، والبراءة من الحول والطول، والاستناد إلى حول الله وقوته.
وهذا ابن القيم في فوائده يبين أن كل وجه من وجوه النقص في الإنسان يقابله وجه من وجوه الكمال، فكلما شعر المرء بنقص فيه، طلب ما عند الله سبحانه وتعالى بما له من صفات الكمال حيث يقول: ركبت من العجز لتنظر إلى عظيم قدرة الله سبحانه وتعالى، وركبت من الفقر لتنظر إلى عظيم غنى الله سبحانه وتعالى، وركبت من الضعف لتنظر إلى عظيم قوة الله سبحانه وتعالى.
وهكذا كل ضعف فيك فهو مقابل للكمال المطلق عند الله سبحانه وتعالى، وهنا الصائم أساس عبادته كما نعلم لله؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به).
فهو مخلص لله عز وجل حيث تجرد وتنزه عن شهوته وعن طعامه وشرابه إخلاصاً لله عز وجل، ومحص النية له سبحانه وتعالى، وعلق الأسباب به، وترك حاجة فرجه وحاجة بطنه وحاجة أنسه وراحته لله جل وعلا، وتعلق به أوثق تعلق.
والمظلوم لو كان بيده أن ينتصر من ظالمه لفعل، لكنه غالباً ما يكون مغلوباً على أمره عاجزاً أن يرد هذا الظلم ممن بغى عليه وبطش به وتكبر وتجبر عليه؛ لضعفه، فحينئذ هذا الضعيف لم يجد في قوته ولا في قوة غيره من ينصره ويرد عنه الظلم، وقد سدت في وجهه الأبواب، وأظلمت في وجهه الدنيا، وربما انتهك شيء من عرضه، وربما أهين في شرفه، وربما استلب ماله، فلم يجد أمامه طريقاً ولا باباً إلا باب السماء يطرقه، وإلا باب الدعاء يلهج به لله سبحانه وتعالى، ولسان حاله يقول: لئن عدمت قوة الأرض ولئن عدمت أسباب البشر، فإن قوة الله عز وجل وأسبابه لا تعدم، فيصل حباله بالسماء، ويمد يديه بالدعاء، ويكون قد انكسر في نفسه من أثر ما وقع عليه من الظلم، وشعر بشدة فقره وعظيم احتياجه وشدة لجئه لله سبحانه وتعالى.
ولذلك قال ابن تيمية رحمه الله في المجلد الأول من فتاويه فيما قد يقع على الإنسان من البلاء فيدعو الله عز وجل بكشف البلاء، قال: وربما أخر الله عز وجل إجابة دعائه، فما يزال يدعو ويلح ويناجي وينادي حتى يجد من أثر لذة المناجاة وحلاوة الدعاء ما هو أعظم مما كان يسأله من تفريج البلاء، وهذه من ألوان العبودية، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الدعاء مخ العبادة)، وقال: (الدعاء هو العبادة) كما في حديث آخر.
وهذا يدلنا على عظمة هذا الأمر.
قوله: (والمسافر حتى يرجع) أيضاً المسافر كما قال المناوي في فيض القدير: لأنه مستوفز مضطرب، قلما يسكن إلا إلى الرحل والترحال، وهو على وجل من الحوادث، فهو كثير الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، فسره منفصل عن الأغيار، ومتعلق بالجبار.
أي: عن غير الله عز وجل، فالمسافر في جزع؛ لأنه ليس مستقراً مطمئناً، ويشعر أيضاً بالخوف من الطريق حتى مع وسائل النقل الحديثة، لو تأمل الإنسان وتدبر لوجد أن الذي يركب الطائرة معلق بين السماء والأرض، ما بين غمضة عين وانتباهتها لا يدري ما يحدث الله عز وجل في هذه الوسائل، ونحن نسمع عن سقوط الطائرات، وعن تحطم القطارات ونحو ذلك، لكن غفلت القلوب وسهت العقول، نسأل الله السلامة والعافية.
إذاً: السفر ليس فيه طمأنينة، وإنما فيه نوع من الخوف والوجل، يجعل القلب دائماً يحتاج إلى الركون والسكون، فلا ركون ولا سكون إلا إلى الله سبحانه وتعالى، فترى المسافر يدعو الله عز وجل بالسلامة، ويدعو الله عز وجل ببلوغ المنزل ووصول مبتغاه.
وهكذا الإنسان في هذه الدنيا مسافر، فلو حقق ما يكون في سفره المعتاد في دنياه من التعلق بالله والخوف والوجل وعدم الاستقرار والطمأنينة والركون إلى هذه الدنيا، لكان حقاً مسافراً إلى الله وإلى رضوانه سبحانه وتعالى وطلب مبتغاه؛ لأن المسافر ينبغي ألا يكون ساكناً بل مضطرباً، وألا يكون على طمأنينة بل خائفاً، وكذلك لو كنت في هذه الدنيا على هذا المعنى لكان لك إجابة دعاء مستمرة.
فإذا كان هو في أثناء السفر القصير وعد بالإجابة، فإذا جعلت دنياك كلها دار سفر، وكنت فيها على هيئة المسافر، فإنه يرجى بإذن الله عز وجل أن تكون مجاب الدعوة دائماً.(151/4)
ثلاث مهلكات
ننتقل إلى حديث آخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية ابن عمر، وهو حديث يشمل عدداً من الثلاثيات، قال فيه عليه الصلاة والسلام: (ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات، وثلاث كفارات، وثلاث درجات: فأما المهلكات: فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه.
وأما المنجيات: فالعدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وخشية الله في السر والعلانية.
وأما الكفارات: فانتظار الصلاة بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء على السبرات، ونقل الأقدام إلى الجماعات.
وأما الدرجات: فإطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام) حديث حسن رواه الطبراني في معجمه الأوسط.
وهو حديث عظيم النفع غزير المعاني، فقوله: (فأما المهلكات: فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه) أما الهوى فإنه يهوي بصاحبه، والهوى: هو ميل الطبع والنفس إلى مشتهاها ولذتها ومرادها، والنفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية، وفي النفوس فطرة وميل لبعض المحبوبات من الأمور المذمومة أو المحرمة، والهوى لا يختص بالمأخوذات والمتناولات من الملذات والشهوات، بل يدخل في أمور العلم، وفي أمور الآراء، وفي أمور الأفكار، فإن صاحب الهوى لجوج متبع لمقتضى مراده وإن خالف الحق والعياذ بالله سبحانه وتعالى.
إن الذي يتفكر في هذه المعاني الكثيرة يجد أن أمرها جد خطير، فالنبي عليه الصلاة والسلام بدأ بالتحذير من المهلكات والتخويف من شرها وضررها، فقال: (وهوى متبع) أي: هذا الهوى يتبعه صاحبه وإن خالف الحق.
قوله: (وشح مطاع) والشح: هو البخل، والنفس في طبعها بعض الحرص، وفي طبعها شيء من الطمع، وفي طبعها حب التملك، قال الله عز وجل: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120].
هذا في أصله ليس بمذموم، لكن المذموم هو الشح المطاع بأن يطيع نفسه فيما يتعلق بهذا الشح، كأن يمنع حق الله سبحانه وتعالى من الزكاة، أو من الصدقة، أو من أداء الدين أو نحو ذلك، فهذا الشح المطاع هو الذي يطيعه صاحبه في منع الحقوق التي أوجبها الله عز وجل في ماله.
إذاً: الشح المذموم هو الذي يقع في الممارسة العملية به منع للحقوق، والشح إذا أطاعه صاحبه وقع في هذه المهلكة، وأنت ترى كل من غلبته نفسه في شأن البخل وفي شأن الشح أنه مذموم عند الناس، وكيف أن الهم والغم قد أثرا في نفسه، ولا يهنأ بنعمة الله عز وجل له، ولا بماله، فترى البخيل عنده الأموال، لكنه لا ينفق منها على نفسه، بل يقتر على نفسه وعلى أهله، فتكون النعمة عليه نقمة والعياذ بالله، هذا في الدنيا، أما ما وراء ذلك في الآخرة فالأمر أعظم وأشد.
والأمر أيضاً على التدرج؛ لأن في آخره يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (وإعجاب المرء بنفسه) وهذه داهية دهياء ومصيبة عمياء.
الغرور والإعجاب بالنفس فيه مآخذ عدة منها: أن المغتر متكبر، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر).
ومنها: غمط الناس وانتقاص أقدارهم، وهذا ظلم آخر وتعد آخر وجرم ومعصية أخرى.
ومنها: غمط الحق كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم الكبر، أي: التعالي عن الحق وإن ظهر دليله وإن سطع برهانه.
ومنها: أن الإعجاب بالنفس يقود والعياذ بالله إلى اللجاج، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33] هل جحدوا لنقص في الأدلة، أو لعدم وجود المعجزة، أو لعدم شيء مما يحتاجون إليه من برهان نفسي أو مادي؟! لم يكن من ذلك شيء؛ لأنهم قد وجدوا الأدلة والبراهين متنوعة في كل وقت وآن، ومع ذلك ما صدهم عن اتباع أمر الله والدخول في الإيمان بالله إلا كبر النفوس والإعجاب والغرور، كما روي عن أبي جهل عليه لعنة الله أنه قال: كنا وبنو هاشم كفرسي رهان، كان لهم كذا فلنا كذا، ولهم كذا فلنا كذا، أي من الشرف، قال: حتى إذا تجاثينا على الركب وتساوينا قالوا منا نبي؛ فمن أين لنا بنبي، فوالله لا نصدقه الدهر كله.
فالمسألة مسألة عناد ولجاج، ومسألة إعجاب وغرور، وكذا قال أصحاب مسيلمة الكذاب: والله لكاذب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر.
هكذا قالوا اتباعاً للأهواء، وإعجاباً بالآراء، قال القرطبي في معنى قوله: (وإعجاب المرء بنفسه): هو ملاحظة لها بعين الكمال والاستحسان، أي: ينظر إلى نفسه بعين العجب والغرور.
ثم يقول: أما الكلام فليس أعلى منها في البلاغة، وأما الأفعال فليس أعلى منها في الحكمة، وأما الأحوال فليس أعلى منها في الرتبة، فلا يفعل شيئاً، ولا يقول شيئاً، ولا يحجم عن شيء إلا وهو يرى أنه قد أتى وفعل ما هو في غاية الكمال والاستحسان، مع نسيان منة الله عز وجل.
فإذا وقع نظره على غير احتقره، وهو الكبر.
وقال الغزالي رحمه الله: أحذرك ثلاثاً من خبائث القلب هي الغالبة على متفقهة العصر: وهي الحسد، والرياء، والعجب، فاجتهد في تطهير قلبك منها، فإن عجزت عن ذلك فأنت عن غيره أعجز، ولا تظن أنه يسلم لك نية صالحة في تعلم العلم وفي قلبك شيء من الحسد والرياء والعجب، أما الحسد فهو الذي يشق عليه إنعام الله على عبد من عباده بمال أو علم أو محبة أو حظ حتى يحب زوالها عنه، وإن لم يحصل له شيء، فهو المعذب الذي لا يرحم أبداً.
وسمعت مرة للشيخ القطان حفظه الله كلاماً جميلاً يقول فيه: الحسود لا يمكن أن يرتاح؛ لأن نعم الله عز وجل دائماً في نزول على الناس، فإذا نزلت نعمة على هذا حسده، واهتم لها قلبه، وانشغل بها فكره، وأظلمت لها نفسه، فإذا زالت جاءت نعمة أخرى، فلا يزال هو في شقاء وفي عذاب مستمر لا ينقطع من أجل هذا الأمر والعياذ بالله، ولذلك ينبغي أن يتنبه الإنسان إلى هذه المآخذ والمسالك.
ثم هذا الإعجاب كما قلنا يئول بالمرء إلى الاعتزاز برأيه، وعدم الانصياع للحق، وهذا أمر ينبغي التنبه له.(151/5)
ثلاث منجيات
وأما المنجيات فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العدل في الغضب والرضا) ومن كان عادلاً في الغضب والرضا، فمعنى ذلك أن حكمه كان للحق وليس للهوى، وأن حكمه كان للعدل وليس لذات النفس؛ لأن من كان يحكم لنفسه أو لهواه، فإن حكمه سيتغير بين هذه الحالة وبين تلك، ولذا يقول المناوي: فإذا عدل فيهما صار القلب ميزاناً بالحق، لا يستفزه الغضب، ولا يميل به الرضا، فكلامه للحق لا للنفس، وهذا عجيب جداً.
أي: وهذا عجيب جداً في الواقع، كم من الناس من ينصفك من نفسه إذا كان الحق عليه؟! وكم من الناس يعدل إذا كان في العدل فوات بعض مصلحته؟! ولذلك كان من كلام عمر بن عبد العزيز في وصف الرجل الحق: أنه إذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق، وإذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل.
وهذا لا يكون إلا بإيمان صادق، والتزام دقيق، ومراقبة لله عز وجل شديدة، والنفوس ميالة إلى ملذاتها وشهواتها، بل حتى أحياناً قد يظلم الظالم في حكمه، ويجنح عن العدل، لا لمصلحة نفسه، ولكن لمصلحة قريب أو حبيب أو صاحب، وهكذا يضيع العدل، وإذا ضاع العدل وجد الظلم، وإذا وجد الظلم وجدت الشحناء والبغضاء، وإذا وجدت الشحناء والبغضاء، كان الاختلاف والاختصام، وإذا وجد هذا كان التنازع والاقتتال، وضاعت سمة أهل الإسلام، سمة الأخوة والإنصاف.
ولذلك نبه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا بقوله: (والقصد في الغنى والفقر) القصد هو التوسط في الإنفاق، سواءً كان غنياً أو فقيراً، ودائماً التقديم للأولى، فإذا عدل في الغضب فمن باب أولى أنه سيعدل في الرضا، وإذا اقتصد في الغنى فمن باب أولى أنه سيقتصد في الفقر، والاقتصاد لب المعيشة كما يقولون، وبعض الناس ابن يومه، فإذا جاءته نعمة أو جاءه بعض المال ذهب مباشرة واشترى به كذا وكذا وبدد المال، فإذا جاء اليوم الثاني لم يكن عنده ما ينفقه، لأنه ما ادخره في أمسه حتى يكون نافعاً له في يومه، وكذلك أمر الإسراف.
والإسراف: هو وضع الشيء في غير موضعه، أو السفه الذي فيه تجاوز للحد الذي يتعارف عليه الناس مما يكون فيه تبديد للنعمة ووضع لها في غير موضعها، ولذلك قال الله عز وجل: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء:27].
وقال الله عز وجل: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5] ولذلك جاء الحجر على السفهاء الذين لا يحسنون التصرف في الأموال، ونحن نرى اليوم صوراً من ذلك عجيبة في دنيا المسلمين، قرأت في جريدة المدينة في الأسبوع الماضي مقالاً للدكتور عبد القادر طاش أسماه (عبث المليونيرات) والعهدة على كلامه، وهو يقول إنه نقل من بعض المصادر، ذكر فيه أن رجلاً من المسلمين تبرع بأربعة آلاف مليون جنيه لأحد نوادي الكرة في بريطانيا، ولو كان هذا المبلغ كله غير صحيح، ولكن عشره صحيح، ولو حتى واحد بالمائة منه صحيح، أليس هذا من السفه؟ أليس هذا من العبث؟ فهكذا يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن المسلم إذا أراد النجاة في الدنيا فليحسن التصرف على هذا النهج الاقتصادي البديع، وذلك بأن يأخذ المال من حقه وأن يضعه وينفقه في حقه، حينئذ ينال النجاة والفلاح في الدنيا والآخرة، بهذا النهج الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: (وخشية الله بالسر والعلانية) معلوم أنه إذا خشي الله في السر فسيخشاه في العلن.
قال بعض أهل العلم: وفيه ذم لإظهار الخشية مع خلو الباطن منها، وورد عن عائشة رضي الله عنها أنها لما رأت فتية يمشون متماوتين متمسكنين قالت: (من هؤلاء؟ قالوا: عباد نساك، قالت: كان عمر إذا قال أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع، وكان والله هو الناسك حقاً).
ورأى ابن مسعود رجلاً مُطأطئاً رقبته، أي: متخشعاً كما قد نرى في صور بعض منا أحياناً، فقال له: (يا صاحب الرقبة! ارفع رقبتك إنما الخشوع خشوع القلب) أي: الخشية الحقيقية هي مراقبة الله في السر، وبعد ذلك يظهر أثرها تلقائياً في العلن، فهذه المنجيات.(151/6)
ثلاث كفارات
وأما الكفارات فهي ما يكفر بها الذنوب، وقد قال عليه الصلاة والسلام في شأنها: (انتظار الصلاة بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء على المكاره) وفي بعض الروايات: (على السبرات).
أي: في شدة البرد.
سبرات على وزن سجدات.
قوله: (ونقل الأقدام إلى الجماعات).
ولو تأملنا أيها الإخوة الأحبة في هذه الكفارات لوجدنا أنها كلها تتصل بالصلاة، من انتظار لها واستعداد لها بالوضوء، وانتقال إليها إلى المسجد، وهذا يدل على تعظيم شأن الصلاة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أرأيتم لو أن نهراً غمراً يجري في باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا).(151/7)
ثلاث درجات
قوله: (وأما الدرجات: فإطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام).
إذاً: هذه فيها حكمة أيضاً؛ لأن جزءاً كبيراً منها يتعلق بالعبادات المتعدية التي تنتقل إلى الآخرين، مثل إطعام الطعام للفقراء وللمحتاجين وللضيوف، فهذا من رفع الدرجات عند الله عز وجل.
قوله: (وإفشاء السلام) أي: على من عرفت ومن لم تعرف، فهذا حق من حقوق المسلم على المسلم.
قوله: (والصلاة بالليل والناس نيام) هذا غالباً لا يكون إلا عن إيمان وقصد في الطاعة، وقصد في رضا الله عز وجل؛ لأن الناس نائمون، أي: قد قضوا حاجاتهم فسكنوا إلى بيوتهم، أو تعبوا فركنوا إلى راحتهم وهكذا.(151/8)
ثلاثة حق على الله عونهم
ننتقل إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يرويه أبو هريرة، وهو في مسند الإمام أحمد وفي سنن الترمذي والنسائي وهو عند الحاكم في مستدركه، والبيهقي في سننه أيضاً عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف).
أركز في هذا الحديث على معنيين؛ لأن المكاتبة ليست موجودة في عصرنا كثيراً، ومعناها أن العبد يكاتب سيده على مال حتى يشتري نفسه ويعتقها.
المعنى الأول: أن الله عز وجل تكفل بعون المجاهد الذي يقصد إعلاء كلمة الله عز وجل، فإن تخلينا عنه فنحن الذين نخسر؛ لأن الله سبحانه وتعالى معينه وإن عارضه الآخرون وضيقوا عليه سبل الجهاد، ولأنهم في آخر الأمر سيتحقق فيهم وعد الله جل وعلا: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].
إذاً: إذا أراد المجاهد أن يجاهد في سبيل الله، فالله عز وجل سيسهل له ويعينه وييسر عليه بإذنه سبحانه وتعالى، فإن نازعته نفسه أو ركنت به إلى الدنيا أعانه الله، وإن نازعته الزوجة والأبناء أعانه الله، وإن شق عليه أمر الجهاد أعانه الله، وإن وجد من معاداة الأعداء شدة وبلاءً أعانه الله، وإن وجد من بعض إخوانه أو بعض المسلمين أو المتمسلمين خذلاناً ونكوصاً أعانه الله، ففي كل مرحلة عون الله عز وجل متحقق.
المعنى الثاني: قوله: (والناكح يريد العفاف) أي: يعف نفسه عن الحرام الذي حرمه الله سبحانه وتعالى، وقد أفاض العلماء في هذه الخصلة على وجه الخصوص؛ لأنها من الأمور الجبلية الفطرية المتكررة، والجهاد لا يكون مستمراً متكرراً، والمكاتبة تكون مرة واحدة ويعتق بعدها العبد، أما هذا فغالباً ما يكون الأمر مستمراً معه حتى يتحقق له الحلال الذي يعف به نفسه.(151/9)
ثلاثة لا يدخلون الجنة
نختم أيضاً ثلاثيات الكتاب والسنة بحديثه عليه الصلاة والسلام، الذي يرويه الطبراني في معجمه، من حديث عمار بن ياسر، ويرويه البيهقي في الشعب والحاكم في المستدرك، لكن من حديث ابن عمر، قال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة لا يدخلون الجنة أبداً: الديوث، والرجلة من النساء، ومدمن الخمر).
أما رواية ابن عمر في المستدرك فقال: (العاق لوالديه، والديوث، ورجلة النساء).
نعرف حرمة الخمر فلا نحتاج إلى التوسع في ذلك، أما عقوق الوالدين فأمره عظيم، لكن ما ابتلينا به أكثر أو ما ظهر التساهل والترخص فيه أكثر هو ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (الديوث) وهو الذي يرى السوء في أهله فيتغافل عنه أو يرضى به.
ولذلك قال ابن القيم: هذا الحديث يدل على أن أصل الدين الغيرة، فمن لا غيرة له لا دين له.
الذي لا يغار لحرمات المسلمين التي تنتهك، ولا لأرضهم التي تستلب، ولا لشعائر الدين التي تحارب، هذا الذي ليس في قلبه غيرة ولا حمية ليس في قلبه دين، ولذلك تجد مثل هذا يرى السوء في أهله ثم لا ينكره أو يتغافل عنه أو يرضى به.
وهذا وللأسف متحقق في بعض بيئات المسلمين، فترى الرجل قد يرى زوجته وهي حاسرة الرأس، عارية الذراعين، مكشوفة الساقين، قد تلطخت بما جملت به نفسها، ثم إذا به يقدمها لأصدقائه ويعرفهم عليها، أو يفعل ما لا يمكن أن يقال في مثل هذا المقام، وهؤلاء ولا شك أنهم معنيون بهذا الحديث ومقصودون به، ويشملهم شمولاً أولياً ظاهراً بيناً لا شك فيه؛ لأن هذا هو التعريف الذي ذكره العلماء، وأصله من ديوثة الإبل أو الجمل إذا روضته وذللته بحيث يكون ذليلاً يقبل ما تريد منه، وكذا هذا الديوث الذي يرى السوء في أهله، أو يرى مخالفة أهله لأمر الله فيتهاون، ويروض نفسه حتى يتعايش مع هذه المنكرات والعياذ بالله! قال العلماء في هذا: من كان يظن بأهله الفاحشة ويتغافل لمحبتها، فيصدق فيه هذا الوصف، ولذلك يقول ابن القيم: أصل الدين الغيرة، ومن لا غيرة له لا دين له، والغيرة تحمي القلب وتحمي الجوارح، وترفع السوء والفواحش، وعدمها يميت القلب، فتموت الجوارح، فلا يبقى عندها دفع -أي: للمنكرات- والغيرة في القلب كالقوة التي تدفع المرض وتقاومه، فإذا ذهبت القوة كان الهلاك.
قوله: (والرجلة من النساء)، أي: المسترجلة من النساء، أو المتشبهة بالرجال، قال المناوي في فيض القدير: المتشبهة بالرجل في الزي والمهنة، لا في الرأي والحكمة؛ فإن مشابهة المرأة للرجل في الرأي والحكمة والعلم أمر محمود مطلوب.
ولذلك تجد بعض النساء تريد أن تتشبه بالرجال لا في العلم ولا في الحكمة، ولا في مواضع الخير التي يشترك فيها الرجال والنساء، وإنما تتشبه بالرجال في اللباس، وفي الاختلاط، وفي المهنة.
ونحن نعرف أيضاً أن هذا الذي ذمه النبي صلى الله عليه وسلم صار منتشراً في كثير من بيئات المسلمين، وخاصة البيئات الإعلامية، فتراهم يفتخرون ويقولون: أول امرأة عربية أو مسلمة تفعل كذا وكذا، أو تعمل في مجال كذا وكذا من المجالات التي لا تصلح إلا للرجال، ولا يمكن أن تتحقق إلا بالاختلاط ونحو ذلك، ثم يجرون معها المقابلات، ويسألونها عن تجربتها وريادتها، والصعوبات التي واجهتها، إلى آخر ذلك مما نعرفه أيضاً.(151/10)
ثلاثيات من الآثار والأخبار والحكم
ننتقل إلى ثلاثيات من الآثار والحكم، وأذكر منها مجموعات بعضها مع بعض حتى نضم القرين إلى القرين.(151/11)
ثلاثيات تتعلق بالأخوة والصحبة
وهذه بعض الثلاثيات في شأن العلاقات والأخوة بين الناس، قال ميمون بن ميمون: أول المروءة: طلاقة الوجه، والثاني: التودد، والثالث: قضاء الحوائج.
قال بعض الحكماء: الإخوان ثلاث طبقات، وتأملوا هذه الكلمة فإنها جميلة، قال: طبقة كالغذاء لا يستغنى عنها، وطبقة كالدواء لا يحتاج إليها إلا أحياناً، وطبقة كالداء لا يحتاج إليها أبداً.
وأيضاً عن مجاهد أنه قال: ثلاث يصفين لك ود أخيك: أن تبدأه بالسلام إذا لقيته، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب أسمائه إليه، وثلاث من العي -أي: الجهل-: أن تعيب على الناس، وأن ترى من الناس ما يخفى عليك من نفسك، وأن تؤذي جليسك فيما لا يعنيك.
فهذه كلها في شأن علاقات الإخوان فيما بينهم.
إذاً: من المروءة كما قال ميمون هنا: طلاقة الوجه، ثم التودد، ثم قضاء الحوائج، وطلاقة الوجه نعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال عنه: (تبسمك في وجه أخيك صدقة) وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى بعض أصحابه تتهلل أسارير وجهه فرحاً، فهذا كأنه العنوان، إذا أطلقت وجهك بالسماحة والرضا والابتسامة، فكأنك تشجع هذا على أن يقبل عليك أو يسألك أو يسلم عليك، لكن إذا قدمت عليه ورأى جبينك مقطباً، ونظرك إليه شزراً وكأنه قد دهمك من الهم والغم لرؤيته شيء كثير، فلا شك أنه ستنقبض نفسه منك، ولا يكون بعد ذلك سلام ولا كلام، ولو صار كلاماً فإنه لا قيمة له، بل مجاملة باردة جافة ليس فيها صدق المودة، ولا حقيقة الأخوة والتودد والتلطف بالكلام الطيب، بالإحسان، بالإكرام، بالتقديم والإجلال، فإن هذا من الأمور التي يحسن من الناس مراعاتها.
وبعض الملتزمين أحياناً يرى أن الشدة أمر مطلوب، فإذا تكلم لا يتكلم إلا جزلاً، وإذا صافح لا يصافح إلا بشدة، وإذا عامل لا يعامل إلا بنوع من الاحتراز والتحفظ الشديد، وهذه يبوسة ليست مطلوبة، وجفاف غير مرغوب فيه، لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم هيناً ليناً سمحاً بشوشاً ودوداً، وهكذا ينبغي أن يكون المسلم، يقول عز وجل: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54].
أخي! إذا لقيت بعض المقصرين فلن له، فلعل لينك يكون سبباً إلى وداده لك وتقديره لك، ومما يجعله يستمع لدعوتك ونصحك.
وبعد ذلك تأتي الظواهر من قضاء الحوائج، فإذا أصابت أخاك المسلم مصيبة، أو احتاج إلى مساعدة، فتقضي له حاجته، وهذه الأمور لها فضائل وأجور عظيمة، ففي حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه).
وقد طبق النبي عليه الصلاة والسلام هذا في مواقف كثيرة، ومنها حينما جاءه قوم من مضر وقدموا عليه عليه الصلاة والسلام فحث الناس على الإنفاق، ولا نريد أن نطيل في هذا الحديث.
وأما طبقات الإخوان: فنوع كالغذاء لا يستغنى عنه، فأنت كل يوم تحتاج إلى الطعام والشراب، فكذلك أنت تحتاج إلى الإخوان الذين يذكرونك بالله، ويسرون عنك إذا أصابك هم وغم، ويكونون معك على ما يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء كالغذاء لا يمكن أن تستغني عنهم، لا بد أن يكون لك من أصحابك وخلانك أهل صدق وأهل إيمان وأهل دعوة، إذا نسيت ذكروك، وإذا ذكرت أعانوك، ويكون أحدهم بالنسبة لك كالمرآة كما قال عليه الصلاة والسلام، ترى فيه قصور نفسك، وترى فيه خلل كلامك، وترى فيه قصور تصرفاتك، ولا يكون منك ومنه إلا كما قال عليه الصلاة والسلام: (المسلم للمسلم كاليدين تغسل إحداهما الأخرى) فمثل هذا الأخ زينة في الرخاء وعدة في البلاء، إذا لقيته فعض عليه بالنواجذ.
الثاني: كالدواء تحتاج إليه في وقت معين، وهذا ممن قد تستفيد منه لكن لا تتمكن من مخالطته ودوام صحبته، فمثلاً العلماء لا يكون من السهل دائماً أن تكون مخالطاً لهم، لكن العالم تحتاجه، فإذا عن لك سؤال فقهي أو مسألة ذهبت إليه فسألته، أو إذا احتجت من شخص معين إلى حاجة هو فيها مختص وهو بها عالم فإنك تذهب إليه وهكذا.
الصنف الثالث: كالداء، أي: المرض، لابد أن تأخذ تطعيماً عند المرض؛ لأن الاحتراز من المرض أمر مطلوب، كذلك الحجر الصحي، ومنع الاختلاط، وعدم استخدام الأدوات حتى لا تنتقل العدوى، فهؤلاء الذين عندهم القيل والقال، وغيبة الناس وذمهم، وإيغار الصدور، وتأجيج نيران الحقد بين الناس، والسعي بين الناس بالنميمة.
أو صنف آخر: وهم الذين لا تسمع منهم خيراً، ولا تسمع منهم إلا التهييج على الشهوات والمحرمات، والترغيب في ارتكاب المعاصي والمنكرات، فهؤلاء داء ومرض، إذا اقتربت منهم لا تسلم أن تصيبك عدوى، فتقع فيما هم واقعون فيه.
كذلك من صفاء الود البدء بالسلام، والتوسيع في المجلس، والدعاء للإخوة بأحب الأسماء إليهم.
أما العي فهو نوع من الداء الذي ذكرناه: أن تعيب على الناس، وأن ترى من الناس ما يخفى عليك من نفسك، وأن تؤذي جليسك فيما لا يعنيك، وهذه جملة وافرة في هذا المعنى، والأقوال فيها أيضاً كثيرة.(151/12)
ثلاثيات تتعلق بالزهد في الدنيا
ثلاثيات أخرى نأخذها في باب آخر، وهو: باب الصلة بالدنيا والزهد فيها أو التعلق بها: عن يحيى بن معاذ الرازي وكان من الصالحين ومن العباد، قال: طوبى لمن ترك الدنيا قبل أن تتركه، وبنى قبره قبل أن يدخله، وأرضى ربه قبل أن يلقاه.
وفي هذا المعنى مقالة أخرى قريبة منها لـ إبراهيم بن أدهم وكان من الزهاد العباد أيضاً، وسئل: كيف أخذت بهذا الزهد وسلكت هذا المسلك؟ فقال: بثلاثة أشياء: رأيت القبر موحشاً وليس معي مؤنس، ورأيت الطريق طويلاً وليس معي زاد، ورأيت الجبار قاضياً وليس معي حجة.
وقال بعضهم في هذا المعنى أيضاً: إذا أراد الله بعبد خيراً فقهه في الدين، وزهده في الدنيا، وبصره بعيوب نفسه.
فهذه المعاني أيها الإخوة الأحبة! هي تذكير لنا فيما يتعلق بنظرنا إلى الدنيا وصلتنا بها وعملنا فيها، فإن الذي يتفكر في هذه الحياة الدنيا وحقيقتها وسرعة زوالها وانقضائها، وكثرة شقائها وعنائها، وذهاب وفناء لذاتها وشهواتها، وأن وراءها قبراً، وأن وراءها حياة برزخية، وأن وراء ذلك حساباً ووقوفاً بين يدي الجبار؛ من أدرك ذلك عرف أن السعادة له فيما قاله يحيى بن معاذ: طوبى لمن ترك الدنيا قبل أن تتركه، والمقصود بالترك هنا ليس ترك المباحات وليس ترك أسباب المعاش، وإنما ترك التعلق والانشغال والانغماس والدوران في هذه الدنيا، كما قال عليه الصلاة والسلام: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش).
هذا الذي لم يعد له هم إلا دنياه، ولم يعد له تفكير إلا فيها، ولم يعد له سعي ولا جهد إلا في تحصيلها، ولم تعد له خصومة ولا نزاع إلا في الحصول على حطامها، وكم من الناس اليوم في هذا الميدان، نسأل الله عز وجل أن يسلمنا.
أما قوله: وبنى قبره قبل أن يدخله، أي: بالعمل الصالح، وبالاستغفار، والاستعاذة من عذاب القبر، وبالصلوات والدعوات.
وقوله: وأرضى ربه قبل أن يلقاه، أي: بما يعمل من الخير، وما يخلص فيه من الطاعات والأعمال الصالحة، وبمعنى ذلك أيضاً: وحشة القبر فلا أنيس إلا العمل الصالح، وطول الطريق فلا زاد إلا العمل الصالح، والوقوف بين يدي الجبار ولا حجة إلا العمل الصالح.
فهذا الذي ينبغي أن نتذكره.
وقوله: إذا أراد الله بعبد خيراً فقهه في الدين، أي: فقاده الفقه في الدين إلى الزهد في الدنيا، وقاده هذا الفقه في الدين أيضاً إلى أن بصره بعيوب نفسه.(151/13)
ثلاثيات من تجارب الحياة
ننتقل إلى النوع الثالث، وكما قلت: اتفق أن جعلنا هذه الثلاثيات ثلاثيات في أقسامها، وثلاثيات في مجاميعها، وثلاثيات في نصوصها ومضامينها، وكلها متفرقة.
ثلاثيات من تجارب الحياة، وهي عبارة عن بعض الرأي أو التجربة التي قد يستفيدها الإنسان في حياته، وهذا بعض ما أحببت أن أذكر به نفسي وإخواني مما قد يلمسه الإنسان من واقع الحياة.(151/14)
ثلاثية الإنجاز والعمل
الأولى: ثلاثية الإنجاز، بعض الناس يريد أن يعمل، ويريد أن يحقق الآمال، ويريد أن ينجب، ويريد أن يرتقي في بعض المراكز، وفي بعض الميادين، ولكنه يريد ذلك وهو نائم ملء عينيه، وضاحك ملء شدقيه، وهذا لا يمكن أن يكون: لا تحسب المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا الحياة لابد لها من كفاح، ولابد لها من جد، ولابد لها من عمل، كيف سيكون حاله وهو جالس في مكانه لم يعمل؟ يعني: مثل ما يقولون: مكانك سر، فهذا كما قال بعض الأدباء: الأماني بضاعة الموتى، أي: الحمقى، والأحمق هو الذي يقول: لو كان كذا، لو كان عندي كذا.
ويذكرون عن بعض الحمقى أنهم قد يذكرون الأماني وكأنها قد تحققت فيختلفون عليها فيتضاربون عليها، وهم ما زالوا في كلام وفي فراغ.
فالعمل والإنجاز لابد له من أمور، ولابد له من متطلبات، وهذه بعضها: وهي الإصرار والاستمرار والإخلاص إذا أردت أن تنجز عملاً، فلابد أن تكون قد حددت هدفك، وعرفت مقصدك، وتحريت الإخلاص، وحددت الغاية والثمرة المرجوة من هذا، وعلمت أن في هذا مصلحة شرعية ومصلحة دنيوية، حينئذ تصر على أن تحقق هذا العمل وأن تنجزه، وأما بعض الناس يريد أن يعمل، ولكن يقول: ولماذا هذا؟ يكفيني أقل منه، ويرضى بالدون، وكما قال المتنبي: ولم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام فينبغي للإنسان أن يصر على معالي الأمور، إذا رأى أمراً حسناً جيداً وهو من المعالي ومن الأمور العظيمة والكبيرة والجسيمة، فلابد له أن يصر على إنفاذه وتحقيقه ولا يرضى بالدون؛ لأن الدون يظهر أن همته ضعيفة، وأن عزمه كليل، وأنه ليس من أصحاب الجلد والقوة، فلابد من الإصرار، فإن فشلت تجربة لا يكتفي ويغلق الباب، ولو فشلت تجربة ثانية، وربما ثالثة، أو وجدت عوائق، لابد أن يكون مصراً، وكما ذكروا أن النملة الصغيرة مثل في الإصرار والدأب بشكل عجيب، فتراها إذا أرادت بلوغ الشيء وبلغت بعضاً منه أو أوله فإنها لا تركن ولا تخلد إلى الراحة، بل تستمر حتى تصل إلى النتيجة.
إذاً: على المرء ألا يرضى بالمنزلة التي هو فيها، وإذا أراد الاستمرار، فلابد له أيضاً من الحرص على الاسترواح حتى يتجدد نشاطه، وحتى تستجد له في كل يوم فكرة جديدة، وفي كل وقت تفريع جديد يقوده إلى تشغيل ذهنه، وإلى قوة رغبته في تحقيق هذه الأمور والمنجزات.
وهذه أمور لو نظرنا إليها في واقع الحياة لوجدناها، ولو نظرنا إليها في واقع التجارب القديمة والحديثة لوجدناها، فقل أن تجد إنساناً عصامياً أو قد نال مراتب عالية، أو قد بدأ من الصفر إلا وهو عنده إصرار عجيب، واستمرارية دائبة، وابتكار وتجديد مستمر لا يتوقف، وهذا هو الذي ينبغي أن يحرص عليه المسلم، لا أن يكون محباً للعجز والعمل اليسير؛ لأن كثيراً من الناس إذا كان العمل فيه دوام، فإنك تراه يبحث عن عمل أقل منه، ولو بأقل عوائد أو بأقل فوائد، فينبغي للإنسان أن يتنبه لهذا.(151/15)
ثلاثية التعامل
ثلاثية التعامل أعني بها: كيف تتعامل مع الناس في أمور الحياة المعتادة، وذكرت فيها ثلاثة أمور: البساطة، والصراحة، والسماحة.
أما البساطة: فهي البعد عن التكلف، وقد ورد في حديث النبي عليه الصلاة والسلام الذي رواه الإمام أحمد في مسنده، والحاكم في مستدركه عن أبي أمامة (البذاذة من الإيمان).
والبذاذة معناها رثاثة الهيئة، وترك الترفه وإدامة التزين والتنعم في البدن والملبس، والمقصود بها ترك المبالغة في الأناقة والمظاهر.
نجد اليوم عند الناس مبالغة في العناية بالمظاهر عموماً، سواء مظاهر المركب، أو مظاهر الملبس، أو مظاهر المسكن، وضاع في ذلك كثير من الأموال.
فالإنسان اليوم هو مع نفسه شيء، وهو مع الناس شيء آخر، يلبس لهم لباساً، ويبني لهم مسكناً، وكأنه شيء آخر، وتعقدت الحياة بسبب ذلك، فلذلك تجد بعض الناس أصبح أسيراً للمظاهر، وإذا أنكرت عليه شيئاً أو وجهته إلى شيء يقول: كيف أصنع، لا أستطيع أن أترك هذا، أو لا أستطيع أن أفعل هذا! لماذا؟ يقول لك: سيقول الناس كذا، أقول: يا أخي! كن مع الناس على البساطة، فإذا جاءك الضيف فأعطه الجود من الموجود، والإكرام ليس في الطعام، وإنما الإكرام بالاستقبال والتقدير والاحترام، فهذه المبالغات التي شاعت بين الناس أعطوها من القدر والحجم ما هو زائد عن الحد، ولا أعني بذلك ترك الأمور المشروعة، فالمداراة والمجاملة في الأمور المعقولة المحدودة مطلوبة شرعاً، وإكرام الضيف، وحسن الهيئة، كل ذلك مطلوب، لكن المقصود به ألا يتجاوز الحدود؛ لأن عدم البساطة يؤدي إلى العجب والفخر والتكبر.
فإذا قصد بعدم مبالغته وتكلفه ألا يبخل في هذا الجانب، وأن يؤثر القصد والتوسط ونحو ذلك؛ فإن هذا أمر مطلوب ومحمود.
أما الصراحة فهي مهمة، وكما يقولون: الصراحة راحة، بعض الناس يتعود في معاملته للناس ألا يصارحهم، فيحرجونه بطلب شيء فلا يستطيع أن يقول: لا أستطيع، سبحان الله! يا أخي كن مع الناس بصراحة ووضوح مع الأدب ومع حسن العرض، ومع كمال الإجلال، ومع توافر الاحترام.
ولا تعني الصراحة البذاءة بحال من الأحوال؛ لأن الصراحة نوع من الصدق مع حسن المعاملة، لكن بعض الناس على حياء زائد عن الحد، فلا يملك أن يقول: لا، إذا كان لا يستطيع، ولا يملك أن يقول: نعم لشيء يريده أحياناً، فينبغي أن نتذكر حديث أسماء بنت يزيد لما قالت: (يا رسول الله! إحدانا تقول للشيء تشتهيه: لا أشتهيه، أيعد هذا كذباً؟ قال: إن الكذب يكتب كذباً حتى تكتب الكذيبة كذيبة).
فلماذا يا أخي تكلف نفسك ما لا تطيق، ولماذا تقول بلسانك ما ليس في قلبك، ولماذا تظهر من حالك ما ليس في الحقيقة؟! أضف إلى ذلك أن المجاملة التي تعارض هذه الصراحة تذهب أمراً مهماً، وهو واجب النصيحة، فالذي لا يتعود على الصراحة لا يستطيع أن ينصح؛ لأن الصراحة فيها إقامة للحق وبذل للنصح، فإذا كان لك صديق حبيب بينك وبينه مودة ومحبة، تجد أنك أحياناً تحرج منه، فيخطئ فلا تقول له إنك أخطأت، ويقع في أمور مشينة فلا تنصحه وتنبهه؛ لأنك لم تتعود على الصراحة، وكثيرون هم الذين يتعاشرون فترة طويلة من الزمن وليس بينهم صراحة، فلا يستفيد هذا من هذا، ولا هذا من هذا.
أما السماحة فمعلوم أن الأمور والحياة بطبيعتها فيها أخطاء، وفيها هفوات، فينبغي للإنسان أن يكون متجاوزاً عن الهفوات، مبادراً إلى مغفرة الزلات، وإلى العفو عما قد يكون من عبارات أو كلمات، ويكون سمحاً ودوداً يستوعب الآخرين، ويسعهم بأخلاقه، ورحابة صدره، وسعة حلمه، ووافر عقله؛ لأن بعض الناس قد تقوده الصراحة إلى نوع من الاحتكاك والشدة، نحن لا نريد ذلك، نريد أن تستقيم ثلاثية التعاون حتى تكون بسيطاً فلا تتكلف، صريحاً فلا تنافق وتداهن، وسمحاًَ فلا تتشدد، وهذه أيضاً أمور فيها من واقع الحياة شواهده كثيرة، وفوائده إن شاء الله أيضاً كثيرة.
نقف عند هذا الحد؛ حتى نستطيع أن نمر على بعض الأسئلة أو التعليقات، خاصة وأن بعضها يتعلق بالدرس من حيث هو، ومن حيث بدء استئنافه، ولعلي أن أنتهز الفرصة في تعليقي على بعض هذه الأسئلة، فيما يتعلق بالدرس في أوقاته القادمة إن شاء الله.(151/16)
الأسئلة(151/17)
طلب إلقاء دروس عن البدعة وغيرها
السؤال
كنت قد وعدت في دروس سابقة بدرس عن البدعة، ودرس عن كلام ابن القيم في الصواعق المرسلة، وهذا الوعد كان في رمضان في أثناء درس شرح لمعة الاعتقاد؟
الجواب
لا بأس أن يكون هناك إن شاء الله تعريج على الموضوع الأول؛ لأن موضوع البدعة موضوع كامل شامل هام، وكنت قد تعرضت له جزئياً في درس المنهج في حماية العقيدة، ذكرت فيه أربعة أبواب، منها: باب الردة، ومنها: باب الولاء والبراء، ومنها: باب الغلو، ومنها: باب خاص بالبدعة، ولكن لعلنا أن نأخذ هذه الاقتراحات.(151/18)
ذكر أسباب انقطاع الشيخ عن الدروس
السؤال
هذا أخ يقول إنه يتشوق للدروس، لكن يفاجأ بالانقطاع ويسأل عن السبب؟
الجواب
السبب كما يقولون باللهجة الدارجة: العين بصيرة واليد قصيرة، كانت هناك مشاغل وعوارض، أضف إلى ذلك سعينا إلى أن نجدد لكم اللقاء مع مشايخ متعددين، وكانت لنا في الأسابيع الماضية ثلاثة لقاءات كلها لم تتحقق، وثلاث محاضرات كلها لم تقع، طرأت ظروف لضيوفنا ومن دعوناهم، ولم يتحقق ذلك فكنا في انتظار، وكلما انتظرنا طال الأمد حتى بدأ الدرس بداية اضطرارية لا اختيارية.(151/19)
عدم منافاة الأخطاء التي تحصل أثناء الغضب للعدل إذا تيب منها
السؤال
الإنسان أحياناً يغضب، ويقول بعض الكلمات، ولكنه يتذكر ويستغفر، فهل هذا ينافي العدل في الغضب؟
الجواب
هذا لا ينافيه؛ لأن العدل المقصود به الحكم الذي تحكمه وتمضي عليه، أما كلمة ندت منك من غير قصد، أو خرجت عند انفعال ثم رجعت عنها فاستغفرت، فهذا هو سمت المؤمنين: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201]، وأيضاً: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:135].(151/20)
الأضرار التي تصيب المحسود من الحاسد
السؤال
ما هي الأضرار التي قد تصيب المحسود؟
الجواب
النبي عليه الصلاة والسلام قال: (العين حق) وقال في حديث آخر: (إن يكن شيء يسبق القدر فالعين) فالعين لها حقيقة ملموسة، وهذا حديث النبي عليه الصلاة والسلام يؤكدها، واستعاذته عليه الصلاة والسلام في دعائه: (وأعوذ بك من كل عين لامة) يدل على هذا أيضاً، والأمر الذي أمر به النبي عليه الصلاة والسلام العائن حين جيء به إليه أمره أن يتوضأ، فأخذ فضل وضوئه ومائه وأمر المعيون أن يغتسل به، فبرئ من أثر تلك العين.
فهذا كله يدلنا على أن العين حق، ولذلك إذا رأيت نعمة أو رأيت شيئاً مما يعجب فقل دائماً: ما شاء الله تبارك الله، وادع لصاحبه بالخير، وادع الله عز وجل أن يرزقك ما ينفعك، فإنك لا تدري إن رزقت الغنى هل تكون صالحاً وتبقى على طاعتك وخيرك وحرصك على رضوان الله عز وجل، أم تبطر وتطغى؟! فلذلك ينبغي للإنسان أن يدرك هذا، وذلك بأن يتجنب الحسد ويعود نفسه على السماحة والكرم في النفس وحب الخير للآخرين، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).(151/21)
حقيقة الاقتصاد في المعاش
السؤال
بعض الناس إذا اقتصد قال عنه الناس إنه بخيل، فماذا يصنع؟
الجواب
لا تلتفت إلى أقوال الناس، لكن انظر إلى ميزان الشرع، فهل بلغ بك الاقتصاد إلى البخل؟ فأنت أعرف بنفسك، يقول عز وجل: {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14] وهناك واجبات، وهناك ضروريات، وهناك تحسينيات، وهناك حاجيات، كل شيء له قدره، فينبغي للإنسان ألا تختلط عليه الأمور.(151/22)
واجب الحاسد تجاه المحسود بعد وقوع الحسد منه
السؤال
من وقع منه حسد، فماذا يصنع؟
الجواب
يكفي الاستغفار والتوبة إن شاء الله تعالى إن صدق وأخلص، وإن علم أو غلب على ظنه أن من أصابته هذه العين، وقد تضرر، فليكن سمحاً وليذهب إليه ويقول له: إني رأيت منك كذا وكذا، فوقع في نفسي، فربما كان ذلك مني، ويتوضأ كما أمر النبي عليه الصلاة والسلام، ويأخذ فضل ماء وضوئه ويعطيه للمعيون حتى يغتسل به، فيبرأ بإذن الله عز وجل، وهذا كان من فعل النبي عليه الصلاة والسلام.(151/23)
كثرة مواطن إجابة الدعاء
السؤال
هناك دعوة مستجابة لخاتم القرآن وغيره، لماذا لم تذكر ذلك؟
الجواب
نعم، نحن ذكرنا حديثاً واحداً، ولا يمنع أن هناك أحاديث أخرى فيها أصناف وأنواع وأعمال فيها يجاب الدعاء، فليس المقام مقام الحصر، وإنما هو مقام الذكر، فما ذكر لا يعني أن غيره خارج عنه.(151/24)
وجه تعلق مشاهدة الجنس عبر القنوات بالدياثة
السؤال
هل رؤية المشاهد المخزية من المشاهد الجنسية في القنوات الفضائية، وهذه الرؤية من الرجل وزوجته وبناته وأبنائه، هل الرضا بهذه المناظر من الدياثة، ويدخل في هذا الوعيد؟
الجواب
أقول والله أعلم: إن هذا من مثله ويدخل فيه؛ لأنه إذا لم يكن عنده غيرة أن ترى بناته هذه المناظر، أو يرى أبناؤه هذه الأمور المحرمة، فلا شك أن هذا ضعف في قلبه وغيرته، نسأل الله عز وجل السلامة! ونسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم، ونريد إن شاء الله أن نستفيد جميعاً، فإن كان لأحدكم ملاحظة أو تعليق، أو وجد فائدة في درس قد مضى، أو في درس يقترحه، فلا شك أن المسألة منكم وإليكم، ونحن يستفيد بعضنا من بعض، ونحمد الله جل وعلا، ونصلي ونسلم على رسوله محمد عليه الصلاة والسلام.(151/25)
طلاب الدنيا
لقد قص الله عز وجل في القرآن أخبار أرباب الدنيا وطلابها، وبين مسالكهم وطرقهم في تحصيل لذاتها والتشبث بها، من المال والزينة، والسلطان والطغيان، وفتنة النساء والمسكرات والمخدرات، وقد حذر الله تعالى المؤمنين من الوقوع في فتن الدنيا؛ لأن ذلك انحراف عن منهج الله الذي يدعو إليه من العمل للآخرة، أما طلاب الدنيا فغايتهم الحصول عليها بأي وسيلة من الوسائل من حلال أو حرام، إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل.(152/1)
مسالك وطرق طلاب الدنيا
الحمد لله القوي القادر، العزيز القاهر، الأول والآخر، الباطن والظاهر، له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، تفرد بالعزة والجلال، واتصف بالكمال سبحانه وتعالى، نحمده كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، حمداً نلقى به أجرًا، ويمحو الله به عنا وزرًا، ويجعله لنا نصراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وبعثه كافة للناس أجمعين، وجعله رحمة للعالمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ورزقنا وإياكم اتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! طلاب الدنيا بها متعلقون، وإليها مشتاقون، ولها محبون ومريدون، ومشترون ومؤثرون، فهم في فلكها يدورون، وفي إثرها يجرون ويلهثون، وطريقهم هو المسار الثاني الذي يفصل بين الناس في هذه الحياة الدنيا: بين طلاب للآخرة وطلاب للدنيا.
وطلاب الدنيا قال الله عز وجل في وصفهم: {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ} [إبراهيم:3]، فهم لها محبون، وهي غاية ومقصد عندهم كما أخبر الحق جل وعلا بقوله: {وقَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا} [القصص:79].
فطلاب الدنيا يريدونها، بل إنهم يشترونها بأغلى وأعز ما يملكون، كما أخبر جل وعلا عن أولئك الذين يشترون الحياة الدنيا بالآخرة، فهم لا يستقلون لها ثمناً، وهي جنتهم وآخرتهم وأولاهم بلا شيء يربطهم بما وراءها، ولذا قال الحق جل وعلا في وصف حالهم: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى:16]، والحقيقة الغائبة عنهم يقولها الله عز وجل في قوله: {وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:17].
لننظر إلى المسالك التي سلكها طلاب الدنيا إلى أبوابها التي فتنت القلوب فكفرت، والتي صرفت النفوس عن معالي الأمور فذلت، والتي صرفت العقول عن منافع الحياة الدنيا ومرامي ما يرجوه العبد في الأخرى فكلَّت، وهذه كلها أبواب ومسارات جعلت أرباب الدنيا في صورهم المرذولة، التي قص الله عز وجل علينا أطرافاً من أخبار أربابها في القرآن، وذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً من ذلك ما يبين لنا الطريق القويم الذي ينبغي أن ننهجه ونسلكه.(152/2)
المسلك الأول: الزينة والمال
الزينة والمال: الذهب الذي يذهب بالأبصار، والفضة التي تفضض ما في القلوب فلا يبقى فيها إلا محبتها والرغبة فيها، الأموال التي يلهث وراءها الناس.
الدنيا بهذه القوة المالية التي حرفت مسار كثير من أربابها الذين يدبون على أرضها، وصار ليس لهم هم ولا غاية إلا أن يستكثروا من الأموال، وإلا أن يستزيدوا منها، فإذا زادوا منها رغبوا في المزيد على الزيادة، ولا يزالون كذلك كما هي أصل فطرة الإنسان إذا لم يهذبها الإيمان.
وقد نصب لنا القرآن الكريم مثلاً هو المضرب في هذا الباب؛ ليعطينا صورة من صور طلاب الدنيا، الذين انتهوا في هذا الطريق إلى الكفر والجحود، وإلى جهنم وساءت مصيرًا.
فهذا قارون الذي ذكره الله سبحانه وتعالى، ووصف أمواله وثروته بقوله جل وعلا: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:76]، مفاتيح الخزائن لا يستطيع رفعها إلا الرجال الأشداء الأقوياء، فما ظنكم بالخزائن؟! وما ظنكم بالذي فيها من الأموال من الذهب والفضة والجواهر واللآلئ؟! ماذا كان حال قارون؟ وأي شيء أدت به هذه الدنيا بفتنتها؟ قال الله عز وجل حاكياً عن قارون: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] لقد نسي المنعم، وجحد الخالق المتفضل سبحانه وتعالى، وأعلن بكبريائه كفره، ثم لننظر إلى أثر هذا المسار والمسلك في الناس من حوله.
فالذين فتنتهم الدنيا بالتفكير فيما أوتي أربابها من الأموال، فهم منشغلون ومهمومون ومغمومون، قال الحق جل وعلا: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79].
وكم نسمع اليوم في بيئاتنا ومجتمعاتنا وديار المسلمين من لا أمنية له إلا أن ينال مثلما نال فلان من الثراء، وأن يكون عنده الأموال والدور والقصور، كأنه ليس وراء هذه الدنيا من متاع، ولا من عطاء، ولا من جنة، ولا من خير يسوقه الله عز وجل لمن أخذ من هذه الدنيا نصيبه المقسوم، مع بقاء قلبه معلقاً بالآخرة وبرضوان الله ونعيمه الموعود في جنة الخلد عند مليك مقتدر.
هذا كان قول أولئك القوم.
وذكر الله قول أهل العلم والإيمان حيث قال: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [القصص:80].
ثم جاءت الصورة التي تختم لنا هذه القوة الدنيوية والثراء والمال الذي هو -كما يقولون اليوم- عصب الحياة، ماذا كان شأنه؟! وأي شيء أغنى عنه هذا المال وهذه القوة؟! قال عز وجل: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} [القصص:81].
ذكر الله فاء التعقيب التي تقتضي السرعة في هذه الأحداث التي وقعت: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ) وانتهى قارون، وتناثرت أمواله، وتبعثرت دنانيره ودراهمه، وما أغنت عنه شيئاً من هذا المصير المحتوم؛ لأنه كان من طلاب الدنيا ومن أربابها، وجحد بالآخرة، وجحد بالمنعم سبحانه وتعالى.
وكم نرى اليوم من يجمع القرش إلى القرش، والريال إلى الريال، وهو لا يحب أن يسمع ذكر الفقراء، ولا يرغب أن يعرف حاجات المحتاجين، وإذا اضطر أو أحرج أن ينفق شيئاً من ماله فكأنما يقطر بعضاً من دمه، يخرج مع كل ريال يخرجه نفساً من أنفاسه، وكأن عروقه تتقطع؛ لأنه لا يحب أن يخرج شيئاً من هذا المال، فهو يكنزه ويحب أن يراه صباح مساء، فلا ينظر إلا إليه، ويمسي فلا يفكر إلا فيه، وينسى قول الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34 - 35].
وكم نرى اليوم من يتنافسون ويسعون لمضاعفة أموالهم من طرق الكسب الحرام، وأعظمها وأكثرها جرماً وأفدحها خطراً الربا الذي قال الحق سبحانه وتعالى في شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278]، ثم توعد الوالغين فيه والمصرين عليه: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279].
وكم نرى فتنة المال في حياتنا المعاصرة وفي كثير من مجتمعات المسلمين، وهي تحدد للناس مسارهم، وتملك عليهم مشاعرهم، وتحدد منهجية تفكيرهم وتدبيرهم، لا يألون جهداً في جمع هذا المال.(152/3)
المسلك الثاني: السلطان والطغيان
هذا مسلك ودرب وطريق آخر من طرق طلاب الدنيا: طريق السلطان والطغيان: عندما يملك المرء القوة التي يبطش بها بمن يخالفه، أو بمن هو عدوه، ويملك من الأعوان ومن البهرج ومن زخرف السلطان ما يملك، فإذا به يطغى ويبغي ويجحد قوة الله سبحانه وتعالى وينساها، والمثل القرآني في ذلك هو فرعون الذي ذكره الله عز وجل في ثنايا القرآن في آيات كثيرة ومواقف وأحداث عديدة، كما في قصة موسى عليه السلام مع فرعون عليه لعنة الله، ووصفه الله جل وعلا بقوله: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} [يونس:83].
ثم نجد القرآن يعطينا صورة من صور هذا الطاغي في الدنيا الغارق فيها، الذي لم يعرف ولا يريد شيئاً سواها، كيف أن الدنيا تملكت قلبه من باب السلطان والجاه والقوة والقدرة البشرية الإنسانية؛ حتى قال مقالته الشنيعة: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29] فلا قول إلا قوله، ولا رأي إلا رأيه، وقال سبحانه وتعالى على لسانه لما آمن السحرة لموسى: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [طه:71]، فكانت هذه جريمة عظمى عنده، والله سبحانه وتعالى يخبرنا عن مدى غطرسته وجبروته وطغيانه حيث يقول: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51].
هذه صورة السلطان والطغيان ختمت بأعظم جريمة في الإنسانية كلها وهي ما قصه الله عز وجل بقوله: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] أكفر كلمة قالها إنسان هي كلمة فرعون: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، ثم أردفها بقوله: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} [القصص:38 - 39]، وانظر إلى الخاتمة: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [القصص:40].
فرعون الذي كان يأمر وينهى، الذي لم يكن أحد يدخل عليه إلا ساجداً، ولم يكن أحد يتلفظ إلا به حالفاً، كان هذا هو مصيره أن أغرق في ماء البحر، وقال الله عز وجل: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92].
وكم في حياة الناس اليوم وفي مجتمعات المسلمين من يغتر بالسلطان، ومن يغتر بالجاه، ومن يغتر بكثرة الأعوان، ومن يغتر بقوته على من هو أضعف منه، حتى بدت بعض المجتمعات كأنها مجتمعات الغاب، يفترس فيها القوي الضعيف، ويبطش فيها القادر بالعاجز، وغابت عن الناس معاني الآخرة، والعقوبات التي توعد الله عز وجل بها من ظلم ومن بغى ومن اعتدى.(152/4)
المسلك الثالث: فتنة النساء
هذا مسلك ثالث وطريق ثالث من الطرق التي تفتن وتصرف عن منهج الله عز وجل: فتنة النساء: قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء) وأخبر كما صح عنه: وأن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)، وننظر في ذلك فنرى هذه الفتنة اليوم قد عمت، وإذا بطيف وطوفان يجرف ويذكي فتنة النساء في مجتمعات المسلمين، وإذا بك ترى هذه الفتنة عند كثير من المسلمين، تظهر في شعرهم ونثرهم وغنائهم وتمثيلهم ورقصهم، وعلى صفحهم ومجلاتهم، لقد جعلوا هذه الفتنة محور حياة يومية يصرفون بها القلوب، ويخطفون بها الأبصار، ويفتنون بها النفوس، حتى تسرب إليها هذا داء الشهوة المحرمة الآثمة.
فلا يكاد يسلم امرؤ من سماع أو رؤية وإن تحرج واحتاط إلا من رحم الله، فنسأل الله السلامة لقلوبنا من هذه الفتن.
وهذه الفتنة أمثلتها كثيرة، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من قصص بني إسرائيل على وجه الخصوص ما يبين لنا عظمة هذه الفتنة.
فهذا ابن حبان يروي في صحيحه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قصة لعابد من عباد بني إسرائيل، عبد الله عز وجل في صومعته ستين سنة، فأمطرت الدنيا واخضرت الأرض، فقال: لو خرجت من صومعتي وذكرت ربي، فخرج فلقي امرأة فكلمها وكلمته حتى غشيها -أي: حتى فعل بها الفاحشة- فأغمي عليه، ثم خرج يغتسل في ماء هناك، فقبض ومات على حاله تلك.
قال بعض السلف رضوان الله عليهم: لو استؤمنت على بيت مال المسلمين لأمنت نفسي، ولو استؤمنت على جارية سوداء أخلو بها ما أمنت نفسي! وهذا يدل عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)، وتحذيرات النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كثيرة، والله عز وجل قد حذر من ذلك وقال: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32].
ونجد أن العقوبة التي جعلها الله عز وجل لمرتكب هذه الفاحشة شديدة قاسية؛ حتى تكون رادعاً ومانعاً لهذا الباب العظيم من أبواب الفتنة؛ لأنه إذا انفتح على الأمة أوقع فيها من الفساد واختلال الأمن وشيوع الانحلال وكثرة الاضطراب ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، وشاهده الحديث الذي يرويه الإمام أحمد بسند حسن عن ميمونة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنا، فإذا فشا فيهم ولد الزنا فيوشك أن يعمهم الله بالعذاب)، وفي رواية في مسند أبي يعلى: (لا تزال أمتي بخير متماسك أمرها ما لم يظهر فيهم ولد الزنا).
والأمر في ذلك يطول، والحديث عنه يكثر، وهذه الفتنة من أعظم الفتن، ولها طلاب كثر، ليس لهم هم إلا نيل هذه الفتنة وقصد هذه الشهوة الآثمة.(152/5)
المسلك الرابع: اللذة والنشوة في الخمور وتعاطي المخدرات
هذا مسلك وطريق رابع ابتليت به كثير من مجتمعات المسلمين: اللذة والنشوة في شرب الخمور وتعاطي المخدرات: والله جل وعلا قال: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90]، والنبي عليه الصلاة والسلام لعن في الخمر عشرة: (لعن شاربها وساقيها ومبتاعها وبائعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه) كما روى ذلك أبو داود وزاد ابن ماجة: (والذي يأخذ ثمنها).
وفي حديث أبي موسى الأشعري عند ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه: (ثلاثة لا ينظر لله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: مدمن خمر، وقاطع رحم، ومصدق بالسحر) ثم قال عليه الصلاة والسلام: (وأما مدمن الخمر فيغمس يوم القيامة في نهر الغوطة، قيل: وما نهر الغوطة يا رسول الله؟! قال: نهر يجري من فروج المومسات يؤذي أهل النار ريحه).
هكذا يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم، ونجد هذه النشوة واللذة يسعى بها أعداء المسلمين لينشروها في مجتمعات المسلمين، وليبثوها بين شبابهم وشاباتهم؛ حتى تبطل العقول عن العمل، وحتى تنهك الأجساد بالعلل، وحتى يقع التعيير الكامل والإجرام التام في واقع مجتمعات المسلمين.
فنسأل الله عز وجل أن يسلمنا وإياكم من الفتن، وأن يصرف عنا ما ظهر منها وما بطن، وأن يعصمنا بالإيمان، وأن يحرسنا بالقرآن، وأن يجعلنا من المتبعين للمصطفى صلى الله عليه وسلم.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(152/6)
المسلك الخامس: حب الدنيا وطلب السلامة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه.
إن خامس هذه الأبواب والطرق والمسالك التي يسلكها طلاب الدنيا، وهو باب ومسلك قل من يسلم منه: حب الدنيا وطلب السلامة: أخبر النبي عليه الصلاة والسلام في حديث معروف متداول محفوظ عند كثير من الناس بقوله: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: لا! إنكم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من قلوب عدوكم المهابة منكم، وليجعلن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت).
مما يغلب على أهل الدنيا تشبثهم وتمسكهم بها، وخوفهم من أي طريق يظنون من قريب أو من بعيد أنه يخرجهم عنها وينقلهم عنها، فهم يخافون الموت في صبحهم ومسائهم، فهم فيما يسمعون: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمُ، وفيما ينظرون مما يتعلق بحياتهم: تراهم تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت من شدة الخوف والرهبة، فهم قوم قد آثروا السلامة: حب السلامة يثني هم صاحبه عن المعالي ويغري المرء بالكسل وهي صفة ذميمة مرذولة، وصم الله عز وجل بها اليهود عليهم لعائن الله، فقال جل وعلا: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} [البقرة:96] يحرصون على أية حياة، ولو كانت حياة ذل، ولو كانت حياة يبيعون فيها مبادئهم، وينافقون فيظهرون خلاف ما يبطنون، ويتراجعون فلا يثبتون، كما أخبر الحق جل وعلا عن وصف بعض أولئك: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].
هؤلاء قوم إذا رأوا أن حظهم من الدنيا سيذهب، أو أن طريقهم إليها سينتهي، طلبوا الخلاص والحياة ولو ببيع دينهم، ولو بالتفريط في أعراضهم، ولو بذلة نفوسهم، ولو بأي شيء يفعلون: يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب والقرآن قد أفشى خبر أولئك: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:204] {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} [البقرة:205]، أولئك المنافقون الذين يبطنون خلاف ما يظهرون، وكم في بيئات ومجتمعات المسلمين من هذه العينات التي تشدها الأرض شداً وتجذبها الحياة جذباً، كما أخبر الحق جل وعلا: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف:176].
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في أثر الحياة وملذاتها والتعلق بها، فقال: (الولد مجبنة مبخلة) أي: باعث على الجبن وباعث على البخل، ولذا يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15].
فينبغي للمرء ألا يجعل حب الحياة وتغلغلها في قلبه مانعاً من الثبات على الحق، أو المضي في الواجب، أو القيام بالأمر، وينبغي ألا يكون في حال من الأحوال معطياً للدنية في دينه، أو بائعاً دنياه بأخراه، فذلك هو الخسران المبين.(152/7)
وصايا قرآنية تحذر من الانجرار وراء الدنيا
نقف وقفة أخيرة مع الوصايا القرآنية التي ينبغي أن نتنبه لها وأن نجعلها نبراساً؛ لئلا نكون في الفريق الشقي فريق طلاب الدنيا بهذا المعنى، وليس بالمعنى الإسلامي الذي أباح أن تمتلك المال من أبواب الحلال، وأباح أن تعاشر النساء بالعقد المحلل بالنكاح، وأباح كل هذه الأمور الدنيوية بالأبواب التي فيها حل، وبالقدر الذي لا يطغي ولا يصرف عن الإيمان بالله عز وجل، والإقرار بنعمته والسعي لنيل رضوانه ورحمته.
والله سبحانه وتعالى قد ذكر لنا من الآيات ما ينبغي أن نجعلها نبراساً وشعاراً في حياتنا: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] سلوا الله من خير الدنيا حلالاً، وسلوا الله من خير الآخرة ليلاً ونهاراً.
والله سبحانه وتعالى يقول: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} [النساء:74] فلنكن ممن يؤثرون الآخرة على الدنيا، ويشترون نعيمها بما في هذه الدنيا.
والله سبحانه وتعالى يخبر عن أولئك القوم وثوابهم فيقول: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ} [آل عمران:148] فيجمع لك الله ما تبغي في هذه الدنيا من نعيم ومن خير وطمأنينة واستقرار، ويعطيك فوق ذلك من نعيم الآخرة ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.
وقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، كن مع أهل الآخرة يذكِّروك إذا نسيت، ويعلموك إذا جهلت، ويحمسوك إذا فترت، فإنك حينئذ تكون منهم، ولا تكن مع طلاب الدنيا الذين لا هم لهم إلا الكلام عنها، فإنهم يوشكون أن يصرفوا قلبك إليها، وأن يوجهوا مشاعرك نحوها.
والله سبحانه وتعالى يخبرنا عن هذا فيقول: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النجم:29].
فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا من طلاب الآخرة، وأن يجعلنا نأخذ نصيبنا من الحلال في الدنيا، ونستعين به على طاعة الله وعلى نصرة دين الله، وعلى إغاثة عباد الله المسلمين.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا، اللهم إن كان رزقنا في السماء فأنزله، وإن كان في الأرض فأخرجه، وإن كان قليلاً فكثره، وإن كان كثيراً فبارك لنا فيه يا رب العالمين.
اللهم اجعلنا أغنى الأغنياء بك وأفقر الفقراء إليك، اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، اللهم لا تجعل لنا إلى سواك حاجة يا رب العالمين، اللهم اجعلنا من الفقراء إليك، المتذللين بين يديك، الخاضعين لك الراجين ما عندك، الخائفين من عذابك وعقابك يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك أن تغفر ذنوبنا، وأن ترفع درجاتنا، وأن تكفر سيئاتنا وأن تتقبل حسناتنا، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، ومن جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واستر عيبنا، وأقل عثراتنا، وامح زلاتنا، وكفر سيئاتنا، وأعل درجاتنا، وضاعف حسناتنا يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك أن تعز الإسلام والمسلمين، وأن تذل الشرك والمشركين، وأن ترفع بفضلك كلمة الحق والدين، وأن تنكس رايات الكفرة والملحدين.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء.
اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً.
اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك وعظيم سطوتك.
اللهم زلزل الأرض تحت أقدامهم وخذهم أخذ عزيز مقتدر.
اللهم لا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية.
اللهم استأصل شأفتهم ودمر قوتهم، وخالف كلمتهم واجعل بأسهم بينهم.
اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا منتقم يا جبار، يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم سكن لوعتهم وأقل عثرتهم، وعجل فرجهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم اصرف عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق ولاتنا لهداك، واجعل عملهم في رضاك، اللهم ارزقهم بطانة صالحة تدلهم على الخير وتحثهم عليه، وتحذرهم من الشر وتنهاهم عنه يا سميع الدعاء.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام خصوصاً على أجلهم قدراً وأرفعهم ذكراً، ذوي القدر الجلي والمقام العلي أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(152/8)
رسائل تنديد وصواعق تهديد
لقد أوجب الله عز وجل علينا طاعته ومحبته، ومن لوازم محبته: حب عباده المؤمنين وموالاتهم، ووجوب نصرتهم، وعدم التخاذل تجاه قضاياهم، وبغض أعدائه المجرمين، ومعاداتهم، فإن لم نفعل ذلك فسيستبدل الله قوماً غيرنا ثم لا يكونوا أمثالنا.(153/1)
مصيبة تكالب المجرمين وتخاذل المؤمنين
الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من خالف أمره وعصاه، لا يعز من عاداه، ولا يذل من والاه، أحمده سبحانه وتعالى وهو الذي بيده كل شيء، وتنفذ مشيئته في كل شيء، ولا يعجزه في الأرض ولا في السماء شيء، له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده سبحانه وتعالى، وأشهد أن نبينا وسيدنا وقائدنا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وفتح به قلوباً غلفاً، وأسمع به آذاناً صماً، وكثرنا به من بعد قلة، وأعزنا من بعد ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! رسائل تنديد، وصواعق تهديد، عزمت أن أرسلها منذ الجمعة الماضية إلى كل من يصد عن دين الله، ويحارب دين الله، ويؤذي عباد الله، وينتهك حرمات الله، ويعتدي على محارم الله؛ فإنه لا شك معرض نفسه في دنياه قبل أخراه لأوخم النتائج، وأعظم المصائب، وشر ما ينتظر المرء في دنيا أو في أخرى؛ ذلك أن أوضاع أمتنا اليوم قد صار فيها كثير من أبناء جلدتنا، وممن لهم الأمر في أمتنا، يقومون تحت حجة محاربة الإرهاب بمحاربة الإسلام، وزاد الطين بلة تلك الجرائم المتزايدة، والفظائع المتعاظمة، والإرهاب المتواصل الذي تجددت أحداثه في أرض العراق على أيدي المحتلين الأمريكيين المجرمين، حتى أصبح المرء لا يدري عن أي شيء يتحدث! هل سمعتم غضبة عمرية أو صيحة مضرية؟! إنني لم أسمع من الدول الإسلامية والعربية حتى التنديد الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، والأمم المتحدة، والعصب المفترقة، لم يكن لها حتى مجرد وقفة لتقول: إن هذا لا يتفق مع ما تقول به من حقوق الإنسان أو الحيوان.
وإن الإنسان ليعجب وهو يرى هذه الأحوال في ظل هذا الإجرام المتعاظم، والقصف المتواصل للناس في بيوتهم وفي أرضهم وديارهم، النساء تقتل، وأرواح الأطفال تزهق، والأمم المتحدة غضبى لما يجري على أرض السودان من تطهير عرقي كما تزعم.
حول في البصر أو عمى في البصيرة أو هو كما قال القائل: ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأذنون وهم شهود إن الأحوال التي تمر بأمتنا اليوم هي في أوضح صور شدتها وقسوتها وفظاعتها، وهي في الوقت نفسه تعري كل متستر بستار يستر به نفسه زوراً وبهتاناً، فلم يعد اليوم أحد يشك فيمن يحارب دين الله عز وجل، ولم تعد تنطلي على أحد -حتى الحمقى والأغبياء- حيل من تلك الأقاويل والأراجيف التي نسمعها صباح مساء، تروجها وسائل الإعلام، وتصم بها آذاننا أقوال الساسة والمسئولين في شرق الأرض وغربها، من أبناء ملتنا ومن غيرهم.
ومن ذا الذي يستطيع أن يندد بهذا؟! وماذا نملك حتى نهدد تلك القوى العظمى، والأمم المجتمعة على الباطل، الراضية بشريعة الغاب: البقاء للأقوى؟! هل أملك أنا أو أنتم أن نندد بذلك؟ وماذا في أيدينا حتى نهدد؟ وبأي شيء نستطيع أن نواجه مرة أخرى وثانية وثالثة؟(153/2)
حتمية المواجهة لأعداء الله
ينبغي أن نوقن أننا على أرض صلبة قوية، وأننا على يقين وإيمان راسخ ثابت، وأننا على وعد وأمل صادق لا يتخلف متى كنا مؤمنين بالله، مسلمين حقاً، ملتزمين أمر الله، متبعين لسنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سنندد ونهدد بآيات الله، وبأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن على يقين من أمرنا، وعلى بينة من نهجنا، وعلى ثقة من وعد ربنا، نرى حقائق الأمور ببصيرة الإيمان، ونبصر في ظلمات الشبهات أنوار القرآن، ينبغي أن نرجع إلى تلك المنهجية التي لا زلنا نكرر أهميتها.
فنقول: إن هذا التهديد والوعيد وإن كنا نخص به أعداء الله أولاً، والمرجفين والظالمين والطغاة والبغاة من أبناء ملتنا ثانياً، فإننا لا نستثني منه أنفسنا، فقد جاءنا من آيات الله، ومن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يواجه تقصيرنا وتفريطنا، وغض أبصارنا عن الظلم، ورضا قلوبنا ونفوسنا بالانحراف ووقوع المنكرات، فكل ذاك المفرط والمختلف عن أمر الله، والذي لا يقوم بالواجب في حقه إزاء دين الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ * فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:32 - 35].
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى) وإن حشدوا القوات والطائرات والجيوش المتحالفة، والقوى المتعاظمة (لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ) ستدور الدائرة عليهم يقيناً لا شك فيه، وسيحيق المكر السيئ بأهله صدقاً لا كذباً ولا مراء فيه، وسيحبط الله أعمالهم، ونحن نؤمن بما يقول الله جل وعلا، ولا نؤمن بما يقوله الكذبة من الساسة والمنافقين من غير المسلمين ومن المتمسلمين.
ثم يلتفت النداء القرآني إليكم معاشر المؤمنين، كيف تواجهون ذلك؟ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) لا قدرة لكم على المواجهة، ولا أمل لكم في القدرة على المغالبة إلا بالاستمداد من الله إلا باتباع هدي رسول الله إلا بالعمل على سنة الله إلا بالتحقق والتحقيق لوعد الله؛ وإلا فإن أعمالكم هباء، وإن جهودكم ليس فيها غناء، وإن أقوالكم حجج عليكم وليست لكم، كم سمعنا من الأقوال! كم سمعنا من البيانات! كم رأينا من المؤتمرات تأتلف أو لا تأتلف، تجتمع أو لا تجتمع! كلها لا قيمة لها؛ لأنها ليست على منهج الله.
ثم يخبرنا الحق جل وعلا: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ).
ومرة أخرى يقول الحق جل وعلا في آياته: (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ)، استمعوا إلى هذه النداءات القرآنية، والتوجيهات الربانية! (وسيحبط أعمالهم) قال السعدي: أي: مساعيهم التي بذلوها في نصر الباطل، بألا تثمر لهم إلا الخيبة والخسران.
ألم يقولوا في كثير من مواجهاتهم: إنها أوقات قصيرة، وإنها معارك هزيلة؟ ما زال الحر من نارها، والشرر من رجالها يحرقهم، يقذف الرعب في قلوبهم، ويفرق صفوفهم، وسيحبط الله جل وعلا أعمالهم.
(فَلا تَهِنُوا) قال ابن كثير: لا تضعفوا عن الأعداء.
(وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) أي: المهادنة والمسالمة.
قال السعدي: لا تضعفوا عن قتال عدوكم، ويستولي عليكم الخوف؛ بل اصبروا واثبتوا، ووطنوا أنفسكم على القتال والجلاد؛ طلباً لمرضاة ربكم، ونصحاً للإسلام، وإغضاباً للشيطان، ولا تدعوا إلى المسالمة بينكم وبين أعدائكم طلباً للراحة، والحال أنكم أنتم الأعلون.
ثم ذكر الله عز وجل أموراً ثلاثة من تمسك بها لا يخشى قوى الأرض مجتمعة، ولا يتراجع قيد أنملة إلى الوراء، ولا يستطيع أحد أن يوصل إلى قلبه خوفاً أو إلى نفسه يأساً: (وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ)، أنتم الأعلون بالاستعلاء بالإيمان ومنهج الإسلام، وأنتم الأعلون بما توفرون من أسباب القوة والقدرة على مواجهة أعدائكم، (وَاللَّهُ مَعَكُمْ) {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160]، {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12]، ألم يقع ذلك في بدر؟ ألم يحصل مثله في الأحزاب؟ ألم نره عبر تاريخ أمة الإسلام في كل المواقع والمعارك والمواجهات؟ هل صار المسلمون اليوم في شك من دينهم، وفي ضعف إيمان بآيات ربهم الكثيرة في كل من يصد عن دين الله، ويحارب دين الله؟ (وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ)، لن ينقص أجوركم وثوابكم حتى ولو لم تتحقق النتائج على أيديكم، (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) أي: لن يجعلها حابطة كغيرها، بل ستثمر اليوم أو غداً أو بعد غد؛ لأن الله عز وجل وعد كل عامل بالخير ومحقق لوعده أن ينجز له سبحانه وتعالى ما وعد.(153/3)
حقيقة ما يجمعه الكفار لحرب المسلمين
قال الله عز وجل: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * أُوْلَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ} [هود:19 - 22].
ما كان لأولئك من قوة إلا بسبب ضعفنا، (أُوْلَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ) لا يعجزون الله وقدرته وقوته سبحانه وتعالى، وهو الذي أمره بين الكاف والنون، إذا قال للشيء: كن؛ فيكون.
ونحن نعلم كذلك أن هذه الوعود الربانية لا تتخلف أبداً، (وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ) مهما جاءوا بقوى من هنا أو من هناك، وحلفاء من شرق أو غرب فلن يثبت ولن يقف شيء أمام قوة الله، ولا أمام قوة المؤمنين بوعد الله، مهما عظمت قوتهم، فثقوا بدين الله، واعلموا أن كل ما يواجهوننا به إنما يتحقق فينا أثره لما أخللنا به من منهج الله عز وجل، وتخلينا به من الاستمساك بدينه سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:36] ما هي النتيجة؟ {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36] آيات قاطعة! كلمات بالحق ناطقة! ولكنها لا تضرنا إلا بأسبابنا، وبتخلينا عن نهج ربنا.
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [المجادلة:5]، والآيات تخبرنا بصيغة المضارع المتحقق الوقوع، قال ابن عطية في معنى الكبت والمكبوت: يكون حزيناً؛ لأنه يرى ما يكره ولا يقدر على رده.
سيأتيهم اليوم الذي يذوقون مثل ما يفعلون من هذه الجرائم، وهم لا يملكون دفعاً ولا نصراً بإذنه سبحانه وتعالى: {وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة:5]، {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} [المجادلة:20] تلك هي الوعود الربانية، والتهديدات الإلهية.(153/4)
ولاة الأمور وما عليهم من الحقوق
نحن -عندما نوقن بآيات الله- لا نحتاج إلى تنديد أهل الأرض، وإلى تهديد القوى الفارضة التي لا تقوم ولا تنطلق من قاعدة الإيمان بالله، ولا ترتبط بمنهج الإسلام، ولئن كان ذلك غيض من فيض آيات كثيرة، ومواقف وقصص عظيمة ذكرت في كتاب الله؛ فإن لنا كفاية من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنديده وتهديده، توجد صور كثيرة لنا وليست لأعداء الله، بل هي فينا معاشر المسلمين، من الذين لهم الصدارة في أمتنا ولاة وحكاماً وقادة، وإلى من دونهم من كل من له ولاية، ومن في يده سلطة، وغير ذلك من وجوه لا يكاد يخرج عنها أحد منا بحال من الأحوال.
وحينئذ نقولها ونحن بقلوب ثابتة وبصوت عال؛ لأن الناطق بها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وهل يستطيع أحد مهما علا وعظم أن يرد قوله عليه الصلاة والسلام، أو أن يستهين بتهديده ووعيده، وهو صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4]؟! عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأئمة من قريش) فله عليه الصلاة والسلام حق، وللأئمة حق كذلك، ثم يقول عليه الصلاة والسلام في شأن الأئمة: (ما إن استرحموا رحموا، وإن عاهدوا وفوا، وإن حكموا عدلوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) رواه أحمد في مسنده بسند جيد، ورجاله ثقات، ورواه أبو يعلى في مسنده والطبراني في معجمه.
وعن أبي هريرة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ما من أمير عشرة إلا يؤتى به مغلولاً يوم القيامة حتى يفكه العدل، أو يوبقه الجور) رواه البزار في مسنده، ورجاله رجال الصحيح.
(ما من أمير عشرة) فكيف بأمير الملايين المتولي أمرهم باسم الله، وبادعاء القيام بأمر الله، والذب عن شريعة الله، والحفظ لحقوق عباد الله؟ أفلا يرعوي كل من يسمع ذلك؟ أليس في هذا أعظم تهديد تنخلع قلوب من في قلوبهم ذرة إيمان، أو بقية أثر من إسلام؟ إن الأمر أعظم مما نتخيله ونتصوره، وهذا دعاء من رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، ودعاؤه مجاب، تروي هذا الدعاء عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم! من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به) رواه مسلم في صحيحه.
إلى الذين يشقون على عباد الله، ويتعنتون معهم، ويسرفون في تعذيبهم وإيذائهم، وإلحاق الضرر والشر بهم على كل مستوياتهم المختلفة، وفي كل مسئولياتهم المتنوعة؛ فليعلموا أن الله عز وجل يجازيهم من جنس عملهم، وأنه يلحق بهم عاجلاً أو آجلاً مثلما فعلوا بغيرهم، ومن لم يجد شيئاً في الدنيا من مثل هذا فإنما ذلك -والعياذ بالله- دليل على عظمة سخط الله عليه، وأنه ادخر له العذاب فلم يعجله له في الدنيا، فأجله له، وسيجعله له مضاعفاً في الآخرة.
ومعقل بن يسار رضي الله عنه يروي الحديث الذي يحفظه كثير من الناس: (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)، وفي الرواية الأخرى: (ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه إلا لم يرح رائحة الجنة) متفق عليه.
أفلا يستمع إلى ذلك قادة الأمة وحكامها؟ أحوال أمتنا في أكثر بلادها تستحق أن ينطبق عليها مثل هذه الأحاديث التي قالها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، أفيخشون من أمريكا أو غير أمريكا، ولا يخشون من الله عز وجل؟! أفيرضون أن يعملوا قوتهم وقدرتهم في سخط الله عز وجل، ويخشون أن يفعلوا أقل القليل مما يُظن أنه يسخط أعداء الله؟! أفلم يسمع الناس جميعاً حديث أم المؤمنين عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ابتغى رضا الله بسخط الناس؛ رضي الله عنه، وأرضى عنه الناس، ومن ابتغى سخط الله برضا الناس؛ سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس)؟! إن الأحوال لا تقتصر على من بيده الأمر أو الحكم أو السلطان، بل تعم كل أحد في مسئوليته، حتى تعم الفرد الذي ليس له مسئولية عن غيره؛ لأن له مسئولية عن نفسه.
ولذلك استمعوا إلى هذا الحديث أيضاً، وما فيه من التهديد والوعيد: (صنفان من أمتي لن تنالهما شفاعتي: إمام ظلوم غاشم، وكل ضال مارق) رواه الطبراني في المعجم الكبير ورجاله ثقات.
(كل ضال مارق) كم فينا نحن معاشر المسلمين من يصدق فيه ذلك؟! وهكذا كلنا يعلم أن الظلم منه ما هو يسير، ومنه ما هو عظيم، ومنه ما هو محدود الدائرة، ومنه ما هو واسع، والنصوص كلها تتناول ذلك قليلاً كان أو كثيراً، عن أبي موسى رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يمهل للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102])، من يستطيع أن يفلت من قبضة وغضبة الله جل وعلا إذا ظلم وقد حرم الله الظلم، وإذا بغى وقد وعد الله عز وجل أن ينتقم لمن بُغي عليه؟ كل من يظلم على خطر، حتى من يظلم زوجته، أو يظلم الموظف الذي تحته، فضلاً عمن يظلم رعيته.
وهكذا نرى الصور المختلفة التي تمضي بنا إلى تفصيل وتحديد، وتصور لنا الواقع كأنما هذه الأحاديث -وهي التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم- تخترق حجب الغيب، وتتجاوز آفاق الزمان؛ لتكون في كل وقت وآن، تكشف للناس عموماً، وللمسلمين خصوصاً كيف يعرفون واقعهم، وكيف يعرفون أين يضعون مواطئ أقدامهم قبل أن تزل الأقدام، وقبل أن يحصل لهم ما لا يرجونه من السخط والغضب الرباني.
عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أراد الله بالأمير خيراً جعل له وزير صدق، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، وإن أراد الله به غير ذلك جعل له وزير سوء، إن نسي لم يذكره، وإن ذكر لم يعنه)، وهذا واقع حال كثير من ولاة أمتنا.
وهذا هشام بن حكيم مر في بلاد الشام، ورأى بعض الأنباط من غير المسلمين في حر الشمس، ويوضع عليهم شيء من الزيت عقاباً لهم؛ لأنهم لم يؤدوا الجزية، وربما كان ذلك عن غير إمكان، فقال: أشهد الله أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا) رواه مسلم في صحيحه.
فليخش الذين يعذبون عباد الله، والدعاة إلى دين الله، والعلماء الناطقين بالحق، المبينين لشرع الله، وليخش كل من يظلم أحداً دونه في القوة، فإنه ما من شيء إلا وله عقوبته دنيا وأخرى، نسأل الله عز وجل السلامة من ذلك! عن أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ضرب سوطاً ظلماً فإنه يقتص منه يوم القيامة)، يقتص ولو في سوط واحد، فكيف بما هو أعظم من ذلك؟! أيها الإخوة المؤمنون! إن الأحوال التي تجري ينبغي أن تزيدنا يقيناً بوعد الله عز وجل، وبصيرة بسنن الله سبحانه وتعالى، وينبغي أن تردنا بقوة أكثر إلى دين الله وشرعه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن تدعونا إلى التشبث والاعتزاز والاستعلاء بدين الله، وينبغي في آخر الأمر أن تكشف لنا حقائق أعداء الله، وأن نعلم أن قوتهم الدنيوية لا يعبأ بها، ولا يخشى منها من كان الله معه: {وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:35].
أسال الله عز وجل أن يكشف الغمة، وأن يرفع البلاء عن الأمة، وأن يعيدنا ويردنا إلى دينه رداً جميلاً.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(153/5)
وجوب نصرة المؤمنين وبغض الكافرين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فهي أعظم زاد يقبل به العبد على مولاه، وإن من تقوى الله بغض أعداء الله، وعدم الذلة لهم، وفي الوقت نفسه الانتصار لعباد الله، والموالاة لهم، وبذل ما في الوسع لنصرتهم، بقدر ما يستطاع ولو بأقل القليل، فإن التهديد والوعيد قد تناول الساكت أيضاً كما جاء في حديث جابر وأبي طلحة رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يخذل مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه؛ إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته؛ إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته) رواه أبو داود في سننه والطبراني بإسناد حسن.
(ما من مسلم يخذل مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه) وقد رأينا الأحداث كثيرة مستمرة في أرض فلسطين، وفي العراق، ورأينا الأحداث الأخيرة التي فيها أعظم بغي وظلم، فأين الذين عندهم الأموال والقوات والجيوش؟! أين هم من نصرة هؤلاء ولو بكلمة، ولو بإعانة، ولو بإبانة؟ وأين بقية المسلمين من حزن يعتصر قلوبهم؟ كثير منهم يضحك ملء شدقيه، ويأكل ملء ماضغيه، وينام ملء جفنيه، وكأن شيئاً لم يكن، وكأن حزناً لم يخالط قلبه، وكأن كرباً لم يقع له! إنها نصوص عظيمة، وتهديدات خطيرة: (ما من مسلم يخذل مسلماً) في مثل هذه الظروف العصيبة، ليس لأولئك إلا الله، نسأل الله عز وجل أن يثبتهم، وأن يفرج عنهم، وأن يعينهم، ونسأل الله عز وجل أن يدحر عدوهم، وأن يرد كيدهم في نحرهم، ونسأل الله عز وجل أن يسخرنا لنصرتهم حزناً عليهم، ووحدة معهم، ودعاء لهم، وبذلاً للأموال والأرواح في سبيل نصرتهم ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
اللهم إنا نشكو إليك ضعف قوتنا، وقلة حيلتنا، وهواننا على الناس، إلى من تكلنا؟ إلى عدو يتجهمنا أم إلى عدو ملكته أمرنا؟ إن لم يكن بك علينا غضب فلا نبالي، ولكن رحمتك وعافيتك أوسع لنا.
نسألك اللهم ألا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وأن تيسر لنا، وأن تهيئ لنا من أمرنا رشداً، وأن تجعل لنا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية، يا سميع الدعاء! اللهم إنا نسألك أن توفقنا لطاعتك ومرضاتك، وأن تسخرنا في نصرة دينك وولاية عبادك برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم عليك بالطغاة المتجبرين، اللهم عليك بهم أجمعين، أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، زلزل اللهم الأرض تحت أقدامهم، واقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، اللهم نكس راياتهم، وأذل أعناقهم، وسود وجوههم، اللهم اجعلهم عبرة للمعتبرين، واشف فيهم صدور قوم مؤمنين، عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم أقر أعيننا بنصر الإسلام والمسلمين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، واجعلنا بكتابك مستمسكين، ولهدي نبيك صلى الله عليه وسلم متبعين، ولآثار السلف الصالح مقتفين، اللهم اجعلنا أغنى الأغنياء بك، واجعلنا اللهم أفقر الفقراء إليك، ولا تجعل لنا إلى سواك حاجة.
اللهم إنا نبرأ من الثقة إلا بك، ومن التوكل إلا عليك، ومن الخوف إلا منك، ومن الرجاء إلا فيك، ومن الإنابة إلا إليك.
اللهم علق قلوبنا بك وبطاعتك يا رب العالمين! اللهم إنه لا حول ولا قوة لنا إلا بك؛ فأمدنا اللهم وإخواننا المسلمين بحولك وقوتك ونصرك وعزك وتأييدك يا رب العالمين! اللهم ثبت أقدامنا، واربط على قلوبنا، وانصرنا على عدونا.
اللهم أفض على قلوبنا السكينة والطمأنينة، واجعلنا يا ربنا أوثق بما عندك من كل قوى الأرض كلها يا رب العالمين! اللهم انصرنا فإنك أنت المعين الناصر، ولا تخذلنا فإنك أنت الملهم القاهر يا رب العالمين! نسألك اللهم لأبناء أمتنا أن تردهم إلى دينك رداً جميلاً.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، واصرف عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن عن بلادنا هذه خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين.
وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك يا رب العالمين! اللهم انصر إخواننا المجاهدين في أرض العراق وفي فلسطين، وفي كل مكان يا رب العالمين، اللهم أفرغ في قلوبهم الصبر واليقين، وثبت أقدامهم في مواجهة المعتدين.
اللهم إنه لا حول ولا قوة لهم إلا بك؛ فأمدهم بحولك وقوتك يا رب العالمين، اللهم إنهم عراة فاكسهم، خائفون فأمنهم، ضعفاء فقوهم، اللهم أنزل عليهم نصرك وعزك وتأييدك يا رب العالمين.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
وأقم الصلاة! إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(153/6)
التوبة آثار وآفاق
جعل الله للعبودية مراتب وصوراً، ومن أعظم تلك الصور التي يترقى فيها العبد في العبودية: التوبة؛ إذ هي تحمل أعظم معاني العبودية للمولى عز وجل، ففيها إخلاص الدين لله، والعودة والرجوع إليه، والخضوع والتذلل بين يديه، وقد وعد الله كل مخلص تائب بالمغفرة والمحبة.
ومما يلزم العبد معرفته في باب التوبة معرفة العوائق التي تحول بينه وبين طريقها؛ كي يحذر منها، ويبتعد عنها.(154/1)
التوبة وما تحققه من معاني العبودية
الحمد لله، الحمد لله فتح أبواب رحمته للمؤمنين، وبسط يده للتائبين، وأعد عفوه للمستغفرين النادمين، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده دخراً، فله الحمد ملء السموات والأرض وملء ما شاء من شيء بعد، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد في الأولى والآخرة، سبحانه لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه من خلقه وخليله؛ ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ورزقنا وإياكم اتباع سنته، واحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم، واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! موسم عظيم من مواسم المغفرة، وأيام مباركة من أيام الله، ونفحات عظيمة من نفحاته جل وعلا، هبت علينا أنسامها في هذه الأيام المباركة من خلال الفريضة المعظمة، وما يزال العبد يتقلب في رحمة الله، وما يزال المؤمن ينظر إلى جود الله وعطائه، وما يزال المؤمن متعلق قلبه بما عند الله، كل ذلك مما اقتضته حكمة الله جل وعلا لتنشيط النفوس وإقبالها على التوبة والاستغفار، ولشحذ الهمم والعزائم على دوام الاتصال والمواظبة على العبادة والأذكار؛ فإن الله جل وعلا قد جعل لهذا الوجود كله غاية أوجزها في قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فعبودية العباد هي غاية هذا الوجود، ومن أجل تحقيقها أنزل الله الكتب، وأرسل الرسل، ونصب الموازين، وخلق الجنة والنار؛ فهي غاية عظيمة، ولأجل تحقيق هذه الغاية رسم الله جل وعلا ووضع المنهج الذي تتحقق به عبودية العبد ويتصل من خلاله بخالقه ومولاه سبحانه وتعالى، فكلما وهت حبال العبودية أو تقطعت أسبابها جاءت الفرائض والمواسم والعادات العظيمة من الله عز وجل لتعيد العبد إلى عبوديته وانكساره بين يدي الله وذلته، وإلى رجوعه وندمه، ومن ثم استغفار ربه وتوبته إليه، وهذا الذي نلحظه كلما فترت هممنا، أو ضعف إيماننا، أو غلبت دنيانا على قلوبنا، أو غرقنا في شهواتنا ولذاتنا، تجيء هذه العبادات وهذه المواسم المذكرات لتردنا إلى طريق الله لتعيد إلينا حقيقة عبوديتنا لله، وضرورة صلتنا به سبحانه وتعالى.
وليس من المشاهد والمواسم موسم أعظم من هذا الموسم الكبير؛ موسم الحج الأكبر، والأيام المباركة والمغفرة العظيمة، وقبول التوبة الذي وعد به الحق سبحانه وتعالى بعد أن بينه وبين تحققه بكمال عبوديته لله؛ فلا بد أن يحمل معوله ليهدم كل حجاب وكل مانع وحائل بينه وبين الله سبحانه وتعالى، وإنما معول هدم الذنوب هو التوبة لله جل وعلا، ودوام الاستغفار له سبحانه وتعالى، ليس بمستنكر أن يقع الإنسان في المعصية، وإنما الشقاء الأعظم في أن يلهو الإنسان، ويغفل القلب، ويسرح العقل؛ فلا يدرك أنه وقع في المصيبة العظمى والداهية الكبرى عندما عصى ربه وخالقه والمنعم عليه، وكان ذلك كله مانعاً من أن يفزع إلى التوبة إلى الله سبحانه وتعالى.
وما أعظم ما يتحقق في التوبة من معاني العبودية، فإن معظم معاني العبودية تتحقق في هذه التوبة التي ينطرح فيها العبد بين يدي ربه سبحانه وتعالى يعرف خطأه فيستغفر، ويعرف قدرة ربه وعظمته وجبروته فيخاف منه، ويميل إلى عفوه ومغفرته فيرجوه، ويطلب عونه وقوته وقدرته من الله سبحانه وتعالى فيسأل ويطلب، فإذا به ينصبغ بصبغة العبودية تضرعاً وخشوعاً ورهبة ورغبة ودعاء وتوسلاً واستعانة وتوكلاً، وليس مثل هذا الأمر عظمة في أثره في القلب، وفي سلوك العبد من بعد ذلك.(154/2)
شروط التوبة
ذكر أهل العلم للتوبة شروطاً، إلا أن التفكر فيها يزيد من عظمة هذه التوبة وأثرها في الأوبة إلى الله سبحانه وتعالى، وزيادة الإيمان، ورفع الدرجات عند الرحمن سبحانه وتعالى.
أولاها: الإقلاع عن الذنب وعلامته: المفارقة الفورية، والإقلاع النهائي، والعزم السريع على هذا الفعل في تخلص العبد مما يحجبه عن ربه، وتقع به ظلمة قلبه.
ثانيها: الندم: وعلامته: طول الحزن على ما فات وسلف من التفريط.
سئل سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: أي الأعمال أكثر عبودية لله؟ وأي العباد أشد قرباً من الله؟ فما قال: المصلي ولا الذاكر ولا التالي، وإنما قال: (رجل اجترح ذنباً؛ فكلما ذكر ذنبه استغفر ربه)، ما يزال أثر الندم يقود إلى دوام الحزن والألم، وإلى مزيد من الذكر والاستغفار، وإلى مزيد من طلب التوبة من الله سبحانه وتعالى؛ فيتجدد للعبد حينئذ عبودية ترقى به إلى أسمى مراتب العباد، ولذا فقه السلف الصالح رضوان الله عليهم هذا فعلموا صدقه وعلموا عظمته فقال قائلهم كما قال سعيد بن جبير: إن أعلى المراتب: رجل اجترح ذنباً؛ فكلما ذكر ذنبه استغفر ربه.
ثالثها: على الطاعة، وعلى عدم العود إلى المعصية: وعلامته: التدارك لما فات، تحقيقاً لقوله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114].
ولقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها).
وعلى الإنسان أن يتحلل من مظالم الناس، وأن يؤدي حقوق الناس، فقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو مال فليتحلل منه اليوم قبل ألا يكون درهم ولا دينار، إن كان له عمل صالح أخذ بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)، رواه البخاري في صحيحه.
فهذه المعاني كل واحد منها هو معنى من معاني العبودية يتحقق في القلب، وتعمر به النفس؛ سواء كان سبب الإقلاع الخوف من الله، أو الحياء منه، أو الندم؛ فما وقر في قلبك إلا من أثر الخشية من الله عز وجل، أو العزم والعمل؛ فما وقع إلا رغبة منك في إثبات العبودية لله، أو البراءة من الحقوق، فلم يقع منك إلا لأثر هذا الذنب الذي تخشاه في أخراك.
والله سبحانه وتعالى قد دعانا وأمرنا، وهو الغني عنا الذي لا تنفعه طاعة الطائعين ولا تضره معصية العاصين، لكنه جل وعلا من رحمته ومن محبته لعباده المؤمنين ناداهم بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [التحريم:8]، أي عظمة أعظم من هذا النداء الذي فيه تلطف وتحبب وتقرب للعباد بوصفهم بهذا الوصف؟ إنه وصف الإيمان الذي يحبونه ويرون فيه شرفهم وعزتهم، وكذلك يستدعي الله عز وجل بهذا النداء عزم أهل الإيمان؛ لأن للإيمان متطلبات ومقتضيات، أولها: سرعة ودوام واستمرار الاستجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:8].(154/3)
محفزات التوبة
قال ابن القيم وغيره من العلماء: التوبة النصوح تتضمن ثلاثة أمور: الأول: أن تكون توبة عامة من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها، قديمها وحديثها، ما يتعلق بالعبد ونفسه والعبد والآخرين، وإننا نعلم أن العمل الذي نقدم عليه ويكون علينا فيه مؤاخذة كثير، ربما ندرك بعضه ولا ندرك بعضه الآخر، ومن ثم جاء دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في استغفاره وفي دعواته يعلمنا هذا: (اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلمه، وأستغفرك لما لا أعلمه)، وعندما كان يستغفر ذنبه كان يستغفره كله سره وجهره، علانيته وباطنه، ما علمت منه وما لم أعلم، كما ورد عنه عليه الصلاة والسلام.
الثاني: إجماع العزم: فلا تردد ولا توانٍ، أما من ترك المعصية وأقبل على التوبة حفاظاً على صحته، أو حفاظاً على سمعته، وهو متعلق بتلك المعصية ولو كان يأمن على سمعته أو صحته أو منزلته أو نحو ذلك لقارفها، فمثل هذا ما صدقت توبته، ولا نصح لله عز وجل في أوبته، ولذلك ينبغي أن نتأمل أن التوبة معانيها القلبية هي التي ينبغي مراعاتها، وهي التي ينبغي الحرص عليها، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: (يا أيها الناس! توبوا إلى الله واستغفروه؛ فإني أتوب في اليوم مائة مرة).
وإذا أراد الإنسان أن يتشجع على هذه التوبة فعليه أن يعلم أن الله سيغفر له ذنبه، ويستر عيبه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا إذا سألنا الله ودعوناه أن نوقن بالإجابة، وقد نهانا عن تعليق الدعاء بالمشيئة؛ لأن الله عز وجل لا يتعاظمه شيء، ولا يرد أمره شيء سبحانه وتعالى، ألم تستمع لقول الحق جل وعلا: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ} [آل عمران:135 - 136]، أليس هذا وعد من الله؟ ووعد الله عز وجل -قطعاً- لا يتخلف.
إن تذكرت الله، وإن حل في قلبك الندم على معصية الله، وإن وجد في نفسك العزم على طاعة الله فهذه المعاني الإيمانية التعبدية كفيلة بأن يمحو الله عز وجل لأجلها ذنبك، وقد قال الله جل وعلا: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82].
ولقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن المغفرة من الله واقعة لا محالة.
هذا أولاً، ومن الأمور التي تشد العبد إلى التوبة وتربطه بها؛ ذلكم أن الله عز وجل يحب التائبين المستغفرين، وقد قال في كتابه بالتوكيد: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]؛ فالتواب الذي يئوب ويرجع ويعترف بين يدي الله عز وجل بذنبه محبوب عند الله عز وجل.
وقد ورد في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم حمل على دابته متاعه في أرض فلاة، فضلت عنه، فبحث عنها فلم يجدها، فاستظل تحت ظل شجرة ينتظر الموت وقد أيس من دابته، فلما استيقظ وجدها وعليها متاعه، ففرح وأخطأ من شد الفرح، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك)، فالله عز وجل أشد فرحاً من فرحة هذا العبد الذي انقطعت عنه أسباب النجاة.
يفرح الله بتوبة التائبين؛ لأنها عربون وشهادة على عبودية أولئك التأبين؛ ولأن فيها خاتم الذل لله رب العالمين؛ وبصمة السجود والبكاء والتضرع والخضوع لرب الأرباب وملك الملوك سبحانه وتعالى.
ثالثاً: استمرارية فتح باب القبول من الله عز وجل، فإنه (يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار حتى تطلع الشمس من مغربها)، فأي باب أوسع من هذا؟ وأي رحمة أعظم من هذا؟ وأي توبة أوسع من هذا؟ إن هذا مما يجعل العبد يتهيج لطاعة الله، ويداوم على التوبة والاستغفار لله سبحانه وتعالى.
وقد ورد في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، فالذي ينتبه لهذا يدرك أهمية التوبة.
رابعاً: من الأمور التي تحفز المرء على التوبة معرفته لخطر الذنوب وآثارها، فإنه إذا تفطن لهذا علم أن أعظم البلاء، وأكبر المصائب إنما تحل عليه من أثر الذنوب والمعاصي.
إن الفقه الإيماني الذي كان عليه أسلافنا يربط كل شيء من فلاح ونجاح وتوفيق بالطاعات، ويربط كل شيء من إخفاق وفشل وعناء وبلاء بالمعاصي؛ حتى قال قائلهم: (إني لأجد أثر الذنب في خلق دابتي وزوجتي)، فإذا فقهنا ذلك علمنا لم عندنا الأموال، لكنها ممحوقة البركة؟ ولم عندنا الأبناء، لكننا فقدنا برهم وفقدنا كثيراً من خيرهم؟ ولم عندنا كذا وكذا ولكننا لا نجد أثر التوفيق فيه؟ لو فقهنا ذلك لعلمنا أنه من آثار تراكم المعاصي والذنوب التي نقترفها سواء أكنا مدركين لذلك أو غير مدركين، والطبع على القلب أسوأ آثار هذه الذنوب: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [المطففين:14]، قال بعض السلف من المفسرين: (هو الذنب بعد الذنب)، وقال آخر: (هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب) والعياذ بالله.
وإفساد العقل أيضاً من الآثار، فإن العقل نور وضياء، والمعصية ظلمة تطفئ نور العقل فيضل -والعياذ بالله- والتهاون بالمعصية من أثر هذه الذنوب، والتكاثر لها بتواردها واستمرارها من أثر هذه الذنوب، وذهاب الحياء من الله قاصمة الظهور في هذا الباب، وينتج عن أثر ذلك نسيان الله عز وجل للعبد وتركه، فلا يدافع عنه كما وعد: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، ولا يتولاه برعايته كما قال عز وجل: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ} [الأعراف:196]، هذه كلها يفقدها العبد عندما لا يدرك خطر الذنوب والمعاصي ويفيء إلى التوبة.
ألا أيها المستطرف الذنب جاهداً هو الله لا تخفى عليه السرائر فإن كنت لم تعرفه حين عصيته فإن الذي لا يعرف الله كافر وإن كنت عن علم ومعرفة به عصيت فأنت المستهين المجاهر فأية حاليك اعتقدت فإنه عليم بما تطوى عليه الضمائر فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا من التائبين المستغفرين، وأن يجعلنا من المقرين بذنوبنا المعترفين بتقصيرنا، المبادرين إلى الاستغفار والتوبة، والعازمين على الاستمرار على الاستقامة والطاعة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(154/4)
عوائق التوبة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! فأوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن نعم الله عز وجل على العباد لا تعد ولا تحصى، ومن هذه النعم العظيمة: فتح أبواب التوبة، وهذه مواسمها العظيمة التي يبسطها الله عز وجل ويعيدها علينا مرة بعد مرة، وعبادة إثر عبادة؛ حتى تفيء القلوب إلى الله، وتلهج الألسن بالاستغفار لله، وتعاود الجباه السجود لله سبحانه وتعالى.
واعلم أخي المؤمن أن ثمة عوائق قد تصدك عن التوبة، ولابد أن تدركها وتعرفها، ولابد أن تتجاوزها وتقفز من فوقها؛ لئلا تجعل حاجباً وحاجزاً بينك وبين الله، فلا تتحقق حينئذ بكمال العبودية لله، ومن أعظم هذه العوائق.(154/5)
التسويف
العائق الأول: التسويف الذي يستخدم سوف والسين، وغداً وبعد غد، وإذا تفرغت لكذا وكذا، أو قضيت نهمتي من شبابي أو نحو ذلك.
وما يدريك أن أجلك يمتد إلى أن تبلغ هذا المبلغ فتتوب وتستغفر؟ وما يدريك أنه إذا امتد أجلك سيكون في قلبك إخبات وخضوع وخشوع لله فتتوب وتستغفر؟ ألم تسمع قول الحق جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24]؛ فأي ضمان لك أن يضرب على قلبك ويسود بتكاثر الذنوب فيموت ويعمى فلا يعود فيه أثر لإشراقة إيمان، ولا أمل لبارقة توبة؛ ويختم على قلبك كما يختم على قلوب أهل النفاق؛ فتظلم نفسك وروحك فلا يكون عندك انبعاث إلى توبة ولا طاعة؟ نسأل الله عز وجل السلامة.
قال ابن القيم رحمه الله: مثل المسوف كمثل رجل أراد أن يقتلع شجرة من الأرض، فلما جاء وجدها قوية راسخة في الأرض فتركها، وقال: أرجع إليها بعد عام، فإذا رجع إليها بعد عام كانت قد امتدت جذورها، وعظم رسوخها، وصعب قلعها، وكان هو قد امتد به العمر ووهنت قواه، وكلَّ عن ممارسة هذه العملية المهمة، فليس هناك أحمق من هذا الذي يترك الأمر حتى يعظم، فلئن عجز عنه وهو في مبتدئه فهو عنه في منتهاه أعجز، فلا تجعل التسويف قنطرة يقودك بها الشيطان من ذنب إلى ذنب، ومن واد للشهوات والملذات المحرمة إلى واد آخر، فما تزال تتردى من حفرة إلى حفرة إلى واد سحيق، إلا أن يتداركك الله برحمته.(154/6)
التهوين
العائق الثاني: التهوين، أي: تهوين بعض المعاصي، وبعض الناس إن قلت له: استغفر الله أو تب إلى الله، قال: ما عملت شيئاً، يظن أنه لا يستغفر إلا إذا ارتكب أكبر الكبائر وأفظع الفظائع، وما يدري أنه ينبغي له أن يستغفر ويتوب من تقصيره في ذكر ربه وتعظيمه لمولاه سبحانه وتعالى، أليس قد غفر الله جل وعلا لرسوله عليه الصلاة والسلام ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ وأليس هو القائل عليه الصلاة والسلام: (إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم سبعين مرة)، وفي روايات أخرى: (مائة مرة)؟ أليس هو عليه الصلاة والسلام القائل: (أفلا أكون عبداً شكوراً)؟ وأي ذنب هذا الذي نستهين به ونستصغره ونحن قد وقعنا فيما هو من العظائم والفظائع التي لم ندركها؟ أليس قد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً)؟ كلمة من سخط الله تقولها -وما أكثر ما نقول- لا تلقي لها بالاً، لا تظنها من الأمور التي ينبغي أن يطول ندمك عليها، وأن يعظم استغفارك عنها، تهوي بها في النار سبعين خريفاً.
ألم تستمع لفقه أهل الإيمان من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان؟ ألم تسمع لما صح عن ابن مسعود: (إن المؤمن يرى الذنب كأصل جبل يوشك أن يقع عليه، وإن المنافق يرى الذنب كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا؟) فمن استهان بالذنوب فإنه يشبه المنافقين في عدم تعظيمه وتوقيره لرب العالمين.
ألم تستمع لقول أنس في الصحيح: (إنكم لتعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر -أي: تستهيون بها، وترونها هينة سهلة- كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات) لحياة قلوبهم، ولتعظيم ربهم، ولاستعظامهم لما يقع من مخالفة العبد لربه، وارتكابه ما حرمه عليه، وهم من هم ممن كانوا على قدم وساق في الطاعات، وعلى شدة ورع واحتياط من ترك الشبهات فضلاً عن التخلي والبعد عن المحرمات.
أليس قد قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: (إني قد أدركت أقواماً هم أخوف ألا تقبل منهم حسناتهم منكم من أن تحاسبوا على سيئاتكم؟) فمن سلف كانوا يخافون رغم طاعاتهم أن يحرموا القبول، فما يزال خوفهم يملأ قلوبهم، ويجري بالدموع عيونهم، ويذل لله عز وجل جباههم، ويديم على مدى الزمان ندمهم وكثرة طاعتهم وعبادتهم، وما يزال في قلوبهم الخوف، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عندما سألته عائشة عن قوله عز وجل: ({وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] قالت: هو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر؟ قال: لا يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخشى ألا يقبل منه).
وهذا بلال بن سعد يقول: (لا تنظر إلى صغر الذنب، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت).
فهذا هو الذي ينبغي أن تستحضره، وإياك وتهوين الذنوب.(154/7)
تعظيم الذنب
العائق الثالث: التعظيم: وهو تعظيم الذنب الذي يوقعه الشيطان في نفسك، فيقول: وأنى لك التوبة؟ وكيف تحصل لك المغفرة وأنت قد فعلت؟ كيف وكيف وكيف؟ وقد اقترفت كذا وكذا، وقد تقحمت من المعاصي والذنوب الكبار ما لا يعلمه إلا الله؟ فقل له: اخسأ يا عدو الله! فإن أبواب التوبة مفتوحة، وإن الله عز وجل لا يتعاظمه ذنب.
وقد ورد في الحديث الصحيح من رواية أنس عن رسول الله عليه الصلاة والسلام عن رب العزة والجلال قال: (يا بن آدم! لو لقيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً؛ لقيتك بقرابها مغفرة ولا أبالي)، لا تستعظمن الذنب فإن استعظام غفران الذنب من الله عز وجل دليل على عدم معرفة الله، وعلى عدم الصلة الحقيقية الإيمانية بالله، ولذلك ينبغي ألا يصدك الذنب عن التوبة بل ينبغي أن يقودك الذنب إلى التوبة وما حيلة إبليس إلا بث اليأس في نفوس أهل الإيمان، ولا ييئس من رحمة الله إلا القوم الكافرون.
فينبغي أن نتذكر قول الله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53]، ومن الذي يمنع رحمة الله أن تصيبك يا أخي المؤمن؟ ومن الذي يمنع قدرة الله عز وجل الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء أن يغفر ذنوبك وإن كانت مثل زبد البحر؟ أليس قد قال المصطفى عليه الصلاة والسلام فيما صح من رواية أنس عمن صلى ثم قال دبر صلاته: (سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، والحمد لله ثلاثاً وثلاثين، والله أكبر ثلاثاً وثلاثين، وختم تمام المائة بقوله: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، قال: إلا غفرت له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)، فالله عز وجل لا يتعاظمه ذنب؛ فثق بعظمة مغفرة الله عز وجل، ولا يصدنك التعظيم إلا الشرك؛ فإن الله عز وجل قد قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فتعرض لمشيئة الله، وانطرح بين يدي الله، ولا يغوينك التاريخ السابق والأعمال السابقة فإن الإسلام يجب ما قبله، وإن التوبة تجب ما قبلها، وإن الصلاة إلى الصلاة مكفرات لما بينهما ما اجتنبت الكبائر، وإن الحج يغفر الذنوب جميعاً ويرجعك بإذن الله عز وجل من ذنوبك كيوم ولدتك أمك، فلا تكن هذه الفرية وهذه الشبهة صادة لك عن التوبة.(154/8)
التردد في التوبة
العائق الرابع: التردد الذي يجعل الإنسان يحجم عن التوبة؛ لأنه يقول: ومن يضمن لي ألا أضعف فأعاود المعصية مرة أخرى؟ ونقول: هذه حيلة إبليسية شيطانية، اعزم على ألا تعود، فإن ابتلاك الله وعدت للذنب فجدد له توبة أخرى كما كان للذنب الأول، وبهذا تكون لك عبادة أخرى إن أخلصت لله عز وجل.
وورد في صحيح مسلم: (أن عبداً أذنب ذنباً فاستغفر ربه، فقال الله عز وجل لملائكته: أعلم عبدي أن له رباً يؤاخذ بالذنب ويغفر الذنب، أشهدكم أني قد غفرت له.
ثم أذنب الثانية فاستغفر ربه، فقال الله عز وجل: أعلم عبدي أن له رباً يؤاخذ بالذنب ويغفر الذنب، أشهدكم أني قد غفرت له.
ثم فعل الثالثة) فتكرر القول والله عز وجل لا يعجزه شيء لكن لا يكون ذلك على سبيل الاستهتار والتهاون، وإنما يعزم ويصدق، فإذا غلبته غفلة أو استذله شيطان تذكر مرة أخرى وعاد {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201].(154/9)
التأثر بالبيئة
العائق الخامس: التأثر بالبيئة: فالناس ربما يفعلون أفعالاً لا يتوبون منها ولا يستغفرون؛ لأنهم يرون الآخرين يفعلون فعلهم فيظنون أن الأمر فيه سعة، وهذا مقياس عجيب وافتراء غريب من أهل الإيمان، فمتى كان فعل الناس حجة؟ ومتى كانت أقوال الناس حكماً؟ إن العبد ينظر في فعله وله في ذلك عدة أنظار: الأول: ينظر في فعله؛ فينظر إلى الأمر والنهي، فإذا نظر إلى الأمر والنهي الوارد عن الله وعن رسوله عليه الصلاة والسلام علم إن كان وقع في مخالفة أو لا، وليس إلى أعراف الناس أو أقوالهم.
الثاني: له نظر آخر بعد تيقنه من وقوعه في الخطأ؛ ينظر إلى الوعد والوعيد فيخاف من الوعيد ويرجو في الوعد أن يوصله إلى التوبة ولا يتأثر بذلك.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يمن علينا بالتوبة وبدوام الاستغفار، وأن يجعلنا من التائبين المستغفرين، وأن يجعلنا من النادمين على ما سلف منا من التقصير والتجاوز لحدود الله عز وجل.
اللهم مُنَّ علينا بالعفو والعافية، ومغفرة الذنوب يا رب العالمين، اللهم إنا نتوب إليك توبة نصوحاً فتقبل توبتنا يا رب العالمين، اللهم إنا نستغفرك من جميع ذنوبنا فاغفر لنا يا غفور يا رحيم، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى، وأن تجعلنا هداة مهديين، اللهم تولَّ أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، اللهم إنا نسألك إيماناً كاملاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، وطرفاً دامعاً، ونفساً مطمئنة، وعلماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وتوبة قبل الموت، ومغفرة بعد الموت، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا، اللهم اجعلنا أغنى الأغنياء بك، وأفقر الفقراء إليك، ولا تجعل لنا إلى سواك حاجة، واغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، ومن عبادك المخلصين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين.
اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم زلزل الأرض تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين، والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين، اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، اللهم زد إيمانهم، وعظم يقينهم، وثبت أقدامهم، ونفس كربهم، وفرج همهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك أن تجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، اللهم اصرف عن بلدنا هذا خاصة الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن، وعن سائر بلاد المسلمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولاتنا لهداك، واجعل عملهم في رضاك، وارزقهم بطانة صالحة تدلهم على الخير وتحثهم عليه، وتنهاهم عن الشر وتمنعهم منه يا سميع الدعاء.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام وخصوا منهم بالذكر والقدر العلي والمقام الجلي أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(154/10)
ترحيب وتذكير
الترحيب والفرح بشهر رمضان دليل على حب العبد لعبادة ربه سبحانه وتعالى؛ لأن رمضان شهر عبادة وطاعة؛ وصيامه أحد أركان الإسلام الخمسة، فعلى العبد المسلم أن يفرح بقدوم هذا الشهر الكريم، وأن يشمر عن ساعد الجد والاجتهاد في عبادة ربه وطاعة مولاه في هذا الشهر.(155/1)
الترحيب بشهر الصيام
الحمد لله خالق البريات، رب الأرض والسماوات، جعل لنا في أيام دهره نفحات، يفيض فيها الخيرات، وينزل فيها البركات، ويضاعف فيها الحسنات، ويمحو فيها السيئات، ويرفع فيها الدرجات، فله الحمد جل وعلا ملء الأرض والسماوات، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى، ومنار التقى، ختم الله به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وفتح به قلوباً غلفاً، وأسمع به آذاناً صماً، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبيناً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعه واقتفى أثره ونهج نهجه إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! ترحيب وتذكير بهذه المناسبة العظيمة التي يكون فيها غرة شهر رمضان يوم الجمعة، وفي أوله جمعة، وفي آخره جمعة، وفيه زيادة جمعة، فهي خيرات بعضها مع بعض، وبركات بعضها فوق بعض، فجدير بنا أن نرحب بشهرنا، وحري بنا أن نفرح بفريضتنا، وحري بنا أن نفرح بالرحمة التي أظلتنا، والمغفرة التي أحاطتنا، والبركات التي تنزلت علينا، ولا شك أنه -ونحن نبتدئ شهرنا مثل هذا اليوم الأغر الذي نستمع فيه إلى الذكرى والعظة- ينبغي أن يكون أمرنا وحالنا أوجب في أن تكون انطلاقتنا أقوى، ومسيرتنا أقوم، وأخذنا للخير أعظم، وصلتنا بالطاعة أدوم، وذلك ما لعلنا نذكر به أنفسنا في مطلع شهرنا.
فمرحباً بشهر القرآن، ومرحباً بشهر الصيام، ومرحباً بشهر الإنفاق، ومرحباً بشهر الصلة والتراحم، ومرحباً بشهر الذكر والدعاء، ومرحباً بكل الخير الذي يسوقه الله عز وجل لنا في هذه الأيام المباركة، والليالي المنورة، والموسم العظيم، فمرحباً رمضان مقرباً إلى الجنان، ومباعداً عن النيران.
وهل عندنا معاشر المسلمين! من غاية أعظم من أن نتعرض لنفحات الله، ونستوجب دخول جنته برحمته؟! وهل هناك هاجس أكبر عند كل مؤمن من أمله في النجاة من النار وبعده عن سخط الجبار، قال عز وجل: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185]؟!(155/2)
بعض فضائل شهر رمضان
رمضان شهر له بدخول الجنة تعلق عظيم، كما ورد عند البخاري من حديث أبي هريرة عن رسول الهدى عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين)، وفي رواية أخرى أطول، قال عليه الصلاة والسلام: (أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرمها فقد حرم) رواه الإمام أحمد والبيهقي والنسائي.
وإذا تأملنا هذا الحديث نجد أنه إعلان عظيم ظاهر بين فيه أن هذا الشهر موسم من مواسم الجنة، تهفو النفوس والأرواح شوقاً إليها، وتخف الأبدان سعياً وعملاً وطاعة وتقرباً وتعرضاً لنفحاتها، ويعظم في القلوب أخذ أسباب النجاة من النار في ألوان وصور مختلفة من العبادات والطاعات، قال الحليمي في مثل هذا الحديث وشرح معناه: إن الشياطين لا يخلصون من افتتان المسلمين إلى ما يخلصون إليه في غيره -أي: في غير رمضان- لانشغالهم -أي: لانشغال المسلمين- بالصيام الذي فيه قمع الشهوات، وبقراءة القرآن والذكر.
وفي رواية لهذا الحديث: (غلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، ونادى منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر) وهذا من فضل الله عز وجل.
وقال الطيبي في شرح الحديث: فيه فائدة توقيف الملائكة على استحماد فعل الصائمين، وأنه من الله بمنزلة عظيمة، وفيه إذا علم المكلف ذلك بإخبار الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ما يزيد نشاطه ويتلقاه بأريحية، هذا خبر الصادق المصدوق يخبرنا فيه بهذه الأخبار، وكأن الله جل وعلا يعلن في الملأ الأعلى وبين ملائكته الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون: أن هذا موسم عظيم، وأن أهل الإيمان والإسلام فيه يكونون على حال عظيمة تفتح أبواب السماء وأبواب الجنان، ويشعر بذلك ملائكة الرحمن، ويخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فيكون حينئذٍ انبعاث النفوس، واشتياق القلوب، وشحذ العزائم، وقوة الهمم في الطاعة لله سبحانه وتعالى.
ونحن في مفتتح الشهر وفي بدايته وأوله نستمع لهذا القول، ونردد هذه الآيات، ونكرر تلك الأحاديث؛ حتى يكون ذلك عوناً لنا على طاعته سبحانه وتعالى، ومن جهة أخرى تذكير بالتفريط، وتحذير من التقصير، قال غير الطيبي في شرح هذا الحديث: فيه رفع عذر المكلف، فكأن الله جل وعلا يقول: كفت الشياطين فلا تعتذروا بهم.
وكم نسمع من القول: إبليس والشيطان، فالله جل وعلا جعل هذا الموسم بعيدة فيه قدرة الشياطين على تسلطها على المؤمنين، وقد قال أهل العلم: إنه تغل فيه مردة الشياطين كما ورد في الحديث، أو أنهم لا يصلون إلى ما يصلون إليه في غيره، والحال في جملته أن ذلك الأثر الذي يزل الإنسان ويغويه ويغريه ويصرفه عن طاعة الله، ويقعده عن الخيرات أنه منقمع منحسر ذليل، وذلك يفسح المجال واسعاً لكل من يريد الاستزادة من الخير، فإن الطريق ممهدة، وإن العقبات قد أزيحت وأزيلت وخففت، فما على المرء إلا أن يشحذ همته وعزمه، وأن يخلص نيته وقصده، وأن يبدأ عمله وجده في طاعة الله سبحانه وتعالى.
ونحن نقول ذلك ونحن ندرك صلة الصيام الكبرى والعظمى بالتقريب من الجنان والمباعدة من النيران، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بينه وبين النار سبعين خريفاً).
وقوله (يوماً) في الحديث مطلق لا يدل على أنه فرض، بل يكون تطوعاً، فكيف بثلاثين يوماً تصومها في سبيل الله، وإخلاصاً لوجه الله، وتنفيذاً لفريضة الله، وابتغاءً لرحمة الله عز وجل؟! لاشك أن مباعدتها عن النار عظيمة، فأخلص النية ينلك ثواب الله عز وجل، وتدركك رحمته، وينجز لك وعده بإذنه سبحانه وتعالى.
وكلنا يعلم حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم عند البخاري في قوله: (الصوم جنة)، وفي رواية النسائي: (الصوم جنة من النار كجنة أحدكم من القتال)، إنه درع حصين يقيك ويصرفك بإذن الله عز وجل عن العذاب، فإن عذاب جهنم كان غراماً.
وكلنا من أعظم أهدافنا وأكثر دعائنا سؤالنا الله جل وعلا أن يباعد بيننا وبين النار، وأن يجعلنا من أهل الجنان، وهذا هو الموسم الأعظم، وتلك هي الفرصة الكبرى، وتلك هي الأبواب المتنوعة التي كلها لها صلة مفردة بأمر الطاعة والتقرب إلى الله عز وجل، والتعرض لدخول الجنان.
ثم كذلك نعلم جميعاً الاختصاص الرمضاني بالجنة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة باباً يقال له: الريان، خاص بأهل الصيام، ينادى يوم القيامة: أين الصائمون؟ فيدخلون منه، فإذا دخلوا أغلق فلا يدخل معهم غيرهم) فأي فضيلة أعظم من هذا؟! وأي تعرض لدخول الجنة في موسم أكبر وأوسع من هذا؟! فما على أحد إلا أن يشد الحزم ويبدأ العمل.
وفي رواية النسائي: (للصائمين في الجنة باب يقال له: الريان، لا يدخل فيه أحد غيرهم، فإذا دخل آخرهم أغلق، ومن دخل شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً).(155/3)
أهمية استغلال شهر رمضان وترك الكسل والتخاذل
لا شك أننا نعجب من حالنا وغفلتنا وتقصيرنا في موسم عظيم ونحن كسالى، وفي موسم فيه من تنوع الأجر والثواب وتنوع الأعمال ما فيه ونحن ما زلنا في كسل وتراخٍ، عجبت للجنة نام طالبها! وللنار نام هاربها! كيف نريد أن نبلغ الجنان، وأن نبلغ فردوسها الأعلى، وأن نتعرض لرحمة الله ونحن في الليل ساهرون في عبث، وفي النهار نائمون عن طاعة؟! أليس ذلك حال كثير منا أو بعض منا في مثل هذا الشهر من كل عام؟! وقد نسمع هذا الكلام في منتصف الشهر أو في ثلثه الأول أو نحو ذلك، لكن فرصتنا الكبيرة أننا نسمعه ونذكر به في أول يوم، ومع افتتاح أول أيام هذا الشهر الكريم والفريضة العظيمة، فهل من سبيل إلى تغيير حقيقي، وتدارك للتقصير والتفريط، في موسم لا يقبل مثل ذلك، ولا يتصور من عاقل وقوع ذلك؟ ولابد لنا أن نكون متواصين بالحق ومتواصين بالصبر في موسم الخير، ولابد لنا كذلك من مصارحة بل ومقارعة، فإن حالنا هذا متكرر في كل عام، والقول يُعاد، والمواعظ تتكرر، والأحاديث تُروى، والآيات تُتلى، والمحاريب يُتلى فيها القرآن، ومع ذلك نجد كثيراً من تلك السلبيات، وكثيراً من ذلك التقصير والتفريط، وكأنه لا أمل في التغيير، وكأنه لا سماع لهذا القول، ولا تغير له في العزائم، وذلك ما ينبغي أن نبرأ منه، فنحن مؤمنون ومسلمون، ونحن عقلاء وذوو ألباب، فكيف نصنع ما يصنع المفرطون والمقصرون، وما يصنع الحمقى والمغفلون؟! نبرأ إلى الله عز وجل من ذلك.
مرحباً برمضان منقذاً من الغفلة والنسيان، ومفعماً بالذكر وتلاوة القرآن، فكم نحن في حاجة إلى أن نروي ظمأ القلوب بذكر الله وتلاوة آياته، وكم نحن في حاجة إلى أن تخضر نفوسنا التي تصحرت من كثرة غفلتنا ولهونا وعبثنا، ولغو قولنا، وسوء فعلنا، وغرقنا في شهواتنا، فرمضان شهر ينتشلنا من هذه الغفلة، ويستنقذنا من ذلك النسيان، ويغمرنا بذكر الله عز وجل، ودعائه وتلاوة آياته، حتى تكاد ألسنتنا لا تفتر من ذكر حتى تبدأ في تلاوة، ولا تنتهي من تلاوة حتى تشرع في دعاء، ولا تنتهي من دعاء حتى تبدأ في قراءة كتاب علم أو نحو ذلك، فما أعظم هذه الذكرى!(155/4)
الصلة بين القرآن والصيام في شهر رمضان
ما أجل هذا الموسم! تحيا به القلوب، وتزكو به النفوس، وترشد به العقول، وتستقيم به الجوارح على طاعة الله سبحانه وتعالى، وكلنا يدرك ذلك، فكم لهذا الشهر من خصيصة تربطه بالقرآن، كما قال عز وجل: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185].
وكلنا يعلم كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا فيقول: (كان جبريل يدارسني القرآن في كل رمضان)، إنه موسم هذا الكتاب العظيم، إنه موسم الآيات القرآنية التي فيها تقويم كل معوج، وسداد كل نقص، وصواب كل رأي، وهداية كل أمر، فكم نحن غافلون عن كتاب ربنا، مبتعدون عن نور آياته، مبتعدون عن أضواء هدايته، غافلون عن الخير الذي ساقه الله عز وجل لنا فيه! لقد جاءت مرة أخرى فرصة عظيمة ينبغي لكل مؤمن عاقل أن يستثمرها، وأن يستغلها، وأن يدرك عظمة الاختصاص في وجوه كثيرة قد ذكرنا بعضاً منها، وبعضها تحكيه روايات وأحاديث أخرى، ومنها حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب! منعته الطعام والشهوات في النهار، ويقول القرآن: أي رب! منعته النوم في الليل، فيشفعان فيه)، فما أعظم هذان الشفيعان الملتقيان في شهر رمضان، فنحن في شهر رمضان صائمون، ونحن في شهر رمضان للقرآن تالون، فنحن نجمع الشفاعتين معاً، ونزجيهما بين يدي الله سبحانه وتعالى أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، وأجود الأجودين، فإذا تعرضنا للرحمة نفحنا منها، وإذا تعرضنا لمغفرته أصابنا بها، وإذا تعرضنا لرضوانه أكرمنا الله جل وعلا به، فما بالنا مرة أخرى نقصر ونفرط؟ وفي حديث الترمذي من رواية النعمان بن سعد عن علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن في الجنة غرفاً ترى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها، فقال أعرابي: يا رسول الله! لمن هي؟)، أي: لمن هذه الغرف التي يصفها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وصفاً تشرئب إليه الأعناق، وتتوق إليه القلوب، وتتعلق به النفوس المؤمنة؟ (فقال صلى الله عليه وسلم: لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى لله بالليل والناس نيام)، وكلها في شهر الصيام، كلها في تفطير الصائمين، كلها في هذه الكلمات الطيبة التي نتحدث بها ونمسك فيها عن قول الباطل، قال صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، فإن سابه امرؤ أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم)، وكل هذه تتحقق في هذا الشهر، فكأنها أيضاً بشارة نبوية مصطفوية لمن يريد بلوغ تلك الغرف العالية التي وصفها المصطفى صلى الله عليه وسلم.
والأمر أوسع من ذلك، والأبواب مفضية إلى صلة الصيام بالقرآن، وإلى صلته بالجنان أكثر تنوعاً، وأعظم من أن يحيط بها حديث قصير في مثل هذا المقام، ولكننا أيضاً مرة أخرى نقول مذكرين: هل القرآن هو الآيات التي تتلى هذاً كهذ الشعر من غير تدبر ولا تذكر، ولا تأمل في المعاني، ومن غير التزام وامتثال وتطبيق للأوامر، ومن غير اجتناب ومباعدة ومفارقة للنواهي؟ وكيف يكون حالنا؟ وهل نريد أن يكون القرآن حجة علينا أم لنا؟ وما بالنا ونحن نقرأ آيات القرآن ونجد كثيراً من المفارقات بين ما يأمرنا به وبينما نفعله، وبينما ينهانا عنه وبينا نقترفه؟ إنها فرصة كذلك لنجعل المطابقة بينما جاء في الآيات التي تُتلى وبين الواقع الذي نعيشه، والعمل الذي نمارسه، والقول الذي نتلفظ به.
ولذلك فإن القرآن العظيم اليوم في واقع أمتنا يحتاج منا إلى قراءة بالقلوب، وتدبر بالعقول، يصطحبان معاً مع تلاوة الألسنة، وكم نحتاج أن نتلو الآيات وأن نختم الأجزاء! ولكن ينبغي أن نجعل لنا حظاً من التلاوة مخصوصاً بالتدبر والتأمل فيما هو حالنا وفيما عليه وما أمرتنا به آيات ربنا، فإنها فرصة تدبر عظيمة، فنحن نقرأ قول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، ثم لا تتحقق أخوتنا، وتتنافر قلوبنا، وتتقاطع صفوفنا، ونجد من أحوالنا نفرة وفرقة عجيبة لا يصح ولا يقبل أن تكون بين أهل إيمان وإسلام، وأهل صلاة وصيام، وأهل حج وعمرة، وأهل وحدة جامعة، ونحن نرى ما يحل اليوم في هذه الساعات وفي هذه الأوقات، وفي مفتتح هذا الشهر بإخواننا في أرض فلسطين، وإخواننا في أرض العراق! فأين نحن من الآيات التي تذكرنا بالوحدة؟! وأين نحن من الآيات التي توجب علينا النصرة؟! وأين نحن من الآيات التي تذكرنا بأننا أمة واحدة؟! وأين نحن من واجباتنا ليس في دائرة صغيرة ضيقة، بل في الدائرة الرحبة الواسعة مع بداية هذا الشهر، ومع بداية تلاوة القرآن، ومع بداية ختمة وافتتاح ختمة ينبغي أن نشعر وأن نتذكر وأن نتواصى بأن نجعل القرآن منهج حياة في كل صغيرة وكبيرة، فيما هو محيط بنا، وفيما هو بعيد عنا، فيما هو يخصنا كأفراد، وفيما يخصنا كأمة مسلمة كاملة.(155/5)
فرصة التخلص من الشهوات والمعاصي في شهر رمضان
مرحباً بشهر رمضان صارفاً عن الشهوات، وسائقاً إلى الطاعات، وتلك فرصة عظيمة أيضاً، فإن الشيطان الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم تضيق مجاريه بهذا الصوم، ولقد أرشد المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، كما جاء عند الترمذي من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شباب لا نقدر على شيء -أي: لا نملك ما نستطيع به أن نتزوج- فقال: يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، فمن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء).
إن الصوم علاج للشهوات المستعرة، وللنزوات الآثمة، إنه يقمع تلك الشهوات ويعالجها بعلاج مزدوج نافع، فإنه أولاً بهذا الصوم وترك الطعام والشراب يضعف انبعاث النفس إلى شهواتها، وميلها إلى رغباتها، ومن جهة أخرى فإن الطاعات ذكراً وتلاوة وإنفاقاً تفيض على القلب والنفس زكاة وطهارة تحول بينها وبين تلك المعاصي وحبها، وبين تلك الشهوات والشغف بها، وذلك أيضاً فضل عظيم، وموسم كريم ينبغي أن يُغتنم في ذلك، وأن يُحرص عليه، وألا يكون حالنا كحال كثير من المفرطين والمقصرين، فإنهم يعجزون عن الطاعات، ويتعلقون بالمعاصي والشهوات.
ولعلي وأنا أتحدث إليكم الآن يخطر لي خاطر في معركة كل عام يدخلها لا أقول: الآلاف بل مئات الآلاف والملايين من المسلمين ويهزمون فيها، بعضهم يهزم من اليوم الأول، وبعضهم قد يدوم إلى ثلث الشهر أو ثلثيه، ثم يصرع كثير منهم مع نهاية الشهر، والماثل منهم والأمثل من ينتصر في شهره ثم يهزم بعد ذلك، إنها معركة الدخان! فالذين يدخنون في كل شهر يعزمون أن يجعلوا من الصوم فرصة للتخلص من هذه الآفة المدمرة، ومع ذلك يعجب المرء عندما يترك بعض الناس السنة، فلا يفطر على تمرة، وإنما يفطر على سيجارة! كيف نفهم أن هذا الصائم عنده إرادة وصبر؟ وكيف ندرك أن شهواته تنقمع، وأن نزواته تُفطم؟ إننا لا نرى فيه إلا صورة من الضعف، كالمريض الهزيل تضربه ضربة فيسقط، ليس من قوة ضربتك، ولكن من ضعف بنيته، وكم هم الضعفاء المنهزمون المتخاذلون، الصرعى لشهواتهم، الأسرى لعاداتهم، الذين لا يستطيعون في هذا الشهر العظيم أن ينجحوا في مثل هذا الاختبار البسيط! فإنهم قطعاً سيكونون في غيره أكثر فشلاً، وأعظم إخفاقاً، وأكبر هزيمة، فمن يرضى لنفسه ذلك فهو وشأنه، والله عز وجل مطلع علينا، وعالم بما نحن عليه، فأي عزيمة كانت صادقة، وأي نية كانت خالصة، وأي عزيمة كانت ماضية، فإن وعد الله نافذ، قال عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، فمن فشل فليتهم نيته، وليعرف أنه يوجد بعض الخلل في قصده، وليدرك الخور الموجود في همته وعزيمته، وليعالج نفسه، فإن مرضه بذلك أعظم من مرض بدنه مهما كان شديداً أو قاسياً.(155/6)
أهمية الحذر من الإعلام الهابط في رمضان
فلنتدارك أنفسنا ونحن في أول شهرنا، وليكن ترحيبنا بهذا الموسم العظيم والفريضة الجليلة ترحيباً من أعماق القلوب والنفوس، يكون فيه من الجد والعزم والقوة ما لا يكون في غيره من صور الضعف والتراخي والانحلال، والكسل والنوم، واللغو واللهو، والسهر والعبث.
ونحن نعلم جميعاً أن القنوات والإعلام يكثر من سمومه وفتنه وشروره ولهوه وغيه وصرفه للناس عن الطاعات في هذا الشهر، سواء بالمسلسلات أو الرقاصات أو الأغنيات أو المسابقات، وكأنهم يقولون: دعوا الآيات، واتركوا المحاريب، واجتنبوا الصلوات، وانشغلوا في رمضان بغير ما أراد الله سبحانه وتعالى، وكل منا له عقل يدرك، ويعلم أنه سوف يحاسب بين يدي الله، فاختر لنفسك أخي المؤمن! الطريق الصائب، والنهج القويم، والمسلك الأحمد مع بداية هذا الشهر.
أسأل الله جل وعلا أن يوفقنا في هذا الشهر الكريم لصيامه وقيامه، وصالح الأعمال فيه، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الصائمين القائمين المخلصين المنفقين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(155/7)
ذكر بعض مواسم الخير في رمضان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أظلنا موسم التقوى، فاتقوا الله عباد الله! قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، هذا الموسم العظيم ليس فيما ذكرت من الأمور فحسب، بل فيما هو أكثر منها، فنحن نرحب برمضان؛ فإنه شهر ترك القطيعة والخصومات، والبدء في الوصل وحسن الصلات.
ورمضان شهر ترك البخل والشح، والإقبال على الجود والكرم، وشهر ترك السرف والترف والإقبال على الاقتصاد والعمل الجاد.
ورمضان شهر فيه تنوع بين ترك القبائح وأخذ المحامد، وذلك في أبواب وصور شتىً ينبغي أن نحرص عليها.
ومرة أخرى أشعر بأننا ونحن في هذا الشهر شهر الدعاء والتضرع لله عز وجل، وشهر الإنفاق وتفقد المحرومين، والإحسان إلى الفقراء، وتلمس أحوال المحتاجين، أشعر أننا بحاجة ملحة ونحن في أمن وأمان، وسلامة وإسلام، وسعة رزق ورغد عيش ألا ننسى من أول شهرنا إخواننا الذين يسامون سوء العذاب على يد اليهود عليهم لعائن الله في فلسطين، وعلى يد الأعداء المغتصبين في العراق، وفي كل قطر من أقطار الإسلام.
ينبغي ألا نجعل هذه الشهور وهذه المواسم مقتصرة على العبادات القاصرة من صلاتنا وكثرة تسبيحنا ودوام تلاوتنا وختمنا دون أن نشعر بأنها تحقق أخوتنا، وتجسد روح وحدتنا، وتذكرنا بالانتماء إلى أمتنا، وتعلق في رقبتنا واجب نصرة إخواننا، إنها مسائل مهمة، وإنها قضايا كثيرة، ولابد لنا من أن نعلم أن الاستكثار من الخير لا يحده حد، وأن الأخذ بالواجب لا يمكن قضاؤه وبلوغه، وأنه مهما عملنا فإن حق الله عز وجل أعظم علينا، وأنه مهما عملنا فإن الواجب تجاه أمتنا أكبر، وأنه مهما عملنا فإن رسالة ديننا ودعوتنا أبلغ وأشمل، ونحن في كل أحوالنا وعلى أحسن أحوالنا عندنا تقصير، فكيف ونحن نركن إلى دنيانا، ونكثر من نومنا، ويكون حالنا كحالنا في رمضان الذي قبله؟! إنها فرصة لعزيمة بدء قوية، ونحن في مفتتح هذا الشهر، ونحن في موسم تتضاعف فيه الخيرات وتتنزل الرحمات، فاسألوا الله عز وجل أن يقوي عزمنا جميعاً لحسن طاعته ومرضاته، والأخذ بما يحبه ويرضاه، ونحن من بعد ومن قبل معكم نفتح الأبواب؛ لكي يكون لنا جميعاً تعاون وأيدٍ ممتدة بالخير، فنحن في هذا الموسم العظيم وفي هذا المسجد المبارك نقدم فرصاً عظيمة؛ لكي ننتهزها جميعاً من أمور الخير والإنفاق في إفطار الصائمين وغيرهم، ومن أمور القرآن في حلقات خاصة للكبار من الرجال والنساء، ومن أمور المسابقات التي تزيدنا طاعة لله عز وجل، وهذه أبواب إن قصرت عن فعلها منفرداً فلمَ تقصر في فعلها مع بقية إخوانك؟! وإن لم تستطعها وحدك ولا تعرف كيف تبتدئها فما بالك تحجم عنها، وقد فتحت أبوابها ويسرت أسبابها؟! نسأل الله عز وجل لأمتنا في هذا الشهر نصراً وعزاً وتمكيناً، ونسأله جل وعلا أن يبدلها من بعد فرقتها وحدة، ومن بعد ضعفها قوة، ومن بعد ذلها عزة، ونسألك اللهم أن تجعل هذا الشهر الكريم شهر أمن وإيمان، وسلامة وإسلام، وخير وبركة، وبر وإحسان.
اللهم املأ قلوبنا فيه بالإيمان، واملأ نفوسنا بعزائم الخير يا رب العالمين! اللهم وفقنا لطاعتك ومرضاتك، وأنطق ألسنتنا بذكرك، واملأ قلوبنا بحبك، وسير أقدامنا إلى طاعتك، وأخضع جباهنا لعظمتك، وسخر جوارحنا لطاعتك، واستخدمنا في نصرة دينك، واجعلنا ستاراً لقدرك في نصر الإسلام والمسلمين.
اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، واجعلنا اللهم في هذا الشهر الكريم من المغفورة ذنوبهم المرحومين، واجعلنا اللهم فيه من عتقائك من النار يا رب العالمين! اللهم وفقنا فيه للطاعات، واصرف فيه عنا الشرور والسيئات، واغفر اللهم لنا فيه ما مضى وما هو آتٍ، برحمتك يا رب الأرض والسماوات! اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا.
اللهم وفقنا لطاعتك ومرضاتك، اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى.
اللهم أحسن خاتمتنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين.
اللهم من أرادنا أو أراد الإسلام بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا أو أراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، اللهم فرق كلمتهم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، اللهم اجعل بأسهم بينهم، ورد كيدهم في نحرهم، وأشغلهم في أنفسهم، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، اللهم لا تبلغهم غاية، ولا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، اللهم اشف فيهم صدور قوم مؤمنين، برحمتك وقوتك وعزتك يا رب العالمين! اللهم انصر إخواننا المجاهدين في أرض العراق وفي فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين! اللهم أفرغ في قلوبهم الصبر واليقين، وثبت أقدامهم في مواجهة المعتدين، اللهم وحد كلمتهم، وأعل رايتهم، وسدد رميتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! اللهم اجعل هذا الشهر الكريم عليهم شهر عز ونصر وتمكين، واجعله على أعدائهم شهر ذل وخذلان وهزيمة يا رب العالمين! اللهم ارحم إخواننا المستضعفين في أرض فلسطين، وفي كل مكان يا رب العالمين! اللهم إنهم حفاة فاحملهم، عراة فاكسهم، خائفون فأمنهم، جائعون فأطعمهم، مشردون فسكنهم، اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وابسط أمنهم، ووفر رزقهم يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتك فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وأخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(155/8)
تربية الأبناء
مسئولية تربية الأبناء والاعتناء بهم مسئولية عظيمة جداً، وقد بين الله أهميتها في القرآن العظيم، وحذر من التفريط فيها، كما راعاها النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً، فعلى المسلم أن يهتم بتربية النشء الذين هم عماد الأمة ومستقبلها الواعد، وتربيتهم التربية الصالحة سبب عظيم لرفعة الأمة وعزتها وقوتها.(156/1)
أهمية مسئولية تربية الأبناء ومكانتها وعظمتها
الحمد لله جلت قدرته، وظهرت حكمته، واتسعت رحمته، واشتدت نقمته، له الحمد سبحانه وتعالى، ما أوسع علمه! وما أعظم حلمه! وما أجل فضله! وما أكثر كرمه! نحمده سبحانه وتعالى على آلائه الجسيمة، ومننه العظيمة حمداً يليق بجلاله، وعظيم سلطانه، ويوافي فضله وإنعامه، وينيلنا رحمته ورضوانه، ويقينا سخطه وعذابه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أسمع به آذاناً صماً، وفتح به قلوباً غلفاً، وهدى به البصائر والأبصار، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! الأمانة المضيعة، والثروة المهدرة، تحتاج منا إلى مراجعة ومذاكرة، ومعاتبة ومحاسبة، وإلى إصلاح الخلل وتقويم الاعوجاج.
أبناؤنا فلذات أكبادنا، أطفالنا رجال مستقبلنا، شبابنا أمل أمتنا، سلف حديث لنا في الجمعة الماضية عن الوقت الممتد في هذه الإجازة، والإهدار لهذه الأوقات في كثير مما لا يجدي نفعاً، وقد يجلب ضرراً، ولقد وجدت بذلك صدى عند كثير من الإخوة، وقالوا: حدثنا عن مشكلاتنا، وخاطبنا في القضايا التي تحيط بنا، ومن أهمها وأجلها: مسئولية تربية الأبناء، ثروة أجيالنا القادمة، علّنا نستشعر هذه المسئولية، وندرك عظمتها، ونعرف ثقلها، ونعي أثرها ودورها في واقع حياتنا ومستقبل أمتنا.
هذا حديث أعلم أنه جليل واسع وعظيم لا يكفيه مثل هذا المقام، وحسبي اليوم أن أجتهد في الوصول إلى هدفين اثنين مهمين، أولهما: توضيح هذه المسئولية وعظمتها ومكانتها وأهميتها.
وثانيهما: البيان الإجمالي العام لآثارهما التي نعيشها ونلمسها ونراها بأعيننا.(156/2)
مكانة مسئولية تربية الأبناء في القرآن الكريم
هذه المسئولية مسئولية عظيمة جليلة، وهي في كتاب الله وفي هدي رسوله صلى الله عليه وسلم، وحسبنا هذه الومضات التي نريد أن نبين فيها اقتران الفرائض والواجبات التي يعرفها كل المسلمين مع هذه المهمة العظيمة في التربية، يقول عز وجل: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] هذه الآية في هذا الأمر العظيم والمهمة الجليلة، قال السيوطي في الإكليل تعليقاً على هذه الآية: إنه يجب على الإنسان أن يأمر أهله من زوجة وعبد وأمة وسائر عياله بتقوى الله والطاعة، وخصوصاً الصلاة.
وقال ابن علان الدمشقي في هذه الآية: أي: يأمر زوجته وأبناءه المميزين الذكور والإناث.
إن الأمر الرباني الذي حملنا أمانته كالإيمان والتوحيد وأداء الفرائض والعبادات، حملنا كذلك معه هذه المسئولية الجسيمة والأمانة العظيمة فيمن ولانا الله عز وجل أمرهم، وجعلنا سبباً لوجودهم، وسخرنا لكي نكون رعاة لهم، نغذوهم ونقوتهم، ونعينهم ونحدب عليهم ونحميهم، ويجب كذلك أن نعلمهم ونؤدبهم ونربيهم، فإن فرطنا فقد أخللنا بهذه الأمانة، وضيعنا هذه المسئولية، يقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6].
وهذا النداء الإيماني له عظمة كبيرة قال ابن مسعود: (إذا سمعت قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فارعها سمعك؛ فإنها إما أمر تؤمر به أو نهي تزجر عنه).
ومما قاله أهل التفسير في هذا النداء: إنه تلطف من الله سبحانه وتعالى بعباده، وتحبب إليهم بندائهم بأحسن أوصافهم وأجل خلالهم وهو إيمانهم به، وفي النداء كذلك أيضاً أمر مهم وهو استدعاء متطلب الإيمان وتبعته، فإن للإيمان أمانة ومسئولية، فكأن النداء يقول: إن مقتضى إيمانكم وحقيقته يترتب عليه التزام أمر الله وشرعه، واقتفاء هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقيام بالمهمة والأمانة التي كلفك الله عز وجل بها بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ} [التحريم:6]، وليست هذه وحدها مسئوليتكم، بل {وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (اعملوا بطاعة الله، واتقوا معاصي الله، ومروا أهلكم بذكر الله، ينجيكم الله من النار).
وقال مجاهد رحمه الله: اتقوا الله، وأوصوا أهليكم بتقوى الله.
وتوسع قتادة في بيان المعنى فقال رحمه الله: يأمرهم بطاعة الله، وينهاهم عن معصية الله، وأن يقوم عليهم بأمر الله ويأمرهم به ويساعدهم عليه، فإذا رأيت لله معصية ردعتهم عنها وزجرتهم عنها.
وأوجز البغوي ذلك مع ربطه بالعاقبة المهمة في الآخرة فقال: مروهم بالخير، وانهوهم عن الشر، وعلموهم وأدبوهم، والنتيجة والثمرة المهمة تقونهم بذلك النار.
من يريد أن يكون أبناؤه حطباً لجهنم؟! إذا فرط في تربيتهم وقصر في تعليمهم ولم يجتهد في تأديبهم، كان سبباً مباشراً في انحرافهم والعياذ بالله! وامض مع الآيات فإنك واجد فيها كثيراً من ذلك في الآداب والتربية قبل التكليف، وهي الأساس المهم والقاعدة الرئيسة والركن الركين الذي لا بد من العناية به، يقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور:58] الذين لم يبلغوا الحلم ليس عليهم تكليف، ما زال القلم مرفوعاً عنهم، ومع ذلك يعلمهم آباؤهم وأمهاتهم تلك الآداب، عند سن التمييز ومنذ نعومة الأظفار؛ لأن الآية بعد ذلك جاءت: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:59] عند ذلك صاروا أهل تكليف، وصارت المهمة في أعناقهم، والأمانة في رقابهم، أما قبل ذلك فما زالت الأمانة في رقابكم، والواجب منوطاً بكم، والمهمة معقودة عليكم، والله عز وجل قد ذكر من ذلك الكثير.(156/3)
مكانة مسئولية تربية الأبناء في سنة النبي عليه الصلاة والسلام وسيرته
نقف وقفات مع سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وأعظم المربين في تاريخ البشرية كلها، ففي سنته الكثير والكثير مما يلفت أنظارنا إلى هذه المهمة الجسيمة، وحسبنا ذلك النداء الشامل الذي فصل فيه النبي صلى الله عليه وسلم بعض التفصيل: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، -ثم ختم عليه الصلاة والسلام بالتأكيد مرة أخرى- ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) ألست تنفق على أبنائك وتأتيهم بالطعام والشراب والكساء؟ هل ترى أن أحداً مسئول عن ذلك غيرك؟ لكنك بعد ذلك تهبهم للشوارع أو للقنوات لتعلمهم وتربيهم، أو لأصحاب الشر والسوء ليفسدوا فطرهم ويسودوا قلوبهم ويحرفوا سلوكهم، هل تخليت عن هذه الأمانة وبقيت للطعام والشراب؟ هل جاء أبناؤك ليكونوا بالنسبة لك كالبهائم تعطيها علفها حتى تمضي وتتحرك دون أن تشعر بالأمانة العظمى وهي التربية على الإيمان، وتقويم السلوك، وتحسين الأخلاق وغير ذلك مما هو معلوم من أسس التربية؟! ورد في مسند أحمد وسنن أبي داود وغيرهما قوله عليه الصلاة والسلام: (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر) والسبع والعشر ليستا سن تكليف ووجوب، ولكنهما سن تمييز وتربية، من الذي يقوم بها؟ أنتم.
(مروا) أنتم، ينبغي ألا تنسوا ذلك وألا تغفلوا عنه، ما بالك تخرج إلى المسجد في الغلس لصلاة الفجر، وحولك من الأبناء والبنات من لم يستيقظوا لأداء عبادة الله والقيام بفريضة الله؟! تمضي مسبحاً وترجع محوقلاً وبينهما تكون ذاكراً وقارئاً ومصلياً، والأمانة التي فوق ظهرك قذفت بها وألقيتها، كأن لم يكن عليك من الله فيها أمر ولا تكليف ولا واجب، كأن لم يكن لك فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم هدي ولا توجيه ولا تعليم!! وهكذا نمضي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لنرى كيف يراعي الأمور الدقيقة؟! وكيف اعتنى بها ووجه إليها وربى عليها، حتى فيما هو دقيق خفي لا يكاد يعرفه أولئك الصغار من الأطفال؛ لأن صفحات قلوبهم بيضاء، كل كلمة تكتب فيها، كل سلوك ينطبع أثره فيها، فإن كان خيراً أورث الخير، وإن لم يكن في ذلك السن مدركاً وواعياً، لكنها آثار وبصمات ما تزال تترسخ في أعماق نفسه وسويداء قلبه، ما تزال تصبح من أسس فكره ورشد عقله، ثم إذا بها تنعكس على سلوكه وحسن أدبه.
فهذا الحسن بن علي رضي الله عنه ريحانة من ريحانات الجنة، حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صغير في سن دون التكليف بل ربما حتى لم يكن مميزاً، وقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم تمر من تمر الصدقة، فإذا بالصغير يمد يده ليأكل، فينهاه نبي الله صلى الله عليه وسلم نهياً رفيقاً خفيفاً: (كخ كخ، أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة؟) أي: أنت من آل البيت والصدقة تحرم عليك، والصغير لا يعرف ذلك، ولا يعرف تلك الأحكام، لكن الكبير المربي صلى الله عليه وسلم يريد من البدء في أول الأمر ألا يدخل إلى جوف ذلك الطفل الصغير إلا ما حل، وأن يكون هناك تقويم يرشد إلى التمييز من أول الأمر بين الخير والشر والحلال والحرام، يريد أن يغذي الفطرة النقية بنور التقى والهدى، وأساس الخلق القويم والأدب الجم.
وهكذا نراه عندما كان ابن أبي سلمة ربيباً في بيته وهو ابن أم سلمة أم المؤمنين، كان يأكل فتطيش يده في الصحفة، فيقول المربي العظيم: (يا غلام! سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك) حتى هذه الآداب يعلمها النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليبين أن المهمة ليست مقتصرة على المهم العظيم من الفرائض كالتوحيد وسائر العبادات، بل للآداب والأخلاق وما هو من المكملات مكانة عظيمة في حديثه صلى الله عليه وسلم وسيرته، فقد بين أن الأمانة مربوطة بأعناق الآباء والأمهات حيث قال: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ولم يقل: أو يمسلمانه؛ لأن الإسلام مغروس في فطرته، لكن كيف نغذيه؟! كيف ننميه؟! كيف نسقيه؛ لتنبت شجرته يانعة، وتكون ثماره ناضجة بإذن الله عز وجل؟! هذه ومضات، ونحن عندنا ما يكفينا لكي نؤسس تربية عظيمة كاملة منهجية قويمة؛ لأن عندنا النهج القويم، والهدى المستقيم في كتاب الله عز وجل: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:15 - 16] عندنا هذا ولا نبذله لأبنائنا، ولا نربيهم عليه، وعندنا من بعد ذلك الصورة المثالية الحية المتحركة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] وعندنا بعد ذلك أجيال عظيمة وقمم شامخة وقدوات سامية من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين والأئمة والعلماء، لنا رصيد عظيم، فما بالنا نتنكر له وننساه، ونبقى مع سقط المتاع وأراذل القوم من شرق وغرب؟! يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (من كان متأسياً فليتأس بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم).(156/4)
نعمة الأبناء وفضل تربيتهم
إذا أردنا أن نجد الصورة العظيمة في كتاب الله التي تعرفنا بهؤلاء الأبناء من هم؟ فقد ذكر الله عز وجل في مجمل الآيات صفات عظيمة نوردها إجمالاً، وفي التفصيل في ذلك ما يكون له أثر أكبر وأعظم، هؤلاء هم زينة الحياة، يقول عز وجل: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46].
وهم نعمة الله سبحانه وتعالى حتى كان من دعاء عباده المقربين قوله جل وعلا: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74].
وهم كذلك القوة التي منّ الله عز وجل بها علينا بقوله سبحانه: {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً} [الإسراء:6].
وهم من بعد ذلك المثوبة والأجر الممتد كما أخبر الحق عز وجل في دعاء الرسل والأنبياء، وفي كثير مما جاء في قصص القرآن يقول عز وجل حاكياً عنهم: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة:128]، {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم:40].
من يستشعر المسئولية ويرغب في المثوبة والأجر والذكر الممتد بعد وفاته فالطريق إليه هو تربية الأبناء وحسن تأديبهم؛ ليكونوا الأنموذج الذي يذكر بآبائهم وأمهاتهم، وليكونوا العمل الصالح المستمر من بعدهم، والدعاء الخاشع المتواصل لآبائهم وأمهاتهم، والأمر في ذلك يطول كما أخبرنا الله سبحانه وتعالى في آياته الكثيرة، ولعلنا ندرك بهذا أهمية الأمر وجسامة المسئولية فننتدب لها، ونهيئ أنفسنا لأدائها، كما نحرص على إيماننا وتوحيدنا، وكما نجتهد على أداء فرائضنا من صلاتنا وزكاتنا وحجنا وصومنا، كما نكون كذلك ينبغي أن نستشعر أن المهمة والأمر والواجب والمسئولية تجاه أولئك الأبناء والبنات، الذين نشكو اليوم من صور انحراف ما بين تفريط وإفراط، ومرد ذلك في كثير من الأحوال والأسباب إلينا نحن معاشر الآباء والأمهات.
اللهم إنا نسألك أن تصلح أزواجنا وذرياتنا، وأن تجعلهم صالحين، وأن تجعلنا وإياهم من الطائعين، وأن تحسن ختامنا أجمعين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(156/5)
الصور المنحرفة في تربية الأبناء وآثارها السيئة(156/6)
الصورة الأولى: الإضاعة والإهمال للأبناء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه.
إن من حق أبنائنا علينا حسن تربيتهم وتأديبهم، فإن هذه المهمة يقع فيها ثلاث صور من الانحراف: أولها وأعظمها خطراً: الإضاعة والإهمال، فبعض الآباء والأمهات تجد أن مهمة تربية الأبناء والاهتمام بهم، ليست ورادة في قائمة المهمات ولا مدرجة في سلسلة الواجبات لديهما، فالأب مشرق والأم مغربة، والأبناء يهيمون على وجوههم تتلقفهم شياطين الإنس قبل شياطين الجن، وإذا به بعد دهر طويل يشكو عقوق الأبناء، يقول فلا يسمع له، ويأمر فلا يستجاب له، ويزجر فلا يخشى منه، كما ذكر لي بعض الإخوة، يقول: ماذا أصنع؟ إنهم قد تمردوا عليّ، ولم يعد لي قدرة على توجيههم.
أقول: قد فرطت في البداية، وها أنت تجني الثمرة المرة في النهاية.
جاء رجل إلى الفاروق عمر رضي الله عنه يشكو عقوق ابنه فجاء به عمر وقرع الابن وذكره بحق أبيه ووجوب بره، فأصغى الفتى حتى انتهى عمر رضي الله عنه، فقال الابن له: يا أمير المؤمنين! أليس للابن حق على أبيه؟ فقال الفاروق: بلى، عليه أن ينتقي أمه، وأن يحسن اسمه، وأن يعلمه القرآن، قال: فإن أبي لم يفعل من ذلك شيئاً، فإن أمي زنجية ابنة مجوسي، وقد سماني جعلاً -أي: خنفساء-، ولم يعلمني من القرآن حرفاً، فالتفت الفاروق إلى الأب وقال: يا هذا! قد عققت ابنك قبل أن يعقك، وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك.
انظر أخي إلى الثمرة المرة تجد أن بذرتها كانت كذلك، فلا تفرط حتى لا تشكو وتندم حين لا ينفع الندم.(156/7)
الصورة الثانية: القدوة السيئة
يقول ابن القيم رحمه الله في الصورة الثانية من التربية التي يكون فيها الآباء والأمهات قدوات في ارتكاب المحرمات، ونماذج في التفريط بالواجبات: أكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء، وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوهم كباراً.
وقال في سياق هذه المعاني: يا أبتي! إنك عققتني صغيراً فعققتك كبيراً، وأضعتني وليداً فأضعتك شيخاً.
وهذه قضية مهمة؛ ولذلك نجد نوعاً من تربية الدلال والإغراق في موافقة ومسايرة الأبناء على ما يرغبون ويشتهون وهم في سن المراهقة أو الطفولة، وحولهم من البيئة ما يصرفهم عن الخير إلى الشر، وهذا يمد له في الغي مداً، هذا يعطيه ما يشاء في هذه الأبواب دون أن يلتفت إلى المخاطر والعواقب، فإذا به بعد ذلك يجني ابناً مدمناً للمخدرات، أو مقيماً على شرب المسكرات، أو والغاً في ارتكاب الجرائم والمحرمات؛ لأن هذه المقدمات أوصلت إلى تلك النهايات.
أما الأم فتجدها لا تلتزم الحجاب ولا تراعي الحياء ولا تعتني بالحشمة، ربما تشكو من بعد ذلك أن ابنتها قد وقعت في فاحشة، أو ألمت بجريمة من تلك الجرائم العظيمة، فتبكي وتصيح على الشرف المثلوم، والعرض المكلوم، والسمعة الضائعة، وما عرفت أنها كانت القائدة، وأنها كانت المرشدة الهادية إلى طريق الزيغ والانحراف، نسأل الله عز وجل السلامة.
وهذه المشكلات التي نراها في أسواقنا، أو نراها في شبابنا وفتياتنا في هذه الجوانب إنما هو غرس أولئك الآباء والأمهات، أو إضاعتهم لهم، فلا تحملوا مسئولية، ولا أدوا أمانة.(156/8)
الصورة الثالثة: التربية الغليظة عند تقويم الأبناء وتوجيههم
هذه صورة أخرى وهي: التربية العسكرية الغليظة الخشنة، لا يعرف أولئك الآباء أو تلك الأمهات إلا أساليب القهر والعنف والمنع والمصادرة، لا يظهرون من قلوبهم رحمة، ولا يبدون في أسلوبهم حكمة، فحينئذ يمكن أن نرى من الأبناء صوراً من صور الانحراف كالكذب والمخادعة والحيل والألاعيب، وربما نجد كذلك صوراً عظيمة أفظع من هذه وذلك عندما ينحرف الآباء والأمهات ويستقيم الأبناء بفضل من الله، فإذا بالأب يزجر ابنه عن الذهاب إلى المسجد، ويحذره ويتوعده إن التحق بحلق القرآن، وقد يضربه ويحاسبه أشد الحساب إذا انتقى الأخيار من الأصحاب، فأي شيء ينتج عن ذلك؟! إنها ردود الأفعال في غالب الأحوال، وإليكم قول مرب عظيم ورجل من رجالات التاريخ في العلوم الاجتماعية والإنسانية، إنه الإمام ابن خلدون في كلمات وجيزة يقول: من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين والخدم، غلب عليه القهر، وضاقت نفسه وذهب بنشاطها، وحملها على الكذب والخبث؛ خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليها، وعلم المكر والخديعة لذلك.
وبعض صور ما يطلق عليه اليوم بتجاوزات كثيرة وتفريطات عديدة تطرفاً أو غلواً، ربما كان منشؤه استقامة الأبناء واعوجاج الآباء، فرأوا من آبائهم ما ظنوا أنه مخالفة صريحة لكتاب الله وسنة رسول الله، وما يكون في هذه الأسرة قد يكون هو النموذج الموسع في المجتمع، فعندما نعنفهم، وعندما نحاربهم، وعندما نوبخهم، وعندما يكون مسلك الخير معيباً، وعندما يكون نهج الصلاح خطيراً، فأي شيء نرجو من بعد ذلك؟! التربية ينبغي أن يكون أساسها الرحمة، وأساسها التوجيه الحسن القيم، كما قال الحكيم الذي هو مضرب مثل في سياسة الأمم والشعوب فضلاً عن سياسة الأبناء والصغار معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه يصف الأبناء فيقول: هم ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة، وسماء ظليلة، فإن طلبوا فأعطهم، وإن غضبوا فأرضهم، فإنهم يمنحونك ودهم، ويحبونك جهدهم، ولا تكن عليهم ثقيلاً فيملوا حياتك، ويتمنوا مماتك.
وليس كلامه على إطلاقه، لكنه كان في معرض الرد على من كان لا يعرف رحمة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الرجل القاسي الشديد الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم يحمل ذلك الطفل الصغير ويقبله في رحمة غامرة، والأعرابي الغليظ ينظر متعجباً فقال: (أتقبلون أبناءكم؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنها رحمة، فقال الرجل: إن لي عشرة من الأولاد ما قبلت منهم واحداً قط- وربما نجد بعض الآباء وهم يفتخرون بذلك، ويرونه من أسباب قوتهم وهيبتهم- فقال عليه الصلاة والسلام: من لا يرحم لا يرحم) وفي حديث هذا الرجل أيضاً قال عليه الصلاة والسلام: (أو أملك إن نزع الله الرحمة من قلبك).
نسأل الله عز وجل أن يصلح أزواجنا وذرياتنا، وأن يجعلنا ممن يقومون ويعلمون ويؤدبون أبناءهم على منهج كتاب الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى.
اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة، في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد.
اللهم إنا نسألك أن ترفع كلمة الحق والدين، وأن تنكس رايات الكفرة والملحدين.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا يا أرحم الراحمين! اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في أرض فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين! اللهم ثبت خطوتهم، وسدد رميتهم، ووحد كلمتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمبعدين والمشردين والمعذبين، والجرحى والمرضى والمسجونين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم عجل فرجهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين برحمتك يا أرحم الراحمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام خصوصاً على أجلهم قدراً وأرفعهم ذكراً، ذوي المقام العلي والقدر الجلي أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(156/9)
التربية والتعليم
للتربية في الإسلام منزلة عظيمة ومكانة رفيعة، فهي تعني سلوك الإنسان وأخلاقه وتعامله مع غيره، وأهم مرحلة تغرس التربية في نفس المتربي هي مرحلة الطفولة، فمن الواجب الاعتناء بتربية الأولاد وتعليمهم، والحرص على متابعة تعديل سلوكهم وأخلاقهم، ولا يلقى الحمل على المدرسة وحدها، بل لابد من تعاون بين البيت والمدرسة؛ حتى يحصل المطلوب.(157/1)
أهمية التربية قبل التعليم
الحمد لله الكبير المتعال ذي العزة والجلال، الموصوف بصفات الكمال، له الحمد في الأولى والآخرة، وإليه المرجع والمآل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله للناس كافة، فأرشد به من بعد غواية، وكثّر به من بعد قلة، وأعز به من بعد ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جزى نبياً عن أمته، ووفقنا جميعاً لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! عند بداية العام الدراسي نتحدث عن العلم والتعليم، وحديثنا حقيقةً هو عن التربية والتعليم، وقد أشرت فيما مضى إلى أهمية العلم، واقترانه في منهج القرآن الكريم ودعوة صفوة الخلق أجمعين بالتزكية، وطهارة القلوب، وزكاة النفوس، واستقامة السلوك، ولعلنا هنا نؤكد هذه المعاني، ونوضحها ونجليها، ونحن نوجه حديثنا إلى المعلمين والمعلمات والمسئولين والمسئولات في وزارة التربية والتعليم؛ لأننا ندفع إليهم فلذات أكبادنا، ويقضون في أروقة المدارس والمعاهد في وقت قد يكون أكثر من الوقت الذي يقضونه معنا.
ونحن نريد أن يعلموهم العلوم المختلفة، وأن يسلحوهم بسلاح العلم في هذا العصر، لكنني أوقن أننا جميعاً نعنى كذلك بالقدر نفسه بتربيتهم، وبتزكيتهم، وبتقويم سلوكهم، وبحسن أخلاقهم.
ونحن نعول على تلك المدارس وعلى أولئك المعلمين والمعلمات أن يساعدونا معاشر الآباء والأمهات في صياغة شخصية أبنائنا، وإخراجهم إلى هذا المجتمع أسوياء، أتقياء، أنقياء، بعيدين عن طرفي التشدد والتسيب، بعيدين عن سلوك منحرف وخلق معوج.
ولا شك أننا عندما نجد في المعلم أو في المدرسة عناية بهذا الجانب نفرح به ونسعد، ونهش به ونستعد لأن نكمل دورنا ونقوم به، وإن وجدنا غير ذلك وجدنا المعاناة إذا نحن نقوم ونوجه، وربما لا نجد تعضيداً وتكاملاً من جهة المدرسة أو المعلم والمعلمة.
هذا الاسم: التربية والتعليم فيه تقديم التربية لبيان أهميتها، ومكانتها، ومنزلتها، بل وعظمتها وخطورتها، وإن عدم العناية بذلك الجانب لا يؤدي إلى المقاصد العظيمة التي ننشدها جميعاً لأبنائنا الذين هم أبناء اليوم وشباب الغد، ورجال المستقبل، وكلنا يدرك أن ذلك أيضاً لا يحقق الأهداف المنصوص عليها في سياسة التعليم، والتي تؤكد على صياغة الشخصية المؤمنة المسلمة، والتي تبرز أهمية السلوك والأخلاق في حياة الطلاب، ونحن ندرك ذلك، فنحن نعرف أن العلم معلومات ومهارات ووسائل واختبارات، لكن التربية هي نضج الفكر، واستقرار النفس، وحسن السلوك، فلا شك أن هذا له من العظمة ما لا يخفى.(157/2)
الترابط بين التربية والتعليم
لابد أن ندرك الترابط الوثيق بين التربية والتعليم، والتعليم والتربية، فإن التربية هي غاية التعليم، وإن التعليم هو وسيلة التربية؛ فلن يتربى من لم يتعلم، فكيف يستقيم سلوكه إذا لم يعرف فضل هذا السلوك الحسن، وذم ذلك السلوك السيئ، ونحو ذلك؟! وانتبهوا وتأملوا فيما جاء في كتاب الله عز وجل في الحظ والحث على العلم، إنه توجيه إلى العلم والمعرفة في الأمور الأساسية الكلية العقدية التصورية التي تغرس في القلب والنفس من المفاهيم والتوجهات ما هو كفيل باستقامة السلوك، وانتظام الأحوال، وربط الإنسان بين دنياه وأخراه، بين ما يعمله على هذه الحياة الدنيا، وما يعمله في تلك الحياة الأخرى، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:194] أي: اعلموا علم معرفة بمعية الله وتأييده وتسديده لمن يستقيم ويخشاه ويعمل بأوامره ويجتنب نواهيه، وهذا علم مؤثر في القلب، ومحرك للنفس، وصائغ للسلوك، ومقوم للفكر، إنها معلومات ذات ترجمة عملية، قال عز وجل: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105].
وانتبه إلى كثرة الآيات العاضدة لهذا المعنى كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة:196] أي: اعلموا حقيقة علمية معرفية أن من صفات الله عز وجل شدة عقابه، لكنها ليس مرادة لتكون معلومة تحفظ ولا معرفةً تعرف، وإنما لتكون تأثيراً في كل شيء في الإنسان قلباً وروحاً ونفساً وفكراً وسلوكاً ومعاملة، وتلك هي الثمرة الحقيقية.
قال عز وجل: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة:223] تأمل هذا الربط الدائم بين التقوى والعلم! وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282] إنها حقيقة كل أهل الإيمان والإسلام يعرفونها، لكن التفاوت بينهم هو في مدى استقرارها في قلوبهم، وفي مدى تأثيرها في سلوكهم، وفي مدى توجيهها لأفكارهم.
قال تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة:223] أي: حتى يكون ذلك حافزاً لعملهم وإقبالهم على ربهم، وانتهاجهم للسبيل والطريق الموصل إلى رضاه، وذلكم هو ما ينبغي أن نتنبه له.
وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:233]، وقال سبحانه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:231]، يجب أن نعلم ذلك؛ ليستقر في قلوبنا اطلاعه علينا، ومراقبتنا له، وحياؤنا منه، وصدق توكلنا عليه، وعظمة إنابتنا إليه، إنها معرفة محركة، إنه علم مربٍ، إنه تغيير حقيقي يتناول الإنسان في أعماق نفسه وقلبه، وفكره وعقله، وسلوكه وعمله، ولو مضينا لوجدنا من ذلك كثيراً، ولقد ترجم الإمام البخاري في صحيحه في كتاب العلم ترجمةًَ مهمة فقال: باب العلم قبل العمل؛ ترجم بهذا ليدل على أهمية العلم قبل العمل، وليدل على أن غاية العلم إنما هو العمل، واستشهد بقوله سبحانه وتعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد:19]، فقوله: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)، هذا العلم وتلك المعرفة هي بداية الطريق، ثم ينتج عنها السلوك، وينتج عنها العمل: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)، وتستقر حقائق الإيمان مؤثرة مغيرة في الواقع: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ).
وإذا نظرنا وجدنا ما يقابل ذلك، وجدنا كيف يكون حال العلم إن لم يورث سلوكاً مستقيماً وخلقاً قويماً، فأي شيء ينفع؟ إنه حينئذ يكون حجة على المرء وليس له، ويكون إثماً وليس أجراً؛ لأن العلم حجة على من علم؛ ولأن العلم إذا لم يخلص إلى النفس والقلب ويؤثر فيهما فإنه يكون عوناً لصاحبه -والعياذ بالله- على تسويغ المنكرات، وتحليل المحرمات، وتضليل الناس، والتلبيس عليهم بالشبهات؛ ولذا كانت فتنة العالم غير العامل عظيمةً في واقع الناس، ومن هنا حذر النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم وبين حين قال: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا قبض العلماء اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا).
وتنبه إلى هذا الجانب في النداءات والآيات القرآنية! قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27] أي: كيف تقع منكم هذه الخيانة، مع علمكم بوحدانية الله، وحسن أسمائه، وكمال صفاته، وعظمته جل وعلا؟! وكيف يكون ذلك منكم وأنتم تؤمنون وتصدقون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وتعرفون فضائله وشمائله عليه الصلاة والسلام، وتعلمون أوامره ونواهيه وهديه صلى الله عليه وسلم؟! وقوله تعالى: (وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، أي: تعلمون ما كلفكم الله به، وتدركون وتوقنون ما هو الواجب المناط بكم، والأمانة المربوطة في أعناقكم، فكيف تكون حينئذ خيانتكم؟ وكيف يكون انحرافكم بعد علمكم؟ وأي شيء أقبح من هذا؟ وأي أمر تكون فيه الحجة أعظم من مثل هذا الصنيع؟ فهل نريد نحن لأنفسنا فضلاً عن أبنائنا في المعاهد والمدارس أن يعلموا علماً، ويكون سلوكهم مخالفاً له؟ أتدركون ما معنى هذا وما أثره؟ إن معناه: ألا يكون في قلوبهم توقير ولا تعظيم للأوامر والنواهي الربانية والنبوية، ومن باب أولى ألا يكون هناك تعظيم ولا توقير للأوامر والنواهي والتوجيهات الأبوية في البيوت.(157/3)
أثر مخالفة السلوك للعلم
إن أثر مخالفة السلوك للعلم أن القلوب -والعياذ بالله- قد تصاب بالعمى، ولا يؤثر فيها بعد ذلك وعظ ولا أمر ولا نهي، إن معنى ذلك أن النفس تتطبع على أن تعلم الحق وتجحده، وتعرف الخير وتخالفه، وذلك فيه فساد للفطرة، وزيغ في العقل، ونموذج سيء للسلوك، وكم نعاني نحن من ذلك في واقعنا الشخصي! وفي حال أبنائنا وشبابنا! وهل نريد بعد ذلك أن نقصر دور المدارس على المعارف والعلوم دون الأخلاق والسلوك، ودون التربية والتزكية؟! قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9] أي: أن العلم هو الذي يحثكم ويحرككم، والعلم بالأجر والثواب هو الذي يرغبكم ويقبل بكم، والعلم بأثر المخالفة وما يترتب عليها من الإثم والعقاب هو الذي يحجزكم ويمنعكم، والعلم بعظمة الله والحياء ومنه والمراقبة له سبحانه وتعالى هو الذي يقوّم سلوككم، إنها قضايا مترابطة؛ ولذلك كان هذا هو هدي وتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم.
وكلنا يحفظ ذلك الحديث المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان رديف المصطفى صلى الله عليه وسلم فالتفت إليه في كلمات حانية وتوجيهات مربية قائلاً: (يا غلام! إني أعلمك كلمات) إنه لم يرد عليه الصلاة والسلام ذلك التعليم الذي ينتهي أمره إلى الحفظ، ومآله إلى الكتابة في الاختبار، ومصيره إلى الكتب التي تلقى في صناديق النفايات، ولكنه أراد أن يحفظها في قلبه، وفي نفسه، وفي سلوكه، وفي كل جوانب حياته وتعاملاته.
ونحن نعلم تلك الوصية العظيمة، وذلك التوجيه والتعليم النبوي الإيماني التربوي الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) وذكر الوصايا العظيمة المعروفة.(157/4)
أثر العلم في السلوك والتربية
تأملوا هذا الحديث الذي يبين لنا فيه النبي صلى الله عليه وسلم أثر العلم في السلوك والتربية، وأنها غايته، وأنه وسيلتها في الوقت نفسه، قال صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الطرقات تجأرون إلى الله بالشكوى)، فلو علمنا ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم من أمر الدنيا والآخرة، ومن أمر عظمة الله عز وجل، وما أنعم به على الخلق، وما وعدهم به من الثواب والنعيم وغير ذلك، لكان الحال غير الحال.
إذاً: العلم أثره في السلوك عظيم، فكيف نجد من يضحك ملء شدقيه، ويأكل ملء ماضغيه، وينام ملء جفنيه، ويلهو ويلعب، ثم نقول: إنه عالم؟! فأين أثر علمه بأنه إنما يعيش في دار ممر لا مقر؟! وأين أثر علمه بأنه غريب عن هذه الحياة يوشك أن يرتحل؟! وأين أثر علمه بأن مآله إلى موت وقبر وظلمة ووحشة؟! وأين أثر علمه بأن بعد ذلك بعثاً وحشراً ونشوراً وحساباً وثواباً وعقاباً؟! إن العلم الحق هو الذي يستقر في القلب ويوجه الإنسان في كل جوانب حياته، وفي كل مكوناته من عقله وفكره وكلامه وجوارحه، وذلكم هو ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم، وذلكم هو ما كان يحذر منه ويدعو بالبعد عنه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها) رواه مسلم في صحيحه.
فعلينا أن نتأمل هذا الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسأل الله عز وجل الوقاية من كل ما لا يثمر ثمرةً محمودة، ولا يؤدي إلى أثر إيجابي.
وقد ضرب الله مثلاً لمن لم يعمل فقال: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:5]، وقال: {كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ} [الأعراف:176]، فمن هو الذي يريد أن يكون في موضع هذا المثل؟ نسأل الله عز وجل السلامة من ذلك، ونسأل الله لأبنائنا وبناتنا ومعلمينا ومعلماتنا ومسئولينا ومسئولاتنا أن يراعوا ذلك، وأن يتقوا الله في الأمانة التي في أعناقهم، إنها أمانة التربية قبل التعليم، فالتعليم يؤدي إلى تربية، والتربية مصدرها ومبناها هو جزء من أساسياتها في ذلك التعليم، وليس في التعليم الذي هو متعلق بكتاب الله أو بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسب، بل كل العلوم قائدة إلى تعميق الإيمان وترسيخ اليقين، وكل العلوم فيها لفتات وتوجيهات وإرشادات ودلالات على عظمة الخالق وعلى عظمة ما جاء به منهجه وتشريعه، ألسنا اليوم نعلم ما هو معلوم من الإعجاز العلمي في كتاب الله وسنة رسوله؟! ألسنا ندرك أن عظمة الخلق التي ندرسها في الفيزياء أو الكيمياء أو الأحياء إنما هي شواهد على عظمة الخالق وعلى دقة خلقه جل وعلا، وعظمة ذلك؟ أليس جديراً بنا أن نلفت نظر أبنائنا وبناتنا إلى ذلك؟ أليس من المطلوب أن نستل من ذلك ما فيه ومضات إيمان وإشراقات أخلاق وإرشادات سريعة عظيمة مؤثرة بليغة؟(157/5)
أمور ينبغي توافرها في المعلمين
إن التربية في أصل معناها: الملك والسيادة، كقولك: رب الدار، أي: مالكها، ومن معانيها التنمية والزيادة كقولك: ربى المال، إذا نماه وزاده.
ومن هنا فإن مهمة معلمينا ومعلماتنا لأبنائنا وبناتنا أن يدركوا ذلك، ولابد لهم من أمور: الأمر الأول: أن يكونوا متفوقين على طلابهم ليس في العلم فحسب، بل في العلم والسلوك والأخلاق؛ لأنه لا يمكن أن يعطوا علماً ما لم يكونوا عالمين، ولا سلوكاً ولا خلقاً ما لم يكونوا مستقيمين.
الأمر الثاني: العناية بالزيادة والتنمية للعلم والمهارة والمعرفة.
الأمر الثالث: الحماية والوقاية من كل ما يناقض ذلك ويعارضه، فذلكم هو جوهر التربية، وذلكم هو جوهر المنهج القرآني والرباني.(157/6)
صعوبة مهمة التربية
مهمة التربية ليست سهلة، فمهمة التعليم أو التعريف قد يكون فيها سهولة، فجدول الضرب قد يُحفظ، ومعادلة الفيزياء قد تُشرح، لكن تهذيب النفس وتقويم السلوك وتوجيه الفكر ليس أمراً سهلاً، إنها مهمة صعبة، لا نقول ذلك لنصد عنها، بل لندعو إلى الاستعداد التام لها، والتأهل اللازم لها، فكما نؤهل المعلمين والمعلمات في تخصصاتهم الدقيقة، ومعارفهم وعلومهم، فنحن نعلم جميعاً أن كليات المعلمين وكليات التربية تدرِّس إلى جانب الفيزيا والكيمياء التربية، وتدرِّس نفسية الطفل، وتدرِّس أساليب التقويم؛ لأن هذا جزء مهم.
فلماذا ندرسهم ذلك ثم نقول لهم: لا تتكلموا إلا في الفيزياء، ولا تتحدثوا إلا عن الكيمياء؟ فهم لا يدرسون في جامعاتهم هذه المواد إلا ليكون لها انعكاس وأثر في حسن معاملتهم لطلابهم.(157/7)
صفة النفس البشرية
إن النفس أمرها عجيب! فالنفس البشرية من أعظم المخلوقات التي جعلها الله عز وجل في كفة، والمخلوقات كلها في كفة أخرى؛ لبيان عظمتها، وعظمة خلق الله عز وجل لها، قال عز وجل: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت:53]، ففي كل الآفاق آيات، وفي النفس البشرية وحدها آيات كأنما تعدل تلك لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وقال عز وجل: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21]، فبعد أن ذكر الله عز وجل السماوات والأرض ذكر النفس البشرية العجيبة في تقلباتها وتغيراتها العجيبة عندما تتهذب وتتطهر كيف تقود إلى السمو الأخلاقي والمعاني الإنسانية، وإذا كانت على غير ذلك كيف تقود إلى كل سوء من الشحناء والبغضاء والظلم والاعتداء وغير ذلك.
وهنا صورة يرسمها بعض العلماء في مقالة طويلة أذكر بعض ومضات منها، يقول ابن القيم في صفة هذه النفس، واحتمالها لما أشارت إليه دلالات الآيات القرآنية للخير والشر، قال في قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:7 - 8]: (في النفس كبر إبليس، وحسد قابيل، وعتو عاد، وطغيان ثمود، وحيل أصحاب السبت) ثم يذكر صوراً كثيرة يضيق المقام عن ذكرها، ثم شبه النفس ببعض صفات موجودة في البهائم، فقال: (وفيها من البهائم: حرص الغراب، ورعونة الطاووس، ودناءة الجعل، وحقد الجمل، ومكر الثعلب) إلى غير ذلك مما أورده، ثم قال: (فمن استرسل مع طبعه فإنه من هذا الجند، ولا تصلح سلعته لعقد: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة:111].
فما اشترى الله إلا نفساً هذبها الإيمان، وخرجت إلى بلد العابدين والتائبين، وذلك أمر مهم، كما ذكر ذلك ابن القيم أيضاً فقال: كيف يسلم من له زوجة لا ترحمه؟ وولد لا يعذره؟ وصاحب لا ينصحه؟ وعدو لا ينصفه؟ وجار لا يأمنه؟ وشريك لا ينصفه؟ وعدو لا ينام عن عداوته؟ ونفس أمارة بالسوء؟ ودنيا متزينة؟ وهوىً مرد؟ وشهوة غالبة له؟ وغضب قاهر؟ وضعف مستول عليه؟).
وكل هذا موجود: النفس والهوى والشيطان، ثم نحن اليوم قد ابتلينا ببلايا عظيمة جاءتنا من هذه القنوات الفضائية والمقالات الإباحية والسلوكيات الانحرافية والضلالات العالمية التي أصبحت تغزو الناس في عقر بيوتهم، وبعد ذلك كله نقول: إن أمر التربية هين! وإن أمر العناية بها ليس في الدرجة الأولى! أو يقول بعض الناس: إنه ينبغي ألا نخوض فيها وألا نتعرض لها! إن الأمر جد خطير، نسأل عز وجل أن يزكي نفوسنا، وأن يطهر قلوبنا، وأن يرشد عقولنا، وأن يهذب سلوكنا، وأن يصلح أعمالنا.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(157/8)
أهمية التواصل بين البيت والمدرسة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن أمر التربية والتعليم لأمر مهم يخصنا جميعاً، ويعنينا جميعاً؛ ولذا لابد أن نعتني به، ولابد أن نذهب إلى مدارس أبنائنا؛ لنحدث المعلمين والمدراء، ونطلب منهم أن يُعنوا بهذا الجانب تأكيداً وتعاوناً واشتراكاً بين المدرسة والبيت، فإن ثمرة ذلك استقامة الشباب والتضييق على الانحراف والشذوذ والخلل الذي قد يتسرب إلى عقولهم وأفكارهم، ثم يظهر في سلوكهم وأحوالهم، فلا بد أن نُعنى بذلك، وأن نخاطب به من يباشر هذه المهام، وأن نكتب عن ذلك، وأن نتحدث عنه؛ لأنه يمثل محوراً أساسياً جوهرياً.(157/9)
أثر التعليم في الأمم والمجتمعات
كلنا يعلم أن التعليم له الأثر البالغ في كل أمة ومجتمع؛ ولذلك كان فيما مضى وإلى اليوم والناس كلهم كل معتدل وعادٍ يعلمون أن التغيير يبدأ بالتعليم، الشيوعية الهالكة كان أول عنايتها إذا دخلت بلاد محتلة مغتصبة، أو جاءت عبر أتباع لها ممن يتبنون أفكارها، فإن أول ما يعملونه هو تغيير مناهج التعليم؛ لأنهم يريدون أن ينشئوا الجيل الجديد على ما لديهم من الفكر والسلوك والتصور؛ لأن هذا هو الذي يغرس في الصغار ابتداءً، وفي الكبار ترسيخاً، وفي واقع الحياة ممارسة؛ ولذلك شنت الحملة على هذه المملكة في الزمن القريب وفيما يأتي وإلى يوم الناس هذا؛ لأن سياستها التعليمية سياسة مبنية على إيمان وإسلام وخلق وتقويم؛ ولأنها تدرك أن إخراج الإنسان المؤمن المسلم الذي يمثل إسلامه في فكره توسطاً واعتدلاً، وفي سلوكه خلقاً وسمواً، وفي معاملته حسناً وإحساناً هو الهدف الأسمى لذلك التعليم؛ ولأن مناهج العلوم الإسلامية، بل وحتى العلوم العصرية ليست خالية من اللمسات الإيمانية، والتذكير بعظمة الخالق سبحانه وتعالى، ولذا فإن الهجوم عليها إنما هو لذلك، فما أحرانا أن نواجه هذا الهجوم على أقل تقدير بأن نحافظ على ذلك، وأن نحرص عليه؛ لأنه ما هاجمه أعداؤنا إلا لأنه من أسرار قوتنا، وإلا لأنه من أسباب تماسكنا؛ ولذلك نحن ندرك أن عدونا إنما يريد مضرتنا، فعلينا أن ندرك هذا، وأما ما نحتاج إليه مما يزيد في علم أبنائنا، ويطور في طرائق تعليمنا، ويحسن في وسائل أدائنا فذلك من البدهي الذي لا يحتاج إلى تذكير ولا إلى تطويل في القول.
ومن هنا فإننا نأمل من كل أحد من خلال وسائل الإعلام، ومن خلال مناهج التعليم، ومن خلال أدوار المدراء والمعلمين، ومن خلال دور معاشر أولياء الأمور من الآباء والأمهات، ومن خلال كل هذا المجتمع أن نؤكد على أهمية التعليم، وأهمية التزود به واتخاذه سلاحاً من أسلحة القوة ومن أسلحة العصر، وقبل ذلك ومعه وبعده التركيز على أهمية التربية والتزكية والتقويم السلوكي والفكري والنفسي الذي له ثماره الحميدة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يمن علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والهداية والاستقامة.
اللهم طهر قلوبنا، وزك نفوسنا، وأرشد عقولنا، وحسن أقوالنا، وأصلح أعمالنا، وأخلص نياتنا، وارفع درجاتنا، وضاعف أجورنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وأقل عثراتنا، وامح سيئاتنا، وارفع درجاتنا برحمتك يا أرحم الرحمين! اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، وألهمنا رشدنا، وأعذنا من شرور أنفسنا، ووفقنا لطاعتك ومرضاتك يا رب العالمين! اللهم خذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم.
اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه.
اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، وأحصهم اللهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، وأرنا فيهم -يا رب- عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، وزلزل اللهم الأرض تحت أقدامهم، واقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، اللهم استأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، وخالف كلمتهم، واجعل بأسهم بينهم، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي! يا عزيز! يا متين! اللهم اشف فيهم صدور قوم مؤمنين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم أقر أعيننا بنصر الإسلام والمسلمين في كل مكان يا رب العالمين! واجعل الدائرة على البغاة الظلمة المعتدين يا قوي! يا عزيز! يا متين! اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين! اللهم سكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، عراة فاكسهم، خائفون فأمنهم، مشردون فسكنهم، اللهم منّ علينا وعليهم بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام يا رب العالمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! وانصر اللهم عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابةً لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا عن الصحابة الكرام، وأخص منهم بالذكر ذوي العلي والمقام الجلي، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
اللهم صل وسلم وبارك على نبيك محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(157/10)
طوائف ومواقف
المواجهات والتحديات والهجمات على هذه الأمة كثيرة جداً، وبأشكال مختلفة، ولذلك فقد أصبحت الأمة لقمة سائغة لأعداء الإسلام، فأرضها تغتصب، وأموالها تنتهب، وأعراضها تنتهك، ومقدساتها تدنس، وعقولها وأفكارها تغرب، فيجب على كل مسلم أن يبذل ما بوسعه لصد هذا الغزو، ودحر أعداء هذه الأمة.(158/1)
وجوب معرفة الحق واتباعه
الحمد لله لا إله غيره، ولا رب سواه، لا يضل من استهداه، ولا يخيب من رجاه، ولا يحرم من استعطاه، له الحمد جل وعلا، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، له الخلق والأمر، وبيده ملكوت كل شيء، وهو على كل شيء قدير، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى، ومنار التقى، أسمع الله به آذاناً غلفاً، وأحيا به قلوباً ميتة، وزادنا فيه وبه وببعثته هدى من بعد ضلالة، ورشداً من بعد غي، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! طوائف ومواقف شتى نراها من أهل الإسلام في مختلف البقاع، وكذلكم مواقف وطوائف من أهل الكفر والعدوان ومن أهل النفاق والممالأة، والله جل وعلا بين الحق من الباطل والخير من الشر، كما قال سبحانه: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3]، وقال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]، وقال: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات)، ثم بين عليه الصلاة والسلام المسلك الذي يختاره كل أحد لنفسه، فمن منتهك للحرمات ومرتكب للمحرمات، ومن ملابس للشبهات وواقع في دوائرها، ومن مستبرئ لدينه متقٍ لربه.
وفي هذه الأزمان التي تختلط فيها الأمور حيرة في العقول واضطراباً في الأفكار وميلاً في الأهواء وزيغاً في المواقف ينبغي للمؤمن أن يمحص الأمر، فيعرف الحق ليتبعه ويستمسك به ولو كان مراً، ويعرف الباطل ليعتزله وينأى عنه ولو كان حلواً؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من دعائه: (اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه)، ومن نعمة الله علينا أن جعل لنا من كتاب ربنا وهدي رسولنا صلى الله عليه وسلم ما نكشف به كل زيف، وما ندحض به كل شبهة، وما ننير به كل ظلمة، وما نعرف به كل ملتبس من الأمور، ولكنها أهواء النفوس، ولكنه ضعف الهمم والعزائم، ولكنه الركون إلى الدنيا وزينتها، ولكنه الخوف من قوى الأرض ومن طغاتها وجباريها، ولكنه ولكنه ولكنه أسباب كثيرة مختلفة.
أيها المسلم! لك قلب مؤمن ونفس مسلمة، ولك عقل راجح وفكر متزن، ولك يقين بأن وراء هذه الحياة حياة أخرى، فاختر لنفسك ما فيه فلاح دنياك ونجاة أخراك، واعلم أن كلما يزين لك، وكلما تشجع عليه، وكلما قد تلجئك الأحداث إليه ما لم يكن عليه بينة من كتاب وسنة، وما لم يكن هو النهج الذي تمسك به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، واعتصم به سلف الأمة، وجدده المؤمنون الأبطال الأشراف عبر تاريخ الأمة إلى يومنا هذا؛ فلا تركن إليه، ولا تمل إليه، ولا تستعذب عاجلاً يكون وراءه آجل عظيم الخطر، شديد الضرر.(158/2)
خطر الموج الإعلامي المفسد للمجتمعات الإسلامية
هذه طوائف ومواقف أستعرضها لكم، وأنتم تعرفونها؛ غير أني أريد أن أبين اختراق الناس في الأوقات العصيبة والمحن المزلزلة والفتن الملتبسة؛ ليكون لنا موقف ونهج نستعين فيه بالله جل وعلا أولاً وآخراً، ونلتجئ فيه إلى المنهج المعصوم من كتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، من هذه المواقف: أولاً: كاتب يصف طائفة بمواقفها، ويتخيل أنه يكتب ذلك بعد خمسين عاماً، وكأنه يروي لابنه ما سيسرده له في زمن قادم، ويصف حال طائفة من واقع الأمة، وعلى الطرف الآخر كان فريق من بني العرب يواصلون الغناء الفج والرقص الرخيص ليلاً ونهاراً، وكانت جثث العرب التي تنهشها الكلاب تملأ الصفحات والقنوات، وكانت نساء العرب تبكي وتنتحب في بغداد والقدس وغيرها فيما يسهر القوم حتى الصباح لمتابعة امرأة، ثم ذكر أسماءً أعف لساني عن أن أذكرها من الغانيات الفاسقات، ثم قال: لقد جاءوا بهن، وجردوهن من معظم ملابسهن، وأطلقوهن علينا صباح مساء، وكأنهم يحتفون بالدم العربي على طريقتهم، كان الأبناء مثلك في هذا الوقت -يعني: هذا الوقت الحاضر- يخرجون للهتاف لزعيم للفضاء، ويعني: الذين فازوا في برامج الفضاء النجومية، وذكر أسماءهم، ثم قال: كان مجرد ظهور راقصة عارية في فلم عربي يثير الاستياء، أما في هذا الزمن الذي أحدثك عنه فالعري بات سمة للمطربين والمطربات، كنا نحاول أن نمسك أو نتمسك بقيمنا العربية الأصيلة لكن الموج كان عالياً، والعدوان عاتياً، والحصار محكماً، وشيئاً فشيئاً تعودنا على الخلاعة، وأصبح كل من يكتب منتقداً هذا المسح أو المسخ الأخلاقي ساذجاً ومتخلفاً مثل أبيك، أي بني! معذور في سخطك علي، ثم ذكر حال طائفة، ذكر ذلك في إيحاءات وإشارات، ولكني أنقل ومضات قليلة من فيض كثير يصور واقعاً عملياً لمثل هذه الفئات، فهذه عاصمة كبرى لدولة عربية عظمى، يزورها مغنٍ أمريكي يأتي بطائرة خاصة، يحرسه أربعمائة شرطي، وألفي رجل أمن خاص، ويرافقه مائة وعشرون من المرافقين! ومعه نحو أربعين طناً من المعدات الصوتية والغنائية! وترافقه خطيبته، وهناك أربعة عشر ألف تذكرة طبعت، قيمة الواحدة منها تتراوح ما بين خمسمائة إلى ألف من عملة تلك البلاد! والعجيب أن هناك تذاكر بمائتين فقط لمن يريد الدخول وقوفاً! وسيشارك في هذا الحفل واحدة من أولئك الساقطات اللائي ذكرهن صاحب المقال السابق.(158/3)
فساد أكثر القنوات الفضائية العربية
تذكر الصحف نحو مائة قناة تخاطب المشاهد العربي، منها إحدى عشرة قناة غنائية فقط؛ ليس لها على مدى أربع وعشرين ساعة إلا الآهات واستعراض الأجساد العارية والفتن الماجنة، وهكذا نجد قناة عربية في بلد عربي آخر تتولى عقداً من مؤسسة إعلامية أمريكية؛ لتقوم بمهمة إنشاء قناة فضائية عراقية، فكم تبذل من الأموال؟ وكم يُستغل من الأشخاص؟ وكم من الشباب والشابات؟ وكم هو هذا التيار في واقع حياتنا؟ فهناك من ارتضى لنفسه أن يعيش مع الشهوات، وأن يبقى مع المطربين والمطربات، وأن يبقى على الهواتف والاتصالات والتصويت، وهناك أجيال تغرب وتقتل فيها معاني العزة والشرف، ولسان حال أولئك كأنما يعبر عما ذكره الله جل وعلا: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41]، وذلك ينبؤنا عن كثير مما يحل بنا من البلاء؛ لأن الفتن إذا عظمت والمفاسد إذا كثرت والمنكرات إذا أقرت فإن ذلك مؤذن بخطر عظيم في انتشار الفساد والشر والضر، وأعظم منه فساد القلوب وكدر النفوس وزيغ الأهواء وضلال العقول، نسأل الله عز وجل السلامة.
ومثل ذلك قد يكون كثيراً، وأختمه بحادثة كتبتها الصحف عن إحدى محافظاتنا أنه: قبض على مواطن وأربع نساء يديرون شبكة دعارة، ومصانع لتصنيع الخمور! وهذا في ظل هذه الظروف التي تسمعون عنها، فالفاسدون والمفسدون هم مسامير تدق في نعش أمتنا، وتكون سبباً فيما يحل بنا من بلاء.(158/4)
أحداث الفلوجة
لا أريد أن أعلق على كل طائفة وموقف، ولكني أستعرض، وسأنتقل إلى طائفة أخرى ومواقف أخرى، واسمحوا لي أن أكون مبتعداً من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار فإن هذا هو ما يحكيه واقعنا: في الوقت الذي يسهر أولئك على الطرب والغناء، أنقلكم إلى مدينة فيها سبعمائة ألف من المسلمين العرب السنة، وقد استشهد منهم في خلال أيام قليلة سبعمائة، ووقعت فيها جرائم فظيعة تسجل في سجل الجرائم ضد الإنسانية؛ وهي جرائم غير مسبوقة؛ لأن جيشاً عظيماً هائلاً للقوة العظمى يحاصر الفلوجة نحو أسبوعين، ويقصفها بالطائرات، ويرميها بالمدفعيات، ويهدم المساجد على رءوس من فيها، فيستشهد أكثر من أربعين، ويستخدم القنابل العنقودية المحرمة دولياً كما يقولون، ويواصل الحصار، ويحفر الخنادق حولها، ويضرب مؤسسات الكهرباء والماء، ويمنع الجرحى والمرضى أن يصلوا إلى المستشفيات، حتى وصف مراسل صحيفة محلية استطاع أن يدخل إلى الفلوجة في زمن يسير أثناء توقف القتال فيصف لنا هذه المشاهد فيقول: مدينة تطفوا على بركة من الدم! ظلام دامس! ثم يخبرنا أنه رأى بطولات من مدينة المساجد والمآذن، وما إن تدخل المدينة حتى تسمع من يقول: القتال في الفلوجة يعني: الدخول إلى الجنة، فيأخذك الشعور بالاطمئنان، ولحظة ذاك تدرك الفرق بين الجنة والجحيم على أرض الواقع، ولكن بشكل مخالف جداً للحقيقة، وتبرز أمامك حقائق كثيرة أهمها: إصرار الأهالي على القتال، على الرغم من إدراكهم أنهم يدفعون الثمن باهظاً.
ثم يروي كلمات لمحافظ المدينة ويقول: إن الناس هناك مصرون على الثبات، ويروي قصة امرأة أخذت جثة زوجها القتيل، ووضعتها في وسط دارها؛ لأنها لا تستطيع دفنها، ثم ضمدت جراح ابنها، وأخذت بندقيتها وخرجت للثأر من القتلة غير مبالية، ثم يقول: ما يجعلنا متمسكين بقيمنا أن الأهالي مصرون على مواجهة الاحتلال، وعدد من الأهالي كتبوا وصاياهم وسلموها إلى أئمة المساجد، ومعظمها فيها وصية الأبناء والأحفاد بمواصلة الجهاد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]، وأولئك العزل وأولئك الضعفاء قد أسقطوا عشر طائرات، وقد قتلوا في الحقيقة لا في المعلن أعداداً تزيد على المئات أو تبلغ المئات، ثم مع ذلك تجد ثباتهم ويقينهم وليسوا وحدهم، فإنهم إن كان قد مرت بهم أحداث الاحتلال خلال عام فإنها قد وصلت إلى نحو أكثر من ستين عاماً في أرض فلسطين، وما زال أبطال الأقصى وما زال أشراف بيت المقدس وما زال المؤمنون هناك يرفعون رايات العز ويأبون الذل.(158/5)
ومضات من تاريخ مدينة الفلوجة
أشير إلى مدينة الفلوجة على وجه الخصوص؛ فإن لها تاريخاً في الإيمان والعزة، وفي الجهاد والفداء والتضحية، وفي دحر المعتدين، فقد كانت شرارة مقاومة عظمى ضد الإنجليز في زمن مضى، وكانت بداية نصر، والعجيب أن هذه المدينة باسمها واشتقاقها في معانيها اللغوية تحمل معانٍ عظيمة! فمن معانيها: الفوز والظفر، ومن معانيها: السكينة والطمأنينة إلى غير ذلك، وقد قال الرصاصي شاعر العراق عنها قبل أكثر من نحو أربعين عاماً، وكأنه يقوله اليوم: أيها الإنجليز لن نتناسى بغيكم في مساكن الفلوجه أدرتم فيها على العزل كأساً من دماء بالغدر كانت مزيده حلها جيشكم يريد انتقاماً وهو مغرٍ بالساكنين علوجه سوف ينأى بخزي وعار عن بلاد تريد منها خروجه ما حياة الإنسان بالذل إلا مرة عند حسوها ممجوجه فثناء للرافدين وشكراً وسلاماً عليك يا فلوجه إنها عين القصة، ونفس الجريمة، وذات الطريقة، ولكنه كذلك -بإذن الله عز وجل- تجدد موقف الإيمان وعزة الجهاد وشموخ المستعلين بدينهم المعتزين بأصالتهم وعراقتهم، الرافضين لكل ما يقال ويذاع ويشاع، ومع ذلك فالدروس عظيمة يضيق المقام عن حصرها.
إلى الذين ركعوا وخنعوا وذلوا وباعوا فلتأخذوا من أهل الفلوجة مع قلة عددهم وعددهم عبرة ودرساً؛ فإن المعتدي اليوم هو الذي يلتمس الخروج، وهو الذي يوسط المفاوضين، وهو الذي يريد أن يسلم من نار تلك المقاومة الجهادية، وانظروا كذلك فإنكم واجدون هناك من صور الإيمان والعزة ما يبين حقيقة القوة في المعاني الإيمانية والإسلامية لا في القوى المادية والعسكرية، ولو أردنا أن نذكر هنا شيئاً من المواقف المشرفة ومن الآثار العظيمة لطال مقامنا في ذلك، ولكني أستعرض لكم تلك المواقف والطوائف لتروا وتنظروا، وتفضلوا وتقارنوا، وتختاروا وتتبعوا.(158/6)
بيان ضرر وخطأ الذين يفجرون في البلدان الإسلامية
أنتقل إلى طائفة ثالثة وهي مفارقة ومخالفة، فحالنا يجمع أموراً عجيبة، وتناقضات غريبة، إنها أحداث قائمة على منهج خاطئ، وتهور مرفوض، وسفك للدماء المعصومة، وإتلاف للأموال المحترمة، وإخلال بالأمن، ذلكم ما جرى ويجري في بلادنا من تلك العمليات والتفجيرات والاغتيالات، وقد أسلفنا القول فيما هو صحيح في ارتباطه أو صلته من قريب أو بعيد بمعاني الجهاد، أو بمعاني الإصلاح والتغيير المطلوب والمرجو منه نفع الإسلام والمسلمين، وليس فيها ما قد يكون شبهة من دليل فضلاً عن أن يكون حجة قاطعة، ثم هناك استنفار وتفجير للطاقات في غير مكانها، وميادين للمعارك في غير ساحاتها، وفرص للأعداء وتمكينهم، وفرص لإضعاف القوى والمجتمعات والدول والشعوب الإسلامية، وإثارة النزاعات والقلاقل والاختلافات، فأي شيء وراء ذلك ونحن نعلم تعظيم حرمة دم المسلم؟ قال عز وجل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، وكلنا يعلم ما ورد في ذلك من الأحاديث، وقد أسلفت القول مراراً وتكراراً؛ فإن هذه صفحة سوداء مظلمة، وإن هذا مسلك وخيم العواقب، وليس له حجة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ونهج الصحابة، وليس في سلف الأمة من جنح إلى مثل ذلك، وكلما شذ عن هذا فقد جاءنا فيه بيان واضح شافٍ من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن التحذير من تلك المزالق والمأزق، فينبغي لنا أن ندرك ذلك؛ لأنه على خلاف نهج ديننا، ولأنه على تناقض مباشر مع مصالح أمتنا، ولأنه يصب في الجملة في خانة أعدائنا، وتلك صفحة أخرى وطائفة أخرى قل عددها، ونرجو ألا يكون فينا ولا معنا ولا بيننا من قد يلتبس عليه أمرها.(158/7)
التحذير من العرب الموالين لأعداء الإسلام
أنتقل إلى طائفة أخرى، وقد تعجبون هل بقيت هناك طوائف؟ ما سأذكره من بقية الطوائف إنما هو بعضها لا كلها: طائفة من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، وقد أشرت مراراً إلى بعض أحوالهم، وكثير من فعالهم، وهم يشكلون حربة تطعن الأمة في ظهرها، وتطعنها في خاصرتها، وتجوس خلال ديارها، وتبث عوامل الضعف والانحلال من داخلها، إنهم أولئك الذين يرددون أقوال المعتدين الذين يواجهون الإسلام والمسلمين، ويبشروننا بمقالاتهم، ويؤكدون علينا صدق وعودهم، ويرددون علينا صباح مساء ضرورة التحالف والائتلاف معهم ونحو ذلك، وتراهم يقومون في داخل بلادنا الإسلامية على اختلاف رقعتها بما يريده العدو، بل بما هو أكثر من ذلك، أفلستم تسمعون وترون الصيحات المتتابعة والأعمال المتواصلة لتغيير مناهج التعليم، واجتثاث جذورها الدينية، واقتلاع صلتها الإسلامية، ومحو ارتباطها التاريخي؟! ويقولون لك: إنه لابد من ذلك وإلا فإننا سنكون في نظر العالم متطرفين وإرهابيين وغير ذلك! أفلا تراهم وهم يحدثونك عن العمل الخيري وركن من أركان الإسلام وهو الزكاة ومساعدة المحتاجين وتأكيد وحدة المسلمين، وما يلزم من الوقوف مع الممتحنين والمضطهدين فيقولون: إن ذلك مساندة للإرهاب، وإننا إنما نبدد أموالنا في غير معركة -كما يقولون- ناجحة؟! ثم إنهم يقولون: إن هناك خطراً عظيماً، وإن صورنا الدولية في العالم ينبغي أن تضبط، وأن تحسن، ولابد من التضييق على هذا العمل الخيري، ومن إغلاق مؤسساته، ومن تجفيف منابعه، ومن ومن إلى غير ذلك، ويسعون فيه فعلاً لا قولاً، ثم تراهم وهم يطنطنون على قضية المجتمع، والمرأة وحريتها ومشاركتها وعملها فيما ليس معروفاً ومضبوط بضوابط شريعتنا وبأسس مجتمعاتنا، بل بلسان عدونا، وبمنطق ديمقراطيته، وبمبادئ حريته، وبأسس إباحيته إلى غير ذلك.
وهكذا ترى أحدهم وقد كتب عن الفلوجة التي تحدثنا عنها فيقول: إن هذا الفعل من أولئك القوم ومن الذين ينادون بنصرتهم والوقوف معهم، إنما هو خطأ محض، وإنما هو تهور لا داعي له؛ لأنه يفسد الصورة المستقبلية المرجوة من تسليم الحكم لأهل البلاد، ومن شيوع الأمن، وحلول الديمقراطية، وحصول التقدم وغير ذلك من الوعود التي لا يصدقها إلا صاحب هوىً أو صاحب حمق نسأل الله عز وجل السلامة.
الله جل وعلا يخبرنا عن أمثال هؤلاء وغيرهم، ويبين أنهم مع وضوح الرؤية لديهم كأنما يقصدون الحرب لدين الله عز وجل، قال سبحانه وتعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:32 - 33]، وكل صورة من صور العداء للدين أو مواجهته أو التضييق عليه فإنما صاحبها يعرض نفسه لمحاربة الله ورسوله، قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:33]، إنها صور من المحاربة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومحاولة لتغيير واقع الأمة بما يتوافق مع الأعداء، وذلك خطر عظيم.(158/8)
فضل المصلحين من هذه الأمة
أنتقل إلى طائفة أخيرة أشير إليها إشارات؛ لأنها ليست محصورة في صور معينة، وإنما هي واسعة الطيف، منتظمة في كثير من البلاد والبقاع، وتشمل فئات غير قليلة من أهل الإيمان والإسلام والغيرة، إنهم علماء من الأمة يعلمون ويرشدون ويبينون ويوضحون ويقفون المواقف المشرفة، ويقومون بالأعمال العظيمة، دعاة غيورون، يذكرون الناس وينبهونهم ويحذرونهم من المخاطر والمزالق، ويتقدمونهم إلى الإصلاح وتغيير المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة واتباع النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، متبعين قول الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، إنهم مربون ومربيات من الأساتذة والأستاذات يقومون بتوجيه أبنائهم وتلقينهم مبادئ الإسلام، وتعريفهم بعزته، وتذكيرهم بلزوم اتباعه والاستمساك به، وآخرون من الآباء والأمهات يحسنون تربية أبنائهم، ويجعلون بيوتهم نوراً مشرقاً بآيات القرآن وموطناً لمواطن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعراض سيرته، وينشئون أبناءهم تنشئة على الخير والهدى والتقى والصلاح، وآخرون يلتزمون دين الله سبحانه وتعالى في لزوم المساجد والصلوات والدعوات والصدقات وكل الأعمال الصالحات، بل ويقومون بالأعمال والمشروعات الخيرية والدعوية والإصلاحية؛ ليتحقق بذلك بعض سنة الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، ويحققوا نداء الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77]، ويتعرضون ليكونوا من طائفة محمودة في أمة الإسلام قال عز وجل عنها: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104]، وليكونوا كذلك سبباً من أسباب دفع البلاء والنقمة الربانية، وليكونوا سبباً من أسباب تنزل نصر الله عز وجل، قال عز وجل: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، وقال سبحانه: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود:116].
تلك طوائف، وتلك مواقف؛ والحق أبلج بين، فاختر لنفسك؛ فإنك تعلم ما ينفعك في دنياك وما ترجو أجره وثوابه في أخراك.
أسأل الله عز وجل أن يبصرنا بعيوب أنفسنا، وأن يسلك بنا طريق الصلاح الرشاد والهدى والتقى، وأن يجعلنا لكتابه مستمسكين، ولهدي نبيه صلى الله عليه وسلم متبعين، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(158/9)
واجب المسلمين أمام التحديات التي تحاك لأمتهم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الأخوة المؤمنون! أوصيكم بتقوى الله؛ فإنها أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، ولا شك أنكم من الناحية النظرية تعرفون ما تختارون، وأن الاختيار واضح، إلا أنني أحب أن أشير إلى نقاط مهمة: كثيرون في كل مرة وأزمة، وفي كل فتنة ومحنة، وفي كل كارثة وأحداث أليمة محزنة يأتون وملء صدورهم حماسة، وملء قلوبهم غيرة، وهم يسألون: ماذا نفعل؟ وكأن أحدهم يتصور أنه لا يمكن أن ينصر دينه أو أن يعين إخوانه إلا في صورة واحدة أو صور محدودة، فإن تعثرت لم يكن له طريق يقيم فيه دين الله، وينصر فيه دين الله عز وجل، ولست هنا سأعطي لكم وصفة أو طريقة، ولكني أنقلكم إلى مشهد مماثل من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يوم تحزب الأحزاب، واجتمعوا كما يجتمعون اليوم في أرض العراق، يوم صار الحصار واجتمعت القوى الرهيبة العظيمة، يوم أسلم نعيم بن مسعود في تلك الأزمة، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليقول له: إني قد أسلمت، فمرني -يا رسول الله- ماذا أفعل؟ فقال له رسول الله عليه الصلاة والسلام: (إنما أنت رجل منا فخذل عنهم ما استطعت)، وهي التي نقولها لكل أحد: إنما أنت من المسلمين فخذل عنهم ما استطعت، ولو باستقامتك وطاعتك، ولو بصلاتك ودعوتك، ولو بزكاتك ونفقتك، ولو بتربيتك ابنك وابنتك، ولو بكل سبيل وطريق، فإن كنت ذا غيرة وإيمان فلن تعدم الوصول إليها، وكما قلت من قبل: من يقول: ليس هناك شيء أفعله فإنه في الغالب لا يريد فعل شيء، وإلا فإن أي عمل يمكن أن تصنعه سيكون مفيداً نافعاً، فمثلاً: الذي يدخن ويحرق ماله وصحته ويقوي أعداءه أفليس حري به في مثل هذه الظروف العصيبة أن ينتصر على نفسه؛ فيقلع عن هذه الصفة الذميمة؟ أفليست هناك جهود تبذل في هذا، وهي من جهود نصر الأمة؟ ونحو ذلك من أمور كثيرة يضيق المقام عن ذكرها.(158/10)
أمور مهمة في طريق الإصلاح
نحن نحتاج إلى أمرين: الأمر الأول: أن نكون على نهج ومنهج وبينة وبصيرة، لا أن يكون عملنا رد فعل، ولا تحركاً طائشاً، بل على آيات تتلى وأحاديث تروى وسيرة تعرف ومناهج محددة واضحة بينة.
الأمر الثاني: الاستمرار، فلسنا نريد عاطفة مؤقتة، أو دمعة عابرة، أو دعوة واحدة مفردة، ثم نعود مرة أخرى، ذلكم ما كنت ولا زلت وسأظل أذكر نفسي به وإياكم، نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً.
اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وأقل عثراتنا، وامح سيئاتنا، وضاعف حسناتنا، وارفع درجاتنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم طهر قلوبنا، وزك نفوسنا، وأرشد عقولنا، وحسن أقوالنا، وأخلص أعمالنا، وأصلح أحوالنا، وضاعف أجورنا، وارفع منازلنا برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم وفقنا للصالحات، واصرف عنا الشرور والسيئات، واغفر اللهم لنا ما مضى وما هو آتٍ، برحمتك يا رب الأرض والسماوات! اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا.
اللهم املأ قلوبنا بحبك، وأنطق ألسنتنا بذكرك، واستخدم جوارحنا في طاعتك، وسخرنا لنصرة دينك ونصر الإسلام والمسلمين يا رب العالمين! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، اللهم اقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلف في صفوفهم، ورد كيدهم في نحرهم، وأشغلهم بأنفسهم، واجعل بأسهم بينهم، واجعل الدائرة عليهم.
اللهم لا ترفع لهم راية، ولا تبلغهم غاية، واجعلهم لمن خلفهم آية، اللهم أذل أعناقهم، وسود وجوههم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، وأرنا فيهم عجائب قدرتك وعظيم سطوتك يا عزيز! يا منتقم! يا جبار! يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء! اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، وخذهم أخذ عزيز مقتدر يا قوي! يا عزيز! يا متين! اللهم اشف فيهم صدور قوم مؤمنين عاجلاً غير آجل يا رب العالمين! اللهم أقر أعيننا بنصر الإسلام والمسلمين، وهزيمة الشرك والمشركين والكافرين المعتدين والطغاة الظالمين يا رب العالمين! اللهم رحمتك ولطفك بإخواننا المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والجرحى والمرضى والمحاصرين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم فرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، اللهم أفض إلى قلوبهم الصبر واليقين، وثبتهم في مواجهة المعتدين، اللهم أمدهم بحولك وقوتك ونصرك وعزتك يا رب العالمين! اللهم كثر العدو القاهر، وقلَّ المعين الناصر، وليس لها من دونك كاشفة، اللهم اكشف البلاء عن الأمة، وارفع الضراء والغمة يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعل فيما قضيته على إخواننا في العراق وفي فلسطين وفي كل مكان خيراً لهم في دينهم ودنياهم وعاجل أمرهم وآجله يا رب العالمين! اللهم اجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا يا رب العالمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
والحمد لله رب العالمين.(158/11)
المخاطر الجسيمة والوعود العقيمة
أكبر قضية تشغل بال المسلمين اليوم هي قضية القدس السليبة، مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرض النبوات، وهي مربط الفرس في العداء بين المسلمين وأهل الكتاب، وما ذاك إلا لأنها بالنسبة للمسلمين شيء عظيم عزيز يفدونه بأرواحهم ودمائهم، ولا يمكن أن يتخلوا عنه أبداً مهما تآمر المتآمرون، وفعل المبطلون، والدفاع عنها باقٍ إلى قيام الساعة.(159/1)
العداوة بين أهل الإسلام واليهود
الحمد لله الذي أكرمنا بالإيمان، وأعزنا بالإسلام، وهدانا بالقرآن، أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينا، له الحمد سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، حمداً نلقى به أجراً ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، هدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثرنا به من بعد قلة، وأعزنا من بعد ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله عنا خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فأيها الإخوة المؤمنون! حديثنا اليوم عن القضية العظمى التي لا أمل من تكرار الحديث عنها لاعتبارات كثيرة؛ لأنها هدف نهائي، وغاية كبيرة عظمى لكل ما يحاك حول أهل الإسلام وأمته، ولكل ما يدبر للمسلمين في شتى بقاع الأرض.
إنها قضية فلسطين مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، المسجد الأقصى، أرض النبوات والأنبياء، الأرض التي فتحها عمر رضي الله عنه، وحررها صلاح الدين رحمه الله، وروتها دماء المسلمين إلى يومنا هذا على أيدي الأبطال الأشاوس المؤمنين من الصغار والشباب الذين بذلوا أرواحهم فداء لدينهم، والذين أزهقوا نفوسهم إعزازاً لأمتهم، والذين تصدوا بصدورهم العارية للقوة الضاربة الضارية؛ ليثبتوا عظمة الإيمان، وقوة الإسلام، وغيرة وحمية المؤمنين الذين لا ترهبهم القوى العظمى، ولا تخيفهم المؤامرات الكبرى، ولا تنطلي عليهم الخدع المتوالية.(159/2)
أسباب استمرار العداء في أرض الإسراء
مسلسل العداء: مربط فرسه، وقطب رحاه في (أرض فلسطين)؛ لأسباب كثيرة: أولها: أن هذه الأرض بالنسبة للمسلمين أرض مقدسه، فيها آيات تتلى، وأحاديث تروى، ولن تنسخ الآيات مهما فعل المبطلون، ولن تلغى الأحاديث مهما تآمر المتآمرون، ولن ينسلخ المؤمنون من دينهم، ولن ينزع اليقين والتسليم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من قلوبهم، فالقضية باقية ما بقي القرآن، وهو باق إلى قيام الساعة، والقضية باقية ما بقيت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، باقية ما بقي مسلم وطائفة مسلمه ثابتة على الحق معتصمة به، وقد قال سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)، وفي راوية أحمد قيل: (أين هم يا رسول الله؟! قال: في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس).
وقد جاء في الحديث الصحيح الذي أخبر فيه النبي صلى الله عليه وسلم عن ستة أمور تتوالى بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وذكر منها فتح بيت المقدس؛ ليشير النبي الكريم صلى الله عليه وسلم إلى أنه امتداد لرسالته ومهمته ونبوته منذ أن أسرى الله عز وجل به إلى تلك البقاع المقدسة، ومنذ أن صلى إماماً بالرسل والأنبياء، ومنذ أن عرج به إلى السماء.
وقد سارت جيوشه صلى الله عليه وسلم وجنوده من صحبه الكرام لتتوالى وتتصل من بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.
الأمر الثاني: أن الصراع في تلك الأرض المقدسة مع القوم الذين أخبرنا الله سبحانه وتعالى عنهم بقوله: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82]، ولن نكذب كتاب ربنا ونصدق أباطيل الكذبة الفجرة الكفرة، أو المنافقين والمداهمين المجاملين؛ فإن يقيننا بكتاب ربنا راسخ رسوخ الجبال الرواسي لا تزعزعه تلك الرياح الفارغة، ولا تلك الصيحات الكاذبة، وهذه قضية مهمة.
والأمر الثالث: أن العداء العالمي الدولي والتحالف الصليبي الصهيوني يتركز كله اليوم في هذه القضية، فتجتمع الدول والمؤسسات والمنظمات العالمية كلها، وتدار المؤتمرات، وتعقد الندوات، وتتوالى المفاوضات، وتوقع المعاهدات، وتأتي الالتزامات، وتقام العقوبات، لأي شيء أيها الإخوة؟ وفي أي موضوع؟! هل هو في قضايا أخرى من قضايا المسلمين -وإن كانت كلها عندنا عظيمة ومهمة-؟ أفترون ذلك كله يدور لأجل الشيشان -وهو جرح نازف- أو لأجل كشمير -وهو دم ينزف- أو لأجل هنا أو هناك؟ إن الصراع محوره وبؤرته وركيزته القدس، وإن سقوط العراق إنما هو طريق لاستقلال تلك القوة والسلطنة والهيمنة؛ لفرض ما تريده وتقصده وتهدف إليه وتنشده الدولة الغاصبة في أرض الإسراء، في مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعل الأحداث القريبة تجمع حزناً مؤلماً كما تجمع مع ذلك إصراراً قوياً، وعظمة كبيرة، وشموخاً إيمانياً، واستعلاء إسلامياً، وثباتاً منهجياً، لأصحاب الحق الواضح أصحاب الإيمان الصادق أصحاب الإسلام الخالص أصحاب المبدأ النظيف الطاهر الذي لا يتلون مع دنس السياسة ولا يخضع لمعاملات الاقتصاد، واهتزاز الأموال، ولا يرهب من القوى العسكرية والسياسية وغيرها.(159/3)
أقوال سياسية عربية فيها الانحياز إلى اليهود
لا شك أيها الإخوة أننا أمام مخاطر عظيمة تعد فيما أرى الأخطر مما يواجه الأمة المسلمة اليوم، وإن هذه المخاطر ليست مخاطر أرض اتسع حجمها أو صغر، وليست مخاطر فئة أو مجموعة يصفونها بالإرهاب يريدون أن يتوقف شرها كما يزعمون، إنها قضية عقيدة الأمة الإسلامية وهويتها.
إن قضية حضارة الأمة الإسلامية ووجودها هي القضية الأساسية، وهي الحربة الموجهة إلى صدر الأمة وقلبها اليوم، ويوشك إذا نشبت في ذلك الصدر أن يحصل ما يأمله الأعداء من ترنح هذه الأمة أو سقوطها، وذلك لم ولن يكون؛ لأن وعد الله القائم لا يخلف.
لكن نشير إلى بعض الأمور المؤلمة المحزنة، ونرى كيف تجري تلك المؤامرات، وكيف يحصل الرضوخ للمساومات، وكيف تباع -لا أقول: الأرض ولا القضية- وإنما كيف تباع الديانة والهوية على ما يسمى طاولة المفاوضات؟ هذه كلمات أقولها، ولو كان قولها بغير اللسان العربي المبين لكان أبلغ وأفصح، ولكان أكثر مطابقة مع حقيقة هذه المعاني التي يؤسفنا أن نقولها بهذا اللسان الذي نطقت به، والذي أرادت أن تعبر به عن أهل فلسطين، وعن أمة العرب، وعن المسلمين أجمعين، وإن كانت في واقع الأمر لا تمثل إلا من ينطق بها أو يمثلها في حقيقة تخاذله وتآمره وضعفه، وغير ذلك من الأوصاف.
(هدفنا دولتان تعيشان جنباً إلى جنب بسلام وأمن، وطريقنا طريق التفاوض المباشر، وحل كافة قضايا المرحلة النهائية، وإنهاء الاحتلال الذي بدأ في عام 1967م ولا تنسوا التواريخ؛ فإن هذا ينسخ ما قبل ذلك، فلم يكن ثمة احتلال ولا هجوم ولا عدوان قبل ذلك بنحو خمس وعشرين عاماً كما هو معروف من عام ثمانية وأربعين، والأمر جلي واضح.
ثم ماذا عانى في ظله الفلسطينيون من شديد المعاناة؟ ثم يقول: وفي ذات الوقت لا نتجاهل معاناة اليهود على مر التاريخ، وقد حان الوقت لإنهاء كل هذه المعاناة).
جدير بكم أن تذرفوا الدموع على معاناة اليهود الذين تهدم بيوتهم كل يوم في أرض فلسطين! جدير بكم أن تبكوا على اليهود الذين رأينا أطفالهم في السنة الأولى تخترق أجسامهم القاذفات التي تحدث خروقاً كاملة في أجسادهم! جدير بكم أن تبكوا على اليهود الذين لا يستطيعون أن يكسبوا لقمة عيشهم في أرضهم.
جدير بكم أن تشاركوا في هذا الحزن على تلك المعاناة الشديدة الرهيبة، وكأننا لا نرى بأم أعيننا أن ذلك يجري على إخوان لنا في الدين والعقيدة يدافعون عنا وعن وجودنا، ويدافعون قبل ذلك عن قرآننا وسنة نبينا، ويدافعون عن شرفنا وعزنا.
الواقفون يوم جثا كل الناس أو معظهم على الركب، الشامخون برءوسهم يوم ذلت الأعناق وكانت الذلة شعاراً عم الجميع إلا من رحم الله، الثابتون في مواجهة القوة يوم فر الجميع إلا أولئك النفر القليل من أهل الإيمان والصدق واليقين.
وواصل القول المحزن المؤلم فقال: (ولكني ولكي أكون صريحاً وواضحاً أقول: لا يوجد حل عسكري لصراعنا، ونكرر إدانتنا ورفضنا للإرهاب والعنف ضد الإسرائيليين أينما كانوا.
إن هذه الوسائل -واسمعوا إلى من يتحدثوا باسم كتاب الله وسنة رسول الله وأمة الإسلام كلها عبر تاريخها الطويل، ومآثرها المجيدة- لا تنسجم مع تقاليدنا الدينية والأخلاقية، بل تشكل عقبة خطيرة أمام دولتنا المستقلة ذات السيادة).
ولقد قلت من قبل سنوات عدة: إن مقتضى مثل هذا الكلام: إما أن نحبس القرآن في أماكن لا يخرج منها، وإما أن ننزع منه صفحات، أو نطمس منه آيات؛ لنصدق مثل هذه المفتريات، وهذا أمر خطير، فليست القضية سياسية، وليست القضية بلاغية أو كلامية، إنها أخطر من ذلك كله! ثم قال: (سنبذل كل الجهود، وسنستخدم كل إمكانياتنا لتنتهي عسكرة الانتفاضة، وسننجح.
الانتفاضة المسلحة يجب أن تنتهي، وعلينا أن نستخدم الوسائل السلمية في سعينا لإنهاء الاحتلال، ومعاناة الفلسطينيين والإسرائيليين، هدفنا واضح، وسنطبقه بحزم وبلا هوادة، نهاية كاملة للعنف والإرهاب، وسنكون شركاء كاملين في الحرب الدولية ضد الإرهاب).
اهـ.
ولا أظنكم تحتاجون إلى أن ننسب هذا القول إلى قائله، ولو كان بلسان عبري مبين لما كان في الأمر أدنى شك، فهو لا يخدم ولا ينطق ولا يعبر عن الإسلام والمسلمين ولا عن فلسطين وعن الفلسطينيين.
ولعلي أنتقل بكم أيضاً إلى مقالات أخرى، وأحسب أنها ستختلط عليكم إذ لا يعرف من يقول هذا ويتبناه ومن يؤمن ويعتقده ومن يخالفه ويناقضه.
قال بعضهم: (نحن ملتزمون بقوة بضمان أمن إسرائيل كدولة يهودية نابضة بالحياة، إن هذا الرجل يمثل قضية سلام، وقضية دولة للشعب الفلسطيني، إنني أدعم بقوة هذه القضية أيضاً).
لقد وعد لبذل أقصى الجهود والموارد لإنهاء الانتفاضة المسلحة، كما وعد بالعمل من دون مساومة من أجل وضع حد نهائي للعنف والإرهاب.
ثم قال: (السلام يتطلب أيضاً إنهاء العنف، وإزالة كل أشكال الحقد والأذى والمرارة في كل الأحوال، وفي المناهج الدراسية).
ولعلكم لا تحتاجون إلى كثير ذكاء لنقارن ما يطلب اليوم بما هو واقع على الأرض، فلسنا نحن الذين نذكره معاشر المسلمين، بل تذكره وكالات الأنباء وتعيده وتردده، ما الذي يدرس في المناهج اليهودية عن العرب والمسلمين؟ ومن ذا الذي فتح فمه ليقول: غيروا هذه الثقافة العنصرية العنيفة؟ هل سمعتم أحداً يذكر ذلك أم أننا لا نسمع إلا ضرورة تغيير مناهج المسلمين التي فيها منهج الإسلام بكامل عدالته وسماحته وصحته وصلاحيته؟! ثم ماذا؟ لابد من وقف الدعم والإعانة.
لمن؟ للذين لا يملكون سلاحاً ولا قوة، لا تعينوا الذين مات آباؤهم، لا تساعدوا الذين دمرت بيوتهم، لا تنجدوا الذين لا يجدون لقمة عيشهم، لا تغيثوهم.
ثم ماذا؟ ولتأتي الدول الكبرى والصغرى لتعين دولة مؤججة بالسلاح تعد الرابعة أو السابعة في دول العالم من حيث الأسلحة.
ثم ماذا؟ تأتي المنظمات في شرق الأرض وغربها لتدفع ليس فتاتاً من الأموال -كما يقع في دعمنا لإخواننا- بل مئات من الملايين، ويكفي أن تعرفوا أن اليهود يستلمون شهرياً أكثر من ستين مليون دولار لتعويض من يزعمون أنهم تضرروا من الحملة الألمانية على اليهود في عهد هتلر، وفي كل شهر يستلمون هذه المبالغ، فضلاً عن القوى العظمى التي تدعم اليهود بنحو ثلاثة مليارات دولار سنوياً، فضلاً عن المنظمات والشركات التي تدعم الجمعيات التي تعلن عنصريتها.
ويعجب المرء عندما يردد الناس، وتردد محافل السياسة، وتردد كثير من الزعامات هذا، ولا تستطيع أن تنظر إلى ذلك، وهذا يذكرنا بقول أبي هريرة رضي الله عنه: (ترى القذاة في عين أخيك ولا ترى الجذع في عين نفسك).
أي أمر هذا العجيب؟! وأي انتكاس وارتكاس هذه المغالطات التي تبين لنا حقيقة الأمر؟! ونأتي لمقالة ثالثة: (إن الأمن الدائم يستلزم في نهاية المطاف السلام، ولا يمكن إحلال السلام الدائم إلا عبر الأمن).
والمقصود: الأمن اليهودي الذي نزعته الانتفاضة الجهادية المباركة، والطمأنينة التي لم تعد موجودة عند اليهود بفضل أولئك البررة الأطهار من المجاهدين الأخيار الغيورين على دينهم، الذين أبوا أن يذلوا وأن يساموا الخسف، وهم أصحاب الحق، وهم أصحاب الأرض، وهم أصحاب الدين والمعتقد الصحيح.
ويعجب الإنسان عندما يسمع ذلك المجرم وهو يقول: (وأن السلام لا يمكن أن يتحقق من دون التخلي عن الإرهاب والعنف والتحريض).
من القائل؟ إنه سيد الإرهاب وقائده الذي شهد له بذلك بشهادات عالمية موثقة دخلت إلى أروقة المحاكم! ثم نستمع إلى زعامات في بلاد الإسلام والمسلمين تقول: (إن هذا الرجل قوي، وإن المرحلة لإقرار السلام تحتاج إلى رجل قوي، وإنني أعتقد أنه سيقود المهمة بنجاح).
ما الذي بقي لنا من عقولنا حتى نفهم؟! ينبغي أن نسير على رءوسنا بدلاً من أقدامنا إذا أردنا أن نقبل مثل هذه المقالات، فإن هذا زيغ ظاهر، وخلل كبير، وخطر عظيم.(159/4)
أثر هذه المقالات على اليهود
أقف وقفات يسيرة مع بعض الأصداء التي نتجت عن مثل هذه الكلمات؛ لنرى كيف ينظر القوم إلى ذلك.
هذا مسئول من اليهود عليهم لعائن الله يقول مبتهجاً بما وقع: (إن هذا التصريح يعد إنجازاً حقيقاً، بل هو الإنجاز الأبرز؛ لأنه سيحول في المستقبل دون طرح قضية عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى تخوم إسرائيل على أجندة المفاوضات).
ويقول كذلك عن تلك المستعمرات التي يسمونها مستوطنات: (عددنا قليل، والغالبية العظمى مستوطنات أقيمت بقرارات اتخذتها حكومات متعاقبة، يقولون: سيزيلون ما هو مخالف للقانون) أي قانون هذا؟ إنه القانون الذي يخبرنا أنه وقع بالأمس -تزامناً مع هذه اللقاءات- تهديم الجيش اليهودي الغاصب لثلاثة منازل فوق رءوس أصحابها، فيها واحد وثلاثون شخصاً من النساء والأطفال، لثلاثة من الأبطال تأسرهم وتعتقلهم القوة الغاصبة في فلسطين، في ذات الوقت تهدم البيوت، وتجرف الأراضي، وتخترق السياجات، وتنتهك حرمة وكرامة وأمن إخواننا، ثم لا نرى لذلك أثراً.
ويأتينا أيضاً صدى آخر يقول: (جاءت هذه التصريحات على قدر التوقعات بل فاقتها، عندما أشارت إلى إسرائيل كدولة يهودية).
ونحن لا ندقق في الكلمات مع أنها منتقاة مختارة موزونة مضبوطة لتؤدي معانيها في دولة دينية، ولا يسمح ولا يرغب أن يكون في بلد من بلاد الإسلام دولة إسلامية.
ليس هناك دولة دينية إسلامية ثم يقال: إن دولة دينية! هذا أمر.
الأمر الثاني: أن الذين يعيشون من غير اليهود في هذه الدولة ليس لهم موقع من الإعراب ولا مكان من الأرض، ولا حق في النظام.
الأمر الثالث: أن الذين شردوا وهجروا من أرضهم وديارهم من باب أولى ليس لهم مكان ولا موقع، ثم ماذا بعد ذلك؟ ما هو المطلوب في فهم أولئك الساسة بعد مثل هذه التصريحات؟! المطلوب الآن تنفيذ الفلسطينين للخطة الأمنية، والقيام بإجراءات صارمة ضد التنظيمات الإرهابية وفقاً للخطة الموضوعة.
ثم يصرح تصريحاً كنت أريد أن أجعله عنواناً لهذا الحديث على زعمهم، لكنه كاذب خاطئ ليس له واقع بإذن الله عز وجل، يقول: (إن هذا اللقاء ومراسمه -في نظره هو- مراسم دفن الانتفاضة) اهـ.
ونقول: سيخيبون ويخسرون؛ لأننا سمعنا من الأصداء ما يدل على ذلك، فالمعتقلون من الفلسطينيين في سجون اليهود المجرمين الذين يقال: (إننا نصنع ذلك لأجل حريتهم وإنقاذهم وإنهاء معاناة أسرهم)؛ أخرجوا بياناً استنكروا فيه ذلك الذل، ورفضوا فيه ذلك الخذلان، وأكدوا فيه أنهم ليسوا معنيين به، وليس موضع قبول عندهم مهما كان يتصل ببعض من حقوقهم كما يزعم الأفاكون؛ فكانت صفعة قوية، ورداً عملياً.
وأما الأبطال فقد قالوا كلمتهم: (ماضون في الدفاع عن حقوقنا، ثابتون على الدفاع عن كرامتنا، ولو تخلى عنا الناس أجمعون)، وهذه قضية مهمة.(159/5)
مخاطر مؤامرات اليهود وأعوانهم
وأقول هاهنا: المخاطر كثيرة، وأولها وأشدها خطراً: أن يكون قتل المسلمين بأيدي المسلمين، ومنع الدفاع عن الحق والعرض والأرض فضلاً عن العقيدة والدين بأيدي منتسبين إلى الإسلام والعروبة.
ثانياً: أن كل من ينبض قلبه بالتعاطف والتأييد، فضلاً عمن ينطق لسانه بالمباركة والتمجيد، فضلاً عمن يخرج ماله للدعم والإسناد والتثبيت، كل أولئك إرهابيون متطرفون مخالفون للقوانين الدولية، ومعارضون للسلام والسماحة.
وهذه التهمة ليست متعلقة ببعض إخواننا في فلسطين، بل هي تهمة لك أنت، ولي أنا، ولكل واحد منا إلا إذا انسلخنا من ديننا، ونسخنا معاني العزة والكرامة من نفوسنا.
وكنت قبل يومين في مناسبة اجتماعية، ودار الحديث عن هذا الخطر الداهم والمؤامرة العظيمة، فقال رجل كبير السن من الحضور ليس في لحيته شعرة سوداء واحدة: (إن المطلوب منك أنت، ومن كل واحد منا: أن يأتي إلى المصحف الذي يقرؤه فيقال له: إنك تقرأ كتاباً إرهابياً ممنوعاً).
أي: لا بد أن تتركه، أو أن تغير ما فيه! وقلت معلقاً: قد قيل هذا بحرفه ونصه من قبل زعامات دينية صليبية حاقدة، وهو مكتوب مسطور، ومضاف إليه افتراء على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.
إن القضية في أساس الدين، وليست في فئة ولا في مجموعة تتبنى دفاعاً عن حقها، وليس في متدينينا الذين عندهم علم بالدين، أو في دعاة ينشدون الإصلاح والخير لأمتهم؛ بل هي لكل مسلم في عقر داره، بل لكل أحد أصبحت له من تمسكه ومن صلاته وأدائه لفرائض ربه سمة الإسلام والمسلمين.
نسأل الله عز وجل السلامة من ذلك، وأن يرد كيد الكائدين في نحورهم، وأن يجعل الدائرة عليهم، وأن يثبتنا على الحق ويعصمنا به، وأن يجعلنا من المعينين والمساندين لإعزاز الدين ورفع رايته في كل آن وفي كل حال.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(159/6)
دور أهل الإسلام في مواجهة المخاطر المحدقة بأرض الإسراء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين, وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، أما بعد: فأيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن هذه المخاطر الجسيمة والوعود العقيمة لابد أن ننتبه لها، والمقام يضيق عن ذكر الواجب نحوها، وقد أسلفنا شيئاً من ذلك، ولعلي أكرر وأنبه.
أولاً: ضرورة الوعي والإدراك لحقائق الأمور وخلفياتها الدينية والسياسية والواقعية، فلسنا أغبياء ولا حمقاء (ولست بالخب، ولا الخب يخدعني).
الأمر الثاني: إدراك استهداف الدين والعقيدة والهوية الإسلامية، ومعرفة أن هذا هو المعقل الأخير الذي إن تهوانا فيه كان بمثابة الداء السرطاني الذي يوشك أن يأتي على الجسد كله، فما لم نغر على ديننا، وما لم يكن لدينا حمية وقوة وعزة للكفاح والدفاع عن عقيدتنا، والجهاد في سبيل إعلاء رايتها؛ فلا خير فينا، ولا أمل في نصرتنا وعزتنا، فضلاً عن قدرتنا على مواجهة أعدائنا.
الأمر الثالث: أن نكون عمليين في كل ما يقتضي مواجهة هذا العداء السافر، وتلك المؤامرات الخطيرة، بالأساليب الحكيمة، والعمل الدءوب المتواصل؛ فإننا نستهدف -معاشر المسلمين- استهدافاً متوالياً وشاملاً لم يعد قاصراً على قضيتنا العسكرية، ولا على هويتنا الثقافية، ولا على مناهجنا التعليمية، ولا على قدراتنا الاقتصادية، ولا على استقلالاتنا السياسية، إنه يهدف إلى أن يضعف ذلك كله ويقوضه.(159/7)
ضرورة العمل في مواجهة الأعداء ولو بالمقاطعة وترك التطبيع
أفرد الكلام عن خطر التطبيع مع اليهود الذي أعلن ولي العهد تحذيره منه، ورفضه له؛ لأن فيه من المخاطر ما هو معلوم، ولعلنا ندرك الأمور التي قد جرت فيما سبق، وظهرت آثارها السيئة، فما بالنا لا نعتبر ولا ندكر؟! إننا لا نريد أن نعلن الصراخ والنواح، ولست ممن يجيد فن التأثر والانفعال بالعواطف حتى نستدر الدموع ثم نمضي بعد ذلك لنسلي أنفسنا بأننا قد قمنا بشيء عظيم.
إن هذه المشاعر لابد أن تترجم إلى منهجية مبدئية ثابتة، وإلى صورة عملية فاعلة، وكل في عنقه أمانة وعلى كاهله واجب، وكل يدرك ذلك، ويعرف كيف يطبقه، ومن قال غير ذلك فإنما يغالط نفسه.
وأخيراً أيها الأحبة! كنت أتحدث فيما مضى عن الغلو ومخاطره ومعالمه؛ فأبدى بعض الإخوة تحفظاً على ذلك، وأرادوا ألا نسترسل في هذا الحديث، وقالوا: ليس في الناس من هو متشدد كما تذكر في مظاهر الغلو! وأقول لأولئك الذين تتابعوا في حديثهم إلي: إن القضية أعظم وأخطر مما تتصورن، وإننا عندما نخاطب الناس لا نخاطبهم لأنهم هم واقعون في ذلك، ولكن ليكون الأمر وقاية لهم، وبياناً لهم؛ لئلا يقعوا فيه، وليكون فرصة لهم ليتزودوا بعلم وثقافة وفهم يغيرون به غيرهم ممن قد يقع في هذا الأمر.
ولأن القلة التي تجنح إلى منهج خاطئ له تداعيات عملية خطرها أعظم، وقد أشرت إلى أهم وأعظم خطرين في استحلال الدماء بالتكفير، وفي استحلال نزع الأمن لنزع الشرعية، وما يترتب على ذلك من بلاء عظيم وشر مستطير، فليست القضية سهلة، وليس المقام في هذا المقام إلا مقام التنبيه على الأمور الخطرة، ولا نريد مرة أخرى أن ننساق وراء عواطفنا، بل نكون على منهج الكتاب والسنة، وفيه مراعاة مصالح الأمة.
نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يجعلنا بكتاب الله مستمسكين، ولهدي رسوله صلى الله عليه وسلم متبعين، ولآثار الصحابة والسلف الصالح مقتفين.
اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى! اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا! اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء! اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد! اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وردنا إلى دينك رداً جميلاً، واهدنا واهد بنا، واجعلنا هداةً مهديين! اللهم اجعلنا من عبادك المخلصين، واكتبنا في جندك المجاهدين، واجعلنا من ورثة جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في أرض فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين! اللهم ثبت أقدامهم، وأفرغ على قلوبهم الصبر واليقين، وثبتهم في مواجهة المعتدين، ووحد اللهم كلمتهم وأعلِ رايتهم، وسدد رميتهم، وقوِ شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! اللهم عليك بسائر أعداء الدين؛ فإنهم لا يعجزونك! اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً! اللهم إنهم قد طغوا وبغوا وتجبروا وتكبروا! اللهم إنهم قد أذلوا عبادك المؤمنين، وانتهكوا حرمات المسلمين، ودنسوا مقدسات المؤمنين! اللهم عليك بهم أجمعين! أنزل اللهم بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز يا متين! اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، زلزل الأرض من تحت أقدامهم، واقذف الرعب في قلوبهم، واجعل الخلاف في صفوفهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر يا رب العالمين عاجلاً غير آجل يا قوي يا عزيز يا متين! اللهم أقر أعيننا بنصر الإسلام والمسلمين، واشف من الأعداء صدور قوم مؤمنين، وأذهب غيظ قلوبهم يا رب العالمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه، يا سميع الدعاء!(159/8)
الواجبات في الأزمات
في كل زمان ومكان تتكرر تهم الباطل والحرب ضد الأولياء والصالحين، فمن وقت موسى عليه السلام الذي اتهمه فرعون بالإفساد في الأرض والتفريق بين الناس إلى وقتنا الحاضر تتكرر المقالة، وتتكرر الوجوه الفرعونية المعادية للمؤمنين، والتي تنبزهم بأبشع الألقاب المنفرة كالإرهابيين أو التخريبيين ونحو ذلك، ولكن لا يزال سلاح المؤمنين الذي يتمسكون به دائماً وأبداً هو الصبر والحكمة حتى تفرج الشدائد وتكشف الكروب.(160/1)
مفارقات عجيبة في أحوال الأمة وتعامل النظام الدولي معها
الحمد لله ولي الصالحين، وناصر المؤمنين، ومعز الموحدين، وجاعل العاقبة للمتقين، وجاعل الدائرة على الكافرين الضالين ولو بعد حين، أحمده سبحانه وتعالى جعل لمن يؤمن به من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، وجعل بعد العسر يسراً، وجعل بعد الصبر نصراً، له الحمد كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال، وفي كل آن، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بعثه إلى الناس أجمعين، وأرسله رحمة للعالمين، وختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون: "الواجبات في الأزمات" موضوع حديثنا في هذا الزمن الصعب ومفارقاته العجيبة، ولا شك أن الأيام القريبة التي اختلت قد جمعت في طياتها أحداثاً فيها تناقضات ومفارقات، وأكثرها محزن مؤلم قد يحتار معها العقل، وقد يضيق بها الصدر، وقد تحزن بها النفس، غير أن دواء الإيمان الناجع يزيل ذلك كله.(160/2)
مفارقات في المواقف تجاه فلسطين وإسرائيل
لا شك أيها الإخوة المؤمنون أننا نرى هذه المفارقات في الحادث الذي تحدثنا عنه من قبل، في استشهاد البطل الفريد والشيخ القعيد أحمد ياسين رحمه الله، وكيف كان من أعداء الله عليهم لعائن الله استهداف ثم إعلان واعتراف، وكيف كان لأعوانهم من دولة البغي والظلم الكبرى في العالم تأييد لهم، واعتراض على نقدهم أو إدانتهم.
ثم مع ذلك كله ومع هذا الصلف والاجتراء والعدوان نرى موقفاً آخر من قادة الدول العربية، وهو موقف التجاهل والتغافل سوى كلمات قليلة وبيانات رسمية حفظ الناس لغتها وعرفوا تحفظاتها، ثم في تلك المداولات والمشاورات القريبة لم يرد ذكر الحدث لا من قريب ولا من بعيد؛ خوفاً من أن يسيء ذلك إلى الأوضاع العامة، أو أن يؤثر على الموقف الدولي أو غير ذلك.
ثم انظروا إلى صفحة أخرى من المفارقات المؤلمة: فرقة واختلاف انفض به مؤتمر القمة ولم ينعقد حتى يومنا هذا، وإن كان أكثر الناس لم يكونوا معولين شيئاً عظيماً ينتظر منها.
وفي الوقت نفسه انظروا إلى الحدث القريب: سبع دول لا تجمع بينها لغة، ولا يربط بينها دين، ولا توحدها جغرافيا قريبة، تأتلف وتنظم إلى دول أخرى ليتسع هذا الاتحاد وتعظم قوته وتكثر دوله، وتكون صفاً واحداً فيما يحقق مصالحها ويواجه أعداءها.
وكذلكم تعلمون ما زاد من دول عشر في الاتحاد الأوروبي، ونحن كأوراق شجرة في خريف تتساقط واحدة تلو الأخرى.
وأزيدكم من المفارقات القريبة العجيبة في القوة والإعلام الذي يظهره اليهود عليهم لعائن الله في دولة الغصب في أرض فلسطين، وهم يعلنون أسلحتهم النووية، وبرامجهم التي تصنف، ويكتب عنها في البحوث والكتابات الرسمية، ولا يستحيون من ذلك أو يخشون أحداً، ولا تستطيع دولة في الدنيا كلها أن تقول: إن عندهم أسلحة دمار شامل أو غير شامل، وفي مقابل ذلك ضعف وخذلان، وإقرار وتسليم مخزٍ لم يقع في عالم اليوم مثله يكون من دولة عربية مسلمة.(160/3)
مفارقات في المواقف من الجمعيات الخيرية
ثم انظر إلى غير ذلك من توسع وانتشار في الأعمال الخيرية المزعومة، والأعمال الإنسانية الجائرة في كثير من أحوالها في بلاد الغرب والشرق، وتضييق وحصار على الأعمال الخيرية والمؤسسات الإسلامية الإنسانية.
كان في أمريكا وحدها قبل نحو عامين مليون ونصف مليون جمعية ومؤسسة خيرية وإنسانية، وبلغ مجموع التبرعات في عام واحد مائة وواحداً وعشرين مليار دولار، ومعدل الجمعيات: جمعية لكل نحو ثلاثمائة وخمسين فرداً.
وفي دولة الكيان الصهيوني الغاصب نحواً من ثلاثين ألف جمعية خيرية -على حد قولهم وزعمهم- بمعدل جمعية لكل أقل من مائتين وخمسين فرداً، ثم الواجب المطلوب اليوم في كل بلاد الإسلام أن يضيق على العمل الخيري، وأن يخنق، وأن يحال بينه وبين أن يصل إلى المسلمين المضطهدين والمعذبين في شرق الأرض وغربها، وأن يكون الدرهم أو الدينار الذي يخرج لمساعدة من هدم بيته إرهاباً ينبغي على الجميع محاربته في الداخل والخارج.
ثم أيضاً: تحريض وتزوير في مناهج التعليم عند القوم في شرق الأرض وغربها، وصور مشوهة عن الإسلام والمسلمين، وافتراءات كاذبة على التاريخ والواقع والنصوص والشرائع كلها.
وأما في ديار المسلمين فالمطلوب هو التهذيب والتغيير في هذه المناهج حتى تصل إلى حذف الآيات من كتاب الله، أو محو الأحاديث من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا نحزن أحداً من أولئك القوم الذين يفيضون إنسانية ويرتقون في معاني الإنسانية ومراعاة حقوق الإنسان.
هل يا ترى نريد من ذكر هذه المفارقات وغيرها أن ندخل اليأس إلى القلوب؟ إننا نريد أن نسأل السؤال المهم: هل لنا في هذا دور؟ هل نحن مسئولون من قريب أو بعيد عن هذا؟ هل يمكن أن يكون لنا إسهام في تغيير الواقع، أم أن موقفنا قد يكون على أحد نوعين لا نريدهما ولا نسعى فيهما في غالب الأحوال: إما صراخ وجؤار وانفعال وحماس وأعمال طائشة واندفاعات غير صائبة، وإما يأس وقنوط ووضع اليد على الخد ننتظر أن لا يكون شيء إلا مزيداً من هذه الأحوال المؤسفة المحزنة.
أوضاع أمتنا الإسلامية عموماً والعربية خصوصاً -وخاصة في أحداث قمتها الأخيرة وما يدور حولها من الأحداث- تبرز لنا أن أكثر الدول تقدم المصلحة الذاتية على المصلحة العامة، وأنها في واقعها السياسي والعملي ذات تبعية وليست ذات استقلالية، وما فوق ذلك وبعده ومعه لا ترى حقائق الأمور، بل تمضي مع الأوهام.(160/4)
وقفة مع موسى وقومه في مواجهة طغيان فرعون
أيها الإخوة المؤمنون: كنت ولا زلت وسأظل أخاطب نفسي أولاً وأخاطبكم ثانياً؛ ليعرف كل منا مسئوليته ويحمل أمانته، ويؤدي واجبه، ولسنا نبحث عن المخرج من هذه الأزمات في شرق أو غرب، أو عند أنظمة دولية أو اتفاقات عالمية، ولا نرى ذلك إلا في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومقامنا هذا يضيق عن الإفاضة.
ووقفتي كما وقفنا من قبل في شأن الإصلاح مع بضع آيات تقصها علينا آيات القرآن، لصور مرت بأهل الإيمان مع أنبياء الله عز وجل، في مواجهة بغي وظلم وعدوان وكفر من أعظم أمثلة التاريخ البشري كلها، فأي أمر وجهه الله عز وجل إلى أهل الإيمان ليخرجوا من هذه الأزمات؟!(160/5)
عاقبة الصبر والثبات للمتقين
وتدل الآية على أن العاقبة المحمودة تنال بالتقوى، وهي اتقاء الكبائر والمعاصي: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128] هل تريدون عاقبة بلا تقوى؟ هل تريدون أن تخالفوا سنة الله الثابتة في آياته الناطقة الباقية إلى قيام الساعة؟ ثم استمع إلى المراغي في تفسيره وهو يذكر لنا كلام نفيساً ودرراً غالية في هذا المعنى ويقول: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي: العاقبة الحسنى لمن يتقون الله، ويراعون سننه في أسباب إرث الأرض باتحاد الكلمة، والاعتصام بالحق، وإقامة العدل، والصبر على الشدائد، والاستعانة بالله عند المكاره، ونحو ذلك مما هدت إليه التجارب، ودلت عليه الشرائع.
والخلاصة: أن الأمر ليس كما قال فرعون، بل القهر والغلبة لمن صبر واستعان بالله، ولمن وعده الله جل وعلا توريث الأرض، ونحن الموعودون بذلك، ولكن بشرط أن نقيم شرعه، ونسير على سننه في خلقه.
هل هناك أظهر من هذا البيان القرآني، وكلام العلماء رحمة الله عليهم جميعاً؟ ألسنا نرى هذا المنهج واضح المعالم؟ أين هي الاستعانة بالله التي ذكرنا صوراً منها؟ وأين هو الصبر الحميد؟ وأين هي المغالبة التي سنذكر أمثلة لها في واقعنا وليس في تاريخنا فحسب؟ ماذا كانت في العاقبة في هذه الآيات العظيمة؟ بعد بضع آيات جاءت النتيجة: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137].
إن سنن الله لا تتخلف، وإن وعد الله عز وجل لا يخلف: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى} [الأعراف:137] وعده الصادق {عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137]، كل هذه القوى الظالمة الباغية الضخمة الهائلة لا تساوي شيئاً في ميزان الإيمان بالله والاستعانة به، ما هي قوى الأرض كلها إلى قوة الله ملك الملوك، جبار السماوات والأرض؟ أين نصر الله عز وجل لقوم لا يفضون بقلوبهم إليه، ولا يلتجئون عند الشدائد إليه، ولا يعتمدون بصدق ولا يتوكلون عليه، ثم يقولون: أين هو نصر الله عز وجل؟ أين تقوى الله سبحانه وتعالى من بواطن قلوبنا ونفوسنا، وظواهر أحوالنا وأقوالنا وأفعالنا، فلقد عم الفساد إلا ما رحم الله، وساد الخنا والزنا والفسق والفجور تخاطب به الآذان، وتجبه به الأبصار، ويروج له على الصفحات والشاشات، ثم نقول: أين منا نصر الله عز وجل؟ وأين أحوال أمتنا العربية الضعيفة الهزيلة وقد كان فيها ومنها ما هو حرب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم؟! كيف نريد نصر الله ونحن نجاهر بذوات أنفسنا وفي أحوال أمتنا بمعصية الله عز وجل؟! سنن الله لا تتغير: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].(160/6)
الاستعانة بالله في الأزمات
إننا نتلو آيات من كلام الله عز وجل، إننا نتلو قرآناً حقائقه قاطعة يقينية، فإن كنتم في شك من كتاب ربكم ومن كلام خالقكم، ومن سنن بارئكم، فلا أمل ولا خير فيكم.
استمعوا إلى قول موسى عليه السلام: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128].
(قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ) وليست لفرعون، ولا لأمريكا ولا للشرق ولا للغرب.
(يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) كلمات واضحات! قد يقول بعض الناس: وماذا في هذا؟ وأي شيء سيغير هذا في الواقع؟ ليس في هذا مواجهة، وليس فيه مصادمة؟ نقول: هو منهج السنة الربانية، ابدأ بنفسك أولاً، حرر إيمانك، أخلص نيتك لله، اصدق في تعلقك بالله عز وجل، ما هي القوة التي تعتمد عليها؟ قوة الله! من هو الذي تلجأ إليه في السراء والضراء؟ أهو الله؟! من الذي تفضي إليه بهمك وغمك؛ هل هو الله أم ما زالت تتوزعك الأهواء؟! أم ما زالت أحوال أمتنا ودولنا تبحث عن سند هنا أو هناك، وتبحث عن قوة من هذا أو ذاك؟! (استعينوا بالله) أين هي الاستعانة بالله في واقع حياتنا اليومية البسيطة؟ عندما نمرض هل تتحقق استعانتنا بالله؟! عندما يُضَيَّق في رزقنا ويقتر علينا في عيشنا بقدر الله هل نستعين بالله؟ هل القلوب مملوءة بهذا اليقين: أن الأمر كله لله، وأن الخير والشر والضر والنفع إنما هو بيد الله؟! ألم نستمع لهذه الكلمات التي قالها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم لغلام صغير كان معه: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)؟ أين اليقين الذي يرسخ في القلوب ليكون قوة لا تستطيع قوى الأرض كلها أن تقف في مواجهتها؟! {اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} [الأعراف:128] قال السعدي في تفسيره: قال موسى لقومه موصياً لهم في هذه الحالة التي لا يقدرون فيها على دفع ولا مقاومة: استعينوا بالمقاومة الإلهية، والاستعانة الربانية، (استعينوا بالله) أي: اعتمدوا عليه في جلب ما ينفعكم، ودفع ما يضركم، وثقوا بالله أنه سيتم أمركم، (واصبروا) أي: الزموا الصبر على ما يحل بكم منتظرين الفرج.
ونقل القاسمي في تفسيره عن بعضهم كلمات رائعة في الاستنباط في هذه الآية، قال: تدل على أنه عند الخوف من الظلمة يجد الفزع إلى الله سبحانه وتعالى، والاستعانة به، والصبر.
ولا مفزع إلا هذين: الانقطاع إلى الله تعالى بطلب المعونة في الدفع، واللطف في الصبر.(160/7)
قوى الظلم تتهم المصلحين بالإفساد
استمعوا معي إلى هذه الآيات: {وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف:127].
تأملوا هذه الآية في مطلع مقطع قصير من هذه القصة: (وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ) أليس هذا هو واقعنا اليوم؟! أليس أهل الإسلام والإيمان هم الإرهابيون وهم العنصريون، وهم المفسدون في الأرض؟ ومن يقول ذلك؟! يقوله أكابر المجرمين من شذاذ الأرض وأفاكيها من اليهود ومن يعينهم من الصليبيين اليمينيين المتطرفين.
(أَتَذَرُ مُوسَى) نبي الله عز وجل! كليم الله سبحانه وتعالى، (وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ) أي إفساد جاء به موسى عليه السلام؟ يقول ابن كثير في تفسيره: أتدعهم ليفسدوا في الأرض، أي: ليفسدوا رعيتك، ويدعوهم إلى عبادة ربهم دونك، يقول ابن كثير بهذه العبارات: يا لله العجب! أصار هؤلاء هم المفسدين؟! ألا إن فرعون وقومه هم المفسدون ولكن لا يشعرون! وقال السعدي: ليفسدوا في الأرض بالدعوة إلى الله، وإلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال التي هي الصلاح في الأرض، وما هم عليه هو الفساد.
نعم هذا هو واقع اليوم، هذه الأمور التي انقلبت، والمقاييس التي انتكست، والحقائق التي تبدلت وتغيرت، حتى أصبح الطاهر قذراً، وصاحب الحق مبطلاً، والناطق بالخير مفسداً، لم يقل ذلك أعداء الله فحسب، بل صرنا اليوم نسمعه من بني جلدتنا، ومن الناطقين بلغتنا، بل ربما نرى من يقوم به في واقعنا أكثر ممن يقوم به من أعدائنا: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف:127] وجاء جواب فرعون طاغية الأرض الأعظم: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف:127] حرب على الإرهاب لا هوادة فيها، سنظل نحارب الإرهاب، وسنجمع الدول كلها لمحاربة الإرهاب، وعلى الجميع أن يحاربوا الإرهاب، ذلك الذي نسمعه اليوم هو الذي نقرؤه في آيات الله، ولكن المهم عندنا ما الذي قاله موسى لقومه؟ ما الذي قاله للمؤمنين من أتباعه من بني إسرائيل؟ وماذا كانت نهاية الأمر؟(160/8)
موقف المسلم من أمراء السوء
استمعوا معي إلى هذا الحديث الذي يرويه الترمذي في سننه من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه، استمعوا إليه وهو يحكي صورة من واقعنا، قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (أعيذك بالله يا كعب بن عجرة من أمراء يأتون من بعدي، فمن غشي أبوابهم فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، ولا يرد عليّ الحوض، ومن لم يغش أبوابهم فلم يصدقهم بكذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه، ويرد عليّ الحوض.
يا كعب بن عجرة! الصلاة برهان، والصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار.
يا كعب بن عجرة! إنه لا يربو لحم من سحت إلا كانت النار أولى به) قال الترمذي: حسن غريب.(160/9)
الصبر على فساد الأمراء
روى ابن عباس رضي الله عنه حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام عندما قال: (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة الجاهلية) ذلكم ما وجه به النبي صلى الله عليه وسلم مطابقاً للقرآن: (الصبر)، وليس الصبر قعوداً ولا عجزاً، بل الصبر ضبط لئلا يترك الحبل على غاربه، ولئلا تنطلق الحماسة تدمر وتفجر وتفسد وتهلك الحرث والنسل، فلا يعود انضباطاً ولا أمناً ولا أماناً، ولا يعود قدرة على الإصلاح والتغيير.
واستمعوا إلى حديث مسلم أيضاً في مسألة سألها الصحابي الجليل مسلم بن يزيد الجعفي رضي الله عنه، قال: (يا نبي الله! أرأيت إن كانت علينا أمراء يسألوننا حقهم ويمنعوننا حقنا، فما تأمرني؟ فأعرض عنه الرسول صلى الله عليه وسلم)، وأحسب أن هذا السؤال يكرره كثير من الناس وهم في قمة انفعالهم، وشدة حماستهم، فأعاد
السؤال
( يا نبي الله! أرأيت إن كانت علينا أمراء يسألوننا حقهم ويمنعوننا حقنا، فما تأمرني يا رسول الله؟ فأعرض عنه، فأعاد عليه الثالثة قال: ما تأمرني يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: اسمعوا وأطيعوا، فإن عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم) أي: ستسألون وحدكم، ستسألون عن واجباتكم، عن فرائضكم، (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه كفاحاً ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فإذا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة).
تلكم ومضة من ومضات القرآن والسنة، كيف نواجه هذه الأزمات؟ استعانة بالله، وصبراً على ما قدر الله، وتحققاً بالتقوى، وانتظاراً لوعد الله، فإن الأمر كله لله.
نسأل الله عز وجل أن يحسن أحوال أمتنا، وأن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يرجع بنا إلى سبيل الحق والهدى والرشاد، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(160/10)
الالتزام بالدين والكفر عن المعاونة على الظلم
هذا حديث يحكي واقعنا: (يا كعب بن عجرة! أعيذك بالله من أمراء يأتون من بعدي) أي: لا يكونون على نهجي، قال: (فمن غشي أبوابهم، وصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم)، فنحن شئنا أم أبينا جزء من هذه المسئولية لهذا الفساد الذي عم وطم، نسأل الله عز وجل السلامة.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حديثه: (يا كعب بن عجرة! الصلاة برهان، والصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة) لم قال ذلك؟ يا مسلمي اليوم! يا أتباع محمد! التفتوا إلى واجباتكم التي قصرتم فيها، التفتوا إلى الفرائض والطاعات والعبادات التي لم تعودوا تؤدونها، أو لم تعودوا تؤدونها على الوجه المطلوب؟! اعلموا أن طاعتكم واستقامتكم طريق لتغير أحوالكم بإذن الله عز وجل: (الصلاة برهان، والصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار).
ثم أفرد النبي تنبيهاً وتحذيراً: (يا كعب بن عجرة! إنه لا يربو لحم من سحت إلا كانت النار أولى به)، كيف ترجون إجابة الدعاء والطعام حرام والملبس حرام، وقد شاع بين الناس وهان في نفوس كثير منهم أكل الحرام؟ يقول صلى الله عليه وسلم: (كل جسم نبت من سحت فالنار أولى به)، (يمد يديه إلى السماء، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له)، (يا سعد بن أبي وقاص! أطب مطعمك تكن مجاب الدعوة).
لم لفت النبي صلى الله عليه وسلم النظر إلى الأفعال المطلوبة، وإلى الأفعال المحذور منها والمنهي عنها؟ ليقول: إنه لا بد لكم من عمل تصلحون به أحوالكم، وتغيرون به نفوسكم، حتى تتهيئوا لرحمة ربكم.
ولو أردنا أن نفيض في أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم لوجدنا الكثير من ذلك، ولوجدنا ما يستدعي ويسترعي انتباهنا.(160/11)
أهمية الاستعانة بالله والصبر عند الأزمات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن ما ذكرناه من ومضات هذه الآيات، وأنوار هذه الأحاديث، حري بنا أن نلتفت إليه ونعتني به، وأنا أعلم أن طبائع النفوس تريد الحديث العام الذي يوزع التهم والمسئوليات بعيداً عنها، فهذه مسئولية الأمراء، وتلك مسئولية العلماء، وكأنه ليس لنا في الأمر شأن، لكننا أيها الأحبة الكرام نريد أن نواجه أنفسنا، نريد أن نقول: ما الذي فعلناه نحن أولاً لنكون سبباً من أسباب هذه الأوضاع المزرية؟ وما الذي فعلناه أو الذي سنفعله لنكون سبباً من أسباب الإصلاح والتغيير بإذن الله عز وجل؟ ولعلي أنتقل بكم في ومضة سريعة لصورة مشرقة وضيئة؛ لنرى آثار تطبيق هذا.
إخواننا المرابطون المجاهدون في أرض الإسراء، لا نفتأ نذكرهم، ونفخر بهم، ونرى في مسيرتهم وسيرتهم أنموذجاً إيمانياً يحتذى، (استعينوا بالله)، فهل يستعينون بنا نحن معاشر العرب والمسلمين الذين تخلينا عنهم وبخلنا بأموالنا، وربما نسيناهم في دعواتنا؟! ما هي استعانتهم في وجه ذلك الظلم والعدوان والبطش والإرهاب الذي ليس له في دنيا الناس اليوم مثيل؟! إن استعانتهم بالله، ألم تسمعوا إلى الشيخ القعيد وهو يخاطبكم فيما أسلفت في الجمعة الماضية، ألا تسمعوه وهو يقول: نحن طلاب شهادة، نحن لا نريد هذه الدنيا الفانية، نحن رغبتنا وأملنا أن يقبلنا الله عز وجل في الشهداء.
ألستم ترون أنهم يواجهون قوة عظمى بكل المقاييس المادية، ومن ورائها القوة العظمى كما يسمونها، ثم ليس لهم إلا الاستعانة بالله، ثم صبر فريد عجيب، نسأل الله عز وجل أن يزيدهم منه وأن يعينهم.
ثم بعد ذلك صورة التقوى المشرقة في المساجد الممتلئة، والأيدي المتوضئة، والجباه الساجدة، والأرواح المستشهدة، ألسنا نرى صورة من ذلك؟ ألسنا نستمع إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك) وفي رواية أحمد في المسند: (أين هم يا رسول الله؟ قال: في الشام وفي أكناف بيت المقدس) ألسنا نرى أن المنهج يتجدد في كل مكان؟ يلتزم أهل الإيمان أمر الله عز وجل، ويلتجئون إليه، ويصبرون على ما قدر عليهم، ويتحلون بالتقوى، فتكون العاقبة قريباً لا بعيداً: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137].
كم هي المواقف في تاريخ أمتنا من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وإلى الأزمنة المتأخرة! كيف فتح محمد الفاتح القسطنطينية التي أعيت المسلمين ثمانية قرون وهو شاب في الخامسة والعشرين من عمره، ارجعوا وقلبوا صفحات التاريخ، وانظروا إلى كل من فتح الله عليه وأعز به دينه، فسترون استعانة بالله، وصبراً وتقوى، وسترون تغيراً وتغييراً وإصلاحاً قبل أن يأتي النصر الذي يظهر في صورته المادية.
ما الذي فعله صلاح الدين وقد أسلفنا القول عنه؟ أليس قد منع الفساد والفسق والفجور وأغلق الخمارات؟ أليس قد أحيا العلم وأشاعه بإحياء المدارس وإنشائها في كل مكان؟ أليس قد عمل على الوحدة فضم بلاد اليمن إلى بلاد الحجاز إلى مصر لتكون دولة إسلامية واحدة في ذلك الوقت والزمان؟ أليس قبل ذلك كله كان عابداً تقياً، كان داعياً مخبتاً مخلصاً لله عز وجل؟ ألم يكن يجعل من يدعون الله عز وجل من أهل الجيش في كل كتيبة حتى جاء النصر من بعد؟! وأمتنا منصورة بإذن الله، وذلك وعد الله، ولكن الشرط لا بد أن يتحقق، نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً.
اللهم إنا نسألك التقى والهدى، والعفاف والغنى، اللهم استخدمنا في طاعتك، وسخرنا لنصرة دينك، واجعلنا ستاراً لقدرك في نصر الإسلام والمسلمين.
اللهم أنطق ألسنتنا بذكرك، وولع قلوبنا بحبك، واجعل أيدينا منفقة في سبيلك، وأقدامنا سائرة لطاعتك، وجباهنا ساجدة لعظمتك.
اللهم اجعلنا لك عابدين، اللهم واجعلنا عليك متوكلين، اللهم واجعلنا بك واثقين برحمتك وعزتك وقوتك يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم يا رب العالمين! يا ناصر المستضعفين! يا كاشف الضر! يا فارج الهم! نسألك اللهم أن تفرج همومنا وغمومنا، وأن تكشف عن أمتنا أحوال ضرها وشرها يا رب العالمين.
اللهم إليك نشكو ضعف قوتنا، وقلة حيلتنا، وذهاب قوتنا، وهواننا على الناس، إلى من تكلنا، إلى بعيد يتجهمنا، أم إلى عدو ملكته أمرنا! اللهم إن لم يكن بك علينا غضب فلا نبالي، ورحمتك وعافيتك أوسع لنا يا رب العالمين.
اللهم أيدنا بتأييدك، وانصرنا بقوتك وعزتك يا رب العالمين.
اللهم إنه لا حول ولا قوة لنا إلا بك، فأمدنا اللهم بحولك وقوتك يا رب العالمين.
اللهم لا نخيب وأنت رجاؤنا، ولا نضل وأنت هادينا، ولا نهزم وأنت ناصرنا يا رب العالمين يا أرحم الراحمين! اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء.
اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم إنهم قد طغوا وتجبروا وتكبروا، اللهم إنهم قد أذلوا عبادك المؤمنين، وانتهكوا حرمات المسلمين، اللهم فأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، واجعلهم عبرة للمعتبرين، اللهم لا ترفع لهم راية، ولا تبلغهم غاية، واجعلهم لمن خلفهم آية، اللهم استأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، واجعل بأسهم بينهم، ورد كيدهم في نحرهم، واشغلهم بأنفسهم، وأرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، وزلزل الأرض تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر يا قوي يا عزيز يا متين، يا منتقم يا جبار، يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام، وأخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(160/12)
حرب على الإسلام
يكن أعداء الإسلام كل الحقد والعداء والخبث لهذا الدين وأهله، ولهذا يسعون جاهدين في قتل وتشريد المسلمين، ويستغلون مآسي المسلمين للدعوة إلى أديانهم الباطلة، بل ويصطنعون المآسي لأجل ذلك، وللأسف الشديد نجد المسلمين لا يلتفتون إلى إخوانهم، ولا يساعدونهم في مآسيهم، إلا من رحم الله، فيجب على المسلمين أن يتكاتفوا ويتراحموا فيما بينهم، كما يدعوهم إلى ذلك دينهم، علهم أن ينجو في الدنيا من العذاب، وفي الآخرة من سوء العقاب.(161/1)
أحوال المسلمين اليوم في ظل الصمت العالمي
الحمد لله الذي أحيا القلوب بالإيمان، وشرح الصدور بالإسلام، ونور البصائر بالقرآن، نحمدك اللهم حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه على آلائك ونعمك التي لا تُعد ولا تُحصى، حمداً كما تحب وترضى، نحمدك اللهم على كل حال وفي كل آنٍ، لا يُحمد على مكروه سواك، أنت أهل الحمد والثناء، فلك الحمد في الأولى والآخرة.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، خلق الإنسان، وعلمه البيان، وأرشده إلى طريق الطاعة والإيمان، وكره له الكفر والفسوق والعصيان، ووعده عند الطاعة بالجنان، وتوعده عند المخالفة بعذاب النيران.
وأشهد أن محمداً عبده المصطفى ونبيه المجتبى، اختاره الله جل وعلا لأن يكون خاتم الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، ما من خير إلا وأرشدنا إليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، وتركنا على المحجة البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم، وسار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! حديثنا اليوم هو عن الحرب على الإسلام، تلك التي تدور رحاها في كل مكان، والتي تمتد عبر التاريخ والزمان منذ قرون خلت.
وفي معركة بين الإسلام والكفر صاح القائد المسلم عندما اشتد كيد الأعداء مردداً: واإسلاماه!! يحيي بها قلبه، ويقوي بها قلبه، ويحمس بها جنده، وينظم بها صفه، ويدحر بها عدوه، وكانت هذه الصيحة تنبعث من أعماق القلب فتجد صداها في قلوب المؤمنين الذين تجري في دمائهم عزة الإسلام واستعلاء الإيمان والالتزام بهذا الدين العظيم.
فتحركت مع أصداء هذه الصيحة قوة الإيمان، ووحدة الإسلام، والغيرة على دين الله، والشدة على أعداء الله سبحانه وتعالى، فكانت الجولة للإسلام والمسلمين، وكان النصر والعزة والغلبة والتمكين.
واليوم تتردد هذه الكلمة، واليوم تُعاد وتكرر هذه الكلمة، وتملأ أجواء الفضاء، وتشق عنان السماء؛ يصرخ بها الأطفال الأبرياء، والفتية الأشداء، والرجال الأقوياء، والنساء، والضعفاء، تنطلق من إفريقيا السوداء، ومن قلب أوروبا البيضاء، ومن فلسطين السليبة، ومن كشمير الحزينة: أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصاً جناحاه هذه الصيحات والصرخات تصم الآذان، وتنادي الإيمان، وتخاطب الوجدان، وتناشد الإنسان، ولكن لا ملبٍ ولا مجيب، إنها صيحة في واد ونفخة في رماد، فما تزال جراحات المسلمين تتوالى، وليس الحديث مقصوراً على المآسي، وإنما هو لبيان أن كل هذه المآسي إنما هي صورة واحدة متعددة الأشكال للهجمة الشرسة والحرب الضروس التي تمارس ضد الإسلام، ليست في ديار الكفر بل حتى في ديار الإسلام والمسلمين: قلبي يفيض أسىً وعيني تدمع والجسم من فرط الضنى متضعضع نار تمور بها الحشى مثالم يسري نياط القلب فهي تقطع حر يسام أذىً ويهتك عرضه قهراً فيالله كم ذا مفزع وفتاة طهر بالحجاب تلفعت عنها حجاب الطهر قسراً يُنزع وشباب حق بالهدى مستمسك يلقى عذاب الهون كيما يركع هذه هي الصورة التي تلامس الأسماع، وتواجه الأبصار في كل لحظة وآنٍ، وفي كل موطن وميدان، ولنا وقفات لكل واحدة منها تدمي القلوب، وكل واحدة منها تستثير الهمم، وتوقظ الغافلين.(161/2)
صور من مآسي المسلمين في الصومال
عندما أردت أن أجمع صوراً متفرقة لأخلص منها إلى أن هناك حرباً مقصودة هادفة مبرمجة ضد الإسلام والمسلمين؛ فإنني وجدت نفسي محاصراً بآلاف وآلاف من الوقائع والأحداث وبتقارير كثيرة، فآثرت أن أختصر وأقتصر، وأن أتيح المجال لقضية لم يسبق الحديث عنها بتفصيل، ولم نذكر فيها المآسي والصور التي لا تخطر على البال، ولا يتصورها العقل، ولا يمكن أن يرضى بها من في قلبه ذرة إنسانية، أو بقية فطرة، فضلاً عن أن يكون صاحب إسلام أو أن يدعي أنه صاحب إيمان.
تلكم هي المآسي الدامية في أرض الصومال المسلمة، لعل مما دفعني أن أسهب في هذا الجانب أنه وصلني بالأمس تقريران خطيران ميدانيان عن صور مفزعة لما يجري هناك، وعن طبيعة الاستثمار التنصيري لمآسي المسلمين؛ مما يدل على أن كل موقع تقع فيه مأساة فإن المأساة الإنسانية تهون أمام المأساة الإسلامية الدينية، ولذلك أوجز لكم الحديث في بعض الأرقام، ثم أذكر بعض المشاهد، ثم أجتزئ جزءاً من الوقت لأقرأ لكم بعض هذه التقارير، كما كتبها من شاهدوا بأم أعينهم، والذين ما يزالون في تلك المواقع ينبئوننا عن الأحوال، يستثيرون الهمم، ويحركون المشاعر.
في كينيا ثلاثمائة وخمسون ألفاً من اللاجئين الذين فروا من ويلات الحرب ومن شدة وضراوة القتال، ومن بؤس وقسوة الجفاف! وفي أثيوبيا منهم أيضاً مئات آلاف أخرى، وفي اليمن منهم عشرات الآلاف، ولك أن تتصور بماذا خرج هؤلاء؛ خرجوا بغير شيء إلا ثيابهم التي تستر عوراتهم، وتخلوا عن هذه الثياب في رحلة العناء، فإذا بهم عراة لا يجدون حتى ما يكفنون به موتاهم! وقد نفقت وهلكت نحو (92%) من المواشي أبقاراً وإبلاً وأغناماً، وهي التي تُعد المصدر الأول في غذاء أولئك القوم في تلك البلد المسلمة التي نسبة المسلمين فيها (100%) من بين سائر الدول الأفريقية! ثم في هذه الرحلة المريرة، وتحت الحرب القاسية يموت نحو خمسة آلاف طفل يومياً! خمسة آلاف طفل بريء مسلم يموتون من عضة الجوع ومن قنص الرصاص ومن شدة العطش والمعاناة القاسية الرهيبة! وأيضاً: حين تجد المعسكرات التي أعدت للاجئين فإنك ترى فيها عجباً! وترى فيها أمراً غريباً! إذ بعشرات الآلاف يحشرون في الأماكن الضيقة، وليس عندهم من قوت، ولا مأوى ولا سكن، فإن مساكن هؤلاء المغرَّبين والمهجَّرين إنما هي أعواد من الخشب وبعض القش! ويقول التقرير أيضاً: والغني أو السعيد منهم من يكون عنده بعض قطع من الكرتون يسد بها الشقوق والثقوب! فعلى سبيل المثال: في منطقة يسكنها (126000)، ونزح إليهم (70000) آخرين، هؤلاء يعيشون على (18) بئراً ارتوازياً لهذا العدد كله بعد أن فقدوا مصادر الرزق والقوت بهلاك أنعامهم ودوابهم! ثم أنتقل إلى بعض الصور المحددة والتي تروي بعض هذه المآسي: هذه أم تخرج بأطفالها تهاجر وتغترب، وفي أثناء هذه الرحلة المريرة يموت طفلها الأول، فتدفنه وتمضي، ثم تموت الأم، ويبقى الأبناء جياعاً ضائعين؛ لا يجدون ما يأكلونه إلا جسد أمهم، فأكلوا منه!! وهذه وقائع مكتوبة من شهود العيان الذين يرسلون التقارير، ويستنجدون ويستصرخون الإيمان في أمة ماتت فيها الهمم، ونُزعت منها الغيرة، وانشغلت بلهوها، وسارت وراء أهوائها، وعبثت بها المجون والأهواء في كل ناحية وفي كل مكان.
ولعلي أطيل في ذكر هذه الصور؛ لأننا لا نصدقها؛ ولأننا نستبعد وقوعها في زمن الحضارة التي تنفق ليس عشرات ولا مئات بل آلاف الملايين من الدولارات لأجل إطعام الكلاب والقطط في شرق الأرض وغربها! وليس ذلك في ديار الكفر فقط، بل في ديار المسلمين أيضاً! وتنفق أيضاً مئات وآلافاً من هذه الملايين على اللهو والعبث والفن الماجن والخمور والدعارة والسياحة! والمسلمون يموتون ولا من ملب ولا مجيب.
وهذه قصة أخرى: امرأة جاءت إلى هؤلاء الإخوة الذين ذهبوا للزيارة والإغاثة، وإذا بها ليس عليها حجاب، أرادوا أن ينكروا عليها فبادر زوجها وقال: لقد كفنت ابني بحجاب أمه، وليس عندها ولا عندي ما تستر به عورتها أو تغطي شعرها!! إنها حقائق ليست خيالات، فليس عند القوم ما يكفنون به موتاهم.
ولقد ذكر لي بعض الإخوة الذين قدموا من هناك: أنه استقبلهم هؤلاء اللاجئون وقالوا: لا نريد منكم طعاماً ولا شراباً، نريد أكفاناً نكرم بها موتانا، فإننا ننتظر الموت في كل لحظة وآنٍ!! ومن أفظع التقارير: أنه لكثرة الموتى ولعدم قدرة الآخرين لضعفهم وهزالهم على دفنهم يدفن الميت في حفرة لا يزيد عمقها عن ثلاثين سنتيمتراً، فإذا جاءت الرياح ظهرت الجثث، وتعفنت الأجواء، وكثرت الأمراض والأوبئة!! وقصة ثالثة: امرأة كانت تملك مائتين من البقر ومثلها من الغنم، وجدوها تسكن بين أعواد الشجر مع ثلاثة من أولادها لم تذق منذ يومين إلا قليلاً من الماء، وتقول: إنني مستعدة لأكل الجلد، ولأكل أي شيء من أجل أن أعيش!! ولعل هذا الذي ذكرته لا يُعد شيئاً مما سأتلو عليكم من بعض هذه التقارير التي وصلت بالأمس كما أشرت إليكم.(161/3)
بعض التقارير التي تبين حجم المأساة في الصومال أثناء الحرب
يقول التقرير الأول: في منطقة علوان -وهي المنطقة التي فيها أكبر تجمع لهؤلاء على الحدود الصومالية الكينية- مخيم فيه (25000) لاجئاً، ولا يوجد فيه أي مركز من مراكز الإغاثة، وإنما قدم فيه الصليب الأحمر وجبة واحدة فقط، وكثير منهم لم يحصل على شيء، ومنهم عائلة من ستة أشخاص لم تحصل على شيء لمدة عشرة أيام، ولما وصل بعض الإخوة من السعودية يوم الخميس الماضي إليهم إذا بجميع هذه العائلة جثث هامدة قضى عليها الجوع وهي تشتكي إلى الله!! ووجدوا خيمة فيها خمسة أطفال، واحد منهم عنده جرح من إثر دمل في الصومال، ونقل من هناك بوسائل مختلفة، منها: المشي والحمل على ظهر البعير، وعلى أكتاف العائلة، حتى اتسع هذا الجرح الصغير فأصبح طوله أكثر من خمسة عشر سنتيمتراً! ووصل إلى العظم، وهو يحتضر الآن لعدم إمكانية علاجه! ويقول كاتب التقرير ويضع هذه العبارة بين قوسين: (إذا كنت لا تصدق احضر وانظر بنفسك!).
ثم يقول: هل رأيت شخصاً لم يغتسل بالماء منذ ولدته أمه؟! تعال معنا إلى اللاجئين في عليوان لترى العجب! ثم يذكر أيضاً قصة أخرى ويقول: طفل أصيب بالملاريا، ولم يستطع شراء الدواء، (وقيمة هذا الدواء خمسة وعشرين هللة للعلاج كله)، وامتدت الملاريا إلى المخ، وأصيب بإغماء وفقدان الشعور لمدة أربع وعشرين ساعة، وأصيب بصرع نتيجة الملاريا يحتاج إلى إبرة للعلاج كلفتها ستين هللة، وبالطبع كان وضعهم لا يسمح بشرائها، وجدناه وهو بين الموت والحياة، ونقلناه إلى المستشفى، ولا ندري أكتبت له الحياة أم لا! وسوف نخبركم بما يحدث له لاحقاً.
هذا طفل استطعنا نقله، وأمثاله آلاف لم يستطيعوا الانتقال إلى المستشفى أو شراء العلاج، والكل ينادي: واإسلاماه!! هل من بضع هللات تكون هي الفرق بين الموت والحياة نشتري بها الدواء؟! والكل يناشد: أين الأطباء المسلمون ينذرون شهراً من حياتهم زكاة عن أعمارهم لإخوانهم المحتاجين؟! والتقرير الآخر كتبه أحد الأئمة والخطباء ممن زاروا هذه المنطقة في الفترة القريبة الماضية، يقول: رأيت طفلاً في العاشرة من عمره لا يستطيع أن يقوم من شدة الجوع، بل لا يستطيع أن يمضغ الطعام؛ لأن عملية مضغ الطعام تحتاج إلى قوة هو من أفقر الناس إليها! ورأيت بعض الأمهات يرضعن أولادهن وهن أكثر جوعاً وأهزل جسماً من أطفالهن! ورأيت بعض النساء يعملن من الصباح حتى المساء راتبها اليومي وجبة واحدة من الطعام لها ولصبيتها الصغار، فتذكرت رواتبنا الشهرية التي أنعم الله بها علينا، والتي لا يؤدي الكثير منا حق الله فيها! ووجدنا بعض النساء قد انكشف شيء من صدورهن أحياناً، فاندفعنا متحمسين لإنكار ذلك فقيل لنا: إنهن لا يملكن ما يوارين به ما انكشف من أجسادهن! بل هناك بعض النسوة قلن: أعطونا ملابس نستر بها أجسادنا العارية، ولكم علينا عهد ألا نلبس ملابسكم إلا في الصلاة إن أردتم ذلك! فتذكرت الملابس التي عندنا والتي احتار كثير من الناس ماذا يفعل بها، وتذكرت مراكز تخفيف الوزن التي يعلن عنها في صفوفنا، وتذكرت الحفلات التي تهدر فيها الأموال بغير حساب، وتذكرت القمامة التي نرمي فيها البراميل الخضراء وما فيها من الأرز واللحم وأصناف الطعام المختلفة، فقلت في نفسي: يا رب! ما أحلمك علينا! وما أرحمك بنا! ويقول: اتجهنا إلى الحدود الكينية الصومالية، وزرنا قرية مجير وعليوان، وقد رأينا صوراً بئيسة أدمت القلوب، وأبكت العيون، وقفنا عند تجمع للنازحين، فسألناهم عن حالهم، فقال لنا شيخ كبير: نحن نعاني من الجوع، وهيئة الأمم تعطي كل أسرة كيلو واحد من الذرة كل خمسة عشر يوماً! ولك أن تتصور قلب الأم وهي ترى طفلها يتلمظ بين يديها ثم يموت، ليس به شيء إلا الجوع! ثم قال: ونحن نعاني أيضاً من البرد، والبرد عندنا قارس، وليس لهم إلا التراب ينامون عليه، وأغصان الشوك يلتحفون بها، ونعاني من لدغ العقارب والحيات، ولا دواء، ونحن كما ترى ننام في العراء، والأرض التي نحن فيها تكثر فيها الهوام، ونحن ندفن كل يوم خمسة عشر نفساً ما بين شيخ كبير، وطفل رضيع، لا نجد ما نكفنهم به!! ثم رأينا بعض الأسر النازحة، ولقد رأينا عجباً ما رأيناها تحمل معها قدوراً، ولا رأيناها تحمل معها زاداً ولا طعاماً ولا فرشاً، ولكننا رأيناها تحمل فيما تحمل لوحاً من الخشب، تعتز به، وتحمله معها أينما حلت؛ إنه لوح كتبت عليه بعض سور القرآن الكريم! حقاً إنهم قوم يعتزون بإسلامهم، ويموتون على إيمانهم، وهذه الصور المفزعة غيض من فيض، وهذا تقرير لأفراد معدودين ممن رأوا هذه الصور على مناطق الحدود، فكيف بما هو في داخل الجحيم، وفي أتون النار، وفي معمعة القتال، وفي نار الرصاص؟!!(161/4)
استغلال المنصرين مآسي المسلمين في دعوتهم إلى النصرانية
ولك أن تتصور بعد ذلك ما هي النتيجة المتوقعة؟ وما هي النصرة المنتظرة؟ وما هو العمل الذي بدأ يلامس أولئك القوم؟ إنه التنصير الذي يفرح بمثل هذه المآسي، بل ربما يخطط لها، بل ربما يستزيد أمدها ويطيل زمنها؛ ليقطف الثمار في ظل هذه المآسي تنصيراً للمسلمين، وسرقة لأبنائهم، وإنك لترى -كما يذكر إخواننا في تقاريرهم- أعداداً من هؤلاء المساكين يقفون على أبواب السفارات الأوروبية في نيروبي عاصمة كينيا؛ لينتقلوا إليها، ثم تحتضنهم هناك الجمعيات التنصيرية، ثم يُسلب منهم أبناؤهم، وبعد فترة يُعاد الآباء ويبقى الأبناء؛ ليتغذوا بغذاء الصليب، وليرضعوا لبان المسيحية، وليعودوا حربات تطعن في قلب الأمة المسلمة! والذي يقوم بالإغاثة والعمل هناك: أولاً: منظمات تنصير: الكنيسة الأفريقية الداخلية، وهي منظمة أمريكية بروتستانتية.
ثانياً: الكنيسة الكاثوليكية.
ثالثاً: منظمة (جي سي دت) الألمانية.
رابعاً: منظمة أطباء بلا حدود البلجيكية.
خامساً: منظمة العون الأمريكية.
سادساً: منظمة الرؤيا العالمية.
سابعاً: منظمة أكسفام للإغاثة الإنجليزية.
ثامناً: منظمة الصليب الأحمر السويدية.
وكلها هناك تضطهد وتقدم الغذاء بيد والإنجيل باليد الأخرى! بل لا تعطي الغذاء حتى يأخذ الإنجيل، وحتى يكفر بالإيمان، وحتى يخرج من الإسلام!! وفي هذه التقارير أيضاً عجب عجاب من هذه الصور التي تلبس وتشوش علينا؛ تبين لنا حقيقة الواقع لهذه المنظمات التي تسمى إنسانية، فهذا التقرير يقول: لقد عشعش الصليب هناك وفرخ، والقساوسة والمنصرون ركزوا جهودهم ونشاطهم في الأماكن التي يكثر فيها المسلمون، واستغلوا الكثير من المؤسسات ذات الصبغة الرسمية في نشر دعوتهم، ومن هذه المؤسسات: هيئة الأمم المتحدة؛ لقد وضعت جميع إمكاناتها وأموالها تحت تصرف القساوسة والمنصرين! ووجدنا مراكز تنصيرية على شكل بعثات تمثل الدول الأوروبية النصرانية، وقد زودت بكافة الإمكانيات الضخمة والأموال الطائلة، وقد زرت مركز البعثة التنصيرية لإحدى الدول الأوروبية فوجدت الأطباء والدواء والغذاء والماء والسيارات والخيام، ووجدت المركز يعج بالمسلمين الذين أرغمتهم الحاجة والمرض والجوع إلى مثل هذه المراكز!!(161/5)
دور المسلمين الغائب عن مآسي إخوانهم
والسؤال الذي تردد في ذهني وأنا أرى هذه المراكز: من هذه الدول النصرانية: أين مراكز الدول الإسلامية، أهان عليهم المسلمون وهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين؟! حيث تحث هذه الجمعيات الأسر الصومالية على ترحيل الأبناء إلى بلاد الغرب تمهيداً لتنصيرهم، وإضافة لذلك؛ فإن هذه المنظمات ليست إنسانية، وإنما هي منظمات كنسية دينية لا تبذل إلا بقدر ما تأخذ من عقائد المسلمين، وبقدر ما تفتن منهم عن دينهم وتصدهم عن إسلامهم! فهذه الصورة المفزعة المرعبة لا يهم فيها الموت والجوع بقدر ما يهم هذه المؤامرات التي تمول أحياناً من أموال المسلمين، ومن المنظمات الدولية كما تُسمى، ومن المنظمات الإنسانية كما يُطلق عليها، ثم تستخدم في إخراج المسلمين من دينهم بقوة هي قوة الإغراء، وبقوة هي قوة إيجاد الفقر والجوع والمرض، ثم استغلاله بعد ذلك للتنصير وللحرب ضد الإسلام والمسلمين.(161/6)
واجب المسلمين تجاه إخوانهم
إنني في هذا المقام أذكر أن هناك منظمتين إسلاميتين تقومان بجهد جيد مشكور، وهما منظمة لجنة مسلمي إفريقيا وهيئة الإغاثة الإسلامية العالمية، ولكنها لا تنافس ذلك القدر الهائل من المنظمات، وتلك الأموال الطائلة والإمكانيات الضخمة، إضافة إلى ذلك فإنني أناشد هاتين المنظمتين أن تبعثا بتقاريرها وبما يواصلها به مندوبوها إلى كل إمام وخطيب وإلى كل رئيس هيئة تحرير بل إلى كل مسلم، وإلى كل صناديق البريد؛ ليعلم الناس؛ فإن هذه الهيئات لا يصل خبرها إلى المسلمين، ولا يعرف تقاريرها أبناء الإسلام، ولا ينشر كثير مما ترى، ولا تكتب في الصحف أو في الإذاعات أو على شاشات التلفزة، فينبغي أن تعالج هذا الأمر؛ لأن وصول الأنباء ومعرفة الأخبار وإشاعة التقارير لها أثر كبير محمود.
والله نسأل أن يدفع عن المسلمين السوء والضر، وأن يرزقنا أن نؤدي شكر النعم، وأن يدفع عنا أسباب الهلاك، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(161/7)
صور من مآسي المسلمين في الهند
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين! أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! فأوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى نصرة المسلم، والله سبحانه وتعالى قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، وقال رسولنا صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)، وكلهم مظلومون بهذه المؤامرات والمؤتمرات والكيد والحروب.
وكذلك يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن واجب المسلمين، ويصفهم بأنهم (تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم)، والله جل وعلا يقول: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]، فلا بد أن يستشعر المسلم وحدته مع إخوانه، والقضية ليست قضية إنسانية فحسب، بل هي قضية إسلامية، ولذا أواصل استكمال الصورة ليس في الصومال، وإنما في مناطق أخرى بإيجاز شديد؛ لأبين أن القضية هنا وهناك في آسيا وفي أوروبا وفي أفريقيا وفي أماكن أخرى إنما هي قوة ومؤامرة بصورة أو بأخرى، هدفها: القضاء على الإسلام، والقضاء على المسلمين، وإخراج المسلمين من دينهم.
وإليكم هذا الخبر الذي يقض مضاجع المؤمنين فيما وقع على إخواننا المسلمين في الهند: نشرت التقارير في أوائل هذا الشهر الميلادي نقلاً عن صحيفة هندية شهيرة تتبع للهندوس ذكرت فيها: أنه خلال نحو عامين تم ارتداد خمسين ألف مسلم، ودخلوا في الديانة الهندوسية.
وأشارت تقارير الجماعة الإسلامية في باكستان أن هذا العدد ليس صحيحاً، وأن العدد الصحيح يتراوح ما بين مائتي ألف إلى ثلاثمائة ألف من الذين تركوا الإسلام ودخلوا في الهندوسية، فهل كان ذلك باختيارهم؟! كان ذلك بالعنف والإجبار والإكراه وبالقوة والسلاح، وكان ذلك بالتضييق والتجويع، وكان ذلك بإحراق المنازل ومحاصرة التعليم، وكان ذلك بكل ضروب العسف والقهر والعدوان، وكان ذلك على فئة من المسلمين، حيث قالوا: ينبغي أن يرجعوا إلى الهندوسية؛ لأن أجدادهم كانوا من الهندوس، وبعض أولئك دخلوا في الإسلام في أوائل الثمانينات، ثم أجبروا في هذه الولايات قهراً وقسراً على أن يتركوا دينهم، وأن يدخلوا في الهندوسية! وتقول مجلة الإصلاح التي نشرت الخبر مفصلاً: المهم أن الخطر ليس على المسلمين بالاسم، بل هي بداية وانطلاقة لمأساة هدفها القضاء على إسلام المسلمين الهنود الذين يشكلون أكبر عدد من المسلمين في دولة واحدة بعد أندونيسيا، ومعلوم أن عدد المسلمين في الهند يبلغ عشرين ومائة مليون مسلم، يعادلون عدد المسلمين في الدول العربية جمعاء، ومع ذلك يمارس ضدهم هذا الاضطهاد، ويلجئون إلى الارتداد، وليس هناك من ملب ولا مجيب.(161/8)
صور من مآسي المسلمين في البوسنة والهرسك، وبيان حقد الغرب على المسلمين
وإذا انتقلنا إلى الحدث الساخن الثالث وما يجري في أوروبا المتحضرة ذات الحضارة المدنية الباهرة، وذات الإعلانات الحضارية الزائفة التي تدَّعي حماية حقوق الإنسان، والتي تدّعي رفع شعار العدالة الدولية، والتي تدّعي أنها تنصر الحق في أي مكان، وأنها تنجد الإنسانية في أي ميدان، وإذا بنا نرى على مدى شهور طويلة هذه المؤامرة البغيضة الحاقدة على إخواننا المسلمين في البوسنة والهرسك، وليس من ذنب ولا من خطأ ولا جريمة إلا أن القوم مسلمون، وإن كان بعضهم ربما لا يعرفون من الإسلام إلا أقل القليل؛ ولذلك كلما مر زمن كلما اتضحت أبعاد المؤامرة.
فإذا بنا نسمع عن معسكرات الاعتقال التي تضم أكثر من (260000)، وإذا بنا نسمع عن قتل أكثر من (17000) في داخل هذه المعتقلات، وأن (50000) من هؤلاء يضطهدون ويعذبون حتى الموت، وأن هناك ما يسمى بحملات التطهير العرقي، وهي في الحقيقة حملات التطهير الديني!! فلماذا يقتلون الأطفال؟! ولماذا يبقرون البطون ويقتلون الأجنة التي لم تر النور؟! إنهم يقتلون الإسلام الذي يثأرون منه كما يقولون، إنهم يقتلون الإسلام الذي لا يريدون له أن ينبعث في القارة الأوروبية النصرانية المسيحية التي لا تقبل وجوداً للإسلام والمسلمين، ولذا غضت الطرف وسكنت وسكتت، فلما ظهرت الصور الفظيعة تحركت بالإغاثة لا لأجل ألا يموتوا ويقتلوا، ولكن ليكن موتهم وهم شباع البطون بدلاً من أن يموتوا وهم جياع، فقد تم الاتفاق على أنهم يموتون ويقتلون ويهجرون، ولكن يمكن أن يموتوا بعد تزييف لهذه المساعدات الإنسانية.
وكذلك عندما جاء الكلام على التدخل العسكري، وعلى معاقبة المعتدي، فإن الأقوال تشعبت وتعددت، وإن التبريرات تكاثرت وتعددت، وكل ذلك ينبئ أن القوم ماضون في المؤامرة، ومؤخراً اتضحت الأبعاد، وتبادل الصرب والكروات الأسرى، وبدءوا ينسقون فيما بينهم، ويوزعون أراضي البوسنة والهرسك: ثلثين للصرب وثلثاً للكروات، ويحددون مواطن كل دولة تنضم إلى التي تريد، إما إلى دولة صربيا العظمى أو الكبرى كما يسمونها، أو إلى دولة الكروات.
وهذه المؤامرات تؤكد أن القضية دينية إسلامية، وأن المؤامرة صليبية مسيحية، ولعلكم تسمعون الفظائع التي تبين لنا أن القوم بنصرانيتهم وأن القوم بحضارتهم أنهم ليسوا من الإنسانية ولا من الآدمية بسبب ولا بنسب، ولذلك قتلوا الأطفال، واختطفوا النساء، والحقائق والوثائق والتقارير التي نطلع على جزء يسير منها يشيب لهولها الولدان.
ومن ذلك أنهم قتلوا (500) من المسلمين بطريقة عجيبة فظيعة لا يصدقها العقل، سحبت منهم الدماء لأجل إنقاذ جرحى الصرب، فكان الواحد منهم يموت وهو يقطر دماً قطرة قطرة، حيث يسحب دمه حتى يلفظ أنفاسه!! وفي موقع آخر حشر (57) من المسلمين في بدروم لعمارة، ثم جاء واحد من الصرب وألقى عليهم قنبلة يدوية، ولما تعالت الصرخات من هؤلاء تعالت الضحكات من ذلك الوغد الحقير، وكل هذه الصور تتناقلها وسائل الإعلام!! والأمر أيضاً مرة أخرى تنصير، ومؤامرة على الإسلام في الأطفال الذين يستوعبون في البلاد الأوروبية شرقاً وغرباً، ليضعوا لبان النصرانية، ولذلك قال أحد كتابنا في مجلة اليمامة: إني أحس بألم شديد أن يتحول هؤلاء الأطفال إلى ديانة غير الإسلام؛ لأن إخوانهم المسلمين تخلوا عنهم في لحظة هم في أمس الحاجة إلى أن تمتد إليهم أيدي إخوانهم المسلمين لتنتشلهم، ثم يقول: المهم ألا نفرط بهذه البراعم التي أنقذها الله من براثن الشيوعية ثم ابتلاها ببراثن التعصب الأعمى الذي اجتثها من الأرض.
ويقول كاتب آخر: لقد اتضح أن القيادات الغربية في أمريكا وأوروبا لن تتخذ أي مبادرة بهذا الخصوص لنجدة المسلمين.
لماذا ينجدون المسلمين؟! لماذا يفنون أموالهم أو يبيدون رجالهم لأية مصلحة؟! إن مصلحتهم في عكس ذلك، ويقول: لم تتخذ أية مبادرة بهذا الخصوص، والأمم المتحدة قدمت كلما لديها، ووجدنا أنه حل سقيم، ولكنني أعتقد أن الغرب إذا شعر بأن الدعم الإسلامي للبوسنة يجسد تيارات قوية رسمية وشعبية في العالم الإسلامي فقد يفكر في تغيير موقفه في البوسنة، وإذا أدرك الغرب أو اعتقد أن موقفه تجاه قضية البوسنة سيضر ببعض مصالحه في العالم الإسلامي فقد يتجه نحو صد العدوان الصربي على البوسنة.(161/9)
قضية المسلمين واحدة في كل مكان، والدفاع عنها مسئولية الجميع
إنه منطق القوة لا يجدي غيره، ولو أن أمم الإسلام حاربت بجيوشها، أو حاربت بمقاطعتها لهذه البلاد ومنعت البترول، ومنعت عن المناصرين الذين يؤيدون هؤلاء المدد وكل ألوان التعامل؛ لكان هناك شأن آخر، هذا إذا كان هذا في دول أوروبية، فكيف الحال إذا كان في الهند؟! قال الشاعر: غض المفاوض صوته فتكلم بلسان نار يا كتائب أو دم لم يسمع المحتل من خطبائنا فلتفهموا المحتل ما لم يفهم لا بد أن ندرك أن القضية حرب على الإسلام وإن اختلفت الصور وإن تعددت الأماكن، والصرخة ما تزال تدوي في الفضاء: واإسلاماه! لتبين الأمر للغافلين الذين يعيشون في وهم الشرعية الدولية، ويعيشون في وهم النظام الدولي الجديد ويعيشون في وهم تسامح الأديان، والإخاء الديني والنظرة الحضارية والنظرة الإنسانية: بني الإسلام هذي حرب كفر لها في كل ناحية لهيب يحركها اليهود مع النصارى فقولوا لي: متى يصحو اللبيب؟ أراكم تنظرون وأي جدوى بنظرتكم إذا غفت القلوب؟ ستطحنكم مؤامرة الأعادي إذا لم يفطن لها الرجل الأريب وليس هناك من ذنب إلا أن هؤلاء الذين يضطهدون في كل مكان مسلمون، كما قال الشاعر الآخر: لأنك مسلم سترى العذابا وسوف تواجه العجب العجابا لأنك مسلم ستموت غماً وهماً واضطهاداً واضطرابا ستسأل كل أهل الأرض عدلاً وتنتظر الجواب ولا جوابا يسوءك أن ترى الطاغوت يعلو ويحني المسلمون له الرقابا لأنك مسلم ستزور سجناً وتنهبك السياط به نهابا إذا قرعت به يمناك باباً سمعت الفحش يسرع والسبابا وسوف تعض من ألم بناناً وسوف تسف من جوع ترابا فإما أن تكون كما أرادوا وإما ينزلون بك العقابا هذه هي الحقيقة، وهذه هي الصورة والمؤامرة، وليس لها من دون الله كاشفة، وليس لها بعد الله إلا المؤمنون الغيورون، وليس لها بعد الله إلا المسلمون الصادقون، وليس لها بعد الله إلا أن تتحرك القلوب، وأن تلهج الألسن بالدعاء، وأن تمتد الأيدي بالعطاء، وأن يبادر كل قادر على ما يستطيع، وإن التقارير التي سأذكر بعضاً منها بعد الخطبة تبين لنا أن الأمر الذي يحتاجون إليه لا يكلفنا الكثير، بل هو يكلف أقل القليل مما نزهد فيه، بل مما نتخلى عنه في أمور تافهة، ولذلك ينبغي لنا أن نتوجه إلى الله سبحانه وتعالى بقلوب مخلصة وبدعوات حارة خالصة.
اللهم إنك العالم بالسرائر المطلع على الضمائر، اللهم قلَّ الناصر، واعتز الظالم، وأنت المطلع الحاكم، اللهم بك نعتز عليهم، وإليك نهرب من بين يديهم، حاكمناهم إليك، وتوكلنا في إنصافنا منهم عليك، ورفعنا ظلامتنا إلى حرمك، ووثقنا في كشفها بكرمك، فاحكم بيننا وبين أعدائنا بالحق وأنت خير الحاكمين.
اللهم إليك نشكو ضعف قوتنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس، إلى من تكلنا: إلى بعيد يتجهمنا، أم إلى عدو ملكته أمرنا؟ إن لم يكن بك علينا غضب فلا نبالي، ولكن عافيتك ورحمتك هي أوسع لنا، اللهم فارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين! وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(161/10)
ومضات إصلاحية من الآيات القرآنية
الإصلاح قضية مهمة في حياة المجتمعات والأفراد، وهي قضية لا تقوم إلا على أسس راسخة، وقواعد ثابتة، وقد كان أنبياء الله هم قادة الإصلاح في جميع المجالات، وقد طرح الشيخ في هذه المادة أسس الإصلاح التي انطلق منها نبي الله شعيب عليه السلام حتى تكون منهاجاً لكل من يريد الإصلاح.(162/1)
القرآن والسنة هما أسس الإصلاح
الحمد لله كاشف الضر والبلوى، عالم السر وما هو أخفى، الآمر بالبر والتقوى، الناهي عن الإثم والنجوى، له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وأسمع به آذاناً صماً وفتح به قلوباً غلفاً.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى به نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! ومضات إصلاحية من الآيات القرآنية، نجعلها حديث يومنا هذا وقد كثر الحديث عن الإصلاح، وتنوعت صوره، فمن إصلاح تأتي به دبابة عسكرية إلى إصلاح تبثه قنوات فضائية إلى إصلاح آخر يتجلى في مبادرات سياسية إلى ثالث ورابع وخامس، وقلما سمعنا في الإصلاح الذي يأتي من الخارج، أو الذي يروج في الداخل، أو الذي يتناقل في وسائل الإعلام هنا أو هناك، قلما رأينا تأصيله من كتاب الله، واسترشاده التام بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن الثوب إذا كان من قماش حسن، وبخياطة متقنة لكنه على غير مقاسك، لا تستطيع الانتفاع به، وكذلكم كل ما يأتي على غير الأساس الذي نقوم عليه، وننطلق منه، ونحتكم إليه، وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلن يكون محققاً لمراداتنا وطموحاتنا من هذا الإصلاح.
وذلك يقين لا بد أن يستقر في النفوس والقلوب، مع علم وفكر وبصيرة تدرك أن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيهما من القواعد الكلية، والمقاصد الشرعية، ما يستوعب مستجدات كل زمان، وما يصلح أحوال كل مكان، وما ينفع الإنسان في تقلبات أحواله وتغيرات أزمانه.
فليس هناك قصور كما يتوهم البعض، ولا تخلف كما يفتري البعض، بل كمال مطلق، وصلاح دائم، وتجدد مستمر، ومرونة عظيمة، مع أصالة وثبات يعتصم به المؤمنون والمسلمون من أن تضل بهم الأهواء، أو أن تتقاسمهم الآراء، أو أن تتشبث بهم الحيرة، أو أن يغشاهم الاضطراب، {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57].(162/2)
الإصلاح في دعوة نبي الله شعيب عليه السلام
وليس مقامنا هذا كافياً لأن نتحدث عن منهج الإصلاح في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك يستوعب الحياة كلها في مجالاتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والدولية وغير ذلك، وحسبنا في هذا المقام الذي نفتتح به حديث الإصلاح في القرآن والسنة أن يكون اليوم في ومضات قرآنية ربما نأخذ جلها من قصة واحدة من قصص الإصلاح وحواراته من رسول الله شعيب عليه صلوات الله وسلامه.(162/3)
أول إصلاح قام به شعيب عليه السلام هو الاعتقاد الصحيح
قصة شعيب مع قومه فيها ومضات منهجية نؤسس بها لقضية الإصلاح: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [هود:84].
نبي من أنبياء الله، والأنبياء هم صفوة المصلحين، وخلاصة الذين رسموا المنهج القويم للإصلاح على هدي من ربهم، وبنور من وحيه، وبرقي وسمو بما كانوا عليه من صلاح السرائر، وجمال الأخلاق، ورشد العقول، وحسن التدبير، وكمال السياسية.
هذه دعوة شعيب يبدؤها بأول وأهم وأعظم أساس لا يكون إصلاح إلا به، أساس الإصلاح الاعتقادي الإيماني الذي يعلق القلوب بتوحيد الله وتعظيمه، فلا شرك ولا إشراك ولا توزع لهموم الإنسان وطموحاته أو خوفه ورجائه إلى آلهة متعددة وإن لم تسم آلهة.
أول دعوة بدأ بها شعيب وبدأ بها كل الرسل والأنبياء: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود:84]، هذه الدعوة الإصلاحية الأولى.
كم نحن في حاجة إلى إصلاح مسائل الاعتقاد والإيمان من جهات ووجوه شتى، منها العلم والمعرفة المبنية على الدليل الثابت من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بعيداً عن انحراف الآراء وانجراف الأهواء.
كم نحن في حاجة من جهة أخرى إلى دحض الشبهات، وإلى بيان فساد المبتدعات، وإلى التذكير والتحذير من خطورة الشركيات، ليس من ذلك شيء إلا ونحن في أمس الحاجة إليه، وليس من ذلك شيء إلا وهو من أعظم وأسس الانحراف والضعف والزيغ الذي حل بأمتنا، أو بكثير من أبنائها وفي كثير من أصقاعها.
ثم نحن كذلك في حاجة إلى مراجعة الأثر الحقيقي للإيمان في واقع الحياة، هل قضايا الإيمان تشربتها القلوب؟ هل حقائق الإيمان رسخت في النفوس؟ هل أصبحت تجري مع الدماء في العروق؟ هل تضبط الخواطر والأفكار؟ هل تهذب الأقوال والكلمات؟ هل تقوم السلوك والأعمال؟ هل تحكم بين الناس فيما يجري بينهم من الأمور؟ هل تضبط أمور معاملاتهم المالية؟ هل هي حقيقة حية واقعة تتجلى في سجود جباههم، ودموع أعينهم، ووجل قلوبهم، وورع نفوسهم؟ هل حقيقة الإيمان موجودة؟ لو أنها كانت على النحو المطلوب، وعلى الوجه الكامل، وعلى الصورة المؤثرة لرأينا كثيراً من وجوه الفساد والقطيعة والخلاف تنتهي وتزول من واقع حياتنا، ولكنه الإيمان إذا انحرف ضل أربابه إلى صور من شرك أو انحراف وابتداع، وإذا ضعف فاستولت الدنيا بشهواتها على القلوب، وسيرت النفوس، وحكمت في العلائق والأحوال المختلفة؛ فحينئذ لا يرجى أن يرجى أثر لأي إصلاح، وذلك ما دام الفساد في القلوب مستقراً، وما دام الكدر والقذر موجوداً في النفوس لم تطهره قضايا الإيمان وحقائقه كما ينبغي.
إن طهارة القلوب، وزكاة النفوس، ورشد العقول، وحسن الأقوال، وصحة الأعمال، وصلاح الأحوال، لا يمكن أن تنطلق إلا من أساس صحيح لاعتقاد صحيح راسخ مؤثر، ذلكم هو أساس الإصلاح والتغيير الذي جاء به سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، يوم بذر بذرة الإيمان في قلوب قوم من أهل الشرك والكفر والجاهلية والعصبية، كانوا أهل فسق وفجور، أهل انحراف وأهواء، فإذا بهذا الإيمان يغير حياتهم، ويؤسسها على قاعدة جديدة متينة من شهادة التوحيد، ومن معرفة حقائق الإيمان وتأثيره في النفوس.
وتلك هي القضية التي جاء بها الرسل والأنبياء، جاء بها شعيب هنا وقدمها لتكون أساساً يبني عليه الإصلاح الاقتصادي الذي كان الإفساد فيه شائعاً في قومه، وجاء بها موسى عليه السلام ليصلح الفساد والطغيان السياسي الذي كان عليه فرعون، وجاء بها لوط ليصلح الإفساد الأخلاقي الذي كان في شذوذ قومه وانحرافهم فيما يأتون من الذكران.
فكل قضية إصلاحية إنما يؤسس لها بتأسيس صلاح الإيمان، وصحة الاعتقاد، وحسن التعلق بالله، وكمال الرجاء فيه، وعظمة الخوف منه، وصدق التوكل عليه, ودوام الإنابة إليه، تلك هي التي تحسن بها أحوال الناس في معاشهم، وتكون بعد مماتهم سبباً لنيل رحمة الله عز وجل ورضوانه.(162/4)
الإصلاح الثاني الذي دعا إليه شعيب هو الامتثال لأمر الله
قال الله عز وجل: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} [الأعراف:85]؛ لأجل دنيا تريدون تحصيل المزيد من الأرباح فيها بتنكب الحق وارتكاب الغش، وقال لهم: (إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ) ما معنى ذلك؟ أراكم بخير في معيشتكم ورزقكم، أي: فيما تأخذون من الحلال وإن كان قليلاً، فأخاف أن تسلبوا ما أنتم عليه بانتهاككم محارم الله، قاله ابن كثير في تفسيره.
إذاً: الإصلاح يعتمد كذلك على الطاعة لله عز وجل، والموافقة لشرعه، والمجانبة لمحادته ومشاقته ومخالفة أمره، فإن دواعي الفساد والإفساد إنما مبعثها مخالفة حكم الله عز وجل، وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.
وما كان من التزام بأمر الله وأمر رسوله فذلك فيه الصلاح والخير، ولذلك قال: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} [هود:84] أي: ما استقمتم على أمر الله، ثم حذر فقال: {وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [هود:84] بأن تفسد أحوالكم في دنياكم، وتحل بكم نقمة الله عز وجل، وينزل بكم سخطه، وتنزع منكم بركته في الدنيا، ثم تكون العاقبة السيئة والعياذ بالله في الآخرة.
فالأساس الإصلاحي الثاني الذي تصلح به أحوال العباد بعد حسن الاعتقاد: حسن الامتثال، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24]، وهذه دعوات قرآنية كثيرة، ودعوات نبوية عديدة، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (كلكم يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى).
وينبغي أن نعلم سوء أثر مخالفة أمر الله في واقعنا، لم افترقت النفوس؟ لم اختلفت الآراء؟ لم تفرقت الصفوف؟ لم قست القلوب؟ لم جحدت العيون وقحطت؟ لم تغيرت أحوالنا؟ إنه بسبب ضعف إيماننا وكثرة معاصينا، والمعصية آثارها عظيمة، وأضرارها وخيمة ووبيلة، والمؤمن الحق يدرك تماماً أن أثر المعصية عظيم.
ولقد كان أسلافنا رضوان الله عليهم يرون أثر المعصية في الأمر اليسير الهين الذي لا نلقي له بالاً، فكانوا إذا ساء خلق زوجة أحدهم أو دابته رد ذلك إلى قصور في طاعته، أو إلى غفلة في ارتكاب شيء من المعاصي، كانوا يرون أن كل عارض يعرض لهم فيه ضرب من الابتلاء أو ضرب من العناء، إنما هو بسبب شيء من غفلتهم عن أمر الله أو اجترائهم على معصية الله.
واليوم قد كثرت الذنوب والمعاصي، وتعاظمت حتى صارت كأمثال الجبال، بل ملأت ما بين السماء والأرض، ثم بعد ذلك نسأل: ما السبب في تغير أحوالنا؟! ولماذا لا نستطيع أن نحقق مرادنا ولا أن نصل إلى مبتغانا، ولا أن نصلح أحوالنا، ولا أن نداوي أمراضنا؟! إن ذلك لا يكون ولن يكون إلا بالصلح مع الله عز وجل، وإصلاح ما بيننا وبينه، وبالتعظيم والوفاء لرسولنا صلى الله عليه وسلم، استمساكاً بهديه واتباعاً لسنته، وذباً عنه عليه الصلاة والسلام.
ولذلك حذر شعيب هنا من هذه المعصية، فماذا كان جواب القوم، وإن كان لا يعنينا ذلك كثيراً في هذا المقام، لأننا إنما نريد أن ننظر إلى لسان المصلح ماذا كان يقول؛ وإلى نظريته التي يقدمها إلى توجيهاته التي يذكرها.
لكنهم في سياق ردهم عليه جاءوا بالتهكم والسخرية، وأتوا بما يستوجبون به سخط الله عز وجل، وحلول الفساد في أرضهم وديارهم، وقبل ذلك في نفوسهم وعقولهم وقلوبهم، قالوا: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87]، لم يقولوا ذلك ذكراً لصفات حسنة فيه، ولكنهم يقولون: إن مقتضى ما تقوله لنا يدلنا على أنك لست بحليم ولا رشيد.
يقولون ذلك على سبيل التهكم، ويذكرون هنا قضية مهمة في شأن الإصلاح، وللأسف أن بعض بني جلدتنا الناطقين بألسنتنا يشابهونهم في قولهم: (أصلاتك تأمرنا أن نترك ما كان يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء)، وهؤلاء يقولون: لماذا تدخلون أمر الاعتقاد والدين في صلب الحياة؟ ما للدين وللاقتصاد؟ ما للدين وللسياسة؟ وما للدين وللحياة الاجتماعية؟ ما للدين وللحياة العلمية والتقنية؟ أرادوا أن يقولوا له: بماذا جئتنا يا شعيب؟ نحن ننكر ونستنكر ولا نقبل ولا نفهم أن تكون صلاتك التي تقوم بها، أو ديانتك التي جئت بها، تريد أن تغير أحوال حياتنا كلها، تريد أن تضبط وتحكم تفاعلات جوارحنا ومعاملاتنا في سائر جوانب حياتنا! وذلكم ما لعله اليوم يقال في ديار الإسلام، وبألسنة بعض أبناء الإسلام الذين يقولون: لماذا لا نأخذ النظريات الاقتصادية من الشرق؟ لماذا لا نأخذ النظم السياسية من االغرب؟ لماذا لا نستفيد في جوانب الحياة الاجتماعية من هنا أو هناك؟ وكأننا فقراء لا منهج عندنا! كأننا أمة مبتوتة لا تاريخ لها! كأنه ليس بين أيدينا النور التام الذي تبحث عنه البشرية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم! لقد أصبحنا اليوم نسمع عن الديمقراطية والحرية وغيرها من المصطلحات، ولم نعد نسمع ذكراً لآية من كتاب الله، أو حديثاً من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو صفحة مشرقة من صفحات كثيرة ملئ بها تاريخنا الذي رسم الحياة الإنسانية على القاعدة الإيمانية، وفي ظلال الشريعة الإسلامية، فأتى بالتقدم والرخاء الاقتصادي، وأتى بالعدالة السياسية والقضائية، وأتى بأحسن القوانين والأحوال الاجتماعية، وأقام فوق ذلك حضارة مدنية وتقدماً علمياً، ما تزال أمم اليوم تعود نهضتها إليه، ويرجع مبتدؤها إليه، فأين أمة الإسلام عن حقيقة الإصلاح في جوهر المنهج القرآني والرباني؟(162/5)
نبي الله شعيب يؤسس قواعد الإصلاح
ثم استمعوا معي إلى ما قاله شعيب عليه السلام في هذه الكلمات التي تؤسس القواعد مع ما سبق أن ذكرناه من قاعدة الإيمان وحسن الاعتقاد وصحته، وقاعدة الاستقامة وكمال الالتزام بشريعة الله عز وجل.
قال عليه السلام عندما ردوا عليه بهذا الرد: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88].
في هذه الآيات منهج لكل مصلح ما الذي ينبغي عليه في تكوين ذاته ونفسه، ما الذي يجب عليه في حسن عرضه ودعوته، ما الذي ينتهي ويرتكز عليه في قدرته ومواصلته.
استمعوا إلى هذه الآيات! استمعوا إليها بالقلوب والعقول استماعاً فيه التدبر والتأمل وهو يقول: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [هود:88]، فأول أمر أيها المؤمنون المسلمون لا بد أن نكون على بينة من أمرنا، على بينة من ديننا، على بينة من نهجنا، لا بد أن نعرف حقائق إيماننا وشرائع إسلامنا، أن نعرف ما يثار من الشبهات.
لا بد أن نعرف المنهج الإسلامي معرفة صحيحة من أصوله الصافية، ومنابعه العذبة؛ لأن هذا هو الذي يجعل لنا النور الذي نكشف به صور الانحراف والخلل، وهذا هو الذي يثبت المصلح.
أما إذا لم يكن المصلح على بينة من ربه، وعلى معرفة من نهجه، فربما اضطرب أو تشكك، وربما تراجع وتقهقر، وربما وافق وداهن أو جامل فيما لا ينبغي أن يكون؛ خاصة في هذا الزمن الذي كثرت فيه المفاسد والأطروحات والضغوطات المختلفة، حتى صار الناس يدعون أموراً ليست من الإسلام وينسبونها إليه؛ لأنهم ليسوا على بينة من ربهم.
وهذا أول أمر ينبغي للمؤمن والمصلح والداعية والعالم وكل فاعل خير في هذه الأمة أن يتزود به، وأن يتحصن به، قال تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} [الأنعام:57]، حتى وإن كذبت الدنيا كلها، وإن صارت وسائل الإعلام تصك أذاننا كل يوم بمذاهب وضعية بشرية؛ فإننا نقول: إنا على بينة من ربنا.
{وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} [الأنعام:57] كانوا يقولون: أين أثر ذلك؟ أين النتيجة لذلك؟ واليوم يقول بعض المسلمين: أين أثر القرآن وأين أثر الإيمان؟ وأين أثر شعائر الإسلام؟ هل يمكن أن تطبق في واقع الحياة اليوم؟ إن هذا التشكك لا يزيله إلا يقين راسخ، ومعرفة تامة، وبينة واضحة في منهج الإسلام.
{قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام:57].
ثم قال شعيب عليه السلام: {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} [هود:88] قال أهل التفسير: قصد النبوة، أو الرزق الحلال، قال ابن كثير: والأمر يحتمل، ومقصوده في سياق الآية: (ورزقني منه رزقاً حسنا) أي: أخذت من الحلال ما كان موافقاً لشرع الله، وتركت ما كان من الحرام مخالفاً لأمر الله.
فالاستقامة هنا بعد وضوح المنهج، إن كل مصلح لا بد أن يكون قدوة ولا بد أن يكون مسابقاً لكل خير يدعو إليه، ومجتنباً لكل سوء أو شر يحذر منه، لا بد أن يكون قدوة تتعلق بها القلوب، وتتأثر بها النفوس، وتكون أنموذجاً يقتفى، وأسوة تحتذى.
هذه معالم مهمة في الإصلاح، فما بال كثير من أهل الإصلاح يقولون ما لا يفعلون، ويدعون إلى ما عنه يتخلفون! ومن هنا أتبعها فقال: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88] إن أعظم أثر سلبي لدعوة الإصلاح أن يكون الداعي إليها أول مخالفٍ لها، كيف نقول إننا ننطلق من ثوابتنا ونحن نستورد من غيرنا؟ كيف يقول ذلك المصلح إنه يريد خيراً لوطنه وبلاده، وقلبه وفكره في خارجها؟ كيف يدعي أنه يريد الإصلاح كما ينبغي أن يكون عليه الإصلاح، وهو يتلقى توجيهاته أو إرشاداته أو نظرياته أو أفكاره ممن ليسوا على دينه ولا على ملته، وليسوا من دياره ولا من بلاده؟ ثم كذلك: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88] سواء كان ذلك في السر أو كان في العلن، ذكر ابن كثير في تفسيره عند هذه الآية: لا أنهاكم عن شيء وأخالفكم في السر فأفعله خفية عنكم، كما قاله قتادة، وقال كذلك: لم أكن أنهاكم عن أمر وأركبه، لما كان لهذا الأمر أثره في عدم قبول دعوة الإصلاح والتأثر بها.
ثم قال: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود:88] وهذه قاعدة إصلاحية مهمة، قاعدة الإخلاص والتجرد عن المصالح الذاتية، قاعدة الارتباط بتغليب المصالح العامة للأمة.
إن الداعية المصلح لا يريد شيئاً لنفسه، لا يريد حظاً لدنياه، لا يريد شيئاً يتصل به أو بجماعته أو بقبيلته أو بفئته، إن المصلح الحق إنما يريد وجه الله أولاً، وخير أمته وأبناء أمته ثانياً، لا يوجهه لذلك مصلحة ولا يرده عن ذلك مفسدة.
لا يدعوه إلى ذلك مغنم، ولا يصده عن ذلك مغرم، إنما أساسه ورغبته الإصلاح، فإرادته الجازمة وغايته الواضحة: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود:88].
وقضية الإصلاح والتغيير قضية ليست سهلة، ومن هنا جاء قوله عليه السلام: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]، فإنه لا يمكن أن تحقق دعوة إصلاحية أثرها إلا بتوفيق الله عز وجل، ولا يستدعى هذا التوفيق ولا يستجلب إلا بالإخلاص لله عز وجل، وكمال التجرد، والرغبة في خير هذه الأمة وإصلاحها.
{وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88] فالاعتماد عليه، والرجوع إليه، قال السعدي في تفسيره: وبهذين الأمرين تستقيم أحوال العبد، وهما الاستعانة بربه والإنابة إليه، كما قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123]، وكما قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فإن انطلقنا في دعوتنا للإصلاح مستعينين بالله، مستحضرين رجوعنا إليه، فذلك هو النهج القويم الذي ترجمته لنا آيات القرآن.
نسأل الله عز وجل أن يصلح فساد قلوبنا ونفوسنا، اللهم طهر قلوبنا، وزك نفوسنا، وأرشد عقولنا، وأصلح أعمالنا، وحسن أقوالنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(162/6)
رتباط دعوة الإصلاح بالداعي إليها وتوفيق الله له
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من تقوى الله عز وجل الارتباط بمنهجه وبإرشاده وتوجيهه فيما جاء في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في إصلاح أحوال العباد والبلاد، التي نسأل الله عز وجل أن يمن بها علينا وعلى بلادنا بلاد الحرمين الشريفين، ونسأله سبحانه وتعالى أن يبصرنا بالنهج القويم، والصراط المستقيم، وأن يدرأ عنا الفتن والمحن والأغاليط والأباطيل، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ومضات الإصلاح في القرآن كثيرة، ولئن وقفنا مع هذه الآيات القليلات من جزء من قصة شعيب عليه السلام، فإن ما وراء ذلك أكثر وأظهر، ولنا عنه أحاديث لاحقة إن شاء الله.
غير أني أورد هنا ما ذكره ابن كثير في تفسيره لهذه الآيات، لما له من دلالة مهمة، عندما روى حديثاً عن أبي حميد وأبي أسيد رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم، وتلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه قريب منكم، فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم، وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه بعيد منكم، فأنا أبعدكم منه) رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح كما ذكره ابن كثير.
وسياق هذا الحديث في هذه الآيات له دلالة على مسألة مهمة، إن دعوة الإصلاح ترتبط بالداعي إليها، فإذا نظرنا إلى الداعي وأحواله، فغلبت أحوال الخير عليه، فلم نعرفه إلا من أهل الصلاح والتقى، ولم نعرف له من المواقف إلا مواقف الخير والإصلاح، ولم نسمع له من الكلمات إلا كلمات البر والإحسان، ولم نر له من الأفعال إلا أفعال النجدة والإغاثة والإصلاح؛ فحينئذ قد جاء الشيء من معدنه فنقبله.
أما إن كانت الأخرى، فإن حديث النبي صلى الله عليه وسلم يشير إلى ذلك، فإن كان ما نراه ونسمعه من دعوة للإصلاح بتاريخ نعرفه على غير الإصلاح، في أقوال وأفعال وأحوال وعلاقات، فينبغي ألا يغرنا حسن القول، وننسى مثل هذه القاعدة المهمة، على أن حسن الظن وهو مطلوب من المسلمين جميعاً لا ينبغي أن يكون نوعاً من الغفلة والسذاجة التي تضيع بها المصالح، فإن الأمور تنتظم أوائلها مع أواخرها، وتدل أواخرها على أوائلها، وهذه مسألة مهمة.
وثمة ومضات كثيرة لا يتسع لها المقام، أذكر منها بعضاً ليكون لنا عنها حديث آخر بإذن الله عز وجل.
أول ذلك: أن التوفيق الرباني مقرون بالدعوة الإصلاحية بإذن الله، فالإصلاح قرين التوفيق، كما قال عز وجل في شأن الخلاف بين الزوجين والإصلاح بينهما: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35] أي: إن صلحت وخلصت النية للإصلاح جرى بإذن الله عز وجل التوفيق.
ودعوة الإصلاح كذلك لها أثر مهم في الأمن والأمان من الهلاك: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:116 - 117]، لم يقل: صالحون، بل (مصلحون)، فإذا كان الصلاح والإصلاح في الأمة سارياً فذلك من أسباب درء العذاب عنها بإذنه جل وعلا.
والأساس الأول هو الارتباط بالله كما قال الحق جل وعلا: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [محمد:1 - 2]، قال ابن كثير في نقله عن المفسرين: (أصلح بالهم) أي: شأنهم أو حالهم أو أمرهم، وقال السعدي: أصلح دينهم ودنياهم، وقلوبهم وأعمالهم، وأصلح ثوابهم بتنميته وتزكيته، وأصلح جميع أحوالهم.
نسأل الله عز وجل أن يصلح أحوالنا، وأن يصلح قلوبنا ونفوسنا، وأن يرشد عقولنا وأفكارنا.
اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم اجعلنا بكتابك معتصمين، ولهدي نبيك صلى الله عليه وسلم متبعين، ولآثار السلف الصالح مقتفين.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا هداة مهديين يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا، اللهم زك قلوبنا، وطهر نفوسنا، وأرشد عقولنا، وحسن أقوالنا، وأصلح أعمالنا، وأخلص نياتنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم اجبر كسرنا، واغفر ذنبا، واستر عيبنا، وأقل عثراتنا، وامح سيئاتنا، وضاعف حسناتنا، وارفع درجاتنا، واجعلنا من عبادك المخلصين، واكتبنا في جندك المجاهدين، واجعلنا من ورثة جنة النعيم.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء.
اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا يا أرحم الراحمين، اللهم اصرف عنا الفتن والمحن ما ظهر وما بطن، عن بلدنا هذه خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين.
اللهم إذا قضيت فتنة فاقبضنا إليك غير فاتنين ولا مفتونين برحمتك يا رب العالمين.
اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم ثبت خطوتهم، وسدد رميتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم أجمعين يا رب العالمين.
اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، اللهم خالف كلمتهم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، واجعل بأسهم بينهم، ورد كيدهم في نحرهم، واشغلهم في أنفسهم، اللهم لا تبلغهم غاية، ولا ترفع لهم راية، واجعلهم اللهم لمن خلفهم آية، اللهم يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا القوة والجبروت؛ نسألك اللهم أن تنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، يا قوي يا عزيز يا متين.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير، وتحثه عليه يا سميع الدعاء.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا عن الصحابة الكرام، وخصوا بالذكر منهم ذوي القدر العلي، والمقام الجلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(162/7)
وقفات مع الحج والحجاج
فريضة الحج من أعظم الفرائض التي تجسد معنى الوحدة والألفة والأخوة بين المسلمين، وكذلك يتجسد فيها معنى الصبر والرفق والرحمة، لأنها فريضة عملية أكثر من كونها نظرية، ومن هنا فعلى المسلم أن يعلم حقيقة هذه الفريضة وما يجب عليه فيها، وأن يعلم الأحكام المتعلقة بها حتى يكون حجه مبروراً مقبولاً بإذنه سبحانه وتعالى.(163/1)
بين يدي الموضوع
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
وبعد: فهذا الدرس بعنوان (وقفات مع الحج والحجاج) وهذه الوقفات مختلفة، وليس بالضرورة أن تكون ضمن موضوع واحد، غير أنها كلها لها صلة وسبب بالحج، وهي عشر وقفات: أولها: فضائل ووصايا.
الثانية: موجز أعمال الحج.
الثالثة: منهجية التربية العملية.
الرابعة: المطوفون والخدمات.
الخامسة: التوعية والدعوة.
السادسة: الأولويات والمهمات.
السابعة: دراسات ومشروعات.
الثامنة: قصص وأخبار.
التاسعة: فتاوى مهمة.
العاشرة: قصائد وأشعار.(163/2)
فضائل الحج العامة والخاصة
وأول هذه الوقفات: فضائل ووصايا.
ومعلوم أن الحق سبحانه وتعالى رغب عباده في الفرائض والشعائر والواجبات والتكليفات بالأجر والفضل والمثوبة؛ لأن النفس بطبيعتها تحتاج إلى الترغيب لترتبط بالخير، وإلى الترهيب لتنفر من الشر.
والفضائل في هذا الركن من أركان الإسلام كثيرة جداً، ونعرج فيها على سائر ما في الحج من المناسك والشعائر، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (استمتعوا من هذا البيت، فإنه قد هدم مرتين ويرفع في الثالثة) وهذا تهييج وتشجيع على زيارة البيت وقصده للعمرة وللحج، وأيضاً حث النبي عليه الصلاة والسلام على فريضة الحج لما فيها من الأجر والفضل بقوله صلى الله عليه وسلم: (عجلوا الخروج إلى مكة، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له من مرض أو حاجة).
وأيضاً في حديث قدسي آخر يقول فيه الرسول عليه الصلاة والسلام عن رب العزة والجلال: (إن عبداً صححت له جسمه، ووسعت عليه في معيشته تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد علي لمحروم) أي أنه يحرم نفسه الأجر والمثوبة، كما يحرم نفسه الفائدة والمنفعة الإيمانية الروحية التي تعود عليه من هذه الفريضة العظيمة، وقد ثبت أن الحج من أفضل الأعمال؛ وذلك لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (أفضل الأعمال الإيمان بالله وحده، ثم الجهاد، ثم حجة مبرورة، وتفضل سائر الأعمال كما بين مطلع الشمس إلى مغربها) وقد وصف النبي عليه الصلاة والسلام الحج بأنه جهاد، ومعلوم أن الجهاد عظيم في دين الله سبحانه وتعالى، وأنه من أعظم الأعمال مثوبة؛ إذ فيه بذل النفس والروح مع المال لله سبحانه وتعالى.
ولما شابه الحج الجهاد في بعض معانيه -إذ هو بذل للجهد وراحة البدن، كما أنه بذل للمال والنفقة، كما أنه سعي في الطاعة والاستجابة رغم المشقة والكراهة التي ربما تكون في نفس الإنسان- قال النبي عليه الصلاة والسلام مخاطباً بعض أصحابه: (ألا أدلك على جهاد لا شوكة فيه؟ ثم قال عليه الصلاة والسلام: حج البيت).
أي: الحج هو الجهاد الذي لا شوكة فيه.
وقال في حديث آخر: (الجهاد حج كل ضعيف).
ووصف الحج بأنه أحسن الجهاد حينما قال عليه الصلاة والسلام: (لكن أحسن الجهاد وأجمله حج مبرور) وقال أيضاً: (نعم الجهاد الحج).
ثم أعظم فضيلة في هذا الحج غفران الذنوب، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (تابعوا بين الحج والعمرة، فإن متابعة بينهما تنفي الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد).
وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه).
ومن فضائل الحج أن الحاج ضيف على الله سبحانه وتعالى، وحق على الضيف أن يكرمه مضيفه، والله سبحانه تعالى أعظم وأكرم وأجود من يمنح ضيوفه ووفده، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحجاج والعمار وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم).
وذلك أن الحاج والغازي في سبيل الله سبحانه وتعالى حق على الله سبحانه وتعالى أن يعطيه سؤاله وينجز له وعده.
وأيضاً من الفضائل في الحج المسير إلى الحج، ذكر النبي عليه الصلاة والسلام فضيلته وأجره ومثوبته بقوله: (ما ترفع إبل الحاج رجلاً ولا تضع يداً إلا كتب الله له بها حسنة، ومحا عنه سيئة، أو رفعه بها درجة).
وبعض مناسك الحج ورد التفضيل لها على وجه الخصوص، فالوقوف في يوم عرفة ورد فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الموقف الملائكة، ويقول: هؤلاء عبادي جاءوني شعثاً من كل فج عميق، يرجون رحمتي ويخافون عذابي ولم يروني، فكيف لو رأوني؟! فلو كان عليك مثل رمل عالج أو مثل أيام الدنيا أو مثل قطر السماء ذنوباً غسلها الله عنك) كما ورد بهذا الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.
وفي حديث عائشة: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة).
والرمي وردت له فضيلة، كما جاء في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (وأما رميك الجمار فإنه مدخور لك) أي: مدخور لك أجره وثوابه عند الله سبحانه وتعالى.
كذلك الحلق، فحينما يحلق الحاج شعره متبذلاً ومتجرداً من الزينة لله سبحانه وتعالى فله فضيلة وأجر أخبر بها المصطفى عليه الصلاة والسلام بقوله: (وأما حلقك رأسك فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة).
أما التلبية فقال فيها عليه الصلاة والسلام: (ما أهل مهل قط، ولا كبر مكبر قط إلا بشر بالجنة).
والطواف قال فيه صلى الله عليه وسلم: (من طاف بالبيت سبعاً وصلى ركعتين كان كعتق رقبة).
والأحاديث -أيضاً- أكثر من ذلك وأوسع، وهذه الأحاديث كلها من صحيح الجامع الصغير، أي أن الشيخ الألباني قد صححها، وهي بروايات مختلفة، فبعضها مختلف في ألفاظه عن البعض الآخر، والذي يتأمل يرى أن الحج ربما يكون من أعظم أو أكثر الفرائض ذكراً للمثوبة والأجر، وذلك لكون الحج فريضة في العمر مرة واحدة، وقد لا يدركه كثير من الناس إلا هذه المرة، بينما الصلاة كل يوم، والزكاة في كل عام، لكن الحج واجب في العمر مرة واحدة، وغالباً ما يقع للناس إلا مرة واحدة فقط، فلذا كان الأجر المذكور فيه عظيماً بصورة يظهر فيها أهميته، وفي نفس الوقت أثره وفائدته، ففيه غفران الذنوب، وفيه عود المرء كيوم ولدته أمه، وفيه مشابهته بالجهاد، وفيه من المعاني التي ذكرنا شيء كثير؛ إذ فيه كثير مما يتفرق في عبادات أخرى من الشعائر، سواء كانت فرائضاً أو سنناً.(163/3)
وصايا مهمة للعازم على الحج
هنا جملة من الوصايا للذي يعزم على الحج نلخصها في الآتي: أولاً: أن يتوب العازم على الحج إلى الله سبحانه وتعالى توبة نصوحاً يقدمها بين يدي إقباله على الله سبحانه وتعالى وشروعه في هذه الفريضة التي مبناها الأول على الاستجابة والطاعة المطلقة لأمر الله، والسعي الدائب لنيل رضوان الله سبحانه وتعالى.
ثم تحقيق الإخلاص وتحرير النية لله سبحانه وتعالى؛ لأن الحج في مغزاه الأول ومعناه الأعظم تحرير القصد لله سبحانه وتعالى.
ومن ذلك أيضاً أنه ينبغي له عند تحقيق هذا المعنى أن يتحرى النفقة الحلال ليكون حجه أدعى وأجدر بالقبول عند الله سبحانه وتعالى.
إذا حججت بمال أصله سحت فما حججت ولكن حجت العير لا يقبل الله إلا كل صالحة ما كل حج لبيت الله مبرور ومما ينبغي للحاج أن يتهيأ به أن يتعلم المناسك، وأن يأخذ من فقهها ما يصح به حجه، وهو في حقه فرض عين؛ لأن على الإنسان أن يتعلم ما تصح به عبادته، كما لو حاز نصاب الزكاة فحينئذ يجب عليه أن يتعلم أحكام الزكاة وفرضها ومشروعيتها وما يجب في ماله لله سبحانه وتعالى، وإن عزم على الحج وجب عليه أن يتعلم أحكامه، ومشكلة الناس اليوم أنهم يتهيئون ويتزودون ويستعدون بكل شيء، إلا أن كثيراً منهم لا يتهيأ لمعرفة المناسك وتعلمها، فتجده يهيئ المال ويسأل عن الطريق وعن الراحة وعن المخيمات وغير ذلك، لكن لا يعتني بجانب أحكام المناسك.
ومن ذلك -أيضاً- اختيار الرفقة الصالحة التي تعين على أمرين مهمين في هذه الفريضة: الأمر الأول: أمر العلم والفقه في المناسك.
الأمر الثاني: عدم الإتيان بما يجرح كمال العبادة في الحج.
إذ بعض الناس قد يأتي بالحج أركاناً وواجبات، لكنه لم يأت بالكمال من استغلال الأوقات في أنواع الطاعات، ولم يكن ممن يبتعد ويتقي كل ما قد يجرح أو ينقص أجر الحاج في حجه من أمور كثيرة يقع فيها الناس من غيبة أو نميمة أو جدال أو خصام أو سوء ظن أو نحو ذلك، أو أذى للناس والحجاج وغير ذلك من الأمور، فهذا مما ينبغي أن ينتبه له الحاج أيضاً.
ومن هذه الوصايا -أيضاً- أن يأخذ الإنسان بالرفق وحسن الخلق والتحلي بالصبر، فإن هذه الفريضة نوع من الجهاد، ومهما بالغ الناس في الترفيه وإيجاد الخدمات من التكييف والطعام والفرش وكذا إلا أنها يبقى فيها نوع من المشقة والخشونة، فإذا لم يتحل الإنسان بالصبر ويوطن نفسه على أنه يبذل ويتحمل لأجل مرضاة الله سبحانه وتعالى فإنه عند وجود أقل عارض يجزع، وتجد كثيراً من الحجاج يبطلون حجهم أو يجرحونه إذا قلت برودة الماء أو تأخر وقت الطعام، وذلك بالجزع، ولم يكن عنده رحابة الصدر ولا لين الجانب، ولا إظهار هذه الأخلاقيات التي هي من تمام وكمال هذا الفرض.
وكذلك -أيضاً- يحتاج الحاج إلى أن يستصحب الزاد الذي أخبر الله عز وجل عنه في فريضة الحج على وجه الخصوص، حينما قال جل وعلا: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197] فاستحضار التقوى من التوقي لكل ما فيه معصية لله عز وجل أو كراهة أو حرمة، وكذلك الحرص على كل ما فيه طاعة وفضيلة وأجر.
والوصية التي بعدها حسن المعاملة وعدم الأذى، فإن حسن المعاملة مع الناس مطلوبة، لكن في كثير من الأحوال قد لا يستطيع الإنسان بحكم شغله أو بعده أن لا يتعامل إلا مع فئة محدودة أو قليلة، لكنه في الحج قطعاً يتعامل مع كثير من الناس شاء أم أبى، سواء أكانوا في طوافهم، أم في رميهم، أم في سيرهم وحلهم وترحالهم، ويتعامل مع أناس لا يعرف لغتهم، ولا يعرف تفكيرهم، ولم يسبق له معرفتهم، فلذلك لابد من أن يجمع العزم على أن يكون حسن التعامل لين الجانب.
وآخر وصية هي أن يستحضر التواضع والبعد عن كل أسباب الكبرياء؛ فإن الحج مبناه الأعظم على أن الإنسان قد تجرد من هذه الدنيا وزينتها، ومن الفوارق التي تفرق بينه وبين الآخرين، فأجدر به أن يراعي التواضع واللين مع حجاج بيت الله الحرام؛ لأنه إذا ذل لله سبحانه وتعالى ينبغي أن يلين لإخوانه المؤمنين.(163/4)
موجز أعمال الحج(163/5)
حقيقة الأنساك الثلاثة للحج
أولها: التمتع، وهو أن يأتي بالعمرة كاملة ثم يتحلل من إحرامه ويتمتع من عمرته إلى حجه بمعنى أنه يأتي بكل شيء كان يفعله قبل إحرامه حتى معاشرة النساء، ثم إذا جاء الحج أحرم من مكة للحج، لكن إذا خرج من المواقيت فإنه لا يكون متمتعاً.
النسك الثاني هو الإفراد، وهو أن يأتي بالحج مفرداً ليس معه عمرة، فلا يطوف إلا طواف الحج، ولا يسعى إلا سعي الحج، طواف وسعي واحد فقط، وهذا إن لم يكن أتى بعمرة قبل ذلك فالألزم له أن يأتي بعمرة ولو بعد الحج، أو قبله، لكن إن جاء بالعمرة قبل الحج فالأولى والأتم له أن ينويها تمتعاً.
النسك الثالث القران، وهو الذي يجمع فيه بين الحج والعمرة معاً، وذلك بأن يقرنهما معاً، وأن يسوق الهدي؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من لم يسق الهدي فليحل وليجعلها عمرة ثم ليتمتع إلى الحج) فإن كان قد ساق الهدي فهو الذي يقرن بين الحج والعمرة، والصحيح من أقوال أهل العلم -كما أفاض وتوسع بذلك ابن القيم في زاد المعاد- أنه ليس عليه في قرانه بين الحج والعمرة إلا سعي واحد فقط، وهذا خلاف لمن أوجب السعيين على القارن، والقول الأول -وهو قول كثير من أهل العلم- انتصر له ابن القيم -كما أشرت- في زاد المعاد انتصاراً عجيباً جداً، وأصاب فيه، حتى ذكر لذلك اثنين وعشرين دليلاً واستنباطاً، ثم كر على كل رواية تشبث بها القائلون بالرأي الآخر، وبين إما ضعفها أو عدم صحة الاستنباط إن كانت الرواية صحيحة، ولعل هذا المبحث -والله أعلم- من أوسع ما كتب أهل العلم في هذه المسألة على وجه الخصوص.(163/6)
صفة الأنساك الثلاثة للحج
الصفة الموجزة للحج بالنسبة للمتمتع أنه يطوف ويسعى للعمرة، أن يطوف بالبيت سبعاً، وأن يجعل البيت عن يساره، يبدأ من الحجر الأسود وينتهي إليه، ثم يسعى بادئاً من الصفا وينتهي إلى المروة، من الصفا إلى المروة شوط، وليس كما يقع من بعض الناس أنهم يجعلون الذهاب والإياب شوطاً واحداً فيسعون أربعة عشر شوطاً، وهذا يقع من كثير من الناس، وعندما يفعلون ذلك يختلط عليهم العد، فربما يسعون عشرة أو ثلاثة عشر أو أربعة عشر إلى آخر ذلك، خاصة مع زحام الحج لا يستطيع أن يضبط الطائف العدد، ويقع لهم بذلك مشقة كبيرة، وللأسف أنه يقع في هذا عدد غير قليل من الحجاج، بل ربما يقطع سعيه لعدم القدرة على الإكمال، وما عرف أن السعي المطلوب هو أشواط سبعة فقط.
ثم إذا جاء الحج ينوي بالحج.
أما المفرد فإنه إذا قدم إلى مكة فإما أن يقدم إليها في اليوم الثامن أو يتوجه إلى منى، فله الخيار، فإذا قدم مكة وأراد أن يقدم سعي الحج فإنه يطوف طواف القدوم إن كان من غير أهل جدة ومن حاذاها، أو يعتبره طواف الركن لتقدمه على السعي ثم يسعى، فيكون هذا السعي سعي الحج، وإن لم يفعل توجه إلى منى في اليوم الثامن وهو يوم التروية، والذهاب إلى منى يوم الثامن سنة، فيصلي بها خمسة فروض: الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر يقصر منها ما حقه القصر، ثم ينطلق من منى إلى عرفة في اليوم التاسع، والوقوف في عرفة ركن، والأولى أن لا يدخل إلى عرفة إلا بعد زوال الشمس، أي: قبيل الظهر بقليل، أو وقت دخول صلاة الظهر.
فإذا دخل عرفة فإنه يصلي بها الظهر والعصر جمع تقديم، ويستمع لخطبة الإمام، وليس في عرفة من مشاعر محددة أو أعمال معينة إلا الإلحاح بالدعاء والاشتغال بالذكر والتضرع لله سبحانه وتعالى، وهذا هو الذي ينبغي أن ينشغل به الإنسان من تلاوة للقرآن وذكر لله ودعاءٍ وتضرع متصل لله سبحانه وتعالى.
وعرفة كلها موقف لا يحتاج الإنسان فيها إلى أن يحدد مكاناً بعينه، وإن تيسر له أن يقف في الصخرات في أسفل الجبل كما وقف النبي عليه الصلاة والسلام فعل، وإلا فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (وقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف إلا بطن عرنة).
ثم يدفع من عرفة بعد غروب الشمس، ولذلك قال أهل العلم: الأكمل أن يجمع في عرفة بين النهار والليل، لكن الصحيح أن الوقوف بعرفة وقته من بعد الزوال إلى فجر يوم العيد، فلو أنه لم يدرك النهار ثم جاء إلى عرفة بعد غروب الشمس ووقف بها صح حجه وتم ولا شيء عليه.
قال أهل العلم: إنه لو وقف قبل الزوال ثم خرج في ذلك الوقت فإنه لا يعد واقفاً بعرفة، وإذا فاته الوقوف بعرفة فاته الركن، وإذا فاته الركن بطل حجه ووجب عليه قضاؤه.
وهذا في عرفة، ثم يدفع إلى مزدلفة، والمبيت بها واجب، ويصلي بها المغرب والعشاء جمع تأخير، وللرعاة والسقاة وأصحاب الحاجات والنساء والضعفة أن يدفعوا من مزدلفة بعد منتصف الليل، والسنة والتمام والكمال أن يبقى الحاج إلى صلاة الفجر، ثم يصلي الفجر ويبقى حتى يسفر النهار -أي: حتى يبدو الضوء وينبلج الفجر- ثم بعد ذلك يذهب إلى منى ويكون قد دخل في اليوم العاشر يوم العيد.
وهذا اليوم تقضى فيه معظم أعمال الحج، يكون فيه رمي جمرة العقبة وهو واجب، وفيه طواف الإفاضة وهو ركن، وبذلك تكتمل الأربعة الأركان: الإحرام، وسعي الحج، والوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة.
ففي يوم النحر رمي جمرة العقبة وهي الجمرة الكبرى، ووقته ممتد من بعد منتصف الليل كما وصفه بعض أهل العلم، أو من بعد الفجر إلى آخر ذلك اليوم.
وفيه طواف الإفاضة ويسمى طواف الزيارة.
وكذلك الحلق أو التقصير، وكذلك ذبح الهدي أو الفدية، فهذه أربعة أعمال له أن يقدم منها ما شاء وأن يؤخر منها ما يشاء، وإن لم يكن سعى سعي الحج فيحسن به أن يسعى سعي الحج بعد طواف الإفاضة، فهذه الأعمال السنة أداؤها في يوم النحر، هذا إن استطاع ذلك، وإن لم يستطع فإن مدتها ممتدة إلى آخر أيام التشريق، بل إلى آخر أيام الحج إن كان هناك عذر كحيض المرأة أو نفاسها، أو وجود علة من مرض أو نحو ذلك، فإن له أن يؤخر بعض هذه الأعمال إلى اليوم الثاني أو الثالث، بل إلى ما وراء ذلك، وهذه الأعمال -كما أشرت- ليس هناك من ضرورة في التقديم أو التأخير فيها، بل كيف ما اتفق له، وإن تيسر له متابعة فعل النبي عليه الصلاة والسلام فإنه أكمل وأتم في هذا الأمر.
والحلق أفضل من التقصير، والذبح الأكمل فيه والسنة فيه أن يباشره بنفسه إن استطاع، وإن شق عليه لعدم معرفته -كما هو الحال الآن- أو للزحام فإنه يوكل غيره، وهذا التوكيل صحيح ولا شيء فيه، ثم يبقى بعد ذلك في منى أيام التشريق الثلاثة، أو يبقى الحادي عشر والثاني عشر، والثالث عشر هو مخير فيه بشرط أن يخرج قبل مغيب الشمس إن تعجل في يومين، وليس هناك من أعمال في هذه الأيام سوى المبيت بمنى وهو واجب، ورمي الجمار الثلاث وهو -أيضاً- واجب.
ويرمي الجمار على الترتيب الصغرى ثم الوسطى ثم الكبرى، ويقولون: رمي الأولى والثانية يأخذ ناحية اليسار ويجعل القبلة أمامه، ويتوجه بالدعاء إلى الله سبحانه وتعالى، فقد ورد أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يدعو في هذه المواضع بقدر سورة البقرة، هذا موجز هذه الشعائر.
فإن استطاع أن ينفر في اليوم الثاني عشر فلينفر قبل الغروب، فإن أدركه الغروب قبل النية والشروع في الخروج من منى فإنه يلزمه أن يبيت بمنى وأن يبقى اليوم الثالث عشر فيها إلى ما بعد الزوال حتى يرمي.
وإن كان قد شرع في الخروج لكن أدركه الزحام ونحو ذلك فلا شيء عليه أن يخرج ولو غربت الشمس وهو ما يزال في حدود منى.(163/7)
التربية العملية في الحج
إن هذا الدين علم أتباعه وأمة الإسلام بأسلوب عملي لتتحقق الفرائض والأحكام والآداب التي أمر الله سبحانه وتعالى بها.
إن الأمور في التعليم تنقسم إلى قسمين: ناحية نظرية، وناحية عملية، والناحية النظرية على أهميتها كثيراً ما يبقى تأثيرها ضعيفاً حتى يأتي التطبيق العملي، ولذلك الدرس العظيم في هذا الحج هو أنه ينقل كل الأوامر والتشريعات في صورة عملية كاملة، فليست المسألة مسألة أقوال، وإنما يضرب الله سبحانه وتعالى من خلال هذه الفريضة أمثلة عملية تتربى الأمة عليها؛ لأن المقصود هو العمل، قال عز وجل: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105] فلم يقل الله عز وجل: تكلموا أو فكروا.
وإنما قال: (اعملوا) والعمل هو المقصود؛ لأنه -في الحقيقة- هو ثمرة العلم، وثمرة هذا الدين إنما هي العمل.
ولذلك لما ذكر الله سبحانه وتعالى الاستخلاف في الأرض قال: {لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس:14] ليس: كيف تقولون.
ولا: كيف تتصورون أو تفكرون!(163/8)
الإخاء والمساواة
إن كل دروس الحج إنما هي دروس عملية، ونأخذ بعض هذه الدروس من حيث التربية العملية، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال في حجة الوداع: (لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى) فهذه مقالة تتجلى فيها العملية لتحقق هذه المقالة، بينما غيرها من أقوال الناس أو الدول تبقى نظريات حالمة، أو خيالاً وأمنيات لا يصل إليها الواقع، ونحن اليوم في هذا العصر وفي هذا الزمن وفي ظل النظام الدولي الجديد يقولون: المساواة ونبذ العنصرية.
ثم تجد أن التطبيق العملي على عكس ذلك في كثير من الصور والأوضاع والوقائع، لكن في الحج تجد فيه درس المساواة ونبذ العنصرية متجدد بصورة عملية، فإذا الأسود إلى جوار الأبيض، وإذا الضعيف إلى جوار الغني، وإذا صاحب النسب إلى جوار من ليس له شرف في نسب، صورة عميلة متجسدة توقن من خلالها الأمة أن المساواة حتم لازم بإذن الله سبحانه وتعالى.
فأي نظام يدعي المساواة يستطيع أن يأتي بعشر معشار ذلك المشهد العظيم الذي يتم في الحج وتتجسد فيه المساواة بصورة عملية لا فرق فيها بين حاكم ومحكوم، ولا بين غني وفقير، ولا بين عالم وجاهل؟! بل الكل في ميزان الشرع وفي ميزان الإسلام سواء، لا يتفاضلون إلا بتقواهم لله عز وجل.(163/9)
وحدة الأمة المسلمة ومظاهرها
حينما يأتي الأمر من الله سبحانه وتعالى للأمة المسلمة أن تكون أمة واحدة فإن هذا الدرس يبقى نظرياً، وتأتي شعيرة وفريضة الحج وتجسد هذا الأمر تجسيداً عملياً، فإذا الأمة في تلك المشاعر وفي تلك المواقف وفي تلك الأعمال وحدة كاملة، وهذه الوحدة حديثة في صورتها العملية في الحج؛ لأنها تدل على ما ينبغي أن تبنى عليها الوحدة، ليست وحدة حكومات ولا وحدة قرارات، وإنما تبدأ من أغوار النفوس وأعماق القلوب، فإذا بالقلوب في مشاعرها واحدة، وأمنية النفس وطلب الإنسان في تلك الأماكن والمناسك كله طلب واحد ومشاعر واحدة.
بل إنهم في شعارهم ولباسهم على حال واحد، ثم الهتاف والقول: (لبيك -اللهم- لبيك) هتاف واحد، ثم هم في العمل والمسير على عمل ومسير واحد من منسك إلى منسك، ثم هم -أيضاً- في الانتهاء والإفضاء والخروج من هذه الفريضة على خروج وإفضاء واحد، ليدل على أن مسألة الوحدة ليست قضية شكلية، بل هي قضية كلية ينبغي أن تشمل كل العوامل التي في المسلم الواحد، بدءاً من مشاعره ومن تصوراته ومن شعاراته ومن مظهره ومن أعماله، بحيث تصاغ صيغة واحدة.
ولذلك الوحدة التي طال الحديث عنها وتشدق بها كثيرون من أهل القومية أو من أهل البعث أو غيرهم كلها نكصت على رءوسهم؛ لأنها لم تكن على أسس الإسلام أصلاً، ولم تكن حتى على أسس مرضية في المنهج من حيث الأصل، بل كانت على مصالح، بينما ما أراده الله عز وجل أن يتجسد في الحج حتى يكون أمراً ظاهراً على الأمة بمجموعها في دولها وفي علمائها وفي حكامها على الوحدة العملية تراه حقيقة، فإن وحدة الشعوب ووحدة المسلمين في فريضة الحج كأنها تلغي كل سبب من أسباب الفرقة، وتلغي الحدود وتلغي شروط الجنسيات وتلغي -أيضاً- الطبقيات، تلغي كل ما خالف فيه المسلمون أمر الله سبحانه وتعالى، وتعطي المسألة قابلية للتطبيق خلافاً لمن يستبعد هذا ويقول: لا يمكن أن تجتمع الأمة أو أن تكون أمة واحدة.(163/10)
كف الأذى
من الدروس العملية في التربية الإيمانية للحج أن يكون الإنسان المسلم كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) أي: ينبغي للمسلم أن لا يصدر عنه إلا الخير في الحج، فيأمن أذاه وشره ليس المسلم فحسب وليس الإنسان فحسب، بل الشجر والصيد، ولذلك من محظورات الإحرام الصيد، وفي منطقة الحرم لا يقطع الشجر ولا ينفر الصيد فيها، كل هذا يهذب الإنسان المسلم بصورة عملية، لينزع النفسية العدوانية الإجرامية، فلا تبقى عنده هذه الروح إلا فيما هو انتصار لحرمات الله سبحانه وتعالى وغضبه على أعداء الله عز وجل.
ولذلك فدعاوى السلام ودعاوى الإنسانية ودعاوى مقاومة الإرهاب التي تقال اليوم كلها دعاوى في غالب الأحيان يعكس الواقع ضدها، لكن الإسلام الذي يتهم اليوم أربابه وأصحابه بالإرهاب هو الذي يربي أتباعه على المسالمة وعلى كف الأذى تربية عملية متكاملة.(163/11)
القدرة والاستعداد على التغيير
إن القدرة والاستعداد على التغيير هي أن يغير الإنسان السوء إلى الحسن، والمعصية إلى الطاعة، فكثيراً ما يجد الإنسان أنه يدور في حلقة مفرغة، يسمع العبرة والتذكرة ويتأثر بها ثم لا يُغَيِّر أو يُغَيَّر ثم يرجع، فتأتي فريضة الحج وإذا بها دورة عملية فيها من أولها إلى آخرها استجابة موفقة لله عز وجل وبعد تام وتوق دقيق لكل معصية ومخالفة لأمر الله عز وجل، فإذا بها ترفع في الإنسان المسلم فعالية وقدرة التغيير نحو الأصلح، والله عز وجل قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
إذاً في الحج تتغير النفوس والقلوب تغيراً جذرياً، هذا إذا أديت العبادة على وجهها المطلوب ووفق حكمتها ومشروعيتها التي أرادها الله سبحانه وتعالى، فإنك تجد هذه القدرة ترتبط بهذه المعاني، فالمسلم في الحج يحظر عليه أن يقص شعره، وأن يقلم ظفره، أو أن يقطع شجرة، بهذه الأوامر يتعود على أن لا يقطع حرمة المسلم، وهو في الحج لا يستعمل الطيب بعد إحرامه ولا يمسه، والطيب في الأصل حلال، فبهذا يتعود على الاستجابة لأمر الله بحيث لا يمس شيئاً مما حرمه الله عز وجل، فلا يمس مالاً حراماً ولا يمس امرأة حراماً، ولا يمس أي أمر فيه حرمة وكراهة في شرع الله سبحانه وتعالى.
ثم إنك -أيها المسلم- تخلع المخيط لتخلع زينة الدنيا وتتحلى بلباس التقوى، ولذلك ينبغي أن تتعود على أن تنخلع من كل معصية ومن كل أمر تتحلى وتتزين به، إلا أن يكون ذلك كما قال الله سبحانه تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26].
وكذلك يستجيب الإنسان المسلم لأمر الله سبحانه وتعالى حيث يرفع صوته بالتلبية ويعلنها: (لبيك -اللهم- لبيك) وما من عبادة إلا والنية فيها مضمرة، إلا الحج فإنه يصرح ويقول: لبيك -اللهم- حجاً.
أو: لبيك -اللهم- عمرة.
لأن هذه الفريضة مقصود فيها إعلان الاستجابة والتعود عليها، ولذلك حينما ترمي الجمار فإنك تعلن العداء للشيطان والمناوأة له، وتعلن همتك الإيمانية على قدرتك على تجاوز وسواسه وهمزه ونفثه لتطيع الله سبحانه وتعالى وتدحر الشيطان وما يضلك به أو يوسوس به إليك.
والدروس في ذلك كثيرة، لكنها في الحج تتجسد في صورة تربوية عملية وهذا من الأمور المهمة.(163/12)
المطوفون والخدمات في الحج
الوقفة الرابعة: المطوفون والخدمات والمتأمل الآن يجد أن إعلانات المطوفين تشمل الإغراءات التي ترغب الناس فيما عندهم والحج معهم، فإذا بهم يذكرون تكييف الحافلات، وتوفير الوجبات، والقرب من الجمرات وغير ذلك من الأسباب، ربما كلها لا تعدو أن تكون أسباباً مادية، بينما لا تجد مثلاً من يقول: هناك دروس ومحاضرات، هناك تنبيهات وإرشادات.
وهذه الظاهرة ليست من جانبهم، بل في الحقيقة هي صدى للجانب الآخر وهم الحجاج، تجد من يريد الحج يسأل من حج في العام الماضي: كيف كان المطوف؟! كيف كان الطعام؟! كيف كان الشراب؟! كيف كانت المواصلات؟! لا يسأل عن شيء آخر، فالمطوفون إذا احتج عليهم بمثل هذا قالوا: نحن نبذل ما يرغب فيه الحجاج أنفسهم.
إذاً ينبغي أن يحرص المطوفون والحجاج على عدم التلبس بالمنكرات، والحرص الشديد -أيضاً- على استغلال الأوقات؛ لأن بعض الناس خاصة في أيام التشريق بعد أنت تنتهي المناسك يتلبسون بالمنكرات، وبعضهم الآخر بالمخالفات، وأقل ما يقال فيها: إنها مكروهات.
فإذا بهم يشربون الدخان، ويلعبون الورق، وإذا بهم يتكلمون فيما لا يرضي الله سبحانه وتعالى، وهذا لا شك أنه ناتج عن هذا الفراغ، وربما كان ناتجاً عن بعض مسئوليات أولئك المطوفين.
أيضاً ينبغي أن يعتمد هؤلاء المطوفون على توفيق الله سبحانه وتعالى، وليس فقط على جهدهم، فتجد المطوف يعد الناس بكل شيء، وإذا قالوا: هل عندك كذا يقول: نعم عندي كل ذلك، وأنا جاهز بكل وجه.
ونحو ذلك، وينسى أن يقول: إن شاء الله.
وينسى أن يسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقه أن يؤدي الدور كما يشاء.
إذا لم يكن من الله عون للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده لكن على المطوف حين يهيئ كل شيء أن يستعين بالله عز وجل، وأن لا يركن إلى أنه قد حسب لكل أمر حسابه؛ لأنه قد تختلط الحسابات في الحج، قد يحسب حساب المواصلات ويختار طرقاً قليلة الزحام فإذا بها في ذلك العام هي الطرق التي يشتد زحامها، وغير ذلك من الأمور.
أيضاً على المطوف أن يكون حريصاً على معرفة الأخطاء حتى يتجنبها في أعوام قادمة، فلماذا لا يسأل الناس عن آرائهم عما عرض لهم من مشكلات، وعن مقترحاتهم التي قد ينتفعون وينتفع هو بها أيضاً في أعوام قادمة؟!(163/13)
التوعية والدعوة في الحج
إن موسم الحج أعظم تجمع، وهو أكبر فرصة للتوعية والدعوة للمسلمين من كل مكان، فتصور كل معنى وفائدة يجنيها هذا المسلم يعود بها إلى بلده، وتجد أن كماًَ هائلاً من الحجاج في غالب الأحوال مع حجاج الداخل والخارج قد يبلغون المليونين من الحجاج.
ونقف هنا وقفات: الأولى: الدعاة الرسميون التابعون للهيئة العامة للدعوة والإفتاء والإرشاد قد يبلغ عددهم في بعض الأعوام مائة وخمسة فقط، ولو قسمناهم على أعداد الحجاج ربما يكون نصيب العشرة آلاف أو الخمسة عشر ألفاً من الحجاج واحداً من هؤلاء الدعاة، فلا شك أن هذا في غالب الأمر لا يؤدي الدور كاملاً، بينما في المقابل -لا على سبيل المقارنة- تجد -مثلاً- أن عقد النظافة بمنطقة المشاعر يضم أربعة وعشرين ألف عامل لينظفوا الشوارع والطرقات، ومائة وخمسة ليعلموا الناس فريضة الحج! هل جاء الناس فقط ليتنظفوا أم ليحجوا فيقفوا في عرفة ويبيتوا بمزدلفة ويرموا الجمرات ويخلطوا خلطاً عجيباً؟! لأن بعض الناس لا يعرف شيئاً عن الحج.
الثانية: اللغات.
فكثيراً ما تقع التوعية باللغة العربية، وكأن الحج ليس فيه من ينطقون غير العربية، والصحيح غير ذلك، فتجد أن التوعية تكون قاصرة، وأذكر مرة أنا كنا في بطن عرنة ننتظر الزوال حتى ندخل إلى عرفة، فكانت سيارات التوعية بمكبرات الصوت ينادى فيها: أيها الحاج! أنت خارج عرفة لا يصح بقاؤك في هذا المكان، يجب أن تدخل عرفة وإلا بطل حجك، ويتكرر النداء عشرات وعشرات.
فتلتفت يمنة ويسرة فتجد بعض الناس لا يعرفون ماذا يقول هذا الرجل؛ لأنهم لا يعرفون اللغة العربية، فهل هو ينادي على بضاعة يبيعها، أو هو صاحب إسعاف يريد أن ينقذ الجرحى والمرضى؟! لا يعرفون شيئاً، لذلك فمسألة اللغات مهمة في التوعية، وربما تكون من المقترحات النافعة والمفيدة أن الجهات الشرعية في تلك البلاد -سواء أكانت رئاسة إفتاء أم وزارة حج أو أوقاف أم نحو ذلك- تكاتب هيئة التوعية في المملكة لتنتدب بعضاً من أولئك العلماء والدعاة في تلك البلاد ليدخلوا ضمن برنامج التوعية التي تقوم به الرئاسة في المملكة حتى تستكمل جوانب النقص.
الثالثة: توزيع الكتب والأشرطة.
والكتب والأشرطة توزع باللغة العربية، بينما تجد أكثر الحجاج لا يعرفون العربية، ولو وجدت بدل هذه الكتب نشرة واحدة موجزة بلغات مختلفة ربما انتفع بها الناس أكثر من هذه الكتب.
ونحن نجد في فترة ما قبل الحج أن مئات الآلاف من الكتيبات الصغيرة النافعة توزع على الناس وربما كان كثير منهم لا يحجون ويجعلونها في بيوتهم، وبعضهم يحجون وهم قد عرفوها وعرفوا ما فيها، بينما الكثير من يحتاجون إلى هذه التوعية لا تصل إليهم بالصورة المطلوبة.
الرابعة: أن التوعية لا ينبغي أن تكون في الحج، بل ينبغي أن تكون قبل الحج؛ لأن أكثر الحجاج بعد أن يخطئ ويخلط ويجعل عاليها سافلها يأتي فيسأل ويجد أنه قد أتى بالحج على غير وجهه من أوله إلى آخره، بينما المطلوب أن تكون التوعية قبل الحج، ويمكن أن تكون هناك أمور ميسرة، ذلك أن تقوم الجهات المسئولة بعقد دورة لمدة يوم أو نصف يوم فقط يتعلم الحجاج فيها المناسك بصورة موجزة، ويعطى بها شهادة أو ورقة، ولا يأخذ تأشيرته إلى الحج إلا بعد أن يعرف المناسك؛ لأننا لا نريد أن نستكثر من عدد الحجاج الذين لا يعرفون كيف يحجون ثم يبطل حجهم ويرجعون مرة أخرى وقد لا يتيسر لهم الرجوع.
وهناك -أيضاً- اقتراح، وهو أن تقوم جهات مسئولة في المملكة -ثل وزارة الحج أو غيرها- تصوير شريط فيديو لمدة نصف ساعة عن المناسك، مجموعة من الناس يقومون بالمناسك ويذهبون إلى منى وإلى عرفة في أوقات فراغها، وهذا الشريط يرتب ويذكر التعليق عليه بلغات مختلفة، حتى يوزع على كل الحجاج قبل أن يأتوا أو عندما يأتون، لأجل أن يعرفوا هذه المناطق عبر هذه الصور؛ لأن بعض الحجاج لا يعرفون سوى الكعبة بيت الله الحرام، لكن لا يعرفون عرفة ولا المشعر الحرام، مسميات لا يعرفون حقائقها ولا صورتها، فلذلك تجد أسئلة بعض الحجاج غريبة أحياناً، تراه يأتي فيسأل عن مقام إبراهيم، ربما يظنه جبلاً أو يظنه شيئاً آخر، فليس عنده أي فكرة عن هذه الأسماء وحقيقتها، فمثل هذه التوعية يبدو أنها من أهم القضايا التي تنفع الحجاج، وللأسف الشديد أن كثيراً منها غير موجود.(163/14)
الأولويات والمهمات في الحج
حينما نتأمل في هذا الحج العظيم نجد أنه مؤتمر إسلامي كبير ضخم، فينبغي للأمة أن تستغله بالاستغلال المناسب، ومن أعظم هذا الاستغلال أن تكون في هذا الحج مناقشة الأولويات والمهمات، ليس التركيز على العوارض اليسيرة والقضايا السهلة، فإننا لو تأملنا خطبة النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع نجد هذا المعنى متجسداً، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام لما خطب الأمة في ذلك اليوم العظيم والمشهد الحافل ما تحدث عن قضايا صغيرة، وإنما عن القضايا المهمة، وتأمل حديثه عليه الصلاة والسلام كما ورد في الصحيحين من حديث أبي بكر رضي الله عنه وابن عباس رضي الله عنهما، قال أبو بكر: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقال: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان.
ثم قال: أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم.
قال: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى.
قال: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم.
قال: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليست البلدة الحرام؟ قلنا: بلى.
قال: فأي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم.
قال فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ ثم قال: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا) فتحدث عن حرمة المسلم بهذا الأسلوب العظيم؛ لأن من أعظم القضايا والمهمات في حياة الأمة المسلمة أن يرعي المسلمون حرمة بعضهم، وأن يقاتلوا من ينتهك هذه الحرمة من أعداء الله سبحانه وتعالى، ولذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث وهذه الخطبة: (وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي كفاراً أو ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم.
قال: اللهم! فاشهد) وفي بعض الروايات في مسند الإمام أحمد أنه عليه الصلاة والسلام قال في هذه الخطبة: (اسمعوا مني تعوا: ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، إنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس، ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون، ولكنه رضي في التحريش بينكم، واتقوا الله في النساء؛ فإنهن عندكم عوان -يعني: أسيرات- لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإن لهن عليكم حقاً ولكم عليهن حقاً، وحقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً غيركم، ولا يأذنَّ في بيوتكم لأحد تكرهونه) إلى آخر ما قال، ثم قال: (يا أيها الناس! إن ربكم واحد وأباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى) وقال في رواية عند الطبراني: (وأُحَدِّثكُم من المسلم؟ المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، وأُحدِّثكم من المؤمن؟ المؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، وأُحدِّثكم من المهاجر؟ المهاجر من هجر السيئات، والمؤمن حرام على المؤمن كحرمة هذا اليوم، لحمه عليه حرام أن يأكله بالغيبة يغتابه، وعرضه عليه حرام أن يظلمه، وزاده عليه حرام أن يدفعه دفعاً، وأذاه عليه حرام أن يدفعه دفعاً).
وفي روايات أخرى يقول: (كل رباً من ربا الجاهلية موضوع، وأول رباً أضعه ربا العباس بن عبد المطلب) ناقش النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة القضايا الكلية للأمة المسلمة.
وهذا الحج بهذا الحشد الجامع والمؤتمر العظيم فيه هو -أيضاً- مقياس لنبض هذه الأمة، فإذا رأيناها قد التفتت فيه إلى مهمات الأمور وناقشت كبريات القضايا، وكذلك ظهر فيها العلم والوعي، وظهر في سلوكياتها الرحمة والتآلف، وظهر من سلوكياتها الوحدة والقوة فهذا مؤشر بأن الحجاج نموذج متكامل للأمة المسلمة مع اختلاف البلاد أو اللغات أو مستويات التعليم أو غير ذلك.(163/15)
دراسات ومشروعات في الحج
أشير إلى بعض المشروعات التطبيقية العملية التي تنفع، والتي ربما هي من مقاييس القدرة العملية على اتخاذ القرار المناسب المبني على الدراسة والعلم والتنفيذ، فهناك مشروعان أشير إليهما سريعاً: المشروع الأول: مشروع مقاومة الافتراش، وهذه المشكلة يعاني منها الحجاج، وكأن الأمة كلها تعجز عن حلها، والمقصود بالافتراش هو افتراش الحجاج للمناطق تحت الكباري، خاصة عند الجمرات، فعرض منطقة كل جمرة ثمانين متراً، الذي يبقى منها وقت الحج من اليوم الثامن حين يبدأ الحج يبقى متران: متر للذهاب ومتر للإياب، ويحصل هناك من المفاسد الشرعية من التبرج والاختلاط ومن المفاسد الصحية وغيرها كثير، وكل عام يتكرر هذا المشهد، وهو دليل عجز الأمة عن حلول مشكلات يسيرة وتافهة.
إلا أنه -بإذن الله تعالى- سيبنى مركز أبحاث الحج، يكون عمله دراسة مفصلة ومقترحات واضحة فيما يتعلق بالحجاج، ونرجو أن يكون هذا التطبيق جيداً وناجحاً في مقاومة الافتراش كما سمي هذا المشروع، وهو سيطبق لأول مرة منذ أن بدأ الحج في السنوات الأخيرة.
المشروع الثاني: ترقيم الأراضي في منى، وهذه تفيد في إرشاد الضائعين والتائهين، فكثيراً ما تختلط المناطق مع زحام الحجاج، وقد سبق أن قامت فرق الجوالة وجمعية الكشافة بالترقيم، لكن على الأرض الإسفلتية، وهذا الترقيم لم يحل المشكلة بسبب أنه قد تقف سيارة على الرقم أو يأتي حاج فيفترش الأرض فوق الرقم، مما يجعل المرشد والحاج يتوهان عندما يبحثان عن المكان.
وهذا المشروع تبنته جامعة الملك سعود، وستكون المناطق واضحة تخدم كل من يريد أن يستدل على مكان بعينه، وأيضاً تفيد في مسائل الخرائط.(163/16)
قصص وأخبار في الحج
الحج عبر امتداده الطويل فيه كثير من القصص والمشاهد، نقف عند بعض منها بشكل موجز، من هذه القصص في سير سلف الأمة ما هو معروف ومشهور من سيرة عبد الله بن المبارك رحمة الله عليه ورضي الله عنه، فقد كان مشهوراً أنه يحج عاماً ويغزو عاماً، وكان يحب أن يحج الناس على نفقته، ولذلك كان يحب الناس أن يحجوا معه لينتفعوا بعلمه، فالناس فيما مضى كانوا يصحبون العلماء لينتفعوا بمعرفة المناسك ويتعظوا ويتذكروا، فكان إذا جاءه الناس ليحجوا معه يقول: ائتوني بنفقتكم.
فيأتي كل بنفقته فيضع عليها اسمه، ثم يجمعها كلها في خزينة عنده، ثم لا يأخذ منها شيئاً، ويخرج بالحجاج ينفق عليهم منذ خروجهم من مرو التي كان فيها في بلاد المشرق حتى يحجوا، فإذا انتهى حجهم سألهم: من عندكم من الأولاد؟ وماذا تريدون أن تهدوا لهم؟ فبعد أن يخبروه يقوم فيشتري لهم الهدايا واللطائف، ثم إذا رجعوا بيض بيوتهم على ما هي العادة، حيث يبيضون البيوت فرحاً بالحج وإشارة إلى أنهم أدوا فريضة الحج، ثم يجمعهم بعد ثلاث ليال في وليمة فرحاً بما يسر الله من أداء الحج، ثم يعطي كل واحد منهم نفقته التي كان قد أعدها لنفسه، فقيل له: لماذا لا تتركها لهم حين جاءوك بها؟ قال: حتى لا يستكثروا منة لي عليهم، وحتى لا يشعروا أن في حجهم نقصاً أو جرحاً.
فهذه قصة من قصص السلف الصالح رضوان الله عليهم، وللنبي عليه الصلاة والسلام مواقف وقصص كثيرة فيها عظات وعبر، لكننا نذكر ما جاء بعد ذلك.
ذكر في بعض قصص التاريخ أن هارون الرشيد حج مرة، وقد قيل -أيضاً- عن هارون: إنه كان يحج عاماً ويغزو عاماً.
خلافاً لما يلصق به الحاقدون من التهم وما لا يليق بسقطة الناس فضلاً عن أمراء وخلفاء المسلمين، فكان يمشي وكان الحراس يصرفون الناس بين يديه -أي: يوسعون له الطريق-، وكان هناك أحد الصالحين يعظ الناس ويذكرهم، فقالوا له: اسكت قد أقبل أمير المؤمنين: فلما حاذاه رَكْبُ أمير المؤمنين قال: يا أمير المؤمنين! حدثني أيمن بن نابل: حدثني قدامة بن عبد الله قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى على جمل وتحته رحل رث، ولم يكن ثم ضرب ولا طرد ولا: إليك إليك).
فسأل عنه فقيل: إنه فلان.
فقال الرشيد: قد عرفته.
فقال له: قل.
فقال: فهب أن قد ملكت الأرض طراً ودان لك البلاد فكان ماذا أليس غداً مصيرك جوف قبر ويحثو الترب هذا ثم هذا فقال له الرشيد: قد أجدت فغيره؟ يعني: قل غير ذلك.
فقال: نعم يا أمير المؤمنين.
من رزقه الله جمالاً ومالاً فعف في جماله وواسى في ماله كتب في ديوان الأبرار.
فظن الرشيد أنه عرض بذلك إلى حاجته -أي: كأنه يريد أن يطلب منه مالاً- فقال له: قد أمرنا بقضاء دينك.
فقال: لا تفعل يا أمير المؤمنين، لا تقض ديناً بدين، اردد الحق إلى أهله، واقض دين نفسك من نفسك.
قال: إنا قد أمرنا أن يجرى عليك.
قال: لا تفعل يا أمير المؤمنين، لا يعطيك الله وينساني، فقد أجرى علي الذي أجرى عليك ولا حاجة لي بجرايتك.
فكان هذا الموقف عظيماً في وحدة ومساواة الأمة وانتفاعها بمثل هذا المشهد العظيم.
ومن هذه القصص أيضاً والأخبار أن سفيان الثوري قال: قدمت مكة فإذا أنا بـ أبي عبد الله جعفر بن محمد قد أناخ راحلته فقلت: يا ابن رسول الله! لم جعل الموقف من وراء الحرم -أي: في منطقة الحل ليس بمنطقة الحرم-؟ فقال: الكعبة بيت الله، والحرم حجابه، والموقف بابه، فلما قصده الوافدون أوقفهم بالباب -يعني: بعرفة خارج الحرم- يتضرعون، فلما أذن لهم بالدخول أدناهم من الباب الثاني وهو المزدلفة، فلما نظر إلى كثرة تضرعهم وطول اجتهادهم رحمهم، فلما رحمهم أمرهم بتقريب قربانهم وهو الذبح بمنى، فلما قربوا قربانهم وقضوا تفثهم وتطهروا من الذنوب التي كانت حجاباً بينه وبينهم أمرهم بزيارة بيته على طهارة.
ثم قال سفيان: فلم كره الصوم أيام التشريق؟ قال: لأنهم في ضيافة الله، ولا يجب على الضيف أن يصوم عند من أضافه.
فكانت هذه الأقوال والمساءلات والمحاورات بين أهل العلم تدل على فطنتهم ورعايتهم لهذه الحقوق.
وذكر الذهبي أيضاً أن ملكشاه بن السلطان ألب أرسلان السلجوقي لم يتهيأ له الحج، وكان لم يعزم على الحج، ومضى إلى مكان ليقضي بعض الأمور، فإذا به يرى ركب العراق وهم متوجهون إلى الحج، ووقف يتأمل الحجاج فرق لهذا المنظر واشتاق إلى زيارة البيت الحرام وأداء الحج، ونزل وسجد وعفر وجهه بالتراب وبكى، وقال: بلغوا سلامي وقولوا: العبد العاصي الآبق أبو الفتح يقول: لو كنت ممن يصلح لتلك الحجة كنت في الصحبة.
وطلب من الناس أن يدعوا له.
وأيضاً عن محمد بن يزيد الرفاعي قال: سمعت عمي يقول: خرجت مع عمر بن ذر إلى مكة فكان إذا لبى لم يلب أحدٌ أحسن منه صوتاً، فلما أتى الحرم قال مناجياً ربه: ما زلنا نهبط حفرة ونصعد أكمة ونعلو شرفاً ويبدو لنا علم حتى أتيناك بها، نقبة أخفافها، وبرة ظهورها، ذبلة أسنامها، فليس أعظم المؤنة علينا إتعاب أبداننا ولا إنفاق أموالنا، ولكن أعظم المؤنة أن نرجع بالخسران، يا خير من نزل النازلون بفنائه.
فهذه مناجاة جميلة وقصة يستفاد منها في هذا الدرس.(163/17)
فتاوى مهمة في الحج
في الحقيقة مسائل الحج كثيرة، لكن هناك مسائل دائماً يكثر السؤال عنها، فاتخذت بعضاً منها من فتاوى كبار أهل العلم في المملكة وغيرها، وأيضاً بعضها من المجمع الفقهي.
ومن أكثر هذه المسائل وروداً ودروجاً مسألة تجاوز الميقات والإتيان إلى جدة والإحرام منها، وخلاصة ما يقال في هذا أنه يجب على كل قادم من خارج المواقيت إلى مكة والمشاعر بنية الحج أو العمرة أن يحرم من الميقات، وإذا تجاوز الميقات فإنه يجب عليه أن يرجع إلى ميقاته أو أقرب ميقات، وإذا لم يتمكن من ذلك أو أحرم من جدة أو من غير جدة متجاوزاً لميقاته فإنه يجب عليه دم فدية؛ لأن الإحرام من الميقات واجب، وتركه للواجب يجبر بالدم، ولا يجزئه مطلقاً بأي حال من الأحوال أن يحرم من جدة، لكن إذا جاء إلى جدة أو إلى مكة بغير نية النسك لعمل أو لزيارة مريض أو لغير ذلك ثم أنشأ النية بعد ذلك، فإنه يحرم من مكانه من جدة إن كان في جدة، ومن مكة إن كان في مكة، لكن لا يحتال؛ لأنه يحتال على الله عز وجل.
فبعض الناس يقول: أنا أتيت بنية العمل وكذا.
لكن إذا سألته يقول: كنت أقول: إن تيسرت العمرة فسأعتمر.
وإن دققت معه سيقول: سأجد فرصة وإن شاء الله سأعتمر.
إذاً فأنت كنت تنوي العمرة وكنت تنوي الحج، فلابد من أن تأتي بالأمر على وجهه.
المسألة الثانية التي يذكرها -أيضاً- كثير من الناس: ما يتعلق بطواف الوداع أو طواف الإفاضة بالنسبة للمرأة الحائض أو النفساء.
نقول: إذا استطاعت المرأة أن تنتظر حتى تطهر فإنه يجب عليها أن تطوف طواف الوداع أو الإفاضة بعد طهرها، أما إن كانت مع رفقة أو محرمها ولا تستطيع التأخر فإنه -والحالة هذه- لا يجب عليها طواف الوداع ويسقط عنها بهذا العذر، وأما طواف الإفاضة فإنها تغتسل له وتستثفر وتطوف ولا شيء عليها إن شاء الله تعالى.
والمسألة الثالثة فيما يتعلق بمسألة الحج على نفقة إنسان آخر، فلو أن إنساناً دعا إنساناً ليحج معه وسينفق عليه فبعض الناس يتوهم أن حج الفريضة لا يصح إلا أن يكون من ماله، وهذا خطأ، فمتى توافرت لك الاستطاعة -الزاد والراحلة- فليس هناك شرط أن يكون الحج من مالك أو أن يكون هدية من صديق أو أن يكون مساعدة من أخ، لا يشترط هذا الشرط، فإن حج مع هيئة رسمية أو مع جهة العمل أو مع صديق أو مع بعض الناس الذين يصنعون مثل صنيع ابن المبارك رحمة الله عليه فلا حرج في ذلك مطلقاً، فإن هذا الأمر -كما أشرت- يغلب على كثير من الناس، فربما يؤجلون حجهم وقد يتيسر لهم مع من يكفيهم المئونة ومع ذلك يتركون الحج لهذا المعنى، وهذا غير صحيح.(163/18)
قصائد وأشعار في الحج
الوقفة الأخيرة مع بعض القصائد والأبيات الشعرية في الحج: يقول الشاعر: بحر من الخلق لا يحصى له عدد فيه من الأبحر الأمواج والزبد يطوف بالبيت سيل لا نفاد له إذا مضى مدد منه أتى مدد تسري ضراعته في الأفق لاهجة فكل حي به نشوان يرتعد تكاد في غمرها الأجساد من لهف يحيلها الشوق أنواراً فتتقد يا رب أنشودة الأرواح تعزفها هنا القلوب فيا لله ما تجد والدمع من لذعها هام فلا خجل يكف جريته الحرى ولا جلد تذكرت شأنها يوم الحساب وقد سيقت إلى العرض لا عون ولا سند تود لو أنها في الأرض ما وجدت ولا ألم بها مال ولا ولد فاستصرخت رب نفس غير سائلة سوى النجاة وقد أودى بها الكمد يذكي لواعجها طيف الذنوب فما تكاد تبصر غير الهول يحتشد وتنجلي نفحات العفو عن كثب فتستقر بُعيد اللوعة الكبد والنفس في غمضة النجوى قد انطلقت من أسرها فبدت روحاً ولا جسد شفت فلا يتراءى في بصيرتها سوى المليك الذي قد صاغها أحد فيا لها جلوات للكروب هدى تحيا بلمس ثناها أعين رمد بها تجلى على تلك الوفود وقد وافته تبغي رضاه الواحد الصمد وكذلك أيضاً يقول آخر: هذي طلائع للحجيج شعارها لبيك يا رب الحجيج المحرم كل النفوس تعلقت آمالها تدعوك ما بين الحطيم وزمزم حتى المشاعر كبرت حصباؤها حسب الذي يدعوك أن لا يندم وتكبل الشيطان في اليوم الذي قد أوقدت أبواب نار جهنم وتفتحت أبواب جنتك التي وعد الحجيج بها بيوم أعظم وثالث أيضاً وقد تخلف عن الحج -وهذه مشاعر روحانية جيدة حين يعز على الإنسان أن يفقد مواضع الطاعة وأسباب القربة من الله سبحانه وتعالى- يقول: خلفوني مع الدموع وراحوا ليتهم من ودعوا قد أراحوا أزمعوا الحج يا هناهم فصاروا يسبق الطائرات شوق صراح فجروا في فؤادي نبع حنين يا بروحي حنينهم والنواح وسمت بي مع الخيال سماء وضياء يلفني لماح وجلال الأذكار في الكعبة الغـ راء نور بها الهدى وضاح والبرايا من كل جنس ونوع جمع الله طيهم فارتاحوا وتعالى الصوت الحبيب جهيراً تلبيات ترجيعها صداح واقع تخشع القلوب إليه ومقام تسمو به الأرواح كل خطو في أرض مكة ذكر كل ركن في ساحها مصباح وانجلت عتمة وأزهر شوق واحتوتني بفيضها الأفراح فإذا بي والبيت يحرس خطوي مستقيم في خطوه مرتاح وزحام الطواف نفحة حب وحنان الدعاء روح وراح وعجيج الساعين نبعة خير وصلاة ريانة وارتياح والوقوف الحبيب في عرفات نفحات من الهدى وانشراح وسلاح الحصى العجيب فخار تاه عزاً فغار منه السلاح وطواف الوداع للبيت دمع وابتهال نحوه يجتاح إنما الحج والزيارة خير ووصول وتوبة وفلاح ولقاء مع السماء كريم وعطايا فيها التجلي نجاح أتراني أحظى برحلة حج في حياتي أم فاتني المصباح(163/19)
الأسئلة(163/20)
حكم النيابة في الحج عن الوالدين أو غيرهما
السؤال
ما حكم النيابة في الحج عن الوالد أو الوالدة أو غيرهما؟
الجواب
الحج من الأعمال التي تجوز فيها النيابة، والنيابة هنا عامة لا يشترط أن يحج فيها عن الشخص قريب له أو ولد له، بل متى أناب أو وكل غيره وأعطاه النفقة صح حجه عنه إن كان من يحج عنه معذوراً، كأن يكون مريضاً بمرض لا يرجى برؤه، أو عاجزاً عجزاً لا يستطيع معه الحج، أو كان ميتاً فوكل ورثته من يحج عنه، وكذلك إن لم يكن هناك مبادرة من صاحب الحج، فإن تطوع الرجل ليحج عن أبيه الذي لم يحج، أو تطوع أن يحج عن صديق له مات وهو لم يحج فإنه لا شيء في ذلك، وليس هناك من عمل يختلف بين حج الشخص عن نفسه وحجه عن غيره إلا النية، فقد ورد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك -اللهم- عن شبرمة.
فقال: هل حججت عن نفسك؟ قال: لا.
قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة).
فليس هناك خلاف في العمل، فبعض الناس يظن أنه يحتاج إلى عمل معين، وليس كذلك، لكن عند التلبية للحج يسمي؛ لأن تسمية من يحج عنه وارد ومشروع، فيقول: لبيك -اللهم- حجة وعمرة عن فلان.
أو: لبيك -اللهم- حجاً عن فلان.
أما بقية الأعمال فإنه يؤديها كما يؤدي حجه عن نفسه بكامل إخلاصه، فعندما يدعو فيدعو بالدعاء الذي يدعو به في المعتاد حينما يحج عن نفسه، ويعمل نفس الأعمال، لا يزيد عن ذلك شيئاً، إلا أنه يعلن بالنية في أول الأمر ويستحضرها عند بعض المناسك خاصة عند النحر أو الذبح، وقد يصرح أيضاً بأنه ينحر عن فلان؛ لأنه قد ورد مثل ذلك -أيضاً- عن النبي صلى الله عليه وسلم.(163/21)
إنفاق المال في الجهاد أفضل من حج التطوع
السؤال
أحد الإخوة كان قد تبرع بمبلغ الحج للمسلمين المتضررين في البوسنة والهرسك أو في غيرهما؛ فأيهما أفضل: الحج أم ما صنعه؟
الجواب
هناك فتوى اطلعت عليها من ضمن الفتاوى لكبار العلماء، يقولون فيها: إن الذي عنده نفقة الحج ويريد أن يحج تطوعاً فإنه من الأولى له أن ينفق المال في الجهاد في سبيل الله.
مستشهدين بحديث النبي عليه الصلاة والسلام: (أنه سئل: أي العمل أفضل؟ قال: الإيمان بالله.
قيل: ثم ماذا؟ قال: ثم الجهاد في سبيل الله.
قيل: ثم ماذا؟ قال: الحج المبرور) فإذا كان حج الفريضة قد أداه فإنه إن أنفق المال في الجهاد فهو أولى إن استطاع وكان أمره متيسراً وعنده نفقة الحج، وإن أراد التفاضل فإنه على هذا الوجه استناداً لهذا الحديث، لكنه لا يجب عليه أن يترك حج التطوع لينفق المال في ذلك المضمار، ولا يكون آثماً إن صرف المال في حج التطوع؛ فإنها قربات، والمسألة هي مسألة تفاضل، والإنسان لو ترك الأفضل وأخذ بالمفضول فإنه جائز، لكنه قد يكون أخذ بأجر أقل وترك الأجر الأعظم، هذا ما يقال في مثل هذه المسألة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(163/22)
وقفات مع أخطر المهمات
مهمة التعليم من أهم وأبرز القضايا في حياة الأمم والشعوب؛ وذلك لأن الجهل من أعظم أسباب الضياع والهوان، وقد حث الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم على العلم والتعلم، فكانت أول كلمة من القرآن نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأ)، ولم يأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستزادة من شيء إلا من العلم، فقال: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)، ولنا في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وخلقه ومعاملته مع أصحابه في التعليم خير دليل وهادٍ ومرشد في ممارسة العملية التعليمية.(164/1)
مهمة العلم والتعليم
الحمد لله الرحيم الرحمن، علم القرآن، وخلق الإنسان، علمه البيان، أحمد سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه، ويوافي فضله وإنعامه، ويقينا سخطه وعذابه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، جعل العلم طريقاً إلى حياة القلوب، وزكاة النفوس، ورشد العقول، واستقامة الجوارح، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، المعلم الأمثل، والمرشد الأكمل، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فبين أيدينا وقفات مع أخطر المهمات، مهمة شرفها أن أعظم من حملها رسل الله وأنبياؤه، مهمة من معالم أهميتها وخطورتها أنها من أعظم أسباب القوة والحفظ للأمم، وتضييعها من أعظم أسباب الضياع والهوان للأمم.
إنه حين تبدأ الدراسة ينطلق الملايين من الطلاب والطالبات ومعهم عشرات ومئات الآلاف من المعلمين والمعلمات، وتدور الأيام وتتوالى وهذه المدارس والمعاهد والجامعات تعمل، ثم نرى ونسمع شكوى من ضعف الأخلاق، وانحلال الروابط الاجتماعية، ورقة الدين، وغلبة الهوى، بل نسمع كذلك شكوى من ضعف العلوم العصرية المدنية الحضارية، وتدني المستويات الطلابية، وكثرة المشكلات التعليمية، وتمضي هذه العجلة ولكنها في مثل هذا الوقت على وجه الخصوص تكتسب أهمية أكبر وخطورة أعظم، وتحتاج إلى جهود متكاتفة متكاملة، وإلى وقفات متبصرة متأنية.
تحتاج إلى قلوب غيورة محترقة، وإلى نفوس فتية قوية، وإلى عزائم ماضية عالية، وحتى ندرك ذلك نقف بعض الوقفات التي تكشف لنا عن كثير من هذه المهمات نحن أمة الإسلام، أمة العلم والتعليم، أمة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] أول ما نزل على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.
نحن أمة: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] نحن أمة {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، نحن أمة محمد صلى الله عليه وسلم الأمي الذي علم البشرية كلها.
نحن أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذي جعل التعليم وراثة للنبوة فقال عليه الصلاة والسلام: (العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر)، نحن هذه الأمة، نحن أمة العلم والحضارة المادية المدنية، ونحن أمة العلم والتزكية النفسية القلبية، نحن الأمة الذين أخذت عنها الحضارات المعاصرة علوم المادة والتجربة، لكننا نسمع ما يسمى اليوم العالمي لمحو الأمية، وتأتينا الإحصاءات لتقول لنا: إن سبعين مليوناً من أمة العرب أميون لا يقرءون ولا يكتبون، وهذا العدد يعادل بحد أدنى الخمس، وقد يصل إلى قريب من الربع، ويأتي أيضاً تصريح للمسئول عن منظمة التربية والعلوم ليقول لنا: إن الأمية تزداد في جل الدول الإسلامية، وإنه لم تسجل زيادات في القضاء على الأمية إلا في ست دول إسلامية فحسب، وأن نحواً من (50%) يعدون في صفوف الأميين من حيث القراءة والكتابة، أو من حيث الاتصال بالتقنيات المعلوماتية المعاصرة.
أليست هذه المفارقات الكبيرة والأوضاع المحزنة في ظل عصر المعلومات والتقنيات والعلوم المتقدمة جديرة بأن تجعلنا نقف مع أنفسنا؟! إنني لا أدعو إلى وقوف وزارات التربية والتعليم والحكومات فحسب، بل أدعو إلى وقوفك أنت وأنا وتلك الأم في بيتها وابني وابنك.
لماذا تمضي الأيام، ولماذا تتدرج بالطلاب المراحل ثم يخرجون بعد سنوات وهم جهلة معممون أو مزينون بزينة وحلية ظاهرية، ولم يخلص العلم إلى قلوبهم، ولم تدخل التزكية إلى نفوسهم، ولم يصبح في عقولهم اتزان واعتدال، ولم نجد في سلوكهم استقامة ولا قوامة؟ لِمَ ذلك؟ لنقف هذه الوقفات المهمة.(164/2)
أهمية التربية والتعليم
أول هذه الوقفات أجعلها في أمر مهم أساسي، وهو الذي نريد أن نقول فيه: لم سمينا مهمة التربية والتعليم أخطر المهمات؟ إن ذلك لأمرين اثنين: الأول -وهو ما نريده بالصورة الإيجابية-: إدراك الأثر والقوة التأثيرية للعلم والتعليم، فإن مقياس قوة الأمم اليوم لا يعد بكثرة جيوشها وأسلحتها، بل قبل ذلك بكثرة المتعلمين فيها، وبوجود مؤسسات التعليم التطبيقية الراقية العالية، وبوجود مراكز الأبحاث والدراسات المستمرة المتتابعة، تلك التي جعلت القرن الماضي الذي ربما شهد أكبر مخترعات في تاريخ البشرية تستأثر دولة واحدة فيه بنحو (30%)، ومجموعة من الدول الغربية بنحو (30%)، ثم يتوزع الباقي على كل بلاد الدنيا، ثم يكون حظ دولة الغصب الصهيونية معادلاً لمجموعة الدول العربية كلها وأكثر! ولا بد أن ندرك أن ذلك ليس من مجرد هذه الحقائق الواقعية فحسب، بل من آياتنا القرآنية ومن إرشادات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78].
إن التحليل في هذه الآية ومثيلاتها يعطينا الأهمية القصوى والمفاتيح الأساسية الرئيسة التي بها تغير الأمم وتبدل أحوالها من ضعف إلى قوة، ومن تفكك إلى ترابط، ومن تراجع إلى تقدم.
فالأول السمع، والمقصود به تلقي العلوم وأخذها من كل جهة، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها، ويكون مع السمع التدبر والتحليل والتقسيم والتبويب، وأما النظر والبصر فالمقصود به المعاينة والمشاهدة والتجربة والاستنباط والدقة في معرفة ما يرى ويشاهد، نحن نرى كل شيء في هذا الكون، فلا يكاد يسترعي انتباهنا ولا يلفت نظرنا، ولا يشغل تفكيرنا، بينما نرى الأمم المتقدمة المدنية من حولنا وهي تدرس الظواهر تنظر بعين البصيرة لا بعين البصر فحسب.
ثم يأتينا من بعد ذلك البصر والفؤاد، والفؤاد المقصود به القلب والعقل الذي يحدد ويقوم المسار، والذي يكشف عن آثار هذه المعرفة المستقاة من الجوارح في تأثيرها النفسي والقلبي والسلوكي من بعد ذلك، والتي تضبط المسيرة، وتحدد المعالم وترسم المناهج، وترمي إلى الغايات النبيلة السامية.
وأمر آخر في هذه الأهمية، فنحن نرى اليوم -كما قلنا- أن أصحاب القوة هم أصحاب العلم والتقنية والمعلومات، ويعرفون عنا عن بلادنا وعن ثرواتنا وعن إحصاءاتنا أكثر مما نعرف عن أنفسنا.
لكن جانباً آخر يكشف عن الأهمية والخطورة، وهو ضرورة التميز، فالعلوم المدنية المادية مشترك واحد، فالماء تكوينه عندي وعند غيري من غير المسلمين وعند أهل الشرق والغرب واحد، لكن ما وراء ذلك من التصور والاعتقاد والفكر، وما وراء هذه الظواهر الكونية، بل ما وراء الكون كله والحياة كلها يختلف عندنا -معاشر المسلمين- عن غيرنا من الأمم، والأمم التي تقدمت اليوم في المادة فشلت في الجملة أن تتقدم في ميدان الخلق، فلا القلوب مشرقة مضيئة، بل هي في جملتها مظلمة كدرة، ولا النفوس زاكية طاهرة بل كثير منها متدنسة قذرة، ولا الصدور منشرحة طيبة بل كثير منها ضيق حرج.
نحن الأمة التي أعطينا التميز في الجمع بين جانب المادة والروح، بين جانب العلم المادي والعلم المعنوي، ولقد لخصت آيات القرآن مهمة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي مهمة كل معلم وداعية من بعده: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة:129] وتلاوة الآيات هي نقل العلوم والمعرفة وسردها وعرضها بفنون مختلفة وبأساليب متنوعة.
كان قدوتنا فيها رسولنا صلى الله عليه وسلم يوم تدرج في التعليم واستخدم وسائله المختلفة، يوم رأف بالجهلة والذين عندهم شيء من التسرع، يوم كانت سيرته وشخصيته أنموذجاً فريداً للمعلم الحاني البصير.
ثم {وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة:129] فلا خير في علم لا يخلص إلى القلب، ولا ينفذ نوره إلى النفس، ولا يظهر أثره في السلوك.
تلك هي المعادلة المهمة، كل آية تقرأ، كل حديث يروى، كل معلومة تحفظ، كل حقيقة علمية تتجلى ينبغي أن تسكب مزيداً من الإيمان في القلب، ومزيداً من الطمأنينة في النفس، ومزيداً من التعظيم للخالق، ومزيداً من الثقة بالمنهج وارتباطاً بالكتاب والسنة.
أين هذا من ممارساتنا التعليمية في مدارسنا ومعاهدنا؟! أين هذا مما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم روى أصحاب أصحابه رضوان الله عليهم من التابعين (كان الذين يقرءوننا القرآن من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كـ أبي وعثمان وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم لا يتجاوزون بنا العشر من الآيات حتى نفقه ما فيها من العلم والعمل، فتعلمنا العلم والعمل معاً).
{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:129] وذلك هو التطبيق العملي، والمقصود بالحكمة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي كما أوجزت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (كان خلقه القرآن) قرآن يمشي على الأرض، سلوك راق، خلق سام، قيم فاضلة، معاملة لا مثيل لها، إنسانية لا يبلغ أحد مبلغها، تلك هي الصورة المثلى للمعلم الأمثل صلى الله عليه وسلم.
إذاً فقيادة المجتمعات في داخل الأمم وقيادة الأمة لغيرها من الأمم مربط فرسها ومحور رحاها هو التعليم والتربية، والأخذ بأسباب القوة العلمية المادية في العلوم الدنيوية، لكن بمنهج متميز في الارتباط بالله.
تلك الآية الأولى، (اقرأ)، تعلم وخذ، لكن باسم ربك لا باسم الهوى، لا باسم النزعة الإنسانية الطاغية، لا باسم الشهوة التي فيها نوع من العدوان البشري باستخدام القوة والتسلط على البشر، هذه مزيتنا نحن أمة الإسلام.(164/3)
الأمور المهمة في مهمة التربية والتعليم
في مقتبل بداية هذا التعليم وأيامه، وفي كل عام دراسي جديد نوجه الحديث أيضاً في وقفات أخرى، وأكرر أن أهميتها تخصنا جميعاً، وأن خطابنا فيها موجه لكل واحد منا بشخصه وذاته، فضلاً عمن يكون مسئولاً عن هذه المهمات فإن مسئوليته مضاعفة، وإن مهمته أكبر وأكبر، ونريد من المعلمين والمعلمات والطلاب والطالبات والآباء والأمهات أن يحرصوا على هذه المعاني.(164/4)
الاستمرار في التعلم والتطوير
وأخيراً في هذا الجانب: مسألة الاستمرار والتطوير.
فهي قضية مهمة، لا ينبغي أن نعلم اليوم كتباً قديمة قد جاءت العلوم الحديثة بعد خمس أو عشر من السنوات بمعلومات جديدة وفروع وقضايا وحقائق وتجارب مختلفة ونحن ما زلنا ندرس ذلك العلم القديم، ونحن أيضاً ليست عندنا المراكز البحثية التي تتابع كل جديد بالقدر الكافي، وإن الذي يصرف على البحث العلمي يعد اليوم من أسباب تقييم الأمم وجعلها في المصاف العليا أو الدنيا، والمعدل الذي يذكر عالمياً أنه ينبغي أن يصرف (1%) من الدخل القومي لكل دولة على الأبحاث العلمية وتطويرها، وليس هناك دولة من بلاد العالم الإسلامي في جملتها تبلغ مثل هذه النسبة، وكما قلت فإن الذي يصرف على دولة الغصب الصهيونية في البحث العلمية يعادل كل ما يصرف في البلاد العربية ويفيض عليه.
وعندما جعل تقييم لأحسن مائة جامعة في العالم كله -بغض النظر عن هذا التقييم- لم يكن بينها جامعة في بلاد إسلامية مطلقاً، بينما اشتملت على سبع جامعات في ذلك الكيان الغاصب.(164/5)
المعرفة بالأثر والخطورة في سوء التربية
والأمر الثاني: المعرفة بالأثر والخطورة.
فإن المعلم اليوم يمكن أن ينشئ جيلاً صالحاً أو طالحاً، وإن المدرسة اليوم يمكن أن تعيد إلينا أبناءنا إلى بيوتنا وقد تشوشت أفكارهم وانحرفت سلوكهم، أو تعيدهم إلينا وقد ثبت إيمانهم ورسخ يقينهم وسمت أخلاقهم، بل قبل ذلك نحن -معاشر الآباء والأمهات- عندما كان أبناؤنا في صغرهم قبل المدارس وحتى في أثناء المدارس نحن الذين وضعنا بصماتنا عليهم، فإن وجدت ابناً بذيء القول سيئ الفعل فاعلم أن لذلك حظاً من أسرته وبيته، إما تفريطاً في المهمة وإما إكساباً لهذه الأخلاق من سلوك الآباء والأمهات، ومن هنا فإن المهمة خطيرة وعظيمة، فإن أبناءنا الصغار لا أقول في الثالثة والرابعة من العمر والخامسة قبل الدراسة، بل حتى وهم في بطون أمهاتهم، تبدأ التربية من هناك، وقد يعجب بعض الناس من ذلك، فنذكر بما وجه إليه النبي صلى الله عليه وسلم من ذكر ودعاء عند معاشرة الرجل أهله، وقال فيه عليه الصلاة والسلام: (فإن قدر بينهما ولد لم يضره الشيطان) وعندما أخبرنا وسن لنا أن يؤذن في أذن الوليد ويقام في أذنه اليسرى حتى ينطبع في نفسه ونفس الإنسان وخلقه شيء عجيب، فلم يعرف الناس بعد إلا القليل من أسراره، فيكون ذلك موطئاً لما يكون في هذا، بل قد حث الرسول صلى الله عليه وسلم ووجه باختيار المرأة الصالحة؛ لأنها المحضن لهذه التربية.(164/6)
الجدية والاهتمام في العملية التعليمية
الأمر الثالث: الجدية والاهتمام.
إن من الصور السليبة في معاهدنا التعليمية اليوم أن اللامبالاة قد تقع من المعلمين والمعلمات، ولكنها أكثر في صفوف الطلبة والطالبات، فيسهرون ليلهم وينامون نهارهم، ويؤجلون دروسهم، ويحفظون من أسماء اللاعبين واللاعبات والفنانين والفنانات ومواقع الدورات والمباريات أكثر مما يحفظون من المناهج والمقررات.
إن صور ونسب الرسوب وتدني المستويات مع توفر الإمكانيات يدل على خسارة كبيرة وهدر عظيم للثروة القومية، فكيف نعلم مليوناً -على سبيل المثال من الطلاب- وفي آخر العام يكون القريب من نصفهم راسباً يعيد عاماً كاملاً ويستهلك مرة أخرى من المال والجهد مثل ذلك.
أليس هذا جديراً بأن نفكر فيه؟ ألسنا معنيين بأن نعالج الأمور المهمة التي سأشير إلى بعض منها أيضاً؟ أين هذه الجدية؟! أين نحن من منهج الإسلام الذي يريد منا أن نكون أقوياء؟! {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12]، {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [البقرة:63] دين يدعو إلى المسابقة في الخيرات والمسارعة إليها {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133]، {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21]، {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].
دين يريد الهمم العالية والعزائم الماضية، دين جعل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يضربون المثل، فيرحل جابر بن عبد الله رضي الله عنه من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصر ليلقى صحابياً من الصحابة، يقول: جئت أسألك عن حديث لم يعد أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنت، ثم يروي له ذلك الحديث، فيرجع من وقته من مصر إلى المدينة.
إن أمر العلم وطلبه وتحصيله لا ينال بالنوم والكسل ومشاهدة المسلسلات ومتابعة الفضائيات واللعب بالإلكترونيات كما شاع وراج بين أبنائنا اليوم إلا من رحم الله، ومن هنا نريد أيضاً أمراً ثالثاً، وهو أمر الهمة العالية، فكثير من أبنائنا في صورة ربما تتضمن شيئاً من الطرفة لكنها محزنة.
ما هو شعار كثير من الطلاب؟! يقولون: نسأل الله القبول.
لا يعنون به ما نعنيه بالدعاء، وإنما القبول هو أدنى الدرجات فوق الرسوب، وأقل التقديرات أن ينجح بتقدير (مقبول) ويقولون: نسأل الله القبول.
أين المراتب العالية؟! وأين التنافس؟! وأين الذين سيخرجون متعلمين أو علماء أو مبتكرين أو مخترعين؟! إنهم أقل من القليل، والنسبة في ظروف وفي أحوال كثيرة تزداد سوءاً، وذلك ما ينبغي الالتفات إليه.(164/7)
الإخلاص لله وإدراك الغاية من العمل
أولاً: الإخلاص والغاية.
فإن منطلق كل تعليم لا بد أن يتوافر فيه إخلاص لله، وغاية مشدودة إلى طلب رضوان الله، ورغبة مخلصة في الامتثال لأمر الله والتزام شرع الله سبحانه وتعالى، تلك الغاية هي التي تفرق بين مسلم مؤمن يأخذ العلوم من كل حدب وصوب ومن كل فن ولون، لكنه لا يأخذ ما يعارض شرع الله، ولا يأخذ إلا ما يستخدمه في مصلحة عباد الله.
تلك الغاية المهمة التي ينبغي أن نغرسها في أبنائنا وبناتنا، وقد غلبت المادة على الناس إلا من رحم الله، فلم يعد أحد يتعلم إلا لوظيفة، بل أصبح تخصصه وتوجهه مرتبط بما سيئول إليه حاله بعد هذا العلم من اكتساب رزق وحظوة اجتماعية ومكانة دنيوية وغير ذلك، حتى إنك لو سألت طالباً اليوم -لا أقول في المدرسة بل في الجامعة، بل ربما حتى في الدراسات العليا-: لم تدرس لأعطاك تفصيلات من الفروع الدقيقة المتعلقة بهذه الأمور الدنيوية المادية الاجتماعية، ولم تجد في ذهنه ولا في قوله شيئاً من الغايات السامية ولا الأمور العظيمة المتعلقة برسالته ودوره في هذه الحياة ودوره تجاه أمته وتجاه تاريخه وحضارته، فشتان في كثير من الأحوال ما بين جيل اليوم وأجيال خلت، ولذلك عندما نقول: إن هذه المهمة أخطر المهمات فلابد أن ننقل تعريفها، وهذا ليس منا، بل من الغرب أنفسهم، ففي دائرة المعارف البريطانية تعريف للتربية يقول: هي الجهد الذي يبذله ويقوم به آباء شعب ومربوه لإنشاء الأجيال القادمة على أساس نظرته للحياة التي يؤمنون بها.
إنها جهد يقوم به الآباء والمربون، لماذا؟ لينشأ جيل يترجم ويمثل نظرتهم للحياة التي يؤمنون بها، فهل يدرك المعلمون والمعلمات والطلاب والطالبات -بل والآباء والأمهات- هذا المعنى المهم الذي يبين فيه هذا القول أن التربية ليست مجرد معرفة ومعلومات، بل هي فكر وسلوك وقيم ومعان وضوابط تنتقل من جيل إلى جيل عبر هذه المؤسسات التعليمية والتربوية في الأسرة وفي المدرسة، وفي وسائل الإعلام وغير ذلك.
إن المهمة الأساسية للمدرسة أن تضخ القوة الروحية، وتجعل لها تأثيراً في التلاميذ حتى يواصلوا الاستمرار على نهج جيلهم السابق بذات النظرة التي يعيشون بها ويتقدمون إلى الأمام.
إذاً أول هذه الأمور ما نريد أن نثبته في هذه القضية، وهو الإخلاص وإدراك الغاية.(164/8)
وقفات مع المعلمين والمعلمات(164/9)
الوقفة الرابعة: متابعة الطلاب وحل مشاكلهم
وأخيراً: المتابعة.
فإن كثيراً من مشكلات أبنائنا السلوكية والفكرية والخلقية والاجتماعية والأسرية يمكن أن يطلع عليها المدرس إذا كان متابعاً لطلابه، فيرى انخفاضاً في المستوى فيسأل، ويرى غياباً عن الحضور فيتفقد، وقد كان محمد صلى الله عليه وسلم يتفقد أصحابه، ولما نزلت الآيات بالنهي عن رفع الصوت في مجلسه غاب ثابت بن قيس رضي الله عنه، فتفقده الرسول وسأل عنه: أين هو؟! فذهب بعض الصحابة يسأل فقال: إني امرؤٌ جهوري الصوت، أخشى أن أتحدث بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعلو صوتي على صوته فأهلك.
فيبشره النبي صلى الله عليه وسلم ويرده.
هذا التفقد نحتاجه لئلا تسري أفكار منحرفة ومناهج مضللة إلى عقول أبنائنا، لئلا يخرج أبناؤنا من مدارسنا ومعاهدنا إلى أحد طريقين: طريق تطرف حقيقي خارج عن شرع الله يخرب البلاد ويروع العباد، أو يخرجون إلى طريق من الانحراف ينسلخون فيه من أمتهم وأسرهم، وينقطعون عن ثقافتهم، ويعيشون بيننا بعقول ليست كالعقول التي نفكر بها، وبقلوب ونفوس على غير ما هو في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذه مهمة عظيمة وخطيرة، نسأل الله عز وجل أن يوفقنا نحن -معاشر الآباء والأمهات- إلى حسن القيام بها، وأن يحسن من أداء معلمينا ومعلماتنا، وأن يوفق الجميع لما فيه خير الإسلام والمسلمين.(164/10)
الوقفة الأولى: القدوة الحسنة
هاهنا أمور كثيرة، فإننا جميعاً نقدم فلذات أكبادنا إلى المدارس يقضون فيها اثني عشر عاماً، يكونون فيها مع المعلمين والمعلمات في كل يوم نحو ست ساعات إلى ثمان ساعات، يشاهدهم المعلمون والمعلمات أكثر مما نشاهدهم في بيوتنا، نحن نعول على دورهم، نحن نجد أن هناك مهمة كبرى نحتاجها منهم.
أولها: أن يكونوا قدوات حسنة، فليس أضر في التعليم من أن يكون المعلم قدوة سيئة، فيقول ما لا يفعل ويفعل ما لا يقول، وقد ذم الله جل وعلا ذلك لنا -معاشر المؤمنين- فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3].
وحذرنا الله عز وجل من ذلك، وضرب لنا المثل السيئ القبيح لمن كان لهم هذا السلوك، كما بين الحق سبحانه وتعالى ذلك في قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:5]، فهو حمار يحمل علوماً وكتباً فوق ظهره ولا يعقل منها شيئاً، ولا يفهم منها علماً، ولا يأخذ منها سلوكاً، فما أقبح هذا المثل!(164/11)
الوقفة الثانية: التركيز على الهدف والغاية من التعليم
وأمر آخر: تركيزهم على المهمة التي ذكرناها {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة:129]، وليس مجرد سرد للمعلومات.(164/12)
الوقفة الثالثة: القرب من الطلاب والرأفة بهم
وثالثة مهمة، وهي قربهم من الطلاب والطالبات ورأفتهم بهم وشفقتهم عليهم، وإبداؤهم كامل الحب لهم، فإن التعليم لا يجد طريقه إلى العقول، وإن الفهم لا يجد طريقه إلى القلوب إلا عندما يقبل ذلك الطالب أستاذه ويحبه من قلبه، وتتعلق به نفسه.
تأمل كيف كان تعليم سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، بل كيف وصفه الله عز وجل وبين صفته العظمى في تعليمه؟ {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، ووصفه الله جل وعلا في حاله مع من يدعوهم ويعرضون فقال: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم نفسه فقال: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً فجعل الفراش والهوام يقعن فيها، وجعل يذبهن عنها، فأنا آخذ بحجزكم من النار) ذلك هو الشفيق الرحيم.
لا يمكن أن تعلم أحداً وأنت دائم القسوة عليه، وأنت دائم النفرة منه، وأنت دائم العبوس في وجهه، ولن تصل كلماتك إلى عقله وقلبه.
ومن هنا نقول: كيف علم النبي صلى الله عليه وسلم؟ خذ ذلك الحديث الرقيق الأديب العجيب الذي قال فيه سيد الخلق عليه الصلاة والسلام: (يا معاذ! والله إني لأحبك) ثم شرع يعلمه الحقيقة العظمى، ففرح معاذ بتلك المقدمة، وانشرح صدره، وتهيأ قلبه، وانفرجت أساريره، وتلهفت نفسه، فكل كلمة حينئذ تقع موقعها، وتقبل وتؤثر بإذن الله عز وجل.
وكان رديفه ابن عباس -كما في الحديث المشهور- وهو غلام صغير، فيلتفت إليه سيد الخلق صلى الله عليه وسلم فيقول: (يا غلام! إني أعلمك كلمات) كلها مقدمات.
والقرآن يعلمنا في قصة لقمان {يَا بُنَيَّ} [لقمان:16] مما يبين أن هذا التلطف والشفقة والرحمة مهمة في غاية الأهمية.(164/13)
التكامل في العملية التعليمية
إن أداء مهمة التربية والتعليم من أعظم دلائل التقوى، ومن أعظم أسباب وجودها في أبنائنا وبناتنا، ولعلي أقف وقفة أخيرة مهمة، وهي التكامل في العملية التعليمية، وأعني بذلك غير مؤسسات التعليم كالمدارس والمعاهد والجامعات، وأعني بذلك جهتين مهمتين: الأولى: الوسائل الإعلامية، وما أدراك ما وسائل الإعلام؟ تبني ما يهدمه أفضل المعلمين وأشرف المعلمات، وتبدد من العلوم ما ربما استغرق الأيام والأعوام والسنوات.
كم نرى اليوم من آثار مدمرة ليست فقط في جانب السلوك والخلق، بل في جانب الفكر، بل وفي جانب التحصيل العلمي، مع أن الأصل أن يكون هناك تكامل، فكيف نقول للأبناء في المدارس: إن هذا الاختلاط محرم، وإن التبرج والتهتك والإتيان بالحركات التي تثير الشهوات كل ذلك نهى عنه القرآن وحذر منه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يجد ذلك على الشاشات والقنوات الفضائية صباح مساء؟ بل قنوات متخصصة في الغناء من الفجر إلى الفجر، وأخرى في الرياضة لا تتوقف فيها الأقدام تركل، أو الأيدي تضرب أو غير ذلك من الأنواع، وحظ العلم والتعليم والإرشاد والتوجيه إن وجد فهو أقل من القليل، وصحافة أيضاً في بعض الأحوال تهدم ما يقوله المعلم، بل تشكك الطلاب في المعلمين والمعلمات، بل وتطعن في المناهج والمقررات! كيف يستقيم ذلك؟! كيف أدرس طالباً وهو يقرأ أن ما أدرسه فيه خلل أو انحراف، أو أنه سبب لشذوذ أو خلل؟! كيف يصلح ذلك ما لم يكن هناك التكامل؟! وهذه قضية مسئوليتها عظيمة، فكل كلمة تقال أو تكتب أو برنامج يذاع أو يبث كله مسجل: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]، (ومن سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً) كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
والجهة الأخرى: الأسرة والبيت.
تتعلم الطالبة في مدرستها أو في جامعتها أموراً من الحشمة والعفة والحياء، ثم تأتي إلى بيتها وأمها خراجة ولاجة متبرجة، والقنوات في البيوت تبث ما تبث، فكيف يمكن أن نوائم بين هذا وهذا؟! أو الشاب يقول له معلمه: الزم بيوت الله حتى يشرق قلبك، وأدمن تلاوة القرآن حتى يترطب لسانك بذكر الله، وإذا به قد يجد أباً يقول له: احذر! لا تذهب للمسجد، وانتبه لدروسك، وأخر كتاب الله وتلاوته.
فهذا تعارض تحدث به أمور غير محمودة العواقب، إما أن ينحاز إلى الجهة السلبية الخطيرة، وإما أن يحصل اضطراب واختلال لا يستطيع به التوفيق، فلا يستطيع الركون إلى الخير والمضي في طريقه.
نسأل الله عز وجل أن يحفظ أبناءنا وبناتنا، وأن يحفظ معاهدنا وجامعاتنا ومدارسنا لتنشئة صالحة وتربية قويمة وتعليم هادف، إنه -جل وعلا- ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم! إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم! ارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم! أنزل علينا الرحمات، وأفض علينا الخيرات، وضاعف لنا البركات، وامح عنا السيئات، وضاعف لنا الحسنات، وارفع لنا الدرجات برحمتك يا رب الأرض والسماوات.
اللهم! إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا.
اللهم! أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء.
اللهم! مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم! إنا نسألك زكاة نفوسنا، وطهارة قلوبنا، ورشد عقولنا، واستقامة جوارحنا، رطب -اللهم- ألسنتنا بذكرك، واشغل جوارحنا بطاعتك، واستخدمنا في نصرة دينك، واجعلنا اللهم ستاراً لقدرك في نصر الإسلام والمسلمين يا رب العالمين.
اللهم! اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم احفظ بلاد الحرمين من كل سوء ومكروه، احفظ اللهم لها أمنها وإيمانها، وسلمها وإسلامها، ورغد عيشها وسعة رزقها يا رب العالمين! اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء.
اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم! امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين، واجعل -اللهم- لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء.
اللهم! انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين.
أصلح! اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم! وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(164/14)
المنهج الوقائي في الإسلام
الوقاية خير من العلاج حكمة عظيمة ذات مدلول كبير، وهي لا تعني الوقاية في باب الصحة الجسمانية فحسب، بل تشمل الوقاية في جميع الأمور الدينية والدنيوية، إلا أن الوقاية في الأمور الدينية أهم بكثير؛ إذ يترتب عليها فوز العبد في الدار الآخرة أو هلاكه.
فيجب على المسلم أن يقي دينه مما يخدشه أو يضر به، وعليه أن يقي نفسه من غضب الله وأليم عقابه.(165/1)
معنى الوقاية
الحمد لله الواحد الديان، الرحيم الرحمن، الكريم المنان، ذي الفضل والإحسان، والجود والإكرام، جعل السلامة في الإسلام، وربط السعادة بالإيمان، وأودع الهداية في القرآن، أحمده سبحانه وتعالى حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه، ويكافئ فضله وإنعامه، وينيلنا رحمته ورضوانه، ويقينا سخطه وعذابه، هو جل وعلا أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه؛ هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ، وله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء من شيء بعد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وبعثه رحمة للعالمين، وأرسله إلى الناس أجمعين.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! الإيمان هو النعمة الكبرى، والإسلام هو المنة العظمى، والقرآن هو الهداية التي ليس بعدها هداية.
وهنا قفه يطول الحديث فيها، وهي عن الوقاية في الإسلام، ذلك المنهج الذي نستجلي به كم يدفع الله عز وجل عنا من الشرور! وكم يقينا من الآثام وكم يسلمنا من الرزايا والبلايا إذا استمسكنا بإيماننا والتزمنا إسلامنا واتبعنا قرآننا واقتفينا آثار نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
الوقاية خير من العلاج، ودرهم وقاية خير من قنطار علاج، هذه مقالات نعرفها ونحفظها، بل نعقتدها ونستيقنها، بل ونأخذ بها، ونعمل بها، ونطبقها في مجال الصحة والطب، وكل يوم يمر علينا نرى حملات للوقاية من شلل الأطفال، وأخرى للوقاية من الحصبة، وثالثة ورابعة، فهل الوقاية مختصة بالأجساد والأبدان؟ وهل مشكلتنا في علل الأجساد وأمراض الأبدان؟ إن المسألة التي يعالجها الإسلام أعظم وأشمل وأكمل من هذه الجوانب التي لا تمثل إلا جزءاً يسيراً من هذا الدين العظيم، إن هذه الشعارات التي تعمل لها الحملات للتوعية هدفها أن يقتنع الناس ويوقنوا بأن العمل قبل وقوع الضرر أفضل لهم وأيسر، وأنه أقوى أثراً، وأوفر في التكاليف التي قد يتصورونها أو يرونها، فما هو معنى الوقاية؟ إن الوقاية تشتمل على معنى الصيانة والحماية، إنها حفظ ورعاية، وستر وحماية، مأخوذة من: وقاه من الشيء إذا صانه، ووقيت الشيء إذا حفظته وسلمته من الأذى، كما قال الله جل وعلا: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان:11].(165/2)
أهمية الوقاية في كل شيء
ولابد أن نفهم أن الوقاية ينبغي أن تكون شاملة للأبدان والقلوب والعقول، لأنه ما الفائدة إذا صحت الأبدان وضلت العقول؟ وما الفائدة إذا سلمت الأجساد وزاغت القلوب؟ نسأل الله عز وجل السلامة.
إن العالم اليوم يبذل مئات الآلاف من الملايين في شأن الصحة، ومنظمات للصحة العالمية، وأبحاث وتجارب وكثير وكثير، لكنه لا يعدو أن يكون في دائرة ضيقة، ولا يعدو أن يعالج أسباباً محدودة، وإذا بنا نرى أن الأمراض تتكاثر وتعظم، وأن الضحايا تتوالى وتتابع؛ لأن العلاج إنما تناول جزءاً واحداً، وكأنما أنت في مكان تخشى عدواً فأحكمت إغلاق باب من الأبواب إغلاقاً جيداً، ولكن الأبواب الأخرى أو بعض النوافذ مفتوحة، فإنه ولاشك سوف يدخل عليك العدو أو يأتيك البلاء الذي تحذره من جانب آخر، فما الفائدة إذا عملوا على تحصين الأجساد وتلقيحها والبحث عن أدوية الأمراض ولم يعالجوا أسبابها من الانفراط الأخلاقي والانحلالي السلوكي الذي يؤدي إلى مثل تلك الأمراض؟ لننتبه إلى أن الوقاية التي نريد أن نتحدث عنها في لقاءات متتابعة تشمل الإنسان كله، وتشمل الفرد وحده كما تشمل المجتمع برمته، إنها وقاية تغير وجه الحياة لتجعلها مبنية على الأمن والسلامة باطناً وظاهراً، وتعالج الأمراض من أسبابها، وتوقف الخطر من منابعه، وهذه هي المهمة الأعظم الأشمل الأكمل التي لا يمكن بحال من الأحوال أن تتوفر إلا في وحي الله عز وجل الذي أكرمنا وأنعم علينا به.(165/3)
مباني الوقاية وذكر نماذج
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: المرض نوعان: مرض القلوب ومرض الأبدان، وكلاهما مذكور في القرآن.
ومرض القلوب ينقسم إلى قسمين: مرض شبهة وشك، ومرض شهوة وغي، وكلاهما مذكور في القرآن.
وهذا هو الذي ينبغي أن ننتبه له.(165/4)
الوقاية تقوم على التقوية والحماية
ولنعلم أن الوقاية تقوم على أمرين اثنين مهمين: أولهما التقوية، وهي التي تماثل في الطب التغذية، ونحن قبل أن نحقق أول أسباب الوقاية لابد أن يكون هناك قوة في البدن، ثم بعد ذلك نأتي إلى الجانب الآخر وهو الحماية، وهي عند أهل الطب الحمية.
فإنه لابد أولاً من أسباب قوة توفر لهذه الذات قوة في الجوانب المختلفة، ثم نحافظ على هذه القوة التي أنشأناها بذلك الغذاء بأن نحميها من العوارض والأسباب التي تنقص تلك القوة أو التي تضعفها.
ومنهج الإسلام يقوي الإنسان بإيمانه وإسلامه ويقينه بالله عز وجل، وفيه زكاة نفسه، وطهارة قلبه، ورشد عقله، وحسن قوله، وصلاح عمله، فإذا كان هذا النموذج الإيماني القرآني النبوي قد حرصنا على حفظه، فبعد ذلك إذا بقيت له هذه القوة في إيمانه وخلقه وقوله وعمله، فنقول له: احذر كذا وكذا، وانتبه من كذا وكذا، ولا تفعل كذا لأنه يؤدي إلى كذا، فتجيء الشرائع كأنما هي سياج أمني حافظ لتلك القوة أن يصيبها ضرر، وكأنما هي خطوط أولية للدفاع عن التي تليها؛ حتى يبقى المؤمن في حصن من إيمانه، وفي سياج من إسلامه، وفي قوة من يقينه بإذن الله سبحانه وتعالى.(165/5)
نموذج قرآني للوقاية الإيمانية
ولننتبه إلى صور عامة، وننظر إليها في بعض آيات القرآن وبعض أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لنرى ما الذي، أو لنعرف ما المعنى الذي نريد أن نبينه في شأن الوقاية الإيمانية في منهج الإسلام.
ولننظر إلى أمثلة من الوقاية العقدية والأخلاقية والاجتماعية في عجالة سريعة حتى ندرك ما المفهوم الذي نتحدث عنه: في الوقاية العقدية تقوية وإقامة للحجة وإظهار للبرهان على وحدانية الله سبحانه وتعالى، وعلى ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وعلى قضايا الإيمان كلها: من الإيمان بالرسل والأنبياء والكتب والصحف وما يكون في اليوم الآخر وبالقدر خيره وشره.
وكل ذلك مبسوط في آيات القرآن، كقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]، وقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، وقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون:91]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25].
وآيات كثيرة في إثبات البعث الذي ينكره المنكرون، ويعترضون عليه لضعف عقولهم، فيأتينا القرآن بأمثلة وقصص وإثباتات كثيرة، كقوله سبحانه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79]، وأمثلة يضربها الله عز وجل في الحياة التي تبعث في البذرة الصماء حتى تكون نباتاً يزهر ويثمر إلى غير ذلك.
ثم يأتينا جانب الحماية والتحذير والوقاية بعد هذا البناء الذي قام على أسس راسخة من الأدلة الظاهرة والحجج القاطعة؛ كقوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30]، ويأتينا التحذير أيضاً في آيات أخرى كقوله: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء:22]، وتأتينا الآيات القرآنية المحذرة من الشرك ومن كل أسبابه، والمبطلة لصوره عند أربابه، فكان هذا منهجاً متكاملاً ألمحنا إلى بعض صوره من خلال هذه الآيات.(165/6)
نماذج قرآنية للوقاية الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية
وتأتينا الوقاية النفسية من أمراض كثيرة وعلل عديدة من أهمها: شح النفس وأمراض القلب؛ قال تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
وهناك وقاية أخلاقية تسلم الإنسان من الفواحش والفتن، قال تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:151]، وقال جل في علاه: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32]، والتعبير القرآني بقوله: (وَلا تَقْرَبُوا) يعني: لا تفعلوه ولا تقربوا منه، أي: لا تفعلوا ما يؤدي إليه أو يقرب منه، فالنهي أعظم وأشمل، والوقاية أتم وأكمل، ونرى في ذلك كثيراً وكثيراً من الآيات التي تبين لنا هذا الوجه وتحثنا عليه.
وتأتينا الوقاية الاجتماعية التي تسلم المجتمع من الأمراض التي تفتك به وتقطع أواصره وتجعل الشحناء في القلوب والبغضاء في النفوس؛ فيأتينا قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12]، وهذه الآيات هي في التحذير والوقاية، وفي التنبيه على الأمر اليسير الذي قد يكون ظناً يجول بالخاطر ويحوك في النفس، وإذا به ينتقل من طور إلى طور حتى يدفع إلى التجسس والتحسس، ثم يدفع إلى القول والغمز واللمز والغيبة والنميمة، ثم يدفع إلى التباغض والتدابر، ويؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، والله سبحانه وتعالى ينهانا عن هذا فيقول: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30]، أي: لما يؤدي إليه أيضاً من المشاكل الاجتماعية الخطيرة.
وقال سبحانه: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105]، وقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، فأمر بالاعتصام بالكتاب والسنة حماية من الفرقة حتى يبقى المجتمع متماسكاً مترابطاً.
والوقاية الاقتصادية في أن يكون الإنسان المسلم متبعاً لشرع الله في بيعه وشرائه وكسبه وإنفاقه، كما أخبر الحق سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278]، وقليل الأمر في مثل هذا وكثيره سواء، والله سبحانه وتعالى يسوق لنا الآيات في كثير من جوانب الحياة ليعلمنا ما الذي يدعونا إليه إيماننا، وما الذي يرسمه لنا إسلامنا، ثم ليحذرنا ويقينا ويسلمنا من الزيغ والضلال والانحراف عن ذلك، ويكشف لنا ما يئول إليه الأمر، أو ما آل إليه الأمر بالفعل لمن ارتكب مثل ذلك من أهل الكفر والضلال؛ فإن العاقبة تكون وخيمة، والخاتمة تكون شر خاتمة، نسأل الله عز وجل السلامة.(165/7)
نماذج من السنة للوقاية الأخلاقية
وإذا التفتنا إلى سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم فإننا سنرى أحاديث كثيرة كلها يبدأ بقوله: إياكم! إنها لفظة التحذير التي ترفع الضوء الأحمر للتدليل على الخطر قبل وقوعه، والتنبيه عليه قبل الوصول إليه، وهذا رسولنا عليه الصلاة والسلام يقول: (إياكم والجلوس في الطرقات! قالوا: يا رسول الله! مجالسنا ما لنا منها بد، قال: فإن كنتم فاعلين فأعطوا الطريق حقه: غض البصر، ورد السلام، وكف الأذى).
وهذا من حرصه عليه الصلاة والسلام على لفت الأنظار إلى ضرورة الوقاية، ولكن حالنا اليوم بخلاف ذلك؛ حيث لم يأخذ كثير من الناس بهذا التحذير، فصار في مجتمعاتنا ما نشكو منه من جلاس الطرق وأبناء الشوارع الذين يؤذون الرائح والغادي، ويتعرضون للنساء، وهذا جزء مما يقع إذا لم يأخذ الناس بالتحذير، وإذا لم يلتزموا الوقاية.
وهذا رسولنا عليه الصلاة والسلام بين شأن الفتنة العظمى والبلية الكبرى التي بدأ الناس يتجاوزون فيها حدود الوقاية، ثم يشكون من الآثار والأضرار والأخطار، وذلك في شأن المرأة ودعوة الاختلاط والتخفف من الحجاب ونحو ذلك، ولنا في كل هذا أحاديث مفصلة: يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إياكم والدخول على النساء! قالوا: يا رسول الله أرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت)، والحمو: أقارب الرجل.
ولعل هذا الحديث بمجرد التأمل في لفظه من غير شرح ولا تفصيل يبين لنا أن القضية تحذيرية، وأنها إشارة قوية؛ لئلا يقع المحظور الذي يكون بعده عض أصابع الندم واللطم، أو محاولة العلاج بعد ألا يكون هناك فائدة.
ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم)، ويقول: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا ومعها ذو محرم)، وغير ذلك من أحاديثه عليه الصلاة والسلام في الناحية الإيمانية والتربوية.
وروى الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إياكم ومحقرات الذنوب! فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه)، وكم نرى نحن في حالنا ما نقول فيه أو عنه: هذه بسيطة، وهذه يسيرة، وهذه لا بأس بها، وهذه نسأل الله عنها العافية، وهذه وهذه وهذه؛ حتى تهلكنا تلك الذنوب التي نراها صغائر! وكان أنس رضي الله عنه يقول: (إنكم لتعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات).
فلما حذروا ولما انتبهوا ولما تيقظوا، ولما كانوا على أهبة الاستعداد وعلى قدم المواجهة وعلى عقلية اليقظة والفطنة تنبهوا لذلك فسلموا، وعوفوا بإذن الله عز وجل، ولما غفل الغافلون وتساهل المتساهلون، وفرط المفرطون وردت إلينا أدواء القلوب وأمراض النفوس، وبدأت تشيع بين الناس بعض المنكرات وبعض الجرائم وبعض المشكلات التي يلتمسون لها حلاً، والحل فيما فرطوا فيه وفيما تركوه من أسباب الوقاية، فالأب مثلاً لا يسأل عن ابنه ولا يلتفت إلى ابنته ولا يربي أبناءه ثم يشكو أن ابنه قد صار صريع المخدرات! أو أن ابنته صارت من اللاهيات العابثات! وهذا أمر نعرفه في حياتنا الاجتماعية.
وهكذا في الجوانب المهمة الأخرى تأتينا التحذيرات النبوية؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والغلو في الدين)، وقوله: (هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون)، وقال: (إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى)، وقال: (إن هذا الدين يسر ولن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه؛ فأوغلوا فيه برفق).
هكذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وحذر حتى فيمن يريد أن يزيد أو أن يتقدم، ولكنه يتقدم بما لم يثبت في كتاب الله، وبما لم يؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجعل من السنة واجباً، ومن الواجب فرضاً، ويغير الأمور حباً بزعمه للخير، ورغبة في القوة في الحق، وهو متنكب للطريق ينسى ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم.
وهكذا نرى في القرآن والسنة منهجاً واضحاً لهذه الوقاية، وتأكيداً عليها وتنبيهاً على أهميتها، وتذكيراً بخطر التهاون فيها.(165/8)
الأسس التي تبنى عليها الوقاية
ولنا وقفة هنا مهمة عند أسس الوقاية، وكيف تبنى هذه الوقاية؟ أو كيف بنيت في المنهج الإسلامي والقرآني؟ لأن من المهم أن نعرف ذلك لانعكاسه على فهمنا وعلى ما يترتب على ذلك من التصور والعمل: أولاً: أساس العلم؛ فعلى سبيل المثال: هذه الحملات الطبية لا تقوم على التحذير من شيء إلا بعد العلم بخطره وضرره، فهي تحذر من شرب الماء غير النقي، أو تحذر من التعرض لأجواء بعينها، أو تطعم الأطفال من أمراض بعينها عند الصغر، فمن أين جاء ذلك؟ جاء من علمهم بأن هذا الأمر سيؤدي إلى كيت وكيت.
فالعلم أولاً هو أساس هذه الوقاية، ونحن وقايتنا ربانية بحمد الله، والله عز وجل هو العالم، كما يقول سبحانه وتعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
ولئن ظن أهل الطب أنهم يعلمون عن الإنسان في جسده وأجهزته الهضمية والأجهزة الأخرى فإنهم في الحقيقة حتى الآن لا يعلمون من ذلك إلا قليلاً، ومع ذلك فإنهم يجهلون الكثير والكثير من حالة الإنسان العقلية والنفسية، والله عز وجل الذي شرع لنا الشرائع وأكرمنا بالإيمان وأعزنا بالإسلام هو العالم بما يصلح لهذه النفوس، وما يداوي تلك القلوب، وما يرشد تلك العقول، وما يقوم السلوك، وما تقع به المودة ويحصل به الوئام بين الناس، وهذا كله من رحمة الله عز وجل بنا.
وأيضاً من العلم الذي تؤسس عليه الوقاية: العلم بمآلات الأمور، فإن الأطباء يعلمون أن هذه الأمراض تؤدي إلى الوفاة، وأنها تؤدي إلى كيت وكيت، وأنها تستنزف من الأموال في العلاج كذا وكذا، وبالتالي فإن كل خطر يعرفونه يجعلون الوقاية بقدره، فإذا كان الخطر عظيماً وجسيماً ونتائجه في غاية الضرر فإن الوقاية أو التحذير منه تكون خطيرة، كما نرى التحذير اليوم مشدداً ومؤكداً من المخدرات؛ لأنها تلف للعقول، وإنهاك للأبدان، وضياع للأموال، واختلال للأمن، وانتهاك للأعراض؛ ولأنها بلية البلايا ورزية الرزايا، فيكون التحذير مناسباً لما يئول إليه الأمر، كما قال الله عز وجل: (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73].
فكل شيء من شرع الله فيه الترك أو الهجر فإنما شرع حتى لا تكون العاقبة فتنة واختلالاً، ففي الاقتصاد طبقيات، وفي الاقتصاد تضخم، وفي الاقتصاد بطالة؛ وكل هذا نتيجة تنكب شرع الله عز وجل، وفي كثير من المجتمعات انحلال وشذوذ وخراب ونحو ذلك؛ وكل ذلك نتيجة لتنكب أمر الله سبحانه وتعالى، كما أخبر الحق جل وعلا: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124]، ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)، فتأمل حديث النبي صلى الله عليه وسلم! وانظر الواقع الذي يحيط بك من حولك ترى أن مخالفة الأمر الأول وقع بسببه الفتنة والفساد الكبير، نسأل الله عز وجل السلامة.
والأساس الثاني للوقاية هو الرحمة: فإن الأطباء إنما يحذرون ويقومون بالتوعية ويفعلون أسباب الوقاية رحمة بهذا الإنسان أن يقع فريسة المرض، ويعجز حينئذ الطب عن علاجه، وإذا به يضمر كالزهرة الذابلة شيئاً فشيئاً، ثم يفترسه ذلك المرض العضال فيمصه مصاً حتى يموت، وهذه الرحمة في الذين يتقدمون بالحلول لعلاج مشكلات المجتمع أمر لازم؛ ولذلك عندما تنزع الرحمة نرى ما يفعله من يدعون التحضر والتقدم والحضارة والإنسانية وحقوق الإنسان عندما يجربون الأدوية والأمصال الحديثة في الإنسان، ولكن أي إنسان؟ إنه إنسان أفريقيا المسكين، أو الإنسان المسلم، أو يفعلون تجارب على الأسلحة في بعض هذه المواجهات التي يفعلونها هنا وهناك، فأولئك قوم تجردوا من الرحمة، وأولئك قوم عندهم من الغطرسة والغرور ما أعمى بصائرهم عن كل معاني الإنسانية التي يدعونها، والحديث في هذا يطول، والأمثلة كثيرة، والشواهد شهد بها لسان القوم، والحق ما شهدت به الأعداء.
والله عز وجل هو أرحم بعباده من كل الناس، بل هو سبحانه وتعالى أرحم الراحمين، ولذلك نجد أن رحمة الله عز وجل كانت في إرسال الرسل، وفي إنزال الكتب، وفي الهداية التي ساقها إلى الناس؛ ليستنقذهم من الظلمات إلى النور، وليستنقذهم من الهلاك إلى الأمن والسلام.
ورحمة الله عز وجل ساقها لنا في هذا القرآن العظيم، وأكرمنا بها في بعثة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، إنها رحمة ليس بعدها رحمة، وإنها نعمة ليس بعدها نعمة؛ حيث سهل الله عز وجل لنا ذلك؛ لأن الله عز وجل رحيم بعباده، ولا يرضى لعباده الكفر، والله سبحانه وتعالى لا يريد للخلق إلا الخير والرحمة، وإنما يتنكب الناس الصراط بقدر الله عز وجل ولحكمته البالغة.
ونرى قوله جل وعلا: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] ورحمتي وسعت كل شيء، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن رب العزة والجلال: (سبقت رحمتي غضبي)، ورأى المصطفى صلى الله عليه وسلم امرأة تضم ولدها الرضيع إلى صدرها فقال: (أرأيتم هذه ملقية بولدها في النار؟ قالوا: هي أرحم به من ذلك، قال: فالله أرحم بكم من هذه على ولدها).
الأساس الثالث: التجرد والاستغناء: فإن الذي يريد أن يأخذ مبدأ الوقاية لابد أن يكون متجرداً؛ لأنه إن كان هو في ذاته صاحب مصلحة في أمر فإنه يغلب مصلحته ويترك الوقاية، فمثلاً: انظر إلى شأن التدخين، لقد أثبتت الأبحاث الطبية أنه السبب المباشر لـ (80%) من الذين يصابون بأمراض تصلب الشرايين وأمراض السرطان، نسأل الله عز وجل السلامة، فماذا يفعل أولئك الذين أثبتوا بأبحاثهم أن هذا البلاء موجود في هذا الدخان؟! وهل تراهم تآزروا حتى يمنعوه، أو تناصروا حتى يوقفوه؟! إنهم يكتبون كلمات: التدخين يضر بصحتك، ننصحك بالامتناع عنه، ويدفعون الأموال ليعوضوا بعض من تضرروا، وكأنهم يقولون: نحن لا نعرف إلا الدولار والدينار، ونحن لا يهمنا إلا ما يدخل إلى الجيوب من مئات الآلاف، وأما السلامة والوقاية والبيئة فتحت الأقدام.
وانظر إلى ما يقال من تخفيض نسب التدخين في البلاد الغربية والأوروبية بنسب كبيرة ورفعه بنسب عظيمة في آسيا وأفريقيا، وهذا يدلنا على أن أصحاب المصالح لا يمكن أبداً أن يكونوا أصحاب منهج يقدمون للناس فيه الخير ويمنعونهم من الشر، ونحن أكرمنا الله عز وجل بشرعه الذي شرع لنا، فهو سبحانه الذي أنزل الإيمان، وهو الذي أنزل القرآن، وهو سبحانه وتعالى الغني عن الناس، الصمد الذي لا تضره معصية العاصين، ولا تنفعه طاعة الطائعين، وقال عز وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1 - 2] أي: الذي تصمد إليه الناس في حوائجها، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15].
فالله جل وعلا يريد بالناس الخير، وهو سبحانه وتعالى أعظم وأجل من أن يكون له صلة بنفع أو ضر من هؤلاء الخلق، بل هو النافع سبحانه وتعالى وهو الضار، ولذلك منهجنا وديننا من الله عز وجل لا من البشر فلا تتنازعه الأهواء، ولا تتجاذبه المصالح كما هو واقع في دنيا الناس اليوم، فنسأل الله عز وجل لنا ولكم الوقاية والسلامة والحماية، وأن يحفظ علينا إيماننا وإسلامنا وأخلاقنا.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(165/9)
ثمار وفوائد الوقاية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن، واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
أيها الإخوة الأحبة! هنا وقفة أيضاً حول هذا الموضوع في ثمار الوقاية وفوائدها؛ حتى ندرك أننا بصدد أمر عظيم وفائدة كبرى ونعمة عظمى ينبغي أن نحرص عليها، وأن نعض عليها بالنواجذ، وألا نفرط فيها، وألا يضحك علينا أعداؤنا بزخرف من القول وبهرج من الألاعيب والأباطيل التي يريدون أن يصرفونا بها عن ديننا، فإذا كنت في منزل محصن تسلم فيه من الأذى ومن البرد والحر، فإنك تكون مغفلاً إن جاءك من ينزلك منه ويقول: تعال إلى حيث الهواء الطلق والجو الجميل، ثم تخرج وإذا أنت في العراء ليس لك مسكن يؤويك ولا بيت يحميك، وهذا هو الذي يريده أعداؤنا؛ ولهذا فإن ثمار الوقاية عظيمة جداً وكبيرة، ولا يمكن أن يقدر قدرها أحد، ولا يمكن أن توزن ولو بذهب الدنيا كلها:(165/10)
الطمأنينة والسلامة
الثمرة الأولى: الطمأنينة والسلامة، والأمن والأمان، وسكينة النفس وطمأنينة القلب وهدوء البال والخاطر؛ إنها تلك السلامة التي يأمن بها الناس على أموالهم وأعراضهم، والتي يحصل فيها بينهم من هدوء البال ما لا يشغلهم، كما نرى في العالم المحموم اليوم؛ فامرأة لا تأمن على عرضها، وتاجر لا يأمن على ماله، وأخ لا يأمن أخاه، وصديق لا يثق بصديقه، فانظر إلى العالم اليوم تجد أن شريعة الغاب التي يتحدثون عنها قد أصبحت اليوم تعد مثلاً يسيراً هيناً، وتعد شيئاً لا يذكر أمام الغابة الإنسانية البشرية الوحشية التي تفتك بالأسلحة المدمرة، والتي تقتل بالأمصال والأدوية، والتي تفعل الأفاعيل، والتي غاب فيها عن الناس كل أنواع السكينة والطمأنينة إلا من رحم الله وأكرمه بالإيمان، فانظر إلى عالم الغرب اليوم، وانظر إلى تلك الحيرة والاضطراب الذي سنذكر له أمثلة يسيرة في حديثنا هذا، ونعقبه بعد ذلك بالتفصيل الذي يأتي في كل باب من أبواب الوقاية.(165/11)
النظافة والطهارة
الثمرة الثانية: النظافة والطهارة، فإن الإنسان بإنسانيته يعف عن الدنايا، ويترفع عن الرذائل، وله من فطرته أمور تدفعه إلى أن يستر العورات، وإلى أن يكون نزيهاً نظيفاً طاهراً، وانظر إلى من تركوا أسباب الوقاية، تجد أنهم قد نافسوا وسبقوا الحيوانات في العري وفي الشذوذ وفي كل أنواع القذارة التي لا يمكن بحال أن يتصورها عقل إلا عندما تمسخ الفطرة مسخاً.
ونحن نعرف ونسمع من أخبار القوم ما يعف اللسان عن ذكر مثله، وخاصة في بيوت الله المطهرة.(165/12)
القوة والمحبة
الثمرة الثالثة: القوة والتماسك والمحبة والوئام: فإن وجود الوقاية والتزامها إذا أفاض الطمأنينة في القلوب وإذا أوجد النظافة في السلوك، فإن ذلك يعني أن القلوب تملأ بالمحبة، وأن هذا المجتمع يكون عنده أسباب القوة والتماسك، فليس هناك إهدار للمال لعلاج الأمراض الناشئة عن الانحراف الخلقي، وليس هناك إهدار للمال للإنفاق على جيوش وأجهزة تحفظ الأمن الضائع، وإذا بأصحاب الأمن أنفسهم هم الذين يضيعون الأمن.
وحسبك أن تعرف أخبار المدن الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكية وفي الدول الأوروبية؛ لتعرف كيف يصرفون المبالغ الهائلة لحفظ الأمن، وكيف يكون أصحاب الشرطة والقائمون عليها بعد ذلك هم الذين يخلون بالأمن! ويكون المال هو الذي يسير الأمر؛ إن هذا المجتمع تتقطع أواصره بكل هذه الانحرافات التي خاض فيها الناس عندما تجاوزوا الحدود وعندما لم يلتزموا الوقاية.(165/13)
الحذر من ترك الوقاية الدينية
وأخيراً: أحبتي الكرام! إن القضية مهمة وإن إثارتها في مثل هذا الوقت أكثر أهمية، إننا اليوم أمام دعاوى العولمة وأمام دعاوى الانفتاح وأمام دعاوى وحدة الأديان والإخاء، وأمام دعاوى كثيرة تريد أن تخرجنا من حدود وقايتنا، حيث يقولون: لماذا تريدون أن تكونوا هكذا؟ ولماذا تمنعون المرأة من الاختلاط؟ ولماذا تمنعونها من أن تلبس ما تشاء؟ لماذا تحدون من حريتها؟ وفي جوانب أخرى أيضاً يقولون: لماذا تمنعون الكتب التي تعبر عن حرية الفكر؟ ولماذا تحاكمون من يجترئ على ذات الله عز وجل، أو يسخر برسول الله صلى الله عليه وسلم؟! إن الفكر ينبغي أن يكون حراً، وينبغي ألا يكون هناك حدود.
وتأتينا أيضاً دعاوى ودعاوى كثيرة، وكلها تريد أن تزعزع ثوابتنا، وأن تهدم أسوارنا التي تحمينا؛ حتى نكون مثلهم، وحتى نصبح كلأً مباحاً كما هو الحال عندهم، وحتى ينفرط عقد الأمن الذي ننعم به، فيصبح حالنا كحال تلك البلاد في كل دقيقة واحدة تسجل جريمة اغتصاب وجريمة قتل وجريمة سرقة، فأي حياة هذه! وأي أمن هذا! وأي حضارة تلك؟! وأي تقدم هذا الذي يوصف؟! وأين هي معاني الإنسانية في تلك الوحشية أو في ذلك الاعتداء على الأطفال الصغار، أو في ارتكاب هذه الجرائم مع المحارم؟! فالأب يهتك عرض ابنته من الخامسة حتى الرابعة والعشرين، وأخبار كثيرة وقصص لا نقولها نحن، وإنما يظهرونها هم في وسائل إعلامهم.
إنها الحياة الشقية النتنة التي يراد أن يجر المسلمون إليها بأن يشككوا في مثل هذا، ونحن نريد أن نقف وقفات طويلة لننظر إلى منهج الوقاية في الإيمان وما أكرمنا الله به، وما منعنا وحذرنا منه حتى لا نؤتى من بدعة تتسلل إلينا، ولا من غلو يخرج بديننا عن وسطيته واعتداله، ولا من حرية فكر تؤدي إلى إقرار الكفر، فإنه كما يقولون: هناك شعرة طفيفة خفيفة بين حرية الفكر وحرية الكفر، فهم يريدون أن يغالطونا، وأن يعموا علينا الأمور، والحمد لله عز وجل فقد آتانا من حجج القرآن الساطعة، ومن هداية النبي صلى الله عليه وسلم الواضحة، ومن تاريخ أمتنا العريق، ومن وعينا، ومن يقظة علمائنا، ومن حركة دعاتنا؛ ما ينبغي أن نفرح به، وأن نستزيد منه، وأن نقبل عليه حتى يبقى لنا آثار تلك الوقاية التي ذكرناها، وحتى يبقى لنا طمأنينتنا وأمننا، وحتى يبقى لمجتمعاتنا نظافتها وطهارتها وقوتها وتماسكها.
نسأل الله عز وجل أن يقينا جميعاً الشرور والفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يسلمنا بإسلامنا، وأن يؤمننا بإيماننا، وأن يهدينا بقرآننا، وأن يكرمنا باتباع نبينا صلى الله عليه وسلم.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم ارحمنا فإنا بك راحم، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر.
اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، وأن تجعلنا هداة مهديين.
اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك المخلصين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا.
اللهم إنا نسألك إيماناً كاملاً، ويقيناً صادقاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، وعلماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وتوبة قبل الموت، ومغفرة بعد الموت، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألك الإخلاص في القول والعمل، وأن تجنبنا الفتنة والزلل.
اللهم احفظ علينا إيماننا ويقيننا وأخلاقنا، وسلمنا من نزغات الهوى، ومضلات الفتن، ووساوس الشيطان، وقرناء السوء يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين.
اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك وعظيم سطوتك، اللهم زلزل الأرض تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم إنهم قد طغوا وبغوا وتجبروا وتكبروا وأذلوا عبادك المؤمنين وحاربوا هذا الدين؛ اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اللهم لا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، اللهم خالف كلمتهم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، واجعل بأسهم بينهم، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، اللهم اكفناهم بما شئت يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار، يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى والمظلومين في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم فرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، وامسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، واجعلهم من أهل الرضا بالقضاء، والصبر على البلاء، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل لهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا رب العالمين.
ربنا اصرف عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين.
اللهم يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين، من علينا بالعفو والعافية والسلامة والإسلام والأمن والإيمان، وأكرمنا بحفظ ذلك علينا يا أكرم الأكريمين.
اللهم احفظ علينا نعمك وزدها بشكرك يا رب العالمين.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، والحمد لله رب العالمين.(165/14)
وثيقة العار وشهادة الاحتضار
أعداء الإسلام يكيدون للإسلام والمسلمين على مر التاريخ والعصور، وقد تنوعت أساليبهم في الكيد والمكر، ومن تلك الأساليب: المؤتمرات والوثائق التي يزعمون أنهم يخدمون بها البشرية، وهم يريدون -بالمعنى الأصح- أن يفسدوا البشرية ويدمروها، فيجب الحذر والتيقظ لمخططات هؤلاء الأعداء، ومواجهتها للقضاء عليها وإحباطها.(166/1)
حقيقة وثيقة العار المقدمة إلى مؤتمر الإسكان والتنمية
الحمد لله، الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، بسط الأرض ومد، ورفع السماوات بلا عمد، وأفاض النعم بلا عدد، أحمده سبحانه وتعالى هو أهل الحمد والثناء حمداً كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، هو جل وعلا المحمود على كل حال وفي كل آنٍ، فله الحمد في الأولى والآخرة حمداً كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بعثه كافة للناس أجمعين، وجعله رحمة للعالمين، وختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد ولد آدم أجمعين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، ما من خير إلا وأرشدنا إليه، وكان أسبقنا إليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، وكان أبعدنا عنه، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها المؤمنون! يعجب المرء أيما عجب ويحار العقل أيما حيرة في أحوال هذا الزمان العجيبة! وفي تطوره المدهش، وفيما تتفتق عنه أذهان الجاهلية العمياء من ظلم وظلمات، ويعجب الإنسان عندما يتصور أن مظاهر التقدم الحديث وأن مظاهر التطور المعاصر قد بلغت مبلغاً تتكافأ فيه مع تقدم وتطور العقل المرشد إلى الخير أو الهادي إلى الصواب أو الداعي إلى التزام المبادئ والأخلاق! وعندما ينظر الإنسان يجد هذا الفرق الشاسع بل هذه المعارضة الواضحة بين ما يسمى تقدماً بالمفهوم المادي وبين ما يحق أن يسمى تخلفاً، بل يحق أن تلصق به أسوأ الأسماء وأقبحها فيما يتعلق بالسلوكيات والمبادئ والقيم.
وثيقة العار وشهادة الاحتضار التي تقدم إلى مؤتمر الإسكان والتنمية، وإن شئت قل: إلى مؤامرة الإفساد والتعرية هي حديث الناس في هذه الأيام، فأحببت أن يكون لنا وقفة معها، وأن ننظر إلى حقيقتها وإلى ما ورائها، فإن كثيراً من الأمور إنما تؤسس على أصول معروفة، وإنما تستند إلى مقررات بدهية مفروغ منها، وهذا المؤتمر الذي يعنى بالإسكان والتنمية -كما هو عنوانه- هو في حقيقته صورة واضحة سافرة وشاملة عارمة للهجمة الغربية الكافرة على بلاد المسلمين وعلى الدول النامية في العالم الثالث كما يسمى.
فبعد الغزو العسكري في عصور سلفت، وبعد الغزو الإعلامي الذي غزا الأسماع والأبصار، وفتن القلوب، وأفسد النفوس، وبعد الغزو الاقتصادي الذي دمر المقومات، وأوقف عجلة التقدم، وأرهق الدول والأفراد بأرصدة الديون، وبعد الغزو الأخلاقي الذي تمثل في كثير من صور الانحراف، يأتي هذا الغزو في صورته التشريعية السياسية التي تريد أن تجعل كل الأمور المحرمة وكل القبائح الفطرية وكل الرذائل الإنسانية مشروعة مفروضة باسم الأمم العالمية، وباسم الأنظمة الدولية، وباسم القرارات الرسمية؛ حتى يكلل كل ذلك الغزو بالصورة المثلى التي تلغي المفاهيم وتنحي الأديان وتغير الأسماء وتقلب الموازين رأساً على عقب.
وعندما يتأمل الإنسان في الإسكان والتنمية يظن أن الأمور ينبغي أن تتوجه إلى بحوث تعنى بهذا الجانب عناية صحيحة، وتلمس الأسباب الناتجة عن المشكلة الإسكانية وعن قضية التنمية ملامسة صحيحة، غير أن الأمر على غير هذا.
ولا أريد أن أفيض في تفاصيل تلك الوثيقة التي يعجب الإنسان أن تكون وثيقة تقدم ليناقشها ويأتمر حولها أو يتآمر معها عشرون ألفاً من البشر يمثلون واحداً وتسعين ومائة دولة، ويشهدهم ثلاثة آلاف صحفي وإعلامي، وينقل عن المؤتمر خمسمائة ساعة بث إعلامي بالأقمار الصناعية، كل ذلك ليقدم إليهم أن الزنا حلال! وأن الإجهاض ينبغي أن يكون مشروعاً! وأنه لا ولاية للآباء والأمهات على أبنائهم وبناتهم! وأنه ينبغي أن تسهل أسباب الفاحشة، وأن تحمى، وأن تعتبر من الحرية الشخصية، وأن تقدم لها المعونات المادية! ثم فوق ذلك كله الصراحة الواضحة للمناقضة التي لا شك فيها لشرع الله عز وجل بالمطالبة بالمساواة الكاملة بين الرجل والمرأة، وإلغاء التفريق في كل شيء حتى في المواريث! والنظرة الاحتقارية لسنة من سنن الفطرة وهي سنة الختان! وبالتنفير والرغبة في محاربة الزواج المبكر! والذي كان من أعلم أعلامه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في زواجه بـ عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها التي بنى بها النبي صلى الله عليه وسلم وهي بنت تسع سنين.
أيها الإخوة! قد رأينا هذه الأمور في الواقع العملي في ساحات البلاد الكفرية وفي ساحات كثير من البلاد الإسلامية، إلا أن في كثير من البلاد ما تزال هذه الأمور مما يستحيا منه، وفي كثير من البلاد أيضاً مما يخالف القانون أو يعاقب عليه، سواءً وقعت العقوبة أو لم تقع.
أما اليوم فيراد أن يفتخر بها أصحابها، وأن توجه سبل التنمية التي تدفع الفقر كما يقولون للإنفاق على وسائل الإجهاض ووسائل منع الحمل غير المرغوب فيه كما نصت الوثيقة وغير ذلك، كل هذا يراد أن يكون مشروعاً، وأن يكون مدعوماً، ويعجب الإنسان عندما يفكر في هذا! ولا أقول: الإنسان العادي، بل هذا الإنسان المتطور المتقدم بتفكيره، فلو كان للبهائم عقل لما رأت أن ذلك يشرف لها ولا يجدر بها.(166/2)
تدرج أعداء الإسلام في الدعوة إلى التفسخ والانحلال
أريد أن أقول بعض الملاحظات المهمة: الأمر الأول: أن الأمور تبنى على التدرج، وأحسب أن مثل هذه الكلمات وهذه المقترحات ما كانت لتقدم في وقت مضى، لأنها لو قدمت لما كانت موائمة للأفكار ولا ملائمة للنفوس، ولا كان لها -كما يقال- موقع من الإعراب، إنما جاءت بعد غزو مكثف لسائر البلاد ولسائر المجتمعات عبر الأقمار الصناعية التي قدمت هذه الصورة البشعة الإباحية أمام الناس ينظرونها بأعينهم، ويسمعونها بآذانهم، ويتابعونها ليلاً ونهاراً، وقبل ذلك مئات وآلاف ومئات الآلاف وأكثر من ذلك من الوسائل التي تروج الفاحشة عبر الأشرطة والمجلات والكتب والأجهزة الحديثة حتى الكمبيوترات وغيرها؛ حتى إذا ألفت النفوس وضعفت الغيرة وماتت الحمية وتحللت الأخلاق وانفرط عقد الأسر إلى حد ما جاءت هذه الهجمة؛ لتكون بمثابة المعول الأخير الذي يضرب الضربة القاصمة التي تقصم ظهر البعير كما يقال.(166/3)
تربص أعداء الإسلام بالمسلمين الدوائر
الأمر الثاني: أن الأعداء يتربصون بنا الدوائر، وأن الإحصاءات تدل على أن هناك مشكلة سكانية حقيقية، لكنها من نوع آخر بالنسبة لأعدائنا، فمعلوم أن دول العالم الثالث -ومعظم الدول الإسلامية تحت هذا المسمى- تشهد أكبر معدلات نمو بشري، والقارة الإفريقية على سبيل المثال يتضاعف عدد سكانها كلها في خلال خمسة وعشرين عاماً فقط.
وعلى سبيل المثال: وجد أنه خلال نحو عشر سنوات معدل الولادات في بلد مثل رواندا يصل إلى ثمانية مواليد ونصف للمرأة الواحدة خلال هذه الفترة، بينما يصل في دولة أوروبية مثل إيطاليا إلى واحد ونصف، ولهذا تشكو الدول الغربية اليوم من قضية خطيرة وهي النقص السكاني الحاد، والضعف الأسري العظيم الذي أوجد طبقتين عمريتين تستهلكان أكثر نسبة السكان: طبقة غير القادرين على العمل، أي: من هم في الطفولة، وطبقة غير القادرين على العمل ممن تجاوزوا السن إلى مرحلة الشيخوخة، بينما يزخر العالم الإسلامي -كما في الإحصاءات- بأكبر عدد ممكن ممن هم في فترة العمر الشبابية الإنتاجية، ولذلك تأتي هذه المؤامرة للمحاولة للتغلب على هذه الصورة التي بشكل أو بآخر في ظل ظرف أو آخر يمكن أن تكون ذات إيجابية عملية للمسلمين، وتضر بالتالي أعداءهم، ومن هنا كان قبل ذلك على سبيل التدرج الحملات المكثفة فيما يسمى ببرامج تنظيم الأسرة، وحقيقة كثير منها تحديد النسل.(166/4)
بعض صور الجاهلية المعاصرة
الأمر الثالث: صور الجاهلية المعاصرة هي صور أقبح من الجاهلية السالفة التي كان فيها الإنسان محدود المدارك، متخلف التفكير، متأخراً في الوسائل، ومع ذلك تحكي لنا الجاهلية السابقة للإسلام صوراً لا يمكن أن تقارن بمثل هذه الجاهلية المعاصرة، فهذا الشاعر الجاهلي فيه عفة وفيه مراعاة للحرم وللأعراض وفيه حياء عندما يقول: وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها وهند رضي الله عنها لما جاءت مبايعة للنبي صلى الله عليه وسلم في بيعة النساء فكان من ضمن البيعة ألا يزنين، فانتفضت رضي الله عنها وهي تقول: (عجباً! أوتزني الحرة؟!) فكأن ذلك لم يكن في عرفهم وفي قاموسهم بهذه الصورة البشعة التي نراها اليوم في الواقع العملي تقدم عبر هذه الأوراق والمقترحات والتوصيات.
وقد ذكر أهل الحديث في الكتب الصحيحة حديث عائشة رضي الله عنها التي وصفت فيه صور البغاء والفجور في الجاهلية، فبينت لنا أن هناك نساءً بأعيانهن كنَّ معروفات في بيوتهن وبراياتهن يغشاهن طلاب الفساد وأرباب اللذة العاجلة، ويفعلون معهن الفاحشة، وكان ذلك معروفاً محدوداً معلوماً دائرته.
أما اليوم فهذه الوثيقة تريد أن يكون جميع الناس -بلا استثناء- زناة وشاذين ومن أتباع قوم لوط، دون أن يكون عليهم في ذلك حرج ولا أي غضاضة في مثل هذا، وهذا لا شك أنه من أعظم أسباب التقويض والإنهيار، كما قال شوقي رحمه الله: وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا(166/5)
عاقبة من أعرض عن شرع الله
أيها الإخوة الأحبة! هنا أمر أشير إليه وأنبه عليه: وهو حقيقة قرآنية وسنة إلهية ينبغي أن نعيها وأن نعرفها، يقول الله جل وعلا: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] وفي شطر هذه الآية الأول أن كل إعراض عن ذكر الله وكل مخالفة لشرع الله إنما هي ضنك في العيش، ولست أقارن، ولست أذكر أمور الدول الإسلامية أو دول العالم الثالث أو الدول النامية أو النائمة كما تسمى، وإنما نذهب إلى الدول التي طبقت مثل هذه التوصيات ردحاً طويلاً من الزمن، فهل انتهت عندهم مشكلة البطالة أم ما تزال في تزايد مستمر؟! وهل انتهت مشكلة الجريمة أم أن هذه الأمور من أعظم أسباب قوة الجريمة وفشوها؟! وهل انتهت عندهم مشكلات الاعتداء الإجرامي على الأطفال وعلى النساء؟! وانظر إلى ما عندهم من الأرقام والإحصاءات لتعرف حقيقة الأمر، وأن البلاء موكول بكل ما يخالف أمر الله سبحانه وتعالى؛ لأن أمر الله هو الذي يطابق الفطرة البشرية، وهو الذي يوافق الكرامة الإنسانية، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء:70] هكذا يبين الله عز وجل لنا شرف الإنسان وكرامته، ويبين لنا أن خسته ودناءته إنما هي في بعده عن أمره سبحانه وتعالى.
ونحن نسمع ونعرف ونقرأ ما في المجتمعات الغربية من صور الانحلال التي يعف اللسان عن ذكرها مما لا يتصوره عقل إنسان، ولا ترضى به فطرة سوية بحال من الأحوال، حتى جاءوا بأمور يعجز الإنسان عن تصورها وتخيلها من ممارسة الجنس مع البهائم والحيوانات وغير ذلك من الصور القبيحة، ثم ما ترتب على ذلك مما يعارض التنمية، فجاءت الأمراض الفتاكة التي صرفت ولا تزال تصرف عليها الملايين والملايين دون أن تتحقق نتائج إيجابية في العلاج والتطبيب، وكل ذلك وما يلحقه من نفقات على الإجرام وما يلحقه من نفقات على البطالة وما يلحقه من غير ذلك هو الذي أدى بما يعرف بالتضخم، وأدى إلى زعزعة الوضع الاقتصادي في الدول ليست النامية وإنما الدول المتقدمة.(166/6)
حقيقة ما يريده أعداء الإسلام من المسلمين
أمر مهم ينبغي أن نعيه وأن نتأمل فيه، وذلك هو: أن الأعداء وكل من لا يودك عموماً يريد أن يلحق بك كل نقيصة فيه، وأن يسلبك وأن يحرمك كل إيجابية عندك، وهذا هو المفهوم الذي تسفر عنه هذه الوثيقة.
فهل مشكلة الفقر تتعلق بتقليل عدد السكان كما يقولون؟! ولنسأل أنفسنا أسئلة تعرفون إجابتها: كم من الملايين تصرف على تربية الكلاب والقطط وطعامها، بينما يموت الملايين من البشر؛ لأنهم لا يجدون قوتاً ولا طعاماً؟! وكم من الملايين تصرف في أسلحة الدمار وفي أمور السياسة الخبيثة، ويكون نتاجها مزيداً من البلاء والشقاء لبني الإنسان؟! وكم من الملايين تهدر من أجل المحافظة على الأسواق والمحافظة على الاقتصاد؟! فكثير من الثمار وكثير من المحاصيل الزراعية تتلف وترمى في البحار إذا فاض عن معدلات معينة لئلا تتأثر به الأسعار! فأين هذه الصورة المزعومة التي يقال فيها: إن العالم يريد أن يكون هناك تكاملاً وتقارباً في مستويات التنمية؟! فلو كان ذلك حقاً لكان هناك تفضيل التعليم بدل التجهيل، ولكان هناك إتاحة الفرص للتعاون بين القدرات البشرية والقدرات العلمية حتى تحصل تنمية بشرية حقيقية لبني الإنسان، ولكن الأمر على غير ذلك.
ومن هنا لو رأيت كثيراً من الأسباب لعلمت أن القضية على غير ما يعلن عنها ويراد بها، وانظر إلى المجتمعات الغربية الرأسمالية التي تعتبر الربا المحرم أساساً لاقتصادها، وانظر إلى ما جره هذا الاقتصاد وتلك الإباحية من أمور عجيبة وغريبة! إذاً: أيها الإخوة الأحبة! هذه صورة بسيطة، وعندما نخلص إلى حقيقتها نجد أنها تتناقض مع أساسيات اعتقادية إيمانية عند الإنسان المسلم، فالله عز وجل قد بين لنا أنه قد خلق الخلق بقدر وبإحكام، وأنه سبحانه وتعالى قد جعل لكل شيء قدراً، فقضية أن الموارد أو أن ما يخرج من الأرض أو أن ما يكون فيها من أسباب العيش يضيق بأهلها ليس أمراً صحيحاً، وإنما هو أمر ناشئ عن الممارسة الإجرامية الخاطئة لبني الإنسان أنفسهم، فالله عز وجل يقول: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت:9 - 10] والله سبحانه وتعالى يقول في موضع آخر مبيناً أنه قد جعل في الأرض ما يكفيها: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} [الحجر:19] قال بعض أهل التفسير: ليس عام بأمطر من عام، بل كل ذلك مقداره واحد، لكنه يتغير، فقد يكون جفاف في أرض وثراء وغناء في أرض، فلو كان عند الناس إنصاف ولو كان عندهم إحسان لما حصلت مثل هذه المشكلات، ولكنها الجريمة التي يمارسها الأعداء والأقوياء ضد الضعفاء، وهذا هو حقيقة الأمر، ولذلك هذا تعارض مع أصل الإيمان بالقضاء والقدر الذي يؤمن العبد فيه بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الأرزاق مقدرة من عند الله عز وجل.
وأمور أخرى أيضاً تتعلق بهذا، وهو أمر تحديد النسل أو إيقافه أو ما دعت إليه هذه الوثيقة من أمور تخالف ما يعتقده المسلم الحق.
ثم أيضاً هناك أمور مخالفة للأحكام الشرعية مثل التنفير من الختان، والتنفير من الزواج المبكر، وإباحة الإجهاض الذي هو محرم شرعاً، وكذلك إباحة الأمور الأخرى الواضح تحريمها، فهذا كله يتعارض مع شرع الله عز وجل.(166/7)
أحوال المجتمعات الإسلامية في العصور المتقدمة
وقفة أخيرة في هذا المقام الأول عن تاريخنا الذي كانت فيه كل الصور التي ينتقدها علينا أولئك المستغربون والمستشرقون، فلم تكن مجتمعات الإسلام في كثير من عصورها تشهد مثل هذا التحلل والتسيب، فقد كان هناك الزواج، وكان هناك التعدد والتسري، وكان هناك كثرة الأولاد وكثرة الإنجاب، ومع ذلك كانت هناك عمارة وحضارة ورقي وتقدم، وفاضت في عهد عمر بن عبد العزيز أموال الزكاة، حتى صرف منها على كل راغب في زواج ليتزوج، وصرف منها على كل كفيف ليجد قائداً له يصرف عليه من بيت مال المسلمين، فاض المال وصار يرجع من الأمصار إلى عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه دون أن يجدوا له من يستحقه! هذه هي التنمية الإنسانية الحقيقية، والعجب أن يكون أساس التنمية قتل أعظم أسبابها، إن أعظم أسباب التنمية هو الإنسان المفكر بعقله العامل بيده المتحرك المنتج، فعندما نهدف إلى قتل الإنسان وضعفه وتقليل عدده فلا شك أننا نضعف التنمية من أساسها، فعلى سبيل المثال: إذا كان عندك قدر من المال لا يكفي أسرتك، فما هو الحل؟ هل الحل أن تقتل بعض أولادك كما كان يفعل بعض الجاهليين أو أن توقف الإنجاب أم أن الحل غالباً ما يتفتق على أن بعض الأبناء يتحملون المسئولية قليلاً؟! نعم فيعمل هذا هنا، ويعمل هذا هناك إضافة إلى دراسته، فتتحرك الطاقة، وتنفتح أبواب العمل، ويزداد الإنتاج، ويحصل لنا من وراء ذلك أننا نطالب بعد ذلك بمزيد من الإنتاج البشري؛ لأن الوفرة المادية قد أصبحت في المستوى الذي يحتاج أو يمكن أن يستوعب أكثر عدد من السكان.
فالله أسأل أن يبعدنا عن هذه الفتن وعن هذه المحرمات، وأن يجنبنا هذه المزالق والمخاطر؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(166/8)
بعض المواقف الإيجابية تجاه وثيقة العار
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين, على من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! أما بعد: أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى تجنب المحارم والبعد عنها، والحرص على البعد عن كل ما يقرب منها.
أيها الإخوة الأحبة! هناك وقفات أخرى؛ بعضها إيجابي مشرق، وبعضها يحتاج إلى التنبيه: أما الإيجابيات فهو هذا الرفض العارم الذي انتظم أكثر فعاليات العالم الإسلامي من المؤسسات والدعاة والعلماء، فقد تقدمت رابطة العالم الإسلامي ومنظمة المؤتمر الإسلامي ومجمع البحوث الإسلامية في مصر ولجنة الفتوى بالأزهر وغيرها من الجهات مفندة هذه الوثيقة التي هي وثيقة العار وشهادة الانهيار لهذه الحضارة ولهذه المبادئ والقيم.
وهذا يدلنا على أن الأمة -بحمد الله عز وجل- ما يزال فيها خير، وقد ناقشت كثير من صحفنا المحلية هذه الوثيقة، ونقلت هذه التعليقات، وأفردت لها الكثير من صفحات النقد وبيان العوار الذي فيها، وذلك يبين لنا أن روح التوعية الإسلامية -بحمد الله- أفضل من ذي قبل، وهذا شيء نفرح له، ونطلب المزيد منه.(166/9)
التحذير من قبول بعض مخططات الأعداء
هناك أمر ثانٍ أريد أن أنبه عليه، وأقدم له بمثال: عندما يذهب الإنسان ليشتري بضاعة فإذا قال له البائع: إنه بأربعين، فإنه يقول للبائع: أريدها بعشرين، وهو يعلم أن البائع لن يرضى بهذا الثمن، ولكنه يقول: عشرين ليصل معه إلى الثلاثين، وأخشى أن يكون موقف بعضنا أو موقف فئات ومجتمعات إسلامية من هذا المؤتمر مثل هذا الموقف، فقد عرضوا في هذه الوثيقة كل المحرمات، ليصلوا بعد ذلك إلى أن يكون هناك تفاوض ومكاسرة كما يكون في البيع والشراء، فنرفض هذا ونرفض هذا ونقول: هذا لا يليق، فيقال: إذاً: فلنلغ هذا، وأما هذا فيمكن أن يكون هكذا وهكذا.
وأقول: هذه الصورة قد تقع على مستوىً عام وعلى مستوىً فردي، وهذا هو الأمر الخطير، فما زلنا في واقع حياتنا نترخص ونأخذ ما فيه بأس رجاء ألا يكون فيه بأس، بينما سلفنا كم أثر عنهم كانوا يجعلون بينهم وبين الحرام سبعين باباً من الحلال تورعاً واحتياطاً واتباعاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه).
وأقول: هذا الحمى قد سبق أن تدرج فيه الناس ووقعوا فيه، فلم نكن في يوم من الأيام نرضى للمرأة المسلمة أن تكشف عن وجهها، ثم ترخصوا في ذلك، ثم قالوا: لا بأس بشعرها، ثم ذراعها، ثم أصبحت تسبح في المسابح لا يستر عورتها شيء إلا أقل القليل، وهكذا قد تطلب مثل هذه الطلبات، فيقال: لا، هذا لا يليق، وهذا لا يصح، ثم يرضى بعد ذلك بما هو أدنى منه مما هو أسوأ.
وينبغي أن تكون مثل هذه الدعوات والتوصيات دافعة لنا للمراجعة لما سبق، فلننظر فيما سبق، ولتنظر المجتمعات الإسلامية، أليس قد وقع فيها كثير من الأمور المخالفة لشرع الله عز وجل، ووقع في بعض البلاد ما يشبه إباحة الزنا والدعوة إليه والإرشاد إليه؟! أليس هذا كله قد وقع؟! إذاً: بدلاً من أن نرفض هذا ونترخص فيما هو دونه ينبغي أن يكون ذلك كالتنبيه لنا لنرجع، حتى في بيوتنا؛ ألسنا قد كنا من قبل نستحيي في أسرنا أن يتكلم الأبناء أو الآباء والأمهات في مكان أو في وقت بأمر يمس من قريب أو بعيد الأمور الخاصة بأمور الرجل والمرأة، فأصبحنا بعد ذلك لا نرى بأساً بهذا الحديث، بل أصبحت الأسر الإسلامية في كثير من البلاد تجتمع على الشاشات الفضائية أو على الأفلام التي تظهر فيها مظاهر العري، والأم والأب والابن والبنت يشاهدون ذلك ولا شيء ولا حرج ولا حياء! إذاً: نريد أن يكون هذا بمثابة الهزة التي تنبهنا إلى ما سلف من تصرفاتنا التي ترخصنا فيها وتجاوزنا فيها شرع الله عز وجل.(166/10)
استهداف وثيقة العار هدم الأخلاق والقيم
هذه الوصايا والمقترحات تهدف -كما جاء في مذكرة رابطة العالم الإسلامي- إلى دعوة الدول إلى إعادة صياغة جميع البرامج الخاصة بها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وتعليمياً تبع التوصيات، حتى التعليم ينبغي -بموجب هذه التوصيات- أن يغير، وأن يدرس الأطفال والمراهقون أمور الجنس وغيرها.
ثم أيضاً يترتب على ذلك تنحية الجوانب الدينية والأخلاقية، وأن يلغى من قواميس الاصطلاح والتعامل الاجتماعي: الحرام، والعيب، والحياء، ونحو ذلك.
وتتضمن التوصيات ما يفيد أن أية دولة تخالف هذه التوصيات بعد إقرارها سوف تكون شاذة عن الإجماع الدولي العالمي، وستتعرض إلى ضغوط سياسية، وإلى شروط اقتصادية مجحفة، وهذا أيضاً أمر تتضمنه هذه الوثيقة كما جاء في مذكرة الرابطة.
وتشير الرابطة إلى أن الوثيقة التي تكونت من مئات الصفحات للتكلم عن التنمية لم تتحدث عن التنمية إلا بقدر عشرين بالمائة، وأن الثمانين بالمائة الأخرى كانت خاصة بالخدمات الصحية التناسلية والجنسية، كما هو تعبير الوثيقة، ولذلك نرى أن الأمر واضح.
كثير منا يقول: لا تهمنا هذه الوثيقة وهذا المؤتمر؛ لأننا ننكر ما فيه، ولكنني أقول: إن الأمر أخطر من ذلك، فينبغي أن يكون الإنكار عملياً، وأن تكون المراجعة شاملة، وأن يكون الحذر كاملاً من مثل هذه الأمور الخطيرة التي تستهدف الأخلاق، وتستهدف القيم والمبادئ، وتستهدف قبل ذلك ومع ذلك وبعد ذلك الإيمان والعقائد.
فالله أسأل أن يحفظنا، وأن يحفظ مجتمعاتنا، وأن يحفظ أسرنا، وأن يحفظ أبناءنا وبناتنا وأزواجنا، وأن يحفظنا جميعاً من كل سوء، وأن يبعد عنا الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يسلمنا وأن يبعدنا عن المحرمات وعن الأمور المشتبهات.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أهل الإيمان والتقى.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من أهل الورع واليقين.
اللهم إنا نسألك أن تباعد بيننا وبين ما يسخطك، وأن تجنبنا كل ما حرمت علينا يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن تأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن تلهمنا الرشد والصواب.
اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا هداة مهديين، وأن تهدينا، وأن تهدي بنا.
اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين، واكتبنا في جندك المجاهدين، واجعلنا من ورثة جنة النعيم برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن تحفظ شبابنا وشاباتنا من كل سوء يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتمها وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا.
اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا برحمتك يا أرحم الراحمين! وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.(166/11)
واقع اليهود وحقيقتهم
اليهود هم تلك الفئة التي انحرفت من سالف الأزمان، فكذبت كثيراً من الرسل، وطعنت في كثير من الكتب الإلهية، وظنت في نفسها الرفعة والعلو على باقي البشرية، وقد اقترن بتاريخهم قديماً وحديثاً سفك الدماء، والغدر والخيانة، والنفاق وسوء الأخلاق، ولذلك صار حالهم منكوساً، وطالعهم منحوساً، فشتتهم الله في أقطار الأرض، وزرع لهم في النفوس البغض، وهو حسيبهم يوم العرض.(167/1)
اليهود: الشر العريض والتاريخ البغيض
الحمد لله الذي وعد المؤمنين بالنصر، وطمأن قلوبهم بالذكر، وزاد نعمهم بالشكر، وكتب على الكافرين الذل والخسر، وجعل مآلهم إلى ضياع وقهر، أحمده سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، له الحمد كثيراً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لجلاله وعظيم سلطانه، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله، سيد الأولين والآخرين، وخاتم الأنبياء والمرسلين، وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! إنّ من أهم الأدوار التي ينبغي أن نقوم بها، وأن نحرص عليها، معرفة حقيقة الأعداء، فاعرف عدوك حتى تستطيع أن تواجهه، وأن تعرف مواطن ضعفه، وهذا التعرف قد سبق لنا عدة أحاديث عنه من خلال حقائق الآيات القرآنية الناطقة، وشواهد ومواقف السيرة النبوية العطرة.
ولعلنا اليوم ونحن نرى بغي اليهود وعلوهم وغطرستهم، وما هم عليه من ذلك الكبر والعظمة التي تلقي في قلوب الخونة والخورة الهول والرعب، لعلنا ونحن نرى ما يشيعونه من أسطورة الجيش الذي لا يقهر، ونحن نسمع عن ترسانة عسكرية هائلة، ونحن نعلم عن أسلحة نووية مدمرة، لعلنا ولعل كثيراً من المسلمين قد خامر قلوبهم وعقولهم عظمة الأعداء، وشدة قوتهم، واتحاد صفهم، ونحو ذلك مما ينبغي أن نعرف حقائقه، وأن ننظر إلى صور ذلك المجتمع الملفق من شذاذ الأرض الذين تجمعوا من آفاق الدنيا، فتجمعت بهم رذائل الدنيا كلها في ذلك المجتمع العنصري البغيض، ولعلنا ونحن نكشف بعض وجوه الخلل والضعف في تلك الدولة المزعومة نتساءل -وسيرد هذا التساؤل-: كيف استطاع اليهود أن يبرزوا كقوة ترهب أكثر من ألف مليون مسلم مع كل صور الضعف، وكل مظاهر التفكك الداخلي؟! وكيف يظهرون كدولة ولا يجرؤ أحد في العالم كله على معارضتهم خاصة العالم الغربي الذي يدعي القوة، والذي يحرص على العدالة، والذي يظن الناس فيهم أنهم يقيمون قسطاس العدل في الدنيا كلها، فلا يستطيع أحد أن يتكلم بكلمة واحدة فضلاً عن أن يقف موقف عداء ضدهم، أو أن يقف موقف نزاهة وعدالة إزاء عدوانهم، وإن فعل ذلك أحدهم اتهم بأنه عدو للسامية، ويحاكم على تلك العنصرية، بل إننا رأينا عجباً من دول فتية قوية وهي تدفع الجزية لليهود عن جرائم وهمية، وتعتذر لهم بكل الصور والوسائل الإعلامية عما سببته لهم من اعتداء أو نحو ذلك.(167/2)
تدهور المجتمع اليهودي وتفككه وانهياره من الداخل
فلننظر إلى صورة اليهود من الداخل، وذلك من خلال إحصاءات لا يتجاوز عمرها الثلاث سنوات من داخل المجتمع اليهودي الإسرائيلي، ومن خلال إحصاءات ودراسات قامت بها مراكزه، ونشرت في صحافته، وظهرت في داخل حوارات مجتمعه: فنسبة (23.
5%) من الطلاب الذين أعمارهم ما بين الثامنة عشرة والخامسة والثلاثين يتعاطون المخدرات، (14%) يتعاطون الحشيش، و (30%) كما هو في دراسة مجلس سلامة الطفل في أرضهم يمارسون نوعاً من الاتجار بالمخدرات، أي: أن نحواً من ثلث ذلك المجتمع يمارس تجارة المخدرات، وفي إحصائية ودراسة لوزارة العمل الإسرائيلية أفادت أن (37%) من طلبة وطالبات المدارس العامة يعاقرون الخمر، و (80%) منهم مدمنون للخمور بشكل عام.
وفي البناء الاجتماعي، والتصدع الأسري تظهر حقائق عظيمة أيضاً: فنسب الطلاق تتجاوز (25%)، والزنا في دائرة الأسرة نفسها بلغت نسبته في المجتمع اليهودي (50%)، وفي خارج إطار الأسرة (25%)، وأما جرائم العنف في طلبة المدارس فإنها قد بلغت نحو (50%)، وأثبتت بعض الدراسات أن (60%) من جميع الطلاب لم يتخرجوا حتى مارسوا عمليات من العدوان على زملائهم في تلك المدارس.
والصور أكثر من ذلك، والشذوذ عندهم -وهو فعل قوم لوط ونحوه- مقر وشائع وذائع، بل إنه يعقد عقداً رسمياً بمباركة الحاخامات وعلماء الدين اليهود في الأماكن المقدسة عند حائط المبكى الذي يقدسونه! ولا عجب في هذا إن كنا نعرف كتاب ربنا، ونقرأ آياته، فإن الله قد وصفهم فقال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79].(167/3)
نسبتهم الفواحش والآثام إلى الأنبياء والرسل عليهم السلام
يروج اليهود للفواحش بنصوص توراتهم المحرفة المدنسة لا الأصيلة المقدسة، بل وينسبونه كذباً وزوراً إلى الرسل والأنبياء؛ ليجعلوا فعلها عبادة يتقرب بها إلى الله، ففي نصوص توراتهم المكتوبة عندهم اتهام لأكثر الأنبياء بممارسة الزنا والفواحش مع المحارم، وقد نصوا نصاً واضحاً على أن لوطاً عليه السلام قد شرب الخمر وعاقرها حتى فقد عقله، ثم زنى بابنتيه، وهذا ليس ادعاءً عليهم، بل هو نص ما بين أيديهم من الكتب التي يقرءونها، ويدرسونها، ويدّرسونها.(167/4)
المجتمع اليهودي والعنصرية
إن هناك تفككاً اجتماعياً، وطبقية عنصرية في داخل ذلك المجتمع، فليس اليهود كلهم في مرتبة واحدة سواء بالنسبة للمجتمع اليهودي، أما هم فيعتبرون أنفسهم أعلى من الخلق كلهم، وأحسن من البشرية جمعاء، ولكنهم في داخل ذلك المجتمع ينقسمون إلى يهود من الدرجة الأولى وهم: اليهود الغربيون الذين أتوا من أوروبا الغربية، ومن أمريكا ومن غيرها، ويسمونهم الإشكاريزن، واليهود الآخرون من الدرجة الثانية من أوروبا الشرقية، ويسمونهم سكادرن، ثم هناك من هو دونهم، وهم اليهود القادمون من إفريقيا ومن بعض الدول العربية، وهذا ليس أمراً مدعىً عليهم، بل هو معروف لديهم، وإن أولئك اليهود الذين يحسون بهذه التفرقة العنصرية بدأت آثارها الاجتماعية واضحة جلية تتحدث في صور كثيرة داخل ذلك المجتمع.
ثم نرى أيضاً كثيراً من الصور التي تندرج تحت ذلك الضعف والهوان الحقيقي الذي قد نستغرب كيف يكون كذلك ثم لا يجرؤ أحد، ولا تستطيع أمة أو دولة أو شعب أن يقهرهم ويغلبهم؟!! ومن الأمور التي صارت معروفة في هذه الأيام على وجه الخصوص ومع الانتفاضة الجهادية المباركة أن كثيراً من جنود اليهود يرفضون الأوامر العسكرية بالتوجه إلى مناطق التماس والمواجهة الحربية، وأن كثيراً منهم الآن مسجونون في السجون الإسرائيلية عقوبة لهم على عدم امتثال الأوامر العسكرية، وأن كثيراً منهم قد ملئت قلوبهم رعباً، وأنهم -كما رأينا بعد العمليات الجهادية الموجعة- باتوا يدعون إلى إعلان تهدئة الأوضاع، أو وقف إطلاق النار كما يزعمون أو نحو ذلك.
ونجد كثيراً من الأوضاع العجيبة في ذلك المجتمع، تدل على الكثير من الفساد العظيم، والهلاك الكامل، والتفكك الرهيب الذي ينخر في ذلك المجتمع، وهناك دراسات كثيرة تدل على ذلك ليس هذا مقام ذكرها.
فكيف استطاع أولئك أن يواجهوا الأمة العربية والإسلامية رغم كل هذه الأوضاع المتردية؟!(167/5)
ما الذي جعل اليهود يواجهون العرب رغم التفكك الاجتماعي عندهم
التفسير لا يحتاج إلى كثير من التفكير، فإن بين يدينا من كلام ربنا ما يبين ذلك ويجليه، فقد ضرب الله سبحانه وتعالى عليهم الذلة والمسكنة، وبين أنهم قد باءوا بغضب من الله، ثم جاء الاستثناء الذي يفسر لنا كثيراً من الواقع: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران:112]، أما حبل الله جل وعلا فقد انقطع عنهم، وقد ظهر أمر الله عز وجل عند وجود أهل الإيمان والإسلام الصادقين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وزمن أصحابه رضوان الله عليهم حيث نكسوا على رءوسهم، وهزموا وقتلوا وأخرجوا وطردوا، ولم يكن لهم قوة ولا شوكة ولا أي وجود مطلقاً، وكذلك كانوا في كل مراحل التاريخ الإسلامي الذي كانت الأمة فيه متماسكة، وبكتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم مستمسكة.
فما هو حبل الناس؟ إنها حبال كثيرة وليست حبلاً واحداً، والحبل هنا اسم جنس يشمل الواحد وما زاد.
أول ذلك: حبل أعداء الإسلام قاطبة، فإن اليهود يجدون العون والدعم والإسناد المعنوي والسياسي والإعلامي والاقتصادي والعسكري من العالم الغربي النصراني، ومن العالم الشرقي الهندوكي، ونحن وكل الناس نعرف أن الأموال تصب على إسرائيل صباً، وأن المواقف السياسية الحاسمة الرافضة المدافعة عنهم تعلن علناً، وتظهر لكل أحد، وهي كثيرة تلك الصور التي لا تخطئها العين من حجم أولئك القوم الذي يدعمون اليهود وينصرونهم، وذلك لقدر وحكمة ربانية يعلمها الله تعالى، فهذا سبب عظيم من أسباب قوتهم وبقائهم رغم ضعف اقتصادهم، ورغم كثير من مشكلاتهم.
ونحن نعلم أن تلك الاتجاهات والدول الغربية تنطلق إلى ذلك من منطلقات عقدية، وينبغي أن نعرف ذلك وقد أخبرنا الله جل وعلا به في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] فهم أولياء بعض، وأخبرنا أن المنافقين بعضهم أولياء بعض، فنحن نصدق كتاب ربنا، ونكذب كل قول يعارضه ويخالفه.
ولقد ذكرنا من قبل بعض المؤتمرات النصرانية المسيحية الكنسية التي عقدت لأجل دعم الصهيونية، وهم يعتقدون -وخاصة فرقة من فرق النصارى وهم البروتستانت- أن عليهم نصرة اليهود، وأخذوا ذلك من نبوءات كتبهم المقدسة، وما يأملونه ويعتقدونه بالباطل والتحريف، ومنها: أن عيسى عليه السلام سينزل مرة أخرى إلى بيت المقدس، وهم يظنون أن اليهود حينئذ سيؤمنون به ويتابعونه، فهم يسعون لذلك، وعندهم أن هذا لا يتحقق إلا بعد ثلاثة أمور: 1 - قيام دولة إسرائيل.
2 - كون القدس عاصمة لها.
3 - إعادة بناء الهيكل لليهود.
وفي استفتاء لأكبر دولة داعمة لإسرائيل وجد أن (39%) من مواطني تلك الدولة يعتقدون بهذه النبوءة، ويدفعون الأموال لتحقيقها، وذلك غير الدعم الحكومي، فتصب عليهم ملايين الملايين من أولئك الحمقى والمغفلين.
وهذه عقائد تضافرهم وتؤيدهم، ومن هنا كان الوعد الذي أعطي لهم في أول الأمر، ومن هنا كانت المسارعة بالاعتراف بدولتهم بعد مرور ثلاث دقائق، ومن هنا كان ذلك الدعم الذي نراه ونلمسه ونجد له شواهد عديدة.
وهناك حبل آخر -وهو وللأسف- حبل يمت للمسلمين بصلة، وهو حبل الضعف والخور وزعزعة اليقين والإيمان في نفوس أهل الإسلام، ثم ما نشأ عنه من ممالأة لهم ومداهنة، بل ومعاونة، بل واشتراك معهم في بعض جرائمهم، ومع أن الله جل وعلا يبين لنا أخلاق اليهود وأفعالهم؛ لنحذر منها، ونحن نرى أيضاً كثيراً من بلاياهم وانحرافاتهم ومع ذلك كله صار المسلمون يطبقونها ويقلدونها، ويسيرون وراءها، وذلك مصداق ما أخبربه المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!) أي: فمن غيرهم؟! ألسنا نرى كثيراً من أحوال مجتمعات المسلمين تطبعت بخلال اليهود، واتسمت بأخلاقياتهم؟! فقد صار الانحراف والاختلاط ونحو ذلك مما نعرفه شائعاً، ومن هنا ضعف الإيمان، وكادت حقيقة الإسلام أن تخفى من تلك المجتمعات، وجاء بعد ذلك كله ما قلناه من أنه لا يمكن مواجهة أولئك الأعداء، فصارت هناك مواقف الذل والخنوع والممالأة، وحينئذ لم يكن هناك شيء ولا موقف يستطيع أن يكشف ذلك العوار في داخل ذلك المجتمع، ولا أن يهتك الستر عن تلك الصور المخزية التي تبين أن ذلك المجتمع فيه كل الرذائل، بل وفيه كل المخالفات التي تسمى اليوم -بمقياس المنظمات الدولية- مخالفات لا تتفق مع القوانين والشرائع النظامية، وهناك مواقف كثيرة من مواقف المسلمين، ومن مواقف كثير من الذين بأيديهم الحل والعقد تمثل ذلاً للمسلمين، وهواناً لهم، وخوراً وضعفاً أمام أعدائهم، بل ويعطون ما يريدون مع كل ما قد يظهر من خلاف ذلك في صور إعلامية مزيفة، وهذا يدلنا أيضاً على سبب آخر، ويجعلنا نكتشف كذلك أسباب أخرى، ولو أنا رجعنا إلى كتاب ربنا، ولو أنا عرفنا حقائق أولئك القوم لكانت مواقفنا كمواقف أولئك الأبطال الذين يعلمون حقيقة اليهود من واقع معايشتهم في أرض فلسطين، فترى الواحد منهم وهو صغير لا يتجاوز الخامسة عشرة يقذفهم بالحجارة، وهم يولون أمامه كما نرى في صور التلفزة، من أولئك الذين قتلوهم وهددوهم وأرهبوهم وهم لا يملكون شيئاً من القوة الحقيقية المادية، ولكن قوة الإيمان، ومعرفة حقيقة الأعداء كفيلة بهذا.
نسأل الله عز وجل أن يقذف الرعب في قلوب اليهود، وأن يفرق شملهم، وأن يخالف كلمتهم، وأن يظهر ضعفهم، وأن يجعل بأسهم بينهم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(167/6)
تعبئة المجتمع اليهودي على الحرب والدماء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه.
وهناك صورة أخرى نحتاج إلى معرفتها، وهي صورة التربية والتعبئة في داخل المجتمع اليهودي، إن الذي يمسك هؤلاء المفترقين، وهؤلاء المتفاوتين طبقياً، وهؤلاء المخمورين والمخدرين، إن الذي يجمعهم ويبث فيهم شيئاً من التماسك والقوة؛ هو التربية الدينية اليهودية العدائية، والتعبئة النفسية الحربية العسكرية.
إن هذه الدولة كلها دولة حرب، ونحن نسمع في كل الدنيا عن وزارات للدفاع، لكن في إسرائيل يسمونها وزارة الحرب؛ لأن الحرب والدموية والعدوان والإرهاب أمر يدرس للأبناء والصغار في المدارس من المراحل الأولى، بل ويدعمه كثير من العوامل: أولها: العامل الديني التوراتي، فالتوراة تبين أن غير اليهود ليست لهم حرمة، وقتلهم يعد قربة، وأنهم كلاب لليهود، وأنهم يسخرون لشعب الله المختار، وليس هذا ادعاء، بل هو نص توراتهم وتلمودهم، وقول أحبارهم ومعاصريهم اليوم، وقريباً سمعنا تصريحات الحاخام الشهيرة عندما قال: يجب أن تقتلوا العرب جميعاً، صغيرهم وكبيرهم! وهذه التعبئة موجودة في توراتهم المحرفة، فقصة موسى عليه السلام التي ذكرها الله لنا في القرآن لما رأى رجلاً من قومه، وكان ذلك قبل نبوته، فوكزه موسى فقضى عليه، ولم يكن يقصد ذلك؛ يوردها اليهود على أن هذا فعل عظيم من أعظم أنبيائهم، وأنه إذا استطاع اليهودي أن يقتل غير اليهودي فهو واجب عليه، ويكون بذلك مقتدياً بموسى عليه السلام عياذاً بالله! والله عز وجل قد أخبرنا في القرآن أن موسى عليه السلام ندم على ذلك، واستغفر ربه، وأن ذلك قبل نبوته، ولكنهم يزورون ويحرفون؛ ليجعلوا كل يهودي مشبعاً بروح الدم والقتل والإرهاب، ونرى ذلك في مناهج المدارس، بل نجده كذلك في كل الصور المختلفة الإعلامي منها وغير الإعلامي.
أحد كبار مجرميهم وزعمائهم السابقين ألف كتاباً يخبر فيه عن أفكاره ومعتقداته ونظراته ومواقفه، فيقول: تعلمت من أبي: أننا نحن اليهود لا بد أن نعود إلى أرض فلسطين كل فلسطين، وبكل حزم؛ ولذا لقد كنا مقتنعين بالشرعية المطلقة لكل أعمالنا اللاشرعية! أي: شرعيتهم هم، فهذا القتل الذي يعد بكل المقاييس ليس شرعياً، هم يرونه شرعياً وعبادة وتقرباً بسبب هذه العقائد المزيفة المحرفة، ثم يقول: كتبت هذا الكتاب لغير اليهود أيضاً؛ خوفاً من أن يكونوا قد نسوا أنه من الدمار والنار والدموع والرماد قد خلق صنف جديد من البشر لم يعرفهم العالم وهو: اليهودي المحارب، ثم يستشهد بقول المفكر الشهير الذي قال: أنا أفكر فأنا موجود، قال: وأنا أقول: أنا أحارب فأنا موجود، وكن أخي وإلا قتلتك! هذه عقيدتهم التي ينشرونها، وهذا إعلامهم الذي يكرسونه لها، وهذه عنصريتهم التي يقررونها؛ ولذلك نجد أن هذا أمر يبث في كل وسائل إعلامهم، ويدرس في مدارسهم، ويكرس في آليتهم العسكرية والحربية، فكل يهودي لا بد أن يكون جندياً محارباً، ذكراناً وإناثاً، فالكل عليهم التجنيد الإجباري إلا قلة من كبار السن، فكلهم مسجلون احتياطيون في الجيش، فالمجتمع كله جيش محارب، وهذا أمر واضح، ولذلك يشغلون مجتمعهم كله، ويدفعونه نحو المواجهة الذهنية؛ لكي ينشغل بهذا الأمر، فيكون عنده ذلك الانحراف الخلقي الذي يمتد إلى أقصى مدى في رذائل اليهود، ويكون عنده ذلك الاندفاع الإجرامي الذي يمتد إلى أقصى مدى أيضاً في مواجهة من يسمونهم أعداءهم؛ ولذلك قال قائلهم في بعض البحوث: إن التعليم في إسرائيل هو مجرد تعبئة روحية لإعداد الجنود ليوم الحرب، ويتضمن مهد التاريخ، ويتضمن تاريخ الحركة الصهيونية، وتمديد الجيش اليهودي، ودراسة التوراة، وكل ما من شأنه أن ينمي في نفوس الناشئة الروح العسكرية.
ولا أريد أن أطيل، ولكن انظروا ما الذي يكون في الجانب المقابل في كثير من بلاد العرب والمسلمين، بينما نرى عقيدة اليهود عندهم في جوانب شتى، وفي نواحي عديدة، وأصبح العنف -كما يقول أحد باحثيهم- جزءاً من مكونات حياة اليهود، وأسلوب معيشتهم؛ ولذا تقول أكبر صحفهم: إن مجتمعنا يؤمن بأن الحق للقوة، وهذا ما جعل العنف في نظر الشباب أفضل رد على جميع المشكلات.
هذا التوجه هو الذي يحفزهم ويدعمهم، إلا أن الله جل وعلا قد أخبرنا عن حقائق خور نفوسهم، ورعب قلوبهم، وضلال عقولهم، وانحراف أخلاقهم، وهذا كله مما نراه، والمسلمون الصادقون، والمؤمنون الأخيار، والمجتمع المسلم الحقيقي لم يواجه أولئك، لكن كما قال بعضهم: عندما يكون الجدار متصدعاً فتضع يدك عليه فإنه سيسقط، وليس ذلك من قوة اليد، وإنما من تصدع ذلك الجدار، فما علا اليهود وما انتصروا إلا بضعفنا وخورنا؛ ولذلك يوم يخرج الأطهار الأبرار المؤمنون الذين يطلبون الشهادة فستزلزل صفوف اليهود، وترعب قلوبهم، وتخل قوتهم؛ وحينئذ يتضح أنه لا يمكن أن يكون السلاح هو الذي يحقق النصر إذا كان حامله رعديداً جباناً وإذا كان القائمون به ليسوا على قدم واحدة، وليسوا على هداية واستقامة على أمر الله سبحانه وتعالى.
خلوا الطريق لنا فنحن الناس أما الذين بغوا فهم أنجاس نصر النبي لنا جميعاً كله لا النصف لا الأرباع لا الأخماس ولينصرن الله ناصر دينه هذا هو المعيار والمقياس فحقيقة أعدائنا ينبغي أن نعرفها، وحقيقة حبال القوة التي تمدهم يوشك في زمن قريب أو بعيد أن تنقطع، ويقيننا بما أخبرنا به الله عز وجل، وما بشرنا به رسولنا صلى الله عليه وسلم، ولا بد أن يكون كاملاً وتاماً.
قال الله تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7]، وقال: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160]، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، فيقول الشجر والحجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله).
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يقوي إيماننا، وأن يعظم يقيننا، وأن يزيد من همتنا، وأن يقوي من ضعفنا، وأن يوحد صفوفنا، وأن يجعلنا من عباده المؤمنين، ومن جنده المخلصين، وأن يكتبنا من ورثة جنة النعيم.
اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى.
اللهم وفقنا لما تحب وترضى، واصرف عنا ما لا تحب ولا ترضى.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين.
اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك.
اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، وأرنا فيهم يوماً قريباً أسود يا رب العالمين! اللهم إنا ندرء بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم.
اللهم فرق صفهم، وخالف كلمتهم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم، واجعل بأسهم بينهم، ورد كيدهم في نحرهم، واجعل الدائرة عليهم.
اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، يا قوي يا عزيز يا متين! اللهم إن نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا.
اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين، والمعذبين والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين، والجرحى والمرضى في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم فرج همهم، ونفس كربهم، اللهم اجعل لهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم وانصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، واصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56] وترضوا على الصحابة الكرام، وأخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(167/7)
فقه تزكية النفوس
تزكية النفس هي عنوان الفلاح، فينبغي للمسلم أن يفقه هذه التزكية؛ ليعرف كيف يزكي نفسه.
ومن فقه التزكية أن نعرف فوائدها وثمراتها والأسباب الموصلة إليها، كما نعرف الآفات والعوائق التي تحول دون تحصيلها.(168/1)
مفهوم فقه تزكية النفوس
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
وبعد: فنحمد الله أن يسر لنا هذا اللقاء، ونواصل ما كنا بدأناه من الدروس العلمية -العامة- وهذا هو الدرس التاسع عشر، وهو بعنوان: (فقه تزكية النفوس).
وهذا الموضوع ربما كان مناسباً في مثل هذا الوقت الذي لم يطل فيه البعد عن شهر رمضان المبارك، الذي كان -ولا يزال- موسماً عظيماً من مواسم العظة والتذكرة والإيمان، فيه تحيا القلوب، وتطمئن النفوس، وتنشرح الصدور، ولابد لنا -ولكل مؤمن- أن يسعى إلى هذا الخير العظيم، وهو: تزكية النفس، وتطهير القلب.
مرادنا بالفقه هنا معناه العام: الفهم والإدراك، وليس مرادنا الخاص المتعلق باستنباط الأحكام الفقهية من أدلتها التفصيلية، وإنما المراد: الفهم الذي يشمل المعاني المعنوية، وكذلك الأحكام العملية، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] أي: لا تفهمونه ولا تعقلونه، وقال النبي عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيح-: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) لم يقل: يعلمه الدين، وإنما قال: (يفقهه) لأن الفقه أعمق من العلم، إذ إن العلم هو أخذ الأمور حفظاً وإدراكاً، ويزيد الفقه على ذلك: بمعرفة ما يتصل بهذا من المعاني الإيمانية والقلبية وإدراكها ضمن تصور عام يبين منزلتها وموقعها.
ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا) أي: إذا أخذوا الفقه والفهم في هذا الدين، والمشكلة الكبرى التي تعترض المسلم اليوم هي: النأي والبعد عن الفقه، إما جهلاً به، أو جنوحاً ومخالفة له، وهذا الفقه الذي نعنيه هو: (الفهم)، فقد يجنح بعض الناس في فهمه لمسألة من مسائل الدين فلا يقع على الخير والبصيرة أو قد يغفل عنها فيفوته خير كثير.
ولذلك فإن الآيات القرآنية تبين أن المشكلة الكبرى إنما هي عدم الفقه، كما قال سبحانه وتعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
فالمراد أن نفهم هذه التزكية للنفوس، وكيف تكون وأهميتها وآثارها وما يلحق بذلك.
فهذا هو فقه التزكية، ويأتي -إن شاء الله تعالى- فقه الدعاء، وفقه السجود، وفقه السؤال والجواب، وفقه الهجر والعتاب، وربما موضوعات أخرى يكون فهمها وإدراك معانيها الظاهرة والباطنة فيه خير كثير، وربما كان هناك بعد أو غفلة عن فهم مثل هذه الأمور، فنشرع فيما يتصل بتزكية النفوس.(168/2)
فوائد وثمار التزكية
لماذا الحديث عن تزكية النفوس؟ وما أهمية هذه التزكية وفائدتها؟ قد يقول قائل: إن مثل هذه الموضوعات إنما يُذكَر بها العوام، دون طلاب العلم! وإنما تصلح للغافلين المعرضين دون الذاكرين المقبلين، أو إنها تصلح للعاصين دون الملتزمين، وهذا من الخطأ في فهم التزكية وفقهها؛ إذ إن أولى الناس بالتزكية هم المقبلون الطائعون، بل لا تتم طاعتهم -معرفة وثمرة وجنياً لخيرها- إلا بهذه التزكية.
فنقول: أهمية التزكية تكمن في نقاط مهمة ومتعددة كما يلي:(168/3)
التزكية غاية عظمى في هذا الدين وخلاصة دعوة المرسلين
التزكية مهمة لأنها غاية عظمى في هذا الدين، وخلاصة دعوة المرسلين، ولنتأمل قول الله سبحانه وتعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:151]، لم يكن المقصد هو العرض بتلاوة الآيات وإنما أثرها في تزكية النفوس، وتطهير القلوب، وفيما يترتب بعد ذلك من العلم، إذ العلم لا يكون إلا لمن قذف الله في قلبه التوفيق، ولمن أنار قلبه ببصيرة الإيمان، كما قال سبحانه وتعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282] وكم من حامل علم لا أثر لعلمه في عمله؛ لأنه لم يكن لعلمه أثر في تزكية نفسه، فكيف يظهر بعد ذلك في قوله أو في فعله؟! ولذلك قال إبراهيم الخليل عليه السلام كما في دعائه الذي ذكره القرآن: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ} [البقرة:129] وتقديم التزكية أو تأخيرها له علة تدل على أهميتها، فتقديمها: لأن الإخلاص وتزكية النفس والقلب يؤهل لنيل المعرفة والعلم، كما ذكر عن الشافعي قوله: شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي وكذلك تأخير التزكية عن العلم دليل على أن صاحب العلم إنما ينفعه علمه إذا زكى نفسه أولاً، وحينئذ يؤثر بقوله وعمله في الناس؛ ولذلك فأول أمر في أهمية التزكية: أنها غاية عظمى في هذا الدين، وخلاصة دعوة المرسلين.(168/4)
التزكية سبب للسعادة والفلاح في الدنيا والآخرة
التزكية نجاح الدنيا، وفلاح الآخرة، إذ المدار كله على هذه القلوب، وهذه النفوس كما قال سبحانه وتعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10]، وكما قال جل وعلا: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14].
إنما الفلاح والنجاح في الدنيا، والنجاة في الآخرة بهذه المعاناة في تزكية النفوس، فما أجدرها أن تكون لها أهمية عظمى، إذ هي بمثل هذا المكان الذي به يقع الفلاح أو الخسران.(168/5)
التزكية ثمرة العبادات وخلاصة نتائجها
التزكية ثمرة العبادات وخلاصة نتائجها، فليست العبادات في هذه الظواهر من ركوع أو سجود، أو مجرد تلفظ بألفاظ، أو إرهاق النفس بالصوم، أو إجهاد البدن في الحج، وإنما هو ما وراء ذلك كله، مما ينسكب في القلب ويملأ النفس من الروحانية والإيمان، والتي تجعل نفس الإنسان في مراتب عليا من الطهارة والنقاء والصفاء.
إذاً: هي غاية هذه العبادات، كما قال سبحانه وتعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، إنما هو محض التطهير والتزكية، وكما قال جل وعلا: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]، وقال في الغاية من الصوم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].
فكل عمل خلاصته وثمرته هي هذه النفس وتزكيتها.(168/6)
التزكية سبب لدخول الجنة والنجاة من النار
التزكية عربون الجنة، وستار من النار كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه:75 - 76]، ويقول سبحانه وتعالى في الوقاية من النار: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل:17 - 18].
إذاً: التزكية سبب لدخول الجنة وستار ووقاية من النار.(168/7)
التزكية سبب طهارة القلب وصلاحه
هذا جامع لكل ما سبق وهو: أن التزكية مناطها القلب، والقلب هو قطب الرحى، فإن الله جل وعلا قال: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
فإذا عميت القلوب عميت معها البصائر، وتعذّرت كل أسباب الفلاح، فيضل الإنسان، ويتخبط في عمله -عياذاً بالله سبحانه وتعالى-؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام -كما في صحيح مسلم -: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).
وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام مبيناً أن الأمور كلها مرتبطة بالقلب وصلاحه: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).
أفلا يكون لهذه التزكية الأهمية الأولى والكبرى في حياة الإنسان المؤمن؟ وإن كان فيه خير، وإن كان مصلياً عابداً، وإن كان متقرباً ذاكراً، فإن فقه التزكية هو الذي يقويه على هذه الطاعات، ويجني له ثمرتها على أتم وأكمل صورة بإذن الله سبحانه وتعالى.
ولذلك أذكر الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في قصة الرجل الذي بشره الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثاً بالجنة، فصحبه عبد الله بن عمرو رضي الله عنه ليرى فعله، فلم ير منه كثير صلاة ولا صيام، فلما سأله قال: (ليس من شيء إلا ما رأيت، غير أني أبيت وليس في قلبي على أحد من المسلمين غشاً ولا أحسده على خير أعطاه الله إياه) فلما تطهّر من هذه الآفات -كما يقول ابن القيم:- صلُحت سلعته لعقد: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] أما النفوس المليئة بالأكدار، والقلوب المليئة بالأوضار، فليست سلعة تقدم بين يدي الله سبحانه وتعالى.
فلذا كانت التزكية مدار الأمر وأوله وآخره، وعليها -بإذن الله سبحانه وتعالى- المدار في الفلاح والنجاح، نسأل الله جل وعلا أن يزكي نفوسنا، وأن يطهر قلوبنا.(168/8)
أهمية تزكية النفس في ظل طبيعة النفس البشرية وكثرة الفتن
هناك تعليل أخص من هذا التعليل العام، لاختيارنا موضوع التزكية ليكون حديثاً إلى من يُظن بهم الخير! ليسوا فقط من الذين يؤدون الفرائض، بل ومن المقبلين على الطاعات، المرتادين للمساجد، الحريصين على العلم، وقد يظن البعض أنهم لا يحتاجون إلى مثل هذا، فتعليلاً لهذا الأمر على وجه الخصوص أقول: من وجهين أردت أن يكون الحديث -على وجه الخصوص- موجهاً لمن فيهم الخير، ومن هم على خير.(168/9)
حاجة النفس البشرية إلى التزكية مهما كان حظها من الطاعات
معرفة أهمية التزكية أصالة منهج في سياسة النفس، ووضوح رؤية في معرفة طبيعة هذه النفس، وطبيعة هذا الدين، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] فالأمر كما قال حذيفة رضي الله عنه: (أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، ورب مصل لا خير فيه، ويوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيهم خاشعاً).
إذاً: ليست التزكية مفقودة -أو ناقصة- عند العصاة فحسب، بل هي ناقصة أو مفقودة عند كثير من الطائعين؛ لذا وجب التذكير بها لهم، وهم فيها قدوة، فإذا فُقدت التزكية من أهل الخير والصلاح والطاعة، فماذا في بقية الناس من المتلبسين بالبدع أو المنغمسين في الشهوات والمعاصي؟ فهي -لاشك- أكثر بُعداً ومجانبة لحصولها في أنفسهم؛ لذلك نوجه الحديث لنا نحن الذين نظن بأنفسنا خيراً؛ لأننا أحوج ما نكون إلى هذا الأمر، ولأن فقده فينا خسارة عظمى لنا، وللناس أيضاً ممن هم أبعد منا عن الخير، أو أقصر همة في الاستباق إليه.(168/10)
كثرة الفتن تجعل حاجتنا إلى التزكية أكثر من حاجة السلف إليها
هذا إدراك للواقع الذي كثرت فيه الفتن التي تغزو القلوب، والشهوات التي تفسد النفوس، أصبحت الدنيا تجذب الناس وتخطف أبصارهم وبصائرهم إليها، فنحن في عصر مهما كان للإنسان فيه من الخير فلابد أن يعترضه من الشر ومن سهام الفتن ما لا يكاد يحتمل، فلذلك كان لابد لنا من أسلحة مضادة، كما أن هناك في الحرب أسلحة مضادة للطائرات، فهناك أيضاً أسلحة مضادة للشهوات وللشبهات لابد أن تكون عند الإنسان، فإذا كان الإنسان يتوقع مثلاً أن عدوه لا يملك إلا رصاصة واحدة، فإن احتياطه سيكون محدوداً، ودفاعه يسيراً؛ لأنه يعلم أن العدو يملك سلاحاً ضعيفاً وذخيرة قليلة؛ فبمجرد أن تنتهي هذه الذخيرة فهو في مأمن، أما إذا علم الإنسان أن عدوه أكثر قوة فإنه سيستعد له بما يكفي لردعه وردّ كيده عنه.
فإذا علم المسلم أن الدنيا تصب عليه فتنها وشهواتها ليلاً ونهاراً، سماعاً ورؤيةً، وقراءةً واطلاعاً، بهذا الكم العجيب من هذه الرزايا والبلايا، فإنه لابد أن يعرف أنه في حاجة إلى جهد أكبر.
وإذا كنا نسمع من أهل الصلاح وأهل الإيمان من السلف الصالحين حرصهم على الطاعات وعلى تزكية النفوس، رغم أنهم لم يكونوا يجدون من هذه الفتن والشهوات مثلما نجد؛ وجب علينا -حينئذ- أن ندرك أننا في حاجة أكثر لتزكية النفوس.
ولذلك فقه الدعاة المخلصون هذا الأمر، فحرّضوا طلبة العلم، ومن دخل تحت مسمى الالتزام بالدين وشباب الدعوة اليوم؛ أن يكون حرصُهم على تزكية النفوس أبلغ، وربما أكثر من حرص السابقين؛ لأن السابقين لم يكونوا يجدون مثل ما نجد من الفتن؛ ولذلك يقول الراشد جزاه الله خيراً: (والمؤمن في هذا الزمان أشد حاجة للانتباه ومعالجة قلبه وتفتيشه مما كان عليه المسلمون في العصور الماضية)، لماذا أشد حاجة؟ لأنهم كانوا يعيشون في محيط إسلامي تسوده الفضائل، ويسوده التواصي بالحق، وكان أهل المعاصي والفسق يُجهدون أنفسهم في التستر والتواري عن أعين العلماء، وسيوف الأمراء، أما الآن فإن المدنيّة الحديثة جعلت الكفر بجميع مذاهبه مسموعاً مرئياً بواسطة الإذاعات والتلفزة والصحف والمجلات، وجعلت إلقاءات شياطين الإنس والجن قريبة من القلوب، وبذلك زاد احتمال تأثر المسلم من حيث لا يريد ولا يشعر بهذا المسموع والمنظور، فضلاً عن ابتعاد كثير من الدول والشعوب الإسلامية عن تحكيم شرع الله، فوجب على المسلم من المجاهدة والمراقبة -لوقته وقلبه- أكثر مما كان يجب على السلف.
وهذا دليل فقه وفهم لاحتياج الواقع، ولذلك قال النورسي رحمة الله عليه: (إن هذه المدنيّة السفيهة المصُيّرة للأرض كبلدة واحدة، يتعارف أهلها ويتناجون بالإثم وما لا يعني بالجرائد صباح مساء؛ غَلُظَ بسببها وتكاثف بملاهيها حجابُ الغفلة بحيث لا يخرق إلا بصرف همة عظيمة) أي: بسبب هذه الفتن وقربها والتصاقها بالناس، بحيث يسمعونها ويرونها، فغلظ بسببها وتكاثف بملاهيها حجابُ الغفلة، بحيث لا يخرق ولا ينقشع هذا الحجاب إلا بصرف همة عظيمة، ولذلك اخترنا هذا الموضوع المهم.(168/11)
مدخل جامع لتزكية النفس
لابد أن ندرك أن التزكية متعلقة بأمر واحد وهو (القلب)، والقلب مُتقلّب، والقلب لا يظهر للعيان، وهو سريع التأثر، فلذلك كانت المهمة صعبة، ولذلك يُعبّر ابن القيم رحمة الله عليه عن جوهر هذه التزكية، وخلاصة المعركة والمعاناة والمجاهدة فيها فيقول: (والمقصود أن يكون ملك الأعضاء -وهو القلب- قائماً بعبوديته لله سبحانه وتعالى هو ورعيته).(168/12)
أمراض القلوب وأقسامها
الجوارح كلها رعية القلب، وأما المحرمات التي على القلب فقد قال عنها ابن القيم رحمه الله: (وأما المحرمات التي عليه فالكبر، والرياء، والعجب، والحسد، والغفلة، والنفاق، وهي نوعان: كفر ومعصية.
فالكفر: كالشك والنفاق والشرك، وتوابعها.
والمعصية نوعان: كبائر وصغائر.
فالكبائر: كالرياء، والعجب، والكبر، والفخر، والخيلاء، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله، والفرح والسرور بأذى المسلمين، والشماتة بمصيبتهم، ومحبة أن تشيع الفاحشة فيهم، وحسدهم على ما آتاهم الله من فضله، وتمني زوال ذلك عنهم، وتوابع هذه الأمور التي هي أشد تحريماً من الزنا وشرب الخمر وغيرهما من الكبائر الظاهرة، ولا صلاح للقلب ولا للجسد إلا باجتنابها والتوبة منها).
فليست الكبائر محصورة في الزنا وشرب الخمر وغيرها مما يتعلق بالجوارح، لكن أكبر منها ما يتعلق بهذا القلب، وفتنته وشهوته، وأوضاره وأقذاره التي تصرفه عن مراد الله سبحانه وتعالى، ومقصوده منه جل وعلا، ولذلك قال ابن القيم: التي هي أشد تحريماً من الزنا، وشرب الخمر! وكما أن ابن القيم بين لنا الأمراض ومدارها، فكذلك بين لنا العلاج ومداره فقال: (فإن مدار اعتلال القلوب وأسقامها على أصلين: فساد العلم، وفساد القصد.
ويترتب عليهما داءان قاتلان: وهما: الضلال والغضب.
فالضلال نتيجة فساد العلم، والغضب نتيجة فساد القصد، وهذان المرضان هما ملاك أمراض القلوب جميعها).(168/13)
علاج أمراض القلوب بتحقيق (إياك نعبد وإياك نستعين)
ذكر ابن القيم الجملة الجامعة للشفاء والعلاج، وهي جامعة للتزكية ومقاصدها، فقال رحمة الله عليه في مدارجه: (ولا شفاء من هذا المرض إلا بدواء: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]).
ثم بين لنا تركيب هذه الوصفة الطبية فقال: (فإن هذا الدواء -أي: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) - مركب من ستة أجزاء: عبودية الله لا غيره، بأمره وشرعه لا بالهوى، ولا بآراء الرجال، وأوضاعهم، ورسومهم، وأفكارهم، بالاستعانة على عبوديته به، لا بنفس العبد وقوته وحوله ولا بغيره).
فهي عبودية بالأمر والشرع، لا بالهوى، ولا بآراء الرجال.
وبالاستعانة بالله، لا بالنفس ولا بالغير، قال: (فهذه هي أجزاء (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)).
لكن الأجزاء ليس كل أحد يستطيع تجميعها، وليس كل أحد يستطيع تركيب الدواء تركيباً سليماً.
قال: (فإذا ركبها الطبيب اللطيف العالم بالمرض، واستعملها المريض حصل بها الشفاء التام، وما نقص من الشفاء فهو لفوات جزء من أجزائها أو اثنين أو أكثر)؛ فلذلك لابد أن ينتبه لهذا.
ثم قال: (ثم إن القلب يعرض له مرضان عظيمان، إن لم يتداركهما العبد تراميا به إلى التلف ولابد، وهما: الرياء، والكبر، فدواء الرياء بـ (إياك نعبد)، ودواء الكبر بـ (إياك نستعين)، وكثيراً ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: (إياك نعبد) تدفع الرياء، و (إياك نستعين) تدفع الكبرياء).
فما أحوجنا لأن نفقه مثل هذا الفقه والفهم لهذه الآيات وتحقيقها في القلوب.(168/14)
الأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى هي علاج لأمراض القلوب
ذكر ابن القيم أموراً جامعة لتحصيل ما به حياة القلب، وحصول محبة الله فيه، فذكر عشرة أسباب هي الجالبة لمحبة الله تعالى فقال: (أحدها: قراءة القرآن بالتدبر والتفهّم لمعانيه، وما أُريد به، كتدبر الكتاب الذي يحفظه العبد ويشرحه ليتفهم مراد صاحبه منه.
الثاني: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، فإنها توصله إلى درجة المحبوبية بعد المحبة.
الثالث: دوام ذكره على كل حال، باللسان والقلب والعمل والحال، فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من هذا الذكر.
الرابع: إيثار محابه -أي: محابّ الله عز وجل- على محابك عند غلبات الهوى.
الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته، ومشاهدتها ومعرفتها، وتقلبه في رياض هذه المعرفة.
السادس: مشاهدة بر الله وإحسانه وآلائه ونعمه.
السابع -وهو من أعجبها-: انكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى.
الثامن: الخلوة به وقت النزول الإلهي لمناجاته وتلاوة كلامه، والوقوف بالقلب، والتأدب بأدب العبودية بين يديه.
التاسع: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما ينتقى أطايب الثمر، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام وعلمت أن فيه مزيداً لحالك ومنفعة لغيرك.
العاشر: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل).
وذكر عن بعض السلف أنه جمعها بأخصر مما ذكره ابن القيم فقال: (دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين).
فهذه جملة جامعة تبين لنا جماع هذه التزكية، وتوضح دواء القلوب من أسقامها.(168/15)
الرضا عن النفس أساس أمراض القلوب
قال ابن القيم رحمة الله عليه كلاماً يبين لنا سبباً رئيسياً هو سبب كل بلية تأتي للنفس، ويقع فيها الإنسان، وذلك هو: رضا الإنسان عن نفسه، فمتى رضي الإنسان عن نفسه عن عبادته عن ذكره عن طاعته، فهذا هو أُسُّ الأمراض وأساس البلاء، يقول رحمة الله عليه: (رضا العبد بطاعته دليل على حسن ظنه بنفسه، وجهله بحقوق العبودية، وعدم عمله بما يستحق الرب جل جلاله).
ويبين هذا أكثر فيقول: (وحاصل ذلك: أن جهله بنفسه وصفاتها وآفاتها وعيوب عمله وجهله بربه وحقوقه وما ينبغي أن يعامل به يتولد منهما: رضاه بطاعته وإحسان ظنه بها).
من أنت -أيها الإنسان- وماذا عملت حتى ترضى عن عملك وطاعتك؟! وهل تدرك عظمة حق الله عليك؟! لو أدركت ذلك لرأيت أنك ما أتيت لا بالعشر ولا بمعشار العشر مما ينبغي أن يكون عليه حال العبد المؤمن استفراغاً للقيام بحق العبودية لله سبحانه وتعالى.
ولذلك قال بعض السلف رحمة الله عليهم كلمة جامعة هي أصل في هذا الشأن: (أصل كل غفلة ومعصية وشهوة الرضا عن النفس).
نحن كل ما نريد أن نتقيه هو الغفلة والمعصية والشهوة، وأصل هذه جميعها: (الرضا عن النفس)؛ لأن الذي يرضى عن نفسه كيف سيزيد في التذلل لله؟! وما الذي سيدفعه لمزيد من الطاعات لله؟! وما الذي سيدفعه للاستغفار من ذنبه؟! ولذلك فإن من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنك تستغفر في أعقاب الطاعات، وبعضنا إذا قلت له: استغفر الله وتب إلى الله، قال: الحمد لله أنا على خير!! بسبب جهله بنفسه، وجهله بحق ربه؛ يظن أنه لا يحتاج للاستغفار؟! رسولنا صلى الله عليه وسلم كان يستغفر الله في اليوم والليلة أكثر من سبعين مرة، وفي رواية: مائة مرة -مع أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر- لكن ليعلمنا أن هذا الاستغفار دليل النقص في الإنسان، فينبغي أن تدرك -دائماً- أنك في نقص، وأنك مقصر، إما في الإتيان بالأعمال، وإما في كمالها، وإما في عدم حصول قبولها، وهذا أمر ينبغي أن يفطن له الإنسان المؤمن.
ولذلك ما إن تُسلّم من صلاتك حتى تقول: استغفر الله!! تستغفر الله من أي شيء؟! تستغفر لأنك لم تأت بالعبادة على كمالها لم تستحضر الخشوع التام لم تتذلل التذلل الكامل مع الندم لم تتذوق حلاوة الطاعة ربما غفلت ربما ما استحضرت عظمة الله كما يجب وكل إنسان يتعرض لمثل هذا، قليلاً كان ذلك أو كثيراً، وهذا هو (الفقه) حينما يستغفر الله، حتى قال بعضهم: (استغفارنا يحتاج إلى استغفار، وحمدنا يحتاج إلى حمد!!) وهذا من فقههم لهذه المعاني، فأنت تستغفر بلسانك، وقلبك لاه غافل، فهذا نوع غفلة تحتاج منك إلى استغفار، وحمدك لله عز وجل إنما هو محض توفيق من الله عز وجل أن ذكّرك وألهمك أن تذكره وأن تحمده!! فهذا يحتاج إلى حمد، ولابد أن يكون الإنسان -دائماً- منتبهاً لمثل هذا.
وليعلم أن هذه التزكية هي اللذة التي ذكرها السلف رضوان الله عليهم لما قال قائلهم: (والله! لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف).
فما أجمل أن ينشرح الصدر، وأن يطمئن القلب، وأن تسكن النفس، وأن تجد لذة الطاعة والمناجاة، ولذلك فإن سجود المحراب، واستغفار الأسحار، ودموع المناجاة؛ سيماء يحتكرها المؤمن، ولئن توهّم أصحاب الدنيا جنّاتهم في الدنيا والنساء والقصور المنيفة، فإن جنة المؤمن في محرابه!! هذه هي اللذة التي كان يجدها الصالحون المخلصون لله عز وجل؛ فتشغلهم عن كل بهرج في هذه الدنيا، وعن كل جاه يصرف الناس إلى أحوال من الدنيا كان ينبغي ألا ينصرفوا إليها، ولذلك متى وجد الإنسان لهذه التزكية فقهها الصحيح، فإنه يتشبث بها ولاشك، ولا يجنح عنها ولا يحيد.(168/16)
مجالات تزكية النفس
نشرع الآن في ذكر ما يتصل ببعض المجالات المهمة للتزكية، وكثيرة، وكل واحد منها جدير بالاهتمام -من حيث العلم به، ومجاهدة النفس للعمل به- فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا للإحاطة بجماع القول في مثل هذه المجالات.(168/17)
تزكية النفس بالإخلاص
أول هذه المجالات وآكدها: الإخلاص لله سبحانه وتعالى وتحرير النية والقصد ابتغاء رضوان الله جل وعلا.
قال الله سبحانه وتعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:14 - 15].
ويقول جل وعلا: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:2 - 3].
إذا صحح العبد إخلاصه لله، فهذا هو بداية تأثره واستفادته من كل ما سيأتي من أنواع الأعمال في تزكية القلوب والنفوس، وهذا الإخلاص ليس مجرد ادعاء، بل هو إخلاص من أعمق أعماق القلب، ومن أعمق أغوار النفس.
هو الإخلاص الذي يؤرق الإنسان ويجعله لا يبغي شيئاً في هذه الدنيا، ولا حتى حظ نفسه، ولا بعض ما يترتب على الطاعة من خير في هذه الدنيا، ولا شيئاً مما يفتح الله به عليه فيها، إنما يبغي فقط رضوان الله سبحانه وتعالى.
وتأمل معي موقفاً عظيماً في سيرة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لنرى أن الإخلاص ليس ادعاءً وإنما هو من أصدق المشاعر التي تملك على الإنسان كل جوارحه، وكل تصرفاته، ذلكم يتجلى في قصة البكّائين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، أخلصوا لله بقلوبهم، وأرادوا وجه الله بأعمالهم، لم يكن ذلك خاطراً عابراً ولا كلمة بلسان!! تحركوا وقد اشتعل حب الجهاد في قلوبهم، وقد امتلأت قلوبهم بقصد السعي لمرضاة الله سبحانه وتعالى، فطلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يحملهم للجهاد، فقال معتذراً: {لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة:92].
فماذا كانت الصورة؟! {تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92]؛ لأنهم كانوا صادقين من أعماق قلوبهم، فحزنوا على فوات هذه الفرصة في الطاعة، وعلى فوات الأجر في بذل النفس لله سبحانه وتعالى، هذه هي حقيقة الإخلاص، حينما يتمكن من القلب، ولذلك فإن هذا الإخلاص له الأثر المباشر في حياة المؤمن وفي الأجر والفضل الذي يسوقه الله سبحانه وتعالى له.
ولذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري: (من طلب الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه).
يبلغ مراتب الشهداء، لكن ليس فقط بدون شيء، بهذا الإخلاص الذي هو متملّك للقلب، مستول على النفس.
في الحديث الصحيح عن الثلاثة النفر الذين آواهم المبيت إلى غار فسقطت الصخرة فسدّت عليهم باب الغار فقالوا: لا نجاة لكم إلا أن يدعو كلٌ منكم ربه بأخلص عمل قدمه لله سبحانه وتعالى، فلما دعوا انتقوا أخلص أعمالهم التي ما عملوها إلا ابتغاء وجه الله عز وجل، فلما ذكر الأول عمله وتوسل إلى الله به فرج الله عنهم قليلاً، ثم الثاني، ثم الثالث، ففرج الله عنهم ببركة الإخلاص لله سبحانه وتعالى.
فانعدام الإخلاص هو رأس كل بلاء يحل بالنفس والقلب، والشرك والرياء أعظم موجب لموجبات العذاب في الآخرة، كما ورد في الحديث الصحيح عن الثلاثة الذين هُم أول من تُسعّر بهم النار: قارئ للقرآن، ومجاهد، ومنفق متصدق، لكنهم لم يعملوا ذلك ابتغاء مرضاة الله، فَهُم أول من تُسعّر بهم النار، ولذلك يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري فهو للذي أشرك به، وأنا منه بريء).
قال الجنيد رحمه الله: (الإخلاص سرّ بين الله وبين العبد، لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوىً فيميله)، فهو من خفائه على هذه الصورة.
قيل لـ سهل التستري رحمة الله عليه: أي شيء أشد على النفس؟ -يعني: أي شيء أصعب عليها؟! هل هو العبادة؟! هل هو الإنفاق؟! هل هو الطاعة؟! - فقال: (الإخلاص -هو أشد شيء على النفس- لأنه ليس لها فيه نصيب!!) فالمخلص لا يريد شيئاً لنفسه -حتى لنفسه- لا يريد!! إنما يعمل لأجل الله سبحانه وتعالى وابتغاء رضوانه؛ ولذلك حينما تتأمل تجد أن الإخلاص هو المفتاح الذي يؤدي إلى ما بعده من الفضائل.
يقول ابن القيم: (أهل الإخلاص للمعبود والمتابعة هم أهل (إياك نعبد) حقيقة، فأعمالهم كلها لله، وأقوالهم لله، وعطاؤهم لله، ومنعهم لله، وحبهم لله، وبغضهم لله، فمعاملتهم ظاهراً وباطناً لله وحده لا يريدون من ذلك من الناس جزاءً ولا شكوراً، ولا ابتغاء الجاه عندهم، ولا طلب المحمدة والمنزلة في قلوبهم، ولا هرباً من ذمهم، بل قد عدّوا الناس بمنزلة أصحاب القبور) عدوا الناس من حولهم كأنهم موتى، لا يثنون عليهم بخير، ولا يذمونهم بمعصية، فمن تجرد هذا التجرد، تحقق له كمال الإخلاص.
فهل نحن لا نحتاج إلى مثل هذا التسليم؟! وهل يدعي أحد أنه قد عالج قلبه وجاهد نفسه؛ ليتحقق بمثل هذا الإخلاص الكامل التام غير المنقوص، الذي لا تشوبه شائبة، ولا تخالطه أية صورة من صور الصرف عن وجه الله سبحانه وتعالى؟! نظن أن أكثر الناس -إلا من رحم الله- لم يَصِل إلى مثل هذا الأمر، يقول ابن القيم: (جعلوا الناس بمنزلة أصحاب القبور، لا يملكون لهم ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، فالعمل لأجل الناس وابتغاء الجاه والمنزلة عندهم ورجائهم للضر والنفع لا يكون من عارف بهم ألبتة)، من أراد وجه الناس فهو لا يعرفهم؛ لأنهم لا يملكون له شيئاً، ولو كان يعرف ذلك لانصرف لله سبحانه وتعالى.
وآثار السابقين تدلنا على أهمية الإخلاص والنية، يقول هشام بن عبد الملك في وصف عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه: (ما أحسب عمر خطا خطوة قط، إلا وله فيها نية) أي: نية إخلاص وطاعة وقربة لله سبحانه وتعالى، خطوة من أي عمل مما قد يظنه الناس من أعمال الدنيا أو من أحوال ومصالح المعاش، فكيف ونحن قد نقبل على طاعات وعبادات مفروضة، ولا نستحضر أو نستخلص ونصفي وننقي هذه النية لله سبحانه وتعالى؟! ولذلك كان من أثر هذا النهج في عمر بن عبد العزيز أنه أصلح الله به أحوال الأمة كلها، في أحوال قلوبها، وفي أقوال ألسنتها، وفي مالها وخيرها ورخائها، وفي أمنها وأمانها، وفي فتحها ونصرها، وفي درء الشر عنها وكل ذلك في أقل من سنتين، مما لم يكن لمن كان قبله من بني أمية ولمن جاء بعده من بني أمية وبني العباس، فإنه لم يتحقق لهم مثلما تحقق على يديه في هذا الزمن اليسير، إنها بركة الإخلاص والنية لله سبحانه وتعالى.
وانظروا إلى الأثر العملي للإخلاص في التوفيق فيما ذكرناه عن عمر من الأثر العام في الإصلاح، يبينه لنا سليمان بن عبد الملك، فإنه لما أدركته الوفاة قال: (لأعقدن عقداً ما يكون للشيطان فيه نصيب)، وكان هذا العقد أن عَهِدَ بالخلافة لـ عمر فلم يُراعِ في ذلك أبناءه، ولا إخوانه، ولا الناس في ذلك الوقت، عند وفاته واحتضاره أراد أن يتقرب إلى الله بعمل خالص، وقال: (لأعقدن لله عقداً لا يكون للشيطان فيه نصيب)، فلما عقد هذا العقد بهذه النية وذلك الإخلاص أثمر ووُفّق في عقده، فـ عمر بن عبد العزيز ربما كان أعظم حسنات سليمان بن عبد الملك رحم الله الجميع؛ لأنه ساق للأمة هدية صلُح بها حالها.
ومن ثمار الإخلاص: التوفيق للصواب؛ ولذلك قال الكيلاني رحمة الله عليه: (كن صحيحاً في السر تكون فصيحاً في العلانية)، لا يوفق ولا يُسدّد ولا يُصوّب إلا من كان على درجة من الإخلاص عظيمة.
وقال مكحول: (ما أخلص عبدٌ قط أربعين يوماً إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه).
وهنا مسألة ذكرها القاضي عياض رحمه الله، وهي: قد يقول قائل: سأُخلِصُ أربعين يوماً حتى تأتيني الحكمة! فهُنا بَطُلَ الإخلاص؛ لأنه لم يُخلص لله، بل أخلص لنيل الحكمة!! وهذا مما ذكره العلماء من شدة خفاء الإخلاص ودقته، فمن بركات التزكية وثمارها -كما سيأتي-: أن الله سبحانه وتعالى يمن على الإنسان بالرؤيا الصالحة، وبالخير الذي يساق إليه، فإذا قصد مثل هذه الأمور فقد انصرف عن كمال الإخلاص لله سبحانه وتعالى.
ولذلك يقول التابعي الجليل مطرف بن عبد الله بن الشخير: (بل هو -أي: الإخلاص- مفتاح كل خير وصلاح، وهو أول الأمر وآخره) ويقول: صلاح العمل بصلاح القلب، وصلاح القلب بصلاح النية، ومن صَفَى صُفّي له، ومن خَلَط خُلِط عليه).
إذاً: الأمر كله مداره على الإخلاص، ولذلك فإن ما نعانيه من غفلة أو من عدم حصول لذة في الطاعة إنما هو من هذا التخليط، (من صَفَى صُفّي له، ومن خَلَط خُلِط عليه) وهذا جماع الأمر، ومن جميل كلام الرافعي رحمة الله عليه -وهو كلام أدبي لكنه يدلُّ على فهم وإدراك طبيعة النفس-: (إن الخطأ الأكبر أن تُنظّم الحياة من حولك، وتترك الفوضى في قلبك!!).
فتنظم مواعيدك، وتنظم عملك الدنيوي، وتنظم عمل دراستك، وتترك الفوضى في قلبك مشتتاً موزعاً في أودية الدنيا، ليس موجهاً لله سبحانه وتعالى!! فإن هذا تعارض وتناقض ينبغي أن ينأى الإنسان بنفسه عنه.
قال ابن القيم عن حقيقة الإخلاص: (فيه تصفية العمل من رؤيته وملاحظته، وطلب العِوَض والرّضا به، والسكون إليه)، فالإنسان ينبغي له أن يُخلّص قلبه من (رؤية العمل)، يعني: أن يرى أنه عمل وأنه قدّم، وهذا ينبغي أن يكون أيضاً موضع عناية واهتمام؛ لأن الإنسان ينبغي له ألا ينظر إلى عمله، وأن له فيه فضلاً، أو أنه مُمتنّ به على الله عز وجل -عياذاً بالله- كلا! ولكن إلى ماذا ينظر؟ ينظر إلى أن هذا هو توفيق الله سبحانه وتعالى، وإلا فالنفس كُلّها أمراض، وأدواء، وشهوات، فمن الذي أعانه على نفسه حتى أخلص لله؟! ومن الذي وفقه للعمل؟! هو الله سبحانه وتعالى.
قال الله عز وجل مُمتناً على رسوله: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا}(168/18)
تزكية النفس بالهمة العالية
ننتقل إلى أمر آخر في تزكية النفس وهو: (الهمة)؛ لأن الذي أخلص لله لا تكفيه النية فقط، كما يقول بعض الناس: الإيمان في القلب!! أو يقول: أنا مؤمن بقلبي! هذا كله محض ادعاء.
إنما بعد النية لابد من الهمة في طلب الطاعات، ومعالي الأمور، ومرضاة الله سبحانه وتعالى، فيما يحبه جل وعلا وإن كان شاقاً، وإن كان مخالفاً للنفس.
ولذلك كلما أخلص الإنسان ارتفعت همّته في طلب الطاعات، والوصول إلى رضوان الله عز وجل.
والنفس بطبيعتها دنيئة، فما لم ترفعها بالهمة العالية، فإنها تبقى في الدرك الأسفل، راكنةً إلى الدنيا متلطخة بأوحالها وأوضارها، ومن جميل قول عبد الوهاب عزام: (إن الإنسان لابد أن يأخذ نفسه بالهمة ليرفعها حتى تُحلّق)، ويقول عن النفس: (إن لم تشغلها بالعظائم، شغلتك بالصغائر، وإن لم تُعملها في الخير، عملت في الشر، إن في النفوس ركوناً إلى اللذيذ والهين، ونفوراً عن المكروه والشاق، فارفع نفسك ما استطعت إلى النافع الشاق، ورُضها وسُسْها على المكروه الأحسن حتى تألف جلائل الأمور وتطمح إلى معاليها، وحتى تنفر عن كل دنيئة، وتربأ عن كل صغيرة، علّمها التحليق تكره الإسفاف، عرّفها العز تنفر من الذل، وأذقها اللذات الروحية العظيمة تحقر اللذات الحسية الصغيرة).
متى ما ذاق الإنسان لذة الإخلاص والطاعة علت همته في مثل هذا، ولذلك يقول ابن القيم في فوائده: (الكيس يقطع من المسافة بصحة العزيمة وعلو الهمة وتجريد القصد وصحة النية -مع العمل القليل- أضعاف أضعاف ما يقطعه الفارغ من ذلك مع التعب الكثير والسفر الشاق!!).
فهذا ينبغي أن يفطن له الإنسان المؤمن، وهذه التزكية والهمة لها آثارها الحسنة بلاشك، التي فيها نور القلب، كما قال بعضهم: (استجلب نور القلب بدوام الجد).
أي: باستحضار الهمة والجد في الطاعات.
ثم إذا جاءت الهمة، فأي باب من الأبواب تصرف فيه الهمة؟! أول باب من أبواب الهمة، وهو أعظم باب في الأمور العملية باب الفرائض، وأدائها، والمحافظة عليها، وكمالها، وقد يقول قائل أيضاً: إن الفرائض أسهل الأمور، يعني أن كل أحد مقبل عليها ومطبّق لها.
فنقول: نحن نحتاج إلى فقه في مثل هذا الأمر، لندرك أثر هذه الفرائض في التزكية، وكيف يكون كمالها، ليحصل كمال التزكية.
يقول بعض السلف: (لم يضيع أحد فريضة من الفرائض إلا ابتلاه الله بتضييع السنن، ولم يبتل أحد بتضييع السنن إلا أوشك أن يبتلى بالبدع!!).
فانظر إلى هذا التدرج، كم في التزام الفرائض من وقاية للقلب من مثل هذا الزلل والزيغ؟! نسأل الله -سبحانه وتعالى- السلامة، والحديث القدسي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العزة والجلال يؤكد أهمية الفرائض، وهو قوله جل وعلا في الحديث: (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه).
وأيضاً يوجد حديث عجيب يبين لنا أهمية هذا الأمر، والحاجة إليه، وأن القضية تحتاج إلى كمال في أداء الواجبات، والله جل وعلا ما قال: صلوا! وإنما قال: (أقيموا الصلاة)؛ لأن قيامها يحتاج إلى أمور كثيرة، يقول أبو الدرداء: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فشخص ببصره إلى السماء، ثم قال: هذا أوان يُختلس فيه العلم من الناس حتى لا يقدرون منه على شيء.
فقال زياد بن لبيد الأنصاري: كيف يُختلس منا وقد قرأنا القرآن، فوالله لنقرأنه ولنقرئنه أبناءنا ونساءنا -فلم يفهم زياد إلا مجرد الظاهر- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ثكلتك أمك يا زياد! إن كنتُ لأعُدّك من فقهاء أهل المدينة! هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم؟! قال جبير بن نفير -راوي الحديث-: فلقيت عبادة بن الصامت فقلت له: ألا تسمع ما يقوله أبو الدرداء؟! قال: صدق، إن شئتَ حدثتك بأول علم يرفع من الناس، الخشوع، يوشك أن تدخل المسجد الجامع فلا ترى فيه خاشعاً) رواه الترمذي.
إذاً: أليست الفرائض بحاجة إلى أن تكون أول زاد يُقبِل به العبد على الله سبحانه وتعالى، تزكية لنفسه مع استكمالها، والإتيان بها على وجهها؟! والذي يتأمل يجد النصوص في أمر الفرائض كثيرة، فإن هذه الفرائض -من حكمة الله- هي أعظم ما يزود القلب والنفس بالخير، والتزكية والتطهير، مثلاً: يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله، كانت خطواته إحداهما تحط خطيئة، والأخرى ترفع درجة).
والآثار، والأذكار، والأحاديث الواردة في أمر الصلاة، وفضل شهودها في الجماعات كثيرة جداً.
لماذا كل هذا التقديم والتفضيل والتعظيم؟ إنما هو لما لها من عظيم الأثر، والفوائد الكثيرة، وهناك شواهد يحتاج الإنسان أن يتأملها في سيرة السلف؛ حتى ندرك هل نحن قائمون بالأمر كما يجب؟! قيل للأحنف بن قيس: إن فيك أناة شديدة -يعني: تُؤَدة وبصيرة وتروّي- فقال: قد عرفت من نفسي عجلة في صلاتي إذا حضرت حتى أصليها!! وهذا المعنى يمر علينا مرور الكرام دون أن نتأمل فيه، لكن لو تأملنا: هل يعجل الإنسان إلى صلاته إذا حضرت؟! وأنا هنا أخاطب كثيراً من الملتزمين، والوعاظ، والطيبين، والصالحين فضلاً عن غيرهم، فتجد الواحد منا حين يؤذن المؤذن يقول: ما زال هناك وقت إلى الإقامة!! وما تأتي فريضة من الفرائض إلا وتجد هناك جمعاً ليس بالقليل يقومون لقضاء ما فاتهم من صلاتهم.
واستمع إلى ما قيل في وصف إبراهيم بن ميمون في سمته، قالوا: كان فقيهاً، وكانت صنعته الحدادة، قال ابن معين: كان إبراهيم بن ميمون إذا رفع المطرقة فسمع النداء لم يردّها!! ولم يكمل طرقته.
انتهى الأمر الآن، وانتقل من حال الدنيا إلى حال الآخرة، سارع إلى الطاعات وأجاب نداء الفريضة.
هذا السِّباق هو الذي يؤهل النفس لأن تقبل على الطاعة، وأن تكون مهيأة بفراغ الوقت، وفراغ العقل من الشغل، والتقرب بالتلاوة والذكر والاستغفار والدعاء.
إذا أراد أحدنا أن يحضر مناسبة أو وليمة، هل يذهب دون أن يتفقد هيئته ولباسه وسمته؟! ثم هل يذهب متأخراً لا يبالي هل يدرك الوليمة أم لا؟! فكما أننا نتهيأ لمثل هذه المناسبات -بل ونسارع إليها- فالأجدر بنا أن نولي أعمال الآخرة اهتماماً أعظم!! ولو تأملنا سير السلف وشدة مسارعتهم إلى الطاعات لرأينا أن الفرق بيننا وبينهم كما بين الثرى والثريا.
هذا بشر بن الحسن يُلقّب بالصَّفي -نسبة إلى الصف- لماذا؟ قالوا: لأنه لزم الصف الأول في مسجد البصرة خمسين سنة.
وربما لو أراد أحدنا أن يواظب على الصف الأول خمسين يوماً لعجز عن أن يتم نصف هذه المدة!! بل كم من المرات تفوتنا الجماعة ثم نصلي متأخرين أو منفردين.
واسمع إلى سليمان بن حمزة المقدسي ماذا يقول عن نفسه؟! يقول: لم أُصلّ الفريضة قط -منفرداًً- إلا مرتين، وكأني لم أصلّهما.
بينما ربما نحن في اليوم الواحد أحياناً نصلي الفريضة منفردين مرتين أو أكثر، والجاد منا قد يصلي الفريضة في الأسبوع مرتين أو أكثر منفرداً!! سيما الفجر أو بعض الفروض، نسأل الله سبحانه وتعالى السلامة.
المقصود: أن تكون الهمة والخشوع على أتمّ وجه وأكمله في الصلاة وكذا في بقية الطاعات، فليس المقصود -فقط- الظواهر التي تبدو للناس.
ولذلك فَقِهَ السابقون هذا الأمر، فقد روي عن أحدهم أنه قال: (إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى فاغسل يدك منه) أي: إذا تهاون في التكبيرة الأولى -تكبيرة الإحرام- مع الإمام، فاغسل يدك منه.
يعني: أنه ليس على رسوخ في الطاعة، والإقبال، والإخلاص، والتزكية لنفسه كما ينبغي أن يكون.
وهذا الأمر لا شك أنه ظاهر من حيث المعنى الظاهر والحكم، لكننا نفتقد كثيراً من جوانبه من حيث التحقق التام والكامل.
والحق أن المجالات المتبقية من التزكية فيها من النصوص والقول والتطويل شيء كثير، ولها أهميتها العظمى والكبرى، فبعد أداء الفرائض هناك النوافل، وقيام الليل على وجه الخصوص؛ لأن فيه خلوة، والخلوة يحلو فيها الذكر، والذكر من المواضيع المهمة، ومن أهم أبواب الذكر ذكر الآخرة والموت، وهو من أعظم أسباب حياة القلوب.
ومن بعد ذلك كله تزكية النفس في معاملتها مع الآخرين ومع الناس أجمعين، ثم آثار هذه التزكية، وليس من الممكن مطلقاً أن نوجز القول فيما بقي من هذه الأمور المهمة؛ لأن طيّها والعجلة فيها يبخسها حقها، ويحرمنا من نفعها في الحقيقة، خصوصاً وأنها تتعلق بكثير مما نحتاج إليه جميعاً.(168/19)
الأسئلة(168/20)
ذكر المراجع والمصادر في المحاضرات
السؤال
حبذا لو تذكر المرجع والمصدر، مع الجزء والصفحة عند نقل النصوص.
الجواب
هذا قد يكون مستحسناً، ولكن كما يُقال: هذا سرُّ الصنعة، فلو ذكرت المراجع لانتهى الأمر، لكنها ملاحظة جيدة نذكرها في الدروس القادمة إن شاء الله.
وبالجملة: فإن كثيراً من كلام ابن القيم رحمة الله عليه مستقى من مدارجه وفوائده، ففيهما الكثير مما يتعلق بهذه المعاني، وما ذكرت من القصص أكثره من سير أعلام النبلاء، ومن تراجم بعض العلماء والصالحين مما يناسب مثل هذه الموضوعات، وكذلك من كتب معاصرة مثل: (كتاب الرقائق) للراشد، فإن فيه أيضاً جملة من المعاني المتعلقة بتزكية النفوس وتطهير القلوب.
ولكن ذكر المراجع والمصادر فيما ينقل من نصوص قد يصرف -أحياناً- عن مقصود الدرس والتفاعل معه بالنسبة للذي يلقيه، فلو ذكرنا أحياناً المصدر، ومرة أهملناه، فلا بأس إن شاء الله.
ومن أراد مزيداً من ذكر المصادر فيمكن -بطلب خاص- أن يُعطى ذلك.(168/21)
أحداث الجهاد في أفغانستان وواجبنا تجاهها
السؤال
نرجو تبشير المسلمين بأخبار المجاهدين الأفغان؟
الجواب
الحق أن هذه التذكرة جيدة، ومناسبة ومهمة في نفس الوقت، وإن كان سبق -بفضل الله وتوفيقه- الحديث في خطبة الجمعة عن هذا الموضوع.
وخلاصة الأمر بالنسبة للأخبار، من ناحية الوقائع: أن الله سبحانه وتعالى يسّر وتفضل على عباده المجاهدين في أرض أفغانستان بأن سهل لهم جملة من الانتصارات المتوالية يوشك إن شاء الله جل وعلا أن تتم بتمام النصر وسقوط الأعداء ودولتهم، واندحار قوّتهم بإذن الله.
فقد استسلمت حامية قندهار، وسقطت كثير من المناطق حول كابل مثل: قندس، ودرديز، وبعض المناطق الأخرى، وسقطت أيضاً قاعدة باجرام، ومطار كابل أيضاً، وكذلك منذ قريباً من ليلتين تقدم المجاهدون واستولوا على منطقة من ضواحي كابل اسمها: خير خان.
والأخبار تذكر أنهم في تقدم مستمر، وأنهم الآن في داخل كابل، وما زالت هناك معارك مستمرة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق وأن يتمم لإخواننا نصرهم.
ألخص ما ذكرته في خطبة الجمعة من الكلام عن واجبنا نحو هذا النصر فأقول: أول واجب: هو الشكر، فقد ورد أن النبي عليه الصلاة والسلام لما دخل مكة فاتحاً دخلها وهو مطأطئ رأسه وهو على ظهر دابته شكراً لله سبحانه وتعالى، فإنما النصر من عند الله سبحانه وتعالى، فينبغي أن نشكر الله -جل وعلا- على هذا الأمر.
الأمر الثاني: أنا نلمح -والله أعلم- أن هذا النصر في هذا الوقت يأتي برداً وسلاماً على عباد الله المؤمنين، إذ إن الهجمة تشتد ضراوتها على المسلمين، والعذاب والابتلاء يُصب عليهم، وحرب الإبادة تضربهم وتحيط بهم في كثير من البلاد، سواء في البوسنة والهرسك أو في غيرها.
أيضاً نجد أن هذا الأمر يحيي الأمل في القلوب، ويفرح المسلمين، وكما يتحدث الناس عن النكبات، وعن الكوارث، والدماء والمصائب المتوالية على الأمة، فكذلك يأذن الله سبحانه وتعالى بأن نتحدث عن فتح وفرج ونصر من الله سبحانه وتعالى!! وأشرت أن في ذلك دروساً عديدة: منها: أن النصر مع الصبر، فلما صبروا وصابروا أكرمهم الله سبحانه وتعالى بهذا النصر، وهذا بسبب الثقة بالله، وبدين الله، وبوعد الله، فلو لم يثقوا لانقطعوا وما صبروا.
كذلك من الدروس: الصورة الواقعية لوحدة المسلمين، إذ انخرط في هذا الجهاد أبناء الإسلام على اختلاف جنسياتهم وبلدانهم في غالب الأحوال، فإن تلك الديار كأنها جامعة للدول الإسلامية، هذا من بلد، وذاك من بلد، وذاك من بلد، ليدللوا على أن الرابطة هي رابطة الإيمان، وأن الذي يجمع الناس هو دين الإسلام.
وأيضاً: بيان أن طريق جني الثمار إنما هو الأعمال لا الأقوال!! وكم قلنا وقال الناس وعقدت المؤتمرات والتوصيات في قضية فلسطين منذ أكثر من أربعين سنة فما حُلّت إلى الآن، والأفغان طال جهادهم، لكن السنوات التي قضوها في ذلك لحل قضيتهم أقل بكثير مما يقضيه الكثير من المسلمين لحل كثير من قضاياهم؛ لأنه ليس هناك سوى أنهم يخططون ويقولون ويعيدون، ولم يتقدموا بخطوات عملية، والله عز وجل يقول: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]، فهذا معنى مهم.
ودورنا يتمثل في أن نبادر -ونستمر- بالإلحاح في الدعاء، وكذلك تقديم البذل والعطاء، لأن بعض الناس يقول: انتهى الأمر فقد انتصروا!! وحتى لو انتصروا، وفتحت البلاد لهم، أليست هناك الحاجة لإقامة دولة؟ أليست هناك مشكلات مترتبة: عمران، وأيتام، ومشكلات أخرى؟ أنت لو أردت أن تقيم مدرسة وأُعطيت المبنى كاملاً، وأُعطيت كل ما يلزم لإقامة المدرسة ستظل أيضاً في حيص بيص حتى تُعان بأمور كثيرة؛ كي تقوم بما عليك، وتستطيع أن تكمل هذا المشروع الصغير، فماذا تقول في مثل هذا الأمر العظيم الكبير؟!! الأمر الثاني: على العلماء والدعاة وأصحاب الكلمة المسموعة أن يبادروا بالزيارة للتهنئة، وأيضاً لإبداء المشورة والرأي، وتأليف القلوب، والتقريب بين وجهات النظر، وإزالة كل أسباب الاختلاف أو تباعد وجهات النظر، وقد كان لتجربة سابقة -في أحداث كونر- أثر بالغ حينما قام بعض العلماء بالزيارة؛ فكان لهم كلمتهم المسموعة وأثرهم الطيب في تأليف القلوب وتحسين الأوضاع، وهذا من أهم الأمور.
الأمر الثالث: أن الدول الإسلامية مطالبة بالتأييد ومدّ يد العون، وسرعة تثبيت هؤلاء المجاهدين؛ ليتمم الله لهم إقامة دولة الإسلام في تلك الديار، والله سبحانه وتعالى نسأل أن يجعل في هذه الأمور كلها خيراً -إن شاء الله- للإسلام والمسلمين.
وهناك من يتساءل عن دور العلماء والدعاة فيما يجري للمسلمين من الابتلاء في بعض الديار الإسلامية، مثل: تونس والجزائر وغيرها، والحق أن مثل هذا الأمر أول ما يجب فيه الحاجة إلى معرفته، وتتبع أخباره، وأن نُحسّ بارتباطنا بأخوة الإسلام والإيمان، فنتفقد أحوال إخواننا ونسمع أخبارهم، ونحن حين نسمع هذه الأخبار فلابد أن نسمع ما يثير الفزع في القلوب، ويدميها حزناً وألماً، ولكن هذا يفيدنا في معرفة ضراوة الأعداء.
ليست المسألة فقط مسألة السجن ولا الضرب، وإنما كل ألوان الفتنة والتعذيب بما لا يتصوره عقل، وهذا ليس بمبالغة، فمن سمع وتتبع فسيجد أموراً لا تخطر على عقول شياطين الجن، ولكن عملها شياطين الإنس من الظلمة والطغاة عليهم من الله ما يستحقون! وواجبنا الدعاء والعطاء، وأن نوطن النفوس على أن تكون أعظم إخلاصاً لله، وقرباً منه سبحانه وتعالى؛ ليكون في ذلك صلاحنا وصلاح إخواننا إن شاء الله.(168/22)
قسوة القلب والاغترار بفعل الطاعات وثناء الناس
السؤال
سائل يسأل عن قسوة القلب، وما السبيل إلى لين القلوب، ثم يقول: عندما أعمل الطاعات أو أي عمل خير كصوم التطوع أفرح بذلك، ويداخلني الغرور إلى نفسي، ولكن ما أن تنقضي تلك الطاعة حتى أعود إلى الغفلة؟!
الجواب
أما الأمر الأول: ينبغي للإنسان ألا يُجحف نفسه، فإن الشيطان يُلبّس عليه، لاشك أنك تفرح إن كنت طائعاً، هل تحزن إذا أطعت الله؟ لا.
ولكن -انتبه! - لا تفرح فرح الغرور، ولو ذكر الناس خيرك فاحمد الله، ولكن لا تجعله سبيلاً إلى فتنة قلبك وصرفك عن مراد الله، فإن النبي عليه الصلاة والسلام -كما في صحيح مسلم - سئل عن ذلك قال: (ذلك عاجل بشرى المؤمن).
فمن تعجيل البشرى للمؤمن بالقبول: أن يثني عليه أهل الإيمان والصلاح والخير، وأمة الإسلام لا تجتمع إلا على خير حتى في ثنائها وفي تزكيتها، مرت جنازة على الصحابة فأثنوا عليها خيراً فقال صلى الله عليه وسلم: (وجبت)، وأثنوا على الأخرى بشر فقال: (وجبت)، ثم قال: (أثنيتم على الأولى خيراً فوجبت لها الجنة، وأثنيتم على الأخرى شراً فوجبت لها النار، أنتم شهداء الله في الأرض).
فاجتماع الصالحين والأخيار على شيء فالغالب أنه يكون حقيقة، فيفرح الإنسان بمثل هذا، لكنه ينقص نفسه مقدارها، ولا يرضى بالوصول إلى هذا الحد، بل يطلب المزيد، وهذا الذي ينبغي أن يكون عليه المؤمن.(168/23)
ترك العمل بحجة عدم الإخلاص
السؤال
بعض الناس -وخاصة الشباب- يتركون بعض الأعمال الصالحة ويزهدون فيها كحفظ القرآن، والصلاة في القيام، ونحوها من العبادات، بحجة أنه قد يصيبهم الرياء وعدم الإخلاص؟
الجواب
قال الفضيل: العمل لأجل الناس رياء، وترك العمل لأجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما.
كيف يدخل عليهم الرياء في قيام الليل؟ أنت تقوم في الليل في بيتك حيث لا يراك أحد، حتى ذُكر في وصف بعض السلف -من شدة حرصهم على الإخلاص- أنهم عند قيام الليل لا يشعلون أنوارهم حتى لا يعلم أنهم استيقظوا!! ففي قيام الليل لن توقظ الجيران أو تعلن لأهل البيت، فهذا أمر من الأمور التي سيأتي ذكرها إن شاء الله، وفيها قُربٌ من الإخلاص.(168/24)
الحقد على المسلمين أو بغضهم من أمراض النفوس
السؤال
أشعر -أحياناً- بحقد وبغض على إنسان!! ولكني أحاول التغلب على ذلك بالدعاء، فما نصيحتكم؟!
الجواب
هذا يأتي في مسألة معاملة الآخرين، وأذكر مقالة واحدة تُبين لنا خطورة هذا الأمر، وفي نفس الوقت أهميته: كتب رجل لبعض الصالحين من السلف يقول له: إني أحسبك من أهل الصلاح والخير، فاذكر لي ما أنت عليه كي أصنع مثله؟! فماذا ردّ عليه ليبين لنا فقه الأمر، ومعرفة النفوس؟ قال: أتاني كتابك، تسألني أن أكتب إليك بما أنا عليه، فأُخبرك أنني عرضت على نفسي أن تحب للناس ما تحب لها، وتكره لهم ما تكره لها، فإذا هي من ذاك بعيدة.
ثم عرضت عليها مرة أخرى ترك ذكر الناس إلا من خير، فوجدت الصوم في اليوم الحار أيسر عليها من ذلك! هذا أمري، والسلام!! وهذا يدل على أن مغالبة النفوس أمر صعب، ولم يبعد ابن القيم لما قال: إن الرياء والحسد، والسرور والفرح بأذى المسلمين، والشماتة بهم أعظم الكبائر، بل قال عين الحق وعين الصواب، رحمة الله عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين، وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(168/25)
الصفحة الجديدة
النفس البشرية بطبيعتها تميل إلى الشهوات والملذات والهوى، ولهذا تقع في الأخطاء والذنوب، ولكن يجب على العبد أن يحاسب نفسه، ويمنعها عن الشر، ويدفعها إلى الخير دفعاً، وإن وقع في شيء من المعاصي والهفوات فليرجع إلى الله عز وجل، وليتب إليه، وليفتح صفحة جديدة يحرص أن يملأها بالأعمال الصالحة التي تقربه إلى الله سبحانه وتعالى.(169/1)
أحوال الناس في بداية كل أمر ونهايته
الحمد لله، الحمد لله الأول بلا ابتداء، الآخر بلا انتهاء، ليس قبله شيء ولا بعده، وكل شيء هالك إلا وجهه، أنزل كتبه، وأرسل رسله؛ ليوضح منهجه، وليهدي خلقه، أحمده سبحانه وتعالى هو أهل الحمد والثناء، سبحانه لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ، نحمده جل وعلا على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
وأشهد أن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، اختاره الله جل وعلا ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وبعثه كافة للناس أجمعين، وأرسله رحمة للعالمين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ما من خير إلا وأرشدنا إليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، فصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! الصفحة الجديدة موضوع مناسب لهذا المقام مع ختام العام، وكثيراً ما نسمع البداية الجديدة التي يتنادى لها الناس في أحوال حياتهم المعتادة كلما عرض لهم عارض أو جد في حياتهم جديد.
فالطالب في بداية عامه يبدأ صفحة جديدة فيها منهج جديد يتلقاه على أيدي معلمين أكفاء، ثم يجتهد ويبذل وسعه وطاقته، ثم يتعاون في تحصيل العلم مع زملائه وأقرانه، ثم يخوض غمار الامتحان، ويوم الامتحان يكرم المرء أو يهان.
والتاجر في نهاية عامه المالي ينظر فيما سلف ومضى، ثم يبدأ صفحة جديدة يتلافى فيها أخطاء الماضي، ويزيد من إيجابياته، ويشق طرقاً جديدة، ويفتتح آفاقاً وأعمالاً عديدة، وهو في ذلك أيضاً يختط لنفسه منهجاً، ويضع لنفسه قانوناً، ثم إنه يحاول أن يستفيد من خبرة غيره، وأن يدرس ما سلف من المشروعات التي مرت بغيره، ثم بعد ذلك يبذل جهده من عقله وفكره ومن وقته وراحته ومن تخطيطه وتدبيره حتى ينجح، ويتعاون بعد ذلك مع غيره؛ لأن مبنى الحياة على التعاون، ثم بعد ذلك يأتي في آخر عامه لينظر في حصيلته من الربح والخسارة.
وهكذا إذا كان بين بعض الناس خصام، وجاءت الفرصة للصلح والوئام قالوا: نفتح صفحة جديدة ننسى فيها الماضي، ونبدأ بداية تقوم على أسس صحيحة، وهذا نجده في حياة الناس في كل يوم وكل ظرف، ونجد عندهم في كل مرحلة عزماً جديداً وتوجها يبغون به المضي نحو الأفضل والأكمل والأحسن، وتحصيل ما يعود عليهم بالراحة والطمأنينة والسكينة، وهذا الأمر في الرحلة الكبرى، رحلة الحياة الدنيا، رحلة العبد المؤمن على هذه الأرض وهو يمضي إلى الله، وهو يمضي إلى أخراه، وهو يمضي إلى موقفه بين يدي الله، فينبغي أن يجدد كثيراً، وأن يعاهد مرارا ً وتكراراً، وأن يجدد صفحة حياته مرة بعد مرة، وكرة بعد كرة.(169/2)
رحمة الله عز وجل بالخلق
ومن رحمة الله جل وعلا أن هذه الصفحة الجديدة تأتي في آخر العام بعد موسم عظيم من مواسم المغفرة لحجاج بيت الله الحرام، ولغيرهم أيضاً بالفضائل التي ساقها الله جل وعلا لمن يعمل الخير ويبذل فيه في تلك الأيام المباركة، فكأن الفرصة مواتية لبدء هذه الصفحة الجديدة.
فلن ننسى ما مضى، ولكننا نتعظ ونعتبر به، ونحمد الله جل وعلا أن محا عنا الذنوب والخطايا، وحط عنا السيئات والرزايا، وهيأنا بقلوب مطمئنة وصدور منشرحة ونفوس راضية وعزائم ماضية، لنمضي إلى طاعته ورضوانه وقد استشعرنا خفة الحمل الذي كان يرزح فوق كواهلنا من المعاصي والذنوب والخطايا والآثام، وشعرنا بذلك الندم الذي يكون له في القلوب وخز وفي النفوس ندم وفي العيون بكاء؛ حتى نهيئ أنفسنا لنقبل على الطاعة ولنسابق إلى الخيرات.
ونجد كذلك الفرصة مواتية لما في آخر العام من ذكرى هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، تلك الهجرة التي تبين لنا كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم النموذج القدوة، وكيف ينبغي أن نمضي إلى طاعة الله، ورضوانه، فنتخطى في ذلك الصعاب، ونتجاوز العقبات، ونمضي ونحن على ثقة بوعد الله، وعلى ثقة بنصر الله؛ لأننا نمضي على منهج الله.
الصفحة الجديدة ينبغي ألا تغيب عن أذهاننا، وينبغي أن يجعلها كل منا نصب عينيه، ولعلنا في هذا المقام نذكر أنفسنا بما ساقه الله جل وعلا لنا؛ لنكون دائما ًفي هذه الحياة الدنيا على صفحة جديدة وفي بداية حميدة إن شاء الله تعالى.
فكما قلت في شأن الطالب وفي شأن التاجر: ثمة منهج ينظر أحدهم فيه، وثمة معلم يرشد إليه، وثمة جهد يبذل في سبيله، وثمة تعاون يتعارض فيه الأقران أو الأصحاب ليحققوا ثمرته، ثم بعد ذلك ثبات واستمرار ومضي حتى يلقى المرء غاية جهده وثمرة عمله.(169/3)
القرآن الكريم منهج كامل شامل
والله سبحانه وتعالى قد جعل لنا ما هو أعظم من ذلك في سيرنا إليه وفي مضينا إلى طلب رضوانه وفي السعي إلى نيل جنانه، فإنه جل وعلا قد جعل لنا المنهج النظري الكامل، وذلك في القرآن العظيم، القرآن الذي جعله الله سبحانه وتعالى المعجزة الخالدة للرسول الخاتم عليه الصلاة والسلام، كما قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38].
فكل شيء من حاجة الفرد والجماعة والأمة في هذا القرآن، وكل شيء من حاجة القلب والنفس والبدن في هذا القرآن، وكل شيء من حاجة الحياة الدنيا والأخرى في هذا القرآن، لقوله جل شأنه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، وقوله سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]، فلا شيء أكمل ولا أهدى ولا أقوم من نهج القرآن، فإنه يهدي للتي هي أقوم في أي شيء وفي أي مجال، وتبقى الآية مطلقة لتعلم المسلم أن القرآن يهدي للتي هي أقوم في شأن الدين وفي شأن العبادة وفي شأن الدنيا وفي شأن السياسة وفي شأن الاقتصاد وفي شأن الأسرة وفي شأن الحياة الاجتماعية والقضائية، وفي كل شيء من نواحي هذه الحياة، إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في كل شيء يحتاج إليه العبد في هذه الحياة.
قال عز وجل: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:105]، ويبين الحق جل وعلا ذلك التفصيل العجيب الكامل النادر في القرآن الكريم في قوله سبحانه: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} [الأنعام:114]، أي: فيه تفصيل كل شيء، كما قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:89].
فأي فضل أعظم وأي منة أكبر على أمة الإسلام من قرآن تكفل الله بحفظه فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، وذكر كماله فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]؟ فلا نحتاج إلى تفكير ولا إلى تدبير، ولا نحتاج إلى مقارنة ولا إلى مقايسة، ولا نحتاج إلى اقتباس؛ فإن بين يدينا منهجاً ربانياً قرآنياً كاملاً يشمل الحياة الدنيا والحياة الأخرى وما فيهما، ويشمل كل شيء في هذا الوجود، فالله سبحانه وتعالى جعل لنا المنهج الذي نسير عليه، ونجعل سيرتنا مرتبطة به.
ولذلك أخي المسلم! الصفحة الجديدة تقتضي صلة بالقرآن وطيدة، فرطب به لسانك، أحي به قلبك، واشغل به عقلك، وليكن أنيسك في وحشتك، وليكن نورك في ظلمتك، وليكن منهجك في حيرتك، فإن هذا القرآن شفاء القلوب وجلاء الهموم والأحزان، كما قال عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ للمؤمنين} [الإسراء:82]، إنها نعمة بين أيدينا وجوهرة ثمينة غالية أهداها الله سبحانه وتعالى إلينا، فأين نحن منها؟! وأين نحن من التعلق والالتزام بها؟! والله سبحانه وتعالى قد دعانا إلى أن تكون صلتنا بالقرآن أعظم صلة، وأن نجعل الألسنة دائما تتلو القرآن، كما قال جل وعلا في أمره لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} [النمل:92]، وكما بين في شأن أوصاف أهل الإيمان وما لهم من الثواب والإكرام والإحسان: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:29 - 30].
والأذن ينبغي أن تنال حظها من القرآن استماعاً وإنصاتاً؛ ليخلص إلى شغاف القلب وإلى أعماق النفس، فينفض غبار الشهوات، ويبدد ظلمات الشبهات، ويبعث النور وضيئاً في قلوب المؤمنين، قال عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204].
والعقل ينبغي أن ينشغل به؛ لأن الله سبحانه وتعالى دعانا إلى التدبر، ونعى على غير المتدبرين فقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، فينبغي لنا أن نتذكر هذا الأمر، وأن نتذكر أن الكون والوجود كله منصت لهذا القرآن؛ لأن الله سبحانه وتعالى أخبرنا أن الشمس والقمر والشجر والدواب كلها تسجد لله سبحانه وتعالى، وكلها تسبح بحمده، وكلها تستجيب لأمره، والمسلم إذا مضى على منهج القرآن كان مع هذا الكون المسبح للرحمن، وإذا خالفه كان شاذاً فريداً بعيداً غريباً طريداً، ولذلك من نعمة الله على أهل الإيمان أن جعلهم الله سبحانه وتعالى مع الخلق، كما هو شأن الإنس، وكذلك هو شأن الجان، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29]، هكذا ينبغي أن نحيي قلوبنا بالقرآن المنهج الذي نحتاجه، والحكم الذي نبحث عنه، والأدب الذي نفتش عنه، وكل شيء نريده من الناحية النظرية المنهجية موجود بين أيدينا في القرآن، تلك هي الوسيلة العظمى الأولى.(169/4)
رسول الله صلى الله عليه وسلم المعلم القدوة
والوسيلة الثانية: المعلم القدوة رسولنا صلى الله عليه وسلم: فهو الشارح المفسر للقرآن، وهو السورة الحية لتطبيق آداب وأحكام القرآن، إنه سيد الخلق أجمعين نبينا وحبيبنا رسول رب العالمين، قال عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، فنحن ندرك عظمة القرآن ولكن لا نعرف تطبيق أحكامه إلا إذا نظرنا إلى سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتأملنا في أحاديثه وهديه العظيم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد مدحه رب العالمين فقال جل وعلا: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
وهو الذي أنزل عليه القرآن، وهو الذي بين لنا كيف يحيا المسلم وتحيا أمة الإسلام بالقرآن، فكل الطرق إلى الله عز وجل مسدودة إلا من طريق محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى).
إنه الرحمة المهداة والنعمة المسداة، بل أعظم منة منَّ بها الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة هي بعثة محمد صلى الله عليه وسلم الرسول الخاتم الذي ختم الله به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين عليه الصلاة والسلام، وقد وصف صلى الله عليه وسلم رحمته بأمته وحرصه على هداية الخلق أجمعين بقوله: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، فجعلت الفراش والهوام يقعن فيها، وجعل يذبهن عنها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار)، فهو صلى الله عليه وسلم الذي جاءنا بالهدي الأكمل، وهو القدوة عليه الصلاة والسلام، قال عز وجل: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، وسعت رحمته العظيمة هذه الأمة الكريمة، وأفاض عليها عليه الصلاة والسلام من شفقته وعطفه، وبين لها -كما أخبر الصحابة- كل شيء يحتاجون إليه، فهذا سلمان الفارسي رضي الله عنه يقول: (لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما طائر يقلب جناحية في السماء إلا ذكر لنا منه علماً).
وفي سنن أبي داود عن سلمان رضي الله عنه قال: (علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة) أي: حتى كيفية قضاء الحاجة، فقد عرفنا سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في يقظته ومنامه، وفي حربه وسلمه، وفي رضاه وغضبه عليه الصلاة والسلام، وعرفنا حاله مع أزواجه، وعرفنا حاله مع أصحابه، وعرفنا حاله مع أعدائه، وكل شيء جاء في هذه السيرة العطرة والسنة الشريفة المطهرة، ليكون ذلك هو التطبيق العملي لمنهج القرآن الكريم، قال صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله وسنتي)، فما أعظم منة الله على هذه الأمة أن حفظ لها كتابها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، فهذا هو المنهج النظري وهذا هو التطبيق العملي.(169/5)
أهمية المجاهدة الصادقة
وبعد ذلك ينبغي أن تكون هناك وسيلة ثالثة، فإن القرآن والسنة كانا على مر العصور، ولكن كان هناك في بعض الأحوال اختلاف ومخالفة وبعد، ولذلك ينبغي أن نأخذ بالأمر الثالث وهو المجاهدة الصادقة، فعلينا أن نجاهد أنفسنا لنلتزم كتاب ربنا ونقتدي بهدي نبينا صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه وتعالى قد وعد ووعده الحق فقال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، فلا يمكن أن ننال ثمرات الإيمان ولا أن ننال خيرات الإسلام ونحن نائمون كسالى عاجزون كل بضاعتنا هي الأماني والأحلام والأوهام.
إن محمداً صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام جاهدوا أنفسهم حتى هاجروا، وخلفوا الأرض والديار، وخلفوا الأموال والثمار، وخلفوا الأهل والأبناء.
إن محمداً صلى الله عليه وسلم وصحبه جاهدوا أنفسهم فخاضوا المعارك، وضربوا بالسيوف، وطعنوا بالرماح، وسالت منهم الدماء.
إن محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه جاهدوا أنفسهم فخرجوا من الجزيرة شرقاً وغرباً لينشروا نور الله، وليبلغوا دعوة الله، وليرفعوا راية الله، وليعلنوا عزة الإسلام في كل مكان.
إن محمداً صلى الله عليه وسلم وصحبه أحيوا ليلهم قياماً لله عز وجل حتى تفطرت الأقدام، وانسكبت الدموع، وسجدت الجباه، وتحركت القلوب، ونطقت الألسن تضرعاً وتذللاً بين يدي الله سبحانه وتعالى.
إن سلفنا الصالح رضوان الله عليهم أقاموا أعظم حضارة دنيوية في الدنيا؛ لأنهم أسسوها على نهج الإيمان، وأقاموها على منهج الإسلام، فينبغي أن ندرك أن هذا الدين لا يتحقق في هذه الحياة إلا بجهد وجهاد من أبناء المسلمين، وأن هذا الدين لا يهدى للكسالى والعاجزين، كما قال الشاعر: إسلامنا لا يستقيم عموده بدعاء شيخ في زوايا المسجد ينبغي أن ندرك أنه لا بد لنا من مجاهدة للنفس حتى نستقيم على أمر الله، ونترك الإخلاد إلى الدنيا والركون إليها والانشغال بها والتعلق والتلذذ بشهواتها وملذاتها، وينبغي أن ندرك أننا في حاجة إلى عزيمة ماضية وإيمان قوي ويقين راسخ؛ حتى نتجاوز كل هذه الجواذب كما تجاوزها النبي عليه الصلاة والسلام وصحبه الكرام والعلماء والأئمة من أمة الإيمان.
أما كيف تجاوزوا ذلك؟ فتجاوزوه عندما جاهدوا أنفسهم ليهتدوا بالقرآن؛ وليقتدوا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ وليجددوا سيرة الأصحاب رضوان الله عليهم، فعندما فعلوا ذلك جاءتهم الآثار، وانبسطت بين يديهم الثمار، وكانت حياتهم مثلاً عظيماً من أمثلة تطبيق الإسلام التزاماً بالقرآن واتباعاً للرسول صلى الله عليه وسلم، فينبغي في هذه المجاهدة أن نستشعر المراقبة والمحاسبة، وينبغي أن نجدد ذلك النهج العظيم الذي كان عليه السلف الصالح، نهج يقظة الضمير والمراقبة الدائمة لرب العالمين، نهج لم يكن فيه شقاق ولا خصام ولا اعتداء ولا حاجة لتوسع القضاء وتشعب القضايا؛ لأن الناس كانوا يراقبون ربهم، وكانوا يستشعرون قول الله جل وعلا: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]، ويعلمون حقيقة قوله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:5 - 6].
إن المجاهدة تعني: أن نتحقق بمعنى الإحسان الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، أن نتذكر قول أحد السلف رضوان الله عليهم لما سئل: كيف الطريق إلى غض البصر؟ فقال: علمك بأن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى ما حرم عليك يردعك عن ذلك، فإن لم يردعك الخوف من الله فليردعك الحياء من الله، وكلاهما لا يكون إلا باستشعار مراقبة الله.
قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59]، فينبغي أن نستشعر ذلك، وانظروا إلى واقعنا! لو كان الناس يراقبون ربهم لما اعتدى بعضهم على بعض، ولما وجدنا هذا الأكل للأموال بالباطل، ولما وجدنا هذا الاعتداء الغاشم الظالم، ولما وجدنا هذه المفاسد والفواحش التي استهان بها الناس كأنهم لا يراهم ربهم، وكأنهم لا يستحيون من خالقهم، وكأنهم لا يعظمون نعمة ربهم وفضله عليهم سبحانه وتعالى، وكأنهم يسيئون انتسابهم إلى هذا الدين وإلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، فينبغي لنا أن نحقق هذه المراقبة، وأن نستشعر المحاسبة، كما قال عمر رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، وتهيئوا للعرض الأكبر).
قال عز وجل: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14]، وقال سبحانه: {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، وقال عن أهل الإيمان: {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد:21]، وقال عز وجل: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41].
فينبغي أن نحقق هذه المجاهدة، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا ثمارها، وأن يجعلنا مستقيمين ثابتين عليها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(169/6)
أهمية التعاون على البر والتقوى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد صادق الوعد الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم دافع لإقبال العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى أن يكون المرء مراقباً لله، مستشعراً لعظمة الله، خائفاً من عذاب الله، فإن ذلك فيه -بإذن الله- وقاية عن معصية الله وبعد عما حرم الله.
وإن الوسيلة الرابعة المهمة هي التعاون على البر والتقوى: قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]، والمؤمنون إخوة، والمسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله، فينبغي أن نتعاون على الطاعات، وأن نتكاتف لإحياء معاني الإيمان في القلوب، وأن نتآزر لننفي عن بيئاتنا ومجتمعاتنا المنكرات والمحرمات.
إن هذه الأمة فضلت لأنها أمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، فضلت لأنها أمة بعضها لبعض نصحة، والمنافقون والكافرون بعضهم لبعض غششه، قال جرير رضي الله عنه: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فزادني: والنصح لكل مسلم) أي: النصيحة الرفيقة الشفيقة، النصيحة الحكيمة الودودة، التعاون على البر والتقوى، والدعوة إلى الخير، وشعور المسلمين بأنهم جسد واحد، فإن لم يتحقق في الأسرة الواحدة وفي الحي الواحد بين الجيران فكيف تريد أن يتحقق في أمة الإسلام على اختلاف أصقاعها وتباين بيئاتها ولغاتها، قال صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) رواه مسلم، وفي رواية أخرى: (المسلمون كجسد واحد إذا اشتكى رأسه اشتكى كله، وإذا اشتكى عينه اشتكى كله)، فأين التراحم والتلاحم؟ وأين الذي يجد من يعظه ويذكره إذا نسي؟ ومن يزجره وينهاه إذا أخطأ، ومن يشجعه ويدعوه إذا أقبل؟ هل نتعاون في ذلك كما نتعاون في أمور الحياة الدنيا؟ ترون أهل العمارة الواحدة قد يتفقون على من يحرس لهم عمارتهم، ويتفقون كيف يؤمنون الماء إذا كانوا يحتاجون إليه، ويخصصون حصصاً مالية بينهم، لكننا لم نسمع كيف يوقظ بعضهم بعضاً لصلاة الفجر، ولا كيف يجعلون من وقتهم في أسبوعهم كله ساعة واحدة يتلون فيها كتاب الله، أو يقرءون شيئاً من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم! إن انعدام التعاون وضعف النصيحة وخلو المجتمع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو سبب من أسباب الهلاك والدمار، ويعود على الناس جميعاً حتى الصالحين؛ لأن الصالحين إن لم يكونوا ناصحين يوشك أن يكون في صلاحهم فساد وخلل.
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا في سفينة، فكان بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا أرادوا الماء صعدوا إلى من فوقهم، فقالوا: لو خرقنا في نصيبنا خرقاً فاستقينا الماء ولم نؤذ من فوقنا، فلو تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعاً، ولو أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً)، فالتعاون ينبغي أن نحرص عليه، والرفقة الصالحة فضل عزيز مهم في هذه الحياة، كما في الحديث: (المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)، فإذا وجد بين أيدينا المنهج النظري في القرآن الكريم، والمنهج العملي في سيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وجاهدنا نفوسنا، وبذلنا بصدق وإخلاص من أعماق قلوبنا وخفايا نوايانا ومن حر مالنا ومن جهد أبداننا ومن المهم من أوقاتنا لنطيع الله سبحانه وتعالى، ثم كان بيننا تعاون وتكاتف على البر والتقوى، وإحياء معاني الإيمان، وإشاعة العلم بهذا الدين، والدعوة إلى رب العالمين، وتشجيع الناس على الطاعات، ونهيهم عن المنكرات والمحرمات؛ فسنجد أننا بالفعل قد بدأنا صفحة جديدة.
فليست كلمة (صفحة جديدة) هي كلمة نرددها، أو هي أسلوب نعتاد أن نقوله كلما جاءت نهاية عام أو بداية عام، بل ينبغي أن نذكر هذه النعم والمنن التي ساقها الله إلينا، فقد كفينا أمر المنهج، وكفينا أمر تفسيره وتطبيقه، وبقي علينا جهاد نفوسنا الضعيفة المريضة، فعلينا أن نعالجها، وأن نجاهدها، وبقي علينا أن نشد من أزرنا، وأن نقوي الأواصر فيما بيننا؛ حتى نستطيع التعاون، وأن نتغلب على شهوات النفوس وعلى فساد البيئات، وأن نكون كما أراد الله سبحانه وتعالى فيما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً).
فنحن عند أن نكون في المسجد نلصق الكتف بالكتف، ونصلي مع بعضنا، لكن كثيراً منا لا يعرف الآخر، ولا يسأل عن حاله، ولا يسعى لمنفعته، ولا يسعى لدفع الضر عنه، وسبب ذلك هذه الأواصر التي ضعفت، وهذه العلائق التي انقطعت، فإنها سبب من أسباب ضعفنا في ديننا، ومن أسباب بعدنا عن هدي نبينا صلى الله عليه وسلم، ومن أسباب مخالفتنا وإعراضنا عن كتاب ربنا.
نسأل الله جل وعلا أن يحيي قلوبنا بالإيمان، وأن ينور بصائرنا بالقرآن، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا بكتابه مستمسكين، وعلى هدي نبيه صلى الله عليه وسلم سائرين.
اللهم اجعلنا ممن يحل حلال القرآن ويحرم حرامه ويعمل بمحكمه، ويؤمن بمتشابهه.
اللهم اجعله حجة لنا ولا تجعله حجة علينا.
اللهم اجعلنا لرسولك صلى الله عليه وسلم متبعين، وفي محبته صادقين مخلصين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، وأن تجعلنا هداة مهديين.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا.
اللهم جدد في القلوب إيماننا، وجدد في الحياة أخلاقنا على ما يرضيك يا ربنا.
اللهم وفقنا لما تحب وترضى واصرف عنا ما لا تحبه وترضاه.
اللهم ارزقنا الصالحات والخيرات، واصرف عنا الشرور والسيئات، واغفر اللهم لنا ما مضى وما هو آتٍ، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين.
اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه يا سميع الدعاء.
اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، وأرنا فيهم يوماً أسود قريباً يا سميع الدعاء؛ اللهم زلزل الأرض تحت أقدامهم، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم لا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، اللهم فرق كلمتهم، ودمر قوتهم، واستأصل شأفتهم، واجعل بأسهم بينهم يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار؛ يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء! اللهم إنهم قد طغوا وبغوا وتجبروا، اللهم إنهم قد أذلوا عبادك المؤمنين، وانتهكوا حرمات المسلمين، اللهم فأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز يا متين، اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والمرضى والثكالى والعجزى يا رب العالمين! اللهم الطف بإخواننا المعذبين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وأجب دعوتهم، وفرج كربتهم يا حي يا قيوم؛ اللهم اجعل ما قضيت عليهم زيادة في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين.
اللهم إنهم حفاة فاحملهم، عراةً فأكسهم، خائفون فأمنهم، جائعون فأطعمهم، مشردون فسكنهم يا رب العالمين، اللهم ارزقهم الصبر على البلاء، والرضا بالقضاء، اللهم عجل فرجهم، وقرب نصرهم يا رب العالمين! اللهم واجعلنا في نصرتهم عاملين، اللهم واجعلنا لنصرة دينك باذلين منفقين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم سدد رميتهم، ووحد كلمتهم، وأعل رايتهم، وقو شوكتهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولاتنا لهداك، واجعل عملهم في رضاك، وارزقهم البطانة الصالحة التي تعينهم على الحق والخير يا رب العالمين.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي، وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
والحمد لله رب العالمين!(169/7)
المرأة بين الحرية والاستقلالية
لقد أعلى الإسلام مكانة المرأة، وأعطاها حقها في كل شيء، فأعطاها حقها في التصرف المالي، وفي اختيار الحياة الزوجية، وفي شهود العبادة مع الجماعة بالضوابط المعروفة، وكذلك اعتبر قولها في الرأي والمشورة، وحسن التدبير والتصرف، وغير ذلك، وهذا فيه رد على أولئك الأفاكين أصحاب الشهوات والنزوات البهيمية الذين يريدون من المرأة أن تكون سلعة تباع وتشترى، فالإسلام حفظ للمرأة كامل حقوقها، وصانها من كل شر، وأعطاها من الحقوق ما لا يمكن أن تحصل عليها في غيره.(170/1)
حقيقة الحرية في الإسلام
الحمد لله رضي لنا الإسلام ديناً، وحفظ لنا القرآن دستوراً وشرعاً، وأكرمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، نحمده جل وعلا على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، اختاره الله جل وعلا ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله كافة للناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:(170/2)
تشويه مكانة المرأة في الإٍسلام
أيها الإخوة المؤمنون: (المرأة بين الحرية والاستقلالية والعبودية والتبعية) هذا موضوع من الموضوعات المهمة التي تبرز مكانة المرأة في الإسلام وإظهار حقوقها ورعايتها وحمايتها في دين الله عز وجل، وبالمقارنة تتضح أيضاً معالم الجاهلية التي تبخسها حقها، والتي تفرط في مكتسباتها، والتي تجعلها نهباً للخوف ولكل ما يتعلق بالاعتداء على عفتها وشرفها وأنوثتها وحيائها.
والحرية كلمة جميلة وشعار مغر هو كالمساواة التي سبق الحديث عنها، تدغدغ به المشاعر وتستمال به القلوب وتضل به العقول؛ لتخرج من شرع الله عز وجل، ومن الميزان العدل والحرية الحقة التي شرعها الله جل وعلا العليم بخلقه: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، فيدعى للمسلمين ويشاع بينهم أن في شريعتهم بالنسبة للمرأة قيوداً، وأن في ذلك أيضاً ضرباً من العبودية والتبعية والاضطهاد والظلم للمرأة، وإلغاء شخصيتها ومصادرة استقلاليتها، إلى غير ذلك مما يشاع ويذاع، وقد يغتر به بعض الجهلة من المسلمين، ويتشدق به بعض المفتونين بالكافرين من غربيين وشرقيين، ولذا فإن بيان هذا الأمر وتجليته ينبغي أن يكون مما يحرص عليه المسلم والمسلمة؛ ليكون على بينة من أمره، وليكون المجتمع المسلم مجتمعاً متماسكاً عارفاً أحكام شرع الله، مطلعاً على الحِكَم والمنافع والمصالح التي تنتج من التزام أمر الله سبحانه وتعالى.(170/3)
الفوضى المطلقة ليست من الحرية
عندما يتأمل المرء في تشريع الإسلام يجد أنه أعطى المرأة الحرية والاستقلالية الكاملة التامة فيما ينفعها ويعود عليها بالخير والصلاح.
وإذا وجد ما يظنه بعض الناس قيوداً فإنه لابد أن يعلم أن الحرية لا يمكن في أي مذهب ولا نحلة، ولا مجتمع ولا تاريخ قديم ولا حديث أن تكون بلا قيد مطلقاً؛ لأن معنى إعطاء الحرية لكل أحد بلا قيد أن يتعدى حدوده ليعتدي على حقوق الآخرين، وكل حرية لها حد تقف عنده، وهو ألا تُتجاوز حقوق الآخرين ويُعتدى عليها، ومن ثم فليس هناك ما يعرف بالحرية المطلقة، إلا أن يكون هناك الفوضى التي تسمى باسم الحرية؛ لأن الحرية إذا أعطيت لي على أني أنا حر في أن أصنع ما أشاء، فلأقم بكل عمل ولو كان فيه ما يضر الآخرين أو يزعجهم أو يقلقهم، فهل يقبل أحد أن يعطيني مثل هذه الحرية؟! وأنا حر في أن أمتلك ما أشاء، فهل تعطيني هذه الحرية الحق في أن أسطو أو أسرق أو أعتدي على حقوق الآخرين لأحقق حريتي؟! والحرية أيضاً في مجال الشهوات والغرائز هي أيضاً موجودة في الفطرة، فهل يقر أحد أن تكون الحرية على حساب أعراض الآخرين؟! كل هذا ينبغي أن يكون معلوماً وأن يكون من الأمور المستقرة المسلّمة عند كل أحد.
فلننظر إلى الحرية الحقة في الميادين الرئيسة، وفي الأسس المهمة في حياة البشرية، التي أعطاها الله عز وجل ووفرها شرع الله سبحانه وتعالى للمرأة المسلمة.(170/4)
حرية الاعتقاد في الإسلام للمرأة
إن هذا الدين جاء بشطر آية هي من أعظم شعاراته ومن أبلغ حقائقه: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]، فليس هناك إكراه في دين الله عز وجل على الناس سواء كانوا رجالاً أو نساء؛ أن يدخلوا في دين الله قهراً أو قسراً أو غصباً فإن ذلك ليس من شرع الله سبحانه وتعالى، وليس الجهاد كما نعلم ضرباً من هذا القهر أو الإكراه، وإنما هو ضرب من تكسير القيود وتهديم الحواجز؛ حتى يكون للناس اختيار تام فيما يعتقدون ويعتنقون.
والإسلام الذي أباح للمسلم أن يتزوج بالكتابية من أهل الكتاب لم يجعل من شرط زواجه أن تسلم، ولا من حقه أن يكرهها على الدخول في الإسلام، وإنما جعل ذلك باباً من الأبواب الذي قد يحصل به مثل هذا من خلال الإقناع والتأثر بالقدوة الحسنة.
والله سبحانه وتعالى قد بين حق المرأة المسلمة في اعتناق دينها الإسلامي وحرصها عليه وثباتها عليه، وذلك عندما نزلت سورة الممتحنة تقرر عقيدة المرأة المسلمة وحريتها، وتفرض على المجتمع المسلم أن يحميها ممن يريد أن يضطهدها في دينها: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّار} [الممتحنة:10].
ويضرب لنا القرآن المثل العظيم في استقلالية شخصية المرأة وحريتها الاعتقادية، حتى في المجال السلبي، وذلك عندما ضرب الله سبحانه وتعالى المثل بكفر امرأة نوح وامرأة لوط قال: {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [التحريم:10].
ثم ضرب لأهل الإيمان مثلاً عظيماً وهو قوله جل وعلا: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11]، انظر إلى هذا المثل، المرأة في بيت الطاغية الأكبر مدعي الربوبية والألوهية الذي قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، هذا الكافر الأعظم في بيته زوجة مؤمنة تدعو الله سبحانه وتعالى، تحافظ على عقيدتها وإيمانها وتتشبث وتتمسك به.
لقد ضرب لنا القرآن مثلاً ونموذجاً من الأمم السابقة ليبين أن للمرأة شخصية مستقلة، وأنها بإيمانها وإسلامها لشرع ربها سبحانه وتعالى تكون في أعظم قوة وفي أقوى شخصية، تتمرد حتى على فرعون الذي كان مضرب المثل في القوة والطغيان والتكبر.
وسمية أول شهيدة في الإسلام مضرب مثل عظيم تحدت أبا جهل فرعون هذه الأمة، ومرغت كبرياءه في التراب، ولم يستطع أن ينال منها كلمة تتنازل بها عن عقيدتها أو تتخلى عن إيمانها، أو تساوم في دينها أو تشتري دنياها بأخراها، فما كانت المرأة المسلمة إلا هذا النموذج الحي القوي في ثباته واستقلاليته وقوته.(170/5)
الحرية المالية للمرأة في الإسلام(170/6)
حق المرأة في التملك بالميرات والمهر
هذه أيضاً من الأمور المهمة التي جعل الله عز وجل للمرأة فيها حرية وحقاً مستقلاً وتميزاً ظاهراً بيناً، فجعل لها حق التملك في الميراث، وحق تملك المهر، وحق تملك النفقة، وحق التملك بالكسب، فلها شخصيتها المستقلة وحريتها الكاملة في مجال ما تكتسبه وما تمتلكه، وليس لأبيها ولا لزوجها حق في أن يأخذ منه شيئاً من غير طيب نفس ومن غير رضاً ومن غير قناعة.
ليست هناك الصورة الجاهلية السابقة في أن تكون المرأة من ضمن الميراث، ولا الصورة الجاهلية الحاضرة التي يمكن أن تلغي حقها بمجرد الهوى والشهوة، كلا، فقد أنزل الله عز وجل آيات تحفظ لها حقها، وتحمي حريتها من الاعتداء عليها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء:19] قرآن يتنزل وآيات تتلى لتحفظ لها استقلاليتها وملكيتها وحريتها المالية فيما اكتسبته بالطرق الشرعية، أو آل إليها من خلال إرث أو مهر أو نحو ذلك.
{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء:20 - 21] حقها لا يمكن أن ينتقص، وما هو شائع في بعض بيئات المسلمين هو ضرب من الإعراض عن شرع الله، فليس للآباء حق في مهور بناتهم ولا أن يأخذوا نسبة من نصف أو ثلث أو نحو ذلك، فكل ذلك ليس من شرع الله ولا يلصق بدين الله.
قد قلنا من قبل: إن معرفتنا للدين إنما تكون من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن التطبيق في العهد النبوي الكريم، ولا يمكن أن نجعل بعض العادات أو التقاليد أو الأعراف الجاهلية هي التي تعطينا صورة الإسلام، أو التي يحصل منها التطبيقات العملية للإسلام، فليس هذا من الحق في شيء مطلقاً.(170/7)
حق المرأة في البيع والتبرع
وانظر إلى التطبيق العملي لحق التملك وحق التصرف وحق الأهلية والاستقلالية المالية: روى مسلم في صحيحه عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها، زوج الزبير رضي الله عنه، تقول: (كان لي جارية فبعتها -يعني كما يظهر من الرواية أنها باعتها من غير إذن سابق من زوجها- قالت: فدخل الزبير وثمنها في حجري فقال: هبي هذه الأموال لي، يطلب منها الزبير وهو الزوج الذي له حق الطاعة في شرع الله عز وجل قالت: فقلت: إني قد تصدقت بها).
هذه صورة حية من داخل بيت مسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه المرأة باعت جاريتها لأن لها حق التصرف في ملكها ومالها، وليس من شرط صحة عقدها إذن زوجها وإن كانت لو أخذت رأيه أو استشارته لكان ذلك حسناً، لكن لا يترتب عليه فساد عقد ولا إبطال بيع، فلها مطلق الحرية في التصرف في مثل هذا الشأن.
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: (طلقت خالتي فأرادت أن تجد نخلها -أي: أن تقطف التمر من النخل- فزجرها رجل أن تخرج فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بلى فجدي نخلك، فإنك عسى أن تصدقي أو تفعلي معروفاً)، أي: جدي نخلك فهو ملك لك عسى أن تبيعيه ثم تتصدقي منه أو تصنعي معروفاً.
فهذه أيضاً صورة حية لاستقلالية المرأة المالية في إطار الشريعة الإسلامية.
وكذلك حديث ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها: (لما أعتقت وليدة لها فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت له: إني أعتقت وليدتي-فهو لم يكن يعلم من قبل بما فعلت، ولم يكن يترتب على إذنه صلى الله عليه وسلم صحة فعلها- فقال لها: أما إنك لو وهبتيها لأخوالك لكان أعظم لأجرك)، كما في صحيح البخاري.(170/8)
حرية المرأة في الحياة الزوجية في الإسلام(170/9)
حق المرأة في اختيار الزوج
إن للمرأة حريتها في الحياة الزوجية، فلها حريتها في الاختيار، لا الحرية التي تدعى أو تنادى إليها المرأة اليوم ليقال: إن الإسلام يمنع المرأة من الاختيار، أو أن لأبيها أن يغصبها أو يبيعها لمن شاء؛ ليكتسب من ورائها ولا يكون لها رأي ولا اختيار؛ لكن إن وجد مثل هذا في بعض بيئات المسلمين فإنه ليس من الإسلام في شيء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن).
لها مطلق الحرية في القبول أو الرفض وليس لأحد أن يكرهها، وانظر إلى التطبيق العملي في هذا الشأن وهو أمر مهم أن يظهر في بيئات المسلمين؛ لأن بعضاً منهم يمارسه بطريقة خاطئة مخالفة لشرع الله عز وجل: روى البخاري عن القاسم أنه قال: (إن امرأة من ولد جعفر تخوفت أن يزوجها وليها وهي كارهة، فأرسلت إلى شيخين من الأنصار عبد الرحمن ومجمع ابني جارية رضي الله عنهما تخبرهما عن هذا التخوف، فقالا لها: لا تخشي فإن خنساء بنت حزام أنكحها أبوها وهي كارهة فرد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك).
امرأة زوجها أبوها وهي كارهة فجاءت إلى رسول الله تشكو، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك النكاح الذي بني على غير رضا المرأة.(170/10)
حق المرأة في رفض من لا تراه صالحاً لزواجها
والتطبيق العملي يظهر أيضاً في صورة أخرى جميلة وجديرة بلفت النظر والاهتمام، تلك الصورة هي قصة مغيث وبريرة مولاة عائشة: (كان مغيث عبداً وكانت بريرة لا تحبه وهو زوجها من قبل، فقالت للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أعتقت: إنها لا تريد مغيثاً، وإنها ليس له في قلبها منزلة وقدر ومحبة من الناحية النفسية، فجعل مغيث يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: يا عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة ومن بغض بريرة مغيثاً، ثم التفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى بريرة فقال لها: ألا ترجعين إليه؟ قالت: يا رسول الله! أتأمرني؟ قال: لا، إنما أشفع يا بريرة، فقالت: فلا حاجة لي فيه).
أي استقلالية أعظم وحرية أظهر من موقف مولاة لـ عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أمام رسول الله عليه الصلاة والسلام.
قال ابن حجر في تعليقه وشرحه لهذا الحديث: فيه من الحِكَم واللطائف: أنه يندب للإمام والحاكم أن يشفع بين الناس وأن يصلح بينهم، وفيه وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه حسن أدب بريرة فإنها لم ترد شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها قالت: لا حاجة لي فيه.
انظر إلى هذه الصورة العظيمة.(170/11)
اشتراط المرأة لما تريده قبل زواجها
ولننتقل إلى صور أكثر وضوحاً وجلاء لهذا الحق العظيم من حقوق المرأة والحرية المهمة من حرياتها، وهو أمر في أعظم بيت من بيوت الدنيا كلها، إنه بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما توفي أبو سلمة وانقضت عدة أم سلمة رضي الله عنها تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم لخطبة أم سلمة المهاجرة للهجرتين والمتقدمة في نصرة الإسلام، قالت: (أرسل إلي صلى الله عليه وسلم حاطباً يخطبني إليه فقلت: إن لي بنتاً وأنا غيور -كأنها تذكر بعض الأمور التي ينبغي أن يراعيها أو أن يعرفها الزوج حتى يأخذ بالاعتبار مثل هذه الأمور فيقدم أو يحجم- فلما رجع الرسول إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام أرسله وقال: أما ابنتها فأدعو الله أن يغنيها عنها، وأما غيرتها فأدعو الله أن يذهب عنها الغيرة).
ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي صحيح مسلم قصة أخرى أعظم من هذه وأبلغ في زواج النبي صلى الله عليه وسلم الزواج القرآني الذي خلده الله عز وجل في آيات تتلى، وذلك زواجه من زينب بنت جحش لما طلقها زيد رضي الله عنه، يقول زيد كما في صحيح مسلم: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، فانطلقت حتى إذا جئت وهي تعجن عجيناً لها، فوقفت فهبتها لما ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوليتها ظهري وقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك، فقالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي -أي: حتى أستخير وأصلي وأتخذ القرار بناء على استخارة ربانية- ثم ذهبت ونزلت إلى مسجدها في بيتها ونزل القرآن: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْه} [الأحزاب:37] إلى آخر الآيات القرآنية التي زوج الله عز وجل بها النبي صلى الله عليه وسلم من زينب.
وهذه صورة عملية لاستقلالية المرأة المسلمة وحريتها في الاختيار، حتى في هذا الموقف العظيم الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.(170/12)
حق المرأة في الرجوع إلى زوجها الذي طلقها
نزلت آيات قرآنية تتلى، وسبب نزولها حفظ حق المرأة وحريتها واستقلاليتها باختيارها ورضاها بزوجها، ففي الحديث الصحيح عن معقل بن يسار: (أن أخته كانت متزوجة فطلقها زوجها وتركها حتى انتهت عدتها ثم جاء يخطبها، فرفض معقل وقال: طلقها ثم تركها ثم جاء يخطبها، فجاءته الحمية أن لا يردها إليه وأن لا يوافق على زواجها) وفي رواية عند غير البخاري ومسلم قال الراوي فيها: (وكان الرجل لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فمنعها أخوها، فأنزل الله عز وجل قوله جل وعلا: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:232]، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم معقلاً وتلا عليه الآية القرآنية -قالت الرواية في الصحيح-: فترك معقل الحمية واستقاد لأمر الله عز وجل).
فأي حق وأي حرية وأي استقلالية أعظم من هذا للمرأة في أمر هو من أهم شئونها، وهو أمر زواجها وبناء أسرتها.
نسأل الله عز وجل أن يبصرنا بديننا، وأن يجعلنا مستمسكين بشرعنا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وجعلني وإياكم من أهل الذكر الحكيم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(170/13)
حرية المرأة في شهود العبادة وضوابط ذلك
الحمد لله، والصلاة والسلام على خاتم رسل الله وخير خلق الله، نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وعلى من اتبع سنته واقتفى أثره وسار على هداه، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين والدعاة.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى التزام شرع الله في معاملة النساء، والتزام شرع الله عز وجل في هذه الأحكام التي تجاوزها عدد غير قليل من المسلمين، فأجحفوا في حق المرأة، وظلموها من ذات أنفسهم ومن خلال أعرافهم أو قواعد قبلياتهم ونحو ذلك، بأمور وأفعال ما أنزل الله عز وجل بها من سلطان.
وإن من الحقوق التي تظهر حرية المرأة واستقلاليتها: حرية شهود العبادة: فإن هذا الدين العظيم جعل للمرأة الحق في أن تشهد بعض العبادات من غير فرض ووجوب عليها، ولكن المشاركة لها في بعض الأمور قد ثبتت ثبوتاً متواتراً قطعياً في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك كشهود صلاة العيد، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحض النساء على الخروج إليها حتى تخرج ذوات الخدور من بيوتهن، وحتى يخرج الحيض ويكن في معزل عن المسجد يشهدن الخير مع المسلمين.
وكذلك الخروج إلى الصلوات المعتادة، فإنه ليس من المحرم ولا من المكروه إن لم يكن هناك ارتكاب لمكروهات أو محرمات، فتشهد المرأة صلاة الجماعة مع المسلمين، فقد ثبت ذلك في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وثبت أن النساء كن يصلين الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث آية نزول الحجاب.
وكذلك ورد في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما: (أنه قال لامرأة عمر: لماذا تخرجين إلى الصلاة وأنت تعلمين أن عمر يكره ذلك ويغار؟! فقالت: وما يمنعه أن ينهاني؟! فقال ابن عمر: يمنعه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله).
فالحكم الشرعي لا يتغير لتغير أفكار بعض الناس أو لسوء تطبيقه، بل ينبغي لنا أن نطبق الحكم الشرعي كما هو، فإن جاءت ملابسات أو ظروف فإنها لا تلغي الحكم الشرعي وإنما يقال: إن ثمة فتنة أو ثمة ضرراً أو ثمة خوفاً لأجله منع هذا الأمر لا لإبطال أصله، فإن بعض الناس قد يكون عنده غيرة أو حماسة، فيجعل المنع حكماً شرعياً كأنه دائم أو كأنه أصلي أساسي.(170/14)
مشاورة المرأة والأخذ برأيها في بعض الأمور
من صور الحرية التي أعطاها الله عز وجل وأبرزها الإسلام في شخصية المرأة: حرية الرأي، ورجاحة العقل، وحسن التدبير والتصرف في الأمور: فليست المرأة كماً مهملاً كما يدعي بعض الناس، أو كما قد يمارس بعض الناس في بعض الأحوال، فإن صوراً كثيرة وثيقة أبرزت لنا مواقف تدل على ذلك في حياة المرأة المسلمة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحسبنا في ذلك من الأمثلة موقف أم سلمة رضي الله عنها في صلح الحديبية؛ لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يحلقوا رءوسهم ليرجعوا عن مكة، فشق ذلك على نفوسهم، فدخل رسول الله عليه الصلاة والسلام على أم سلمة مغضباً وهو يقول: هلكوا، فلما سألته أخبرها بأمر امتناعهم، فقالت: يا رسول الله! قد دخل عليهم ما تعلم مما يشق على نفوسهم، فاخرج إليهم ثم اؤمر حالقك أن يحلقك، فإن رأوك فعلت فعلوا، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأيها الحكيم ومشورتها الصائبة، فخرج فحلق، فابتدر القوم يحلق بعضهم بعضاً حتى سال الدم من شدة ما كانوا يحلقون.
فهذا موقف عظيم من هذه المواقف المهمة، ومواقف أخرى تدل على حسن التدبير واللطف مع مراعاة حق الزوج وطاعته.
هذه أسماء مرة أخرى تعرف طبع الزبير بن العوام رضي الله عنه: (جاء رجل يستأذن أسماء في أن يبيع في ظل دارها، فقالت: إني أخشى إن فعلت ألا يرضى الزبير، ولكن ائتني إذا كان موجوداً فاطلب طلبك، فجاء والزبير موجود فقال: إني أريد أن أبيع في ظل بيتكم، فقالت: أما وجدت في المدينة إلا داري؟! فقال الزبير: وما يمنعك أن تجعليه يكتسب في ظل دارك؟!) كما في صحيح مسلم.
ففي هذه القصة حسن التدبير والتصرف من غير مخالفة، ومن غير نوع من المصادمة والاختلافات التي يجعلها بعض الناس بينهم بحجة وجود أو طلب الاستقلالية، لم يتحكم الرجل؟! لم تتحكم المرأة؟! إذاً سيبقى هناك نزاع دائم في مثل هذه الأمور.
انظر إلى حسن التصرف في قصة أم سليم رضي الله عنها في شأن زواجها وفي شأن وفاة ابنها: لما جاءها أبو طلحة يخطبها قالت: (إنك رجل كفء ولكنك كافر، فلو أسلمت لتزوجتك، فأسلم فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إسلامه مهرها).
وهذه من الصورة التي تدل على رجاحة العقل، فما طلبت مالاً ولا طلبت شيئاً، وإنما جعلت أمر الزواج سبباً أو أسلوباً من أساليب دعوتها إلى الله عز وجل.
كان لـ أم سليم ابن مريض فتوفي وزوجها خارج البيت، فجاء إليها في آخر اليوم يسأل عن ابنه فقالت: هو اليوم أسكن منه مما مضى.
كلمة صحيحة في المعنى فهم منها أن الابن قد سكن وهدأ، وهي تعني بالسكون الموت الذي لم يعد له فيه حراك.
ثم أعدت له طعام العشاء وتصنعت له وتزينت حتى غشيها، فلما فعل ذلك قالت له: إن لنا جيراناً أودعهم بعض الناس وديعة فلما طلبوها منهم أبوا أن يردوها، فأنكر ذلك عليهم، فقالت له بعد ذلك: إن ابنك وديعة الله عندك وإن الله قد استرد وديعته! فتلطفت وأحسنت التصرف وأصابت الرأي، فغضب أبو طلحة فمضى في الصباح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره عن هذه القصة التي فيها بعض التورية، فأثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سليم، ودعا لهما بالبركة في ليلتهما تلك، فرزقا عشرة من الأبناء طال عمرهم وحسن عملهم، وكانوا من خيرة أبناء الإسلام.(170/15)
حرية المرأة واستقلالية شخصيتها
وكذلك مواقف القوة التي تبرز شخصية المرأة المسلمة؛ لأن الصورة التي تظهر الاستقلالية بصورة ممسوخة سيأتي الحديث عنها.
صورة أو مثل واحد أختم به الحديث، في قصة الحجاج الظالم الطاغي حين استحل حرمة البيت الحرام في مكة المكرمة، وقتل عبد الله بن الزبير، ثم أرسل إلى أسماء يدعوها لتأتي إليه، فأبت أن تأتي، فأرسل إليها: لئن لم تأتي لأرسلن من يسحبك بقرونك، فقالت: لا آتيه حتى يرسل من يسحبونني بقروني.
فلما بلغ ذلك الحجاج قال: أين مكانها؟ فأخبر به فلبس نعله ثم جاء إلى أسماء وقال لها: ما رأيت فيما فعلت بعدو الله -يعني: ابنها عبد الله بن الزبير، وكانت امرأة كبيرة في السن تفقد ابنها وقد عمي بصرها ويأتي قاتل ابنها بهذه القوة والغطرسة والجبروت- قالت: رأيت أنك قد أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك.
الحجاج الباغي سفاك الدماء الذي كان الناس يرتعدون من سماع اسمه، ثبتت له أسماء، ثم قالت له: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن في بني ثقيف كذاباً ومبيراً، فأما الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير فلا أراه إلا أنت)، فأخذ الحجاج نفسه ومضى لا يلوي على شيء من هذه المواجهة للمرأة المسلمة المؤمنة الواثقة.
فهذه أمثلة محدودة مما جعله الله عز وجل من استقلالية لشخصية المرأة، وحريتها في اعتقادها وعبادتها وتصرفها المالي واختيارها الزوجي، وهذه الحريات كثيرة وفيرة وعظيمة وصالحة نافعة، أما الحريات التي يطالب بها بعض الجهلة من المسلمين وأعداء الإسلام، وهي حرية التبرج، وحرية الممارسة الجنسية وغيرها من الحريات؛ فهي فوضى وليست حرية، ويقولون لنا أيضاً كما سبق أن أشرنا في الموضوعات السابقة: أين حرية المرأة وأنتم تحجبونها تحت حجابها؟ وأين حرية المرأة وقرآنكم يتلى ويقول: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33]؟ فهي حبيسة البيت قعيدته، إلى غير ذلك مما يقولون مما هو مردود عليهم ولنا فيه حديث.
أسأل الله عز وجل أن يعصمنا بالإيمان، وأن يقينا شرور أهل الكفر والطغيان، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجمل نساءنا بالحياء والحشمة، وأن يجعلنا ممن يتبعون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم تول أمرنا وارحم ضعفنا واجبر كسرنا واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم أنزل علينا الرحمات، وأفض علينا البركات، وضاعف لنا الحسنات، وارفع لنا الدرجات، وحط عنا السيئات، وكفر عنا الخطيئات، وأقل لنا العثرات، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا واجعلنا من عبادك الصالحين، وانصر جندك المجاهدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء.
اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك وعظيم سطوتك.
اللهم زلزل الأرض تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تغادر منهم أحداً.
اللهم استأصل شأفتهم، وفرق كلمتهم، واجعل بأسهم بينهم، وأنزل بهم بأسك وسخطك ومقتك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار.
اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والجرحى والمرضى.
اللهم رحمتك بالشيوخ الركع، والأطفال الرضع، والنسوة الثكالى، والصبية اليتامى.
اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، اللهم عجل فرجهم، ونفس كربهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، واحفظ إيمانهم وأعراضهم وديارهم وأموالهم يا رب العالمين.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً سخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم اصرف عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين.
اللهم وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم اجعل عمل ولاتنا في هداك ووفقهم لرضاك، وارزقهم بطانة صالحة تحثهم على الخير وتدلهم عليه، وتنهاهم عن الشر وتحذرهم منه يا سميع الدعاء.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
وترضوا على الصحابة الكرام وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(170/16)
الهوية بين السلبية والإيجابية
نحن بحاجة في هذا العصر -أكثر من أي عصر مضى- إلى معرفة هويتنا الإسلامية حق المعرفة، والتمسك بها، والعض عليها، والسبب واضح في ذلك؛ فإنه ما من أمة إلا ولها هوية تعتز بها، وتقوم على أساسها وتنافح عنها، وترتكز الهوية على ثلاثة أقطاب تدور رحاها عليها، وهي: الدين، واللغة، والتاريخ، فمن أراد الإمساك بزمام الهوية وبقائها فعليه أن يحافظ على هذه الأقطاب الثلاثة.(171/1)
العناصر الثلاثة التي ترتكز عليها الهوية
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل الله، ومن يضلل فلا هادي له، له الحمد سبحانه وتعالى أن شرح الصدور بالإسلام، وطمأن القلوب بالإيمان، وهدى البصائر بالقرآن، وأتم علينا النعمة، وأكمل لنا الدين، ورضي لنا الإسلام ديناً، له الحمد على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم التقى، ومنار الهدى، ختم به الرسالات، وأكمل به الديانات، وجعل شريعته صالحة إلى قيام الساعة.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء -ليلها كنهارها- لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! "الهوية بين الإيجابية والسلبية" حديث كثر تناوله، فهل لكل أمة خصوصية تميزها، وهوية تعرف بها؟ وهل ذلك إن وجد يكون عائقاً في طريق تطورها، ومانعاً من صلتها بغيرها، وقاطعاً لها عما حولها؟ ونحن في هذه الأوقات والأزمان التي لم يعد للمسافات فيها أثر، ولم يعد إمكان لأن يكون هناك انعزال كامل بحال من الأحوال، ينبغي أن نعرف هذه المسألة؛ لأنها في غاية الأهمية لإدراكنا ولأحوالنا في تصوراتنا ومبادئنا، وفي علومنا ومعارفنا، وفي ثقافتنا وحضارتنا، وفي سلوكنا وأعمالنا، من هنا نبدأ بهذه المسألة المهمة.
الهوية لأي مجتمع وأمة لابد أن تكون موجودة بشكل أو بآخر، وهي ترتكز على ثلاثة عناصر: الدين، واللغة، والتاريخ، وما من أمة في قديم الزمان وحاضره إلا ولها دين، ولسان تتحدث به، وتاريخ كان لهذا الدين وتلك اللغة والثقافة والحضارة ارتباط به، ومن هنا تتميز به ويكون سمة خاصة بها، ويشكل لها كثيراً من أسسها وقواعدها وتصوراتها ورؤاها.
ولابد أن ندرك أننا في هذا العصر نحتاج إلى معرفة الهوية وتأكيدها، ومعرفة الجوانب التي نجعل منها إيجابية نافعة في هذه الهوية؛ لأن هناك من قصر فهمه ونظر إليها نظراً مختلاً، فرأى أنها حاجز لا بد أن يزال، وسمت لا بد أن يلغى، ولابد أن يكون الناس كلهم شيئاً واحداًًًًًًًً، ونمطاً واحداً، وهذا إن قاله بعض من نعدهم من الأعداء من غير المسلمين قلنا: إن مقاصدهم بذلك أن ينزعوا ديننا، وأن ينسخوا تاريخنا، وأن يبدلوا كل خصوصياتنا، لكننا إن سمعناه من بعض أبناء جلدتنا، وبعض أبناء ملتنا، أدركنا أنهم ربما كان عندهم سوء فهم، وخلل فكر، وميل هوى، يحتاجون معه إلى مراجعة ومناصحة، ولذلك ليس من النافع أن يكون هناك احتراب قبل أن يكون هناك تعيين وتحديد.(171/2)
أهمية الهوية في دين الأمة
إن هوية الأمة في دينها أمر أساسي لا نريد أن نقول: إنه من ذات ديننا وصميم آيات قرآننا وأحاديث نبينا، بل نقول كذلك: إنه من واقع الحياة المعاصرة، وإنا لنسأل ونتساءل: دولة الغصب في الكيان الصهيوني المحتل في أرض فلسطين ماذا تسمي نفسها؟ وما هو شعارها؟ وكيف هي مناهجها؟ وكيف تكون أيام عطلها؟ وما الذي يدور في معاهدها ومحافلها؟ وعمن تدافع؟ ومن تجلب إلى أراضيها؟ إن أي مغفل أو أحمق يدرك أن محور القطب والرحى الذي تدور عليه ديانتها وعقيدتها اليهودية، وإن أمماً أخرى كثيرة -حتى غير الديانات السماوية- تجعل أعيادها، وتجعل تصرفاتها، وإجازاتها، وكثيراً من صور أحوالها الاجتماعية منبثقة من تلك الديانة وتلك العقيدة حتى وإن كانت بشرية كما أشرت، فلماذا يستنكر على أمة الإسلام أن يكون لها مثل ذلك، أو يرى أن ذلك من الضيق في الفكر، أو التحجر في النظر، أو عدم القدرة على التعارف وعلى التواصل مع الآخرين؟!(171/3)
العنصر الثاني: اللغة
ثم إذا جئنا إلى اللغة وما أدراك ما اللغة؟! لغة القرآن، لغة الفصاحة والبيان، التي أصبحت اليوم غريبة في ديارها، لا يحسن أهلها أن يقيموا حروفها، وأن يفصحوا في إعرابها، ولا أن يظهروا بلاغتها، وصار كثير منهم لا يكاد يتكلم جملة إلا ويحشر في كلماتها من تلك اللغة أو الأخرى كلمات لا تعود تعرف هل هو من أبناء هذه اللغة أو غيرها؟! وأسألكم: من يتحدث بالعبرية في أنحاء العالم؟ كم عددهم؟ ومع ذلك كل مدارسهم ومعاهدهم وجامعاتهم وكليات طبهم لا تتحدث ولا تدرس إلا بها، ولو ذهبت إلى أقصى الشرق في بلاد اليابان لما رأيت أحداً يلتفت إليك، ما لم ترطن برطانته وتتكلم بلغته، ولو ذهبت إلى فرنسا لرأيت أنها تعتز بلغتها وتأبى أن تتحدث بغيرها، وتحرص على حمايتها، ومنع تسرب اللغات الأخرى بحيث تكون هي الأصل في أبناء جلدتها، وانظروا إلى التجمعات الكثيرة العالمية كالجامعات التي نرى فيها أن أظهر سمة فيها هذه اللغات، فما بالنا نقول: لم تتحدثون بالعربية؟ ولم تصرون على الفصحى؟ ولم تريدون أن تجعلوا التعليم في معاهدنا وجامعاتنا بهذه اللغة غير العلمية؟ وبالمناسبة: يغتر بعض الناس باللغة الإنجليزية، ولا يدركون أنها من حيث النسب ليست عالمية، فإن نسبتها دون نسبة اللغة الصينية التي تشكل (15%) من سكان العالم كله، ولذلك أقول: هذا المعنى مهم، وسنذكر أهميته في صور كثيرة عظيمة قد يضيق مقامنا عن ذكرها.(171/4)
العنصر الثالث: التاريخ
ونحن اليوم انتسابنا بالإسلام يمتد جذوره إلى أبي البشرية آدم عليه السلام، ويمر بتاريخ الرسل والأنبياء والصالحين والدعاة، ولنا تاريخ ننتسب فيه إلى أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] هذا التاريخ لم ينسخ أو يلغ، لكنه قد يختزل أو يختصر، أو يكتب في المناهج -كما أسلفت من قبل في بعض البلاد العربية والإسلامية- سبعة أسطر عداً وحصراً في سيرة وتاريخ الخليفة الراشد عثمان بن عفان، ونصف صفحة لا أكثر ولا أقل في سيرة عمر بن الخطاب، ثم يكون لنا من بعد ذلك صفحات وصفحات في تاريخ أمة من شرق أو غرب، وشخصيات من هنا أو هناك، كيف يمكن حينئذ أن يكون لنا لون وطعم ورائحة معروفة؟! وانظروا اليوم إلى كل أمم الأرض كيف تبحث وتنبش عن صفحات تاريخها، بما فيه من أوحال وأدناس وأرجاس، وبمناسبة ذلك: يظن بعض الناس -من أثر ما سلط على الجوانب السلبية في تاريخنا- أن تاريخ أمتنا ليس إلا قتلاً وحرباً وصراعاً، وأنه ليس فيه كثير من المعاني العظيمة التي سجلت في صفحات تاريخ الإنسانية العظمى في ظلال الإيمان والإسلام.
أقول هذا -أيها الإخوة المؤمنون- لأن قضيتنا مهمة في هذه الشخصية الإسلامية والهوية، وهذه البلاد الإسلامية التي تضم الحرمين الشريفين يستنكر اليوم الناس ما يعرف بخصوصيتها أو هويتها، ويقولون: هل نحن جنس من غير جنس البشر؟ وهل نحن من غير نسل بني آدم؟ وهل في عروقنا دماء غير دماء البشرية؟ لنقول: من قال ذلك؟! ولكننا بلد الإسلام، فهل في بلاد أخرى كعبة غير البيت الحرام؟ وهل في بلاد أخرى مسجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم سوى الذي في المدينة؟ وهل هناك مشاعر مقدسة وبلاد محرمة بتحريم الله وتحريم رسوله صلى الله عليه وسلم في أي بقعة من الأرض غير هذه البلاد؟ وهل هناك دولة أو بلد لم يدخل الاستعمار إليه دخولاً كاملاً: عسكرياً وفكرياً ونظامياً وقانونياً وتعليمياً سوى هذه البلاد، وهل هناك أنظمة منصوص عليها في سياسة التعليم والإعلام وغيرها ليس فيها حرف واحد يتناقض مع أصول الإسلام وثوابته، أو مع أهدافه ومقاصده سوى هذا البلد؟ وهل هناك بلد فيها فصل للتعليم بين الذكور والإناث في كل المراحل مثلما في هذه البلاد؟ وهل هناك بلد الأصل أن كل من يعيش على أرضه من أبنائه هم من المسلمين؟ وغير ذلك من الأسئلة، فكيف إذاً تطرح الحقائق وتلغى؟!! وهذه كلمات أقرؤها عليكم لكاتب كتب في إحدى صحفنا قبل يومين لا أكثر ولا أقل، لا نستعدي ولا نصرخ، وإنما ننصح ونراجع، يقول: وبعد مرور ربع قرن من عمرنا، ينبغي أن يكون قد ترسخ في ضميرنا ووجداننا وأذهاننا قناعات فحواها: أنه ليس من الضروري الاحتكام للرؤية الدينية في كل شاردة وواردة تطرأ على حياتنا، ويقول: أختلف معهم -أي: مع الذين يقولون بهذه الخصوصية- في اعتبار الدين -أي دين- مكوناً للخصوصية.
ثم يقول: إن الخصوصية هي: العلمانية الإيمانية، أو العلم الإيماني، أو الإيمان العلمي، ويذكر حينئذ صوراً، فيقول: إننا إذا تحدثنا عن فرنسا ذكرنا الحرية والمساواة والإخاء، وإذا ذكرنا أمريكا ذكرنا حقوق الإنسان والحريات، وإذا ذكرنا كذا وكذا وعدد من بلاد الشرق والغرب، وكأن أمة الإسلام ليس لها إلا الذل والتخلف والسوء والسواد والشنار والعار، ولعلي أظن أنه لم يقصد ذلك، فهو لم يدرك مرامي الكلام وغاياته.(171/5)
ماذا نعني بخصوصيتنا الإسلامية؟
أيها الإخوة المؤمنون! إننا إذا انتبهنا لهذا المعنى نستطيع أن نجد عشرات ومئات من الآيات والأحاديث تبين ذلك، ولكننا في الوقت نفسه ندرك ونعي أن خصوصيتنا الإسلامية لا تعني أننا لا نتصل بالآخرين ولا نعرف كيف نتعامل مع الأمم الأخرى، فإن تاريخ إسلامنا قد دخل وانتصر على الحضارة الفارسية والرومانية واليونانية، وكثير من الحضارات الأخرى، فما دمرها وهدم بيوتها على رءوس أصحابها، وإنما استطاع أن يستوعب أهلها، ويدخل أكثرهم في دين الله أفواجاً، وأن يأخذ حضارتها المادية، فورث العلوم والفكر الحضاري المادي الذي لا يتعلق بالتصورات والعقائد، وبقيت أمة الإسلام أمة متميزة بإيمانها وعقيدتها وإسلامها وأخلاقها ومبادئها وثقافتها، لم تنسخ ولم تذب في غيرها.
بل إن المسلمين الذين خرجوا إلى فجاج الأرض شرقاً وغرباً، والذين أقاموا في بقاع مختلفة من شتى أنحاء العالم هم الذين -في جملتهم- كانوا المستعصين على الذوبان، ولو ذهبتم اليوم إلى بلاد كثيرة لرأيتم كيف ذابت شعوب وحضارات شرقية في تيار الحضارة الغربية، فالصيني أو الياباني الذي يعيش اليوم في أمريكا لا تكاد تعرف منه شيئاً من أصله إلا شحمته ووجهه التي خلقه الله عز وجل عليه، ولكنك ترى مسلمين ولدوا في تلك الديار ونشئوا فيها، وتعلموا في معاهدها، وتخرجوا من جامعاتها، وقلوبهم مليئة بالإيمان، وصدورهم عامرة بالإسلام، وألسنتهم ناطقة بالقرآن، وجباههم ساجدة في محاريب الصلاة، وهم في أعلى المستويات العلمية في كل المجالات التقنية والطبية والهندسية وغيرها، فهل هؤلاء أيضاً منغلقون وأغبياء وحمقى، ولا يعرفون كيف يأخذون بحضارة هذا العالم المعاصر في جانبها المادي والتقني؟! ينبغي أن نأخذ مبدأ التوسط في معرفة الأمور، فليس كل شيء يقبل كاملاً على علاته أو يرفض كاملاً بكل ما فيه، بل العاقل المنصف، والأريب الأديب الذي يأخذ الحق فيستخلصه من بين براثن الباطل، ويقول: إنه حق وإن جاء من هذا الشخص أو ذاك، أو من هذه الجهة أو تلك، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها.
نحن أمة الإسلام أمة عمارة الأرض؛ لأن الله عز وجل خلقنا واستخلفنا في هذه الأرض لعمارتها، فكل ما هو من شأن عمارتها مطلوب منا شرعاً بدين الله عز وجل، كما عمر أسلافنا الأرض بالعمارة المادية والمدنية، وأقاموا الحضارة العلمية في أزمنتهم المختلفة في حواضر العالم الإسلامي كلها، حتى في الأندلس وما أدراك ما الأندلس؟! وهي حضارة امتدت على مدى ثمانية قرون ولا تزال مؤلفاتها ومخترعاتها إلى يوم الناس هي الأساس والقاعدة التي تم الانطلاق منها.
وقضية أخرى مهمة: ينبغي لنا ألا نغفل الواقع والتدخلات والضغوط الخارجية، وألا نغفل ما تحدث عنه المتحدثون كثيراً وطويلاً، وهو: أن الفكرة المسماة بالعولمة إنما تريد أن تجعل الناس شيئاً واحداً، لكن أي شيء؟ إنهم لا يريدون شيئاً واحداً مشتركاً، بل يريدون أن تتحدث بلسانهم، وأن تفكر بعقولهم، وأن يخفق قلبك بمشاعرهم، وأن تنزل إلى أرذل وأسفل دركات سلوكياتهم القذرة، ولذلك يقولون: لماذا تحجبون المرأة؟ لماذا تمنعون الاختلاط في التعليم؟ لماذا لا تكون عندكم أسر مثلية فيتزوج الرجل الرجل، والمرأة المرأة؟ لماذا لا تكون عندكم نواد مفتوحة وشواطئ للعراة؟ فذلك موجود عندهم، ويريدون أن يكون في كل الأرض شرقاً وغرباً، فعندما نتحدث عن بعض الأخطاء في واقعنا، أو عن بعض ما يحتاج إلى مراجعة هنا أو هناك، فلماذا لا ننتبه إلى أن حديثنا ينبغي أن يكون مضبوطاً؛ حتى لا يكون مواكباً وموافقاً لما يريده أعداؤنا منا فينبغي أن ننتبه إلى ذلك.(171/6)
من صور الانفتاح اللامسئول
واليوم وقد بدأت كثير من صور الانفتاح والدعوات إلى الإصلاح، أصبح الناس يخوضون فيها، ويركضون فيها خيولهم قبل أن يفكروا ويتأملوا، فإن الكلمة التي تكتب أو تقال، وإن الرأي الذي يقدم لابد أولا ً أن يكون فيه الفكر والتدبر والعلمية والمنهجية، ولابد أن يكون ناشئاً من النية الخالصة التي تريد المصلحة العامة، لا الأهواء أو المصالح الذاتية، ولا تصفية الحسابات الشخصية، {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ} [هود:88].
وكذلك لا ينبغي أن نقول قولاً ونخالفه {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88]، كثيرة هي الأمور التي تطرح أحياناً، فهذه كاتبة -لا أتهم نيتها، ولا نريد أن نعيد الصراخ والهجوم- تكتب عن حديث: (لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)، ثم لا تجد شيئاً من التفسير لتلوي عنقه، فتتجه إلى راوي الحديث أبي بكرة رضي الله عنه لتقول عنه: إنه رجل لا نسب له، وهو كذاب! فتقع في أمر خطير أحسب أنها لا تدرك عظمته وخطورته، إن الصحابة زكاهم القرآن تزكية واضحة صريحة ليس فيها لبس، وأجمعت جماهير علماء الأمة -بلا خلاف معتبر بينهم- أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم عدول، وأن الطاعن في أصحاب محمد إنما يطعن في القرآن، وفي هدي النبي صلى الله عليه وسلم، بل في شخصه، إذ كيف يكون من أصحابه من هذه سماتهم، وتلك أوصافهم، ثم يكونون هم أعمدته، وهم معاونوه ووزراؤه، وولاته الذين استعان بهم في إقامة دين الله عز وجل؟! واستمعوا أيضاً إلى كاتبة أخرى فاضلة تريد أن تقول إنه قد أخطئ أنا ويخطئ غيري من العلماء، والرجوع إلى الحق فضيلة، فتضرب المثل بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وتعبر التعبيرات التي أحسب أنها أيضاً قضية خطيرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم معصوم، وهو سيد الخلق وخاتم الأنبياء والمرسلين، وهو سيد ولد آدم أجمعين، فإن تحدثنا عنه كما نتحدث عن أي إنسان فماذا بقي لنا؟ تقول الكاتبة: بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسلم من عتاب الله له، ولومه على تصرف أتاه، أو رأي رآه، مع اختلاف لهجة العتاب من بين آية وأخرى، فمن عتاب لطيف تستشهد له بقول الله جل وعلا: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43].
وكنت أتمنى أن ترجعوا إلى كتب التفسير لتقرءوا ماذا قال العلماء في مثل هذه المقامات، والإشارة والدلالة على أن هذا العتاب إنما هو إجلال ورفع لمقام النبي صلى الله عليه وسلم، وبيان كرامته ومنزلته عند ربه ومولاه سبحانه وتعالى، ولا يفهم من ذلك ما قد تشي به هذه الكاتبة.
ثم تقول: إلى صورة أخرى -أي: من العتاب- فيها توعد كما في قضية الأسرى، وتستشهد بقول الله جل وعلا: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [الأنفال:67]، وترى أن في هذا توعداً من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، بل يبلغ الأمر أخطر من ذلك عندما تقول: إن لهجة الخطاب القرآني تعلو فيها نبرة اللوم في قوله جل وعلا: (َ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37].
ثم تزيد فتقول: وتتضح لهجة اللوم، ويكون فيها تجاهل لشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ترد كلمة نبي أو رسول، ولم تعد صيغة المخاطب هي الصيغة بل صيغة الغائب، وهذا أسلوب معلوم في اللغة العربية أن فيه ما فيه من اللوم، وتستشهد بقوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:1 - 2].
وكلنا يعلم أن أهل العلم قد ذكروا أن هذا كان في خلاف الأولى، وأن كل ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم وأمضاه من الأحكام قد أقره الشرع عليه، وثبتت به الأحكام، وإلا لكان هناك رجوع، فهل رجع النبي صلى الله عليه وسلم عما أبرمه في قضية أسرى بدر؟! إن الكتابة المطلقة، وإن الانفتاح الذي تتبدى أروقته، وإن الإصلاح الذي ترفع راياته، ينبغي ألا يكون مندفعاً نخسر معه حقائق مهمة، ونخوض في قضايا تضرنا جميعاً، وأولئك القوم الذين يكتبون، حتى وإن كانوا يظنون أنهم في مواجهة آخرين قد أساءوا في طرحهم أو في تعبيرهم، فليعلموا أن القضية في آخر الأمر قضية ديننا، قضية هويتنا، إن مصالح أمتنا أن تتماسك، وأن تعرف حقائق ما يقويها ويحفظ عليها وحدتها، فهل إذا تخلينا عن ديننا ولغتنا وتاريخنا يمكن أن يكون لنا صبغة واحدة؟ سيتكلم هذا بلغة، وذاك بلغة، وذاك درس في بلاد، والآخر تخرج من أخرى، فسنكون شراذم، ولا يجمعنا ولن يجمعنا لا اليوم ولا غداً إلا دين الله عز وجل في بلاد الحرمين، ومهبط الوحي.
مع أننا نريد كذلك أن يكون فهمنا للدين صحيحاً، وأن يكون تشبثنا بالخصوصية تشبثاً واعياً، فالخلاف الفقهي ينبغي أن تتسع له الصدور ما دام قائماً على أسس علمية، وفي المجالات والميادين والقضايا التي يسوغ فيها الاجتهاد، فليس هناك أحادية رأي، وليس هناك حجر على من يرى رأياً أو مذهباًَ فقهياً، أو قضية مما وقع فيها اختلاف الأمة في تاريخها كله، ولكن ذلك لا يعني أن يدخل في الاختلاف شيء من غير ديننا كله، أو فكر لم يرد في قرآننا ولا في سنة نبينا، ولا في أقوال علمائنا، ولا في صفحات تاريخنا، فلا يجوز أن يقال: ما دمنا قد رحبنا بالحوار، أو ما دمنا قد فتحنا أبواب الإصلاح، أو ما دمنا قد رأينا ألا نحجر على الآراء، فينبغي أن نترك ذلك كله بدون خطام أو زمام! وأختم هذا المقام لأقول: إنه في كل ديار الدنيا لابد من حدود تؤطر المسموح، وتجعل له شيئاً من الممنوع، وكل دساتير الدنيا تقول: إن التعدي على دستور البلد أو رئاسة الدولة جريمة كبرى يحاكم عليها، ثم إذا جيء إلى دستور الإسلام، وإلى الشرع والحاكم بشرع الله عز وجل، كان التعدي عليه أمراً ميسوراً؛ إن هذا لشيء عجاب! نسأل الله عز وجل السلامة، وأن يحفظ علينا إيماننا وإسلامنا وهويتنا وأخلاقنا، وأن يدرأ عنا شرور الأشرار، وكيد الفجار، وأن يحفظ هذه البلاد من كل سوء وشر وضر، وأن يجعلها موئل الإسلام وأهله، وموضع دعوته ونشرها، ورفع رايتها في الآفاق، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(171/7)
الاختلاف المسموح والمطروح
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! إن صبغتنا الإسلامية قضية أساسية مرتبطة بإيماننا وعقيدتنا، وثقافتنا وفكرنا، وتاريخنا وحضارتنا: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة:138].
ينبغي أن ندرك أن الاختلاف سنة من سنن الحياة كلها، فلن يأتي يوم يكون الأخ فيه مطابقاً لأخيه في كل شيء، لكن الاختلاف تختلف أنواعه، فهناك اختلاف تنوع داخل دائرة واحدة، وقد يكون لنا اختلاف في اجتهاد أو رأي في الدائرة المشروعة السائغة، ولا يعني ذلك أننا قد خرجنا من هذه الدائرة، ولذلك لابد أن نتميز عن غيرنا ممن ليسوا في دائرتنا، والله عز وجل قد بين ذلك في آيات كثيرة: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153].
إذاً: هناك طرق، وهناك ديانات ومناهج، فإذا أخذنا طريقنا فإننا لن نسير في طريق غيره، وذلك يعني أننا نخالف غيرنا، وليس من ضرورة الخلاف أننا نحارب غيرنا دائماً وأبداً، ولكننا نحارب من يحاربنا، ونحارب من يضع الطريق والعراقيل في طريقنا، وفي طريق بيان ديننا وحقائقه، وذلك أمر بين واضح، وتأتينا آيات كثيرة في هذا المعنى كقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256].
إننا إذا لم نعرف أن هذا الذي عندنا هو الحق، وأننا نؤمن به بناء على يقين قلبي، ومعرفة عقلية علمية، واستقراء تاريخي طبيعي، فإننا حينئذ لن ندرك أن غيره مخالف له، وهذا أمر مهم، والله عز وجل يقول فيما يتعلق باتباع رسوله عليه الصلاة والسلام: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
إننا لابد أن ندرك أن قضية الالتزام الإسلامي قضية عقدية، ونستيقن في نفوسنا أن خلاصنا ونجاتنا، وأن ضبط أحوالنا وصلاحها، وحسن علائقنا بغيرنا، تكمن في انطلاقنا من ديننا وارتباطنا به، ومن هنا فإنني أقول: إن كثيراً من القضايا التي تطرح وتثار ما لم تكن لها مرجعية حاكمة في أصولها الجامعة وإطارها العام، فإن ذلك يعني أن الفوضى ستكون هي المثار، ومن هنا ينبغي لنا أن نستحضر أهمية التوسط والاعتدال، فلا نصم آذاننا عن السماع؛ حتى نعرف ما يقال، ونوجه بالحكمة والموعظة الحسنة والنصيحة دون تنابز بالألقاب، ودون تبادل للاتهامات، وفي المقابل لا ينبغي لنا أن نغفل عن خطورة هذه الموضوعات، وأن تموت غيرة النفوس، فخذ المنهج السليم، وخذ الحكمة البالغة، وخذ الطريق الذي يغلب على ظنك أنه يوصل إلى المقصود.(171/8)
شهادة الواقع بأن الإسلام خير ما نتحد عليه
وحقيقة الأمر أن هذه الأحوال المعاصرة تقتضي من كل مسلم أن يتنبه ويتيقظ، وأن يحرص على أعظم ما ينبغي أن يحرص عليه، دينه وإيمانه وإسلامه وأخلاقه، وليعتبر كل أحد بالواقع المعاصر، فإننا لا نريد أن نحاجهم بما في الآيات والأحاديث فحسب -وهي حجة قاطعة- ولكنا نقول: خذوا الواقع، خذوا ما دعوتم إليه وما طرحتموه من أفكار، انظروا إلى أمم وديار إسلامية ما حل بها، وانظروا إلى بلاد غير إسلامية ما حل بها.
أليس في بلاد الإسلام من يعد لبس حجاب المرأة المسلمة قانوناً محظوراً ويمنع أن يلبس في المدارس والمعاهد والجامعات؟! أفلسنا ندرك أن قليلاً من الأمور قد يؤدي إلى كثير منها؟! ولسنا بمبالغين في مثل هذه الأمور، حتى يقال: إن سد الذرائع باب أفضى إلى إغلاق كل اجتهاد وتطوير، ولكننا نقول: خذوا ضابط الشرع، فما خرج عن الشرع فاعلموا أنه ستكون له آثار غير حميدة، والله عز وجل قد بين لنا ذلك، وبين في شطر آية شقاء الدنيا كلها: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41].
تلك هي الحقائق التي ينبغي أن نتنبه لها، لا سيما ونحن نستقبل الموسم الأعظم الذي يبين هوية الأمة في فريضة الحج العظيمة، ونرى القادمين من بلاد شتى، وأعراق مختلفة، وألوان متباينة، ولغات ليست واحدة، ومع ذلك ما الذي يجيء بهم؟ وما الذي يجمعهم؟ وما الذي يجعل كل أفعالهم تصب في إطار واحد، وفي بقعة واحدة، وعلى هيئة واحدة، في أقوال وكلمات واحدة؟ إنها صبغة الإسلام، فهل هناك قوة أو معنى أو مبدأ ممكن أن يذيب كل الفوارق المختلفة، ويأتي إلى هذه البقاع المقدسة بكل جنس ولون؟! كثير من الناس كانت دياناتهم وديانات آبائهم ليست هي الإسلام، ما الذي جاء بهم؟! إنها قوة الحق في هذا الإيمان، وصفاء المنهج في هذا الإسلام، وصلاحية الشريعة التي تمثلت في آيات القرآن، إنها القوة التي ليس لها مثيل في هذا العالم اليوم، ولن يكون لها مثيل مطلقاً.
فنسأل الله عز وجل أن يردنا إلى ديننا رداً جميلاً، وأن يعلمنا ويبصرنا بكتاب ربنا، وأن يلزمنا سنة نبينا، وأن يجعلنا لآثار الصالحين مقتفين.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً ينفعنا ويرفعنا يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبيلاً لمن اهتدى، اللهم تول أمرنا، وارحمنا ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبعك رضاك يا رب العالمين! اللهم وفقنا لما تحب وترضى، واصرف عنا ما لا تحب وترضى.
اللهم احفظ بلاد الحرمين الشريفين من كل سوء، اللهم اجعلها بلد الأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والهداية والاستقامة، ورغد العيش ورخائه يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن ترد عنا كيد الكائدين، وشرور المعتدين، وأن تحفظ بلاد الإسلام والمسلمين من كل سوء وضر وعدوان يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن توفقنا لطاعتك ومرضاتك، وأن تجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وأخص منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي: أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم صل وسلم وبارك على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(171/9)
أنى اتجهت إلى بلد وجدت إسلاماً
إن الإسلام يدخل بنفسه إلى القلوب فيحييها بإذن الله بعد أن كانت ميتة، وإن الكفر ينزوي يوماً بعد يوم، وما ذلك إلا أن الإسلام موكول حفظه ورعايته وإتمامه إلى الله، وغيره موكول إلى البشر، والمأساة كل المأساة حين لا يعرف قيمة هذا الدين أهله المنتسبون إليه، فيتهافتون على الفسق والفجور تهافت الفراش، ولا مخرج من ذلك إلا بفهم ووعي وإدراك، وعمل وبذل وتضحية، وتعاون من الجميع على الخير ونشره بين الناس.(172/1)
المستقبل للإسلام
الحمد لله لا إله غيره ولا رب سواه، لا يضل من استهداه، ولا يخيب من رجاه، ولا يحرم من استعطاه، له الحمد جل وعلا، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، له الخلق والأمر، وبيده ملكوت كل شيء، وهو على كل شيء قدير، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً يليق بجلاله وعظيم سلطانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى، ومنار التقى، أسمع الله به آذاناً صماً، وأحيا به قلوباً ميتة، وزادنا وببعثته هدى من بعد ضلالة، ورشداً من بعد غي، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون: أنى اتجهت إلى بلد وجدت إسلاماً وأنى يممت إلى قطر وجدت مسلمين! هذا الدين في كل صقع من الأرض له أتباع تخفق به قلوبهم اعتقاداً ويقيناً، وتجسده جوارحهم التزاماً وامتثالاً، ويظهرون محاسنه دعوة واقتداءً، ونجد ذلك تصديقاً لحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، حتى لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا دخله الإسلام، بعز عزيز أو بذل ذليل)، هذا الدين الذي نجد الدنيا كلها منشغلة به حتى وإن كان انشغال الأعداء حتى وإن كان على سبيل الكذب والافتراء حتى وإن كان على سبيل العدوان والاعتداء؛ فإن هذا الانشغال دليل على عظمة الإسلام، وكل أمر يشغل الناس ولو بالمعارضة دون التأييد فدليل على قوته وأثره وأهميته.
وثمة أديان أخرى أصلها سماوي، وإرثها نبوي، وهي في عقر ديارها اليوم لا يذكرها أحد، أجيالهم الجديدة اليوم لا تعرف شيئاً عن ذلك الدين، ولا عن إرثهم التاريخي، ولا يشهدون أماكن العبادة، ولا يكادون يعرفون شيئاً عن هذا الدين، بل إنهم يصرحون بأنهم لا يعرفون ديناً، ولا يلتزمون عقيدة أو يقيناً بأي شيء من الأشياء، بل إنهم كذلك يهاجمون أحياناً دينهم، ويرونه صورة من صور التخلف أو التقيد وعدم الفاعلية في الحياة.
إن الإنسان ليعجب كثيراً وهو يرى ذلك، وبعض المسلمين ربما ينظر إلى الجانب المظلم، وإلى الجانب الذي يرى فيه هذا العداء المتعاظم، وذلك الكيد الكبار، وتلك المؤامرات المتواصلة، ولا يرى كيف يشرق الإسلام في كل يوم على قلوب جديدة لم تعرفه، فإذا بها تقبل عليه وتعتنقه، ولا ينتبه أيضاً إلى فئام من المسلمين ضلوا في دروب الحياة، وغرقوا في شهواتها، وكل يوم يستيقظ منهم ويعود إلى الذكر من بعد الغفلة وإلى الالتزام من بعد الفتور والتفريط، فئام وجماهير من المسلمين.
إن مستقبل الإسلام قطعاً ويقيناً هو المستقبل الذي سيملأ هذه الدنيا كلها عدلاً وإنسانية، كما سيقيم فيها الخلق الفاضل، والنهج المستقيم، وذلك بقدر الله وقوته، وما اقتضته سنته التي جعلت وجود هذا الدين في هذه الحياة يعتمد على ما يقوم به المسلمون: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، فسنة الله لا تحابي أحداً، وسنة الله لا تتغير: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43].
لو كانت السنة الربانية تحابي أحداً لكان أولى الناس بذلك سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن عندما خالف بعض أصحابه في غزوة أحد أمراً من أوامره دارت الدائرة عليهم، وكانت دائرة مؤلمة، ذهب ضحيتها سبعون من الشهداء، وكان فيها جرح غائر عظيم في نفوس المؤمنين، وجاءت الآيات: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165].
الإسلام دين عظيم، والمسلمون فيهم عاملون فضلاء، وفيهم غافلون سفهاء، وفيهم معاندون أقرب إلى الأعداء، ويوم ينطبق ما بين أهل الإسلام ودينهم فحينئذ لن تقوم في وجههم قائمة، ولن تستطيع أن تعترض مسيرتهم قوة، وسوف يجددون ما كان من تاريخ أسلافهم، ويعيدون ما مضى من أمجادهم؛ لأن تلك هي سنة الله عز وجل.
أنتم معاشر المسلمين تملكون أعظم شيء في الوجود، إنه الدين الذي يسير الحياة ويقودها، ويدخل في كل جزئية من جزئيات الحياة، ويؤثر في جميع الأحياء بل وفي غير الأحياء؛ لأنه شامل لكل شيء في الحياة.
نحن أمة الإسلام أمة القرآن المحفوظ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، أمة القرآن الذي فيه شفاء للناس: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82]، شفاء أمراض الحس، وأمراض المعنى، أمراض القلوب، وأدواء النفوس، وضلالات العقول.
كل شيء في كتاب الله، ففيه الهداية التامة: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء:9].
نحن أمة الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40]، أمة الرسول الذي مثل كل جوانب الحياة، فكان هو المؤمن العابد، وكان هو القاضي العادل، وكان هو الحاكم النزيه، وكان هو القائد الشجاع، وكان هو الزوج الرحيم، وكان هو المربي العظيم، وكان هو الصاحب الوفي، فكل جانب من جوانب الحياة نرى فيه صورة مثلى، وقدوة عظمى لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب:21].
نحن أمة الإسلام أمة الرسالة الخالدة إلى قيام الساعة، ليس بعد هذا الدين دين، وليس بعد هذه الرسالة رسالة، جعل الله سبحانه وتعالى فيها كل ما يصلح الناس في سائر الأزمان والأمكنة إلى قيام الساعة، فما بال المسلمين؟(172/2)
صور متناقضة عن المسلمين المقيمين في أقاصي الأرض
دعوني أنقل لكم بعض الصور في بلاد بعيدة من خلال أقليات مسلمة، لنرى أن من قام بالإسلام وعمل به كان له دور وأثر، وأن هناك من ضيع وفرط، وأن الخير في هذه الأمة يزداد ويتضاعف، ويوم يتقلص الشر والفساد والإفساد فسوف تتنزل علينا من رحمات الله ما حجبت بسبب الذنوب والمعاصي والآثام: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41]، تلك هي سنة الله عز وجل.
في أقصى شمال الأرض التي في بعض بقاعها ومناطقها تمر بهم أيام ليس فيها نهار أبداً، أو نهار ليس فيه ليل أبداً، ووجدت فيها مسلمين يأتون ليفرغوا أنفسهم وأوقاتهم ويتركوا أهلهم وأعمالهم ليتعلموا دينهم، ويسألوا عن صلاتهم وصيامهم وسائر أوضاعهم.
ورأيت في تلك المجتمعات صوراً أخرى متناقضة، صوراً ممسوخة نسيت دينها، وانسلخت من تاريخها، وتجردت من أصولها، وأصبحت نموذجاً مشوهاً للضياع والتيه.
وفي بلد أخرى مسجد للمسلمين مهدد بالضياع؛ لأنهم لا يملكون تسديد باقي قيمته، وفي الوقت نفسه في تلك البلاد تاجر فاجر يملك الملايين وهو منتسب إلى الإسلام، لا يعرف طريق المسجد، ولا يدري أين موقعه، وتدور الدائرة عليه ويصبح رهين السجن نتيجة لتلاعبه وتحايله! وفي بلد آخر لقيت جمعاً من الناس يفضون بهمومهم، فإذا هي حول تعليم أبناء المسلمين، كيف ينشئون المدارس في الأوقات الإضافية في آخر الأسبوع ليعلموا العلوم الإسلامية واللغة العربية، ليحفظوا الهوية، ويجعلوا الجيل القادم جيل إسلام وطهر ونقاء، وعلى مقربة منهم ببضع خطوات لا أكثر سياح من بلاد الإسلام والمسلمين، يبذرون الأموال في الملاهي وشرب الخمور والعهر والفساد، كأنما الإنسان يرى التناقض العجيب والصورة المتعارضة؛ فيدرك أن سنة الله عز وجل تمضي بقدر الله عز وجل؛ ليكون في ذلك بإذنه جل وعلا خير عاجل غير آجل إن شاء الله.
وصورة أخرى أنقلها لنرى هذا التناقض الذي يكاد يعرفه كل الناس: سائق أجرة مسلم في عاصمة غربية كبرى ركبت وحدثته، فحدثني بغيظ عظيم، وبألم كبير؛ لأنه يجوب الطرقات ويركب معه من بلاد الإسلام والعرب كثير من الناس، ويرى في حالهم وسلوكهم ما يفطر قلبه، ويحير عقله، وأخبرني عن قصة واحدة، قال: ركبت معي امرأتان متحجبتان تغطيان وجوههما، لكنني عجبت من المكان الذي تقصدانه، إنهما تطلبان مني أن أوصلهما إلى مكان هو واحد من الملاهي التي يفعل فيها كل أنواع الفسق والفجور، وعند الدخول لم يكن هناك حجاب ولا غطاء، وكان حارس المكان -وهو أجنبي- يضرب على الظهور ويشجع ويرحب ويقدم.
هذه الصور المتناقضة تبين لنا قضية مهمة، لو أننا استطعنا أن نعرف ما هو السر الذي جعل أولئك عاملين فضلاء مهتمين حريصين على دينهم، ولماذا كان هؤلاء غافلين يقومون بمثل هذه الأعمال ولا يكادون يذكرون أمر أمتهم ولا شأن دينهم؛ لو عرفنا الأسباب واستطعنا أن نعالجها لاستطعنا بإذن الله أن نكثر من الجانب الأول، وأن نقلل من الجانب الثاني.
ولعلي أذكر صورة أخيرة قبل أن أمضي إلى التنبيه على ما نحتاج إليه: في البلاد الغربية وفي بعض العواصم الكبرى منها على وجه الخصوص، من أبرز برامج الصيف في تلك العواصم الغربية: الأغاني العربية، يحضرها مغنون يسافرون من بلاد العرب، وجمهورهم من السياح الذين يسافرون أيضاً، فإنه لن يحضر هذه الأغاني من لا يعرف العربية، فتعجب لماذا تغادرون بلادكم وتنفقون أموالكم لتستمعوا إلى المغنين الذين بدياركم؟! لترى كيف تكون العقول والنفوس إذا شردت وبعدت عن طريق الله عز وجل!(172/3)
أهم القضايا والأمور التي نعالج بها الواقع المر
أمور كثيرة نحتاجها، غير أني أذكر ثلاثة منها هي محور الحديث وجوهره، وهي لب القضية وأساسها:(172/4)
التعاون والتكامل
وأخيراً: التعاون والتكامل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2]، نحن أمة الإسلام أمة الإخاء أمة الوحدة أمة الارتباط: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، والله عز وجل قد بين لنا أن أعظم منة منَّ بها على رسوله صلى الله عليه وسلم هي التأليف بين القلوب الذي يتبعه توحيد بين الصفوف، ويتبعه تكامل في العمل ومواجهة الأعداء، كما أخبرنا الله جل وعلا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:103].
وكما صور لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم قضية التكامل بقوله: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)، وقوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، وقوله: (مثل المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى)، وقوله: (المؤمن مرآة أخيه)، أين هذه المعاني والفرقة قد دبت والخلاف قد استشرى، والكل قد أدبر عن أخيه؟ ولكننا نجد هذه الدعوة إلى هذا الائتلاف والانسجام مع وجود وتضاعف العداء بحمد الله تلقى صدىً واسعاً، فقد جعل الله سبحانه وتعالى من حكمته ورحمته تسلط الأعداء سبباً في تكتل المسلمين وتقاربهم.
نسأل الله عز وجل أن يبصرنا بديننا، وأن يجعلنا في سبيله ولدعوته باذلين وعاملين، وأن يجعلنا على نهجه وعلى الإيمان به وعلى متابعة رسوله مؤتلفين ومتفقين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(172/5)
العمل والبذل والتضحية
الأمر الثاني: العمل والبذل والتضحية: لا يمكن أن تجد ثمرة بدون عمل، ولا نتيجة بدون جهد، تلك سنة من سنن الكون والحياة، من يريد المال ألا يبذل ويتعب، من يريد الرقي في الوظائف ألا يجتهد ويبذل، من يريد تحقيق أي غاية ألا يسعى إليها، وقد يواصل ليله ونهاره: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105].
لا يغنينا الانتساب إلى الإسلام، ولا يكفينا الانتماء إلى الإيمان، ولا يعفينا من القيام بمهماتنا أننا من بلاد الحرمين أو من هذه البلاد أو تلك، أو أننا من أولئك القوم أو من نسلهم، فقد قال محمد صلى الله عليه وسلم: (يا فاطمة بنت محمد اعملي، فوالله لا أغني عنك من الله شيئاً، يا عباس اعمل، فوالله لا أغني عنك من الله شيئاً)، وفي حديث آخر قال: (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه).
إن الانتساب للدين، والانتماء للأمة، لابد أن يكون له حقيقة يصدقها العمل والبذل لا في ذات الإنسان نفسه بل في كل الدوائر، فأنت مسئول عن نفسك: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38]، وأنت مسئول عن أهلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، وأنت مسئول عن الأمة كلها بما ينبغي عليك من أمر بمعروف ونهي عن منكر: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة:71]؛ يوم نفقه ذلك نتذكر ما كان عليه عمر رضي الله عنه، يوم كان لا ينام ليله حتى يعس ويتفقد أحوال المسلمين، حتى قال: (لو عثرت بغلة في العراق لخشيت أن يسألني الله عنها).
يوم كانت المسئولية العظيمة تملأ القلوب فتزهد في الدنيا، ويبذل أصحابها قمة البذل والعمل، حتى وقف عقبة بن نافع على شاطئ الخضم والبحر العظيم يقول: والله لو كنت أعلم أن وراءك قوماً لخضتك مجاهداً في سبيل الله، ومبلغاً لدين الله.
يوم تكون قمة الفهم والوعي والإدراك مستقرة في القلوب، تتحرك النفوس بالعمل وتعلو الهمم، ويكون للمسلمين بذل وعطاء عظيم.(172/6)
الوعي والفهم والإدراك
أولها: الوعي والفهم والإدراك: أنت أيها المسلم هل تعي دورك؟ هل تفهم رسالتك؟ هل تدرك غاية وجودك؟ هل تعرف تاريخك؟ هل تدرك صورة وصفة أمتك؟ يوم يحصل ذلك يتغير الأمر باتجاه ما يستقر في القلب من مشاعر وعواطف، وما يجول في العقل من أفكار وخواطر، وما تمارسه الجوارح من أفعال وأحوال، إننا معاشر المسلمين نحتاج أن نركز كثيراً على حقيقة إسلامنا وإيماننا، وأن غاية الوجود في الحياة عبادة الله وإعمار الحياة، تلك هي الرسالة التي جاء بها الإسلام: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].
وإعمار الحياة أن نقود هذه الحياة في تقنياتها وصناعتها، وفي كل جانب من جوانبها باسم الله، وعلى منهج الله، وعلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يكون في الحياة اقتصاد إلا وهو ملتزم نهج الإسلام، ولا سياسة إلا وهي منضبطة بضوابطه، ولا علم إلا وهو قائم على أسسه العامة، وعلى مراميه ومقاصده الكلية، ويوم يكون ذلك كذلك يتجدد فينا ما كان في أسلافنا، يوم عمروا الكون بالمساجد والمحاريب ومدارس العلم والقرآن، ويوم عمروا الدنيا كذلك بكل المخترعات والعلوم التي سبقوا فيها غيرهم، والتي أسست حضارة اليوم على تلك النهضة العلمية العملية التجريبية التي كانت للمسلمين في بلاد الأندلس، وفي بغداد، وفي دمشق، وفي حواضر العالم الإسلامي كله.
إن قضيتنا في فهم رسالتنا وإدراك عمقها وشمولها لجوانب الحياة، وأنه لا ينبغي لنا أن نكون أمة إسلام ثم نكون أمة تخلف، وأنه لا ينبغي لنا أن نكون أمة قرآن ونكون أمة جهل، لم تكون نسب الجهل ونسب الأمية في البلاد العربية والإسلامية أكثر من غيرها؟ ولم لا تكون النهضة العلمية والصناعية في البلاد الإسلامية؟ لم نحن في آخر الركب؟ لأننا لم نفقه الدين فقه الحياة المطلوب والمنشود.
كتب أحد المؤرخين الغربيين في عام سبعة وثلاثين وتسعمائة وألف ميلادية -أي قبل نحو سبعين عاماً- يتكلم عن بعض البلاد وعين معها ثلاث دول إسلامية قال: هذه الدول فيها من القدرات والطاقات، ولها من الأعمال والمنجزات ما أظنها ستكون به مثل الدول المتقدمة وتنافسها.
واليوم وبعد سبعين عاماً من هذه المقولة نجد هذه الدول وقد صار بينها وبين تلك الدول بوناً شاسعاً ومسافة هائلة، كانت إحدى هذه الدول هي الدولة الثانية في العالم في تصنيع القطن، واليوم نجد هذه وغيرها في ذيل القائمة، لماذا؟ لأن المسلمين لم يفقهوا حقيقة دينهم وظنوه في جانب من الجوانب، وحتى تلك الجوانب التعبدية والإيمانية أخلوا بها انحرافاً وابتداعاً، أو تقصيراً وتفريطاً، أو أنها كانت صوراً ظاهرة لا حقيقة لها في قلوبهم، ولا أثر لها في نفوسهم، ولا وجود لها في واقعهم، وذلك ما ينبغي أن نلتفت إليه يوم أن ندرك ونعرف غايتنا، ونعرف ما الذي نقدمه: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24].
هل هذه الأمور هي المقدمة في حياتنا؟ هل هي الشاغلة لفكرنا؟ هل هي التي تنقضي فيها أوقاتنا؟ هل هي التي تتعلق بها قلوبنا؟ إذاً: فكيف سنكون عابدين لله، وكيف سنجعل الحياة محراب عبادة وطاعة لله؟ وكيف سنقود الحياة على منهج الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ تلك غاية مهمة، ورسالة عظيمة، وفقه أصيل يوم فقهه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وعرفوا حق هذا الدين، كان الواحد منهم يسلم في لحظة فيتغير فكره وشعوره وعاطفته وعمله وسلوكه وعلاقاته وصلاته؛ لأنه ينصبغ بصبغة جديدة: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} [البقرة:138].
يوم يفقه المسلمون حقيقة هذا الدين، ويفهمون غايتهم في هذا الوجود يكونون كما كان أسلافهم، ويجددون ما هو بحمد الله موجود في بعض أفرادهم، وفي جماعات وفئام كثيرة منهم اليوم، ويكون لذلك أثره ونفعه بإذن الله.(172/7)
تساؤلات لابد منها
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن، واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
وإن هذه المعاني التي ذكرتها رغم قلتها ووضوحها وبساطتها إلا أننا جميعاً لا نكاد نخلو من تقصير فيها، ولعلي أختم بهذه التساؤلات لأثيرها في كل ذهن، وأحييها في كل نفس، في الوعي والإدراك والفهم: هل تبيت وأنت تحمل هماً لأجل الإسلام والمسلمين؟! هل تستيقظ وفي فكرك أحوال الأمة وينشغل بالك بكيفية علاجها، أم أنك تمر بك الأيام والليالي وأنت تضرب في هذه الأرض، وتأكل من نعيم الله، وتملأ بطنك، وتنام ملء جفنيك وكأن أمر هذه الأمة لا يعنيك؟ إن كنت كذلك فما فقهت حقيقة ارتباطك، وما عرفت غاية وجودك حق المعرفة.
الأمر الثاني: سل نفسك: ماذا عملت؟ {وَقُلِ اعْمَلُوا} [التوبة:105]، هل عملت ما هو واجب عليك في حق نفسك؟ وهل قمت بدورك ورسالتك وواجبك تجاه أهلك وأسرتك؟ وهل لك دور وإسهام في الأعمال التي تعود على الأمة بالنفع؟ هل تشارك في هذا البرنامج أو ذاك؟ هل تسهم في تلك المهمة أو تلك؟ هل تعمل في تلك المؤسسة أو الأخرى؟ أم أنك إذا انتهيت من عملك وكسبك خلدت إلى راحتك، وشغلت نفسك ببعض من اللهو والعبث الذي لا يليق بمثلك؟ وأخيراً: هل تمد يدك إلى إخوانك؟ هل تغض الطرف عن الأخطاء؟ هل تتجاوز عن بعض الهفوات؟ هل تملأ قلبك بذلك الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم سبباً من أسباب دخول الجنة يوم قال: (يدخل عليكم رجل من أهل الجنة)، وكان سبب هذه البشارة أنه يبيت وليس في قلبه غل ولا غش ولا حسد لأحد من المسلمين؟ إننا جميعاً مقصرون! فلعلنا نستدرك ذلك، ونراجع أنفسنا، وتلك هي الانطلاقة الصحيحة؛ لأن الله جل وعلا يقول فيما بينه من سنته الماضية: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، نسألك اللهم أن تغير ما بأنفسنا إلى الخير والصلاح والهدى والتقى يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وأقل عثراتنا، وامح سيئاتنا، وضاعف حسناتنا، وارفع درجاتنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك التوفيق للصالحات، وأن تصرف عنا الشرور والسيئات، وأن تغفر اللهم لنا ما مضى وما هو آت، برحمتك يا رب الأرض والسماوات، اللهم إنا نسألك أن تملأ قلوبنا بحبك، وأن تنطق ألسنتنا بذكرك، وأن تستخدم جوارحنا في طاعتك، وأن تسخرنا في نصرة دينك، وأن تجعلنا ستاراً لقدرك في نصر الإسلام والمسلمين يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راضٍ عنا، اللهم أحسن ختامنا وعاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد المسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه، اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، أحصهم اللهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، ورد كيدهم في نحرهم، واشغلهم بأنفسهم، وفرق كلمتهم، واستأصل شأفتهم، ودمر قوتهم بقوتك وعزتك يا رب العالمين! اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين، والمعذبين والمشردين والمبعدين، والأسرى والمسجونين في كل مكان يا رب العالمين، اللهم امسح عبرتهم، وسكن لوعتهم، وفرج همهم، ونفس كربهم، وعجل فرجهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم، وزد إيمانهم، وعظم يقينهم، واجعل ما قضيت عليهم زيادة لهم في الإيمان واليقين، ولا تجعله فتنة لهم في الدين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء.
اللهم اصرف عنا الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(172/8)
غداً الاختبارات
العلم أحد ركائز الأمم للسير نحو الأمام، وهو الدفة التي توجه المجتمعات نحو كل فضيلة، وتخرجها من كل رذيلة، والتعليم النظامي المعهود -على ما فيه من مثالب وسلبيات- أمره عظيم، وتبذل الحكومات جهوداً جبارة لإنجاحه، وأهم عامل لإنجاح هذا العمل: الطالب والمعلم، ولكل منهما حقوق وواجبات ومشاكل تنتهي بالاختبارات في نهاية العام الدراسي؛ لتكون النتيجة مقياساً لما أنجز وتحقق من حصيلة علمية طوال العام.(173/1)
التعليم كمنظومة متكاملة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين.
أما بعد: أيها الأحبة! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، هذا موعدنا مع الدرس الثامن والعشرين، وهو بعنوان: غداً الاختبارات، وقد جاء توقيت الدرس مناسباً؛ لأنه بالفعل غداً تبدأ الاختبارات، وسيكون الموضوع منقسماً إلى مقدمة، ثم إلى فقرات ثلاث: أولها: ما يتعلق بالطالب، وفيه أيضاً موضوعات: سمات الطالب المسلم، وطريقة المذاكرة ومشكلاتها، والاختبارات، والإجابة على الأسئلة.
ثانيها: المدرس ودوره في العملية التعليمية، ووضعه للأسئلة، وتصحيحه لها.
ثالثها: ما يتعلق بقضايا متفرقة حول التعليم.
ونبدأ بالمقدمة، وأردت من خلالها النظر إلى أهمية قضية التعليم من وجوه متعددة.
أولاً: نشرت صحف الأمس أن نحواً من مليونين وأربعمائة ألف طالب وطالبة سيتقدمون لإجراء الاختبارات في يوم غد -بإذن الله سبحانه وتعالى-، وإذا حسبت وتصورت هذا العدد، وعرفت أن وراءهم أسراً تنفق عليهم، وإدارات للتعليم تعد المناهج، ومدرسون يدرسون، وسياسة تعليمية، ومتابعة تقويمية؛ لعرفت أن قضية الاختبارات ليست سؤالاً وجواباً، بل هي جزء من قضية كبرى في حياة المجتمع والأمة.
ثانياً: العلم ركيزة أساسية في بناء الحياة، وما زال تأثيره ودوره يتضاعف كلما تقدمت البشرية في أسباب الحياة المدنية، وكلما ارتادت آفاقاً جديدة من آفاق الاكتشاف والتصنيع والاستنباط والاجتهاد في حلول مشكلات هذه الحياة، وبالتالي فإنه في ظل هذا السباق نحو تحصيل أسباب الحياة المادية بالسبل والطرق العلمية ليس هناك مكان لأمة متكاسلة لا تدفع أبناءها إلى تحصيل العلم، ولا تحفزهم لنيل قصب السبق فيه، وتجاوز المراحل المعتادة إلى المراحل المتقدمة، ومن هنا تظهر أهمية العملية التعليمية من كل جوانبها، وبجانبها المدني للأمة المسلمة التي تعاني تخلفاً وتأخراً كبيراً في هذا الميدان.
ثالثاً: ينبغي أن نعلم أن الارتقاء بالعملية التعليمية ليس أمراً مستقلاً بذاته، بل هو جزء من الارتقاء في جوانب الحياة كلها، فإنه لا يمكن أن ترتقي الأمة في مستواها التعليمي وهي متخلفة أخلاقياً، وهي متأخرة إدارياً، وهي تعاني من فساد أنظمة الحكم، أو تعاني من شظف العيش، فإن جميع جوانب الحياة تتكامل وتتناسق لتؤدي بعد ذلك إلى صورة متقابلة متوازية من الارتقاء والتكامل؛ ولذلك يجب أن نعلم أنه لا ارتقاء في المستوى التعليمي ولا للعملية التعليمية إلا في ظل إصلاح شامل، وتكامل يستوعب جميع الجوانب، ولعل أولها وأبرزها وأهمها: الارتقاء الإيماني الذي يقوم سائر جوانب الارتقاء، ويربطها بالطهر والنقاء، وينظمها في سلك البذل والعطاء، ويعصمها من البغي والاعتداء، فإن العلم المجرد من ضوابط الإيمان وأخلاقياته كثيراً ما يقع به فساد في الأرض، وضرر على الإنسان؛ لأن العلم ما لم يضبط بإيمان وأدب وخلق فإن مضرته كثيراً ما تكون أكثر من منفعته.
رابعاً: أن كل هذا العمل -أي: الارتقاء في الجانب التعليمي على وجه الخصوص والجوانب الأخرى كلها- يحتاج إلى إيجاد الفرد الذي هو المقصود الأول والهدف الأعظم في هذا الارتقاء، فنحن حينما نقول: مناهج تربوية دراسات شرعية دراسات علمية جوانب أخلاقية نريد أن يتشكل في هذا الفرد، ولا تتم العملية إلا من خلال هذا الفرد، ولذلك لابد من إيجاد الفرد الذي يتحلى بقابليته للتلقي، واستعداده للتفاعل، وأهليته لتجاوز مرحلة الاجترار إلى مرحلة الابتكار، تكفينا الدهور والسنوات الطويلة المتعاقبة التي ظللنا نجتر فيها أقوالاً قديمة، وعلوماً تأتينا من الشرق والغرب ليس لنا فيها إلا أن نحفظها وأن نكررها ونمارسها بالقدر الذي يسمح لنا به، ويفرض علينا في كثير من الأحيان.
خامساً: أهمية التعليم خطيرة جداً، وعظيمة جداً؛ لأن مناهج التعليم هي التي تصوغ الأفكار، وتشكل جيل المستقبل؛ فإنك تجد أن أية دولة وأية فكرة وأي مبدأ أول اهتماماته عندما تفضي إليه الأمور وتصبح مقاليدها بيده؛ هو مناهج التعليم، فإذا جاءت دولة شيوعية فأول قضية تفرغ لها جهدها أن تؤلف وتنشأ مناهج جديدة تخدم الفكرة وتؤصلها وتعرقها وتعمقها في قلوب الناس، وهكذا فلذلك ليست قضية التعليم هي الاختبار أو السؤال، وإنما هي وحدة متكاملة من أساسياتها: السياسة التعليمية، والإدارة التعليمية، والمناهج التعليمية.
وكل هذا لا يكفي، بل ينبغي أن يوجد المدرس الذي ينفذ هذه السياسات ويحقق أغراض وأهداف هذه المناهج، ولابد من وجود الطالب الذي يتقبل ذلك ويتفاعل معه، ولذلك فإن عملية التعليم تعد أولى أولويات المجتمع والدولة في أية بقعة من بقاع الأرض، وهي كذلك سبب من أسباب درأ كثير من وجوه القصور والنقص؛ لأن التعليم والعلم مفتاح لكثير من الأبواب، سواءً في أبواب العمل، أو الصناعة، أو التجارة، أو درأ التخلف في صور اجتماعية وعادات وتقاليد وغير ذلك، وكثيراً ما يكون التعليم هو الباب الذي تفتح به هذه المغاليق، وتحل به هذه المشكلات.(173/2)
قضايا تهم الطالب في عملية المذاكرة
نشرع في ذكر النقاط المتعلقة بالطلاب، والحقيقة أن مسألة التعليم لابد أن يكون هناك موضوع خاص يتحدث حولها، وبحكم التركيز على جانب الاختبارات سنمر على بعض هذه القضايا المهمة، لكنها قطعاً لن تكون شاملة للمقصود في العلاج، والتركيز اللازم للفت النظر إلى كثير من القضايا حول التعليم.(173/3)
سمات الطالب المسلم
أول قضية بالنسبة للطالب أنبه عليها هي: سمات الطالب المسلم، ولن أسرد كثيراً من السمات، وإنما أجمع وأركز على أربعة منها: أولها: تحديد الهدف والغاية: فليس المسلم هو الذي يخبط خبط عشواء، ويدرس ولا يدري لماذا يدرس؟ ويتخصص في مجال ولا يدري لماذا يتخصص؟ وليس له في ذلك قصد ولا غاية ولا نية ولا توجه، فإن هذا عبث ينزه عنه الإسلام المسلم، ويلفت نظره قول الشاعر: قد هيئوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل والتعليم يعتبر جزءاً من حياة الطالب المسلم، ويدخل ضمن عموميات المفهومات المستقرة لدى الطالب في قوله جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وقوله جل وعلا: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]، فهدفه إرضاء الله سبحانه وتعالى، وتحصيل ما يستعين به على طاعة الله، وخدمة أمة الإسلام، ودفع أسباب الضعف والخور عنها، متمثلة في شخصه، وفيمن حوله، ليس عنده تحديد للغاية فقط، بل إن غايته تشمل مصلحة أوسع من دائرة الأنانية الذاتية، فليست نظرته قاصرة في الحصول على الشهادة، أو التفوق لذات التفوق، بل إنه يكرس ذلك كله إلى أهداف سامية، وغايات تشمل جميع الأمة في مصالحها وشئونها المتعددة، وهذا أول أمر من سمات الطالب المسلم.
ثانيها: الجد والإتقان: الجد طريق المجد، والإتقان طريق رضى الرحمن، ليس هناك وقت للخور ولا للتكاسل في حياة المسلم، والطالب أيضاً في هذا المضمار ليس عنده أية كلمات في قاموس حياته التعليمية تقبل الكسل أو الخور أو الرسوب أو الضعف أو نحو ذلك، بل كله جد يستشعر قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)، ينبغي أن يتأمل الطالب أنه مفرغ للدراسة، ومهنته المكتوبة في هويته: طالب، وينفق عليه لأجل ذلك، وتبنى له المدارس لأجل ذلك، ويحضر له المدرسون، وتتوافر كل هذه الإمكانات والجهود والطاقات والعقول والسياسات والإدارات لأجل أن يكون هو المستثمر والمستفيد حتى ينعكس ذلك عليه وعلى المجتمع من بعد ذلك، فكيف يخلف الظن في كل هذه الأمور؟! لو كان هذا في الأحوال المعتادة مقبولاً أو العتب فيه خفيفاً أو يسيراً لكنه في ظل أوضاع تأخر الأمة وتخلفها اليوم لا يمكن أن يكون مستساغاً ولا مقبولاً بأية صورة من الصور، فإن الإنسان إذا كان في سباق وعلم أن المتسابقين قد سبقوه في المسير بساعات عدة وهو يريد أن يلحق بهم -لا نقول: يريد أن يسبقهم- فلن يبذل جهده المعتاد أو الطاقة المعتادة المتوقعة، بل المتوقع أن يبذل الضعف، وأن يضاعف الجهد ليستدرك هذا الخلل وذلك الفارق الكبير.
ولاشك أن تخلف وتأخر الأمة في جوانب كثيرة يبعث الأسى والألم، ويثير الحزن، ويكثر الحديث عنه في خطب الخطباء، ووعظ الوعاظ، ولكن أكبر قوة وأقوى صورة لتغيير هذا الضعف واللحاق بالركب السائر هي صورة العمل والجد والإتقان، ولذلك حينما نسمع هذه الاستغاثات أو عدم الرضا عن هذا التخلف نسمعه كلاماً كأنه يدور في حلقة مفرغة، والإجابات العملية هي التي ينتظرها الناس، ويؤمل فيها التغيير، وإلا فإننا نستطيع أن نردد مع القائل كثيراً من أسباب التندم والتحسر، ولكن يحتاج الأمر في آخره إلى العمل.
ملكنا هذه الدنيا القرونا وأخضعها جدود خالدونا وسطرنا صحائف من ضياء فما نسي الزمان ولا نسينا وكنا حين يأخذنا عدو بطغيان ندوس له الجبينا تفيض قلوبنا بالهدي بأساً فما نغضي عن الظلم الجفونا وما فتأ الزمان يدور حتى مضى بالمجد قوم آخرونا وأصبح لا يرى في الركب قومي وقد كانوا أئمته سنينا وآلمني وآلم كل حر سؤال الدهر أين المسلمونا ترى هل يرجع الماضي فإني أذوب لذلك الماضي حنينا ولن يرجع إلا بالجد والإتقان.
ثالثها: الصبر والاستمرار: فإن التعليم وقضيته ليست ثورة عابرة، وليست طفرة حماس عابر، ولا زمن قصير سائر، بل هي صراع حضاري، وبناء أممي، جهاد طويل المسار، متعدد المسالك، تحتاج الأمة فيه من أفرادها وأبنائها إلى دأب واستمرار، فليس المسلم هو الذي يقنع بالدون، بل همته لا ترضى إلا بأعلى المعالي، ولذلك ما يزال كلما اقتبس علماً ووصل مرتبة سعى إلى غيرها، وكان بهذا السعي والتقدم عاملاً من عوامل التغيير المنشود.
رابعها: الاستمداد من الله سبحانه وتعالى، وهذه مزية الطالب المسلم؛ أنه يشعر دائماً بالفقر والعجز والحاجة لله سبحانه وتعالى، ولذا يندفع نحو الاستعانة بالله جل وعلا.
إذا لم يكن من الله عون للفتى فأول ما يقضي عليه اجتهاده ويستشعر قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، ولذلك تجد الطالب المسلم يستمد من الله عز وجل دوام الاستعانة به، والحرص على الاستقامة، ولذلك تجد في هذه الأيام بعض الطلاب يحرصون على الاستقامة، ويقبلون على المساجد، ويحرصون على الطاعات؛ لماذا؟ لأن في نفوسهم شعوراً بأن هذا يؤدي إلى التوفيق، ويقول الطالب في نفسه: إن أنا أطعت الله عز وجل يسر لي الأمر، وسهل لي العسير، ونحو ذلك، وهذا الشعور في حد ذاته محمود، لكن السمة للطالب المسلم الحق هي: دوام الاستمداد من الله سبحانه وتعالى، فلا يفتر، ويعلم قول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30]، فإذا كان هذا هو الجزاء في الآخرة فهو كذلك في الدنيا عظيم، بدوام التوفيق والتيسير والتسهيل.(173/4)
طريقة المذاكرة
النقطة الثانية: فيما يتعلق بالمذاكرة للطلاب، والموضوع كله في نقاط محددة ومركزة؛ لأن الدراسة أصلاً تحتاج إلى مثل هذا التركيز.
أولاً: التهيئة للمذاكرة، وتشمل: الاستعداد النفسي بإزاحة المشكلات التي تشوش الفكر، وتزيد الهم، ويحصل بها الاضطراب، وهناك كثير من المشكلات تعترض أحياناً مسيرة الطالب سواءً كانت مشكلات عامة في أسرته، أو مجتمعه، أو مشكلات خاصة، مثل: شعوره بالضعف والقصور، وعدم القدرة على التحصيل الجيد، أو تخوفه من عدم النجاح، أو تذكره لرسوب سابق ونحو ذلك، فلابد أن يهيئ نفسه لتكون مستعدة للتفاعل مع هذه المذاكرة.
ثانياً: الاستعداد الجسمي: فلابد من ترك السهر، والبعد عن الإرهاق، وتجنب ترك الطعام، والإقلال منه بشكل خاص في مثل أيام الاختبارات، وسيأتي أيضاً مزيد إيضاح لهذا.
ثالثاً: الاستعداد الفكري: بأن يعرف أهمية الاختبارات، وضرورة التفوق والنجاح، وأثر ذلك على أسرته ومن حوله، فهذا أيضاً يجعله متحفزاً للمذاكرة بالشكل الجيد.
رابعاً: توزيع الدراسة والمذاكرة وتقسيمها، بمعنى: إذا كان قبل الاختبارات فيوزع المواد على أيام حتى لا يجمع ويخلط في وقت واحد، أو يوزع المادة الواحدة في يوم الاختبار إلى أقسام، وهي مقسمة في الأصل إلى فصول وأبواب، لكنه يقسمها بحسب ما يحتاج إليه ويراه، ولماذا هذا التقسيم؟ الأمر الأول: لأنه يساعد على التفاعل والقبول النفسي: عندما ترى الكتاب ذا الصفحات المتعددة، ويهولك منظره؛ يكون هناك نوع من الهيبة، لكن إن قسمته وقلت: هذا القسم في الصباح، وهذا القسم بعد الظهر، وهذا القسم بعد العصر، تشعر بأن هذه الأقسام فيها نوع من التخفيف، وتهيئة النفس للتفاعل.
الأمر الثاني: أنه يساعد على استثمار الوقت، وحسن تنظيمه، فبعض الطلاب يبدأ يذاكر في فصل واحد، وبدون تقسيم للوقت ولا توزيعه، وإذا به أمضى سائر اليوم في ربع المنهج، وبقي له سويعات يريد أن يختم فيها ثلاثة أرباع المنهج! الأمر الثالث: أنه يساعد على معرفة التقدم والتأخر: أي أن هذا التقسيم إذا استخدمه، وجعل الوقت مناسباً للحصة، فقال: هذا الفصل من الساعة الثامنة إلى العاشرة فإنه سيدرك هل أنجزه في هذا الوقت؟ إذاً: السير متحتم، ويعرف إذا تأخر عنه، أما إذا كانت الكمية كلها لم تنجز فإنه قد يفطن إلى التقدم والتأخر لكن في الوقت الضائع كما يقولون.
الأمر الرابع: أن هذا يساعد على الحفظ والاستيعاب: فالله عز وجل قد قال: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} [الإسراء:106]، نزل القرآن منجماً، ومن فوائد تنجيمه: سهولة حفظه واستيعابه شيئاً فشيئاً، والشيء إذا كان متكاثراً يصعب على الإنسان تحصيله.
خامساً: البداية بالصعب أو بالسهل: هناك مذهبان في هذه المسألة، ولكل منهما مزايا: إما أن يبدأ بالصعب، لماذا؟ أولاً: لأنه في البداية يكون عنده قوة وتفتح ذهن وعزيمة وهمة، فلا يصعب عليه الصعب.
ثانياً: لأنه إذا نجح في معالجة الصعب وحفظه واستيعابه سهل الباقي، مثلما قيل لـ عنترة: كيف اكتسبت هذه الشجاعة؟ قال: كنت أعمد إلى الرجل الجبان الرعديد فأضربه ضربة ينخلع لها قلب الشجاع.
فإذا جاء الطالب إلى الفصل الصعب واستطاع أن يتجاوزه فسيكون ما بعده بلاشك أيسر وأسهل، ونفسه وقدرته على تجاوز المصاعب الأخرى أكبر.
ثالثاً: هذا في نفس الوقت أيضاً يساعده على استثمار الوقت من جهة أنه إذا قضى وقتاً طويلاً في الصعب فإن الوقت اليسير الباقي سيكفي لتغطية الجوانب السهلة واليسيرة.
وغالباً في مسائل الفقه المقارن إذا جاءوا بمذهب الشافعي مثلاً بالأدلة، تقول: ليس هناك قول أرجح من هذا القول، فإذا جاء المذهب الآخر بأدلته جعلك تتردد في أيهما أرجح.
المذهب الثاني يقول: يبدأ بالأسهل، لماذا؟ أولاً: إن من فوائد هذه البدايات أنها تشجع الإنسان على الاستمرار، فإذا مضى في الأسهل، وأنهى فصلاً وفصلين وثلاثة، فسينهي ما وراء ذلك.
ثانياً: أنه ينشط الذهن، فإن الإنسان إذا بدأ بالصعب واستغلق ذهنه جاء إلى السهل ولم يعد يفهمه، فإذا جاء إلى مسائل معقدة جاء إلى المسائل السهلة بنفسية معقدة فعقدها فلم يعد يفهمها.
ثالثاً: الشعور بالتفرغ للأمر الصعب، ودائماً الإنسان إذا كان عنده قضايا يزيح الأسهل الأسهل حتى يفرغ وقته وجهده وطاقته في آخر الأمر للقضية الكبرى، فيكون أيضاً هناك اندفاع نحوها.
والمسألة راجعة إلى نفسية الطالب، وإلى ما يراه أنسب وأوفق لطبيعته، ولكن ليس بالضرورة دائماً أن تأخذ المنهج كله، لك أن تبدأ بالأسهل أو الأصعب متفرقاً إذا كانت المادة تحتمل مثل هذا التفريق، أما إذا كانت مترابطة فلابد من مثل هذا الترابط.
سادساً: الحرص على الفهم والاستيعاب، وليس على التجاوز والحفظ المجرد، فبعض الطلاب يريد أن ينتهي وكأنه يغرر بنفسه، فلو كان هناك شيء صعب أو مسألة لم يفهمها يتجاوزها، والمهم أن ينتهي، حتى إذا جاء إلى آخر الكتاب قال: انتهيت، والآن أعود إلى ما لم أفهمه لأركز عليه، ويعود ولم يحصل في المرة الأولى شيئاً، وفي المرة الثانية كذلك، مثل الذي ينفخ في القربة المخروقة؛ لأن هذا التجاوز والسرعة لا تساعده على الاستيعاب، ولذلك لابد من الفهم؛ لأن الفهم هو أساس للحفظ والاستيعاب.
سابعاً -وهي من النقاط المهمة-: التركيز على النقاط: كثير من الطلاب خاصة في مراحل الدراسة دون الجامعية في مواد التاريخ والحديث والجغرافيا وغير ذلك، الطلاب يقولون: معظم ما في هذا الفصل حشو، وكثير منه يمكن أن يستغنى عنه، وهذا في حقيقة الأمر ليس صحيحاً، وفي نفس الوقت ليس خطأً، كيف؟! نقول: إن كل موضوع يتركز في نقاط، وكل نقطة يحب المؤلف أو الكاتب أن يشرحها، ويزيد فيها، ويستخدم المترادفات، ويطيل النفس في التعبير والتأكيد على المعنى، لكن في آخر الأمر النقطة هي واحدة، فليس كل الكلام حشواً، لكن أيضاً ليست هذه الإضافات حشواً، لكنك أنت يمكن أن تستغني عنها، كيف؟ ما هو المقصود بهذا الاستغناء؟ إذا حدد النقاط عرف أن هذا مثلاً حديث شرحه يتركز في كذا وكذا وكذا، أو أن هذا الحدث التاريخي مثل المعركة تتركز في أنها وقعت بين المسلمين والكافرين في بلاد العراق، وكان عدد المسلمين كذا وعدد هؤلاء كذا، وبهذا تتلخص الحقائق، وبعد ذلك لك أن تقرأ في الكتاب: فكروا عليهم كرة شرسة، أو بعد فترة طويلة، أو بعد حصار، هذا مما تستطيع أن تعبر عنه كما شئت، فلا ترهق عقلك بحفظه، ولا بالتركيز عليه، وتفوتك النقاط، فإذا جئت في الإجابة ذكرت الكر والفر والعناء والبلاء وضاعت النقاط التي عليها الدرجات، وهذا كثيراً ما يقع من الطلبة، فيخرج ويقول: أجبت إجابة وملأت الصفحات، ولكنه ما ذكر نقاط الدرجات، فإذا جاءت الدرجة قليلة أو ضعيفة تذمر وشكى، واعتبر أن هناك من يترصده، ومن يتربص به الدوائر ونحو ذلك.
بالنسبة لهذا التركيز يمكن أن يعين عليه بعض الأمور: الأول: لابد عند قراءتك أن تكون ممسكاً بقلمك، وليكن قلم رصاص حتى لا تشوه الكتاب، ثم ضع خطوطاً تحت النقاط المهمة أو الرئيسية كما يعبر عنها.
الثاني: ضع عناوين جانبية: بعض الكتب -لا سيما في المرحلة الجامعية أكثر منها في المدرسية- تفتقر إلى العناوين الجانبية، فتجد عنواناً ثم أربع خمس صفحات متتابعات، ويريد الإنسان أن يربط بينها، فكيف يجمعها؟ يضع هو بنفسه عناوين جانبية: أهمية كذا وكذا، فوائد كذا وكذا، العوائق كذا وكذا، حتى يستطيع أن ينظم ويركز هذه القضية.
الثالث: الاستعانة بالأرقام: أحياناً لا يكون في الكتاب ترقيم، وأضرب لذلك مثلاً: تجد بعض الكتب الموسوعية لا تهتم بمثل هذه القضايا، فيسرد لك مثلاً ابن حجر رحمة الله عليه في فتح الباري فوائد الحديث منتثرة، فضع تحت كل منها خطاً ورقمها؛ لأنك بالترقيم تستطيع أن تعرف هل استكملت الإجابة أم لا؟ فإذا رقمت فوائد هذا الحديث عرفت أنها عشرة، فإذا كتبت حال الإجابة ثمان فوائد علمت أنه بقي اثنتان، أما من غير الترقيم والتركيز فستكتب بعضها وتقول: أجبت على السؤال كاملاً، وأنت ما زلت مقصراً فيه، فهذا التركيز ينبغي أن يخلص الموضوعات إلى نقاط وعناوين وأرقام حتى تستطيع التركيز والاستيعاب، وإن شئت لك أن تكتب هذا في وريقات بحيث إنك في آخر الأمر تستغني عن الكتاب فلا تحتاج أن تحمله مع ثقله، أو مع كثرة هذه الكتب، وتأخذ هذه الوريقات وفيها النقاط، والحواشي والإضافات والتعبيرات لك أن تبدع فيها وتجتهد؛ إذ ليس فيها خطورة.
ثامناً: الحفظ: مهما اعتمدت على الفهم والتركيز فإنك تحتاج إلى الحفظ، لابد من الحفظ في بعض الأمور، وحتى بهذا التركيز لن تستطيع استذكار الأرقام إلا إذا حفظت مضموناتها، وما هي بعض الوسائل المعينة لهذا الحفظ؟ الأمر الأول: تعديد الوسائل: لا تعتمد على وسيلة واحدة؛ لأنه إذا زادت الحواس المحصلة للمعلومة كان الذهن أقدر على حفظها وضبطها؛ فأنت يمكن أن تقرأ وتكتب بعض ما تقرأ؛ فتكون الكتابة -وهي حاسة اليد- أقدر وأقوى في ضبط الحفظ مع القراءة، ولك أيضاً أن تسمع؛ فتسمع سواءً عندما تقرأ بصوت عال، أو عندما يقرأ زميل لك، أو عندما تسمع هذا الدرس في شريط، وسأذكر بعض التجارب حتى في مثل هذه القضايا والوسائل التي تعين على مثل هذا: معروف أن الإنسان إذا سمع خبر يكون تركيزه وحفظه له أقل مما لو سمعه ورآه وقرأه، فإن هذه تكون أكثر، فكلما رأى الإنسان أنه لم يحفظ شيئاً فليستعن مع القراءة بالكتابة، وإذا قرأ وكتب فليستعن أيضاً بالسماع.
الأمر الثاني: التكرار: والتكرار -كما يقولون- يعلم الشطار، هذا التكرار هو الذي يستطيع الإنسان به أن يثبت المعلومة.
الأمر الثالث: التسميع: لا تعتمد أنك إذا حفظت فقد حفظت، ولكن استرجع ذلك بالتسميع لنفسك أو لغيرك.
الأمر الرابع وهو مهم أيضاً: المذاكرة: والمقصود بالمذاكرة مع شخص آخر، تقول له: هذا الموضوع يتلخص في كذا وكذا وكذا، وقال فلان: كذا، والقانون الفلاني ينص على كذا، وقضية الحفظ فيها تفصيلات أخرى لا أظن أننا نحتاج إلى الاستطراد فيها.
هذه جملة من الأمور التي تتعلق بطريقة(173/5)
مشكلات المذاكرة
النقطة الثالثة: مشكلات المذاكرة: ذكرنا طريقة المذاكرة، لكن هناك عوارض كثيرة تعترضها، من أهمها:(173/6)
النسيان
أولاً: النسيان: يقول الحسن البصري: غائلة العلم النسيان.
هذا النسيان من أسبابه: أولاً: المذاكرة عند الإرهاق، يذاكر الطالب ويقول: ذاكرت وتعبت، ولكني ما استطعت أن أحفظ؛ لأنه كان مرهقاً مجهداً، والإنسان كيان واحد: (إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد)، إذا كنت مريضاً في قدمك أو مرهقاً في نومك، سيكون هذا له تأثير على ضعف العقل والذهن.
ثانياً: كثرة التنقل من منهج إلى منهج، أو من فصل إلى فصل، قرأ قليلاً ثم انتقل إلى الفصل الآخر قبل أن يتم الأول، أو إلى مادة أخرى قبل أن يتم الأولى، ويخلط من هنا وهناك؛ فلا يصبح عنده إلا كناشات وقصاصات ومتفرقات لا يمكن أن تنتظم في صورة يكون بها حافظاً لهذا المنهج.
ثالثاً: عدم المراجعة القريبة الآنية: عندما تحفظ شيئاً لابد من التسميع والمراجعة في وقت قريب، لا تحفظ الآن ثم تراجع بعد شهر، فقطعاً ستكون قد نسيت.
رابعاً: الاضطراب والخوف: وهذا لا شك أنه من أعظم الأسباب التي تبدد كل ما يحفظ، ولذلك الإنسان عند شدة الخوف قد ينسى حتى اسمه كما يقولون، فإذا كان الإنسان كثير الخوف دائم الاضطراب يقل مستوى حفظه بشكل كبير.
خامساً: عدم التركيز: فهو يريد أن يحفظ الصفحة كما هي، حتى أنه يحفظ ما بين الأقواس، مثل: (انظر شكل سبعة) فهو يريد أن يحفظ هذا، وهذا طبعاً يرهق نفسه، ولا يستخلص ما يحتاج إلى الحفظ.
سادساً -وهو مهم-: عدم الربط بين الأفكار لضمان التسلسل: لابد أن تربط بين الفكرة والفكرة، والفقرة والفقرة، حتى تستمر في التسلسل في الحفظ، أما أن تحفظ نقطة ونقطة ونقطة، فإذا أردت أن تربط بينها لا تستطيع، مثل الذي يحفظ القرآن فيحفظ صفحة وصفحة وصفحة ولا يربط بينها، فإذا انتهى إلى آخر آية في الصفحة وقف حتى تعطيه أول آية فيستمر، ويسمع الصفحة كاملة تسميعاً جيداً، فإذا جاء إلى آخر الصفحة وقف حتى تعطيه مرة أخرى، لماذا؟ لأنه لم يربط بين هذه المحفوظات بتسلسل معين، ولك أن تسلسل بطرق شتى، لك أن تربط التسلسل إما بصورة الصفحة، أو بمضمونها، أو بموقف وتداعي الأفكار -كما يقولون- عندما ركز مدرس على هذه المسألة، وعندما ناقشتها مع بعض إخوانك من الطلاب، هناك كثير من الصور للربط، المهم لابد أن يكون هناك ربط.
سابعاً: عدم تكثير الوسائل لهذا الحفظ من سماع وقراءة.
إلى آخره.(173/7)
الملل
الثانية: الملل: وهذا له تأثيره بين الناس، بعض الناس بمجرد أن يمسك الكتاب يمل، وبعضهم قبل أن يراه يمل، وهذا الملل مشكلة من المشكلات التي بالفعل تعيق المذاكرة.
هناك وصايا سريعة لطرد الملل: أولاً: لا تواصل الدراسة والمذاكرة دون فترات راحة وترفيه، فالذي يواصل كثيراً يصيبه الملل، ومن هنا ركز على الشيء الممل، واجعله في أول الوقت؛ فإن كانت هناك مواد مملة بطبيعتها أو فقرات من المنهج مملة فعجل بها في أول الأمر حتى يسهل هضمها قبل أن تذاكر فترة وتقطع شوطاً فيأتي الممل وقد مللت؛ فتكون المسألة معادلة مركبة وصعبة.
ثانياً: يستحسن أن يرفه الإنسان بكتب غير منهجية في بعض الفقرات، وخاصة كتب الأدب والملح والطرائف: أذكر من تجاربي في أوقات اشتداد الاختبارات أني كنت أضع دائماً قريباً مني بعضاً من كتب الأدب والشعر والقصص، فإذا مللت خذ منها فإنها تنشطك، وقد قال ذلك ابن عباس رضي الله عنه حينما كان يذاكر أصحابه في التفسير والفقه، فإذا رأى مللاً منهم قال: أحمضوا علينا بكتب الأدب، أحمضوا بها علينا، والتحميض هو نوع من الترفيه أو الطرفة أو نحو ذلك.
ثالثاً: تذكر الهدف الذي تذاكر وتجتهد من أجله حتى يزول عنك مثل هذا الملل، استحضر الثمرة المرجوة، فأنت تريد أن تتفوق أن تنجح أن تتنقل إلى مرحلة أخرى أن تؤدي دوراً مهماً.
رابعاً: تنبه إلى أن المسألة وقت قليل، وزمن محدود، وجهد نسبي، فليست الاختبارات ولا فترة المذاكرة ستستمر معك طول أيامك وليلك ونهارك، الإنسان إذا عرف أن هناك مشكلة ستبقى معه وقتاً طويلاً يجثم على نفسه ملل وهم كبير، بعكس إذا عرف أنها أيام وتنتهي.
خامساً: انظر إلى ما مضى لتتفاءل: إذا كنت قد أنهيت نصف الكتاب لا تنظر إلى النصف الباقي ولكن انظر إلى النصف الذي قد مضى، وإذا كنت قد وصلت إلى منتصف الاختبارات فانظر إلى ما مضى من الاختبارات، وقل: قد ذهبت الفيزياء، وانتهينا من الكيمياء، وتجاوزنا الرياضيات، وما بقي إلا كذا وكذا، فهذا يساعد على تبديد الملل، والتنشيط للمذاكرة.(173/8)
علاج القلق والاضطرابات
القلق والاضطراب من المشكلات المتكررة عند كثير من الطلاب، ويحتاج الحديث عنها إلى نقاط: النقطة الأولى: تنظيم الوقت والمذاكرة في جداول بحيث يعرف كل وقت مذاكرة، بزمن محدد، وكميات محددة، فلا يكون عنده نوع من القلق والاضطراب في مثل هذا.
النقطة الثانية: الاستعانة ببعض الامتحانات القديمة وحلها، أو وضع بعض الأسئلة وحلها، فالذي يضطرب لماذا يضطرب؟ يذاكر ولكنه يخاف أنه لم يحفظ أو لم يستوعب، ولو جاء على بعض الأسئلة، ورأى حلها؛ لرأى أنها بسيطة وزال عنه بعض هذا القلق والاضطراب.
النقطة الثالثة: تذكر التوكل والاعتماد على الله عز وجل، واعلم أنك تبذل الأسباب، وأن النتائج بيد الله عز وجل، وحينها ستطمئن، ماذا تريد بعد أن ذاكرت وحفظت وكتبت؟ لماذا تبقى مضطرباً؟ تقول: هذا ما علي، والباقي على الله عز وجل، واطمئن.
النقطة الرابعة: الوضوء والصلاة: وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام في شأن الغضب أنه أوصى الغضبان أن يتوضأ ويصلي، والوضوء وتعميم الماء على هذه الأجزاء من البدن -كما ثبت علمياً- يسكن النفس، والصلاة بطبيعتها وما فيها من خشوع وطمأنينة ومناجاة ودعاء تسكن نفس الإنسان، وتجدد النشاط.
النقطة الخامسة: أشعر نفسك بالأمان، وتوقع أفظع النتائج، ما الذي سيحدث؟ أقصى شيء أنك رسبت في الاختبار، لم تقم القيامة ولم تتدهور الأمة، فهذه مسألة يسيرة، فأشعر نفسك بالأمان، وأنه لو كانت هناك أفظع النتائج فإنها أمور ميسورة مقدور عليها.
النقطة السادسة: البدء بالأسهل بالنسبة للذي عنده قلق واضطراب كبير، فيبدأ بالأسهل ليشعر باستغلال الوقت، وليشعر بأن هذا النجاح الذي يحققه في السهل يزيل عنه بعض هذا الاضطراب.(173/9)
عدم النوم وكثرة السهر
هذه من أفتك المشكلات، وأذكر لكم قصة واقعية حتى يتنبه الطلاب لمثل هذا: أحدهم كان يأخذ بهذا المبدأ الذي يواصل فيه الليل بالنهار، أو يسهر في الليل حتى يختبر في أول النهار ثم ينام بعد ذلك، وهذا تغيير للفطرة، ونكس للأمور، وتبديل للمعتاد من حياة الإنسان؛ فيضطرب لأجلها، أحدهم كان على مثل هذا الأمر، ثم ذهب إلى الاختبار في اليوم الثاني وهو مرهق، قليل النوم، أحمر العينين، متهالك الجسم؛ فبدأ يجيب في اختبار زمنه ثلاث ساعات، وبعد أن أمضى نصف ساعة وضع يده على خده ليسترخي أو ليرتاح وإذا به ينام، والنوم -كما يقولون- سلطان، عندما يصل جسم الإنسان إلى حد فوق حد المرونة فإنه ينام رغم أنفه، وعلى أقل تقدير يكون الإرهاق يشكل عبئاً عليه، فلا يستطيع أن يركز في إجابته، ويوصي كل المعلمين والخبراء الطلبة أنه في يوم الاختبارات ينبغي أن تزيد في مقدار النوم عن المعتاد، وهذا إذا كنت اتبعت الطريقة التي أشرنا إليها، والتلخيص في النقاط؛ لأن الارتياح النفسي والبدني من أهم الأسباب على التركيز في الإجابة بدلاً من الزيادة في هذا الوقت التي تسبب إرهاقاً في الجسم، وتشتتاً في التفكير، واضطراباً وتوتراً في النفس، وكلها معاول تقوض قدرتك على التركيز والإجابة الجيدة.(173/10)
سوء التغذية والكسل
من المشكلات: عدم الأكل أو قلته بشكل كبير، وخاصة في الصباح عندما يذهب إلى الاختبار، ونحن لا شك لا نريد منه أن يصنع الولائم، أو أن يذهب إلى العزائم، لكن بعض الطلبة يقلل الطعام كثيراً، وما يعلم أن الطعام هو الذي يحرك الغدد، ويفرز الإفرازات، وينشط العقل، وكل هذه الأمور ينبغي أن تكون في ذهنه.
أما الكسل فهو غير الملل، يقول: أنا تعبان، لا أستطيع أن أقرأ، عيني مرهقة، وعقلي مشلول وانتهى، وهذا عارض من العوارض التي ينبغي التنبه لها، وينبغي للإنسان: أولاً: أن يستذكر قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201]، يستغفر ويدعو الله سبحانه وتعالى ويجدد نشاطه.
ثانياً: تجنب الأوضاع المساعدة على الكسل: كمن يذاكر في الغرفة المكيفة، وهو متمدد على فراش النوم، ويضع تحت رأسه ثلاثاً من المخدات، ويجعل الستائر مظللة للمكان، فهو بهذا سينام ولو كان في قمة النشاط، وسيجد أنه في هذا الوضع قد أرهق إرهاقاً عجيباً جداً كأنما جاء من معركة، فلابد أن يغير مثل هذا الوضع.
ثالثاً: تذكر روح المنافسة بينك وبين زملائك؛ فلا تكسل لأنك ممكن أن تحصل درجة بهذا الكسل، ولكنك إذا ما تنشطت ستزيد درجة أخرى وتنافس، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].
رابعاً: تذكر مغبة النتيجة لهذا الكسل: تكسل لساعة أو ليوم وستذهب عليك ثمرة قد تتندم عليها طويلاً.
خامساً: استعن بتنظيم الوقت.
سادساً: لابد من تغيير الوضع: إذا كنت في هذا المكان تغير إلى مكان آخر، إن كنت في جلسة مسترخية غير هذه الجلسة.(173/11)
علاج السرحان
آخر مشكلة من مشكلات المذاكرة: السرحان: قد لا يمل ولا يكسل ولكنه يحلق في شرق الأرض وغربها، ويجوب فجاج الأرض، والكتاب بين يديه يشكو من قلة النظر إليه! وهذا يقع كثيراً، وكثيراً ما ينطلق خيال الطلاب في مسألتين اثنتين: أولهما: الإجازة: يتخيل آخر يوم في الاختبارات، وماذا سيصنع؟ وكيف سيلقي بالكتب، ويبتعد عنها، وينام نوماً عميقاً؟ ثانيهما: يسرح في الشهادة، وكيف سيكون التقدير؟ وسينافس فلان، وسيأخذ الدرجة، وإن كان متخرجاً إلى أين سيذهب؟ وإن كان سيتخرج من الأول الثانوي هل سيذهب إلى القسم العلمي أم الأدبي؟ ويتوه في هذه الوديان، وهذه بلا شك قضية خطيرة.
ومما يعين على إبعادها: أولاً: القراءة بصوت مرتفع: الذي يقرأ في سره وبعينه يصيبه الكسل والملل والنوم، فأحياناً تحتاج إلى أن تقرأ بصوت مرتفع، والقراءة بصوت مرتفع فيها كثير من الفوائد، على أن تكون في غرفة منفردة، ولا ترفع الصوت كثيراً حتى لا يحصل لك بعض الأمور التي يخشى منها.
ثانياً: استشعر أهمية الوقت، فإنك إذا فاتك هذا الوقت ينبغي أن تتنبه إلى أن القضية ليس فيها إمهال.
ثالثاً: كن عملياً: هذه الخيالات والأوهام لن تتحقق إلا بالعمل، فلا تسرف وتبني كما يقول: تبني الرجاء على شفير هار ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار لا تطلب شيئاً لا تكون مستعداً له عملياً.
رابعاً: استعن بوسائل تزيل هذا السرحان، مثل: المذاكرة مع بعض الأصدقاء؛ فإنك تسألهم ويسألونك، أو اتصل بالهاتف لتسأل عن مسألة تجدد النشاط وتمنع أو تقطع حبل هذه الأفكار؛ لأنك إذا اتصلت بفلان ورأيته وقد انتهى من الفصل الذي لم تبدأ فيه عرفت أنك كنت في خيالات وأحلام وبحاجة إلى أن تعود إلى اليقظة.
ومن هذه الوسائل: استخدام أمور مذكرة واضحة، كأن يضع عنده لوحة يكتب فيها عناوين لبعض الفقرات حتى إذا سرح عن كتابه يرى أمامه أشياء كثيرة أخرى تعيده إلى الواقع الذي هو فيه.
هذا بعض ما يتعلق بمشكلات المذاكرة.(173/12)
الاختبارات والإجابة على الأسئلة
هذه مرحلة ما بعد المذاكرة، وزوال أسباب المذاكرة فمن يريد أن يجيب ويحصل على الدرجات المناسبة فعليه بما يلي: أولاً: استعن بالله، وابدأ باسم الله، واستشعر الهدوء، وطمئن نفسك؛ لأن الاضطراب لا يفيد.
ثانياً: اكتب المعلومات المطلوبة قبل الجواب.
أحياناً يجيب الطالب إجابة جيدة ثم لا يكون قد كتب اسمه فتضيع إجابته وقد يرسب، وأحياناً يظن أنه من الممكن الاستدراك، وقد يكون غيرك ترك اسمه مثلك وليس عند المدرسين وقت لينظروا ويقارنوا الخطوط ويرحموك وينظروا، وخاصة في الاختبارات الكبرى، فستضيع ورقتك مع الضائعات بحكم أنها مجهولة الهوية.
ثالثاً: اقرأ الأسئلة بتركيز، وضع خطوطاً تحت المطلوب في السؤال، مثل كلمة: اشرح، اذكر باختصار، بتوسع، ثلاثاً من فوائد؛ حتى تعرف ما هو المطلوب؛ لأن مجرد مرور عين الطالب على فقرة وعنوان وهو مدرك له جيداً، يفرحه ويكتب ولا يعرف ما هو المطلوب، هل المطلوب الاختصار بعد أن يكون كتب صفحتين أو المطلوب اذكر وليس اشرح، وقد شرح وشرّح وشرق وغرب؟! رابعاً: اعرف المطلوب الأساسي: هل المطلوب الإجابة على جميع الأسئلة على سؤالين على ثلاثة الإجابة بتوسع؟ أحياناً تكون هناك ملاحظات عامة، يقول لك مثلاً: جميع الإجابات تكون باختصار، أو جميع الإجابات يجب أن تكون بالنص، وفي بعض الاختبارات بالذات في المدارس الشرعية تجده يقول لك: مستشهداً في جميع الإجابات بالأدلة، وإذا لم تقرأ هذه الملاحظة لم تدلل على أي مسألة بالدليل على اعتبار أنه لم يطلب، وهذا أيضاً خطر كبير.
خامساً: لا تزد عن المطلوب أبداً، إن كان المطلوب اذكر فلا تشرح؛ لأن الزيادة ضدك في 99%، وقد تكون معك بنسبة 1%؛ لأن الورقة ستذهب إلى مدرس مرهق ومتعب ومرغم بالدوام، وعنده أكوام من الأوراق للتصحيح، وسيكون دوره معك دوراً غير مقبول عندك.
سادساً: ركز الإجابة في نقاط، واستعن بالعناوين وتنظيم الفقرات، فإن الشرح المطول قد يطلب منه، فتشرح لكنك ما ضمنت هذا الشرح النقاط المركزة، فشرحت في نقطة واحدة وتركت اثنتين أو ثلاثاً، وهذا لا يكون منك إلا عندما تكون قد ركزت عند المذاكرة على تلك النقاط.
سابعاً: أحسن عرض الإجابة، من حيث: وضوح الخط، فصل الإجابات بعضها عن بعض، توضيح الفقرات، الترقيم، أحياناً يكون المطلوب الإجابة عن ثلاثة أسئلة من خمسة، فيكتب إجابة السؤال الأول، والثاني، والثالث، وهو اختار الرابع والخامس والسادس مثلاً، والمدرس الذي يصحح -خاصة في اللجان- عنده نموذج إجابة السؤال الرابع الذي يصححه، وأنت كتبت إجابة السؤال الثالث وهو في الورقة الخامس، فتأتيه الورقة على أنها له فيرميها للآخر، فتكون بهذا قد خسرت هدوء وطمأنينة المصحح بمثل هذه الفقرات أو الأخطاء اليسيرة.
ثامناً: لا تغير الإجابة، ولا تتردد، ولا تخلط بين إجابات الفقرات والأسئلة: بعضهم يضع الفقرة (ألف) من السؤال الأول، والفقرة (باء) من السؤال الثالث مع السؤال الرابع، ويبقى كأن المصحح يحتاج إلى دليل حتى يرشده إلى هذه المتاهات في هذه الورقة، واسألوا المدرسين كم يفوت عليك هذا الكثير من الدرجات، ولا تضع أكثر من جواب، بعض الطلاب يجتهد يقول لك: ضع خمس إجابات وسيأخذ لك المدرس الأفضل، بل سيأخذ لك الأسوأ أو سيأخذ لك الأول، وكما يقولون: أنت ونصيبك.
تاسعاً: كل هذه القضايا ينبغي أن يتركها الطالب لا لقصد حصد الدرجات، وإنما لأن هذا ليس هو مقصود الاختبار، ولا يليق به أن يخبط خبط عشواء، ويكتب أية إجابة، ويضع أي شيء؛ حتى أن بعض الطلاب إذا كان لا يعرف السؤال فإنه يجيب عن سؤال آخر، يضع سؤالاً من رأسه ثم يجيب، وهمه أن يملأ الورقة! هذا عبث، وتضييع للوقت، واستخفاف بالمصحح، وبمجرد أن يرى المصحح أن هذه الورقة فيها شيء من الاستخفاف أو الاضطراب تسقط من عينه، وتكون معاملته لها معاملة مختلفة.
عاشراً: راجع الإجابة مع الأسئلة: أحياناً الطالب يراجع الإجابات من غير المقارنة مع الأسئلة، وما الفائدة بالمقارنة مع الأسئلة؟ ستجد أنك نسيت فقرة أو تنبيهاً في فقرة، أو ربما سؤالاً بالكلية، نعم راجعت الإجابات وهي صحيحة لكن هناك مطلوبات لم تذكرها لأنك ما انتبهت إليها، ولذلك ينبغي أن تنتبه إلى هذه النقطة.
حادي عشر: نقطتان ملحقتان: إحداهما قبل الاختبار والثانية بعده: النقطة الأولى: قبل الاختبار: لا تقبل الطالب الذي يأتي إليك بأسئلة قبيل الاختبار: وهذه النقطة مهمة؛ لأنك مستقر ومنظم الفكر؛ فإذا بك تختلط عندك الأوراق في اللحظة الأخيرة، وتفوت عليك دقة التصويب، ولا تصيب الهدف.
النقطة الثانية: لا تراجع بعد الاختبار؛ لأن الأمر انتهى، وسبق السيف العدل.
ثاني عشر: هناك نقطة بالنسبة لأنواع الأسئلة: أهل التربية يقسمونها إلى الأسئلة المقالية، والأسئلة الموضوعية، والأسئلة التصويبية، والأسئلة الربطية، والأسئلة الاختيارية، والأسئلة التي هي ربط بين فقرة وفقرة، أو الأسئلة التي فيها عدة إجابات تختار منها، أو أسئلة الصح والخطأ، كل هذه أنواع: أولاً: الأسئلة المقالية التي هي اشرح أو يعطيك عبارة ويترك لك الصفحات لتجول فيها وتصول، ركز كما أشرت على النقاط، وليس على الكم.
ثانياً: بالنسبة لأسئلة الاختيارات: ابدأ أولاً باستبعاد الاختيارات المرفوضة، وغالباً إذا كانت هناك عدة اختيارات يكون منها واحد أو اثنين مستبعدة لأول وهلة، حتى تنحصر المسألة في دوائر أقل، حينئذ يمكن التركيز في أيهما أرجح، لا تلجأ إلى التخمين إلا بعد انتهاء كل الوسائل والإجابات الصحيحة التي تترجح عندك، أما بعض الطلاب فعندهم قاعدة: اختر رقم واحد في كل الأسئلة، وقطعاً لن يفوتك من الخير نصيب، وكثيراً ما يقع من المدرسين أنهم يركزون الإجابات الصحيحة في فقرة معينة قد تكون هي الفقرة الأخيرة، وأنت اخترت فقرة واحدة على اعتبار أنه قطعاً مرة في الثانية ومرة في الأول ومرة في الأول ومرة في الثالثة فستصيب، وهو لا يجعلها كلها في مكان واحد، مثل الذي يضع البيض في سلة واحدة ويفقدها مرة واحدة، فلا تخمن إلا بعد هذا الجانب.
ثالثاً: بالنسبة للربط بين حقل وحقل كما يكون في أسئلة الطلاب بالذات في المدارس، اربط بين الواضحات أولاً؛ لأن أي سؤال من هذا غالباً ما يكون هناك أمور واضحة، ثم تبقى أمور مشكلة؛ هل هذه مع هذه، أو هذه مع هذه؟ ولماذا تبدأ بالسهل؟ أولاً: لأنه واضح ولا شك فيه.
ثانياً: حتى يقلل دائرة الاختيارات، وما دام أن هذه الفقرة انتهت من هنا فسيكون الاختيار محصوراً.
ثالثاً: حتى تستطيع أن تركز في الترجيح بين أمور محدودة ليست متكررة ولا كثيرة.
هذه جملة فيما يتعلق بإجابات الاختبارات.
ختاماً: نسيت أن أذكر في خضم الاستعراض: أن الطالب عندما يكون قلقاً أو يحمل الهم عليه أن يذكر أدعية الأرق وأدعية الهم الواردة عن النبي عليه الصلاة والسلام وهي محفوظة ومذكورة.(173/13)
المدرس ودوره في العملية التعليمية
بالنسبة للمدرس أول نقطة ينبغي أن نذكرها: أن المدرس يتحمل في الاختيارات عبئاً أكثر من عبء الطلاب، بينما يقول الطلاب: المدرس الآن يأكل ويشرب وينام ونحن نسهر ونتعب، والمدرسون يقولون غير ذلك، وهما لا أقول: خصمان، لكن فريقان، ربما لو أتيحت فرصة مناظرات موسعة لرأينا عجباً عجاباً فيما بين الفريقين! وأحب أن أركز على العبء الملقى على المدرس، وهو كبير جداً، بل إنه في حقيقة الأمر يعطل ويعرقل العملية التعليمية، فهو يأخذ في المدارس أربعاً وعشرين حصة، وعنده إشراف على الفسحة، وريادة فصل، وتحضير -دفتر تحضير- ممل ومكرر وغير عملي، وليس له هدف، وليس وراءه ثمرة، ويعطيه مرة لزوجته لتكتب، ومرة لصديقه، ومرة يستعين بالتصوير، وأخرى يتحايل على التواريخ، فيبقي دفتر العام الذي مضى حتى يغير تاريخه من غير أن يلحظه الموجه، ثم ابتلي بهذه الواجبات التي أصبحت لازمة؛ فهو يقرأ كراريس وأوراقاً وخطوطاً وخلطاً عجيباً، ومطلوب منه أن يقرأه، وفي الغالب أنه لا يقرأه، ولذلك إذا جاء العبء أحال التصحيح إلى الطلبة، خاصة في الواجبات المعتادة، فيجيب الإجابة النموذجية، ويقول لهم: صححوا، أو يجيب الإجابة النموذجية ويناقشها معهم ثم يجعل على كل ورقة صح تشملها من أولها إلى آخرها حتى ينتهي من هذا العبء، وبالتالي يأتي إلى العملية التعليمية وهو مستهلك، فلا يكون عنده حماس، أو قدرة على العطاء والتفهيم والتركيز والإعادة، ولذلك مجرد أن يطلب منه الطالب أن يعيد الدرس تجده يدعو بالويل والثبور وعظائم الأمور، وغالباً ما تكون النفسية غير مهيأة؛ نظراً لمثل هذا العبء الكبير.
أيضاً في الاختبارات العبء على المدرس كبير، فهو يحتاج أولاً: إلى وضع الأسئلة، وهنا لابد أن يسأل المدرس نفسه السؤال المهم، وهو: ما هدف الاختبار؟ ولماذا يضع الأسئلة؟ هناك تصورات: التصور الأول: يضع الأسئلة لينتقم من الطلاب، والذي سيضعها بهذه النفسية قطعاً ستكون أسئلة غير عملية وغير نافعة، خاصة في بعض الاختبارات المفتوحة التي ليس فيها لجان تصحيح، فهو يضع أسئلة ولو كانت خاطئة، وفي الجامعة قد يضعون أسئلة فيها أخطاء، ومع ذلك يبقى الطالب هو المخطئ، ويتحمل نتيجة خطأ المدرس أو الدكتور، وكما يقولون: يضرب على أم رأسه مرتين: مرة لأنه لم يعرف الإجابة، ومرة لأنه ما اعترض على خطأ المدرس.
التصور الثاني: أسئلة للتخلص، يريد أن يعمل أسئلة يجيب عنها جميع الطلاب، وينتهي من تصحيحها بسرعة، وينتهي هذا العناء الذي ينتظره ويحمل همه، فلا تكون له ثمرة ولا فائدة.
التصور الثالث، وهو المقصود المهم: أن الأسئلة مقياس تقريبي لا تحديدي: ليست الاختبارات هي التي تحدد قطعاً ويقيناً الذي فهم والذي أجاد، لكنها مقياس تقريبي جيد، ونسبته في التقويم عالية وليست متدنية، لكن قطعاً قد يخطئ الفاهم، وقد يضطرب أحياناً المذاكر، والاختبار لا يجامل ولا يراعي مثل هذا إلا عندما يكون المدرس يعرف الطالب ويعرف وضعه فيتنبه له.
الأسئلة المفروض أن تكون تشتمل في تصوري على ثلاثة أمور: أولها: أسئلة مباشرة وواضحة ليست سهلة، دائماً يقول الطلاب: هناك أسئلة سهلة، والمقصود أن يعبر عنها بأنها أسئلة واضحة ومباشرة، وهذا الوضوح والمباشرة يساعد على نيل جزء من الدرجات، وتشجيع الطالب على إجابة بقية الأسئلة.
ثانيها: الأسئلة التي تحتاج إلى نوع من الاستنباط، وشحذ الذهن، وتكون فيها بعض الفقرات غير المباشرة وليست صعبة.
ثالثها: وهو ما يكون أقل هذه الأسئلة، وفيه شيء من الدقة والقياس والاستنباط، وليس مباشراً في المنهج، بل قد يكون بعيداً عنه، وهذا لتمييز استيعاب الطالب بشكل عام، وكذلك لتمييز صاحب الذكاء أو الفطنة في مثل هذا العلم أو المادة، وبهذا التنوع تكون هناك مجالات لأن يكون الاختبار مقياساً جيداً إلى حد كبير، ففيه فرصة للضعيف أن يحصل بقدر ما حصل من هذا العلم أو هذه المادة، وأن يجتهد، ويضعف عن بعض هذه الأسئلة، وبقيتها يمكنه أن يجيب عنها.
النقطة التالية للمدرس في مسألة التصحيح: ينبغي أن يعلم الطالب أن المدرس أكثر ما يراعي في وضع الأسئلة التصحيح، فهو يضع الأسئلة، وهو يفكر في تصحيحها، فلذلك قد يجعلها منظمة، ومختصرة، أو بطريقة الصواب والخطأ ليسهل عليه التصحيح، ولذلك ينبغي للمدرس أن يراعي في أسئلته التوزيع في الدرجات، بعض المدرسين لا يراعي مصلحة الطلاب، ولا يراقب الله عز وجل، يضع على الأسئلة السهلة -مع كثرتها- درجات قليلة، ويضع على السؤال الصعب أكبر الدرجات، فيجيب الطلاب على أربعة أسئلة، والخامس الصعب يتركوه، وإذا به عليه نصف الدرجات! فهذا يفوت على الطالب النجاح أو تحصيل درجة عالية، والأفضل أن يوزع الدرجات على ورقة الأسئلة؛ حتى يساعد الطلبة على إدراك الأهم، ومحاولة اقتناص بعض هذه الدرجات، وحيازة أكبر قدر ممكن منها.
ولا شك أن عليه مراقبة الله عز وجل، والصبر والاحتمال، وأن يؤدي هذه المهمة متجرداً عن أعبائه، فلا يؤديها إذا كان متعباً فيتعجل، أو إذا كان مكرهاً فيجحف ويظلم، وينبغي عليه أن يتصور أنه في موقع هذا الطالب.
وعليه أن يتصور الفصل الكامل بين ما هو فيه وبين الطالب، ما ذنب الطالب إذا كنت أنت مرهقاً أو مجبراً على هذا التصحيح أو كانت لك ظروف خاصة؟! ينبغي أن تفصل بين هذا وذاك.(173/14)
قضايا متفرقة حول التعليم والاختبارات(173/15)
العلم بين التعليم والتحصيل
الأسلوب التعليمي المتبع في المدارس فيه مشكلة، وهو: أن الطالب يدرس من كل بحر قطرة، ويخرج من البحر بلا قطرة، بمعنى: أن هناك كثرة في المواد وتنوعها واختلافها، وليس بينها رابط في سنة واحدة، ومع دوامها غالباً لا يتلقى الطالب الحصيلة المرجوة من هذه المواد، مثلاً: مادة اللغة العربية تدرس في المدارس من السنة الرابعة حتى الثالث الثانوي، أي: تسع سنوات يدرس الطالب نحواً في المدارس، ويتخرج من الثانوي وهو لا يفرق بين الاسم والفعل والحرف، لماذا؟ لأنها تفرقت وتبعثرت ولم تركز، واختلطت معها مواد أخرى، فلم يكن لها جهد مستقل، وقس على هذا بقية المواد، فإنك أيضاً ستجد أنه يأخذ مواداً تستمر معه عدة سنوات، لكنه لا يخلص منها بنتيجة، فمثلاً: مناهج اللغة العربية في هذه السنوات التسع، من الممكن لو أتينا بها كلها، وعقدنا دورة لهذا الطالب ذاته في ستة أشهر أو سنة، سيخرج مستوعباً لهذه المناهج، متمكناً فيها، حافظاً لها.
أيضاً: كثرة تشعيب المواد وتفريقها على الزمن المتراخي مع وجود الإجازات، وما أدراك ما الإجازات؟ إنها تعتبر ناسخة أولاً بأول لكل ما تحصل من علم، ويحرص الطلبة على أن يخلصوا عقولهم من كل ما ترسب فيها حتى يأتوا إلى السنة الجديدة بعقل جديد ليس فيه أثر مما مضى، بل -للأسف- بعض المدارس مثل مدارس تحفيظ القرآن مطلوب إلزامياً من المدرسين ألا يسألوا الطلبة عن حفظ العام الذي مضى، والذي يختبر الطلاب في حفظ ما مضى من المدرسين يعاقب على ذلك! وكأن القضية مثل اللوح الذي يكتب فيه ثم يمحى، ثم يكتب فيه ثم يمحى، ولو أردت أن تسترجع بعض ما فيه فإنك ستجد أطلالاً باهتة وبقايا خطوط، فعنده شيء كان يسمى نحواً وقواعد، ومر به شيء كان يسمى الفاعل، وله نائب ينوب عنه أحياناً، وبعض هذه الأمور ليس بينها رابط، وليس فيها تأصيل، وهذه النقطة أجعلها تحت عنوان: العلم بين التعليم والتحصيل، هل نريد من الطالب أن يتعلم وينتهي تعليمه أم نريده أن يحصل العلم؟! هناك مسائل تحصل؛ لأنها تتكرر، فمثلاً: جدول الضرب يحفظه الطالب، ولا يقول: هذا كان في منهج السنة الثالثة أو الرابعة، ولا أسأل عنه الآن، فهو يحفظه لأنه يتكرر معه، واحتاج إليه، وداوم عليه، فصار محصلاً عنده، فهو لا يحتاج فيه أن يرجع إلى كتاب، ولو احتاج إلى الرجوع يرجع رجوعاً سريعاً، فما نسبة ما يأخذه من التعليم إلى ما يقع عنده ويخلص له من التحصيل؟ أعتقد أن النسبة بالتفاؤل ما بين 10 - 20%، وأظن أن بعض الطلبة قد يصل تحصيله إلى حد 1% كحد التشبع، يعني كحد أعلى لمثل هذا التحصيل! وهذه نقطة سلبية كبيرة جداً في أسلوب وطريقة التعليم.
أما طريقة التعليم السابقة فإن فيها نوعاً من التفريغ للأمر الواحد أو لأمرين معتمدين، مع التركيز، ثم ينتقل إلى غيرها، تجد السابقين أول ما يبدأ الطالب عندهم بحفظ القرآن والذهن متفرغ، والوقت مصروف، والجهد مكرس لهذه القضية، فإذا حفظ القرآن دفع به ليتعلم اللغة العربية أو الفقه مثلاً، يأخذ منهجاً مختصراً يستوعب به كل المادة بإيجاز، ثم يرقى من هذا الكتاب إلى كتاب آخر فيه ذات الموضوعات، لكن فيها مزيد من التفصيل والاستدلال والتوسع، ثم يأخذ كتاباً ثالثاً في نفس الموضوعات بشيء من التوسع، وذكر بعض الاختلاف، وتوسيع المدارك، فهذا التكرار أعطاه قوة في العلم، عندما تكررت عليه المسألة أخذ أفقاً أوسع، وعندما تكررت ثالثة أخذ أفقاً أوسع، فلو جاءته مسألة أصعب لم تمر به كان عنده القدرة على التوسع والاستيعاب والتمكن والاستنباط والقياس ونحو ذلك، وهذه المشكلة من أكبر المشكلات في العملية التعليمية المعاصرة.(173/16)
بين الشكلية والواقعية
كثيرة هي الأمور الشكلية في مسائل التعليم، فالطلبة إلى حد ما هم والمدرسون صاروا نسخة، فالطلاب ينبغي في كل مادة عنده واجب، ويأخذ هذا الواجب يقرأ السؤال ويجيب من نفس الكتاب، وينقل نفس الكتاب والإجابة، ويُذهب بالدفاتر إلى المدرس ولا يقرأها؛ لأنه يعلم أن الطالب لم يشغل فيها عقله ولم يستنبط، بل مجرد أنه نقلها من ورقة إلى ورقة بشيء من الكراهة والملل، ثم جاءت إلى المدرس فتجاوزها من غير قراءة ولا تصحيح، ثم المدرس مطلوب منه أن يرصد الدرجات، درجات على الواجب، ودرجات على الاختبار الشهري، ودرجات على كذا، فإذا به ينسخ ويقرأ ويصحح، وإذا به في آخر الأمر لم يعد معلماً، بل صار كاتباً ومصححاً! والطالب أيضاً لم يعد طالباً يفهم ويستوعب ويفكر ويسأل ويبدع بل صار كاتباً ناسخاً! وأصبحت الصورة شكلية، ثمانية وثلاثة أرباع، والدرجة من خمسة عشر في الشهر الواحد مقسمة على أقسام، ومبادلة الحسابات على هذا المنوال، وضاعت الزبدة التعليمية في داخل هذه الشكليات التي فيها إرهاق وجهد وتضييع لكثير من الطاقات!(173/17)
الاختبارات
-كما عبر بعض المدرسين- مسألة استجماع لبعض المعلومات، ثم تتقيأها على ورقة الاختبار، وتخلص نفسك من كل آثارها، وأيضاً المدرس يكون قد انتهى من هذا الأمر، ولم تكن لها ذلك التقويم والتحفيز بشكل أو بآخر.(173/18)
التعليم والإبداع
ليس هناك في الأساليب والمناهج التعليمية ما يسهل على إيجاد المبدعين والمبتكرين، فليس هناك في غالب الأحوال ربط بين الناحية النظرية والعملية، وليس هناك توسيع في دائرة التعليم خارج إطار المنهج؛ لأن المدرس مرهق ولا يستطيع أن يتوسع، والطالب عنده ألف مشكلة ومشكلة ولا يحتاج إلى مراجع إضافية، بل يريد المذكرات المختصرة، وبالتالي ليست هناك غير عملية تكرارية، وعلى أحسن الأحوال سننتج نسخة واحدة ليس عندها قابلية الإبداع ولا الابتكار، وليس هناك تميز أو احتضان لمن عنده إبداع، بل الذي يسأل المدرس كثيراً سيجبره على السكوت؛ لأنه يشوش عليه؛ ويسأله عما لا يعرف، أو يثير فتنة وبلبلة ويفرق الصفوف وجماعة الطلبة ونحو ذلك؛ لأنه ليست هناك أية صورة من صور استيعاب وتبني مثل هذه الجوانب بشكل أو بآخر.(173/19)
استفادات معنوية من الاختبارات للطلبة والمدرسين
أولها: أن الطالب يكتشف أن الوقت أكثر منه في الأيام الأخرى، كأن اليوم لم يعد أربعاً وعشرين ساعة بل ربما صار ثمان وأربعين ساعة، فإنك تجده أولاً: يستطيل الوقت، وثانياً: يرى كم ما بين الفجر إلى الظهر؟ من الساعة الخامسة إلى الثانية عشر سبع ساعات، الآن يضيع نصفها في النوم، ونصفها في الكلام، والمشاوير، حينما تلغى هذه العوامل كلها في أوقات الاختبار يشعر الإنسان بالوقت وامتداده، إذاً: لماذا لا يستفيد وينتبه إلى أنه يبدد الوقت وأن الوقت كبير وطويل، ويمكن عمل الكثير في هذا الوقت لكنه هو الذي يفرط.
ثانيها: قوة الطاقات: يقرأ ساعات متوالية، ويحفظ صفحات متكاثرة، ويستوعب مسائل دقيقة، بينما في غير أيام الاختبارات إذا قرأ الصفحة لم يحتمل الثانية، وجاءت الضربة القاضية في الصفحة الثالثة أو نحو ذلك، وكذلك في الاستيعاب يظن أنه لا يستطيع أن يحفظ كذا، طاقته موجودة لكنه ما استثمرها وما دربها، وما عمل عملية الاستثمار والتنمية المطلوبة.
ثالثها: الوحدة التي تجمع عند وجود العامل المشترك، كل الطلاب الآن متحدون في كثير من السمات، سواءً في الهم والاهتمام، والجد، واستغلال الوقت، وتفريق أو ترك الشواغل، إذاً: كلهم على اختلاف أنواعهم لما كان هناك هدف واحد أو مشكلة واحدة تجمعت الطاقات والجهود، وتشكلت الظروف كلها لتخدم هذا الغرض، والأمة ينبغي أن تتعلم أنها متى رأت مشكلاتها وعرفت أعداءها أن عليها أن تتوحد لمعالجة هذه المشكلات ولمحاربة أولئك الأعداء بدلاً من أن تتفرق في تفاهات وقضايا فرعية وجانبية.
رابعها: التعاون؛ فإنك تجد فرص التعاون ترقى بين الطلاب والمدرسين وفئات المجتمع حتى في الأسرة، وبين الأب وابنه، وهذه الروح من التعاون ألجأتنا إليها هذه الظروف التي فيها نوع من الشدة أو الحاجة، فلماذا لا نجعل هذا التعاون أيضاً دأباً وسمة مستمرة في حياتنا دائماً؟ خامسها: حسن التصرف: فإن الطالب والأسرة والمدرس يتعود على أن يضغط الوقت، ويتصرف، ويكيف الظروف، وأن يتخلص من المآزق، فإذا جاءه الضيف يعرف كيف يتخلص منه، وإذا جاءته المشكلة يعرف كيف يصرفها، لماذا؟ لأنه يحتاج إلى الوقت، فإذاً: لماذا لا تكون لبقاً حسن التصرف في كل هذه الظروف التي تمر بك في حياتك ولا تحسن التصرف والتكيف إلا في هذا الوقت فحسب، كما ذكر عن ابن الجوزي على سبيل المثال: أنه كان يأتيه بعض الثقلاء الذين يضيعون عليه وقته، قال: فكنت أعد لهم بري الأقلام، وتجهيز مداد الدواة، فإذا جاءوا يتكلم معهم لكنه يبري قلمه، ويعد مداد دواته حتى لا يضيع وقته، أنت إذا جاءك الإنسان في الاختبارات أو جاءتك المكالمة الهاتفية استطعت أن تتخلص منها بأسلوب حسن في دقائق معدودة؛ لأنك تريد أن تستثمر الوقت، أما في الوقت العادي لو أراد المتحدث أن ينهي المكالمة تقول له: ما زال في الوقت متسع؛ فتجد الإنسان يفوت الوقت، ولا يكون عنده الجد وحسن التصريف للأمور.
سادسها: معرفة قيمة الجد وثمرة الجهد: عندما تجد وتجد الثمرة تعرف وتتعلم أن الحياة جد، وأن الذي يريد أن يحصل الثمرة لابد أن يجتهد، وكثير من الأمور نضيعها بسبب الكسل والتراخي وعدم الجد.(173/20)
بين اختبار الدنيا واختبار الآخرة
النقطة الأخيرة في فقراتنا المتنوعة عن الاختبارات: هناك حاجة ماسة وملحة للربط والاستفادة من هذه الاختبارات وأجوائها باختبارات الآخرة وما يقدم عليه الإنسان، فهل أعددت للسؤال جواباً؟ وهل أعددت للجواب صواباً كما تعد لهذا؟ وهذا موضوع سبق أن تحدثت فيه في خطبة جمعة، وفي محاضرة سابقة بعنوان: لمحة على الامتحانات، ومرة: بين اختبارات الدنيا والآخرة، وفيه مقارنات شتى نطبقها في أمر اختبارات الدنيا ونغفل عنها وننساها في أمر اختبارات الآخرة.
نسأل الله عز وجل أن يوفق الطلاب لأداء الاختبارات والنجاح فيها والتفوق، وأن يجعلوا ذلك عوناً لهم على طاعة الله عز وجل، وأن يكونوا أفراداً عاملين لمصلحة وخير هذه الأمة؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(173/21)
ما دورنا في مواجهة المآسي؟
إن الناظر إلى أحوال الأمة الإسلامية اليوم وما تعيشه من مآسٍ مروعة، وجرائم شنيعة في كثير من البلدان، ليعلم شديد البلاء الذي يعيشه إخواننا المسلمون في بلاد كثيرة ومنها بلاد البوسنة والهرسك، فقد تكالبت عليهم القوى الكفرية لتصفيتهم، فدمرت بيوتهم، وشردت أطفالهم، وقتلت رجالهم، ورملت نساءهم، وأحرقت منازلهم ومزارعهم بوحشية ليس لها نظير في عالم الوحوش والغابات، كل ذلك على مرأى ومسمع من الدول الكبرى والمنظمات الحقوقية، والمؤسسات الدولية، فما هو دورنا في مواجهة هذه المآسي؟!(174/1)
أحداث البوسنة عبرة وعظة
الحمد لله، الحمد لله ولي الصالحين، وناصر المؤمنين، وجاعل العاقبة للمتقين ولو بعد حين، نحمده سبحانه وتعالى جعل الدائرة على الكافرين، وجعل سوء العاقبة للظالمين، نحمده جل وعلا هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فأيها الإخوة المؤمنون! قد طلب مني بعض الأفاضل أن يكون حديث اليوم عن المآسي المروعة، والفضائع الشنيعة التي ما انقطعت في بلاد المسلمين، بل تضاعفت وتزايدت، وازداد أوارها، واشتعل لهيبها، وتصاعد دخانها في كثير من البلاد الإسلامية، وأراد أن يكون الحديث عن الهجمة الشرسة الفضيعة التي يلقاها إخواننا في شرقي البوسنة في مدينة (ورازده)، وما يلقاه إخواننا في أرض الإسراء مثوى العديد من الأنبياء من المعاناة والبلاء، ومن شدة الكرب والعناء، وكنت أقدم على ذلك وأحتم، ولسان حالي يقول: وماذا عسانا أن نقول في مثل هذه الأمور؟ وعن أي شيء نتحدث في هذه المآسي ولأي غرض نعيد هذا القول ونردده؟ هل نريد أن نكرر القول المسموع؟ أو نزيد من الصراخ والبكاء والعويل؟ ويثور السؤال الذي يدفع إلى التردد، لماذا نذكر هذه المقالات؟ وماذا عسانا أن نفعل تجاهها؟ وما دورنا في مواجهة المآسي ولسان حال كثير منا يقول: ليس باليد حيلة، وليس هناك مجال لأن نؤدي دوراً أو أن نقوم بمهمة؟ ولكن هذا التردد يزول؛ لأنه يكفينا من هذا الحديث أن نشارك إخواننا في مآسيهم، ولئن بكوا دماءً ودموعاً فلا أقل أن نذرف معهم ولو دمعةً واحدة، ولئن ملئوا الدنيا صراخاً وعويلاً فلا أقل أن نرفع من أعماق قلوبنا لله دعوةً خالصة، فحري بنا أيها الإخوة أن نزيد القول، وأن نكرره في هذه الأمور، عل ذلك أن يحيي موات القلوب، وأن يوقظ غفلة العقول، وأن يحرك ضعف العزائم والهمم، وأن يبعث في القلوب الأمل والثقة في الله عز وجل.
إننا لا نريد أن نجعل الحديث طعنات تغتال الأمل في النفوس، ولا أن نجعل المآسي تحيط بنا لتقعدنا عن العمل، كلا أيها الإخوة، فلقد مر بالمصطفى صلى الله عليه وسلم من هذا البلاء الكثير والكثير، ولقد مر بمن جاء بعده من كرام صحابته ومن أئمة هذه الأمة وسلفها ما مر من الأحداث المروعة، ومع ذلك نرى التاريخ ينطق بشواهده وحوادثه على المنهج الذي ينبغي أن نسلكه، وعلى الطريق الذي ينبغي أن نتواصى به.
لا شك أيها الإخوة أننا سمعنا كثيراً في الأيام القريبة الماضية عن الجرائم المروعة التي يحار العقل فيها ابتداءً، ولكنه يعرف تفاصيلها وخلفياتها انتهاءً؛ لأن الأمر لم يعد فيه خفاء، بل صار أوضح من الشمس في رابعة النهار، وانظر إلى هذه الأحداث في شرقي البوسنة على مدى أيام وشهور متواليات، وانظر إلى الأخبار الأخيرة التي ذكرت أن القصف توالى حتى صارت القذائف تنزل على المسلمين في تلك الديار بمعدل قذيفة واحدة في كل عشرين ثانية، فاحسب رعاك الله كم قذيفة في الدقيقة والساعة واليوم، لترى كيف تشتعل النار في ديار إخواننا، بل في أجسادهم، بل في أطفالهم وشيوخهم ونسائهم! وانظر رعاك الله إلى النار التي تلتهم الأخضر واليابس، وإلى الرصاص الذي يغتال الصغير والكبير، وإلى الشظايا التي تنطلق من الأرض، والمباني التي تتهدم على رءوس أهلها، وانظر إلى ذلك كله وهو يجري على سمع الزمان كله، وبمرأىً من الأبصار، ينقل إلى كل الدنيا عبر الأقمار الصناعية، والشاشات الفضائية مدعماً بالوثائق الشاهدة الناطقة، وبالتقارير الميدانية الساخنة، وكأن الدنيا كلها قد صمت آذانها، وعميت أبصارها، وماتت قلوبها، وانطفأت كل معاني الإنسانية والفطرة البشرية في نفوسها كأن الناس مسخوا وحوشاً، ليس لها بالبشرية ولا بالإنسانية سبب ولا نسب! وانظر إلى حال العالم وإلى حال القوى التي تسمى كبرى، وإلى المنظمات التي ترفع شعار الأمن والعدالة، فماذا تراها تفعل؟! إنها تشجب وتستنكر، ثم تنذر وتحذر، ثم تتصل وتجتمع، ثم تفكر وتخطط، ثم تريد أن تقرر، وبعد أن تقرر تفكر هل تفعل أو لا تفعل: ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأذنون وهم شهود حتى إذا لم يبق حجر على حجر، ولم يبق روح في جسد، ربما تحركت هذه القوى والمنظمات! لماذا؟ لتقوم بدفن الموتى، وتدمير ما بقي من الخرائب، وإطفاء الحرائق التي ظلت مشتعلة.
ولئن كان الأمر كذلك في البوسنة على فضاعته لم يمض عليه إلا هذه المدة اليسيرة مدة عامين، فانظر رعاك الله إلى فلسطين المسلمة التي ما تزال مأساتها تمتد عبر السنوات، فقد مضى عليها أكثر من نصف قرن أو نحو ذلك.
انظر إليها وفي كل يوم مزيد من القتلى وعديد من الجرحى، وارتفاع في أعداد اليتامى، وتزايد في أعداد الأرامل والثكالى، وما زالت الأحداث تنبئنا بالمزيد، والليالي تحمل في طياتها الكثير والكثير، وكل ذلك نراه ونسمعه، ومع ذلك نرى من يشجبه ويستنكره، فيعجب المرء أي أمر قد بلغ في ديار الإسلام والمسلمين؟ وإلى أي مدىً قد بلغت الخسة والدناءة واللؤم والجرم في هذا العالم المنكود، غربيه وشرقيه، العالم الكافر الذي اجتمع من كل حدب وصوب وعلى كل ملة ودين ليوجه سهامه، ويصوب قذائفه على المسلمين العزل المستضعفين، ثم بعد ذلك يرمون المسلمين بتهم الإرهاب والتطرف والإجرام والترويع للآمنين؟! عجباً لهذه المقاييس المنتكسة، ولهذه الأحوال المنعكسة! والمرء يفكر مرة أخرى، ويعيد
السؤال
ماذا عسانا أن نزيد عما سمعنا ورأينا، ونسمع ونرى في كل يوم وفي كل آن؟ وهل نريد أن نزيد الجراح جرحاً والصراخ صراخاً؟ إننا نريد أيها الإخوة أن نعرف من هذه المآسي كثيراً من الأمور التي تنفعنا، والتي تبصرنا، والتي تصفعنا لنستيقظ من نومنا، وتدفعنا لنتحرك من عجزنا.
إننا أيها الإخوة نتربى بأقدار الله عز وجل، فإن الأقدار الربانية تساق للمسلمين حتى يتعظوا ويعتبروا، فإنه ليس شيء في هذا الكون يجري عبثاً، وليس قدر من أقدار الله إلا وله حكمة بالغة يعلمها من يعلمها ويجهلها من يجهلها، فالدماء التي تسيل، والأرواح التي تزهق، والبيوت التي تحرق، والمساجد التي تهدم، كل ذلك يجري بقدر الله عز وجل لحكمة بالغة، فانظر رعاك الله إلى ما ينبغي أن تقرأ من وراء سطور هذه الأحداث، ولننظر ما الذي ينبغي أن نخرج به، وأن نعرفه وأن نستيقنه، وأن نتداوله فيما بيننا، وأن نشيعه في مجالسنا؛ حتى ننتفع ونستفيد، وحتى نتحرك ونمضي، ونبذل ونعمل، فقد كثر منا القول والكسل، وكثر منا المراء والجدل، وقل في صفوفنا التحرك نحو العمل.(174/2)
الوعي بحقيقة الأعداء
الوعي الذي نريد أن يرسخ في أذهان المسلمين من هذه الأحداث يقودنا إلى آفاق واسعة، فالأعداء لم يعد لهم ستار يستر عوراتهم، ولا شعار يغطي على أخطائهم، نريد أن يعرف المسلمون حقيقة أعدائهم بكل تفصيلها، ولئن غفلوا عن آيات القرآن التي أنزلها الله عز وجل لتعلمهم، فليتعظوا وليعتبروا بالأحداث التي تواجههم.
انظر إلى حقيقة الأعداء في ولائهم وتجمعهم، أيقاتل صرب البوسنة وحدهم؟ قد جاء إليهم إخوانهم في الملة والدين ولاءً ونصرةً متطوعين من صربيا الكبرى، ومن (يوغوسلافيا) العظمى، ومن بلاد الروس.
إنهم متوالون ومتجمعون، والله عز وجل قد نبأنا وعلمنا، ولكن غفلنا وجهلنا: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73] (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، وإن لم تكونوا مثلهم، وإن لم تفعلوا فعلهم: (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ)، وأي فتنة أعظم مما نرى؟! وأي فساد أشد مما نسمع ونرى؟! وانظر إلى حقيقة الأعداء في تواطئهم وتآمرهم! أين القرارات؟ وأين نتائج المؤتمرات؟ وأين هيبة المنظمات؟ وأين سمعة الدول الكبرى والعظمى؟ أين كل ذلك؟ إنه يمرغ تحت أقدام ثلة وحفنة من جنود الصرب، أفترى القوي لا يستطيع أن يردع أمثال هؤلاء؟! أفترى العالم شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، أسلحةً تدك أقصى الأرض وأقصاها الآخر تعجز أن تؤدب مثل هذه الحفنة؟! إن الجواب لا يخفى على لبيب عاقل، إنه ذلك التواطؤ والتآمر الذي يبصرنا بحقيقة الأعداء، واحد يضرب، والثاني يشجب، والثالث يؤيد، والرابع يخالف، وتمضي القضية والنار تزداد اشتعالاً، والحرب تزداد نكالاً، وهذا التآمر والتواطؤ جزء من حقيقة الأعداء التي بصرنا بها كتاب ربنا، ونطق بها تاريخنا.
وانظر إلى حقيقة الأعداء في إجرامهم وبغيهم، أين حقوق الإنسان؟! أين أنصار المرأة؟! أين حماة الطفولة؟! أين الذين ملئوا العالم ضجيجاً وعجيجاً وهم ينادون بهذه المبادئ الإنسانية، وبهذه المعاني التي خدعوا بها كثيراً من العقول؟! فهل ترى بغياً أشد من هذا البغي؟! وهل ترى إجراماً أفظع من هذا الإجرام؟! وهل ترى انسلاخاً من الإنسانية أشد وأظهر وأوضح وأفضح من هذا الانسلاخ؟! قوم يقتلون الصغار قبل الكبار، يسملون العيون، ويبقرون البطون، ويغتصبون الحرائر، ويفعلون الأفاعيل التي لا يفعلها حتى أخس الحيوانات وأشدها فتكاً.
قوم قد ظهر بالدليل القاطع والبرهان الساطع أنهم هم المجرمون والإرهابيون، والذين تلصق بهم كل نقيصة تتبرأ منها الإنسانية: وحشية كشف الزمان حجابها لا بل أشد من الوحوش وأظلم الوحش يفتك جائعاً ويعف عن فتكاته إذ ما يعض ويطعم الوحش إذا أكل قام عن فريسته، وأولئك يمثلون بالجثث التي قد فارقت أرواحها أجسادها! إنهم قوم قد ظهر بغيهم وإجرامهم، فهل نحن في شك بعد ذلك من هذه الحقائق الواضحة البينة؟(174/3)
الوعي بحقيقة الشعارات والمصطلحات التي يروج لها الأعداء
حقيقة أخرى مهمة: الوعي بحقيقة الشعارات والمصطلحات التي تروج بين الناس لتخدع عقولهم، ولتخطف أبصارهم، ولتضلل سعيهم، ولتحرف تصوراتهم! إنها القضايا التي يضحكون بها على الناس، ويروجونها بين المسلمين، إنها كما قال الرافعي الأديب: (الألفاظ الكبيرة تصنع للمسلمين ليتلهوا بها، لينشغلوا بها، فما يزالون يكبرون المصطلحات، ويرددون الشعارات، والمسلمون ينخدعون بهذه اللافتات).
وينبغي لنا ومن هذه الأحداث أن نعي حقيقة هذه الشعارات، فانظر رعاك الله إلى المناطق الآمنة وهي في كل عشرين ثانية تنزل فيها قذيفة، إنها مناطق آمنة أصبحت في قمة الخوف والذعر والهلع.
وانظر إلى قوات حفظ السلام وهي لا تستطيع أن تحفظ نفسها، وانظر إلى القرارات الدولية التي تمرغ تحت أقدام الجيوش الصربية، وانظر بعد ذلك إلى مصطلحات الإرهاب والتطرف، لترى أن الشعارات منعكسة، وأن الأسماء لا تتصل بالمسميات، وأن القضية وراءها ما وراءها.
إذا وصف الطائي بالبخل مادر وعير قساً بالفهاهة باقل وفاخرت الأرض السماء سفاهةً وفاخرت الشهب الحصى والجنادل وقال السهى للشمس: أنت كسيفة وقال الدجى للصبح وجهك حائل فيا موت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جدي إن دهرك هازل فينبغي أن نعرف حقيقة هذه الشعارات.(174/4)
الوعي بضرورة القوة والثبات على المبادئ
وعي ثالث نحتاجه بحقيقة المبادئ والقوة، فإن الحق بلا قوة كالمتجر بلا باب، فأي تاجر يدع متجره مفتوحاً على مصراعيه، ويريد ألا يجترأ عليه أحد؟! إن اللحم المكشوف يغري بأن يلتهمه الملتهمون، وأن يعدو عليه الغاصبون، وإن الحق بلا قوة كالجسم العاري الذي لا يستر سوءته شيء.
إن الأمر يظهر لنا عياناً بياناً.
أن كل مبدأ وكل حق لا بد أن تكون له قوة تحميه؛ لئلا تنقلب الألفاظ فيكون الأمن خوفاً، والسلام حرباً، والحماية جناية، ولابد أن ندرك أن الحق لا يرهب أعداءه إلا أن يكون إلى جواره القوة التي يحسبون لها حسابها.
من يستدل على الحقوق فلن يرى مثل الحسام على الحقوق دليلا ما أيد الحق المضاع كمنطق تدهي به شفة السلاح الأبكم(174/5)
السنن الكونية في أحداث البوسنة
أيها الإخوة! ننتقل إلى أمر مهم آخر، وهو: أننا نحتاج من هذه الأحداث أن نعرف سنن الله عز وجل التي تجري بها أقداره، ويمضي بها مشيئته سبحانه وتعالى، وقد بثها لها لنا في كتاب الله القرآن الكريم، فاعلم هذه السنن وتأمل فيها، ومن هذه السنن:(174/6)
سنة الابتلاء
سنة الابتلاء، قال الله عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
هل في الدنيا وفي البشرية أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم؟ تجمع الأحزاب من كل حدب وصوب، وأحاطوا بمدينة الرسول عليه الصلاة والسلام إحاطة السوار بالمعصم، واجتمعت شدة الخوف مع شدة الجوع مع شدة البرد، والوصف القرآني يصف حال المسلمين بأنه بلغت القلوب الحناجر، وبأنهم زلزلوا شديداً.
هذه سنة ينبغي أن ندركها، فإن الطريق إلى مرضاة الله وإلى نصر الله طريق فيه ابتلاء، وتمحيص، فينبغي أن ندرك هذه الحقيقة: أما علمت أن طريق الخلد قد فرشت بالشوك ما فرشت ورداً ولا بسطا(174/7)
سنة البلاء
سنة البلاء سنة مربوطة بسلوك البشر، فإن الله عز وجل قد قال: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] وقال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} [آل عمران:165].
من أين هذا البلاء؟ من أين هذا العناء؟ {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمٌ} [آل عمران:165]، تفقدوا أحوالكم، تفقدوا مجتمعاتكم، تفقدوا بيئاتكم، قارنوها بمنهج ربكم، فإنا نرى خللاً واضحاً، ونعرف السنة، وكيف يجريها الله عز وجل: فالذنب ذنب بني الإسلام مذ بعدوا عن منهج الله أضحى أمرهم فرطا قد خاصموا الله إذ خانوا شريعته وقل إنتاجهم إذ أكثروا اللغطا تفرقوا شيعاً شتى وأنظمة إذ لم يعد حبلهم بالله مرتبطا أليس هذا حال كثير من بلاد الإسلام إلا ما رحم الله؟ إذاً: فأي شيء نبحث عنه؟ وعن أي سبب نفكر؟ نريد أن نقول: إنهم الأعداء، وهل ينتظر من الأعداء غير العداء؟ لننظر إلى الأسباب في صفوفنا، وإلى الخلل في سلوكنا، فإن سنة الله عز وجل ماضية.(174/8)
سنة قهر الأعداء
سنة ثالثة لابد أن تكون منها على ذكر، وأن تكون منها على اعتبار واتعاظ وهي: سنة قهر الأعداء، فالله عز وجل يمهل للظالم ولا يهمله: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]، ويقول جل وعلا: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227]، وجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام بعض صحابته في الفترة المكية، وقد بلغ بهم العناء مبلغاً، واشتد الأذى إلى المنتهى، فقالوا: يا رسول الله! ألا تدعو لنا، ألا تستنصر لنا، فيقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (كان من قبلكم يوضع لأحدهم المنشار على مفرق رأسه فينشر حتى ينقسم إلى نصفين، ومنهم من كان يمشط بأمشاط من حديد ما بين لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، فوالله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون) إن العاقبة للمتقين ولا شك، وإن الدائرة على المجرمين ولا شك، فافقهوا سنة الله هدانا الله وإياكم لما يحب ويرضى، والله نسأل أن يدفع عن إخواننا المسلمين الأذى، وأن يمن عليهم بالعفو والعافية، وأن يرزقنا وإياهم الصلاح والتقى، والعفاف والغنى.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(174/9)
أسباب النصر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين! أما بعد: فأيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، ويلتمس به رضاه، وإن من التقوى أن نشارك إخواننا في مآسيهم، وأن ننصرهم بما نستطيع، ويأتي السؤال الذي ذكرته، ما المطلوب منا؟ وأوجز ذلك في أمور مهمة.(174/10)
الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى
أولاً: إننا نريد أن ننصر إخواننا، وطريق نصرهم أن ننصر ديننا، وأن ننصر الله ربنا، وذلك أمر لا بد أن ندركه: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، انصروا الله في أنفسكم استقامةً وصلاحاً انصروا الله في بيوتكم طهارةً ونقاءً انصروا الله في بيئاتكم ومجتمعاتكم أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر انصروا الله في كل لحظة من لحظات حياتكم في كل حركة من حركات جوارحكم، فهذا هو الطريق إلى النصر، وإن طالت مسافته، ولا طريق غيره: للنصر قانون والله فصله لا تحسب النصر يأتي الناس معتبطا من ينصر الله ينصره فلا أمل في النصر إلا لمن وفى بما اشترط(174/11)
الصبر
الأمر الثاني: الصبر الصبر، فإن الصبر أمر عظيم نحتاج أن نوطن النفوس عليه، وانظر إلى ما خاطب الله به رسوله صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60]، {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49]، صبر معه يقين، فينبغي أن نصبر، وألا يقودنا البلاء إلى اليأس والقنوط، وألا يقودنا إلى أن نخرج عن طورنا وأن ننسى منهج ربنا سبحانه وتعالى أخي قد أصابك سهم ذليل وغدراً رماك ذراع كليل ستبتر يوماً فصبر جميل ولن يدمَ بعد عرين الأسود(174/12)
العمل والبذل
الأمر الثالث: نحتاج إلى العمل والبذل، بكل ما نستطيع، فينبغي أن نعمل لنصرة هذا الدين، ولو بشق تمرة، ولو بقليل من المال، ولو بلسان حسن منطقه؛ لنعلي راية الحق، ولننصر دين الله عز وجل في كل ميدان من الميادين، هناك فسحة للعمل فأين العاملون؟ وهناك طرق للبذل، فأين الباذلون؟ لئن عجزنا أن نبذل القليل، فنحن عن الكثير أعجز، ولئن لم ننتصر على أنفسنا وعلى شهواتنا، وراحتنا ونوم عيوننا، وملء بطوننا، فكيف نريد أن ننتصر لنكون مجاهدين نضحي بأرواحنا؟! إننا نحتاج إلى أن نعمل ونبذل في دائرتنا حتى نظهر هذه التربية في أنفسنا، ولنعلم أن القوة والبذل والجهاد والفداء والتضحية عربون من عرابين النصر، وطريق من طرق العزة عهداً على الأيام ألا تهزموا النصر ينبت حيث يرويه الدم وطن يقسم للدخيل هدية فعلامَ يحجم بعد هذا محجم(174/13)
التضرع إلى الله بالدعاء
الأمر الرابع: الدعاء الذي غفلنا عنه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، إننا لم نعد على صلة وطيدة بربنا، لم يعد ندعوه كلما حزبنا أمر، ونفزع إليه كلما أدلهمت في وجوهنا الخطوب، كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45].
هذا هو هدي القرآن، فأين الدعاء الذي نرفعه إلى رب السماء في الأسحار قبل الفجر؟ أين الدعوات الصادقة أن يوفقنا الله أن يهدينا أن ينصرنا أن يوحد شتاتنا وتفرقنا أن يقوي ضعفنا ويزيل عجزنا؟ إننا نريد ونحتاج أن ندرك أن الدعاء عمل إيجابي وليس حيلة العاجز، فالدعاء استنجد به النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر؛ فنزل النصر، ودعا به في يوم الأحزاب؛ فتفرق الأعداء، والله مجر سنته، وممض حكمته، ومثبت منهجه سبحانه وتعالى، فادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، وادعوا الله وقد قدمتم أسباب البذل والعمل، والاستقامة والصلاح، ينزل الله عليكم النصر من حيث لا تحتسبون، أو نظن أننا سننتصر على أعدائنا بمكرنا وكيدنا، بعقولنا وتخطيطاتنا، بقواتنا وأسلحتنا، خاب إذاً والله سعينا! لابد أن ندرك أننا لن ننتصر إلا بدعاء ربنا بعد أن نبذل الأسباب، ولابد أن نلجأ إلى رب الأرباب سبحانه وتعالى فيارب هب لي منك صبراً ورحمةً ويا رب حببني بما فيَّ تكتب ويا رب زدني عنك فهماً لمحنتي وثبت يقيني فيك فالقلب قُلَّب وزدني إحساناً بما أنت أهله وحسن فعالي أنت نعم المؤدب وأنزل على قلبي الجريح سكينة وأحسن ختامي ليس لي عنك مذهب(174/14)
الثقة بالله
لابد لنا من الثقة بالله، تلك الثقة التي أنطق الله بها موسى عليه السلام يوم جاء فرعون من ورائه والبحر من أمامه: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]، قال الواثق بالله عز وجل، الواثق بنصره الماضي على منهج ربه: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]، ويوم قال أبو بكر في الغار: والله لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لرآنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، فنحن نحتاج إلى أن نثق بالله وبوعد الله سبحانه وتعالى.
وإني على ثقة من طريقي إلى الله رب الثناء والشروق فإن عافني الشوق أو عقني فإني أمين لعهدي الوثيق فالله نسأل أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يأخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وأن يلهمنا الرشد والصواب! اللهم إنا نسألك العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة! اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شرور أنفسنا! اللهم توفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا نادمين! اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس رايات الكفرة والملحدين! اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه! اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً.
اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، اللهم لا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية! اللهم فرق كلمتهم، ودمر قوتهم، واستأصل شأفتهم! اللهم اجعلهم عبرة للمعتبرين، يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار، يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء! اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المستضعفين، اللهم رحمتك بالمشردين والمبعدين، اللهم رحمتك بالمعذبين والمضطهدين، اللهم رحمتك بالأسرى والمسجونين، اللهم رحمتك بالأطفال الرضع، اللهم رحمتك بالشيوخ الركع، اللهم رحمتك بالصبية اليتامى، اللهم رحمتك بالنسوة الثكالى، اللهم إنهم جياع فأطعمهم، حفاة فاحملهم، عراة فاكسهم، خائفون فأمنهم! اللهم زدهم مع الإيمان يقيناً، اللهم ارزقهم الصبر على البلاء، والرضا بالقضاء! اللهم اجعل ما قضيت عليهم من بلاء تثبيتاً لهم وزيادةً في اليقين، ولا تجعله اللهم فتنةً لهم في الدين، يا قوي يا عزيز، يا رحمن يا رحيم! اللهم عجل فرجهم، وقرب نصرهم، وفرج كربهم، وأزل غمهم، وآنس وحشتهم، وسكن عبرتهم، وسكن لوعتهم، وامسح عبرتهم يا أرحم الرحمين! اللهم كثر الأعداء، وقل النصراء، ولا حول ولا قوة لنا ولا لهم إلا بك يا أرحم الراحمين! اللهم إنه ليس لها من دونك كاشفة، اللهم فاكشف عنا العذاب إنا عائدون، اللهم إنا نسألك أن تجعل هذه الأحداث للمسلمين عبرةً وعظةً يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن تحسن ختامنا، وأن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن تجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين! اللهم احفظ أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل عمل ولاتنا في هداك، ووفقهم لرضاك يا رب العالمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله استجابةً لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
وترضوا على الصحابة الكرام، وأخص بالذكر ذوي القدر العلي، والمقام الجلي، وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
{وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(174/15)
إغراق وإشراق
أصل الإنسان من شقين اثنين: مادي أرضي، وروحاني علوي، ومن هنا كان لكل شق ما يناسبه من غذاء، وما يهذبه من أحكام، فغذاء البدن من جنس الأرض، أي: مما يخرج منها من الحبوب والثمار، وغذاء الروح من جنس خلقتها وهو الغذاء الرباني من وحي الكتاب والسنة، ومن هنا لابد من التوازن بين هذين الأمرين بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر، فيعطى الجسم حقه من الغذاء، وتعطى الروح حقها من الغذاء، حتى لا يكون هناك إفراط أو تفريط.(175/1)
مقدمة عن الإغراق المادي والإشراق الروحاني
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، الحمد لله على جزيل نعمه، ووافر عطائه وعظيم كرمه ومنه سبحانه وتعالى، نحمده جل وعلا كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، وعلى من اقتفى أثرهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين، ونحن معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين.
أما بعد: فإن موضوع (إغراق وإشراق) تفصيله إغراق المادية وإشراق الروحانية.
والحقيقة أن هذا الموضوع متعدد الجوانب، وفيه كثير من المتاعب، وكذلك فيه دقة وتأكيد على صواب ينبغي أن يخلص من خطأ لا يطغى على الصواب، فهو لذلك كنوع من استخلاص شيء مشتبك بأشياء أخرى كثيرة، ومن هنا لابد من أن يكون التعبير والنقل والبيان واضحاً وجلياً؛ لئلا يكون هناك التباس في فهم أو خلط بين قول وقول.
وتقدمة لهذا الموضوع فإننا نعلم جميعاً أن هذا الإنسان مخلوق من قبضة طين ونفخة روح: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:28 - 29].
فأصل الإنسان من هذين الشقين، وبالنظر إليهما نجد أن أحدهما شق مادي أرضي، والآخر شق روحاني علوي، ومن هنا كان لكل شق ما يناسبه من غذائه وما يهذبه من أحكامه، فغذاء البدن من جنس الأرض والطين الذي خلق منه من الزروع والثمار والحيوانات والطعام والشراب مما سخر الله سبحانه وتعالى ويسر في هذه الأرض.
وكذلك الأحكام تناسب هذا البدن، فنجد قول الله سبحانه وتعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، ونجد الأحكام التفصيلية تراعي مثل هذا: (صل قائماً، فإن لم تستطع فجالساً، فإن لم تستطع فعلى جنب).
وإذا نظرنا إلى الشق الثاني فإننا نجد أيضاً أن غذاء الروح هو أيضاً من جنس خلقتها؛ لأنها كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]، فلما كانت هي من أمر الله ومن سر الله سبحانه وتعالى في هذا الخلق وهذا الوجود فكذلك غذاؤها لا يكون إلا من جنس أصل خلقتها، فهو غذاء رباني من وحي الله سبحانه وتعالى ومن كتاب سبحانه وتعالى، ومن التعلق بالله سبحانه وتعالى، ومن المحبة لله سبحانه وتعالى، إلى آخر ما هو معلوم في هذا الباب مما سيرد ذكر بعض منه بعون الله تعالى.
وكذلك أحكامها إن تأملنا فسنجد أنها تناسب هذا الأمر وتتوافق معه، فليست فيها تلك الأحكام المادية البحته، فإن أمر الرؤى والأحلام، وإن أمر الكشف والإلهام، وإن أموراً مما يلحق بهذا لها حكم يتناسب معها ليس آخذاً صفة المادية البحتة، بل هو مواكب وموافق للروحانية.
ومن هذا المنطلق عندنا جانبان: الجانب المادي، والجانب الروحي.
فالإغراق في المادية يطفئ أنوار الروحانية، والغلو في الروحانية يغلق الناحية البدنية، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
والتوسط هو الهدي المستقيم، وهو الشرع الحكيم الذي جاء به رسولنا صلى الله عليه وسلم.
وهذا كلام مجمل يوضح المعنى الإجمالي لهذا الموضوع الذي نتحدث عنه، ولذلك قال العلماء من أمثال ابن القيم وابن تيمية كلاماً في مثل هذا الشأن يوضح هذه المقدمة ويبينها.
فـ ابن القيم على سبيل المثال يقول: اللذات ثلاث: لذة جسمانية، ولذة خيالة وهمية، ولذة عقلية روحانية.
فأما اللذة الجسمانية فهي لذة الأكل والشراب والجماع، ويشترك فيها الإنسان والحيوان، وتحصيل هذه اللذة لا يؤدي إلى كمال الإنسان؛ لأن أنقص الحيوانات يحصلها.
فلو كان كمال الإنسان بكثرة الطعام والشراب والمبالغة أو المسابقة في هذا الشأن لكان كلما ازداد في هذا الشأن كلما اتصف بالحيوانية، بل بأدنى مراتب الحيوانية؛ لأن من الحيوانات الوضيعة ما يكون في هذا الجانب مبرزاً أو سابقاً.
وأما اللذة الوهمية الخيالية فلذة الرئاسة والتعاظم على الخلق.
ويقصد بها ما يتعلق بالنفس من الأمراض من عجب أو تكبر، ففيها لذة في حقيقة الأمر، وفيها نوع من الفرح والسرور، وفيها نوع من حصول طمأنينة النفس المتوهمة، أو استقرار يظنه صاحبه كذلك، ولكنه على الحقيقة ليس كذلك، وقد فقه أهل الإيمان ذلك، ومن ذلك مثال يذكره ابن القيم عن ابن مسعود رضي الله عنه (أنه مشى مرة فمشى خلفه بعض الناس، فقال: هل لكم من سؤال تسألونه أو حاجة تطلبونها؟ قالوا: لا.
ولكنا أحببنا أن نسير معك -موكب وحفاوة ونوع مما نسميه نحن البهرج والاتباع والالتفاف- فقال: لا تفعلوا؛ فإنه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع).
ذلة للتابع لا تتناسب مع كرامة الإنسان، وفتنة للمتبوع يستعلي بها على الخلق، ويظن أنه قد ارتقى مرتقىً لا يبلغه أحد، وهذا من سفه العقل ومن حمق الإنسان، حينما يظن أنه من الممكن أن يفارق البشر ويرتفع عنهم بشيء مما يتعلق بهذه التوهمات والتخرصات.
ولذلك كان عتب أهل العلم والإيمان ونقدهم في هذا الباب جميل وقوي، فهذا أحدهم يقول حينما رأى أحد الأمراء وهو يزدهي ويفتخر فقال: علام هذا؟ ما أنت في أولك إلا نطفة مذرة، وفي آخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بينهما تحمل العذرة.
أي: الفضلات.
أكرمك الله.
فلا موجب للتكبر، والقرآن بين هذا بياناً شافياً، فقال سبحانه وتعالى في شأن المتكبر: {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:37].
مهما مشى المتكبر فله مشيتان: إما أن يدك الأرض دكاً، وإما أن يترفع فيمشي كالطاووس منتشياً على أطراف أقدامه.
والقرآن بين أنك مهما بالغت في هذه المشية فإنك لن تخرق الأرض، ومهما بالغت تطاولاً فإنك لن تبلغ الجبال طولاً، فلتعرف قدرك.
ولذلك قال أبو العلاء المعري: خفف الوطأ ما أظن أديم الـ أرض إلا من هذه الأجساد يعني: على مهلك عندما تمشي؛ فإن هذه الأرض غداً ستكون أنت من ترابها الذي يوطأ.
فإذاً هذه لذة قال عنها ابن القيم رحمة الله عليه: وطلاب هذه اللذة أشرف نفوساً من طلاب الأولى، ولو أنهم ليسوا على الكمال المطلوب، لكن آلامها أعظم من التذاذ النفس بها؛ لأن صاحبها قد نصب نفسه لمعاداة كل من تعاظم عليهم، فهذا يغتابه، وهذا يحسده، وهذا يتربص به، وهو في ذلك على خوف على نفسه ونحو ذلك مما لا يحقق لذة من اللذة التي يطلبها العبد.
وأما اللذة العقلية الروحانية فهي لذة المعرفة والعلم والاتصاف بصفات الكمال، من كرم وجود وعفة وشجاعة وصبر وحلم ومروءه ومعرفة الله ومحبته.
قال بعض العارفين: مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا ولم يذوقوا طيب نعيمها.
فقيل له: وما هو؟ قال: محبة الله والإنس به والشوق إلى لقائه ومعرفة أسمائه وصفاته.
فهذه اللذة هي التي يسعى الإنسان إلى الكمال فيها ويسعى إلى تحصيلها، وهي التي بها يقع التوازن ويقع العلو والشرف للإنسان، وسيتضح هذا حينما نفصل الآن المدرستين أو الجانبين، سنتحدث عن إغراق المادية وصورها، ثم عن إشراق الروحانية وصورها، وفي كل يقع خلل بين غلو وتفريط وبين إجحاف وإفراط، لأن هذا هو حال ما يقع فيه الالتباس حينما لا يكون الإنسان ملتزماً بنهج كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(175/2)
إغراق المادية وما نتج عنه من مدارس
المادية متعلقة بالجسم، ومتعلقة كذلك بقوة بدنية تتمثل في الطعام والشراب وقوة الجنس ونحو ذلك، وقوة عقلية تتمثل في الفكر والتأمل وحل المعضلات ونحو ذلك، وقوة هي نوع من التعامل مع المواد والحوادث والوقائع التي تخرج عن دائرة ذات الإنسان.
فهناك نتج عن الإغراق في المادية ثلاث مدارس نحتاج أن نمر على بعضها مروراً سريعاً لوضوحها، وبعضها يحتاج إلى شيء من التفصيل.
فنشأت المدرسة الإباحية، والمدرسة المادية، والمدرسة العقلية.(175/3)
المدرسة العقلية حقيقتها والآثار المترتبة عليها
المدرسة الثالثة -وهي التي يطول الحديث فيها- المدرسة العقلانية التي بالغت في حد العقل ومكانته حتى بلغت به أن يكون في منزلة الإله، أو بلغت به أن يكون هو الذي يحكم كل شيء ويوجه كل شيء، حتى جعلت العقل حاكماً على الشرع، وهذا من أعظم الفساد وأكثر المزالق التي ضلت فيها فرق كثيرة، والتي حينما ابتليت بها الأمة وقع فيها من الخلل ومن الزيع -بل ومن الكفر والخروج من الملة- ما هو مشهود له في وقائع كثيرة.
وهذا الأمر يحتاج إلى بعض التفصيل؛ لأن الأمرين السابقين أحسب أن صورتهما واضحة سواء من الإباحية أو من المادية التي ذكرناهما، ذلك كله ظاهر، لكن مسألة العقلانية تطوف بالعقول أكثر، والتلبيس فيها أكثر.
فإذاً هذه الصورة هي المهمة نقف عندها ونسرد أولاً أقوالاً تبين لنا ما قال هؤلاء العقلانيون إن صح التعبير نسبة إلى العقل الذي بالغوا في تقديره، وإن كانوا في حقيقة الأمر خالفوا مقتضى تفكير العقل؛ لأن العقل من حسن تفكيره وتدبيره أن يعرف حدوده، وأن يعرف مدخله ومخرجه، فالإنسان إذا كان له تخصص معين ثم يدخل في كل تخصص ويريد أن يبدع في كل تخصص فإنه يخلط، أو يأتي بحق وصواب، أو يوفق إلى بعض الصواب ويخطئ في كثير، فلا يقال عن مثل هذا: إنه مصيب.
بل يقال: إنه أخطأ؛ لأنه تجاوز الحد.
فهؤلاء عقلانيون باعتبار أنهم تكلموا في مسألة العقل، لا باعتبار أن عقولهم هي الراجحة أو الكبيرة، وإن كانت كذلك في ذات الأمر، لكنها في آخر الأمر انقلبت على ذاتها.
فنذكر أقوالاً تبين صورة موجزة لهذا الأمر، فمن هذا قول الزمخشري صاحب الكشاف في مسألة العقل، يقول: امش في دينك تحت راية السلطان -ويقصد به سلطان العقل- ولا تقنع بالرواية عن فلان وفلان، فما الأسد المحتجب في عرينه أعز من الرجل المحتج على قرينه.
هذا القول يعني: سر في دينك تحت سلطان العقل، واترك الرواية عن فلان وفلان، لا تقنع بها بل حاكمها إلى العقل، فإن اقتنع بها عقلك وإلا فالتمس لها مخرجاً أو تأويلاً.
والغزالي القديم أيضاً يقول في تعليق على قول الله سبحانه وتعالى في خطابه للسماوات والأرض: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] يقول الغزالي: فالبليد في فهمه هو الذي يقدر لهما حياة -يعني: للسماوات والأرض- يخلقها الله للسماء والأرض، وعقلاً وفهماً للخطاب، وخطاباً هو صوت وحرف تسمعه السماء والأرض فتجيبان بحرف وصوت وتقولان: {أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]، هذا البليد والبصير يعلم أن ذلك لسان الحال، وأنه أنبأه عن كونهما مسخرتين بالضرورة.
أقول: هذا الفهم الذي هو ظاهر النص والقرآن وجاء باللغة العربية، كما قال تعالى: {قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر:28] {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود:1] {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت:44].
كل هذه الدلالات تدل على أن ظاهر لفظ القرآن يحمل على الحقيقة، إلا أن توجد القرينة القوية المستدل بها من النصوص الأخرى على أن المعنى مفسر بقول آخر.
فهو يقول: البليد الذي يظن أن هذا المعنى الظاهر هو المراد، والبصير هو الذي يفهم أن هذا أمر معنوي وليس حسياً.
وسنبين الخلاصة بعد سرد بعض هذه الأقوال أيضاً، وستجد -أيضاً- من المتأخرين من يرى مثل هذا.
فـ محمد عبده يقول: الأصل الأول للإسلام النظر العقلي لتحصيل العلم، فأول أساس وضع عليه الإسلام هو النظر العقلي وغيره يأتي بعده.
ويقول: تقرر بين المسلمين كافة -إلا من لا ثقة بعقله ودينه- أن من قضايا الدين ما لا يمكن الاعتقاد به إلا من طريق العقل، كالعلم بوجود الله سبحانه وتعالى.
وهذا طبعاً خلاف الصحيح.
ثم أقوال أخرى دخلوا فيها مدخلاً صحيحاً وخرجوا مخرجاً خاطئاً، دخلوا من مدخل تكريم الإسلام للعقل، ودعوة للتأمل في القرآن والتدبر والتفكر وإعمال العقل، دخلوا من هذا المدخل، ثم خرجوا منه إلى أن العقل هو الحاكم، ولذلك أولوا كثيراً من النصوص، مثل إمداد الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين بالملائكة، وهو ثابت بنص القرآن، قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9]، فيقول الواحد منهم في تفسير له: إن هذا الإمداد أمر روحاني يؤثر في القلوب، وليس هناك ملائكة نزلت ولا غير ذلك.
انظر إلى النظرية العقلية المادية البحتة! ثم يقول: المسلمون في بدر كانوا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، والكافرون كانوا قريباً من ألف، فلو نزلت الملائكة وكان كما ورد في الروايات أن أحدهم يقول: إني كنت أرفع سيفي فإذا بالكافر أو المشرك يقطع رأسه ويموت قبل ذلك، فإذا كانت الملائكة نزلت بكثرة فمعنى هذا الكلام أن الانتصار أصبح فيه نوع من التكافؤ، وهذا لا يكون، بل الانتصار كان بقوة الروح.
ومن هذا التوهم يأتي مثل هذا الكلام، وعلى هذا فقس.
كذلك حينما يأتي قول الله سبحانه وتعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد:13]، يقولون: هذا للتسخير ونحو ذلك.
إذاً فما ورد من تسبيح الطعام بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام، وما ثبت أيضاً في الصحيح من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مكة وخرج مرة فما مر بشجر ولا حجر إلا وهو يسلم عليه إذا قلنا بهذا القول فإن معظم ما ورد سيكون غير واضح الدلالة، أو دلالته غير مرادة.
وهذا لا شك أنه إخراج للنصوص عن مرادها الظاهر والواضح.
هذه المدرسة مشكلتها أنها وصلت إلى حد خطير، وهو رد النصوص، فتجد من هؤلاء من ينكر كل نص وإن ثبت إذا كان يرى أنه مخالف لمقتضى العقل.
أقول: أولاً: أي عقل هذا الذي نريد أن نجعله حكماً؟! فعقلي غير عقلك وعقل الثاني غير عقل الثالث.
ثانياً: هذا الدين جاء لكل الناس، للعامي البسيط، وللعجوز الشمطاء التي لا تعرف ولا تبصر ولا تدرك من الأمور كثيراً، وللطفل الصغير، فلو قلنا: إن هذه المكانة للعقل بهذا التدبر والتفكر وهذا الإمرار للنصوص على العقل يحكم فيها فإننا سنجد أن هذا لا يتحقق إلا في فئة من الناس لا يتجاوزون نسبة ضئيلة، والآخرون كيف سيكون حالهم؟! هل سيكونون كلهم من البلداء؟! وهل سيكون مثل هذا الوصف يلحق بمن كانوا من أهل الإيمان من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام والتابعين، وهم من سيأتي ذكر كثير من قولهم في الشق الثاني من الموضوع؟!
الجواب
ينبغي أن يكون هناك تدبر وتأمل، ومن هنا اقتضى هذا الإسراف في هذا الجانب.
وعلماء أهل السنة ردوا على هذه القضية في ردود كثيرة، كان أوسعها وأعظمها وأدقها كلام الإمام ابن تيمية في (درء تعارض العقل والنقل) هذا كتاب كامل في هذه المسائل، ربما نوجز بعض ما أشار إليه، ونذكر بعض القضايا اليسيرة قبل أن نذكر كلام شيخ الإسلام رحمة الله عليه.
إن الناس يسلمون بمحدودية الحواس الأخرى، ومن هذا المدخل تكون إحدى الحجج على العقلانية، فمثلاً: كل الناس مسلمون بأن البصر والنظر محدود، ونحن الآن في هذا الهواء والفراغ هناك كائنات وهناك ميكروبات وهناك فيروسات لا نراها، فهل عدم رؤيتنا لها يجيز لنا أن ننكر وجودها وأن نرفض وجودها؟! وهل عدم العلم هو إثبات للعدم؟! هل أنت إذا لم تعلم أن هناك -مثلاً- إنساناً خارج الغرفة التي أنت فيها هل ذلك دليل على عدم الوجود؟
الجواب
لا.
فالآن أنت ببصرك هل ترى كل شيء؟ الجواب: لا.
حتى السمع معروف أن له ذبذبات معينة من كذا إلى كذا يسمعها الإنسان، إذا زادت عن هذا الحد لا يسمعها، وإذا نقصت عن هذا الحد لا يسمعها، ومن ذلك الحديث الذي في عذاب القبر أن المعذب يصرخ صرخة يسمعها كل من في الأرض إلا الثقلان الإنس والجان، ثم كذلك هناك أشعة تحت الحمراء وفوق البنفسجية، وهذه المسميات أيضاً لا يراها الناس، هل أنكروا وجودها أم قالوا: نعم هي موجودة عرفناها يقيناً من جهة أخرى، وما لم نعرفه أيضاً نسلم بأن هناك ما هو أدق وما لم يزل بعد حتى بالأجهزة والإلكترونيات والمجاهر ما وصلنا إليه؟ إذاً أنتم جعلتم للبصر حداً محدوداً وللسمع حداً محدوداً، وقلتم: نوقن بهذه الحواس وبقوتها، لكننا نعلم أن لها حداً لا تستطيع أن نتجاوزه إلا بمساعدة، وهذه المساعدة هي مما يسر الله سبحانه وتعالى كالمكبرات وغير ذلك من الأمور، إذاً لماذا لم نقل ذلك في موضوع العقل، وأن له حداً إذا زاد عنه لا يستطيع أن يصل إلى هذا الحد إلا بمساعدة، وهذه المساعدة هي الوحي المبلغ للناس من الله سبحانه وتعالى؟! فكل ما هو في إطار الغيب خارج عن حدود العقل لا يمكن للعقل أن يدركه إلا بمساعد، وهو الوحي الذي يبين له إجمالاً وتفصيلاً ما ورد عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم به، وإلا فإنه يكون أيضاً منافقاً، كيف سلمت بحد الحواس كالبصر والسمع وتركت الأخرى، ولو قلنا: العقل يدرك كل شيء فكيف سنفهم كثيراً من الأمور؟ حتى الأشياء الممارسة في الحياة اليومية كثير منها نجد أن الناس يسلمون بها من غير تحكيم للعقل، فكيف يكون هذا فيما وراء ذلك من الأمور الشرعية؟! إنك تتصور بعض الأمور الغيبية، مثل عذاب القبر، أو نعيم القبر كما ورد في الأحاديث الصحيحة: (فيفسح له في قبره حتى يكون مد بصره) إن أخذتها بالعقل فإذاً كيف سيصنع هذا القبر بجيرانه؟! وكذلك كما في الحديث أنه يجد من ريحها ونعيمها، وفي الحديث أنه يجد من حرها وعذابها، فلو تجاورا هل ينتقل نعيم هذا أو برد هذا إلى حر هذا؟ بالعقل ستتعب في هذا التفكير، كذلك لو فكرت بالعقل في كثير من القضايا الغيبية لا يمكن أن تصل فيها إلى جزم، وإلغاؤها نوع من تكذيب الشرع، أو نوع من الطعن في تبليغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو نوع من خفاء الوحي وخفاء الدين على كثير من الناس، والأصل أنه جاء تبياناً لكل شيء، وأنه واضح لكل إنسان، وأنه جاء للعالم والعامي وغيرهما، وهذ(175/4)
المدرسة الإباحية حقيقتها وآثارها السلبية على الفرد والمجتمع
المدرسة الإباحية أصحابها هم الذين جعلوا همهم في اللذة الأولى، لذة كمال الجسم المادي بالطعام والشراب وإطلاق العنان للغرائز والشهوات، وهذا الجانب عند التأمل نجد أنه حينما يسير الإنسان وراءه مندفعاً بشهواته غير منضبط بشرع ولا بحكمة ولا بعقل ولا بتوسط واعتدال فإنه ينشأ عنه صورة مرذولة قبيحة، لها من الأضرار شيء كثير، ومن ذلك أننا نستطيع أن نضرب الأمثلة من واقع الحال، فنجد أن الإباحية المطلقة التي نادى بها وطبقها الغرب كم أنتجت من صور تقشعر لها الأبدان، وتجفل منها القلوب، وتشمئز منها الفطر السليمة.
فإذا نحن نرى شيوع الفاحشة من الزنا بأمر لا يخطر على العقل كثرة، ولا يخطر على العقل مما يقع معه مصاحباً للجريمة أو الاعتداء أو نحو ذلك، مما يهدد حياة الناس كما يتضح من سلسلة الآثار.
وكذلك تجاوز هذا الأمر إلى عدم الاكتفاء بالصورة التي يعرف أن النفس البشرية أصلاً مفطورة مجبولة عليها، فتعدى الأمر الفواحش إلى الشذوذ، وصار هناك -أيضاً- باب واسع من هذه الأبواب في الشذوذ المعروف، بل تجاوز الأمر ذلك إلى الانطلاق في ممارسة الفواحش مع المحارم والأبناء والبنات والأخوات والأمهات، وتجاوز الأمر كل ذلك -رغم هذه الإباحية- إلى حصول الأمر بنوع من الاعتداء والاغتصاب والجريمة، وصاحب كل ذلك نوع من الأمور التي لها آثار سيئة جداً من انتشار المسكرات والمخدرات، وانتشار الجريمة بكل صورها إلى القتل في أعظم صوره.
كل هذا صورة ظاهرة لهذه المدرسة الإباحية، وتجد الإحصاءات والأرقام شيئاً عجيباً جداً.
فعلى سبيل المثال: من الإحصاءات -وليست جديدة- في أوائل الثمانينات في أمريكا ما بين اثني عشر إلى خمسة عشر مليوناً يمارسون الجنس مع المحارم، وهناك نحو سبعة عشر من المائة من المواطنين الأمريكيين يمارسون الشذوذ.
وهناك أعداد كبيرة لا حصر لها تمارس الفاحشة والزنا والحرام؛ لأنه ليس عندهم بمحرم، إضافة إلى ذلك تجد مثلاً بلداً مثل السويد -وهو من أعظم الدول إباحية- تصل فيه النسب إلى شيء مهول، نتج عن ذلك آثار كثيرة جداً يهمنا منها بعض الآثار المهمة، وهي إطفاء نور القلب، وطمس معالم الفطرة السوية، فهؤلاء القوم ليس عندهم فرق بين عيب، ولا عندهم في قاموسهم العيب ولا الحياء، فضلاً عن الكراهة أو الحرمة، كل ذلك زال، والنفس البشرية من فطرتها ما ذكره الله سبحانه وتعال: {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [طه:121]، فطرة الإنسان أن يستر عورته فضلاً عن أن ينطلق في هذه الميادين البهيمية.
هذا كله كان متجرداً في هذه المجتمعات، فحصل هذا الأثر الأول، وهو انطماس الفطرة السليمة، وانعدام كل معالم القيم التي تقرها الفطر والعقول فضلاً عن الديانات أو الأنظمة التي وضعها حتى البشر من ذات أنفسهم.
وهذا جانب واضح آثاره المادية كثيرة جداً، ومنها انهيار شديد جداً في البناء الأسري، وعزوف كبير جداً عن الزواج، وملايين من الأطفال من اللقطاء.
ومن الآثار المادية التي تترتب على هذا أن اللقطاء -مثلاً- يحتاجون إلى أموال ومؤسسات ودور وجوانب أخرى كالأمن وغير ذلك.
أضف إلى ذلك الآثار الصحية المعروفة، من انتشار الأمراض المهلكة والأوجاع التي أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنها لم تكن في أسلافهم، وهذا كله شاهده آية واحدة في القرآن، تبين لنا بياناً شافياً كل الآثار التي يقع فيها الناس عندما يتنكبون طريق الله سبحانه وتعال، وهي قوله عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124]، وهذا التعبير القرآني قوي وأصيل وبليغ، معيشة ضنك، والضنك هو ضيق في النفس، وضيق في المال، وضيق في الصحة، أمر لا يفارق الإنسان، يصاحبه في كل لحظة من لحظات حياته.
ولو تصور الناس ما يدعو به بعض الناس في مجتمعات المسلمين أن هذا هو الذي يحقق سعادة النفوس، ويحقق للناس انفتاحاً وانعتاقاً مما يسمونه كبتاً أو عوائق لكان أجدر الناس بأن يحصلوا على هذه اللذات المتوهمة وهذه الخيرات المفتعلة هم هؤلاء القوم، ولكنا نجد أنهم في شقاء نفسي معنوي ظاهر، يظهر في انتحارهم ويظهر في اعتدائهم، ويظهر في أقوالهم التي تبين حيرتهم المطلقة، رغم أن كل أسباب المادة من طعام وشراب وجنس ونحو ذلك ما تركوا منه شيئاً إلا وأخذوا بأوفى وأعلى حظ منه، ومع ذلك ما يزيدهم الأخذ في هذا الشأن إلا زيادة في ضنك العيش مرة بعد مرة، وهذا شاهده قول الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124]، لا يتخلف هذا الأمر وإن اختلفت صوره أو ألوانه.
هذا ما يتعلق بإيجاز بالنسبة للمدرسة الإباحية.(175/5)
المدرسة المادية حقيقتها وآثارها السلبية وأصناف الناس فيها
المدرسة المادية هي التي تجعل حساب المادة حساباً وحيداً، فإذا جاءت في قاموس المواجهة والنصر والهزيمة حسبت عدتها من العتاد والسلاح والعدة وغيرها ثم قالت: لا يمكن.
وإذا جاءت في مسائل معتادة للناس أخذت بالأسباب، وجعلت هذه الأسباب المادية هي وحدها الحكم، ونسيت ما وراء ذلك من قدر الله سبحانه وتعالى، من نصر الله سبحانه وتعالى، من دفع الله سبحانه وتعالى، وكل ذلك أدلته في القرآن واضحة.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُم} [محمد:7]، {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249].
فالماديون -للأسف- تغلغلت أفكارهم حتى في مجتمعاتنا، أصبح الناس الآن إذا قيل: قوى عظمى خافوا، وإذا قيل: لا نستطيع مسألة من المسائل قالوا: هذا لا يمكن.
وكذلك المريض أخذ الطب وسيلة وحيدة لا يوجد غيرها، لم يكن عنده نوع توكل على الله، ولا نوع اتجاه إلى الله، ولا نوع سؤال لله سبحانه وتعالى.
وكل هذه المثالب أو هذه المشكلات يجمعها مثلب واحد ونقيصة مهمة، وهي أن هذا النوع من الانطلاق يلغي شيئاً مهماً في حياة البشرية كلها، وهو وصف العبودية للخلق، ووصف الألوهية والربوبية لله سبحانه وتعالى.
وقد ذكر ابن القيم رحمة الله عليه في فوائده أن كل نقص في الإنسان يقابله كمال عند الله سبحانه وتعالى، ليبقى العبد دائم الافتقار لله جل وعلا، فقد ركبت أيها العبد من العجز لتنظر إلى كمال قدرة الله سبحانه وتعالى، وركبت من الفقر لتنظر إلى كمال غنى الله سبحانه وتعالى.
فإذا أخذ الإنسان بأسباب المادة وقع في هذا، ومثال ذلك من القرآن قصة قارون: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78].
أي: ليس هناك فتح ولا تيسير ولا توفيق ولا رعاية ولا عناية من الله سبحانه وتعالى.
فكانت النتيجة {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص:81]، فكل من أخذ بأسباب المادة وحدها وقطع أسباب الله سبحانه وتعالى فإنه يكون مصوراً لصورة قبيحة، وهي انفصال العبودية عن الإلهية، أو أن هذا الإنسان أصبح مستقلاً بذاته غير مفتقرٍ -عياذاً بالله- إلى ربه ومولاه سبحانه وتعالى.
ولذلك المؤمنون حينما كان يخالطهم بعض اعتماد -ربما كان فيه زيادة عن الحد المطلوب- بقوتهم كان العقاب يأتيهم والتربية تأتيهم من الله سبحانه وتعالى {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة:25] فقط كلمات قالوها، قالوا: (لن نغلب اليوم من قلة).
هذه الكلمة فقط، لكن لأنهم كانوا على الإيمان والكمال فكان كل يسير من التقصير يعاقبهم الله سبحانه وتعالى عليه، ويربيهم بما يقدرون عليه من البلاء، حتى يعلم أثر هذه الأمور في حياة الناس، ومشكلة الناس اليوم أنهم يرتبطون بأسباب المادة وينسون أسباب السماء في كثير من الأحوال والوقائع.
فنجد هنا هذا المعنى حينما ينقطع الإنسان عن هذه الأسباب الإلهية، يلغي هذا الجانب من العبودية الذي هو حياة الكون كله {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وهذا الإنسان هو الذي خلقه الله سبحانه وتعالى وسخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه، فغاية هذا الكون كله هي عبوديته بتوحيد الله سبحانه وتعالى، فإذا اعتمد على المادة ونسي أسباب السماء فكأن هذا نوع الغاء للعبودية، ونوع اجتراء على إلاهية الله سبحانه وتعالى، وكون كل أسباب الدنيا والآخرة بيده جل وعلا، ولذلك قال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة:25]، فمباشرة جاء العقاب من الله سبحانه وتعالى لهذا الأمر.
والله جل وعلا قال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، الربط بالسبب الذي هو نوع من التعلق بالله سبحانه وتعالى، إما موافقة لأمره أو تخلفاً عن أمره، فلما كان تخلفهم عن أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام في أُحد بشيء يسير أو بأمر واحد جاءت العقوبة من الله سبحانه وتعالى.
وهذا لا يكون إلا عندما يكون العبد في درجة من الإيمان والكمال، ينزل الله سبحانه وتعالى له من البلاء ما يذكره بخطئه وما يمحو عنه ذنبه، أما غير هؤلاء من الناس فإن قدر الله قد يجري باستدراجهم، فيملي لهم سبحانه وتعالى، ولكنه يمهل ولا يهمل جل وعلا {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
فإذاً هذا المعنى عند أهل الإيمان يربطون به السبب المادي، فكان أحدهم يقول: إني إذا أذنبت الذنب أجد ذلك في خلق زوجتي ودابتي.
فكلما حصل سبب مادي ربطه بسبب معنوي يصله بالله سبحانه وتعالى.
أما اليوم فهذه النظرة المادية قد طغت على الناس، فإذا جاءت الزلازل فسروها تفسيراً مادياً، قالوا: ضعف القشرة الأرضية وغير ذلك.
ونسوا أن يقولوا: إن ذلك قدر من الله، وإن له فيه حكمة، وإنه قد يكون مرتبطاً بعقوبة من الله سبحانه وتعالى.
كما بين الله جل وعلا أنه ما من شيء يقع إلا بما كسبت أيدي الناس ويعفو سبحانه وتعالى عن كثير.
فهذه المدرسة المادية التي أهملت أسباب السماء طغت على كثير من مجتمعات المسلمين، وصاروا لا يلتفتون إلى هذه المعاني، وهي لب وجوهر من جواهر العبودية له سبحانه.
وحقيقة الإيمان من توكل وتعلق وربط كل شيء في هذا الكون بموافقة أمر الله ورضا الله سبحانه وتعالى وتوفيقه، أو بمخالفة أمر الله سبحانه وتعالى وسخط الله سبحانه وتعالى وبلائهم في تقديره.
وهذا الأمر حينما غاب عن الناس حصل لهم من البلاء شيء كثير، ولكن كثيراً من الناس لا يفكرون ولا يتأملون، وكم نرى من أحوال الناس في مجتمعنا ممن أعطاهم الله سبحانه وتعالى مادة ومالاً لكن محقت منهم البركة، أو ابتلوا بأنواع الأسقام، أو ابتلوا بعقوق الأبناء، أو ابتلوا بصورة من الأبناء المتخلفين أو القاصرين في عقولهم، فتجد هذا الغني الثري يأتي لابنه بكل المدرسين ثم يرسب هذا الابن، فإذا ما نفعه مدرس أتى بمدرس آخر بدرجة أعلى في العلم، أو يأتي باثنين أو بثلاثة، ما فكر أن المسألة قد يكون مرجعها في الحقيقة إلى نوع تفريط في اكتسابه للمال من حرام أو نحو ذلك.
وهذا أيضاً إيجاز شديد مختصر للمدرسة المادية التي تركت أسباب السماء وتعلقت بأسباب الأرض تعلقاً كاملاً، فكانت كأنما تلغي مقام العبودية والذلة لله سبحانه وتعالى، وكل هذه المدارس التي فيها إغراق مادي هي نوع من الإجحاف بإشراق الروحانية.(175/6)
الإشراق الروحاني
الشق الثاني: ما يتعلق بإشراق الروحانية، وهو أيضاً باب واسع فيه مداخل ومزالق خطيرة جداً، فمن غلا فيه خرج عن حد الاعتدال والمشروع، فاستوجب كرد فعل من غيره أن ينكر أمره بالكلية ما صح منه وما بطل، وهذه هي المشكلة عندنا، كما يقال: لكل فعل رد فعل مساوٍ له في القوة ومضاد له في الاتجاه.
إذا أخطأ شخص في جزء، كما لو أنه أخذ بستين في المائة من الصحيح وزاد عن الحد المشروع أربعين في المائة قلنا له: كل ما عندك خطأ بما فيه الصواب الثابت، وهذه هي النقطة الأساسية التي نحب أن نقف عندها.
لابد من مدخل لموضوع إشراق الروحانية في تصور القضية الأساسية في أمر الغيب، لابد من المعرفة أن الروح من أمر الله سبحانه وتعالى يخفى على البشر جملةً وتفصيلاً، ولذلك لما جاء سؤال اليهود للنبي عليه الصلاة والسلام عن الروح جاء الرد القرآني: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]، ليس هناك شيء مما يتعلق بالروح له صلة بالبشر أو بعلم بالبشر غير ما يرد عن الله سبحانه وتعالى مطلقاً.
فإذاً كل ما يتصل بالروح وصفاً أو غذاء أو مرضاً أو شفاء كله لابد أن يكون موقوفاً على المصدر الوحيد، عن الله سبحانه وتعالى وحياً قرآنياً وتبليغاً نبوياً من رسولنا صلى الله عليه وسلم.
الروح من جانب أنها سر ونفخة من الله سبحانه وتعالى، والله جل وعلا شرع في هذا الدين شرائع وعبادات تغذية وتهذيباً وعلاجاً لهذه الروح، لابد أن ندرك وأن نفهم هذا العطاء الرباني وهذا الغذاء الإيماني، وهذا الذي ينتج عنه الإشراق الروحاني.(175/7)
وقفات مع لذة العبادة والإقبال على الله عند السلف
هذه وقفات سريعة لكنها مهمة مع لذة العبادة والإقبال على الله سبحانه وتعالى، هذه المسألة المهمة تبين لنا سر أو بداية ما يتصل بالروح وإشراقها ونورانيتها، نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم عبر بكلمات يسيرة، لكن في الحقيقة عند التأمل يجد الإنسان أنه محتاج إلى تفكير في دلالاتها، حينما يقول عليه الصلاة والسلام لـ بلال في الصلاة: (أرحنا بها يا بلال)، فنقول: كلنا نقول: الصلاة راحة، لكننا نريد أن نبقيها حتى ننفذ معناها، وحينما يقول عليه الصلاة والسلام: (جعلت قرة عيني في الصلاة) فنقول كلنا: الصلاة لذة، لكن ما معنى الراحة واللذة في التطبيق الواقعي، الذي كان نموذجه وقدوته وأسوته الأولى رسولنا صلى الله عليه وسلم؟! وهو الذي يقول عن نفسه: (أما إني أتقاكم لله وأخشاكم له)، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه.
ومعلومة قصة ابن مسعود في الصحيح لما وقف يقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل قائماً حتى هممت بأمر سوء.
قيل: وما هممت يا ابن مسعود؟ قال: هممت أن أقعد وأتركه).
ونأخذ مثلاً آخر من صحيح البخاري -أيضاً-، وهو أن الرسول عليه الصلاة والسلام لقي عبد الله بن عمرو بن العاص فقال له: (ألم أخبر أنك تصوم فلا تفطر، وتصلي فلا تنام، وتختم القرآن في كل ليلة؟ قال: نعم يا رسول الله) هذا ما بلغ النبي عنه.
والرسول عليه الصلاة والسلام بعد ذلك رده إلى حد الاعتدال بأن يصوم يوماً ويفطر يوماً، وأن ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وأن يختم في خمس أو في سبع، كما في بعض الروايات.
هل هذا الرجل عنده طاقة غير بشرية حتى يقوى على هذا الأمر؟ وهذا الصحابي الجليل عبد الله بن الزبير رضي الله عنه يصلي في البيت الحرام ومنجنيق الحجاج بن يوسف منصوب يقصف، وتسقط شرفة من شرفات البيت ويهيج الناس يميناً وشمالاً وعبد الله بن الزبير واقف في صلاته لم يدرك شيئاً.
إذاً ينبغي أن نفهم أن هناك سراً يتعلق بالروح في هذه الأمور حتى نفهم الأمور، إذا قلنا: إن الصلاة راحة وإن العبادة والزاد الروحاني راحة ولذة فهل نجد أحداً يتعب من الراحة أو يسأم من الراحة؟ ولو كان أحد في فترة راحته فالراحة لا يشعر معها الإنسان بتعب ولا يشعر معها بطول وقت، فأنت إذا عملت ساعة ستشعر بالتعب والعناء، وإذا نمت عشر ساعات كأنما نمت عشر ثوان؛ لأن الراحة هذه طبيعتها، تستسلم فيها النفس والجوارح وتخلد وتركن وتجتمع وتطمئن وتسكن.
أيضاً لو كان الإنسان -مثلاً- يحب طعاماً معيناً يشتهيه، وهو منذ زمن ما وجد هذا الطعام ثم جيء له بهذا الطعام فإنه لن يشعر بتعب؛ لأن الحواس كلها توجهت نحو اللذة في أثناء لذته، هل يمكن أن ينقطع؟ لكن لو قيل له: حصل حادث أو مشكلة فيمكن أن تتأجل؛ لأن الإنسان في وقت لذته يختلف.
ولو مثلنا بالمثل الذي يقع للناس دائماً وهو ممارسة الهوايات لوجدنا حقيقة ذلك، فالذي عنده هواية تجد أنه يعمل مثلاً في هوايته، فيقال له: الوقت انتهى.
أو: المحاضرة انتهت ولا يستطيل الوقت، فلو قيل له: هل تعبت أو أرهقت؟ سيقول: نعم.
لكن ما زلت راغباً في الاستمرار؛ لأن القضية تتعلق بقوة لابد من معرفتها، وهي القوة الروحية.
وحينما يخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن في الصلاة راحة فكيف يخرج الإنسان من راحته؟! وكيف لا يطلبها؟! وإذا دخل فيها كيف يكون فيها متعجلاً؟! أو كيف لا يكون مستمتعاً بها متفرغاً لها مغموراً فيها منشغلاً بها عما سواها؟! لا يمكن ذلك إلا إذا تحققت هذه المعاني كما ذكرها النبي عليه الصلاة والسلام.
فـ عبد الله بن عمرو بن العاص أو غيره هل كانت عنده قوة خارقة للعادة؟ لا.
لكنه كان يجد في العبادة الغذاء الروحي الصحيح حينما أقبل الإقبال الشرعي الصحيح، فحينئذ لا يشعر مع أن التعب موجود، والنبي عليه الصلاة والسلام يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، لكن هل أدرك هذا التعب؟! ذكر في ترجمة عروة بن الزبير أنه في قطع رجله لما سرت إليها الآكلة قالوا: نسقيك خمراً؟ قال: لا.
ولكن إذا كنت في الصلاة فافعلوا ما بدا لكم.
فقطعوا رجله وهو في الصلاة ولم يشعر.
هل هذا عدم إحساس فيه؟ لا.
ولكن القوة تزداد إذا زادت قوة الروح.
كذلك الذين يشردون إذا كانت قواهم مركزة في جانب معين انشغل عن غيره، وهذا يقع في الناس، فلماذا يسلمون به في الأمور المعتادة ولا يسلمون به في أمور العبادة؟ لذلك عبد الله بن الزبير لما سقطت شرفة من شرفات البيت إنما كان مقبلاً على الله سبحانه وتعالى بكليته، كان قلبه معلقاً به مستشعراً وقوفه بين يدي ربه، متلذذاً بتلاوة قرآنه، معظماً لربه بتسبيحه، متبتلاً إلى الله سبحانه وتعالى بدعائه، ولذلك تفطن لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)، ونحن نعلم أن السجود هو أكمل مقامات الصلاة الحسية، يكون الإنسان واقفاً منتصباً، ثم يركع وهو أقل خضوعاً من السجود، أما السجود فهو أكمل الصور في إظهار الذلة والعبودية لله سبحانه وتعالى.
فلو جاء أحد يحترم أحداً وانحنى له فلو كان مبالغاً لسجد له؛ لأنه ليس هناك بعد السجود شيء.
هذا الموضع الذي فيه كمال الذلة وكمال الانحناء وتمريغ الجبهة بالتراب وإلصاق الوجه بالأرض قال فيه: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)؛ لأنه كلما تحقق بكمال العبودية وكمال الذلة وكمال التعلق والدعاء والتوسل بالله سبحانه وتعالى كلما كان هذا أدعى إلى قربه الروحي من الله سبحانه وتعالى.
فلذلك ألفاظ أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام ليست التأملات فيها جانحة ولا شاطحة، بل كلام العلماء.
وسنأتي بما يتيسر ويدلنا على أن أهل العلم إنما نظروا في هذه النصوص بفقه متعلق بالتطبيق الواقعي لحياة النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه والصالحين، وهو متعلق بفقه القلوب وفقه السلوك الذي هو علم التصوف الذي فيه ما يذم وهو كثير وفيه ما يقر وهو كثير، وهو الأمر الذي سنرد إليه الآن.
فإذاً هذه المسألة لابد من معرفتها، وهي أن الناحية الروحية فيها شيء من عدم إمكان إدراكها بالحواس؛ لأن الروح كلها من أمر الله سبحانه وتعالى، فغذاؤها وما يقع لها لا يمكن أن يفهم إلا في ضوء ما جاء من عند الله سبحانه وتعالى.
وكما ذكرت فالروح نفسها لها تعلق بالبدن، فنحن في أجسادنا أرواح، وإذا نام النائم هل ما زال في جسده روح؟ الروح في النوم هي الروح في اليقظة، لكن ينقص من نسبتها، ولا نعرف مقدار هذا النقص.
نتنقل إلى مرحلة أخرى، فحينما يغمى على الإنسان تكون فيه روح، لكن تأثيرها في الحواس أقل، لكن لا نعلم مقدار النقص فيها.
كذلك عندما يموت الإنسان لا نستطيع أن نرد إليه روحه.
إذاً أمر الروح لا يمكن فيه إلا التسليم والمعرفة التطبيقية لفعل النبي عليه الصلاة والسلام وما علمه لأصحابه، ولا بد أن نعرف أن هذه أمور ليست خاضعة للحس المادي الواضح الذي يقع تحت الحواس، وإلا فلا يمكن أن نفهم هذه الأمور.
ثم يأتي لنا ذكر الكرامات والإلهام وتفاصيل أخرى ثبتت أصولها المشروعة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وبينها في واقع قوله وفعله، وتحققت في الأمة من بعده منذ عهده وإلى اليوم، وإلى أن يرث الأرض ومن عليها.
ألم يخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن الرؤى جزء من النبوة؟ فكيف هي جزء من النبوة؟ لأن فيها ملامسة لأمر الروح والوحي الذي هو نوع اتصال غير محدود الكيفية ولا معلوم الكيفية، ولذلك الإنسان يرى رؤيا صالحة فتقع، هل نفسر هذا بالمادة؟ مستحيل أن تفسر شيئاً ليس له مقاييس ولا موازين ولا نسب ولا أي شيء من هذا القبيل، إنما هو محض الوارد عن الشرع، لابد أن نتقيد بالمشروع، حتى لا يكون هناك فتح لهذه الأبواب التي وقع منها نوع انفلات وشطح بعيد خرج ببعض الناس إلى أن وصل بهم الكفر إلى ما هو أكفر من كفر الكافرين.
فإذاً لابد أن نعرف أن زاد الروح إنما هو في المشروع عن الله سبحانه وتعالى، وأن ذلك الزاد في واقع الإنسان يعلو عن الأسباب المادية، فإذا هو يلقى التعب الذي لو حسبته بالمادة لا يمكن أن يثبت له، فكيف يثبت إنسان تقطع قدمه، أو يسقط شيء من حوله وهو غير مدرك، لا يمكن إلا أن نفهم أنه في راحة وأنه في قرة عين وأنه في لذة وأنه في انشغال تام بالعبادة وتعلق كامل لقلبه بالله، وانصراف كامل عن كل الخلق إلى الخالق سبحانه وتعالى، هذا هو الذي يفسر مثل هذا الأمر.(175/8)
أقوال العلماء في حقيقة الصوفية وأصناف الناس فيها
موضوع التصوف أو موضوع ما يسمى بفقه السلوك أو علم السلوك أو غذاء الروح، أو سمه ما شئت؛ فإن العبرة بالمسميات لا بالأسماء، وإن كانت الأسماء التي تثبت وتروج ينبغي معرفتها ومعرفة مضامينها، وهذا ما سيأتي في منهج العلماء، فحينما نقول: إن هذه العلوم أو هذه الأحوال منكرة بالكلية خطأ.
والذين أنكروا إنما أنكروا لما وقع من شطح من أخذ بهذه الأمور، فهناك طرف غال وهناك طرف جاف، والحق بينهما وسط، ولذلك تكلم العلماء والأئمة في هذه الأمور ووضحوا منها كثيراً، ولهم في ذلك قواعد، وأنا أذكر بإيجاز تعريف التصوف ومعناه.
وننقل في ذلك نصوصاً من كلام الأئمة المعتبرين من أمثال ابن القيم وابن تيمية والذهبي وغيرهم من علماء أهل السنة.
يقول ابن القيم: التصوف زاوية من زوايا السلوك الحقيقي وتزكية النفس وتهذيبها لتستعد لسيرها إلى صحبة الرفيق الأعلى ومحبة من تحبه، فإن المرء مع من أحب، كما قال سمنون: ذهب المحبون بشرف الدنيا والآخرة؛ فإن المرء مع من أحب.
وهذا المعنى الإجمالي.
إذاً التصوف هو متعلق بالسلوك الحقيقي المرتبط بتزكية النفس وتهذيبها لتسير إلى الله؛ لأن الغاية هي المنتهى أن يكون المرء مع من أحب.
ثم يقول أيضاً في موضع آخر: لما كان للقلب قوتان: قوة العلم والتمييز وقوة الإرادة والحب كان كماله وصلاحه باستعمال هاتين القوتين فيما ينفعه ويعود عليه بصلاحه وسعادته، فكماله استعمال قوة العلم في إدراك الحق ومعرفته والتمييز بينه وبين الباطل، هذا العلم والتمييز.
واستعمال قوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل.
إذاً من صدق في محبته لله سبحانه وتعالى توجه بكليته لمن يحب، وخرج ممن لا يحب خروجاً يبين فيه الأسباب من مسبب الأسباب، ويبين فيه أيضاً التعلق الكامل بالتعلق العارض.
ولذلك الإمام محمد بن عبد الوهاب له كلام جميل في الفهم الأساسي الذي يوازن بين الماديات والروحانيات، يقول: لما كان صلاح القلب واستقامته في طريق سيره إلى الله سبحانه وتعالى متوقفاً على جمعيته على الله ولم شعثه بإقباله بالكلية على الله فإن شعث القلب -يعني تفرقه- لا يلمه إلا الإقبال على الله.
قال: وكانت فضول الشراب والطعام وفضول مخالطة الأنام وفضول المنام وفضول الكلام مما يزيده شعثاً.
نحن نريد القلب أن يتوجه إلى الله، فالطعام والشراب ومخالطة الأنام وفضول المنام وفضول الكلام كله مما يزيده شعثاً، إذاً ما الذي جاء في شرع الله ليبعد هذا الشعث ويلم القلب ويوحده في الاتجاه إلى الله سبحانه وتعالى؟ قال: ومن هنا اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب، حتى يتوجه القلب بكليته لله سبحانه وتعالى، وشرع له من الاعتكاف ومقصوده وروحه عكوف القلب والخلوة لعبادة الله ليعالج مخالطة الأنام، أما الكلام فإنه شرع للأمة حبس اللسان عن كل ما لا ينفع في الآخرة، قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (فليقل خيراً أو ليصمت).
أما فضول المنام فشرع للأمة قيام الليل، فعلم أن ما شرعه الله سبحانه وتعالى من العبادات والأمور إنما غايته لم شعث القلب وتوجهه بالكلية إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال: ومدار رياضات أرباب الرياضات والسلوك على هذه الأركان الأربعة، وأسعدهم بها من سلك فيها المنهاج المحمدي، فلم ينحرف انحراف الغالين ولا قصر تقصير المفرطين.
أي: انحراف الغالين الذين جنحوا والمفرطين الذين أنكروا كل شيء، فإذا قيل للواحد منهم: فلان قرأ قرآناً وبكى.
أو: صلى وبكى.
أو: كان في حالة من الخشوع قال: لا.
هذه شطحات وهذه منكرات.
التصوف فيه نوع من الدقة والتفصيل، وهو يشمل معالم أساسية من أجل أننا نفرق بين الأسماء والمسميات، فهناك اسم له مائة فرع أو مائة نقطة، قد يتصف إنسان بخمس منها، أو بعشر منها، أو بعشرين، أو بمائة، فالتصوف اسم واسع دخل فيه من غير قصد -وبإنكار من بعض أصحابه- ما هو كفر أو كفر أعظم، مثل الحلول والاتحاد، وفيه ما هو صحيح وصدق، مثل العبادة والذكر والدعاء لله سبحانه وتعالى.
فلذلك قال ابن تيمية رحمة الله عليه في الفتاوى: ولأجل ما وقع في كثير منهم من الاجتهاد والتنازع فيه تنازع الناس في طريقه، فطائفة ذمت الصوفية والتصوف، وقالوا: إنهم مبتدعون مخالفون للسنة -أي: لا يقبل منهم شيء- وطائفة غلت فيهم غلواً بحيث صحح عنهم كل ما قالوه، والحق هو أن يقر من قولهم أو فعلهم ما وافق الكتاب والسنة، وأن يرد ما خالف الكتاب والسنة، وحالهم في هذا حال غيرهم من الفقهاء والعلماء؛ لأن صاحب الفقه هو أيضاً مجتهد، فقد يصيب الحق وقد يخالف الحق ويخطئ فيه، فهذا مثل هذا.
وبنحو هذا أيضاً قال الإمام محمد بن عبد الوهاب: ومعاملة الصالحين انقسم فيها الناس إلى ثلاثة أقسام: الفئة الأولى: أهل الجفاء الذين يغمطون حقوقهم، ولا يقدمون من الحب والموالاة لهم والتوقير لهم كما ينبغي.
ثم قال: فالواجب عليك حبهم واتباعهم والإقرار بكراماتهم، ولا يجحد بكرامات الأولياء إلا أهل البدع والضلال، ودين الله وسط بين طرفين، وهدى بين ضلالتين، وحق بين باطلين.
الفئة الثانية: هم أهل الغلو الذين يرفعونهم فوق منزلتهم التي أنزلهم الله إياها.
وقد أوضحنا من ذلك ما يكفي ذكره.
الفئة الثالثة: هم أهل الحق الذين هم متوسطون، الذين يحبونهم ويوالونهم ويقومون بحقوقهم الحقيقية، ولكنهم يبرءون من الغلو فيهم وادعاء عصمتهم، والصالحون أيضاً يبرءون من أن يدعوا لأنفسهم حقاً من حقوق ربهم أو نحو ذلك.
ويقول ابن القيم في مدارج السالكين: وهذه الشطحات أوجبت فتنة على طائفتين من الناس: إحداهما: حجبت بها عن محاسن هذه الطائفة وصفاء نفوسهم وصدق معاملتهم فأهدروها لأجل هذه الشطحات، وأنكروها غاية الإنكار، وأساءوا الظن بهم مطلقاً، وهذا عدوان وإسراف، فلو كان كل من أخطأ أو غلط تُرِكَ جملة وأهدرت محاسنه لفسدت العلوم والصناعات والحكم وتعطلت معالمها.
الطائفة الثانية: حجبوا لما رأوه من محاسن القوم وصفاء قلوبهم وصحة عزائمهم وحسن معاملتهم، حجبوا عن رؤية عيوب شطحاتهم ونقصانهم، فسحبوا عليها ذيل المحاسن وأجروا عليها حكم القبول، وهؤلاء أيضا ًمعتدون مفرطون.
الطائفة الثالثة: هم أهل العدل والإحسان والإنصاف الذين أعطوا كل ذي حق حقه، وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته، فلم يحكموا للصحيح بحكم السقيم المعلول، ولا للمعلول السقيم بحكم الصحيح، بل قبلوا ما يقبل وردوا ما يرد، وهذا إجمال هذا الكلام.(175/9)
أقوال العلماء والزهاد في التصوف وضرورة معرفة حقيقته وضابطه
إننا نجد أن بعض الأقوال مجرد ذكرها يكون موضع نقد، مع أنه لابد من معرفة حقيقتها، وأنا أورد بعض الأقوال اليسيرة حتى نعرف هذه الأقوال ونعرف قائلها، فهنا أذكر القول الأول ثم أذكر القائل، حتى يتنبه السامع إلى أن القول قد يسبق إلى ذهنه أنه لابد أن يكون منكراً أو غير مقبول؛ لأن فيه تقسيمات أو تفريعات.
يقول الإمام أحمد: الزهد على ثلاثة أوجه: الأول: ترك الحرام، وهو زهد العوام.
الثاني: ترك الفضول من الحلال، وهو زهد الخواص.
الثالث: ترك ما يشغل عن الله، وهو زهد العارفين.
ولو تأملنا في هذه الأقوال فسنجد أنها تذكر كثيراً من الألفاظ والأقسام والتعبيرات، لكن ليس فيها شيء مخالف للشرع، فليس هناك حرج في معرفتها، بل الحقيقة أن العلماء لما تكلموا في هذا تكلموا بمنازل وبتفصيلات أو بمراتب أو بأقسام ذكروا لها شواهد من القرآن والسنة، ومن أفعال النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه رضوان الله عليهم، وهذا ظاهر وكثير.
ومن ذلك قول آخر: الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما تخاف ضرره في الآخرة.
وهذا كنوع من التقسيمات هو من مقالة ابن تيمية.
وقال ابن القيم تعليقاً عليه: وهذه العبارة من أحسن ما قيل في الزهد والورع وأجمعها.
وعلى هذا تجد أقوالاً كثيرة في هذا الشأن، لكن القاعدة الأساسية التي تعامل بها العلماء هو ضابط الاتباع، أي: اتباع الكتاب والسنة في كل أمر من هذه الأمور.
وإن كنا نقول: إن هذه الأمور فيها ليست لها قياسات مادية، لكن لها ضوابط شرعية، ولذلك كل هذه الأمور ضبطت بعامل الاتباع.
ومن ذلك قول ابن القيم في كلامه على علم السلوك، قال: وأصل هذا المذهب ملازمة الكتاب والسنة، وترك الأهواء والبدع، والتمسك بالأئمة والاقتداء بالسلف، وترك ما أحدثه الآخرون، والمقام على ما سلك الأولون.
ولذلك تجد هذه الأقوال متكررة.
ومن ذلك قول الإمام ابن تيمية في الاستقامة، يقول: أصل العمل علم القلب، وهو الحب والتعظيم والتفاني، والتعظيم المنافي للبغض والاستكبار.
ثم قال: لا يقبل عمل إلا بنية، وهذا ظاهر؛ فإن القول والعمل إن لم يكن خالصاً لله لم يقبله الله تعالى.
ثم قال: لا يقبل قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة وهي الشريعة.
وهذا الكلام ضابط عام، ومما يبين تأكيدهم على هذا أنَّ المتقدمين من أهل التصوف كانوا يقولون بهذا؛ لأن ثناء العلماء عليهم دل على أنهم كانوا في الأصل قالوا بكلام جملته وأكثره صحيح، ومن ذلك ما نقل ابن القيم عن أبي يزيد البسطامي قال: لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرتفع في الهواء فلا تغتروا به، حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ حدود الشريعة.
ليس هذا إنكاراً لذاك، لكنه أيضاً ليس إلغاء للشرع، لابد أن نعرف أن كل أمر من هذه الأمور له ضابط مهم في الشرع، ولذلك كان كلام العلماء على كل القضايا الأساسية التي ترد في هذه المسائل من الكرامات أو من الإلهام أو من غير ذلك إنما هو في هذا الضابط العام، فنجد -مثلاً- أنه حينما يكون الإنسان مستمعاً للقرآن أو في صلاته فيغلب عليه الخشوع فقد يبكي، أو قد يغشى عليه، فهل كل هذه الصور منكرة مردودة؟ وهل مثل هذه الصورة بالجملة يخشى أن يكون فيها نوع انحراف؟ لا.
ونذكر لك نصاً من كلام ابن تيمية في هذا الأمر، حتى يعلم الإنسان أن الأمور لابد لها من ضابط شرعي من الكتاب والسنة.
يقول رحمه الله في شأن هذا الأمر: إن ناساً أنكروه وإن ناساً أقروه بلا ضابط.
ثم قال: والذي عليه جمهور العلماء أن الواحد من هؤلاء إذا كان مغلوباً عليه لم ينكر عليه.
أي: إذا لم يكن في اختياره.
وإن كان حال الذي يثبت أكمل من الذي لا يثبت؛ فإن الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه قرءوا وصلوا وحصل لهم خشوع كامل أكمل، لكن ما وقع لهم مثل ذلك؛ لأن الثبات أكمل في الإيمان.
ويقول ابن تيمية: ولهذا سئل الإمام أحمد عن هذا فقال: قرئ القرآن على يحيى بن سعيد القطان فغشي عليه، ولو قدر أحد أن يدفع هذا عن نفسه لدفعه يحيى بن سعيد، لما هو عليه من العلم والإمامة، وهو من أئمة أهل السنة والسلف، فما رأيت أعقل منه.
وقد نقل عن الشافعي أنه أصابه ذلك.
وعلي بن الفضيل بن عياض قصته مشهورة في ذلك.
هذا جملة قوله.
ثم قال أيضاً في موضع آخر: حال المؤمن التقي الذي فيه ضعف عن حمل ما يرد على قلبه -أي: من القرآن أو من الخشوع- فهذا الذي يصعق صعق الموت أو صعق الإغماء فإن ذلك إنما يكون لقوة الوارد عليه وضعف القلب عن حمله، وقد يوجد مثل هذا فيمن يفرح أو يخاف أو يحزن.
وانظر! فقد تجد إنساناً يفرح فرحة كبيرة فيغمى عليه؛ لأن الذي ورد عليه أكبر مما في قلبه من الاحتمال.
ثم قال: إذا كان لم يصدر منه تفريط ولا عدوان لم يكن فيه ذنب فيما أصابه فلا وجه للريبة، كمن سمع القرآن السماع الشرعي ولم يفرط بترك ما يوجب له ذلك.
وكذلك ما يرد على القلوب مما يسمونه السكر والفناء ونحو ذلك من الأمور التي تغيب العقل بغير اختيار صاحبها.
قال ابن تيمية في هذا الأمر -وهنا جملة تعتبر بمثابة القاعدة- قال: فإنه إذا لم يكن السبب محظوراً لم يكن السكران مذموماً بل معذوراً.
المهم أن لا يكون هناك عمل غير مشروع، أما إذا كان العمل مشروعاً فقد يغلب الإنسان أحياناً هذه الصور، ولذلك قال: فإذا لم يكن السبب محظوراً لم يكن السكران مذموماً بل معذوراً.
وفصل في هذا وقال: وما يحصل في ضمن ذلك من لذة قلبية أو روحية، ولو بأمور فيها نوع من الإيمان فهي مغمورة بما يحصل معها من زوال العقل.
يعني: لا يظن أن هذا هو أسمى مرتبة، فقد يقع للإنسان من لذة العبادة والروحانية والأنس بالتلاوة والأنس بالصلاة ما هو أعظم من مجرد هذه الصورة العادية.
وكذلك ابن القيم في المدارج له كلام قريب من هذا.(175/10)
مذهب أهل السنة في الكرامات
إذا جئنا إلى مسألة الكرامات فإن مذهب أهل السنة يقرها، وهي أمور فيها نوع خرق للعادة، وفيها نوع كشف للغيب، لكنه لا يقع بالمعجز الذي يقع للأنبياء، وليس فيه التحدي الذي هو من شروط المعجزة، وضابطها نصوص كثيرة.
فإذا كانت هذه الكرامة ناشئة عن سبب غير شرعي أو توصل بها إلى أمر غير شرعي فهي منكرة مردودة، فهي منضبطة بضابط الشرع.(175/11)
نماذج من كرامات الصحابة
لذلك لما تكلم ابن تيمية سرد في هذا سرداً واسعاً يدلل فيه على أنه لا ينبغي أن يكون ما يقع فيها من الشطحات والمخالفات دالاً أو دافعاً إلى إنكارها، وساق كلاماً طويلاً ونفيساً في إثبات هذه الأمور يحسن بنا أن نذكره، واستعرض كلاماً لو قيل مجرداً عن نسبته إلى ابن تيمية لربما كان في النفس منه شيء، أو كان عند بعض الناس له إنكار، فيقول بعد أن ذكر بعض ما ورد من القول السابق عن الكرامات قال: وكرامات الصحابة والتابعين وسائر الصالحين كثيرة جداً.
مثل ما كان من أسيد بن حضير حينما كان يقرأ سورة الكهف فنزل من السماء مثل الظلة فيها أمثال السرج، وهي الملائكة نزلت لقراءته، والقصة الثانية أنه كانت الملائكة تسلم على عمران بن حصين، كلها ثابتة بأدلة ذكرها الذهبي في بعض التراجم كنصوص وأحاديث.
وكان سلمان وأبو الدرداء يأكلان في صحفة، فسبحت الصحفة أو سبح ما فيها، وعباد بن بشر وأسيد بن حضير خرجا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة فأضاء لهما نور مثل طرف السوط، فلما افترقا افترق الضوء معهما.
أي: كان مع كل منهما ضوء.
والحديث في صحيح البخاري.
وقصة الصديق أبي بكر في الصحيحين لما ذهب بثلاثة أضياف معه في بيته، وجعل لا يأكل لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها، كلما أكل لقمة يزيد أكثر منها، فشبعوا وصارت أكثر مما هي قبل ذلك، فنظر إليها أبو بكر وامرأته فإذا هي أكثر مما كانت عليه، والحديث في الصحيحين.
وخبيب بن عدي كان أسيراً عند المشركين بمكة -شرفها الله تعالى- وكان يؤتى بعنب يأكله وليس بمكة عنبة واحدة، وهذا عامر بن فهيرة قتل شهيداً، فالتمسوا جسده فلم يقدروا عليه، وكان لما قتل رفع فرآه عامر بن الطفيل وقد رفع، وقال عروة: (فيرون الملائكة رفعته) وخرجت أم أيمن مهاجرة وليس معها زاد ولا ماء فكادت تموت من العطش، فلما كان وقت الفطر وكانت صائمة سمعت حساً على رأسها فرفعته فإذا دلو معلق فشربت منه حتى رويت وما عطشت بقية عمرها، وسفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الأسد بأنه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمشى معه الأسد حتى أوصله مقصده، والحديث في مسند الإمام أحمد مصحح.
والبراء بن مالك كان إذا أقسم على الله سبحانه وتعالى أبر قسمه، والحديث في هذا صحيح، وكان إذا اشتد الحرب على المسلمين في الجهاد يقولون: يا براء! اقسم على ربك.
فيقول: يا رب! أقسمت عليك لما منحتنا أكتافهم.
فيهزم العدو، فلما كان يوم القادسية قال: أقسمت عليك -يا رب- لما منحتنا أكتافهم وجعلتني أول شهيد.
فمنحوا أكتافهم وقتل البراء شهيداً.
وخالد بن الوليد حاصر حصناً منيعاً فقالوا: لا نسلم حتى تشرب السم.
فشربه ولم يضره.
وسعد بن أبي وقاص كان مستجاب الدعوة، ما دعا قط إلا استجيب له، وهو الذي هزم جنود كسرى وفتح العراق.
وعمر بن الخطاب لما أرسل جيشاً أمر عليهم رجلاً يسمى: سارية فبينما عمر يخطب فجعل يصيح على المنبر: يا سارية! الجبل.
يا سارية! الجبل.
فقدم رسول الجيش فسأل فقال: يا أمير المؤمنين! لقينا عدواً فهزمونا فإذا بصائح يقول: يا سارية! الجبل.
يا سارية! الجبل.
فأسندنا ظهورنا بالجبل فهزمهم الله.
ولما عذبت زنيرة على الإسلام فأبت إلا الإسلام وذهب بصرها قال المشركون: أصاب بصرها اللات والعزى.
قالت: كلا والله.
فرد الله عليها بصرها.
ودعا سعيد بن زيد -وهو من العشرة المبشرين- على أروى بنت الحكم لما كذبت عليه فقال: اللهم! إن كانت كاذبة فأعم بصرها واقتلها في أرضها.
فعميت ووقعت في حفرة من أرضها فماتت.
والعلاء بن الحضرمي كان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين، وكان يقول في دعائه: يا عليم يا حليم يا علي يا عظيم.
فيستجاب له، ودعا الله بأن يسقوا ويتوضئوا لما عدموا الماء فأجيب، ودعا الله لما اعترضهم البحر ولم يقدروا على المرور بخيولهم فدعا الله فمروا كلهم على الماء ما ابتلت سروج خيولهم، ودعا الله أن لا يروا جسده إذا مات فلم يجدوه في اللحد.(175/12)
نماذج من كرامات التابعين
ولقد جرى مثل ذلك في التابعين، كما حصل لـ أبي مسلم الخولاني، فقد مشى هو ومن معه من العسكر على دجلة وهي ترمي بالخشب من مدها -أي من مد النهر- ثم التفت إلى أصحابه فقال: هل تفقدون من متاعكم شيئاً حتى أدعو الله عز وجل فيه؟ فقال بعضهم: فقدت مخلاة.
وكان يضع فيها زاده، فقال: اتبعني فتبعه فوجدها قد تعلقت بشيء فأخذها.
والأسود العنسي لما ادعى النبوة قبض على أبي مسلم الخولاني وقال له: أتشهد أني رسول الله؟ قال: ما أسمع.
قال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم.
فأمر بنار فألقي فيها، فوجدوه قائماً يصلي فيها وقد صارت عليه برداً وسلاماً، وقدم المدينة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فأجلسه عمر بينه وبين أبي بكر فقال عمر: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أرى من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم الخليل عليه السلام.
ووضعت له جارية السم في طعامه فلم يضره، وخببت امرأة عليه زوجته فدعا عليها فعميت.
وكان عامر بن قيس يأخذ عطاءه ألفي درهم في كمه، وما يلقاه سائل في طريقه إلا أعطاه بغير عدد، ثم يجيء إلى بيته فلا يتغير عددها ولا وزنها، ومر بقافلة قد حبسهم الأسد فجاء حتى مس بثيابه الأسد ثم وضع رجله على عنقه وقال: إنما أنت كلب من كلاب الرحمن، وإني أستحيي أن أخاف شيئاً غير الله سبحانه وتعالى.
ومرت القافلة بسلام.
ودعا الله تعالى أن يهون عليه الطهور في الشتاء، فكان يؤتى بالماء البارد وله بخار من سخونته.
ودعا ربه أن يمنع قلبه من الشيطان وهو في الصلاة فلم يقدر عليه.
وتغيب الحسن البصري عن الحجاج فدخلوا عليه ست مرات، فدعا الله عز وجل فلم يروه.
ودعا على بعض الخوارج كان يؤذيه فخر ميتاً.
وصلة بن أشيم مات فرسه وهو في الغزو فقال: اللهم! لا تجعل لمخلوق علي منة.
ودعا الله عز وجل فأحيا له فرسه، فلما وصل إلى بيته قال: يا بني! خذ سرج الفرس واترك الفرس؛ فإنه عارية.
فأخذ سرجه فمات الفرس.
وجاع مرة بالأهواز فدعا الله عز وجل واستطعمه فوقعت خلفه دوخلة رطب في ثوب حرير، فأكل التمر وبقي الحرير عند زوجته مدة.
وكان سعيد بن المسيب في أيام الحرة يسمع الأذان من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقات الصلاة، وكان المسجد قد خلا فلم يبق غيره.
وكما رأيت فالنصوص كثيرة، لكن ابن تيمية رحمة الله عليه أيضاً نبه التنبيه المهم، وهو أن هذه الأحوال كانت أيضاً لها صورة أخرى، وهي أن هؤلاء كانوا مقيمين على أمر الله، ملتزمين بأمره ونهيه سبحانه وتعالى، فالضابط باق.
وإذا لم يكن الضابط موجوداً فهناك حالان: حال الرحمن وحال الشيطان.
لأن الشياطين يوحون إلى أوليائهم من الإنس؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر أنهم يسترقون السمع فيوحون إلى أوليائهم، وأنهم يصلون إليهم ويقومون ببعض الأعمال مما يفتن صاحبها ويفتن غيره، فلذلك ينظر إلى حال الإنسان في استقامته على شرع الله، فإنه كما قال بعض العلماء: الاستقامة هي أعظم كرامة.
أما الأمور التي ليس فيها استقامة، وفيها بعض ما يظهر للناس أنه خوارق فهذه فتنة لصاحبها ولمن يفتتن به، وهذا مثل حال الدجال، فـ الدجال عنده جنة ونار، ويفعل أموراً خارقة للعادات، ومع ذلك هو غير مقيم على شرع الله، فلا نغتر بذلك، وعلى المؤمن أن يبقى ثابتاً يعرف الحق من الباطل، ومن لطيف وعجيب ما ذكره الإمام ابن تيمية ومن دقة كلامه أنه قال: ولما كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم شرائعها في المساجد كانت بعيدة عن الأحوال الشيطانية، ولما كان غيرها من الأمم شرائعها في الأديرة والمغارات والكهوف والجبال، وخرج بعض من تصوف بهذه الصور واعتزلوا كانت بعض أحوالهم أو كثير منها تقرب من الأحوال الشيطانية؛ لأنها مواضع خلو ومواضع فراغ ومواضع وجود الشياطين والجن ونحو ذلك.
فهذه الأمور إذا كان صاحبها مخالفاً للشرع فإنه إذا قرئ عليها آية الكرسي أو نحوها أبطلها ذلك وظهر فسادها وعوارها، ولذلك كان من كلامه وتفصيله أنه قال: إن النبي عليه الصلاة والسلام ما حذر مثلما حذر من اتخاذ القبور مساجد؛ لأنها تلم بها الأحوال الشيطانية لمخالفة شرع الله سبحانه وتعالى.
ولذلك جاء النهي عن الصلاة على المقابر وفي المقابر لهذا المعنى، لذلك فمن كان ملتزماً بشرع الله سبحانه وتعالى فإنه على استقامته فهو على كرامة، فإن زيد شيئاً من ذلك فهو أمر قد يقع أحياناً لتثبيث الإنسان، أو قد يقع لإظهار الدلالة لإنسان آخر، ونحو ذلك كثير يطول الكلام فيه.(175/13)
كلام العلماء في الإلهام والخاطر
ننتقل بشيء من التفصيل إلى الإلهام، وهو الخاطر الذي يقع للإنسان بأن يفعل شيئاً أو لا يفعل.
ذكر الإمام ابن تيمية في جامع الرسائل في تعليقه على فتوح الغيب للجيلاني كلاماً ملخصه أن الأمر إذا تكافأت أدلته ولم يكن ثمت مرجح فإن الإلهام والخاطر القلبي يؤخذ به لا على أنه ترجيح شرعي، لكن على أنه أمر فطري يدل على مثل هذا.
وذكر كلاماً طويلاً يمكن أن يرجع إليه، وكما ذكرنا فالعلماء من أهل السنة بينوا الخطأ وبينوا الصواب، والذي يخلط هذا بهذا أو يرد الكل أو يقبل الكل، واستشهدوا بأقوال المتقدمين.
ولابد أن نعرف أن بعض المتقدمين من أهل العبادة والزهد كانت أمورهم في غالبها وأكثرها على الأمر الكامل التام المحمود من متابعة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم واستقامة على شرع الله، بل هم ردوا على كل ما خرج منه الناس من الشرع باسم التصوف.
وأبرز هذه القضايا الاكتفاء بالعبادة عن العلم وذم العلم وأنه لا يحتاج إليه، بل يكفي أن يكون ذوقه ووجده الذي يدله، فهذا رد عليه متقدمون من أمثال الجنيد ومن أمثال السلمي وغيرهما، كما نقل عنهم ابن تيمية وغيره، ورد عليه أيضاً ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب والذهبي وغيرهم من العلماء في كثير من الكتب.
المسألة الثانية الخطيرة هي التفريق بين الشريعة والحقيقية، وادعاء أن هذه الألفاظ لها ظاهر ولها باطن، والباطن هو الحقيقة التي يعرفها هؤلاء، وهذا أيضاً تعطيل للشرع وطعن فيه.
المسألة الثالثة الخطيرة هي قضية الحلول والاتحاد، وهو أعظم من كفر اليهود والنصارى، وهم الذين يقولون: هو الفناء عن السوى.
فهذا باطل وكفر بواح ذكره كل العلماء؛ لأنه إلغاء للعبودية وإلغاء للإلهية، واعتقاد بأن الله سبحانه وتعالى حل في المخلوقات، وهذا كفر ظاهر وصريح.
والذي قال به العلماء وذكروا أن بعض الأحوال تنطبق عليه ليس هو فناء السوى وإنما هو فناء الشهود، أن يفنى عن مشاهدة الخلق إلى مشاهدة الخالق، فيكون متعلقاً قلبه به، فقد ينصرف عن غيره من الأحداث أو الحوادث كصوت أو كلام أو مناداة أو نحو ذلك.
ومن هنا كان بعض العلماء لهم في هذا المقام ثناء على أهل التصوف بما عندهم من الحق، ومدح لهم بما وافقوا فيه الكتاب والسنة، وكان لهم أيضاً تأول في بعض أقوالهم، وذكروا أن أقوالهم ينبغي أن تفهم على ما يعرف من أحوالهم وصدق بعضهم.
ولذلك قال ابن القيم في مسألة التأول كلمة جامعة نافعة، قال: فاعلم أن في لسان القوم من الاستعارات -أي: في عباراتهم وكتاباتهم- وإطلاق العام وإرادة الخاص، وإطلاق اللفظ وإرادة إشارته دون حقيقة معناه ما ليس في لسان أحد من الطوائف.
يعني: هم استخدموا عبارات فيها هذه الأساليب التي قد لا يفهم الإنسان العادي معناها.
قال: ولهذا يقولون: نحن أصحاب إشارة لا أصحاب عبارة، والإشارة لنا والعبارة لغيرنا.
قال: وقد يطلقون العبارة التي يطلقها الملحد ويريدون بها معنىً لا فساد به، وصار هذا سبباً لفتنة طائفتين: طائفة قبلوا وطائفة ردوا.
وهذا واضح وظاهر في هذا الأمر.
ولذلك عذروهم في بعض هذه الأقوال.
فإذاً المسألة الروحانية بإيجاز هي أساس في حياة الإنسان المسلم منضبطة بالشرع غير واقعة تحت مقياس المادة والحس، وهناك مجاوزة لهذا الحد هو الذي وقع به الشطحات التي أخرجت حتى عن الملة، وهي المسائل التي أشرت إليها وأعيدها، وأعظمها الحلول والاتحاد، ومن بعده الاكتفاء عن العلم، ومن بعده الكلام عن الحقيقة الباطنة والشريعة الظاهرة، وأيضاً مسألة رابعة وهي سقوط التكليف، وهذا كله باطل وجهل ومردود بنصوص الكتاب والسنة.
وأسهل رد عليه أنه لو كانت هذه حالات كمال لكان الأولى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم.
وما علم أنهم إلى آخر حياتهم إلا وهم عابدون قائمون بالأمر مستقيمون عليه، ممتنعون عن النهي، خاضعون لله سبحانه وتعالى، مبالغون في الارتباط به والذلة له سبحانه وتعالى.
وهذا موجز ما أردنا الإشارة إليه.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون فيما ذكر الكفاية، وأن يكون المقصود قد وضح وظهر، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا حياة صحيحة لأرواحنا، ونوراً مشرقاً لقلوبنا، وطمأنينة كاملة لنفوسنا، وأن يجعلنا أغنى الأغنياء به، وأفقر الفقراء إليه، وأن يقيمنا على شرعه سبحانه وتعالى، وعلى هدي رسوله صلى الله عليه وسلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصل -اللهم- وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(175/14)
مكامن الأخطار في تغيير النفوس والأفكار
لقد طفق أعداء الله من اليهود والنصارى يكيدون للإسلام بشتى الوسائل، وبكل الطرق، والأدهى والأمر أن يأتوا إلى المسلمين عن طريق وسائل محرمة في شرعنا، مثل التبرج والسفور، والغناء الماجن، والاختلاط السافر، والنعيق وراء الكرة والمباريات، وإنفاق الملايين والمليارات من الأموال والأوقات فيما يغضب الله، بل أتوهم من كثير من أبواب الكفر والزندقة، وأدخلوا كثيراً من المسلمين في أمور تناقض الدين من أصله، وهذا مسخ للهوية، وتغيير للفطرة، وانسلاخ من الدين، فإلى متى لا نفقه ما يدور حولنا؟! وإلى كم نغفل عما يراد بنا؟!(176/1)
استمرار الأعداء في محاولة صد المسلمين عن دينهم
الحمد لله جل جلاله، وعز جاهه، وتقدست أسماؤه، وعظم عطاؤه، وجلت آلاؤه، له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! مكامن الأخطار في تغيير النفوس والأفكار، هذه الحقيقة في غاية الأهمية، وإن واقع ما تشهده الأمة اليوم من هجمة شرسة قل نظيرها ينبغي ألا يصرفنا عنه أنه احتلال للأرض، أو نهب للثروات، أو سفك للدماء، وكل ذلك حاصل لكنه في جانبه الآخر محاولة لقتل الحمية في النفوس، وإضعاف القوة في القلوب، ووجود الزيغ والانحراف في الأفكار، وإن أمة تموت روحها، وتضعف حميتها، وتدفن مشاعرها، وتضلل أفكارها، تصبح أسهل لقمة سائغة في أفواه أعدائها، واعلموا أن أعداءنا يعرفون هذه الحقائق، ويعملون للوصول إليها أكثر مما يلتفت إليها أبناء هذه الأمة على مختلف مستوياتهم من القادة والشعوب، من أصحاب الرأي والكلمة ومن غيرهم من عموم الناس، ولا أريد أن أجعل الحديث مسترسلاً من غير أن يكون واضحاً بيناً، ولا شك أن ذلك ينطلق في ضوء أنوار توضح الطريق، وتبين المعالم، وتكشف المستور، لابد لنا أن نستضيء دائماً وأبداً بآيات الكتاب الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وأن نستضيء بهدي وسنة وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي بين لأمته كل ما تحتاجه في هذه الحياة الدنيا لإقامة دين الله وإعزازه، ولكي تؤدي الأمانة التي حملتها، وتبلغ الرسالة التي تلقفتها عنه، وعمن كان من أصحابه رضوان الله عليهم: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] ولفظ الآية هذه واضح في دلالته المستمرة، وفي غايته الواضحة المحددة، لا يزالون مستمرين على ردة الناس، عاملين متواصين على ذلك ومجتمعين: (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم) وصيغة المضارع تدل على الاستمرار، والغاية ليست متشعبة ولا متعددة، بل كما قال الحق جل وعلا: (حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ).
ولا شك أننا قد تحدثنا في قضية الدين في حياة المسلمين بشيء ربما نبه على هذا الأمر، والآيات كثيرة في هذه الحقائق: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36]، قضايا كثيرة، وحقائق واضحة بينة: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] حسداً من عند أنفسهم، آيات كاشفة واضحة وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم قائمة باقية ما بقي الزمان، يقول فيها صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه.
قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن)، وهو القائل: (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)، وهو الذي لقن أصحابه حتى قال الفاروق رضي الله عنه: (لست بالخب ولا الخب يخدعني، وإنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية) الحقائق كثيرة، فلننتقل إلى الوقائع لنرى أي شيء يصنع أعداؤنا في هذه الهجمة التي تتزعمها القوة العظمى العالمية التي نعرف أخبار جنونها وقتلها وعدوانها وغير ذلك، لكنه يخفى علينا كثيراً من مكامن الخطر التي تستهدف الروح والنفس، والتي تحرف التصور والفكر.(176/2)
نماذج من الغزو الفكري
هذه أخبار جديدة تطالعنا يقول فيها مسئول بارز: إننا في حرب في مجال الأفكار بقدر حربنا في مجال الإرهاب، وإن تخفيف الملابس عبر الملابس يشكل وسيلة مثلى للاختراق -ولا أريد أن أفسر تخفيف الملابس؛ لأن بقية الخبر يوضحه- إذ رصد اثنان وستون مليون دولار لإطلاق قناة فضائية ناطقة باللغة العربية هل لنشر العلوم والتقنية؟ هل ستكون لإصلاح الأوضاع والأحوال الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية؟ إن القائمين يقولون: إنهم جندوا فريقاً من الحسناوات والرموز الثقافية في المجتمعات الأمريكية ليكن رسلاً للثقافة الأمريكية التي يودون الترويج لها! وقد يقول قائل في مثل هذا: إن الأمر لن يكون مؤثراً ولا مقبولاً، فأقول: خذوا الأمثلة الواقعية، وهذه كلمات محزنة مؤسفة نقرؤها لكاتب شهير خطير في صحيفة سائرة ذائعة يروي خبراً أعده من باب التشفي والتشهي بأمتنا ليقول لنا: إننا نفعل بكم، ونلعب بمشاعركم، ونغير في عقولكم، وسنصنع بكم ما نريد وما نشاء، لا بأنفسنا ولكن من خلال ألسنتكم، وبأيديكم وبرجالكم ونسائكم! إنه يتحدث تحت عنوان عجيب نصه: اثنان وخمسون وثمانية وأربعون، قلت: لعلها أعوام فيها بعض الأحداث، فإذا بها نسب للتصويت على أفضل المطربين والمغنين في عالمنا العربي الشهير، الذي أصبحنا لا نستطيع أن نعد أو نحصي أعداد أولئك الجيوش من الفنانين أو الفنانات.
يقول هذا الكاتب -وكما قلت: أحسبه ساخراً أو شامتاً-: أؤمن بإمكانية تحول الثقافات تبعاً للتحولات التاريخية والإصلاح الاقتصادي، والتقدم التقني.
ويعطينا المثال على ذلك فيقول: وإذا ما أراد البعض معرفة القضية الرئيسية التي بات العالم العربي يتحدث حولها خلال الأسابيع الأخيرة، فسيجد أنها ليست العراق ولا فلسطين، بل رؤية العرب للنموذج الأمريكي، ويخبرنا عن برنامج بثته قناة عربية على مدى واحد وعشرين أسبوعاً للخروج بأفضل المطربين في عالمنا العربي، ويخبرنا بالأحداث التي وقعت في بعض مراحل هذا البرنامج وتصويته، وأنه قد حصل عراك، وأنه قد سالت الدماء، وأنه حصل إغماء، وأن الشوارع خلت في بعض الدول أثناء عرض البرنامج للتصويت، ويضيف قائلاً -وذلك هو المحزن المؤلم-: إن صديقاً له من تلك البلاد التي فازت فيها مغنيتها أرسل له قائلاً: بالأمس فازت مطربة من جنسيته في مسابقة اشترك فيها ما يزيد على أربعة ونصف مليون شخص، ثم يقول واصفاً الحال: لقد انطلق الناس في الشوارع للتعبير عن فرحتهم حتى الساعات الأولى من الصباح، متى كان هذا؟ ليس لتاريخ هذا المقال سوى أسبوع واحد، وهو يخبرنا عما كان شاغلاً لعالمنا العربي الذي تدمر فيه البيوت فوق رءوس أصحابها، والذي تقذف فيه الطائرات النفاثة البيوت والسيارات لتحرق من فيها فلا يبقى منهم بقية من جسد، ولا أثر من جثة، ثم يكمل هذا الصديق العربي قائلاً: يمكن للقبو العربي أن يتغير، ذلك مفهوم التغيير عند بعض أولئك القوم.
ثم يخبرنا عن كاتب من تلك الدولة يقول في صحيفته السائرة: كان هذا (أي: التصويت والبرنامج) مثالاً مثيراً على مدى قوة التقنية الحديثة في العالم العربي، وذلك في تأجيج المشاعر، ودفع الجماهير للتحرك.
ولست أدري أية مشاعر تلك التي رأى أنها مثالاً مثيراً لتحريكها وإثارتها هل غضبة للأعراض المنتهكة أو للأرض المغتصبة أو للسيادة التي مرغت تحت أقدام القوة الغازية أو لكلمة المسلمين والعرب التي رغم كل هذه الأحداث لم تجتمع لتقول سطراً واحداً فيه شيء من عزة أو قليل من إباء أو بقايا من حياء؟! ثم يقول هذا الكاتب الأمريكي الشهير مختصراً ما يريد أن يوصله لنا في العالم العربي: حيث تستطيع القلة فقط التعبير عن رأيها بحرية، فما بالكم بالإدلاء بأصواتها؟! ها هي القنوات الفضائية تشكل ما قد يصبح في الواقع جدار الديمقراطية، أليس هذا تمويتاً وإماتةً لروح الغيرة والحمية والارتباط بقضايا الأمة ومصيرها، وهي اليوم في أسوأ أحوالها وأضعفها؟ أليس هذا تسميماً للأفكار حتى يكتب الكتاب، ويبعث الأصدقاء، فرحين بالتأثير الهائل للتقنيات الحديثة، لا لترفع مستوى التعليم المنحدر المتهالك في عالمنا، ولا لتجعلنا في صف الدول المتقدمة في تجاراتنا واقتصادياتنا، ولا ولا وإنما لتزيدنا من هز الأوساط وما يلحق بذلك مما يعف اللسان عن ذكره؟! وفي صحيفة محلية تعليق آخر على الحدث ذاته، ولعله كان فيه جانب من النقد الذي يخفف شيئاً من لوعة قلوبنا، إذ بالفعل كانت الصحافة على صفحاتها الأولى مع أخبار القتل والتدمير، نجد خلال الأسابيع الماضية بالفعل خبراً ومتابعة دائمة لهذا الحدث الذي يمثل اختراقاً حقيقياً كما تريد تلك القنوات والوسائل الإعلامية.
يقول الكاتب: استطاع البرنامج تلقين الفرد العربي قيماً اجتماعية جديدة على غرار النموذج الغربي، شباب وصبايا توافدوا من كل حدب وصوب يغنون ويتمازحون، ويتبادلون القُبل أمام المشاهدين، وبمباركة أكثر من خمسة ملايين شخص، صوتوا لصالح تشريع القبل المحرمة تحت مسمى الفن، ثم ينتقد ويختم فيقول: ماذا لو كان هناك سوبر ستار للمبدعين العرب؟ وقد يقول أولئك القوم: إن في تلك البلاد والحضارات مثل هذه البرامج، لكني أقول: إن عندهم ميزانيات هائلة وضخمة، وسارية المفعول لمعامل الأبحار، ولمراكز الدراسات، ولكل العلماء والمخترعين، وإن عندهم ميزانيات هائلة لتصنيع الأسلحة الخفيفة والثقيلة والطبيعية وغير الطبيعية، وإن لديهم وإن لديهم فلا حرج إن فعلوا مثل ذلك، فهم في موقف القوة والانتصار والهيمنة، أما أن تكون هذه الأمة في هذه الحال ثم تغرق في مثل هذه الأمور فإنها سياسة خطيرة للفت الأنظار عن المهمات والواجبات والقضايا الكبرى والحقائق العظمى التي تواجه أمتنا.
ومرة أخرى أنتقل إلى صفحة أخرى، ولست ممن يحب أن يكثر من الأخبار التي قد يكون فيها شيء من الإضعاف أو الوهن، لكن معرفة الواقع أمر مهم.
في أكثر الصحف خلال الأسابيع الماضية صفحة كاملة لإعلان ملفت للنظر، أقرأ لكم فقرات منه لنرى كذلك ما الذي سيشغلنا على مدى تسعة أشهر قادمة؟ وما الذي سيكون موضع اهتمام الشارع العربي كما يقولون في هذا الإعلان عن أبطال الكرة العربية، سطر يقول: مائتان وخمسون مليون متفرج في ملعب واحد، ما هو هذا العدد؟! مائتان وخمسون مليون يعنون به كل شعوب الدول العربية، وأنتم منهم ستكونون جميعاً في ملعب واحد لتتابعوا هذه البطولة! ويقول الإعلان: إحدى عشر مليون كيلو متر مربع قطر الكرة العربية، ويعنون بها: مساحة العالم العربي كله، وتسعة أشهر زمن البطولة، وكلكم معاشر الملايين ينبغي أن تحشدوا كأنكم في ملعب واحد، وكأنكم تتفرجون على كرة واحدة, ليصبح العالم العربي كله بما فيه مهبط الوحي, وأرض الحرمين, وما فيه مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكنانة عمرو بن العاص وتاريخ الأمة المجيد كله كرة قطرها: أحد عشر مليون كيلو متر مربع كما يقول الإعلان، وعلى مدى تسعة أشهر ترقبوا وانتظروا وتأهبوا واستعدوا، ثم بعد ذلك نقول ما قاله كثير من العقلاء والحكماء، وما تقوله أمثلتنا العربية وتراثنا الإسلامي: (لا يبلغ العدو من جاهل مثلما يبلغ الجاهل من نفسه) وتلك قضية خطيرة.
وثالثة كل هذه الأحداث التي أذكر بعض أخبارها، وكلها في يوم واحد وفي صحف نفس اليوم حتى نرى كم هو حجم الإنهاء والإغواء والإغراء، وكذلك صرف النظر إلى ما لا يريد أعداؤنا أن ننشغل به.
لعبة من لعب الكمبيوتر جديدة حديثة، فيها أن اللاعب يصور نفسه، ويظهر على الشاشة، ويمارس اللعب مع أجهزة الكمبيوتر، وهذه الألعاب مشهورة معروفة، وهذا النوع الجديد يستقطب اليوم كثيراً من الشباب صغاراً وكباراً، وتستنفذ فيه من الأوقات لا أقول: آلافاً ولا مئات الآلاف، بل ملايين من الساعات لشبابنا وأبنائنا، أي شيء يجنون؟ وأي بطولة يحققون؟ وأي مهارة يكتسبون؟ وأي خبرة يقتنون؟ وعلى أي خبرة يحصلون؟ إنها قضايا كثيرة، ولذلك لا نود أن نكرر وأن نزيد، فإن الأمر واضح بين، وإننا نقول حينئذ: هل نحن متهمون أو متجنيون عندما نذكر هذه الحقائق؟ وهل يقال بعد ذلك: إن هناك آثاراً وخيمة على شبابنا وأوضاعهم في مجتمعاتنا العربية والإسلامية؟ ويوجد تحقيق آخر كنت أريد أن أطوي ذكره ولكني أعرج عليه، تحقيق يذكر عن بلادنا بعض الظواهر في شبابنا، وأن منهم بعضاً -وقد يكونون قلة في أول الأمر- أصبحوا اليوم يصطحبون معهم كلابهم في النزهات، ويقولون كما يوجد في العناوين العريضة: جمعتنا الصداقة من خلال الكلاب.
وخبراً آخر عن القنوات الإباحية، وانتشار بطاقات فتح تشفيرها، وأن هناك أعداداً خطيرة وكثيرة من هذه القنوات، ثم لا نريد أن يحصل في مجتمعات الأمة بعد ذلك: إما انحراف إلى الجانب الأقصى في اتجاه التهتك والانحلال والانغماس في الشهوات والملذات والمخدرات وغير ذلك من أنواع الجرائم، أو يكون انحرافاً إلى ما يصبح اليوم عنواناً للإرهاب أو التشدد أو التكفير أو غير ذلك، وتضيع الأمة بين طرفي نقيض، والوسط الذي تحدثنا عنه كثيراً يغيب؛ لأننا غيبناه بفعل ما نصنع وخاصة في وسائل الإعلام الفضائية على وجه الخصوص.
ولو أردنا أن نكمل الصورة لوجدنا ما يؤلم ويحزن، ولكننا نريد أن نقول ذلك، وأن نبين هذه الحقائق لكي نكون على بينة من أمرنا، وهذا الأمر الذي ذكرته أعلم يقيناً أن عدداً كبيراً منكم يعلمه، وربما عرفه عن خبرة، وربما شاهده، وربما تابعه، وربما البعض منا يدفع الأموال ليشترك في هذه المجموعات الفضائية، أو في تلك المباريات الكروية أو غيرها، فنحن جزء ممن تمرر عليهم وبهم وفيهم ومن خلالهم هذه القضايا التي يقول عنها الكاتب الشهير: إنها ستحدث التغيير في الثقافات أي: في المبادئ والمسلمات، في التعاملات والعادات، في المبادئ والقيم، وفي الروح العامة التي بدأنا نرى في نفوس أبناء أمتنا ما يستدعي التوقف والحذر، صيحة إنذار لمكامن الأخطار في النفوس والأفكار، لا بد أن نطلقها وأن نشيعها وأن نحذر منها، وألا نقبل باستمرارها، وألا نكون نحن وقوداً لها.
نسأل الله عز وجل أن يقينا الشرور والآثام، وأن يعصمنا وأن يحمي أهل الإيمان والإسلام، إنه ولي ذلك وا(176/3)
لا تزال طائفة من الأمة على الحق ظاهرين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن لفت النظر والعناية بالاختراق الثقافي والسلوكي والاجتماعي أمر مهم في غاية الأهم