الرد على شبهة من يقول: إذا هداني الله فسأصلي
السؤال
يقول السائل: ما رأيك فيمن نقول له: صلِّ أو تُب إلى الله، ويقول: إذا الله هداني صليت؟
الجواب
كما قال المشركون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:148] إذا أراد الله أن يهدينا فليهدنا، أراد الله أن نسجد للصنم فنسجد للصنم، وهذه عقيدة تسمى عقيدة الجبرية، وهي عقيدة ضالة ليست من عقائد أهل السنة.
أهل السنة كما قال الله جل وعلا فيهم: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً} [محمد:17] ابدأ يا عبد الله، لا تقل: إذا أراد الله أن يهديني اهتديت، أسألك بالله الآن سؤالاً: أنت لِمَ تأتي إلى هذا المكان وتلبس هذا الزي وتحضر الدوام لِمَه؟ لأجل المعاش والراتب، لِمَ لا تجلس في البيت وتقول: إذا أراد الله أن يرزقني يرزقني؟ ما تفعلها، تأتي وتتعب وتقوم من نومك مبكراً وتحضر الدوام، لأن هذا العاقل يسعى حتى يحصل على الرزق، هل إذا جعت أخي الكريم تجلس تنتظر وتقول: إذا أراد الله أن يشبعني أتاني بالطعام؟ لا تفعلها، بل تذهب إلى المطبخ، وإلى الثلاجة، وإلى المطعم، وتطلب الطعام وتأكل حتى تشبع، لِمَ تبذل السبب؟ لأجل الدنيا؛ لكن لما نقول لك: تعال صلِّ؛ تقول: إذا أراد الله أن أصلي صليت، سبحان الله! هنا تسعى لأجل الدنيا ولكن لأجل الآخرة ما تبذل ولا تسعى؟! قال الله جل وعلا: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] أنت الذي جنيت على نفسك ولا تقل: لو أراد الله أن يهديني اهتديت، هذه كلمة كاذبة من ناصية خاطئة.
عبد الله! إذا سعيتَ إلى الهداية وفقك الله، وإذا بذلت أعانك الله، وإذا سعيت فتح الله لك أبواب الخير، أما أن تجلس في البيت وتقول: لو أراد الله أن يهديني اهتديت، هذا كله ضحك، وما تخدع إلا نفسك يا عبد الله.(36/17)
ثلاثة مواقف إيمانية
الاستسلام لأمر الله لا يكون بمجرد الكلام، بل لابد من الفعل والتضحية، وهنا ثلاثة مواقف تدل على كمال الاستسلام لأمر الله أياً كان هذا الأمر.
الموقف الأول: موقف إبراهيم عليه السلام عندما أمر بذبح فلذة كبده إسماعيل، فقام منفذاً لأمر الله، ولما علم الله صدقه فدى ابنه بكبش عظيم.
الموقف الثاني: موقف موسى عليه السلام عندما أمره الله بالذهاب إلى أكبر طاغية على وجه الأرض في تلك الأيام، فلبى أمر الله وذهب، فأنقذه الله وأهلك فرعون.
الموقف الثالث: غلام مازال في ريعان الشباب، يموت لتحيا أمة، ويضحي بجسده لينقذ أجساداً كثيرة من النار؛ استسلم لأمر الله وهو التضحية في سبيل الله.(37/1)
موقف إبراهيم عليه السلام إمام الموحدين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام: العنوان كما سمعتم: (مواقف إيمانية)، وسوف أقتصر في هذا المجلس على ثلاثة مواقف إيمانية، وقد ذكرها الله عزَّ وجلَّ كلها في القرآن، ولعلك قد قرأتها من قبل أو استمعت إليها، ولكن أرجو منك أن تعيش معي هذه المواقف الثلاثة، فإنها مواقف عظيمة رهيبة، إذا وقرت في القلب أثمرت الإيمان واليقين بالله تعالى، وإن تدبرت هذه الآيات التي تتلى، وتلك المواقف التي تذكر، سوف تصبر على كل طاعة، وتترك كل معصية بإذنه جل وعلا؛ ذلك لأنه كلام الله الذي إذا ذكر على المؤمنين وجلت القلوب، وذرفت العيون، وازداد الإيمان كيف لا وهو القرآن الذي لو أنزل على جبل لصار هذا الجبل من تأثره بالقرآن خاشعاً متصدعاً من خشية الله.
ولكن بعض القلوب لا تتأثر بكلام الله جل وعلا، ولهذا يقول الله تبارك وتعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] ما بال هذه القلوب أقفلت وكأن عليها أقفال لا تتأثر ولا تتدبر ولا تتعظ، ولا يوجل القلب، ولا ترجف الأعضاء، ولا يقشعر الجلد، ولا تدمع العين؟! وكأنه يسمع كلام بشر لا كلام رب البشر جل وعلا، يقول الله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16]، قال ابن مسعود: [أربع سنوات أسلمنا فعاتبنا الله].
إلى متى؟ ألم يحن الوقت الذي تخشع القلوب فيه لذكر الله؟! إلى متى الواحد منا عُمِّر في الإسلام بل وَشَابَ فيه؟! وبعضنا -للأسف إلا من رحم الله- لا يخشع من كلام الله جل وعلا.
الموقف الأول: موقف أبينا إبراهيم عليه السلام، أبو الأنبياء، وإمام الموحدين عليه الصلاة والسلام، وخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام الذي امتلأ قلبه بالإيمان منذ الصغر، فكان رجلاً شجاعاً في ذات الله، كسر الأصنام وفتتها حتى جعلها جذاذاً فتاتاً.
ولما كبر وهجر قومه ولم يبق له بعد الله عزَّ وجلَّ إلا زوجته، أراد أن تكون له ذرية، فما قضى الله له بالذرية، حتى كبر في السن وشاب شعر رأسه، فإذا به يدعو الله تبارك وتعالى فيقول: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99] ترك قومه وترك أباه، {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100].
يا رب! هب لي ذرية، قد كبر في السن وطعن حتى أوشك على الوفاة، ولم يعطه الله الذرية، وكم من الرجال اليوم الذين كبرت بهم الأعمار وهو عقيم يتمنى لو أنفق كل أمواله، بل يتمنى لو أنه قطع من جسمه عضواً ويعطيه الله عز وجل الولد، فإن أحلى كلمة عنده في الوجود أن ينادى: يا أبتِ أو يا أبتاه.(37/2)
إبراهيم عليه السلام يرزق ولداً
يرفع إبراهيم عليه السلام يديه إلى الله ويقول: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100] وإذا به يبشَّر {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:101] فأنعم الله جلَّ وعلا عليه بالولد، من هو هذا الولد؟ إنه إسماعيل نبي ابن نبي إسماعيل عليه السلام، ويا لله كم فرح واستبشر إبراهيم بهذا الولد! وهل تظن أن إبراهيم عليه السلام يحب في الدنيا شيئاً أكثر منه؟ لا أظن هذا لقد جاءه بعد كبر، وجاءه بعد شيخوخه، فرباه على عينيه، وتعب عليه، حتى بلغ معه السعي، وبدأ إسماعيل يعمل مع أبيه إنها أحلى لحظات الحياة، أن ترى ابنك الذي ربيته على يديك، وخرج من ظهرك وتعبت عليه، تراه وأنت قد كبرت في السن يتعب ويسهر على راحتك، ويساعدك في العمل، ويقوم بأعباء الوظيفة، وأعباء البيت والمنزل، وأنت جالس مرتاح، والابن بار يقوم على راحتك.(37/3)
أمر الله لإبراهيم بذبح ابنه إسماعيل
نام إبراهيم عليه السلام ليلة من الليالي فإذا به يرى في المنام أمراً مفزعاً ما الأمر الذي رآه إبراهيم؟! وتخيل ذلك الموقف! يرى إبراهيم في المنام أنه يحمل سكيناً، ويأتي إلى ابنه إسماعيل فيذبحه بهذا السكين إنا لله وإنا إليه راجعون! ورؤيا الأنبياء وحي من الرحمن جلَّ وعلا فإذا بإبراهيم يقوم فزعاً، ولكنه كان مستسلماً لأمر الله جلَّ وعلا، فإنه وحي من الله: يا إبراهيم! اذبح ابنك الذي ظالما انتظرته، ولطالما اشتقت إليه وتعلق قلبك به! لم يقل الله: أرسله للجهاد ليموت، ولم يخبره الله أنه سوف يموت بمرض أو بقتل قاتل، لا.
بل قال: يا إبراهيم! احمل سكيناً واذبح ابنك بيديك! ماذا تظنه سيفعل؟ هل سيسلِّم أمره لله جل وعلا؟ إنه أمر من الله عز وجل.
قال سبحانه: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ} [الصافات:102] انظر إلى الأسلوب! الأب يكلم ابنه ويقول: يا بني! وقد كان صغيراً في السن {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ} [الصافات:102] ورؤيا الأنبياء حق ووحي من الرحمن جل وعلا.
ماذا ترى يا أبي؟ {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102] يا أبي! ماذا تقول؟ فيقول: أمرني الله في المنام أن أضجعك على الأرض وأحمل سكيناً فأنحرك بيدي.
الأمر صعب -يا أخي- وقد تقول: إنه لابد من الاستسلام لله جل وعلا، ولكن لو وقع عليك الأمر فهل تستسلم؟
قال سبحانه: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102] فكر وابحث في الأمر شاور نفسك اجلس بينك وبين نفسك لكن إسماعيل عليه السلام كان باراً بأبيه، ومسلماً لله جل وعلا، فقد سلَّم أمره لله تبارك وتعالى، وانظر إلى الأدب وإلى الاستسلام لله جل وعلا! {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات:102] انظر إلى الأسلوب! قال: يا أبت! يذكره بالأبوة، أنت أبي وأنا ابنك، ومهما فعلت فأنت أبي، ثم يقول له: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ، إنني ابنك وأنت أبي، لكنها طاعة الرب جلَّ وعلا، والاستسلام له سبحانه وتعالى.
{قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الصافات:102] يأمر الله تعالى بذبحه وعلى يد أبيه، وهو يقول: إن شاء الله انظر إلى الأدب مع الله عز وجل، وانظر إلى الاستسلام الكامل لله تبارك وتعالى، يقول: سوف أصبر، لكن ليس بحولي ولا بقوتي ولا بشجاعتي، فالقضية ليست شجاعة، ولا قوة، وليست جرأة؛ إن القضية إيمان بالله جلَّ وعلا، وتوكل على الرحمن تبارك وتعالى {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] وبعض الناس -للأسف- لا يصبر على أموال يتركها، أو على وظيفة يدعها لله جل وعلا، ولا يتحمل ألماً لأولاده أو بكاءً لصبيانه عندما يخرج التلفاز من البيت، أو يمنع ذلك الدش أو البث المباشر عنهم، يقول: لا أصبر على بكائهم وحنينهم، ولا أصبر على طلباتهم؛ فيأتي بالتلفاز بيده إلى البيت، أو يأتي بذلك الستلايت (البث المباشر) ليضعه في البيت فيدمر أخلاق أهله وأولاده يقول: لا أصبر، وهذا إسماعيل الصغير يقول: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102].
وهل كان هذا ادعاء؟ وهل كانت فقط كلمات وألفاظ يتلفظ بها إسماعيل وأبوه؟ لا.
قال الله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات:103] لا تقل: إنني مسلِّم، ثم لا تستسلم لله جل وعلا، فلما أسلما، أي: سلَّما أمرهما لله جل وعلا جاء إبراهيم بابنه إسماعيل وكان شاباً صغيراً يعمل مع والده، فحمله ووضعه على جنبه على الأرض وأكبه على وجهه، وجاء بالسكين لينفذ أمر الله جل وعلا، وهو مستسلم لله تبارك وتعالى انظروا الإسلام! انظروا الصبر على طاعة الله! وجعل وجهه في مقابله حتى لا يراه؛ لأنه لا يتحمل هذا المنظر، ولكن حباً لله جل وعلا، ورضىً بأوامر الله تبارك وتعالى فجاء بالسكين ووضعها على نحر إسماعيل عليه السلام: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] تله أي: وضعه وأكبه على وجهه، ووضع السكين على رقبته وكاد أن ينحره.(37/4)
فداء إسماعيل بالكبش
قال الله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} [الصافات:104] التفت إبراهيم فإذا به يسمع المنادي يناديه: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:105 - 107].(37/5)
العظة والعبرة من قصة إبراهيم مع انبه
هل ستصبر يا عبد الله؟! وهل ستصبري يا أمة الله؟! وهل سنصبر -أيها الإخوة- على ذبح أولادنا؟ مع أن الله لم يأمرنا بهذا، فإن بعض الناس أمره الله أن يخرج من كل ألف خمسة وعشرين ديناراً، فلا يمتثل، ويقول: أموالي جمعتها بيدي فكيف أخرجها لمن لم يتعب عليها؟
ويأمره الله جلَّ وعلا أن يخرج من هذه الوظيفة؛ لأنها حرام، وموردها وأموالها حرام، فلا يصبر على هذا ولا يتحمل، ويقول: كيف أعيش؟ كيف أنفق على أولادي؟ كيف أرزق نفسي وأهل بيتي؟
انظر إلى الإسلام عند إبراهيم وانظر إلى الإسلام عندنا! قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن هذا القرض من الربا آخذه مرابٍ، ومعطيه مرابٍ، وكاتبه مرابٍ، والشاهد عليه كلهم سواء في لعنة الله جلَّ وعلا، فهل أنت مستسلم لأمر الله تبارك وتعالى؟! أم أنك تقول: أنا محتاج للقرض، أريد أن أثث بيتي، وأريد أتزوج، وأريد أشتري سيارة، فتأخذ القرض من الربا فهل أنت مستسلم لله جلَّ وعلا، أم أن هذه القصة وهذا الموقف يمر علينا وكأننا لا شأن لنا به؟! يخبرنا الله جلَّ وعلا بهذه القصص في القرآن لنعتبر ولنتأثر بذلك النبي الذي وصل به الحال إلى أن يذبح ابنه لله جل وعلا! فهل نحن فاعلون ومستجيبون لله تبارك وتعالى؟!(37/6)
موقف موسى عليه السلام والسحرة مع فرعون
وهذا موقف آخر، وهو موقف عظيم، وسوف أخبرك به بالتفصيل؛ لتعيشه وتعيش تلك الأجواء، فإنه مشهد عظيم، أخبر الله عز وجل به أكثر من مرة في القرآن، بصور عديدة، وألفاظ متعددة؛ وذلك لنستشعر تلك المواقف ولنعيشها.
إنه موقف وقع لموسى عليه السلام، ولأولئك السحرة، واسمع إلى ذلك الموقف واعتبر وتدبر؛ لأن أولئك السحرة شأنهم عظيم، وأمرهم عجيب! حتى قال ابن عباس رضي الله عنهما: [أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء بررة] فاسمع إلى موقفهم ومشهدهم:(37/7)
موسى في قصر فرعون
جاء موسى عليه السلام بعصا ومعه أخوه هارون إلى ذلك القصر العظيم؛ قصر فرعون، الذي كان يقول للناس: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] ليس أي رب! بل الأعلى، واستأذن موسى من البوابين، وقال: أريد أن أدخل على فرعون.
قالوا: أنت تدخل على فرعون!! أنت صاحب العصا، والملابس الرثة وتدخل على فرعون! قال: استأذنوه، فأذن له فرعون متعجباً من أمره، فدخل موسى الذي ربي في قصر فرعون، فقال له: ما الذي جاء بك يا موسى؟ قال: جئت أدعوك إلى الله جل وعلا وإلى أن تزكى! فإذا بفرعون يتجبر ويطغى ويرعد ويزبد، فقال له موسى: إن جئتك بآية أتؤمن بها؟ قال: ائت بها، فإذا بموسى عليه السلام يخرج يده فإذا هي بيضاء، ويلقي عصاه فإذا هي ثعبان فخاف فرعون، وقال للملأ يستشيرهم: ماذا أفعل؟ قالوا: أَرْجِهْ وَأَخَاهُ.
أي: أخره وأخاه، لا تقتله، افضحه عند الناس، اكشف لعبته وسحره أمام الملأ.
قال بعضهم: أخره أربعين يوماً.
فقال: يا موسى! نؤخرك إلى يوم بيننا وبينك {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} [طه:59]-وهو يوم العيد- أريد أن يكون الموعد في يوم العيد؛ اليوم الذي يجتمع فيه الناس كلهم {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً} [طه:59] ليس في الليل ولا في الفجر، بل في الضحى وكل الناس فيه منتبهون، ليس هناك رجل نائم ولا غائب، بل كلهم مجتمعون -انظر الواثق بدينه وبربه والمستيقن به- قال فرعون: لك ذلك.(37/8)
حشد فرعون للسحرة
ذهب موسى مع هارون، وذهب فرعون يحشر السحرة من قومه، وكان قوم فرعون مشتهرين بالسحر، فأتى فرعون بكل ساحر عليم، وهم أعظم السحرة قال ابن عباس: بلغوا سبعين ساحراً.
وقال بعض المفسرين: بلغوا اثني عشر ألف ساحر.
وقال بعضهم: بلغوا ثلاثين ألفاً، وقال بعضهم: بلغوا تسعين ألف ساحر، اجتمعوا عند فرعون يوم الزينة، وكان في الصف المقابل لهم موسى الضعيف الذي لا يملك إلا عصا، ولا يكاد يبين بقوله؛ ولذلك طلب أخاه هارون، وقال: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً} [القصص:34] إن الموقف رهيب، والحشد عظيم؛ والجمهور كبير! كل القوم قد تجمعوا وتجمهروا لذلك الموعد، وجاء فرعون واجتمع مع حاشيته ينظرون إلى هذه المباراة، وذلك المشهد العظيم.
وعندما أتى السحرة قالوا لفرعون: {أَإِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:41] أي: يا فرعون! إذا غلبنا موسى وهارون هل لنا جزاء من أموال ومناصب؟ {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف:114] الأمر عجيب! فرعون يجابه موسى ما الذي منع فرعون عن قتل موسى؟ لِمَ لمْ يقتله كحال غيره من البشر؟ لِمَ لمْ يقتله كما قتل الماشطة؟ إنها الهيبة من موسى قذفها الله عزَّ وجلَّ في قلب فرعون، فإذا به يصاب بالرعب، وإذا به يجمع السحرة كلهم -بل أعظمهم- ويعدهم بالأموال والمناصب، ويقول لهم: {وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الأعراف:114].
إنهم الطواغيت؛ طواغيت البشر، الذين يدعون الربوبية، فقد كان فرعون يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] هذه هي ربوبية فرعون، وربوبية غيره الذين يقولون: لا حكم إلا لنا، فهي ربوبية واحدة، هذه ربوبية وهذه ادعاء الربوبية، فعندما قال فرعون: أيها الناس: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي، ويأتي غيره ويقول: أيها الناس: لا حكم لكم غير حكمي؛ فهما سواء، قال الله جل وعلا: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40] فتوحيد الحكم من توحيد العبادة، بل هو أصل من أصول توحيد العبادة، ولهذا كان فرعون يستعبد الناس، فالحلال ما أحله فرعون، والحرام ما حرمه فرعون، قال عدي بن حاتم لمَّا سمع قول الله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] قال: (يا رسول الله! والله ما عبدناهم -ما جعلناهم أرباباً- قال: ألم يحلوا لكم الحرام فتحلونه، ويحرموا عليكم الحلال فتحرمونه؟ قال: نعم.
-وهذا شيء منتشر عندنا- قال: فتلك عبادتهم) فلا يشترط السجود، ولا يشترط الذبح، ولا يشترط الطواف بقصره وبكرسيه، وذلك الملك لا يريد هذا، إنما يريد أن يكون الحلال ما أحله، والحرام ما حرمه، وكل حكم فوق حكمه لا قيمة له، كما قال ذلك الطاغية الفاجر:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار(37/9)
المواجهة بين موسى وفرعون
اسمع -يا عبد الله- إلى موسى كيف قذف الله عز وجل الرعب والهيبة في قلب فرعون! فِإذا بموسى الضعيف يقف في صف مع هارون، وألوف السحرة -إن صحت الرواية- في الصف الآخر، فإذا بموسى يكلمهم وينصحهم إعذاراً إلى الله جل وعلا: {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} [طه:61] يستأصلكم ويقتلكم ويعذبكم، ويلكم! أتفترون على الله؟! قد خاب من افترى فإذا بصف السحرة يموج، وإذا بالضوضاء تنتشر، وإذا كثير من السحرة يتزعزع صفه وموقفه، خافوا من كلمتين ألقاهما موسى، وعلم بعض السحرة أن هذه الكلمات ليست بكلمات بشر، وأن فيها هيبة رب البشر؛ فإذا بالسحرة يتنازعون فيما بينهم، قال الله: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} [طه:62] بدأ الهمس بين السحرة وموسى ينظر، وحشود الناس ينتظرون، وفرعون ينظر مع حاشيته إلى ذلك الموقف، ما الذي حصل؟ همس بين السحرة، فكانوا يقولون: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى * فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} [طه:63 - 64] فإذا بالصف يرجع مرة أخرى، ويقفون كلهم صفاً واحداً جبارون متكبرون طغاة أمام موسى وهارون وليس معهم إلا عصا.
{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} [طه:65] انظر إلى التحدي! فهم لجرأتهم ووثوقهم بأنفسهم يقولون: يا موسى! أتريد أن نلقي نحن أولاً أم أنت الذي تلقي عصاك؟ اختر ما تشاء يا موسى -يثقون بأنفسهم وثوقاً عجيباً- وإذا بموسى عليه السلام يرد عليهم بكلمة كالمستهزئ بهم: {قَالَ بَلْ أَلْقُوا} [طه:66] ابدءوا بالإلقاء والناس ينظرون، فإذا بألوف السحرة كل واحد يرمي عصاه والوادي أمامهم، فإذا بالوادي يموج بالثعابين والحيات {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:65 - 66] انظر إلى المنظر العجيب! الناس خافوا، وبعض الجمهور تراجع من شدة الخوف، فإن الوادي كله قد امتلأ بالأفاعي وامتلأ بالحيات، هذا المشهد الذي يخبر الله عزَّ وجلَّ عنه بقوله: {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ} [الأعراف:116] قذف الرعب والرهبة في قلوب الناس، بل حتى موسى عليه السلام، قال الله: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه:67] ولم يخف من الحيات والثعابين، إنما خاف على الناس، خاف أن يظل الناس وأن يكفروا، وخاف عليهم الناس أن يزدادوا كفراً وطغياناً ولكن انظر إلى ذلك الموقف، فرح فرعون واستبشر، نظر إلى ذلك السحر فازداد طغياناً وعتواً، فإذا بالوحي ينزل من السماء: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} [الأعراف:117] وماذا عساها تفعل مع هذه الثعابين؟ فقد ملأت الوادي ألوف الحيات والثعابين قال الله له: {قٌلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} [طه:68 - 69] ألق ما عندك، عندك العصا ابذل السبب، إن المعركة بينهم وبين الله جلَّ وعلا ليست بينهم وبينك يا موسى، أنت ليس عندك شيء، أنت لا تملك إلا عصاً إن المعركة ليست بين الداعية الضعيف الذي لعله سجين، ولعله مكمم فاه، ومغلوب على أمره، ليست بينه وبين تلك الحشود وتلك الأمم، وليست بينه وبين تلك الضلالات إن المعركة بين الله جل وعلا وبينهم: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].
قال الله تعالى: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ} [طه:69] فيلقي موسى ما في يمينه {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف:117] انقلبت عصاة موسى عليه السلام ثعباناً حقيقياً، فابتلعت كل الثعابين التي في الوادي {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف:117].
انظر إلى المشهد الرباني: {فَوَقَعَ الْحَقُّ} [الأعراف:118] يقول الله جلَّ وعلا: فوقع، وكأن الحق أمر ثقيل مستقر في الأرض يحطم ما تحته: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:118] وإذا بالسحرة يندهشون من الأمر: {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف:119] تعجب فرعون من هذا المنظر ما الذي حدث؟! ما الذي جرى؟! والجمهور ينظر، والناس تستغرب من الأمر.(37/10)
سجود السحرة لله تعالى
وإذا بالسحرة كلهم عن بكرة أبيهم آمنوا بالله جلَّ وعلا، وخروا على الأرض سجداً: {وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الأعراف:120] إنها اللمسة الربانية، إنه الإيمان الذي إذا وقر في القلوب بدد الظلام كله، إنه الحق إذا وقع {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} [الأعراف:118 - 120] وماذا يفعل فرعون الآن؟ هل سجدوا فقط لله؟ لا.
بل {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:121 - 122] ما تحمل فرعون هذا المنظر، فماذا سيفعل؟ وماذا سيصنع أمام الناس وأمام السحرة، بل أعظم السحرة؟ سجد السحرة كلهم لله تبارك وتعالى إنه الحق إذا وقع، وإنه الحق إذا جاء: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81].
قال فرعون: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} [طه:71] أراد أن ينقذ نفسه من الموقف، انظروا إلى السخافة {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [الأعراف:123] أيها السحرة: لِمَ لم تأخذوا الإذن مني حتى تؤمنوا؟ انظروا إلى السخافة والجنون إذا بلغ بالإنسان مبلغه إن الإيمان قد انفجر في قلوبهم ولم يتمالكوا أنفسهم إلا أن وقعوا لله سجداً، وتلفظوا بقولهم: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:121 - 122] كانوا قبل قليل يحاربون الله ويكرهون الناس على الكفر، ويقولون لفرعون: {أإِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} [الأعراف:113] يريدون الدنيا، وبعد لحظات وإذا بالأجساد تخر لله سجداً.(37/11)
ثبات السحرة أمام تهديد فرعون وغضبه
قال الله عن فرعون: {آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف:123] بدأ الآن يهدد، ماذا تريد يا فرعون؟ قال: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف:124] لا ينفع فيكم إلا التعذيب، سوف أصلبكم في جذوع النخل، وأقطع يد أحدكم ورجله حتى تموتوا {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى} [طه:71] يظن أن عذابه أشد من عذاب الله، ويظن أن ألمه أشد من ألم حر جهنم!
فماذا قال السحرة؟ لقد كانوا قبل قليل يريدون أموالاً ومناصب، ويريدون التقرب والتزلف للحاكم، أما الآن فأجابوا {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ} [طه:72] لن نحكمك، ولن نختارك يا فرعون: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} [طه:72] لقد رأينا البينات، قال بعض المفسرين: إنهم لما سجدوا كل واحد رأى منزله في الجنة، لأنهم سجدوا يقيناً بالله تبارك وتعالى، وأي إيمان هذا الإيمان أيها الإخوة! قبل قليل كانوا سحرة كفاراً طواغيت، وبعد قليل يؤمنون ويسجدون لله؛ فقد أروا مساكنهم في الجنة، فلما رفعوا رءوسهم قال: لأصلبنكم لأعذبنكم سأقطع الأيادي والأرجل، قالوا: {لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} [طه:72] وأقسموا على هذا: {وَالَّذِي فَطَرَنَا} [طه:72] أي: نقسم بالذي فطرنا على هذا {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72] افعل يا فرعون ما تشاء عذب قطع الأيادي والأرجل اصلبنا على جذوع النخل، افعل ما تشاء: {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72] مهما فعلت فإنها دنيا الله أكبر! أرأيت الإيمان إذا دخل في القلب كيف يستهين بالدنيا ويحتقرها! كيف تكون الدنيا لا تساوي عنده جناح بعوضة، قبل قليل يريدون المناصب والأموال والقربى، أما الآن فيقولون: هذه دنيا فانية {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه:73] يقال: إنه جمعهم منذ الطفولة وهم أيتام، وجاء بهم وعلمهم السحر منذ الصغر، حتى كبروا وترعرعوا على السحر، إكراه من فرعون، والويل لمن يخالف: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:73] ثم إذا بهم يتكلمون عن الجنة والنار.
وهل تظن -يا عبد الله- أن فرعون تركهم؟! لا.
بل نفذ ما وعدهم به، صلبهم على جذوع النخل، وقطع الأيادي والأرجل، وبعد قليل كما قال ابن عباس: [أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء بررة].
عباد الله: أرأيتم إلى ذلك الموقف؛ موقف الداعية الثابت الصامد أنت لا تملك شيئاً، لا تملك إلا اللسان، والقلم، وهذا القلم وذلك اللسان يواجه تلك الجيوش الجرارة {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] لا تقل: أنا ضعيف، وما عندي شيء، لا تقل: الدعاة إلى الله عزل، أقول لك: الدعاة إلى الله جلَّ وعلا معهم الرب تبارك وتعالى: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال:12] يلقي الله عز وجل في قلوب أعدائهم الرعب ولا تقل: ما عندي جنود، ولا أسلحة، والمسلمون مستضعفون، واليهود والنصارى يقطعون في الأمة قطعاً ويمزقونهم تمزيقاً أقول لك: يا عبد الله! معك الرب جلَّ وعلا، إن موسى ما كان يملك إلا العصا وأمامه ألوف السحرة، وفرعون وما أدراك ما فرعون، ولكن نصره الله جل وعلا بم ذلك؟ بيقينه بالله تبارك وتعالى، وثقته بنصر الله جل وعلا.(37/12)
موقف الغلام المؤمن مع الملك الكافر
الموقف الثالث والأخير: إنه موقف ذكره الله عزَّ وجلَّ في القرآن، وأخبرنا به عليه الصلاة والسلام، وسوف أسرد عليك هذا الموقف سرداً لأنك سمعت به، ولكن أرجو منك أن تعتبر به، ونحن نحتاج إليه خاصة في هذا الزمن.(37/13)
تعلم الغلام عند الساحر والراهب
إنها قصة ذلك الغلام الذي تعلم السحر منذ الصغر عندما أجبره الملك على أن يتعلم السحر، وكان عندما يذهب إلى الساحر يمر بالطريق على راهب، وذلك الراهب كان يعبد الله جلَّ وعلا، وقيل: كان من قوم نصارى، وكان يأتي إلى هذا الراهب يسمع حديثه، ثم يذهب إلى الساحر، ثم يرجع إلى ذلك الراهب قبل أن يذهب لأهله، فكان أهله يضربونه على تأخيره، وكذلك الساحر لم تتأخر؟ وكان لا يخبر أحداً بمكثه عند الراهب، فقال له الراهب يوماً: إن سألك أهلك فقل لهم: أخرني الساحر، وإن سألك الساحر يوماً لِمَ تأخرت؟ فقل: أخرني أهلي، وإذا بالأيام والليالي تمر، فيزداد هذا الغلام علماً وفقهاً في الدين، وتعلقاً بالله رب العالمين، وإذا به يمر يوماً من الأيام على الطريق، فإذا بدابة قد أغلقت على الناس طريقهم، وحاولوا دفعها فلم يستطيعوا، وحاولوا قتلها فلم يقدروا عليها، فقال الغلام في نفسه: اليوم سأعرف أأمر الراهب على حق، أم أمر الساحر؟ فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحق من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة، أو اصرف عن الناس ما هم فيه، فأخذ حجرة صغيرة في يده، وجاء إلى تلك الدابة فرماها بتلك الحجر الصغير، فإذا بها تموت وتنزاح عن طريق الناس.
إنها الكرامة الأولى على يد ذلك الصبي، ولما رجع إلى الراهب أخبره الخبر، فقال له: يا بني! إنك اليوم أعظم شأناً مني، وقد بلغت منزلة أعظم مني، وسوف تبتلى الله أكبر!
هل سمعت بحديث ورقة، عندما قال: ذلك الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني أكون فيها جذعاً إذ يخرجك قومك.
فقال محمد صلى الله عليه وسلم: (أومخرجي هم؟) قومي، أبناء عمي، جيراني، أهلي، الذين يسلمون علي، ويسمونني الصادق الأمين، سوف يطردوني من بلدي؟! قال: ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:186] وعد من الله سبحانه وتعالى، تبتلى بالمال والنفس.
قال: يا بني! أنت اليوم أعظم شأناً مني وسوف تبتلى، فإن ابتليت فلا تخبر عني.
أي: اكتم خبري.(37/14)
إبراء الغلام للأكمه والأبرص بإذن الله
مضى الغلام وانتشر بين الناس خبره، فصار يبرئ الأكمه والأبرص، ويقرأ على المريض ويدعو الله فيشفى بإذنه سبحانه وتعالى، فانتشر خبره بين الناس، حتى سمع وزير الملك بخبر ذلك الصبي وكان أعمى، فاستدعاه وقال: يا غلام! سمعت أنك تبرئ الأكمه والأبرص فرد علي بصري ولك ما شئت من الدراهم والدنانير.
فقال: أيها الوزير! أنا لا أشفي، قال: ومن يشفي؟ قال: الله رب العالمين هو الذي يشفي، قال: الملك؟ قال: لا.
بل ربي وربك ورب الملك الله رب العالمين.
قال الوزير: وكيف يشفيني الله جلَّ وعلا؟ قال الغلام الصغير: تؤمن بالله رب العالمين، فأدعوه أن يشفيك؟ قال: آمنت بالله رب العالمين، فدعا الله له فشفي الوزير وردَّ الله عليه بصره.(37/15)
الغلام والابتلاء
دخل الوزير يوماً على ذلك الملك، فقال له الملك: يا وزير! من رد عليك بصرك؟ قال: الله رب العالمين، قال: أنا؟ قال: لا.
بل ربي وربك.
قال: من؟ قال: الله رب العالمين.
قال: ألك ربٌّ غيري؟ قال: نعم! الله رب العالمين.
قال: من أخبرك بهذا؟ قال: لا أخبرك، فضربه ضرباً مبرحاً حتى دل على الغلام، وقتل الوزير فجيء بالغلام الصغير، وقال له: يا غلام! أولك رب غيري؟ قال: نعم، قال: من هو؟ قال: ربي وربك الله رب العالمين.
غلام صغير، في قصر ملك طاغية هل خاف؟ هل ارتجف؟ هل قلب إيمانه؟ مع أنه في شرعنا يجوز هذا، ولكنها الجرأة، والإيمان إذا ملأ القلب قال: نعم، ربي وربك الله، قال: ماذا تقول؟ فعذبه وجلده حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب، فقال له الملك: ترجع عن دينك؟ قال: لا.
قال: من ربك؟ قال: الله رب العالمين.
قال: ارجع عن دينك؟ قال: والله لا أرجع.
فلا زال به يعذبه حتى جاء بالمنشار، فإذا به يضع المنشار على رأسه ويقسمه نصفين {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] تحسب أنك آمنت ولن تفتن ولن تبتلى، تحسب -أيها الأخ الكريم- أنها صلاة وصيام والحمد لله ثم جنة لا يا عبد الله (حفت الجنة بالمكاره) وهذه من المكاره.(37/16)
محاولات فاشلة لقتل الغلام
أتى الملك بالصبي وأراد أن يقنعه أن يترك دينه، فقال: يا غلام! ترجع عن دينك؟ قال: لا.
قال: سوف أقتلك.
قال: افعل ما تشاء.
قال: سوف أذبحك.
قال: افعل ما تشاء.
فجاء الملك بالجنود، وقال: اذهبوا به إلى رأس الجبل، فإذا عليتم به أعلى الجبل فاقذفوه من أعلى الجبل على رأسه ليس أي قتل، ولكن قتل بتعذيب لعله أن يصاب بالرعب فيرجع، فإذا بالغلام يُربط ويساق إلى أعلى الجبل، ومعه الجنود والعسكر، فلما علوا به إلى الجبل رفع الغلام يديه إلى الله جل وعلا، وقال: اللهم اكفنيهم بما شئت {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] إلى من لجأ الغلام؟ هل لجأ إلى أبيه؟ أو إلى أبناء عمه؟ أو إلى قوته؟! لا.
الآن انتفت القوة كلها، ما بقيت إلا قوة الرب جلَّ وعلا، الذي لا حول ولا قوة إلا به، فتوكل على الله جل وعلا، وقال: اللهم اكفنيهم بما شئت.
فإذا بالجبل يهتز ويرجف بهم، فيسقطون كلهم من أعلى الجبل على رءوسهم، فماتوا ورجع الغلام يمشي على قدميه هل هرب؟ إنه كان يستطيع الهرب، ويستطيع أن ينجو، ولكن ليست قضيته أن ينجو بنفسه وبجسده، إن القضية أعلى من هذا، إنها قضية الإيمان والدعوة إلى الله، ونشر التوحيد بين الناس، حتى ولو مات أو قتل في سبيلها.
وجاء يمشي على قدميه إلى موطن الموت مرة أخرى، فدخل القصر، ففزع الملك، وخاف: من هذا؟! أهو الغلام؟! نعم.
ماذا صنع الجنود؟ قال: كفانيهم الله جل وعلا كيف؟ لقد ماتوا كلهم وسقطوا من أعلى الجبل ماذا تقول؟! هذا الذي حصل، فخاف الطاغية، وجاء بجنود آخرين، وقال لهم: اذهبوا به إلى وسط البحر، ثم ارموه في البحر، وإذا علمتم أنه قد مات وغرق فارجعوا.
-انظروا إلى التعذيب- فأخذوه إلى وسط البحر، ولما أرادوا أن ينزلوه في قاع البحر رفع الغلام يديه إلى الله جل وعلا، وقال: اللهم اكفنيهم بما شئت {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186].
في بدر يقول أبو بكر: (كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن جهز الجيش وجعل لكل إنسان مقعداً، جلس خارج الجيش ورفع يديه إلى الله جل وعلا، وهو يقول: اللهم إني أنشدك نصرك يا رب، اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض.
يقول أبو بكر: فسقط الرداء من فوق النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا أرجع الرداء عليه، وأقول له: يكفيك مناشدتك ربك يا رسول الله، إن الله منجز للك ما وعدك) قال بعض الصحابة: كنا في تلك الليلة نائمون إلا رسول الله، كان عند شجرة قائماً طوال الليل يصلي ويدعو الله جل وعلا {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186].
فقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت.
فإذا بموج هائل يأتي ويسقط الجنود كلهم في البحر، فماتوا كلهم غرقى وما بقي إلا الغلام {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64].
رجع الغلام مرة أخرى إلى القصر، ففزع الملك وخاف، وعلم أنه لن يقدر عليه، فقال الغلام: أيها الملك! إنك لست بقاتلي، ولن تستطيع على قتلي، ولكن إن أردت أن تقتلني فافعل ما آمرك به.
قال الملك: وماذا تأمرني؟ الآن الغلام يأمر الملك الطاغية، وانظر كيف انقلب الحال!! فإن النصر الآن لهذا الغلام.
فقال: اجمع الناس في صعيد واحد واصلبني، وخذ سهماً من كنانتي، وقل: باسم الله رب الغلام، ولن تقتلني إلا بهذه الطريقة، ثم ارمني بالسهم فإن فعلت ذلك فإنك قاتلي الملك الآن أهم قضية عنده هو أن يموت الغلام، فقد صار عنده كالكابوس، رعب وفزع وبدأ الخوف في قلب ذلك الملك، فالمهم أن يموت هذا الغلام.
فجمع الناس في صعيد واحد والناس في تلك اللحظات يترقبون.
أمر من الحق؟ أمر الغلام أم أمر الملك؟ والناس في ريب من أمرهم، والغلام الصغير يعلم أنه سوف يقتل لكنه ضحى بحياته وبروحه من أجل هذه الدعوة، هذا الذي هو الآن يقبل على الحياة، شاب صغير، والغلام في ريعان شبابه يتمنى أن يعيش في الدنيا، لكنه ضحى بجسد وبدمه الطاهر لله جل وعلا فإذا بالملك يقف أمام الناس، فيأخذ سهماً من كنانته -والناس ينظرون- ويرفع صوته، ويقول: باسم الله رب الغلام، والناس يسمعون، ويرمي الغلام بذلك السهم، فيقع السهم في صدغه على وجهه فيضع الغلام يده على وجهه، ثم تفيض روحه إلى الله جلَّ وعلا.
ومات الغلام لكنه انتصر، مات لكنه فاز، وعندما مات الغلام إذا بالجموع تهلل وتكبر، وتقول: آمنا بالله رب الغلام، آمنا بالله رب الغلام.
فالتفت الملك مذهولاً!! إن الغلام ملطخ بدمائه لكنه منتصر انتصر بدعوته، وضحى بجسمه وجسده وروحه لله جل وعلا، لكنه انتصر، فقد آمن الناس كلهم فقال الجنود: أيها الملك! قد وقع الذي كنت تحذر منه، قال: احفروا لهم الأخاديد، وأشعلوا فيها النيران، وأحرقوا كل من لم يرجع عن دينه، فجاءت الجموع ترمي بنفسها في النار، وهي تقول: الله أكبر! آمنا بالله رب الغلام، حتى جاءت امرأة بيدها رضيع وهي تؤمن بالله، فقيل لها: ارجعي عن دينك وإلا رميناك في النار.
قالت: بل أرمي بنفسي في النار، وكأنها تقاعست وترددت ما ذنب هذا الرضيع؟ ما ذنب هذا الغلام؟ فأنطق الله الغلام في المهد، وقال: يا أماه! اصبري فإنك على الحق.
فرمت بنفسها ورضيعها في النار.
قال الله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:4 - 7] لِمَ كل هذا يا رب: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج:8 - 9] شهد الله موت الغلام، وشهد الله حال الناس، وشهد الله فعلتهم، والله على كل شيء شهيد.
لقد مات الغلام وضحى بجسمه، وبروحه في سبيل الله، لكنه انتصر فما زال ذكره إلى أن تقوم الساعة، قتل أصحاب الأخدود، وهم في جنة خالدين فيها.
أيها الإخوة الكرام: هذه ثلاثة مواقف مرت علينا كثيراً في كتاب الله، لكن هلا توقفنا عندها وقفات نتدبرها!
هلا استشعرناها يا عباد الله!
إن هذه القصص لا يخبرنا الله بها للتسلية، أو لقضاء الأوقات، أو لأجل أن نقصها فقط على الصغار أو الكبار، لا يا عباد الله! إنما هي للاعتبار: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176] إن القرآن الذي بين أيدينا عظيم، قد ملأه الله بالقصص والعبر والآيات والأوامر والنواهي، فهل نحن معتبرون -يا عباد الله- أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا؟
أقول هذا القول، وأستغفر الله من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(37/17)
قصص من الواقع
إن أسلوب القصص له أثره العظيم في قلوب الناس، لذلك قد يتأثروا بالقصة ما لا يتأثرون بغيرها، والشيخ في هذا الدرس قد ذكر عدداً من القصص متنوعة المواضيع، فذكر قصصاً تبين عاقبة الشهوة، من الإصابة بالأمراض المستعصية، والانتكاسة بعد التدين، وذكر قصة تدل على أن السعادة ليست في المال، وقصصاً في التوبة إلى الله تعالى، ثم ذكر قصصاً تبين الخاتمة الحسنة من السيئة، وأخرى تبين أثر الدعاء، وختمها بقصة تبين أهمية تربية الأولاد.(38/1)
عاقبة الشهوة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام: حياكم الله في هذا المجلس، وأسأل الله جل وعلا كما جمعنا في هذا المكان الطيب أن يجمعنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وأسأل الله جل وعلا أن يجعل هذا الاجتماع اجتماعاً مرحوماً، ويجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً.
أيها الإخوة الكرام: عنوان هذا الدرس (قصص من الواقع).
ولن تجدوا في كلمتي هذه القصص مرتبة، بل سوف أنوع القصص وأنتقل بكم يمنة ويسرة، من كل بستان نقطف زهرة قصص بعضها مؤلمة، وبعضها مفرحة قصص قد تصعد بنا وتنزل قصص اخترتها من واقع الحياة، بعضها قرأتها، وبعضها سمعتها، وبعضها تلقيتها من أصحابها مباشرة، فإليكم هذه القصص، ولست من القصاصين الذين قد ذمهم بعض السلف؛ لأن أولئك القصاصين كانوا ينسبون القصص لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما حديثنا اليوم فإنه مليء بالآيات، وبأحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام، فإياك أن تقول: إن المجلس فارغ، ليس فيه إلا القصص، بل قد ملأته بالآيات والأحاديث والعبر، فهل لهذه القصص من معتبر؟!
إلى أصحاب الشهوات إلى الذين لا يفكرون إلا بفروجهم ليلاً ونهاراً، إن جاء الصيف جمعوا المال وسافروا إلى بعض البلاد والديار، ليفعلوا ما يفعلوا، وليصنعوا ما يريدون من الشهوات، إلى أولئك أحدثهم بهذه القصة.(38/2)
الإصابة بالأمراض المستعصية
هذا شاب يقول عن نفسه في آخر حياته: بعد أن أنهيت الثانوية -ونحن الآن في هذا الجو الذي قد انتهى فيه البعض من الثانوية- جاءني أحد رفقاء السوء فقال لي: يا فلان! أتحب السفر معنا؟ قلت: إلى أين؟ قال: إلى تلك البلاد الآسيوية بلاد آسيوية فيها المنكر والفساد، جهاراً نهاراً بأبخس الأثمان، فقلت: كيف؟ قالوا: اطلب من أبيك المال، وسافر معنا والأمر بسيط، أياماً معدودات ثم نرجع، قال: فجئت إلى أبي وانظروا إلى أبيه الغافل، وكم غفل بعض الآباء عن أبنائهم.
فقال: يا أبي! قد نجحت في الثانوية، وحصلت على التقدير العالي، وأريد مكافأةً؟ قال: ماذا تريد؟ قال: أريد مالاً؛ لأذهب وأسافر مع أصحابي.
فقال الأب: إلى أين؟ قال: إلى تلك البلاد، قال: لا بأس، فأعطاه المال، قال: فسافرت لأول مرة، فذهبنا إلى تلك البلاد، والغريب أنني رأيت شباباً من أبناء بلادنا دخلوا أماكن حمراء أماكن مظلمة أماكن فيها الفساد والشهوات، يفعلون الفواحش والمنكرات، فدخلت معهم، وفعلت ما لم أظن أنني أفعله في حياتي يوماً من الأيام، صنعت المنكرات، وفعلت الفواحش، وأتيت الشهوات، يقول: فتلذذت مرة بعد الأخرى، حتى رجعت إلى بلادي فاشتقت إلى الرجوع، فأخذت من أبي مالاً مرة أخرى وهكذا توالت السفرات بعد السفرات، حتى وقعت في وكر المخدرات.
يقول: فلما نفدت الأموال، بدأت أسرق الأموال؛ لأسافر إلى تلك البلاد، السفر صار في دمي، والمخدرات تجري في عروقي، ومرت الأيام والسنون، حتى جاء ذلك اليوم -اسمع ما الذي حدث؟ - يقول: أحسست بإعياء شديد، فسقطت على الفراش، فذهب بي أصحابي إلى الطبيب، وبعد التحاليل والفحوصات، جاءني الطبيب يفاجئني، وقال: يا فلان! إن الأمر صعب، قال: أخبرني يا طبيب.
قال: بعد التحاليل اكتشفنا في الدم أنك مصاب بفيروس الإيدز.
يقول: فكأن الدنيا قد أظلمت أمامي، أحلامي تبددت، وضاقت علي الأرض بما رحبت.
أيها الطبيب! ربما أخطأتم، قال: سنعيد الكرة، فأعادوا التحليل مرة أخرى، لكن النتيجة هي النتيجة، يقول: ذهبت إلى طبيب آخر وإلى مستشفى آخر، ولكن النتيجة هي النتيجة، ثم رجعت إلى بلادي مسود الوجه، قد أظلمت الدنيا أمامي، يقول: وأنا الآن أكتب إليكم قصتي وأنا على فراش الموت أنتظر الموت!!
أتعرف ما الذي يحصل؟ إن الإيدز أوله فضيحة وعار، وتمر به الأيام وهو على الفراش ملقى ثم يبدأ بعد هذا تنهار قواه، ثم يصاب بشلل في الجسم؛ لأن الفيروس يصيب المخ، وتمر به الأيام حتى يصير على الفراش ملقى لا يستطيع أن يقضي حاجته بنفسه.
أرأيت أين المتعة والشهوة؟ أين السهرات؟ أين الفتيات؟ أين السفرات؟ كلها قد ذهبت، وهو الآن على الفراش لا يقرب منه أحب الناس إليه، كل الناس قد هربوا منه، يخافون أن ينتقل المرض إليهم، فإذا ذكروا فلاناً اسود وجه أبيه، وأظلمت الدنيا في عين أمه، وبكوا ودمعت أعينهم، ابنهم على الفراش ينتظر الموت، ثم تمر به الأيام، فيذهب شيء من عقله، فيصاب بالجنون، ثم يأتيه ألم شديد، يأخذه من رأسه إلى رجله، وربما يظل على هذه الحال سنة أو سنتين، يتمنى الموت ولا يموت يتمنى الموت ولا يدركه، ثم يتعذب سنيناً أو شهوراً على هذه الحال، ثم يقبض الله عز وجل روحه.
تفنى اللذاذة ممن ذاق صفوتها من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء في مغبتها لا خير في لذة من بعدها النار
إحدى البلاد العربية لما زرتها سألت أهلها: لماذا يسمح أهل هذا البلد بالفجور وبالمومسات؟ هذا الأمر مفتوح في تلك البلاد بقوانين رسمية، الخمور والممومسات في بعض الفنادق موجودة، فسألتهم: ألا يوجد عندكم الإيدز؟
فقالوا لي: إن الإيدز منتشر، لكن الإحصائيات يُكتم عليها، حتى أخبرني أحد الذين يعملون بالصحة، قال: عندنا أعداد ضخمة ممن يصابون بالإيدز، ولكنها تكتم ولا تصل إلى عامة الناس، قلت لهم: أتعرفون أشخاصاً بأعينهم؟ قالوا: نعرف رجلاً كبيراً في السن متزوجاً وعنده أبناء، رجل مستقيم، لكن لحظة من حياته غلبته شهوته، ففكر في السفر، ولم يسافر في حياته إلا أياماً قليلة ثم رجع وتاب، يقولون: مرت الأيام ولكن تلك السفرة كانت سبباً في إصابته بالإيدز، فعولج ثم هلك في المستشفى، يقولون: الأغرب من هذا أن زوجته كانت من الصالحات، وهي مستقيمة، وبعد أن توفي زوجها بأشهر اكتشفوا في دمها فيروس الإيدز، والزوجة صالحة ومتدينة من الذي قتلها؟ من الذي أجرم بحقها؟ من الذي أوصلها إلى هذا الحال؟
إن هذه المرأة المتدينة لم تكن تعرف للحرام طريقاً من المجرم؟ إنه الزوج.
فقالوا لها: أتحبين العلاج لنذهب بكِ إلى أي بلاد شئت؟
قالت: لا والله، لن أموت إلا على سجادتي وأنا أصلي بين يدي ربي جل وعلا، وفعلاً مرت شهور وماتت الزوجة في بيتها، محتسبة صابرة.(38/3)
الانتكاسة وترك التدين
اسمع إلى هذا الشاب وأنا أحذركم من مثل هذه القصة، إنها من أخطر القصص وأسوئها، وهذه حدثت قبل سنين عديدة.
كان شاب يسافر في إحدى السفن التي تذهب للتجارة، وكان إماماً يقرأ القرآن، ويؤذن في الناس ويصلي بهم، واسمع ما الذي حدث له من الشهوات وما أدراك ما الشهوات! يقولون: مرت الأيام حتى نزلوا عند إحدى البلاد الغير إسلامية، ليفرغوا حمولتهم ويأتوا بحمولة أخرى، فذهب كل منهم إلى طريقه أسبوعاً كاملاً سوف تبقى السفينة عند هذا المرسى، فجاء رجل من أصحاب السوء، فوجد الشاب الصالح لم يفارق السفينة، فقال له: يا فلان! انزل معنا نتجول في البلاد، فقال: لا.
أنا أريد أن أجلس أقرأ القرآن حتى تنتهي المدة، قالوا له: انزل فربما ترى شيئاً تشتريه لأولادك، فنزل وذهب يتجول معهم في الأسواق والشوارع ينظر إلى الغادين والرائحين إلى النساء السافرات إلى المتبرجات، هذه قد كشفت ساقها، وتلك فخذيها، وهذه شيئاً من صدرها، فأخذ يلتفت يمنة ويسرة!
أين القرآن؟ أين الأذان؟ أين الصلاة؟ أين العبادة؟ كلها قد نسيها، أخذ ينظر إلى الفتيات يوماً بعد آخر، فذهب به صاحب السوء، وقال له: أتريد أن نذهب إلى أماكن تسمى أماكن الخنا.
قال: أعوذ بالله! قال: لن نفعل شيئاً، إنما نرى هل الأمر حقيقة أم خيالاً! وفعلاً ذهب وأخذ ينظر إلى الناس، ومرت الأيام فإذا بالشاب يدخل معهم فيفعل ما يفعل غيره.
أين القرآن؟ أين الصلاة؟ أين الأذان؟ أين قول الله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] أخذ يفعل المنكرات، ولما حان الرحيل قال قائد السفينة: أين فلان؟ قالوا: لن يسافر معنا فلان إمامنا، الصالح فينا أين هو؟ قالوا: سوف يسوؤك الأمر، قال: لا بد أن تخبروني، قالوا: إنه في أماكن الدعارة والخنا، فقال قائد السفينة: لا بد أن نذهب إليه، فذهب إليه ينصحه، فقال: لن أذهب معكم، سوف أعيش في هذه البلاد، فأخذه قائد السفينة رغماً عنه، وحمله بعد أن قيده وألقاه في السفينة.
وعندما مشينا في البحر وحان وقت الصلاة أذن المؤذن فلم يأت للصلاة معنا، إنما جلس في الغرفة وأغلق الباب على نفسه، نناديه فلا يصلي نحثه للصلاة وهو لا يريد أن يصلي يقول: حتى جئته يوماً من الأيام، ونحن في وسط البحر، فقلت له: أما تخاف الله؟ أما تتقي الله عز وجل؟ كنت إمامنا كنت تؤذن للصلاة فينا، وأنت الآن لا تصلي! فقال: اذهب، أنا أريد الرجوع إلى تلك البلاد.
قال: ولِمَ؟ قال: حياتي ليست معكم، أنا أتحسر أنني ضيعت حياتي معكم في الصلاة والقرآن انظر ماذا يقول؟ قال: فاستعذت بالله منه، ودعوت الله عز وجل أن ينجينا من شره، واكتشفنا بعد أيام أنه مصاب بمرض جنسي، فابتعدنا عنه وهجرناه، ومرت الأيام حتى جاءت تلك الليلة، فسمعنا صوتاً في آخر الليل، ما الذي حصل آخر الليل؟
آخر الليل عندما ينزل الرب إلى السماء الدنيا نزولاً يليق به جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] نزولاً حقيقياً لكن ليس كنزول غيره، ينزل الرب فيقول: هل من سائلٍ فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟
يقول قائد السفينة: سمعنا صياحاً شديداً آخر الليل، فقمنا من الفرش، واتجهنا نحو الصوت، أتعرف ماذا رأوا؟ يقول: رأينا الرجل الشاب الذي كان إماماً يصلي بالناس يعض على خشبة في السفينة ويصرخ، فإذا به بعد قليل سكت وهدأ، فجئنا لنوقظه، فإذا هو قد فارق الحياة الدنيا، وقد قطع بأسنانه شيئاً من خشبة السفينة!!
أي ألم أصابه؟ أي عذاب تعذب به؟ أي خاتمة ختم له بها، هذا جزاء الشهوات تلك نهاية الملذات، إن اللذة قصيرة كاذبة وإن الشهوات اليوم سهلة، وإن كل الناس اليوم يستطيعون بأموالهم أن يفعلوا ما يشاءون من الزنا والخنا وشرب الخمور؛ ولكن تخيل: يأتي يوماً من الأيام بعض العصاة إلى الطبيب، بعد أن أصابه المرض، والطبيب يقول له: يا فلان! إن الأمر سيئ، أخبرني يا طبيب! فيقول له: إنك مصاب بمرض الإيدز، إنه الموت البطيء إنه الانتحار البطيء، لا فكاك ولا مفر، فضيحة وعار وشنار، ثم سوء ختام، تخيل أولئك العصاة! أتعرف كم هم؟ إنهم ملايين -الآن- على وجه الأرض ينتظرون الموت يبحثون عن الدواء والشفاء، لا دواء، ولا شفاء، كل منهم يبكي على فراشه ينتظر الموت، وأين الموت منهم؟ يقول أحد الشعراء:
يا عين فلتبكي ولتذرفي الدما ذنباً أحاط القلب أصغ له سمعا
أين الدموع على الخدين قد سالت فالنفس للعصيان يا رب قد مالت
فيا ترى أصحو من سكرة الشهوة أم يا ترى أبقى في هوة الشقوة
كيف القدوم على الجبار بالزلل أم كيف ألقاه من دون ما عمل
قلبي لما يلقاه قد أن بالشكوى دمعي جفا عيني من قلة التقوى
لكن من أرجوه لا يغلق الباب العفو يا رباه فالقلب قد تاب
أي سعادة يطلبون بالشهوات؟ إن كان أولها حسرة وندامة وآخرها مذلة وهوان فماذا يريدون؟(38/4)
التوبة والرجوع إلى الله تعالى
بعض الدعاة ذهبوا إلى بلد من البلاد اسمعوا إلى هذه العبر واعتبروا من غيركم يحدثني أحد الدعاة عن مجموعة من الدعاة سافروا إلى إحدى الدول الغربية، فلما أتوا إلى مسجد من المساجد، وأخذوا يصلون في المسجد، سألوا الإمام: أتعرف أحد المسلمين حول المسجد وهو لا يصلي؟ فقال لهم: نعم! أعرف جاراً للمسجد وهو من إحدى الدول العربية بل الخليجية، مسلم لكنه لم يأت إلى المسجد يوماً من الأيام.
قال لهم: إنه من أغنى الأغنياء، عنده ملايين، فاذهبوا إليه ربما يهديه الله، يقول الداعية: فذهبنا إليه وطرقنا الباب، فلم يأت، واستمر أحدنا يدق عليه الجرس لعله يخرج، وانتظرنا مدة من الزمن حتى خرج عابس الوجه مكفهراً، قال: ماذا تريدون؟ قالوا بعد أن سلموا عليه: نحن إخوانك جئنا نزورك في الله، قال: وماذا تريدون؟ قالوا: نريد زيارتك، لا نريد إلا وجه الله، قال: وبعد ذلك ماذا تريدون؟ قالوا: نطلب منك أن تأتينا إلى المسجد، قال: إن شاء الله، اذهبوا إلى المسجد وأنا أدرككم، قالوا: لا.
انظر إلى الداعية المصر الداعية النشيط، صاحب الهمة العالية، قالوا: لن نبرح من هذا المكان حتى تأتي معنا، قال: اذهبوا وسوف أتوضأ وآتيكم، قالوا: نحن منتظرون.
سبحان الله! قال: أقول لكم: سوف آتي، قالوا: لن نبرح من هذا المكان حتى تأتينا، قالوا: فذهب ورجع بعد قليل، وقد بدل ملابسه وجاء متوضئاً، وذهب معهم إلى المسجد، وقال: أصلي وأرجع، فلما صلى قام أحد الدعاة أيها الدعاة! انظروا إلى الصادقين المتقين، ما الذي يمنعكم عن هذا الفعل، يقول: وبعد الصلاة جلس، فسمع بعض الآيات والأحاديث وبعض العبر، كان يريد الذهاب ولكن الحديث الجميل أجلسه، وبعد أن أنهى الشيخ كلامه نظروا إليه فإذا عيناه تذرفان، فجلس معهم وقال: أين تذهبون؟ وإلى أي مكان تغادرون؟ قالوا: نحن نتجول في المساجد، من مسجد إلى آخر ندعو إلى الله عز وجل، قال: أنا أريد أن أذهب معكم ما هي الشروط؟ قالوا: لا شروط، تعال واذهب معنا، وفعلاً ذهب معهم، ومرت الأيام حتى أصبح هذا الضال قاسي القلب، من الدعاة إلى الله عز وجل، وسخر ملايينه كلها في الدعوة إلى الله، ومرت الأيام فقال هذا الرجل للشيخ ذات يوم: يا شيخ! أتذكر ذلك اليوم الذي أتيتم فيه إلى منزلي؟ قال: نعم.
قال: أتدري ماذا كنت أفعل؟ قال: لا.
وما يدريني! قال: كنت في ذلك اليوم قد ضاقت عليّ الدنيا جميعها، ملايين لكن الدنيا أظلمت، تعاسة وهم وغم، كنت واضعاً كرسياً في إحدى الغرف، ووقفت على الكرسي وعلقت الحبل في السقف وربطت الحبل في عنقي، وهممت بدفع الكرسي لأسقط، وفعلاً دفعت الكرسي لكنه لم يسقط، فسمعت الجرس، فقلت في نفسي: هل أرد على الباب أو أنتهي من الدنيا؟ فقالت لي نفسي: انتهِ من الدنيا، وجاءني مناد في قلبي يقول لي: لا.
رد على صاحب الباب فربما تجد شيئاً من الأمل، فدفعت الكرسي لكنه لم يسقط، فقلت: أنزل فأرد على الباب ثم أرجع فأنتحر فيقول: أرأيت إنها ثوان معدودة أرسلكم الله عز وجل إليَّ، ولو لم تأتوا إليّ في ذلك اليوم، لانتحرت وساءت خاتمتي.
أتعرف لماذا أراد الانتحار؟ لأن الله عز وجل يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:12].
هذه القصة تذكرني بحديث النبي صلى الله عليه وسلم لما زار جاره اليهودي الذي كان من أشد الناس عداوة له، زاره قبل الموت ودعاه إلى الله عز وجل فأسلم أين الدعاة؟ أين المصلحون؟ لِمَ تسوف؟ لِمَ تقول: غداً أدعوهم غداً أذكرهم؟ وهل تضمنهم أن يعيشوا إلى الغد؟ لماذا الكسل والفتور؟ لِمَ لا نقبل على الناس فندعوهم إلى الله عز وجل؟
أحد الدعاة يحدث بنفسه يقول: كنت في أمريكا في إحدى المحاضرات، وفي منتصف المحاضرة قام أحد الناس فقطع عليّ حديثي -اثنان من المسلمين معهم أمريكي ثالث- فقالوا لي: يا شيخ! انتظر لقن فلاناً الشهادتين، فقلت: الله أكبر! يريد أن يسلم، فقالوا: نعم.
يقول: فاقترب مني، فقال الشيخ للأمريكي: ما الذي حببك إلى الإسلام فأردت أن تدخله؟ لِمَ تريد الدخول في الإسلام وأنت ترى المسلمين؟ فقال له: يا شيخ! أنا أملك ثروة هائلة، وعندي شركات وأموال، أنا مليونير ولكن لم أشعر بالسعادة يوماً من الأيام.
يقول: وكان عندي موظف في شركتي هندي مسلم، هذا الموظف متواضع بسيط، معاشه قليل، والغريب أنني كلما دخلت على هذا الموظف رأيته مبتسماً، وأنا صاحب الملايين لم أبتسم يوماً من الأيام، فقلت في نفسي: كيف هذا؟ أنا عندي الأموال، وأنا صاحب الشركة، والموظف الفقير يبتسم وأنا لا أبتسم، يقول: فجئته يوماً من الأيام، فقلت له: أريد الجلوس معك.
قال: تفضل! الرئيس يجلس مع الموظف، فقلت له: أسألك سؤالاً: لماذا أراك دائماً في ابتسام؟ لم أرك يوماً مهموماً! فقال له: لأنني مسلم (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله).
فقال له: وهل يعني ذلك أن المسلم طوال أيامه سعيد؟
قال: نعم.
قال: وكيف ذلك؟ قال: لأننا سمعنا حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: أي حديث! أخبرني به؟ قال: حديث يقول فيه النبي عليه الصلاة والسلام: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له، وإن أصابه سراء شكر، فكان خيراً له) قال: فأمورنا كلها سراء وضراء، أما الضراء فهي صبر لله، وأما السراء فهي شكر لله، حياتنا كلها سعادة في سعادة.
قال: أريد أن أدخل في هذا الدين.
قال: اشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قال الشيخ أمام الملأ وهو يتكلم بنفسه: فقلت له بعد هذا: اشهد الشهادتين، ولقنته، فقال أمام الملأ: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم انفجر يبكي أمام الناس، فجاء الذين عنده يريدون التخفيف عنه، فقلت لهم: دعوه يبكي، فلما انتهى من البكاء، قلت له: يا فلان! ما الذي أبكاك؟ قال لي: يا شيخ! والله لقد دخل في صدري فرح لم أشعر به منذ سنوات.
قال الله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ} [الزمر:22] إن انشراح الصدر لا يكون بالمسلسلات ولا بالأفلام ولا بالشهوات ولا بالأغاني، كل هذه تأتي بالضيق، إن انشراح الصدر بتلاوة القرآن آخر الليل إن انشراح الصدر بصيام الإثنين والخميس إن انشراح الصدر بالصدقات والنفقات: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22].(38/5)
السعادة الحقيقية ليست في المال
إنها قصص بعضها عبر وبعضها قد ننقلها لغيرنا، احفظ ما شئت، واسمع ما شئت، وانقل بعض هذه القصص لغيرك، فإن الناس قد يتأثرون (ولئن يهدي الله بك رجلاً خير لك من حمر النعم).
فتاة توفي أبوها فورثت مليارات، قد تقول: يا شيخ! ماذا تقصد؟ أقول لك: آلاف الملايين، مليارات، وكانت من أغنى الفتيات في عصرها، وقبل سنوات تزوجت رجلاً أمريكياً عاشت معه فترة ثم طلقها، ثم تزوجت شاباً يونانياً، فمكثت معه فترة، فأتت المشاكل ثم طلقها، ثم مرت الأيام فتزوجت شاباً شيوعياً روسياً أبوها مليونير، قمة الرأسمالية، وتتزوج رجلاً شيوعياً كيف يجتمعان؟ فسألها أحد الصحفيين في أحد اللقاءات، فقال لها: كيف تلتقي الرأسمالية بـ الشيوعية؟ كيف تتزوجين رجلاً شيوعياً؟ فقالت: وما يدريك! أنا أبحث عن السعادة، ولم أجدها إلى هذه اللحظة.
ومرت الأيام فطلقها فتزوجت شاباً فرنسياً، وفي إحدى اللقاءات سألتها إحدى الصحفيات، وقالت لها: هل صحيح أنكِ أغنى فتاة على وجه الأرض؟ قالت: نعم.
آخر الإحصائيات أنني أغنى فتاة على وجه الأرض، لكن أضيف أنني أشقى وأتعس فتاة على وجه الأرض أتعرف لماذا؟ {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] إن السعادة ليست في المال، بعض الناس اليوم أغلى ما يتمنى في الدنيا أن يحصل على الملايين، اسمع أسئلة بعض برامج التلفاز: ماذا تصنع لو ربحت مليوناً؟ ثم هل تظن أن السعادة في المال؟ هل تظن أن السعادة تحصل على مليارات وملايين؟ أتعرف ماذا حصل للفتاة؟ بعد أيام وجدوها جثة هامدة مقتولة في أحد الشوارع!! هذه هي السعادة التي كانت تريد.
أو تظن أن أصحاب القصور سعداء؟
يا من تسكن الغرف، وتنام على الحصير، وتأكل الكسرة اليابسة! لا تتوقع ولا تظن أن السعادة بالملايين! لا وربِّ، إن أسعد الناس هو النبي عليه الصلاة والسلام، وقد كان ينام على الحصير، ويجوع، ويخرج بعض الأحيان من بيته يبحث عن لقمة يسد بها جوعه، أكل ورق الشجر، يخفي بلال الطعام في إبطه ليعطيه النبي عليه الصلاة والسلام؛ ليأكل من الجوع وهو أسعد الناس عليه الصلاة والسلام، ولما خيره الله بين زهرة الدنيا وبين لقاء ربه، قال: (بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى) ولهذا قال الله له: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131].
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول ابن آدم: مالي! مالي! وليس لك يا بن آدم إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت).(38/6)
الانترنت وخطورته
أخي الكريم! هل التفت إلى زوجتك؟ هل نظرت إلى أولادك وأبنائك؟ هل فكرت في إخوانك وأخواتك؟ هل فكرت فيمن خلفت في البيت الآن وأنت تسمعني؟ كيف يقضون الأوقات؟ هل تعرف إلى أين يخرج الأبناء والبنات؟ وعلى ماذا يسهرون؟
إنني أتعجب عندما أعلم أن بعض الآباء لا يعلم عن أبنائه وبناته شيئاً، بل لا يعلم عن زوجته إلى أين تخرج؟!!
اسمع ما الذي حدث لهذه الفتاة!! تقول عن نفسها: كنت من عائلة معروفة ومحترمة، تزوجت من أحسن الشباب، وحسدني الناس على زواجي.
تقول: دللني زوجي، وعشت معه أسعد حياة، حسدني الناس على هذه الحياة اسمع ما الذي حدث؟ وانظر إلى تلك المأساة، تقول: ومرت الأيام حياة سعيدة، سرور وفرح، نخرج ونتمتع في هذه الدنيا، لم يمنعني يوماً من الأيام من شيء طلبته، حتى جاء اليوم الذي تعلمت فيه شيئاً يسمى (الإنترنت) أسمعتم به؟ أظن أن بعض البيوت قد امتلأت بهذا الجهاز، تقول: فجاءني زوجي بالكمبيوتر بعد إلحاح شديد، وعلمني على الإنترنت، وكانت لي صاحبة تعلمني على كيفية استخدامه، ومرت الأيام حتى تعلمت ما يسمى (غرف المحادثة) دردشات وغيرها، فبدأت أتحدث مع الناس وزوجي يذهب إلى العمل وأجلس ساعات الصباح طولها وعرضها أمام الكمبيوتر عند (الإنترنت)، وكنت امرأة صالحة، لم أكن أفعل شيئاً من الحرام تقول: وكان أكثر حديث الناس في الإنترنت حديثاً ساقطاً ولا آبه به، حتى التقيت بشاب في (الإنترنت) كان من أفضل الشباب خلقاً، فكان يحدثني وأحدثه، وتقول: كيف أن بعض الآباء لا يدري أن بعض الغرف في (الإنترنت) صوت وصورة، تراه ويراها، حتى لا تحتاج البنت إلى أن تخرج من البيت، وبعض الغرف في (الإنترنت) فيها فساد الله أعلم به، وأنا لا أريد أن أفصل، حتى لا يستدل البعض على الحرام.
تقول: وبعدها أخذت أتحدث مع الشاب كل يوم، ولم أفكر بالحرام يوماً، حتى تعلق قلبي به، فبدأت المشاكل تظهر مع زوجي، ساعات طويلة على الإنترنت، وكنت أحب زوجي، كان شاباً من أجمل الشباب وأحسنهم، ولكن أحببت ذلك الشاب أيضاً، ومرت الأيام حتى بدأ يواعدني إن طلقني زوجي أن يتزوجني، فظهرت المشاكل بيني وبين زوجي، فأخذ الكمبيوتر وحرمني منه، وشك فيّ بعد زمن، وأخذت أكلم صاحبي بالهاتف، فشك زوجي فيَّ ووضع جهاز تصنت على الهاتف، وبعد أيام اكتشف الفضيحة، وعلم بالأمر، تقول: وكان من أطيب الناس، لم يفضحني ولم يفعل فيّ شيئاً، فجاء إليَّ ووضع المسجل وسمعت منه المحادثة، فقلت له بعد أن بكيت: ماذا تريد؟ قال: اذهبي إلى بيت أهلك واطلبي الطلاق، وسوف آتي وأطلقك، وكأن الأمر لم يحدث.
تقول: أحببته ولكن أحببت عشيقي أيضاً، وفعلاً ذهبت وطلبت من أهلي أن يطلقني زوجي، وفعلاً دمرت بيتي بنفسي.
تقول: وبدأت أخرج مع العشيق، وكانت البداية من الإنترنت وألتقي معه، حتى بدأ يعاشرني، حتى بدأ يواقعني، واستمرت الفاحشة أياماً وشهوراً، وكلما كنت أقول له: متى الزواج؟ يقول لي: حتى أكون نفسي، آتي إليك غداً أو بعد غد حتى انقطع عني في يوم من الأيام، فاتصلت عليه فقلت له: يا فلان! متى تأتي للزواج مني؟ قال: أيتها الساقطة، قلت: ماذا؟ قال: أيتها الساقطة، أتظنين أحداً يفكر بالزواج منك؟ قالت لِمَ؟ قال: من خانت مرة ربما تخون مرة أخرى، وقال: أنا شاب أستمتع بك أياماً، لكن إذا فكرت في الزواج لن أبحث عنه في الإنترنت، الزواج أعرف طريقه، الصالحات أعرف طريقهن، أما أنتِ فساقطة أقضي معها بعض الوقت فقط.
تقول الشابة: وأنا الآن قد تجاوزت الثلاثين من العمر، ولم يأت أحد لخطبتي ولا للزواج مني، ضاعت حياتي وأنا الآن أفكر بالانتحار!! تقول: وأنا أكتب الرسالة، وربما تصلكم وأنا منتحرة، وربما تسمعون حكايتي وأنا تحت التراب، فإن كنت قد مت فادعو لي بالمغفرة، وإن كنت لا زلت حية فادعو الله لي بالهداية، لعل الله عز وجل يهديني: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21].
بدايتها الإنترنت، وليس كل ما في الإنترنت حرام، هناك أمور صالحة، هناك دعوة إلى الله في الإنترنت، وطلب علم، ولكن انتبه! واحرص على أولادك، وانظر ماذا يشاهدون؟ وماذا ينظرون؟ حتى الهاتف، إنه سلاح ذو حدين، عندما تجلس الفتاة في غرفتها وتقفل على نفسها الباب، وتجلس في الغرفة إلى منتصف الليل تتكلم بالهاتف، ألا يدعو هذا إلى الشك والريبة؟ أين الأب والأم؟ أين الأولاد؟ وعندي قصص -والله- لو تكلمت إلى الفجر فلن أنتهي، كلها حقيقية، وفتيات بعضهن تكلمني بنفسها في الهاتف، والله يبكون الدم وليس الدمع، من المآسي التي وصلت إليها، وأولها اتصال، وربما نظرة، تقول بعضهن: أول ما خرجت من المدرسة إلى البيت، نهاية الدوام، نظر إليّ فكلمني، تقول: أول مرة ارتعدت فرائصي وارتجفت وخفت، ولكنها النهاية، تقول: وأنا الآن في وكر الرذيلة، أتعرف ما هو السبب؟ إنها خطوة بعد أخرى {لا تتبعوا خطوات الشيطان} [النور:21].(38/7)
أي الخاتمتين تريد؟
أخي الكريم! أختي الفاضلة! أي الخاتمتين تريد؟ أليس لهذه الحياة نهاية، أليس كل منا سوف يموت هل فكرت على أي حال سيقبض الله عز وجل أرواحنا؟ هل فكرت على أي حال تريد أن تلقى الله؟ ألا تعلم أنه ما من ميت يموت إلا بعثه الله على ما مات عليه؟(38/8)
الخاتمة السيئة
اسمع إلى هذا الطبيب والقصة غريبة، يقول هذا الطبيب: كنت في إحدى المستشفيات في كندا -وهو مسلم- وفي يوم من الأيام لفت انتباهي في أسماء المرضى في العناية المركزة شاب اسمه فلان بن فلان، اسم من أسماء المسلمين، يقول: ففرحت، فذهبت إليه ونظرت إلى حالته، وللأسف! إنه مصاب بالإيدز وهو ينتظر الموت.
يقول: فجلست عنده، واتصلت على أمه بالهاتف، فقلت لها: أنتِ أم فلان؟ قالت: نعم.
قلت لها: ائت إلينا الآن أريد أن أتكلم معك، قالت: أنا مشغولة، عندي تجارة وأعمال، يقول: وأنا أتكلم معها سمعت جرس الإنذار على سرير المريض، فقلت لها: الآن تأتينا فالأمر ضروري جداً.
يقول: وبعد ثلاثين دقيقة أتت، والأطباء عند رأس المريض، وبعد أن أخبرتها بالأمر، بكت وانهارت لما علمت أن ولدها سوف يموت، فقلت لها: اذهبي إليه، واقرئي عليه شيئاً من القرآن، فتعجبت وقالت: أو أنت مسلم؟ قلت: نعم.
قال: اقرئي عليه شيئاً من القرآن، قالت: والله لا أحفظ آية من القرآن، قلت لها: فكيف تصلين؟ قالت: نحن أسرة متدينة، لكن لا نصلي إلا العيد.
فقلت لها: أي دين هذا؟ قالت: نحن محافظون ومن أسرة متدينة، ابني كان عفيفاً وكان مستقيماً، ومرت الأيام ولم ينحرف إلا بعد أن تعرف على تلك الفتاة، وربما يسمع حديثي هذا من يعيش في بلاد الغرب، ربما أجبرته ظروفه على أن يعيش هناك، ولكن ينتبه على نفسه، فقلت لها: ائت معي نجلس عند رأسه، ربما نقرأ عليه شيئاً من القرآن، يقول: وذهبت عند رأسه وكانت حالته سيئة، يفيق ساعة ويغيب ساعة أخرى، ويتألم ألماً شديداً، والأطباء عند رأسه يقول: فلما أفاق رأيت وجهه قد اسود وأظلم، وعيناه تدمعان، فأخذت أكلمه وأقول له: قل: لا إله إلا الله أتعرف ماذا كان يقول؟ كان يقول: أين صديقتي؟ كنت أقول له: قل: لا إله إلا الله، فيقول لي: أين صديقتي؟ ولا زال على هذه الحال، وكان يقول: أريد مسكناً والألم شديد، فقلنا: لا ينفع معك مسكن ولا غيره، هذه اللحظات الأخيرة، وأنا أقول له: قل: لا إله إلا الله، وهو يقول: أين صديقتي؟ ائتوني بصديقتي، وهو يبكي على صديقته، حتى خرجت روحه وهو يقول: أين صديقتي؟ فلما مات انفجرت بالبكاء، ثم التفت إلى أمه فقلت لها وأنا أبكي: أنتم السبب، ضيعتم الأمانة، أعطاكم الله ولداً على الفطرة فانظروا إلى أي حال أوصلتم ابنكم (فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه) {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21].(38/9)
الخاتمة الحسنة
على النقيض من ذلك! يتحدث طبيب آخر ويقول: في لحظة من اللحظات جاءتنا في الطوارئ امرأة عمرها خمس وخمسون سنة والأطباء عندهم قصص غريبة؛ لأنهم يرون الأموات يرون الرجل في أول خطوة في العالم الآخر، يقول: فإذا امرأة عجوز عمرها خمس وخمسون سنة، فيها ذبحة صدرية، فوضعناها على الفراش، قلبها متوقف لا ينبض، فجئنا بالأجهزة الكهربائية، فوضعناها على صدرها مرة ومرتين وثلاث وأربع ربما يرجع نبض القلب، يقول: وفعلاً بعد أكثر من صدمة رجع نبض القلب مرة أخرى، أتعرف ما الذي حصل؟ يقول: فتحت عينيها ثم قالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله يقول: ففرحت، ثم أغمضت عينيها وماتت يقول: وكأن الله عز وجل رد روحها لتنطق الشهادتين، وهذه أغرب قصة وجدتها في المستشفى في حياتي {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] يقول الطبيب: بعد أن فرغنا من الجنازة، ذهبت إلى زوجها بعد أيام، فقلت له: أخبرني ما شأن هذه المرأة؟ قال الرجل: هذه زوجتي منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاماً لم تترك قيام الليل أبداً، إلا أن تكون معذورة العذر الشرعي.
قال بعضهم:
إذا ما الليل أقبل كابدوه فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا وأهل الأمن في الدنيا هجوع
لهم تحت الظلام وهم ركوع أنين منه تنفرج الضلوع(38/10)
صور للخاتمة الحسنة والسيئة
أربعة شباب ما صلوا ولا صاموا ولا ذكروا ربهم، بعد إجازة ماجنة، كانوا في سيارة في إحدى الطرق السريعة، فانقلبت بهم السيارة، فمات ثلاثة من ساعتهم، أما الرابع فأدركه رجل المرور، فجاء إليه وقد تمزق جسمه والدم يسيل، وهو يحتضر ويلفظ أنفاسه الأخيرة، قال الشرطي النبيه العاقل: يا فلان! قل: لا إله إلا الله، قل: لا إله إلا الله! أتعرف بم رد عليه؟ قال وهو ينظر: هو في سقر، هو في سقر، هو في سقر.
ثم مات وهلك: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42 - 43].
بل اسمع إلى هذا المرابي، كان يأكل الربا في حياته ولا يبالي به، وقبل الموت قيل له: يا فلان! قل: لا إله إلا الله، فقال: عشرة بخمسة عشر، قال: يا فلان! قل الشهادتين، قال: عشرة بخمسة عشر، قال: قل: لا إله إلا الله، قال: عشرة بخمسة عشر، ثم مات وهو يلفظ الربا {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ} [البقرة:27] أي: يوم القيامة {لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} [البقرة:27].
اسمع إلى هذا الرجل في إحدى المؤتمرات في دولة خليجية، كان هناك شابٌ صالح عسكري واقف مع الجنود، يقول صاحبه: كان أمامي وكان دائماً يذكرنا بالصلاة، وكان في الصف العسكري جالساً، والرجل الذي بخلفه يعبث بالسلاح، وذلك قبل أن يدخل الرؤساء، وكنت بجانبه، يقول: وأثناء عبثه بالسلاح أخطأ فانطلقت رصاصة من سلاحه، فوقعت على رأس صاحبي من الخلف، فسقط على الأرض، فوالله لقد رأيت مخه قد خرج من رأسه، وكان السلاح قوياً؛ لأنه كان قريباً من الرأس، يقول: خرج المخ من رأسه قطعة واحدة، فلم أتدارك نفسي إلا وأنا عنده، فنظرت إليه وهو في أنفاسه الأخيرة، فقلت له: يا فلان! قل: لا إله إلا الله، كيف يقولها والمخ قد خرج من الرأس؟ أي ذاكرة؟ أي عقل؟ أي مخ؟ يقول علماء الطب: انتهت الذاكرة كيف يتكلم؟ يقول: والله لقد رأيت مخه خارج رأسه وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.
يقول: ثم خرجت نفسه من جسده إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، إن شاء ثبتها، وإن شاء أزاغها، ذلك بأنهم زاغوا: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5].(38/11)
أثر الدعاء
اسمع يا أخي الكريم أيها الأخ العزيز! يا من أصيب بالمرض! اسمع إلى هذا الرجل الذي أصيب بمرض رجل دكتور في إحدى الجامعات في مصر، وهذا الرجل كان يعرف ربه جل وعلا، ذهب إلى إحدى البلاد الغربية بريطانيا، ففحصوا جسمه وقالوا: إن مرضك شديد، والقلب ضعيف، ولا بد من عملية جراحية خطرة، ربما تعيش أو لا تعيش، قال: أذهب إلى أولادي وأرجع الأمانات إلى أصحابها وأستعد ثم آتيكم.
قال الأطباء: لا تتأخر؛ لأن حالتك شديدة، فرجع إلى بلده وجلس عند أولاده وأخذ يصبرهم، فربما لا يرجع إليهم مرة أخرى، وسلم على من يشاء، واستعد للقاء الله عز وجل يقول: فذهبت يوماً من الأيام عند أحد أصحابي لأسلم عليه في أحد المكاتب، وكان عند المكتب جزار، فنظرت وأنا جالس في المكتب عند الجزار إلى امرأة عجوز، بيدها كيس تجمع العظام والشحم واللحم الساقط على الأرض من القمامة، فقلت لصحابي: انتظر! وذهبت إلى العجوز، واستغربت من حالها! فقلت لها: ماذا تصنعين؟ فقالت: يا أخي! أنا لي خمس بنيات صغيرات لا أحد يعولهن، سنة كاملة لم تذق بنياتي قطعة من اللحم، فأحببت إن لم يأكلن لحماً أن يشممن رائحته!
يقول: فبكيت من حالها، وأدخلتها إلى الجزار، وقلت للجزار: يا فلان! كل أسبوع تأتيك هذه المرأة فتعطيها لحماً على حسابي، فقالت المرأة: لا، لا نريد شيئاً فقال: والله لتأتين كل أسبوع، فتأخذي ما شئت من اللحم، قالت المرأة: لا أحتاج أكثر من كيلو واحد، قال: بل اجعلها اثنين كيلو، ودفع مقدماً لسنة كاملة، تأتي المرأة كل أسبوع تأخذ اثنين كيلو من اللحم، يقول: ورجعت إلى البيت فأحسست بالسعادة؛ لأنني عملت عملاً فرحت به، فلما دخلت إلى البيت جاءت ابنتي، وقالت لي: يا أبي وجهك متغير، كأنك فرح، فلما أخبرتها بالقصة أخذت تبكي، وكانت ابنتي عاقلة، فقالت: يا أبي! أسأل الله أن يشفيك من مرضك كما أعنت تلك المرأة.
يقول الرجل: ولما أعطيت المرأة ثمن ذلك اللحم أخذت تدعو لي وهي تبكي، يقول: فأحسست بنشاط كبير، وهمة عالية، فلما ذهبت إلى الأطباء لأجري العملية، قال الطبيب مغضباً: أين تعالجت؟ فقلت: ماذا تقصد؟ قال: أسألك أين ذهبت؟ إلى أي مستشفى؟ قال: والله ما ذهبت إلى مستشفى، وإنما سلمت على أولادي ورجعت، قال: هذا غير صحيح، قلبك ليس به مرض أبداً، قال: ماذا تقول يا طبيب؟ قال: أنا أخبرك أن القلب سليم، إما أن يكون الرجل لست أنت، أو أنك ذهبت إلى مستشفى آخر، ثم قال: أرجوك أن تعطيني دواءً من الذي أخذت.
قال: والله لم آخذ شيئاً، إلا دعاء امرأة عجوز وبنتي الصالحة.
أتعرف لِمَ؟ لأن الله عز وجل يقول: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} [المزمل:20].(38/12)
قصة من الشيشان
وهذه قصة حدثت في الشيشان، وسوف أنقلكم إلى بلد آخر، وإلى مجتمع آخر، إلى أناس عانوا الويلات ثم الويلات، تخيلوا ذلك البيت في إحدى الليالي، طرق الباب بقوة رجل وامرأة وعنده بنت فتاة شابة، وولد صغير، فطرق الباب بقوة، من؟ إنهم الروس (الشيوعيون) في آخر الليل، ما فتحوا الباب إنما كسروه ودخلوا البيت في آخر الليل، فهب الأولاد من نومهم، الشابة والصبي، ما الذي حدث؟ أخذ الأب بقوة، وضرب أمامه الأولاد، ثم قيد واغتصبت الأم والشابة أمام مرأى الأب والصبي الصغير صبي صغير يبكي ويصيح لكن ماذا يصنع وماذا يفعل؟! ولما اغتصبت الأم والفتاة والأب ينظر وضعوا السلاح في رأس الأب ثم قتلوه، ثم خرجوا يمشون يقول الشاعر عن هذا الطفل بلسان حاله، وكأنه يكلم جثة أبيه:
نسبى ونطرد يا أبي ونباد فإلى متى يتطاول الأوغاد
وإلى متى تدمي الجراح قلوبنا وإلى متى تتقرح الأكباد
نصحو على عزف الرصاص كأننا زرع وغارات العدو حصاد
أو ما لنا في المسلمين أحبة فيهم من العازي الميت سداد
يا ويحنا ماذا أصاب رجالنا أو ما لنا سعد ولا مقداد
أواه يا أبتي على أمجادنا يختال فوق رفاتها الجلاد
لا تخش يا أبتي عليّ فربما قامت على عزم الصغير بلاد
ميعادنا النصر المبين فإن يكـ ـن موت فعند إلهنا الميعاد
دعنا نمت حتى ننال شهادة فالموت في درب الهدى ميلاد
أسمعت بقصص مثل هذه في البوسنة والشيشان، وفي غيرها من بلاد المسلمين؟ أين المعتصم؟ أين شباب المسلمين؟ أين الذين انغمسوا في الشهوات؟ لا هم لهم إلا الشهوة، والكأس والخمر، إلى متى يعيشون في هذه الحياة؟(38/13)
هذا زرعك وهذا حصادك
ونختم بقصة محفظ، يقول المحفظ: كانت عندي حلقة في أحد المساجد، ودخل علينا شاب وكان يجلس وفي بيده مصحف كأنه يريد الحضور معنا، ولكنه مستحياً، فجئته يوماً فقلت له: أتحب أن تشاركنا، قال: أنا أحب القرآن، وأتمنى أن أشارككم، وفعلاً دخل الشاب وكان عمره خمسة عشر عاماً، فصار من أنشط الشباب في حفظ القرآن، حتى جاء اليوم الذي بدأ يغيب فيه، فجئته يوماً وتمشيت معه عند البحر، وقلت له: ما الذي جرى لك؟ ما الذي حدث؟ قال الشاب: إن أبي لا يحب الملتزمين، ولا يحب أهل القرآن، وفي يوم من الأيام اكتشف أني معكم في حلقات القرآن، وكنت على العشاء، ودخل في ليلة من الليالي عبوساً مغضباً، فدخل وجلس ولم يتجرأ أحد منا على الكلام، كعادته، فقال لي: يا فلان! سمعت أنك تمشي مع المطاوعة! فقلت له: نعم يا أبي! فإذا به يأخذ إبريق الشاي، فرماه في وجهي -وعمره خمسة عشر عاماً- يقول: ولم أجد إلا حضن أمي يحتضنني، ومرت الأيام وأنا صابر، حتى جاءني اليوم الذي كنت فيه على العشاء، وأردت الأكل، فقال لي: يا فلان! قم ولن تأكل معي يوماً من الأيام على سفرة واحدة.
يقول: فقمت ومشيت، ولما مشيت دفعني فسقطت على الأرض، وعمري خمسة عشر عاماً، فقلت: سوف أكبر يا أبي وسوف أرد لك الضربة ضربتين، وسوف أفعل فيك كما تفعل فيّ الآن، فقلت له: يا فلان! هذا أبوك والبر مطلوب، مهما فعل الأب، فإن فضله كبير، يقول: فصبرته وقلت: سوف أزور أباك غداً، وجئت في اليوم الثاني وطرقت الباب، ففتح الباب بقوة، فلم أبدأ بالكلام، حتى قال لي: ربما أنت الذي تحفظ ولدي، قلت له: نعم.
قال: إن رأيت ابني معكم يوماً من الأيام كسرت رجلك التي تمشي عليها، فلما أردت الذهاب بصق في وجهي ثم دخل، فقلت في نفسي: لقد فعل برسولنا عليه الصلاة والسلام أكثر من هذا فصبر، ولست أفضل منه.
يقول: وفعلاً انقطع خالد عن الحلقة، ومرت السنون والأعوام، وفي ليلة من الليالي صليت العشاء، وبعد الصلاة جاءني رجل كبير، فسلم عليّ فنظرت إليه فإذا هو أبو الشاب، فوجدت وجهه قد تغير، فقال لي: أريد أن جلس معك، فقلت له: كيف خالد؟ فبكى وقال: تعرف خالد لقد تغير، تعرف على رفقة من الرفق السيئة، وأصبح لا يأتي إلينا إلا منتصف الليل، عيناه أصبحت حمراوتان، وجهه تغير، وجسمه أصبح نحيفاً هزيلاً مضطرباً، وبدأ يرفع صوته عليّ، وفي يوم من الأيام لما بدأت أهدده حتى لا يذهب مع أصحاب السوء، فلقد وقع في المخدرات والرذيلة، ولما هددته ضربني بيده، قال: هل تصدق ابني يضربني! يقول: فلما انتهى من حديثه قلت له: ماذا تريد؟ قال: أريد أن يرجع معكم إلى الحلقة، أن يرجع معكم إلى تحفيظ القرآن، قلت له: يا فلان! هذا زرعك وهذا حصادك، اجني حصادك اليوم على ما زرعت يداك، ثم قلت له: لا بأس سوف نحاول في ولدك، ولكن هذا ما جنته يداك.
مشى الطاوس يوماً في اختيال فقلد شكل مشيته بنوه
قال علام تختالون قالوا سبقت به ونحن مقلدوه
وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه
قال الله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93].
أخي العزيز! عندي قصص كثيرة ربما لم أذكر إلا نصفها، لكن أدعها لجلسة أخرى، ولكن اجعل هذه القصص عبرة لنفسك، ثم انقلها لغيرك، فربما يتعظ بعض الناس بقصة، وربما يعتبر بعض الناس بهذه الأحاديث ويجعل منها عبرة، انقلها إلى غيرك، ربما يهدي الله عز وجل على يديك بعض الناس.
أسال الله عز وجل أن تكون هذه القصص لنا ولغيرنا عبرة.
أقول هذا القول، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(38/14)
كفى بالموت واعظاً
كفى بالموت واعظاً حول هذا الموضوع تكلم الشيخ حفظه الله؛ مبيناً أن الموت حقيقة لابد منها، ثم تكلم عن مواقف من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لنأخذ العبرة والعظة منها، موضحاً الفرق بين الحسنة والسيئة وذاكراً بعض الصور لهما، وفي الأخير ذكر أنه لابد من الاستعداد للموت بالأعمال الصالحات.(39/1)
حقيقة الموت
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون! إن الموت حق، وإن الدنيا إلى زوال، وإن اللحظات التي تمر الآن، والدقائق التي تمضي تقربنا إلى آجالنا، والله عز وجل قبل أن ينادي الناس لصلاة الجمعة، وقبل أن يأمرهم أن يذهبوا إلى خطبة الجمعة وإلى صلاتها واستماع الذكر فيها، أمرهم أن يتذكروا قضية الموت، فقال سبحانه: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة:8] مهما فررت ومهما هربت سل الأموات: هل كلكم مات مريضاً؟ هل كلكم مات كبيراً؟ هل كلهم مات بسبب أم أن كثيراً من الأموات مات هكذا؟ إنه لم يكن مريضاً، لم يكن كبيراً، لم يكن شيخاً، لم يمت بسبب إنما مات فجأة، كما قال الله جل وعلا: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78] ولو كنت في المستشفى، أو بين الأطباء، أو بين الأحباب، ولو كانت عندك الأماني والأحلام {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} [النساء:78].(39/2)
مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته
في شهر صفر من السنة الحادية عشرة للهجرة مرض أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام، فسقط على الفراش، فجاء أهله وأحبابه يمرضونه ويجلسون عند رأسه؛ فاستأذن زوجاته أن يبيت عند أحب الناس إليه الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها، فجلس عندها تمرضه، وربما سُكِبَ الماء عليه لتخفض درجة الحرارة عنده صلى الله عليه وسلم، فأصيب بالحمى الشديدة، حتى قيل له: إنك تمرض لا كالناس.
قال: نعم.
أمرض لا كمرضكم، ثم أمر الصحابة أن يجعلوا أبا بكر يصلي بهم، فقال: (مروا أبا بكر فليصلّ بالناس) فلما صلى أبو بكر بالناس فتح النبي صلى الله عليه وسلم الستار، ولم يكن بينه وبين المسجد إلا ستار، ففتحه ونظر إلى أصحابه وهم يصلون خلف الصديق رضي الله عنه؛ فابتسم وفرح وقال: (يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) لا يرضون إلا بـ أبي بكر رضي الله عنه، هي إمامة في الصلاة لكنها الإمامة والخلافة، وقيادة الأمة.
ويرجع النبي عليه الصلاة والسلام إلى فراشة، وتمر الأيام، ويخيم على المدينة حزن شديد أين رسولهم؟ أين نبيهم؟ أين حبيبهم؟ أين قائدهم؟ ما باله لا يصلي بنا؟ ما الذي ألم به؟ ما الذي جرى له؟ وتمر الأيام فيزداد كربه، فتدخل عليه فاطمة -رضي الله عنها- فتبكي وتقول: (واكرب أبتاه! واكرب أبتاه! فيقول لها: يا فاطمة! لا كرب على أبيك بعد اليوم).
وفي أيامه الأخيرة يذهب إلى البقيع قبل أن يشتد به المرض، ويستغفر لأموات المسلمين لم يبقَ إلا هذه الأيام وهذه السويعات، يذهب إلى المقبرة فينظر إليه أحد الصحابة في الليل فيقول له النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله خيرني بين البقاء في الدنيا والملك وبين لقاء ربي والجنة.
فقال الصحابي: يا رسول الله! اختر البقاء في الدنيا والملك، قال: لا.
بل اخترت لقاء ربي والجنة).
وقبل أن يشتد به المرض قال في آخر خطبة له بين الصحابة: (إن عبداً خيره الله بين زهرة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند الله) فسكت الصحابة، وإذا بأحدهم يبكي وينفجر بالبكاء؛ فينظر الصحابة فإذا هو أبو بكر، علم أن المخير هو رسول الله، خيره الله بين الدنيا وبين لقائه، فاختار النبي عليه الصلاة والسلام لقاء الله عز وجل.
اشتد المرض، وظل أبو بكر يصلي بالناس ثلاثة أيام، ثم جاءت الساعات الأخيرة، فاختار النبي صلى الله عليه وسلم وأبى إلا أن يموت ورأسه في حضن عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها، فوضع رأسه في حجرها لما ألم به المرض، واشتد به الكرب، وضاقت به الدنيا لم تضق به إلا ورأسه عند عائشة رضي الله عنها، ودخل أخوها عبد الرحمن فرآه النبي صلى الله عليه وسلم يتسوك، قالت عائشة: (فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم.
فأخذت السواك فقضمته وطيبته ثم دفعته إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فاستاك به، ثم نظر إلى السماء، ثم قال: بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، ثم لفظ الشهادة، ثم فاضت روحه الطيبة إلى بارئها).(39/3)
موقف الصحابة من نبأ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
مات النبي مات الرسول ذهب الحبيب إنها أعظم مصيبة على وجه الأرض، كيف لا وهو أحب إلينا من آبائنا وأمهاتنا وأبنائنا؟ مات عليه الصلاة والسلام ووضعته عائشة على الفراش وغطته، وانتشر الخبر بين الصحابة، فإذا بالصحابة بين مصدق ومكذب، أما عمر فلحبه للنبي صلى الله عليه وسلم قال: [من زعم أن محمداً قد مات فلأضربنه بهذا السيف، إن محمداً ما مات، بل ذهب يناجي ربه كما وعد الله عز وجل موسى وسيرجع] والصحابة لا يدرون ولا يعرفون هل مات حقاً أم لم يمت؟ فسمع أبو بكر بالخبر، فأسرع إلى بيت ابنته عائشة فاستأذن ودخل؛ فلما رآه قد غطي بالفراش أزال الغطاء عن وجهه ثم قبله بين عينيه، ثم قال: [طبت حياً وميتاً -يا رسول الله- والله لا يذيقنك الله الموت مرة أخرى] يقبله أبو بكر، ويتذكر أياماً قام فيها على الصفا يقول: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، يتذكر أياماً وهو يطوف حول الكعبة وحولها ثلاثمائة وستون صنماً يتذكر أياماً كان يقودهم في المعارك وفي الجهاد في سبيل الله، ويقول: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) يتذكر أياماً يبكي النبي صلى الله عليه وسلم بين أيديهم وهو يعظهم، فتذرف العيون، وتدمع القلوب يتذكر أياماً يجلس النبي صلى الله عليه وسلم بينهم فيضحك الصحابة ويبتسم عليه الصلاة والسلام يتذكر أياماً يسلم النبي صلى الله عليه وسلم على الصبيان، ويمسح على رأس الأيتام، ويجلس مع الوفود يعلمهم دين الله عز وجل أين هذا الرسول الذي كلما ألمت بنا المصائب ذهبنا إليه وجلسنا عنده يعلمنا ويفهمنا ويجيبنا إذا سألناه أو استفتيناه أين هذا النبي؟
لقد غادر الحياة الدنيا، فدمعت عينا أبي بكر، وخرج إلى الناس وهم بين مصدق ومكذب ومذهول ومتعجب! هل هذا الخبر صحيح أم لا؟ نظر إلى عمر وهو يهدد الناس، فقال: يا عمر! اجلس، وعمر لا يسمع الكلام ولا يعلم ما الخبر، كان يقول: [من زعم أن محمداً قد مات ضربته بهذا السيف] فقال: يا عمر! اجلس، فلم يجلس، فقام أبو بكر في الناس خطيباً، فاجتمع الناس عنده لا يجتمعون عند غيره رضي الله عنه، فجلس الناس فقال: [أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم قرأ قول الله عز وجل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] يقول الصحابة: كأننا أول مرة في حياتنا سمعنا هذه الآية، وكأننا ما سمعناها من قبل، فردد الصحابة بين الناس: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:144]].
ومن هول الصدمة ظل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام وليلتين لم يدفن، والناس يصلون عليه ويستغفرون له ويتشاورون: ماذا نصنع؟ غاب القائد غاب القدوة غاب الحبيب، ثم دفن، فقال أنس: [لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أنار في المدينة كل شيء، ولما مات أظلم في المدينة كل شيء] تقول ابنته فاطمة وهي تبكي: كيف استطعتم أن تحثوا التراب على وجه رسول الله؟ كيف فعلتموها؟ كيف دفنتموه؟ قال الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
من كان يظن أنه سيخلد في هذه الدنيا فليعلم أن أحب الناس إلى الله قد مات، وأن أفضل خلق الله قد مات، فلن يبقى في الدنيا أحد: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34] أيظن أولئك الذين يجمعون الأموال، ويكدسون الأرصدة، ولا يبالون بالأموال أهي من حلال أم من حرام {الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} [الهمزة:2 - 3] لا تظن -يا عبد الله- أن الأموال تبعدك من الموت، وأن الرياضة تبعدك من الموت! نعم.
نحن نبذل الأسباب، ولكن الموت حق {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد:38] {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} [ل عمران:145].(39/4)
الخاتمة الحسنة والخاتمة السيئة
اعلم -يا عبد الله- أن من الناس -والعياذ بالله- من يموت ولكنه على سوء ختام، فهذا رجل مات وهو يشتم ربه جل وعلا، أصيب بمرض فاشتد به المرض فقيل له: قل: لا إله إلا الله، فقال: ربي هو ذا يظلمني! أرأيت؟! يسب ربه قبل أن يموت، وصاح وهو يقولها: ربي هو ذا يظلمني!
ومنهم من تأتيه البشارة في الدنيا قبل الآخرة، يموت وهو يسبح الله، ومنهم من يموت وهو يصلي، ومنهم من يموت وهو ساجد، ومنهم من يموت وهو يقرأ القرآن كـ عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- الذي مات وهو يقرأ قول الله عز وجل: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] ثم خرجت روحه.
أسمعت بـ هارون الرشيد؟ هارون الرشيد كان يحج عاماً ويجاهد عاماً، وعمل من الصالحات الكثير والكثير، ومات وهو يبكي ويقول: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة:28] ماذا استفدت من أموالي؟ ماذا استفدت من هذه الثروات؟
{مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29].
بل اسمع -يا عبد الله- إلى بشر قد ماتوا وهم يتعاطون المخدرات، يقول لي أحد رجال الداخلية: لما اقتحمنا الشقة وكسرنا الباب وجدت رجلاً قد مات قبل أيام وقد تعفنت رائحته، وامتلأت الحشرات والدود في جسمه، مات قبل أيام ولم يصلِ عليه أحد، مات قبل أيام ولم يستغفر له أحد، مات قبل أيام ولم يشعر به أحد، يقول: الغريب أنني وجدته على هيئة سجود وأمامه إبر المخدرات {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء:35] هل أنت منهم أم لست منهم؟ كأنني أراك تظن أنك لست منهم، كأنني أراك تعمل عملاً وتظن أنك لست بميت، ونحن في الحقيقة أموات ولسنا بأحياء، ألم يقل الله لنبيه ولصحابته وهم أحياء: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] فمالي أراك لا تستعد لقبرك لا بشيء من قيام الليل، ولا بصيام النهار، ولا بقراءة القرآن، ولا بالباقيات الصالحات أين الباقيات الصالحات؟ أين قولك: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وذكرك لله جل وعلا؟ مالي أراك كأنك مخلد في الدنيا وكأنك تعيش حياة من لا يموت؟! اسمع إلى نبي الله سليمان كان جالساً بجانبه رجل، فدخل عليهم رجل ثالث، فلما دخل الرجل الثالث أخذ ينظر إلى صاحب سليمان نظراً محدقاً مفزعاً، فخاف صاحب سليمان، فلما خرج الرجل الثالث قال صاحب سليمان: يا نبي الله! من هذا الذي دخل؟ قال: لم تسأل؟ قال: رأيته ينظر إلي نظراً مخيفاً.
قال: هذا ملك الموت.
قال: يا نبي الله! احملني إلى أي بلد بعيدة فإني أخاف منه -وقد سخر الله له الريح والجن- فحمله إلى بلاد بعيدة في أقصى الدنيا، فلما نزل في تلك البلاد قبض ملك الموت روحه، فرجع ملك الموت إلى سليمان، فقال سليمان عليه السلام: يا ملك الموت! أخبرني عن قصة هذا الرجل.
قال ملك الموت: هذا قصته عجيبة! قال: وما عجبها؟ قال: هذا رجل أمرني ربي أن أقبض روحه بعد لحظات في بلاد بعيدة، فوجدته عندك فتعجبت، وقلت: كيف يأمرني ربي أن أقبض روحه في تلك البلاد البعيدة وهو جالس عندك؟! فعجبت من أمره وقلت: أمر الله لا يتخلف، فذهبت إلى تلك البلاد البعيدة فوجدته ينتظرني!! {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8].
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(39/5)
الاستعداد للموت
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام: الموت حق، وقل للأموات جميعاً إن كانوا يجيبون: هل منهم من قضى حاجته؟ هل منهم من أدرك آماله وأحلامه؟ هل منهم من حقق أمنياته؟ لا أظن هذا، بل أكثر الناس لو خرجوا من قبورهم لندموا على حياتهم على جلسة لم يذكروا الله فيها، فكيف بجلسة فيها حرام؟ كيف بسهرة فيها حرام؟ كيف بليلة حمراء يعاقرون الحرام، ويشربون الحرام، ويأكلون الحرام؟
تواعد ثلاثة نفر في ليلة حمراء يفعلون الفواحش -أجاركم الله- ويشربون الخمور، وفي الثلث الأخير من الليل قال أحد السكارى: سوف آتيكم بعشاء، وخرج بسيارته ولم يرجع، تأخر، فذهبوا في الثلث الأخير من الليل يبحثون عنه في الطرقات، يقول صاحبه: فوجدنا في ظلام الليل ناراً من بعيد فأسرعت باتجاه النار، فوجدت سيارة صاحبي تحترق قد أظلمت فيها النار، فجذبت صاحبي من بين النار، فأخذته وقد تفحم واحترق في الدنيا قبل أن يموت، فوضعته في سيارتي ولا يزال فيه نفس، ولا زالت به الروح، فأسرعت به إلى المستشفى ماذا صنع آخر حياته؟ لا تقل: آخر مرة أفعلها ثم أتوب، وهل تضمن أن الله يمهلك؟ لا تقل: هذا الربا آكله ثم أتوب، لا تقل: ألقاها وأواعدها وأنام معها ثم أتوب، هل تأمن مكر الله؟ {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99].
يقول: وضعته في السيارة وأسرعت به إلى المستشفى، وفي الطريق سمعت صوتاً غريباً يخرج منه ويقول: كيف أجيبه؟ كيف ألقاه؟ بِمَ أرد عليه؟ إذا سألني ماذا أقول له؟ فقلت له: من تقصد؟ من تريد؟ قال لي: الله بماذا أجيبه؟ {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا} [المؤمنون:99 - 100] كذاب، نعم.
يكذب كلما قرر التوبة، وقديماً كان يتراجع عنها {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100].
أتعرفون كم مليون إنسان في الأرض يموت؟ أتعرفون ما السبب؟ يموت وهو مريض بمرض الإيدز، ملايين يموتون، وملايين مهددون بالموت، والمرض ينتشر أكثر وأكثر، بل سمعت رجلاً ما زنا في حياته إلا مرة واحدة، سولت له نفسه فسافر إلى بلد فارتكب الفاحشة، ثم رجع إلى بلده وربما استقام وبعد أيام اكتشفوا أنه يحمل مرض الإيدز {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:44 - 45] والمصيبة أن زوجته ملتزمة وصالحة، فحملت منه مرض الإيدز إنا لله وإنا إليه راجعون! إذا ما خاف الناس من عذاب الله ومن عذاب الآخرة ألا يخافون من عذاب الدنيا؟ ألا يخافون من ابتلاءات الدنيا من الفضيحة والعار والأمراض والفتن والبلاء؟ ألا يخاف آكل الربا؟ إن لم يخف أنه يدخل في نهر من دم في قبره ويخرج يوم القيامة مصروعاً كالذي يتخبطه الشيطان من المس، ويعطى يوم القيامة رمحاً يُقال له: بارز ربك الآن {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] يبارز من؟ بارز ربك الآن، إن لم يخف آكل الربا من هذا كله، ألا يخاف في دنياه أن يحاربه الله في أولاده في أطفاله في جسده في صحته ألا يخاف؟ ما بال الناس لا يخافون؟
نعم! إن رحمة الله واسعة، وباب التوبة مفتوح، والله يغفر كل ذنب إذا تاب الإنسان قبل أن تبلغ الروح الحلقوم، وقبل أن يصل الإنسان إلى الغرغرة؛ فإن الله يقبل التوبة {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] (من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه).
فلنسرع ولنقدم نجوانا بين يدي الله، ولنسرع إلى طاعة الله، ولنتب من ذنوبنا ومعاصينا؛ لعل الله أن يكفر عنا سيئاتنا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
اللهم انصر عبادك المجاهدين في كل مكان، اللهم سدد رميهم، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم اجمع كلمتهم، اللهم رص صفوفهم يا رب العالمين، اللهم عليك بأعدائنا وأعدائهم يا رب العالمين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك.
اللهم منزل الكتاب، مجري السحاب، هازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم يا رب العالمين.
اللهم فرق جمعهم، اللهم شتت شملهم، اللهم اجعل الدائرة عليهم، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.(39/6)
نصيحة للشباب
الأموات صنفان: صنف يموت على طاعة الله ويختم له بخاتمة حسنة، وصنف آخر يموت على معصية لله ويختم له بخاتمة سيئة.
وفي هذا الدرس نقرأ تصوراً للرحلة التي سيرحلها كل إنسان وجد على هذه الأرض (رحلة الدار الآخرة).
وهناك نصيحة موجهة لكل مسلم رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً.(40/1)
الفرق بين الخاتمة الحسنة والخاتمة السيئة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
ثم أما بعد:
حقٌ على النصيحة ألا تكون طويلة، فإن شاء الله لن نطيل في الكلام إلا إن احتجت إلى بعض القصص والمواقف، فنستسمح منكم -أيها الإخوة- أن نستقطع من وقتكم الثمين هذه الدقائق.(40/2)
قصتان ختم لصاحبيهما بسوء
ثلاثة شباب لا يعرفون من الدنيا إلا اللعب، واللهو، والطرب، والأغاني، والنساء، ذهبوا إلى مكانٍ يستمتعون مع النساء تخيل ماذا يفعلون؟! فلما جاء الليل قال أحد الثلاثة: سوف أذهب لآتي بالعشاء فذهب، فبقي اثنان، فتأخر الرجل، فانتظرا فلم يأتِ، فقال أحدهما: سوف أذهب لأنظر ما الذي أخره، فخرج بسيارته وفي أثناء الطريق رأى سيارة تحترق، فتوقف، ثم نزل يبحث داخل السيارة فإذا صاحبه يحترق، أخرجه بسرعة ونظر إليه وهو يصرخ ويقول: النار، النار، النار، يقول: أخذته في السيارة ولا زال يلفظ أنفاسه الأخيرة، يقول: فأسرعت بالسيارة إلى المستشفى وأنا أنظر إليه، فتخنقني العبرة، فتوقفت ليلفظ أنفاسه الأخيرة، نظرت إليه فإذا به يريد أن يتكلم، فكان يردد ويقول: ماذا أقول له؟ ماذا أقول له؟ فقلت له: من هو؟ يقول: فخرج بصوتٍ كأنه من بئر فقال: الله، الله، ثم خرجت روحه، فبكى صاحبه يقول: وكانت بدايتي للهداية إلى هذا الطريق طريق الاستقامة.
استمع إلى موقفٍ آخر:
رجلٌ من أهل الخليج، كبيرٌ في السن، لا يعرف من الدنيا إلا الخمور، سافر إلى دولة غربية، دخل في غرفة الفندق، وأغلق على نفسه الباب بعد أن جمعت الغرفة زجاجات الخمور، فأخذ يشرب ويشرب حتى أحس بالغثيان، دخل -أجلكم الله- في دورة المياه ليرجع ما شربه، انتظره أهل الفندق يوماً أو يومين أو ثلاثة فلم يخرج من غرفته، طرقوا عليه الباب فلم يجب، ثم كسروا عليه الباب وفتحوا فإذا برأسه في مكان المجاري، وقد زهقت روحه قبل ثلاثة أيام.
قصة ثالثة:(40/3)
قصة صحابيين ختم لهما بخير
استمع -عبد الله- قبل أن أبدأ بالنصيحة، إلى بلال بن رباح مؤذن رسول الله، تحضره الوفاة أتدري ماذا قال قبلها؟
غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه
ثم نطق بالشهادة وخرجت روحه.
حرام بن ملحان، يضرب بخنجرٍ في صدره قبل الموت، فأخذ الدم ومسح به وجهه، ثم قال:: [الله أكبر! فزت ورب الكعبة الله أكبر! فزت ورب الكعبة].(40/4)
السبب في خاتمة السوء
عبد الله: انظر إلى هؤلاء وأولئك أتعرف الفرق بينهما؟ الفرق أن الأول كان يريد الدنيا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود:15].
إذا قلت له: ما أمنيتك في الحياة؟
قال: أصير لاعباً.
وإذا قلت للآخر: ما هدفك في الدنيا؟
قال: أصير مطرباً.
وإذا قلت لآخر: ماذا تريد من الدنيا؟
قال: الشهادة الدنيوية، والمال، وذاك البيت، وهذه السيارات وهذا ماذا يريد؟ {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود:15] حتى يصير مطرباً وصورته في الجرائد، أو لاعب كرة ويعطى أعلى الجوائز، أو يصبح له أعلى الشهادات وأكثر الأموال، ويركب أفخم السيارات، ثم ماذا؟ {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:16].
والشاب الذي تمتع في الدنيا ما بين لعبٍ ولهو، وأغانٍ وسفر، وسيارات وعاهرات وغيرها من الملهيات، فأتته ساعة الوفاة وهو يلعب، أو وهو نائم، أو وهو يضحك أو يلهو، أو في السيارة، وتذكر صاحباً لك، جيء بخبره أتذكر فلاناً؟ نعم.
كان معنا في المدرسة، أو كان يلعب معنا الكرة، أو كان يقود السيارة.
شاب صغير توفي بحادث انقلبت به السيارة وزهقت نفسه، تخيل أنك هو! أتته ساعة الوفاة، فإذا به ينظر من هذا؟ إنه ملك الموت، ما الذي أمامه؟ إنهم ملائكة، مد البصر، لقد خاف وارتعد، واضطرب وصرخ، وبدأ ملك الموت يجر الروح، من شدة الخوف لا تخرج الروح، إنما تتوزع في الجسد، وملك الموت ينزع الروح وهي تثبت، حتى تتقطع العروق والمفاصل، فلو رأيت حاله في تلك اللحظة لرأيته يصيح ويبكي، بل لعله كان رجلاً شجاعاً، فتراه ينتفض ما باله؟ إن ملك الموت ينتزع روحه {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً} [النازعات:1] يبكي وينظر من حوله، إما أن يكونوا أصحابه حملوه إلى المستشفى، أو لعل أمه تبكي، أو لعل أباه قد أتى بالطبيب، أو لعل الإخوة ينظرون إلى حاله، وهذا تدمع حاله، وهذا يبكي، وذلك ينوح، ومن حوله في وادٍ وهو في وادٍ آخر.
{كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة:26] * {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:27] ينظر إليهم فأتوا بالراقين وبالطبيب {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:28] أتعرف من يفارق؟
إنه يفارق المدرسة والصحبة والكرة مسكين! يفارق السيارة والفتاة التي كان يعشقها إنه فارق الدنيا {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:28] غسل وإذا به في الكفن ووضعت رجله مع الرجل الأخرى {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:29] ويلها أين تذهبون بها؟ {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:30] إلى الآن لقد ضيع حياته {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:31 - 32] كان في الدنيا إن صلى فلأجل إخوانه وأصحابه، فإذا اختلى بنفسه لا صدق ولا صلى؛ بل لعله يرائي الناس، إن رأوه صلى، وإن لم يره أحد لم يصلِّ، لا يعرف من الدنيا إلا المرأة والضحك واللعب والكرة والسيارة.(40/5)
حال العاصي بعد الموت(40/6)
القبر عذابه وظلمته
هنا قصة ذاك الرجل وتخيل -عبد الله- نفسك وأنت تمر في تلك القصة!
إذا به يفتح عينيه في حفرة ضيقة، لا يسمع فيها صوتاً، ولا يرى فيها أحداً، بل لا يستطيع أن يلتفت يمنة أو يسرة.
فإذا به يرى ملكين أسودين أزرقين يجلسان عليه تسألني كيف يجلس والحفرة ضيقة؟! نقول: هذا من علم الغيب، يجلس عليه ثم يسأله وهو يسمع فوقه أناسٌ يمشون، يسمع قرع نعالهم من هم؟ أبوه أخوه أولاد عمومته أصحابه أحب الناس إليه من رمى على وجهه التراب، فارقوه وبعضهم يعزي بعضاً.
من ربك؟
فيقول: هاه هاه لا أدري، كان يدري لكنه نسي.
ما دينك؟
هاه هاه لا أدري، نسي في تلك اللحظة الجو مخيف، والملكان ينتهرانه، والسؤال فجأة.
ماذا تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟
هاه هاه لا أدري، كنت أسمع الناس يقولون كلاماً فأقول مثلهم، لم أعرف عن سنته شيئاً، ولم يتعلق قلبي بحبه، ولم أدافع عنه في الناس، ولم أرفع ذكره، ولم أنشر هديه وسنته، هو محمدٌ رسول الله فقط مثل الناس، ثم يُقال: لا دريت ولا تليت، ثم يضرب برأسه بمطرقة يصير فيها تراباً، لو ضرب بها جبلٌ لهده -أتتحمل؟! سل نفسك- ثم يعاد مرة أخرى فيضرب ضربة أخرى فيصيح، فيسمعه كل من حول قبره إلا الجن والإنس، ولو سمعه الجن والإنس لصعقوا وماتوا؛ لأنهم لا يتحملون ذلك الصياح.
ثم تبدأ رحلة العذاب ينظر حوله؛ من أنت؟ وجهك الوجه يجيء بالشر، منتن الريح، قبيح الوجه والثياب، قال: أنا عملك الخبيث، فوالله ما علمتك إلا سريعاً في معصية الله أتذكر؟ يا فلان! عندنا سهرة، يذهب سريعاً عندنا سفرة يذهب ولا يتردد يا فلان! سوف نذهب إلى السوق نتجول ونتمتع، فلا يتردد، سريع في معصية الله، بطئ في طاعة الله.
فلان! هناك درس، يأتي لكنه متثاقل فلان! الصلاة، يتردد عشرين مرة حتى يأتي إلى الصلاة وهو كسلان، سريع في معصية الله بطئ في طاعته، فيفتح له بابٌ إلى النار، ويفرش له من النار، ويأتيه من ريحها وسمومها، ثم يقول: رب لا تقم الساعة، رب لا تقم الساعة.(40/7)
وقوف العاصي يوم المحشر
بعد سنوات طوال يسمع صيحة فوقه ما الخبر؟ ماذا يحدث؟
إذا القبر ينشق، فيخرج من القبر، فيتذكر الحفرة المظلمة، ظل فيها مؤدباً إلى قيام الساعة يخرج ماذا يرى؟ السماء تنشق، والأرض تتفجر، والجبال تنسف، والبحر يحترق، والشمس ذهب ضوؤها، فيخرج ويقول: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:52] يرد عليه الصالحون فيقولون: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52] يخرج من قبره، فالأرض لا تحمله ماذا يرى؟ قد عري جسده، ينظر إلى الصغير، فيشيب شعره من شدة الخوف، تأتيه أمه ينظر إليها وقد شاب شعرها، ورق جلدها وعظمها، تأتيه فتقول: يا بني! لقد كان بطني لك وعاءً، وثديي لك سقاءً، وسهرت على راحتك، يا بني -تخيل أمك- يا بني! حسنة أتقرب بها إلى الله، فيرد عليها: يا أماه! إليك عني، إليك عني، أنا أحوج عنك بتلك الحسنة {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36] أتعرف لمَ يا أخي العزيز؟ لمَ أيها الشاب؟ {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37] يخرجون من قبورهم يموج بعضهم في بعض كأنهم جرادٌ منتشر، الطفل الصغير يشيب شعره، والسماء تتفطر.
عبد الله! تخيل في ذلك الموقف كيف يكون حالك، وماذا تتذكر؟ هذا المجلس تتذكره في تلك اللحظة تتذكر عبداً صالحاً كان يأتيك ويطرق عليك الباب ويقول لك: يا عبد الله يا فلان! تعال معنا المسجد، فتقول: إن شاء الله، إن شاء الله، وترجع إلى البيت وتنام.
وتتذكر أنه كان يأتيك عبدٌ صالح فيقول لك في الفصل: فلان! استمع إلى هذا الشريط لعل الله أن ينفعك به، فتأخذه ثم ترمي به.
وتتذكر أنه كان يأتيك فلان فيقول لك: اتق الله يا فلان! لا يجوز لك هذا الفعل، فتولي وأنت تضحك عليه، تتذكر تلك اللحظات، ثم بعد ذلك يقفون خمسين ألف سنة، والشمس على رءوسهم قدر ميل {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2].(40/8)
مجيء جهنم وبدء الحساب
في أرض المحشر إذا بك ترى وتسمع صوتاً من مكان بعيد إنه صوت جهنم {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} [الفرقان:12] تخيل الناس على المحشر كلهم يخرون على الركب إذا رأوا جهنم، حتى الأنبياء والصالحون يخرون على الركب {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية:28] أتعرف ماذا يفعلون؟ يقولون: اللهم سلم سلم اللهم سلم سلم حتى الطفل الصغير يشيب شعره بلا ذنب.
عبد الله! أتعرف ماذا يحصل لك في تلك اللحظة؟ {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر:23] وأنت لوحدك {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:23] تتذكر كل سهرة كل فتاة نظرت إليها كل أغنية استمعت إليها كل صلاة فوتها كل كذبة كذبتها كل كلمة عققت بها الوالد أو الوالدة، تتذكر كل لحظة من لحظات حياتك، مثل الشريط يمر: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:23] * {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24].
أين فلان بن فلان؟ بدأ الحساب، وبدأت الحياة الأخيرة، وبدأ الجزاء والمصير أين فلان بن فلان؟ يرتعد الجسم، وتضطرب الجوارح، وتبلغ القلوب الحناجر من شدة الخوف.
إذاً: الملائكة تجره إلى الرحمن إلى العزيز الجبار {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] يقفون بين يدي العزيز الجبار، يقول له: عبدي -والله سريع الحساب- تخيل نفسك بين يديه، تذكر فلان الذي ذهب من الدنيا لعله بدأ ذلك المصير وأنت لا تشعر.
عبدي! أتذكر ذنب كذا؟
عبدي! أتذكر تلك اللحظة؟ أتذكر عبادي الصالحين؟
عبدي! أتذكر تلك الليلة عندما ذهبت إلى فلان وفلان؟ {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6].
عبدي! ألم أصح لك الجسد؟ ألم أعطك من المال والصحة والوقت؟
عبدي! ألم تعرف أني قد افترضت خمس صلوات؟ أين أنت عنها؟
عبدي! أما حرمت عليك النظر إلى النساء الأجنبيات؟
عبدي! ألم تعلم أني حرمت عليك الأغاني؟
عبدي! ألم تعلم أني حرمت عليك كذا وكذا؟
عبدي! أتذكر تلك السفرة؟ أتذكر تلك الرحلة؟ تذكر ذلك اللعب والمؤذن يؤذن.
عبدي! أتذكر أتذكر؟ لحظة لحظة، من أول الحياة إلى آخرها.
يقول: يا رب! ما فعلت شيئاً، فتأتي الملائكة الشهود، ويأتي الصالحون يشهدون، ويأتي الدعاة إلى الله يقولون: يا رب! دعيناه فما استجاب! فيأتي ذلك الذي نصحهم في مجلس يقول: يا رب! جلست أمامه أذكره بالموت وبيوم القيامة فما انتصح! يا رب! طرقت عليه الباب ليصلي فما صلى فيقول: يا رب! لا أقبل شاهداً إلا من نفسي، هؤلاء لا أقبلهم شهوداً، فيقول الله: لك ذلك، لا يشهد عليك إلا نفسك، فإذا بالفم يختم عليه اليد تتكلم، والرجل تنطق، كلٌ منها يقول: يا رب! فتح التلفاز في تلك الليلة، اليد تتكلم: يا رب! بطش، يا رب! لمس، يا رب! كتب الرسالة تلك، يا رب! رفع الهاتف في ذلك اليوم وقال كذا وكذا.
الرجل تتكلم: يا رب ذهب إلى ذلك المكان، ذهب مع فلان وفلانة: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65] بعدها تنطق الجلود، فيصيح صيحة {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21] بعداً لكنَّ وسحقاً، عنكنَّ كنت أناضل حتى لا تحترق الجلود، ثم ينظر الله إليه، فيقول له: عبدي! ما غرك بي؟ عبدي من الذي جرأك علي؟ فينكس رأسه، ثم يقول: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا} [السجدة:12].
يا رب! عقلنا، يا رب! عرفنا الحق، يا رب! الآن أبصرنا {أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} [السجدة:12] ماذا تريد؟ {فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12] يا رب! أرجعني إلى الدنيا أصلي أصوم أسجد أركع أذكر الله أقرأ القرآن الآن لا تنفعك تلك الكلمات.(40/9)
ما يرى في النار من أهوال
اسمع النتيجة النهائية، التي ليست بعدها نتيجة {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30] تأتي الملائكة وتربطه بسلسلة، كل حلقة مثل حديد الدنيا كلها، حجم هذه السلسلة سبعون ذراعاً من أذرعة الملائكة، تدخل في منخره، فتخرج من دبره ويربط بها، ثم يجر على وجهه إلى النار، فتستقبله الملائكة عند النار، والنار يتطاير منها الشرر، والشرارة الواحدة بحجم القصر تستقبله الملائكة {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك:8] هل جاءكم فلان ونصحكم؟ هل استمعت إلى شريط يذكرك؟ {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الملك:8 - 9] ثم يدخلون إلى جهنم يدفعون فيها دفعاً.
ينظرون فيها، وأول ما يدخل يرى النار سوداء مظلمة، حرارتها أشد من سبعين ضعفاً من حرارة نار الدنيا، وأول ما يدخل يرى أصحابه الذين كانوا في الدنيا قد سبقوه إليها من أنتم؟ أنت فلان؟ نعم، لا مرحباً بك، فيرد عليه فيقول: وأنت لا مرحباً بك أتعرف من هم؟ الصاحبان في الدنيا، اللذان كانا يسافران إلى دول الزنا والخنا اللذان كانا يكلمان تلك الفتاة، ويلعبان الكرة وقت الأذان والصلاة.
يقول: يا رب! هذا الذي قدم لي هذا يا رب! هذا الذي أضلني ودعاني إلى هذه النار، قال الله عز وجل عنهم: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً} [الأعراف:38] الأصحاب والأخلاء والزملاء في الدنيا اجتمعوا في النار {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} [الأعراف:38] يا رب! هذا الذي ضحك علي يا رب! كنت أريد أن أهتدي وأكون مع الصالحين مع الملتزمين، وكان يقول لي: لا يا فلان! تعال نلعب، ضحكوا عليك؟ خدعوك؟ غشوك؟ تعال نلعب الكرة، تعال نتمتع، الحمد لله أنت مسلم، تعال يا فلان تمتع قليلاً ثم تب إلى الله، يا فلان! عندنا سهرة، وعندنا اللعب والأغاني والطرب، يا فلان! لا يضحكون عليك: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38] يرد الله عليهم: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38].
لن أسرف في ذكر صفات النار، لكن يكفيك -أيها الأخ- ما تسمع من تلك الكلمات.
أتعرف على ماذا ينامون في النار؟ على النار.
أتعرف بم يلتحفون؟ بلحاف من نار.
أتعرف ماذا يأكلون؟ طعاماً من نار.
أتعرف بم يستظلون؟ بظلل من نار.
عبد الله: يجوع أهل النار فيأكلون طعاماً ذا غصة -طعاماً شوك من شدة الجوع- فإذا أكلوه غص في الحلوق، لا يستطيع أن يخرجه ولا يبتلعه، فيستغيث بالماء يا رب! ماء ماء ماء، فيعطون ماء؛ لكنه {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} [الكهف:29] يقترب من الماء ليشرب من شدة العطش والجوع، فعندما يقترب من الماء تسقط فروة رأسه ويحترق وجهه، قبل أن يشرب {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:29].
عبد الله! وهو يشرب الماء، هل نفعته تلك المرأة؟ أم شريط الأغاني؟ أم المطرب الذي كان قدوته؟ أم الفيلم والمسلسل الذي كان يراه كل ليلة؟ هل نفعه الآن؟! أم نفعه فلان الذي كان يلعب معه الكرة، وكان يضحك عليه في الدنيا هل نفعه فلان؟! لا والله.
عبد الله! إن النار تحرق جلودهم حتى تُصلي الأفئدة {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى} [المعارج:15] * {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج:16] أي: تنفصل الجلود عن اللحم عن العظم، فيخرج منها الصديد والقيح.
أتعرف حين يرى أهل النار القيح ماذا يفعلون؟
يركضون إلى ذلك القيح يجمعونه فيأكلونه {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:17] هل تتحمل عبد الله؟ هل ينفع فلاناً سبعين أو ثمانين سنة من اللعب واللهو والطرب؟(40/10)
مصير الصالحين في الآخرة
عبد الله! أتعرف الصالحون أين هم في تلك اللحظات؟
إنهم على أنهارٍ من لبن، وخمر، وأنهارٍ من ماءٍ وعسل أتعرف ماذا يظللهم؟ إنه سقف عرش الرحمن، يمشون على الزبرجد والياقوت واللؤلؤ والزعفران والمسك، ويسكنون في خيام من لؤلؤ طولها ستون ميلاً، قصورهم ذهبٌ وفضة، ومع الحور العين (لو اطلعت واحدة إلى الدنيا لأضاءت ما بين السماء والأرض، ولملأته ريحاً، ولنصيفها -خمار على رأسها- خير من الدنيا وما فيها) يتكئون على سرر مرفوعة على الأرائك ينظرون.
يجتمعون في الجنة، فيقول أحدهم للآخر: كان لي صاحبٌ في الدنيا قرين زميل لا أراه في الجنة معنا، كان دائماً إذا أردت التوبة قال: يا فلان! ما زلت صغيراً.
إذا أردت الصلاة، قال لي: يا فلان! تعال هنا فيلم كان إذا أردت الهداية مع الصالحين ردني وصدني لكني لم أستجب له، فما أراه في الجنة الآن، وهم يجلسون في الجنة يتسامرون، لحظة فإذا بهم تنكشف لهم النار، فإذا به يرى صاحبه يحترق في قعر جهنم {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات:51] زميل، صاحب تعرف ماذا كان يقول؟ {يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} [الصافات:52] أنت صادق في كلامك هذا، تصلي وتصوم وتزكي وتتصدق وتقرأ القرآن وتحضر الدروس يا مسكين! تعال العب معنا {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:53] حتى نموت سنوات طويلة، دعنا نفرح الآن، فإذا به ينظر إلى صاحبه وهو يحترق في النار، كل يرى صاحبه من في قعر جهنم ينظر إلى صاحبه وهو في الجنة، ومن في الجنة ينظر إلى صاحبه وهو في قعر جهنم {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:54 - 55] فيكلم صاحبه نعم صاحبك! الذي كان يردك عن الهداية وعن الصلاة نعم! تكلمه إذا أدخلك الله الجنة وأدخله النار- يقول له: {تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات:56] كدت ترديني معك في نار جهنم: {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:57] لولا نعمة الله لكنت معك في النار الآن، ثم يلتفت إلى أصحابه في الجنة، فيقول لهم: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:58 - 61].(40/11)
الاستعداد ليوم المعاد
أيها الشباب: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ لمثل تلك اللحظات لمثل ذلك الموقف وأنت على فراش الموت لمثل ذلك السؤال للملكين في القبر لمثل وقوفك بين يدي الله لمثل المكوث في النار أو في الجنة.
عبد الله! ليعمل العاملون، حاسب نفسك من الآن ماذا قدمت وماذا أخرت؟ ماذا لو وقفت الآن بين يدي الله وقد ختم عليك الله عز وجل في تلك اللحظة؟
تخيل! هل أنت مستعد للإجابة على كل سؤال؟ هل تبت من كل الذنوب والمعاصي؟ هل أرجعت كل الحقوق إلى أهلها؟ هل أنت ملتزم بالواجبات والفرائض، أم أنك ضيعتها؟
تعرف لمَ؟ لأنك تقول: فلان وفلان، كل الناس مثلي {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103].
عبد الله! حاسب نفسك حساباً جاداً وصادقاً وصريحاً، أتعرف ما المخلَص؟ أتعرف ما الحل؟ {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر:53] بالكذب بالسخرية بالفحش مع النساء في الطرب في الملاعب ترك للصلوات أتعرف ما الحل؟ {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
أولاً: اندم على فعلك السابق كله، إذا لم تنفعك هذه المواعظ فماذا ينفعك؟
إذا كانت هذه الآيات التي قرأناها ما أثرت في قلبك فما الذي سوف يؤثر فيك؟
عبد الله! ادع الله أن يحيي قلبك إن لم يتأثر، واندم.
ثانياً: اترك جميع الذنوب والمعاصي، لا تقل: أستغفر وأنت لا زلت محتفظاً بالأرقام، أو بالصور، أو بالرسائل، أو بالمجلات، أو بالأفلام، احرقها كلها، وأقلع، فإن الله -الآن- يطلع عليك، هل أنت صادق عازم أو لست بعازم؟
ثالثاً: اعزم من قلبك ألا ترجع إليها، فكلما رجعت فتب.
رابعاً: اترك أصحابك الذين يثبطونك، إذا أردت التوبة فاترك جميع أصحاب السوء، وتعال إلى أصحاب الخير والصلاح، وسلم عليهم، وصافحهم، وأخبرهم بصدق، وقل لهم: لقد أسرفت في الذنوب والمعاصي، فهل لي من توبة؟ هل لي أن أحضر مجالسكم، ودروسكم؟ لا يصدنك فلان فيضحك عليك فترجع، لا يضحك عليك فلان فيقول: يا فلان! لا تتعقد فترجع، لا يستهزئ عليك فلان فترجع.
عبد الله: كن صابراً صادقاً، بعد هذا المجلس ائت إلى إخوانك الصالحين فسلِّم عليهم، وقل: أنا جليسكم حتى الموت، أين تذهبون؟ أين تجلسون؟ ماذا تعملون؟ اعطوني من الأشرطة فسوف أسمع، ومن الكتب فسوف أقرأ.
كيف أتوب إلى الله؟ كيف أترك أصحابي السابقين؟ اجلس معهم وكن صادقاً مع الله، وكن عازماً على التوبة، فإن رجعت مرة أخرى فاعلم أن الله غفور رحيم، وارجع مرة أخرى إلى التوبة.
عبد الله: هذه نصيحة، أسأل الله عز وجل أن يجمعنا في مستقر رحمته إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(40/12)
نماذج من أحوال السلف
إن السلف الصالح هم خير القرون بشهادة محمد صلى الله عليه وسلم، وهم من اصطفاهم الله واختارهم لحمل هذا الدين؛ لذلك كان لابد من معرفة أحوالهم، وكيف كانوا حتى نقتدي بهم في حياتنا، لعلنا نلحق بهم.
وقد ذكر الشيخ في هذه المادة ثلاثة جوانب من حياة السلف، فبين كيف كانت خشيتهم لله وكيف كان جهادهم في سبيل الله، ثم ختم بتوضيح صور اجتماعهم وتراحمهم وتآخيهم فيما بينهم، وصفاء قلوبهم لبعضهم البعض.(41/1)
السلف الصالح وخشية الله
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
درسنا في هذه الليلة: "نماذج من أحوال السلف".
جلس ابن مسعود رضي الله عنه عند أصحابه فقال أحدهم: [ما أحب أن أكون من أصحاب اليمين، ولكني أحب أن أكون من المقربين.
فقال ابن مسعود رضي الله عنه: أما إن هاهنا رجلاً -يعني نفسه- يود أنه إذا مات لم يبعث] يتمنى أنه يموت ولا يبعث، وأنت تقول: تريد أن تكون من المقربين ولا تريد أن تكون من أصحاب اليمين!
يقول إدريس بن حوشب: [ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز! كأن النار لم تخلق إلا لهما] يقول: أراهما من خوفهما كأن النار خلقت لهما فقط ولم تخلق لغيرهما.
وقال عبد الرحمن بن الحارث: [كنت عند عبد الله بن حنظلة يوماً وهو على فراشه وقد عدته من علته -كان مريضاً- فتلا رجلٌ عنده هذه الآية: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف:41] فبكى حتى ظننتُ أن نفسه ستخرج، قال: صاروا بين أطباق من النار، ثم قام على رجليه، فقيل: اجلس رحمك الله.
قال: إن ذكر النار منعني الجلوس والقعود، لا أدري لعلي أكون أحدهم].
ويقول عبد الرحمن بن مهدي: [بات سفيان عندي، فكلما اشتد به الأمر جعل يبكي - سفيان الثوري رحمه الله- فقال له رجل: يا أبا عبد الله! أراك كثير الذنوب، فرفع شيئاً من الأرض وقال: والله لذنوبي أهون عندي من هذا التراب، لكني أخاف أن أسلب الإيمان قبل الموت].
انظر كيف يصف الله حالهم! {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37].
جاء سائل إلى ابن عمر فقال ابن عمر لابنه: [أعطه ديناراً -فقير أعطه ديناراً- فلما انصرف قال ابنه: تقبل الله منك يا أبتاه.
فقال ابن عمر: لو علمت أن الله تقبل مني سجدة أو صدقة درهم واحد؛ لم يكن غائب أحب إلي من الموت] أتدري ممن يتَقَبَّل الله؟ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] الواحد منا إذا صلى العصر ضمن، وإذا صلى التراويح كأنه وصل، وإذا تصدق بمائة دينار يذكرها طوال عمره، وهذا يقول: لو علمت أن الله تقبل مني درهماً لتمنيت الموت.
ويقول الحسن البصري: يخرج من النار رجل بعد ألف عام، يا ليتني كنت ذلك الرجل، يا ليتني كنت ذلك الرجل.
أي: أمكث في النار فقط ألف عام، والواحد منا كأنه أصاب الفردوس.
وسفيان الثوري كان إذا أخذ في ذكر الآخرة يبول الدم رحمه الله، لشدة بكائه وخوفه ووجله من ذلك اليوم.
وعن عروة بن الزبير قال: [كنت إذا غدوت أبدأ ببيت عائشة -يقول: أول بيت أزوره بيت عائشة رضي الله عنها- قال: أسلم عليها، فغدوت يوماً فإذا هي قائمة تقرأ قول الله عز وجل وتردد وتبكي: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] وتعيدها وتبكي: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] يقول: فانتظرتُها، فأطالت وهي تبكي، قال: قلتُ: أذهبت إلى السوق فأقضي حاجتي ثم أرجع، قال: فذهبت فقضيت حاجتي فرجعت وهي تردد الآية وتبكي، رضي الله عنها].
ويقول يونس بن عبيد: [دخلنا على محمد بن واسع نعوده وما يدري عني، فأخذ الناس يمدحونه ويثنون عليه، فقال محمد بن واسع: وما يغني عني ما يقول الناس إذا أُخِذ بيدي ورجلي فألقيت في النار؟!] يقول: ماذا ينفعني كلام الناس؟ هذا يمدح، وهذا يثني، وهذا يطري، وهذا يقول فيَّ ما يقول، يقول: ماذا ينفعني هذا الكلام إذا أخذ بيدي ورجلي ثم ألقيت في النار؟!
ومالك بن دينار يظل طوال الليل يقبض على لحيته ويبكي ويقول: [يا رب! قد علمتَ ساكن الجنة من ساكن النار ففي أي الدارين منزل مالك؟] يقول ذلك وهو يبكي {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16] كلما وضع خده على الفراش بكى وقام، وكلما أراد النوم أطار ذكر النار النوم من عينيه.
دخل العلاء على عطاء السلمي وقد غُشي عليه، فقال لامرأته أم جعفر: ما باله؟ ما الذي جرى له؟ فقالت: سجرت جارتنا تنوراً فنظر إليه فخر مغشياً عليه نظر إلى التنور فتذكر نار الآخرة فأغمي عليه ولم يستطع أن يقوم من مكانه.
يروى عن الحسن بن صالح أنه قام ليلة كاملة بقوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} [النبأ:1 - 2] فغُشي عليه، فلم يختمها حتى الفجر.
إذا ما الليل أظلم كابدوه فيُسْفِرُ عنهمُ وهمُ ركوعُ
أطار الخوفُ نومَهم فقاموا وأهل الأمن في الدنيا هجوعُ
وهذا محمد بن المنكدر بكى في الليل فجاء أهله يرحمونه، فأرسلوا إليه أبا حازم، فجاء أبو حازم إليه يقول له: ما الذي جرى؟ أبكيت أهلك؟ أبكيت الجيران يا أبا عبد الله؟ قال: قرأت قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] يقول: وما أدري لعلي أكون منهم، فبكى محمد مرة أخرى، وبكى معه أبو حازم، فجاء أهله وقالوا: جئنا بك لترحمه فأثقلت عليه وشققت عليه {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] يحسب أنه قرأ القرآن، وأنه تصدق، وأنه صلى الله عليه وسلم، ثم وصل إلى الجنة، فإذا أتى يوم القيامة {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23].
شرب عبد الله بن عمر ماءًَ بارداً، فأخذ يبكي واشتد بكاؤه، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: ذكرت قول الله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54] قال: فعلمتُ أن أهل النار يشتهون في النار الماء -وهو يشرب الماء- فينادون في النار: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50] ثم اشتد بكاؤه مرة أخرى من هو؟ إنه ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
يقول مالك بن دينار: [البكاء على الخطيئة يحط الخطايا كما يحط الريح الورق اليابس].
لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها لنفسي من نفسي عن الناس شاغلُ
في ليلة من الليالي فزع الحسن البصري من النوم، فأخذ يبكي، فبكت زوجته وبكى أهل البيت كلهم، حتى سئل فقال: ذكرت ذنباً لي فبكيت.
في النوم تذكر أنه أذنب ذنباً واحداً، ونحن إذا نمنا على الفراش ماذا نتذكر؟! كم هي الذنوب! وكم هي المعاصي! وكم هي الخطايا! والمصيبة أن العين لا تدمع، وأن القلب لا يخشع، وأن النفس لا تمتثل لأمر الله.
كان عمر بن عبد العزيز يصلي ذات ليلة، فوصل إلى قوله تعالى: {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:71 - 72] فجعل يبكي حتى الصباح.
وقبل أن يموت عمر بن عبد العزيز قيل له: إنك مسموم يا عمر! فقال: أيقول الناس فيَّ هذا؟ قالوا: نعم.
فنادى غلاماً له -وهذا الغلام هو الذي سقاه السم قبل أن يموت- فقال لذلك الغلام: ما الذي حملك على أن تسقيني السم.
قال: أعطيت ألف دينار على أن أقتلك.
فقال له عمر -بينه وبينه-: ائت بهذه الألف وضعها في بيت المال ثم اذهب ولا يراك أحد.
قتله فرحمه فعفا عنه قبل الموت.
وروي عن تميم الداري أنه قرأ ليلة من الليالي: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية:21] فتوقف وأخذ يبكي حتى الصباح.
وقيل أن عطاء السلمي سئل: ما هذا الحزن؟ لم كل هذا الحزن والبكاء والخشوع؟ فقال للسائل: ويحك! الموت في عنقي، والقبر بيتي، وفي القيامة موقفي، وعلى جسر جهنم طريقي، ولا أدري ما يُصنع بي، ثم تسأل لماذا أحزن؟! إذا كان هذا القبر بيتي، ويوماً من الأيام سوف أرد على الصراط، أُخبرت أني سوف أرده ولم أُخبر أنني سوف أجوز عليه، وفي القيامة موقفي ثم تقول لم تحزن!!(41/2)
السلف الصالح والجهاد في سبيل الله
فإذا بزغ الصبح وأذن الفجر وطلع الصباح، وأشرقت الشمس؛ رأيتَ هؤلاء الذين بكوا في الليل وظلوا قياماً لله عز وجل يصيح بهم صائح الجهاد: حيَّ على الجهاد! يا خيل الله اركبي! إلى الجهاد والمعارك! رأيت الذي يبكي في الليل ويقوم ويصلي ويسجد يركب الفرس ويذهب ويسرع إلى الجهاد في سبيل الله.
فاسمع -يا عبد الله- إلى صفحة أخرى من صفحات سلفنا الصالح في الجهاد في سبيل الله وفي قتالهم الأعداء والكفار.(41/3)
خالد بن الوليد رضي الله عنه سيف الله المسلول
خالد بن الوليد أظن أن كل المسلمين قد سمعوا به، ما من صغير ولا كبير إلا طرب من سماعه، سيف الله، يقول قبل الموت رضي الله عنه: [شهدت مواقع كثيرة، ودخلت مائة حرب ليست حرباً واحدة، وما من موضع في جسدي إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح أو رمية سهم، وها أنا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء، ولقد طلبت الموت من مظانه فلم يقدر لي إلا أن أموت على الفراش، وما من شيء أرضى عندي بعد لا إله إلا الله -أكثر شيء يرجوه في الدنيا بعد لا إله إلا الله- قال: من ليلة شديدة البرودة في سرية من المهاجرين بتها والسماء تنهل علي بالمطر، وأنا أنتظر حتى أغير على الكفار؛ فعليكم بالجهاد، فعليكم بالجهاد، فعليكم بالجهاد].
لم نخش طاغوتاً يحاربنا ولو نصب المنايا حولنا أسوارا
ندعو جهاراً لا إله سوى الذي خلق الوجود وقدر الأقدارا
نفوسنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا(41/4)
ألب أرسلان وشجاعته
وهذا ألب أرسلان -اسمع إلى هذا الرجل ماذا فعل- سمع أن الروم قد حشدوا ستمائة ألف من الجيش، أكثر من نصف مليون جنود وعسكر وجيش، معهم الأسلحة، إذا رأيتهم تخاف من منظرهم، قد غطوا الجبال والسهول والوديان والأراضي، فسمع ألب أرسلان بهؤلاء، فقال لأصحابه وكانوا عشرين ألفاً -عشرون ألفاً ماذا يفعلون أمام ستمائة ألف من الكفار؟! - فقال لهم: ماذا تفعلون؟ الموت محتم لكم، إما أن نموت بكرامتنا وإما أن نموت بذلنا.
قالوا: اذهب أينما تذهب، فنحن خلفك، فسار بالجيش وهم عشرون ألفاً، كلهم رجال شجعان يمشون خلفه، فعدهم في الطريق فإذا خمسة آلاف قد رجعوا، فصاروا خمسة عشر ألفاً، فلما اقترب من جيش الكفار عد أصحابه فإذا هم اثنا عشر ألفاً، رجع ثلاثة آلاف ولم يبقَ إلا اثنا عشر ألف فارسٍ شجاعٍ، كلهم قد وضع نفسه على كفيه، يريد الموت قبل أن يطلب الحياة، وقفوا أمام ستمائة ألف من النصارى الروم، وقد صفوا عشرين صفاً لا يُرى أولهم من آخرهم، وملكهم خلف هذه الصفوف، فقال ألب أرسلان لجيشه: إني قد عزمت ألا أقاتلهم إلا بعد الزوال.
قالوا: ولم؟ قال: لأن في هذه الساعة يوم الجمعة كل المسلمين يدعون أن يعز الله دينه؛ فأحببت أن تصيبني دعوة المسلمين.
قالوا: افعل ما تفعل، فلما زالت الشمس صلى وقام في الناس يدعو والناس يؤمنون خلفه، فاقترب الصفان، فقال لمن خلفه: إذا أنا حملت فاحملوا معي دفعة واحدة ستمائة ألف أمام اثني عشر ألفاً! قال: إذا أنا حملت فاحملوا معي دفعة واحدة، ولا ترموا بسهم حتى أكون أولكم رمياً، قالوا: افعل ما تفعل، فكبر وكبر الناس خلفه، فاخترقوا الصف الأول والثاني والثالث، وعشرين صفاً اخترقوها حتى وصلوا إلى ملكهم، فأسروه وقتلوا من حوله، ورفعوا رأس أحدهم على رمح، فقال قائل منهم: قتل الملك قتل الملك.
فاضطربت صفوف المشركين الكفار، وفروا وذلوا وهربوا، فقتلهم المسلمون شر قتلة، فأُسر ذلك الملك النصراني الرومي، فأتي به إلى ألب أرسلان وهو جالس على سريره، فأتي به وهو مربوط بالحبال، فقيل له: ماذا نفعل فيه؟ فقال ألب أرسلان لذلك الرومي: لو كنت في مكاني ماذا كنت تفعل؟ قال: أقتلك.
فقال ذلك المسلم الشجاع المقدام: أنت أذل عندي من أن أقتلك، اذهبوا فبيعوه في المسلمين.
فذهبوا به بالحبال مربوطاً كي يبيعوه من ضمن الأسرى، كلما مروا على ملأ لم يشترِه أحد بأبخس الأثمان، ولم يشتره أحد، حتى جاءوا في آخر الجيش على رجل عنده كلب -أجلكم الله- فقال ذلك الرجل المسلم: لو بعتموه لي بهذا الكلب اشتريته -ملك النصارى تبيعوه بهذا الكلب! - فأتي به إلى ألب أرسلان فقالوا: يريد أحد المسلمين أن يشتريه بكلب، فقال الملك: لَلْكلب أشرف من هذا الرجل، لَلْكلب أشرف من هذا الرجل، فالكلب ينفع وهذا الرجل لا ينفع، أعطوه لهذا الرجل مع هذا الكلب يقول الله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169].
لقد انطلق حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أولئك السلف حتى وصل إلى قلوبهم: (إذا رضيتم بالزرع، وتبايعتم بالعينة، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم).
أحد المهاجرين في إحدى الغزوات حمل على المشركين حتى اخترق الصفوف، فأصيب بالسهام والنبال والسيوف والرماح، فقال بعض الناس: ما بال هذا الرجل يلقي بيديه إلى التهلكة؟ فقال أبو أيوب الأنصاري: [نحن والله أعلم بهذه الآية إذ نزلت، نزلت فينا معشر الأنصار، قاتلنا مع رسول الله وتركنا الأموال والضياع والأولاد، وقاتلنا مع رسوله، فلما أعز الله دينه وفشا الإسلام رجعنا بيننا وبين أنفسنا فقلنا: لو أصلحنا ضياعنا ومزارعنا وأموالنا، فأنزل الله فينا: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195]].
وقام أبو بكر في الناس خطيباً فقال: [أيها الناس! اطلبوا الموت توهب لكم الحياة].
حتى قال بعضهم:
فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن على شرجع يُعلى بخضر المطارف
يا رب! إن جاءت ساعة الوفاة فلا تجعلني أموت على فراش أخضر.
فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن على شرجع يُعلى بخضر المطارف
ولكن أحن يومي سعيداً بعصبة يصابون في فج من الأرض خائف
عصائب من شيبان ألَّف بينهم تقى الله نزّالون عند التزاحف
إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى وصاروا إلى موعود ما في المصاحف
أناس يحبون الموت كما تحبون الحياة! أتعرف لم يا عبد الله؟ لأن الموت لا يصيبهم إلا كقرصة نملة، فإذا مات فإنه يغفر له من أول قطرة دم، يغفر له جميع الذنوب، أما إذا بعث فإنه يؤمن الفزع الأكبر وفتنة القبر، ويزوج باثنتين وسبعين من الحور العين، يرى مخ ساقها من وراء اللحم والعظم.
عبد الله: أولئك يتمنون الشهادة كما يتمنى أولئك الحياة!(41/5)
عبد الله بن المبارك وجهاده في سبيل الله
أسمعت بـ ابن المبارك؟ أظنك سمعت به، هذا الرجل كان عالماً فقيهاً، كان يعلم الناس، وكان عابداً، وكان زاهداً، وفي يوم من الأيام ذهب إلى المعركة، ذهب إلى الجهاد، فلما رأى الغزو والقتال والمعارك والشهادة في سبيل الله، ولما رأى الحياة الحقيقية، قال في نشوة: [إنا لله وإنا إليه راجعون على أعمار أفنيناها، وأيام قطَّعناها في علم الخلية والبرية، وتركنا أبواب الجنة خلفنا!] وتركنا أبواب الجنة مفتوحة خلفنا.
نعم -يا عبد الله- إن العلم من أفضل أنواع النافلة، إن العلم جهاد، يكفيه شرفاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم) ولكن صاحب الجهاد يصاب بنشوة، يصاب بحياة، يشم رائحة الجنة وهو على الأرض، يمشي ويستنشق عبيرها، فلهذا يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! ضيعنا العمر وضيعنا الحياة، وهذه هي الحياة الحقيقية؛ فكتب رسالة للفضيل بن عياض الذي جاور الحرم، الذي جلس عند بيت الله ليعبد الله، كتب له رسالة يقول فيها:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب
نعم، أنتم لكم الطيب لكم العبير لكم البخور لكم الفرش لكم الدنيا
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب
لا يجمعان غبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب(41/6)
بسر بن أرطأة وقتاله للنصارى
وهذا بسر بن أرطأة، يرى أن جيش الإسلام كلما تقدم كُسِر، وكلما تقدم كُسِر، ما الذي يحصل؟ يأتي كمين من النصارى ولا يدرى أين هذا الكمين! فرجع جيش المسلمين وتحصنوا، فخرج هذا الرجل على فرسه، فرأى إحدى الكنائس وبجوارها براذين من براذين النصارى الفرسان، وعلم أن هذا الكمين مختبئ في تلك الكنيسة، فماذا سيفعل هذا الرجل؟ ربط فرسه عند الكنيسة، ودخل داخل الكنيسة لوحده، وأغلق الباب خلفه، ولما رآه النصارى تعجبوا: ماذا يفعل هذا الرجل؟! فرفع السيف وأخذ يقاتلهم لوحده في الكنيسة، فقتل ثلاثة، وأصيب بمقتلة، وبحث عنه المسلمون فلم يجدوه، فوجدوا فرسه عند الكنيسة، وسمعوا جلبة داخل الكنيسة، فعلموا أنه داخل الكنيسة يقاتل لوحده، فكسروا الباب، ودخلوا عليه وهو يقاتل وهو يمسك بأمعائه، قد شج بطنه وسقطت أمعاؤه فأمسكها بيده وهو يقاتل النصارى بسيفه بيده اليمنى، فأخذوا يقاتلون معه حتى قتلوا النصارى وأسروا من أسروا منهم، فلما جيء به وأرجعت أمعاؤه إلى بطنه وعولج، قال النصارى: ننشدكم بربكم إلَّا أخبرتمونا من هذا؟ قالوا: هذا بسر بن أرطأة، قالوا: والله ما ولدت النساء مثله، والله ما ولدت النساء مثله.
نعم يا عباد الله! إنه سمع قول الله عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} [آل عمران:142] بغير جهاد! بغير صبر! {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142].
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم منارا
كنا جبالاً في الجبال وربما صرنا على موج البحار بحارا
بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا
لم تنسَ أفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
وكأن ظل السيف ظل حديقة خضراء تنبت حولنا الأزهارا
قام النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال لأصحابه: (وددتُ أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل) {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} [آل عمران:145].
أيها الأخ الداعية إلى الله: لماذا يمنعك الخوف؟ لماذا تفكر في الموت؟ لماذا دائماً يرهبك هذا العذاب وهذا السجن وهذا الطرد وهذا القتل وهذا الزحف؟ لماذا تخاف من هذا كله؟ ألم تعلم أن الموت مكتوب وأن هذه الجيوش وهذه الأسلحة لن تقدم في موتك ولا ثانية واحدة؟(41/7)
نماذج من الصحابة للجهاد في سبيل الله
البراء بن مالك في يوم اليمامة، أتعرف ماذا فعل؟ قال لأصحابه: احملوني على حصنهم واقذفوني فيه، فيُحمل فيرمى في الحصن لوحده، فيقتُل منهم ويقاتل حتى قتل منهم عشرة لوحده في الحصن، حتى فتح الباب للمسلمين ودخلوا فوجدوا فيه أكثر من ثمانين ضربة وطعنة.
أسمعت بـ أنس بن النضر؟ شم رائحة الجنة على الأرض وقال: واهٍ لريح الجنة يا سعد! إني أجدها من دون أحد.
أسمعت بـ عمير بن الحمام الذي قاتل فرمى التمرات وقال: إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات.
فقاتل حتى قتل {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23].
إن رأيتَهم في الجهاد فهم الأوائل.
وإن رأيتَهم في الدعوة إلى الله فهم الدعاة.
وإن رأيتَهم في الصدقة فهم أول الناس يتصدقون.
إن رأيتهم في الليل فهم البكاءون المصلون الساجدون الراكعون.(41/8)
السلف الصالح واجتماعهم وتراحمهم وصفاء قلوبهم
الصفحة الثالثة والأخيرة: انظر إلى حالهم مع المؤمنين، بينهم وبين عباد الله: (جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى).(41/9)
عمر بن الخطاب رضي الله عنه واهتمامه بأمر المسلمين
خرج عمر بن الخطاب يوماً من الأيام ومعه غلام يسمى أسلم -وكان أميراً للمؤمنين- فرأى ناراً من بعيد، فقال لـ أسلم: مَن هؤلاء الناس في هذه الليلة المظلمة الباردة وعندهم هذه النار؟ هيا بنا نذهب إليهم، فذهب عمر فوجد امرأة عجوزاً وعندها صبية صغار يبكون ويصيحون، وعندها قدر فيه ماء يغلي فوق النار، فقال لها عمر -وهي لا تدري أنه عمر -: السلام عليكِ، فردت عليه السلام، قال لها: أأقتربُ؟ قالت له: اقترب، فاقترب منها وقال: ما شأنك يا أمة الله؟ قالت: الجوع يا هذا.
قال: وما شأن صبيانك؟ قالت: ألهيهم بهذا القدر حتى يناموا من شدة الجوع.
فقال لها: وماذا تريدين؟ قالت: أن أقف وعمر عند الله، فأحاسب عمر عند الله عز وجل، فقال عمر: وما يدري عنك عمر، وما الذي يُعْلِم عمر بحالك؟ فقالت تلك المرأة: يتولى أمور المسلمين ثم يغفل عنا، ويله من الله! فبكى عمر حتى اخضلت لحيته، ثم قال لـ أسلم غلامه: اذهب معي، قال: فهرول عمر وهرولت خلفه حتى أتى بيت الدقيق، فأخذ الدقيق وقال لغلامه: احمله على ظهري قال: أنا أحمله عنك يا أمير المؤمنين! قال: وهل تحمل عني وزري يوم القيامة؟ احمله على ظهري.
قال: فحمّلته على ظهره، فهرول حتى أتى إلى تلك المرأة، فأخذ يعجن ويطبخ ويقدح لها، حتى أكلت وأطعمت الصبيان، فذهب عمر وجلس من بعيد ينظر إليهم، فقلت له: ما شأنك؟ قال: اصبر، فَسَكَتُّ، قال: فنظر إليهم حتى شبع الصبيان وأكلوا وناموا، قال: والله ما كنت لأدعهم حتى يشبعوا ثم يناموا.
فذهب عمر وهو يبكي، أتعرف لماذا؟ لأنه يتمثل قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] ما هي أول صفة لهم؟ {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54].(41/10)
بكر بن عبد الله المزني وإحسان الظن بالآخرين
بكر بن عبد الله المزني يقف على عرفة والناس يبكون ويدعون ويتضرعون، فقال قولته المشهورة: [لولا أني فيهم لظننت أن الله قد غفر لهم] بينهم وبين أنفسهم كانت الصدور سليمة، لا يحملون في قلوبهم الغل ولا البغضاء ولا الحقد ولا الحسد.
يقول صلى الله عليه وسلم والحديث مقطوع: (من يستطيع منكم أن يكون كـ أبي ضمضم؟ قالوا: مَن أبو ضمضم يا رسول الله؟ قال: هذا رجل كان إذا أصبح في كل يوم يقول: اللهم إني قد وهبت نفسي وعرضي، فلا يظلم من ظلمه، ولا يشتم من شتمه) العفو والصفح شيمتهم.(41/11)
الإمام أحمد وعفوه عن المعتصم
الإمام أحمد في ليلة من الليالي قام الليل وسجد فأخذ يبكي رحمه الله، وفي الصباح سئل: ما لك يا إمام -رحمك الله- رأيناك تبكي في الليل؟ قال: مر علي في الدرس قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] فذكرت المعتصم الذي كان السبب في جلدي، فصليت وسجدت فدعوت الله أن يغفر له وأن يحلله.
هل وصلنا إلى أولئك السلف؟ لقد كان في قلوبهم إحسان الظن والتماس المعاذير، كانوا لا يتلمسون الأخطاء، ولا يطلبون الهفوات، ولا ينشرون الزلات بين الناس، قلوبهم كالقلب الواحد، أجسادهم كالجسد الواحد، كانوا يتمثلون الإنصاف، ويتعاملون بالعدل، ولا يقومون إلا بالقسط، كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة:8].(41/12)
موقف عائشة رضي الله عنها ممن كان السبب في قتل أخيها
عائشة رضي الله عنها يأتيها رجل، فيسألها أسئلة، ثم قالت له (>من أين أنت؟ قال: من مصر، فقالت له رضي الله عنها: أما إنه لا يمنعني ما فعل صاحبكم بأخي محمد -أي: أميرهم وواليهم الذي كان السبب في قتل أخيها- قالت: لا يمنعني ما فعل في أخي محمد أن أقول ما سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في داري هذه: اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به) تدعو له رضي الله عنها وأرضاها؛ لأنها سمعت أنه كان يرفق بجيشه، ويرفق بعبيده وبأصحابه.
عباد الله: هذه لمحات سريعة وصفحات قليلة من تاريخ سلفنا الصالح.
إن رأيتَهم في الليل فهم قُوّام الليل {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16] يبكون ويصلون ويركعون ويسجدون.
إن رأيتَهم في النهار فهم الدعاة إلى الله، المجاهدون في سبيل الله، المتصدقون، الآمرون بالمعروف، الناهون عن المنكر.
إن رأيتَهم مع بعضهم فهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.
إن رأيتَهم في علم فهم طلبة العلم.
إن رأيتَهم في عبادة فهم السباقون.
إن رأيتَهم في النفقة فهم المتصدقون.
نعم والله؛ لأن الجنة جعل لها ثمانية أبواب.
عبد الله: إن فتح الله لك باب علم فلا تنقم على أهل الجهاد، وإن فتح الله لك باب جهاد فلا تنقم على أهل العلم، وإن فتح الله لك شيئاً من هذا وهذا فلا تنقم على أهل العبادة، وإن فتح الله لك باب عبادة فلا تنقم على أهل الصيام وأهل الصدقة وأهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن في الجنة ثمانية أبواب:
فمن كان من أهل الصلاة دخل من باب الصلاة.
ومن كان من أهل الجهاد دخل من باب الجهاد.
ومن كان من أهل الصيام دخل من باب الريان.
ومن كان من أهل الصدقة دخل من باب الصدقة.
عبد الله: لنكن كلنا كما كان السلف؛ دعوة، ودين شمولي، يشمل الجهاد والدعوة والعلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعبادة والصيام والصدقة نعم والله {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران:19] دين الله يشمل الحياة كلها.
إن رأيتَهم في الخُلُق فهم أروع الناس خُلُقاً.
وإن رأيتَهم في العبادة فأكثر الناس عبادة، {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29].
وإن رأيتهم في الجهاد فما من موضع في جسد أحدهم إلا وفيه ضربه بسيف، أو رمية بسهم، أو طعنة برمح.
عباد الله: هذه بعض النماذج من حياة سلفنا الصالح.
أسأل الله عز وجل أن يحشرني وإياكم معهم في مستقر رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(41/13)
الأسئلة(41/14)
نصيحة لمن لا يعبد الله إلا في رمضان
السؤال
أرجو توجيه نصيحة إلى الذين لا يعبدون الله إلا في رمضان المبارك.
الجواب
هذه عادة -أيها الإخوة- نراها كل سنة، بعض الناس لا يعرف الله عز وجل إلا في رمضان، ما يدريك -يا عبد الله- لعل ساعتك ومنيتك تأتيك بعد رمضان، في شوال أو في ذي القعدة أو في ذي الحجة أو في محرم، لعلك تأتيك الساعة والمنية!
بل من كان لا يعبد الله إلا في رمضان فهذا تكلم عن إخلاصه، وشك في نيته، بل لعله يصاب ببعض الرياء؛ لأنه لا يعبد الله عز وجل إلا لأجل رمضان، فإذا انتهى رمضان ترك الله عز وجل.
أقول لهؤلاء: اتقوا الله عز وجل، واعلموا أن الله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم:27] فالذين يضلهم الله هم الظالمون، {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
بل قال الله عز وجل حكاية عن المؤمنين: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران:8].
والله أعلم.(41/15)
الندم من شروط التوبة
السؤال
أنا شاب تائب، وعلمت أن التوبة تكون مقبولة بشروط، ومن هذه الشروط: الندم، ولكني لم أندم على ذنبي، وقد أقلعت عنه، ثم عاودتُ بعد فترة، فهل يغفر الله لي في توبتي هذه؟
الجواب
لا تقبل التوبة إلا بالندم، والذي ليس بنادم وغير متضايق من فعله، وغير متحسر من ماضيه الأسود، فإن التوبة لا تقبل منه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (الندم توبة) وقال الله عن أهل مسجد ضرار: {إِلّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} [التوبة:110].
وإذا لم يتقطع القلب ولم يتحسر ولم يندم على تلك المعصية فإن التوبة لا تقبل، فلا بد أن يحصل شيء من الندم في القلب، ثم إقلاعٌ عن المعصية، ثم عزمٌ على ألا ترجع إليها، فإن رجعت فعاود التوبة مرة وأخرى، فإن الله كان للأوابين غفوراً.(41/16)
حكم شرب الدخان
السؤال
ما حكم الدخان؟ وأنا مُتَخوف منه كثيراً، مع العلم بأني أريد التوبة ولكن أصدقاء السوء لا ينصحونني.
الجواب
الدخان حرام بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تبارك وتعالى عن نبيه عليه الصلاة والسلام: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] وإذا قسمت الأشياء إلى قسمين: طيبات وخبائث، ففي أيهما تضع الدخان؟ لا أظنك تضعه إلا في الخبائث؛ إذاً فهو محرم.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) وحرم على الناس وعلى أصحابه وعلى المؤمنين إضاعة المال، ولو سألتك سؤالاً: الدخان هل هو في حفظ المال أو هو في إضاعة المال؟
ناهيك عما يحصل فيه من فساد العقل والصحة والجسد والقلب وفساد الدين، ثم بعد هذا تسأل: هل هو حلال أم هو حرام؟! بل هو حرام في كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.
ثم يا عبد الله! أتعجب منك والأمر عجب! الصحابة كانوا يشربون الخمور، وقد أدمنوا على شرب الخمور، بل كان شربهم للخمور أكثر من شربهم للماء، فلما نزل قول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] وكان أحدهم يريد أن يشرب الخمر، فأهرق الإناء وكسره، حتى سالت شوارع المدينة بالخمور، وأنت تقول: ما أستطيع أن أترك الدخان، سبحان الله! أي ضعف في قلوبنا؟!
الواحد منا -أيها الإخوة- يطلب منه أن يجاهد الكفار وأن يقاتل المشركين وأن يجاهد الدنيا بأسرها وما يستطيع أن يجاهد دخاناً؟! والله يا إخوة هذه هي الذلة التي تحصل في قلب الإنسان، ومن الخور ومن ضعف النفس والإيمان حتى لا يستطيع أن يجاهد دخاناً.
أولاً: اتركه.
ثانياً: اترك هذه المجالس التي تذكرك بهذا الدخان (إنك بأرض سوء فاتركها واذهب لأرض كذا وكذا فإن فيها قوماً يعبدون الله) اترك هذه المجالس، اترك أصحاب السوء الذين يذكرونك بالدخان ويذكرونك بتلك الأيام والليالي، اتركهم واهجرهم في الله عز وجل، {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63].
وادخل مع أهل الخير، أهل الصلاح، الذين إن وضعوا في أفواههم شيئاً فهو السواك (مطهرة للفم مرضاة للرب) وإن تكلموا فبذكر الله، وإن نطقوا فبطاعة الله، وإن أمروا فبالمعروف، وإن نهوا فعن المنكر، خالطهم واجلس معهم فإن في صحبتهم خيراً.(41/17)
حكم لعب الجندفة
السؤال
ما حكم لعب الجَنْدِفَة؟
الجواب
نقول ما قلناه في الدخان.
عبد الله!
قد هيئوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ
أناس الآن في إسرائيل، الواحد منهم يبلغ الحلم فيعلمونه السلاح، وهذا يحصل في إسرائيل عند اليهود، والواحد منا قد شابت لحيته وهو يلعب الجَنْدِفَة!
يا إخوان: هذا -والله- من الضعف الذي وصلنا إليه، الواحد في دول الغرب دول الشيوعية ودول النصرانية منذ صغره يُعَلَّم على كره المصحف وعلى كراهية المسلمين، وعلى حمل السلاح وعلى الجهاد في سبيل باطلهم، ونحن -يا عباد الله- نسأل عن الجَنْدِفَة! وعن الدخان! وعن السيارات! ونسأل عن هذه الملهيات!
كيف كنا يا عباد الله! أسمعت بابني عفراء؟ كانا يحاولان لدى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيزهم في القتال، فلما أجازهم قتلوا مَن؟ قتلوا فرعون هذه الأمة، قتلوا أبا جهل، والواحد منا يسأل عن الجَنْدِفَة! ويسأل عن الدخان!
اقطع هذه الأوراق، اترك هذه المجالس، اهجر هذه المعاصي، واقدم على الله عز وجل {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] والله أعلم.(41/18)
هذا الحبيب يا محب!
إن محبة النبي صلى الله عليه وسلم شرط في صحة الإيمان، ومن أجل هذه الأهمية الكبرى جاءت هذه المادة مبينة أسباب محبة النبي صلى الله عليه وسلم الذي بعث رحمة للعالمين، فصبر من أجل دعوته، وتحمل مشاقها، فكان قدوة في صبره وأخلاقه وصلته بربه.
ولذلك علينا أن نلتزم الوسطية في علاقتنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن نجتنب منهجي الإفراط والتفريط في محبة النبي صلى الله عليه وسلم.(42/1)
أسباب محبة النبي صلى الله عليه وسلم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة السلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام: حديثي إليكم في هذه الجلسة هو من صلب الدين والإيمان، ومن صميم العقيدة، بل لا يتم إيمان العبد إلا بهذا الحديث الذي سوف أتكلم عنه، وتطبيق هذه المسألة من أصول الدين، ألا وهي علاقتنا بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول الرب جل وعلا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيكُمْ} [التوبة:24].
هل بقي شيء من الدنيا؟ ما بقي شيء؛ الأولاد، والأزواج، والأقرباء، والعشيرة، والأموال، والتجارات، والمساكن، كل شيء من الدنيا، لو كانت هذه الدنيا {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24] (ثلاث مَن كُنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان -بعض الناس يتساءل: أنا لا أشعر بلذة في الدين؟ لا أشعر بلذة في الطاعات؟ لا أشعر بلذة في الإيمان؟ اعلم أنه: -ثلاث مَن كُنَّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان -أول الثلاث:- أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما).(42/2)
اتباع النبي صلى الله عليه وسلم شرط في قبول العمل
يأتي رجل من الأنصار فيقول: (يا رسول الله! إنك لأحب إلي من نفسي، وإنك لأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر-فتخيل: الرجل يتذكر النبي في البيت فما يتحمل وما يصبر!! أيُّ حب وأيُّ تعلق بالنبي هذا! - يقول: لا أتحمل حتى آتي فأنظر إليك، وأجلس عندك، يقول: فإذا ذكرت الموت الذي سوف يفرق بيني وبينك فإني لا أطيق ولا أتحمل -أبكي ولا أصبر على فراقك- فيقول له النبي: قال الله جل وعلا: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [النساء:69] هذا هو الشرط؛ اتباع النبي- {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} [النساء:69]).
يا من تسمعني: ألا تتمنى لقاء النبي عليه الصلاة والسلام؟!
ألا تتمنى الجلوس بقربه؟!
ألا تتمنى معانقته ومصافحته؟!
ألا تتمنى أن تجلس فتستمع إليه؟!
الشرط: اتباع هديه عليه الصلاة والسلام، وقبله الإخلاص لله، قال صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى).
يأتي رجل فيقول: (يا رسول الله! متى الساعة؟ فيقول له النبي: وما أعددت لها؟ قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله -أعمالي قليلة، لكني أحب الله ورسوله- قال: إنك مع من أحببت) والمرء يحشر يوم القيامة مع من أحب.(42/3)
النبي رحمة للعالمين
نحبه؟ إي والله نحبه!! لِمَ نحبه؟
لأن الله عز وجل بعثه ليخرج الناس من عبادة العباد ومن عبادة الأصنام والأوثان إلى عبادة رب الأرض والسماء.
تَعِب عليه الصلاة والسلام، وتحمل في سبيل الدعوة إلى الله ليخرج الناس من الضلال إلى الهدى، ومن الظلام إلى النور، حتى بدأ المشركون يعادونه:(42/4)
صبره على تحمل الأذى من أجل الدعوة
هاهو يأتي يوماً من الأيام فيسجد عند الكعبة، فيأتي أشقى القوم ويلقي على ظهره سلى الجزور، ولا تأتي إلا ابنته فاطمة رضي الله عنها فتزيل عن ظهر أبيها سلى الجزور وهي تبكي، فيتم صلاته عليه الصلاة والسلام، ثم يستقبل القوم فيدعو عليهم واحداً واحداً.
يأتي يوماً من الأيام يطوف بالبيت وحول البيت الأصنام والأوثان، فيغمزه المشركون ويستهزئون به.
يأتي أشقى القوم يوماً من الأيام فيخنقه حتى كاد يقتله عليه الصلاة والسلام، ولا يدفعه عنه إلا أبو بكر أشجع الناس رضي الله عنه يدفع الفاسق المشرك وهو يقول: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28] فاستقبل المشركون أبا بكر فضربوه حتى أدموه، حتى لم يعرف رأسه من قفاه من شدة الدم، وظن الناس أن أبا بكر قد مات، فحمل إلى بيته فطببته أمه ولم تكن أسلمت في ذلك الحين.
فلما استفاق فرحت أمه، قالت: يا بني! اشرب شيئاً، يا بني! ذق شراباً، وكل شيئاً من الطعام، قال: لا والله! حتى تأتيني بخبر رسول الله، وأرسلها إلى إحدى النساء فذهبت، قالت: لا أعرف رسول الله ولا أعرف ابنك.
فجاءت بها إلى أبي بكر، فقال لها أبو بكر: ماذا صنع رسول الله؟ قالت: أمك موجودة -وقد كتمت إيمانها تلك المرأة- فقال: لا عليك إنما هي أمي، أخبريني عن رسول الله، قالت: هو بخير، قال لها أبو بكر: احمليني إليه، فلما هدأ الناس، وسكنت الأصوات، حُمِل أبو بكر بين أمه وتلك المرأة إلى رسول الله.
وكان رسول الله مستلق وحوله أصحابه الذين كتموا إيمانهم، فلما فتح الباب دخل أبو بكر على رسول الله يقبله وهو يبكي، والصحابة ينظرون، وبكوا من هذا المنظر، فقال أبو بكر: كيف أنت يا رسول الله؟ قال: ليس بي بأس يا أبا بكر! كيف أنت يا أبا بكر! قال: لا بأس بي إلا ما صنع الفاسق من وجهي، يا رسول الله! هذه أمي جاءت مشركة، فادعُ الله لها، فدعا الرسول لها، فلفظت أم أبي بكر الشهادتين، فقالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
غمزوه ولمزوه وسخروا به، بل وضربوه، وخنقوه، وكادوا يقتلونه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31].
أوذي، وخُنِق، ومُنع من الدعوة إلى الله، حتى قال فيه أبو لهب لما دعاهم على الصفا: تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟
يستقبل الناس في الحج فيغلقون آذانهم، ويغطون رءوسهم، يدخل عليهم خيامهم خيمة خيمة عليه الصلاة والسلام، يقول: (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا) فيدخل بعده رجلٌ أحول، وضيع الوجه، إنه عمه أبو لهب، يدخل خلفه فيقول: لا عليكم منه، إنه ابن أخي، إنه مجنون، إنه كذاب، إنه ساحر: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً} [الفرقان:31].
هاجر إلى الطائف يدعوهم إلى الله، فردوه، وتبعه العبيد والسفهاء بالحجارة، هل دعا عليهم؟ هل طلب من ملك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين؟ أو دعا على قريش؟ لا وربي.
رفع يديه إلى الله، وقال: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني! أم إلى قريب ملكته أمري! إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي، لكن عافيتك أوسع لي).
يخرج وهو مهموم، لم يفق إلا بـ قرن الثعالب، (يجلس عند إحدى المزارع، ويرسل إليه أحد المشركين خادماً له اسمه، عدَّاس يأتيه بشيء من العنب، وكان شاباً نصرانياً، فجلس عند رسول الله وقد أدميت قدماه الشريفتان، وسال الدم منهما، فجاء عدَّاس بالعنب إليه، فسمى الله رسول اللهَ فأخذ عدَّاس يسأله، فإذا بالنبي يجيب، فقال له النبي: من أين أنت؟ قال له عدَّاس النصراني: أنا من نينوى، قال: سبحان الله! من بلد النبي الصالح يونس بن مَتَّى، قال: ومن أخبرك بيونس بن مَتَّى؟! قال: إنه أخي، إنه نبي وأنا نبي مثله، فانكب عدَّاس على رسول الله يقبله وهو يبكي) علم أنه لا يعلم عن نبي الله يونس إلا نبي مثله، ورجع النبي إلى بلده.(42/5)
صبره في المصائب والإحن
خرج إلى الدنيا يتيماً لم يرَ أباه، ماتت أمه وهو صغير لم يبلغ الحلم، تربى عند جده، فلما مات جده ثم تربى عند عمه، فلما شب واستقام، دعا إلى الله ونصره أبو طالب الذي مات ولم يُسلم، احترق قلب النبي صلى الله عليه وسلم عليه، استغفر له اللهَ، فمنعه اللهُ جل وعلا.
تزوج من خديجة فإذا به يحبها كأشد ما يحب إنسان امرأته على وجه الأرض، ولكنها غادرت الدنيا وفارقته، وتُرك في هذه الدنيا بين مستهزئ وساخر، وشاتم وضارب، انظر ماذا يقول الشاعر فيه:
ولَّى أبوك عن الدنيا ولم تره وأنت مرتهن لا زلت في الرحمِ
وماتت الأم لما أن أنست بها ولم تكن حين ولَّت بالغ الحلمِ
ومات جدك من بعد الولوع به فكنت من بعدهم في ذروة اليتمِ
فجاء عمك حصناً تستكن به فاختاره الموت والأعداء في الأجمِ
ترمى وتؤذى بأصناف العذاب فما رُئيت في ثوب جبار ومنتقمِ
حتى على كتفيك الطاهرَينِ رموا سلى الجزور بكف المشرك القزمِ
أما خديجة من أعطتك بهجتها وألبستك رداء العطف والكرمِ
ولت إلى جنة الباري ورحمته فأسلمتك لجرح غير ملتئمِ
وشج وجهك ثم الجيش في أحد يعود ما بين مقتول ومنهزمِ
لما رزقت بإبراهيم وامتلأت به حياتك بات الأمر كالعدمِ
ورغم تلك الرزايا والخطوب وما رأيت من لوعة كبرى ومن ألمِ
ما كنت تحمل إلا قلب محتسب في عزم مفتقد في وجه مبتسمِ
صلى الله عليه وعلى آله وسلم، انظروا كيف صبر، فكيف لا نحبه؟ أوذي وصبر لأجل من؟ لولا صبره، لولا تحمله، لولا جهاده عليه الصلاة والسلام لكان الواحد منا الآن يعبد ماذا؟ يتأسى بمن؟ ينتهج أي دين؟ ماذا يكون مصيرنا؟(42/6)
صبره في تحمل التكاليف
(لما أرد الهجرة جاء لـ أبي بكر -صاحبه وأي صاحب! - في وقت لم يكن يأتيه فيه متقنعاً -الأمر غريب، الوقت ظهيرة- فدخل على أبي بكر، وعنده ابنته الصغيرة عائشة، فقال له أبو بكر: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي ما الذي جاء بك في هذه الساعة؟ قال: يا أبا بكر! اخرج مَن عندك وكانت عائشة جالسة، قال: يا رسول الله! إنما هم أهلك، فقال النبي لـ أبي بكر: يا أبا بكر! إن الله قد أذن لي في الخروج، فقال أبو بكر: يا رسول الله! إذاً: الصحبة -ماذا يختار؟ ماذا يريد أبو بكر؟ يريد أن يخرج في أخطر هجرة على وجه التاريخ، في أخطر رحلة يعرض فيها نفسه للقتل- فقال النبي: يا أبا بكر! الصحبة، الصحبة يا أبا بكر! فانفجر أبو بكر يبكي، تقول عائشة: والله ما كنت أحسب أن أحداً يبكي من الفرح إلا بعدما رأيت أبي يبكي في ذلك اليوم، يقول: الصحبة يا رسول الله! الصحبة يا رسول الله!).
يخرج معه في الهجرة فرحاً، فلما دخلا في الغار، ماذا صنع أبو بكر؟ لقد رأى جحراً في الغار فإذا به يضع رجله فيه ورجله الأخرى في جحرٍ آخر، ويده في جحرٍ ثالث، يخاف على رسول الله! لسعته حية -حي من هوام الأرض- فما أخرج يده، والرسول نائم ورأسه على فخذ أبي بكر، ولم يرفع أبو بكر يده ولا رجله من ذلك الجحر، فدمعت عينا أبي بكر، فسقطت دمعته على وجه رسول الله، فاستيقظ النبي، فقال: ما الذي أصابك يا أبا بكر! قال: لا شيء يا رسول الله! إلا أنه أصابني من هوام الأرض -لسعني شيء من هوام الأرض- فما أردت أن أوقظك، فأخذ النبي رجله فدعا له وبصق عليها، وكأن لم يكن به شيء.
والنبي يقول لـ أبي بكر بعد أن قال لما رأى المشركين عند المغارة يقفون: (لو نظر أحدهم إلى رجله لرآنا قال: أو تخاف يا أبا بكر؟ قال: لا أخاف على نفسي إنما أخاف عليك يا رسول الله! فقال النبي له: لا تخف يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما): {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:4].
(يخرجان من الغار، يمضيان إلى المدينة، فيلحقهما سراقة، ولم يكن أسلم في ذلك الوقت، وكان بطلاً شجاعاً -فكاد أن يصل إليهما، فبكى أبو بكر، فقال له النبي: لم تبكِ يا أبا بكر؟ فيقول: يا رسول الله! والله ما أبكي على نفسي، ولكن أبكي عليك، فابتسم النبي، وقال: اللهم اكفناه بما شئت، فغاصت قوائم فرسه في الأرض، فسقط منها، فعلم سراقة أن الأمر فيه شيء، وأن هذا الرجل ليس رجلاً كغيره من الرجال، لا بد أن عنده شيء من السماء -فقال له النبي: هل لك أن ترجع، ولا تخبر بأمرنا؟ قال: وماذا لي يا محمد؟ قال: لك يا سراقة! سوارا كسرى).
سوارا أعتى رجل على وجه الأرض، وصاحب أكبر دولة على وجه الأرض في ذلك الزمان، إنها فارس، وعليها كسرى.
سبحان الله! انظروا إلى يقينه بنصر الله، يقينه بموعود الله عز وجل، ثم يموت رسول الله، وتمضي السنون ويموت أبو بكر، فيأتي عهد عمر فتُفتح فارس، ويؤتى بسواري كسرى إلى عمر بن الخطاب، فيقول عمر: [أين سراقة بن مالك؟ أين سراقة بن مالك؟ فيؤتى بـ سراقة وكان قد أسلم وجاهد في سبيل الله، فقال له عمر: يا سراقة! إليك سواري كسرى، هذا وعد رسول الله]: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].
يأتي النبي إلى المدينة والصحابة والأنصار ينتظرونه في كل يوم، فإذا اشتد حر الظهيرة رجعوا إلى منازلهم، وفي ذلك اليوم رجعوا لما اشتدت الشمس بحرها، فلما رجعوا فإذا بيهودي يصعد على أطم من الآطام، فيرى ظلين من بعيد، فيعرف أنه الرسول وصاحبه، فيرجع إلى الأنصار، فيقول: يا معشر الأنصار! يا معاشر العرب! هذا جَدُّكم الذي تنتظرون، هذا نبيكم الذي تنتظرون، فثار الأنصار إلى سلاحهم واستقبلوه عند أبوابهم وهم يكبرون، ويقولون: الله أكبر! الله أكبر! جاء نبي الله، جاء نبي الله، استقبلوه في الشوارع، وعلى سطوح المنازل، بالرجال والنساء والأطفال وهم يكبرون.
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2].
فإذا بالنبي يدخل المدينة، يقول أنس: أضاء في المدينة كل شيء، بنى المسجد، وأسس الدين، ونشر الهداية في قلوب المؤمنين، أسرهم بحبه، وبأخلاقه عليه الصلاة والسلام.(42/7)
أخلاقه صلى الله عليه وسلم ومحبة أصحابه له
كان يجلس مع الشيوخ ويجالس الصبيان والأطفال، فإذا به يسلم عليهم واحداً واحداً.
تأتي إليه الجارية وهو نبي الله وخير من وَطأ قدمُه الثرى عليه الصلاة والسلام فتمسك يديه الشريفتين فتذهب به حيث شاءت، تسأله عن حاجتها، فيقضي لها حاجتها عليه الصلاة والسلام.
دعا إلى الله فما جزع ولا كلَّ ولا ملَّ.
يأتيه الأعرابي يوماً من الأيام وهو يخطب الجمعة، فيقول: (يا رسول الله! علمني ديني، فينزل من خطبته، ويجلس إليه يعلمه أمر دينه) الله أكبر!
لما أتى رجل من الأعراب فبال في المسجد فكاد الصحابة يقتلونه، أو يهموا به، فيقول للصحابة: (دعوه، دعوه، لا تزرموه -رحمة وأي رحمة! - فيأتيه النبي بعد أن يقضي بوله، يقول له: يا فلان! إن هذه المساجد لم توضع لكذا وكذا، إنما وضعت للصلاة والذكر، وقراءة القرآن والعبادة، فيقول الرجل -بعد أن يرى خلقه-: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، فيبتسم النبي، ويقول له: لقد حجرت واسعاً يا هذا) {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
كانوا يحبونه حباً جماً، وفي الجهاد تظهر صور من المحبة:
1 - هذا طلحة رضي الله عنه، في غزوة أحد يقاتل دون النبي عليه الصلاة والسلام، وكلما أراد أن يتقدم يؤخره النبي صلى الله عليه وسلم ويقدم غيره.
قال: (أنا يا رسول الله! فيقول له النبي: اجلس، فيقاتل أحد الصحابة فيقتل، حتى جاء دور طلحة رضي الله عنه، فيقاتل حتى قُطِعَت أصابعه، فإذا به يقول: حسبي، قال صلى الله عليه وسلم: إذا قلت: باسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون).
2 - أبو طلحة الأنصاري في أحد، يقول: (يا نبي الله! بأبي أنت وأمي لا تُشْرِف لا يصيبنك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك يا رسول الله).
3 - أبو دجانة في معركة أحد، يترِّس نفسه على النبي، والسهام والنبال تقع على ظهره رضي الله عنه وهو لا يبالي، ولا يهتم رضي الله عنه، لأن السهام تقع على ظهره ولا تصيب رسول الله.
مَن هذا النبي الذي أحبه الناس هذا الحب؟ قال الشاعر فيه:
أصفى من الشمس في نطقٍ وموعظةٍ أمضى من السيف في حُكْم وفي حِكَمِ
أغَرُّ تشرق من عينيه ملحمةٌ من الضياء لتجلو الظُّلْم والظُّلَمِ
في همة عصفت كالدهر واتقدتْ كم مزقت من أبي جهل ومن صنمِ!
محرر العقل باني المجد باعثنا من رقدة في دثار الشرك واللممِ
بنور هديك كحلنا محاجرنا لما كتبنا حروفاً صغتَها بدمِ
4 - هذا أحد الأنصار: يقول النبي: (مَن يشتري لنا نفسه؟ فيقول الرجل: أنا يا رسول الله! فيدخل الرجل في صفوف المشركين -انظر للتضحية لرسول الله- فيقاتل الرجل حتى تثخنه الجراح، فيحمل وقد سالت الدماء من على جسده، فيوضع والنبي جالس عليه الصلاة والسلام، فيوضع خده على قدم النبي عليه الصلاة والسلام، ويقول النبي: أدنوه مني، فإذا بالرجل خده على قدم النبي تفيض روحه إلى بارئها).
5 - سعد بن الربيع: يقول النبي: (أين سعد؟ أين سعد؟ ابحثوا عن سعد، وائتوني بخبره، فيذهب الصحابة يبحثون عنه، فيأتيه رجل وإذا بـ سعد يحتضر، في الرمق الأخير، فيقول له: يا سعد! إن رسول الله يقرؤك السلام، ويقول: كيف تجدك؟ فيقول سعد: أبلغه مني السلام، وأخبره أني أجد ريح الجنة -الله أكبر! وهو في الدنيا يشم رائحة الجنة- ثم أخبر قومي الأنصار، وقل لهم: لا عذر لكم! أن يُخْلَص إلى رسول الله وفيكم عين تطرف).
6 - هذا أنس بن النضر لما رأى بعض الصحابة جالسين، قال لهم: [ما الذي أجلسكم؟ قالوا: مات رسول الله، قال لهم: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله] فأخذ أنس يخترق صفوف المشركين، فيقاتل في سبيل الله، فيصاب بأكثر من ثمانين ضربة وطعنة، فيخر على الأرض صريعاً: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23].
7 - أما في حنين وما أدراك ما الذي حصل في حنين؟! لما تراجع الناس تقدم أشجع الناس، إنه رسول الله عليه الصلاة والسلام، يتقدم وهو على بغلة، والصحابة يمسكون زمامها، يريد النبي أن يتقدم في صفوف المشركين رافعاً عصاه وسلاحه وهو يقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، يا عباس! نادِ أصحاب السمرة، نادِ أصحاب البيعة، فيناديهم العباس، فإذا بالصحابة يتذكرون تلك البيعة التي بايعوا فيها النبي على الجهاد، فيرجعون بدوابهم، ومن لم يستطع الرجوع بدابته يرمي نفسه من عليها، وهو يقولون: لبيك رسول الله! لبيك رسول الله! فديناك بآبائنا وأمهاتنا).
لما انتهت المعركة قسم النبي الغنائم على الذين أسلموا حديثاً، ولم يعطِ الأنصار شيئاً، خاف الأنصار أن النبي قد هجرهم، وأنه سوف يرجع إلى وطنه، وبلاده، فإذا بالنبي يجمعهم في حائط، فيقول لهم: (يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟! وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟! وعالة فأغناكم الله بي؟! فبكى الأنصار، وقالوا: الله ورسوله أَمَنُّ، الله ورسوله أَمَنُّ.
ثم قال لهم النبي -اسمع ما الذي قال! -: ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون بالنبي إلى رحالكم؟! فبكى الأنصار، وقالوا: الله ورسوله أَمَنُّ، ثم قال لهم: لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، لو سلك الناس وادياً وشعباً وسلك الأنصار آخر؛ لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار والناس دثار، إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار أخذ يدعو لهم، فبكى القوم حتى ارتفع صوتهم بالبكاء، واخضلَّت لحاهم وهم يقولون: رضينا برسول الله قَسَماً وحَظَّاً) {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].(42/8)
حرصه على دعوة الآخرين
سَمِع النبي صلى الله عليه وسلم أن يهودياً من جيرانه مريض، ماذا يصنع وهم أشد الناس عداوة له؟! ماذا يفعل نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام؟! هل فرح؟! هل استبشر بأن يهودياً مرض؟! هل دعا عليه بالموت؟!
بل زاره، عاده وجلس عند رأسه، شاب مريض وعنده أبوه، يهودي كبير، أتعرف ماذا قال له؟ قال له النبي: (يا فلان! قل: لا إله إلا الله، واشهد أني رسول الله، فإذا بالشاب لا يرد على النبي عليه الصلاة والسلام، وينظر الشاب إلى أبيه -واليهود يعرفونه كما يعرفون أبناءهم- ماذا يقول له أبوه؟ أتعرف ماذا قال أبوه؟ قال اليهودي الكبير: يا بني! أطع أبا القاسم، فقال الشاب: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فمات الشاب من ساعته، وخرج النبي متهللاً مبتسماً ضاحكاً، وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار بي)، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
كان المنافقون يسبونه ويشتمونه، وكان يدعو لهم ويستغفر لهم، بل صلى عليهم حتى قال الله عز وجل: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80] قال: لأزيدن عن السبعين مرة، فنهاه الله عز وجل، انظر إلى رحمته!
كان ينادي حليمة السعدية -مُرْضِعَتَه- وهو قد تجاوز الأربعين من العمر: يا أماه.
استأذن ربه أن يزور قبر أمه وقد ماتت مشركة، فأذن الله له، فاستأذنه أن يستغفر لها، فلم يأذن الله له، فكان إذا مر على المقبرة زار قبرها، وأخذ يبكي عليه الصلاة والسلام، رحمة وأي رحمة!
زيد بن حارثة، مولىً من الموالي، خدم عند النبي سنين، فلما جاءه أبوه وأراد أن يرجعه إليه، فطلب زيد من أبيه أن يبقى عند النبي صلى الله عليه وسلم، يقدمونه على آبائهم وأمهاتهم وأبنائهم، حب وأي حب هذا!(42/9)
حِلمه صلى الله عليه وسلم
يأتيه رجل من الأعراب فيجذبه من ردائه، حتى أثَّر الرداء على صفحة عنقه عليه الصلاة والسلام، فإذا بالأعرابي يقول: (يا محمد! أعطني من المال -أعطني شيئاً من المال- فإذا بالنبي يبتسم، ويقول لأصحابه: أعطوه من بيت المال).
يسوِّي الصفوف يوماً من الأيام، فإذا برجل من الصحابة متقدم فيدفعه النبي فكأن وجهه قد تغير، فقال له النبي: (أوجعتك؟ قال له: نعم، قال: أتريد أن تقتص؟ قال الصحابي: نعم -الله أكبر! قائد الجيش مع فرد من الأفراد- قال: خذ حقك، والصحابة ينظرون، فقال له الرجل: يا رسول الله! إن بطني مكشوف، فاكشف لي عن بطنك، فكشف النبي عن بطنه -يريد الصحابي الآن أن يأخذ حقه، أتعرف ماذا صنع؟ - انكب الصحابي على بطن النبي وأخذ يقبله وهو يبكي، قال النبي: لم فعلت هذا يا فلان؟ قال: أردتُ -قبل الجهاد ربما أموت- أردت أن تمس بشرتي بشرتك قبل أن ألقى الله عز وجل).
{ن وَالْقَلَمِ} [القلم:1] انظر للقسم! {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:1 - 4] مَن الذي يصفه بهذا؟ رب العالمين جل وعلا، يصفه بأنه على خلق عظيم.
في معركة بدر يقول عبد الرحمن بن عوف: [غمزني شاب عن يميني، قال: يا عم! أين أبو جهل؟ قلت: ما شأنك وشأنه يا غلام؟ قال: لقد سمعت أنه سب رسول الله، فوالله إن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعدل منا! سبحان الله! قال: فغمزني شاب عن يساري، فقال لي نفس الكلام، قال: سمعت أنه سب رسول الله].
أين شباب الأمة اليوم؟! أين هم مِن الذين يسبون رسول الله؟! أين هم من الذين يطعنون في رسول الله؟! أين هم من الذين يستهينون بسنة رسول الله؟! أنا لا أقول: نغتالهم، بل ندافع عن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، إن كان الأمر جهاداً فالقتل هو نهاية من يطعن في رسول الله، الحرب والقتل والجهاد.
قال: [فلما رأيت أبا جهل قلت لهما: هذا صاحبكما، فانقضا عليه كما ينقض الصقر على الفريسة، فأردياه قتيلاً] لمه؟ إنه الحب لرسول الله، الحب الذي لا يعدله حب ألبتة.
يقول أحد الكفار المستشرقين: لو كان محمدٌ حياً لحل مشاكل الشرق والغرب -كل المشاكل؛ الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية- وهو يشرب فنجان قهوة.
أتعرف لمه يا عبد الله؟ لأنهم يعرفون قدره.(42/10)
صلته بالله تبارك وتعالى وخشيته له
كان يحب الله عز وجل، كثير العبادة، وكان إذا جاء عليه الليل صلى الله عليه وسلم وأرخى ستوره، يقوم بين يدي الله يصلي ويبكي، يقول لـ عائشة يوماً من الأيام: (ذريني يا عائشة! أتعبد ربي، قالت: والله يا رسول الله! إني أحبك وأحب قربك وأحب ما تحبه، فَتَرَكَتْه، تقول: فتوضأ فكبر يصلي، فبكى حتى اخضلَّت لحيته، وبلَّ حجره، وبلَّ الأرض، وكان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، ويخشى الله عز وجل أشد الخشية).
لما كسفت الشمس في حياته فزع فقام من مكانه وذهب إلى الصلاة، يقولون: (حتى نسي رداءه، فجاءه الصحابة بردائه ووضعوه على كتفيه وهو يصلي، فأخذ يصلي ويقرأ قراءة طويلة، يقول الراوي: فأخذ يبكي في الصلاة وهو يقول ويدعو الله عز وجل: ربِّ لم تعذبنا ونحن نستغفرك) {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} هذه كرامته على الله، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33].
بل كان إذا جاءت الريح يخاف عليه الصلاة والسلام، ويقول: (عُذِّب قومٌ بالريح وظنوا أنه عارض ممطرهم، ولكنها كانت ريحاً فيها عذاب شديد).(42/11)
عظم منزلته عند الله
يوم القيامة انظروا كيف يرفعه الله عز وجل على العالمين (كل الأنبياء يقولون: نفسي نفسي إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، إلا النبي عليه الصلاة والسلام صاحب الشفاعة الكبرى، الذي يقول للناس: أنا لها أنا لها فيذهب فيسجد بين يدي الله ولا يحق لأحد السجود إلا رسول الله، حبيبنا عليه الصلاة والسلام، يسجد بين يدي الله عز وجل، فيقول له الرب بعد أن يلهمه تسابيح لم يكن يعلمها في الدنيا: يا محمد! ارفع رأسك، وسَلْ تُعْطَ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ، فيقول: اللهم أمتى أمتى).
قال فيه الشاعر:
لما أتتك (قُمِ اللَّيْلَ) استجبت لها العين تغفو وأما القلب لم ينمِ
تمسي تناجي الذي أولاك نعمته حتى تغلغلت الأورام في القدمِ
أزيز صدرك في جوف الظلام سرى ودمع عينيك مثل الهاطل العمِمِ
الليل تسهره بالوحي تعمره وشيبتك بهود آيةُ السَّقِمِ
صبر ودعا إلى الله فلم يجزع يوماً من الأيام، كان يحلم على كل من جهل عليه، كان يدعو إلى الله عز وجل راجياً رجا أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً.(42/12)
زهده في الدنيا ورغبته فيما عند الله
في حجة الوداع أوحى الله إليه: إنك يا محمد! سوف تغادر هذه الدنيا، لقد قاربت المهمة على النهاية، فإذا به يهيء قومه ويهيء المسلمين لهذا: (أيها الناس خذوا عني مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا)، ونعاه الله عز وجل بقوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1 - 3].
فرجع من حجه (وفي شهر صفر أصيب بوعك شديد، فدخل على عائشة، قالت عائشة: يا رسول الله! وارأساه، قال: بل أنا وارأساه يا عائشة!) فجلس مريضاً.
واشتد به المرض عليه الصلاة والسلام حتى عصب رأسه يوماً من الأيام فخرج على المنبر في الناس، فجمع الصحابة فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: (إن عبداً خيره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا وبين ما عند الله فاختار العبد ما عند الله فبكى من الصحابة رجل واحد -من هو؟ إنه صاحبه أبو بكر رضي الله عنه- قال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله! ثم قال: إن مِن أمَنِّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، لكن صاحبكم خليل الرحمن) وأبو بكر يبكي ولا يعلم الناس لِمَ يبكي، علم أبو بكر بالخبر، علم أبو بكر بأن النبي يخبر الناس بأنه هو العبد الذي اختار ما عند الله.
خرج عليه الصلاة والسلام ليلةً من الليالي مع أبو مويهبة إلى البقيع يستغفر للمؤمنين، قال: (يا أبا مويهبة! إني قد خيرت بين مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، وبين لقاء ربي والجنة، قال أبو مويهبة: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! اختر الخلد في الدنيا والجنة، قال: لا يا أبا مويهبة! اخترت لقاء ربي والجنة).
مرت الأيام، اشتد المرض على النبي صلى الله عليه وسلم حتى ارتفعت به الحمى، واشتدت به الحرارة، حتى جاء ذلك اليوم الذي استأذنه بلال بالصلاة، فقال النبي لـ عائشة: (مري بلالاً يقرئ أبا بكر السلام، ويقول له أن يصلي بالناس، قالت عائشة: إن أبا بكر رجل أسيف يا رسول الله! مُرْ غيره، قال: مُروا أبا بكر فليصلِّ بالناس) خليفته من بعده، إنها الخلافة الشرعية التي سوف تكون هي الخلافة السياسية.
فإذا بـ بلال يؤذن أبا بكر أن يصلي بالناس، فأقام بلال الصلاة، فكبر أبو بكر بالصلاة وأخذ الصحابة يبكون؛ لأن الإمام وإن كان أبو بكر، لكنه ليس حبيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم!
يوم ويومان ويشتد بالنبي المرض، كان يسكب عليه الماء الكثير بالقرب، حتى يقوم في الناس ليصلي، ولكنه لم يستطع عليه الصلاة والسلام.
دخلت عليه فاطمة فبكت لما رأت حاله، وقالت: (واكرب أبتاه! واكرب أبتاه! قال: يا فاطمة! لا كرب على أبيك بعد اليوم، لا كرب على أبيك بعد اليوم، جاءت إليه فأسرَّها بِسِرٍّ؛ فبكت فاطمة، ثم بِسِرٍّ آخر؛ فضحكت فاطمة رضي الله عنها).
فقالت عائشة بعد زمن: [ماذا كان ذلك الذي أخبرك به؟ قالت: أخبرني بأنه سوف يفارق الدنيا فبكيت، ثم أخبرني بأنني أول الناس لحوقاً به فضحكت واستبشرت بهذا].
مر اليومان ثم في اليوم الثالث اشتد بالنبي عليه الصلاة والسلام المرض، وكان عند عائشة فدخل عبد الرحمن أخوها، وكان بيده سواك، فنظر النبي إلى السواك، فرطَّبته عائشة بريقها، وسوَّكت به النبي عليه الصلاة والسلام، ورأسه بين حجر عائشة ونحرها، وبل ريقه ريقها، ثم بعد قليل قال النبي -بعد أن وصَّى الأمة بما وصَّاها بها-: (لا إله إلا الله لا إله إلا الله إن للموت لسكرات، إن للموت لسكرات، ثم قال: بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى) ثم غُمِّضت عيناه، وفارقت تلك الروح الطاهرة ذلك الجسد الطيب، فأظلم في المدينة كل شيء!!
دمعت أعين الصحابة، وبكى مَن بكى.
أما علي فلم يقدر على الكلام.
وأما عثمان فلم يقوَ على القيام.
وأما عمر رضي الله عنه، فقال: [من زعم أن رسول الله قد مات لأضربنه بالسيف، إنه لم يمت، بل ذهب إلى ربه وسيعود كما ذهب موسى].
حتى جاء أبو بكر إلى بيت ابنته عائشة فدخل على النبي وقد سُجِّي بالغطاء، فأزال الغطاء عن وجهه، فدمعت عيناه ثم قبله بين عينيه، وقال: [[طبت حياً وميتاً يا رسول الله! والله لا يذيقنك الله الموت مرة أخر].
ثم خرج إلى الناس فنظر إلى عمر قال: يا عمر! اجلس.
فما جلس يا عمر! اجلس فما جلس.
فقام أبو بكر خطيباً في الناس، فقال: [أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم قرأ قول الله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]] يقول عمر: [كأنني أسمع الآية لأول مرة] فرددها الصحابة في الطرق والشوارع، والكل يردد هذه الآية.
ثم غسل النبي عليه الصلاة والسلام، ثم أدخل جسده الطاهر ذلك القبر الشريف، في المكان الذي توفي فيه.
تقول فاطمة وقد بكت بعد أن دفن: [كيف طابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله؟!].
أما علي رضي الله عنه وهو يغسله يقول وهو يبكي: [ما أطيبك حياً وميتاً يا رسول الله!].
أما أنس، يقول: [لما دفناه أنكرنا قلوبنا، وأظلم في المدينة كل شيء].
حتى بعد أن مضى شيء من الزمان، قال أبو بكر وقد قام في الناس خطيباً: [أما بعد: فقد قال النبي وهو على هذا المنبر، ثم توقف وأخذ يبكي لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم].
أما عمر بعد أن فتح بيت المقدس وأذن بلال بالناس، وقف عمر بن الخطاب عند أحد الجدر وأخذ يبكي، وبكى الصحابة معه لما تذكروا إمامهم وقدوتهم محمداً عليه الصلاة والسلام: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].(42/13)
علاقة الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم
إن الناس في علاقتهم بالنبي ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: من يحبه ويرفعه أكثر من قدره عليه الصلاة والسلام، حتى إن بعضهم أوصله لمراتب الألوهية والربوبية، فأصبح يدعوه، ويذبح له، ويستغيث به من دون الله.
وهؤلاء قد جاوزا الحد، والنبي عليه الصلاة والسلام قد قال: (لا تُطْرُوني كما أَطْرَت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) فهو عبد الله، وهذا أشرف وصف له عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1].
الصنف الثاني: أناس جفوه عليه الصلاة والسلام، وهجروا سنته -بأبي هو وأمي- لا يتبعون سنته ولا يقتفون أثره عليه الصلاة والسلام، لا يعرفون شيئاً عن حياته ولا شيئاً عن سيرته، لو سألتهم عن اللاعبين والمغنين لجاءوك بحياتهم وسيرتهم، أما عن حياة نبيهم؛ أزواجه، أبنائه، أصحابه؛ سيرته؛ جهاده؛ معاركه؛ عبادته، فلا يعرفون شيئاً عنها، تركوه! حتى إنك لو أتيتهم بحديث لقالوا: لا نأبه بالحديث، نأخذ القرآن وندع السنة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)، وقال: (من رغب عن سنتي فليس مني).
أما الصنف الثالث: فهم المتبعون له عليه الصلاة والسلام، الذين يحشرون معه ويدخلون الجنة معه: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا مَن أبى، قيل: ومَن يأبى يا رسول الله؟! قال: مَن أطاعني دخل الجنة ومَن عصاني فقد أبى).
يوم من الأيام يخلع نعاله في الصلاة عليه الصلاة والسلام، فإذا بالصحابة كلهم يخلعون نعالهم، فينظر إليهم وقال: (ما الذي حملكم على هذا؟! قالوا: رأيناك خلعت نعالك فخلعنا نعالنا، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: إن جبريل قد أخبرني أن فيها أذى فخلعتها) أرأيتم اتباعاً كهذا؟!
أما الناس اليوم إلا من رحم الله، بعضهم قد هجر سنته، واتبع هدياً غير هديه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
يتشرف الواحد منا لَمَّا يتأسى بهديه عليه الصلاة والسلام، لََمَّا يتأسى بمظهره، بعبادته، بأخلاقه، بدعوته، بجهاده، بسيرته؛ لأنه صاحب الخلق العظيم الذي لَمَّا سئلت عائشة عن خُلُقِه قالت: (كان خلقه القرآن).
قال بعضهم:
يا أمة غفلتْ عن نهجه ومضتْ تهيم مِن غير لا هديٍ ولا علَمِ
تعيش في ظلمات التيه دمرها ضعف الأخوة والإيمان والهممِ
يوماً مُشَرِّقَةً يوماً مُغَرِّبَةً تسعى لنيل دواءٍ من ذوي سقمِ
لن تهتدي أمة في غير منهجه مهما ارتضتْ من بديع الرأي والنُّظُمِ
بأبي هو وأمي! كم علتْ همته في البذل الذي بَذَل، والهول الذي احتَمَل لتحرير البشرية من وثنية الشرك والضمير، وضياع المصير.
فجزاه الله خير ما جزى نبياً عن أمته، وجعله أعلى النبيين درجةً، وأقربهم منه وسيلةً، وأعظمهم عنده جاهاً، وتوفنا اللهم على ملته، وعرفنا وجهه في الجنة، واحشرنا معه غير خزايا ولا نادمين، ولا شاكِّين ولا مبدلين ولا مرتابين.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(42/14)
حرب الإدمان
إن الله جل وعلا أحل لعباده الطيبات من المآكل والمشارب، وحرم عليهم الخبائث التي تعود عليهم بالضرر في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وقد وصف الله النبي صلى الله عليه وسلم بوصف جميل فقال: (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) وقد حذرنا المصطفى صلى الله عليه وسلم من كل الخبائث والمحرمات، ومنها: إدمان المخدرات والأمور المذهبة للعقل والمال والعرض.(43/1)
سبب الوقوع في المخدرات وعاقبة مدمنيها
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين، وعلى آله وصبحه.
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام: هذه رسالة موجهة إلى مدمن، ولعلكم تجدون أسلوبي في الحديث أسلوباً غير مباشر للحاضرين، ولكن لعل السامع منكم أن يستفيد من كلماتي.
أيها الأخ الكريم! أيها الأخ العزيز! أوجه إليك هذه الكلمات، يا من وقعت في حبائل المخدرات! يا من بدأت تتعاطى بل أصبحت مدمناً! أوجه إليك هذا الحديث، فأرع لي سمعك، وتوقف معي دقائق، واستمع لي، ولن تخسر شيئاً إذا لم تستفد من كلامي.
لو سألت أكثر المدمنين في هذا الزمن، وأكثر المتعاطين: لم تتعاطون المخدرات؟ ولمَ أدمنتم عليها؟ ولمَ وقعتم في حبالها؟
لأجابك أكثرهم أبحث عن السعادة، أبحث عن الراحة، أريد الطمأنينة.
اسأله السؤال الثاني: هل وجدتها؟
وأنا أظن بل أجزم بأن أكثر من تعمق في المخدرات، وأدمن عليها، سوف يجيبك بهذه الإجابة، ويقول: كلا.
والله، لا زلت أبحث عنها.
أتبحث عن هذه السعادة الموهومة؟!
جلست يوماً من الأيام أنصح شاباً، سلم نفسه بجريمة قتل عمد -قتل رجلاً ثم سلم نفسه- جلست معه أحدثه عن التوبة، وأخوفه من الله جل وعلا، وأنصحه فيما فعل، فقال لي: يا شيخ! ما تقول؟ أنا سبع سنوات مدمن للمخدرات.
قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، سبع سنوات وانظر إلى النهاية.
قال: نعم.
يا شيخ، سبع سنوات أنا مدمن لهذه المخدرات.
قلت له: بماذا كنت تشعر؟ قال: كنت أشعر كأنني أطير في الهواء.
قلت له: ثم ماذا؟ قال: ثم عذاب وألم وحسرة.
يقول: وهكذا سبع سنوات لم تنته إلا بالقتل، وسَلَمَ نفسه ينتظر القصاص، تعرف لم؟
لأن الله جل وعلا يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً} [طه:124] نعم يعيش يأكل يشرب، يلبس، ينام، يستيقظ، يمشي، يتحرك، لكن انظر إلى عيشته: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى} [طه:124 - 125].
السماء تفطرت، والأرض تزلزلت، والجبال نسفت، والبحار احترقت وسجرت، والقبور قد بعثرت، والوحوش حشرت، والولدان قد صارت رءوسهم شيباً، ويمشي هذه الرجل المسكين على صراط أدق من الشعر وهو أعمى، وأحدَّ من السيف، وجهنم تلهب من تحته، ويقول: {رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً} [طه:125] أي: في الدنيا.
انظر إلى السبب: {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} [طه:126] تذكر ذلك المجلس الذي سمعت فيه بعض الآيات، تذكر ذلك الشريط الذي أهدي إليك فاستمعت إليه، لكنك نسيت: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:126].
أخي الكريم! أخي العزيز! تذكر وأنت تقدم على تعاطي تلك المخدرات، وأنت تقدم على استقائها، وأنت تُقدم على تجرعها، تذكر يا أخي العزيز! أنك تتعرض لغضب الرب جل علا، واعلم أنك لو مت وأنت على هذه الحال، ما دخلت الجنة (ثلاثة حرم الله عليهم الجنة: وذكر منهم: ومدمن خمر) الخمر الذي يذهب العقل، ويتفرع منه المخدر هذا الزمن.
تذكر يا أخي العزيز! وأنت تتجرع هذه المخدرات وتتعاطاها، أن المصير في النهاية وفي الخاتمة أنك تتجرع من ماء صديد: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} [إبراهيم:15 - 16] نهاية المخدرات والإدمان، عذاب في الدنيا، ثم حسرة، ثم موت، ثم جهنم: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم:16] قيح وصديد.
تتشقق الجلود، فتخرج قيحاً يتسابق أهل النار إليه ليأكلوه وليشربوا منه: {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:17] بل جاء في الحديث الصحيح: أن شارب الخمر يسقى من ردغة الخبال، وهي عصارة أهل النار، وتخيل مم تخرج؟
تخرج بعضها من قيح الجلود، ويخرج بعضها الآخر من الفروج، ويخرج بعضها من الأفواه والفم.
عصارة أهل النار، يتسابق إليها شارب الخمر والمسكر والمخدر ليشربوها، تذكر إن كنت من المتعاطين هذا المصير: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان:43 - 44] {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} [الدخان:45].
عندما يأكلون منه البطون تغلي، أرأيت القدر كيف يغلي بالماء؟ هكذا البطن يغلي ويفور من ذلك الطعام، وكما في الحديث: (لو أن قطرة من الزقوم سقطت على الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم) فكيف بمن تكون طعامه؟!
تذكر وأنت تقدم على هذه المعصية وذلك الإثم، تذكر هذا المصير: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ} [الدخان:43 - 47] الملائكة تدفعه دفعاً، لكن إلى أين؟ إلى قعر جهنم: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الدخان:47].
ثم ماذا يا رب؟
{ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} [الدخان:48] فإذا صب على الرأس يدخل الحميم إلى المعدة والأمعاء، فيقطعها، إنا لله وإنا إليه راجعون!
هل تعدل تلك الجلسات، وهذه الهلوسة، وتلك السهرات، وهذه الحبوب، ذلك العذاب؟(43/2)
صور لمن لاقوا عقوبة المخدرات الدنيوية
أخي الكريم! أما في الدنيا فعذاب وألم، وأظن أنك تستمع إليّ الآن وتقول لي: يا شيخ! من قال لك؟ نحن نفرح ونتمتع، نحن نسعد ونلهو، نحن نطير في الهواء، أقول لك: كذبت، ولم تصدق نفسك، فإن هذه السعادة سعادة موهومة.
أذكرك بتلك اللحظات التي تتقلب فيها على الفراش، أذكرك بوقت تكون فيه أنت لوحدك في غرفة مظلمة، تحس أن الدنيا قد ضاقت عليك بما رحبت، أذكرك لما نقصت عليك المادة ولم تحصل على بعض الحبوب، كيف تألمت؟! وكيف تعذبت؟!
أذكرك يا أخي! وأنت تحاسب نفسك وتعاتبها، ماذا تفعلين إذا قدمت على الجبار؟
صليت المغرب يوماً، فجاءني شاب قال لي: يا شيخ! أريد الحديث معك، قلت له: تفضل، قال: لا.
عندي شخص آخر يريد أن يجلس معك، قلت: الآن؟
قال: لا.
بعد أن يخرج الناس.
فلما خرج الناس بعد صلاة المغرب جلست معه في زاوية المسجد، فإذا بالثاني يخرج لي هوية من جيبه، فنظرت إليها.
قال لي: يا شيخ! انظر إلى الصورة!
نظرت إلى الصورة -وأنا في المسجد- فإذا فيها وجه حسن جميل مضيء، والذي أمامي وجه مخيف مفزع قبيح مظلم.
قال لي: يا شيخ! أرأيت الصورة؟
قلت: نعم.
قال: هذا أنا.
قلت: مستحيل!
قال: والله وأنا في بيت الله هذه الصورة صورتي.
قلت: يا أخي! ليس في وجهك شبه أبداً، وما أحببت أخبره أن الصورة أجمل وأحسن بكثير من الوجه الذي أمامي نور في الصورة وظلام أمامي.
قلت له: حدثني عن خبرك؟
قال لي: يا شيخ! كان لي رفقة عند بيتي، فجئتهم يوماً من الأيام، أشرب معهم الشاي كالعادة، يقول: لكن الشاي لم يكن كالعادة، وأحسست فيه بلذة.
يقول: فجئت في اليوم الثاني أرجو أن أشرب من نفس الشاي، فشربت منه وأحسست بلذة أكبر، وكأن نفسي أصبحت خفيفة، وهكذا في اليوم الثالث والرابع، حتى أدمنت على شرب هذا الشاي، ولكن لا أدري ما الذي به؟!
يقول: وفي يوم من الأيام قدمت إليهم أسألهم عن هذا الشاي.
قالوا لي: يا فلان! أتعرف ماذا بهذا الشاي؟
قلت: لا.
قالوا: به حبوب، قلت: ماذا يعني حبوب؟
قالوا: حبوب مخدرات.
فقلت: الآن أنا لا أستطيع أن أتخلص منه فما الحل؟
قالوا: نعطيك منها لا تخاف، الحبوب متوفرة.
قلت: إذاً أعطوني.
قالوا: ادفع الثمن! أوقعوه الآن في حبالهم.
قال لهم: ليس عندي أموال.
فقلت له: ومن أين كنت تأتي بالمال؟
قال لي: يا شيخ! كنت أطلب من الوالدة، من الوالد، وكانوا يعطوني في بادئ الأمر.
قلت: ثم ماذا؟
قال: بدأت أسرق منهما.
ثم من غيرهما، ثم أستدين وأسرق!!
قلت: إلى أي درجة؟
قال: ثم قالوا: لي يوماً من الأيام؟ إن أثقلتك الأموال فهناك طريقة أخرى.
قلت: ما هي هذه الطريقة؟
قالوا لي: تروج لنا المخدرات ونحن نعطيك.
قال: كيف؟ علموني الطريقة.
يقول: ثم بدأت أروج المخدرات وأنا لا أشعر.
قلت له: لِمَ لا تتوب؟
قال: يا شيخ! جربت التوبة، ولكن!
قلت: ما الذي منعك؟ قال: السلاح.
قلت: ماذا تقصد؟
قال: يهددوني بالقتل إن لم أستمر في هذا الترويج.
وهذا الرجل إن استمر على حاله يبعث عند الله جل وعلا، أتعرف كيف؟
{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:27 - 28].
يا ليتني ما عرفتهم! يا ليتني ما جلست معهم! يا ليتني ما صاحبتهم! يا ليتني ما سلمت على فلان يوماً من الأيام! لكن ولات ساعة مندم: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً} [الفرقان:28] يسميه عند الرب جل وعلا: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:28 - 29].
إذا دخل هذا الشاب وأمثاله إلى جهنم يقول: يا رب! لي طلب، فما هو طلبه؟ {رَبَّنَا أَرِنَا} [فصلت:29] يرى من؟ {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} [فصلت:29].
يا رب! أريد أن أرى ذلك الرجل الذي أعطاني الحبة أول مرة؟ وسقاني ذلك الكأس؟ وعلمني طريق المخدر؟
يا رب! أريد أن أراه إما في المحشر وإما في جهنم، يتمنى أن يراه تظن لمَ؟
أليصافحه، أليصادقه، أليعانقه بعد فراق طويل؟
لا.
اسمع لماذا يطلب رؤيته يوم القيامة: {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا} [فصلت:29] أطأ عليهما برجلي، ولِمَ؟
{لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} [فصلت:29].
لكن الآن لا ينفعه كل هذا، لطالما جاءك الصالحون، وأعطوك الشريط، وأهدوك تلك الكلمات، ونصحوك تلك النصائح، ولكن أبيت وعصيت واستكبرت إلا أن تستمر مع هؤلاء: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38] إلى أين؟ إلى جهنم.
كلما دخل رجل لعن صاحبه: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً} [الأعراف:38] إذا تجمعوا كلهم في جنهم؛ ماذا يطلبون؟ {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} [الأعراف:38].
يقول في جهنم: يا رب! يا رب! هؤلاء الذين دلوني على تلك المجالس وتلك المستنقعات.
يا رب! هؤلاء الذين أعطوني هذه الحبوب، وعرفوني ذلك الطريق.
يا رب! {فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38] يا رب! ضاعف لهم العذاب في النار.
ماذا يقول الرب؟ {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38].
أتظن يا أخي الحبيب! أن القضية تنتهي عند حبة وتقف؟ لا.
القضية أكبر وأدهى وأمر، فالحبة هي الخطوة الأولى للإدمان، وهذه هي بداية الطريق، وإلا فالطريق مظلم وموحش، رأيت صورةً من الصور، عرضها أحد المشايخ الفضلاء لشاب مدمن، مات أثناء إدمانه لأن الإدمان -ولعلك وأنت تسمعني تعرف هذه الحقيقة- يحتاج إليه الإنسان كل يوم أكثر من الذي قبله، يحتاج أن يزيد ويزيد، حتى يصل إلى حد يقتل الإنسان نفسه.
وكم نسمع في الأخبار: أن شاباً وجدت جثته في مزبلة، وآخر في محرقة، وثالث رُمي في المسجد، ورابع عند المستشفى، وخامس قبل شهر قتل ورمي في الصحراء، وسادس وسابع
وإحصائيات القتلى تزداد يوماً بعد يوم، لا تقل: لا.
أنا أضمن نفسي.
لا تقل: لا.
أنا سوف أتوب قبل الموت، وما يدريك فقد يذهب عقلك ثم تسقط على الأرض وتفارق الدنيا، أحدثك عن الصورة التي رأيت، أتعرف كيف مات هذا الشاب؟
أيها الأخ العزيز! هذا شاب وهو يتعاطى المخدرات، وزاد في جرعة الإدمان والتعاطي فسقط على الأرض وأحس بألم وتعصر حتى انفجر مخه، وبدأ يسيل ما في مخه من أنفه، ورأيته بالصورة، انظر كيف تعذب في الدنيا قبل الآخرة.
إن رأيت المنظر لا تتحمله ولعلك ما تطيق طعاماً بعده، أتعرف لِمَ؟
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124].
وآخر رأيت صورته جالس في شقته داخل غرفته، كان يتعاطى، حاله حال المتعاطين المدمنين، ولكنه زاد في الجرعة شيئاً ما، يريد أن يتلذذ، يريد أن يشعر بتلك السعادة، وإذا به يتعاطى جرعة زائدة، فإذا به يموت في غرفته، ما شعر به أحد، ما صلى عليه أحد، ما دفنه أحد، ظل أياماً في غرفته ميتاً، أنتنت الجيفة.
أتعرف كيف عرفوا قصته؟
وجدوا رائحة منتنة تخرج من الغرفة، والذباب قد تجمع على الباب، كسروا الباب، فإذا بهذه الجثة التي ظلت أياماً والنمل يأكلها من كل جانب، ورأيت هذا المنظر بعيني أيها الإخوة.
منظر ما أقبحه! في هيئة الساجد، على أدوات المخدرات، والنمل يأكله من كل جانب! أعوذ بالله من تلك الميتة، أرأيت إلى خاتمتهم! هل هذا عاش بسعادة كان يرجوها، أين السعادة؟! أين النعيم؟!
يا مسكين! يا من تبكي الليالي والأيام! اجلس مع بعض الصالحين، حدث بعض الأخيار، قل للذين يبكون في الصلاة، ويقرءون القرآن، ويسافرون إلى العمرة: هل وجدتم تلك السعادة التي أبحث عنها؟
أتعرف ماذا سيقولون لك؟
يقولون: لو كان أهل الجنة في مثل ما نحن فيه إنهم والله لفي عيش طيب.
{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] تقول: أنا ضامن نفسي إن شاء الله ألا أموت وأنا أتعاطى المخدر، اسمع الإحصائيات لوزارة الداخلية: أكثر من ألف وتسعين شخصاً ماتوا بسبب المخدرات في الكويت، من الذي يضمن لك أنك لا تكون أحد هذه الأرقام القادمة؟
أخي الكريم: إن كثيراً من المتعاطين يفقد عقله فيفعل ما لا يفعله أي عاقل، بل لو كان يدري عن نفسه لقتل نفسه قبل أن يفعل هذه الفعلة، وكم سمعنا من أخبار متعاطيي المخدرات من أتى على محارمه، واسمع يا رعاك الله! اسمع فتح الله قلبك للإيمان، اسمع إلى قصة هذا المدمن، الذي كان شاباً صغيراً لم يعرف شيئاً عن الإدمان يوماً من الأيام.
تُوفي أبوه فرعته أمه، كانت تعطيه بعض المال، ليبحث عن حرفة له ليعمل بها، وكانت أمه المسكينة تبحث له عن السعادة.
هذا الشاب تعرف على رفقة سيئة؛ بدأ بالتدخين، ثم بدأ يدمن معهم المخدرات، ووقع في ذلك الوحل وأمه لا تدري، دخلت عليه يوماً من الأيام في الغرفة، فإذا بها تجده في وضع غريب، يشرب دخاناً ليس كالدخان الذي تعرفه -الحشيش- عرفت الخبر، نصحته، ذكرته بالله، خوفته بيوم القيامة والنار والقبر، لكنه ما خاف من عذاب الله جل وعلا.
جاءها يوماً من الأيام وطلب منها المال، فقالت له: يا بني! لن أعطيك المال، وأنت على هذه الحالة؟ تب إلى الله ثم أعطيك المال.
قال: أعطيني رغماً عنك.
وأنتم تعرفون أن المدمن على المخدرات إذا انقطع عن الإدمان لا يشعر بنفسه، ويصبح كالوحش المفترس.
جاءها يوماً من الأيام، قال: تعطيني؟ قالت: لن أعطيك، ضربها وأخذ ذهبها، وباعه واشترى به المخدر، بكت أمه عذاباً وحسرة وألماً.
أيها المدمن! تذكر هذه الأم المسكينة، التي خلفتها في البيت وهي تبكي عليك، تذكر كم كانت ترعاك، وكم كانت تسهر على من أجلك.
كم كانت تفرح وتتمنى أن تكون مثل فلان الطبيب، وفلان المهندس، وفلان الداعية، وفلان المصلي الراكع الساجد، كانت تسمع أخبار جاراتها: هذه ولد لها حفظ القرآن، وآخر ذهب إلى العمرة، وثالث يدعو إلى الله، ورابع صار طبيباً، والآخر صار مهندساً، وهذا يدرس الناس في المدارس.
أما أنت تذكر يا أخي الكريم! واعلم أن أمك تبكي عليك دماً وأنت لا تدري.
جاء يوماً من الأيام وقد فقد عقله، فدخل على أمه في الغرفة، قال لها: أريد مالاً، قالت له: لن أعطيك؟ أخذ يضربها، قالت له: ماذا تريد؟
أتعرف ماذا كان يريد في تلك الحالة؟ وأُجِلُّ المسجد عن هذه الحكايات، ولكن لا بد من إخبارك بها.
هذا الشاب فقد صوابه وأراد أن يهتك عرض أمه!
واسمحوا لي رواية القصة أيها الإخوة! فإن المجتمعات مليئة بهذه القصص!
حاول أن يعتدي على أمه مزق ثيابها هربت أمه من البيت، إلى أين وهي تبكي لا تدري أين تسير؟
توجهت إلى بيت ابنتها المتزوجة، دخلت بثيابها ممزقة، وهي تحدث نفسها: ماذا أقول لابنتي؟ ماذا أقول لزوجها؟
دخلت وهي تقول لهم: دخل علينا لص البيت وأراد أن يسرق الأموال، فهربت ولجأت إليكما، كذبت عليهما -قلب الأم- وفي الصباح أخبرت ابنتها بالخبر الصحيح.
ظلت أياماً في بيت ابنتها وما رجعت إلى البيت، وبعد أيام قالت لابنتها: نرجع إلى البيت، رحمت ابنها وتذكرته، عطفت الأم على الولد، فهي لا تنسى ولدها مهما كان.
رجعت إلى البيت هي وابنتها، فإذا بالبيت قد بيع أثاثه وأجهزته كلها، باع الولد كل ما في البيت ليشتري بعض الحبوب.
أرأيت نهاية التعاطي والإدمان، واسمع فلم تنته القصة
هذه الأم دخلت البيت وجلست تبكي على حال ابنها، وفي لحظة من اللحظات دخل الابن إلى الشقة، فإذا به يجد أمه وأخته، وابنة أخته الصغيرة، دخل على أمه وحاول أن يضربها على ما فعلت فيه، قال: أعطوني المال.
قالت الأم: لن نعطيك شيئاً؟
قال: أنا محتاج إلى المال، أريد أن أشتري
قالت: والله ما نعطيك، فإذا به يحاول الاعتداء على أخته، ويهدد أمه، إما أن تعطيني شيئاً من المال وإلا اعتديت عليها، بكت أمه صاحت استغاثت استنجدت وأخذ هو يضرب أخته حتى يواقعها مزق ثيابها والأم المسكينة لا تدري ماذا تفعل؟
ابنها أو ابنتها، أو العار، أو الفضيحة، أخذت تتصارع الأم في قلبها ماذا تفعل؟
والبنت الصغيرة تنظر إلى أمها وتبكي، ماذا يفعل خالها؟! ماذا يفعل بأمها؟!
ما كان من الأم إلا أن ذهبت إلى المطبخ وأخذت سكيناً وهي تصارع نفسها، والولد قد فقد وعيه، ولا يدري ماذا يفعل؟
فجاءت إلى ابنها وفلذة كبدها، وطعنته عدة طعنات، وأخته تنظر، والبنت الصغيرة تنظر ما الذي جرى، بعد ثوان معدودة الغرفة تسيل بالدماء، الرجل مات، أخته ممزقة الثياب، البنت الصغيرة تبكي، الأم منطرحة على الفراش تبكي مآساة وأي مأساة.
أيها المدمن! انتبه، فإنك تضيع نفسك وأهلك، وكثير منهم من باع عرضه، وكثير منهم من أرغم زوجته على وحل الدعارة، لتقبض بعض الأموال ليشتري المخدرات.(43/3)
طريق الخلاص من الإدمان
أيها الأخ الكريم! أيها الأخ العزيز! ما الحل وما النجاة؟
أتعرف ما النجاة؟
إنها في قول الله جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
أيها الأخ العزيز! أقبل على الله جل وعلا، لا تقل: لا أستطيع لا أتحمل.
ألقيت محاضرة يوماً من الأيام وجاءني شاب بعد المحاضرة، حسن الوجه، مطلق اللحية، مقصر الإزار، فيه سيماء الصلاح، فقال لي: يا شيخ! أريد أن تذهب معي إلى مكان.
قلت له: وأي مكان؟
قال: مكان فيه أهل مخدرات.
قلت: ولِمَ أنت الذي ترسلني إلى هذا المكان؟
قال لي: يا شيخ! أنا الذي أمامك كنت يوماً من الأيام مدمناً للمخدرات، يقول: كنت يومياً أتعاطى المخدرات ولا أستطيع الخلاص منها.
قلت له: والآن؟ قال: الآن الحمد لله، أدعو إلى الله جل وعلا، أقرأ القرآن، أحضر حلق العلم، أحضر مع الصالحين، أجلس معهم، أبر والدي.
قلت له: والآن هل أنت سعيد أم كنت أسعد في الماضي؟
قال: يا شيخ! ما أحسست بالسعادة إلا هذه الأيام التي توجهت فيها إلى الله جل وعلا.
{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].
أتريد الهداية؟ تريد التوبة؟ تريد صفحة جديدة بينك وبين الله؟
{وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} [آل عمران:135] قاطع تلك المجالس، فارق تلك الصحبة، أقبل على الصالحين، اجلس معهم، قل لهم: إني أقبلت على الله جل وعلا، فدلوني خذوا بيدي، قم آخر الليل، صلِّ ركعتين في السحر، فإن الرب ينزل، يقول: (هل من داع فاستجيب له، هل من مستغفر فاغفر له؟) صلِّ ركعتين في السحر، وأقبل على الله، واسجد بين يديه، ثم لتدمع تلك العينان، لعل الله أن يغسل ذنوبك.
يا نفس توبي فإن الموت قد حانا واعصي الهوى فالهوى مازال فتانا
أما ترين المنايا كيف تلقطنا لقطاً فتلحق أخرانا بأولانا
أما تذكر يوم رفعت سماعة الهاتف، فقيل لك: أتعرف فلاناً؟
الذي كان معنا، في الدواوين في الشوارع، في الدراسة، تذكره جيداً
اذكره جيداً قبل أيام كنت معه، في حادث سيارة انقلب بها، وفارق الدنيا، إنا لله وإنا إليه راجعون!
أما ترين المنايا كيف تلقطنا لقطاً فتلحق أخرانا بأولانا
وفي كل يوم لنا ميت نشيعه نرى بمصرعه آثار موتانا
أقبل على الله جل وعلا، تعرف على الصالحين، افتح كتاب الله تبارك وتعالى، لتكن همتك عالية، هذه الهمة -همة الحبوب والتعاطي والإدمان- همة أنت تعرفها، همة خسيسة، ما أخسها وما أقذرها وما أنجسها!
لتكن همتك أن تضحي بهذا الجسد -الذي طالما تعاطى ذلك المخدر- لله جل وعلا.
همتك يا أخي العزيز! ألا تموت إلا شهيداً في سبيل الله.
اسمع إلى هذا الشاب الذي ابتلي في دينه، وانظر إلى همته، يسمى عبد الله بن حذافة، كان أميراً لسرية، وأنا أقص عليك هذه القصة لترفع همتك أيها الشاب، ولتترك هذا الماضي المظلم، ولتقبل على الله جل علا بهمة تناطح الجبال.
هذا الشاب كان يقود سرية من سرايا المسلمين، قبض عليهم النصارى، وكان فيهم عبد الله قائدهم.
فجاء ملك الروم إلى عبد الله بن حذافة، قال له: أتريد أن ترجع إلى أهلك؟ قال: نعم، قال: أشاطرك نصف ملكي، من أموال، ونساء، وقصور؛ بشرط واحد.
قال: ما هو؟
قال: أن تتنصر، تغير دينك من الإسلام إلى النصرانية.
فضحك عبد الله بن حذافة، وقال: والله لو أعطيتني الدنيا بما فيها على أن أترك هذا الدين طرفة عين ما تركته.
قال الملك: أدخلوه الحبس -السجن- فإذا بهم يدخلون عليه امرأة من أجمل النساء، وأغروها بالمال، فتعرت وتجملت أمامه، وحاولت أن تفتنه، فإذا بها تخرج بعد زمن، تقول للملك: لا أدري أأدخلتموني على بشر أم حجر، لا يدري أنا أثنى أم ذكر؟
فغضب الملك.
انظر إلى الهمة، انظر إلى الصبر على الدين، انظر إلى لذة الطاعة!
جيء بالقدور فأحميت ووضع فيها الزيت، قدر كبير وتحته النار تشتعل، والزيت يغلي، فجيء بـ عبد الله بن حذافة، وجيء بصاحب له من أصحابه، فإذا به ينزل حياً في قدر الزيت الذي يغلي، فاحترق حتى طفحت عظامه، وشوي جلده.
قال الملك: الآن دورك، بكى عبد الله.
قال له الملك: خفت الآن من الموت؟
قال: لا.
والله ما خفت، ولكن صاحبي هذا كان ينافسني دوماً في طاعة الله، أما الآن فقد سبقني إلى الجنة، يا ليتني كنت مكانه، والله الذي لا إله غيره لو كان عندي أرواح بعدد شعرات جسمي، لتمنيت أن تخرج كلها في سبيل الله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23].
أرأيت الهمة العالية؟!
يتقلب على الفراش يحلم أن هذه الرقبة تطير في سبيل الله، ربما تقول لي: ياشيخ! هذا في الأزمان الماضية، وهذا في الزمن القديم، أما اليوم فمستحيل، فأقول لك: أحدثك بقصة في هذا الزمن.
شاب مولع بالأغاني والطرب والنساء والمخدرات والخمور، كل معصية في الدنيا ارتكبها، لا تخطر على بالك معصية إلا وقد فعلها.
يقول الشاب عن نفسه: ضاقت عليّ الأرض بما رحبت، مللت الحياة، مللت الدنيا، وتتعجب عندما تسمع: أن أعلى نسب الانتحار هي في الدول المتحضرة، لِمَ؟
يشنق نفسه، يقطع شرايينه بالموس؛ لينزف الدم ثم يموت، يرمي نفسه من أعلى عمارة، يضع مسدساً على رأسه، فيطلق طلقة يموت منها، ما السبب؟
يقول: الشاب، ضاقت عليّ الأرض بما رحبت: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] يقول: خرجت من البيت سافرت لا أدري إلى أين؟
يقول: خطرت على بالي فكرة أن أذهب إلى أخي في بلد آخر.
يقول: طرقت الباب على أخي، وكان أخوه صالحاً.
قال أخوه: ما الذي جاء بك؟
قال: يا أخي! مللت الدنيا، مللت الحياة، جئتك أمتع نفسي.
قال أخوه: تفضل عندي
يقول: أخوه نام تلك الليلة، وفي الفجر جاء رجل يوقظه للصلاة، كل يوم كان يوقظ أهل البيت، يا أهل البيت صلاة الفجر، صلاة الفجر، قام الرجل فزعاً فأيقظ الشاب.
قال: ماذا تريد؟
قال: صلاة الفجر!
قال: دعني.
قال: لِمَ؟
قال: دعني فأنا لا أصلي أصلاً!
قال: أعوذ بالله.
قال: اتركني أنا لا أصلي؟!
قال: لِمَ لا تصلي ألست بمسلم؟
قال: اتركني أنام أنا لا أصلي.
قال: جرِّبِ الصلاة مرة!
يقول: فذهب الرجل وجلس يفكر على الفراش، ويتردد في أذنه جرب الصلاة مرة!
يقول: قام الشاب، واغتسل من الجنابة، ثم ذهب إلى المسجد، فإذا به يصلي، ثم يرجع إلى البيت يقول لأخيه: يا أخي! وجدتها.
قال: ماذا وجدت؟
قال: وجدت السعادة.
قال: أين؟
قال: وجدتها في الصلاة، وجدتها في السجود، وجدتها في الركوع!!
{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22] قال الشاب بعد أيام جلس فيها عند أخيه: سوف أرجع إلى أمي.
قال له: ارجع.
يقول: ذهب إلى أمه وطرق الباب، قالت أمه: ما الذي جاء بك مسرعاً هذه المرة؟
قال: يا أماه! وجدت السعادة في الصلاة وفي القرآن وفي العبادة، فرحت أمه، ظل أياماً مع أمه، ثم قال: يا أماه! أريد السفر.
قالت: إلى أين يا بني؟
قال لها: يا أماه! أريد أن أذهب إلى الجهاد في سبيل الله.
قالت أمه: لِمَ؟
قال: يا أماه! جسدي طالما عصى الله جل وعلا، وأريد أن أضحي بهذا الجسد لله عز وجل، قالت أمه: ما منعتك وأنت تسافر للمعصية، أفأمنعك وأنت تسافر للطاعة اذهب يا بني!
ذهب إلى الجهاد، وتدرب ثم دخل في المعركة، وفي ذلك اليوم، كان يحمل السلاح وبجنبه صاحب له، حميت المعركة واشتدت، فأصيب صاحبه بشظية، حمل صاحبه ليسعفه، أسرع به، لكن صاحبه استشهد في ذلك الموقع.
حفر القبر لصاحبه، أنزل صاحبه في القبر، ما غسله، ما كفنه، وهكذا الشهيد، يبعث عند الله وجرحه يثعب دماً في المحشر، اللون لون الدم، والريح ريح مسك، دمه يشهد له في المحشر، أنزل صاحبه في القبر ما دفنه، قال: اللهم إني أسألك أن لا تغرب شمس هذا اليوم إلا وقد قبلتني شهيداً في سبيلك.
لما أنزل صاحبه اشتدت المعركة مرة ثانية، أسرع إلى سلاحه، تقدم في المعركة خاضها أقبل بصدره في القتال وبعد لحظات فإذا به يفارق الحياة الدنيا، ويدفن في القبر الذي حفره مع صاحبه: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].(43/4)
رسالة إلى مدمن
إنني سائلك أن تفكر في هذه الكلمات، وأن تكثر التفكر فيها، لا تنم هذه الليلة إلا وأنت تفكر في كل كلمة قلتها، إن نهايتها عذاب في الدنيا، وخاتمة سوء، ثم عذاب قبر، ثم وقوف بين يدي الجبار، ثم الزقوم والحميم، تذكر إن تبت إلى الله جل وعلا، فسعادة في الدنيا، ثم قصور في الجنة، نهر من لبن، ونهر من عسل، ونهر من خمر تقول: ما أتحمل
أقول لك: اصبر في الله جل وعلا حتى تسمع تلك الكلمات، عند أبواب الجنان، تقول لك الملائكة: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24] الصبر.
اصبر يا أخي الكريم! فارق تلك الصحبة، أقبل على الله جل وعلا، اشغل فراغك بقراءة القرآن، بالدعوة إلى الله، بالعلم النافع، بصلة الأرحام، ببر الوالدين، اشغل وقتك بما ينفعك عند الله جل وعلا، واعلم أنك إذا تبت فإن النهاية: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً} [الإنسان:12 - 13].
وقبل أن أختم حديثي: لي وإياك لقاء، لقاء ليس على هذه الأرض، قد تكون على هذه الأرض ولكن أنا على يقين، بأننا سوف نلتقي يوم القيامة، إما أن نتخاصم عند الله جل وعلا، وإما أن نكون تحت ظل عرش الرحمن تبارك وتعالى، فاختر لنفسك أي الطريقين: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3].
سوف نلتقي يوم القيامة فإن تخاصمنا فعلّك تقول: يا رب ما جاءني من نذير فأقبل على الله جل وعلا، فأقول: بلى يا رب! سمع حديثي من ذلك الجهاز، وبهذا الشريط، سمع إلى كلامي، وتلوت عليه آياتك يا رب،! وأحاديث رسولك، وحذرته من ذلك المصير لكنه أبى، أو تأتيني يوم القيامة تحت ظل عرش الرحمن.
فتقول لي: يا شيخ! أتذكر تلك المحاضرة؟
أقول لك: وأي محاضرة؟
تقول لي: يا شيخ! أتذكر محاضرة: رسالة إلى مدمن؟
أقول لك: لعلي أذكرها.
تقول لي: يا شيخ! والله ما إن سمعتها إلا وبدأت صفحة جديدة بيني وبين الله.
أقول لك: صحيح؟!
تقول لي: نعم.
يا شيخ! كانت البداية صعبة، ولكن الله عز وجل أعانني: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] يا شيخ أقبلت على الله، فإذا بالرب جل وعلا يقبل عليّ؛ أصبحت أقرأ القرآن، وحفظته في عدة شهور، صرت داعياً إلى الله تبارك وتعالى، تعرفت على الصالحين، غيرت هذه الحياة كلها، شعرت بالسعادة التي كنت أبحث عنها، ثم ختم الله لي خاتمة حسنة، وهأنذا اليوم يغفر الله لي ما مضى، لعلنا نتعانق تحت ظل عرشه جل وعلا.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يجمعني وإياك تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(43/5)
الأسئلة(43/6)
وسيلة النجاة من المخدرات
السؤال
أنا شاب محتار وقعت في المخدرات بسبب أصحاب سيئين، ولا أعرف كيف أنجو من هذه المخدرات التي دمرت حياتي كلها، وأخشى من الفضيحة أمام والدي وأمام الناس، فما الحل؟
الجواب
الحل ذكرته لك في طيات الكلام، ما السبب؟
الصحبة، لا حل إلا بهجرها وبتركها تقول: ليس لي بديل، أقول لك: أخطأت، فالصالحون بفضل الله في كل مكان، تجدهم في المساجد، تجدهم في المدارس، تجدهم في الكليات، تجدهم في لجان خيرية إسلامية، تجدهم بفضل الله عز وجل في كل طريق، الصالحون موجودون، ولكن أين من يقبل عليهم؟
تقول: يا شيخ! تعودت على هؤلاء، أقول لك: كما تعودت على هؤلاء فتعود على غيرهم، وإلا فالنهاية مؤلمة: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [الزخرف:67] كل شلة، كل ديوانية، كل مجموعة، كل رفقة، كل صحبة يوم القيامة أعداء، كل الناس عموماً وما استثنى إلا صنفاً واحداً: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] الذين يتقون الله: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف:68] اهجرهم لله سبحانه وتعالى، رجل قتل مائة نفس، ماذا قال له العالم؟
قال: له إنك بأرض سوء فاتركها، واذهب إلى أرض كذا وكذا، فإن فيها قوماً يعبدون الله، فاعبد الله معهم.
إنك في ديوانية سوء، فاتركها إلى ديوانية كذا وكذا، فإن فيها قوماً يعبدون الله، إنك مع صحبة سوء، فاتركها واذهب إلى صحبة فلان وفلان، فإنهم يعبدون الله، إذاً ليس هناك حل إلا أن تهجر هذه الصحبة لله جل وعلا (ومن يتصبر يصبره الله جل وعلا).(43/7)
نصيحة لجار يتعاطي المخدرات
السؤال
لي جار أعرفه أنه يتعاطى المخدرات، فما الحل معه؟
الجواب
إذا كنت تستطيع أن تنصحه وتحذره، فالكلمة الطيبة صدقة: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت:33] أنقذه يا أخي الكريم! فإنه مسكين يعيش في عذاب، ما يأكل هذه الحبوب إلا لأنه يتعذب يتحسر يتقطع، أنقذه وانتشله من هذا الوحل، ما تعرف أن تحسن الحديث، أعطه بعض الأشرطة الإسلامية، بعض الكتيبات، دله على الصالحين، أخبر بعض الدعاة إلى الله ليأتوا إليه وينصحوه في الله جل وعلا، لتبرأ ذمتك أمام الله تبارك وتعالى، وإلا فأنت مسئول عنه وعن أمثاله.(43/8)
أنين الفجر
لقد جاءت الآيات والأحاديث الدالة على أهمية صلاة الفجر، وبيان حقيقة من يتخلف عنها، وقد كان السلف رضوان الله عليهم من أبعد الناس عن التخلف عن صلاة الفجر في جماعة، ولكن خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة، فأصبحت المساجد تشتكي إلى الله من بعد المسلمين عنها، وتخلفهم عن الصلاة فيها، وبالأخص صلاة الفجر، وإن من أعظم الأسباب التي تجعل الإنسان ينام عن صلاة الفجر الذنوب والمعاصي التي فشت فينا، والسهر إلى وقت متأخر من الليل.(44/1)
أهمية صلاة الفجر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
ثم أما بعد:
من الممكن أن نتكلم عن قيام الليل، وعن السحر، ونتكلم عن ناشئة الليل لأنها: {أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل:6] أما أن نتكلم عن صلاة الفجر فهذا خلل، وضعف، وقصور، لأنه ما كان يعرف في سلف الأمة وفي القرون الأوائل أناس لا يصلون الفجر، وما كان يعرف هذا إلا في صفوف المنافقين، أما في صفوف المؤمنين، فلم يكن يوجد هذا قد يتخلف إنسان مرة لعذر أو مرض أو نوم ومع هذا كان يلام ويعنف على هذا الأمر، أما أن يعرف إنسان لا يصلي الفجر فهذا غير موجود في صفوف المؤمنين.
ولهذا لما جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: (يا رسول الله! فلان نام حتى الصبح -أي: صلى الفجر لكنه ما صلى الليل- فقال عليه الصلاة والسلام: ذاك رجلٌ بال الشيطان في أذنه) هذا ما قام الليل، فكيف بالذين لا يصلون الفجر؟! إنه أمر شديد، ويستحي الإنسان منه، لكن واقعنا المؤلم لا بد أن نتكلم عنه.
أخي الكريم: أنت عندما تنام عن صلاة الفجر هل تعرف ما الذي حصل؟ تصعد الملائكة وترسل الكشوف -كشوف الأسماء- كلها، وفلان غير موجود فلان ما صلى الفجر يا رب!
أين فلان؟ وهو أعلم به، قالوا: تركناه وهو نائم، أو تركناه وهو يلهو، أو تركناه وهو غافل: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء:78].
لدلوك الشمس أي: صلاة الظهر، وغسق الليل، أي: صلاة العشاء، فدخلت في هذا أربع صلوات، الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وبقي صلاة وهي {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء:78] أي: تشهدها الملائكة، ولمَ قيل لها قرآن الفجر، وما قيل لها صلاة الفجر؟ لأن صلاة الفجر معلومٌ عنها أنها طويلة، فإذا أطال الإمام في صلاة الفجر ما الذي يحصل؟ وإذا قرأ السجدة والإنسان في يوم الجمعة ما الذي يحصل؟ هذا يتشكى، وهذا يتأفف، وهذا يتململ، وهذا يبحث له عن مسجدٍ آخر، لمَ؟ لأن المصلي الآن إن صلى فحاله -إلا من رحمه الله- {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ} [النساء:142] أي: قد يقومون بعض الأحيان، لكن كيف يا رب؟ {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142].
كان في عهد محمد عليه الصلاة والسلام عبد الله بن أبي ابن سلول يصلي الفجر، وهو رأس المنافقين، لكن كيف يصلي؟ يصلي وهو كسلان متثاقل، لهذا فإن أثقل صلاة على المنافقين صلاة الفجر والعشاء يصلونها لكن بثقل وبكسل، وانظر إلى من يصلي صلاة الفجر، بعضهم يصلي وهو نائم، أو يصلي ولم يعلم ماذا قرأ الإمام؟! ما السبب أيها الإخوة؟
انظر إلى المسلمين بعد ساعة أو ساعتين في الساعة السابعة صباحاً، تزدحم الشوارع، وتضطرب الطرق، ويصدر إزعاج، ما الذي حدث؟ خرج الناس من البيوت إلى أين؟ إلى مكان عملهم، سبحان الله! ألم يكن في هذه البيوت أحياء قبل ساعة أو ساعتين؟ أليس في هذه البيوت مسلمون قبل ساعة أو ساعتين يأتون لصلاة الفجر؟ لا تدري كيف تجيب على هذا السؤال! للدنيا خرج الألوف المؤلفة، أما لصلاة الفجر فما خرج إلى المسجد إلا نصف صف، ما الذي جرى؟
يأتيني أحد المؤذنين يشتكي ويسألني سؤالاً وفيه بعض الحسرات والعبرات، فيقول: المسجد ليس فيه إمام، أنا أؤذن في المسجد، قلت له: خيراً إن شاء الله، قال: بعض الأحيان أؤذن ولا يأتي أحد، قلت له: عجيب! هذا موجود؟ قال: والله إني أنتظر حتى أخشى أن تشرق الشمس ولا يأتي أحد إلى المسجد، ثم قال: هل يجوز أن أغلق المسجد وأذهب إلى مسجدٍ آخر لأدرك صلاة الجماعة.
{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء:78].(44/2)
حال السلف مع صلاة الفجر
صرنا الآن نترجى فلاناً، يا أخي! صلِّ الفجر مرة في الأسبوع، وكان أحد السلف واسمه طاوس يطرق الباب على صاحبٍ له، فخرج هذا الرجل متعجباً فقال له: أتزورني في هذه الساعة؟! قال: ولمَ؟ ما ظننت أن أحداً من المسلمين ينام في هذه الساعة آخر الليل: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل:6]
كان السابقون يجاهدون أنفسهم في قيام الليل، ليس في الفجر؛ فالفجر انتهينا منه، وهو صفحة قد طويت، وهذا كلام قد نسي الآن، وانتهى الأمر.
نتكلم الآن عن قيام الليل، تقول إحدى البنيات: صعدت على سطحٍ لي أنا وأختي، -بنيات صغار- في آخر الليل وما كنا نصعد إلا آخر الليل حياءً انظر للحياء! بنيات صغيرات لا يصعدن إلى سطح المنزل للعب واللهو إلا آخر الليل، حيث لا يراهن أحد.
وفي ليلة من الليالي صعدن فنزلن إلى البيت فقلنَ: يا أماه! قالت الأم: ما شأنكن؟ قالتا: يا أماه! ما حدث لذلك العمود الذي كان في سطح جيراننا؟ -كان هناك عمود خشبي الآن لا نراه- فضحكت الأم، وقالت: ليس ذاك بعمود، قلن: وما هو؟ قالت: ذلك منصور بن المعتمر كان يقوم الليل فمات، {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17] لا يوجد نوم في الليل؛ لأنه كلما أراد النوم تذكر جهنم وقام، وكلما نعست عينه تذكر الجنة فطار فرحاً، حتى إنه يبكي على وسادته ولا تشعر به زوجته وهي تنام على نفس الوسادة، حتى تقول فاطمة: ما أظن أن أحداً من الناس أخوف من عمر بن عبد العزيز، تقول: قام من ليله فزعاً، فصلى وبكى حتى سقط على الأرض، تقول: حتى ظننته قد مات من شدة البكاء، (كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18].
ولهذا تتعجب أن من السنة -واسمع إلى هذه السنة العجيبة الغريبة عندنا والمهجورة- أنك تنام بعد أذان الفجر إلى الإقامة، لتأخذ قسطاً من النوم، والعلماء قد اختلفوا فيها، تعرف لمَ؟ لأن بعضهم يقول: هذه لمن يقوم الليل، وذلك حتى يرتاح شيئاً قليلاً لصلاة الفجر، ولهذا من السنة إذا أُذن الأذان الأول أنك تقف عن الصلاة، وتستغفر، وترتاح شيئاً قليلاً، أو إذا كنت تريد الصوم فتتسحر، هذا لمن يا عبد الله؟ لمن يقوم آخر الليل ليستعد لصلاة الفجر.
كان بعض السلف يقوم الليل؛ فإذا أذن الفجر كحل عينيه؛ لأنه كان يبكي ولا يريد أن يراه أحد فيعلم أنه كان يبكي، أو إذا أذن الفجر رفع صوته كأنه قام من النوم حتى لا يدري عنه أحدٌ أنه قام الليل، {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9].(44/3)
حرص الناس على الدنيا أكبر من حرصهم على الآخرة
لعلي أسألك: لم لا تصلي الفجر؟ تقول: إني نائم سبحان الله! ما رأيت مثل الجنة نام طالبها، وما رأيت مثل النار نام هاربها، تقول بنت لأبيها: يا أبت! لا أراك تنام مثل الناس.
نوم قليل سل أهل الملايين لا ينامون إلا بحبوب، وبعضهم لا ينام في الليل إلا ساعة وساعتين ثم يقوم من صباحه مبكراً إلى العمل، لمَ؟ يجمع الملايين، واطلب من بعض الناس أن يقوم لصلاة الفجر وتعطيه عشرة دنانير، أو مائة دينار، قل له: كل مائة يوم تصليها لك عليها ترقية، أو علاوة، ألا يصلون؟
نعم.
لأنها الدنيا التي ملأت القلوب {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء:77].
الطلبة -وهذا شيء طيب أن يقوم الإنسان إلى عمله- ألا ترون ألوفاً مؤلفة منهم تقف في طابور الصباح لا يتخلف أحدهم خمس دقائق؟ انظر قبل الموعد بدقائق ترى الأفواج كلها تأتي حتى لا يتأخرون دقيقة عن طابور الصباح، وهذا لعله شيءٌ طيب لكنه دنيا، أين هم في صلاة الفجر؟
{قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء:77].
أتعرف -أخي الكريم- أنك لو صليت الفجر، وخرجت في ظلام الليل لا ترى إلا شخصك يمشي، ولا تسمع إلا قرع نعليك، ولا تنظر يمنة ويسرة إلا ظلك، وأتيت إلى بيت الله لتصلي صلاة الفجر، وقد غلبك النعاس، وقد هجرت الفراش، وقد طويت ذلك الفراش لتأتي لله جل وعلا، لتركع ركعتين، ثم ترجع إلى الفراش أتعرف ما أجرك؟ يقول عليه الصلاة والسلام: (من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله) بل أخبر أنه في ذمة الله.
وانظر إلى هذا الطالب -الذي أخبرني ثقة عنه- في يوم من الأيام وقد حضر مجلساً للذكر -مثل هذا المجلس- فسمع حديثاً للنبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه: (من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله) فاذهب وافعل ما تفعل فأنت في ذمة الله، فسمع هذا الصبي الصغير هذا فقال لأبيه وقد جاء به إلى هذا المجلس: يا أبي! ما يعني في ذمة الله؟ قال: أي: في حفظ الله، وفي رعاية الله، قال: فقط أصلي الفجر؟ قال: نعم.
فقال الصبي لأبيه: إذاً يا أبي أيقظني معك في صلاة الفجر، قال: خيراً إن شاء الله، قال: يا أبي! إن لم توقظني لا أذهب إلى المدرسة، قال: خيراً إن شاء الله.
وظن الأب أن الابن فيه حماس الصبيان ونشاط الطفولة فلم يوقظه لصلاة الفجر، وأيقظه للدوام، فقال الابن: لم لمْ توقظني لصلاة الفجر؟ قال: أنت صبي صغير لكن عندما تكبر إن شاء الله أوقظك.
قال: والله لا أذهب إلى المدرسة، قال: يا بني! الدراسة، قال: والله لا أذهب، أجبره فامتنع عن الذهاب للدراسة.
تعجب الأب من حماس الصبي، فجاء في اليوم الثاني -ليس خوفاً على صلاته بل خوفاً على دراسته- قال: يا بني! قم لصلاة الفجر فقام لصلاة الفجر، وذهب مع أبيه فصلى في جماعة، فقال لأبيه: أنا اليوم في ذمة الله؟ قال: إن شاء الله أنت في ذمة الله، فذهب إلى المدرسة ودخل الفصل فقال المدرس: من أتى بالواجب؟ وكان الطالب غائباً في اليوم الذي كان فيه الواجب، فقام الطالب وكان معه بعض الطلبة الذين لم يأتوا بالواجب، فأخذ المدرس يضربهم واحداً واحداً حتى جاء دور هذا، فقال الطالب للمدرس: لن تستطيع أن تضربني -قال: أنا أتحداك أن تضربني- قال: ما الذي جرأك عليّ؟ وأخذ يعنف عليه تتجرأ على مدرس وتتحداني أني أضربك؟ حالك حال الصبيان.
قال: أما أنا لن تستطيع، قال: لمَ؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله) وأنا اليوم صليت الصبح في جماعة فأنا في ذمة الله، تريد أن تضربني أنا في ذمة الله وحفظه ورعايته، فضحك المدرس، وقال له: صدقت، أنت في ذمة الله ولن أضربك هذا اليوم.
{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء:78].
صح في الحديث أن من قام على ذكر الله وعلى صلاة قام طيب النفس نشيطاً، بعض الناس في العمل أو بعض الطلبة في المدارس تجده نشيطاً، وتجده طيب النفس حلو الكلام؛ لأنه صلى الفجر في جماعة، أول ما قام على ذكر الله، وأول ما استيقظ لله، قام للصلاة في المسجد، وتجده بعد الصلاة جلس يقرأ القرآن حتى طلعت الشمس لأنه نشيط، ثم ذهب فأفطر شيئاً قليلاً ثم ذهب إلى عمله.(44/4)
ظاهرة تأخير الصلاة عن وقتها
سألني بعض الناس، قال: هل يجوز إذا أذن الظهر وأنا لم أصلِّ الفجر أن أصلي الفجر ثم أصلي الظهر؟
قلت: سبحان الله! سبحان ربي! إلى الظهر لم تصلِّ الفجر، وأين أنت؟ قال: أول ما استيقظت كنت متأخراً على الدراسة فذهبت إلى المدرسة، قلت: سبحان الله! تقدم المدرسة على صلاة الفجر؟! لو مت في هذه اللحظات؟! لو قبض الله روحك؟! يقول عليه الصلاة والسلام: (ولا تترك صلاة واحدة مكتوبة متعمداً) المتعمد: الذي يضع ساعته على الساعة السابعة صباحاً ويعلم أن صلاة الفجر الساعة الثالثة وأربع وعشرين دقيقة، قال عليه الصلاة والسلام: (فمن تركها متعمداً فقد برئت منه الذمة).
برئت منه ذمة الله، ولهذا وصف الله جل وعلا يصف الناس في آخر الزمن، فيقول: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] أسأل الله ألا نكون منهم أتعرف صفة من هذه؟
إنها صفة الذي يجلس إلى الساعة الثانية عشرة أمام التلفاز، ثم يقول: والله ما قمت لصلاة الفجر، وقد وقَّت الساعة وما قمت، ما الذي جرأك أن تجلس للساعة الثانية عشرة ليلاً، ألا تدري أنك إذا سهرت لا تستيقظ لصلاة الفجر؟ أما تعلم أن ثلاث ساعات لا تكفيك في النوم؟ لماذا لم تنم مبكراً حتى تقوم لصلاة الفجر؟
{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] لم يا رب لا يصلون؟ لأنهم في الليل أمام التلفاز لم يا رب لا يصلون؟ لأنهم في الليل في الورق والدواوين وشرب الشاي والقهوة، ثم ينام الساعة الواحدة -نسأل الله العافية- ولا ينام إلا وهو مثل الجيفة، ولا يقوم إلا على مثل ما شبهه به عليه الصلاة والسلام، جيفة بالليل حمار بالنهار، أما الصلاة: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] أتعرف ما معنى الغي؟ قيل: هو وادٍ في جهنم، لو سارت به الجبال لذابت، نحن لا نتحمل حر الصيف، الواحد منا أول ما يركب السيارة يفتح المكيف، لا يتحمل أن يقف ساعة تحت الشمس إلا ويتظلل بالظل، هل تتحمل ذلك الوادي؟!
أتعرف ما فعلوا بالصلاة؟ ضيعوها وفرطوا فيها.
هذا رجلٌ ماتت أخته فدفنها، وأثناء دفنه لأخته سقطت محفظة النقود، فنسي المحفظة حتى رجع إلى البيت، ثم تذكر المحفظة فرجع إلى قبر أخته بعد أن غابت الشمس في الليل، فنبش القبر ليُخرج المحفظة، فلما حفر القبر ووصل إلى الجثة وجد الجثة تحترق، فمن خوفه وفزعه رد القبر كما هو وهرول فزعاً إلى أمه، فقال: يا أماه! -وهو يبكي- يا أماه! أخبريني عن أختي، ما صنعت في دنياها، قالت: ولم يا بني؟ قال: يا أماه! أخبريني فإني رأيت قبرها يشتعل عليها ناراً، قالت أمه: يا بني! والله لا أنقم على أختك من عمل سوء -ما عندها عمل سوء أبداً- إلا أنها كانت تؤخر الصلاة عن وقتها {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5] قال ابن عباس: [يؤخرون الصلاة عن وقتها]، يصلون خمس صلوات في اليوم والليلة، لكن الفجر يصلونها بعد أن تطلع الشمس.
متى يُصلي العصر؟ قبيل الغروب متى يُصلي المغرب؟ بعد دخول وقت العشاء {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] * {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:5] وإذا صلى كان من {الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ} [الماعون:6] لا يصلي لله، إنما يصلي للناس.(44/5)
فضل المشي إلى الصلاة في الظلام
أخي الكريم: اسمع لهذا الحديث العظيم الذي أسأل الله عز وجل أن يقذفه في قلبك فتقوم لصلاة الفجر، يقول عليه الصلاة والسلام: (بشر المشائين في الظلم بالنور التام يوم القيامة) نعم! إن الفجر لظلام، وإن الناس في هدوءٍ وسكون، وإن الناس في نومٍ وسباتٍ عميق.
يقوم هذا من نومه، ويفتح باب بيته، تكاد تسمع صوت نعليه من آخر الشارع؛ لأنه لا يمشي غيره، فيمشي حتى يأتي إلى بيت الله، فيدخل وقد مضى على الأذان عشر دقائق، وظن المسكين أن الصف الأول قد امتلأ، وأنه لن يدرك إلا الصف الثاني أو الثالث، فيدخل فيستغرب ولا يرى إلا المؤذن، فيقول له: أصليتم؟ فيقول: لا.
ولكن لم يأتِ أحد، لا حول ولا قوة إلا بالله! مضى على الأذان عشر دقائق ولم يأتِ أحد، بل بعض الأوقات يؤخر المؤذن الإقامة حتى يدخل اثنان أو ثلاثة يتمون بهم الجماعة، لم هذا يا عبد الله؟ بسبب اللآمبالاة وعدم استشعار الأجور، قال: (بالنور التام يوم القيامة) اثبت -يا عبد الله! - ولو كنت لوحدك، لا تقل: أنام مثل الناس، لا تقل: غيري ينام وأنا فقط لوحدي أقوم، اسمع فإن يوم القيامة ظلمة شديدة، هذه الشمس التي تراها تكور، والنجوم تتناثر وتنكدر، ويوم القيامة ظلمة في ظلمة.
وفي ذلك الظلام من الناس من يكون نوره كمد البصر، ومنهم من يكون نوره كأصبع في قدميه، نوره لا يكاد يضيء إلا أصبع قدميه، يضيء مرة وينطفئ مرة.
ومنهم من يمشي في ظلام يوم القيامة، لا يرى شيئاً، بل منهم في ذلك الظلام أعمى نسأل الله العافية: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:125 - 126] يقول تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78]، ويقول: {أَضَاعُوا الصَّلاةَ} [مريم:59]، ويقول سبحانه: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4]، ويقول: {أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:126].
إن كنت في صف المؤمنين يوم القيامة فإنك ولا بد سوف تمر على الصراط، تعرف ما صفة الصراط؟ الآن تخيل وأنت جالس:
أدق من الشعر سبحان الله! هل هذا ممكن؟!
أحد من السيف، هل تتصور أنه أحد من السيف؟! أتعرف ما تحت هذا الصراط؟ نار جهنم {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج:15 - 16] أي: من حرها اللحم ينفصل عن العظم، من شدة الحر، والنار تزفر من تحتهم، وتنادي: هل من مزيد؟ ويمر هذا على الصراط، تخيل أنك تمر وأنت في ظلام، هل تستطيع أن تجتاز الصراط؟!
من يمشي في النور؟ (بشر المشائين في الظلم -أي: إلى صلاة الفجر والعشاء- بالنور التام يوم القيامة) نورٌ تام {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] يوم القيامة يأتي المنافقون والمؤمنون في صف واحد؛ لأن من الناس منافقين أمام الصالحين صالح، وأمام الفسقة فاسق، في الملأ رجلٌ طائعٌ وصالح، وإذا اختلى ارتكب جميع المنكرات، هذا فيه نفاق نسأل الله العافية، يأتي يوم القيامة فيضرب الله عز وجل سوراً فإذا بالمؤمنين في جانب والمنافقون في الجانب الثاني، المنافقون ينادون المؤمنين خلف هذا السور {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13].
في هذا الجانب ظلمة وعذاب، وفي الجانب الآخر نور ورحمة، ينادونهم! انظرونا -أي: انتظرونا- نقتبس من نوركم، فيرد المؤمنون عليهم: {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ} [الحديد:13] ارجعوا للدنيا، ارجعوا لهذه الأيام، {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً} [الحديد:13] ارجع في الدنيا فالتمس النور، أتعرف ما هو هذا النور؟ إنه في مثل صلاة الفجر، قال عليه الصلاة والسلام: (بشر المشائين في الظلم بالنور التام يوم القيامة).(44/6)
أثر الذنوب في التخلف عن صلاة الفجر
أختم حديثي بمشكلة تصادف كثيراً من الناس، يقول: يا شيخ! والله أنام مبكراً، وأضع الساعة والساعتين، وأعزم من قلبي، وأرفع يدي لله: يا رب! أعني لصلاة الفجر، يقول: وأقول لأمي التي تقوم كل يوم لصلاة الفجر، أطرقي علي الباب، يقول: ومع هذا أستيقظ وإذا الشمس قد طلعت، أنظر للساعة ما سمعتها، أسأل أمي تقول: طرقت الباب فلم تجب، يقول: ما الحل؟ لم لا أقوم لصلاة الفجر؟
أقول لك: اسمع إلى الحسن البصري كيف يجيبك عندما سئل: قيل له: نريد قيام الليل فلا نستطيع -نحن مشكلتنا الآن صلاة الفجر، هم كانت مشكلتهم قيام الليل- قال بعضهم للحسن البصري: نتمنى قيام الليل فلا نستطيع، أتعرف بم أجاب؟ قال رحمه الله: "قيدتكم ذنوبكم" وأنا أجيبك بهذه الإجابة، إذا بذلت جميع الأسباب ورفعت يديك إلى الله، وتوكلت على الله، ولم يوفقك لقيام صلاة الفجر، فاعلم أن هناك ذنباً، وأن هناك معصية أنت أدرى بها، وأنت أعلم بها، ما أدري هل هي نظرٌ للنساء؟ أم غيبة ونميمة؟ أم بعض الأفلام والمسلسلات؟ أم اطلاع على العورات؟ أم حبٌ للأغاني والفجور؟ في قلبك معصية منعتك عن القيام لصلاة الفجر، والله عز وجل يقول: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46].
سل نفسك يا عبد الله: أين هذه المعصية؟ وما هذه المعصية التي منعتك أن تقوم لصلاة الفجر؟ {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] لعلك تقول: لم هذه الوقفة؟ وأكثركم يحفظ هذه الآية، وتعرف أن فيها سكتة {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] وكأن الله توقف، الله جل وعلا توقف هنا لأن الأمر شديد، والعقوبة عظيمة، والجرم يستحق هذه العقوبة: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] أصبح الذنب على الذنب، والمعصية على المعصية، كالران على القلب، لا يسمع صلاة الفجر، ولا تنفع فيه الأسباب، ولا يوفقه الله لقيامها.
سل نفسك يا عبد الله: أي معصية منعتك من قيام صلاة الفجر؟ واعلم أن الأمر خطير، وهو عمود الإسلام، وأن هذه الصلاة لو جئنا يوم القيامة ولم تكن صالحة، فلن تصلح صدقاتنا، ولا صيامنا، ولا حجنا، ولا برنا، ولا صلة أرحامنا، ولا دعوتنا إلى الله، ولا تنفع أعمالنا جميعاً: (الصلاة وما ملكت أيمانكم) ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة) أول ما يحاسب أي: من المصلين، تعالوا أيها المصلون! أما غير المصلين فيحشرون؟ مع فرعون وأبي بن خلف، وأبي جهل مع أهل الشر.
أما المصلون فإن الله ينظر في صلاتهم (إن صلحت صلح سائر العمل) صلح الصيام وصلح الحج، وصلحت الصدقات، وصلح الدعاء، وسائر الأعمال (وإن فسدت) نسأل الله العافية، فسدت حيث لم يأت بها في وقتها، ولا بأركانها، ولا بخشوعها، ولا بواجباتها، ولا بسننها كيف نقدم لله هذه الصلاة؟ (وإن فسدت فسد سائر العمل) فالله الله أيها الإخوة! في الصلاة.
وأرجو -أيها الإخوة- أن نأتي في مجلسٍ آخر، فنبحث في مشكلة أخرى وهي قيام الليل، وقد فرغنا من هذا الأمر، نفرغ من صلاة الفجر، حتى يصبح المتخلف في صلاة الفجر كأن في وجهه علامة وسمة، حتى قال عمر بن الخطاب حين افتقد أحد الصحابة -الآن أيها الإخوة نقول: من يصلي الفجر؟ ولا نقول: من لا يصلي؟ لأنك لو سألت: من لا يصلي الفجر؟ لما استطعت أن تعدهم، أما تسأل من يصلي الفجر فيقال لك: فلان وفلان وفلان يعدون على الأصابع، أما الذين لا يصلون فإنهم لا يعدون- عمر يسأل في يوم من الأيام: أين فلان؟ -هذا السؤال، ما نسأل إذا غاب عن دوام أو عمل، أو عن عشاء ما حضر، نسأل إذا لم يصلِّ الفجر: أين فلان؟ - فرأى أمه في السوق، فقال لها: يا أم فلان! أين فلان ما رأيناه في صلاة الفجر؟ فقالت: قام الليل فغلبته عيناه، فقال عمر: [والله لئن أصلي الفجر في جماعة أحب إلي من أن أقوم الليل كله].
يا عمر! ليتك تأتي إلى مجالسنا، وترى لم لا نصلي الفجر إلا من رحم الله؛ هل هو لأجل تلفاز، أو مجالس لغو، أو غيبة ونميمة أو غيرها نسأل الله أن يعيننا وإياكم على القيام لصلاة الفجر.
هذا وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(44/7)
الأسئلة(44/8)
نصيحة لمن في بيته ستلايت دون رغبة منه
السؤال
نصيحة للشباب الذين في منازلهم جهاز (الستلايت) دون رغبة منهم، وهذا الجهاز يعرض الأفلام التي تعرفونها؟
الجواب
مصيبة -أيها الإخوة- أن يأتي رب المنزل ورب الأسرة بهذا الجهاز، فإن عليه وزره ووزر من رآه ونظر إليه واستمع إليه, وفسد على يديه إلى قيام الساعة، كيف يتحمل هذا؟ وإذا كان مستعداً أن يتحمل أمام الله، فليعرف أن هذا هو فعله، والله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6]
السؤال ليس لأولئك، إنما للشباب الذين هم مرغمون، وفي بيوتهم (ستلايت) أقول له: اتق الله حيث ما كنت، حاول أن تخرج هذا (الستلايت) من البيت بالكلمة وبالموعظة، وبالحكمة، وببيان مفاسده وأخطاره على الوالد والوالدة الآن نتكلم عن بعض أخطار التلفاز دعك من (الستلايت) يقولون: إن أحد الرجال دخل إلى البيت -هذا لأهل الغيرة نتكلم بهذا الكلام- دخل إلى البيت ورأى التلفاز، وأمام التلفاز ابنته الصغيرة، فنظر فإذا على الشاشة موضع قبلة -شفاه على التلفاز- فأول من شك فيه البنت الصغيرة قال: يا ابنتي! أما تستحين من هذا الفعل تقبلين الشاشة؟ فقالت البنت وهي تضحك: يا أبتي لست أنا، قال: من؟ قالت: إنها أمي، لما ظهرت صورة المطرب الفلاني لم تتمالك نفسها فقبلته على الشاشة.
بعض الناس يظن أن المرأة ما فيها شهوة! نقول: يا أخي الكريم! إنها ترى في التلفاز أجمل منك، وهي ترى بعض الرجال الذين ما تعدو أن تأتي أنت بعشر جمالهم، وهي ترى رجال -أسأل الله العافية- بصورة نساء، وهي ترى وتسمع كلمات الغزل، والفحش والبذاءة، وبعضٌهم يتبجح ويقول لك: جهاز (ستلايت) يأتي بجميع البرامج حتى إسرائيل أما يستحي؟! أما يدري أننا ما زلنا الآن في عداوة وحرب مع اليهود، ويقول: حتى إسرائيل! ولماذا تظن أن إسرائيل توجه قنواتها إلى الخليج؟ تعرض ماذا؟ تعرض برامج دينية، أو تعرض برامج ثقافية، أو أن الشاب المراهق عندما يأتي بالستلايت ويأتي بجهاز التلفاز في غرفته ويغلق الباب ماذا يفعل؟ أنت في يوم من الأيام كنت مراهقاً، وأنت لم تعرض لك هذه الأمور والحمد لله، خاصة كبار السن إنما تربوا على الصلاة والذكر، الواحد تقول له: لا تصلِّ، فيقول: لا.
هذه من أكبر الأمور، فيقوم للصلاة بدون ساعة؛ لأنه تربى على هذا الأمر.
أما شباب اليوم -أيها الإخوة- فإنهم يغلقون الأبواب على أنفسهم وعنده الستلايت، كنا في السابق نسمع عن تهريب الأفلام الخليعة، والآن لا نحتاج إلى هذه الأمور، الآن تأتي في بيته الأفلام الخليعة والداعرة وغيرها، إذاً الأمر خطير.
هل تظن أن هذا الجيل -جيل الستلايت والدشوش- بعد ثلاثين سنة أو عشرين سنة سيقود هذه البلاد؟
هناك الساعات المخصصة للتنصير في هذه البرامج، فهل تضمن أن أولادك لا يرون، أو إخوانك، أو أختك، ساعات مخصصة للتنصير، تعرف ما معنى التنصير؟ أي: يشاهد الشاب -على الأقل- فيسمع في يوم من الأيام: ما بالكم على النصارى؟ دعوهم وحالهم، لهم دينهم ولنا ديننا، هم أهل كتاب مثلما نحن أهل كتاب، هذه الكلمات بحد ذاتها خروج عن دين الإسلام، وتكذيبٌ لله، والله يقول: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ * لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:72 - 73] فيخرج لنا جيل في يوم من الأيام يقول لنا: النصارى ليسوا كفاراً، ولا بد أن نفعل مؤتمراً ومجتمعاً يعيش فيه النصراني واليهودي والمسلم إخواناً متحابين متآلفين، ولا يجوز أن تقول للنصراني: كافر.
إن هذا الستلايت يريد أن يغسل الأفهام والعقائد، ويزيل قضية الولاء والبراء، حتى لا يصبح الإنسان يوالي في الله ويعادي في الله، يحب اللاعب البريطاني أكثر من اللاعب المسلم.
اللاعب المسلم فد يكون فيه فسق لكنه يصلي فلا بد أن تحبه، ولكن البعض يحب النصراني أكثر، وهذا نسف لعقيدة الولاء والبراء.
في بعض البلاد -حتى تعلمون أن القضية خطيرة، وهذا تخطيط عالمي، وليست الفضية أن يفتح الواحد محل ستلايت، فهذا مسكين، بل القضية أكبر وأخطر- في بعض البلاد جاءوا بإمام المسجد إلى التحقيق، ما تهمته؟ قالوا له: لماذا تقرأ في الصلاة الآيات التي فيها النصارى واليهود؟ فهناك آيات تكفر اليهود والنصارى مملوءة بالقرآن، مثل الفاتحة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] فالمغضوب عليهم اليهود، والضالين هم النصارى.
فقالوا: لماذا تقرأ هذه الآيات؟ فقال لهم: هذا كتاب الله، قالوا: لا.
ابحث لك عن آية ثانية، لا تقرأ في هذه الآيات وصلوا إلى هذه الدرجة، ونحن الآن شيئاً قليلاً أزاحوها من الكتب، شيئاً فشيئاً حتى في بعض الأحيان تجد بعض الكلمات مثل هذه تزاح، أي: كنا قبل نسأل كبار السن، اسألهم ماذا يكتبون في الجرائد عن إسرائيل؟ فقالوا: العدو الإسرائيلي، وبعد سنوات قالوا: الكيان الإسرائيلي، ثم بعد سنوات قالوا: دولة إسرائيل، ونخشى أنه في يوم من الأيام في الجيل القادم نسمع كلمة إسرائيل الشقيقة! فنخشى من هذه الأمور.
فالستلايت ليست القضية فيه قضية فيلم، أو كما يضحك على بعضهم فيقال له: يا أخي! نأتي به من أجل الأخبار!! لا.
القضية أكبر، فالآن -يا إخوة- الستلايت يعرض فيه أمور لا تتصورها.
جاءني أحد الناس العوام وكان عنده ستلايت، يقول: والله يا شيخ أنتم لا تتخيلون ماذا في الستلايت؟ يعني: الشاب يسمع عشرين درساً، وعشرين موعظة، ويلتزم مع الصالحين عشرين سنة، يمكن أن يرى فيلماً واحداً فينتهي، وقد يرتد، يتدمر يا إخوان، ويأتي هذا الوالد والوالدة فيقولوا: والله ما استطعنا لهم، فلقد بكوا، وقالوا لي، أما في الستلايت فحالهم حال غيرهم!
أنت أولاً حاول أن تخرج هذا الجهاز من بيتك، وأخبر الوالد أن هذا حرام ومنكر، وأن فيه مفاسد، وقد تضيع أولادك يوماً من الأيام.
الأمر الثاني: إذا لم تستطع أن تخرجه فحاول أن تخفف الشر، حاول أن تبعد إخوانك الصغار، حاول -على الأقل- في الساعات المتأخرة أن تغلق الجهاز، على الأقل تتفق بينك وبين الوالد على بعض الأفلام ثم تغلق الجهاز، وبعض القنوات يلغيها، وعلى الأقل تمنع دخول التلفزيون إلى الغرف، حاول أن تضعه في الصالة، لكي تعرف ماذا يرون في البيت.
وبعض الفتيات الهاتف عندها إلى الساعة الواحدة في الليل تتصل، على من تتصل؟!!
إذاً الأمر يا إخوان -على الأقل- هو أن نخفف الشر شيئاً فشيئاً حتى نخرج الجهاز، فالله الله أن يلبس عليك الشيطان، أو أن يسول لك، ولا تقل: انظر فقط بعض البرامج أو بعض الأمور ثم أستغفر الله، أو أنظر ثم أتوب، ثم شيئاً فشيئاً حتى يوقعك الشيطان في شباكه والله أعلم.(44/9)
شبهة إبليسية في مسألة القدر
السؤال
هناك بعض الناس يقولون: إن الله قد وضع الأقدار فلمَ أعمل عملاً وقد كتبه الله؟
الجواب
هذه شبهة إبليسية يحتج بها بعض العصاة، يقول لك: لماذا أصلي؟ الله قد كتب أني شقي، فلا أحتاج أن أصلي، ولماذا أصلي؟ أسأل هذا الرجل وأقول له: ألا تأكل؟ ألا تشرب؟ فإذا قال: نعم.
قلنا له: لماذا تأكل؟ فقد كتب الله عليك أنك تشبع، فلماذا تأكل إذاً؟ ولم تذهب للدراسة إذا كان الله جل وعلا قد كتب لك الرسوب أو النجاح؟ ولم تعمل إذا كان الله عز وجل قد كتب لك أنك سوف تحصل على هذا الرزق أو لا تحصل على هذا الزرق؟ للدنيا تسعى وللآخرة لا تسعى! لم هذه الحجة إذا كان الأمر للدين، أما إذا كان للدنيا فلا؟ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل قيل له: (فلم العمل؟ قال: اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له) اعمل فإذا كنت من أهل الجنة فسوف يعينك الله جل وعلا وييسر لك، وإذا كنت من أهل النار فإنك لن تذهب للصلاة ولن تصلي، ولهذا أخبر الله أن الذي يبدأ بالعمل فإنه يعينه، يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] والذي يبدأ بالضلال: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5].
إذاً: الجزاء من جنس العمل، ولهذا ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الله جل وعلا يقول: (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به)، وفي حديث آخر قال: (وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة).
إذاً: القضية أنك إذا بدأت في الهداية والالتزام وفقك الله جل وعلا، وإذا بدأت بالضلال فإن الله جل وعلا كما قال: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5] إذاً عليك أن تعمل وتجتهد، والأمر مكتوب مكتوب أن فلاناً سوف يختار هذا الطريق، كما قال الله جل وعلا: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3].
هذاه الله عز وجل هداية إرشاد، أي: بين له طريق الخير وطريق الشر، فإذا اختار طريق الخير فإن الله قد كتبه له في الأزل، وإذا اختار طريق الشر فإن الله قد كتبه عليه، واختيارك لطريق الخير أو الشر مكتوب في الأزل، مكتوب أن فلان بن فلان عرض له طريقان فإذا به يختار هذا الطريق فصلى وصام، وحافظ على صلاة الفجر، وحضر مع الصالحين، ودعا إلى الله، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، مكتوبٌ لك في الأزل أنك اخترت هذا فكتب الله عليك هذا.
أما ذاك فمكتوب أنه صد وولى واختار هذا الطريق؛ لأنه هو الذي اختار هذا الأمر، وكتب الله عز وجل أنه سوف يختار هذا الطريق ويدخل النار والله أعلم.(44/10)
بر الوالدين
بر الوالدين واجب على الأبناء، فيجب عليهم أن يحرصوا على هذا المقام العظيم، وأن يدركوا أن هذا البر لن يفي للوالدين حقهما، ولن يكون قضاء لدين الولد لهما، بل يظل الفضل والمعروف لكل منهما.
وعلى الأبناء أن يدركوا أن حق الوالدين لا يفضله ولا يفوقه حق أي إنسان آخر كالزوجة والولد وغيرهما.
وفي ثنايا هذه المادة تتناثر الصور والنماذج للطاعة والعقوق، وتغلب عليها شكوى الآباء وغفلة الأبناء، وإن تعجب فعجب أمر من يبحث عن الراحة والسعادة وبينه وبين الجنة خطوات تفصله عن قدم أمه.(45/1)
صور من بر الوالدين وعقوقهما
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام: أيها الأخ المستمع! أيتها الأخت المستمعة! حديثي إليكم في هذه الليلة عن بر الوالدين، ولا أظن مثلي يستحق أن يتكلم بهذه الكلمات، ولا أظن أني أهل لهذا الموضوع، ولكن من باب: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2].
بر الوالدين مقام عظيم، وأظن أن من سمع هذه القصص والحكايات واعتبر فسوف يتهم نفسه بالعقوق، ولا أظن أحداً -أيها الإخوة- سوف يسمع هذه القصص وتلك العبر، إلا وسوف يتهم نفسه بكبيرة من الكبائر، بل هي بعد الإشراك بالله جلَّ وعلا، ألا وهي عقوق الوالدين، بل لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أحب الأعمال إلى الله عز وجل؟ قال: (الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) فهو خير حتى من الجهاد في سبيل الله، والعقوق شر من الفرار يوم الزحف.(45/2)
رجل يطوف بأمه على ظهره
وهذا رجل يماني يطوف بالبيت، يحمل أمه العجوز على ظهره، ويطوف بها بالبيت، من منا يفعل هذا؟ ومن منا يتصور هذا قبل أن يفعله؟ يحمل أمه على ظهره ثم يطوف حول البيت، هل وصلنا بالبر إلى هذا المستوى؟ هل وصلنا بطاعة الوالدين وحبهما إلى هذه الدرجة؟ يحملها على ظهره فيطوف بالبيت، فيرى ابن عمر ذلك الرجل الصحابي الفقيه، فقال له: [يا ابن عمر! أتراني جزيتها؟ -تراني بهذا الفعل جزيت حق أمي وأرجعت لها الحقوق- فقال له ذلك الرجل العالم ابن عمر: لا.
ولا بزفرة من زفراتها]، ولا بطلقة من طلقاتها حين وضعتك من بطنها.
مهما فعلت -يا عبد الله- ومهما أحسنت إليها، فإنك -يا أخي الكريم- لن تصل إلى حقها ولو فعلت ما فعلت.
واسمع إلى القصة الأولى، وسوف نسرد هذه القصص ونتلوها ببعض العبر، وأرجو منك أخي الكريم أن ترعي لي سمعك وتنتبه، فهذه القصص ليست من نسج الخيال بل هي من واقعنا وواقع من قبلنا، ثم اعلم -يا عبد الله- بأن القصص غير هذه كثيرة وكثيرة، وغير هذه الحكايات أكثر، بل إنني استحيت من ذكر بعض القصص، وخجلت من ذكرها، لما فيها من وقاحة وعقوق وأنزه هذا المسجد وأنزه سمعك الطيب عن سماع مثل هذه القصص.(45/3)
قصة عاق يفضل زوجته على أمه
فهذه قصة يرويها أحد بائعي المجوهرات، يقول: دخل عليَّ في المحل رجل ومعه زوجته، وخلفه أمه العجوز تحمل ولده الصغير، أربعة دخلوا في المحل، يقول: وأخذت زوجته تشتري من المحل، وتشتري من الذهب، وتأخذ من المجوهرات، ثم قال له هذا الرجل للبائع: كم حسابك؟ فقال له -وأنا أخبركم بالعملة التي ذكر بها الشيخ-: عشرون ألف ريال ومائة، فقال هذا الرجل: ومن أين جاءت هذه المائة؟ نحن حسبناها عشرين ألف، من أين هذه المائة ريال؟ من أين جاءت؟ قال: أمك العجوز اشترت خاتماً بمائة ريال، قال: أين هذا الخاتم؟ قال: هو ذا، فأخذ ابنها الخاتم ثم رماه إلى البائع، وقال: العجائز ليس لهن الذهب، ثم لما سمعت العجوز تلك الكلمات، بكت وذهبت إلى السيارة، فقالت زوجته: يا فلان! ماذا فعلت؟ لعلها لا تحمل ابنك بعد هذا.
لعلها لا تحمل لنا الابن، كأنها أصبحت خادمة، فعاتبه بائع المجوهرات، ثم ذهب إلى السيارة، وقال لأمه: خذي الخاتم إن كنت تريدين، خذي هذا الذهب إن أردتيه، فقالت أمه: لا والله لا أريد الذهب، ولا أريد الخاتم، ولكني أردت أن أفرح بالعيد كما يفرح الناس، فقتلت سعادتي فسامحك الله، فسامحك الله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] فبعد التوحيد والعبادة، ماذا يا رب: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ} [الإسراء:23] لأن وقت الكبر أحوج ما يكونان إلى الأبناء، إلى الولد.
يا عبد الله! هذا وقت الحاجة، وهنا ترد الجميل، وهنا تحسن إليهما كما أحسنا إليك: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23] هل سمعت بكلمة أصغر من أف؟ إنك تستجيب ولكن بتأفف، تقول لك أمك: افعل، تفعل ولكنك متأفف، فهذا عقوق، وهذه كبيرة من الكبائر: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] أي: أنك تشير بيديك إشارة، كأنك متضايق منهما، فتستجيب ولكن لا ترد عليهما بالكلام، ولكنها إشارة تدل على أنك تنهرهما: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:23 - 24].
وكم وكم يا عبد الله من الرجال في هذه الأيام يقدمون الزوجة على الأم! يأتي إلى البيت بهدية، وتنظر الأم وترى بعينيها، لمن هذه الهدية؟ إنها للزوجة، يدخل الغرفة ويغلق الباب فيعطيها لزوجته، أين حق الأم؟ نسي الأم، فما تذكرها، يشتري لزوجته الملابس، ويسكنها أفخم الأثاث، ويلبسها أغلى الذهب والمجوهرات، ولكن أين أمه؟ لقد نسيها، منذ متى عرفت زوجتك يا عبد الله؟! كم أحسنت إليك الزوجة؟!
إن أمك قبل أن توجد على وجه الأرض كانت تحسن إليك، وكانت ترأف بك وكانت ترحمك وتشقى لأجلك قبل أن تنزل على وجه الأرض، أنسيتها -يا عبد الله- حينما تزوجت ولم تذكر حقها؟!
يا عبد الله! كم وكم من الرجال من يأخذ زوجته في سفر، وفي رحلة، وفي نزهة، ولا يكلف نفسه أن يقول لأمه: أتريدين الذهاب معنا؟ هلا سافرت معنا! فتجده لا يريدها.
يقول: الأم تضايقني، ولا تجعلني أرتاح مع زوجتي.
يقول ابن عباس رضي الله عنه: [إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله من بر الوالدة] يقول: ما في الدنيا عمل أكثر قربة إلى الله من بر الوالدة: (الزم قدميها فثم الجنة).(45/4)
شاعر يصف عقوق ابنه
واسمع إلى القصة الثانية: واسمع -يا عبد الله- إلى هذا العقوق، لتعلم أن ما خفي أعظم.
في السير أن أحد الأعراب وفد على الخليفة يبكي، فقال له: ما بك؟ قال: أصبت في ولدي بأعظم من كل مصيبة.
قال: وما هي؟ -تخيل شيخاً كبيراً يبكي، وتخيل رجلاً كبيراً في السن يبكي بين يدي الخليفة- قال: ربيت ولدي، سهرت ونام، وأشبعته وجعت، وتعبت وارتاح، فلما كبر وأصابني الدهر واحدودب الظهر، تغمط حقي، ثم بكى بكاءً مراً، وقال:
تغمط حقي ظالماً ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه
فبكى وأبكى كل من في المجلس.
أيعقل أن يكون في الأولاد من يأخذ المال من أبيه ظلماً؟!
أيعقل أن تصل الوقاحة في الشخص أن يظلم والده؟!
أيعقل أن يكون هناك في الناس عقوق مثل هذه العقوق؟!
اسمع ماذا يقول الشاعر على لسان الأب كأنه يخاطب ابنه، وكن أنت كأن أباك يخاطبك بهذه الكلمات، فاسمعها وعها يا عبد الله:
غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً تُعلُّ بما أجري عليك وتنهل
إذا ليلة نابتك بالسقم لم أبت لشكواك إلا ساهراً أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيني تهمل
تخاف الردى نفسي عليك وإنني لأعلم أن الموت حتم مؤجل
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيك أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذلم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل
يا ليتك عاملت أباك كما يفعل الجار! يا ليتك جعلته كالصاحب! كم وكم من الناس من يزعمون الصلاح ومن يتظاهرون بالإسلام، ومن يتمسكون ببعض السنة؛ يحسن إلى صاحبه، ويعامل أصدقاءه بأحسن معاملة، فإذا جاء لأبيه وإذا جاء لأمه، اسمع لكلمات العقوق، واسمع للرفض، إذا قالت له أمه: أريد زيارة فلانة؟ قال: ألا يوجد غيري في البيت؟! اذهبي إلى فلان، ليذهب بك فلان، سبحان الله! أما إذا قال له صاحبه، وصديقه وجاره وخليله، فإنه لا يتأفف ولا يتردد، بل يستجيب أيما استجابة.
عبد الله: أسمعت بعقوق كهذا؟! أسمعت في الناس من يفعل مثل هذه الأفعال؟!(45/5)
حلم والدة ولؤم ولد
واسمع إلى هذه القصة، التي لولا أنها ذكرت في جريدة وتواترت على ألْسنة بعض الناس -والله- ما ذكرتها ولا قصصتها ولا كنت أظن أن من الناس من يفعل هذا، وسوف أتصرف في ذكرها فاسمعها -يا عبد الله- وعها لتعلم أن هذا الشر مستطير، وأن هذا الفعل يوشك أن يؤذن لهذه المجتمعات بالعقوبة، وأن ينزل الله عز وجل عليها عذابه، بسبب ما يفعله كثير من الناس.
يقول الراوي: إنه خرج مع أسرته إلى شاطئ البحر، فلما وصل -هو وعائلته- يقول: رأينا عجوزاً على بساط على الشاطئ لوحدها، يقول: فجلسنا على الشاطئ، فتعشينا في الليل، يقول: ثم بعد العشاء تسامرنا، وأخذنا نلهو ونتحدث حتى حلَّ منتصف الليل، يقول: وأردنا الرجوع، فلما أردنا الرجوع قلت في نفسي: سبحان الله! ما بال هذه العجوز جالسة لوحدها؟! لم يأتها أحد، ولم يقربها أحد، يقول: فلما قفلنا جئتها، فقلت لها -اسمع إلى هذا الخبر، واسمع إلى هذا العقوق- فقلت لها: يا أماه! خيراً إن شاء الله، أنت لوحدك وليس معك أنيس ولا جليس، فقالت هذه العجوز: إن ابني أتى بي إلى هنا، وقال لي: أن عنده عملاً سوف يذهب إليه ثم يرجع.
فقال لها: يا أماه! الوقت متأخر فهلا رجعت معنا؟ قالت: لا.
سوف أنتظر ابني ولو تأخر، فقد أخبرني أنه: سوف يتأخر وسوف يرجع.
قال: يا أماه! لكن الوقت متأخر جداً ولا أحد في هذا المكان.
قالت: لن أرجع حتى يرجع ابني، وعدني أنه سوف يرجع، وأعطاني هذه الورقة.
قال: وما هذه الورقة؟ فقالت: اقرأها تعرف ما فيها.
فقرأتها فإذا في هذه الورقة: يرجى ممن يقرأ هذه الورقة أن يأخذ العجوز إلى دار الرعاية.
لعن الله من لعن والديه، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من لعن والديه، فهذه في الكلمات فكيف إذا كانت في الأفعال؟! يرميها على شاطئ البحر ويقول: يرجى ممن عثر على هذه العجوز أن يأخذها إلى دار الرعاية.
اسمع هذه الأم، والشاعر يتكلم بلسانها، وكأنها تقول:
لا تسبوا ولدي ما كنت رغم الغدر خصمه
لا تسبوه مهما فعل.
إن لي في قلبه حباً وليس الحب تهمه
هو طفلي وأنا أضمنه مذ كان لحمه
هو في الليل سميري وأنيسي في الملمه
فإذا خاف سكبت الأمن كي أذهب همه
وإذا عاد تداعيت له صوتاً ونغمه
فأناغيه بلحن وأناجيه بكلمه
ولدي ما عقني بل فعله بر ورحمه
جاء بي للبحر كي أنعم في رمل ونسمه
فدعوه ولا تسيئوا الظن فيه بالمذمه
واذهبوا للدار بي ما الدار للأبناء وصمه
غاب عني لم يغب إلا لأمر قد أهمه
هو مشغول وللمشغول أعذار وحرمه
وسيأتي ولدي للدار إن أنهى المهمه
ولدي أعرفه من ذا الذي ينكر أمه
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:23 - 24].
أهذا هو جناح الذل أن ترميها في دار الرعاية؟!
أهذا هو جناح الذل أن ترميها على البحر؟!
أهذا جناح الذل أن تطردها لأجل الزوجة؟!
أهذا جناح الذل أن تتركها في البيت لوحدها، وتذهب مع زوجتك لبيت فاخر، وتسكن مع الزوجة، وتلهو مع الأولاد، وقد تركتها بين أربعة جدران؟!
أهذا هو البر أم هذا هو العقوق بعينه يا عبد الله؟! (رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما فدخل النار).(45/6)
أمية الكناني يعاتب الفاروق
واسمع إلى أمية الكناني؛ فهذا الرجل كان شيخاً كبيراً، وكان رئيساً لقومه، وكان له ابن اسمه كلاب، هذا الابن كان باراً بوالديه -بأبيه وأمه- وكان صالحاً، فذهب إلى المدينة، وجاء إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألهم عن أفضل ما يقرب إلى الجنة؟ فأخبروه بالجهاد -الجهاد في سبيل الله- فذهب إلى والده، وكان باراً به ومحسناً إليه، وكان يخدم والديه من الصباح إلى المساء، ويقدمهما على زوجته وأولاده، فرفض أبوه في البداية، فلم يزلْ به حتى رضي أبوه، ثم ذهب إلى الجهاد، وكان أبوه في كل يوم يتذكر ابنه، ويتذكر حاله مع ابنه، وفي يوم من الأيام رأى أبوه حمامة على الشجرة، فنظر إليها، وبجنبها فرخها، فنظر إليها كيف تحنو على فرخها، فتذكر ابنه، وأخذ يقول ذلك الشعر، اسمع إلى الأب الذي يتذكر ابنه البار، فقال:
لمن شيخان قد نشدا كلاباً كتاب الله لو قبل الكتابا
إذا هتفت حمامة بطن وجٍّ على بيضاتها ذكرا كلاباً
إلى أين تركه يا عبد الله؟ تركه للجهاد، ونحن نخاطب من ترك أباه وترك أمه لأجل عمل دنيوي، أو لأجل زوجة وأولاد، أو لأجل معصية يسافر إليها.
تركت أباك مرعشة يداه وأمك ما تسيغ لها شرابا
تلفظ مهده شفقاً عليه وتجنبه أباعرها الصعابا
فإنك والتماس الأجر بعدي كباغ الماء يتبع السرابا
ثم جاء إلى الخليفة، من هو الخليفة؟ إنه عمر بن الخطاب، جاء إليه هذا الأب وهذا الشيخ الكبير فدخل على عمر فهل تعرف ماذا قال لـ عمر؛ لأنه الذي أرسله للجهاد؟ قال:
فلو فلق الفؤاد شديد وجد لهم سواد قلبي بانفلاق
سأستعدي على الفاروق رباً له دفع الحجيج إلى بساق
وأدعو الله مجتهداً عليه ببطن الأخشبين إلى دقاق
إذا الفاروق لم يردد كلاباً على شيخين هامهما زواقِ
ولما سمع عمر هذه الأبيات بكى، وأرجع الولد من الجهاد، فسأله؟ وقال له: ما شأنك وأبوك؟ فأخبره ببره بأبيه، وكيف كان يحلب لهما، ويطعمهما، ويسقيهما، ويخدمهما من الصباح إلى المساء، فلما سمع بحاله، أمره بالرجوع إلى والده، فنادى عمر والده الشيخ الكبير، وكان قد عمي من شدة البكاء، فأدخله في مجلسه، فأمر ابنه كلاباً أن يحلب له، فحلب له.
فقال عمر لهذا الشيخ الكبير: ماذا يسرك من الدنيا؟
قال: لا شيء، وأي خير أرجوه من الدنيا، قال: بل ترجو شيئاً؟
قال: أرجو أن أضم ولدي ضمة وأشمه وأقبله قبل الموت.
فقال له عمر: اشرب من هذا اللبن، فشرب من اللبن، ثم قال لـ عمر: يا أمير المؤمنين! إني أجد في اللبن رائحة ولدي كلاب.
فقال له عمر: هو ذا ابنك يا فلان! فضمه وقبله، وأخذا يبكيان، فبكى عمر، وأبكى من حوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [الأحقاف:16] يعني البارين بآبائهم، يعني من كان باراً بوالدته وباراً بأبيه اسمع إلى جزائه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16].
هل فكرت أخي الكريم أن تدخل على أمك فتقبل رأسها وتطلب العفو منها؟ أو أن تدخل على أبيك فتقبل رأسه ويده وتطلب الصفح منه؛ وتطلب منهما أن يغفرا لك؟
هل فكرت -يا عبد الله- وحاسبت نفسك لو لقيت الله بهذا الجرم العظيم؛ جرم العقوق، وهو كبيرة من الكبائر؟ هل فكرت كيف تلقى الله به؟
عبد الله: هلا ذهبت هذه الليلة إلى أمك قبل أن تنام، وإلى أبيك قبل أن ينام، فقبلت رأسيهما، ثم طلبت الصفح والعفو منهما؟(45/7)
رجل يرفض زيارة أمه حين وفاتها
اسمع إلى هذا العاق وكم هم العاقون! وكم هم المجرمون بحق والديهم! هذا العاق رمى أمه في دار العجزة، ويكفيك أخي الكريم أن تزور دور العجزة ولو مرة واحدة؛ لتسمع أخبار العاقين وأحوالهم، هذا الرجل رمى أمه العجوز في دار العجزة، وظل سنوات لم يزرها، وزمناً طويلاً لم يعرفها، حتى الاتصال لم يتصل بها، وحانت ساعة وفاتها، وأخذت في الاحتضار، فبكت ونادت المسئولين، وقالت لهم: اتصلوا بولدي، اتصلوا بولدي، اتصلوا بولدي، أريد أن أضمه قبل أن أموت، أريد أن أقبله، أريد أن أعانقه قبل الموت.
ولدها مهما فعل تحبه، ولدها -والله- مهما عقها ومهما فعل بها فإن في قلب الأم حباً لولدها مهما فعل.
قالت: أريد أن أضمه وأقبله قبل الموت، فاتصلوا بولدها، فقالوا له: إن أمك تحتضر، وتريد أن تراك وتقبلك، فقال هذا المجرم: ليس عندي وقت، وقتي ضيق، وعندي أعمال وتجارات وعقارات، ما عندي وقت، ثم أغلق الهاتف، ثم ماتت هذه الأم ولم تر ولدها، ماتت ساخطة عليه، فاتصل المسئولون بالولد فقالوا له: يا فلان! لقد ماتت أمك، لقد ماتت أمك العجوز، فماذا تظنونه يقول؟ قال: أكملوا الإجراءات وادفنوها.
لأمك حق لو علمت كثير كثيرك يا هذا لديه يسير
فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي لها من جواها أنة وزفير
وفي الوضع لو تدري عليها مشقة فمن غصص منها الفؤاد يطير
وكم غسّلت عنك الأذى بيمينها وما حجرها إلا لديك سرير
نسيت فهل -يا عبد الله- وهي تغسل النجاسات من عليك؟! وهل نسيت -يا عبد الله- سهرها وأنت نائم؟!
وهل نسيت -يا عبد الله- مشقتها في المشي لأنك في بطنها؟! وهل نسيت -يا عبد الله- صراخها، وبكاءها وسهرها عليك؟! فهل نسيت هذا لأجل زوجة أو تجارة أو أصحاب؟! تباً لهؤلاء كلهم إذا كانوا سبباً للعقوق!
وكم غسّلت عنك الأذى بيمينها وما حجرها إلا لديك سرير
وتفديك مما تشتكيه بنفسها ومن ثديها شرب لديك نمير
وكم مرة جاعت وأعطتك قوتها حناناً وإشفاقاً وأنت صغير
فضيعتها لما أسنت جهالة فطال عليك الأمر وهو قصير
فآهٍ لذي عقل ويتبع الهوى وآهٍ لأعمى القلب وهو بصير
لعن الله من لعن والديه، لعن الله من لعن والديه.(45/8)
بعض الآداب في التعامل مع الوالدين
هذا أبو هريرة يبصر رجلين، فقال لأحدهما: من هذا منك؟ فقال: إنه فلان أبي، فقال: لا تسمه باسمه، ولا تناد أباك باسمه، فلا تقل: يا فلان! بل تسميه بصفته فتقول: يا أبي أو يا أبتاه.
فيعتبر أبو هريرة هذا عقوقاً، وهذا من تمام البر أنك لا تسميه باسمه.
قال: ولا تمش أمامه.
فانظر كيف وصلوا إلى البر، يقول: إذا مشيت فامش خلفه، تواضعاً واحترماً ومن خفض الجناح بالذل له.
قال: ولا تجلس قبله.
إذا دخلت في مجلس وهو قائم فقم معه، ولا تجلس في مجلس قبله، انظروا كيف وصلوا إلى البر.
وهذا رجل -يا عبد الله- لا يصعد إلى الطابق الأعلى إذا كانت أمه في الطابق الأسفل، يقول: كيف أصعد على طابق وأمي تحتي، فهو يعتبر هذا من العقوق.
وذاك رجل لا يأكل مع أمه في صحن واحد، فيُسأل: لم يا فلان لا تأكل مع أمك في صحن واحد؟ فيقول: أخاف أن تمتد يدي إلى لقمة وأمي تنظر إليها، أخاف أن آكل لقمة وأمي قد اشتهتها.
انظر كيف وصلوا إلى البر، وانظر كيف أصبح الناس هذه الأيام في العقوق.
ويأتي رجل فيبايع النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة، فيقول له: (كيف تركت أبويك؟ فيقول: تركتهما يبكيان، فيقول له: ارجع إليهما وأضحكهما كما أبكيتهما).
ويأتي رجل يريد الجهاد فيقول له الرسول صلى الله عليه وسلم: (ألك أم؟ فيقول: نعم.
قال: أتريد الأجر والمثوبة من الله؟ قال: نعم.
قال: الزم قدمها فثم الجنة).
ولنرجع إلى البيوت -يا عباد الله- فلنلزم أقدامهن، فهناك الجنة، وهناك الروح والريحان، وهناك الجنان، وهنالك الأنهار، وتلك هي القصور، فباب الجنة -يا عبد الله- عند قدم أمك؛ فكيف ضيعت ذلك الباب؟ وكيف فرطت في الجنة وأبوابها؟
واسمع إلى هذا العاق، هذا الرجل العاق كيف وصل به العقوق إلى هذه الدرجة، فهو يضرب به المثل، واسمه منازل، وهذا الرجل كان فاجراً عاصياً عاقاً لأبيه، أتاه أبوه يوماً من الأيام، فأمره بالطاعة، وأمره بالإحسان، وأمره بالاستجابة لله جلَّ وعلا، فهل تعرف ماذا فعل؟ لطم أباه على وجهه، فذهب أبوه يبكي، وقال: والله! لأحجن إلى بيت الله الحرام وأدعو عليه هناك، فحج الأب إلى بيت الله الحرام، وتعلق بأستار الكعبة، ثم رفع يديه، فقال:
يا من إليه أتى الحجاج قد قطعوا أرض المهامه من قرب ومن بعد
إني أتيتك يا من لا يخيب من يدعوه مبتهلاً بالواحد الصمد
هذا منازل لا يرتد عن عققي فخذ بحقي يا رحمان من ولدي
وشل منه بحول منك جانبه يا من تقدس لم يولد ولم يلد
فما أنزل الأب يديه إلا وقد شل الله نصف جسده، وأصبح مشلولاً إلى أن مات: (ثلاث دعوات مستجابات -لا شك فيهن- منها: دعوة الوالد على ولده).
إذا أردت الدعوة يا عبد الله، فاذهب إلى أمك، واذهب إلى أبيك، وسلهما دعوة صالحة، وسلهما دعوة خالصة.
واسمع إلى العاق، كيف يصفه الله جلا وعلا: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الأحقاف:17] يا بني صلِّ يا بني اذهب إلى المسجد يا بني اترك الفساد يا بني اترك المعاصي يا بني اترك هؤلاء الصحبة يا بني لا تنفعك هذه الأغاني فيرد عليهما: {أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأحقاف:17] أتعرف ما عقوبته؟ {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [الأحقاف:18].
اسمع إلى هذا الرجل الذي ملَّ والده، وقد أحسن إليه وبره لكن طال عليه الأمر وشق عليه العمل، وكبر أبوه فتأفف من أبيه، وكم نسمع هذه الأيام -والعياذ بالله- من رجل يُسأل: من هذا؟ فيستحي أن يقول: هذا أبي، فيقول: هذا السائق، وكم سمعنا من فتاة يُقال لها: من هذه؟ فتستحي فتقول: هذه الخادمة.
أو هذه المربية.
أو هذه الغسالة.
أف لهذه الكلمات، وتعس أولئك الذين يستحون أن يقول أحدهم: هذا أبي.
وتستحي أن تقول: هذه أمي.
ولا يدعوه إلى وليمة، ولا يدعوه إلى وجبة، يستحي أن يراه أصحابه، كم وكم من العاقين من أمثال هؤلاء.(45/9)
تعجيل عقوبة العاق وفضل دعاء الوالدين
اسمع إلى هذا الرجل الذي كبر أبوه فتأفف منه، فهل تعرف ماذا فعل؟ أخذ أباه على دابة -على جمل- وذهب به إلى الصحراء، فلما جاء في وسط الصحراء، قال الأب لهذا الولد، قال: يا بني! أين تريد الذهاب بي؟
قال: يا أبي! لقد مللتك، ولقد سئمتك.
قال: وماذا تريد؟
قال: أريد أن أذبحك.
فقال: يا بني! ماذا تقول؟
قال: أريد أن أذبحك لقد مللتك يا أبي!
فقال له: إن كنت ولا بد فاعلاً فاذبحني عند تلك الصخرة.
قال: ولم يا أبي؟ قال: فإني قد قتلت أبي عند هذه الصخرة، فاقتلني عندها وسوف ترى من يقتلك من أبنائك عند هذه الصخرة: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] الجزاء من جنس العمل.
بر والديك، وأباك، وأمك، فسوف يأتي من أبنائك من يبرك، أو عقهما فوالله الذي لا إله غيره، يقول عليه الصلاة والسلام وهو حديث صحيح، يقول: (كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإنه يعجل لصاحبه).(45/10)
نموذج لعاق عجلت له العقوبة
هذا رجل تقول له أمه: يا بني! اذهب بي إلى فلانة أريد أن أزورها، فيقول هذا الرجل: لا أستطيع! فترجته أمه، قالت: يا بني أريد أن أزورها دقائق معدودة، قال: فنعم إذاً، ولكني سوف آتيك بعد ثلاثين دقيقة بالضبط، وأضرب زمور السيارة، قال: فإن لم تخرجي ذهبت وتركتك.
اسمع كيف يعامل أمه، واسمع كيف يهددها، واسمع كيف ينذرها، تباً له وتعس، فذهب هذا الرجل، وأوصل أمه، وبعد ثلاثين دقيقة بالضبط، أتاها فضرب الزمور، مرة أو مرتين فما خرجت، فذهب وولى وتركها، تركها لوحدها، فإذا به في أثناء الطريق يصاب بحادث فيجلس في المستشفى ستة أشهر لا يستطيع أن يتحرك.
هل جزاء الإحسان إلا الإحسان يا عبد الله؟! هل هذا هو الإحسان إلى والديك؟! هل هكذا تبرهما؟!
يقول لك الأب: أريد حاجة، وتقول لك الأم: أريد حاجة من السوق، أو تذهب بي إلى فلانة، فتقول: لا أستطيع، عندي عمل! سبحان الله أين بر الوالدين؟! أنسيتهما وضيعت حقهما؟!(45/11)
نموذج للطاعة في أروع صورها
هذا أحد العلماء المحدثين يجلس في مجلس العلم، وعنده عشرات بل لعله المئات من التلاميذ يحدثهم، ويكتبون خلفه، تأتيه أمه في أثناء الدرس، فتقول له: يا فلان! فيقول: لبيك يا أماه! فتقول له: أطعم الدجاج، فانظر هذا العمل التافه، وانظر إلى هذا العمل الحقير، لكن صدر ممن؟ من أم عظيمة، من أم لها حق عليك كبير، أتعرف ماذا يفعل هذا الرجل؟ لم يقل لأمه: بعد الدرس أو بعد قليل.
لا والله! بل يغلق الكتاب، ثم يقوم من مجلسه، ثم يطعم الدجاج، ثم يرجع إلى درسه، ويكمل حديثه.
فهلا فعلنا هذا يا عباد الله! أم أن الواحد يقدم زوجته، ويقدم أصحابه، ويقدم عمله الدنيوي، ويقدم تجارته، ويقدم لهوه وراحته على أمه: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف:15].
فالمدة ليست يوماً ولا يومين، بل تسعة أشهر، لا تستطيع فيها تنام مثل الناس، ولا تأكل مثل الناس، ثم بعدها عامين -يا عبد الله- تقوم في الليل ست أو سبع مرات لأجلك، تبكي إذا بكيت، وتسهر إذا تعبت، والأب لا يرتاح حتى يعطيك لقمة العيش لتسد بها جوعك، والله! لا يلبس وأنت تلبس، ولا ينام وأنت تنام، ولا يرتاح وأنت ترتاح، ثم بعد هذا نسيت حقهما يا عبد الله! أي فجور بعد هذا الفجور؟!(45/12)
قصة تبين فضل دعوة الوالدة
اسمع إلى هذه القصة الأخيرة: قصة أبان بن عياش يقول: كنت عند أنس في البصرة، يقول: فخرجت من عنده، يقول: فإذا بجنازة يحملها أربعة من المسلمين -الله أكبر! جنازة لا يحملها إلا أربعة- يقول: فتبعتها وقلت: والله لأتبعن هذه الجنازة، جنازة ما يحملها إلا أربعة ولا يتبعها أحد، يقول: فدفناها، وبعد الدفن قلت لهم: سبحان الله! ما شأن هذه الجنازة؟ فقال الرجال، سل هذه المرأة التي استأجرتنا، أربعة كلهم مستأجرين، تبعوا الجنازة وصلوا عليها ودفنوها، يقول: فتبعت المرأة، يقول: ولما جاءت إلى البيت، طرقت عليها الباب، فقلت: يا أمة الله! أخبريني عن شأن هذه الجنازة، فقالت: هذه جنازة ابني، قلت: وما شأنها؟ قالت: لما حانت ساعة الوفاة، قال لي: يا أماه تريدين لي السعاة؟ فقلت: نعم يا بني -وكان رجلاً فاسقاً عاصياً عاقاً- فقال لها: يا أماه! إذا حانت ساعة الوفاة، فلقنيني الشهادة، ثم إذا مت لا تخبري أحداً بجنازتي، فإنهم يعرفون معصيتي، فإنهم إن عرفوا فلن يصلوا عليّ، ولكن ارفعي يديك إلى الله وقولي: اللهم إني قد أمسيت راضية عنه فارض عنه، اللهم إني قد أمسيت راضية عنه فارض عنه، ثم ضحكت المرأة، فقال لها أبان بن عياش: ما يضحكك يا أمة الله؟ قالت: والله! فعلت ما قال، فرفعت يدي، وقلت: اللهم إني قد أمسيت راضية عنه فارض عنه، فإذا بي أسمع منادياً يناديني، ويقول لي: يا أماه! يا أماه! قدمت على رب رحيم كريم غير ساخط عليَّ ولا غضبان بدعوتك لي: (ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن، منها: دعوة الوالد على ولده).
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23].
والله لو تغسل الأذى منهما، ولو تحمله بيدك عنهما، ولقد فعلا هذا -يا عبد الله- وأنت صغير أفلا تفعله وهما في الكبر؟!
يا عبد الله! لو لم تنم الليل وتضيع تجارتك كلها وعملك الدنيوي كله لأجل الإحسان إليهما، لكان قليلاً عليهما.
عبد الله: كيف تنام وقد سهرا عليك.
عبد الله: كيف يهنأ لك بال وقد كانا يتعبان عليك، ألذ ما عندهما وأفرح ما عندهما سعادتك، أما الآن رميتهما، ولم تدر عنهما، حتى إنك تسمع بعض الناس يقول: هل يكفي أن أزوره في الأسبوع مرة؟ سبحان الله! في الأسبوع مرة، هل تأتي لزوجتك في الأسبوع مرة؟! هل تجلس مع أولادك في الأسبوع مرة؟! هل تجلس مع الأصحاب والأحباب في الأسبوع مرة؟! حتى تسألني!! (من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك، قال: ثم من؟ قال: الأقرب فالأقرب) قبل الزوجة قبل الأولاد قبل الأصحاب قبل الأقرباء، أمك لها ثلاثة أرباع الحقوق، ثم الأب له ربع الحق.(45/13)
الدعاء للوالدين المتوفيين
عبد الله: إن قلت لي: إن لي والدين قد توفيا، فاسمع لهذا الأثر، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: [ترفع للميت بعد موته درجته، فيقول: -أي بعد الموت لما يلقى الله، ويرى درجته عالية في الجنة وله منازل رفيعة في الجنة، وهو لم يفعل شيئاً في الدنيا- فيقول: أي ربي! أي شيء هذا؟ -هذه الدرجات والأعمال أي شيء هذا يا رب؟ - فيقول: ولدك استغفر لك] ادع لهما اللهم اغفر لي ولوالدي، ادع لهما في السجود وفي السحر وبين الأذان والإقامة وفي أي وقت يستجاب فيه الدعاء، ادع لهما بالمغفرة: (وولد صالح يدعو له) وعليك بكثرة الصدقة عنهما، فإن الصدقة مقبولة، عن الأحياء والأموات، وإن اعتمرت أو حججت عن نفسك، فإنه يشرع لك -يا عبد الله- ويجوز لك أن تعتمر عنهما وتحج عنهما.
يا عبد الله: إياك إياك أن تنساهما ولو ماتا ولو توفيا! هذا نوح عليه السلام يقول: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً} [نوح:28].
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
وصلَّ اللهم وسلم على نبينا محمد.(45/14)
الأسئلة
.(45/15)
طاعة الوالدين في كل الأحوال
السؤال
أنا لا أستطيع أن أبر والدي لأنهما دائماً يسباني، فما أعمل؟
الجواب
بالنسبة لهذا السؤال أنهما دائماً يسبانه -أخي الكريم- بل حتى لو ضرباك، بل حتى لو عذباك فإن البر يبقى ويبقى، بل أخي الكريم وإن جاهداك على أن تشرك بالله ما ليس لك به علم فلا تطعهما في هذه المعصية، ولكن صاحبهما في الدنيا معروفاً، بل البر بالوالدين يجوز حتى للمشركين، حتى لو كانا مشركين فبرهما وأحسن إليهما يا عبد الله، فكيف إذا كانا مؤمنين، إن سباك فادع لهما بالمغفرة، وإن شتماك فأحسن إليهما، وهذا رجل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (إن لي رحماً أصلهم ويقطعونني، وأحلم عليهم ويجهلون عليَّ، قال: إن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل).
إذاً: -يا عبد الله- استمر على هذا واصبر عليه وادعهما إلى الله جلَّ وعلا، وادع لهما بالمغفرة لعل الله أن يجعل لك من أمرك فرجاً.(45/16)
الدعاء للميت الذي لم يكن يصلي
السؤال
رجل مات ولم يركع لله ركعة، ولم يسجد لله سجدة، فهل يجوز لأبنائه الدعاء له؟
الجواب
إن كان -يا عبد الله- يعلم بهذا الدين وبأن الصلاة عمود الإسلام وبأن تاركها يكفر فإن هذا لا يستحق الدعاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة) وقال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) وهذه أم النبي صلى الله عليه وسلم، طلب النبي صلى الله عليه وسلم من ربه أن يزور قبرها، فأذن الله له، فاستأذنه أن يدعو لها فلم يأذن الله له، فما أذن الله لنبيه أن يدعو لها برحمة ولا بمغفرة، وكان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويجلس عند قبرها ويتذكر شأن أمه وحال الآخرة وكان يبكي عليه الصلاة والسلام.
أما الدعاء فإنه لهذا ولغيره ممن لم يسجد لله سجدة ولم يركع لله ركعة فإنه لا يجوز، والله أعلم.(45/17)
صور مشرقة للعفيفات
تتضمن هذه الصور المشرقة قصصاً من حياة نساء تميزن بالصلاح والعفة والتقوى والالتزام بالإسلام الذي كرم المرأة.
وفي ثنايا هذه الصور المشرقة ترد بعض الصور المظلمة لنساء شقيات، ليتضح الضدان، وبضدها تتميز الأشياء.
كما سلطت هذه المادة أضواءها على صور من تضحيات المرأة وخدمتها للدين، وعلى مواقف حاسمة في حياة بعض النساء، نقلتهن من الظلمات إلى النور.(46/1)
نساء في الجنة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة السلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
حديثنا في هذه الجلسة إلى النساء خاصة، وهي صورٌ مشرقة من حياة الفاضلات الأوليات، بل وسوف نذكر في طيات هذه الصور بعضاً من الصور المظلمة؛ ليتميز الضدان، وليتبين الفرق بين الصور المظلمة وبين الصور المشرقة.
المرأة لها حقوق في الشرع والدين، وفي العقل والفطرة، إن الإسلام لما جاء أكمل المرأة وأعظم شأنها، وجعل لها حقوقاً وعليها واجبات، بل من النساء من بشرها النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة وهي تمشي على الأرض.(46/2)
المرأة السوداء التي صبرت على الصرع
هذه امرأة سوداء كانت تصرع، فجاءت رسول الله، وانظرن إلى النبي صلى الله عليه وسلم كيف يحرص على امرأة سوداء تأتي إليه فتقول له: (يا رسول الله! إني أصرع فادع الله لي، قال: إن شئت صبرتِ ولك الجنة، وإن شئتِ دعوت الله لك، قالت: -وانظرن إلى صبرها وحبها للقاء الله وتعلقها بالجنة- بل أصبر؛ لكن ادع الله ألا أتكشف) نعم، إنها الجنة لكنه الحياء، إنها الجنة لكنها العفة.(46/3)
الرميصاء في الجنة
امرأة من أهل الجنة وهي تمشي على الأرض.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بـ الرميصاء) زوج أبي طلحة رآها النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، تعرفين لمَ دخلت هذه المرأة الجنة؟
انظري إلى بعض مواقفها.
يقول أنس: خطب أبو طلحة أم سليم فقالت: إنه لا ينبغي أن أتزوج مشركاً، أما تعلم يا أبا طلحة! -انظري للداعية، انظري للمسلمة المتمسكة بدينها التي لا تضرها زينة الحياة الدنيا- قالت لهذا الرجل الذي أراد الزواج منها: أما تعلم يا أبا طلحة أن آلهتكم ينفثها عبد آل فلان، وأنكم لو أشعلتم فيها ناراً لاحترقت، قال: فانصرف وفي قلبه ذلك، ثم أتاها وقال: يا أم سليم إن الذي عرضت عليَّ قد قبلت، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، يقولون: فما كان لها مهرٌ إلا الإسلام: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف:68 - 70] بشرن بالجنة وهن على الأرض يمشين {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71].(46/4)
نساء عابدات
تشتكي المرأة فتقول: همٌ وغم، أحس بوحشة في الصدر، لا أدري، فعلت كل شيء، الأغاني سمعتها، الأفلام تابعتها، كل موضة لبستها، خرجت إلى المطاعم، سافرت إلى كل مكان، فعلت كل شيء، لكن الهم لا زال يلاحقني ولا زال يراودني {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] إلى هؤلاء نوجه حديثنا.(46/5)
عبادة أم الهذيل
يقول إياس بن معاوية عن أم الهذيل؛ وهي فقيهة أنصارية حفصة بنت سيرين، يقول: قرأت القرآن ولها من العمر ثنتا عشرة سنة، اشترت لها جارية، فسألت الجارية: كيف رأيت مولاتك؟ -كيف ترينها في البيت ماذا تصنع؟ - فذكرت كلاماً بالفارسية -كانت فارسية- ومعنى كلامها: أنها امرأة صالحة، وأظنها أذنبت ذنباً عظيماً؛ لأنها تبكي الليل كله وتصلي.
بكى الباكون للرحمن ليلاً وباتوا دمعهم لا يسأمونا
لقاء الأرض من شوقٍ إليهم تحن متى عليها يسجدونا
ماذا نقول لامرأة تبكي الليل؛ لكن لمَ؟ على عشيقٍ لها، وأخرى تسهر الليل، هل على القرآن؟ لا والله، على مسلسلٍ أو فيلم في الثلث الأخير تشاهده، وأخرى تنتظر رنة الهاتف لترفعه وقلبها يرتجف، هل شابٌ يكلمها، أو آخر يتعرف عليها {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:56 - 57].(46/6)
عبادة أم الدرداء الصغرى
أم الدرداء الصغرى؛ هذه امرأة صالحة، كل ليلة تحضر إليها نساء في الليل، نساء متعبدات، تعرفين لمَ؟ بعض نساء هذه الليالي يسهرن لكن على أي شيء؟ ويخرجن في الليل ولكن لمَ؟
أما هذه المرأة فكانت كل ليلة تحضر إليها نساءٌ متعبدات يقمن الليل كله، حتى أن أقدامهن قد انتسخت من طول القيام: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].
الإسلام يريد المرأة هكذا عفيفة طاهرة، تخاف من الله، تصلي الصلاة في وقتها، تقرأ كتاب ربها، تحفظ نفسها، أما أهل الغرب، أما دعاة الحرية، فإنهم يريدون المرأة سلعة تباع وتشترى، هكذا يريدون المرأة، هكذا يتمنون أن تكون.(46/7)
عبادة زينب زوج الرسول صلى الله عليه وسلم
انظري يا أختي الفاضلة! إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (يدخل المسجد يوماً فإذا حبلٌ مشدودٌ بين ساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبلٌ لـ زينب رضي الله عنها فإذا فترت -أي من قيام الليل- تعلقت بالحبل لتكمل الصلاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد، فإذا فتر فليرقد) {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35] أرأيت الفرق بين الصورتين؟ {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات:154].(46/8)
عبادة عثيرة
عثيرة العابدة؛ هذه تعاتب في قلة نومها، الناس يقولون لها: لمَ لا تنامين كثيراً؟ لم نومك قليل؟ فقالت: ربما اشتهيت أن أنام -بعض المرات أتمنى النوم- فلا أقدر عليه، وكيف ينام من لا ينام عنه حافظاه ليلاً ولا نهاراً؟! {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16].(46/9)
عبادة عصمة الدين
امرأة تسمى عصمة الدين وهي زوجة الملك الصالح نور الدين زنكي، رجلٌ صالح وزوجته صالحة، في ليلة من الليالي قامت غاضبة فزعة من نومها، فسألها زوجها: ما الذي أغضبك؟ ما الذي حدث؟ ما الذي جرى؟ فقالت وهي تبكي: فاتني وردي البارحة فلم أصل من الليل شيئاً.
عباد ليلٍ إذا جن الظلام بهم كم عابدٍ دمعه في الخد أجراهُ
أما نساء اليوم إلا من رحم ربي فنعم.
تفزع بالليل تبكي، تعرفين لمَ؟ تتذكر عشيقها وحبيبها، تفزع من الليل تبكي، تعرفين لمَ؟ لأن فراشها تنام فيها الشياطين قبل أن تنام هي، غرفتها امتلأت بالصور، صور من؟ صور الممثلين والمطربين، المغنين والمغنيات، امتلأت بالأغاني والمعازف فإذا بالشياطين قد عشعشت في غرفتها، تقوم من الليل فزعة تقول: ما أدري ما الذي يخنقني؟ ما أدري ما الذي يفزعني؟ كوابيس من أول الليل إلى آخره، ضيعت الصلاة، هجرت القرآن، أكبت على الأغاني والأفلام والموسيقى والمعازف، شتان بين أولئك وهؤلاء.(46/10)
نماذج من تضحيات النساء
صورٌ مشرقة:(46/11)
أول شهيدة في الإسلام
أم عمار بن ياسر: وأنا أقول هذه القصة يا أختي الفاضلة! حتى تصبري على عفتك، وعلى الحجاب والطهارة، وعلى الدين والحياء، انظري إلى السابقات صبرن على ما هو أكبر وأكثر، الواحدة اليوم لا تصبر عن أغنية نزلت، أو فيلمٍ عرض، تقول: لا أستطيع أن أصبر، انظري إلى سمية أم عمار؛ امرأة عجوزٌ كبيرة، كان بنو مخزوم إذا اشتدت الظهيرة وقت الحر الشديد في الصيف الشديد، والتهبت الرمضاء خرجوا بها، أخرجوها وابنها وزوجها إلى الصحراء، وتصوري الصحراء في وقت الحر الشديد! وألبسوهم دروع الحديد، وأهالوا عليهم الرمال المتقدة، وأخذوا يرضخونهم بالحجارة، وهي تعتصم بالصبر، فذهبوا بروحها، وأفظعوا قتلتها، فقد أنفذ النذل الجبان أبو جهل حربته فيها، فكانت أول شهيدة في الإسلام ضحت بنفسها، ضحت بحياتها لأجل دينها {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11].
ثم انقلوا تلك الصورة إلى مجتمعنا، للأسف! فتاة تتأثر بكل ما هو جديد من الغرب، قصة باسم فلانة، وقصة باسم فلانة، وهذه فرنسية، وتلك إيطالية، وهذه قصة الأميرة الراحلة كما يسمونها، بل تلك قصة لكلبها، وللأسف مسلمات يتأثرن بالغرب حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لدخلنه.
نعم.
تتأثر بكل ما هو جديد، وبكل ما هو منحطٌ ورذيل، ولكن: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:30] ثلاث ساعات تجلس في صالون تنظر إلى الكافرات تريد أن تتشبه بهن (ومن تشبه بقوم فهو منهم).
بل أما سمعت بقصة بالعربي تسمى قصة الولد، وحتى اللغة العربية تبرءوا منها، يسمونها قصة الـ"البوي boy" امرأة تقص هذه القصة، تريد أن تتشبه بالرجال، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، ولعن الله المتشبهات من النساء بالرجال).(46/12)
تضحية أم شريك
أم شريك غزية بنت جابر بن حكيم وقع في قلبها الإسلام فأسلمت بـ مكة، وكان ذلك في بداية السابقين في الإسلام، هل كتمت إيمانها وجلست؟! لا والله، كانت تدعو النساء سراً بـ مكة، وتعرفين ما كان يحصل في مكة، يعذبن، يطردن، بل القتل هو المصير، وكانت تدعو إلى الله سراً بـ مكة حتى انكشف سرها، فأخذوها وكادوا يقتلونها لولا قومها، فحملوها على بعير ليس عليه شيء، يقولون: فحملوها ثلاثة أيام على بعير لأجل أن يذهبوا بها إلى قومها، وتركوها ثلاثة أيام بلا طعام ولا شراب.
تخيلي! ثلاث أيام في سفر لا تأكل ولا تشرب، ما الذي يحصل لها؟ لمَ كل هذا؟ لأجل دينها، لأجل إسلامها، فنزلوا منزلاً في الطريق بعد ثلاثة أيام، وأوقفوها تحت الشمس واستظلوا، كانوا دائماً يوقفونها تحت شمس وهم يجلسون تحت شجرة يستظلون بها، فبينما هم كذلك وهي على هذه الحال، تقول: إذ بأثر شيءٍ بارد وقع عليَّ منه، تقول: فإذا هو دلو ماء، فشربت منه قليلاً، هي الآن ربما تموت، تقول: لا أدري من أين يأتي الماء، دلو فيه ماء وأنا أشرب وأشرب تقول: ثم نزع مني، ثم عاد فتناولته فشربت منه قليلاً، ثم نزع مني، وهكذا يعود وينزع تقول: حتى رويت، ثم صببت سائره على جسدي وثيابي تقول: فلما جاءوا ورأوها وعلموا بخبرها، تعرفين ماذا صنعوا؟ كلهم كبروا وقالوا: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
{وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} [الرعد:22] صبروا، نعم.
أنا أعلم أن هناك فتناً وإغراءات في الفضائيات، وفي وسائل الإعلام، وفي المجلات، وفي الملاحق الهابطة.
نعم هناك دعاة لتحرير المرأة، يسمونه تحرير المرأة، وهو استعباد للمرأة، تحرير المرأة: بعبادة الله جل وعلا، بالرضوخ لأمره جل وعلا، لا يُعبد إلا الله، ولا يُعمل بأمره إلا الله جل وعلا، أما دعاة التحرير فهم دعاة لاستعباد المرأة، فاصبري رغم الإغراءات {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} [الرعد:22 - 23] الآباء، والأزواج، والأولاد، يعني كل الأهل والأقرباء يدخلون معاً إلى أبواب الجنان، العفيفات، الطاهرات، القانتات، الصالحات، أليس هذا هو الجزاء الأعظم؟ والفضل الأكبر؟ {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24] صبرت على عفتها، كرامتها، حجابها، طهارتها {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24].(46/13)
صورة مشرقة في الحياء والعفة
الصديقة بنت الصديق إنها عائشة رضي الله عنها تقول عن نفسها -واسمعي وتعجبي- تقول: كنت أدخل البيت الذي دفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم -لما مات دفن في غرفتها في بيتها- وأبي رضي الله عنه - أبو بكر لما مات دفن في غرفتها في بيتها- تقول: أدخل البيت واضعة ثوبي وأقول: إنما هو زوجي وأبي، تقول: فلما دفن عمر رضي الله عنه، والله ما دخلته إلا مشدودة عليَّ ثيابي حياءً من عمر رضي الله عنه، وهو ميتٌ مدفونٌ تحت التراب.
هذا حياءٌ لا يكون إلا لأمثال عائشة، هذا حياءٌ لا ينبغي أن يكون إلا لأمثال الصديقة بنت الصديق.
فهذه هند بنت عتبة رضي الله عنها تبايع النبي صلى الله عليه وسلم بيعة النساء، فأخذ عليهن في بنود البيعة: ألا يشركن بالله شيئاً، ولا يسرقن، ولا يزنين، لما سمعت كلمة يزنين، تعلمين ماذا صنعت؟ وضعت يدها على رأسها حياءً وهي تقول: وهل تزني الحرة؟ وهل تزني الحرة؟ فتقول لها عائشة: على هذا بايعنا فبايعي، وهي تقول: وهل تزني الحرة، وهل تزني الحرة؟! فبايعت النبي صلى الله عليه وسلم وهي تتعجب هل تفعل هذا حرة من الحرائر؟
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] يقول مجاهد: هو الرجل يخلو بمعصية الله، حيث لا أحد فيذهب إلى المعصية، أغلقت الباب، فجاءت إلى ذلك المكان المظلم لتلتقي بصاحبها، لا أحد يراها، يقول: فيذكر مقام الله، يتذكر يوماً يقف فيه بين يدي الله، فيُذكِّرها: فلانة أتذكرين ذلك اليوم؟ تذكرين ذلك الهاتف؟ تذكرين ذلك الموقع في الإنترنت؟ تذكرين ذلك الرجل الذي كنت تصاحبينه وتعاشرينه؟ تذكرين ذلك المجلس أو تلك السهرة قال: فيذكر مقام الله، فيدعها خوفاً من الله: {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر:16].
عائشة تستحي من عمر وهو مدفونٌ تحت التراب! ما بال نسائنا لا يستحين من رجال في الحياة، تذهب إلى بعض المحلات فتختلي به في ذلك المحل، فتكلمه ويكلمها، وتضاحكه ويضاحكها، وبعد هذا:
يوم القيامة لو علمت بهوله لفررت من أهلٍ ومن أوطانِ
يوم تشققت السماء لهوله وتشيب منه مفارق الولدان
يوم عبوسٌ قمطرير شره في الخلق منتشر عظيم الشانِ
فتاة في سن الزواج تخرج كاسية عارية، لبست وكأنها ما لبست شيئاً، ضاقت ملابسها على جسدها حتى وصف جسدها كله: (صنفان من أهل النار لم أرهما وذكر منهما: نساء كاسيات عاريات) كشفت شيئاً من ساقها، كشفت شعرها، إنا لله وإنا إليه راجعون، وكأنها ما سمعت ربها يقول: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31].(46/14)
صور مشرقة في الصلاح والتوبة
نزل السري بن دينار في دار بـ مصر، كانت فيه امرأة جميلة، تفتن الناس بجمالها، بعض النساء وبعض الفتيات للأسف يتعمدن فتنة الناس، ولا تخف من رب الناس، وكان هذا الرجل صالحاً عابداً، فعلمت المرأة به فقالت: لأفتننه، لأفتنن هذا الشاب، فدخلت من الباب فكشفت وأظهرت نفسها، والسري أمامها، فقال لها: مالك يا فلانة؟ فقالت له: هل لك في فراشٍ طيب وعيش رخي؟ فقال لها:
وكم ذي معاصٍ نال منهن لذة فلما تخلاها وذاق الدواهيا
تزول ملذات المعاصي وتنقضي وتبقى تباعات المعاصي كما هيا
فواسوءتا والله راءٍ وسامعٌ لعبدٍ بعين الله يغشى المعاصيا
فصاحت المرأة وبكت، وأعلنت توبتها لله عز وجل.
تذكري يا أختي الفاضلة! تلك الليالي، تلك الأفلام والمسلسلات، هل حقاً ما نسمع أن بعض الفتيات تولع ببعض أشرطة المغنين؟! لا ينزل شريطٌ إلا وتبعته، بل تحفظ بعض الأشرطة، هل هذا صحيح؟ إن من العفيفات الطاهرات من حفظن كتاب الله، ومن الصور المظلمة من حفظت الأغاني والطرب.
فكري يا أختي الفاضلة! هل صحيح أن بعض النساء تجلس على الإنترنت بالساعات؛ لتكلم فلاناً وليكلمها فلان، لتدخل إلى بعض المواقع التي تعلم في قرارة نفسها أن الله عز وجل قد حرمها؟
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:8].(46/15)
المرأة التي تابت على يد عبيد بن عمير
انظري إلى نساء كنَّ في الرذيلة، كن منغمساتٍ في الشهوات، ولكن انظري كيف تاب الله عليهن:
هذا رجل متزوجٌ بامرأة قالت له زوجته يوماً: ألا ترى أني جميلة؟ فقال لها: نعم.
قالت: لا يرى أحدٌ هذا الوجه إلا افتتن، فقال زوجها: إلا واحد، قالت له: ومن هو؟ قال: عبيد بن عمير، فقالت له: فأذن لي فيه فلأفتننه، قال: قد أذنت لكِ -هل رأيت ديوثاً مثل هذا؟ يأذن لزوجته أن تفتن رجلاً- قال: فذهبت فأتته كالمستفتية، وكان الرجل صالحاً عابداً، فجاءت كأنها تسأله عن مسألة شرعية، فأخذ يجيبها فإذا بها تسفر عن وجهها كأنه فلقة قمر، فقال لها: يا أمة الله! قالت: إني قد فتنت بك، فانظر في أمري، فقال لها: يا أمة الله! إني سائلك عن شيءٍ، فإن أنت صدقتيني نظرت في أمرك، قالت: لا تسألني عن شيءٍ إلا صدقتك، قال: أخبريني يا أمة الله! لو أن ملك الموت أتاك ليقبض روحك أكان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا، اللهم لا.
قال: صدقتِ، فلو أدخلت في قبرك وأجلست للمساءلة أكان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا، اللهم لا.
قال: صدقتِ، فلو أن الناس أعطوا كتبهم ولا تدرين أتأخذين كتابك بيمينك أم بالشمال؛ أكان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا، اللهم لا.
قال: صدقتِ، ولو جيء بالموازين وجيء بك لا تدرين تخفين أم تثقلين؛ أكان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا، اللهم لا.
قال: صدقتِ، فلو وقفت بين يدي الله للمساءلة أكان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا.
قال: صدقتِ، فاتقي الله يا أمة الله! فقد أنعم الله عليك وأحسن إليك، فبكت المرأة ورجعت إلى زوجها عابدة زاهدة متنسكة، يقول زوجها: مالي ولـ عبيد بن عمير، أفسد عليَّ امرأتي {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56].
أختي الفاضلة! وأنا أسألك نفس السؤال، أيسرك وملك الموت عند رأسك أن تفعلي هذا الذي تفعلينه اليوم؛ تخرجين بهذه الملابس، تنظرين إلى من شئتِ ويكلمك من شاء، وتختلين بمن شئت ويختلي بك من شاء؟
أختي الفاضلة! فكري في تلك المواقف التي سوف نقفها غداً لا تقولي: الموت بعيد، ما أدراك لعل الموت أقرب مما تتصورين؟ لعلك لا تنهي سماع حديثي ألم تسمعي بفلانة؟ عمرها ستة عشر عاماً، وأربعة عشر عاماً، وعشرين عاماً، قد قضت نحبها؟ أما سمعت بفلانة عقدت قرانها ولما يدخل عليها زوجها لكن ملك الموت أقرب، كانت تتجهز لعرسها، واشترت أغلى ملابسها، ولكن ملك الموت بالمرصاد!
فكري يا أختي الفاضلة! فكري بهذا الذي أقول.(46/16)
المرأة التي حاولت فتنة الربيع بن خثيم
الربيع بن خثيم، يروى أن قوماً أمروا امرأة ذات جمال أن تتعرض له.
رجلٌ صالح يخاف ربه، فقالوا لها: نعطيك ألف درهم إن فتنتيه، فلبست أحسن الملابس، وتطيبت، وتعطرت، فتعرضت له في طريقه، فقال لها الربيع: يا فلانة -وأنا أحدثك بهذه الكلمات، اسمعي وتدبري، أرجو رجاءً حاراً أن تنتبهي إلى هذه الكلمات- كيف بك لو قد نزلت الحمى بجسمك فغيرت ما أرى من لونك وبهجتك؟ أم كيف بك لو قد نزل بك ملك الموت فقطع منك حبل الوريد؟ أم كيف بك لو سألك منكرٌ ونكير؟ فصاحت المرأة، وبكت، وسقطت وقد أغشي عليها، فحملت فلما أفاقت قالت: رب إني تبت إليك، رب إني تبت إليك، رب إني تبت إليك.
يا نفس توبي فإن الموت قد حانا واعصي الهوى فالهوى ما زال فتانا
أما ترين المنايا كيف تلقطنا لقطاً فتلحق أخرانا بأولانا
في كل يومٍ لنا ميتٌ نشيعه نرى بمصرعه آثار موتانا
هذه امرأة صالحة عابدة تحيي الليل بالصلاة تقوم من الليل إلى السحر، كل ليلة تقوم الليل، فإذا كان السحر آخر الليل نادت -انظري ماذا تقول آخر الليل؛ بعد أن صلت الليل كله واقترب الفجر؛ تنادي بصوتٍ محزون وهي العابدة الصالحة- تقول: رب إليك قطع العابدون دجى الليل بتكبير الدلج إلى ظلم الأسحار يستبقون إلى رحمتك، وفضل مغفرتك، فبك إلهي لا بغيرك أسألك أن تجعلني في أول زمرة السابقين إليك، وأن ترفعني إليك في درجة المقربين، وأن تلحقني بعبادك الصالحين، فأنت أكرم الكرماء، وأرحم الرحماء، وأعظم العظماء، ثم تخر ساجدة فلا تزال تبكي وتدعو في سجودها حتى يطلع الفجر، تعرفين كم مرة تفعل هذا الفعل؟ ثلاثين سنة وهي على هذا الحال، نعم الناس درجات، والناس أقسام: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32].
هل سمعت بفتاة تحفظ أسماء اللاعبين؟! بل تتابعهم في المباريات، لا إله إلا الله! أين الحياء؟ أين العفة؟ أين الكرامة؟ أين الطهر؟ هل وصل بنا الحال إلى هذه الدرجة؟! هل سمعت بفتيات يحفظن جميع أنواع الماركات؟! كل ساعة تنزل، كل موضة تنزل، تجدينها في الأسواق كل ليلة تجوبها.
أختي الفاضلة! لو سألتيها كم تحفظين من كتاب الله؟ متى ختمت القرآن آخر مرة؟ هل صليت الفجر اليوم هل أمرت بالمعروف أو نهيت عن منكر؟ هل ذكرت الله عز وجل صباح مساء؟ لقالت لك: هاه هاه لا أدري!
من الذي فعل بنا كل هذا؟ إنهم دعاة تحرير المرأة، يريدونها كل يومٍ في يد رجل، كل يومٍ على عتبة باب.(46/17)
توبة فتاة
اسمعي إلى هذا الشاب العابد، كان حسن السمت، كثير العبادة، شاباً عابداً، نظرت إليه فتاة فشغفت به، وتعلقت به، فقالت له يوماً من الأيام وقد تعرضت له: يا فتى! اسمع مني كلمات أكلمك بها، وهو لا يكلمها، كل يومٍ تعترض طريقه، تقول: يا شاب أريد أن أكلمك كلمات وهو لا يكلمها، حتى وقف يوماً من الأيام فقالت له: يا فلان! إن جوارحي كلها مشغولة بك، فالله ألله في أمري وأمرك، ذهب الشاب إلى منزله أراد أن يصلي فلم يعرف كيف يصلي، تعرفين ماذا صنع؟ أخذ قرطاساً وكتب فيها كلاماً، فلما رآها في الطريق، ألقى إليها الكتاب، ففتحت الشابة الكتاب، ماذا في هذا الكتاب؟ اسمعي/ وأرجو منك يا أختي الفاضلة أن تتدبري هذه الكلمات! قال لها في الكتاب:
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلمي أيتها المرأة أن الله عز وجل إذا عصاه العبد حلم أول مرة، فإذا عاد إلى المعصية مرة أخرى ستر، فإذا لبس لها ملابسها غضب الله تعالى لنفسه غضبة تضيق منها السماوات والأرض والجبال والشجر والدواب، فمن ذا يطيق غضبه!
يا فلانة! إن كان ما ذكرت باطلاً فإني أذكرك يوماً تكون السماء فيه كالمهل، وتصير الجبال كالعهن، وتجثو الأمم لصولة الجبار العظيم، وإني والله قد ضعفت عن إصلاح نفسي فكيف بإصلاح غيري.
يا فلانة! وإن كان ما ذكرت حقاً، فإني أدلك على طبيبٍ يداوي الكلوم والأوجاع المريضة، ذلك هو الله رب العالمين، فاقصديه بصدق المسألة فإني مشغول عنك بقول الله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:18 - 19] فأين المهرب من هذه الآية؟ انتهت الرسالة.
وتعرضت له بعد أيام فتركها فقالت له: يا فلان لا ترجع! فلا كان الملتقى بعد هذا اليوم أبداً إلا بين يدي الله، ثم بكت وقالت له: عظني بموعظة أحملها عنك، أوصني بوصية أعمل بها، قال: أوصيك بحفظ نفسك من نفسك، وأذكرك قول الله: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام:60] فبكت بكاءً شديداً، ثم لزمت بيتها، وأخذت بالعبادة فلا تزال تتعبد ربها حتى ماتت.
لمَ لا تكونين أنتِ؟ لم لا يا أختي الفاضلة؟! إلى متى يسترنا الله؟ إلى متى تكلمين وتنظرين وتخرجين بهذه الملابس والله عز وجل يحلم علينا؟ ضحكوا عليكِ وقالوا لك: فتى الأحلام يحمل في فمه سيجارة، فتى الأحلام الذي يعيش في جو الموسيقى الهادئة، فتى الأحلام الذي يدعك تفعلين ما تشائين، فتى الأحلام يركب سيارة فارهة.
ضحكوا عليك وهزئوا بك كأنك لا تعلمين أن كثيراً من تلك الزيجات قد باءت بالفشل والطلاق، وعاشت بعضهن عيشة ألمٍ وحسرة وندم؛ تقول إحداهن:
ظننته فارس أحلامي الذي كنت أحلم به طوال حياتي، فلما تزوجته فإذا هو الشقاء بعينه، وهو العذاب بأسره، يقول لي في يوم من الأيام: لم تتحجبين أمام أصحابي وأصدقائي؟ قلت له: اتقِ الله، يقول: لا، أما أمام أصحابي فلا أرضى بالحجاب، البسي الملابس الضيقة والشفافة، ماذا تريدين أن يقول عني الناس؟ ماذا تظنينهم يقولون عني؟ اكشفي الحجاب، وانزعي الحجاب، أتريدين هذا الفتى أم تريدين غيره؟(46/18)
صور مشرقة أخرى في العفاف
صور مشرقة من العفيفات:
يقول خارجة بن زيد: هويت امرأة من الحي، فكنت أتبعها إذا خرجت من المسجد، يقول: فعرفت ذلك مني، عرفت هذه المرأة أن فلاناً يلحقها، فقالت لي ذات ليلة: ألك حاجة؟ قلت: نعم.
قالت: ما هي؟ قلت: مودتك -انظري إلى هذه الكلمات التي تخدع بها بعض النساء، وبعضها تخدع باتصال، تخدع برسالة، تخدع بكلمة؛ مسكينة خدعت وطالما خدعت النساء- ماذا ردت المرأة على هذا الرجل؟ قال: أريد مودتك، فقالت له: دع ذلك ليوم التغابن، قال خارجة: فبكيت، والله أبكتني فما عدت إلى ذلك أبداً:
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها من الحرام ويبقى الوزر والعارُ
تبقى عواقب سوءٍ في مغبتها لا خير في لذةٍ من بعدها النارُ
نعم، إنها لذة دقائق ولكن يبقى العار، وتبقى الحسرات، ويبقى الألم، ويبقى عذاب القبر وعذاب الحشر، وتبقى النار:
تبقى عواقب سوءٍ في مغبتها لا خير في لذةٍ من بعدها النارُ
يقول أبو محمد الشيباني: كان بـ البصرة رجل له أكار -يعني عامل حراث- وهذا الحراث كانت له امرأة جميلة، فوقعت امرأة الحراث في نفس الرجل، نظر إليها فأعجب بها، فركب إلى القصر وقال للحراث: الْقط لنا من الرطب، وافعل كذا، واذهب به إلى آل فلان، وإلى بيت فلان، حتى يخلو له الجو، يقول: فلما مضى الزوج، جاء إليها في البيت فقال للزوجة: أغلقي باب القصر، فأغلقته، فقال لها: أغلقي كل باب، ففعلت، فقال لها: هل أغلقتِ جميع الأبواب، قالت: نعم إلا باباً واحد لم أغلقه قال: لِمَ لم تغليقه؟ قالت: لا أستطيع، قال لها: أي بابٍ؟ فقالت له: الباب الذي بيننا وبين الله عز وجل، فبكى ثم قام يتصبب عرقاً وانصرف ولم يواقع الخطيئة.
{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] ثم قال الله: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
وبعض النساء تجد الواحدة منهن لا مانع عندها أن تجلس مع أي رجل، وتغلق الباب فتضاحكه ويضاحكها، للأسف ليس عندها مانع أن تسافر لوحدها بغير محرم، تقول: أنا حرة!
حرة مم يا أختي الفاضلة؟! تقول: لا أحد يتحكم بي! حتى الله لا يتحكم بك! حتى الله جل وعلا لا تريدين أن يتحكم بك!
يا أختي الفاضلة! فكري فإن الله عز وجل هو أحكم الحاكمين، والله جل وعلا لا تخفى عليه خافية.(46/19)
عفاف مريم
سمعت بمريم ابنة عمران: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم:12] جاءها الملك فبشرها بالولد، تعرفين ماذا قالت؟ {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} [مريم:20] حتى جاءها المخاض وهي الشريفة العفيفة الطاهرة، تعرفين ماذا تمنت؟ {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:23] تتمنى الموت حتى لا تتهم بعفتها وطهارتها.(46/20)
رفقة العمل الصالح
أختي الفاضلة! هذه الكلمات أرجو أن يرن صداها في عقلك وفي قلبك، فكري فيها مراراً وتكراراً/: الدنيا زائلة، والموت قريب، وسوف نخرج من هذه الدنيا عما قريب، انظري إلى من سبقك، إلى من غادرت هذه الحياة، إلى من فارقت الدنيا، ماذا أدخلت معها في قبرها، من سوف ينجيها عند الله؟ هل صاحبتها صاحبات السوء؛ أو عشيقها وحبيبها، أو غريمها؟ من الذي سوف ينجيها إلا عملها الصالح {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
أتعصي الله وهو يراك جهراً وتنسى في غدٍ حقاً لقاه
وتخلو بالمعاصي وهو دانٍ إليك ولست تخشى من سطاه
وتنكر فعلها وله شهودٌ على الإنسان تكتب ما حواه
فويل العبد من صحفٍ وفيها مساويه إذا وافى مساه
ويا حزن المسيء لشؤم ذمٍ وبعد الحزن يكفيه جواه
ويندم حسرة من بعد فوتٍ ويبكي حيث لا ينجي بكاه
يعض يديه من أسفٍ وحزنٍ ويندم حسرة مما دهاه
فبادر بالمتاب وأنت حي لعلك أن تنال به رضاه
اللهم يا عظيم العفو، يا واسع المغفرة، يا قريب الرحمة، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أذقنا عفوك وغفرانك، واسلك بنا سبيل مرضاتك، وعاملنا بلطفك وإحسانك، واقطع عنا ما يبعد عن طاعتك، اللهم وثبت محبتك في قلوبنا، وقوها ويسر لنا ما يسرته لأوليائك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(46/21)
فتور داعية
أهل الحق وحملة دعوة الأنبياء بشر يخطئون ويصيبون، ويصابون بالأمراض والأعراض في القلوب والأجسام.
وهنا عرض لآفة تصيب الدعاة، وهي فتورهم عن دعوتهم، وعرض لصفات الداعية المصاب بها، ثم بحث عن أسباب نشوء هذا الفتور.
والجزء الأخير من هذه المادة يتضمن بعض النصائح التي تعد علاجاً ووقاية من هذا المرض.(47/1)
بداية الفتور ونماذج من أهل الهمم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة السلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه.
وبعد:
أيها الإخوة: الموضوع كما سمعتم هو: فتور داعية، قصة رجل كان يوماً من الأيام يدعو في الناس، ويتكلم ويخطب، وكان يذكر في المجالس، ما كان يوماً من الأيام يدعو أهله وزوجته وأمه وأبناءه، بل كان في بداية التزامه لا يمر في الشارع أو في السوق ويرى منكراً إلا وتكلم وينصح ويذكر.
كان لا يرضى أن يجلس مجلساً وفيه منكر، بل يتمعر وجهه إلا إذا تكلم.
كان يوماً من الأيام يوزع الأشرطة على الناس التي فيها الخير والذكر، ويوزع الأوراق، وينصح، ويطرق الأبواب، ويدعو الناس إلى الصلاة، لسان حاله كان يقول: {يا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر:41].
قصة هذا الرجل الذي بدأ يفتر ويضعف، بدأ لا يشعر بالمسئولية، بدأ لا يهتم، تذكره الساعة والساعتين، وكأن هموم الأمة وهموم الدعوة لا تعنيه، بل كأنك لا تكلم إنساناً يشعر أو فيه قلب، يقول الله عز وجل: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72].
إن سألته عن هدفه في هذه الحياة تجده لا يدري لماذا يعيش ولا يعرف.
يجلس المجالس بالساعات الطوال، لا هم له إلا أن يشرب الشاي والقهوة، ويأكل الطعام، ويتحدث عن فلان وفلان، لا يبالي بأحوال الأمة، ولا بهموم الدعوة.(47/2)
عباد بن بشر نموذج من أهل الهمم
بعث النبي صلى الله عليه وسلم عباد بن بشر وعمار بن ياسر، حارسين للمسلمين، فجاء الليل فقال عباد لـ عمار: تنام أول الليل أو آخره؟ قال عمار: بل أنام أول الليل، فنام عمار بن ياسر، وقام عباد بن بشر يحرس ثغراً من ثغور المسلمين، فقام يصلي، لم يقرأ الجريدة، أو يتحدث ويتسامر مع نفسه، أو ينظم الأشعار وغيرها، بل لا أحلى ولا أجمل عنده من أن يقوم الليل، فقام يصلي، فنظر إليه أحد المشركين في الليل فرماه بسهم فوقع فيه، فنزع السهم وأكمل صلاته، والدم ينزف منه، ثم رماه الثانية، فوقع فيه ونزعه وأكمل صلاته، ثم رماه الثالثة فانتبه عمار فقال: لِمَ لم توقظني من أول رمية؟! فقال له عباد بن بشر: كنت في سورة أقرأها فلم أحب أن أقطعها حتى أفرغ منها، وايم الله لولا خوفي أن أضيع ثغراً أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لما قطعت السورة حتى تنقطع روحي.
انظر كيف يشعرون بالمسئولية، بعض الناس إذا حدثته بهم الدعوة، قال: وما شأني؟ تخبره بأمور المسلمين، فيقول: ماذا أفعل؟ تقول له: تضيع أوقاتك الثمينة، يا من كنت تحفظ بعض آيات في القرآن، يا من كنت تقرأ السنة، يا من كنت تحضر الدروس، ما فعلك اليوم في أمة الإسلام؟ ما دورك؟ ما نصيبك في نصر المسلمين؟ هل أنت من الذين يتفرجون، وينتظرون الساعة تلو الأخرى، لا هم له إلا أن يقرأ الأخبار، انتصر المسلمون، أو لم ينتصروا؟
إن حدثته بمصيبة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون، أما أن يقوم ويتحرك فهذا لا هم له، ولا يبالي بهذا، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} [التوبة:38].
نعم.
إنه يفتح محلاً تجارياً بعد أن كان داعية إلى الله، أصبح الآن مشغولاً بالتجارة، نهاره تجارة، ليله تجارة، كلامه تجارة، همه الدنيا، قال عليه الصلاة والسلام: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس وانتكس) إذا سألته أن يضحي بشيء في سبيل الله قال: أبنائي وزوجتي، البيت يحتاج، أريد أن أشتري سيارة فلان، أريد أن ألبس كفلان، أريد أن أسكن كفلان.
صهيب يخرج من مكة وكان غنياً ثرياً، فلا يسمح له كفار قريش أن يهاجر إلى المدينة، فيقول لهم: ماذا تريدون؟ يقولون: لا نسمح لك أن تجمع المال منا ثم تهاجر بمالك إلى المدينة وتأخذ أموالنا، قال: ماذا تريدون؟ إذا كنتم تريدون أموالي فهي مدفونة في مكان كذا وكذا، خذوها واتركوني أهاجر إلى رسول الله، باع دنياه، وضحى واشترى نفسه في سبيل الله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة:111].(47/3)
صفات الداعية الفاتر
صفته: إن جلست معه يحسن الكلام، يحسن الجدل، ويحسن الحديث، أما العمل فلا، أما التضحية فلا، إن جلس في مجلس فإنه يتكلم عن هموم المسلمين، ويتكلم عن أعمال الدعوة إلى الله، يحسن الحديث، أما أن يقوم هو ويعمل فلا، فهو في آخر الركب، ينتظر غيره، ويأمر سواه، أما أن يتحرك هو فلا؛ بل يجلس مجالس لا هم له إلا الجدل والكلام، قال عليه الصلاة والسلام كما في جامع الترمذي: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل) قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3].
انطفأت الغيرة من قلبه، كان يوماً من الأيام إذا رأى منكراً تغير وجهه وتمعر وتضايق، أما الآن فتمر المنكرات وهو يبتسم، يجلس في البيت ويفتح التلفاز، يستمع إلى الأغاني والمنكرات ولا يبالي، يزور أهله وأقرباءه، النساء مع الرجال، الحديث بينهم، لا يبالي ولا يهتم، بل لا يتأثر ولا يتمعر وجهه، تغير الوقت، تغيرت النفس، وتغيرت روحه، بدأ لا يتمعر من المنكرات، يقول الله عز وجل عن هذا الصنف يعنف عليه: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود:116].
نعم.
الأمر شاق وصعب، لم يعد يتحمل إنكار المنكر ولا الأمر بالمعروف، ولم يعد يتحمل استهزاء الناس به، ولم يعد يتحمل تكاليف الدعوة إلى الله، لو سألته عن وقته فستجده مضيعاً لوقته، وقد كان يوماً من الأيام لا يجد دقيقة يضيعها في مباح، أو في دنيا، أما الآن فإن نهاره وليله قد ضاع، ضاع وقته في الأحاديث والمجالس، بل لعلها وصلت إلى الغيبة والنميمة، أما عن نومه فلا تسل، فلعله ينام أكثر من عشر ساعات في اليوم والليلة، نوم وسهر ومضيعة وقت، يا فلان! ألم تكن تأمرنا بالمعروف؟ ألم تكن تنهانا عن المنكر؟ ما بالك تغيرت؟! ما بالك -يا عبد الله- تجلس مجالس لا هم لك فيها إلا القيل والقال؟! وإن سألته حاجة قال: أنا مشغول، ليس عندي وقت، ليس عندي فراغ، يا من تخدع نفسك! إنك لا تخدع إلا هذه النفس التي بين جنبيك.
لو طلبت منه شيئاً فإنه غير مستعد: يا فلان! عندنا لجنة أو عمل خيري، عندنا سفر في سبيل الله، في الجهاد في سبيل الله، عندنا مشروع يخدم دين الله، فيقول: أنا غير مستعد لأن ألتزم بشيء، لا أستطيع أن أرجع إلى حياتي الأولى، لا أستطيع أن أرجع إلى التكاليف التي قد فككت نفسي منها، لا أستطيع هذا ولا ذاك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} [الصف:14] كن نصيراً لله، هل الذي ينصر الله ينظر إلى المنكرات في الشوارع؟ المتبرجات في كل شارع، بل في كل سوق، بل في كل محل، بل في كل مكان.
الأغاني لا تستطيع أن تهرب منها؛ في المدارس والمستشفيات والمقاهي والمطاعم، بل حتى دخلت في بيتك يا من فترت عن الدعوة إلى الله، أين ستذهب بأبنائك يوماً من الأيام؟ مع من سوف يلعبون؟ أم في أي مكان سوف يدرسون؟ أم من سوف يخالطون؟ أنت المقصر، وأنت المذنب، وسوف تجني على نفسك.(47/4)
أسباب الفتور
يا من قصرت في الدعوة إلى الله، إن وكل إليه أمر في العمل للدعوة إلى الله ضيعه وما أتقنه، لا يؤديه على أكمل وجه، ولا يستطيع أن يستمر فيه، يبدأ في عمل ثم يتركه، يبدأ في أمر في الدعوة إلى الله، ثم لا يلبث أن يتركه ولا يستطيع أن يتحمله، لو سألتني عن الأسباب، قلت لك: لا أدري، لو سألتني عن الداء أقول لك: لا أعلم، لعلها بعض هذه الأسباب التي سوف أذكرها لك، لعلك بدأت الدعوة إلى الله، ودخل في قلبك شيء من الرياء: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110].(47/5)
الدنيا وفتنتها
لعلها الدنيا وفتنتها، لعل الدنيا قد دخلت قلبك: (اتقوا الدنيا واتقوا النساء) لعلك قد التهيت بزوجك وأبنائك وولدك: (الولد مجبنة مبخلة، مجهلة محزنة) {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14].
يقول أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه: [كنا يوماً من الأيام نحن معشر الأنصار، قلنا بيننا وبين أنفسنا: إن أموالنا قد ضاعت -جاهدوا في سبيل الله، تركوا المزارع، تركوا الضياع، تركوا التجارة، ذهبوا يجاهدون في سبيل الله- قال: فقلنا بيننا وبين أنفسنا إن أموالنا قد ضاعت، فلو أنَّا أقمنا فيها، فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله عز وجل: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]] جاهدوا في سبيل الله، فلما التفتوا إلى الدنيا، قال الله لهم: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195].
أيها الأخ العزيز: لا إفراط ولا تفريط، لا أطلب منك أن تهمل أهلك وأبناءك وبيتك، وتهمل نفسك، إن لنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولبدنك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، لكن إياك أن تمضي صباحك ومساءك للدنيا، ولا تفرغ ساعة واحدة لله، ما ضرك لو خرجت ساعة في اليوم والليلة، تخرج إلى الشارع، وتدعو الناس إلى الله، وتذكرهم بالله، وتقول لهم: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر:29] تذهب وتقول: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:38]؟!
ما ضرك -يا عبد الله- لو أنفقت ألفاً للدنيا، وعشرة دنانير في طاعة الله وفي الدعوة إلى الله؟!
ما ضرك -يا عبد الله- لو مشيت في اليوم والليلة بالسيارة لقضاء حاجات أهلك، وتمشي عشر دقائق بسيارتك في سبيل الله؟! ألم تسمع المنافقين ماذا كانوا يتعذرون عند رسول الله؟ يدعون إلى الجهاد وهم يقولون: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} [الفتح:11] كانوا يتعذرون بالمال والأهل والولد والبيوت، ويقولون: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب:13].
لا أدري ما السبب الذي أوصلك إلى هذه الحال! أتظن أن غاية الدين والدعوة أن تحضر مجلس ذكر ثم تذهب إلى بيتك فتنام؟!
أسألك عن جدولك في اليوم والليلة، فتقول: أحضر مجلساً واحداً في الذكر، أما أن أدعو إلى الله، أما أن يدعوني هذا العلم إلى العمل، أما أن يهتف هذا العلم بالعمل، فلا إلا من رحم الله.(47/6)
مصاحبة ذوي الهمم الضعيفة
لا أدري ما السبب! لعلك تصحب أناساً ذوي إرادات وهمم ضعيفة، لا هم لهم إلا التجارة، إن جلست معهم سألوا عن أسعار العملة والمناخ والتجارة، وسألوا عن العمارات والتجارات والعقارات، وسألوا عن البيوت، لعلك تجلس معهم، لعلك إن جلست معهم لا يتكلمون إلا عن السفر إلى بلاد الغرب، ولا يتكلمون إلا عن الدنيا وملذاتها، لعله هذا السبب.(47/7)
الذنوب والمعاصي
لا أدري ما السبب! لعل السبب هي الذنوب والمعاصي، كنت تدعو إلى الله ونسيت نفسك، أحرقت نفسك للناس، ثم ما إن لبثت إلا ووقعت في المعاصي، جلست بينك وبين نفسك في الغرف، فأغلقت الأضواء وأطفأتها، ثم جلست تنتهك المعاصي:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أنما تخفي عليه يغيب
{أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14].
يقول ابن القيم رحمه الله: ومن عقوباتها -يعني: المعاصي، واسمع إلى هذه الكلمات العظيمة، يا من كنت داعية إلى الله! - يقول: ومن عقوباتها: أنها تضعف سير القلب إلى الله والدار الآخرة، أو تعوقه، أو توقفه، وتعطفه عن السير فلا تدعه يخطو خطوة إن لم ترده عن وجهته إلى الوراء.
نسأل الله العافية.(47/8)
الجهل بالهدف من الحياة
لعلك -يا عبد الله- لا تعرف ما هدفك من الحياة.
لعلي لو سألتك: ماذا تريد من الدنيا؟ تقول: أن أتزوج، ثم أنجب الأبناء، ثم أبني لي بيتاً، وأسكنه مع زوجتي وأبنائي، ثم ماذا؟ تقول: لا أدري.
ما هدفك من الحياة؟ تقول: أن أحصل على شهادة، ثم يرتفع ذكري بين الناس.
يقول رجل -وهو ابن عم لـ عمرو بن عتبة، واسمع إلى هذه القصة العظيمة- يقول: نزلنا في مرج حسن، في أرض خضراء، وإن سألتك لو نزلت في هذه الأرض، ما هدفك؟ وما همك؟ وما أمنيتك؟ يقول: فقال عمرو بن عتبة: ما أحسن هذا المرج الحسن! وما أجمله! لو نادى منادٍ: يا خيل الله! اركبي.
ما أحسن أن ينادي منادي الجهاد في هذه اللحظات، فيكون رجل في أول الصف، فيكون أول من يصاب، ثم يدفن في هذه الأرض! ما أحسن هذا!
يقول صاحبه: ما هي إلا لحظات، حتى ينادي منادي الجهاد: يا خيل الله! اركبي.
يقول: فيكون في الصف، فينادي أبوه - أبو عمرو بن عتبة - عليَّ بـ عمرو هاتوه، فهو يعرف ابنه، ويعرف أنه إذا تمنى أمنية يحققها الله له، يقول: فما هي إلا لحظات، فيؤتى به مصاباً، يقول: فتزهق روحه وتفيض إلى باريها، فيدفن في مركز رمحه، في تلك الأرض، هذا هو الهدف، وهذه هي الأمنية.(47/9)
العقبات وعدم معرفة مصاعب الدعوة
لعلها العقبات يا عبد الله، لا أدري لعلها عقبات كانت في طريقك، خسرت بعض المال، أصبت بمصائب، استهزأ بك بعض الناس.
لعلك -يا عبد الله- ظننت يوماً من الأيام أن طريق الدعوة إلى الله مفروشة بالورود، وأن طريق الله والجهاد في سبيله سوف يأتيك بالمال، ولن تخسر فيه درهماً واحداً، فإذا بك تخسر الأموال، وتخسر السمعة، ويتكلم الناس عنك، ويستهزئون بك، فما تلبث إلا قليلاً فتترك الدعوة إلى الله وتركن إلى الدنيا.
أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام يسحبون في الرمضاء، وعليهم الأحجار، ويجرون على الأشواك، ويلف على ظهورهم الحديد، بل تكوى ظهورهم وتشوى، والواحد منهم يقول: أحد أحد، أحد أحد.
يؤتى إلى أم أحدهم فتطعن في فرجها بالرمح، وينظر إلى أمه تزهق روحها، ويقول له عليه الصلاة والسلام: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة) يقول ابن عباس: [ما يستطيع أحدهم أن يستوي جالساً من التعذيب والضرب في سبيل الله] لا يستطيع أن يجلس، حتى يمر الجُعْلُ عليه فيقال له: هذا إلهك من دون الله، فيقول مكرهاً: هذا إلهي من دون الله، وقد اطمأن قلبه بالإيمان.
يؤتى بأحدهم يراد به أن يقتل، فيقال له: أترضى أن يكون مكانك رسول الله وأنت آمن في أهلك وولدك؟ يقول: لا أرضى أن أكون في أهلي وولدي ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاك بشوكة.
أبو ذر يقوم في الناس ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فيضرب حتى يكون كتمثال من الدم، حتى يفكه بعضهم، فيقوم في اليوم الثاني، فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فيضرب حتى يكون كتمثال الدم، فيقوم في اليوم الثالث، ويقول هكذا، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله فيضرب حتى يكون كتمثال الدم، هكذا كان أصحاب رسول الله.
هل سمعت بماشطة بنت فرعون؟! هذه امرأة كانت خادمة لابنة فرعون، تمشط شعرها، وفي يوم من الأيام سقطت المشط من يدها، فأرادت أن تحمل المشط، فقالت: باسم الله، قالت ابنة فرعون: تقصدين أبي؟ قالت: بل ربي ورب أبيك الله رب العالمين.
الله أكبر! خادمةتنطق بهذه الكلمات، ماذا ينتظرها؟
قالت: سوف أخبر عنك أبي، قالت: أخبريه، فأخبرت أباها، فناداها فرعون؛ الذي كان يقتل الرجال ويستحيي النساء، وكان من المفسدين، نادى تلك المرأة الضعيفة، فقال لها: ماذا تقولين؟ ألك رب غيري؟ قالت: نعم.
ربي وربك الله رب العالمين، فأتى بأولادها، فأحرق أولادها واحداً تلو الآخر، فقالت وهي تنظر إلى أولادها، تغلي دماؤهم في الزيت الساخن، وتقطع اللحم عن العظم، فنظرت إليهم وقالت لفرعون: لي إليك حاجة، فظن أنها تقاعست، قال: وما هي تلك الحاجة؟ قالت: أسألك أن تجمع عظامي مع عظام أبنائي في ثوب وتدفنني معهم جميعاً، فقال فرعون: ذلك لك من الحق علينا، فسحبت حتى أراد فرعون أن يرميها في الزيت، وكانت تحمل رضيعها فكأنها تقاعست، فأنطق الله ذلك الغلام، وقال: يا أماه! يا أماه! اصبري فإنك على الحق! فرمت بنفسها ورضيعها في الزيت! فزهقت روحها، فشم رسول الله رائحتها ورائحة أبنائها في الإسراء والمعراج.(47/10)
العوائق والمصائب وعدم الشعور بالتحدي
أيها الإخوة: لا أدري ما السبب الذي أوصلنا إلى هذه الحال! أصبح الواحد منا لا هم له في الدنيا إلا أن يجلس مجالس، وينام ثم يستيقظ إلى الدوام، ثم يرجع من دوامه، فيزور فلاناً، ويجلس مع فلان، ثم تمر أيامه هكذا، لا أدري هل هي العوائق؟ هل هي المصائب؟ هل هي الفتن؟ {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
لا أدري ما السبب! لعلك لا تشعر بالتحدي، لعلك لا تدري -يا عبد الله- أن اليهود والنصارى يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم.
لعلك نسيت أن اليهود والنصارى لن يرضوا حتى تتبع ملتهم.
لعلك لا تدري أو كأنك تناسيت أن أهل الكفر كلهم قد تجمعوا لحربنا، وتداعت الأمم علينا.
لعلك لا تدري -يا عبد الله- أو كأنك تتناسى أن أهل الباطل قد اجتمعوا على إخوانك، ويريدون سفك دمائهم، ويريدون قتلهم وإيقاف دعوتهم، وكأنك لا تشعر بهذا ولا ذاك.
كأنك لم تسمع بالدعاة يسجنون، ولا كيف يقتلون! ولا أن نساءهم تهتك أعراضهن وأنت جالس في البيت آمن؛ لا تريد أن تخرج من جيبك ديناراً، ولا تريد أن تقضي من وقتك ساعة في سبيل الله، ولا تريد أن تعرض وجهك للدعوة إلى الله، ولا تريد أن تقوم المقام الذي أمرك الله به فتأمر بالمعروف أو تنهى عن المنكر.(47/11)
التقصير في العبادة وقراءة القرآن
لعل السبب أنك كنت تدعو إلى الله، وقصرت في عبادة الله، لعلك يوماً من الأيام، كنت تدعو إلى الله، ونسيت نفسك، فلم تكن تقرأ القرآن، ولا تذكر الله، ولا تقوم الليل، ولا تصوم النهار، ولا تخشع في الصلاة، نسيت نفسك يا عبد الله.
عبد الله: يقول عليه الصلاة والسلام: (الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب) رواه الترمذي، كالبيت الخرب، يدعو إلى الله ولا يقرأ القرآن، قال بعضهم عن سفيان الثوري: كان إذا أصبح يرفع رجله على الحائط -تخيل هذا الرجل، يرفع رجله على الحائط، أتعرف لماذا؟ - حتى يرجع الدم إلى رأسه من قيام الليل، كان إذا قام الليل ينزل الدم إلى قدميه حتى إذا أصبح رفع رجليه على الحائط حتى يعود الدم إلى رأسه من شدة قيام الليل، يقول عنه شجاع بن الوليد: كنت أخرج مع سفيان الثوري، فما كان لسانه يفتر عن ذكر الله، أو الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر، ذاهباً وراجعاً.
خلا في الليل، فقال لصاحبه: ائتنا بماء الوضوء، يقول: فصببت له ماء الوضوء، يقول: فقربته إليه ونمت، يقول: ففي الصباح نظرت إليه واضعاً يده اليمنى على خده الأيمن، فسألته ما بالك رحمك الله؟
قال: منذ أن قربت إليَّ الماء، وأنا على حالي هذه، من أول الليل إلى الفجر.
قال: ما شأنك؟
قال: أتفكر في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
من أول الليل، إلى طلوع الفجر!
وكان رحمه الله يصارع الطغاة، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، يخبئ كراريسه في الأرض ويدفنها خشية أن تسرق، ويدرس تلاميذه في الخفاء، ويجاهد في سبيل الله، ويدعو إلى الله، لكنه إذا خلا في الليل قام لله مصلياً.(47/12)
اليأس من نصر الله
لعلك -يا عبد الله- قد أيست من نصر الله، ولعل النصر قد تأخر عنك، ولعلك قد استبطأت النصر: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15] قال بعضهم: أي يربط حبلاً في السقف، ثم ليعلق رقبته فيه، ثم ليشنق نفسه، فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ، فلينظر هل يذهب هذا الغيظ الذي في قلبه: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110].
ألم تسمع بالحديث الذي رواه مسلم، وفيه: (أنه يأتي النبي يوم القيامة وليس معه أحد) يدعو إلى الله، ويُذكِّر بالله، وينصح الناس، يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر إلى أن يموت، ويأتي يوم القيامة ولم يستجب له أحد: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103].(47/13)
الخلاف مع الدعاة في بعض المسائل
لا أدري ما السبب! لعله الخلاف الذي حصل بينك وبين إخوانك، اختلفت معهم في وجهة نظر، اختلفت معهم في أمر ما، ثم تركتهم وشأنهم، قلت: هؤلاء لا يصلحون في الدعوة إلى الله، إذاً ما بالك أنت لا تدعو إلى الله لوحدك؟ لماذا لا تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ يقول يونس الثقفي رحمه الله: ما أعقل الشافعي! ناظرته يوماً من الأيام، فلم نتفق يقول: فافترقنا، فلقيني يوماً من الأيام، فأمسك بيدي، فقال لي: يا أبا موسى! ألا يستقيم أن نكون إخواناً ولو لم نتفق في مسألة، لماذا لا نكون إخواناً ولو اختلفنا في كل مسألة، ولو اختلفنا في وجهات النظر، بما أن الأمر لم يرد فيه نص، ولم يحكم فيه شرع، ما بالنا لا نختلف؟! ألم يختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! هل وجدت اثنين يتفقان في كل مسألة من مسائل الدين؟!
لعلك لا تجدهما، لنختلف لكن ليعذر بعضنا بعضاً إن لم يرد هناك نص، ولم يحكم بهذا شرع، ينصح بعضنا بعضاً، وينكر بعضنا على بعض، لكن نجلس مع بعضنا، وتصفى القلوب، وتصفى الأفئدة، ويستقيم بعضنا مع بعض، ويذكر بعضنا بعضاً، لكن إن اختلفنا في كل مسألة، وكل منا ترك أخاه، وكل منا افترق مع أخيه، لن تجد أخوين يجلسان مع بعضهما البعض.(47/14)
النظر إلى الأقل بذلاً
لعلك -يا عبد الله- تنظر إلى من هو دونك، ولعلك تنظر إلى فلان لا هم له في الدعوة إلى الله؛ إلا أن يجلس في مكتب من المكاتب، فيوقع ورقة، ثم يذهب إلى البيت، ويظن أن هذه هي غاية الدعوة إلى الله، لا بأس، لقد عملت شيئاً لله، ولقد فعلت في سبيل الله، لكنها ليست غاية الدعوة إلى الله، غاية الدعوة: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111].
اسمع إلى قصة حبيب رضي الله عنه، أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم برسالة إلى مسيلمة، فذهب إلى مسيلمة وأعطاه الرسالة، فغضب مسيلمة، وزمجر وأرعد، فقال له: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم.
أشهد أن محمداً رسول الله، قال: أتشهد أني رسول الله؟ -وخسئ- فقال مستهزئاً به: إن في أذني صمماً، فربطه وأتى بالجلاد، فقال: أتشهد أني رسول الله؟ فقال: إن في أذني صمماً، فقال للجلاد: اقطع منه طرفاً، فقطع جزءاً من جسده، فتدحرج، والدم يسيل منه.
قال: تشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: أشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إن في أذني صمماً، فقطع منه قطعة أخرى، فلا زال يكرر إن في أذني صمماً، أشهد أن محمداً رسول الله، حتى أصبح قطعاً متناثرة على الأرض، وزهقت روحه وهو يقول: أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله
هكذا تكون غاية الدعوة إلى الله، أن تضحي بنفسك وبمالك في سبيل الله، وأن تضحي بوقتك في سبيل الله.
ثم إن أمه تسمع بالخبر، فما تظنونها تقول؟ وما تظنونها تفعل؟ قالت: لهذا أعددته وعند الله احتسبته، بايع رسول الله صغيراً ووفى له كبيراً.
وأمه لم تكتفِ بهذا، بل تكون مع المسلمين في تلك المعركة التي يقتل فيها مسيلمة، فبعد أن تنقضي المعركة، ويهزم أعداء الله، تأتي أم حبيب وتبحث في القتلى، فإذا بها تنظر إلى مسيلمة، مثخناً بالجراح، قد أزهقه المسلمون بالضرب، وزهقت روحه إلى الله.
حبيب في جنة الله، أما مسيلمة فهو في لعنة الله، أم حبيب تنظر إليه، فماذا تفعل؛ تفرح وتستبشر، هذا هو المصير: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42].(47/15)
علاج الفتور
ما العلاج يا عبد الله؟
لعلي قد أصبت الداء، ولعلي قد عرفت السبب، ولعل السبب غير هذا، لعلها الدنيا، لعلها الذنوب، لعلها المعاصي، لعلها الشهوات، لا أدري ما السبب!
لكن يا عبد الله أنصحك في الخاتمة نصيحة:(47/16)
تعهد الإيمان وتفقد الدين
عليك بتعهد إيمانك، وسل عن إيمانك يا عبد الله! إذا رجعت إلى البيت وخلوت بنفسك، ماذا تفعل؟ هل أنت أمام الناس كما تكون لوحدك؟ هل أنت لو خلوت بنفسك تقع في المعاصي؟
إذا فتحت الجريدة أو المجلة ونظرت إليها، ماذا تفعل؟ هل تمعن النظر، أم أنك تصد وتقول: أستغفر الله؟ أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين.
ماذا تفعل -يا عبد الله- إذا كنت في السوق لوحدك ولا أحد يراك؟ ماذا تفعل إذا كنت في الدوام واختليت بتلك المرأة، هل تجلس، هل تمكث؟
سل عن إيمانك وتفقد دينك، افتح كتاب الله وجدد إيمانك يا عبد الله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] هل تذكرت الآن يا عبد الله؟ هل انتبهت من غفلتك؟ هل علمت أنك مقصر؟ هل تأكدت الآن أن أوقاتك تضيع سدى، وأن حياتك بدأت تذهب ولا تشعر بها؟
هل علمت الآن أنه سبق المفردون؟ أنه ذهب الناس بالأجر؟ أنه ذهب الدعاة بالغنيمة؟ وأنت جالس في البيت، قد حصلوا أجر الدنيا والآخرة، وأنت جالس و: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81].(47/17)
إزالة الغل من القلب
أنصحك يا عبد الله أن تصفي قلبك من الغل، وأن ترفع يديك وتقول: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] ارجع إلى إخوانك، وضع يدك في أيديهم، وابدأ معهم مرة أخرى، طريقك في الدعوة إلى الله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].
أزل ما في قلبك من الغل، من الحقد، من الحسد على إخوانك، والخلاف شر، قيل للبخاري: إن أقواماً يقولون فيك كذا وكذا، فقال رحمه الله: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] ثم قرأ قوله تعالى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43] فقالوا له: ألا تدعو عليهم؟ فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اصبروا حتى تلقوني على الحوض).
الإمام أحمد يبكي طوال ليله، فيقال له في الصباح: مالك رحمك الله تبكي طوال الليل؟ قال: مر علي في الدرس، قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] فتذكرت المعتصم، من هو المعتصم؟ الذي كان يأمر بجلد الإمام أحمد وضربه، قال: فتذكرته، قال: فسجدت في الليل أبكي أطلب الله عز وجل أن يحله مني، يبكي طوال ليله أن يحله الله عز وجل ممن أمر بضربه، ومن أعان على جلده.
هكذا كان الأوائل، وهكذا نحن يا عباد الله.(47/18)
تنظيم الوقت
وهكذا أنصحك بأن تنظم وقتك وتحاسب نفسك، أن تجعل جزءاً من وقتك في طاعة الله، وفي الدعوة إلى الله، فتجعل جزءاً من وقتك تدعو إلى الله، وتذكر الناس، إن مجالات الدعوة كثيرة؛ سواء بالمال، أو بالوقت، أو باللسان، أو بالكتابة، أو باليد، أو بما تستطيع، فرِّغ لنفسك جزءاً من وقتك تدعو إلى الله، وتنصر دين الله.(47/19)
دراسة سير الصالحين والأنبياء
وأنصحك أن تدرس سير الأولين، وتقرأ قصص الأنبياء والصالحين، قصة قوم نوح مع نوح عليه السلام، فقد لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، أتعرف ماذا كان يفعل؟ كان يدعو إلى الله، وكان يذكر بالله، وكان ينصح في الله، حتى استغشوا ثيابهم، وأصروا واستكبروا استكباراً، ماذا فعل؟ قال: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [نوح:8 - 10].
أما يوسف عليه السلام، فيؤخذ صغيراً من أبيه وأمه، ويكاد يقتل، ثم يباع بثمن زهيد في الناس، عبد يباع ويشترى، ثم يتعرض للفتن، ثم يتلوث عرضه وسمعته في الناس، ثم يرمى في السجن وحيداً، فيجلس مع صاحبي السجن فماذا يقول: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39] يدعو إلى الله في السجن.
ما بالنا لا ندعو إلى الله في الدوام والوظيفة والسيارة والعمل، في البيت والشارع والمجالس، ما بالنا لا نقول: يا قوم! اتقوا الله، يا قوم! اعبدوا الله، يا قوم! صلوا، يا قوم! استغفروا الله، يا قوم! كفوا عن المعاصي، ما بالنا لا نتكلم لله.
عقبة بن نافع -لعلك إذا سمعت سيرهم وقرأت أخبارهم؛ ينجلي عنك بعض الهم، ولعل همتك ترتفع- عقبة بن نافع، يقف على المحيط الأطلسي وعمره خمس وعشرون سنة، رافعاً سيفه، وقد تبللت أقدام فرسه في البحر، فيقول: [والله! لو أعلم أن خلف هذا البحر أرضاً وقوماً لخضته بفرسي هذا] يدعو إلى الله، وينشر كلمة الله.
أما جعفر الطيار، وما أدراك ما جعفر الطيار؟! يرفع لواء الدعوة والجهاد في سبيل الله، فتقطع يمينه، فيمسكها بشماله، فتقطع، فيمسكها بعضديه، ثم تكسر الرماح في ظهره وتفيض روحه وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شاربها
والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
فيموت ويطير في الجنة.(47/20)
ضرورة الدعوة إلى الله
في الختام -يا عباد الله- أدعوكم إلى الدعوة إلى الله، وإلى الرجوع إلى طريق الدعاة إلى الله، يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري: (اللهم إني أعوذ بك من الكسل) ولندع الكسل، ولندع الفراش، وقد قال الله لنبيه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} [المزمل:1 - 2] فيلتفت إلى خديجة ويقول لها: مضى عهد النوم يا خديجة، وبدأ الآن وقت الجهاد، وبدأ الآن وقت الدعوة إلى الله.
ألا تسمع من حولك -يا عبد الله- أن نساءً تهتك أعراضهن؟ ألا تسمع عن الدماء كيف تسفك؟ عشرات الألوف من الرجال يقتلون، لا جريمة لهم إلا أنهم قالوا: لا إله إلا الله: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج:8 - 9] ما بالك لا تقوم حمية لهم؟!
رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
نختم بقول الله عز وجل: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:250].
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.(47/21)
التوبة
التوبة للعبد ميلاد جديد، وهي مهمة لكل مسلم سواء أكان عالماً أم جاهلاً، رجلاً أم امرأة، كبيراً أم صغيراً، وقد فتح الله باب التوبة للعصاة والمذنبين، فحري بكل مذنب أن يتوب، ويستغل هذه الفرصة بتجديد العلاقة مع الله جل وعلا.
وهناك أمور تعين على التوبة منها: الخوف من الله، فالخائف يسارع بالتوبة، وكذلك حب الله، وتذكر سعة رحمة الله جل وعلا وفرحه بتوبة عبده، وتبديله لسيئات التائب حسنات.
كما أن هناك شبهة تدور في خلد المذنبين وهي: أنه لا يدعو إلى الله ولا يجلس مع الصالحين ما دام أنه يعصي الله جل وعلا، وهذا مدخل من مداخل الشيطان، فإن ارتكاب المعصية ذنب وترك الدعوة إلى الله ذنب آخر.(48/1)
أصناف الناس تجاه المعاصي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد:
فإن موضوع التوبة موضوع عظيم وكبير، لا يكفي فيه كلمات تسمعها، وتظن -أخي العزيز- أنك بعد ذلك سوف يقبل الله توبتك، وتكون من التائبين، إن التوبة أمر كبير وعظيم جداً.
أولاً: لا بد أن تعلم أن الذنب لا بد منه لا محالة، بل على الصحيح أن الأنبياء يذنبون وإن كانت صغائر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا أنكم تذنبون، لذهب الله بكم ولأتى بقومٍ يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم) فلا بد من الذنب، وأنا لا أدعوك إلى الذنب ولكن أدعوك إلى ما بعد الذنب، أي الصنفين أنت؟(48/2)
الصنف الأول: من يبحث عن المعصية
الصنف الأول من الناس من يبحث عن المعصية، ويتظاهر بالصلاح، يخطط في قلبه للمعاصي والذنوب، إن أذنب فرح، وإن عصى ابتهج، إن فاتته معصية حزن وتضايق وندم، يخطط لها، يبحث عنها، يتجول خلفها، يركض وراءها، فإذا ظفر بها كانت سعادته وفرحته الكبرى أنه عصى الله.(48/3)
الصنف الثاني: من يحاول الابتعاد عن المعاصي
الصنف الآخر من الناس: صنفٌ صالح يبتعد عن الذنوب والمعاصي وأسبابها، لكن شهوته تغلبه فيعصي الله، فيتحسر ويندم ويخاف ويطرح نفسه بين يدي الله، يبكي ويندم، ثم يتوب، وتمر الأيام والليالي فتغلبه الشهوة، وتغلبه نفسه فيعصي الله، وهو خائفٌ وجلٌ نادمٌ، يبكي ويتحسر فيرجع ويتوب، ثم تمر الأيام والليالي فتغلبه شهوته فيعصي الله.
أي الصنفين أنت؟
أما الصنف الآخر: فهو الصنف الذي قال الله عزَّ وجلَّ فيه: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران:135] فاحشة، أي: كبيرة، يظن المسكين أنه لا توبة له، وأن الله لن يتوب عليه، قال الله عزَّ وجلَّ عن صفات المتقين أفضل البشر: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].
أخي العزيز: من أي الصنفين أنت؟
إن كنت من الصنف الأول: فالنجاة النجاة، والهروب الهروب، إن كنت من الذين يفرحون إذا عصوا، ويستبشرون إذا ارتكبوا الفواحش، بل يخططون لها، ويزحفون لها، فانقذ جلدك من النار، وفر إلى الله.
وإن كنت من الصنف الآخر الذي يطيع الله ويتقيه، ويخاف من الذنوب، فإذا أذنب وفي قلبه خوف من الله؛ خوفٌ أن يفضحه الله، خوف أن يعاقبه الله، خوف من الجليل أن يطلع عليه في قلبه شيءٌ من الحياة، فإذا ارتكب الذنب والمعصية فر إلى الله عزَّ وجلَّ وخرَّ بين يديه.(48/4)
أمور تدعو إلى التوبة
اسأل نفسك وكن صريحاً معها ما الذي يدعوك إلى التوبة؟(48/5)
من دواعي التوبة: الخوف من الله
أول أمرٍ يدعوك إلى التوبة: الخوف من الله هل حقاً أننا نخاف من الله؟ هل حقاً أن الواحد منا إن أذنب خاف من ذنبه وكأنه يلاحقه، يتفكره طوال حياته، ويبكي بسبب ذنب ارتكبه منذ سنوات؟
الحق أن يُخاف من الله، الحق أن الواحد عندما يفتح المصحف ويقرأ عن عذاب الله: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِلطَّاغِينَ مَآباً} [النبأ:21 - 22] الحق أن نخافه.
الحق أننا عندما نقرأ عن عذاب أهل النار، قوله تعالى: {وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً} [المزمل:13] يجب أن نخاف، إذا عرفت عن عذاب أهل النار أنهم يلبسون ثياباً من نار، ويأكلون طعاماً من نار، وينامون على فرش من نار، ويلتحفون بفرشٍ من نار، ويستظلون بظلل من النار: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر:16] أتعرف ما العبرة؟ {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر:16].
إن أول أمر يدعوك إلى التوبة: هو الخوف من الله خوفٌ من عذابه خوفٌ أن يعرض الله عنك، ألا تخاف -أخي العزيز- أن يعرض الحبيب عنك! {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] ألا تخاف أن تلقى في النار! {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] فأكبر عذابٍ لأهل النار أن يحجب العزيز عنهم، كما أن أفضل نعيمٍ لأهل الجنة أن يروا وجه الرحمن.
ألا تخاف -أخي العزيز- مكر الله! كمن يرتكب الذنوب والمعاصي يختلي بنفسه يفتح الجريدة فإذا هو يتلذذ يتمتع بالأغاني والمسلسلات يذهب إلى الأسواق فينظر يمنة ويسرة إلى النساء الكاسيات العاريات، ألا تخاف مكر الله؟ أما سمعت ذلك الذي تعلق قلبه بصبي، فلما اقتربت ساعة وفاته قال:
أَسَلْمُ يا راحة العليل ويا شفاء المدنف النحيل
رضاك أشهى إلى فؤادي من رحمة الخالق الجليل
قيل له: اتق الله! قال:
رضاك أشهى إلى فؤادي من رحمة الخالق الجليل
اتق الله! فخرجوا من عنده، وصاح صيحة خرجت بها روحه، وقد كان يصلي ويصوم.
ألا تخاف مكر الله أأمنت مكره؟! {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99].(48/6)
من دواعي التوبة: حب الله
أمرٌ ثانٍ يدعوك للتوبة إلى الله هو حب الله، قال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] تحب الله وتعصيه؟!
إن المحب لمن يحب مطيع
أخي العزيز: ينظر الله إليك يوم تفعل المنكر، ألا ترى أن الله عزَّ وجلَّ هدد المؤمنين أنهم إذا أفرطوا في المعاصي أن يستبدلهم بقوم آخرين، قال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54].
أخي العزيز! يدعوك للتوبة رجاء رحمة الله، فإذا أدركت، أظنك تقول في قلبك: إنني أرتكب ذنوباً كبيرة، ومعاصي عظيمة، لا أظن أن الله يغفرها لي؟!
نقول: لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرت الله لغفر لك (قال الله عزَّ وجلَّ: لو علم عبدي أني على مقدرة على مغفرة الذنوب غفرت له).
وأيضاً: لو أتيته بملء الأرض خطايا، ثم لقيته لا تشرك به شيئاً، لأتاك بقرابها مغفرة، فالله غفور رحيم، قال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82].
يقول ابن عباس كما في صحيح مسلم: (إن أناساً من المشركين أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله! قد قتلنا فأكثرنا، وزنينا فأكثرنا -لم يسألوا إلا عن هذه الذنوب، سفك وقتل وزنا وإكثارٌ منه- وإن الذي تدعو إليه لحسن، فهل لنا من توبة؟ فأنزل الله عزَّ وجلَّ من فوق سبع سماوات: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ} [الفرقان:68]-التوبة تقتضي الإقلاع- {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان:68]-لعلها عشر دقائق ثم تنتهي اللذة، فماذا بعد هذا؟ - {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} [الفرقان:68 - 69] فيقول الله بعد ذلك -وانظر هذا الصنف من الناس، ما أرحم الله! وما أكرمه! -: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70]).
الله أكبر! امتلأت الأرض بذنوبهم وخطاياهم ومعاصيهم، وبلغت عنان السماء، فيبدلها الله حسنات.(48/7)
مواقف تدل على صدق التوبة
.(48/8)
موقف ماعز الأسلمي
أتى ماعز بن مالك الأسلمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبحث عنه، فقال: يا رسول الله! زنيت فطهرني -كان يعلم أنه سوف تحفر له حفرة ويجتمع عليه المسلمون ويأخذون الحجارة يرجمونه بها، وأ، رأسه سوف يتشقق، ويسيل منه الدم، وأنه سوف يموت معذباً بالحجارة- فصد عنه عليه الصلاة والسلام، فجاءه في اليوم الثاني، فقال: يا رسول الله! زنيت فطهرني، فصد عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاءه في اليوم الثالث، فقال: يا رسول الله! زنيت فطهرني -يخاف من الذنب- فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه، فقال: هل تعلمون به بأساً؟ قالوا: لا نعلمه إلا وفي العقل من الصالحين، فذهب عليه الصلاة والسلام فجاءه في اليوم الرابع، فقال: يا رسول الله! زنيت فطهرني -لا يتحمل الذنب، والمعصية تكاد تقتله، لا يهدأ له بال، ولا يقر له قرار، وتلاحقه المعصية، كما قال ابن مسعود: [كجبل خاف أن يقع عليه]- فأمر الصحابة أن يحفروا له حفرة ثم وضع فيها، فرجمه الصحابة حتى مات.(48/9)
موقف المرأة الغامدية
وبعد لحظات أتته امرأة غامدية، فتقول له: يا رسول الله! لعلك تردني كما رددت ماعزاً، إني زنيت فطهرني -أي جيلٍ هذا! أي أناس أولئك! أي قلب هذا! - وإني حبلى -عندي دليل، فبطني قد امتلأ- فصد عنها عليه الصلاة والسلام فقال لها: اذهبي حتى تضعي -لعلها ترجع إلى رشدها- فذهبت وأتت بعد شهور وفي يديها خرقه عليها جنينٌ صغير، فقالت: هو ذا يا رسول الله، زنيت فطهرني، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهبي حتى تفطميه -القلب الرحيم الشفيق على أصحابه لعلها ترجع، ما قال: نرجمها- قال: اذهبي حتى تفطميه، فأتت بعد شهور بيدها كسرة من خبز، فقالت: يا رسول الله! هو ذا يأكل، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطفل فدفعه إلى أحد الصحابة، وأمر لها بحفرة، فحفر لها، ثم وضعت فيها، فرجمت، ورجمها خالد فسقط رأسها وتطاير الدم عليه، فسبها خالد، فقال له عليه الصلاة والسلام: (مه يا خالد! لقد تابت توبةً لو تابها صاحب مكس لتاب الله عليه، وفي رواية: لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم).
هل رأيت أنها جادت بنفسها لله عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135].
أتدري ما الذي يدعوك إلى التوبة؟
إنه قربك من الله، ورجاؤك رحمة الله، ومحبتك لله عزَّ وجلَّ.
لعلك تتعجب ما بال بعذ أولئك الناس ينام على الفراش فيبكي ولا تشعر به زوجته! تتعجب ما الذي جعلهم يقومون من الليل! {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [السجدة:16] الواحد منا لا يستطيع أن يقوم لصلاة الفجر، بينما هم يقومون في منتصف الليل من الفراش، ما الذي أقامهم؟ الجواب في قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة:16].
تقول بنية صغيرة لأبيها: يا أبتاه! ما لي أراك لا تنام مثل الناس؟
قال: يا بنية! إن خوف أبيك من النار قد أذهب عنه النوم.(48/10)
الذنوب والمعاصي وخطر استصغارها
أخي العزيز! لا بد أن تستعظم الذنب، وإياك أن تحتقره.
يقول بعض السلف: إن الاجتهاد في الذنب أشد من ركوبه.
فرحك وسرورك وقلة خوفك من الله وأنت ترتكب الذنب أشد من الذنب نفسه.
انتبه أخي العزيز! من فعل معصية ولو كانت صغيرة، قال ابن مسعود: [إن المؤمن يرى ذنبه كجبلٍ يخاف أن يقع عليه، وإن المنافق يرى ذنبه كذبابٍ وقع على أنفه، فقال به هكذا].
أرأيت الفرق بين من يعصي وهو يضحك، ومن يعصي وهو يبكي؟ أرأيت الفرق بين من يذنب وقلبه وجل خائف يخاف مكر الله، ويخاف عقوبة الله، يتبعها بالحسنات، يخاف ألا يقبل الله توبته، وبين ذلك الذي يذنب وهو يضحك ويفرح وهو مسرور إن فاته ذنبٌ تحسر وندم؟
أخي العزيز! قف مع نفسك وقفات، واسأل نفسك: هل أنت تسير في طريق صحيح؟
يقول أنس وهو يخاطب التابعين: [إنكم تعملون أعمالاً هي في عيونكم أدق من الشعرة إن كنا نعدها في عهد رسول الله من الموبقات المهلكات].
يقول حذيفة: [إن كان الرجل منا ليتكلم بالكلمة كنا في عهد رسول الله نعده منافقاً] في كلمة نعده منافقاً، وهذا يسمعه في المجلس الواحد أربع مرات في مجلس من؟ مجلس التابعين.
قل لأولئك الذين يسلطون ألسنتهم في أعراض المسلمين؟ يغتاب فلاناً، فإن انتهى فبفلان، فإن انتهى يأكل لحم فلان، يجلس كل مجلسٍ يتكلم في أعراض المسلمين.
عظِّم ذنبك أخي العزيز! يا من يطلق نظره في الأسواق! يا من تفوته الصلاة وهو يضحك! يا من لا يصلي في الجماعة في اليوم والليلة مرات كثيرة!
أخي العزيز: عظِّم ذنبك، واعرف أن أول طريق التوبة أن تعظم الذنب.
يقول أحد السلف: [لا تنظر إلى صغر المعصية، ولكن انظر إلى عظم من عصيت] يقول صلى الله عليه وسلم: (استحي من الله كما تستحي من رجلٍ صالح من قومك) والله لو طرق عليك الباب رجلٌ صالح ودخل عليك وأنت على ذنب، لتغير وجهك وارتبكت إلخ، الآن وأنت بيننا في هذا المجلس هل تتجرأ على معصية؟ مستحيل.
وإذا خلوت بريبة في ظلمةٍ والنفس داعية إلى الطغيانِ
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
يراك الله يراك العليم الخبير: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة:6] يسجله رقيبٌ وعتيد.(48/11)
الحذر من المجاهرة بالمعاصي
أخي العزيز: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14] ألا تعلم بأن الله يراك؟
إياك والمجاهرة، فإذا أذنبت فاستر على نفسك، والأفضل أن تكتم ولا تعترف، فإن من المجاهرة أن يعمل الرجل الذنب في الليل فيصبح وقد ستره الله عليه، فيأتي في المجلس فيقول: فعلت البارحة كذا وكذا، يجاهر بالمعصية (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) وإن من المجاهرة: أن ترتكب المعصية أمام الناس وتفرح بها ولا تبالي، وإن من المجاهرة أن تأتي إلى صاحبك فتقول له: يا فلان! فعلت كذا وكذا، دلني على الطريق، إياك إياك أن تستغفل بهذا! فلا تخبر بمعصيتك إلا من اضطررت إليه، ولا تخبر أي أحد إلا عالماً أو ناصحاً.(48/12)
سعة رحمة الله وفرحه بتوبة عبده
أخي العزيز! يا من أذنبت وعصيت، أتعلم أن الله يفرح بتوبتك، تقول: أنا الذي أقلب المجلات، وأنظر إلى الصور، وطالما إذا صليت التهيت بالدنيا، وطالما أفتح التلفاز للأغاني والمسلسلات، وطالما اغتبت الناس وفعلت وفعلت هل إذا رجعت إلى الله عزَّ وجلَّ يفرح؟
نقول لك: نعم.
بل يحبك الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222].(48/13)
الله أفرح بتوبة عبده من فرح الوالدة بولدها
يقول ابن القيم: خرج أحد العارفين إلى سكة من السكك، فإذا به ينظر إلى بابٍ يدفع دفعاً فيفتح، فيرى طفلاً صغيراً يخرج من البيت وأمه خلفه تسبه وتشتمه فهرب الصبي، يقول هذا الرجل: فإذا بالصبي يبحث يمنة ويسرة عن مكان يأوي إليه فلا يجد ماذا يفعل؟ لا يدري، إذا به لا يعرف طريقاً إلا بيته، فيرجع إلى البيت ويفتح الباب فإذا الباب مقفل، فيضع رأسه على عتبة الباب على التراب وينام، وفي منتصف الليل تفتح الأم الباب -الأم التي طردته من البيت- فتنظر إلى ولدها فتبكي وتضمه وتحضنه، وتقول له: يا ولدي! لم حملتني على مخالفة ما جبلت به لك؟ لم حملتني على ضربك وحبسك وقد جبلت على رحمتك؟
يقول ابن القيم: سبحان الله! ما أحسن هذا الفعل بحديث رسول الله (الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها) والله إن الأمر لشديد لمن يعصي الله، فيطرده الله من رحمته، ويغضب ويسخط عليه، فعندما يرجع يفرح الله به ويحبه ويبدل سيئاته حسنات.(48/14)
تبديل السيئات حسنات
أتى شيخٌ كبير قد أذنب وأسرف على نفسه بالمعاصي، يمشي على عصى وقد سقط حاجباه على عينيه، فأتى إلى رسول الله فقال: (يا محمد! إن لي خطايا لو وزعت على أهل الأرض لأهلكتهم جميعاً، فهل لي من توبة؟ فيقول له صلى الله عليه وسلم: أتشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟ فيقول الرجل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: تفعل الحسنات وتجتنب السيئات يبدلها الله عزَّ وجلَّ لك حسنات، فيقول الرجل: وغدراتي؟! وفجراتي؟! قال: يبدلها الله لك حسنات) {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} [آل عمران:135].(48/15)
كن من الأوابين
أخي العزيز: لا تكثر على نفسك الذنوب والمعاصي، فإن الله عزَّ وجلَّ في كل يومٍ وليلة يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، وفي النهار ليتوب مسيء الليل، فلماذا تعرض؟
ألا تعلم أن الله في كل ليلة ينزل إلى السماء الدنيا ينادي: (هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ هل من تائبٍ فأتوب عليه؟) (الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها) قد يشغل قلبك أمرٌ طالما أخبر به الكثير من الناس، تقول: أذنب فأتوب ثم أرجع فأذنب ماذا أفعل؟
أتى أ، اس إلى الحسن البصري فقاقوا له: يا أبا سعيد! إننا نرى في أنفسنا أننا نتوب ثم نعاود الذنب، ثم نتوب ثم نعاود الذنب، فقال الحسن رحمه الله: ود الشيطان لو ظفر منكم بهذه، ثم قال: إذا عاودتم الذنب فعاودوا التوبة، فإن الله لا يمل حتى تملوا: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً} [الإسراء:25] الأوابون: الذين إذا تابوا ثم عادوا وعصوا، ثم يتوبون، ثم يعودون يعصون ثم يتوبون: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً} [الاسراء:25].
ما أرحم الله! وما أجوده وما أكرمه! حقاً إنه رحيمٌ غفور ودود يتقرب إلى عباده، فوالله لو تقربت إليه ذراعاً لتقرب إليك باعاً، وإذا أتيته تمشي لأتاك هرولة.
ما أرحم الله! دمعة واحدة، تتوضأ، فتحسن الوضوء، فتقوم فتصلي ركعتين لا تحدث بهما نفسك، ثم تتوب من ذنبك، يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك.
ما أرحم الله! لا تقل: أسرفت وأذنبت وفعلت، فإن الله أرحم منك؛ بل أرحم من الوالدة بولدها.(48/16)
فائدة الجلوس مع الصالحين
أخي العزيز! لعلك تقول: أنا مذنب، وعاص، ولا أستحق أن أجلس بين الصالحين إنهم صالحون متقون أهل صلاة وصيام وذكر ودعاء وعبادة، انظر إليهم ما أخشعهم، وما أكثر صلاحهم، وما أكثر عبادتهم، أما أنا فلا أستحق أن أجلس معهم، فأنا أعصي وأذنب كثيراً، ولا زلت مصراً على الذنوب والمعاصي؟ تقول: لا.
إن الشيطان يأتيك فيقول لك: اتركهم، دعهم، لا تكن منافقاً، لا تضحك على نفسك، تأتيهم في الصلاح ثم ترجع إلى بيتك بالذنوب والمعاصي، اتركهم واجلس في بيتك.
أخي العزيز! انتبه أن تقرب من مصيدة إبليس، قال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم -لم يعمل أعمالهم ولم يكن في مطافهم لكنه يحبهم ويحب جلساتهم وكلامهم ويحب أن يصل إلى ما وصلوا إليه ولكنه لم يصل- فنظر عليه الصلاة والسلام إليه، فقال: المرء مع من أحب).
نقول: استمر معهم، واجلس معهم: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) إن الندم الذي دخل في قلبك هل يدخل قلبك لو كنت لوحدك؟ لا والله.
لن يدخل قلبك إلا وأنت في هذا المجلس، مع الصالحين.
أخي العزيز: ما يدريك؟! لعل جلوسك معهم يكفر سيئاتك.
أتى رجلٌ المدينة يبحث عن رسول الله، يقول: أين محمد؟ فدل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! أتيت حائطاً، فلقيت امرأة ففعلت معها كل شيء إلا ما يأتي الرجل من امرأته -كل شيء إلا الزنا- هل من توبة؟ -والرجل خائف من الذنب، يفر من الذنب إلى الطاعة، ندم وعزم على ألا يعود- فسكت عليه الصلاة والسلام وذهب الرجل، ثم قال لأصحابه: ردوه عليَّ، فرد عليه الصلاة والسلام عليه، فقال له: قال الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]) لا بد من الذنب؛ لكن: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] كلما أذنبت ذنباً فاعزم على ألا تعود، أقلع عن المعصية، اندم على ما فعلت ثم أتبعها بالحسنة: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].
يقول أحد الصحابة: (يا رسول الله! هي له أو للناس جمعياً؟! قال: بل هي للناس جميعاً) الله أكبر الله أكبر! يبسط الله يده، وينزل إلى السماء الدنيا، ويفرح بعودتك، ويحب التوابين والمتطهرين، فما بالك لا زلت مصراً على الذنوب والمعاصي؟ هل تظن أن الله لا يراك؟(48/17)
وقفة مع محاسبة الله لعباده
ألا تعلم -أخي العزيز- أن الظالمين إذا أتوا يوم القيامة لقوا الله عزَّ وجلَّ فيذكرهم بذنوبهم، يقول: عبدي! أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر تلك الليلة؟ أتذكر ذلك اليوم؟ أتذكر عندما قمت من الفراش وعدت إلى الفراش وسمعت الأذان؟ أتذكر تلك اللحظة عندما كنت في السوق وتظن ألا أحد يراك، وأخذت تتكلم معها وتتكلم معك؟ أتذكر يوم نادتك أمك فرددت عليها؟ يوم دعاك أبوك فعققته؟ أتعرف ماذا يقولون؟ {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37] ينظرون إلى الكتاب! ما بال الكتاب؟ حتى النظرة ما تركها، حتى الكلمة الضحكة التفكير إذا كان هماً وعزيمةً كل هذا مكتوب: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] إصرارك على النظر صارت كبيرة، أتعرف أن إصرارك على استماع الأغاني كبيرة؟ أتعرف أن الغيبة كبيرة؟ أتعرف أن إصرارك على الذنوب الصغيرة كبيرة عند الله؟ أسمعت أن الكلمة يهوي بها صاحبها في النار سبعين سنة؟ ما بالك بالكلمتين؟ ما بالك بالثلاث الكلمات؟ ما أرحم الله وما أجوده! لكن نلوم أنفسنا على تقصيرنا.(48/18)
ادع إلى الله وإن كنت مذنباً
وهناك شبهة أظنها قد وردت على بعضنا: كيف أدعو إلى الله، وكيف أصلح الناس ولا زلت مقصراً، ولا زلت أعاود الذنب وأصر عليه؟ إن بيني وبين الله ذنوباً ومعاصي، كيف أدعو غيري؟
أخبرك أخي العزيز: إن فعل المعصية ذنب، وترك الدعوة إلى الله ذنب آخر، فلا تجني على نفسك ذنبين، اكتفِ بذنبٍ واحد وحاول وجاهد نفسك أن تتركه، ولا تجمع على نفسك ذنبين:
ولو لم يعظ في الناس من هو مذنبٌ فمن يعظ العاصين بعد محمدِ
كلنا مذنب لو قال المذنبون: لا ندعوا إلى الله، فمن يدعو إلى الله؟ فجاهد نفسك على ترك الذنب والمعصية.
إن أول طريقٍ لترك الذنب والمعصية: أن تبتعد عن أسبابها، لا تقل: أستغفر الله وأنت لا زلت تحمل الدخان في جيبك.
لا تقل: أستغفر الله، ولا زلت تذهب إلى أماكن الزنا والخنا.
لا تقل: أستغفر الله، ولا زلت تحتفظ بالصور وبالأرقام وبالأسماء والمواعيد.
لا تقل: أستغفر الله، ولا زلت مصراً على الذنوب والمعاصي: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].
اعزم على ترك الذنب والمعصية، فإن عدت إليها فاندم وأقلع عنها، واعزم على عدم العودة لها، فإن غلبتك شهوتك ورجعت إليها فاندم وليتكسر القلب، وانطرح بين يدي الله، وابكِ من خشية الله، واعزم على عدم العودة إلى الذنب وإن غلبتك شهوتك، يقول الله جل وعلا في الحديث القدسي: (أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قال: أي رب! اغفر لي، قال الله عزَّ وجلَّ: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت له، ثم عاد فأذنب -لا إله إلا الله! قبل أسبوع تبت إلى الله وعاهدت الله، لكني عدت الآن إلى الذنب، أنا لا أدري- ثم قال: يا رب! اغفرلي، فقال الله عزَّ وجلَّ: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، -أي: يرحم ويأخذ بالذنب- قد غفرت له، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب! اغفر لي، فقال الله عزَّ وجلَّ: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، عبدي! اعمل ما شئت قد غفرت لك) أي: لو كنت كلما أذنبت ندمت، وتكسر قلبك، وخشعت ولجأت بين يدي الله، وعزمت على ألا تعود، ثم أتبعتها بالحسنات وبالصالحات، ثم غلبتك شهوتك وعدت وكنت على هذا الحال، اعمل ما شئت فإن الله عزَّ وجلَّ قد غفر لك.
أقول هذا القول، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(48/19)
الأسئلة
.(48/20)
قبول التوبة ولو تكرر الذنب
السؤال
إذا تاب العبد ثم أذنب، ثم تاب ثم أذنب، فهل التوبة الأولى مقبولة أم لا؟
الجواب
إذا حقق شروط التوبة ندم، وعزم على ألا يعود، وأقلع، ثم بعد فترة غلبته شهوته ورجع فإن التوبة الأولى مقبولة، وذنبك الآخر يحتاج إلى توبة أخرى، فإذا حققت الشروط قَبِل الله التوبة، ولا عليك، واعزم على ألا تعود، وكن صادقاً، لا تعزم على أن تعود وأنت تقترب من المعاصي، واعزم على ألا تعود بأن تقطع جميع الأسباب، فإن رجعت فاعلم أن الله كان بالأوابين -أي: الرجاعين- غفوراً، والله أعلم.(48/21)
أهمية حضور القلب عند سماع القرآن
السؤال
نحن نسمع القرآن من بعض القراء فنخشع، ونسمع من البعض الآخر فلا نخشع، فما هو السبب؟
الجواب
أولاً يا إخواني: المصيبة ليست في قراءة القرآن، القرآن قراؤه كثير ألم تصل العشاء؟ لقد قرأ الإمام فهل تذكر ماذا قرأ؟ كم صلاة صليتها وأنت لا تعرف ماذا قرأ الإمام؟ إنه يقرأ كلام الله، سواء سُمِعَ مني أو من غيري، لكن يحتاج الكلام إلى قلبٍ يستمع قلبٍ حاضر {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق:37] القضية هي القلب {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37].
أما الواحد منا -والله- لو يسمع رسول الله يقرأ عليه القرآن والقلب غافل ما استفاد منه، وإذا استمع من طفل صغير والقلب حاضر -والله- لخشع القلب، ألم يسمع عليه الصلاة والسلام من جبريل؟ ومع هذا طلب من ابن مسعود قال: (اقرأ علي، قال: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: اقرأ علي فإني أحب أن أسمعه من غيري، فأخذ يقرأ من سورة النساء فوصل إلى قول الله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41]-أي: يوم القيامة- يقول ابن مسعود: نظرت وإذا عيناه تذرفان) يبكي.
ما الفرق بين قلوبنا وقلوبهم؟
يقول عليه الصلاة والسلام عن أبي بكر: (مروه فليصل بالناس، فتقول ابنته عائشة: إنه رجل أسيف لا يتحمل، إذا قرأ بكى).
هل كل الناس هكذا؟ متى آخر مرة بكيت وأنت تقرأ القرآن؟ متى آخر مرة خلوت بنفسك وذكرت الله وبكيت؟
صلى عمر ذات يوم بالناس، ولما وصل إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86] فإذا به يبكي حتى سمع نشيجه من وراء الصفوف، وكان قبل سنوات يدفن ابنته حية في الرمال، أما الآن فها هو يبكي فانظر إلى القلب الحي!
انظر إلى غيره! بعض السلف قرأ قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ} [الأنعام:27] فتوقف، فنظروا إليه فإذا هو قد مات، لم يتحمل هذه الآية.
قام عمر بن عبد العزيز يصلي وحده في الليل -إن العبد أمام الناس قد يبكي، أما إن كان وحده، فهنا تكون العبرة، وهنا يكون الإخلاص (ورجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) - قام يصلي وإذا به يقرأ، سورة القارعة -كم مرة قرأناها؟ كم مرة تلوناها؟ - {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة:1 - 5] فإذا به يبكي ويبكي حتى خرَّ على الأرض صريعاً، ثم قام من بكائه يتجول في الغرفة، وهو يقول: [ويل لي من يوم يكون الناس فيه كالفراش المبثوث] أتعرف من هو؟ لقد أمضى ليله صلاة، ونهاره صياماً وعبادة وذكراً وجهاداً في سبيل الله، وهو يبكي ويخاف على نفسه، فماذا نكون نحن أيها الإخوة؟! (مر عليه الصلاة والسلام في الليل على الناس، فإذا به يسمع امرأة تقرأ وتردد: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] وهي تبكي، فيقول عليه الصلاة والسلام: نعم أتاني، نعم أتاني، ويبكي معها عليه الصلاة والسلام) هل كنا مثلهم أيها الإخوة؟!
يقول أحدهم لصاحبه: اقرأ، فيقرأ له قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح:1 - 3] ينظر إليه فإذا به يبكي كما يبكي الصبي، يقول: هذا فعل برسول الله ذنبه أنقض ظهره فكيف بذنوبنا نحن؟
وأي ذنبٍ فعله رسول الله؟ إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله فيه: {الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح:3] وزره وذنبه، فكيف نكون نحن أيها الإخوة الأعزاء؟!
يعرف الواحد منا عندما يقرأ القرآن كيف يقرأ؟ {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] آية واحدة تفتح أن تفك قلبك، وترجعك إلى الله، آية لو تنزلت على الجبال الصم لتصدعت، فما بال قلبك؟
القضية أنه لا يوجد تدبر، ولا خشوع ولا تفكر، القلب منشغلٌ بالدنيا، فلا يأبه بكلام الله ولا يستفيد ولا يخشع ولا يلين، هذه القضية ليست قضية فلان يقرأ أو فلان لا يقرأ، وإن كان سبباً ضعيفاً، لكن السبب الأقوى والأعظم هو قلبك أخي العزيز: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37].
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه أجمعين.(48/22)
فراغك قبل شغلك
إن الواجب على المسلم أن يستغل وقته فيما يرضي الله عز وجل، فلا يمضي عليه يوم إلا وقد قدم فيه عملاً صالحاً ينفعه في قبره، ومن أعظم الأمور التي يستغل بها المسلم وقته العبادات، وطلب العلم، والدعوة إلى الله عز وجل.(49/1)
قيمة الوقت وأهميته
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
عنوان هذه المحاضرة: فراغك قبل شغلك وهو عنوان واضح لا يحتاج إلى بيان، وهذه المحاضرة انطلاقاً من قوله صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس) هذا الفراغ الذي تمر به -أيها الأخ الكريم- لعلك تستغل فيه ساعة في طاعة الله جل وعلا، وما تدري؟ لعله يقال لك بعد سماعك لهذا الحديث، أو حضورك لهذا المجلس: (قوموا مغفوراً لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات).
يروى أن أبا جعفر محمد بن جرير الطبري قال لتلاميذه: هل تنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم سيكون ورقة؟ -لأنهم يعلمون حماسه في العلم- قال: سيكون نحواً من ثلاثين ألف ورقة.
فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه.
سيذهب العمر ونموت وما انتهينا من هذا الدرس، فاختصره في ثلاثة آلاف ورقة، ثم بعد أن انتهى قال لهم: أتنشطون في كتابة التاريخ من عصر آدم إلى يومنا هذا؟ قالوا: في كم؟ قال: في ثلاثين ألف ورقة قالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه فاختصره في نحو من ثلاثة آلاف ورقة، ثم قال: إنا لله ماتت الهمم! يكتبون التفسير في ثلاثة آلاف ورقة وكذلك تاريخ العالم! ومع هذا يقول: إنا لله ماتت الهمم! كيف لو عاش أبو جعفر في هذا الزمن ماذا سيقول؟ يحضر الدرس الأول مائة، ثم الدرس الثاني تسعون، ثم ثمانون، ولا يزالون يتناقصون حتى لا يبقى إلا عشرة طلاب بين شيخهم، ويقولون: هلا عجلت في هذا الدرس؟ وهلا انتهيت منه؟
يقول الله جل وعلا: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} [المؤمنون:115] أحسب أن الله خلقنا عبثاً؟! لأجل أن نبدأ اليوم في عمل، ثم نمسي آخر النهار أو منتصف النهار ثم ننام، ثم نستيقظ لنشرب الشاي والقهوة إلى غروب الشمس، ثم لما تغرب الشمس الصفق بالأسواق، ثم نرجع بعد العشاء لنلهو مع الأهل والأولاد، ثم ننام على تلفاز، ثم نستيقظ على عمل! أتظن أن الله خلقنا لهذا؟! تعالى الله عما يظن كثير من الناس، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} [المؤمنون:115] بل إنما خلقنا لغاية أعظم وأكبر من هذا، ولو أنه خلقنا من أجل أن نأكل ونشرب ونلهو ونلعب وننكح ونلد فقط، لخلقنا جنساً من الحيوانات، فهي تأكل وتشرب، وتبني البيوت وتؤسسها، وتنكح وتنجب، وتعيش كما يعيش أكثر البشر، إن هذا عبث يتنزه الله عنه {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون:115 - 116].
أخي العزيز: إن الوقت هو الحياة، فحياتك وقتك، وكلما مر عليك يوم ذهب جزء من حياتك.
الوقت أنفس ما عنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع
قال بعضهم في تعريف العمر: يا ابن آدم! إنما أنت أيام، إذا ذهب يوم ذهب بعضك.
وكل يوم يمر يأخذ بعضي يورث القلب حسرة ثم يمضي
وقال عليه الصلاة والسلام: (اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وفراغك قبل شغلك) أخي العزيز: أنت اليوم تشعر بفراغ، وعندك بعض الفراغ، وسوف يأتي عليك يوم: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37] سوف يأتي يوم لك فيه شأن وشغل يغنيك عن الآخرين.
قيل لـ سفيان: إنما أنت أيام معدودة، فإذا ذهب يومك ذهب بعضك، ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل، وأنت تعلم فاعمل لهذا اليوم.
هذا أبو الوفاء بن عقيل؛ عالم من علماء الحنابلة، يقول: والله لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري! ولو عاش بيننا ماذا سيقول؟ المسألة ليست مسألة ساعة ولا ساعتين، بل عشرات الساعات تضيع بين الفينة والأخرى، وبين مجلس وآخر، وبين حادثة عن فلان وحادثة عن علان، وأحاديث في الدنيا.
ماذا سيقول ابن عقيل لو عاش بيننا؟ وهو الذي يقول: والله لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري.
وقد ألف كتاباً اسمه الفنون، وهو يقع في ثمانمائة مجلد، لو وضعتها في بيتك لامتلأت مكتبتك، وابن القيم ألف كتاباً سماه زاد المعاد، هذا الكتاب الآن عمدة لكثير من الناس في السيرة والتاريخ والفقه يرجع إليه كثير من أهل العلم وطلبة العلم، سماه زاد المعاد وهو مكون من خمس مجلدات، يزيد أو ينقص بحسب الطبعات، لقد ألفه وهو في السفر على الراحلة!! هؤلاء كان لهم هم، وعندهم هدف من حياتهم، يعيشون لغاية، أما أكثر الناس في هذا الزمن، تسأله: لم تعيش؟ فيقول لك: لا أدري
يا أخي! لماذا أنت حي؟ لماذا تأكل وتشرب وتبقي على صحتك وجسمك؟ يقول: لا أدري، أعيش من أجل أن أعيش، وآكل وأشرب من أجل أن أعيش.
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري!
ولماذا لست أدري؟ لست أدري!
ما يدري لماذا يعيش؟ وأين المصير؟ ولمَ خلقه الله جل وعلا؟ شيخ الإسلام ابن تيمية، الذي ما ولدت النساء مثله، هذا الرجل ألف كتاباً بطلب من قضاة واسط، سماه العقيدة الواسطية، وهو الآن عمدة لطلبة العلم في العقيدة، ويدرس في الدورات العلمية ولطلبة الجامعات الإٍسلامية، ولا يتخرجون إلا بعد أن يتموا هذا الكتاب، ويختبرون فيه، أتعرف كم جلس يؤلف هذا الكتاب؟ لقد ألفه في جلسة بين صلاة العصر والمغرب! أرأيت إلى بركة الوقت عندهم وحرصهم على العلم؟! {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116].
شيخ الإسلام ابن تيمية كان طالباً صغيراً، وسمع به العلماء فجاءه عالم إلى دمشق، يسأل عن هذا الطفل الصغير النابغة الذي تميز في صغره، فقال لأهل بلده: أين هذا الشباب الذي يسمى أحمد؟ قالوا: تقصد ابن تيمية قال: نعم.
قالوا: ماذا تريد منه؟ قال: سمعت أن له شأناً في العلم، فأريد أن أختبره -شيخ يريد أن يختبر هذا الصبي- فقال له البائع الذي سئل: اجلس وسوف يمر إلى الكتاب من هذا الطريق.
وبعد قليل مر صبي صغير بيده لوح يحمله، فقال البائع للشيخ: هذا صاحبك، هذا الذي تبحث عنه.
فناداه الشيخ فلما جاءه قال له: أنت أحمد بن تيمية؟ قال: نعم.
قال أعطني لوحك، فأخذ الشيخ اللوح، فكتب فيه بضعة عشر حديثاً، ثم قال: اقرأ.
فقرأ بأحسن ما يكون، ثم قال: هات اللوح، فأخذ اللوح ومسحها وقال: أعد ما قرأته، فقرأها شيخ الإسلام مرتبة كما قرأها من قبل، لم ينقص حرفاً واحداً، فعجب الشيخ منه، وعلم أن له شأناً ليس كالصبيان، وعقلاً ليس كالعقول، وكأن الله عز وجل أراد أن يجدد للأمة دينها بهذا الصبي ثم أخذ اللوح مرة أخرى وكتب أسانيد: حدثنا فلان، قال: حدثنا فلان، عن فلان، إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بضعة عشر سنداً، وقال: اقرأ، فقرأه كأحسن ما يكون، ثم مسحها وقال: أعدها عليّ.
فأعادها ولم ينقص منها حرفاً أعرفت كيف كانوا يحفظون أوقاتهم؟!
أخي العزيز!
إذا كنت أعلم علماً يقيناً بأن جميع حياتي كساعة
فلم لا أكون ضنينا بها وأجعلها في صلاح وطاعة(49/2)
وسائل استغلال الوقت
بعد هذا كله لك أن تسأل وتقول: يا شيخ! عرفنا أهمية الوقت، وانتبهنا لعظم هذه الحياة، وأن كل دقيقة وكل لحظة، وكل ساعة سوف يسألنا الله عنها حين نقف بين يديه (لن تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع منها: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه) بعد هذا سوف تسألني وتقول: كيف أستغل وقتي؟ وبماذا أحفظ وقتي؟
اسمع إلى هذا الحديث، فربما تسمع نصيحة، وتكتشف أنك تستطيع أن تمضي بها وقتك، وربما تتحمس بعد هذا الدرس وتنظم وقتك وتستغله في طاعة الله جل وعلا.
إن الطلاب في هذه الأيام في اختبارات ولا يضيعون ساعة بل لا يضيعون دقيقة واحدة، وأعرف أن بعض الطلاب لا ينام إلا أربع ساعات فقط، وبعضهم حتى على وجبة الطعام وهو واضع الكتاب عنده؛ لأنه يعرف قيمة الوقت الآن، لماذا؟ لأن عنده هدفأً، وهدفه أن ينجح ويتفوق ويحصل على أعلى الدرجات، ويتخرج من الدراسة.
والبعض إذا كان عنده هدف، مثل أن يشتري بيتاً أو يؤثثه، يعمل الليل والنهار حتى يجمع الريال بعد الريال والدرهم والدينار، من أجل أن يبني هذا البيت؛ لأن عنده هدفاً إذاً: اجعل لك هدفاً يا عبد الله! فسوف تستطيع بعدها أن تستغل وقتك.
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان
كلما دق قلبك علمت أن كل دقة تقربك إلى القبر، وكل دقة تنقص من عمرك، حتى هذه اللحظات سوف يسألك الله عز وجل عنها.(49/3)
العبادات
من الأمور التي تستغل بها وقتك: العبادات.
أن تعبد الله جل وعلا: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8].
السلف كان الواحد منهم يقضي الليل في القيام والنهار في الصيام، فهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه الخليفة الراشد، الذي اشترى الجنة ثلاث مرات يروى أنه كان يختم القرآن كل ليلة قد تقول لي: خالف السنة.
أقول لك: أين نحن من السنة؟ تسأل بعضهم: من رمضان إلى اليوم كم مرة ختمت القرآن؟ يقول: ولا مرة، إنا لله وإنا إليه راجعون! متى قمت الليل؟ يقول: من الشهر الماضي أو من الشهر الذي قبله، قمت الليل مرة، وقبل النوم أما الأولون: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17] كان نومهم قليلاً، أتعرف ماذا يفعلون في الليل؟ {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18] عبادة وصلاة، كان ابن عمر يصلي في الليل وعنده نافع مولاه، فإذا سلم من صلاته يسأل مولاه: أسحرنا؟ أي: أجاء السحر؟ فيقول: لا.
فيكبر ويصلي، ثم يسأله، فإذا قال له نعم.
جلس يستغفر الله حتى طلوع الفجر.
وكان بعضهم إذا صلى العشاء وضع له حصير في المسجد ينام عليه بعد صلاة العشاء، ثم يقوم يتوضأ ويصلي، فإذا صلى وغلبته عيناه أخذ غفوة مرة أخرى -ينام كنومة الطير- ثم يقوم ويتوضأ ويصلي، فإذا نعس نام مرة ثالثة، وهكذا يقوم وينام، ويقوم وينام حتى طلوع الفجر {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [لسجدة:16].
وكان عمر بن عبد العزيز كل ليلة يجتمع حوله أهل العلم أمير المؤمنين! يحكم الدنيا بأجمعها، دولة الإسلام تحكم المشرق والمغرب، تحته الجيوش ويملك الأموال، وكل ليلة يجتمع عنده العلماء والفقهاء والوعاظ والزهاد، فيذكرونه بالآخرة، فيبكي ويبكون معه كأن جنازة بين أيديهم.
عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه بالخد أجراه
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياه
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه
أين أنت من العبادات؟ كم ضيعنا من ليالي؟
إن بعض الناس يقول: يا شيخ! أحس بوحشة، أحس بضيق، أحس بظلام في قلبي، أقول له: هل تصلي في الليل؟ هل تقوم ركعات ينور الله لك قلبك، ويشفي لك صدرك؟ قم الليل يا أخي العزيز! {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:1 - 5].
يدخل بلال على النبي صلى الله عليه وسلم فيرى اجتهاده في قيام الليل وتفطر قدميه، فيقول: (يا رسول الله! تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر! فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً؟ قد أنزلت عليّ الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:190 - 191]) إن كان قائماً فهو يذكر الله، وإن كان قاعداً فهو يذكر الله، وإن كان على جنبه فهو يذكر الله، لسانه رطب من ذكر الله، ويتفكرون في خلق السموات والأرض، فاللسان منشغل بالذكر، والقلب والعقل منشغلان بالفكر، يتفكران في خلق السموات والأرض: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191].
بكى من أجلها صلى الله عليه وسلم، وكان عنده عائشة سيدة النساء رضي الله عنها، فقالت: (تفعل هذا وقد غفر الله ذنبك؟ فيقول: يا عائشة! دعيني أتعبد لربي، يا عائشة! أفلا أكون عبداً شكوراً) يربيها عليه الصلاة والسلام، حتى كانت يوماً من الأيام تردد آية من الصباح إلى منتصف النهار، آية واحدة ترددها عائشة وتبكي وتصلي: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27].
هل فكرت أن تشغل وقتك بطاعة الله؟ بالعبادة وفي الذكر وقراءة القرآن؟
إن العبادة أوسع من هذا، فهل فكرت في عيادة المرضى؟ هل فكرت في اتباع الجنائز؟ هل فكرت في زيارة المقابر؟ هل فكرت في صلة الأرحام؟ هل فكرت في بر الوالدين.
كان النبي عليه الصلاة والسلام ذات يوم بين أصحابه، وفيهم رجل كبير قد جاوز الستين من العمر، وقد اشتغل رأسه شيباً، إنه الصديق، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (من أصبح منكم اليوم صائماً؟ -وأنا أسأل هذا السؤال وأجبني بنفسك: من أصبح اليوم منكم صائماً؟ - قال أبو بكر: أنا يا رسول الله! -ليس مجال إخلاص ورياء، الآن لا بد أن يجيب، متى صمت لله تطوعاً؟ متى يا أخي الكريم؟ - من أطعم اليوم منكم مسكيناً؟ فقال أبو بكر: أنا يا رسول الله! فقال: من عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا يا رسول الله! ثم قال: من اتبع اليوم منكم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده ما اجتمعن في مؤمن إلا وجبت له الجنة) ولو زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لزاد أبو بكر.
إنه أبو بكر الذي عندما سمع أن للجنة ثمانية أبواب، ما رضي أن يدعى من باب أو بابين، ما رضي إلا أن يدعى من ثمانية أبواب، فقال: (يا رسول الله! ما على من يدعى من تلك الأبواب من ضرورة؟ قال: نعم يا أبا بكر! وإني لأرجو الله أن تكون منهم) هل فكرت أن تكون مثل أبي بكر؟ متى عدت المرضى؟ ليسوا بأقرباء لك ولا أرحاماً، مسلمون لا تعرفهم ولا يعرفونك، تأتي وتزورهم في أول اليوم أو في آخره، هل فكرت في هذا؟ فإنه يستغفر لك سبعون ألف ملك حتى تمسي، وإذا زرت مريضاً في المساء يستغفر لك سبعون ألف ملك حتى تصبح.
أخي العزيز: هل فكرت أن تزور المقابر؟ هل فكرت أن تتبع الجنائز؟ وأن تصل الأرحام؟ يقول عمر: صليت الفجر فإذا بـ أبي بكر يخرج من المسجد، وكل يوم أصلي وإذا به يخرج من المسجد، ولا أدري إلى أين يذهب هذا الرجل -وكانا يتنافسان، وهذا في خلافة أبي بكر - يقول: فتبعته يوماً -انظر إلى الذين يعرفون كيف يحفظون أعمارهم- قال: تبعته فرأيته يدخل كوخاً في ناحية المدينة، -بيت قديم- فلما خرج، جئت إلى هذا البيت وطرقت الباب، واستأذنت ودخلت، فإذا في البيت امرأة عجوز كبيرة حسيرة كسيرة، لا تستطيع المشي، فسلمت عليها، وقلت لها: يرحمك الله! من هذا الرجل الذي يدخل عليك كل يوم؟ -خليفة رسول الله، أمير المؤمنين- قالت المرأة العجوز: والله لا أعرفه.
قال عمر: ما يصنع عندك كل يوم؟ قالت: يأتيني كل يوم يصنع طعامنا، ويكنس بيتنا، ويغسل ثيابنا، ويحلب شياهنا، ثم يتركنا.
فلما سمع عمر هذه الكلمات، بكى وخر على ركبتيه وهو يبكي ويقول: لقد أتعبت الخلفاء من بعدك يا أبا بكر، لقد أتعبت الخلفاء من بعدك يا أبا بكر.
{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10 - 11].
هل سمعنا أن أبا بكر أسس قصراً؟ أو أثث أثاثاً فخماً وثرياً؟ أو جمع ثروة؟ لا والله.
إن أبا بكر أول هذه الأمة دخولاً الجنة، وينادى من ثمانية أبواب، أتعرف لماذا؟ لأن أبا بكر عرف كيف يحفظ وقته من الصباح إلى المساء، لا ينسى امرأة عجوزاً ولا طفلاً صغيراً ولا يتيماً ولا مسكيناً، لقد عرف كيف يعود المرضى، وكيف يصوم لله تطوعاً، وكيف يتصدق من ماله، وكيف يقوم الليل، حتى قالت عائشة لما أمرها النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس.
قالت: إن أبا بكر رجل أسيف) أي: إذا كبر واستفتح الفاتحة بكى، نعم.
إنه رجل في الليل قوَّام، وفي النهار صوَّام، وفي الجهاد قاتل المرتدين لوحده، وهو يقول للصحابة: [والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه] ولعله جاوز الستين من العمر، وما بقي من حياته إلا سنة أو سنتين.
هكذا عرفوا كيف يحفظون أوقاتهم.
تقول لي بعد هذا: يا شيخ! عندي أوقات كثيرة فارغة لا أعرف ماذا أعمل فيها!! أقول لك: يا أخي العزيز! لم تعرف حقيقة العبادة، فليست العبادة صلوات فقط، وليست قيام ليل فقط، العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، ولو كانت زيارة مقابر، أو عيادة مرضى، أو إطعام مسكين، أو كفالة يتيم، أو دعوة إلى الله جل وعلا، فكل شيء يحبه الله جل وعلا فهو عبادة، فحاول أن تكتشف أين الخلل في حياتك فتسده في طاعة الله.(49/4)
طلب العلم وفضله
ثانياً: استغل وقتك وعمرك في طلب العلم.
يروى عن أحد السلف: أنه ذكر الله وهو ابن ثلاث سنين، وأنا لم أستغرب هذا؛ لأنني أعلم أنه في هذا العصر صغار سن، عمرهم سنتان، يحفظون بعض قصار السور، وسمعنا في هذا العصر من ختم القرآن وعمره سبع سنين، أرأيت كيف حفظوا أعمارهم في طلب العلم؟ تقول لي: لماذا يحفظ القرآن هذا؟ هذا يحفظ القرآن حتى ينادى بين الملأ يوم القيامة فيقال له: يا فلان، أتحفظ شيئاً من القرآن؟ فيقول: نعم يا رب! فيقال له يوم القيامة: (اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها) يقرأ القرآن بين الملأ، ويرتل بين الناس، ويرفعه الله درجات في الجنة.
أخي العزيز: هنالك يندم النادمون المفرطون: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56] يا حسرتى على ما ضيعت من عمري في الأسبوع الماضي جلست مع شباب صغار في السن، أحثهم على حفظ القرآن الكريم، وأخبرتهم بفضل الاجتهاد في حفظ القرآن الكريم وفضله، فما مرت خمسة أيام إلا وأحدهم حفظ جزءاً كاملاً من القرآن، الجزء الأول من سورة البقرة ختمه حفظاً مجوداً في خمسة أيام! بل أعرف رجلاً عنده أولاد، وعنده أعمال، ومتزوج في نصف عمره، حفظ خمسة أجزاء في شهر واحد! قد تقول لي: ذاكرتي ضعيفة، لا يا أخي العزيز! ليست القضية قضية الذاكرة، القضية ضياع للأوقات، وضياع للأعمار صغار في السن حفظوا القرآن كاملاً! وأعرف أحدهم لم يدخل الثانوية إلا بعد أن ختم القرآن حفظاً، وكلما آتيه وأقول له: ماذا حفظت بعد القرآن؟ يقول: مائة من الأحاديث النبوية وهكذا {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].
أتظن أن صاحب العلم والجاهل يوم القيامة سواء؟ كلا وربي! لا يستوي هذا مع هذا، يقول عليه الصلاة والسلام: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم) كفضل الرسول عليه الصلاة والسلام على أدنى الصحابة، فكيف لو جمع بين الأمرين العلم والعبادة؟ فإن العلم يراد به العبادة، وقد قيل للإمام أحمد: إن فلاناً علمه قليل، جُل وقته قيام ليل وقراءة قرآن وذكر.
فقال: وهل يراد العلم إلا من أجل هذا، نحن لماذا نتعلم؟ حتى نخاف من الله، فإن العلم الخشية: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] وكلما ارتقيت في العلم كلما خشيت الله جل وعلا.
أعرف شاباً -ولعلك لا تصدق هذه الأخبار- حفظ جزءاً كاملاً في يوم واحد قد تقول: ليست هذه ذاكرة بشر؟ أقول لك: هذه ذاكرة بشر، ولكن القلب مفرغ من الدنيا، والوقت مفرغ لله جل وعلا كان في الحرم عند الكعبة، فجلس من الفجر إلى الليل حتى حفظ جزءاً كاملاً من القرآن الكريم بإتقان.
أخي العزيز: هلا عاهدت ربك في هذه العطلة، وفي هذه الشهور والأيام أن تحفظ نصف القرآن، قد تقول: حفظ عشرة أجزاء صعب ومستحيل أقول لك: اقسمها على هذه العطلة، فاحفظ خمسة أجزاء في سنة كاملة، فستختم القرآن خلال ست سنوات، هل فكرت في هذا؟ هل عاهدت ربك؟ يقال: أن امرأة جاوزت الستين من عمرها -وكلما كبر عمر الإنسان قل حفظه- أُخبرت عن فضل حفظ القرآن فحفظته عن ظهر قلب!! ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضىً بما يصنع).
قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] أول الدين العلم، قال البخاري: باب: العلم قبل القول والعمل.
والنصارى لم يضلوا إلا لجهلهم، فقد عبدوا الله على جهل وبدع وضلال، قال الله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27].
يا أخي العزيز! هل فكرت في هذه العطلة الصيفية أن تقرأ رياض الصالحين وتحفظ أحاديثه وتقرأ معناه وشرحه؟ هل فكرت أن تقرأ تفسيراً واحداً لكتاب الله جل وعلا؟ هل فكرت في العطلة الصيفية أن تقرأ كتاباً ولو كان مختصراً؟ هل تصدقون أن بعض المسلمين لو سألته: ما أقصر سورة في القرآن؟ لقال: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] تقول له: أحسنت، فما تفسيرها؟ لقال: الله أعلم.
ما سبب نزولها؟ لا أدري، لا أدري، لكنك لو سألته عن بعض أنواع السيارات، وعن موديلاتها، وعن أحجامها، لجاءك بتقرير كامل، ولملأ عليك المجلس، ولو سألته عن بعض علوم الدنيا التي لا تنفع لجاءك بالتقارير والأخبار، والله المستعان!
وبعض المسلمين لو أخطأ في الصلاة لما عرف كيف يتم صلاته، يأتيني بعض الناس ويقول: فعلت كذا وكذا في الصلاة، ثم سجدت للسهو.
فأقول: إنا الله وإنا إليه راجعون، يا فلان أعد صلاتك فالصلاة باطلة، وليس كل خطأ ينفع فيه سجود السهو، وليس كل خطأ يحتاج معه إلى سجود السهو.
وبعض الناس يقول: أخطأت في الصلاة، فقطعتها وأعدتها مرة ثانية.
لم يا أخي؟ لمَ تبطل عملك؟ كان يكفيك لو سجدت سجدتين قبل السلام أو بعدها، لكنه لا يدري ماذا يفعل.
كثير من المسلمين حتى الطهارة يسأل عنها، يأتيني سؤال من رجل من المسلمين متزوج وله أولاد، يقول: يا شيخ، هل صحيح أن الرجل إذا جامع زوجته ولم ينزل الماء عليه غسل؟ أقول له: نعم.
يقول: والله يا شيخ أنا منذ عشرين سنة أجامع الزوجة وإذا ما أنزلت لا أغتسل.
إنا لله وإنا إليه راجعون! أنت على جنابة إلى اليوم، ما تعرف الغسل! ما تعرف أحكام الطهارة! ما سبب هذا الجهل؟ إنه ضياع الأوقات، فقد ضاعت في القيل والقال، وضاعت في الدينار والدرهم، وفي أسعار العملات، وفي أخبار فلان وأخبار علان، وضاعت في نوم زائد عن الحاجة، وفي التجول في الأسواق، وفي أخبار الدنيا.
اسمع -يا أخي العزيز- إلى العلم كيف يرفع أهله، وجاهد نفسك لا تقل: كبرت في السن، بعض العلماء بدأ في طلب العلم بعد أربعين سنة، وصار عالماً من العلماء، فلا تقل: فاتني القطار، ولا تقل: ليس عندي وقت، ولا تقل: لا أصلح للعلم، إياك وشبهات الشيطان وحبائله!
يقول الأعمش -وهو أحد العلماء- لولا العلم والقرآن وتفسيره، لكنت بقالاً يقذرني الناس أن يشتروا مني.
لكن ماذا صار؟ صار الناس يجلسون عند رجليه، ويطلبون كلمة تخرج من لسانه لكي يكتبوها عنه.
وهذا عطاء بن أبي رباح، كان عبداً لامرأة من أهل مكة، يباع ويشترى، وكان قبيح الوجه كأن أنفه باقلاً، وهو فقير مملوك، لكنه لما طلب العلم صار المرجع الأول في مكة للفتوى، حتى الملوك والأمراء إذا جاءوا إلى مكة في الحج يستفتونه، وكان بعض الأمراء يجلس عنده، وما يتجرأ أن يسأله سؤالاً حتى يأذن له، فإذا تنحنح علموا أنه الآن يسمح بالسؤال، فيسأله الأمير ويقول: فعلت كذا وكذا ما حكم حجي؟ أو ماذا أصنع؟ فيجيبه ذلك الرجل الذي كان مملوكاً، فصار يرجع إليه في الفتوى في مكة كلها إنه العلم!
وهذا أبو معاوية الضرير، أحد العلماء الذين ذهبت أبصارهم، ولم تذهب بصيرتهم، في يوم من الأيام دعاه هارون الرشيد للغداء وبعد أن دعاه للغداء -ومن المعلوم أن الأعمى بعد أن يأكل يصب على يديه الماء، لأنه لا يستطيع أن يغسل يديه، فصب على يديه الماء في مجلس الخليفة هارون الرشيد - فقال له هارون: يا أبا معاوية أتعرف من الذي يصب عليك الماء؟ قال: لا يا أمير المؤمنين! قال الخليفة: أنا الذي أصب على يديك الماء، قال: لِمَ؟ قال: إجلالاً للعلم الذي في صدرك.
كيف رفعه الله جل وعلا إلى هذه المكانة؟ إنه بالعلم {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].
يقول عليه الصلاة والسلام: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً -خرج من بيته إلى هذا المسجد من أجل أن يستمع علماً أو يستفيد حديثاً أو حدثين- سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) يا إخواننا ماذا تريدون بعد الجنة؟ أتريدون شيئاً بعد الجنة؟ والله ما نريد شيئاً غيرها، قال صلى الله عليه وسلم للأعرابي: (ماذا تسأل في صلاتك؟ قال: أسأل الله الجنة وأستعيذ به من النار، قال عليه الصلاة والسلام: حولها ندندن) هذا هو ما يطلبه، ولا نريد شيئاً غير الجنة.
إن من أسهل الطرق إلى الجنة طلب العلم، فاطلب العلم، ابدأ بقراءة الكتب، اقرأ القرآن واحفظ بعض الآيات مع تفسيرها، واقرأ الأحاديث مع شرحها، واقرأ بعض الكتب في الفقه، وبعض الكتيبات الصغيرة، واحضر بعض المجالس، وهناك بعض الدورات الشرعية التي تقام فبادر، ولا تقل: أنا كبير في السن، أنا عندي أعمال وأشغال، لا يا أخي وبعض الناس لو طلب منه أن يذهب إلى الخارج للدعوة إلى الله، لقال: عندي الأولاد وعندي الزوجة، لكن لو يدعى إلى دورة لأجل معاشه لذهب ولو لمدة شهرين أو ثلاثة.
يا أخي العزيز! هذا ليس فيه زيادة معاش، هذا فيه زيادة إيمان وتقوى وعلم وبصيرة في الدين، وطاعة لله جل وعلا، وقربى إليه تبارك وتعالى، جند نفسك لمدة شهر أو شهرين في دورة علمية ينفعك الله بها.
خرج هارون الرشيد في يوم من الأيام فتجمع الشرط والأعوان والخدم والحشم والناس حوله، وكان عنده في حائط أو غرفة أو هودج زوجته، وبعد قليل تفرق الناس عنه، تقطعت النعال، وثارت الغبرة، إلى أين؟ إلى رجل آخر، فسألت الزوجة من هذا الذي ذهب الناس وراءه؟ قالوا: هذا عالم خراسان المجاهد عبد الله بن المبارك، المجاهد قدم الرقة.
فقالت زوجة هارون هذا والله هو الملك، لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بالشرط والأعوان هذا هو الملك الحقيقي، والشرف الحقيقي وهذه هي الرفعة الحقيقية يا أخي الكريم.
فأنت إنما تقاس بعلمك، وإذا قيل: فلان جاهل ما عنده علم، فهذه مسبة وشتيمة، ويرتفع الإنسان بالعلم الذي شرفه الله عز وجل به.
إن العلم لا يريد راحة ونوم وأكل وشرب، العلم يريد جهاداً، وصراعاً، العلم يريد منك أن تسهر في الليل، فهذا الإمام البخاري عليه رحمة الله أمير المؤمنين في الحديث -مَن مِن المسلمين ما سمع بـ البخاري؟ إذا ذكر قلنا: رحمه الله، وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين كل خير- كان ينام في الليل، ثم يستيقظ عشرين مرة، ينام ويستيقظ عشرين مرة، أتعرف لماذا؟ كل مرة يستيقظ ليكتب خاطرة خطرت على باله، فائدة علمية وكان عندما يقوم يبدأ فيشعل السراج، والسراج يحتاج إلى زمن حتى يشعله، ثم يضع القلم في المحبرة، ثم يكتب الجملة والجملتين والثلاث، ثم يغلقها ويطفئ السراج، ثم يرجع وينام، وبعد قليل تأتيه خاطرة فيقوم، وربما قام في الليلة الواحدة عشرين مرة إذاً: العلم يحتاج إلى جهاد، ويحتاج إلى أن تضيق على نفسك في النوم
أأبيت سهران الدجى وتبيته نوماً وتبغي بعد ذاك لحاقي
كان هناك سبعة من طلاب العلم في مصر! وكانوا يطلبون العلم من شيخ إلى آخر، ومن عالم إلى آخر، ومن درس إلى آخر، وفي يوم من الأيام اشتهوا سمكة -أرادوا أن يأكلوا السمك، طبيعة الناس يشتهون هذا الطعام- لكن ليس عندهم وقت، وفي يوم من الأيام غاب أحد الشيوخ عن الدرس، لأنه كان مريضاً، فقالوا: هذه فرصتنا نشتري سمكاً فنأكله، فذهبوا واشتروا سمكة نيئة، ثم رجعوا إلى البيت، وقد حضر الدرس الثاني فتركوا السمكة وذهبوا إلى الدرس، وجاء الليل فقاموا ينسخون، كل واحد يطابق نسخته مع أخيه ويقرءون النسخ كلها فيكتبون ما فاتهم، وفي اليوم الثاني خافوا على السمكة أن تنتن وتفسد عليهم، فماذا فعلوا؟ هل فرطوا في درس، أو في مجلس ذكر؟ هل قالوا: نجعل لأنفسنا راحة وإجازة؟ لا.
بل أكلوا السمكة نيئة، نعم.
لأنه ليس عندهم وقت ليشوونها، ونحن لقد ضيعنا الأوقات وضعينا الأعمار ولا حول ولا قوة إلا بالله!
قيل للشعبي: من أين لك كل هذا العلم؟ من أين أتيت بهذا العلم كله؟ فقال: بصدق الاعتماد ما اعتمدت على غيري، والسير في البلاد، أي: سافرت لطلب العلم، ونحن لا نقول لك: سافر، إنما حرك سيارتك لتذهب إلى المنطقة الفلانية، فيها درس من الدروس، احضره في الأسبوع مرة واحدة، أما هذا فإنه كان يسافر على الناقة والدابة، وعلى الأقدام قال: وصبر كصبر الجماد.
هل يشتكي الجماد؟ يقف آلاف السنين ولا يتكلم قال: وبكور كبكور الغراب، يقوم من قبل الفجر يطلب العلم وهكذا كانوا يطلبون العلم.
وهذا ابن الجوزي، كان كل يوم يخرج في الصباح، ويأخذ كسرة خبز يابسة، وبيده الكتب والكراريس، ويذهب عند النهر، يحفظ العلم، ويحفظ الأحاديث، فإذا جاع وضع كسرة الخبز اليابسة في النهر تلين قليلاً فيأكلها ويشرب معها شربة ماء، ويكمل طلبه للعلم يفعل هذا كل يوم، وألف كتباً فيها طب للقلوب، وعلاج لأمراض النفوس.
كيف وصلوا إلى هذا المرتبة من العلم؟ وصلوا بجهاد النفس، مع البذل والاجتهاد.
وعندي خطة لثلاثة أشهر: احفظ خمسة أجزاء من القرآن، واقرأ تفسيراً كاملاً لكتاب الله، واقرأ بعض الأحاديث، واحفظ الأربعين النووية، واقرأ شيئاً في النحو وفي المصطلح والأصول اجعل لك جدولاً, وابدأ بعزيمة واجتهاد أن تختم هذه العلوم وتدرسها إن شاء الله جل وعلا.
أيها الإخوة الكرام: لعلي أطلت في هذا الجانب، جانب طلب العلم والاجتهاد فيه، ولو أكثرت لطال الوقت بنا، ولم نكمل هذا الباب، ولكن حسبك ما سمعت.(49/5)
الدعوة إلى الله تعالى
ثالثاً: الدعوة إلى الله:-
أرعني سمعك، وأعد اجتهادك مرة أخرى لقد قمتَ الليل، وعدتَ مريضاً، وتبعتَ جنازة، وحضرت درساً أو درسين، ولكن لا زال في الوقت متسع؛ فإن الأوقات كثيرة، ومن أعظم ما تشغل به وقتك: الدعوة إلى الله جل وعلا أن تبلغ هذا العلم الذي حصلت عليه، وأن يكون منهج حياتك: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
قد تقول: يا شيخ ليس عندي علم كثير؟ أقول لك: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية) تحفظ آية: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] إذاً: بلغها للناس، فكم من الناس من لا يصلي تحفظ قول الله: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] إذاً: بلغها، فإن كثيراً من النساء لا يتحجبن تحفظ قول الله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278] بلغها للناس، فكم من الناس من يرابي ويتعاطى بالربا!
أخي العزيز: اسمع إلى هذا الرجل: لما سمع أن في أقصى مدينته -في ناحية المدينة- رسل جاءوا يدعون إلى دين الله جل وعلا ويدعون الناس إلى الحق، وكذبهم قومهم، فهل جلس في بيته؟ هل قال: أنا ما عليّ من الناس؟ هل قال: عليكم أنفسكم؟ هل قال: أهم شيء أحفظ ديني وما عليّ من الناس؟ لا.
بل ركض مسرعاً من بيته إلى مكان الكفر بالأنبياء والضلال والإلحاد والجحود، ركض سعياً على قدمه، من أقصى المدينة إلى أقصاها، قال الله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:20 - 21] جاء يقول: يا قوم! توبوا إلى الله جل وعلا، ارجعوا إليه، أنيبوا إليه، فماذا فعلوا به؟ لقد قتلوه بغير ذنب، لأنه دعاهم إلى الله جل وعلا، فلما بعثه الله جل وعلا وأدخله الجنة قال: {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} [يس:26] لا زال حريصاً على قومه، لا زال مشفقاً عليهم بعد أن قتلوه: {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27].
أيها الإخوة: نحن نحتاج إلى دعاة لا قضاة، نحتاج أناساً مشفقين على الناس، رحماء بهم، ينشرون دين الله جل وعلا كما كان ينشره عليه الصلاة والسلام الذي قال الله عنه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] فبلغ دين الله جل وعلا في الطائف، وسافر مشياً على الأقدام حتى أتى إليها، فقال له أحدهم: أما وجد الله غيرك ليبعثك؟! انظروا إلى السخرية، والاستهزاء والتكذيب! وقال الثاني: لو كنت صادقاً فلا أجرؤ على مخاطبتك، وإن كنت كاذباً فأنا أرفع من أن أتكلم وأجيبك.
فخرج وهو يُتبع بالحجارة، وهو أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام، ويضرب ويهان من العبيد والسفهاء والأطفال، فجاءه ملك الجبال وقال: (دعني أطبق عليهم الأخشبين؟ قال: لا.
إني أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً) {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].
إن الدعوة إلى الله لا تريد شيوخاً فقط أو علماء أو دكاترة، لكنها تحتاج إلى صادقين ناطقين، يخرج عشرة ريالات يشتري بها شريطين أو ثلاثة، ويأتي الشارع ويسلم على فلان، ويتعرف عليه، ويهدي إليه هدية لله جل وعلا، ويقول: يا فلان أرجو أن تستمع إلى هذا الشريط هذه الليلة، فربما فتح الله قلبه.
كان هناك بنت لاهية غافلة، ما من أغنية إلا وتستمع إليها، فرجعت إلى بيتها بعد يوم دراسي مسعد، تقول وهي تحدث عن نفسها: اقتربت من البيت، فوقعت قدمي على شريط لا أدري ما هو، فأخذته وكانت تقول في نفسها: ربما يكون الشريط لأحد المطربين الذين سمعتهم أو لم أسمع بهم، تقول: فجئت إلى البيت ووضعت الشريط في المسجل، فإذا رجل يتحدث عن الجنة والنار، والقبر والموت، والدار الآخرة، فسمعت حديثه حتى انتهى، وما انتهى الشريط إلا وفتح الله قلبي وصلح حالي، واهتديت إلى الله، وأنا اليوم أدعو إلى الله جل وعلا من رمى هذا الشريط؟ وهل كان يقصد أن يدعوا إلى الله به؟ أرأيت؟! {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].
وكم من الناس هداهم الله بورقة، أو بشريط، أبو برسالة، أو بدمعة، فهذا شاب داعية إلى الله جل وعلا، شاب صغير هداه الله، ركب في سيارة أخيه الفاسق يوماً من الأيام، وأخوه لاهٍ غافل عن الدين والدار الآخرة، وفي الطريق وضع أخوه شريطاً للغناء، فقال الشاب الصغير: يا أخي أغلق الشريط، إذا لم ترد أن تسمع فاسمع لوحدك، أنا لا أريد أن أسمع.
فقال بغلظة: إذا ما أردت أن تسمع أنزلك من السيارة الآن، فسكت الصبي، لقد أرغمه على سماع الأغاني، وبعد قليل نظر الأخ الكبير إلى أخيه الصغير فإذا هو يبكي، فقال: ما الذي يبكيك؟ قال: أرغمتني على معصية الله جل وعلا.
فأوقف الأخ الكبير السيارة، وأخرج الشريط ورماه من النافذة، ثم أعلن توبته من تلك الدمعة، فرب دمعة تاب على يديها كثير من الناس.
أين الصادقون؟ وأين الناصحون؟ وأين الدعاة إلى الله جل وعلا؟!
والله تعالى يقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] وحديثي للرجال والنساء فهل فكرنا أن ننشئ مجتمعات إسلامية، ومجالس إسلامية، وحلقات ذكر في بعض البيوت؟ هل فكرنا في شارعنا وفي حينا وفي حارتنا؟ هناك رجل لا يصلي، هل فكرنا أن نجعل له زيارة، ونطرق عليه الباب وندعوه إلى الله جل وعلا؟! هل فكرنا أن نأتي محلاً تباع فيه بعض المحرمات، نأتي إلى صاحبه بأسلوب حسن، وبأخلاق كريمة، ونعطيه هدية، وننصحه في الله جل وعلا؟ هل فكرنا في هذا؟
أحد الناس فكر أن يدعو إلى الله جل وعلا، لكن ليس عنده أموال ولا أسلوب، فقال لإخوانه: من منكم عنده مجلات إسلامية قديمة؟ هو لا يريد أن يقرأها، فجمع من فلان وفلان، حتى جمع كراتين من المجلات الإسلامية، فقالوا: يا فلان! ما تريد أن تفعل بها؟ أتعرف ماذا فعل؟ ذهب إلى محلات الحلاقة والمطاعم والصالونات وغيرها، التي فيها مجالس انتظار، وعلى الطاولة مجلات خليعة فاسقة فاجرة، فأخذ هذه المجلات الإسلامية ووزعها على تلك الطاولات ومحلات الانتظار، يقول: ربما يجلس بعض الناس فيتصفحون هذه المجلات، فرب نصيحة تفتح قلوبهم، تأمرهم بمعروف أو تنهاهم عن منكر.
وشاب آخر قال لإخوانه في الله: من منكم عنده أشرطة يتبرع بها لا يريد أن يستمع إليها الآن؟ فأعطاه بعضهم ثلاثة وبعضهم أربعة حتى جمع مجموعة من الأشرطة، ثم جاء إلى بعض الباصات وبعض سيارات النقل والأجرة، فقال: هذه بعض الأشرطة الإسلامية، في حلة طيبة هدية لله جل وعلا، وقال: ربما يركب معكم رجال أو أناس أو بعض من تريدون أن توصلوهم، فربما يفتح الله عز وجل قلوبهم.
أرأيت إلى الإخلاص ماذا يفعل؟! {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت:33].
هم في القلب يؤثر على الجوارح فيجعلك تطرق الأبواب، وتتصل، وترسل رسائل، وتشتري أشرطة توزعها، وكتيبات تنشرها، وتقوم في المساجد تذكرهم بالله جل وعلا، وتأتي إلى المجالس والنوادي، وتنصح الناس لله تعالى، فإن البداية هم في القلب يظهر على اللسان وعلى الجوارح.
أيها الأخ الكريم! أيها الأخ العزيز! أيتها الأخت الفاضلة! إن أوقاتنا محسوبة علينا.
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان
وفي الختام: اعلم أنك عندما تعمل لدين الله جل وعلا وتدعو الناس وتصلح المجتمع، أن الغرب واليهود والنصارى، يعملون ليل نهار، فهم أنشط منا وأحرص منا على إضلال المسلمين وعلى غواية المسلمين، والأمر صراع فمن يسبق؟ {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} [هود:121] هل قال الله: إنا نائمون، إنا منتظرون، إنا جالسون لا.
قال {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ} [هود:121].
إذا عملتم فنحن نعمل، فإذا عملتم الليل والنهار فنحن كذلك نعمل الليل والنهار، نعمل لنشر دين الله جل وعلا {وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} [هود:122].
أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعني وإياكم بما ذكرت إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(49/6)
قضايا تهم المرأة
هذا حديث خاص بالمرأة، يتناول بعض النصائح والإرشادات التي تحتاجها المرأة في حياتها.
فالإسلام الذي كرم المرأة يريد منها أن تدرك الغاية من خلقها، وأن تلتزم بشريعة ربها، وهنا نماذج وقصص لنساء صالحات، تحتاج المرأة أن تطلع على سيرهن وأخبارهن لتقتفي آثارهن.
وهذه المادة تحتوي أيضاً على قصص نساء ضللن وابتعدن عن طريق الله تعالى.(50/1)
المرأة بين الجاهلية والإسلام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
أيتها الأخت الفاضلة، أيتها الأخت الكريمة، عنوان المحاضرة كما سمعتن: قضايا تهم المرأة.
وحديثي إلى المرأة خاصة؛ كيف لا وقد خصص الله جلَّ وعلا سورة كاملة باسم النساء، وجعل لمريم سورة باسمها، كيف لا أخصص حديثاً للمرأة وقد خصص الله جل وعلا لها أحكاماً وأموراً تختص بها عن الرجال كيف لا أخص المرأة بحديث وقد خصها النبي عليه الصلاة والسلام في يوم العيد بخطبة كاملة، فبعد أن حدث الناس جميعاً رجالاً ونساءً جاء إلى النساء وخصص لهن خطبة كيف لا وقد خصص النبي صلى الله عليه وسلم للنساء في بيت أم عطية مجلساً يأتي إليهن ويحدثهن ويعلمهن، وهكذا كنَّ الصحابيات سباقات إلى مثل هذه المجالس وهذه الأحاديث.
اسمعي أختي الكريمة، ولا تقطعي الحديث، وانتظري حتى أتم حديثي، فهي ساعة تمضي من العمر سوف ترينها في صحيفتك إن شاء الله يوم القيامة.
أختي الكريمة: كيف كنت قبل الإسلام؟ وكيف كانت المرأة قبل الإسلام؟
كانت لا تساوي المتاع والأثاث الذي يرمى بعد أن يبلى كانت المرأة منذ أن تخلق على وجه الأرض شؤماً على والديها، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل:58 - 59].
كان الرجل إذا ولدت زوجته بنتاً يتهرب من الناس، يخاف من العار، ويخاف من الفضيحة كانوا يتشاءمون بالنساء، يضربونها، يهينونها، بل كانت المرأة إذا مات زوجها، أو مات أبوها، أو مات أخوها، فإنها لا ترث شيئاً مما تركوا، بل كانت تُورث مثل المتاع ومثل الدراهم.
كان الأب يأخذ ابنته الصغيرة ما أجملها، وما أحسنا! ويطلب من زوجته أن تزينها وتلبسها أحسن الملابس، وأن ترجلها وتغسلها وتطيبها.
ثم يأخذها ويداعبها ويلاعبها، ثم يذهب بها إلى صحراء قاحلة، لا أحد يراه ولا أحد يعلم به إلا الله جلَّ وعلا، فيحفر حفرة، وتحفر البنت معه وتساعد أباها وترق له، كيف يحفر في ذلك الحر الشديد، فتساعد أباها في الحفر وهي تضحك وتلعب معه وتمازحه، وتظن أن أباها سوف يلعب معها.
وبعد أن يكملوا الحفرة، يأتي إلى تلك البنت البريئة، فينزلها في تلك الحفرة المظلمة الموحشة، فتنزل وهي تضحك وتلعب وتداعب أباها، وبعد أن تنزل تقول لأبيها: يا أبي لماذا لا تخرجني الآن؟ يا أبي لماذا لا تعيديني إلى البيت الآن؟ وبعدها ترى أباها يرمي على وجهها التراب، فتضحك أولاً، ثم تمزح ثانياً، ثم تعلم أن الأمر جد، وأن الأمر على عكس ما كانت تتصور، فتنادي أباها، وتستغيث به وتستنجده، تصيح تبكي تولول، ولكن بعد قليل ذهب صوتها، وهدأت روحها، وخرجت نفسها {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9] بأي ذنب قتلت؟ ألأنها بنت؟! بأي ذنب عذبت؟ ألأنها بنت؟! بأي ذنب صارت كالأثاث والمتاع؟ ألأنها بنت ولأنها أنثى؟!
فلما جاء الإسلام ساوى الله جل وعلا بين الرجل والمرأة، وعدل بينهما، وجعل للرجل أحكاماً خاصة، وللمرأة أحكاماً خاصة، بل جعل لها حقاً حتى في الميراث، فلها حقوق وعليها واجبات الإسلام أكرم المرأة، بل جعل بعض النساء خير من كثير من الرجال، قال الله جلَّ وعلا عن مريم: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:42 - 43].(50/2)
الغاية من الخلق
أختي الفاضلة: أوجه إليك هذا الحديث؛ لأنك أنت الأم، وأنت الأخت، وأنت الزوجة، وأنت البنت، ولا نجاة للرجل دون المرأة، ولا يستطيع الرجل أن يتخلص من المرأة فأوجه إليك هذا الحديث:
أول قضية مهمة يجب أن تنتبهي لها وتستمعي لها هو السؤال الأول، وهي القضية الأولى، سلي نفسك هذا السؤال ثم أجيبي بنفسك على نفسك: لماذا خلقنا الله جل وعلا؟
لماذا أنزلنا الله على هذه الأرض؟
لم خلق لنا الأرض والسماء؟
لم سخر لنا الشمس والقمر؟
لم خلق الوحش والطير والنبات والزروع لنا؟
لمَ جعل لنا العينين، واللسان، والشفتين، واليدين، والرجلين؟
لم كل هذا؟
ولم كرمنا الله عز وجل بالعقل؟
أتعرفين لم؟ {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] أتحسبين وتظنين -يا أختي الكريمة- أن الله جل وعلا خلقنا وأوجدنا وسخر لنا كل هذا عبثاً؟ لا والله، ليس الأمر عبثاً، وليس الأمر هزلاً، إن القضية محسومة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
ثم لك أن تجيبي على هذا
السؤال
هل عرفت هذه الغاية مَنْ جَعَلتِ الغاية مِن حياتها أن تكون نجمة، وأن تصير بطلة، وأن تصبح ممثلة صورها في الجرائد؟!
هل فهمت هذه الغاية مَنْ جَعَلت حياتها تلك الأغنية، تنام عليها، وتسهر عليها، وتعيش عليها تحفظ كلماتها، وترددها صباح مساء؟!
هل عرفت هذه الغاية مَنْ كان قدوتها وعشيقها ذلك الفاسق المغني، تحلم أن تكون زوجة له، وتحلم أن تنام معه، وتسافر معه، وتعيش معه، وترقص معه هل عرفت هذه غاية خلقتها؟!
{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60 - 61].
هل علمت حقاً أن الله جل وعلا خلقها لعبادته مَنْ جعلت صورتها الفاتنة شبه العارية على غلاف مجلة من أجل أن تروج هذه المجلة؟ أو داخل الصفحات لأجل أن تروج هذه الجريدة وتلك المجلة على حساب عرضها وكرامتها وعفتها وحيائها؟!
هل عرفت الغاية مِن خلقها تلك التي كانت نهايتها فضيحة في دعارة، أو سجن؛ لأنها تتعاطى مخدرات، أو انتحرت من أعلى عمارة أو شاهق؛ لأنها ملت من هذه الحياة وتعبت، وأصابها الضيق والضنك؟! أتعرفين لم؟ لأنها ابتعدت عن الغاية التي خلقها الله جل وعلا.(50/3)
نساء جهلن الغاية من خلقهن
اسمعي إلى هذه القصص، لتعلمي أن من النساء من تعيش في هذه الدنيا ولا تدري لم تعيش، ولا تدري لم خلقها الله جل وعلا، وصباحها مساؤها لأجل الدنيا، ولأجل الشهوة، والملذات، فوالله ما عرفت لم خلقها الله جل وعلا!
امرأة كان لها ولدان صغيران، ما أجملهما! الأول عمره سنة ونصف والآخر عمره ثلاث سنوات، كالقمر ليلة البدر، فتعرفت على عشيق لها، وبدأت تكلمه ويكلمها، وتصاحبه ويصاحبها، ولكن في يوم من الأيام طلب العشيق منها أن يرتبط بها بشرط واحد، قالت: وما هو هذا الشرط؟ قال: أن تتخلصي من ولديك.
قالت: إنهما ولداي.
قال: تتخلصي منهما وإلا تنفصل العلاقة.
فما كان من تلك المرأة إلا أن ذهبت إلى ضفاف نهر، وكان الولدان يلعبان معها، ويداعبان الأم، وألبستهما أحلى الملابس، فكانا كالقمر ليلة البدر أركبتهما السيارة، ونزلت منها ولم تطفئها وجعلت السيارة تنزل شيئاً فشيئاً إلى قاع ذلك النهر، والولدان يبكيان ويصيحان من وراء زجاج السيارة، ويناديان أمهما، ولكن ما هي إلا لحظات ودقائق حتى كانا في قاع البحر قد غرقا لتتمتع بعشيقها {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] أي حياة هذه؟! وأي عيشة تلك؟!
فلانة من النساء معها مقابلة على الهواء مباشرة في التلفاز: ماذا تتمنين؟ قالت: أتمنى أن أصبح مثل هذه الممثلة، أو تلك المطربة.
امرأة أخرى في الجريدة تعمل معها مقابلة، وهي لم تتجاوز السادسة عشرة من العمر: ما هوايتك؟ قالت: الغناء والطرب.
ماذا تتمنين؟ قالت: أتمنى أن أصبح مثل النجمة الفلانية، أو الراقصة الفلانية.
من علمك هذا؟ قالت: التلفاز، والمجلات، والجرائد.
وأخرى يقبض عليها في قضية تعاطي المخدرات، أو في دعارة، أو في غيرها، بعد أن فضحت، وعمل معها التحقيق: من أين تعرفت على هذا؟ قالت: في البداية كان شريط غناء، أو كان فيلماً غنائياً، أو مسلسلاً خلاعياً، أو كان في البداية أن تعرفت على فلانة، والآن وصلت إلى ما وصلت إليه.(50/4)
فتاة تعيش في مستنقع الجاهلية المعاصرة
يقول شيخ من الشيوخ -واسمعي إلى هذه القصة العجيبة-: دعيت إلى فتاة لأقرأ عليها القرآن -كان يقرأ على الناس، والله جل وعلا يقول: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} [الإسراء:82]- فقلت: أين المكان قالوا: في المستشفى الفلاني، يقول: في مستشفى خاص من أفخم المستشفيات، يقول: فذهبت إلى هذا المستشفى، وكان قد حجز جناحاً كاملاً لهذه الشابة يقول: ولم أدخل عليها إلا بعد أن تجاوزت أشخاصاً كثر يسألونني: من تريد؟ وماذا تريد؟ حتى وصلت إلى هذه الفتاة بعد حواجز، وبعد حرس، وبعد خدم، وبعد حشم وعلمت أن هذه الفتاة ليست كغيرها من الفتيات، إنها من علية القوم.
فدخلت عليها في غرفة كبيرة، والخدم عن يمينها وشمالها، وقد جلس عندها بعض أقربائها وهي منطرحة على الفراش، فسلمت، ثم سألتهم: ما خبرها؟ قالوا: لا ندري، ذهبنا بها إلى كل المستشفيات ولكن لا فائدة! لا ندري ما قصتها، ولا نعلم ما خبرها.
فقال لهم الشيخ: أريد أن أتحدث معها هل يمكن هذا؟ قالوا: تحدث معها، ثم طلب منهم أن يحجبوها، فحجبوها.
قال: فجلست وأخذت أسألها: يا فلانة تسمعيني؟ قالت: نعم، قال: أسألك أسئلة فأجيبيني بصراحة، قالت: تفضل.
قال: هل تصلين؟ قالت: بصراحة والله لا أصلي.
قال لها: هل تقرئين القرآن؟ قالت: منذ زمن بعيد ما قرأت القرآن.
قال: هل تتعاطين المخدرات، وتشربين المسكرات؟ قالت: نعم أحياناً.
قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون! يقول: الشابة صغيرة، لعلها لم تتجاوز العشرين من العمر، وتعمل هذه الأعمال! فقالت الفتاة لما رأت الشيخ تعجب: يا شيخ لم تعجبت؟ لو أخبرتك عن حياتي وعن معيشتي لما تعجبت مني، اسمع يا شيخ كيف أعيش.
اسمعي يا أختي الكريمة! يا من غرتك زهرة الحياة الدنيا! اسمعي إلى هذه الغنية الثرية كيف تعيش في هذه الدنيا.
تقول الفتاة: يا شيخ! أنا في كل يوم أنام في أول النهار ولا أستيقظ إلا بعد غروب الشمس أو في آخر النهار، أقضي النهار كله نوماً، وبعد أن أستيقظ من نومي وأنا في غرفتي، أرفع سماعة الهاتف، فيأتيني ما أطلبه من طعام وشراب الخدم حولي، كل ما أشتهيه يأتيني إلى غرفتي، فإذا جاء الليل حضر أصدقائي، تقول: كل ليلة يجتمعون عندي، على الغناء، والطعام والشراب، واللهو والطرب، وفي بعض الأحيان نطلب من نشاء من المطربين أن يأتينا في أي لحظة نريدها أي مطرب وأي مغني، بسماعة الهاتف يأتينا إلى غرفتي؛ فيحيي ليلتنا بالغناء والطرب والرقص.
تقول: فنمضي هكذا، وبعض الأحيان يحيي ليالينا أناس ليسوا بإناث ولا ذكور، بين هذا وهذا، فنقضي أغلب الليل هكذا، فإذا اقتربت ساعة الفجر، ذهب كل منا إلى بيته، وبقيت لوحدي، أتقلب على الفراش، أنتظر النوم، وما أن يطلع الصبح وترتفع الشمس حتى أخلد إلى نوم عميق.
تقول: فلا أصحو إلا بعد أن يعلو النهار، ويقترب من نهايته، وتقترب الشمس من الغروب، لأمضي ليلة أخرى في لهو، وطرب، وغناء، وفجور، ورقص، وسكر، وعربدة.
تقول: هذه حياتي، وتلك أيامي، وهذه ليالي هل علمت يا شيخ كيف نعيش وكيف نحيا؟!
قال الشيخ: صدق الله {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126].(50/5)
صفحات مشرقة للمرأة المؤمنة
لننظر إلى الوجه الآخر والصفحة الأخرى: إنهن نساء وفتيات عرفن لم خلقهن الله جل وعلا.
اسمعي لـ عائشة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها: يدخل عليها ابن أختها ليسلم عليها، فينظر إليها وهي تصلي وتقرأ آية وتبكي، يقول: فتركتها ثم جئتها في منتصف النهار، وهي تقرأ الآية نفسها وتبكي من هي؟ إنها عائشة، إنها أم المؤمنين التي بشرت بالجنة، تبكي وهي تقرأ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27].(50/6)
ماشطة بنت فرعون
ألم تسمعي عن ماشطة بنت فرعون التي نظرت إلى أولادها يحرقون واحداً تلو الآخر، وهي صابرة على دينها، ثابتة على عقيدتها، وقبل أن تحرق طلبت من فرعون طلباً، قالت: أطلب منك إذا أحرقتني أن تجمع عظامي وعظام أولادي في كفن وتدفننا جميعاً.
ولما أحرقت هي وأولادها الصغار بعثها الله جل وعلا في السماء، وصار لها ولأولادها رائحة طيبة، شمها النبي صلى الله عليه وسلم في المعراج {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
نعم.
إن عائشة بكت، وإن ماشطة بنت فرعون أحرق أولادها أمام عينيها، لكن هل تظنين أنهن قد تعذبن في هذه الحياة؟! لا والله، إنهن يعشن أسعد حياة، إنهن خرجن من الدنيا وقد وجدن أسعد وأحلى ما فيها؛ إنها طاعة الله، وذكره سبحانه تعالى.(50/7)
زوجة فرعون
زوجة فرعون التي أظهرت إيمانها بالله وكفرها بزوجها بفرعون الذي قتل الأولاد في أرحام أمهاتهم، الذي قتل الرجال واستحيا النساء، فرعون الذي كان يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] خرجت زوجته من قصره تقول: ربي في السماء، كفرت بك وبما تعبد من دون الله زوجته الصابرة المؤمنة التقية العابدة فربطها فرعون في صحراء قاحلة، وأجاعها، وعذبها، وضربها، وقال لجنوده: ارفعوا صخرة من أعلى مكان، وارموها عليها لتقتلوها بها، ثم قال لها: هل ترجعين عن دينك؟ قالت: والله لا أرجع عن ديني طرفة عين.
فربطها، وحملوا صخرة كبيرة ورموها عليها، فقالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] فلما دعت بهذا الدعاء، والصخرة لما تنزل عليها، قبض الله روحها قبل أن تصل الصخرة إلى جسدها إنها لحظات، لكنه صدق الدعاء، وصدق الإيمان بالله جل وعلا.(50/8)
مريم بنت عمران
قال الله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم:12] مريم يدخل عليها رجل وهي في المحراب تصلي وتركع وتسجد، ما مسها بشر، وما اطلع عليها في الحرام رجل دخل عليها رجل إلى المحراب: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} [مريم:18].
أسألك بالله سؤالاً: ماذا نقول عن نسائنا في هذا الزمن؟ تدخل على البائع فتكلمه وتضاحكه، وهي تريد أن يخفض الأسعار، ويتصل عليها رجل في البيت فتضحك معه الساعات الطويلة، وتلين معه في الحديث تذهب إلى العمل فتكلم فلاناً وتجالس فلاناً، وتضاحك فلاناً، وتتكشف عند فلان تشم رائحتها من مسافة طويلة، ويسمع قرع نعليها من مسافات أطول أين هي من مريم عليها السلام التي لما رأت رجلاً ماذا قالت؟ هل سلمت عليه؟ هل صافحته؟ هل ضحكت معه؟ هل استبشرت به في خلوتها؟ {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً} [مريم:18] فلما أخبرها أنه ليس برجل وأنه ملك مرسل من الله جل وعلا، ماذا قالت؟ {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} [مريم:20] الله أكبر! تخاف على سمعتها، وتخاف على عرضها، وتخاف على كرامتها وعلى شرفها أين نحن من مريم البتول عليها السلام؟
ولما جاءها المخاض {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} [مريم:23] مع أن الولد نبي من الأنبياء، والذي نفخ فيه الروح هو أفضل ملك من الملائكة، وبأمر الله جل وعلا، ولكنها {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} [مريم:23] أرأيتِ العفاف؟ أرأيت الطهارة؟ أرأيتِ الكرامة التي أكرمها الله عز وجل بها؟(50/9)
نصائح هامة في الحجاب والعفة
أختي الفاضلة: إياكِ أن تكوني سلعة رخيصة إن الصراع في هذا الزمن صراع يستخدم فيه الغرب واليهود والنصارى سلاح المرأة المسكينة الضعيفة، ويشهرون هذا السلاح في وجوه الرجال.
انظري نظرة واحدة إلى كل المجلات الساقطة الهابطة ماذا يوضع في غلافها؟ امرأة فاتنة متكشفة متبرجة لم؟ هل لكرامتها ولسمعتها؟! لا والله، إنهم يريدون أن يروجوا لهذه المجلة، ويريدون أن يفتنوا الرجال، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما تركت فتنة هي أضر على الرجال من النساء).
أختي الكريمة: الله الله ألا نؤتى من قبلك! الله الله ألا يهزم الإسلام والمسلمون عن طريقك يا أختي الكريمة!
يقول المستشرق النصراني: إن كأساً وغانية يفعلان في المسلمين ما لا تفعله مائة دبابة ومائة صاروخ.
امرأة مغنية راقصة فاتنة تفعل في الرجال ما لا تفعله الصواريخ والدبابات.
أختي الكريمة: الله الله في الحجاب! الله الله في العفة والحياء! وإياك أن تكشفي شيئاً يسيراً من الجسد لغير المحارم ولغير الزوج، فإن والله جل وعلا يقول: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] الله جل وعلا حرم عليك صوت الكعب أو الخلخال أن يسمعه الرجال، فإذا كنت تمشين وقد وضعت في رجليك شيئاً من الزينة فلا تضربي بالرجل بقوة، حتى لا يسمع صوته الرجال.
هذا صوت الخلخال، فكيف بأن تكشف المرأة وجهها، أو ساعديها، أو شيئاً من ساقيها، أو شعرها؟! أي فتنة أعظم من هذه؟! إن الرجال إذا فتنوا بالنساء فأول شيء يفتنون به هو وجهها، بل إن الرجل إذا خطب المرأة فإنه لا يسأل عن ذراعها ولا عن ساقها ولا عن شعرها، إنما يسأل عنه وجهها، ولهذا حرم الله جل وعلا أن تغطي المرأة وجهها في الإحرام في الطواف، ومع هذا تقول عائشة رضي الله عنها: [كنا إذا مر بنا الأجانب من الرجال أسدلت إحدانا جلبابها على وجهها] مع أن تغطية وجه المرأة في الإحرام لا يجوز، لكن عائشة تقول: [إذا مر بنا الرجال الأجانب أسدلت إحدانا جلبابها على وجهها] تقول الفقيهة العالمة: [فإذا جاوزونا كشفناه].
يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59].
قال المفسرون: تغطي رأسها إلى صدرها، فإن الجلباب من الرأس إلى الصدر ويغطي ما بينهما.
وقال بعضهم: إلا ما ظهر منها عين واحدة أو عينان لتبصر الطريق.
أرأيت يا أختي الكريمة كيف حافظ الله عز وجل على حيائك، وعلى شرفك وعفتك؟ بل لقد حرم الله جل وعلا على المرأة حتى الصوت إن كان فيه فتنة ولين، فانتبهي يا أمة الله.(50/10)
قصة من الواقع
هذه القصة لتعلمي أن كثيراً من الرجال في هذا الزمن على صورة رجل لكنه في الحقيقة ذئب، إنه يضحك عليك بتلك الكلمات المعسولة، ويغدر بك بتلك الكلمات الرنانة، ويضحك عليك بتلك الرسالة، وبهذه المكالمة، وبهذه المواعدة، وتلك الهدية الزائفة، وقلبه أخبث من قلوب الذئاب.(50/11)
الخطوة الأولى في طريق الشيطان
أختي الفاضلة: اسمعي إلى هذه القصة الحقيقية، التي لا أنسجها من الخيال، بل قرأتها لشابة تقصها هي بنفسها عن نفسها، تقول: ما كنت أعرف عن الحرام، ولا أعرف عن الفساد شيئاً، خرجت من مدرستي يوماً -وهي كانت في الثانوية- تقول: خرجت من مدرستي يوماً لأسمع رجلاً يناديني باسمي، فالتفت وظننته أحد أقربائي أو محارمي، وإذا هو رجل لا أعرفه ويناديني باسمي تقول: فأسرعت في المشي، وخفت منه، ولم أجبه، ولم أكلمه، وهربت إلى البيت وأنا خائفة وجلة، من هذا الذي يناديني باسمي؟ وطوال الليل وأنا أفكر: ماذا يريد مني؟ ما قصته؟ كيف عرف اسمي؟ ماذا يطلب مني؟
تقول: وفي اليوم الثاني جاءني نفس الشاب يناديني باسمي مرة ثانية عند باب المدرسة، فهربت منه مرة ثانية، وكل يوم يلاحقني عند أبواب المدرسة، ومرت الأيام وأنا أفكر، ماذا يريد هذا الشاب؟ تقول: وفي يوم من الأيام رن جرس الهاتف، فرفعت السماعة وإذا صوت الشاب نفسه وهو يقول: فلانة لا تغلقي الهاتف، أريد أن أكلمك كلمات، فأغلقت الهاتف في وجهه، وفي اليوم الثاني اتصل بي، فاستمعت إليه وهو يقول: اسمعيني ولا تجيبيني، فقط اسمعيني لحظة من الزمن، تقول: استمعت إليه خطوة خطوة، إنها خطوات الشيطان، شياطين الجن والإنس قد اجتمعوا على المسكينة.
تقول: استمعت إليه يقول: يا فلانة والله لا أريد الحرام، ولا أريد الفاحشة، ولو أردتها لعرفت طريقها، لا أريد إلا أمراً واحداً، أريد الزواج منك.
قالت له البريئة المسكينة: إذا أردت الزواج فأت إلى أهلي ووالدي وكلمه؟ قال: يا فلانة أريد أن أتعرف عليك أولاً، وبعدها سوف أتقدم إلى أهلك، وأنا من أسرة ثرية، لا ولد لهم إلا أنا، ولا يملكون غيري، وأريد أن أعيش معك حياة سعيدة، زوجين سعيدين، نعيش حياة طيبة، ونشتري بيتاً، وننجب الأولاد أخذها إلى دنياً تحلم بها كل فتاة تقول: ثم جاءني مرة ثانية إلى المدرسة، فأخذت أكلمه عند الباب، ويوماً بعد يوم، حتى بدأت أركب معه في السيارة، وأتجول معه، ويشتري لي بعض الأمور، وأتناول معه بعض الوجبات، ومرت الأيام والليالي والأسرة في غفلة عنها، تقول: وأنا متأكدة أنه سوف يتزوجني يوماً من الأيام، أعرف أنه صادق، ولن يخدعني أبداً.(50/12)
الوقوع في البركة النتنة
تقول: وفي يوم أدخلني معه في شقة له، وكنت ألعب معه وأداعبه وأضاحكه وأسامره، تقول: وكأنني في سكرة وفي غفلة وفي نومة، فلم أستيقظ إلا وقد ذهبت عفتي، وهتك عرضي، فصحت، وبكيت، وصرخت، وقلت له: ويحك، ما الذي فعلت؟ قال: لا تخافي إنما أنت زوجة لي، قالت: كيف أكون زوجتك، ولم تعقد علي، ولم يعلم أهلي تقول: فهربت إلى بيتي خائفة أركض في الطريق، حتى دخلت البيت، ولم أنم تلك الليلة كلها، وعندما ذهبت إلى المدرسة انتظرته عند أسوار المدرسة لعله يأتي ويواعدني على الزواج، فلم يأتِ، ومرت الأيام، وكلما رن جرس الهاتف أرفعه لعله يكون هو، لعله يواعدني على الزواج، لعله يأتي إلى أهلي يخطبني منهم.
وفي يوم من الأيام رأيته عند باب المدرسة، ففرحت واستبشرت، وركضت إلى سيارته، وركبت معه وأنا سعيدة، الآن سوف يواعدني على الزواج، الآن سوف يخبرني متى يأتي إلى أهلي تقول: وركبت معه نتجول معاً، وإذا أسلوبه قد تغير وتبدل، فقال لي: يا فلانة أما قضية الزواج فلا تفكري فيها أبداً!! فصفعته على وجهه من غير شعور، وبكيت، وانهرت، وتكلمت عليه بكل كلمة سوء، ثم هربت من السيارة، وركضت، فأخذ يناديني ويناديني، فقلت في نفسي: ربما رجع عن رأيه، ربما فكر في الأمر، فرجعت إليه، وقلت: ماذا تريد؟ قال: انظري إلى هذا، نظرت، فإذا هو فيلم للفيديو، قلت: ما هذا؟ قال: صورت فيه كل تلك الليلة.
قالت: أيها الخسيس! أيها الحقير! ماذا تريد بهذا؟ قال: أن تستجيبي لكل طلب وإلا أرسلته إلى والديك.
تقول: انهرت بين يديه كالفريسة بين يدي الذئب فكان يأخذني كل يوم أينما شاء متى شاء ويفعل بي ما شاء، لقد وقعت في وحل الدعارة، يرسلني إلى أصحابه، ويأتي بأصحابه إليَّ، فدخلت في نفق لا أدري ما آخره.
وذات يوم وقع الفيلم في يد أحد أقاربي، فنظر إليه وإذا هو يرى صورتي في ذلك الفيلم، فأخذه وأرسله إلى والدي ليرى والدي ابنته بين الرجال، فلم يتمالك والدي نفسه حتى خر على الأرض، وحمل إلى المستشفى، وما هي إلا أيام معدودة حتى فارق الحياة لقد مات أبي حسرة وندامة، ثم هربت من البيت، لقد فضحت عائلتي، ومات أبي، وضاع مستقبلي، وتشردت لا أدري إلى أين أذهب.
تقول: ثم ذهبت إلى الرجل الذي كان سبباً في ضياع حياتي ومستقبلي ومستقبل عائلتي، فدخلت عليه وقد سكر من شرب الخمر، فأخذت خنجراً فطعنته في ظهره عدت طعنات حتى قتلته بها، وهأنا اليوم أنتظر مصيري ومصير كل فتاة تفعل مثل هذا.(50/13)
خلاصة الكلام
إن المعاكس ذئب يغري الفتاة بحيله
يقول هيا تعالي إلى الحياة الجميله
قالت: أخاف العار والـ إغراق في درب الرذيله
والأهل والإخوان والـ جيران بل كل القبيله
هذا في البداية…
قال الخبيث بمكره لا تقلقي يا كحيله
إنا إذا ما التقينا أمامنا ألف حيله
متى يجيء خطيب في ذي الحياة المليله
لكل بنت صديق وللخليل خليله
يذيقها الكأس حلوا ً ليسعدا كل ليله
للسوق والهاتف والـ ملهى حكايات جميله
إنما التشديد والتعقيد أغلال ثقيله
ألا ترين فلانة ألا ترين الزميله
وإن أردت سبيلاً فالعرس خير وسيله
كذاب، كذاب، كغيره من الكذابين في هذا الزمان.
وانقادت الشاة للذئب على نفس ذليله
فيا لفحش أتته ويا فعال وبيله
حتى إذا الوغد أروى من الفتاة غليله
قال اللئيم وداعاً ففي البنات بديله
قالت ألما وقعنا أين الوعود الطويله
قال الخبيث وقد كشر عن مكر وحيله
كيف الوثوق بغر وكيف أرضى سبيله
من خانت العرض يوماً عهودها مستحيله
بكت عذاباً وقهراً على المخازي الوبيله
عار ونار وخزي كذا حياة ذليله
من طاوع الذئب يوماً أورده الموت غيله(50/14)
بعض مجالات الخير التي يمكن أن ترتادها النساء
أختي الكريمة: إنها قصة من قصصٍ كثيرة يعيشها مجتمعنا وكثير من المجتمعات، من فتاة ضُحك عليها، وغُرر بها، وانقادت المسكينة مع الذئاب، حتى كانت نهايتها مأساة، إما في سجن، أو انتحار، أو فضيحة وعار، أو ضاعت بين الجدران، لا تدري من يخلصها من ذلك السجن.
أختي الكريمة: عليك بالعبادة والذكر وقراءة القرآن، ارجعي إلى الله جل وعلا هل فكرت يوماً من الأيام أن تختمي القرآن حفظاً، أو تختميه قراءة وتدبراً؟ إياك يا أختي الكريمة عن كل ما يلهيك عن الذكر والطاعة والقرآن والصلاة، الله عز وجل عندما اصطفى مريم عليها السلام قال لها: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43].
إن بعض النساء في هذه الأزمان من الصباح إلى المساء همهمن المسلسلات والأفلام، والموضات، والأزياء، والتجول في الأسواق، والغناء، والطرب، هذا همهما وتلك حياتها، والله جل وعلا يقول: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8].
أختي الكريمة: هل فكرت يوماً من الأيام أن تكوني طالبة للعلم؟ وأن تحفظي القرآن؟ وأن تحفظي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وأن تقرئي من الفقه ومن التوحيد ومن التفسير شيئاً؟ هل فكرت في طلب العلم؟ إنها حياة جديدة أخرى بين الكتب في طلب العلم، والله جل وعلا يقول: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].
إن عائشة رضي الله عنها كانت تُضرب إليها أكباد الإبل؛ لأجل أن تسأل في دين الله عز وجل، كانت صغيرة في العمر لكنها كبيرة في القلب والعقل، كانت فقيهة، عالمة، عابدة، كان يسألها الرجال ويتفقه عندها المتفقهون لقد ضربت رضي الله عنها أروع الأمثلة في طلبها للعلم، فكم من حديث نقرؤه ونقول: عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا …، وقد وردت أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف هذا؟ لأنها كانت طالبة للعلم، حافظة للأحاديث، وكانت في نفس الوقت داعية إلى الله، فهل فكرت في حياة الدعوة إلى الله؟ الله جل وعلا يقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] اتركي هذه الحياة؛ حياة الغفلة واللهو والطرب، لتبدئي حياة الجد والالتزام، حياة الجد بطلب العلم والعبادة والدعوة إلى الله عز وجل.
أختي الفاضلة: إن من أنجح الدعوات في هذا الزمن دعوة النساء في صفوف النساء، وإنني أعلم بعض المجتمعات الإسلامية كنَّ النساء المحجبات فيهن قليلات، أما اليوم فإن الحجاب في أوساط النساء -بفضل الله جل وعلا- حجاب صحيح شرعي، فقد غطت المرأة كل جسدها، ونجد أن مصليات النساء تشتكي من الضيق ومن الزحام، بل طلبات تقدم إلى وزارات الأوقاف وإدارات المساجد لتوسعة مصليات النساء، وهناك مراكز للدعوة إلى الله خاصة بالنساء، وهناك حلقات تحفيظ للقرآن للنساء، وهناك مجالس علم للنساء، وهناك طالبات علم من النساء.
أختي الكريمة: هل فكرت في حياة الدعوة إلى الله؟ قوليها صريحة صادقة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] وأول من تدعين إلى الله تعالى هم أولادك وبناتك وزوجك وأهل بيتك فيا أمة الله! هل بدأنا بالإصلاح؟
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
هل سمعت بولد عمره سبع سنوات في هذا الزمن وفي هذا العصر حفظ القرآن كاملا؟! من حفظه؟! من علمه؟! هل سمعت بولد صغير صبي عمره ست سنوات حفظ القرآن كاملاً في هذا العصر وفي هذا الزمن؟ من أمه؟! إن أمه داعية إلى الله عز وجل، وأنا أعرف داعية إلى الله ابنها عمره سنتان وقد حفظته بعض قصار السور! عمره سنتان ووالله الذي لا إله غيره أنه يحفظ بعض قصار السور! هل حفظته الأم الأغاني؟ هل أجلسته أمام التلفاز؟ هل ضيعت وقته بالطرب؟ لا والله، لقد علمته الأدب والأخلاق الإسلامية، وحفظته كتاب الله جل وعلا وأعرف بعض الرجال ما عرف الصلاة إلا عن طريق زوجته، وما اهتدى إلى دين الله جل وعلا إلا عن طريق زوجته فكوني داعية إلى الله.
أيتها النساء: أكثرن من الصدقة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (معاشر النساء! تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار.
فقالت امرأة: لم ذاك يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكثرن اللعن، وتكفرن العشير) أي الزوج فأكثري من الصدقة؛ فإن (الصدقة تطفئ غضب الرب كما يطفئ الماء النار) وأخرجي ولو من القليل الذي تملكين.(50/15)
أهمية تعجيل الزواج والإنجاب
أختي الفاضلة: إياك إياك أن تؤخري الزواج! يا من تستمعين إلي في هذا الحديث! إياك إياك أن تؤخري الزواج بحجة الدراسة، أو الوظيفة، أو إكمال الدراسة العليا! تقول: أريد أن أحصل على شهادة جامعية، أو على الماجستير، أو على الدكتوراه، ثم ماذا بعد هذا يا أختي الفاضلة؟! كم من الطبيبات اللواتي فاتهن قطار الزواج من تتمنى أن تسمع من يناديها ويقول لها: يا أمي، أو من تناديها فتقول لها: يا أماه تقول بعض الطبيبات: خذوا شهادتي، خذوا كل مراكزي وأعطوني بنتاً أو ولداً يقول لي: يا أماه.
فإن هذا الصوت أغلى عندي من كل الشهادات.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) بعض النساء -هداهن الله- إذا جاءها زوج فإنها تعجزه بالمهور، وتقول: أريد مائة ألف، أو ستين ألفاً، أو سبعين ألفاً، لم كل هذا التعجيز؟! والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أكثرهن بركة أقلهن مهراً)! أي أنه كلما تزوجت المرأة بمهر قليل، كلما كانت بركتها أكثر من غيرها، وكلما ارتفعت المهور كلما قلت البركة.
فيا أمة الله: عليك بتسهيل الشروط، وعليك بالقبول بالصالحين، وعليك بالاستعجال بالزواج؛ فإنه آمن لك وآمن لبناتك أنا أعلم أن بعض الآباء هو السبب، وأن بعض الآباء هو المجرم في منع ابنته من الزواج بالصالحين، فكلما جاءه صالح رده، فهذا يرده لأجل فقره، وهذا يرده لأجل وظيفته، والثالث يرده لأجل فصله وأصله، والرابع يرده لأجل كذا وكذا، حتى أجلس البنت في بيتها مسكينة سجينة الجدران لا تعرف ما مصيرها بدأ الشيب يدب في رأسها، ابتعد عنها الخاطبون، وقلَّ الطارقون لبابها، وانصرف الناس عنها، ودبَّ فيها الوهن، وكبرت سنها، ونظرت إلى أبيها ولسان حالها يقول كما قالت تلك الفتاة وهي تخاطب أباها الذي كان سبباً في عنوستها وبقائها في بيتها وأنا أرجو أن نسمع هذا الشعر -إن كان قد سجل- أرجو أن نسمعه أولئك الآباء، الذين أجرموا في حقوق بناتهم.
يقال: إن امرأة بعد أن ضاع عليها عمرها، وشاب شعرها، وبلغ بها الكبر عتياً، واشتعل رأسها شيباً، أصابها المرض، ثم انطرحت على الفراش، فجاء أبوها عند رأسها، فقالت البنت لأبيها الذي كان السبب في حرمانها من الزواج، قالت: يا أبي قل آمين.
قال: آمين.
قالت: قل آمين.
قال: آمين.
قالت: أسأل الله أن يحرمك الجنة كما حرمتني من الزواج.
اسمعن يا أخواتنا الكريمات إلى هذه التي تعتصر ألماً، تكتب هذه الرسالة إلى أبيها، وأرجو أن نسمع هذه الرسالة كل أب ظالم، وكل أب منع ابنته من الزواج، وحجر عنها الصالحين، تقول البنت المسكينة:
لما كتبت رسالتي ببناني والدمع مذراف من العينانِ
أرسلتها للوالد الغالي الذي قد ضمني برعاية وحنانِ
أرسلتها وودت أني لم أقل لكن تلهب خاطري وكياني
أرسلتها والدمع خط مدادها وكتبتها من واقعي الحيرانِ
فلقد كتمت من الهموم ولم يزل متفطراً قلبي من الكتمانِ
لما رأيت مفارقي قد أضرمت بالشيب إن الشيب كالنيرانِ
يا والدي لا تحرمن شبيبتي فلقد مضى عمر من الأحزانِ
لما أرى الأطفال تذرف دمعتي ويئن قلبي من لظى الحرمانِ
لما أرى غيري تعيش وزوجها وبنيها قد نام في الأحضان
لما أراها والحنان مع ابنها ينتابني شيء يدك جناني
يا والدي لا تقتلني بالأسى قتلاً بغير مهند وسنانِ
يا والدي قد سن ربي هكذا لا بد من زوج ومن ولدانِ
هذا قضاء الله حكم عادل قد سنه ربي على الإنسانِ
إن كنت تبغي راتبي ووظيفتي فخذ الذي تبغي بلا أثمانِ
إن كنت تبغي بيع بنتك للذي دفع الكثير فذاك أمر ثانِ
هذا ورب البيت بيع كاسد بيعي كبيع الشاة والخرفانِ
أبتاه حسبك لا تضع مستقبلي أو ما كفى ما ضاع من أزمانِ
إن لم تزل لم تلتفت لرسالتي فاعلم بأن الله لن ينساني
يوم القيامة نلتقي لحسابنا عند الإله الواحد الديانِ
وأتت جهنم والملائك حولها وعلاك ألسنة من النيرانِ
فهناك تعلم حق كل بنية سجنت بلا حق ورا القضبانِ
أختي الكريمة: أسرعي وبادري بالزواج، ولا تقولي: هذا طويل وهذا قصير، وهذا مستواه المادي قليل، وهذا لا يستطيع أن يعطيني المهر الكثير، وهذا وهذا (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض).
وختاماً: أدعوك يا أمة الله إلى التوبة إلى الله جل وعلا، والرجوع إليه، والاستغفار من الذنوب والخطايا، والاستعداد ليوم لا مرد له ولا رجوع بعده إلى هذه الدنيا {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30].
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد.(50/16)
كيف تقوي إيمانك؟ (2)
الإيمان أساس الدين، فلا تقبل الأعمال إلا به، كما أن مراتب الدين الأخرى مبنية عليه.
وإن الذين تتشبع قلوبهم بالإيمان، تتوثق صلتهم بالله سبحانه، فلا يأبهون بما سوى ذلك من إغراءات وقوى في هذه الأرض، ويطمئنون في الدنيا والآخرة، فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون.
وهنا بحث في علامات ضعف الإيمان، وكيفية تقويته، وأهمية ذلك، مع بعض الفوائد والقصص المتفرقة في ثنايا هذه المادة.(51/1)
علامات ضعف الإيمان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه وبعد:
نتكلم -أيها الإخوة- عن أعظم أمرٍ يحتاجه الإنسان ويطلبه في الدنيا: إنه موضوع الإيمان، وبعض مظاهر ضعفه في الناس، ثم كيف يرفع الإنسان إيمانه؟ كيف يعالج إيمانه؟ كيف يزيد إيمانه؟ لأن من عقيدة أهل السنة والجماعة: أن الإيمان يزيد وينقص، وقد ينقص إيمان الإنسان وهو لا يشعر، فمن الأسباب:(51/2)
النظر إلى من هو ضعيف الإيمان
أن ينظر الإنسان إلى من حوله، هل الناس يضعفون مثله، فيظن أنه على خير، أو أن الكل ضعيف في الإيمان، فيظن أنه قوي الإيمان!
تجده يُصلي ثلاث أو أربع صلوات في المسجد وبعض الناس لا يصلي في المسجد إلا صلاتين أو ثلاث صلوات، فيظن أنه قوي الإيمان، أو تراه يأتي صلاة الفجر بعد الإقامة، فيظن أن إيمانه قوي؛ لأن بعض الناس لا يصلوا الفجر أصلاً، وهذا أمر عظيم جداً سوف نتكلم عنه، ولعلَّ الكلام لا ينفع إذا لم يتبعه عمل، {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:18].
دخل أبو بكر رضي الله عنه مزرعة أحد الأنصار فوجد فيها طيراً يطير، فخرَّ على ركبتيه يبكي، فقيل له: لماذا رحمك الله؟ قال: [نظرت إلى الطير يطير على الشجر، ويأكل الثمر، ثم يموت ولا حساب ولا عقاب، يا ليتني أكون طائراً] هذا هو أبو بكر الذي بشر بالجنة.
وهذه قصة رويت عن عمر وأبي بكر، يقول رضي الله عنه: كُلَّما صلى الفجر خرج من المسجد، يقول: فتبعته -لأن عمر كان ينافس أبا بكر في الخير- يقول: فتبعته، فوجدته يدخل بيتاً في ناحية المدينة، فلما خرج دخلت البيت فإذا امرأة عجوز كسيرة حسيرة عمياء -من يدخل عليها؟ خليفة المسلمين- فقلت لها: من أنتِ؟ ومن هذا الرجل يدخل عليك كل يوم؟ قالت: أنا امرأة عجوز كسيرة حسيرة عمياء، وهذا الرجل الذي يدخل عليّ كل يوم لا أعرفه، يدخل علينا يصنع طعامنا، وينظف بيتنا، ويحلب شياهنا، ثم يذهب، فأخذ عمر يبكي، وخرَّ على ركبتيه يبكي وهو يقول: أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر! أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر.
كان الحسن البصري يبكي كثيراً -قلوب الأوائل ليست كقلوبنا يا إخوة- كان يبكي كثيراً، فلما قيل له: لماذا تبكي كثيراً يا أبا سعيد؟ قال رحمه الله: [أخاف أن يطرحني الله في النار ولا يبالي].
بعد كل هذا العمل {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية:3 - 4].(51/3)
عدم التأثر بالقرآن أو المواعظ
من علامات ضعف الإيمان في الإنسان: أنه يقرأ القرآن أو يسمع المواعظ ولا يتأثر؛ تقرأ وتتلى عليه الآيات البينات وهو لا يتأثر، لأن المؤمنين كما قال الله عز وجل عنهم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] إذا كان قلبك لا يوجل فاعلم أنه ضعيف الإيمان.
كان بعض السلف إذا توضأ الواحد منهم أو أذن المؤذن، كان يصفر وجهه من الخوف، يقول: أتدرون بين يدي من أقف؟ {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [الأنفال:2] يقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن مسعود: (اقرأ، قال: أأقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: اقرأ فإني أحب أن أسمعه من غيري، فأخذ - ابن أم عبد رضي الله عنه- يقرأ ويقرأ حتى دخل سورة النساء، فقرأ قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] قال: حسبك! قال: فنظرت إليه فإذا عيناه تذرفان) يبكي عليه الصلاة والسلام.
يمر في الليل على الناس، فيسمع عجوزاً تقرأ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] تردد الآية، وهي لا تستطيع أن تكملها، وهو يقول عليه الصلاة والسلام وهو يبكي: نعم! أتاني نعم! أتاني نعم! أتاني.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم ليلة كاملة بآية يُرددها ويبكي: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118].
تقول عائشة: (سمعته يبكي في السجود، وهو يقول: أمتي أمتي).
هذه من علامة ضعف الإيمان! أنك تسمع القرآن فلا تتأثر، تُصلي خلف الإمام ولا تدري ماذا يقرأ؟ بل لعلك تدعو وتستعيذ من النار في السجود ولكن قلبك يُفكِّر في الدنيا هذا من علامة ضعف الإيمان.
أبو بكر رضي الله عنه: انظروا أفضل الناس بعده! أبو بكر، يقول عليه الصلاة والسلام: (مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس، تقول عائشة رضي الله عنها: إن أبا بكر -أبوها- رجل أسيف) لا يتحمل الصلاة، إذا صلى وقرأ القرآن بكى، هذا أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
عمر رضي الله عنه، وما أدراك ما عمر؟
صلى في الناس صلاة الفجر، فأخذ يقرأ في سورة يوسف، حتى وصل إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86] فتوقف وأخذ يبكي رضي الله عنه حتى بكى الناس من خلفه، هكذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
علي بن الفضيل بن عياض يُقال عنه: إنه كان يُردد الآية عشرين مرة.
وهذا عمر بن عبد العزيز، قام ذات ليلة من الليالي، فأخذ يقرأ قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1] حتى بلغ قوله تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} [الليل:14] فلم يستطع أن يكمل السورة، فأعادها مرة أخرى، حتى وصل إلى قوله تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} [الليل:14] فأعاد السورة مرة ثالثة، وأخذ يعيدها ويعيدها، ولم يستطع أن يُكمل السورة، فتركها وقرأ سورة غيرها.
وورد أيضاً عن أحد السلف أنه كان يقرأ قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ} [الأنعام:27] فخرجت روحه، ولم يستطع أن يكمل هذه الآية قتلته آية، ولعلَّ الأمر فيه مبالغة، لكن لا نريد هذه السورة إنما نريد من الإنسان -يا إخواني- أن يتأثر.
علامة ضعف الإيمان أن يقرأ الإنسان كلامه تعالى آيات تدك الجبال، قوله تعالى: {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات:9 - 11] أتعرف ما في الصدور؟ ما في الصدور مما كنت تُفكِّر من معاصٍ.
أتعرف ما في الصدور؟
ما كنت تخفيه بينك وبين نفسك، تعصي وتظن أن الله لا يراك.
أتعرف ما في الصدور؟
يُبدى أمام الله عز وجل يوم القيامة، {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18].
القرآن يا إخوة! تريد أن تعرف علامة أو قوة إيمانك؟ اعرض نفسك على القرآن هل تتأثر عندما تقرأ؟
هل تتأثر عندما تسمع القرآن؟
هل تتأثر عندما تصلي عند الإمام؟ هل تخشع؟ {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر:23].
كان عمر بن عبد العزيز يقوم الليل، فأخذ يبكي، فبكى أهله كلهم إشفاقاً عليه، وأبكى الجيران، وفي الصباح سُئِلَ رضي الله عنه: ما يبكيك رحمك الله؟
فقال: كنت أقرأ قوله تعالى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]، وتفكرت! فكنت لا أدري إلى أيهما أصير؟ هل أنا من فريق الجنة، أم من فريق السعير؟
بل تقول زوجته فاطمة: كان ينتفض من فراشه كما ينتفض العصفور، فَيُصلي فيبكي حتى تقول عنه زوجته: كنت أظن أن روحه سوف تخرج منه فيُصرع، ثم يقوم فيصلي، فيبكي حتى تكاد روحه تخرج منه، تقول: وهكذا يبكي حتى يسمع أذان الفجر، ثم يذهب إلى الصلاة انظروا إلى حالهم! {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].
والله لو أنزل القرآن على جبل لتصدع فما بال هذا القلب! إنها الذنوب.
أيها الأخوة! أصبح الواحد منا يقرأ القرآن وكأنه يقرأ جريدةً، بل لو سمع قصة لتأثر، أما حين يسمع أحسن القصص فلا يتأثر، لو سمع عن عدو لخاف، أما حين يسمع عن عذاب الله فلا يخاف، يسمع عن النار: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر:23] إذا سمع آيات العذاب وآيات الوعيد، {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23] هكذا المؤمن إذا سمع: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً} [النبأ:21] اقشعر الجلد! لا يتحمل هذه الآيات يخاف، ثم بعد قليل: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً} [النبأ:31] يلين الجلد، ويهدأ القلب ويسكن، ويرجو رحمة الله.
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام الليل قرأ بسورٍ طويلة -بالسبع الطوال- فإذا مر بآية عذاب استعاذ بالله، وإذا مر بآية رحمة سأل الله من فضله هكذا كان يتفاعل مع الآيات، أما بعض الناس من ضعيفي الإيمان -ونحن منهم نسأل الله العافية- لو تسأله: ماذا صلى الإمام في صلاة العشاء؟ ماذا قرأ! فإنه لا يعرف شيئاً منذ متى خلوت بنفسك لتقرأ القرآن وتذكر الله؟ (ورجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) يبكي من خشية الله هل وصلنا إلى هذه الدرجة؟! اعرف إيمانك يا عبد الله.(51/4)
كثرة الوقوع في الذنوب والمعاصي
من علامات ضعف الإيمان: كثرة الوقوع في الذنوب والمعاصي.
كلما وقع في ذنب قال: صغيرة! وكلما وقع في ذنب قال: الحمد لله! صليت في جماعة {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] يدخل البيت ويفتح التلفاز وهو لا يُبالي يستمع إلى الأغاني، يقول: هذه صغيرة ولن تضرني، وإذا مر بالسوق نظر إلى فلانة وعلانة، ويقول: هذه صغيرة، وهذه لا تضر، ثم إذا ذهب إلى بيته جلس يتكلم في فلان، وإذا ذهب إلى المجالس يسمع غيبة في فلان، وينم بفلان، ويتكلم عن فلان، ويستبيح أعراض الناس.
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماشٍ فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
حتى إذا جاء يوم القيامة: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً} [الكهف:49] نظرة نظرتها في السوق لا يغادرها، تلك الليلة عندما فتحت الجريدة لتقرأ الأخبار، فنظرت إلى المرأة، وقلت: صغيرة! تلك الليلة عندما جلست في الغرفة فتحت التلفاز لتستمع إلى الأخبار، وكانت امرأة مُذِيعة، فكنت تنظر إليها، وتقول: أخبار! ذلك المجلس الذي كنت تجلس فيه، وكنت تسمع فيه الغيبة والسخرية والنميمة، وكنت تقول: أنا لم أتكلم، أنا أستمع فقط.
ذلك اليوم عندما ذهبت إلى السوق لتشتري حاجات، وقابلتك امرأة تبيع وتشتري منها، وأخذت تكلمها وتنظر إليها، وتحادثها، وتضاحكها، وكنت تقول وأنت تحج نفسك فتقول: حاجة وضرورة، أنت مسكين! {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] هكذا ضعيف الإيمان يتهاون في الصغائر، حتى يبلغ به الأمر إلى أن يقع في الكبائر -نسأل الله العافية- إما في الفواحش، أو في الغيبة، أو في عقوق الوالدين، بل لعله يفعل المنكرات العظام، بل يبدأ يجاهر (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) يجلس أمام الناس ويعصي الله ويفعل المنكرات، بل يفتخر أنه فعل كذا وكذا، ويقول للناس: سافرت إلى المكان الفلاني، وفعلت كذا وكذا، فيفتخر أنه كان يعصي الله عز وجل.(51/5)
عدم الشعور بالمسلمين
من علامات ضعف الإيمان: أن الإنسان لا يشعر بغيره من المسلمين، فإذا كلمته عن أحوال المسلمين في دول الغرب -في الدول الشرقية أو الغربية في الشمال أو الجنوب- قال: نحن ما الذي علينا! هذه من علامات ضعف الإيمان، أن الإنسان لا يشعر ولا يُبالي بغيره.(51/6)
التكاسل عن العبادات
من علامات ضعف الإيمان -يا عباد الله- التكاسل عن العبادات.
في السابق كان أول التزامه أنه كان يصلي في الصف الأول، أما الآن ما باله بدأ يصلي في الصف الثاني أو الثالث أو الصف الأخير.
ما باله لا يأتي إلا عند الإقامة.
فلان حاسب نفسك! لا تأتي إلا في الركعة الأخيرة وتظن أنك على خير (لا يزال أقوام يتأخرون عن الصفوف الأول حتى يؤخرهم الله) مسكين! لا يعرف أن من علامات النفاق: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142].
كان في بداية التزامه كان يوجد في جيبه كتيب حصن المسلم، يقرأ الأذكار في الصباح والمساء، أما الآن ما بالك يا فلان! نسيت أذكار الصباح والمساء أين ذكر الله يا عبد الله؟! ما بالك تغيرت، كنت في السابق تفتح المصحف في اليوم: الساعة، والساعتين، والثلاث، ما بالك الآن؟ ما الذي حدث؟ ما الذي جرى يا عبد الله؟
إنه ضعف الإيمان! كنت ليلة من الليالي تقوم الليل بركعتين، أو أربع، أو أكثر، أو أقل، ما بالك اليوم لا تتذكر قيام الليل إلا في رمضان.
كنت في السابق تصوم الاثنين والخميس، أما الآن فلا تصوم ولا يوماً واحداً في الشهر، ما بالك يا عبد الله! إنها علامة لضعف الإيمان، وأنت لا تشعر.(51/7)
عدم إنكار المنكر
من علامات ضعف الإيمان: أنه يرى المنكر ولا يتحرك، ولا يتغير، ولا يتضجر، ولا يشمئز.
يرى المنكرات وكأنها ليست بمنكرات، والله عز وجل يقول عن أولئك الذين ينكرون المنكر: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] لأن من علامة قوة الإيمان إنكار المنكر، أما ضعيف الإيمان فكان في السابق إذا رأى المنكر أغلق التلفاز، إذا رأى منكراً لعله تكلم ونصح؛ وإن لم يستطع فإنه يخرج من هذا المجلس، أما الآن فقد ضعف إيمانه، فتراه ينظر إلى المنكرات، بل لعله يفعلها وهو لا يشعر، يمر في الأسواق فيرى المنكرات وكأنه لا يراها، ينظر إلى المنكرات وكأنها معروفاً، بل يجلس في مجلس فيه منكر، فلا تراه يتغير ولا يتحرك ولا يخرج من هذا المجلس، لأن الإيمان ضعيف كما قال عليه الصلاة والسلام: (وذلك أضعف الإيمان) أتعرفون في من هذا؟
هذا في الرجل يجلس في المجلس، فيرى منكراً ما، فلا يستطيع أن يُغيِّره لا بيده ولا بلسانه، فمن الضيق الذي في قلبه تراه يخرج من هذا المجلس، وهذا من أضعف الإيمان؛ فماذا نقول في من يجلس يا عباد الله؟!
ماذا نقول في من يذهب برجليه إلى أماكن المنكرات بل هو الذي يفعل المنكرات؟
يا إخوة الإيمان! ضعفُ في الإيمان والإنسان لا يشعر، حتى إذا جاء يوم القيامة: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:103 - 104].
كان بعض السلف يبكي بُكاءً شديداً عندما يقرأ قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47].(51/8)
كيفية علاج ضعف الإيمان
كيف تحيي الإيمان في قلبك؟ كيف تعالج ضعف الإيمان الذي هو الشاهد من الكلام وهو المقصود من هذه الكلمة؟!
أولاً يا عبد الله! اعلم أن العمر قصير، ولن يكون لك عمر آخر.
مضى الدهر والأيام والذنب حاصل وجاء رسول الموت والقلب غافل
نعيمك في الدنيا غرور وحسرة وعيشك في الدنيا محال وباطل
أبو الدرداء رضي الله عنه عند ساعة الاحتضار، أخذ يبكي وهو يحتضر ويقول لمن حوله: [ألا رجل يعمل لمثل مصرعي هذا؟ ألا رجل يعمل لمثل يومي هذا؟ ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هذه؟].
أبو هريرة: وأنتم تعرفون من هو أبو هريرة؟
لسنا نحن -يا عبد الله- الذين أمضوا أيامهم ولياليهم في طاعة الله، إنه طالب العلم، يقول قبل موته وهو يبكي عندما قيل له: ما يبكيك رحمك الله؟
قال: [طول السفر، وقلة الزاد، وضعف اليقين، وخوف الوقوع من الصراط في النار].
يبكي قبل الموت، ويقول هذه الكلمات، أما نحن فماذا نقول -يا عباد الله- الذي لا تمر علينا ليلة إلا وننتهك فيه الذنوب انتهاكاً.(51/9)
التفكر في الموت
يا عباد الله! لو كان الواحد منا يُفكِّر في تلك اللحظة، والله لا تراه يتجرأ على النظر إلى امرأة في جريدة، أو على فتح التلفاز إذا كان فيه منكر، أو يذهب إلى أماكن المنكرات، فلو كان يُفكِّر حقاً في تلك اللحظة، يقول الله -تبارك وتعالى- عنها: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة:26] * {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:27].
تخيل نفسك والله عز وجل يُخبر عنك في هذه الآية على فراش الموت، ولعل حولك: أبوك، وأمك، وأبناءك، وزوجتك، لعلهم يبكون عليك، لعل ابنك الصغير قد احتضنك وأنت تحتضر، وهو يبكي، ويقول: أبتاه! ما لك لا تجيب؟! وأنت تنظر إلى ساقك ما بالها تيبس؟! ما بال الساق؟ إنها تبرد: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً} [النازعات:1 - 2].
بدأ ملك الموت ينتزع الروح وأنت إلى الآن لم ترجع الأمانات إلى أهلها إلى الآن لم تتت من تلك المعاصي إلى الآن عليك حقوق للناس لم ترجعها إلى الآن لم أتب من النوم عن صلاة الفجر إلى الآن لم أتب عن المعاصي والذنوب إلى الآن يا رب! {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] وقال تعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:26 - 27] ينادي الأب: من يداوي ابني؟ وينادي الولد: من يداوي الأب؟ وتنادي الزوجة: من يداوي هذا الزوج؟ {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:27 - 28] إنه يعلم ومتيقن أنه سوف يُفارق هذه الدنيا البيت إلى الآن لم يكمل أثاثه والسيارة لم يشترها إلى الآن قد حجز التذاكر لكنه لم يسافر إلى الآن هو في السنة الأخيرة من الدراسة ولم يأخذ الشهادة إنه يستعد للزواج إنه ينتظر الولد إلى الآن لم يتم نعيمه في الدنيا {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:28 - 30].
يقول عليه الصلاة والسلام: (أكثروا من ذكر هادم اللذات) أكثر -يا عبد الله- فإن الدنيا لا تساوى شيئاً، ملايينك لم تستفد منها شيئاً، والله إن هذه الأموال وهذه الدنيا والبنون والأهلون لن ينفعوك بشيء، فكل شيء يذهب ويبقى العمل الصالح، فعليك أن تتفكر في هذه اللحظة وعندها والله لا تتجرأ على الذنوب.(51/10)
التفكر في وقوفك بين يدي الله
أيضاً -يا عبد الله- تفكر في موقفك بين يدي الله عز وجل، إذا جئت أمام الله:
مثل وقوفك يوم الحشر عريانا مستعطفاً قلق الأحشاء حيرانا
النار تزفر من غيض ومن حنق على العصاة وتلق الرب غضبانا
اقرأ كتابك يا عبدي على مهل انظر إليه ترى هل كان ما كانا
لما قرأت كتاباً لا يغادر لي حرفاً وما كان في سر وإعلانا
نادى الجليل! خذوه يا ملائكتي مروا بعبدي على النيران عطشانا
هل تفكرت في تلك اللحظة؟!
قال الله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} [آل عمران:30] في تلك الليلة التي أغلقت فيها على نفسك الباب، وأطفأت الأضواء، وفعلت فعلتك التي فعلت، {وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَه} [آل عمران:30] تلك اللحظة التي قالت لك أمك: يا بني! فقلت لها: لا.
ذلك الموقف الذي أمرك فيه أبوك فقلت له: لا.
تتذكره يوم القيامة {تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:30] هل تفكرت في هذا الموقف؟!(51/11)
محاسبة النفس واستشعار رقابة الله
يقول أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: [حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزن عليكم] قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18].
يا عبد الله! حاسب نفسك الليلة إذا رجعت إلى البيت، وقبل أن تنام، وبعد أن تصلي الوتر، أو تصلي ركعتين، أو تتطهر، أو بعد أن تأتي بأذكار النوم.
تفكر يا عبد الله! ماذا قدمت لله عز وجل؟! ضع حسناتك في كفة، وسيئاتك في كفة، ثم حاسب نفسك، وانظر أيهما تُرجِّح.
يا عبد الله! حاسب نفسك! لا تأتِ يوم القيامة وأنت من الذين قال الله فيهم: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية:3 - 4] لا تكن كمن قال الله فيهم: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] قال عليه الصلاة والسلام: (ليأتين أقوام من أمتي يوم القيامة معهم أعمال كجبال تهامة بِيضٌ يجعلها الله هباءً منثوراً، قال ثوبان: من هم يا رسول الله؟) صفهم لنا يا رسول الله؟ جَلِّهم لنا! ألا نكون منهم؟ كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يخافون أن يكونوا من الذين يأتي الله عز وجل بأعمالهم يوم القيامة فيجعلها الله هباءً منثوراً، قال علي: [لو علمت أن الله قبل مني حسنة لاتكلت] حسنة واحدة، لو علمت أن الله قبلها مني لاتكلت عليها، لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27].
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ثوبان ومن معه: (ألا إنهم يصلون كما تصلون، ويصومون كما تصومون، ويأخذون من الليل كما تأخذون -حتى قيام الليل يقومون لكن ما بالهم؟ - لكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها) أمام الناس رجل صالح! لكنه بينه وبين نفسه في البيت، إذا جلس في الغرفة ولا أحداً يراه ارتكب المعاصي إذا ذهب إلى السوق وليس هناك من يراقبه يفعل ما يريد يسافر إلى بلاد الغرب -بلاد الكفر والإباحية- حيث لا أحداً يراه، غريب يفعل ما يشاء {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14] يأتي الله عز وجل بأعماله كلها يوم القيامة، بل إذا رأى جهنم يوم القيامة تزفر، يتذكر كل أعماله في الدنيا يتذكر ذنوبه كلماته خطراته قدميه، إلى أين مشت؟ كما قال الله عز وجل: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:23 - 24] يقول طالب العلم: يا ليتني تكلمت في الناس! ويقول صاحب العلم: يا ليتني أنكرت المنكرات! يا ليتني تكلمت! ما بالك يا طالب العلم؟! يمنعك الخجل يمنعك الحياء يمنعك الجهل يمنعك الخوف.
ما بالك يا عبد الله لم تقم المقام الذي أمرك الله به في مجلس من المجالس ويستهزأ فيه على الله ويُتكلم فيه على الدعاة والمصلحين وأنت ساكت! تتذكر هذا الموقف يوم القيامة، فتقول: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24] يا ليتني! تكلمت ولم أبال بالناس! يا ليتني أنكرت المنكرات! يا ليتني تكلمت في الناس ونصحت ولم أبال بكلام الناس! يا ليتني ويا ليتني! يقول ذلك الرجل، بعد أن يأتي يوم القيامة، فينظر إلى ذنوبه، فيتذكر من كان السبب! إنه صاحبه في الدنيا: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} [الفرقان:27 - 29] يتذكر صاحبه في الدنيا، كان أصحاب الصلاح وأصحاب الخير يقولون له: ائتِ معنا في مجالس الخير لنذهب إلى العمرة إلى مجالس الخير إلى الدروس إلى بيوت الله، ولكن صاحب السوء كان يأتيه فيقول له: أنت شاب، تمتع بالشباب لا تذهب مع أولئك المعقدين لا تذهب مع أولئك المتزمتين المتطرفين، ليس عندهم ضحك، ولا لعب، ولا دنيا، ولا حياة.
ائت معنا نتمتع بالدنيا.
يتذكر هذه المواقف يوم القيامة، فيعض لا على إصبعه أو يده فقط، بل يدخل يديه كلتيهما في فمه فيعض عليهما من الندم {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} [الفرقان:27] هذا الموقف -يا عبد الله- إذا تذكرته ازداد إيمانك، وقوي شيئاً قليلاً.(51/12)
التفكر في الخسارة الكبرى أو الفوز العظيم
يا عبد الله! إذا أردت أن يقوى الإيمان عليك أن تتذكر الموقف الثالث، الذي فيه يأمر الله عز وجل بالناس إما إلى الجنة وإما إلى النار، فيأتي الرجل، وتخيل نفسك حين يناديك الله عز وجل يوم القيامة باسمك، وكنت بين الناس في المحشر، بعد خمسين ألف سنة، والشمس تدنو على الرءوس مقدار ميل، والناس قد أنهكهم التعب والحر، فيفصل الله عز وجل بينهم، فينادى بك: أين فلان بن فلان؟ ينادى باسمك فترتعد الفرائص، وتضطرب الجوارح، وتكاد تسقط على ركبتيك فتجرك الملائكة جراً إلى الله إلى الجبار إلى الملك إلى العزيز إلى القهار، وأنت تتذكر الذنوب كلها، تتذكر يوم أن نمت عن صلاة الفجر، وتتذكر يوم أخرت صلاة العصر.
تتذكر يا عبد الله! يوم كان الصالحون يأمرونك بالمعروف وكنت تصد، كنت تقرأ الآيات {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278] ولكنك كنت تصر على الربا، كنت تعرف أن عليك مسئولية أن تأمر بناتك وزوجاتك بالحجاب، ولم تكن تفعل، يُؤتى بك أمام الله يوم القيامة فيذكرك الله عز وجل بالذنوب، فإن كنت ممن تاب وأصلح حاله في الدنيا، يقول الله عز وجل له يوم القيامة، بعد أن يقرره بالذنوب، وبعد أن يقول: (أي ربِّ! هلكت، فيقول الله له: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيُعطى كتابه بيمينه، فيذهب إلى الناس، فيقول لهم: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20]) يذهب ليبشر الناس، يقول: انظروا إلى كتابي! انظروا إلى صحيفتي! انظروا إلى مجالس الخير! انظروا إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر! انظروا إلى قيام الليل إلى صيام النهار إلى الصدقة إلى البذل إلى المعروف إلى الإحسان إلى الناس إلى العمرة تلو العمرة إلى الجهاد في سبيل الله انظروا!
أمَّا إن كنت من الصنف الآخر -فنسأل الله العافية والثبات- فيقال له بعد أن يقرره بذنوبه: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30] إنها علامة الرسوب لا عمر آخر، ولا حياة أُخرى، ولا رجوع إلى الدنيا، {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} [السجدة:12] بعد أن يُقِر بالذنوب، يقول: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} [السجدة:12] ماذا يريد الآن؟ {فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12].
يا رب! أرجعنا إلى الدنيا نعمل الصالحات!
يا رب! أرجعنا فوالله إنه يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فلا يفارق بيت الله! ليظل ساجداً إلى أن يموت، والله لا يبقي فلساً واحداً في جيبه إلا ويتصدق به! يتمنى كل هذا، ولكن: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:30 - 32] كما قال الله عز وجل: {يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [القمر:48] فعندما يقترب من النار، فإذا بالنار قد فتحت أبوابها، فيدخل إلى جهنم فإذا هي سوداء تزفر وتنادي فتقول: {هَلْ مِنْ مَزِيد} [ق:30] ماذا ينظر؟ إنه ينظر إلى أصحابه في النار، إلى رفقائه في الدنيا ينظر إليهم وهم في النار، {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38] ينظر إلى رفقائه فيقول: يا رب! هو الذي أضلني.
يا رب! كان يأخذ بيدي إلى الأسواق.
يا رب! كان يقول لي: اذهب معنا لنسافر إلى بلاد الغرب لنفعل ونفعل، كان يقول لي: إياك أن تذهب مع الصالحين، أو أن تذهب إلى المساجد، كان ينهاني عن الطاعة ويأمرني بالمعصية، [عجبت للنار كيف نام هاربها، وعجبت للجنة كيف نام طالبها].
كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا تذكروا تلك المواقف، كما قال الله عز وجل عنهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16] لا ينام أحدهم الليل عندما يتذكر النار، أو يتذكر الوقوف أمام الله عز وجل، أو يتذكر موقفه عند الاحتضار، أو يتذكر ذلك الموقف إذا خرج من قبره والناس يخرجون من أسفل منه، يخرجون من القبور للعرض أمام الله عز وجل، فيتذكر هذه المواقف.
كان أحدهم لا ينام الليل، {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة:16] يقوم أحدهم الليل! لماذا يا إخوان؟ {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].(51/13)
التزود من التقوى وعدم الإسراف في اللهو والضحك
دخل عليه الصلاة والسلام على أصحابه وقد أسرفوا في الضحك، فقال لهم: (لو تعلمون ما أعلم! لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون، فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رءوسهم ولهم خنين) أخذوا يبكون.
أما نحن فيُقرأ علينا القرآن في رمضان كله من أوله إلى آخره والقلب لا يخشع دمعة واحدة لا تنزل لا نتأثر لا نتغير لا نتدبر!! على قلوب أقفال، نسأل الله العافية ما الذي أقفلها؟ {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] النظرات الكلمات الخطرات الأفعال!! الذنوب والمعاصي أماتت القلوب حتى أصبحت لا تتأثر بكلام الله ولا بآيات الله، الواحد منا يذهب إلى جنازة، ويحملها على كتفه، بل يمر في جنازة، ويمر بين القبور وكأنه يمر بين الصخور، يذهب إلى الجنازة فيخرج وهو يضحك.
قال الحسن البصري لأحدهم بعد أن مر في جنازة: [لو أن هذا رجع إلى الدنيا ماذا كان يتمنى؟ قال: أن يُصلي ركعتين، قال: فإن لم يكن هو فكن أنت يا عبد الله].
يا عبد الله! كل يوم يقبض الله روحك وأنت نائم ثم يرجعها إليك، ومع هذا تقوم من نومك، فتقول: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور، ثم لا تتوب، ولا تتفكر! آيات وعبر كم من صاحب لك قد فارق الدنيا؟!
كم من قريب لك قد فارق الدنيا؟!
اقرءوا الجرائد تجدون صغار السن والشباب -الآن- يموتون أكثر من الكبار.
يا عبد الله! والله لا تأمن على نفسك أن تخرج من البيت فتركب السيارة أن تنزل منها، بل لا تأمن على نفسك أنك إذا نمت أن تستيقظ، بل لا تأمن على نفسك الآن أن ترجع إلى البيت، بل لا تأمن على نفسك الآن أن تخرج من هذا المجلس، بل لا تأمن على نفسك أنه إذا خرج نفسك أن يرجع إليك.
تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جنَّ ليلٌ هل تعيشَ إلى الفجر
فكم من فتى أمسى وأصبح لاهياً وقد نُسجتَ أكفانه وهو لا يدري
وكم من صغار يرتجى طول عمرهم وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر
وكم من عروسٍ زينوها لزوجها وقد قبضت أرواحهم ليلة القدر(51/14)
بعض قصص التائبين
ختاماً يا عبد الله! اسمع إلى هذه القصة: (جاء رجل كبير في السن إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد سقط حاجبه على عينيه من كبر سنه، وهو متكئ على عصا، فقال: يا محمد! إن لي ذنوباً لو وُزِّعت على أهل الأرض لأهلكتهم فهل لي من توبة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: إذاً يبدلك الله بها حسنات -الله أكبر! السيئات كلها تنقلب إلى حسنات- فقال الرجل: وغدراتي وفجراتي؟ قال: يُبدلك الله بها حسنات، فولَّى الرجل وهو يقول: الله أكبر الله أكبر) {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران:135] فاحشة: أي كبيرة من الكبائر {أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران:135] أي: صغيرة من الصغائر، {ذَكَرُوا اللَّهَ} [آل عمران:135] تَذَكَّر الذنوب وتَذكَّر رحمة الله، فتاب ورجع إلى الله {ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135] بشرط: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] بشرط -يا عبد الله- أنك بعد هذا المجلس لا تصر على الذنوب والمعاصي لا تصر على نظرك إلى النساء، أو استماعك للأغاني، أو النوم عن صلاة الفجر، أو الغيبة والنميمة، أو بعض المعاصي التي تعرفها ولا يعرفها غيرك من الناس، لا تصر على الذنوب والمعاصي فهو شرط من شروط التوبة، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح من طريق أبي بكر رضي الله عنه: (ما من رجل يذنب ذنباً، ثم يقوم فيتطهر، فيصلي ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، إلا غَفَرَ الله له ذنبه)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (لا يحدث بهما نفسه) أي: يصلي ركعتين فيخشع فيهما ويتدبر، ويتوب إلى الله عز وجل من هذا الذنب (إلا غفر الله عز وجل له ذنبه) {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:70].
يُروى أن رجلاً كان يفعل المنكرات والمعاصي، وكان يشرب الخمور، وكانت عنده جارية تعني وغلام يعزف، وكان عند هذا الرجل قارب، وفي يوم من الأيام أرد أن يركب القارب ليتعدى النهر إلى الضفة الأخرى، فرأى شاباً عند ضفة النهر، أراد أن يعبر النهر، فقال: اركب معي، وكان هذا الشاب صالحاً فركب معه، وفي الطريق، بعد أن أكل الرجل الطعام وكان غنياً ثرياً، وأكل معه ذلك الغلام، أمر العبد والأمة أن يعزفا ويغنيا له، فبعد أن انتهيا من الغناء والعزف وشرب الخمر، قال لذلك الشاب: هل عندك مثل هذا؟ أي: مثل هذه الأغاني والعزف والطرب، قال: نعم، عندي أحسن من هذا، فظن الرجل أنه سوف يغني له، فأخذ يقرأ كلاماً من آيات الله عز وجل حتى إذا انتهى من قراءته، قال: حسبك! فشهق ذلك الرجل شهقة خرجت بها نفسه -الرجل الغني، صاحب الأغاني، صاحب الطرب- تاب إلى الله توبة خرجت بها نفسه، ويقال: إن المرأة -الجارية- تابت توبة نصوحاً، فأخذت تقوم الليل في كل ليلة، حتى وصلت إلى سورة الملك ففاضت روحها إلى الله عز وجل.
توبة يا عبد الله صادقة! إذا أردت أن تتوب فاعزم من الآن أنك إذا رجعت إلى البيت أن تترك جميع المعاصي والذنوب، كف عن الذنوب صغيرها وكبيرها، لا تقل: عندما يأتي رمضان، أو عندما أحج إن شاء الله، أو عندما أتزوج، أو عندما أترك هذا العمل أو أترك هذه الوظيفة بعد ذلك أتوب! لا يا عبد الله، لا تأمن على نفسك الموت، لا تأمن على نفسك أن تخرج روحك وأنت على هذه الذنوب والمعاصي.
بادر بالتوبة بادر بالرجوع إلى الله عز وجل، واعلم أنك سوف ترجع إلى ربك الذي يفرح بعبده العاصي إذا رجع إليه، طالما أذنبت وعصيت والآن يفرح بك.
الله أكبر! ما أرحمه، وما أوسع مغفرته تبارك وتعالى، وما أرأفه بعباده، إذا عصيته ثم رجعت فرح بك بل أشد مما يفرح ذلك الرجل الذي أضاع ناقته ودابته وعليها طعامه وزاده، وأيقن بالموت ثم رجعت إليه، ففرح فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك! أخطأ من شدة الفرح، الله أفرح بعبده إذا رجع إليه من هذا الرجل بدابته.
أسأل الله عز وجل أن يغفر لنا ذنوبنا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(51/15)
مميزات الدعوة المكية
على الرغم من أن مرحلة الدعوة المكية تميزت بخصائص لا تصلح لأي مرحلة زمنية بعدها، كالتدرج في تشريع بعض الأحكام، إلا أن كثيراً من سماتها تقدم دروساً في هذا الفن، تصلح لكل زمان ومكان.
وفي هذه المادة بيان لستٍ من مميزات الدعوة المكية، موضحة بالأمثلة، القاسم المشترك بينها هو الجهد الجبار الذي بذله القائد الأول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام.
وقد بينت فقرة الأسئلة بعض ما لم يتضح في ثنايا المحاضرة.(52/1)
الفرق بين الدعوة المكية والدعوة في وقتنا الحاضر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
لعل هذا الموضوع واضح من عنوانه أن أغلبه سيرة؛ ولكن سيرة بشكل آخر، كيف نستفيد من هذه السيرة؟ ولعل الفاهم والفقيه في هذا الدرس من يعرف كيف يربط تلك السيرة بهذا الواقع المعاصر، وبالدعوة في هذه الأيام، لأن الوقت لن يسع، بل لن يسمح علم المتكلم أن يربط هذه السيرة بهذا الواقع، ولكن يكفينا إن شاء الله إشارات.
قبل البداية: هناك فرق بين العصر أو العهد المكي وهذا الوقت، ولا بد أن نعرف أمراًَ، وهو أنه ليس كل ما يقال في العهد المكي يطبق الآن، بل الأمر يختلف، ففي العهد المكي أولاً الإسلام لم يكتمل، فلربما يأتينا آتٍ فيقول: نفعل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم: لا نحرم الخمر على الناس نتدرج فيه نقول للناس: الخمر مباح، لكنه فيه إثم عظيم وفيه كذا، ثم بعد أيام نقول: اتركوا الخمر فقط في الصلاة واشربوا في غيرها، ثم بعد أيام نتدرج حتى نحرم الخمر على الناس، وهذا خطأ لأن الله عز وجل قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] وقال: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] فلا يجوز أن نقيس العهد المكي بعصرنا بأن نقول: والله نتدرج مع الناس في التشريع، فهذه مصيبة، أو نقول: ندعو كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم -حرفياً- بـ مكة، فالأمر يختلف، ففي مكة لم يكن هناك منافقون كما في عصرنا، في مكة كان الناس إما مسلم أو كافر، لا يوجد غيرهما، أما في هذا العصر فالأمر مختلف جداً، ففي المسلمين -كما يقال- اختلط الحابل بالنابل المنافق والمسلم ضعيف الإيمان وقوي الإيمان، ومنهم العلماني الذي يدعي الإسلام، وغيرهم كثير، حتى بعض الكفار والزنادقة قد يدعي الإسلام في هذه الأيام.
هذه مقدمة قبل البداية.
سأل سعيد ابن عباس: [أكان الناس في مكة يعذرون في ترك دينهم؟ -واسمع إلى هذه الآثار العجيبة جداً ثم قارنها بهذا العصر- قال ابن عباس: إن كانوا ليجيعونهم ويضربونهم ويؤذونهم حتى إنهم ما كانوا يستطيعون الجلوس من شدة الأذى -الواحد منهم لا يستطيع أن يجلس من الإيذاء- حتى إن الجعل ليمر عليه -الجعل: حشرة صغيرة حقيرة- فيقال له: أهذا إلهك من دون الله؟ فيقول: إي والله، هذا إلهي من دون الله] مسلم صحابي من خيرة الصحابة لكنه ما استطاع أن يصبر، حتى أنه يقول للجعل: هذا إلهي من دون الله، {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل:106].(52/2)
مميزات الدعوة المكية
مميزات الدعوة المكية:
سوف نذكر منها ستة إن شاء الله ونقتصر عليها ثم إن وسعنا المقام تكلمنا عن عوامل الصبر في تلك الدعوة.(52/3)
الانتشار
أول ميزة من مميزات الدعوة المكية: الانتشار:
واسمع إلى تلك القصة، كان النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته منتشراً، لا يجلس في بيته ولا ينتظر الناس يأتونه، كان ينتشر، في كل قبيلة وفي كل بطن تجد له أحد الناس قد أسلم.
فهذا أبو ذر من غفار.
وهذا الطفيل بن عمرو من دوس.
وهذا عمرو بن عبسة السلمي.
وهذا بلال الحبشي.
وهذا سلمان الفارسي.
وهذا صهيب الرومي.
حتى من اليمن من أزد شنوءة، جاءه رجل يسمى ضماد الأزدي، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا ضماد كان يقرأ على الناس، ليعالج المريض، فسمع أن رجلاً يقال له: محمد، مجنون، فأتى إلى مكة يبحث عن هذا الرجل- كل الناس تتكلم عنه، رجل مجنون يقال له: محمد، وهو أعقل الناس عليه الصلاة والسلام، فأتى إليه ضماد فجلس عنده، فقال يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم: (هات ما عندك، فقال له أحكم الناس وأعقلهم: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، قال: حسبك! والله لقد سمعت قول السحرة والكهنة والشعراء، والله ما سمعت مثل كلماتك هذه، لقد بلغت والله قاموس البحر، هات أبايعك) فمد النبي صلى الله عليه وسلم يده فبايعه ضماد الأزدي رضي الله عنه، وهو من أزد شنوءة.
كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يجلس، كان يستقبل الوفود، يأتيه وفود في الحج فيأتيهم إلى خيامهم، فيفتح الخيمة ويقول: (من يؤويني حتى أبلغ دعوة ربي، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا) انظر الانتشار، يضرب على البيوت ويأتيهم في الأسواق وفي النوادي والمجالس، يقول: (من يؤويني حتى أبلغ دعوة ربي، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا).
ومن يقرأ السيرة يجد أمراً عجيباً.
هذا من بني جُمَح.
هذا من بني زهرة.
هذا من بني عبد مناف.
هذا من بني عامر.
وهذا من بني فلان وفلان وفلان.
كأن النبي صلى الله عليه وسلم كان دوامة في الناس يجول ويصول في كل المجالس وفي كل المنتديات، لا كحالنا وللأسف، ينتظر أحدنا من يأتيه فيطرق عليه الباب، فيقول له: دلني على المسجد، والله حال يُرْأف لها، ويحزن الإنسان لحالنا، بل إن بعضنا تمر عليه السنون تلو السنين وجاره لا يصلي ولم يبال، إن صلى فهذا المسجد! وإن لم يصل فعلى كيفه! أمر عجيب وحال غريب!
ففي الميزة الأولى تبين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينتظر أمراً، لماذا كان يدعو في كل قبيلة؟ كان ينتظر ساعة الصفر التي أخبر عنها ورقة بن نوفل، قال: [يا ليتني كنت فيها جذعاً إذ يخرجك قومك، قال: أوَمُخْرِجِيَّ هم؟ قال: ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي] هل تريد أن تدعو إلى الله وتجلس في بيتك منعماً؟ لا، من كان مرتاحاً في دعوته ولا يصاب بأذى أو بلاء فليَتَّهِم نفسه، لعل فيه خللاً، ولعل إيمانه فيه خدش، يقول: (ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي) {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] ينتظر عليه الصلاة والسلام ساعة الصفر، لهذا كان يعد العدة، ويعد الرجال.(52/4)
الجرأة في عرض الحق والمواجهة
الميزة الثانية: وهي من المميزات العظيمة جداً: الجرأة في عرض الحق والمواجهة:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يواجه الناس فما كان يخجل، ولا كان والله يطأطئ رأسه ويخفي بعض المبادئ، فالإسلام كله كان يعرضه على المشركين، قبلوا أو لم يقبلوا: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون:1 - 2] جرأة ومواجهة، بل وقف على الصفا عليه الصلاة والسلام قال: (إني نذير لكم بين يدي عذاب أليم، قال أبو لهب: تباً لك ألهذا جمعتنا سائر اليوم؟! فأنزل الله {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1]) فالأمر فيه جرأة.
قام النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الناس فأسلم بعض الصحابة، وكان بعضهم يريد أن يكون جريئاً في الدعوة، كـ أبي ذر، فقام، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تخرج) فخرج، ونطق بها صريحة أمام الناس: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فضرب حتى كان كأنه تمثال أحمر من الدم، رضي الله عنه جرأة إعلان مواجهة، لا نقول: مواجهة بالسلاح، ما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا؛ أما الكلام فهو المواجهة وهو الصدع: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94] قال ابن الزبير (كان أشراف قريش يقولون في النبي صلى الله عليه وسلم كلاماً، يقولون: والله ما رأينا مثل محمد، سفه أحلامنا، وعاب ديننا، وسب آلهتنا -نعم ما كان يجامل، وما كان يماري، وما كان يداهن، هذه الأصنام في النار أنتم وهي، إن متم على هذا الشرك أنتم وهذه الأصنام كلكم في النار، ما كان يداهن- يقول ابن الزبير -واسمع لتلك القصة-: فخرج عليهم عليه الصلاة والسلام يوماً وكانوا جالسين في المجلس -أشراف قريش عند الكعبة- يقول: فذهب إلى الركن فاستلم الركن فطاف حول البيت -لعل سائلاً يسأل: كيف يطوف والأصنام حول البيت؟ ما كان يبالي عليه الصلاة والسلام، فهو يعبد الله، فأخذ يطوف- فلما طاف الشوط الأول ومر عليهم غمزوه -تكلموا عليه، فلم يبال- فطاف الشوط الثاني، فغمزوه، ثم طاف الشوط الثالث فغمزوه، فأقبل عليهم عليه الصلاة والسلام -ترك الطواف- فقال: تسمعون يا معشر قريش! أما والذي نفس محمد بيده! لقد جئتكم بالذبح -انظر المواجهة- يقول الصحابي: والله حتى ما كان أحد منهم إلا كأن طائراً واقع على رأسه -كل واحد من المشركين تجمد- يقول: أما والذي نفس محمد بيده! لقد جئتكم بالذبح -يعني: إما الدين وإما الذبح والقتل- فيقول الصحابي: حتى كان أشدهم فيه وطأة -يعني: أشدهم أذى للنبي صلى الله عليه وسلم- يقول: انصرف يا أبا القاسم راشداً -انصرف- فوالله ما كنت جهولاً) انظروا! جرأة!
لأنه يا إخوان إذا كان المسلم جريئاً يعرض الحق بجرأة ويواجه الناس: هذا منكر وهذا معروف، لا يخجل ولا يجامل ولا يداهن، لو كان صاحب الدين وصاحب العلم في كل مجلس إن رأى منكراً قال: اتق الله هذا منكر -طبعاً بالحكمة ما نقول: بسفاهة لكنه جريء- لو كان في كل مجلس، في السوق مثلاً، في الديوانية، في الجامعة، في الدوام، كل من رأى منكراً، حاول تغييره، وعلم الناس أن هذا منكر، لما كان هذا الوضع الذي نحن فيه، حتى يستحي بعض الملتزمين أن يظهر الإسلام في بعض الأماكن، انظروا ماذا حدث في الأندلس كيف اندثر شيء اسمه إسلام! الآن تذهب إلى أسبانيا ما تتوقع أن هذه بلد خرَّجت علماء، وحكمها الإسلام لقرون طويلة، بل كان خليفة المسلمين فيها.
ما أحد كان يظن هذا الأمر، من يذهب إلى أسبانيا ما يظن بأن الأمر نقصته الجرأة والمواجهة.
كان عمر رضي الله عنه فتىً جريئاً، عندما أسلم ذهب أمام المشركين فأعلن إسلامه، وعندما هاجر كان الصحابة يهاجرون مستخفين، أما عمر رضي الله عنه فلا، فقد أخبر كل المشركين أنه سوف يهاجر، أي: الذي عنده شيء يفعله، انظر المواجهة.
وأبو بكر كان جريئاً يا إخوان، ما كانت القضية في الدعوة المكية كما يقول بعض الناس: السرية والخوف والخجل وإخفاء ما عندك من المبادئ والدين، وكتِّم، لا يا إخوان، بل الأمر يحتاج إلى جرأة، تكتب في الصحافة، تتكلم في التلفاز، تكون جريئاً، تتكلم في المسجد، والسوق، تكلم حتى صاحب المنكر، تأتيه وتكلمه بينك وبينه، تقول: هذا منكر، هذا لا يجوز، حتى في السيارة، توقفها وتقول: يا أخي اتق الله.
أين الجرأة؟ افتقدها أكثر الدعاة.
أبو بكر رضي الله عنه من جرأته ما كان يصلي في بيته، خرج خارج البيت وجعل له مصلى، فأخذ يصلي في المصلى خارج البيت والناس يمرون حوله، وأخذ يبكي رضي الله عنه، تخيل أبا بكر يبكي، الناس ماذا يفعلون؟ يأتون يستمعون إليه، ماذا يفعل هذا الرجل؟ الأطفال والنساء والشيوخ والرجال، والأغراب يأتون فينظرون من هذا الرجل؟ ماذا يفعل؟ إنه يصلي يسجد ويركع ويتلو القرآن وهو يبكي في الصلاة، إنها جرأة -والله- نحتاج إليها.
عمر وحمزة عندما أسلما أخذ كل واحد منهم عشرين رجلاً وعملوا مظاهرة، شبه مظاهرة، خرجوا أمام المشركين بأربعين رجلاً، وأخذوا يمرون على المشركين، كل منهم عنده عشرون رجلاً فقط، يمرون أمام المشركين، ليعلم كل الناس أن هذا الدين باقٍ، لأن بعض الناس -يا أخي- ضعيف الإيمان، يخاف إن أسلم أنه سوف يفقد منصبه، سوف يضيع هذا الحزب الذي يتبعه، سوف تضعف مكانته، يستهزئ الناس به ويسخرون منه، سوف يكون -كما نقول- ذليلاً بين الناس، يخاف، لكنه لو يرى المسلمين جريئين أقوياء، والله يسلم كل الناس، ويتبع الناس هذا الدين.
عمر رضي الله عنه كان جالساً بعد الفجر بعدما أسلم -انظروا القوة في الدين- فأتاه المشركون فأخذوا يتعرضون إليه ويرد عليهم، ويسبونه، وهو يدفعهم، فاجتمع المشركون على عمر، وعمر كلنا يعلم من هو عمر، كان إذا ضرب أوجع، وإذا تكلم أسمع، وإذا مشى أسرع، كان رجلاً، فأخذ يدفع الناس ولم يسكت، بعض الناس يظن أن من الحكمة أنه إذا يُضرب يسكت، وأن الدين يُسب ويُشتم العلماء ويُستهزأ بسنة سيد المرسلين، ويظن أن من الدين أن يقول: جزاك الله خيراً، لا هذا ليس من الدين، هذا من الذلة، الدين أن تقول له: اتق الله هذا لا ينفع، هذا دين، تكلم فِيَّ وفي أي واحد، أما في الدين فانتبه.
عمر أخذ يُضرب ويُشتم ويُدفع، فأخذ عمر رضي الله عنه يضربهم، يقول الراوي والأثر صحيح ثابت، يقول: [حتى ارتفعت الشمس وهو يدفعهم -من الفجر، وهو يدفعهم رضي الله عنه- حتى جلس من شدة التعب -انظر الآن يدفعهم، ربما ساعات طويلة وهو يدفعهم عنه، حتى جلس من شدة التعب، فأجاره رجل من المشركين، وعندما ابتعدوا عنه أخذ يناديهم -الآن تعب الجسد لكن بقي اللسان، وفيه القوة والعزة، قال: يا أعداء الله -هو الآن يكاد يقتل، ثم يخاطبهم بهذه اللهجة- يقول: يا أعداء الله! والله لو بلغنا فيها ثلاثمائة لأخرجناكم منها] لو كنا في مكة ثلاثمائة لطردناكم من مكة كلكم، انظروا الجرأة، انظروا المواجهة، والله نحتاجها في هذه الأيام.
هذه الميزة الثانية، ولعلنا أطلنا فيها.(52/5)
الابتلاء والصبر
الميزة الثالثة: والثالثة انتبه إليها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدرس الخطط، وكان الله عز وجل يعلمه خطط المشركين، خطط كثيرة: استهزاء سخرية اتهام ضرب عنف مداهنة إغراء هذه وسائلهم وخططهم، وكان الله عز وجل يعلِّم النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان يدرس النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه هذه الخطط، وكانوا يتخذون لكل خطة مسلكاً.
فبعض المرات كان يقول للصحابة: اسكتوا الآن، لا أحد يظهر دينه، وبعض المرات كان يأمرهم بالإظهار، وبعض المرات هو الذي يظهر ويصدع، وبعض المرات لا، يسكت النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يتخذ لكل مشكلة حلاً.
وقد قالوا عن أفضل الخلق أنه كذاب والأمر صعب جداً يا إخوان! بعد أن توصف بأنك الصادق الأمين طوال هذه السنوات، ويضع الناس أماناتهم عندك يأتون ويقولون لك: أنت كذاب، وأنت كاهن، وأنت ساحر، بل جاءهم بأعظم البينات: القمر، قال: (اخرجوا معي -فخرجوا إلى البر، فشق الله عز وجل لهم القمر فلقتين، فلقة أعلى الجبل وفلقة دون الجبل- فقال لهم: انظروا، اشهدوا، ترون القمر ينشق أمام أعينكم.
فأدبروا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: سحرنا محمد، سحرنا محمد) {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر:2 - 5].
كان يأتيهم النبي صلى الله عليه وسلم فيدعوهم في المجالس فيقولون: أنت ساحر، أرسلوا إليه الوليد بن المغيرة، وهذا أحد فصحاء قريش وشعرائها، قالوا له: اذهب إلى محمد، فقل فيه قولاً، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسمعه يقرأ القرآن، فرجع إلى المشركين قال: -عن هذا القرآن- والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه -هذا القرآن، والحق ما شهدت به الأعداء- فقالوا له: قل فيه قولاً، فكر، وحسب الأمر وقدره، وعبس، وتضايق -ماذا يقول؟ - فأدبر عن المشركين ثم التفت إليهم فقال: قولوا ساحر، فرق بين الولد وأبيه، وبين المرأة وزوجها، قال الله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً} [المدثر:11 - 12] الوليد: {وَبَنِينَ شُهُوداً} [المدثر:13] كان يمشي وأبناؤه عن يمينه وشماله، يفتخر بهم، ومع هذا ما اتعظ: {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} [المدثر:15 - 17] مكان في جهنم، انظر الوعيد، لمه؟ {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر:18 - 20] لعن لأنه قدَّر هذا التقدير {ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:21 - 24] {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:5] سحر؟! تعرفُ يا وليد أنه كلام الله حق، وأنه لا يُعلى عليه! {إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:24 - 25] ثم توعده الله عز وجل بعدها: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} [المدثر:26 - 28] خطط عظيمة جداً.
يقول ابن مسعود: [أول من أظهر الإسلام سبعة، كل منهم كان عنده من يحميه إلا بلالاً -يقول: بلال لم يكن عنده أحد يحميه- كان يجر في الرمضاء على ظهره والحجر على صدره وهو يقول: أحد أحد].
يقول: بعض الصحابة أعطاهم ما أرادوا -كان ينطق بكلمة الكفر وهو مطمئن بالإيمان- إلا بلالاً، فـ بلال لم يقلها، كان يقول: أحد أحد.
بعض الصحابة كان يُلَف بالحديد ويُسحب في الشمس الحارة.
بعضهم يا إخوة كان يوضع على الجمر.
وانظر حالنا، لعله لو يوقَف المعاش يبيع الدين!
لو الزوجة تحزن والله أول ما يضع اللوم على اللحية!
لو ينقص شيء من ماله يقول: خَلِّ دعوتك لك!
لو يُهان إهانه قليلة جداً يترك الدعوة شهراً كاملاً، سبحان الله! حال غريب عجيب!
كان يوضع على الجمر حتى يطبخ الجلد.
كانوا يأتون بأسياخ الحديد تحمى في النار ثم تكوى بها الظهور، أتعلم ما هو الكوي؟ بعض الصحابة كان يفتخر أن ظهره قد كُوِي في سبيل الله.
بعضهم كـ عمار يرى أمه أمام عينيه يطعنها أبو جهل برمح في فرجها حتى تموت.
الأمر صعب جداً يا إخوان! الخيال سهل أن تتخيل، لكن الحقيقة مرة وصعبة جداً، صعب جداً أن تربط في رقبتك بحبل وتمر بالشوارع ويتبعك الأطفال والعبيد يرمونك بالحجارة فتصبغ الأرجل بالدماء ولا أحد يسأل عنك، يأتي النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمار وأهله فيقول: (صبراً آل ياسر -ما عندي شيء- فإن موعدكم الجنة) تريدون الجنة؟ اصبروا، فما عندي شيء، انظروا هذا الذي أراده الله عز وجل منهم: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3].
حصار الشِّعب، أتدري ما هو حصار الشِّعب؟ وما أدراك ما حصار الشِّعب؟ (مرت علي ثلاثون ليلة ما عندي أنا وبلال إلا طعام يواريه إبط بلال) يخفي بلال الطعام تحت إبطه حتى يأكلونه، أتدري ما هو حصار الشعب؟! والله لو تتخيله لن تتصوره حقيقة، حصار فيه الأطفال والنساء والشيوخ والرجال، يبكي الأطفال من الجوع وينظرون إلى المشركين يتلذذون باللحوم والأطعمة، ولا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً، أحد الصحابة كان يبول في الليل من شدة الجوع، فارتد بولُه -عندما بال كأنه أحس أنه يبول على شيء- فتلمسه فأخذه فإذا هو جلد يابس، فأخذه فحرقه ثم فتته، ثم خلطه بالماء ثم شربه، من شدة الجوع، أتعرف أن أوراق الشجر تؤكل في حصار الشِّعب؟ إنه حصار عظيم ابتلي فيه المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً.
ما نفع هذا الأمر: التعذيب السخرية الاستهزاء الضرب حتى إن أحدهم يأتي النبي صلى الله عليه وسلم كـ أمية عليه لعائن الله، فيخنق النبي صلى الله عليه وسلم برداء فما يأتي إلا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه فيدفعه عنه ويقول: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28] فيأتون إلى أبي بكر فيضربونه بنعلين عليه رضوان الله.
حتى قيل: (في أحد الأيام كان النبي صلى الله عليه وسلم يسجد عند الكعبة -انظروا التعذيب يا إخوان، لا يضرك نقص المعاش، لا تضرك الإهانة، لا تحزنك تلك الكلمة التي صدرت من الأهل أو من الجيران أو من الصحف، لا، لا تضرك، اسمع إلى الأوائل وإلى قصصهم وسيرهم- النبي صلى الله عليه وسلم يسجد عند الكعبة والأشراف جالسون -أشراف قريش، وما هم بأشراف- فبعضهم يقول: من يذهب إلى سلى جزور بني فلان فيطرحه على رقبة محمد وهو ساجد، فيذهب أشقى القوم عقبة بن أبي معيط، فيأتي بسلى جزور -قذارة من البعير- ويرميها على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فما يستطيع عليه الصلاة والسلام أن يرفع رأسه، حتى الصحابة ينظرون، لا أحد يستطيع أن يتحرك فقد كتموا إسلامهم، فما تتحرك إلا فاطمة وهي تبكي رضي الله عنها، فتركض إلى أبيها عليه الصلاة والسلام فتدفع عنه ذلك الأذى، فأكمل النبي صلى الله عليه وسلم صلاته وهي تبكي رضي الله عنها وأرضاها، وهو يقول لها: لا عليك يا بنية، ثم قام يدعو فقال: اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بـ عمرو بن هشام، اللهم عليك بـ شيبة بن ربيعة، اللهم عليك بـ عتبة بن ربيعة، اللهم عليك بـ عقبة بن أبي معيط، وأخذ يسميهم، يقول الراوي: ولقد رأيتهم صرعى في يوم بدر) {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر:45].
نعم، إنه الصبر والابتلاء.
أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالإغراء: (إن أردت ملكاً ملكناك -ما نفع التعذيب- إن أردت امرأة زوجناك أجمل النساء، إن أردت مالاً أعطيناك من أفضل أموالنا -ماذا تريد؟ {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9]-حتى يرسلون أبا طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يريد أن يغري النبي صلى الله عليه وسلم -ما ينفع- أتاه عتبة بن ربيعة يقول: ماذا تريد؟ تريد أي شيء نعطيك إياه، لكن كف عنا ما أنت فيه، اعبد الله وحدك، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم عندما انتهى: أوَانتهيت؟ قال: نعم.
قال: اسمع الآن.
قال: بسم الله الرحمن الرحيم: {حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:1 - 4] وأخذ يقرأ، قال: حسبك، فخرج عتبة مولياً إلى بيته، فأغلق عليه بيته، يقول المشركون: والله إن به بأساً -يعني: أثر محمد في عتبة - فذهبوا إليه، فقال: والله خشيت أن تنزل عليكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، كفوا عنه).
أتوا يغرونه لكن ما نفع هذا الأمر، وهذا يحصل في هذه الأيام، قد يكون بعض الأيام التعذيب والسجن والضرب ما ينفع عند بعض الدعاة، فيأتون إليهم بالإغراءات كما قال ابن القيم: كان يفعل النصارى بالمسلمين هذا الأمر، يأتون إليه في السجن بأجمل الطبيبات، لتداويه وهو في السجن وهي تفتنه، فتداويه وتطببه وتسهر على راحته، فبعضهم يفتن.
ما نفع معه السجن ولا التعذيب ولا الضرب، ما زاده إلا صلابة، لكن الفتنة قد أردته.
رجل يسمى سعيد الحلبي، وهو أحدالعلماء، كان جالساً في المسجد ماداً رجليه، وكان به وجع في رجليه، وكان يدرس التلاميذ، فدخل الباشا في ذلك اليوم، فقام إليه الناس، هذا يقبل يده وهذا يوسع له الطريق، وهذا يحيه وهذا كذا، والناس هذه عادتهم، إلا هذا الشيخ فاستمر جالساً مكانه مستنداً إلى اسطوانة المسجد وماداً رجليه باتجاه الباب، فنظر إليه الباشا فغضب، فلما ذهب إلى قصره، قال للحارس: اذهب بهذا المال -صرة بها مال- إلى ذلك الشيخ، وإن سألك فقل له: إن الباشا يريد أن يكرمك للعلم الذي عندك، فأتى ذلك الرجل بصرة المال، فدخل على سعيد الحلبي وهو شيخ كبير فأعطاه المال، فقال له: ما هذا؟ قال: الباشا يسلم عيك، ويقول لك: هذه هدية لك، فقال له: خذ المال وارجع به إليه، وقل له: إن الذي يمد رجليه لا يمد يديه.
كلمات عظيمة جداً!
إغراء! {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9] تريد منصباً نعطيك منصباً، تصير وزيراً لكن تَنازَل، بعض الناس يفتن والله، وليس هو وزيراً، بل لعله منصب تافه جداً، وكل الناس يحصلون عليه، ولكنها الفتنة، وضعف الإيمان.
تريد أن تصبح دكتوراً، نعطيك إياها؛ لكن الأمر يحتاج إلى بعض التنازلات، وهذه المصيبة قد يقع فيها كثير من الناس في هذه الأيام.(52/6)
عدم الاغترار بالكثرة
الرابعة: عدم الاغترار بالكثرة:
إياك إياك أن تغتر بالكثرة هذه الأيام، فقليل قد تربى على الإسلام وقد صلب عوده، خير من كثير غثاء كغثاء السيل، لأن الكثير -أيها الإخوة- وقت الفتن يتزلزلون، ووقت المحن يضعفون، ووقت الشدة يقول بعضهم: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [لأحزاب:12] ويتكلم البعض، ويثبط البعض، فما يبقى إلا الذين تربوا على الدين الصحيح.
لا تغرك الكثرة، ولا تطلبها ولكن اطلب الأقوى، حتى قال صلى الله عليه وسلم لـ حذيفة في المدينة: (أحص لي كم يلفظ الإسلام، قال: أوتخاف ونحن أكثر من كذا وكذا -نحن كثيرون- قال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنكم لا تدرون لعلكم أن تبتلوا) ما تدرون ماذا يحدث بعد هذا.(52/7)
مجيء الرد من السماء مباشرة
الخامسة: الرد من السماء:
من مميزات الدعوة المكية: كان يأتي الرد مباشرة من السماء؛ قال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1].
أمية بن خلف كان يهمز النبي صلى الله عليه وسلم ويغمزه فأنزل الله: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} [الهمزة:1 - 3] رد من السماء.
أبو جهل يمنع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى} [العلق:9 - 10] يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: ادعُ الملائكة وأنا أدعو الذين معي، فقال الله عز وجل: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق:17 - 18] حتى ذهب أبو جهل فقال: والله لأعفرن وجهه في التراب، وأطأ على رقبته وجسده في الأرض، وهو عند المشركين، فعندما سجد عليه الصلاة والسلام ذهب أبو جهل وقال: والله ما يسجد إلا وأضع رجلي على رقبته، وأعفر وجهه في التراب، فرجع إليهم أبو جهل وهو يضع يديه أمام وجهه، فيقولون له: ما بك؟ ما الذي حدث لك؟ قال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار وهولاً وأجنحة، ولو اقتربت منه لتخطفتني، يقول: والله ما أعرف ما الذي بيني وبينه خندق حفرة عظيمة هول وأجنحة وأمور عظيمة، ويقول: والله لو اقتربتُ لتُخُطِّفْتُ، ولتقطعت.
رد من السماء، ليس الأمر هزلاً ولا لعباً! أنت معك دين تجابه به الناس لا تخف لا تذل لا تكتم لا تداهن أنت معك رب السماء، والعدو من معه؟ معه الشيطان يغرر به، ومعه جنود إبليس، وحثالة من البشر! وأنت معك الله.(52/8)
التركيز في الدعوة على الأكثر خدمة للدين
وآخر ميزة: تركيز النبي صلى الله عليه وسلم على أكثرهم خدمة للدين:-
كان يركز على عمر وحمزة، وهذه ميزة عظيمة أيها الإخوة، يستحب لك أيها الداعية عندما تدعو أي إنسان -ادعُ الناس كلهم ولكن في التركيز- أن تركز على من تظن أنه سوف يخدم الدين، النبي صلى الله عليه وسلم كان يركز على عمر، من عمر؟ يقول ابن مسعود رضي الله عنه: [ما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر] عندما أسلم عمر كل واحد أظهر إسلامه، وقد كان يخافون فيصلون في البيوت، لكن عندما أسلم عمر أعز الله به الإسلام، أعز الله به المسلمين.
وعندما أسلم حمزة لم يستطع أحد أن يتكلم على النبي صلى الله عليه وسلم، أتى إلى المشركين في نواديهم فضرب أبا جهل ضربة، قال: [أتقول فيه ما تقول وأنا على دينه] وأسلم حَمِيَّةً.
وبعد أن أسلم حمزة وعمر عزَّ الإسلام.
حاول في الدعوة، ادعُ الناس كلهم، وانتشر في الدعوة ولكن في التركيز حاول أن تنتقي الناس، تدعو الناس الذين تظن فيهم النفع، لهذا كان صلى الله عليه وسلم يدعو -إن صحت الرواية-: (اللهم أعز الإسلام بأحد العُمَرين).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
وجزاكم الله تعالى خيراً.(52/9)
الأسئلة(52/10)
أهمية وجود الجرأة عند الداعية
السؤال
ما أهمية الجرأة بالنسبة للداعية؟
الجواب
أظن ذكرنا أمثلة من الواقع ولعلكم انتبهتم، وهذا ما يحصل يا إخوان هذه الأيام، يستحي الواحد منا أن يقوم في المسجد، ولا يقدر أن يتكلم في السوق، ولو رأى متبرجة وهو يطلب منها حاجة في الوزارة مثلاً كتوقيع أو معاملة -ولنكن صريحين- وهو من أجرأ الناس، لكن أن ينصحها في دينها فهو من أخجل الناس، وهذه مصيبة، وهذا تناقض، يعني: الأمر أنك تستطيع أن تتكلم، وعندك القدرة؛ لكن تحتاج إلى جرأة، لكي تتكلم في مجلس ديوانية، الجماعة مثلاً عندهم ديوانية، فتكلم كل الناس إلا أنت، وحتى أنت تتكلم في أي أمر إلا في الدين، وهذا واقع أكثر الملتزمين هذه الأيام، حتى جلس بعضهم في مجلس فتكلم أحد السفهاء، وكان فيهم رجل علم، فقال له رجل: اسكت، غيرك أولى منك، فسكت، فمضت دقيقة أو دقيقتان ولم يتكلم أحد، فتكلم السفيه مرة أخرى، فقال له رجل: اسكت غيرك أولى منك، فسكت، ثم تكلم الثالثة بعد فترة فقال له: اسكت، قال: لا تسكتني، ليس العيب مني بل منهم، لو كان فيهم رجل لتكلم.
نعم.
والله مصيبة، انظر في المجالس عماذا يتكلمون؟ يتكلمون عن أتفه الأشياء، عن السيارات، عن الجرائد، عن الديوانيات، عن الأموال، عن كل شيء، أما رجل يتكلم عن الدين، عن الربا، عن الصلاة، عن أمور في الإيمانيات فهذا نادر جداً، واقع لكنه قليل جداً.
هذه الجرأة نحتاجها كثيراً، هل جرب أحدنا في المحاضرة في الجامعة -لو كان في الجامعة- أن يقوم ويتكلم، ويدعو النساء، وينصحهن بارتداء الحجاب، ويعطيهن شريطاً؟ وهذا سهل جداً، يحتاج الأمر منك في البداية إلى صعوبة، ثم في المرة الثانية هو حاجز رقيق جداً إن كسرته ستبدأ تنطلق، اسأل الذين يتكلمون في المساجد كالخطباء، اسأل أحدهم عن أول مرة جرب الخطبة، يقول: صعب، المرة الثانية؟ سهلة جداً، بل أخذ ينطلق بعدها بكل يسر وسهولة، هي المرة الأولى فقط، وينتهي الخجل بعدها.
فالأمر يحتاج إلى جرأة، ثم بعدها يوفق الله عز وجل، هذه هي الجرأة، وإن قلنا الخطب عن هذا الواقع فأظن تعرفون كيف يكون تطبيقه في الواقع، كما قال الله عز وجل {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55] يعرف الإنسان أعداءه، لأن هذه -والله- فائدة يا إخوان، لو أن الإنسان منا يشعر أن هناك أعداء علمانيين وروافض ويساريين وأعداء من الفجرة الشهوانيين وغير ذلك، لو يحس أن الأمر فيه أعداء -والله- يتشجع الإنسان، لكنه لو يحس أن الأمر يسير، ناس ملتزمون، وناس عوام، وناس فجرة، وناس فسقة؛ لكن لو يحس أن الأمر فيه أعداء فسيجتهد في الدين، لا بد أن نعرف أن هناك أعداء ونعرف الخطط وندرسها ونواجهها، أما أن الإنسان هكذا لا يعرف شيئاًَ فهذه المصيبة.
ولعل عندكم من طلبة العلم من هو أعرف مني في هذه الأمور.(52/11)
معنى قوله تعالى: (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ)
السؤال
ما معنى قوله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} [العلق:17]!
الجواب
رد الله عز وجل على أبي جهل عندما أراد أن ينادي أناساً يعينونه على النبي صلى الله عليه وسلم، قال له: ادع أنت الملائكة، وأنا أدعو أناساً يقومون معي: {نَادِيَهُ} [العلق:17] أي: الذين يناديهم، ويستنصر بهم، ويعتز بهم.(52/12)
في رحاب الجنة
إن الجنة هي سلعة الله الغالية، وهي التي تسابق لأجلها المتسابقون، وشمر لأجلها المشمرون، وذهب لأجلها الشهداء الصالحون، وزهقت لأجلها أنفس كثيرة
فمادام أن الجنة بهذه المثابة؛ فيا ترى ما هي أوصافها؟
هذا هو ما تحدث عنه الشيخ حفظه الله، وفي الأخير تحدث عن العمل للجنة، والتضحية من أجلها، والاستعداد لها، وذكر نماذج لذلك.(53/1)
الجنة وأوصافها
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون: معنا وإياكم في هذا المجلس المبارك -بإذن الله- وهذا المكان الذي تحفه الملائكة إلى السماء الدنيا، ونسأل الله في هذا المكان أن يذكرنا فيمن عنده، وأن يغفر لنا ذنوبنا ويكفر عنا سيئاتنا.
إن الموضوع مشوق ومحفز للنفوس، تطرب إليه الأرواح، والمؤمن يتمنى أن لو سمع مثل هذا الحديث صباح مساء، إنه: في رحاب الجنة.
أرجو منك -أيها السامع وأيتها السامعة- أن ننسى الدنيا قليلاً، أو أن نخرج منها لحظات، وكل منا ينسى أشغاله، وينسى أهل بيته، ليعش كل منا وهو يسمع هذه الأحاديث في الجنة، حتى إن الصحابة كما يقول حنظلة: [إذا كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنا نرى الجنة والنار رأي العين].
هلا كنا كما كانوا؛ نرى الجنة الآن رأي العين، نعيش وإياكم عند أنهارها، في قصورها، داخل خيامها، ونعيش وإياكم ونحن نتحدث عن صفاتها، وفي رحابها.
يسأل النبي صلى الله عليه وسلم أحد الأعراب عما يقول في الصلاة فقال: (أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، قال: وحولها ندندن) هذا مطلوبنا، وهذه غايتنا، نسأل الله الجنة ونعوذ به من النار.
الجنة التي مات لأجلها الأولون، وذهب لأجلها الشهداء الصالحون، زهقت لأجلها أنفس، وذهبت لأجلها أرواح، إنها الجنة سلعة الله: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).(53/2)
عرضها السماوات والأرض
سوف نبدأ وإياكم بشيء من أوصافها، ثم لا تعجب حين تسمع أن عمير بن الحمام؛ وهو رجل كبير، قبل بدر يسمع صفة من صفاتها، وهي: أن عرضها كعرض السماء والأرض، فقال: (بخ بخ! قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ما حملك على قولك بخ بخ؟ قال: لا شيء إلا رجاء أن أكون من أهلها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يزف إليه بشارة: فإنك من أهلها) الله أكبر! الله أكبر! يبشر إنساناً من أهل الأرض أنه من أهل الجنة، هل يريد حياة في الدنيا بعدها؟! هل يريد أن يعيش في الدنيا؟! إذا كانت الجنة كما قال صلى الله عليه وسلم: (لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها) فلم يعيش الإنسان إذا علم أنه من أهل الجنة؟!
فإذا به يقول عندما سمع أنه من أهل الجنة، وأنه ليس بينه وبين دخولها إلا أن يقتل في المعركة، وكانت في يده تمرات فقال لنفسه: والله إنها لحياة طويلة إن عشت حتى آكل التمرات.
وهي تمرة أو تمرتان فقط، فألقاها وتقدم إلى المعركة فقاتل حتى قتل {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] ومهما عملت في الدنيا من صلاة، وصيام، وعبادة، وقيام ليل فلا تظن أن هذا هو ثمن الجنة، فالجنة أغلى بكثير (والله لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا).
الجنة أغلى من أن يكون عملنا ثمناً لها، فإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة من عنده) فأعمالنا إنما هي سبب لرحمة الله التي هي السبب الحقيقي لدخول الجنة.
اسمع إلى الجنة، وتخيل وتصور أنك قد تجاوزت الحساب، وتصور أن موازينك قد ثقلت بالحسنات، وتصور أنك قد جزت الصراط ولم يبق على دخول الجنان إلا فتح أبوابها، ثم يؤذن لهم بالدخول.(53/3)
أبواب الجنة ومن يفتحها
الجنة لها ثمانية أبواب، تصور أنك تنتظر دخولها وهي تتلألأ من بعيد، وريحها يوجد من مسيرة أربعين عاماً، لو ابتعدت عنها أربعين سنة شممت رائحتها.
الجنة من الذي يفتح له بابها؟ ثمانية أبواب بين مصراعي الباب مسيرة أربعين عاماً.
يخرج أفضل الناس وخير الخلق، سيد ولد آدم يوم القيامة محمد عليه الصلاة والسلام، فإذا به يأخذ حلقة من حلقات أبواب الجنة، فيقول الملك: من أنت؟ فيقول: أنا محمد، بكل أدب وتواضع عليه الصلاة والسلام، فيقول الملك: لك أمرت، لا أفتح لأحد قبلك.
فتصور أن الباب قد فتح، وتخيل أنك تنظر إلى ذلك الباب، وأنك تنتظر الإذن لتدخل إلى تلك الجنان يقول الإمام أحمد بن حنبل لما سُئل: متى يجد العبد طعم الراحة؟
العبد في الدنيا في أذى وهم وبلاء وفتن، وهو صابر على العبادة متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال الإمام أحمد: عند أول قدم يضعها في الجنة.
تخيل وأنت تسمع الملائكة تسلم على المؤمنين وهم يدخلون مع آبائهم، ومع أزواجهم وذرياتهم من صلح منهم، كل عائلة إذا كانت صالحة تدخل، كل واحد يقبض بيد الآخر، مع زوجاته، مع أحبابه، مع ذريته، مع آبائهم، يقبض أحدهم بيد الآخر {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [الرعد:23] وتستقبلهم الملائكة عند الأبواب تقول: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد:24] على أي شيء صبروا؟ على صلاة الفجر، وعلى قيام الليل، صبروا على صيام التطوع، صبروا على ذكر الله، صبروا على قراءة القرآن {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24].(53/4)
أصحاب الجنة
لن يدخل الجنة شيخ كبير، ولا امرأة عجوز، فكلهم يرجعون مرة أخرى شباباً، يرجعون بقوة وشباب، جرداً مرداً مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين عاماً، تخيل وهم يدخلون الجنان ماذا يرون؟ وماذا يشاهدون؟ {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ} [الإنسان:20] مهما أخبرتك فالأمر أعظم، مهما تصورت فهي أكبر {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} [الإنسان:20] تخيل وأنت تدخل، أرضها بيضاء كالمرآة، تربتها الزعفران واللؤلؤ والياقوت.
تقول: وهل أعرف مكاني إذا دخلت فيها؟ أقول: إذا دخلت إلى الجنة تعرف مكان قصرك أكثر مما تعرف بيتك في الدنيا.
أما من ينتظرك في ذلك القصر؛ وفي تلك الخيام، وما ينتظرك من النعيم مهما تصورت فلن تعلم {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أعْيُن} [السجدة:17] مفاجآت وجوائز ونعيم عظيم لن تتصوره (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).
أتعلم أن أدنى أهل الجنة منزلة، آخر من يخرج من النار ويدخل إلى الجنة: رجل له مثل ملك الدنيا وعشرة أمثالها!
فيا من تقاتلوا لأجل الدنيا، ونسوا الصلاة، وفرطوا في الأذكار، وهجروا القرآن لأجل حفنة من الدنيا، اعلموا أن آخر أهل الدنيا دخولاً الجنة؛ له مثل الدنيا وعشر أمثالها.
(يدخل عمر على النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، فيراه نائماً على حصير قد أثر في جنبه، فبكى عمر، فقال صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك يا عمر؟ قال: ملوك كسرى والروم ينامون على الديباج والحرير وأنت تنام على حصير! قال: ويحك يا بن الخطاب أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟).
مناديل سعد أرأيت المناديل التي ترمى ولا يؤبه لها (مناديل سعد في الجنة خير مما طلعت عليه الشمس).
جاء في حديث: (لو أن ما يحمل ظفر من الجنة بدا -لو واحد يحمل بظفره شيئاً من الجنة، فيخرجه من الجنة، أتعرف ما الذي يحصل؟ - لتزخرفت خوافق السماوات والأرض).
وفي حديث آخر: (لو أن امرأة من الحور العين اطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بين السماء والأرض، ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها) {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].
تصور نفسك أيها العبد المؤمن الصادق! يا من تحافظ على صلاة الفجر! يا من لك ورد من القرآن! يا من تصلي شيئاً من الليل! يا من ترفع يديك تطلب النجاة من الله! تصور نفسك وقد دخلت الجنان، تنعم فيها ولا تبأس، لا تظمأ فيها ولا تضحى، تصور ما الذي تراه؟! لا شمس في الجنة، سبحان ربي! من أين يأتي الضوء؟! وفيها ظلال، سبحان الله! ومن أين يأتي الظلال إذا لم يكن فيها شمس؟! {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً} [الإنسان:13] أي: لا شمس، ولا برد، من أين تأتي الأنوار؟! يقول شيخ الإسلام: نور يأتي من قبل عرش الرحمن فيضيء لأهل الجنان.
الله أكبر!(53/5)
أنهار الجنة
تصور نفسك وقد دخلت، ما في الجنة شجرة إلا وساقها ذهب، حصباؤها الزعفران واللؤلؤ والياقوت، تمر على أنهار من لبن، أنهار من خمر، كل منكم يرى هذا بعينه، لبن لا كلبن الدنيا، خمر لا كخمر الدنيا، عسل مصفى يجري على الأرض، أتتصور هذا! {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} [محمد:15].
تخيل أنك تجلس على ضفاف نهر من هذه الأنهار، نهر من لبن، نهر من عسل، نهر من خمر لا كخمر الدنيا (من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة) قال بعض أهل العلم: لا يدخل الجنة إذا لم يتب، وقال بعضهم: إذا دخل الجنة فإنه لا يشربها داخل الجنة، ومن قال: لا يدخل الجنة، قال: إذا استحل شرب الخمر
ونهر من عسل، نهر من لبن أبيض من لبننا، وأحلى من طعمه في الدنيا، تخيل أنك تجلس على هذه الأنهار أنهار الدنيا تجري في أخاديد، أما أنهار الجنة فلا أخاديد لها، تقول: وكيف تجري؟! وكيف تسير على أرض الجنة؟! أقول لك: تسكب على أرض الجنة سكباً.
قال تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} [الواقعة:27 - 28] أتعرف ما هو السدر؟ إنه شجر فيه شوك لكنه في الجنة مخضود، ذهب شوكه وصار مكان كل شوكة ثمرة، تفتق هذه الثمرة من أكثر من سبعين لوناً لم نرَ مثلها في الدنيا: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} [الواقعة:28 - 31] مائة عام يسير الراكب الجواد في هذا الظل لا يقطعه، أتتصور هذا! أتتخيل هذا يا عبد الله! أي شجرة هذه؟!
يجلسون على الأرائك، إذا اشتهى ثمرة من الشجرة لا يقوم من مجلسه، تدنو له الثمرة إلى مجلسه، فيقطفها فيأكلها إذا شاء، لهم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة:32 - 34] فرش ترفع من ديباج (حرير) أسرة يجلس ويتكأ عليها.
يجتمع أهل الجنان يتحدثون، فإذا بهم يتذاكرون الدنيا، وأحزانها، ومصائبها وآلامها، يوم صبروا على الجهاد، وصبروا على طاعة الله، يوم جلسوا في المساجد يذكرون الله، يذكر بعضهم بعضاً أتذكرون القيام في رمضان؟ أتذكرون مجالس الذكر في ذلك المسجد؟ أتذكرون حين ذهبنا إلى العمرة وحججنا بيت الله؟ أتذكرون أيام الجهاد؟ {قَالوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26] أي: خائفين من الله {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27].(53/6)
الشوق إلى الجنة
سعد بن خيثمة استهم هو وأبوه في معركة بدر من يذهب للجهاد؟ لم يكن في البيت إلا رجلان؛ الأب والابن، من يجلس مع النساء؟ لا بد أن يذهب واحد ويبقى الآخر، فاستهم سعد مع أبيه خيثمة، فوقع السهم على الابن سعد، فقال له أبوه: يا بني! آثرني اليوم واذهب في المعركة الأخرى.
فقال الابن لأبيه: يا أبت! لو كان غير الجنة لفعلت، أما الجنة فلا أؤثر بها أحداً، فدخل سعد المعركة وقاتل حتى استشهد في سبيل الله، أما أبوه فلم يصبر وانتظر أحداً فخرج مع المقاتلين واستشهد في سبيل الله {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23].
يأتي جبريل إلى رسول الله ويخيره؛ وقد جاءت منيته، واقتربت وفاته: أتريد أن تعيش أكثر أم تلتحق بالرفيق الأعلى؟ ماذا سيختار.
هل سيختار هذه الدنيا الفانية؟ هل سيختار هذه الدنيا التي فيها الهم والغم والنكد والأحزان والأمراض؟ قال: بل الرفيق الأعلى، وحقاً كما قال، قبض عليه الصلاة والسلام، واختار الآخرة على هذه الدنيا الفانية {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96].(53/7)
الحور العين
تخيلوا أيها الرجال! أيها المؤمنون! ما للرجل في الجنة من الحور العين، الحورية الواحدة على رأسها تاج فيه لؤلؤ وياقوت، الياقوتة الواحدة خير من الدنيا وما فيها، تلبس سبعين حلة، هذه الحورية يرى مخ ساقها من وراء الحلل واللحم.
أرأيت إلى نعومتها وجمالها؟
يغنين لأزواجهن، بل أخبر الله أنهن: {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56] {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} [الواقعة:35 - 36] مهما وطأها الرجل ترجع بكراً {عُرُباً أَتْرَاباً} [الواقعة:37] نفس السن: {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:38] أي: لأهل الصلاة، لأهل الذكر، الذين صبروا عن الحرام، وغضوا أبصارهم عن الحرام.
وإذا سأل النساء: هذا للرجال فمالنا؟ أما المرأة الصالحة إذا دخلت الجنة فإنها تكون سيدة على الحور العين، وجمالها لا يقارن بجمال الحور العين، وحسنها وكرامتها أعظم بكثير من الحور العين، لمن هذا؟ {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة:38 - 40] قال بعضهم يصف تلك الحور:
فلو أن حوراً في الدياجي تبسمت لجلَّى دجى الظلماء في الأرض نورها
ولو مُزِجَ الماء الأجاج بريقها لأصبح عذباً سلسبيلاً بحورها
ونصيفها -أي: خمارها- خير من الدنيا وما فيها.
يا من فرط في الصلاة لأجل شيء من الدنيا! يا من ضيع القرآن من أجل حطام الدنيا! ألا تعقل ألا تفكر ألا تنتبه لنفسك؟!
مالك بن دينار قال له رجل: رأيت فيما يرى النائم رأى رؤيا يُكلم عابداً زاهداً، تقياً لله، رجلاً ورعاً يسمى مالك بن دينار، يقول له رجل: يا إمام! رأيت فيما يرى النائم أن منادياً ينادي: الرحيل الرحيل، فما رأيت رجلاً يرتحل إلا محمد بن واسع؛ أحد الصالحين، أحد العباد، أحد الزهاد، يقول: ما رأيت أحداً يرتحل إلا محمد بن واسع.
فصاح مالك وبكى، ومن شدة البكاء سقط على الأرض مغشياً عليه {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة:10] هناك من سبق، هناك من وصل، هناك من بشر بالجنة وهو على الأرض يمشي {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة:11 - 12] ألسابقون بجمع المال، أم السابقون بالشهوات، أم السابقون بالطعام والشراب؟ لا وربي، بل السابقون بقيام الليل، بالصلوات الخمس، بصلاة الفجر في الجماعات، السابقون بذكر الله.
يمشي النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام فإذا به يقول للصحابة: (سبق المفردون، قالوا: من المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات) وقال صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحان الله العظيم وبحمده، غرست له نخلة في الجنة) فأين الذاكرون؟ النخلة في الدنيا يزرعها الإنسان شهوراً، ويتعب عليها شهوراً؛ لأجل أن يحصل على شيء من ثمارها وربما لا يحصل، أما في الجنة فما من شجرة إلا وساقها ذهب، ونخلة بالجنة لا تريد منك إلا ثواني معدودة (من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة) الله أكبر!
كم تنتظر في الدنيا لأجل بيت من البيوت، أو شقة تسكنها؟ كم تجمع، وكم تتعب، وكم تنصب، ولا بد منها، هذه متطلبات الدنيا والحياة، أما بيوت الجنة؛ فلبنة من ذهب ولبنة من فضة لا كذهب الدنيا وفضتها، وملاطها ممسوحة بالمسك، الله أكبر!
ما راحتها، ما جمالها، ما منظرها؟ إنه ذهب وفضة ومسك كيف تحصل على بيت في الجنة؟ (من قرأ (قل هو الله أحد) عشر مرات بني له بيت في الجنة) كم مرة فعلتها اليوم؟ كم مرة صنعتها اليوم؟
أرأيت كم نحن مفرطون في الأجور والحسنات، وكم ضيعنا من الأوقات، وكم ضيعنا من الأعمار؟
إن بعض الناس لا يحلو له في سيارته من بيته إلى العمل، أو في أي مشوار إلا أن يضع أشرطة الأغاني والطرب والموسيقى، ولو استغل هذه الأوقات بذكر الله، وبقراءة القرآن، وباستماع الدروس والمواعظ، لكم قد بنيت له بيوت وبيوت في الجنة، وغرست له أشجار وأشجار في الجنة، ولكن: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56].(53/8)
طعام أهل الجنة وشرابهم
أخي الكريم: في الجنة طعام وشراب، ما تشتهية؛ لكن لا من جوع ولا من عطش، لا من ظمأ ولا من نصب، ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، يقول الله جل وعلا: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} [الواقعة:20] * {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:21] غلمان يمشون في الجنة؛ خدم لأهل الجنة، الذين يدخلون الجنة لهم غلمان إذا رأيتهم في الجنة حسبتهم لؤلؤاً منثوراً، يمرون على أهل الجنان بأكواب وأباريق؛ وقوارير من فضة، وكيف تكون القوارير من فضة؟ القوارير من زجاج، نعم هي قوارير لكنها من فضة، إن لم تتصور هذا فصدق، فسوف تراه -بإذن الله- في الجنة، يمرون عليهم بالكئوس، بالقوراير، بالطعام والشراب، وهم على الأرائك يتحدثون ويتسامرون ويتكلمون.(53/9)
حديث أهل الجنة
فإذا بقائل يخرج بينهم فيسألهم سؤالاً غريباً، إنه حديث أهل الجنة بعضهم لبعض، وانظر إلى هذا الحديث العجيب الذي أخبرنا الله عنه، يقول: أيها الإخوة: يا أصحابي! يا إخواني! يا رفقائي! من منكم رأى فلان بن فلان؟ هذا كان صاحباً لي في الدنيا، فهل رآه أحد؟ هل اطلع على مكانه أحد؟ فلا أحد يجيب، لم يره أحد! يقول هذا الرجل، وهذا الصاحب: كنت أصاحبه في الدنيا، ولما أقبلت على الهداية، وتبت إلى الله، وأقبلت على حلق العلم والذكر والصلاة كان يصدني، وكان يمنعني، وكان يحرضني على المعاصي.
ولما أرادت تلك الفتاة أن تتحجب، وأن تلتزم بدين الله وبشرع الله، وأن تقبل على الصلاة وتلتزم مع الصالحات؛ جاءتها فلانة فقالت لها: يا فلانة! ضحكوا عليك، يا فلانة! استهزءوا بك، يا فلانة! غرروا بك، لنتمتع بشبابنا، لنتمتع مع الرجال الشباب، ثم بعدها نتوب.
وجاء ذلك الشاب وأراد أن يضيع هذا الصالح فقال له: يا فلان اصبر! لنلهو بهذه الدنيا؛ لنتمتع بها، ثم بعدها نتوب، لكنه بفضل الله ما سمع كلامه، وأصر على التوبة، وتمسك بالهداية، واختلط بالصالحين، والتزمت هي مع الصالحات، وتحجبت وتسترت، وما سمع أحد منهما كلام ذلك الرجل الضال، أو تلك الفتاة الضالة، فإذا به يسأل: هل رآه منكم أحد؟ ما رآه أحد.
وفجأة تُكشف لهم النار وهم في الجنة، إنا لله وإنا إليه راجعون! إنها النار بلظاها وسمومها وحرها، لا يصلهم منها شيء ولكنهم يرونها، فإذا به يرى صاحبه في النار يحترق، أو هي ترى صاحبتها في النار تحترق، فإذا بالحديث بين هذا وهذا، كلاهما يرى الآخر، هذا يحدث هذا، وهذا يرد على هذا، الله أكبر! يقول له: {تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات:56] {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:57] أي: لولا أن الله ثبتني وعصمني وصبرت مع الصالحين لكنت معك الآن في النار {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} [الصافات:50 - 51] في الجنة {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات:51] صاحب {يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:52 - 53] متى سيأتينا الموت؟ إلى الآن في الحياة متسع، أنت شباب تمتع بهذه الدنيا، يغرر به {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:53] هل تصدق بالحساب؟ {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات:54] انكشفت النار {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:55 - 57] نعمة الله، هو الذي يثبت، وهو الذي يهدي، وهو الذي يعصم.
وجعل الله لك أسباباً: صحبة صالحة، مساجد، حلق علم، ذكر الله، قراءة قرآن {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:57] ثم يلتفت إلى أهل الجنة وهو سعيد متمتع فيقول: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} [الصافات:58] هل حقاً ليس في الجنة موت: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:58 - 61] لمثل هذا الموقف، لمثل هذا النعيم، لمثل تلك الجنان فليعمل العاملون، لا مرض، لا سقم، لا هم، لا غم، لا مصائب.
تخيل وأنت في الجنة متنعم، تلهو وتمرح، وتأكل وتشرب، وتجامع ما شئت من النساء، حتى النوم ليس هناك نوم في الجنة، حتى النوم منعوا من النوم لأنه موتة صغرى، وليس في الجنة موت حتى يتنعموا بما يشاءون في تلك الجنان.(53/10)
الزيادة لأهل الجنة
وفي تلك اللحظات، يناديهم الرب جل وعلا فيقول لهم: (عبادي! تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقول المؤمنون أهل الجنة: يا رب! وأي شيء؟ ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجيّنا من النار، ماذا نريد أكثر من هذا؟ فإذا بربنا جل وعلا يكشف الحجاب، فيرون ربهم، فما أعطوا في الجنة شيئاً أحب إليهم من النظر إلى الله) {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] ينسون نعيم الجنة كله، ينسون القصور والخيام والحور والأنهار، ينسون نعيم الجنة كله إذا نظروا إلى الله، إنه المزيد: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35].(53/11)
العمل للجنة
ألا تستحق هذه الجنة -أيها الأخ الكريم- ركعات آخر الليل؟ ألا تستحق هذه الجنة أن نقوم لصلاة الفجر؟
ألا تستحق منا هذه الجنة -أيتها النساء- أن نستتر لله ونعف أنفسنا لله؟ ألا تستحق هذه الجنة أن نتقي الله في السر والعلن؟
فحي على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم
وحي على روضاتها وخيامها وحي على عيش بها ليس يسئم
فيا ساهياً في غمرة الجهل والهوى صريع الأماني عن قليل ستندم
أفق قد دنى الوقت الذي ليس بعده سوى جنة أو حر نار تضرم
أخي الكريم: عمرو بن الجموح لما سمع بالجنة وأوصافها وكان أعرج، نودي للجهاد وقد عذره الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} [النور:61] فقال لأبنائه: جهزوني للجهاد، الأمر فيه جنة عرضها السموات والأرض، قال: جهزوني، قالوا: يا أبانا قد عذرك الله، قال: جهزوني، قالوا: يا أبانا قد عذرك الله، قال: والله لأطأن بعرجتي هذه الجنة، تمنعوني عن الجهاد! فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: دعوه! فدخل، فإذا به يقتل في سبيل الله، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (لكأني أنظر إليه يمشي برجلين سليمتين في الجنة).
وهذا عبد الله بن غالب رآه مالك بن دينار في معركة من المعارك، وهو يقول: إني أرى ما ليس لي عليه صبر، يرى شيئاً ما رآه الناس، قال: إني أرى ما ليس لي عليه صبر، ثم قال لمن حوله: روحوا بنا إلى الجنة، روحوا بنا إلى الجنة، فكسر غمد سيفه، فلا زال يقاتل حتى قتل.
أسمعت بـ جعفر الطيار؟ جعفر بن أبي طالب، الذي هاجر بدينه، ثم جاء إلى المدينة فأمَّره النبي صلى الله عليه وسلم في مؤتة، فأخذ الراية بيده اليمنى فقطعت، ثم أخذ الراية بيده اليسرى فقطعت، ما ولى، وما أدبر، ولا هرب، ثم أخذ راية الإسلام بعضديه وضمها وثبتت الراية، فتكسرت الرماح على ظهره وصدره وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
ثم لفظ الشهادتين واستشهد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيته يطير بجناحين في الجنة).
لِمَ يفعلون كل هذا؟ لأنهم سمعوا قول الله: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21].
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم.(53/12)
الأسئلة(53/13)
الأقصى الجريح
السؤال
هل من كلمة حول الأقصى؟
الجواب
أنا سوف أتكلم، وإن كنت أول المقصرين، الأقصى يئن تحت وطأة اليهود عشرات السنين وعقود من الزمن، المشكلة ليست فقط في الأقصى حرمات كثيرة للمسلمين تنتهك اليوم، والمسلمون أكثر الأمم اليوم ولا شأن لهم، ولا دور لهم في الأمم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم كثير، لكنكم غثاء كغثاء السيل، قد أوهن قلوبكم حبكم الدنيا، وكراهيتكم الموت) نعم.
نحن اليوم نفرح بأن هذا الجمع أتى للمحاضرة، وقد لا تكرر هذه الجموع كثيراً، وكم يبلغ هذا الجمع؟ مائتان، ثلاث مائة، خمس مائة، ألف، نحن نعلم أن بعض جموع المسلمين تبلغ عشرين وثلاثين ألفاً، يجتمعون لأجل لعب كرة القدم، ويجتمع ألوف من البشر من أول الليل إلى آخره لأجل مطربة ومغنية، ويجتمع كثير من المسلمين بالألوف لأجل تفاهات الدنيا، ولكن من منهم يجتمع لأجل ذكر الله؟! القليل القليل (قد أوهن قلوبكم حب الدنيا وكراهية الموت).
يجب علينا أن نجاهد في سبيل الله لنحرر الأقصى، ولكن أين الجهاد؟ وأين عدته؟ من يفتح لهم الباب؟ {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60].
ومجالس الذكر اليوم والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة من أعظم الإعداد نشر الدين، ونشر الصلاح بين الناس، والصحوة الإسلامية اليوم هي التي تقض مضاجعهم، لِمَ يحاربوننا بالإعلام، وبالجنس، وبالفساد، والمخدرات والمسكرات؟ لأنهم يخافون من الصحوة الإسلامية، يخافون من امتلاء المساجد، يخافون من أهل الدين والصلاح وحفظة القرآن، يخافون من الذين يجتمعون على مثل هذه المجالس، لكن نقول: هذه هي البداية، البداية الآن بملء هذه المساجد، حلق العلم، نشر الدين، الشريط الإسلامي، نشر الحجاب بين النساء، هذه هي البداية، وهو الإعداد الحقيقي اليوم حتى نؤسس في قلوبنا الإيمان، وحب الجهاد، والاستعداد له، وبإذن الله جل وعلا لن يقف أمام المسلمين يهود ولا غيرهم، فهم أذل وأخس وأقل من أن يقفوا أمام جموع المسلمين، لكن إذا صدق المسلمون ورجعوا إلى دينهم وتوكلوا على ربهم {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249] بإذن من؟ بإذن الله، إذا كانت هذه الفئة القليلة متقية لله عز وجل.(53/14)
كيف يكون الإعداد؟
السؤال
نرجو منكم الدعاء للمجاهدين، وكيف يكون الإعداد السري؟
الجواب
اللهم ثبت قلوبهم، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم ألف بين قلوبهم، اللهم اجمع كلمتهم، اللهم انصرهم على عدوهم يا رب العالمين.
اللهم من أراد بنا وبالإسلام والمسلمين سوءاً فأشغله في نفسه، واجعل تدبيره تدميره، ورد كيده في نحره.
أما بالنسبة للإعداد السري فأولاً: لا بد أن يعد كل إنسان منا نفسه، نحن الآن نقول: نريد الجهاد، وإخراج اليهود، والأعداء في الشيشان وفي كشمير وفي غيرها من البلاد، نعم.
ولكن أول الجهاد جهاد النفس في صلاة الفجر، أين نحن اليوم في صفوف صلاة الفجر؟! أمة لا يصلى الفجر منها في المساجد إلا ربع المصلين أو عشر المصلين أمة لا ينصرها الله، أمة ظهرت فيها الأغاني والملاهي، وانتشر فيها الفساد لا ينصرها الله، كيف ينصرنا الله عز وجل وإلى الآن ما انتصرنا على شهواتنا، ولا على أنفسنا؟!
فأول الجهاد: هو إعداد النفس للجهاد، أعد نفسك إيمانياً، عقائدياً، تربوياً، علم هذه النفس أن تتربى متى بدأ الجهاد في العصر النبوي؟ ثلاث عشرة سنة في مكة إعداد، ثم سنتان في المدينة ثم بعدها إذن لهم في القتال، حتى قال الصحابة في مكة: ائذن لنا يا رسول الله نقاتل.
قال: لا.
لم يؤذن لي.
وأنا لا أقول: ليس هناك جهاد، الجهاد باقٍ إلى قيام الساعة، والإعداد يجب أن يمضى إلى قيام الساعة، الإعداد بالنفس والبدن والمال، لكن ابدأ بأول قضية: فأعد نفسك بالإيمان، جاهد نفسك في قيام الليل، في صلاة الفجر، جاهد نفسك عن المعاصي والذنوب، ثم بعدها كما قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، قال: أعظم غزو اليوم الغزو الثقافي، كل بلاد الإسلام الآن مغزوة، نعم.
إن كانت فلسطين، وإن كانت كشمير والشيشان قد سلبت وطرد أهلها، وحرموا من ديارهم وعذبوا وقوتلوا، فليست هذه البلاد هي المغزوة فقط، بل كل البلاد اليوم مستباحة، إن لم تستبح بالقوة العسكرية استبيحت بالشهوات، بالجنس، بالخمور، بالمخدرات، الغزو الثقافي اليوم يطرق كل بيت عن طريق الفضائيات أين المجاهدون بالكلمة؟ أين الدعاة الناصحون؟ أين المخلصون الذين ينشرون دين الله؟ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) كلمة قد تكون بالجهاد، وقد تكون بالمال، وقد تكون بالنفس.
المهم أن الإعداد يكون بكل طريق، ويكون بكل وسيلة، وأول الجهاد جهاد النفس، نعد أنفسنا ونربيها أولاً على طاعة الله، وننشر الدين والخير بين الناس؛ لعل الله عز وجل أن يأتينا بجيل يحبون الموت كما يحب هذا الجيل الحياة، والله أعلم.
السؤال: ما المقصود بكلمة الإعداد السري؟
الجواب: لعل كلمة (السري) مخيفة، في الدين -ولله الحمد- كل شيء علن، حتى قال أبو بكر: (يا رسول الله ائذن لي بالمجاهرة، قال: لا بعد) هذا فقط في بداية الدعوة، ثم لما أذن لـ أبي بكر أن يقوم كان أول خطيب في الإسلام، جهر أبو بكر بالدعوة وإلى اليوم الدعوة في جهر بفضل الله عز وجل {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33] نحن اتفاقياتنا ومعاهداتنا منشورة في كل المساجد (القرآن) ليس عندنا إلا قال الله وقال رسوله، نبايع على هذا ونعيش على هذا ونموت على هذا، القرآن والسنة، ليس لدينا شيء نخفيه، ندعو الناس إلى عبادة الله وترك عبادة غيره، التزام سنة رسول الله وترك الأهواء والبدع، لا ندعو إلى غير هذا، ديننا واضح ومنهجنا صريح وندعو إلى الله عز وجل في رابعة النهار، ولا نخشى في الله لومة لائم.(53/15)
تتبع عورات العلماء
السؤال
هل من كلمة تطرق بها أسماع الذين يتتبعون عورات العلماء؟
الجواب
يقول أحد السلف: إذا رأيتم الرجل منشغلاً بعيوب غيره عن عيب نفسه، فاعلموا أنه قد مُكر به.
إذا بدأ الرجل ينشغل بعيوب العلماء وطلبة العلم، ويتتبع عثرات الدعاة فقد هلك.
وأخص هؤلاء؛ لأنهم أفضل الناس، ومن أفضل من العلماء وطلبة العلم والدعاة إلى الله، الذين يبلغون دين الله، ويرتبطون مباشرة مع الله، من أفضل منهم؟ إنهم صفوة الله في خلقه، حتى قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان إلى قلبه! لا تتتبعوا عورات المسلمين، فإن من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في بيته) الله يتكفل بتتبع عورته، وأي تتبع للعورات من رجل يبحث في عالم من علماء أهل السنة، متمسك بأصول أهل السنة والجماعة يبحث في كتبه ويتصفح أشرطته، لا لطلب العلم، ولا للاستفادة، ولا للهدى ولكن يبحث عن السقطات والزلات، أعوذ بالله! من الذي لا يخطئ؟ لا معصوم بعد رسول الله إلا كتاب الله جل وعلا، هل هناك معصوم؟ هل هناك رجل لا يخطئ أو لا يزل؟ للأسف، لقد انشغل ومكر به ولم يوفق للخير، نسأل الله أن يهدينا وإياه.(53/16)
حكم الدخول على النساء
السؤال
ما حكم الدخول على النساء؟
الجواب
يقول النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث يكفيه: (إياكم والدخول على النساء) يخاطب الرجال الشرفاء، الأنقياء الأتقياء الصالحين، يقول: (إياكم والدخول على النساء! قالوا: يا رسول الله أرأيت الحمو؟ -وهو قريب الزوج، كأخيه أو ابن عمه- قال: الحمو الموت) أي: هذا أخطر؛ لأن المرأة إذا أحبت رجلاً لصفات، فقد تحب أخاه؛ لأن الصفات تتشابه، والعادات تتشابه بين الإخوان، ولهذا قد تحبه.(53/17)
أقسام العلماء
السؤال
كم أقسام العلماء؟
الجواب
العلماء ثلاثة أقسام: عالم أمة وعالم دولة، وعالم ملة، أما عالم الأمة فهو الذي يرى إلى الناس ماذا يريدون ويفتي بهواه، إن أرادوا الأمر مباحاً أباح لهم، وإن أرادوه حراماً حرمه، وإن أرادوا الجواز أجاز لهم، وهذا موجود، بعض الناس يسأل عن مبتغى السائل فيجيبهم، وعالم آخر عالم دولة، ما تملي له السلطات الرسمية بالفتوى فيفتي، يشتري به ثمناً قليلاً، نسأل الله أن يعافينا، والعالم الثالث هو المطلوب، وهو نور لهذه الأمة، وهم ورثة الأنبياء، عالم ملة لا يفتي إلا بما رآه هو الحق في دين الله عز وجل، لا يشتري به ثمناً قليلاً، ولو كان الأمر على قطع رقبته، لا يخافون في الله لومة لائم، هذا هو العالم الذي يريده الله عز وجل، والله جل وعلا يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159 - 160] فإن كان من الناس من أفتى بهواه أو بخلاف شرع الله؛ لأجل غرض من الدنيا، أو هوى يصيبه، فليتق الله، وليتب، وليبين: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [البقرة:160] يبين الخطأ الذي وقع فيه، ويفتي بالحق مرة أخرى {فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:160] والله عز وجل قد فتح باب التوبة للناس حتى تطلع الشمس من مغربها.
وصلى الله وسلم على نبيه محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(53/18)
أشد ما تجدون من الحر
إن من علامات الإيمان أن الإنسان إذا حصل له شيء أو رأى شيئاً أنه يتذكر به يوم القيامة أو الشيء المماثل له في يوم القيامة، فمثلاً إذا جاء الصيف -ومعلوم أن الجو حارٌ فيه- تذكر حر ذلك اليوم وحر جهنم، وحر الشمس عندما تدنو من العباد حتى ما يكون بينها وبينهم إلا قدر الميل.
ومثل ذلك إذا رأى المؤمن الأشجار الخضراء والأنهار الجارية، فإنه يتذكر بها الجنة والنعيم الذي فيها، مما أعد الله فيها لأهلها، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.(54/1)
حال أهل النار في النار
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون: إن الناس في هذه الأيام لعلهم يشتكون من شدة الحر، ولعل هذه الأيام هي أيام فيها عبرة وعظة للعبد المؤمن الصالح، ففي صحيح البخاري (أن النار اشتكت إلى ربها فقالت: يا رب! أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين: نفس في الصيف ونفس في الشتاء، فأشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير) أي: ذلك من نفس جهنم ومن فيحها.
وقال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري: (أبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم).
إن ما نجده من شدة الحر، ومن السموم هذه الأيام، إنما هو من نفس جهنم ومن فيحها، وصدق عليه الصلاة والسلام الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، إن للناس أسباباً مادية يرونها، ولكن فوق هذه الأسباب، أسباب وخلف هذه الأسباب تقدير من الله جل وعلا.
ثم -يا عبد الله- اعلم أن هذا الحر الذي لا يطيقه كثيرٌ من الناس إنما يدفعونه عن أنفسهم بثلاثة أمور:
إما بماء بارد يشربونه، أو ظل يستظلون به، أو هواء بارد يتكيفون به فيجلسون تحته، واعلم أن النار ليس فيها أي شيء من هذه الثلاث: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} [الواقعة:41].
أما الهواء: فهو السموم الحار الذي لا يطيقه أحدهم، والذي يلفح الوجوه {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} [الواقعة:42] الحميم: هو ماؤهم، إذا اقترب أحدهم منه شوى وجهه، وانسلخت فروة رأسه، وهم لا يتحملون شربه؛ بل يصهر ما في بطونهم والجلود، هذا هواؤهم وهذا ماؤهم يفرون إلى أين؟ إلى ظل جهنم يستظلون به: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} [الواقعة:41 - 42] ثم الظل {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} [الواقعة:43 - 44] يجلسون تحت ظلها، هل سمعت بظل النار؟ إنه ظل منقطع ذو ثلاث شعب وثلاثة أقسام، يقال: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [المرسلات:30 - 31] لا ظليل: أي لا ينفعهم ذلك الظل، إذا رأيت إلى ظله ليس بكريم، بل لا يغني من لهب جهنم ولا من حرها؛ لأنها تزفر وتشهق وتتطاير منها الشرارة الواحدة كالحصن وكالقصر، منظرها كالجمالة السود التي سماها الله عز وجل جمالة صفر.
عبد الله: هكذا ينجو أهل النار من حرها، إن فيها لحراً يزيد على نار الدنيا بأصناف كثيرة هل لك أن تتصور ذلك الحر؟
عبد الله: في النار يغلون بالأغلال، ويربطون بالسلاسل، ولا أظنك تستطيع أن تتخيل هذا المنظر: {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ} [غافر:71] أين يا رب؟ {فِي الْحَمِيمَِ} [غافر:72] الأغلال في الأعناق والسلاسل لُفت عليهم، ثم يسحبون في النار في الحميم، أتعرف ما هو الحميم؟ إنه الذي إذا اقترب من الوجوه شواها حميم الماء الذي قد بلغ من الحر منتهاه لن تستطيع أن تتصوره أو تتخيله، يسحبون وهم مغلولون بالأغلال في الحميم ثم ماذا يا رب؟ {ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:72] ثم بعد أن يمرون على الحميم يحرقون في النار، بم يلتحفون وماذا يفترشون؟ {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌَ} [الأعراف:41] ينامون على جهنم، وماذا فوقهم يا رب؟ {وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف:41] أي: يلتحفون بالنار، لم يا رب؟ {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأعراف:41] يجوعون فيأكلون النار، وهل رأيت رجلاً يأكل ناراً؟! {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10] بل يأكلون الغساق والحميم والغسلين والماء الصديد، وهو القيح الذي يخرج من الجروح والنتن الذي يسيل من الفروج {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} [الواقعة:41] أي: أي شأن شأنهم؟ وأي أمر أمرهم؟
يا عبد الله: إذا كان الواحد منا لا يتحمل حرارة الشمس وهذه الحرارة هي: نفس من نفس جهنم، كيف -أعاذنا الله وإياكم- بمن يدخلها؟ هل هو يوم أو يومين أو ثلاثة أو أربعة أو سنة أو سنتين؟ إلى ما شاء الله.
عبد الله: أتدري ما هو لباسهم أسمعت به؟ إنه من نحاس منصهر يلبسونه ولا يستطيعون الفكاك منه {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} [إبراهيم:50] من نحاس مذاب، بل تقطع لهم ثياب إذا رأيتها فهي نار {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [الحج:19] ما صفتها يا رب؟ {ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [الحج:19]-نعوذ بالله- الثياب من نار، ويأكلون النار، ويستظلون بالنار، وينامون على النار، ويلتحفون بالنار ثم ماذا؟ {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] يا رب! اقض علينا، بل قالوا لله جل علا: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر:11] هل إلى خروج من سبيل؟ أتعرف من هو أهون أهل النار عذاباً؟ أهونهم وأقلهم وأيسرهم ذلك الذي يقول: صغيرة، وذلك المسكين الذي يقول: أمر هين أيام قليلة ثم نخرج من النار، ذلك الرجل يوضع في قدميه جمرة -وفي رواية: جمرتان- تعرف ماذا يحصل؟ أبعد مكان من الرجل هو الدماغ، يغلي منها دماغه، فإذا كان الدماغ يغلي فتصور ماذا يحصل للبطن، أم ماذا يحدث للفرج؟ أم ما الذي يصيب الرجل إذا كان أبعد شيء في جسده وهو الدماغ يغلي؟
يظن أنه أشد أهل النار عذاباً، تخيلوا يكلمه الله، فيقول له: (يافلان! لو كان عندك ما في الأرض جميعاً أكنت تفتدي به؟ -يخاطب أهون أهل النار عذاباً- فيقول: نعم.
يا رب! لافتديت به كله يا رب! فيقول الله جل وعلا له: لقد طلبت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم، طلبت منك ألا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي) يخاطب أهون أهل النار عذاباً، حر وجحيم وغساق وغسلين وصديد وحميم ونار، ثم يخاطبون الله جل وعلا {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107] فيرد الله جل وعلا عليهم: {قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] يظن أنه يموت فيؤتى بكبش وهم ينظرون إليه، فيقال لهم: تعرفون هذا؟ يقولون: نعم.
هو الموت الحر لا صبر عليه، والجحيم لا صبر عليه، والطعام من ضريع وغساق وغسلين، والنار لا يتحملها أحد، فينظرون إلى الموت ويظنون أنهم ميتون، فإذا بالموت يذبح، ويقال لهم: يا أهل النار! خلود فلا موت، {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} [النساء:56] لم يا رب؟ {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] هل ألف سنة، أو ألفي سنة، أو مليون سنة، أو ملايين السنين؟ خلود فلا موت: {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} [طه:74] أتعرف لم يا عبد الله؟ لأنه أبى إلا الكفر بالله، أمر بالصلاة فما صلى ولا تصدق ولا صام ولا ذكر ربه عز وجل، أراد أن يتمتع بالدنيا قليلاً، ثم سمعها: خلود فلا موت.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم.(54/2)
حال أهل الجنة في الجنة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
في تلك الساعات أهل النار يعذبون ويحترقون، هناك أناس في نفس هذا الوقت يمرحون في الجنة ويتقلبون أتعرف ما صفاتها؟ لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً، يتقلبون في الجنة في أنهار من عسل، وأنهار من لبن، وأنهار من خمر، وأنهار من ماء، بل الأبرار في نعيم في الجنة يفجرون العيون -تتفجر- فيشربون منها ما يشاءون.
أما الظلال فبعضها الجواد لا يقطعه في مائة عام {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} [الواقعة:27 - 28] سدر لكنه كثيف {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:29 - 30] اجلس تحت الظل اجلس على الأنهار، ماذا تريد يا عبد الله؟ ملابسهم من الحرير، ويجلسون على الحرير، ولا يرون إلا أناساً من جمالهم كل يوم يزدادون حسناً وجمالاً، ثم يرسل الله ريحاً تحثو في وجوههم فيزدادون بها حسناً وجمالاً عرقهم المسك يطئونه بأرجلهم، وهناك الكوثر إذا شربوا منه شربة لا يظمئون بعدها أبداً، يرد على هذا النهر طيور أعناقها كالبخت يأكلون منها كما يشاءون، وينظرون إليها كما يشاءون {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:20 - 21] ثم ماذا بعد هذا؟ يدخلون القصور والخيام، هل لك أن تتخيلها وتتصور خيمة طولها ستون ميلاً! لا أظنك تستطيع أن تتخيلها.(54/3)
الفرق بين أهل الجحيم وأهل النعيم
أولئك -أهل النار- يقيدون بالسلاسل، وهؤلاء -أهل الجنة- يجلسون على الفرش.
أولئك يأكلون الغساق والغسلين ويشربون الحميم، وهؤلاء يطاف عليهم بآنية من فضة ومن ذهب قد امتلأت بالخمور، وامتلأت بالعسل، وامتلأت بما يشتهون.
أولئك يأكلون الضريع الذي قد امتلأ شوكاً تغص به الحلوق، وهؤلاء يقربون ما يشاءون من لحم طير مما يشتهون، وفاكهة مما يتخيرون.
أولئك قرناؤهم وأصحابهم الكفار والفجار والضلال والمشركون والمجرمون، وهؤلاء يجلسون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ويوسف وإدريس والأنبياء والمرسلين، ويجلسون مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ويجلسون مع الصالحين.
أولئك -أصحاب النار- يفترشون من النار، ويلتحفون من النار، أما هؤلاء فهم على سرر مرفوعة، بطائنها من إستبرق -من حرير- كيف بظاهرها يا عبد الله؟!
أولئك يعذبون بحر جهنم وسمومها، وهؤلاء يستظلون بسقف هو عرش الرحمن جل وعلا.
أولئك أصحاب النار لا ينظرون إلا إلى خزنة جهنم الذين يستقبلونهم بالمطارق وبالمقامع، أما أولئك فيطوف عليهم غلمان مخلدون: {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة:18] {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً} [الإنسان:19].
وفي كل جمعة ينظرون إلى الرب جل وعلا فينسون به نعيم الجنة كله.
عباد الله: إن الفرق بين أولئك وهؤلاء أن أولئك إذا أكلوا فمن الربا، أما هؤلاء فيقصرون طعامهم وأموالهم على الحلال.
أولئك إذا استيقظوا فإنما يستيقظون لدنياهم ولمعاشهم أما أولئك فإذا استيقظوا فلصلاة الفجر، وإذا ذكروا فأكثر ما يذكرون الله، وإذا تعلقت قلوبهم فبالله، وإذا سألوا فيسألون عن الحلال والحرام.
أولئك -أهل النار- يعاشرون وهؤلاء أهل الجنة يعاشرون.
أما أهل النار فيعاشرون بالحرام زناً ولواطاً، أما أهل الجنة فيعاشرون بالحلال مما أباح الله لهم من الأزواج وملك اليمين.
أولئك أهل النار -يا عباد الله- أبوا إلا شراب الدنيا أبوا أن يتعاطوا إلا المخدرات، أما أولئك فيشربون من اللبن والعسل، ومن جميع أنواع المشروبات في الدنيا مما أباح الله، لهم صبروا على الحلال وعلى طاعة الله.
أولئك -أصحاب النار- يسجدون لشهواتهم، ويركعون للذاتهم، ويتبعون شهواتهم، أما أهل الجنة فإنهم يسجدون لله، ويركعون لله، ويستجيبون لله فهل بين الفريقين مقارنة يا عباد الله؟ {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20] نعم والله! {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] فالتلفاز والأغاني والربا والنساء والمعاش هذا مما يصد عن طريق الله وعن عبادة الله.
عبد الله: اصبر على طاعة الله، وتحمل فإنما هي أيام قلائل، وإنما هي سنوات تمضي كلمح البصر، وإنما هو عمر واحد والنفس تخرج فلتة.
اصبر -يا عبد الله- واسمع خاتمة صبرك {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24].
أعود فأقول: إن هذا الحر لن يمر على عباد الله الصالحين هكذا، ولن يمشوا في حر الشمس هذه الأيام إلا ويتذكرون حر جهنم ويتذكرون زمهريرها يتذكرون يوماً تتقطع فيه القلوب، بل تبلغ إلى الحناجر من شدة الخوف، إن جهنم تزفر زفرة واحدة لا تبقي أحداً إلا وقد خاف منها تتقطع قلوبهم يبكون الدماء من شدة الندم والحسرة.
إن عباد الله يمرون في الشمس هذه الأيام إن تذكروا فإنما يتذكرون حر جهنم فيبتعدون عن المعاصي ويقبلون على الطاعات.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداء الدين، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم إنا نسألك الجنة وما يقرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما يقرب إليها من قول وعمل.(54/4)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
إن المؤمن الصادق هو الذي يهتم بأمور المسلمين؛ فيفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم، ويعمل جاهداً على إصلاح أحوالهم ومن الأمور التي ينبغي الاهتمام بها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا ما تحدث عنه الشيخ؛ موضحاً أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من صفات المؤمنين، ومذكراً بحال السلف الصالح مع هذا الأمر.
وقد أعقب ذلك ببيان عاقبة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم ذكر أموراً يحتاج إليها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.(55/1)
الاهتمام بأمور المسلمين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله تبارك وتعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة المسلمون: إن الله جل وعلا جعل هذه الأمة وأخرجها لا لتعيش بنفسها ولنفسها؛ بل لتعيش للناس، وجعل الفرد المسلم الصادق المؤمن المخلص هو الذي يعيش لأمته، لا ليعيش لنفسه فقط ليأكل ويشرب، وينكح وينام، ويلبس ويلهو، ثم يموت فينقل إلى القبر فيدفن.
إن العبد الصادق هو الذي إن قام فإنه يقوم لأمته، وإن فكر فإنما يفكر لهمها، ويغتم لغمها، ويفرح لفرحها، ويحزن لحزنها، فإن مات مسلم بالشرق أو بالغرب فكأن قطعة من جسده قد بترت، وإن نكب أحد من المسلمين بنكبة فكأنما أصابته، وهو في نفسه يشعر بها: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد) بل وصف الله المؤمنين فقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] ما فعلهم؟ وما دورهم في الدنيا؟ قال: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] لا يرضون بالمنكر أياً كان، وممن كان، وكيف كان سواء أنكر بقلبه وذلك أضعف الإيمان، فيكفهر الوجه، ويغضب ويتلون إذا مر بالمنكر وذلك أضعف الناس إيماناً، أو ينكر بلسانه أو بيده إن لم تكن هناك مفسدة أكبر.(55/2)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من صفات المؤمنين
إن المؤمن حقاً هو الذي يركض إلى المنكرات ويسعى إليها ليغيرها، قال الله جل وعلا: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس:20] من أبعد مكان في المدينة هل يركب حماراً أو دابة أو سيارة أو طائرة؟ لا والله، بل يركض على رجليه، هل تعرفون لماذا؟ لأن هناك منكراً قد أصاب الناس ووقعوا فيه {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس:20] يا قوم! ما لي أراكم لا تصلون يا قوم! ما لي أراكم تأكلون الربا، وتنتهكون الحرمات يا قوم! ما لي أراكم تعرضون عن الذكر وعن الأذان والصلاة! {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:20 - 21] ثم بعد هذه النصائح قتلوه؛ لأنه أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وبعض الأحيان يضرب ويقتل الدعاة، ويسفهون، ويسجنون، والداعية لا يبالي بالعواقب، إنما يبالي إن أمر بمعروف أو نهى عن منكر.
فلما قتل انظر ماذا حصل له؟ بعثه الله، فماذا قال؟ {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} [يس:26] لا يزال يفكر في قومه، ويهتم بهم {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27].
يا ليتهم يعلمون بالمغفرة وبالإكرام فيؤمنون مثلما آمنت، ويسلمون مثلما أسلمت، ويستجيبون لله كما استجبت لا يزال يفكر في قومه وإن قتلوه.
إن كثيراً من الناس في هذا الزمان إن قلت له: يا فلان! أراك رجلاً صالحاً لكنك لا تأمر بالمعروف ولا تنهى عن المنكر! يقول: السلامة السلامة السلامة السلامة، ولا خير من العافية، أجلس في البيت وآكل وأشرب، وأصلي وأسجد وأركع، والحمد لله على العافية.(55/3)
السلف الصالح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
انظروا -يا عباد الله- إلى منهج سلفنا الصالح كيف كانوا يعيشون؟ ولمن كانوا يعيشون؟
إن قدوتهم هو حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرءاً سمع مني مقالة -حديثاً واحداً- فبلغه، وفي رواية: سمع مقالتي فبلغها، فربَّ مبلَّغٍ أوعى من سامع) لعل الذي تخبره وتعلمه وتدعوه إلى الله يكون أوعى وأفهم منك، ويستجيب أكثر منك.
هذا الخرقي رحمه الله؛ صاحب متن المغني، الذي يقرؤه كثيرٌ من طلبة العلم، وأين هم عنه؟! هذا الرجل أتعرف كيف مات؟ لقد مات بمنكر أنكره في دمشق، فضربه الناس فقتلوه، هكذا كانت موتته.
وهذا أبو بكر النابلسي -رحمه الله- أحد العلماء الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، كان لا يخاف في الله لومة لائم، كان يصدع بالحق وبما يؤمر ويعرض عن المشركين، فاستدعاه الحاكم الفاطمي فقال له: سمعنا أنك تقول: من كان له عشرة أسهم فليرمِ النصارى بتسعة ويرمينا بواحد، أصحيح ما يقال عنك؟ قال: لا والله، هذا غير صحيح، لم أقل هذا.
قالوا: فماذا قلت؟ قال: قلت: من كان عنده عشرة أسهم فليرم النصارى بسهم، وليرميكم بتسعة أسهم -ولم يخف في الله لومة لآئم- فجيء بيهودي أشد الناس عداوة للمؤمنين، فصلب هذا الرجل، وعلقه على خشبة أمام الناس، وأمر اليهودي بسلخه وهو حي، فبدأ يسلخ الجلد من رأسه وهو حي، ثم من وجهه وهو حي، حتى وصل إلى صدره، وكان هذا الإمام يقرأ وهو يسلخ: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً} [الأحزاب:6] فرأف اليهودي لحاله فطعنه بخنجرٍ في قلبه فمات، أتعرف لماذا؟ لكلمة حق قالها، لأمر بالمعروف ولنهي عن المنكر.
ألا يا من ينشدون السلامة! ويريدون العافية! أتعرف ما مصير أولئك؟ {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} [يس:26] * {بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:27].
ألا يا من يخاف أنه إذا أمر بالمعروف على وظيفته! ألا تعلم أن رب الأرض والسماء قد قدر لكل نفسٍ رزقها، ما من نفسٍ منفوسةٍ تموت حتى تبلغ أجلها ورزقها، لا ينقص من أحدٍ حبة ولا درهم ولا دينار.
اسمع إلى الإمام القاضي محمد الحبلي عليه رحمة الله جاءه الأمير، فقال له: إن الناس غداً سيفطرون في ليلة الثلاثين من رمضان، فقال رحمة الله عليه: لم نر الهلال، قال: ولكن المنصور كتب إلينا أن نفطر غداً، وتقوم وتصلي بالناس.
قال: لم نر الهلال، وديني ومبدئي وعقيدتي هو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته) وكان يشير إلى أهل الحساب، فلما كان الصباح أمره فلم يخرج، ودعوه فما استجاب، فأخذ الأمير أحد الناس فصلى بهم، وكتب إلى المنصور أن فلاناً فعل كذا وكذا وحرض الناس، فجاء المنصور بهذا الرجل وأوقفه أمامه، وقال له: تنصل وأعفو عنك -أي: اعتذر- قال: لا والله لا أعتذر.
فصلبه المنصور، فأخذه العطش والناس ينظرون إليه ولا يستطيع أحد منهم أن يقترب منه، فأحرقته الشمس وهو يتعذب، ويستغيث بالماء ولم يغاث، حتى مات هلكاً من الجوع والعطش أمام الناس مصلوباً معلقاً.
قال أبو بكر رضي الله عنه: (يأ يها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه -والظلم درجات، أعلاه الشرك بالله، فتارك الصلاة ظالم، ومن يأتي العرافين والكهنة ظالم، وآكل الربا ومن يعمل المعاصي ظالم، والزاني ظالم، وآخذ الرشوة ظالم، والمجاهر بالفسق والمعاصي ظالم- أوشك الله أن يعمهم بعقابٍ من عنده) والحديث صحيح موقوف وله حكم الرفع.
عباد الله: نعم والله، إن حكم الله في هذه الأمة هو في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] ليس لنفسها إنما هي للناس لماذا؟ {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] فخيرية هذه الأمة وأفضليتها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أقول هذا القول، وأستغفر الله.(55/4)
ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تشبهٌ بالمنافقين
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
يشبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أولئك الذين يتخلفون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إيثاراً للسلامة، يشبههم بالمنافقين، يقول: فهو كما قال الله في المنافقين: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي} [التوبة:49] أتعرف لم؟ {يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} [التوبة:49] أخاف الفتنة أخاف الضرب والشتم، لا تتمنوا لقاء العدو، ويعتذر بتلك الأعذار، يشبهه شيخ الإسلام بالمنافقين، قال الله جل وعلا: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة:49].
أي فتنة أكبر من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! أي فتنة أعظم من ترك الجهاد باللسان والسنان؟! أي فتنة أعظم من ترك جزءاً من الدين وشعيرة من أعظم شعائره؟!(55/5)
ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة طلب العلم
عباد الله: من الناس من يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة طلب العلم، حتى يصبح عالماً حتى يصبح شيخاً، وكأنه غفل أو تغافل عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية) ولو ذكرته بها لصد عنها صدوداً، ولتأول لها تأويلاً، ولاعتذر لها واختلق لها الأعذار، ولو قلت له: إن أقل العلم الواجب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي آية تعلمها فتبلغها، أو حديثاً (نضر الله امرءاً سمع مني مقالة فوعاها، فبلغها كما سمعها، فرب مبلَّغٍ أوعى من سامع) فأقل العلم حديثٌ أو آية تبلغها في الناس؛ لا اعتذار بأعذار، وتوهم توهمات، وتأول تأولات، فجلس ونكص وتخلف مع الخالفين، وقعد مع القاعدين: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47] ولا يرضى بهذا، بل يثبط الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فإن قام قائلٌ منهم قال: هذا جاهل، وإن تكلم أحدهم قال: اطلب العلم ثم ادع إلى الله، وإن تصدى أحدهم قال: أنت فيك كذا وكذا فلا هو الذي أمر بالمعروف، ولا هو الذي نهى عن المنكر، ولا هو الذي ترك غيره يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، قال عليه الصلاة والسلام: (لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن ينزل عليكم عقاباً من عنده ثم تدعونه فلا يستجاب لكم).
ولابد للداعية من ثلاثة أمور:
أولاها: العلم.
فلا تدعو إلى الله بمسألة إلا وأنت تعلمها، ولا يشترط أن تكون عالماً، بل كل مسألة تأمر فيها وتنهى عنها لا بد أن يكون لك فيها علم.
ثانياً: الرفق والتدرج والبدء بالأهم فالأهم.
ثالثا: الحلم، قال سبحانه وتعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك} [آل عمران:159] ولو كنت فظاً -يا رسول الله- غليظ القلب لانفضوا من حولك، فعليك بالشفقة على الناس، واللين معهم، وإياك والقعود والنكوص عن هذه الشعيرة، ولنحييها فينا جميعاً، ليقم كلٌ منا مع أخيه، اثنان أو ثلاثة يتجولون في الأسواق، أو المنتديات، أو الدواوين، أو المجالس، أو النوادي، يهدونهم الأشرطة والكتيبات، ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر، وينصحونهم ويعظونهم.
نعم يا عباد الله! هكذا لنحيي هذه الشعيرة {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدعوات.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
أقول هذا القول، وأقم الصلاة.(55/6)
الخوف من الله
إن من أعظم الأسباب التي جعلت المسلمين يتهاونون في ارتكاب المعاصي ويكثرون منها هو قلة الخوف من الله عز وجل، ونسيان عظمته سبحانه وتعالى، ونسيان ما أعده الله لمن عصاه ولم يقم بما أمر به، والناظر في حال السلف وما كانوا فيه من شدة الخوف من الله سبحانه وتعالى يرى الفرق كبيراً بيننا وبينهم، فقد كانوا كثيري العبادة ومع ذلك يخافون من الله أشد الخوف ألا يقبل أعمالهم، ونحن بالعكس منهم فقد كثرت ذنوبنا وقل خوفنا من الله عز وجل واستشعار مراقبته.(56/1)
سبب ارتكاب المعاصي والتهاون بها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله تبارك وتعالى، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد:
أيها الإخوة الكرام: إن كثيراً من الناس يجترئ على الذنوب والمعاصي، ويتهاون في الواجبات ويتساهل بها، وإذا فعل أكبر الكبائر كأنما ذباب وقع على أنفه، فقال به: هكذا وطار، وكأن الأمر هين وسهل إذا ترك الصلاة ضحك، وإذا ارتكب الحرام فرح، وإذا تهاون بالواجبات كأنه لم يفعل شيئاً، أما إن خالف غيره من البشر فالأمر شديد، والهول كبير، ويخاف أن تصدر عليه عقوبة؛ فلا ينام الليل، وأما أن يتذكر عذاب الله عز وجل فلا.
أيها الإخوة: إن المقام الذي ينقص هذا هو مقام الخوف من الله جل وعلا فقد قلَّ في كثيرٍ من المسلمين -إلا من رحم الله- الخوف من الله؛ فتجده يرتكب المحرمات، ثم يقولها وبكل سهولة: أستغفر الله وهو يضحك، القلب لا يندم، والعين لا تدمع، والخوف لا يوجل في قلبه ولا يدخل قلبه، ما السبب؟ إنه لا يخاف من ربه جل وعلا.(56/2)
شدة خوف السلف من الله
قال الله جل وعلا واصفاً عباده المؤمنين: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:6 - 37] تعرفون لماذا؟ لأنهم كانوا يجلسون في بيوت الله، ويحافظون على الصلوات الخمس، ويؤدون الفرائض، قال: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37].
كان ابن مسعود -رضي الله عنه- جالساً، فسمع أحد أصحابه يقول: ما أود أن أكون من أصحاب اليمين، إنما أود أن أكون من المقربين -لأنهم أعلى درجة من أصحاب اليمين- فقال ابن مسعود أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: [أما أن هاهنا رجلاً يود أنه إذا مات لم يبعث -يعني: نفسه- أود أنني إذا مت لا أبعث، وددت أنني شجرة تعضد] شجرة ثم تزول وتهلك كما تهلك الأشجار، ولا أبعث عند الله عز وجل يوم القيامة، {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37].
هذا اليوم الذي كان يبكي منه أسلافنا، حتى كان أحدهم إذا أراد أن ينام لا يستطيع النوم {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً} [السجدة:16] خوفاً من ذلك اليوم {خَوْفا ًوَطَمَعاً} [السجدة:16].
يقول بعضهم: "ما رأيت مثل الحسن -أي: البصري - وعمر بن عبد العزيز كأن النار لم تخلق إلا لهما".
وبكى بعضهم قبل الوفاة بكاء شديداً فبكت أمه، قال: ولم تبكين؟ قالت: لبكائك يا بني! قال: أما إني أبكي لخوف المطلع عند الله جل وعلا في ذلك اليوم.
بل إن بعضهم كـ سفيان الثوري وغيره كان إذا ذكر عنده الموت كان من شدة خوفه يبول دماًَ، أجلكم الله.
ما بالنا -يا عباد الله- الواحد منا يرتكب المحرمات إلا من رحم الله، وبعضنا يرتكب المنكرات العظام بل أكبر الكبائر والأمر عنده هين، والخطب سهل لماذا؟ لأن الخوف من الله جل وعلا لم يخالط قلبه.
عبد الله! أراك لا تصلي الفجر في الأسبوع إلا مرة، ولا تتذكر العصر إلا بعض الأحيان، وأراك تستمع بعض الأغاني، وتقع في غيبة بعض الناس، ثم لو سئلت قلت: إن ربي غفور رحيم.
اسمع إلى سلفنا كيف كانوا يخافون من الله جل وعلا: قال الحسن البصري: " سمعت أن هناك رجلاً يخرج من النار بعد ألف سنة " يقول الحسن: (قيل لي، وروي، وسمعت): أن رجلاً يخرج من النار بعد ألف سنة أي: بعد أن يمكث في النار، قال: " وددت أنني ذلك الرجل" أي: أود وأتمنى أني أمكث في النار فقط ألف سنة.
عباد الله! هل وصلنا إلى هذه الدرجة؟ أم أن الواحد منا قد ضمن نفسه مع أنه لا يصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة في بيوت الله؟ والصلاة ما كان يتركها إلا المنافقون في عهد النبوة، وكان الذي يصلي الجماعة يخاف على نفسه من النفاق.
عباد الله! هل وصلنا إلى هذه الدرجة من الخوف؟ الواحد منا يعطي من نفسه ويقوم الليل ثم يخاف من عذاب الله جل وعلا.
يقول عروة بن الزبير: كنت أبيت، ثم إذا غدوت أبدأ ببيت عائشة فأسلم عليها -أول بيت في الصباح أسلم عليه بيت عائشة - يقول: فقدمت عليها يوماً فإذا هي قائمة تصلي وتبكي -لعله قبل الفجر، ولعله في الضحى، ولعله في وقتٍ من الأوقات- قال: قائمة تبكي وتقرأ قول الله جل وعلا: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] فنظرت إليها تبكي، فأعادت الآية مرة أخرى {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] فانتظرت فأعادت الآية مرة ثالثة ورابعة وخامسة وأخذت تعيدها وتبكي، فقلت: أذهب لأقضي حاجة لي فأرجع، قال: فذهبت، ثم رجعت بعد زمن، فنظرت إليها قائمة تردد نفس الآية وتبكي رضي الله عنها وأرضاها.
بعضهم يا عباد الله! كان يقوم الليل فيبكي بعد القيام حتى الصباح يستغفر الله تعالى على تقصيره، {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18].
كانوا يستغفرون من تقصيرهم في قيام الليل، لا من عدم قيامهم لصلاة الفجر، ولا من ارتكابهم للمحرمات، ولا من سهرهم على الأغاني والمسلسلات، لا والله، يقومون الليل ثم يستغفرون الله {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] بعضكم يقول: هؤلاء الزناة، وهؤلاء شاربو الخمور، يجب أن يخافوا من الله، وقد قالت عائشة: هم الزناة؟ هم شاربو الخمور؟ وهم الذين يفعلون ويفعلون؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يا بنة الصديق! هم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون ويخافون ألا يتقبل منهم) يخافون من الله جل وعلا أن يأتي يوم القيامة فيجعل أعمالهم هباء منثوراً، صلاتي يا رب صيامي صدقتي حجي وعمرتي جعلها الله هباء منثوراً؛ لأن للأعمال محبطات، لا تظن أنك إذا عملت العمل انتهى كل شيء! لا والله، المشقة كل المشقة في المحافظة على هذا العمل، كيف تحافظ عليه حتى تلقى الله؟(56/3)
محبطات الأعمال
ألا تعلم -يا عبد الله- أن هناك أعمالاً تحبط هذا العمل، منها: أن تختلي بمحارم الله؛ تجلس في البيت، أو في المجلس، أو الغرفة، أو السيارة، أو تسافر إلى بلاد الغرب فتنتهك محارم الله، قال عليه الصلاة والسلام: (فيجعلها الله هباء منثوراً) أي: الصيام والصلاة والصدقة والحج والبر كله، يجعلها الله هباء منثوراً.
رأى عمر رجلاً من الرهبان عليه أثر العبادة، انقطع عن الدنيا لا يعرف غير الله -الرهبان من النصارى وغيرهم يعبدون الله جل وعلا طوال حياتهم لكن على ضلال- فبكى عمر، فقيل له: وما يبكيك يا أمير المؤمنين! قال: [تذكرت قوله جل وعلا: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية:3 - 4]] عاملة في الدنيا وتنصب، وتشقى في العبادة، ثم تلقى يوم القيامة عذاباً أليماً {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].
قال ابن عمر لأبيه بعد أن تصدق بدرهم: [تقبل الله منك يا أبي! قال: يا بني! لو علمت أن الله تقبل مني سجدة واحدة أو صدقة بدرهم، لم يكن غائبٌ أحب إلي من الموت] لو أن الله تقبل مني درهماً، أو سجدة كان أحب شيء إلي الموت.
عباد الله: لنكن صادقين مع أنفسنا، لنضع أعمالنا في الموازين طاعاتنا وطاعاتهم؛ نضع طاعاتنا وطاعاتهم في الميزان، ثم نقيسها، ثم لنضع خوفنا من الله وخوفهم من الله جل وعلا في الميزان، من منا يخاف من الله أكثر؟ {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175].
كان مالك بن دينار عليه رحمة الله يقوم الليل قابضاً على لحيته وهو يبكي ويقول: "يا رب! يا رب! قد علمت ساكن الجنة من ساكن النار، ففي أي الدارين مالك؟ " يصلي ويبكي ويقبض على لحيته وهو يقول: " ففي أي الدارين مالك يا رب " وكأنه يتمثل قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة:16] لا يستطيع النوم، بل لا يهنأ له بال، خوفاً من الله.
انظروا إلى كثير من المسلمين قطعٌ للأرحام، وعقوقٌ للوالدين وهي من الكبائر، وربا، ونظر، واستماع للحرام، ثم سل عنهم في بيوت الله لا ترى منهم إلا القليل، ثم بعد هذا إن حادثته قال: إن ربي غفور رحيم، غفلة وأي غفلة، ويخبر الله عز وجل عن الناس إذا لقوا ربهم جل وعلا، قال: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} [ق:22] يوم القيامة {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22].
يا عبد الله! كن صادقاً مع نفسك، حاسبها قبل أن تحاسب، لا تنظر إلى من حولك فأكثر الناس في غفلة، لا تنظر يمنة ويسرة، حاسب نفسك قبل أن تحاسب، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].
إن الله خبير بتلك الليلة عندما أذنبت ثم بكيت، وقلت: يا رب! أستغفر الله، يا رب! تبت إليك، يا رب! عاهدتك، إن الله خبير بتلك اللحظة عندما أصبت بالمصيبة، فقلت: يا رب! يا رب! لئن كشفت عني الضر لأومنن لك، ولأستجيبن لك، ولأعملن وأعملن، أين أنت الآن؟ تظن أن الله ينسى؟ {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه:52] تظن أن الله عز وجل غافل؟ لا والله، {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42] إذاً ما الذي جرأك على الله؟ ما الذي جرأك على عقوبة الله؟
كن صادقاً، وحاسب نفسك قبل أن يحاسبك الله جل وعلا، واعلم أن الله تعالى بعد التوبة غفارٌ لمن آمن وعمل صالحاً ثم اهتدى.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم.(56/4)
سبب الخوف من الله
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
تقول لي -يا عبد الله- مم أخاف؟ ولم أخاف؟
أقول لك: يا عبد الله! لأن وراءك أياماً طويلة، لم تستعد لها، فالويل شديد، والكرب عظيم.
سأل أحدهم أحد الصالحين قبل الوفاة فقال له: كيف تجدك؟ قال: كأن السماء قد أطبقت على الأرض وأنا بينهما، وكأن نفسي يخرج من ثقب إبرة.
وأحد الصالحين يقول: كأني أنشر بالمناشير.
وبعضهم يقول: كأن شوكاً يمر من أخمص قدمي إلى أعلى رأسي.
وكان بعضهم يبكي قبل الوفاة وهو يقول: لا أدري إلى أين يلقى بي.
بكى أبو هريرة قبل الوفاة فقيل له: وما يبكيك؟ فقال: [قلة الزاد، وبعد السفر، وضعف اليقين، وخوف الوقوع من الصراط في النار].
عبد الله! وراءك لحظة سوف تجلس فيها ولا شك، إلا إن كان الله قد استثناك في القبر وحدك لا أنيس ولا جليس، فيقول لك الملكان: من ربك؟ هل حقاً تنام على ذكر الله؟ وتستيقظ لله؟ وتقوم لله؟ وتصلي لله؟ وتركع لله؟ وتسجد لله؟ فيسأله الملك: من ربك؟ فيقول الغافل: هاه هاه لا أدري، ما دينك؟ هاه هاه لا أدري، ماذا تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقال له: أن كذب عبدي، فافرشوا له فرشاً من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، تظن الأمر يوماً أو يومين، أو سنة أو مائة سنة، لا يا عبد الله! لعل الأمر إلى قيام الساعة يفرش له فراش من النار، ويأتيه من ريح النار وسمومها.
يا عبد الله! تقول لي: لم أخاف؟
أراك تجترئ على النظر إلى النساء، ثم بعدها لا تعلم أن بينك وبين الله موقفاً سوف تقف بين يديه، وأنه سائلك عما فعلت، فيقول: عبدي! تذكر ذنب كذا عبدي! تذكر تلك الخطبة تذكر ذلك الشريط تذكر ذلك الموقف تذكر تلك الدمعة، ما أراك قد استقمت على ما أردت يا عبدي! ما أراك قد استجبت لما أمرتك، ولا انتهيت بأمثالك عما نهيتك.
ثم يا عبد الله سوف تسمع -إن كنت من الغافلين- يوماً من الأيام النار تجر لها سبعون ألف زمام، مع كل زمامٍ سبعون ألف ملكٍ يجرونها، فهلا أعددت لذلك اليوم؟ النار ترمي بشررٍ كالقصر -شرارتها بحجم القصر- ما بالك بها؛ أما هي فهي مظلمة، وأما حرها فشديد، ضعفت عن نار الدنيا سبعين مرة.
يا من يفتح التلفاز ولا يبالي، وينظر إلى النساء والمسلسلات والأغاني، ضع إصبعك على النار هل أراك تتحمل؟ إن النار التي أعدها الله تَعْدل سبعين ضعفاً عن نار الدنيا.
يا من لا تتحمل إصبعاً في النار كيف تتحمل أن يشوى الجسد كله؟ {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} [المعارج:15 - 17] تعرف ما معنى نزاعة للشوى؟ أي: ينفصل اللحم والعظم من شدة حرها.
عبد الله! يجوعون فيها ويعطشون، فيقرب إليهم الغساق والغسلين والحميم والضريع وغيرها من طعام أهل النار أتعرف ما هي؟ صديدهم وقيحهم وما يسيل من فروج الزواني والزانيات، وما يخرج من قيحهم وصديدهم وما يسيل من جلودهم يأكلونه من شدة الجوع.
عبد الله! الحياة واحدة، والأمر لا ثاني له، والفرصة واحدة، والموت يأتي بغتة، وملك الموت لا يستأذن، حتى لا تأتي يوم القيامة فتقول: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56] لا تبكي يوم القيامة وتعض على كلتا يديك من الندم وتقول: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} [الفرقان:28 - 29] حتى لا تأتي فتقول: ليتني كنت تراباً، {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ:40].
يا عبد الله! كن صادقاً مع نفسك، ولا تخرجن من هذا المسجد إلا وقد حاسبت نفسك، فتتوب من المعاصي والذنوب، ولعل هذه هي الفرصة الأخيرة، ولعل هذه هي الخطبة الأخيرة وأنت لا تدري، ولعل الشمس لن تغرب عليك، ولعلك لن ترى أهلك بعد هذه اللحظة.
ما يدريك -يا عبد الله- فالموت يأتي بغتة، والنفس تخرج فلتة، وملك الموت لا يستأذن، والعمر واحد، والله عز وجل لا يضل ولا ينسى.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداء الدين.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
أقول هذا القول وأستغفر الله.(56/5)
أصحاب الكهف
لقد ذكر الله تعالى في كتابه الحكيم العديد من القصص والحوادث، ولم يذكرها سبحانه وتعالى للتسلية أو للقضاء على الفراغ، إنما ذكرها لتكون لنا عبرة وعظة.
ومن هذه القصص: قصة أصحاب الكهف، الذين رفضوا العيش مع قوم لا يؤمنون بالله، فتركوهم وذهبوا إلى كهف ليسكنوا فيه، وهناك بدأت معجزتهم التي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم.(57/1)
قصة أصحاب الكهف
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أيها الإخوة المسلمون: معنا في هذه الخطبة قصة من قصص القرآن، ذكرها الله عز وجل في كتابه، واستحب رسوله صلى الله عليه وسلم قراءتها في كل أسبوع، وقد سمى الله تعالى السورة بها إنها قصة من أعظم القصص، فيها عبر وفوائد، وفيها ثمرات لمن أيقن بها يجدها في قلبه، فاسمعها يا رعاك الله إنها قصة أصحاب الكهف، هذه القصة العظيمة التي ذكرها الله عز وجل من أجل سؤال سأله النبي صلى الله عليه وسلم عنهم، فلم يجبهم إلا بعد أن أنزلها الله عز وجل، فاسمعها ولنقرأها عليك، وتصور -يا عبد الله- هذه القصة، وتخيل أنك أحد هؤلاء الفتية الذين قص الله عز وجل علينا قصتهم!
قال الله عز وجل في بداية هذه القصة، مادحاً نفسه، ومثنياً عليها بأنه يقص هذه القصة بالحق، وليس بالهزل، أو الكذب، أو الافتراء؛ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} [الكهف:13] وقد ابتدأت هذه القصة بالثناء على أصحابها وأبطالها: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} [الكهف:13] لم يكونوا شيوخاً - كباراً في السن- إنما كانوا فتية صغاراً في السن، ولكن الله عز وجل خلد ذكرهم.
ما شأنهم يا رب! وما قصتهم؟ إنهم آمنوا بالله جل وعلا رأوا قومهم يعبدون الأصنام والكواكب يعبدون غير الله جل وعلا، ويشركون به سبحانه وتعالى، لكنهم آمنوا بالله، فاستجابوا لهذه الفطرة، واستجابوا لله جل وعلا؛ فكانت أعظم فضيلة لهم أنهم آمنوا بالله: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} [الكهف:13] هل تركهم الله لوحدهم؟ لا {وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [الكهف:13] ولكن الله عز وجل زادهم إيماناً وتقوى وهدى، ولم يكن هذا فقط؛ بل قال: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الكهف:14] ثبتهم الله جل وعلا، وزادهم إيماناً وثباتاً.(57/2)
إنكار أصحاب الكهف لما عليه قومهم من الشرك بالله
هل جلسوا بين قومهم؟
هل رضوا بهذا الشرك؟
هل رضوا بهذه الأصنام التي تعبد من دون الله؟ لا.
بل قاموا من مكانهم، ولم يتحمل أحدهم أن يجلس بين قومه {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} [الكهف:14].
نظروا إلى قومهم فأنكروا، ونظروا إلى شركهم فاستنكروا: {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [الكهف:15] ليس الأمر بالادعاء ولا بالكلام، من يصف الله عز وجل بأنه يشرك به شيئاً يشرك به في الألوهية، أو في أسمائه وصفاته، أو بالربوبية، أو يشرك به في الحكم الذي تفرد الله عز وجل به؛ فليأت بسلطان بين فليأت بدليل يثبت ما ادعاه: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [العنكبوت:68].
لم يتحملوا الوضع، ولم يتحملوا الشرك، وتلك الأصنام، ولا هذه الطواغيت، فقاموا من مكانهم، وهربوا من مجتمعهم، واعتزلوا الناس إلى أين؟ ذهبوا كلهم إلى أحد الكهوف المظلمة خرجوا من القصور إلى أحد الكهوف خرجوا من الترف والنعيم وزينة الدنيا إلى كهفٍ من الكهوف، يجتمعون فيه.
نعم! إنه الإيمان الذي لا يسمح لذلك المؤمن أن يجلس بين الشرك، إنه الإيمان الذي لا يرضى لصاحبه أن يرضى بهذا المنكر، وتلك المنكرات {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف:16] إنه الكهف المظلم إنه المكان الموحش، لكن الله عز وجل جعله مفاجأة لهم؛ إن الكهف المظلم قد أصبح كهفاً فسيحاً، ذلك الكهف المظلم ألقى الله سبحانه وتعالى فيه النور، فأصبح من الإيمان جنة من الجنان فأصبح من الإيمان الذي دخل في القلوب جنة يعيشون ويتقلبون فيها، أخرجهم الله من القصور ليدخلوا تلك الكهوف، ومن رحمته سبحانه وتعالى أن جعل هذه الكهوف أفضل وأجمل وأسعد لهم من تلك القصور {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً} [الكهف:16].(57/3)
وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود
دخلوا ذلك الكهف، فجلسوا، وإذا بالتعب يصيبهم، والنعاس يرهقهم، فاضطجعوا في ذلك الكهف، فأرسل الله عز وجل عليهم النعاس والنوم، وتخيل هذا المنظر! هل ينامون يوماً أو يومين أو ثلاثة؟ تطلع عليهم الشمس فتبدي عليهم من نورها، ثم تغرب عليهم وينتهي ذلك اليوم وهم نيام {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف:18].
الأعين مفتوحة وهم نيام، ليسوا بثابتين ولا ساكنين، بل يتقلبون يمنة ويسرة، والشمس تطلع عليهم وتغرب، ولهم كلب نائم عند الباب بالوصيد، حتى يرعب من يدخل عليهم؛ حماية من الله جل وعلا، وإذا رأيت منظرهم أصابك الخوف، ولو اطلعت عليهم لملئت منهم رعباً ما هذا المنظر العجيب؟ وما هذا الموقف الرهيب؟ الشمس تطلع عليهم وتغرب، وإذا رأيت إلى منظرهم كأنهم أيقاظ لكنهم رقود، قال الله جل وعلا واصفاً ذلك المنظر: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} [الكهف:17 - 18].(57/4)
ظهور أمر أصحاب الكهف واختلاف الناس فيهم
إنها آية من آيات الله، وعلامة من علامات قدرة الله جل وعلا؛ أن ترى رجلاً نائماً وليس بنائم، وتراه يقظاناً وليس بيقظان، والكلب عند الباب، والشمس تطلع عليهم وتغرب، وفي لحظة من اللحظات يأذن الله جل وعلا، للأرواح أن ترجع، فإذا الأجساد تتحرك مرة أخرى، فتهتز من بعد موتها: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ} [الكهف:19].
فإذا بهم يقومون يتساءلون بينهم! يقول أحدهم: كم يوماً نمنا؟ وكم ساعة لبثنا؟ فيرد عليه الآخر فيقول: نمنا يوماً كاملاً نمنا يوماً طويلاً، فرد الآخر فقال: لا.
بل نمنا بضع يوم عشية أو ضحاها، قال لله تعالى: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:19] فإذا الجدال عقيم، وإذا النقاش لا ينفع، وإذا الكلام لا يفيد، فردوا أمرهم إلى الله {قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} [الكهف:19] هذا أمر لا ينفعنا، لقد أهلكنا الجوع والعطش، ونريد طعاماً؛ فأخرجوا قطعاً من فضة ليشتروا بها طعاماً، وقالوا لأحدهم: اذهب بهذا المال إلى أسواق المدينة، وادخل مخفياً متلطفاً برفق لكي لا يشعر بك أحد؛ فإنهم إن شعروا بك وقبضوا عليك فسوف يرجموننا ويقتلوننا، إلا أن تعود في دينهم.
وهذه هي حال الطغاة، وتلك هي أحوال الظلمة، وهذه هي المجتمعات الظالمة، لا ترضى أن يبقى على دينهم، ولا ترضى أن يبقى الصالحون على منهجهم، بل إما الرجم أو أن يعودوا في ملتهم {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} [الكهف:20].
واسمع إلى سياق القرآن كيف يصف الله جل وعلا خبره، ويقص علينا قصصه! {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً} [الكهف:19] إياكم إياكم أن يظهروا عليكم! {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ} [الكهف:20] أتعرف ما هو الرجم يا عبد الله؟ إنه الرمي بالحجارة؛ أن تحفر لهم الحفر، فيرموا بالحجارة حتى الموت، لماذا؟ لأنهم آمنوا بالله يُسجنون ويُقتلون ويُعذبون؛ لأنهم آمنوا بالله جل وعلا، لأنهم ما رضوا إلا عبادة الله، ولأنهم أبوا إلا توحيد الله، ولأنهم رفضوا كل شيء إلا عبادة الله جل وعلا، وحكمه سبحانه وتعالى.
لكن الذي خرج منهم ما كان يعلم أنهم قد ناموا في كهفهم أكثر من ثلاثمائة سنة إنها آية من آيات الله! فخرج وإذا بالمدينة قد تغيرت، والناس قد تبدلوا، والقصور قد اختلفت، وإذا بالناس يقصون هذه القصة عبر الأجيال والأزمان يقصون قصة فتية خرجوا من قصورهم إلى كهف من الكهوف، فما علم الناس عنهم وما شعروا بهم، وإذا بهذا الرجل يخرج بينهم، شكله يختلف عنهم، وهيئته كأنها هيئة أصحاب الكهف، وإذا به يأتي بمالٍ من العصور القديمة والأجيال السالفة، فيخرجها ليشتري بها طعاماً، فقال له البائع: من أين لك هذه النقود؟ قال: إنها نقودي.
قال: من أنت؟ قال: أنا فلان بن فلان، قال: أين أنتم؟ فإذا بهم يكتشفون الخبر ويعرفون القصة، فقدموا عليهم، وقد آمن القوم بالله، ورضوا به جل وعلا، فرأوا هؤلاء الفتية الذين قص الناس قصتهم، وذكروا روايات عنهم، فعظموهم، وأعلوا شأنهم {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} [الكهف:21].
تبعه أهل المدينة فإذا به يهرب ويدخل الكهف، فقبض الله أرواحهم جميعاً يموت أصحاب الكهف كما كانوا آية من آيات الله أطلعها الله للناس، فإذا بهم يختلفون ويتنازعون ويتجادلون بينهم، فإذا بالضعفة المساكين يقولون: لنتخذن عليهم مسجداً (قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) إنهم أولياء وصالحون ومتقون، لنجعلن عليهم مسجداً، نأتي ونصلي ونعبد الله جل وعلا في هذا المكان {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} [الكهف:21].
وهكذا حال السذج والضعفة من الناس، يشركون بالله جل وعلا؛ لأنهم وجدوا قبراً من قبور الأولياء، أو مكاناً من أماكن الصالحين، وإذا رأوا صالحاً تمسحوا به وتقربوا به إلى الله عز وجل، وإذا رأوا قبراً لأحد الأولياء، قالوا: نعبد الله عز وجل عنده، وندعوه عز وجل بجواره، ونتوسل إلى الله عز وجل بهذا الولي وبذلك الصالح غلبوا على أمرهم، وتسلطوا على رقابهم أبناء السلاطين، فقالوا: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} [الكهف:21].
وقد اختلف الناس في عددهم، فقال البعض: ثلاثة رابعهم كلبهم، وقال بعضهم: خمسة سادسهم كلبهم، وقال الآخرون: سبعة وثامنهم كلبهم، ولا يعلم عدتهم إلا الله جل وعلا، وقد نهى الله عز وجل نبيه أن يجادل في أمرهم أو يخوض في شأنهم.
إنها قصة وأي قصة، وعبرة وأي عبرة، نرجي بعض العبر فيها إلى الخطبة الثانية أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(57/5)
عبر ومواعظ من قصة أصحاب الكهف
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون: لم يخبر الله عز وجل بهذه القصص للتسلية ولا لقضاء الوقت والفراغ، إنما هي للعبرة، فما قص الله عز وجل علينا قصة في القرآن إلا وفيها عبر وفوائد، فاسمعها حفظك الله:
أول ما بدأ الله عز وجل القصة أنه أخبر أنهم فتية شباب صغار في السن، كما أخبر الله عن إبراهيم بقوله: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60] إن هذا الدين لا فرق فيه بين الصغار والكبار، ولا بين الشباب والشيوخ، أو الرجال والنساء، لكن يحمل لواءه الشباب في عز قوتهم، وعنفوان شبابهم -يحملون هذا الدين- فلا يأتي الرجل في وقت الشباب ويستغله في الفتن والشهوات والملهيات، ثم إذا اقتربت وفاته قال: آمنت بالله آمنت أنه لا إله إلا الله.
إن هذا الدين يرفع لواءه الشباب قبل الشيوخ، والشيوخ يجلسون في بيوت الله يرفعون أياديهم يدعون الله جل وعلا أن يعز دينه، ويعلي كلمته.
إن الشباب في هذه الأمة مطالبون أن يقوموا كما قام أصحاب الكهف، وألا يجلسوا في بيوتهم وقصورهم، ولا يرضوا بهذا الترف وبذلك النعيم، بل يقومون من ذلك الترف، ويدعون إلى الله جل وعلا، وينكرون تلك المنكرات، ولا يرضوا للناس أن يجلسوا بين هذه المنكرات، أو يأتونها.
إن الشباب في هذا الزمان مطالبون بأن يصدعوا بالحق، ويجهروا به، وينكروا المنكرات، كما قال الله جل وعلا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
عبد الله: هل رأيت أولئك الفتية وقد هجروا القصور والنعيم، والدنيا بأكملها إلى أين يا عبد الله؟
إنهم جلسوا في كهف من الكهوف المظلمة، ورضوا بهذا الكهف بديلاً عن تلك القصور، لإرضاء الله وعبادته جل وعلا، خرجوا من هذه الدنيا والواحد منهم لا يرضى أن يجلس في هذا النعيم بين المنكرات، أو يأخذ الأموال، أو يرضى بهذه الفتنة وذلك الترف وهو يأتي المنكرات.
أسمعت -يا عبد الله- ببعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، إنه خباب بن الأرت رضي الله عنه، كان عمره عشرين سنة، فجلد وضرب وافتتن في دينه، حتى أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟).
أسمعت بـ حبيب الزيات عليه رحمة الله، حين استدعاه الحجاج ذلك الظالم الطاغية، فقال له: سمعنا أنك تتكلم فيّ؟ فقال: نعم! أنت أحد الظلمة الطواغيت، وسوف تلقى الله بكل نفس قتلتها ظلماً.
قال: فما تقول في مروان بن عبد الملك؟ قال: أنت خطيئة من خطاياه، هو أظلم منك وأطغى، وأفجر منك وأعتى.
قال: أتقول هذا؟ قال: نعم.
فصلبه وأمر الجلاد أن يقطع لحمه قطعة قطعة، ويسفك دمه، حتى اقتربت روحه على الوفاة، فقال: لا تقتلوه، اذهبوا به إلى الأسواق لتزهق نفسه والناس ينظرون إليه وهو يعذب: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} [الكهف:20].
فصلب أمام الناس والدم يسيل، واللحم يتقطع، والنفس تخرج، فأتاه أحد الناس الصالحين، وقال: أتريد شيئاً؟ فقال: أما دنياكم فلا، لا أريد شيئاً من الدنيا إلا شربة من ماء -يريد أن يشرب شربة من الماء لتخرج نفسه- فشرب شربة من ماء، ثم خرجت روحه إلى الله جل وعلا.
أتعرف كم كان عمر حبيب في ذلك الوقت؟ لقد كان عمره سبعة عشر سنة، ومع ذلك يواجه أكبر ظالم وطاغية على وجه الأرض.
إن الفتية الذين خلد الله ذكرهم لم ينقطع تاريخهم، بل إن في هذه الأمة من الفتية والشباب الذين يقفون في وجه الظلم والطغيان، وفي وجه الشرك والكفر بالله جل وعلا: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين إلى قيام الساعة، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك).
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
والحمد لله رب العالمين.(57/6)
وإذا قلتم فاعدلوا
حث الإسلام على العدل والإنصاف، والعدل لا يكون مع أهل السنة فقط، بل ويشمل الأعداء، ومما يدل على ذلك ما ورد في الكتاب والسنة، وفي صفحات تاريخنا الإسلامي من صور العدل والإنصاف مما يبرهن على ذلك.(58/1)
خُلق العدل والإنصاف
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون: يقول عليه الصلاة والسلام: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وفي رواية: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق) فغاية دعوته عليه الصلاة والسلام أن يتمم الأخلاق؛ أخلاق الناس بينهم وبين الله، أخلاق الناس بينهم وبين أنفسهم، وبينهم وبين بعضهم البعض، يتمم صالح الأخلاق ومكارمها وأحسنها، فكان أفضل الناس خلقاً عليه الصلاة والسلام.
ومعنا في هذه الخطبة خلق من أخلاق الإسلام التي ضاعت عند كثير من الناس، وهذا الخلق -أيها الإخوة الكرام- ذكرناه مراراً وتكرراً، ولكنني أحببت أن أفصل له خطبة كاملة، وأجعل له حديثاً مفصلاً، فاسمع أخي الكريم إلى هذا الخلق، ثم تفحص نفسك أولاً، وتفحص من حولك، وانظر أين هم من هذا الخلق القويم؟
في هذه الأيام بين الرجل وزوجاته، وبين الرجل وأولاده، وبين الرجل وجيرانه، وبين الأخ وإخوانه، وبين الدعاة إلى الله، وبين طلاب العلم، وبين أهل التجارات، وبين أهل الصناعات، ما يحدث هذه الأيام إن دل فإنما يدل على فقدان هذا الخلق العظيم، ألا وهو الخلق الذي قامت عليه السماوات والأرض؛ وهو خلق العدل والإنصاف العدل بين الناس العدل الذي أصبح بين الناس عزيزاً، حتى إنك لا تجده في كثير من الصالحين فضلاً عن عوام الناس.
فاسمع أخي الكريم! كيف يحثنا الله عز وجل على هذا الخلق، فيقول جل وعلا: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام:15] إذا تكلمت، بل إذا حكمت بين الناس، قال: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [النساء:58] هذا الذي يعظكم به هو العدل والإنصاف.(58/2)
العدل والإنصاف عزيز بين الناس
تجد الرجل الصالح المصلي الراكع الساجد إذا حكم على بعض الناس لا يحكم إلا بالظلم والإجحاف، أما الإنصاف فهو عزيز بين الناس، وهذا الأمر مفطور عليه أكثر الناس إلا من خالف هواه، فاسمع إلى الشعبي -عليه رحمة الله- ماذا يقول، وكأنه قد عرف الناس واختبرهم، فعرف معادنهم وحقيقتها، قال: [والله لو أصبت تسعاً وتسعين مرة وأخطأت مرة واحدة لعدوا عليَّ خطئي] ينسون تلك المحاسن، وسوف ينسون (99%) من المحاسن والفضائل لخطأ واحد: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] فطبيعة الإنسان أنه ميال للظلم، ومحبٌ للجهل، هذه الطبيعة من أصل خلقته إلا إن خالف هواه ونفسه وزكى هذه النفس.
واسمع إلى حاتم الأصم كيف بلغ به المقام من حسن خلقه أنه يقول: ثلاث أظهر بها على خصمي: أفرح إذا أصاب فرحاً من منا عنده هذا الخلق إذا أصاب خصمه فرح؟
قال: وأحزن إذا أخطأ إذا وقع خصمي في الخطأ أحزن، وهذا هو حزن القلب وليس فرحه يا عبد الله! فإن من الظلمة من يفرحون إذا أخطأ خصومهم.
قال: وأحفظ نفسي كي لا تتجاهل عليه.
ذهب أحدهم إلى الإمام أحمد فقال له: أسمعت ماذا قال حاتم الأصم؟ قال: ماذا يقول؟ قال: يقول كذا وكذا، قال: سبحان الله! ما أعقله من رجل! من منا يصل إلى مستوىً من العقل والعدل والإنصاف مثله؟
قال سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ} [المائدة:8] لا تنتصر لنفسك، ولا لحزبك، ولا تنتصر لقبيلتك، ولا لشهواتك، بل لله: {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ} [المائدة:8] فإذا تكلمت: {شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة:8] أي: بالعدل والإنصاف: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة:8] إذا كان بينك وبين فلان من الناس عداوة وخصومة، فإياك ثم إياك! أن تحملك هذه الخصومة على الظلم: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8].(58/3)
العدل والإنصاف في الكتاب والسنة
عبد الله: أين أنت من هذا الخلق الذي لولاه ما قامت السماوات ولا استقرت الأرض؟! فهذا وصف اتصف الله به فكان من أعظم الأوصاف: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) إياك والظلم! أخوك صاحبك فلان من الناس داعية إلى الله طالب علم رجل مصلح زل زلة أو أخطأ خطأً، فلا تحملك الخصومة على أن تنشر خطأه بين الناس وتنسى محاسنة.
عبد الله: إياك إياك والظلم! واسمع لـ ابن القيم ماذا يقول:
وتحلَّ بالإنصاف أفخر حلة زينت بها الأعطاف والكتفان
تحلَّ بالإنصاف: أي: بالعدل، وهو أن تزن الناس بميزان العدل والقسط، تضع حسناتهم في كفة وسيئاتهم في كفة، ثم زنه يا عبد الله! وإياك أن تنظر بعين واحدة، وكن كقول القائل:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع
إذا جاء بذنب تذكرت محاسنه، وهذا الخلق يؤدبنا به عليه الصلاة والسلام حتى مع الزوجات، قال: (لا يفرك مؤمن مؤمنة) أي: لا يطلقها ولا يفارقها على خطأ واحد، قال: (إن كره منها خلقاً) إذا جاءت بسيئة أو بخطأ أو ساء خلقها، قال: (إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر) تأتي بحسنة فتهدم هذه السيئة.(58/4)
العدل والإنصاف مع أهل الكتاب
يا عبد الله: كن منصفاً مع الناس، وإياك أن تتكلم إلا بالعدل: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام:152] واسمع إلى ربنا جل وعلا في كتابه كيف يعلمنا هذا الأدب، يقول الله جل وعلا عن أهل الكتاب وهو يلعنهم ويذمهم: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} [آل عمران:112] انظر إلى الذنب! ثم قال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [آل عمران:112] انظر إلى كل هذه الجرائم! ولكن الله أنصفهم، فقد أخبر بأن هناك طوائف لا تقرهم على هذا الفعل، وأن هناك بقايا من أهل الكتاب ما زالوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على الإيمان والتوحيد، فلما جاء عليه الصلاة والسلام آمنوا به، انظر الإنصاف بعد كل ذلك الذنب، قال الله: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران:113] نعم.
انتبه يا محمد! انتبهوا أيها الصحابة! احذروا أيها المؤمنون! أن تعمموا الحكم على الناس؛ فهؤلاء وإن كانوا مغضوباً عليهم فإنهم ليسوا سواء، منهم أمة قائمة مؤمنة موحدة، لما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنت به واستجابت له، آناء الليل يتلون آيات الله وهم يسجدون، أي إنصاف أعظم من هذا؟! بل أي عدل في الحكم أبلغ من هذا العدل؟!(58/5)
قصة حاطب بن أبي بلتعة
اسمع يا عبد الله إلى أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو حاطب بن أبي بلتعة؛ صحابي جليل، ارتكب في الإسلام جريمة عظيمة وخطأ كبيراً، أتعرف ما هذا الخطأ؟
لما قرر عليه الصلاة والسلام أن يذهب إلى مكة ليفتحها ويقاتل المشركين، أرسل هذا الرجل رسالة مع امرأة ليبلغ المشركين، أن يحذروا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قادم إليكم ليقاتلكم، هل تظن أن هناك جريمة أعظم من هذه؟! وهل يبلغ الحال بإنسان في هذا الزمن أن يرتكب إثماً أعظم من هذا الإثم فيكشف خطة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمشركين؟ فإذا بـ حاطب ماثل أمام النبي صلى الله عليه وسلم، فيأتيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] لم يستعجل في الحكم، انظروا إلى التثبت، والتأني والروية، قال: (ما حملك على هذا يا حاطب؟ قال: يا رسول الله! أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفعون بها عن أهلي ومالي).
يد: أي: فضل ونعمة، يدفعون بها عن أهلي ومالي.
انظر إلى العذر، عذر غير مقبول، ولكن:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع
(قال عمر: يا رسول الله! إنه منافق دعني أضرب عنقه، فقد خان الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمر! ألم يشهد بدراً؟ قال: نعم.
قال: وما يدريك -يا عمر - لعل الله اطلع إلى أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم) يا عمر! زن الحسنات والسيئات.
يا عمر! عنده حسنات عظيمة في الإسلام تهدم ما بعدها وما تحتها.
يا عمر! أتى بذنب لكن محاسنه أعظم، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة:8].(58/6)
قصص في العدل والإنصاف
اسمع يا عبد الله إلى هذه الأخبار والقصص التي ملئت بها صفحات تاريخنا الإسلامي من العدل والإنصاف، والتي إذا أردت أن تبحث عنها في هذا الزمن، فإنك تسمع عنها نادراً، وتبحث عنها فلا تكاد تجدها.
اسمع -يا عبد الله- إلى عبد الرحمن بن شماتة؛ وهو تابعي ثقة، جاء إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها يسألها عن بعض أمور الدين، فقالت له بعد أن أجابته وهي الفقيهة العالمة: من أين أنت؟ قال: من مصر، قالت: ما فعل صاحبكم؟ أي: أميركم وواليكم، قال: أما إنه إذا كان معنا في غزوة أو سرية فمات لأحدنا بعير أعطاه بعيراً، وإذا مات له عبد أعطاه عبداً، وإذا نقصت أحدنا نفقته أعطاه نفقة، فقالت عائشة: أما إنه لا يمنعني ما فعل في أخي محمد بن أبي بكر أتعرف ما فعل؟ كان هو السبب في قتله، انظروا إلى الخصومة! رجل كان هو السبب في قتل أخيك، هل تنصفه؟ هل تعدل معه؟ هل تذكر محاسنه؟ قالت: أما إنه لا يمنعني ما فعل في أخي محمد بن أبي بكر أن أقول فيه ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه) أي: كأنها تقول: صدق فيه دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فارفق به؛ لأنه كان رفيقاً بقومه، وبجنده.
أي عدل وأي إنصاف وقسط أعظم من هذا؟!! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58] ثم تجد سفيهاً من الناس، أو جاهلاً من بينهم، أو متعصباً لبعض الأقوال، فيعرض عليه محاسن الناس وفضائلهم وجهادهم، وهم إخوانه من أهل السنة، فيقول: والله لا خير فيهم، سبحان الله! انظر إلى الظلم، أو يقول لك: هم والله شر من اليهود والنصارى هل هذا من العدل يا عباد الله؟! {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام:15].
والله إن بعض الظلم يخرج من أفواه بعض الناس، ولو مزج بماء البحر لعكر ماءه ولأفسده، ولكنك تتعجب أن يخرج الظلم من أناس يدعون العلم والدعوة والعدل بين الناس.
انظر يا عبد الله! إلى ابن عباس كيف اختلف مع عائشة على أمر عظيم، ولكنه صاحب عدل وإنصاف، جاءه رجل -وهو حبر الأمة- يسأله عن وتر رسول الله، فالرجل يسأل عن مسألة فقهية، وهو أحرى أن يجيبه، وبينه وبين عائشة خصومة وخلاف في الرأي، فقال له: أسألك عن وتر رسول الله؟ فقال ابن عباس لهذا الرجل: ألا أخبرك عن أعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم.
قال: عائشة رضي الله عنها، (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا).
من أسباب الظلم يا عبد الله: ما يكون في النفس من الحقد والحسد، ثم ما يكون في العقل من التعصب لبعض الآراء ولبعض الناس، ثم ما يكون بالتصرف من عدم التثبت وعدم التأني والاستعجال في الأحكام.
عبد الله: كن متنبهاً ومتيقظاً، واعلم أنه: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].
أقول هذا القول وأستغفر الله.(58/7)
العدل والإنصاف مع الأعداء
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
عبد الله: العدل والإنصاف حتى مع الكفار: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} [المائدة:8] أي: لا يحملنكم بغض الكفار {عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] هذا إذا كان مع الكفار، فكيف إذا كان مع المسلمين من أهل البدع؟! بل كيف إذا كان مع المسلمين من أهل السنة؟! كيف يجب العدل والإنصاف؟
اسمع إلى عمرو بن العاص أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع رجلاً يقول: (تقوم الساعة والروم أكثر الناس) فقال: ماذا تقول؟ قال: أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أما إنه إن كان حقاً ما تقول، فإن فيهم لخصالاً أربعاً اسمع كيف يثني على الكفار وإن كانوا كفاراً، كيف يذكر محاسنهم ولم يتلفظ بعيوبهم؛ لأن الأمر فيه حكمة وعدل وإنصاف، قد تحتاج بعض الأحيان إلى ذكر العيوب دون المحاسن، وفي بعض الأحيان إلى ذكر المحاسن دون العيوب، وفي بعض الأحيان توازن بين الحسنات والسيئات.
قال: [فإن فيهم لخصالاً أربعاً: إنهم أحلم الناس عند الفتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداء الدين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
أقول هذا القول وأستغفر الله.(58/8)
شهر الرحمة والغفران
رمضان شهر محبب إلى القلوب، فكل الناس يفرحون بقدومه، لكن الفرحة تتفاوت من شخص لآخر، ورمضان له فضائل كثيرة وخصائص جليلة، ذكر بعضها الشيخ في محاضرته، متكلماً عن حال السلف في رمضان، ثم قارن بين حالهم وحالنا في هذا الزمان، موضحاً أن شهر رمضان شهر إطعام الطعام، وشهر المحبة والوئام، وشهر التوبة والإنابة إلى الله تعالى، ثم ذكر أن الناس يستعدون لرمضان كلٌ بحسب ما سيعمل فيه، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.(59/1)
استقبال شهر رمضان وبعض فضائله
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين
إلهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كان مني
وما لي حيلة إلا رجائي وعفوك إن عفوت وحسن ظني
يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعف عني
أيها الإخوة الكرام: موضوع حديثنا في هذه الليلة المباركة -إن شاء الله- ونحن نستقبل بفارغ الصبر هذا الشهر العظيم، ونحن نستقبل أياماً كان سلفنا -رحمهم الله- ينتظرونها ستة أشهر، وكانوا يدعون الله أن يبلغهم هذه الأيام، وإذا فارقوه ظلوا أشهراً عديدة يدعون الله أن يتقبل منهم الصيام والقيام هذه الأيام التي غفل عنها كثيرٌ من المسلمين، حتى صاروا لا يشعرون بها إلا عندما تدخل، تدخل وتخرج وما شعر بها كثيرٌ من المسلمين وللأسف!
هذه الأيام كان ينتظرها الصالحون أياماً وشهوراً وليالي كم وكم من إخواننا كان معنا في رمضان الماضي؟ أتذكر ذلك الذي كان يقوم معنا الليل؟ أتذكر فلاناً الذي كان يصوم ويفطر معنا، وكنا نزوره، وكنا نصله؟ أين هو الآن؟ تحت الثرى، يلقى جزاءه عند الله جل وعلا، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.(59/2)
نزول القرآن الكريم في رمضان
أخي الكريم: إن الله جل وعلا وصف هذه الأيام فقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] أعظم كلام أنزل! وهو الخلاص للبشرية، وهو النور لهذه الأمة متى نزل؟ نزل في رمضان لعظم هذا الشهر الذي غفل عنه كثيرٌ من الناس، ولماذا أنزل القرآن؟ {هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185] ولهذا كان هذا الشهر وهذا القرآن الذي أنزل فيه هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان كم من ضال تائهٍ عاقٍ مذنب عندما تقرأ عليه بعض الآيات، يتذكر ربه، فتدمع عينه، ويخشع قلبه، لم؟ لأنه كلام الله، وكان جديراً أن ينزل بهذا الشهر؛ لأنه أعظم شهر، وفي أي ليلة بالخصوص؟ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] من عظم هذا الشهر أن فيه ليلة أنزل فيها القرآن إلى السماء الدنيا.(59/3)
الحكمة من الصيام
أخي الكريم: لماذا أوجب الله الصيام في هذا الشهر؟ حتى نجوع ونعطش؟ حتى نتعب ونهلك؟ حتى نظمأ؟ يا رب! لم هذا العذاب؟ أتظن أن الأمر يقتصر عند هذا؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] ونحن نستعد لهذا الشهر ونستقبل ليلته وأيامه؛ اعلم أن الله يريد منك أن تخافه، وتخشاه، وأن تحصل التقوى في القلوب، فليست القضية أكل وشرب والجماع، الأمر أعظم من هذا بكثير، الأمر هل تحصل التقوى في قلبك في هذا الشهر؟ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].(59/4)
فتح أبواب الجنان وغلق أبواب النيران في رمضان
أخي الكريم: إذا جاء هذا الشهر -من فضيلته ومن عظمه- تفتح أبواب الجنان، ألا هل من مشمر لهذه الجنان؟ تفتح! كم من مقبول في هذا الشهر! وكم من مسجل أنه من أهل الجنة في هذا الشهر! والناس بين لاهٍ وغافل، وأبواب النيران توصد وتغلق كلها هل رأيت فرصة أعظم من هذه الفرصة؟ أبواب الجنان الثمانية، وتسألني وتقول: ما هي أوصاف هذه الأبواب؟ أقول لك: ما بين المصراعين مسيرة أربعين سنة، تمشي أربعين عاماً ثم تصل إلى طرف الباب الثاني، هذا الباب يفتح، وكم يخرج من هذا الباب! تخرج من رحمات وأنوار، وروائح طيبة وكم يقبل إنسان في هذا الشهر!
قال صلى الله عليه وسلم: (رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه! من أدرك رمضان ولم يغفر له) تعس! إي والله، دخل رمضان وخرج وما دمعت عينه وما تاب من معصيته دخل رمضان وخرج ولا زالت أمواله في بنوك الربا دخل رمضان وخرج وهو لا يزال مصراً على ذلك الذنب وتلك المعصية {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ} [آل عمران:135] لا تقل: إنك لا تذنب، ولا تخدع نفسك بأنك لا ترتكب معصية، كل بني آدم خطاء، فهذه فرصتك أيها الخطاء، وفرصتك أيها المذنب، أبواب الجنان تفتح! وأبواب النيران تغلق! ومردة شياطين الجن تصفد! أي فرصة أعظم من هذه، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل! ويا باغي الشر أقصر! أتعرف ما هذه الأيام؟ {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185].
كان النبي صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بهذا الشهر، وإذا رأى هلاله، قال: (الله أكبر، الله أكبر، اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام) كان يدعو الله أن يهله عليه وهو على دين الله جل وعلا، إنه شهرٌ عظيمٌ، فأين المشمرون؟ أين المسارعون؟(59/5)
تفاوت فرحة الناس برمضان
من الناس من يسارع في هذا الشهر لبضاعته ليروجها، ويفرح بقدومه لأن البضاعة تروج، ولأن السوق يزدحم، يفرح بهذا الشهر لهذه المقاصد، ومنهم من يفرح لأجل المسلسلات ولأجل الأفلام، ولأجل الإعلام الماجن في هذا الشهر وغيره، ومنهم من يفرح بهذا الشهر غايته ومناه الملاعب والكرة وغيرها، أما القيام فلا قيام، وبعض الناس يفرح بهذا الشهر للمعاكسات ومن الناس من يتمنى هذا الشهر ويرجوه يوماً بعد يوم لتدمع عينه من ذلك الذنب الذي ارتكبه، ليقوم الليل، وهو يعلم أنه قد يدرك رمضان وقد لا يدركه يذكر أناساً وأصحاباً وأصدقاء كانوا في العام الماضي يصلون معه، أما اليوم فلا نعرف عنهم إلا ذكرى وأماني اسمع ماذا يقول الشاعر -يا عبد الله- وانتبه:
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب حتى عصى ربه في شهر شعبان
لقد أظلك شهر الصوم بعدهما فلا تصيره أيضاً شهر عصيان
واتل القرآن وسبح فيه مجتهداً فإنه شهر تسبيح وقرآن
كم كنت تعرف ممن صام في سلفٍ من بين أهلٍ وجيران وإخوان
أفناهم الموت واستبقاك بعدهمُ حياً فما أقرب القاصي من الداني
فرصة قد تدركها وقد لا تدركها قد لا تعوض يا عبد الله.(59/6)
العتق من النار ومضاعفة الأجور في رمضان
لله في كل ليلة عتقاء من النار، فاجعل نفسك في أول ليلة عتيقاً من النار {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] يقول الرب: (كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم) فإياك وعدّه، إياك وحسابه، فلن تستطيع! (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) أتعرف لم؟ لأنه سر بين العبد وربه، من يمنعك إذا خلوت بريبة في ظلام الليل، أو في قعر النهار، أو في شارعٍ، أو بيتٍ أو غرفة، من يمنعك أن تعصي ربك، فتأكل طعاماً، أو تشرب شراباً؟ من يمنعك؟ إنه خوفك من الله جل وعلا صبرك على هذا أتعرف ما أجرك؟ {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ} [الزمر:10] متى يا رب؟ (للصائم فرحتان: إذا أفطر فرح بفطره) كم يفرح الصائمون! كم يفرح المخلصون! كم يفرح الصادقون حين يفطرون فيقول: (اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت) والفرحة الأعظم والأكبر (وإذا لقي ربه، فرح بصومه) {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].
هذه بعض فضائل رمضان، فهل أنت مستعد الآن يا عبد الله؟ هل أنت مشمر أن تتعب وتعطش في سبيل الله؟ أن تتعب هذه الرجلان وتتفطر القدمان من أجل الله تبارك وتعالى؟(59/7)
الصالحون وحالهم مع قيام الليل
كان الصالحون يصومون ويقومون الليل في غير رمضان، فإذا جاء رمضان خف عليهم.(59/8)
الإمام أحمد بن حنبل وقيامه الليل
هذا الإمام أحمد، يقول ابنه عبد الله: كان يقوم كل ليلة بثلاثمائة ركعة يصلي ثلاثمائة ركعة يا عبد الله! فلما فتن وضرب وجلد ورمي في السجن في ليلة قارصة باردة شديدة البرودة، يقول عن نفسه بعد مائة وستين جلدة، يقول: دخلت أتحسس- في ظلام دامس وبرد قارس- أتحسس فوقعت يدي على ماءٍ بارد، يقول: فأخذت وتوضأت، وأخذت أصلي حتى الفجر {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [السجدة:16] الليل دعاء وبكاء وتضرع، هكذا الصائمون الصادقون {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16] قالوا: يا إمام! قلها وتخلص.
قال: لا، القرآن كلام الله.
فمكث في السجن ثمانية وعشرين شهراً، لم يفطر فيها يوماً واحداً، سرد الصوم كله {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:184] نعم، الصوم ما أحلاه! وما أعظمه! بعضهم عند الاحتضار قيل له: لم تبكي؟ قال: لا أبكي إلا على ظمأ الهواجر، ومكابدة الليل، أبكي لأنني فارقت أيام حَرٍّ كنت أصومها لله عز وجل أين هي الآن؟ فقدتها ما ألذها! وما أحلاها! أحلى أيام حياته، والآخر يقول: على مكابدة الليل.
كان الإمام أحمد يقوم قبل السجن بثلاثمائة ركعة، فلما تعب بعد السجن كان يقوم في الليلة الواحدة مائة وخمسين ركعة، وكان عمره قد تجاوز الثمانين عاماً.
كانوا يتلذذون بقيام الليل، فيا من يقبل عليهم شهر رمضان لِمَ تعدون لياليه؟ ولمَ تترقبونه؟ ولمَ تتأهبون للقائه؟ إن لم يكن لهذا، فبئس الاستعداد والترقب!!(59/9)
عثمان بن عفان رضي الله عنه وقيامه الليل
كان عثمان يقوم الليل كله بالقرآن، يختم القرآن كله في ليلة، حتى قال ابن عمر: [فيه نزل قول الله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]] وفيهم قال الشاعر واسمع وتدبر يا عبد الله، اسمع إلى صفات عباد الله:
امنع جفونك أن تذوق مناما وذر الدموع على الخدود سجاما
عجيب! تقول: وهل أحد ينام في رمضان؟! أقول لك: حدث ولا حرج عمن يضيع نهار رمضان ولياليه بالنوم والكسل، والتواني، ينام في شهر رمضان أكثر من عشر ساعات، هل سمعت بهذا؟ مسكين من ضيع نهار وليالي رمضان في لهوٍ ولغوٍ ونوم!!
امنع جفونك أن تذوق مناما وذر الدموع على الخدود سجاما
واعلم بأنك ميت ومحاسب يا من على سخط الجليل أقاما
لله قومٌ أخلصوا في حبه ورضا بهم واختصهم خداما
قومٌ إذا جن الظلام عليهم أبصرت قوماً سجداً وقياما
فسيغنمون عرائساً بعرائسٍ ويبرءون إلى الجنان خياما
وتقر أعينهم بما أخفي لهم وسيسمعون من الجليل سلاما
يتلذذون بذكره في ليلهم ويكابدون لدى النهار صياما
نعم! نهارهم قرآن، وذكر، وعبادة، ودعاء، فإذا جاء الليل
عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه
وفي النهار:
وأسد غابٍ إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياه(59/10)
حال بعض الناس في رمضان
عباد لله: بعض الناس في ليالي رمضان ورمضان هم كالتالي: إذا جاء للدوام في العمل فهو كسول، لا يبالي بالمراجعين، ولا يبالي بأحد، حجته (إني امرؤ صائم) وهل الصيام يؤدي بك إلى هذا؟! كم فُتحت الفتوح في نهار رمضان؟ وكم انتصر المسلمون في شهر رمضان؟ وهذا الصائم نائمٌ في عمله، لا يأتي إلا في منتصف الدوام، إن سئل؟ قال: إني امرؤ صائم، عطل المراجعين وساءت نفسه وخبثت، والحجة (إني امرؤ صائم) قد أشقيت نفسك وغيرك، وكنت قدوة سيئة للناس.
وإذا جاء الليل بعد أن شبع وملأ بطنه، إن جاء يصلي، قال: يا إمام! أرحنا من هذه الصلاة، ما أطولها! أزعجتنا بها، مللنا هذه الصلاة الطويلة!
أزعج الناس بثقل الصلاة عليه أتعرف لماذا هي ثقيلة؟ لأن الله جل وعلا سماها عنه وعن أمثاله {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} [البقرة:45] الصلاة ثقيلة عليهم إلا على من يا رب؟ {إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] لم يخشع فيها ولا تلذذ بها، يقول للإمام: لا تطل الصلاة، ثم لم يصلي إلى أين؟ أتظنه يجلس في بيت الله؟(59/11)
حال السلف في رمضان
كان الإمام مالك رحمه الله يغلق كتب العلم في رمضان يغلق مجالس الحديث والإفتاء، ويعتكف على القرآن، وكان الإمام الشافعي رحمه الله في النهار يختم القرآن كله، وفي الليل يختم القرآن مرةً ثانية، فلا ينقضي رمضان إلا وقد ختم القرآن ستين مرة.
أتظنه ينام كما ينام الناس في هذا الزمان؟ أم تظنه يجلس مجالس لغو وغيبة ونميمة ولعب ومسلسلات وأفلام كما يفعل الناس في هذا الزمن؟ لا والله! هذا الإمام عرف قدر القرآن في هذا الشهر، لأن الله أنزل القرآن فيه {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان:3] بارك الله في هذه الليلة لم؛ لأن القرآن أنزل فيها.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس في خباه لا يكلم أحداً ولا يكلمه أحد، يعتكف للقاء الله جل وعلا، وكان جبريل يدارسه القرآن، وكان السلف من بعده أحدهم في المسجد لا يخرج إلا للوضوء ويرجع، بين مصحفٍ وقرآن أي قراءة نريد؟ هل نريد قرآناً هذاً كهذِّ الشعر؟ أو كقراءة جرائد؟ أو أن تفتخر بين أصحابك أنك قرأت القرآن مرتين أو ثلاث! لا، نريد قرآناً كما قرأه السلف كيف قرءوه؟ هذا أفضل الخلق يقول لصاحبه ابن مسعود: (اقرأ علي القرآن.
قال ابن مسعود: أأقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال صلى الله عليه وسلم: إني أحب أن أسمعه من غيري، قال ابن مسعود: فقرأت حتى وصلت إلى قوله جل وعلا: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] فسمعته يقول: حسبك.
فنظرت فإذا عيناه تذرفان) عليه الصلاة والسلام، ويدخل عليه بلال وهو يبكي فيقول: (يا رسول الله! لم تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: قد أنزل علي الليلة آيات ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191]).
يوشك أن تدخل مسجد جماعة فلا ترى فيه خاشعاً، يوشك أن يخطئ الإمام ولم يدر به أحد، يوشك أن تسأل المصلين بعد الصلاة ماذا قرأ الإمام؟ فلا يجيبك أحد، يوشك أن يأتي هذا اليوم أن يقول الناس بعد الصلاة: ماذا قرأت أيها الإمام؟ لم نعقل إلا التكبير والسلام، لم نعقل شيئاً آخر.
الفضيل بن عياض قرأ آية واحدة ورددها حتى بكى، وهي قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:8 - 9].
وكان أبو حنيفة يقوم الليل كله بآية واحدة، وعائشة تصلي الضحى بآية واحدة، {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27].(59/12)
رمضان شهر إطعام الطعام
يقول الزهري رحمه الله: شهر رمضان شهر قرآن وإطعام طعام.
لا ثالث لهما، إما أن تقرأ القرآن أو تطعم المساكين، وكان السلف في ليالي رمضان يطعمون المساكين، والفقراء، والجياع، ويتقربون إلى الله بهذا {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان:8 - 9] رمضان شهر إطعام الطعام.
أتعلم أن هناك من المسلمين من يمر عليه رمضان وغير رمضان ولا يفرق؛ لأنه لا يأكل شيئاً؟ هو صائمٌ طوال العام، إن حصل على وجبة واحدة في اليوم والليلة، فهنيئاً له في ذلك اليوم أسمعت بمسلمين يبحثون عن الطعام في القمامات؟! أسمعت بمسلمين تنظر الأم إلى رضيعها ليس في ثديها قطرة لبن ترضعه، ويموت بين يديها ولا تستطيع أن تفعل شيئاً؟! أسمعت بمسلمين الآن في هذا الزمن يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، ليس عندهم رطبات يسدون بها جوعهم؟! أسمعت بهذا يا من فرشت لك الولائم! ويا من غضبت إذا نقص شيءٌ من أصناف الطعام! ويا من تشتكي من التخمة ومن كثرة الطعام! ويا من ألهتك تلك الملذات والشهوات عن إخوانك المسلمين؟!
إنه شهر إطعام الطعام (من فطّر صائماً فله مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجره شيئاً) {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].
لا تبخل يا عبد الله!
تذكر إخواناً لك في الأرض جوعى ومرضى لا يملكون شفاءً للشتاء، ولا غطاءً للصيف، ولا يملكون دواءً لمرضاهم، يموت الولد من مرض، وتموت الأم من جوع، ولا يستطيع أحدٌ أن يفعل شيئاً، وقد قرأت يوماً خبراً -إن كان صحيحاً، فإننا نعيش في زمن التعاسة- قرأت يوماً في إحدى البلاد الإسلامية أن أماً مع أولادها ما كانت تملك شيئاً، حتى جاعوا، وبحثوا عن طعام فلم يجدوا حتى ماتت الأم بين أيدي الأولاد، الأم ثم جاع الأولاد فلم يجدوا طعاماً؛ فما وجدوا إلا شيئاً من اللحم بقي على عظام أمهم، فأخذوا يقطعون بعض اللحم ويأكلونه ليسدوا به جوعهم قال الله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان:8 - 9] شهر رمضان يذكرك إذا جعت وإذا عطشت بالفقراء والمساكين كم ستصوم؟! اثنا عشر ساعة، ومن المسلمين من يصوم أربعاً وعشرين ساعة، بل يصوم يومين وثلاثة ولا يجد طعاماً يأكله، فإذا جعت تذكر إخوانك.(59/13)
رمضان شهر المحبة والوئام
شهر رمضان -يا عبد الله- شهر محبةٍ ووئام، إن كان بينك وبين إخوانٍ لك شحناء وبغضاء وغل وحسد فلا يأتي هذا الشهر إلا وقد رفعته عن قلبك، فإن الله لا يغفر لعبدين متشحانين، ترفع الأعمال إلى الله كل اثنين وخميس؛ فيغفر الله لكل عبدٍ لا يشرك بالله شيئاً إلا رجلين بينهما شحناء، إن كان بينك وبين أخيك نزاعٌ وخصام وخلاف وبغضاء وشحناء، فالله الله في هذا الشهر أن تصلح ما بينك وبينه {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] كيف يقوم الليل من قام وفي قلبه لأخيه شحناء؟ كيف يتلذذ من يقرأ القرآن وفي قلبه على أخيه شحناء وبغضاء؟ كيف يهنأ بفطره ويتلذذ بصومه من بات ومن أصبح وأمسى وفي قلبه غلٌ على إخوانه المسلمين؟ {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10].(59/14)
رمضان شهر التوبة
عباد الله: هذا الشهر شهر التائبين، شهر المقبلين على الله عز وجل هل رأيت أرحم من الله؟
هل رأيت أكرم من الله جل وعلا؟
هل سمعت بكرمٍ أعظم من كرم الله جل وعلا؟
إنه شهرٌ يفتح الله فيه أنواع الرحمات، بل وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر.
هذا رجل من بني إسرائيل عبد الله أربعين سنة، كان صالحاً تقياً ثم انتكس، فعصى الله جل وعلا أربعين سنة أخرى، أربعين سنة يطيع الله، ثم أربعين سنة يعصي الله ويجاهر بالمعصية، ثم أراد أن يتوب، فقال: يارب! أطعتك أربعين عاماً، وعصيتك أربعين عاماً، فهل لي من توبةٍ إن أنا تبت وأنبت إليك يا رب؟ فإذا به يسمع منادٍ يناديه: عبدي! أطعتنا فقربناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإن رجعت إلينا قبلناك قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:70].
إن لم يُغفر لك في رمضان فمتى؟! إن لم يرحمك الله في رمضان فمتى؟! إن لم يعتقك الله في رمضان فمتى يا أخي الكريم؟! الشياطين صفدت، والرحمات تنزل، والجنة فتحت أبوابها، وزينت لك يا عبد الله! فإن لم تقبل في رمضان فمتى؟!
يا كثير العفو عمن كثر الذنب لديه جاءك المذنب يرجو الصفح عن جرمٍ لديه
أنا ضيف وجزاء الضيف إحسانٌ إليه
عبد الله! هل أنت مقبلٌ على الله؟ يبسط يده كل ليلة ليتوب مسيء النهار، وكل نهارٍ ليتوب مسيء الليل، قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر:49] أخبرهم أني أنا الغفور الرحيم، بل قال في الآية الأخرى: إنه غفار، أي: كثير المغفرة: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ} [طه:82] هل أنت تنوي أن تتوب في هذا الشهر من ذلك الصحن وهذا البث المباشر الذي أدخلته إلى بيتك؟ هل عزمت أن تخرجه في شهر رمضان توبة إلى الله جل وعلا؟ ورصيدك الذي لا زلت تحارب الله به سنوات، ودعيت إلى الله فازددت منه {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] هل أنت عازم على التوبة في هذا الشهر؟ {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53].
أيتها المتبرجة! يا من أصررت على هذا الفعل! هل عزمت في هذا الشهر أن تتوبي إلى الله جل وعلا؟ أدعو كل امرأة في هذا الشهر أن تقبل على الله كيف تذهبين إلى الصلاة وتدمع عينك وتخشعين وتبكين من خشية الله، ثم ما أن ينتهي رمضان إلا وقد حسر الرأس والذراعان والساقان، ثم ظهرت الضحكات مرةً أخرى، ورجع الاختلاط مع الرجال والخلوة بهم؟! إلى متى لا نتوب إلى الله جل وعلا؟ {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [الزمر:54].(59/15)
نماذج للتائبين
عبد الله! اسمع إلى أولئك التائبين، كيف تابوا؟
هذا شاب يقول: كنت مولعاً بالأغاني والطرب، كان يعشق مطربة وللأسف! شباب المسلمين الذين كانوا يعشقون السيوف، ولا يتلذذون إلا بالجهاد، وكان الواحد منهم يقف على أصابعه ليؤذن له في الموت، وكان ينادي معاذ ومعوذ ابني عفراء أحد الصحابة: يا عم! يا عم! أين أبو جهل؟ فيقول: ماذا تريدان؟ ما شأنكما وشأنه؟ قال: يا عم! سمعت أنه يسب رسول الله، فوالله لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا.
الله أكبر! هكذا الشباب.
أما الشباب في هذا الزمن -إلا ما رحم ربك- فيبكي لأنها فارقته، يعتصر قلبه ألماً لأنها لم تلتفت إليه، يتقلب على الفراش بذكراها، تبكي عينه لفراقها تباً لأولئك الشباب! هكذا استبدلوا الأمجاد بهذه الأحوال هذا الشاب يقول: كنت مولعاً بمطربة وكنت أطرب بأغانيها، وأستمع إليها كل يوم من الصباح إلى المساء حتى في رمضان، صفدت الشياطين وبقي هو، لا يحتاج إلى شيطان، من الصباح إلى المساء على الأغاني والطرب، لا يصوم ولا يذكر الله، وكان يأتيه كل يوم رجل داعية يدعوه إلى الله جل وعلا، ولكنه يقول: كنت أتأثر ولكن عندما أذهب إلى البيت أرجع كما كنت، كل يوم على هذه الحالة، وكان الشيخ يدعوه، وهو يصر على الذنوب وعلى المعاصي يقول: وفي يوم من الأيام أغلظ علي في الموعظة، فذهبت إلى البيت ونمت؛ فرأيت فيما يرى النائم- اسمع ماذا رأى في المنام- يقول: كنت أمشي على شاطئ البحر، فإذا بي أسمع المطربة الفلانية تغني في النوم، وجاءني رجل، وقال: إن مطربتك المفضلة تغني فأسرع إليها، يقول: فأخذت أركض نحو الصوت على البحر؛ فإذا برجل يمسك بكتفي، فالتفت فإذا هو شيخ وقور كبير، فقلت له: ماذا تريد؟ قال: قف، قلت له: دعني أذهب إلى هذا الصوت، يقول: فإذا به يمسك بي ولا يسمح لي بالذهاب، وأنا أحاول أن أتركه ولكن لا فائدة، وإذا به يقرأ آية من كتاب الله: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22] ويردد الآية بترتيل، يقول: فاستيقظت من النوم وأنا أردد الآية وأبكي، لا أدري عن نفسي، حتى دخلت أمي وفزعت: مالك يا بني ما الذي جرى؟ وأنا أردد الآية وأبكي حتى بكت أمي معي، {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22] يقول: ومنذ تلك الليلة، ومنذ تلك اللحظات كسرت جميع الأشرطة، وأحرقت الصور، وبدأت بداية جديدة بيني وبين الله جل وعلا.
يا من يعد غداً لتوبته أَعلَى يقينٍ من بلوغ غدِ
المرء في زلل على أملٍ ومنية الإنسان بالرصدِ
أيام عمرك كلها عدد ولعل يومك آخر العددِ
لعل هذا اليوم هو آخر يوم، ولعل هذه اللحظة التي تسمعني الآن آخر لحظة، ولعلك -أيها العاصي المذنب- يختم الله لك على ذنبك وعلى معصيتك.
رمضان شهر التوبة، رمضان شهر الإقبال على الله، كل ليلة يعتق الله فيه قوماً من النار {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] كان السابقون في قيام ليل وصيام نهار، ويخافون ألا يقبل الله منهم، ومن الناس في هذا الزمن على أفلام ومسلسلات وأغاني وطرب ومجون، وفي النهار نوم، وفي الليل لهوٌ ولعبٌ وعربدةٌ وطرب، هذا حال بعض المسلمين حتى في شهر رمضان، ثم بعدها يرجون رحمة الله، وأي رحمة ترجون؟!
الفضيل بن عياض، عابد الحرمين، كان له ابن مات من القرآن، وهو علي بن الفضيل {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:34] قرأ آية فبكى منها حتى مات، أما الفضيل بن عياض فقرأ يوماً قول الله جل وعلا: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31] فتوقف وبكى، وقال: يا رب! إن بلوت أخبارنا افتضحنا.
إنا لله وإنا إليه راجعون! الصالحون يقولون هذا، فماذا يقول المذنبون؟! ماذا يقول من أمسى وأصبح عاصياً لله جل وعلا؟!(59/16)
الاستعداد لشهر رمضان
أيها الإخوة الكرام: نحن نعد العدة لاستقبال هذا الشهر، ونحن -أيها الإخوة الكرام- نتجهز لقدومه، منا من يتجهز بالطعام والشراب، وبالموائد والولائم، وبالسهرات، وبالرحلات، ومنا من يعد العدة ألا يخرج عليه هذا الشهر إلا وقد غفر الله له ذنوبه كلها، فمن أي الفريقين أنت؟ من الناس من يعد العدة لبرامج التلفاز، وأنا أقول هذه الكلمات وأرجو أن تصل للقائمين على الإعلام: أن يتقوا الله جل وعلا في المسلمين، أن يخافوا الله جل وعلا، ولعل واحداً منهم يسمعني، ولعل هذا الصوت يصل إلى أحدهم، أقول له: اتق الله جل وعلا، شهر رمضان شهر قرآن وذكر وقيام وصيام وعبادة للرحمن جل وعلا، لا شهر طرب ولهو وأفلام ومسلسلات، تقول لي: إذاً ماذا أفعل؟ أقول لك: تب إلى الله جل وعلا، تب مما جنيت وأنت حي، وارجع إلى ربك جل وعلا، واهجر ذلك العمل، واترك فإن الرزق عند الله جل وعلا، وأقول لهم: اتقوا الله جل وعلا، وحافظوا على دين الناس وعلى عبادة الناس، فكم من الناس من يجلس أمام التلفاز للأسف!
أقول لك: سل نفسك: هل تنتظر بفارغ الصبر تلك الليالي وهذه الأيام وهذه اللحظات للبكاء من خشية الله، أم تنتظر تلك السهرات والأفلام؟ {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36].
وفي نهاية الحديث أسال الله تبارك وتعالى أن يبلغني وإياكم هذا الشهر أيامه ولياليه، وأن يتقبل منا صيامنا وقيامنا، هذا وصلِّ اللهم وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(59/17)
من الطارق؟
الموت هو الزائر بلا استئذان، فهو يأتي بلا موعد، فيسلبك الروح دون رضاك، خاف منه الصغير والكبير، القوي والضعيف، الغني والفقير، خاف منه السلف، ولم يعتبر منه الخلف.(60/1)
تذكير بالموت
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام: من الطارق؟! هذه الكلمات أسأل الله تبارك وتعالى أن يفتح لها القلوب، وأسأل الله جل وعلا أن لا يفرق هذا الجمع إلا بذنبٍ مغفور، وأسأله تبارك وتعالى كما جمعنا في هذا الجمع الكريم أن يجمعنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأن يجمعني وإياكم في مقعد صدق عند مليك مقتدر.(60/2)
الموت يزورك بلا موعد
أيها الإخوة الكرام: كم من الناس من يعيش في هذه الدنيا يلهو ويلعب، ينام ويستيقظ، يأكل ويشرب، ينكح النساء وينجب الأبناء، ويظن هذا المسكين أنه في هذه الدنيا مخلد، يظن أنه لما يجمع المال ويبني القصور {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} [الهمزة:3] يظن أنه سوف يعيش أبداً في هذه الدنيا، والمسكين لا يدري أنه في تلك الليلة الموعودة، أو في ذلك اليوم الأخير لعله كان جالساً مع أولاده وبناته الصغار يداعبهم ويلاعبهم، المسكين ما صلى ظهراً ولا عصراً، ما صلى لله عز وجل، ولعله قضى ليلته في الحرام، أو بالنظر إلى النساء، أو باستماع الأغاني، ثم داعب أهله وأولاده ثم ذهب إلى الفراش بعد أن قال لهم: أيقظوني للعمل، ولا يفكر في صلاة الفجر، ولا في قيام الليل، بل لربما نام على جنابة، فإذا به أثناء النوم يأتيه شيءٌ غريب فيقول له: من أنت؟! قال: أنا ملك الموت -ما الذي جاء بك؟! طرق البيت ودخل بغير استئذان، إنه الطارق، ما الذي جاء بك؟! - جئت أنتزع الروح، وأقبض الأمانة، الأمر سريع، والخطب فضيع، وهذا المسكين يقول للملك: أمهلني دقائق، حتى أصلي ركعتين أتوب بها إلى الله، ما اغتسلت من جنابة، عندي أموال لا زالت من الربا لم أرجعها، ولم أنفقها في الحلال، عندي بعض المظالم لم أرجعها إلى أصحابها.
أمهلني دقائق، أرجع فأصلي لله ركعات، أسجد لله سجدة أتوب بها: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99].
ما الذي حدث؟ إن الروح بدأت تخرج، وبدأ ينزعها ملك الموت، فخرجت من رجليه؛ ما بال الرجلين بدأتا تبردان يصيح جاءت الزوجة فقالت له: ما بالك يا فلان؟ ما الذي جرى؟ ما الذي حدث؟ ينظر إليها ولا يستطيع أن يجيب، حشرجت نفسه في صدره، وبدأ يلفظ أنفاسه الأخيرة بكت الزوجة، ونادت الأولاد، ونادت من في البيت، جاء الأولاد الصغار، بدأت البنت تبكي وتنطرح على صدره وتقول: أبتِ! ما لك لا تجيب؟ وجاء الولد وهو يقول: يا أبتِ قبل قليل كنت تداعبنا، كنت تلاعبنا، كنت تضاحكنا، ما لك الآن لا تجيب؟ ينظر بعينين دامعتين، وهو لا يستطيع حراكاً.
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] من هؤلاء؟ إنهم ملائكة سود الوجوه؛ لسود صحائفه، وسود أعماله، وسواد قلبه جاء الله بملائكة سود، من أنتم؟! إنهم من سوف يشيعونه إلى الملأ الأعلى، بدأت الروح تخرج، بدأت تتوزع في الجسد، وبدأ ملك الموت ينتزع {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً} [النازعات:1] * {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً} [النازعات:2].
بدأ ينزع الروح وهي تتقطع وتقطع معها المفاصل والعروق، وهو يصيح ويبكي ولكن
جاء الأب، جاء الحبيب، جاء الخل، جاء الأخ، جاء الأولاد، جاءت البنات انطرحوا على صدره، بكوا حوله، جاء الأب بالطبيب لعل الطبيب يسعفه وهو في اللحظات الأخيرة، تظنه بم يفكر؟ يفكر في دنياه، يسمع القلب يضرب الضربات الأخيرة.
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائقٌ وثواني
إن الحياة دقائق ذهبت، وثوانٍ مضت، وأعوامٌ ذهبت وانصرمت، ماذا فعلت فيها يا عبد الله؟
مسكين قبل قليل كان يضحك ويلعب، وكان يلهو ويفرح.
وعد أهله وأولاده بالسفر هذه السنة، كان يقول لهم قبل قليل: سوف نسافر إلى بلد كذا وكذا، وكان يجمع الأموال ويعد العدة للسفر، وكان يوعد الزوجة بتأثيث هذه الغرفة، وبشراء ذلك البيت، بل كان يحسب الرصيد حتى يأتيه بمال ليتزوج الزوجة الثانية، أو ليشتري سيارة أخرى أو يبني قصراً، أو يؤثث بيتاً، ولكن مسكين كل هذا ذهب بلمح البصر.(60/3)
لا أحد ينفعك عند سكرات الموت
{كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة:26] وصلت الروح إلى الترقوة والعينان تبصران، ولكنه لا يستطيع حراكاً {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة:26] * {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:27].
من يداويه؟ من يعالجه؟ من يطببه؟ ما بال هذا الطارق لم يستأذني؟ ما باله جاءني بغتة؟ ما باله لم يخبرني حتى أرجع المظالم إلى أهلها؟ لِمَ لم يحدثني قبلها بفترة حتى أتوب؟ وقد كان كلما نصح وكلما وعظ: يا فلان! اتق الله، يا فلان! استقم على أمر الله، يقول: إن شاء الله قبل أن أموت.
{كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة:26] * {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:27] * {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:28] المسكين تأكد أن الأمر انتهى، وعلم أن الدنيا قد انقضت، حياة الزوجة والبيت والأثاث، والسيارات والمراكب، الجلوس في الدواوين إلى آخر الليل، الأفلام والمسلسلات، المباريات على الأرصفة، الأرصدة الضخمة، كلها ذهبت وولت بلمح البصر، وصارت أغلى أمنية له أن يرجع للدنيا ليركع ركعة، وغاية ما يتمنى أن يؤخر لحظات ليتوب إلى الله، ولكن {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:100] كلمة يقولها كما كان يقولها في الدنيا، كلما وقع بمصيبة قال: ربي لئن كشفت عني المصيبة تبت، فلما انكشفت رجع على حاله، كذب على الله جل وعلا مرات ومرات، كلما ضاقت به الأمور قال: رب لئن فرجتها عني لأرجعن إليك ولأتوبن، فلما انفردت الأمور رجع إلى ذنوبه ومعاصيه {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100].
يسمع الزوجة تقول له: لمن تتركنا؟! ولمن تخلفنا يا فلان؟ تذهب وتتركني مع أولادك الصغار، فمن يربيهم؟ من يطعمهم؟ من يسقيهم؟ يا فلان! أجبني، والبنت الصغيرة تقول له: يا أبتِ لِمَ لا تجيب؟ يا أبتِ من يوصلني إلى المدرسة؟ يا أبت! من يشتري لي اللعبة التي وعدتني إياها؟ والابن يقول له: يا أبتِ! ألم تعدني قبل ساعاتٍ وقبل لحظات بسفرٍ إلى بلد كذا؟ ألم تخبرني أنك سوف تأخذني غداً إلى هذا المكان؟ يا أبتِ لم لا تجيب؟ وهو جثة هامدة، لم يبق فيه إلا عينان تبصران، ولا يستطيع أن يحرك ساكناً: {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:28].
ثم غسل وكفن {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:29] * {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المَسَاق} [القيامة:30] ثم صلي عليه وحمل على الأعناق، فإن كان فاجراً، يقول وهو محمول على الأعناق: يا ويلها، يا ويلها، أين تذهبون بها؟ يا ويلها ما صلت! يا ويلها ما خشعت! يا ويلها ما تابت! يا ويلها ما ندمت! يا ويلها كانت تصر على المعاصي والذنوب! كانت تقلب بصرها في الحرام، يا ويلها طالما مشت إلى الفجور، وإلى المعاصي، وإلى الحرام والخنا والزنا! يا ويلها كانت تخطط للذنوب والحرام، يا ويلها أين تذهبون بها؟ {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المَسَاق} [القيامة:30].
فإذا به يوضع وتخيل -عبد الله- فلعل هذه الليلة التي تسمعني بها هي الأخيرة! [[إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء]].(60/4)
شدة خوف السلف من الموت
أخي الكريم: هل رأيت مصرعاً كهذا؟ هل رأيت رجلاً كهذا الرجل؟ كان يأمل ويحلم، ويخطط، ولكن الأجل كان أقرب من حلمه.
الحسن البصري رأى رجلاً يصرع فيموت، فرجع إلى البيت، فقيل له: يا أبا سعيد العشاء! فلم يجبهم، ثم قالوا له: يا أبا سعيد العشاء! فلم يجبهم، ثم قالوا له: يا أبا سعيد العشاء رحمك الله! قال: [كلوا عشاءكم؛ فإني رأيت مصرعاً لا أزال أعمل له حتى ألقاه] {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء:35].
تخيل نفسك -يا عبد الله- على الفراش، تتنازع الروح! بل تخيل بحادث سيارة، لعلك قلت للأهل: سوف أذهب وأشتري لكم الأغراض ثم آتي إلى البيت، ولكنه الحادث الأخير، تخيل وأنت ذاهبٌ وخلفت الصلاة خلفك، وتركتها وضيعتها، ذاهبٌ إلى أين؟ لتشتري الحرام، أو لتجلس مع أصحاب السوء، أو لتذهب إلى الملاعب والملاهي، تاركاً خلفك الصلاة والمؤذن ينادي، فإذا بملك الموت ينتظرك: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185].
عمر بن عبد العزيز، كان في كل ليلة يجلس ويجمع حوله الفقهاء والعلماء، فيتذاكرون الموت والدار الآخرة، فيبكي ويبكون وكأنما جنازة مرت بينهم، أوكأنهم شيعوا جنازة.
الموت، هادم اللذات -يا عبد الله- لا يستأذنك ولا يخبرك، بل يأتيك بغتة، بل وتخرج نفسك فلتة.
عبد الله! لن تدرك أن تتوب إلا إذا وفقك الله، لا تقل: غداً أتوب، ولا تقل: في العام القادم، ولا تقل: إذا اعتمرت، ولا تقل: إن شاء الله إذا حججت، ولا تقل: إذا تزوجت، ولا تقل: إذا فعلت كذا وكذا أتوب إلى الله، وما يدريك أنك سوف تدرك هذه الأيام.
تفكر في مشيبك والمآبِ ودفنك بعد عزك بالتراب
إذا وافيت قبراً أنت فيه تقيم به إلى يوم الحسابِ
وفي أوصال جسمك حين تبقى مقطعة ممزقة الإهابِ
فلولا القبر صار عليك ستراً لأنتنت الأباطح والروابي
خلقت من التراب فصرت حيا وعلمت الفصيح من الخطابِ
فطلق هذه الدنيا ثلاثاً وبادر قبل موتك بالمتابِ
نصحتك فاستمع قولي ونصحي فمثلك قد يبل على الصوابِ
خلقنا للممات ولو تركنا لضاق بنا الفسيح من الرحابِ
ينادى في صبيحة كل يومٍ لدول الموت وابنوا للخرابِ
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:5] كم من الناس من فضحه الله؛ كان يتظاهر أمام الناس بالصلاح، وسيماه سيماء المتدين، ولكنه للأسف بينه وبين نفسه معصية يصر عليها! كان إذا جاء إلى البيت يغلق على نفسه البيت ويطفئ الأضواء ويرتكبها، وإذا خاطبته نفسه قال: الله غفور رحيم، والمسكين ما كان يدري أن ملك الموت قد دخل عليه في تلك اللحظة وقبض روحه واستل نفسه من بين جنبيه.(60/5)
قرناء السوء وخطرهم
اسمعوا إلى هذا الرجل الذي كان يصلي، وكان مع الصالحين، ولكن ضعفت نفسه، وفتر إيمانه، وقل دينه، فصار لا يحافظ إلا على الصلاة، ويرتكب كثيراً من المعاصي والذنوب، انظر كيف مكر فمكر الله به، جلس يوماً مع أصحابه أصحاب السوء، فقالوا له: يا فلان! ما رأيك أن نذهب إلى بلاد كذا؟ قال: معاذ الله! ولا زال في القلب دينٌ وإيمان، قال: معاذ الله لا أذهب معكم، فلا زالوا به يراودونه، يا فلان! تعال معنا ولا تفعل شيئاً من الحرام، تعال وتمتع ولا ترتكب شيئاً من الإثم، قال: لا لن أذهب معكم، فلا زالوا به -أصحاب السوء- حتى أقنعوه بأن يسافر معهم.
{وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33] غره بالله الشيطان، فسافر إلى تلك البلاد، فكان في كل ليلة يذهب أصحابه يسهرون على الحرام والخمر والنساء، ومعاقرة الحرام، وكان يمكث في غرفته لوحده، ولا يخرج معهم، ولا يرتكب الحرام معهم، فتقاسموا بينهم، ومكروا مكراً، وقالوا: فلان لا يرتكب الحرام معنا لا بد أن نوقعه معنا في الحرام.
كيف؟
سوف نأتيه بعاهرة داعرة إلى غرفته؛ انظر لأصحاب السوء؛ قال الله تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] الله عز وجل يقول لك: لا تطع أولئك النفر الذين همهم الدنيا، وغايتهم الحرام، ويجلسون على الحرام، ويمسون عليه، ويقومون عليه، مجالسهم التلفاز والستلايت، والأفلام والمسلسلات، أحاديثهم عن النساء، وعن الفحش والبذاءة، غايتهم في الدنيا الحرام والمعاصي والذنوب، لا تطعهم ولا تجالسهم ولا تصاحبهم، لا تصاحب إلا مؤمناً، لكنه -للأسف- استرسل معهم.
جاءوه في تلك الليلة الحمراء، في ذلك اليوم المشئوم، فدخلوا عليه، وأدخلوا عليه العاهرة الداعرة، وأغروها بمال أن تراوده على نفسها، ثم أغلقوا الباب عليه، فلا زال يردها وتراوده، ويدفعها وتغريه، ويمتنع وتشهيه، فإذا به في لحظة ضعف {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:44 - 45] وفي لحظة ضعف وقع عليها فزنى بها، فلما زنى فإذا بالطارق يدخل غرفته واستل روحه، وقبض الله روحه، يبعث على ما مات عليه {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [العنكبوت:57].(60/6)
احذر أن تموت على معصية
عبد الله! لا تقل: لا أحد يراني، وسوف أفعلها وإن شاء الله أصلي الفجر وينتهي الأمر، وما يدريك أنك تدرك وقت الفجر؟ وما يدريك -يا عبد الله- أن الله سوف يؤخرك بالتوبة؟
اسمع -يا عبد الله- إلى حالك بعد أن تموت، وبعد أن تخرج الروح!
فلو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حيٍ
ولكنا إذا متنا بعثنا ونُسأل بعدها عن كل شيء
نعم.
ترى جسداً لا حراك فيه، ولكن الروح اسمع ما الذي سوف يحدث لها؟ من الذي يدفنه؟ إنه أحب الناس إليه، بل أقربهم إليه من يسرع في دفنه، ومن يسرع في حثو التراب على وجهه، بل يتقرب الناس بدفنك في التراب، ثم بعد دقائق لا أحد يمكث على قبرك، وبعدها بلحظات نُسيت يا عبد الله! زوجتك بعد أيام أو بعد شهور تتزوج غيرك، وأولادك لا يسألون إلا عن الميراث، وأبوك رضى بقدر الله، هي الدنيا لقد جرب غيرها من المصائب، نسيك بعد أيام، أتظن -يا عبد الله- أنهم سوف يعكفون على قبرك يؤنسونك ويلاطفونك ويحادثونك؟! لا يا عبد الله، اسمع ما الذي سوف يجري عليك؟ وما الذي سوف يحدث لك؟ اسمع إن كنت غافلاً أو لاهياً؛ صاداً عن ذكر الله.
ذنوبك يا مغرور تحصى وتحسبُ وتجمع في لوحٍ حفيظٍ وتكتبُ
وقلبك في سهوٍ ولهوٍ وغفلة وأنت على الدنيا حريصٌ معذبُ
تباهي بجمع المال من غير حله وتسعى حثيثاً في المعاصي وتذنبُ
أما تذكر الموت المفاجيك في غدٍ أما أنت من بعد السلامة تعطبُ
أما تذكر القبر الوحيش ولحده به الجسم من بعد العمارة يخربُ
لعلك الليلة تدخله، لعلك لن ترى شمس الغد، لعلك -يا عبد الله- لن ترجع إلى البيت الآن، لعل هذه الكلمات الأخيرة التي تسمعها الآن، ما يدريك؟ لعل الملك الآن يطرق هذه الغرفة.(60/7)
قصيدة عن الموت
عبد الله! لا تقل: لما أرجع سوف أتوب، لا تقل: بعد نهاية هذه المحاضرة، الآن الآن تب واندم، ولتدمع العين، وما يدريك لعلها اللحظات الأخيرة
أما تذكر القبر الوحيش ولحده به الجسم من بعد العمارة يخربُ
الجسم الجميل الذي كان يقف أمام المرآة الساعات الطوال يحسنه ويجمله، وكان يتطيب ويغتسل، ولا يرضى بقذارة على جسمه، بعد أيام وبعد لحظات إذا بالدود ينهشه، إذا به ينتن، بعد أيام لو نبشت القبر لا تتحمل رائحته.
يقول أحد الصالحين:
أما تذكر اليوم الطويل وهوله وميزان قسط للوفاء سينصب
تروح وتغدو في مراحك لاهياً وسوف بأشراك المنية تنشبُ
تعالج نزع الروح من كل مفصلٍ فلا راحمٍ ينجي ولا ثم مهربُ
أرجو منك -يا عبد الله- وأنت تسمعني أن تتخيل نفسك! وأن تتمثل أنك أنت الموصوف.
تعالج نزع الروح من كل مفصلٍ فلا راحمٍ ينجي ولا ثم مهربُ
وغمضت العينان بعد خروجها وبسطت الرجلان والرأس يعصبُ
وقاموا سراعاً في جهازك يحضروا حنوطاً وأكفاناً وللماء قربوا
وغاسلك المحزون لعله أخ ولعله أبوك ولعله خليلك
وغاسلك المحزون تبكي عيونه بدمعٍ غزيرٍ واكفٍ يتصببُ
وكل حبيبٍ لبه متحرقٌ يحرك كفينِ عليك ويندبُ
وقد نشروا الأكفان من بعد طيها وقد بخروا منشورهن وطيبوا
وألقوك فيما بينهن وأدرجوا عليك مثاني طيهن وعصّبوا
وفي حفرةٍ ألقوك حيران مفردا تضمك بيداءٌ من الأرض سبسبُ
إذا كان هذا حالنا بعد موتنا فكيف يطيب اليوم أكلٌ ومشربُ
وكيف يطيب العيش والقبر مسكنٌ به ظلماتٌ غيهبٌ ثم غيهبُ
وهولٌ وديدانٌ وروعٌ ووحشة وكل جديدٍ سوف يبلى ويذهبُ
فيا نفس خافي الله وارجي ثوابه فهادم لذات الفتى سوف يقربُ
وقولي إلهي أولني منك رحمة وعفواً فإن الله للذنب يذهبُ
ولا تحرقن جسمي بنارك سيدي فجسمي ضعيفٌ والرجا منك أقربُ
فما لي إلا أنت يا خالق الورى عليك اتكالي أنت للخلق مهربُ
وصلِّ إلهي كلما بر شارقٌ على أحمد المختار ما لاح كوكبُ(60/8)
أقوال في الموت
يقول ابن عباس رضي الله عنهما عندما قرأ قول الله وبكى: {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم:84]: [آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخول قبرك] {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} [مريم:84].
عبد الله! قبل أن أختم حديثي معك، إياك إياك أن تحسن الظن بنفسك، وإياك إياك أن تقول: أصبت الفردوس الأعلى، أو نجوت من النار.
فهذا عمر كان يخاف على نفسه النفاق، وهذا عمر بن عبد العزيز كان يبكي عندما يمر بالقبور وينظر إليها.
وهذا أبو بكر لما رأى الطير قال: [يا ليتني كنت طيراً مثل هذا، يموت ولا حساب ولا عذاب].
وهذا عثمان الذي اشترى الجنة ثلاث مرات بماله، يقول: [والله لو كنت بين الجنة والنار ولا أدري إلى أيهما أصير لتمنيت أن أكون رماداً].
أما أبو عبد الله محمد بن المنكدر فقد بكى حتى أشفق عليه أهله فقالوا له: لمَ تبكي يا أبا عبد الله؛ أمات عليك أحد؟ أقتلت نفساً؟ بكى، ولم يجبهم بسبب بكائه فأرسلوا إلى صاحبه أبي حازم، فقالوا له: إن صاحبك أهلك نفسه بالبكاء؛ فأتِ إليه وخفف عنه، فجاءه وقال له: يا أبا عبد الله! ما الذي يبكيك؟! قال له: يا أبا حازم! يبكيني قول الله: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] كان يحتسب أنه من أهل الخير، ولكن للأسف؛ رياءٌ في رياء، ولكن للأسف؛ ملئ القلب بالنفاق، ولكن للأسف كانت عنده معاص يصر عليها، فختم الله له حياته بها.
نعم ارج الله ولا تيأس من رحمته، ولكن اندم على ما مضى، واعزم على ألا تعود إلى حياتك الماضية، وقل: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] اقدم إلى الله جل وعلا، وتب إليه ولتدمع العينان.
عبد الله! إلى متى وأنت تصر على المعاصي والذنوب؟ إلى متى وأنت تقول: إن ربي غفورٌ رحيم {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16].
إلى متى -يا أخي الكريم- تسمع الأذان وتولي؟ إلى متى -يا عبد الله- تقوم من الفراش وتعلم أن الفجر قد أذن وحل، ثم ترجع إلى الفراش وتنام؟! إلى متى -يا عبد الله- تتظاهر بالصلاح، ثم إذا خلوت بمحارم الله انتهكتها، وتصر ولا تندم، ولا ترجع إلى الله جل وعلا.
إلى متى يا عبد الله؟ إلى متى تتساهل بالصغائر حتى وقعت في الكبائر؟ إلى متى يا عبد الله؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].(60/9)
عليكم بالدعاء في السَّحر
قبل أن أختم حديثي أقول: يا عبد الله! عليك بالثلث الأخير من الليل، الله الله بالسحر! الله الله بدموع قيام الليل؛ فإن سلفك كانوا من أعبد الناس، ومن أتقى الناس، فإذا حل الليل:
عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابدٍ دمعه بالخد أجراهُ
وأسد غابٍ إذا نادى الجهاد بهم لبوا إلى الموت يستجدون رؤياهُ
عبد الله! عليك بالثلث الأخير من الليل، إن كنت صاحب ذنب، صاحب معصية، فالله الله بالثلث الأخير؛ فإن الرب ينزل، ويبسط الرب يده جل وعلا ويقول: (هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه)!
الله الله في الثلث الأخير {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17] * {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18].
الله الله بقيام الليل؛ فإنه مكفرةٌ للذنوب!
الله الله بالدعاء آخر الليل، وباستغفار السحر!
الله الله بآخر الليل! أنصحك ونفسي المقصرة -وكلنا مقصرون- وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(60/10)
الأسئلة(60/11)
نصائح لمن يريد التوبة
السؤال
أنا شابٌ أول مرة أصلي وأدخل المسجد وأحضر المحاضرة، فما نصيحتك لي؟ وآخرٌ يقول: شابٌ يرغب في الالتزام والتوبة، ولكن يخاف الانتكاسة، فما نصيحتك لهذا الشخص مع العلم أنه موجود؟
الجواب
أيها الأخ الكريم خذ هذه النصيحة واحفظها وطبقها:
أولاً: حيلة الشيطان ألا تلتزم حتى لا تنتكس مفضوحة من بدايتها، وواضح لكل ذي عينين أنها خدعة إبليسية، وليست محكمة، فإنك -يا عبد الله- عاقل! وأنا أربأ بك أن تنخدع وراء هذه الشبهة، (لا تهتد حتى لا تضل) وهل الآن أنت في هداية؟! وهل تضمن نفسك -يا عبد الله- أن يؤخرك ملك الموت حتى تهتدي هداية لا ضلالة بعدها؟! وما أدراك أنك إذا اهتديت سوف تضل؟! ومن أخبرك بهذا؟ بل قال الله جل وعلا: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} [العنكبوت:69] إذا دخلت في دين الله {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] ما يدريك لعل الله يفتح عليك، بل لعل الله يشرح صدرك، ما يدريك يا عبد الله؟ بل لعل هذه اللحظة وهذه الجلسة يكتب الله لك بها السعادة الأبدية السرمدية.
واسمع إلى هذا الشاب، اسمع ولعلك أنت مثله، ولعل الله عز وجل يريد بك الخير: كان في يوم من الأيام من أهل الفتيات والنساء والمعاصي والذنوب وكان يجاهر بالمعصية، وفي يوم من الأيام كان في إحدى الطرقات يكلم فتاة، فجاءه رجلٌ يدعوه إلى الله وينصحه لله، ولعل حال ذلك الشاب كحالك فاسمع وانتبه ولك فيها عبرة.
يقول الشيخ: لما اقتربت إذا بالفتاة تهرب، يقول: فجئت إلى هذا الشاب يقول: فوعظته نصف ساعة يقول: فلما انتهيت إذا عيناه تذرفان ويبكي، يقول: فأخذت رقم هاتفه، يقول: وبعد أسبوعين تذكرته فرفعت سماعة الهاتف في الصباح فقلت له: فلان قال: نعم.
تذكرني؟ قال: وكيف أنسى الصوت الذي كان سبباً لهدايتي، الله أكبر! اهتديت من كلمة؟ من موعظة؟ نعم.
فتح الله عليَّ فلا أفارق المسجد ولا القرآن، ولا ذكر الله جل وعلا، قال: اليوم سوف أزورك وسوف آتيك في المنزل، قال: حياك الله، يقول: فلما صليت العصر وكان موعدي معه بعد صلاة العصر قال: جاءني ضيوف -يقول الشيخ- فأخروني عن الموعد، فلما حل الليل قلت: لا بد أن أزوره فجئته في الليل، فطرقت الباب فخرج لي شيخٌ كبير، فقلت له: أين فلان؟ قال: أنت فلان؟ قال: نعم.
أين فلان؟ يقول: وكان حزيناً، فقال لي: دفناه قبل ساعة، قلت: لا يمكن؛ اليوم كلمته بالهاتف ووعدته العصر قال: نعم لم يكن به بأس، صلى الظهر ثم تغدى وقال: أيقظوني لصلاة العصر، يقول: فجئنا نوقظه فإذا هو قد فارق الدنيا.
عبد الله! انظر كيف أراد الله به الخير، إنها الأيام الأخيرة، إنها آخر ساعات الحياة، إذا به يلتزم ويهتدي ويقبل على القرآن، فقبض الله روحه، والأعمال بالخواتيم، فقال له: من أنت؟ قال: أنا أبوه، قال: ومن أنت أيها الشيخ؟ قال له: تعرفت على ابنك قبل أسبوعين، قال: دعني أقبل رأسك، قال: ولم؟ قال: أنقذت ابني من النار.
لعل هذه المحاضرة وهذه الجلسة -يا عبد الله- بها يبدل الله سيئاتك حسنات، وتنقلب الصحائف السود إلى صحائف بيض، والسيئات تنقلب الآن في هذه الجلسة بندم وصدق وتوبة صادقة، لا تخرج من هذا المجلس إلا وقد قيل لك: قم قد بدلت سيئاتك حسنات.
ما يدريك -يا عبد الله- لعلك بعد أيام تصبح عابداً، بل داعية إلى الله جل وعلا؟! وكم من المغنين المطربين اليوم أصبحوا من الدعاة إلى الله جل وعلا، بل كم من النصارى عباد الصليب أصبحوا اليوم يدعون إلى توحيد الله جل وعلا، كم وكم؟ ما يدريك -يا عبد الله- لعله يكون لك في أمة محمد شأن، ويكون لك دور؟ كما ضللت وأضللت، فإنك تهتدي، ويهدي الله على يديك خلقاً كثيراً.
عبد الله أهدي لك هذه النصائح فاسمعها:
أولاً: إياك إياك أن تفارق القرآن: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان:32] القرآن يثبت فؤادك، فاجعل لك ورداً كل يوم للقراءة وورداً للحفظ، إياك أن تخلط بين هذا وهذا، وإياك أن تهجر القرآن، فإنه حبلٌ بينك وبين الله، كل يوم لا بد أن تقرأ القرآن، بعد الفجر، أو آخر الليل، أو بين الصلوات، اعكف على كتاب الله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] فكلما دعتك نفسك للرجوع، اقرأ آيات العذاب، ووصف جهنم: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان:43 - 44].
كلما مللت من العبادة اقرأ عن أوصاف الجنة (فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر) {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].
كلما استهزأ بك أصحاب السوء وأهل الباطل والفساد، وسخروا منك؛ فاقرأ القرآن: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38] من هو؟ أول رسول على وجه الأرض، إنه نوح عليه السلام: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ} [هود:38] مِن قومه، ومِنْ أبناء عمِّه ومن أقربائه {سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38] ثبات الداعية إلى الله، ثبات العابد المستسلم لله جل وعلا، أنا الذي أسخر منكم، وأنا الذي أستهزئ بكم حقاً، أنتم في ضلال وغواية.
اقرأ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين:29 - 30].
عبد الله! القرآن فيه شفاء لكل داء، كل مرضٍ من أمراض الشهوة علاجه في كتاب الله.
ثانياً: يا عبد الله! (لعلك بأرض سوء فاخرج منها إلى أرض كذا وكذا، فإن فيها قوماً يعبدون الله فاعبد الله معهم) هذا شطرٌ حديث الذي قتل مائة نفس، فجاءه الناصح العالم فقال له: اهجر هذه المجالس، واهجر تلك المجموعة، واهجر هذه الرفقة، بل اهجر البلد كلها.
أقول لك يا عبد الله: ذلك المجلس الذي دلك على الحرام، وذلك الصاحب الذي عرفك بالحرام، وتلك الديوانية التي كنت تجلس فيها على الحرام قاطعها لله جل وعلا، اهجرهم لله جل وعلا: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً * وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} [الكهف:28 - 29] اهجرهم لله جل وعلا، غادرهم وودعهم وداعاً لا رجعة فيه، لا ترجع إلا داعياً لهم إلى الله جل وعلا، لا ترجع إلا متسلحاً بسلاح العلم والعبادة والإيمان؛ برفقة صالحة تقتحم تلك المجالس، تقول لهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] تأتيهم لتدعوهم إلى الله جل وعلا، تخرجهم من عبادة الشهوات والفتن والملذات إلى عبادة رب الأرض والسماوات.
عبد الله النصيحة الثانية: الرفقة الصالحة، واهجر كل رفقة سيئة.
ثالثاً: يا عبد الله! عليك بالدعاء، ادع الله جل وعلا من قلبك، ولتدمع العينان وقل: اللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك، اللهم يا مصرف القلوب والأبصار! صرف قلبي إلى طاعتك.
ادع الله وأنت موقن بالإجابة.
ادع الله بخوفٍ ووجل، هذا نبيك عليه الصلاة والسلام كان يدعو بهذا الدعاء ويكثر منه، بل أبو الأنبياء وإمام التوحيد الذي كسر الأصنام، إبراهيم عليه السلام، هل يرد في قلبك شك أنه سوف يضل؟ لا.
لا يرد في قلوبنا شك، كان يدعو الله فيقول: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم:35] هو الذي كسر الأصنام حتى جعلها فتاتاً وجذاذاً، يقول: يا رب! اجنبني وبني أن نعبد الأصنام، انظر الاستكانة لله، انظر التعلق بالله جل وعلا، انظر التبرؤ من الحول ومن القوة إلا بالله جل وعلا وحده.
ادع الله بهذه الصورة، وبهذا التعلق بالله جل وعلا: اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، ثم اترك الكبار من المعاصي، واهجر الصغار منها، واعلم أن الصغيرة على الصغيرة على الصغيرة تجتمع حتى تملك القلب.
خلِّ الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماشٍ فوق أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.(60/12)
اللؤلؤة كيف تحفظ نفسها؟
إن السعادة كل السعادة في طاعة الله ورضوانه، والشقاوة والضياع في مخالفة أمره وعصيانه، وذلك لما لهذه الذنوب والمعاصي من أضرار في الدنيا والآخرة، وقد ذكر الشيخ حفظه الله بعضها ثم تحدث إلى المرأة، وذكر بعض الأمور التي تحفظ بها نفسها من الذنوب والمعاصي، كخوف الله تعالى ومراقبته، ومحاسبة النفس، ومجالسة الصالحات وغيرها.(61/1)
أضرار الذنوب والمعاصي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
كيف تحفظ المؤمنة نفسها من الذنوب والمعاصي؟
من منا لا يذنب؟! ومن منا لا يعصي الله جل وعلا؟! بل لقد قال عليه الصلاة والسلام: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقومٍ يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم)؛ بل قال عليه الصلاة والسلام: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) بل حتى التقية الورعة؛ بل أتقى النساء لا بد أن تقع في الذنوب والمعاصي، والله جل وعلا لما وصف المؤمنين الأتقياء الورعين، ذكر أن من صفاتهم أنهم يقعون في الفواحش، أو ظلم النفس، وأقل الأمر أنهم يقعون في الظلم وهي الصغائر.
يا أمة الله! اسمعي إلى المتقين لله جل وعلا إذا وقعوا في الذنوب والمعاصي ماذا يفعلون؟
قال الله جل وعلا في وصفهم: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135] لكن هناك علامة للمتقين أنهم إذا وقعوا في الذنب: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] بل إن الفرق -بين المؤمنة التي تذنب والفاجرة التي تذنب- كبير، يقول ابن مسعود: [المؤمن يرى ذنبه كأصل جبل يوشك أن يقع عليه، والمنافق الفاجر يرى ذنبه كذبابٍ وقع على أنفه، فقال به هكذا] أرأيت إلى الفرق بين هذه وتلك؟! كلاهما تعصي الله جل وعلا، لكن الأولى إذا عصت خافت، وندمت، ووجل القلب، واستغفرت، وعملت الصالحات؛ لتكفر ما عملت من ذنوب، أما تلك فإنها ترتكب المعاصي والذنوب، والفواحش والظلم، ولكنها تبتهج وتفرح وتسر بتلك المعاصي.
أختي الكريمة: اعلمي أن لهذه الذنوب والمعاصي أضراراً وسواداً في الوجه وظلمة في القلب.
لقد وصف الله عز وجل أولئك الذين ابتعدوا عن شرعه، وانتهكوا محارمه، ووقعوا في الذنوب وأسرفوا فيها، يصف الله عز وجل حياتهم، ومعيشتهم في هذه الدنيا، فيقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] تجدينها من الصباح إلى المساء وهي تسمع الأغاني إذا ركبت السيارة لا تسمع إلا الأغاني، وكلما رأت الرجال تلتفت وتنظر إليهم يمنة ويسرة، لا تحب أن تخرج من بيتها إلا متعطرة متبرجة كاشفة عن شعرها وذراعيها؛ لتقول للناس: انظروا إليّ إذا خرجت من بيتها ورجعت لا تعرف ذكراً، ولا تتذكر صلاةً، ولا ترعى لله عز وجل حرمه كيف تعيش أم كيف تحيا؟
إذا جاءت إلى البيت نامت ولم تستيقظ إلا في الليل، لا تعرف صلاة العصر ولا صلاة المغرب، ثم إذا استيقظت من نومها جلست أمام التلفاز إلى منتصف الليل، أو كلمت فلانة، أو تجولت في السيارة، تسألينها: لمَ كل هذا يا أمة الله؟!
تقول: عندي ملل، وضيقٌ في الصدر، ولا أحس بلذة في الحياة، أتعلمين ما هو السبب؟ قال سبحانه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126].
وهذا رجل كافر بحث عن السعادة في الدنيا، وبحث عن أسبابها، فألف كتاباً أسماه: دع القلق وابدأ الحياة، هذا الرجل الكافر ألف هذا الكتاب ليبين فيه أسباب السعادة في الدنيا، فيقول: دع القلق،! اترك الهم اترك الغم، وإذا به بعد أن ألف الكتاب يربط حبلاً في غرفته فيشنق نفسه {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] يعيش كما يعيش الناس تأكل وتشرب وتلبس أحسن الملابس، وتسكن أحسن القصور، وتركب أفخر السيارات، إذا مشت لا تتكلم إلا في الدنيا ومتاعها تضحك ملء فمها ولكن القلب حزين، والصدر قد ضاق بالمعاصي، وضاقت عليها الدنيا بما رحبت {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124].
أمة الله: سلي أصحاب المعاصي والذنوب: هل أنتن في سعادة؟ ائتِ إليها واجلسي معها، وقولي لها: تسافرين إلى أي مكان تشائين، وتنظرين إلى أي فيلمٍ تحبين، وتستمعين إلى أي أغنية لا صلاة ولا زكاة، ولا قرآن ولا التزام بشرع الله، فهل أنت الآن في سعادة؟ تخبرك وتقول لك: لا والله! قد ضاقت علي الدنيا بما رحبت، بحثت عنها فلم أجدها، لا أدري أين هذه السعادة واجلسي مع أمة الله الصالحة اجلسي مع تلك المحجبة، التي إن قامت فإنها تقوم لصلاة الفجر، وإن ذكرت في نومها فإنما تذكر الله جل وعلا، تنام على ذكر الله، وتستيقظ على ذكر الله، تغض بصرها عن الحرام، سليها: هل أنتِ في راحة وسعادة؟ لا أراك تضحكين، ولا تلهين في الدنيا كما تلهو غيرك، هل أنت في سعادة؟ تقول لك: إي والله! لو كان أهل الجنة في مثل ما نحن فيه والله إنهم لفي عيش طيب!! {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
أمة الله: هذه بعض أضرار المعاصي والذنوب، ناهيك عن الأضرار التي تأتي يوم القيامة، وفي القبر والمحشر، وسوف نعرج عليها إن شاء الله.(61/2)
كيف تحفظ المؤمنة نفسها
أمة الله: كيف تحفظ المؤمنة نفسها من الذنوب والمعاصي؟ كيف تبتعد عن الذنوب والمعاصي؟ كيف تحصن نفسها إذا أقبلت الذنوب والمعاصي إليها؟
لقد أخبر عليه الصلاة والسلام أنه (سوف يأتي على الناس زمان، القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر) تصبح الواحدة لا تتحمل أن تتمسك بدينها، وكأنها تقبض على الجمر، بل قال عليه الصلاة والسلام: (بادروا بالأعمال الصالحة! فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً، ويمسي كافراً) في الصباح تجدينها مصلية ذاكرة ساجدة راكعة تعرف دينها وربها، ثم إذا أقبل الليل وغربت الشمس، فإذا بها تجحد أوامر الله، وتستهزئ بدين الله، هذه الفاجرة الكافرة الفاسقة التي ترد أوامر الله جل وعلا، وتستحل محارمه ما الذي جرى؟ ما الذي حدث؟ قال: (يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا).(61/3)
من أسباب حفظ المرأة نفسها: غض البصر
كم وكم من النساء كن صالحات، وإذا بفتنة وشهوة ومعصية ترديهن على أعقابهن.
اسمعي إلى هذا الرجل الذي كان صالحاً طوال حياته، بل كان مؤذناً يؤذن للناس ويدعوهم إلى الصلاة، فيقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح! وفي يومٍ من الأيام وهو يؤذن نظر إلى فتاة وأدمن النظر إليها، ولم يغض بصره وأسرف في المعصية، فإذا بقلبه يتعلق بها، فنزل بعد الأذان -واسمعن يا إماء الله إلى هذه القصة الغريبة، وبعدها لا أظن أن واحدة منكن سوف تأمن على نفسها، وتثق أنها سوف تظل على الدين إلى أن تموت إلا بتوفيق الله جل وعلا -فطرق الباب على ذلك البيت، فخرجت تلك النصرانية، فعانقها، فقالت له: سبحان الله -وهي كافرة- مؤتمنٌ ويخون! أي: أنت أمينٌ للناس تؤذن لهم وتخون الأمانة! فقال: إني أريدك.
قالت له: إذاً فتزوجني، قال: نعم، قالت: بشرطٍ واحد.
قال: وما هو الشرط؟ قالت: أن تتنصر، أن تكفر بالله العظيم، أن تبدل دينك إنها الشهوة ومرض القلب فإذا به يقول: إذاً أتنصر.
سبحان الله! لا إله إلا الله! إذا دخلت الذنوب والمعاصي القلوب، كيف تبدلها وتقلبها؟ ثم دخلت البيت وقالت له: اشرب من هذا الكأس، فإذا به يشرب من الخمر، ويأكل من لحم الخنزير، ثم قالت له: اصعد وارق على سطح المنزل، فإذا جاء والدي سوف أخبره بالخبر، فإذا به يصعد على سطح المنزل، ثم يتجول في السطح وهو سكران، ثم سقط من على المنزل، فإذا به يفارق الدنيا على نصرانيته!! يقول الله جل وعلا: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
إذاً: الأمر خطير يا أمة الله! كيف تحفظ المسلمة نفسها من الذنوب والمعاصي؟ ألا تذكرين فلانة؟ كانت مصلية راكعة ساجدة، بل كانت يوماً من الأيام تحفظ كتاب الله، بل كانت تدعو إلى الله جل وعلا، كانت تتصل على فلانة فتدعوها إلى ذلك المجلس، وكانت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر أين هي الآن؟ هي الآن في مواطن الشهوات والشبهات، هي تحتاج إلى من يدعوها إلى الله جل وعلا ما الذي جرى؟ (إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء).(61/4)
من أسباب حفظ المرأة نفسها: المحاسبة والمراقبة
يا أمة الله! من الأمور التي تحفظين بها نفسك من الذنوب والمعاصي: المحاسبة والمراقبة.
أن تراقبي الله جل وعلا في كل مكان، فإذا كنتِ في الليل في غرفتك لوحدك، وفتحت التلفاز، اعلمي أن هناك من يراكِ ويطلع عليك ويراقبك أتعلمين من هو؟ إنه الواحد الأحد إنه الفرد الصمد إنه الذي خلقك فسواك.
فيا من تتجولين في السيارة، وتستمعين إلى الأغاني، وتقولين: الحمد لله! لا أحد يراني، ولا أحد يستمع إليَّ، فإذا بك تضعين ذلك الشريط، وتقلبين الإذاعة، فتسمعين تلك الأغنية أتظنين أنه لا أحد يسمعك؟! اسمعي من الذي ينظر إليك ويحسب عليك كل نفس وكل خاطرة وكل نظرة، وكل أغنية، وكل كلمة يقول الله جل وعلا: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد:9].
من هو؟ إنه الله جل وعلا، عالم الغيب عالم السر عالم كل شيء {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ * سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} [الرعد:9 - 10] سواءً في علم الله التي تتكلم بالسر، وترفع سماعة الهاتف، وتكلم فلاناً، ويكلمها فلان، وتأتي إلى الغرفة وتغلق الباب على نفسها، وتخفض صوتها وتتكلم.
{سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد:10] أي: الذي يستخفي في الليل، ويخفي نفسه في الظلام، وتخفي نفسها وتغلق الباب على نفسها، إن الله يراها يقول الله جل وعلا: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14].
فهذا الإمام أحمد، الذي كان من ورعه وتقواه وزهده أنه كان يترك المباح خشية أن يقع في الحرام هذا الرجل أتاه أحد التلاميذ، فقال له: يا إمام! أسمعت إلى ذلك الشعر؟ قال: ما هو؟ فإذا به يردد بيتاً وشعراً، فما كان من الإمام أحمد إلا أن تأثر، ثم خرج من مكانه في مجلسه ووضع الكتاب، ودخل إلى غرفةٍ، وأغلق على نفسه الباب، ويردد هذه الأبيات وهو يبكي:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيبُ
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيبُ
ألم تر أن اليوم أسرع ذاهبٍ وأن غداً للناظرين قريبُ
لهونا لعمر الله حتى تتابعت ذنوبٌ على آثارهن ذنوبُ
فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ويأذن في توباتنا فنتوبُ
لا تقل: لا أحد في الغرفة، ولا تقل وأنت في السوق: الحمد لله! لا أحد يراني في هذا المكان: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14].
يا أمة الله! إذا أتيت إلى الله جل وعلا يوم القيامة، فإن الله سوف يعرض عليك كتاباً لا يغادر صغيرةً ولا كبيرة إلا أحصاها {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:30] بل سوف تجدين كل كلمة، وابتسامة، ونظرة، وكل أغنية، وفيلم، ومسلسل، سوف تجدينه مسجلاً عند الله جل وعلا يوم القيامة، فلا تظنين أن الله ينسى، ولا تظنين أن الله جل وعلا تخفى عليه خافية.
أمة الله: إن الله -جل وعلا- لا ينظر إليك فقط، بل يعلم ما تتحدثين به في نفسك، وما توسوس به النفوس، قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة:235].
ولا تقولي: لا أحداً في الغرفة يسمعنيويراني.
أمة الله: هذه المرأة هجرها زوجها إلى الجهاد في سبيل الله، وظلت أشهراً على هذه الحال، والشهوة تصارعها، والفتنة تراودها، وهي تستطيع أن ترتكب المعاصي كلها؛ لأنها بمفردها في البيت، فإذا بـ عمر بن الخطاب يستمع إليها من وراء الجدار، وهي تردد هذه الأبيات وتقول:
تطاول هذا الليل واسود جانبه وأرقني ألا خليل ألاعبه
فوالله لولا الله رباً أراقبه لحرك من هذا السرير جوانبه
لولا أن الله ينظر إليَّ، ويراقبني، وأن الله تبارك وتعالى يسمع كل شيء، بل يعلم ما توسوس به نفسي، لحرك من هذا السرير جوانبه.(61/5)
من أسباب حفظ المرأة نفسها: الخوف من الله عز وجل
وهذا أمر آخر، به تحفظين نفسك من الذنوب والمعاصي: إنه الخوف من الله جل وعلا.
أمة الله! لا تظني أنها معصية ثم تذهب، أو نظرة ثم تضيع، أو كلمة ثم تذهب إن شاء الله، ولا تظني أنه الفيلم الأخير ثم التوبة بعده إن شاء الله.
أمة الله: إن الله جل وعلا يحذر الناس من نفسه، فيقول جل وعلا: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175].
ألا تخافين من الله وأنت تتجرئين على معصيته جل وعلا؟
ألا تخافين وأنت ترتكبين المعصية أن يأخذك الله جل وعلا ويقبض روحك؟
اسمعي إلى السابقين الصالحين كيف كانوا يخافون من ربهم جل وعلا؟ فهذا إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء، يروى عنه: أنه كان يسمع لصدره إذا قام إلى الصلاة أزيز من عظم الخوفٌ من الله جل وعلا {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90].
وهذا داود -عليه السلام- كان الناس يعودونه ويظنون أنه مريض، وما كان به شيء إلا شدة الخوف من الله جل وعلا.
هل كانوا عصاة؟ هل كانوا فجرة؟ هل كانوا زناة؟ هل شربوا الخمور؟ هل استمعوا للأغاني؟ هل تركوا الصلاة؟ لا والله.
لقد كانوا أعبد الناس، وأصلح الناس، ولكنهم يخافون من الله جل وعلا، بل إن الصالحين يصلون ويصومون ويتصدقون، ويخافون ألاَّ يتقبل الله منهم: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60] من هم؟ إنهم الراكعون الساجدون، إنها التي تقوم الليل وتصوم النهار، وتقرأ القرآن، وتذكر ربها جل وعلا، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60] لمَ يا رب؟ {أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60] تخاف ألاَّ يتقبل الله عز وجل منها فكيف بالفاجرة التي لا تصلي؟ كيف بالتي لا تركع لله ركعة؟ كيف بالتي هجرت القرآن، وهجرت ذكر الله جل وعلا؟ كيف بالتي تتجرأ على المعاصي صباح مساء؟!
اسمعي يا أمة الله: إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، وهو أعبد وأصلح الناس، كيف كان يخاف من الله، تقول عائشة رضي الله عنها: (كان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه، وتقول: يا رسول الله! الناس إذا رأوا الغيم فرحوا، رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت الكراهة في وجهك.
فقال: يا عائشة! ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب؟!) قد عذب قومٌ بالريح، وقد رآها قومٌ، فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف:24] ما الذي جرى؟ {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:24] كان عليه الصلاة والسلام يخاف إذا رأى ريحاً أو غيماً، أما الآن -وللأسف- فإن الواحدة ترتكب المعاصي، وتنتهك الحرمات، وهي تضحك ولا تبالي، وتقلب رأسها على الفراش في معصية الله جل وعلا، وتتفكر في المعاصي والذنوب ولا تبالي، وتفوم فرحةً مبتهجةً وهي لم تصل الفجر حتى تطلع الشمس.
أمة الله: لماذا قست قلوبنا؟! إن الواحدة ترتكب الذنوب والمعاصي ولا تبالي! اسمعي إلى أبي بكر الصديق، وهو أصلح هذه الأمة رضي الله عنه بعد نبيها، يُروى عنه أنه كان يقول: [يا ليتني كنت شجرة تعضد ثم تُؤكل] وهو مبشرٌ بالجنة، ويتمنى أنه شجرة تقطع، ثم تُؤكل، فيفنى ويذهب، أي: لا حساب ولا عقاب عند الله جل وعلا.
أما عمر وما أدراك ما عمر رضي الله عنه، كان إذا سمع آية فيها بعض العذاب مرض، فيجلس في البيت أياماً يعوده الناس، يظنونه مريضاً وليس به مرض، وأخذ يوماً سدنة من الأرض -أي: حشيشاً- أخذه وقال: يا ليتني كنت هذه السدنة، يا ليتني لم أك شيئاً مذكوراً، يا ليت أمي لم تلدنِ {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16] كانوا أصلح الناس، وأتقى الناس، بل كان عمر رضي الله عنه في وجهه خطان أسودان من البكاء، ومع هذا يقول: يا ليتني كنت نسياً منسياً! يا ليتني لم أك شيئاً مذكوراً!
أمة الله: قبل أن تتجرئي على المعصية، وقبل أن تقدمي عليها، وقبل أن تنظري لتلك الصور، وقبل أن تضعي ذلك الفيلم، وقبل أن تستمعي لتلك الأغنية، فكري هل تتحملين عذاب الله جل وعلا وعقابه؟
يروى أن أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال: [وددت أني كنت كبشاً فذبحني أهلي، فأكلوا لحمي، وحسوا مرقي].
وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: [يا ليتني كنت نسياً منسياً].
والله تعالى يقول: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:44] اخشي الله جل وعلا قبل أن تتجرئي على معصيته.
أمة الله: أما تخافين من سوء الخاتمة وأنت تقعين في المعصية، وأنت تكلمين فلاناً وتخاطبينه في الهاتف، أو وتنظرين إلى ذلك الفيلم، أو تنامين عن الصلاة أما تخافين من سوء الخاتمة؟!
اسمعي إلى أولئك الأربعة الذين سافروا إلى الخارج للزنا والخنا والمعاصي، فدخلوا إلى مرقصٍ من المراقص، فإذا بهم يتمتعون بشرب الخمور في تلك الليلة، وفي ذلك المرقص، والرب جل وعلا قد نزل إلى السماء الدنيا يقول: (هل من سائلٍ فأعطيه؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟) نزل إلى السماء الدنيا وينظر إلى عباده أين ذهبوا؟ ذهبوا إلى ذلك المرقص، وماذا شربوا؟ شربوا الخمور، ومع من؟ كل واحدٍ معه راقصة داعرة، يرافقها في ذلك الليل وفي أثناء الرقص إذا بأحد الأربعة يسقط على الأرض مغشياً عليه، فتدافع الثلاثة إليه، وفزعوا، وقالوا: يا فلان! ما الذي جرى لك؟ يا فلان! ما الذي حدث؟ فإذا به يحتضر، ويلفظ أنفاسه الأخيرة، فقال له أحدهم: يا فلان! قل: لا إله إلا الله.
فنظر إليه وقال: زدني كأساً وتعالي يا فلانة، زدني كأساً وتعالي يا فلانة، زدني كأساً وتعالي يا فلانة.
وهم يقولون له: قل: لا إله إلا الله، قل: لا إله إلا الله، وهو يردد: زدني كأساً وتعالي يا فلانة! ثم خرجت روحه وهو على هذه الحال، وسوف يبعث عند الله جل وعلا وهو على هذه الحال {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
أما تخافين -يا أمة الله- أن تكون تلك الليلة مع ذلك الفيلم، وتلك السهرة أن تكون هي الأخيرة؟! أما تخافين وأنتِ في السيارة تستمعين إلى الأغاني أن يختم الله عز وجل لك بحادث سوء؟! أما تخافين وأنت تنامين وقد وضعت الساعة للدوام والعمل وأنت قد نسيت صلاة الفجر، ثم يقبض الله تلك الروح، ويأخذ الأمانة وأنت نائمة على الفراش؟! ألا تخشين ذلك يا أمة الله؟! أما تخافين من سوء الخاتمة؟!
هذا رجل ذهب إلى بلاد الكفر والزنا، والمسكين يظن أن الدنيا لعب ولهو، ويظن أن الدنيا متاع وشهوات يتمتع منها بما يشاء، ثم يتوب قبل الموت، ثم يرجع في اللحظات الأخيرة! كما هي تلك المرأة المسكينة التي تفعل كل المعاصي والذنوب، وتقول في نفسها: إذا حانت ساعة الوفاة سوف أتوب وأرجع إلى الله جل وعلا!
هذا الرجل ذهب إلى تلك الدول ليرتكب المعاصي والذنوب، فإذا به يتصل على معشوقته وحبيبته، فقال لها: تعالي إلي في هذه الغرفة في مكان كذا، فقالت له: سوف آتي الآن، فانتظرها وتجمل لها، وترقبها على أحر من الجمر، ثم بعد لحظات يرن الهاتف فيرفع السماعة، فإذا بها تعتذر إليه وتتأسف له! فيقول لها: إنني منتظرٌ، وهو في أشد الحسرة والضيق والانتظار والشوق واللهف لها، فتقول له: لا أستطيع أن آتي إليك في هذه الليلة وتغلق السماعة، وهو متألم متحسرٌ لفراقها ولبعدها عنه، وفي لحظات الألم والحسرة يطرق الباب، فيفتح فإذا بها فلانة عشيقته وحبيبته، فإذا به من شدة الفرح ومن شدة الشوق يخر على الأرض ساجداً لها، وإذا بها السجدة الأخيرة، واللحظة الأخيرة، والنفس الأخير، ولم يستطع أن يرفع رأسه بعد تلك السجدة، وسوف يلقى الله جل وعلا على هذه السجدة، وسوف يلقى الله جل وعلا ويكلمه وهو على هذه الحال.
أما تخافين يا أمة الله؟ أما تخشين الله جل وعلا؟! يقول عليه الصلاة والسلام كما في حديث ابن مسعود: (فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها).
يقال عن عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- أنه كان إذا ذكر الموت انتفض انتفاض الطير، ويبكي حتى تجري دموعه على لحيته، وبكى ليلة فبكى أهل الدار، فلما تنحت عنهم العبرة قالت فاطمة: بأبي أنت يا أمير المؤمنين لم بكيت؟ قال: ذكرت منصرف القوم من بين يدي الله تعالى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] ثم صرخ وغشي عليه.(61/6)
من أسباب حفظ المرأة نفسها: تذكر الموت
أمة الله: وأنت في زهرة الدنيا وملذاتها، وفي غمرة شهواتها، ألا تتذكرين يوماً سوف تحملين فيه على الأعناق؟! سبحان الله! تقلبين على تلك المغسلة، ثم تغسلين ولا حراك، ولا تستطيعين أن تنجي نفسك بنفسك فأين ذلك الوجه الحسن؟ وأين تلك الملابس؟ وأين تلك العطور؟ وأين تلك القصور؟ وأين تلك الشهوات؟ سوف تغسلين ثم تلفين بخرقة، ثم تحملين على الأعناق، فيا ويلك إن كنت فاجرة! ويا ويلك إن كنت بعيدة عن ذكر الله، وإن كنت قد هجرت القرآن ومجالس الصالحات!
سوف تحملين على الأعناق، وسوف يحملك الأب الحنون، والأخ الحميم، والزوج الحبيب، بل لعله الابن، يسرع في حملك إلى تلك المقبرة، وإلى تلك الحفرة، وحيدة غريبة، في حفرة موحشة، وأنت تقولين للأحباب والأصحاب: يا ويلها أين تذهبون بها؟ يا ويلها أين تذهبون بها؟ {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:26 - 29] أي: لفت الساق بالساق في الكفن، ولا تستطيعين الحراك إلى أين؟ أين تذهبون بها؟ {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:30 - 32] ثم توضعين في حفرة، وأرجو منك -يا أمة الله- في هذه اللحظة أن تتخيلي وتتفكري في تلك الحفرة، هل هناك ضوء؟ هل هناك نور؟ لا والله! إنها ظلمة موحشة، إنه ظلامٌ دامس، ظلامٌ في ظلام، لا تستطيعين الحركة في تلك الحفرة الضيقة، لا يمنة ولا يسرة، وأحب الناس وأعز الناس وأقرب الناس من يُسرع في دفنك، ومن يحثو على وجهك التراب، ثم ماذا؟ ثم تفتحين العينين، وتسمعين قرع النعال نعال الأحباب والأصحاب، قد فارقوك وهجروك، وتركوك في تلك الحفرة.
ثم يأتيك منكرٌ ونكير يسألانك: من ربك؟ على ماذا كنت تعيشين؟ تنامين على ذكر من؟ وتستيقظين على ذكر من؟ وتتلهفين على ذكر من؟ من كان أحب من لديك في الدنيا؟ هل هو الله جل وعلا حقاً أم فلان؟ هل هو ذكر الله جل وعلا حقاً، أم هي ذكر الأغاني؟ فإذا كنت لاهية غافلة فإنك سوف تقولينها: هاه هاه لا أدري! وسوف يضيق عليك القبر حتى تختلف الأضلاع، ثم تضربين على رأسك بمطرقة لو ضرب بها جبلٌ لصار تراباً.
أمة الله: ألا تخافين من ذلك المصير؟! مالي أراك تتجرئين على الذنوب والمعاصي وكأن الأمر لا يعنيكِ؟
ثم بعد لحظات يأتيك صاحب في القبر فتقولين: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر.
فيقول: أنا عملك الخبيث أنا الأغاني، أنا الأفلام والمسلسلات، أنا النظر للرجال بشهوة، أنا سماعة الهاتف التي كانت في آخر الليل، أنا التجول في الأسواق لمعصية الله جل وعلا، أنا النوم عن الصلاة، أنا معصية الله جل وعلا، أنا عملك الخبيث، فوالله ما علمتك إلا سريعة في معصية الله بطيئة في طاعته، للصلاة بطيئة متثاقلة كسلانة، أما للشهوات والمعاصي فأنت السريعة المستجيبة.
يا أمة الله! ألا تخافين من ذلك المصير؟! ألا تخافين من ذلك اليوم؟! ألا تخافين إذا وقفت بين يديه جل وعلا وأنتِ عارية حافية، لعل الشعر قد شاب من شدة الخوف؟! أما تخافين أن يسألك الله جل وعلا، فيقول لك: ألم أسقك من الماء البارد؟ ألم أنعم عليك بكذا وكذا؟
أما تخشين إذا سألك الله جل وعلا فقال لك: ما الذي جرأك علي؟ وما الذي حملك على المعاصي؟ قال سبحانه: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12].(61/7)
من أسباب حفظ المرأة نفسها: رجاء ما عند الله
أمة الله! إن مما يحفظك من الذنوب والمعاصي رجاء الله -جل وعلا- فترجين رحمته جل وعلا، إنك إذا نظرت للمعصية ثم صددت عنها فإن الله جل وعلا سوف يعقبك حلاوة الإيمان في الصدر، ثم هي صحيفة بيضاء تلقين الله جل وعلا بها يوم القيامة، وإذا بها ذنوب تعرضت لك لكنك صددت عنها، إنها معاصي كانت سهلة بين يديك لكنك تركتيها خوفاً من الله.
أمة الله! إذا تركتي المعاصي فإن الله سوف يعقبك لذة في الدنيا، وسروراً في القلب، وحلاوة في الصدر، ثم إذا لقيتي الله جل وعلا فقال لك: ألا تذكرين ذنب كذا؟ ألا تذكرين تلك المعصية؟ ألا تذكرين تلك الزلة؟ ثم يقول الله جل وعلا لك يوم القيامة: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، أما ترجين ذلك الموقف؟ ألا تتمنين أنك تلقين الله جل وعلا في ذلك المكان فيقول الله جل وعلا: خذي كتابك بيمينك، ثم تساقين إلى الجنة {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً} [الزمر:73] نعم! إنها ستون أو سبعون سنة تقضينها في طاعة الله جل وعلا، وإن عصيت الله جل وعلا بغير إصرار فإنك تتوبين، وترجعين، هذه هي حياتك في الدنيا مع القرآن والذكر والصلاة، ومع الصالحات، ومع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا لقيت الله جل وعلا إذا بك تساقين إلى جنة عرضها السماوات والأرض، ريحها على بعد أربعين سنة هذه ريحها فكيف ستكون هي؟!
فإذا كنت مؤمنة فإنك سوف تساقين إلى الجنة مع الصالحات المؤمنات، ولك أن تتخيلي ما صفة الجنة؟ أما صفة أرضها فإنها بيضاء عفراء كقرصة نقي أرض بيضاء من زعفران، ومن لؤلؤ، ومن ياقوت، للمؤمن فيها خيمة طولها ستون ميلاً، من لؤلؤة مجوفة.
أمة الله: إن لك في الجنة ما تشائين من الثمار، وما تتخيرين من اللحوم، تجلسين على نهر من لبن، وتشربين من نهر من عسل، وتجلسين على نهر من خمر، قال الله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد:15] تخيلي يا أمة الله! نهر من لبن، أغلقي عينيك الآن وتصوري كيف يكون نهر من لبن؟ لا يتغير طعمه أبداً، لا سنة ولا سنتين، ولا ألف سنة ولا مليون سنة، أو تخيلي نهراً من عسل! أو تصوري نهراً من خمر!
يقول الله تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف:71] في تلك الجنان ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، يقول عليه الصلاة والسلام: (موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها)؛ بل قال: (لو أن مما يُقَلُّ بظفر في الجنة فرج) أي: لو أن في الجنة شيئاً نحمله بأظفارنا فرج من الدنيا، أتعرفين ما الذي سوف يحصل؟ (لتزخرفت ما بين خوافق السماوات والأرض) بل لو أن امرأة واحدة من الحور العين اطلعت على أهل الأرض لأضاءت ما بين السماء والأرض، ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها هذه الحور العين، أما الصالحة في الدنيا إذا دخلت الجنة فإنها سوف تكون سيدةً من سيدات الحور العين؛ بل أفضل وأجمل منهن، بل هي سيدة لهن في الجنة.
أمة الله: ألا تتمنين ذلك المصير؟! إنه بصبرٍ قليلٍ عن تلك المعصية، سنوات قليلة نصبر فيها عن المعصية نصبر فيها عن النظر إلى الرجال نصبر فيها عن الاستماع للأغاني نصبر فيها عن الأفلام، والمسلسلات، والشهوات، والملذات، فيكون الجزاء {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} [الإنسان:12].
أمة الله: ألا تتمنين ذلك المصير؟! ما الطريق؟! ما السبيل؟! إنه صبرٌ قليلٌ عن المعاصي، وسوف يعقبك الله جل وعلا سعادة في الدنيا {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا} [هود:108] الله أكبر! إن الجزاء من جنس العمل.
سل الصالحات -كما ذكرنا قبل قليل- ما هي أسعد أيامكن؟ ما هي أسعد لحظاتكن؟ تقول لك: إنها لحظات قيام الليل في رمضان.
بل تقول: إنها ساعة الإفطار، أو رطبات في حرم الله جل وعلا، أو إنها تلك المجالس مجالس الذكر، ومجالس الطاعة، أو تقول لك: وأنا أقوم في آخر الليل وقد دمعت عيناي إنها أسعد اللحظات في هذه الدنيا، سعادة تغمر القلوب، ثم خروج روحٍ كما تخرج القطرة من فيِّ السقا، ثم قبرٌ يفرش لها من الجنة مد بصرها، ثم تؤمن من الفزع الأكبر، وتمكث كما بين الظهر والعصر تحت ظل عرش الرحمن، ثم تسافر إلى جنة الرحمن جل وعلا.
ألا تريدين ذلك المصير يا أمة الله؟!(61/8)
من أسباب حفظ المرأة نفسها: مجالسة الصالحات
ومما يحفظك عن الذنوب والمعاصي -يا أمة الله- مجالسة الصالحات، اهجري تلك اللواتي عرفنك على الذنوب، وأعطينك تلك الصور، وتلك الأفلام والأشرطة، انصحيهن ثم اهجريهن لله جل وعلا: (إنك في أرض سوء فاتركها إلى أرض كذا وكذا، فإن فيها قوماً يعبدون الله فاعبد الله معهم).
أمة الله: ما الذي تعلمتيه من تلك المجالس مجالس السوء؟ لم تتعلمي إلا الغيبة والكذب، وقد رجعت إلى البيت وأمرك زوجك بطاعة الله فإذا بك تتجرئين عليه، وتقولين له: لا طاعة لك علي، ومن الذي سلطك عليَّ؟ أنا وأنت سواء سبحان الله! علَّمنك على الفجور والعصيان، ثم تدمرت تلك البيوت وفسدت، ثم لما رجعت إليهن فإذا بهن يتركونك وأنت في أحوج اللحظات إليهن.
أمة الله: ضعي يدك في يد أولئك الصالحات، واجلسي معهن وقولي لهن: إني قد تبت إلى الله، إني أريد أن أجلس معكن، وأذهب معكن، وأسافر معكن، فإنهن لا يسافرن إلا إلى العمرات، وإلى حرم الله جل وعلا، وإذا جلسن لا يجلسن إلا على طاعة الله، وذكره جل وعلا، ولا يقرأن إلا القرآن إنهن يجلسن في المباح، ويضحكن، ويلعبن ويرمين، ولكنهن يلعبن ويلهين في المباح، أما في حدود الله فلا {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28].
ولا تقولي: هذه معقدة، أو متزمتة، أو هذه ما أظنها تضحك اجلسي معهن وجربي ولو يوماً من الأيام، جربي مجالسهن، فوالله إنها أسعد المجالس، وأفضل الجلسات، وأحلى الكلمات تخرج من أفواههن.
يا أمة الله! ضعي يدك في أيديهن، فوالله إنك لو صافحتيهن وجلستي معهن، فإن هذا هو الطريق إلى جنات الله جل وعلا، وإن حلقات مجالسهن رياض الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم رياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة يا رسول الله؟ قال: حلق الذكر).
أمة الله! راقبي الله جل وعلا، واعلمي أنك إذا تجرأت على المعاصي فإن لك رباً يراقبك، ويحسب عليك النفس، والكلمات والخواطر، واعلمي أنك لن تقوي على عقوبة الله جل وعلا، ولن تتحملي عذابه، وأنه إذا أخذتك الملائكة -زبانية العذاب- فإنك لن تستطيعي لهم رداً.
ثم إذا تركت الذنوب والمعاصي، فارجي رحمة الله جل وعلا: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران:133] فيها الأنهار تجري من غير أخاديد، وفيها الخيام من لؤلؤة مجوفة، وفيها الظلال ممتدة، يسير الراكب الجواد المضمر مائة عامٍ لا يقطعها.
ثم تمسكي بالصالحات، واجلسي معهن، واعلمي في النهاية أن: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون).
يا نفس توبي فإن الموت قد حانا واعصي الهوى فالهوى ما زال فتانا
أما ترين المنايا كيف تلقطنا لقطاً فتلحق أخرانا بأولانا
في كل يومٍ لنا ميتٌ نشيعه نرى بمصرعه آثار موتانا
يا نفس مالي وللأموال أتركها خلفي وأخرج من دنياي عريانا
أبعد خمسين قد قضّيتها لعباً قد آن أن تقصري قد آن قد آنا
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(61/9)
الإمام أحمد بن حنبل
إن على كل مؤمن أن يدرس تاريخ أمته ورجالاتها الأفذاذ، وإن أول من ينبغي أن ندرس سيرته هو نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم، ثم الصحابة الكرام، ثم التابعين لهم بإحسان من الأئمة الأربعة وغيرهم، وإن هذا الدرس قد تضمن الحديث عن علم من أعلام أهل السنة، وهو الإمام أحمد بن حنبل من أول نشأته حتى وفاته.(62/1)
سيرة الإمام أحمد بن حنبل
إن الحمد لله، نحمَده تعالى، ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله.
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وإن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وإنما جئت لأقرأ على إخواني في الله، وأحبابي الحاضرين؛ أحداثاً ومواقف وعبراً من سيرة علم من أعلام الإسلام، من سيرة رجل له فضل كبير على المسلمين، من سيرة رجل هو محدث وفقيه وزاهد، وورع وعامل ومجاهد، وصابر في سبيل الله، من سيرة رجل دائماً نردد اسمه على ألسنتنا، ونقرأ اسمه في كتب الفقه والحديث.
ويجب علينا -أيها الإخوة- أن نتكلم عن حياة هؤلاء العلماء، وأن نذكر بهم، وننشر حياتهم، ونجعل منهم قدوة لنا في العمل والعلم، ونعرف تاريخنا، وعمن تلقينا العلم والفقه والتفسير، فيجب علينا أن نقرأ في تراجم هؤلاء، والقراءة سهلة في تراجمهم، فالكتب ميسرة في المكتبات العامة، ومكتبات المساجد والأوقاف، فيجب على المسلم أن يبادر بالقراءة، حتى يبرز هذه الثروة العظيمة للمسلمين الغافلين، السادلين النائمين اللاعبين، لعل وعسى أن يفيقوا من رقادهم، ويستيقظوا من نومهم.
اخترت لكم سيرة الإمام المبجل أحمد بن حنبل رحمه الله، الإمام العالم العامل.(62/2)
مولده ونشأته وطلبه للعلم
أما اسمه: فهو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، وهو عربي، والأئمة الأربعة عرب إلا الإمام أبا حنيفة فهو من بلاد فارس.
الإمام أحمد ولد في بغداد سنة (164هـ) وتوفى سنة (241هـ) كذلك في بغداد.
تلقى علمه في بغداد على يد الإمام أبي يوسف الفقيه المشهور، ثم بعد ذلك انتقل منه إلى علماء الحديث، فطلب الحديث، ثم بعد ذلك أخذ يتنقل في بلاد المسلمين من قطر إلى قطر، ومن بلد إلى بلد، يتعبد الله بطلب العلم -وهو أشرف العبادات بعد الفرائض- فسافر إلى مكة والبصرة والمدينة واليمن، وكثير من بلاد الإسلام يطلب الحديث، ويدون العلم، ويزاحم العلماء بالركب، ويجثو بين أيديهم يأخذ منهم العلم، ويصبر على طلب العلم والفقه والدين، حتى يعبد الله سبحانه وتعالى على بصيرة وفهم، لا على جهل كما حصل لكثير من المسلمين، فكثير من المسلمين لا يعرفون الصلاة، ولا الوضوء، والذي ذهب إلى الحج يعرف ذلك بالمشاهدة والمعاينة، واحد من عشرة آلاف يدخل في دينه بعلم والبقية جهلة لا يعرفون شيئاً، والإنسان لا يعذر بجهله، يجب أن يتعلم على الأقل الفرائض التي هي فرض على كل مسلم: الصلاة الوضوء الصيام التيمم الغسل من الجنابة الطهارة كل هذه الأمور أساسية، ويجب على الإنسان أن يعرفها بالتفصيل، حتى يعبد الله سبحانه وتعالى على بصيرة.(62/3)
ثناء العلماء عليه
ابن كثير في البداية والنهاية في المجلد التاسع يترجم لهذا الرجل الجليل عشر صفحات أو خمس عشرة صفحة، ثم يكتب صفحة كاملة بثناء العلماء عليه، فمن أراد أن يقرأ ثناء العلماء عليه فليرجع إلى تلك الصفحة، يقرأ ماذا قال العلماء في الإمام أحمد بن حنبل، ونكتفي بقول شيخه وهو الإمام الشافعي رضي الله عنه، الذي كان كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن كما وصفه الإمام أحمد رضي الله عنه، فالإمام الشافعي يقول في الإمام أحمد: كان أحمد بن حنبل إماماً في ثمانية أشياء لا يصل إليها أحد من أقرانه: كان إماماً في القرآن، إماماً في الحديث، إماماً في السنة، إماماً في الفقه، إماماً في اللغة، إماماً في الفقر، إماماً في الورع، إماماً في الزهد.
فهو إمام ليس فقط في الفقه والحديث والقرآن وإنما كذلك في اللغة، وكذلك في علم الحال، وهي أمور الدين والقلب والورع، فهو إمام في الفقر والزهد والورع، وفي خوف الله سبحانه وتعالى، وفي التجرد، كل هذه كان فيها إماماً، أي بلغ مرتبة عالية في التعبد، وفي الفقه، وفي الزهد، وفي الانكسار بين يدي الله سبحانه وتعالى.
وقال الشافعي رحمه الله: خرجت من بغداد وما تركت فيها أعلم من أحمد بن حنبل.
وقال الشافعي وهو يكلم أحمد بن حنبل؛ لأن أحمد من تلاميذ الشافعي، يقول له: يا أحمد! أنتم أعلم منا في الحديث، فإذا صح الحديث عندكم فأخبرونا، حتى نذهب إليه.
هذا يدل على الإنصاف، ويدل على اتباعهم للحق، ويدل على أن الرجال كانوا لا يتباهون في العلم، ولا يكتفون بالقليل منه ويعفون عن باقيه، بل أنى وُجِد الحق وحيثما وجد فهم وراءه، فـ الشافعي يكلم تلميذه ويقول: إذا صح عندك الحديث فأخبرنا عنه، فإننا نذهب إليه، لا كما يفعل كثير من المسلمين في هذه الأيام: أنا على الحق وغيري على الغلط، ومن أراد أن يقرأ لـ أبي زهرة، حيث يتكلم عن كثير من علماء نجد، يقول: لا يرون الحق إلا عندهم أما سواهم فهو باطل مهما بلغ، ما يقولون لعل الأمر فيه احتمال، لنا رأينا ولهم رأيهم، لنا اجتهادنا ولهم اجتهادهم، لا، نحن على الحق والباقي كلهم غلط، لكن العاقل والرزين الذي يسمع من هنا ومن هنا، فيعلم الحق مع من، كل إنسان يخطئ ويصيب، كل إنسان له وعليه، فيجب أن ننتبه لهذا، ولا نتعصب إلى بلدة معينة، ولا إلى رجال معينين، إنما نتبع الحق أينما كان.
أنا أقول كلاماً علمياً أختصره بتصرف يسير من محاضرة ألقاها محمد عبد الغفار بعنوان: الأئمة الأربعة، وهذه سلسلة أشرطة علمية شرعية، حبذا أنكم تحصلون عليها، وهي عشرة أشرطة في العلم الشرعي، ليست في السيرة ولا التاريخ ولا الرقائق، لكن في العلم الشرعي، أحد المحاضرات عنوانها: كيف تطلب العلم الشرعي، المحاضرة الثانية: أقسام العلم الشرعي، المحاضرة الثالثة: تاريخ التشريع الإسلامي، المحاضرة الرابعة: الأئمة الأربعة، المحاضرة الخامسة: البدعة أحكامها وأنواعها، المحاضرة السادسة: الاجتهاد والتقليد، المحاضرة السابعة: الفتيا، سلسلة علمية شرعية، يحرص عليها الإنسان المسلم، وسوف يستفيد منها، ومن أرادها يطلبها من مؤسسة تسجيلات الأذكار.(62/4)
أصول الإمام أحمد
كل إمام له أصول وقواعد يبني عليها الأحكام التي يستنبطها من كتاب الله ومن سنة رسوله، بل إن بعض هذه الأصول وضع للاستنباط، فكلهم مجتمعون على الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وبعد ذلك يختلفون في اجتهاداتهم، وفي القواعد التي أصلوها لدينهم، هذه نبذة قبل أن ندخل على الإمام رضي الله عنه.
فنجد أن الإمام أحمد بن حنبل يوافق الشافعي في الأخذ بالاستصحاب، ويوافق أبا حنيفة بالأخذ بالاستحسان، ويوافق مالكاً في الأخذ بالمصالح المرسلة وسد الذرائع، ويأخذ بقول الصحابي ويقدمه على القياس، ويأخذ بالحديث الضعيف لشيوخه طبعاً ويقدمه على القياس، وكذلك يأخذ بالحديث المرسل؛ والحديث المرسل هو ما يرفعه التابعي إلى الرسول مباشرة دون أن يذكر الصحابي.(62/5)
أصحاب الإمام أحمد
كل إمام يلتف حوله كوكبة من طلبة العلم، يدونون علمه، وينشرون مذهبه، وفي الوقت نفسه يخالفونه في بعض الأشياء، إذا صحت عندهم أمور أو اجتهادات، فـ الشافعي له أصحاب، ومالك له أصحاب، وأبو حنيفة له أصحاب، كل واحد له تلاميذ وعلماء، فنجد أن من أصحاب الإمام أحمد، ومن أوثق الناس به، هو الإمام أبو داود السجستاني صاحب السنن، الذي عنده كتاب: مسائل الإمام أحمد، وكذلك ابنه عبد الله، وكذلك الأثرم، والخلال، وابن القيم الجوزية، وابن الجوزي، وابن قدامة صاحب: المغني، وابن تيمية، وابن رجب الحنبلي، وابن مفلح، وكثير من العلماء كلهم من تلاميذ الإمام أحمد، ليس شرط أن يكونوا كلهم من تلاميذه، بل من تلاميذه ومن تلاميذ تلاميذه الذين تتلمذوا على أصوله وعلى فقه الإمام أحمد رحمه الله.(62/6)
قوة فقه أحمد بن حنبل وغزارته
ونقرأ من هذا الكتاب القيم الذي هو بعنوان: مناقب الإمام أحمد بن حنبل للإمام ابن الجوزي الحنبلي.
فيقول: قال إسحاق بن راهويه، يقول: كنت أجالس بـ العراق أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، وأصحابنا، فكنا نتذاكر الحديث من طريق وطريقين وثلاثة، نتذاكر طرق الحديث، حتى يقوونه بكثرة الطرق، فيقول يحيى بن معين من بينهم: وطريق كذا، فأقول: أليس هذا قد صح بإجماع منا؟
فيقولون: نعم.
فأقول: ما مراده؟
ما معنى الحديث؟ يتوقفون كلهم، والذي يعرف معنى الحديث، ويفك العبارة، ويعرف مرامي الألفاظ، ودقة العبارات، هو الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه؛ لأنه ما كان محدثاً فقط، وإنما كان فقيهاً، وكان محدثاً، ولذلك يجب على الإنسان أن يكون عالماً باللغة والعبارات، وما يأخذ العلم عن الكتب فقط، بل عن الفقهاء حتى يفكوا له العبارة، ومن هنا يحضرني هذا الموقف، كل من تعلم عن طريق القراءة من الكتب يزيد خطؤه كثيراً؛ لأن الكتب فيها أخطاء لغوية وتصحيف، لكن على الإنسان أن يأخذ العلم بدراسة الكتب على العلماء، لذلك دخل أحد العلماء في إحدى قرى العراق، فوجدهم عندما يذهبون إلى الصلاة، يعلقون قفة، وداخل القفة فأر وسكينة ومغرفة في كل صلاة تقام، يعلق الناس القفة وداخل القفة مغرفة وفأر وسكينة، فرآهم هذا الإمام وأظنه الإمام المزني تلميذ الشافعي، فلما رآهم تعجب وقال: لماذا تفعلون هذا الفعل؟ قالوا: يوجد نص ودليل على ذلك، ففتحوا كتاب: الرسالة للشافعي، أو الأم، فقالوا: تعال يا إمام (لا صلاة إلا بقفة) قال: لا.
ما هو بقفة ولكن "إلا بفقه" أنتم غيرتم النقطتين من هنا إلى هنا (ولا صلاة إلا بسكِّينة) قال: يا أحبابنا (إلا بسكَينْة) (لا صلاة إلا بفأر) قال لهم: لا.
(بوقار) نقصتم نقطة، لا صلاة إلا بمغرفة، قال لهم: بمعرفة ليس بمغرفة، انتبهوا لا تلخبطوا الدين وتغيروا الكلام.
من الأشياء التي ذكرها ابن الجوزي في كتابه: أخبار الحمقى والمغفلين، يذكر جانباً من حمقى القراء والفقهاء، أن أناساً ذهبوا للحج فلما أتوا إلى الجمرات يرمونها، أخذ أحدهم حماره وجعل يغسل خفَّاه؛ لأنه وجد نص في كتب الفقه (ويسن لرامي الجمرات أن يغسل خطى حماره) فأتاه أحد العلماء قال: ماذا تعمل؟ قال: أتبع الدليل، أي دليل هذا؟ قال: تعال انظر، وفتح الكتاب فقال له: ليس المراد (خطى حماره) وإنما المراد (حصى جماره) وكثير من الأخطاء التي يقع فيها الناس من هذا الباب، يقرءون الكتب دون الرجوع إلى العلماء، ودون الرجوع إلى الفقهاء، ولذلك قال وهب: الحديث مضلة إلا للعلماء، ومثاله حديث: (نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينتعل الرجل واقفاً) فهل معناه أن الرجل لا يلبس نعاله وهو واقف؟ والحديث رواه أبو داود، ويقول الأرناءوط في تحقيقه: حسن.
أولاً يا أخي أنت تتبع الحديث لا تلبس النعال وأنت واقف، لكن يأتيك أحد الأئمة ويقول لك: هذا نهي إرشاد لأن النهي ثلاثة وعشرون أو خمسة وعشرون نوعاً ذكرها الشيخ حسن هيتو في كتابه.
ما هو المقصود من النهي العادي؟ وحتى في كتاب: شرح رياض الصالحين لـ صديق الشافعي قال: إن النهي يكون مكروهاً، فنهى أن ينتعل الرجل واقفاً نهي إرشاد وليس محرماً.
يقول إسحاق: فنقول: ما معنى الحديث؟ فيقفون كلهم إلا أحمد بن حنبل رحمه الله.
وهناك فرية تقال عن الإمام أحمد بن حنبل: أنه ليس بفقيه لكنه محدث، لذلك روى ابن الجوزي قال: قال أبو الوفاء علي بن عقيل الحنبلي رحمه الله: ومن عجيب ما تسمعه من هؤلاء الأحداث الجهال أنهم يقولون: أحمد ليس بفقيه لكنه محدث، وهذا غاية الجهل، وذكر صفحة في الاستدلال على علمه، راجع صفحة (91) مناقب الإمام أحمد بن حنبل.(62/7)
كلام الإمام أحمد في الزهد والرقائق
يقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله: أخبرنا المبارك بن أحمد الأنصاري عن عبد الله بن أحمد السمرقندي قال سمعت إبراهيم بن سفيان يقول: سمعت أبا عصمة بن عاصم البيهقي يقول: بت ليلةً عند أحمد بن حنبل، فجاء بالماء فوضعه -إذا رأى الإمام أحد طلبة العلم يأتي ينام عنده جاءه بالماء فوضعه عنده، حتى يقوم الليل؛ لأن قيام الليل عندهم أمر بديهي، ونحن عندنا صلاة الفجر صعبة وقد ننام عنها أو نؤخرها في بعض الأيام، ومع ذلك نلتمس الأعذار لأنفسنا- فلما أصبح نظر إلى الماء فإذا هو كما كان، فقال: -سبحان الله- رجل يطلب العلم لا يكون له ورد من الليل، كيف تطلب العلم، وتطلب دراسة الشريعة والفقه ولا يكون لك ورد في الليل؟
ويقول ابن المديني رحمه الله تعالى: ودعت أحمد بن حنبل فقلت له: توصيني بشيء يا أبا عبد الله؟
فقال: نعم، اجعل التقوى زادك، وانصب الآخرة أمامك.
ولا يحتاج إلى كلام أكثر من العبارة هذه، سطر واحد فيه كل التقوى، والورع، والخوف، والزهد، وانقضاء الأمل، والدنيا.
وقال يحيى الجلاب: سمعت أحمد بن حنبل يقول: عزيز عليَّ أن تذيب الدنيا أكباد رجال وعت قلوبهم القرآن.
أناس حفظوا القرآن ثم يموتون، ما يخلفهم بعدهم أحد، وفعلاً كلنا يشعر بهذا، عندما أصبحت معارك الردة بين المسلمين والكفار ومات كثير من حفاظ القرآن، خاف المسلمون على القرآن فجمعوه، والآن كم واحد فينا في المسجد هنا يحفظ القرآن يا إخواني؟ قليل جداً، نحفظ قال فلان وحدثنا فلان، نحفظ مصطلح الحديث، وكلام الله سبحانه وتعالى نغفل عنه كثيراً، ويمكن أن الواحد فينا لا يحفظ في اليوم آية، كلنا يا إخواني كلنا مقصرين، لذلك قالوا: الذي يحفظ كل يوم ثلاثة آيات على مدار خمس سنوات يحفظ القرآن كله، والذي يحفظ ست آيات يومياً يحتاج إلى سنتين ونصف ليحفظ القرآن الكريم.
انظروا يا إخواني المسألة سهلة؛ لكن بهمة ومصابرة ومتابعة، وعلى حسب نفسيات الناس.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبي يوماً: أوصني يا أبي؟ فقال: يا بني انو الخير، فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير.
انو إذا كان عندك ألف دينار أن تتبرع بها كلها للمسلمين وللفقراء وللمحتاجين، لكن اصدق النية لعلَّ الله عز وجل برحمته أن يكتبها لك ويحسبها لك، ماذا خاسر أنت؟
وقال أبو بكر المروزي: سمعت أحمد بن حنبل وسئل: بم بلغ القوم حتى مدحوا؟ أي: العلماء الذين نتكلم عنهم لماذا يمدحهم الناس؟ فقال: الصدق مع الله، ويعني بالصدق هنا: الإخلاص لله رب العالمين.
يقول: أبو بكر نفسه: سمعت أحمد بن حنبل يقول: إن لكل شيء كرماً، وكرم القلب الرضا عن الله عز وجل.
وقال محمد بن إسماعيل بن العلاء: حدثني أبي قال: دعاني رزق الله الكلواني، فقدم إلينا طعاماً كثيراً، وذكر نوع الطعام، فقال أحد الجالسين -معهم يحيى بن معين وأبو خيثمة وجماعة، فقدم لهم طعاماً ثميناً، وأحمد بن حنبل جالس- فقال رجل من الجالسين: والله لقد أسرفت في الطعام، فقال أحمد بن حنبل: لا.
والله، لو أن الدنيا جمعت حتى تكون في بغداد لقمة ثم أخذها امرئ مسلم فوضعها في فم أخيه المسلم لما كان مسرفاً، فقال له يحيى: صدقت يا أبا عبد الله.
قوة العلاقة بالإخوة، لو أن الدنيا كلها جمعتها كأنها لقمة ووضعتها في فم أخيك المسلم ما أنت بمسرف، لأن حق المسلم على المسلم قوي، وللمسلم على المسلم حقوق وردت في أحاديث كثيرة جداً.
أحمد بن حنبل مربٍ كبير يعلم الناس، اسمع هذه القصة كيف يربي ويوجه الناس:
كان في جيران أبي عبد الله أحمد بن حنبل رجل، وكان ممن يمارس المعاصي والقاذورات، جاء يوماً إلى مجلس أحمد بن حنبل فسلم عليه، فكأن أحمد لم يرد عليه رداً تاماً وانقبض منه، يعني: أحمد بن حنبل ما رد عليه رد كامل ليحسسه بعيبه من عمل المعاصي، إنما هو ليس راض عليه أن يعمل هذه المعاصي وهذه القاذورات، فكأن أحمد لم يرد عليه رداً تاماً وانقبض منه، فقال له: يا أبا عبد الله لم تنقبض مني؟ فإني قد انتقلت عما كنت تحذره مني برؤيا رأيتها -يقول: أنا تركت المعصية، وتركت الشيء الذي كنت تحسبني مداوماً عليه في المعاصي برؤيا رأيتها في المنام، والآن يقص الرؤيا التي رآها الرجل في المنام اسمع معي- فقال الإمام أحمد رضي الله عنه: وأي شيء رأيت؟ والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (من رآني في المنام فقد رآني حقاً فإن الشيطان لا يتمثل بي أو بصورتي).
قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم كأنه على علو من الأرض، وناس كثير أسفل جلوس، قال: فيقوم رجل منهم إليه فيقول له: ادع لي، فيدعو له حتى لم يبق من القوم غيري، فأردت أن أقوم فاستحييت من قبيح ما كنت عليه، استحييت من النبي من المعاصي التي كنت أفعلها، فقال: يا فلان! لم لا تقوم إلي تسألني أن أدعو لك؟
قلت: يا رسول الله! يقطعني الحياء لقبيح ما أنا عليه، قال: إن كان يقطعك الحياء فقم فسلني أدعو لك، فإنك لا تسب أحداً من أصحابي، قال: فقمت فدعا لي، قال: فانتبهت وقد بغض الله إلي ما كنت عليه، قال: فقال الإمام أحمد بن حنبل: يا جعفر، يا فلان، يا فلان من طلبة العلم حدثوا بهذا واحفظوه فإنه ينفع.
حادثة جميلة يستأنس بها وتثار بين الناس، لعل فيها عبرة.(62/8)
أشعار كان ينشدها الإمام أحمد
يصنف كذلك ابن الجوزي باباً تحت عنوان: في ذكر ما أنشده من الشعر أو نسب إليه.
قال أحمد بن يحيى الثعلبي: كنت أحب أن أرى أحمد بن حنبل فصرت إليه، فلما دخلت عليه قال لي: فيم تنظر؟ فقلت: في النحو والعربية، فأنشدني أحمد بن حنبل يقول:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما نخفي عليه يغيب
لهونا عن الأيام حتى تتابعت ذنوب على آثارهن ذنوب
فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ويأذن في توباتنا فنتوب
ويقول: بلغني عن علي بن خشرم أنه سمع أحمد بن حنبل يقول: -انظروا يا إخواني يبين أن اللذة والمعصية تذهب، لكن يبقى سواد وخيبة يوم القيامة- يقول أحمد بن حنبل:
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها من الحرام ويبقى الاسم والعار
تبقى عواقب سوء من مغبتها لا خير في لذة من بعدها النار
ويحضرني هنا الموقف الذي دائماً أستشهد به، يذكره ابن الجوزي في: تلبيس إبليس، أن رجلاً دخل على الإمام أحمد بن حنبل فقال له: يا أبا عبد الله ماذا تقول في قول الشاعر في القصائد الرقاق الحسان؟
قال أحمد: مثل ماذا؟
قال: يا أبا عبد الله! مثل ما قال الشاعر:
فسكت الإمام أحمد، وقال لي: يا هذا أعد عليَّ ما قال الشاعر، فقال الرجل يا أبا عبد الله! يقول الشاعر:
إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني
وتخفي الذنب عن خلقي وبالعصيان تأتيني
فقام أحمد بن حنبل ودخل بيته وأغلق الباب، يقول الراوي: سمعت نحيبه من وراء الباب وهو يبكي ويقول:
إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني
وتخفي الذنب عن خلقي وبالعصيان تأتيني
كان رقيق القلب، يبكي لكل موعظة وإن كانت شعراً.(62/9)
صفة الإمام أحمد وهيئته وسمته
يصنف كذلك باباً تحت عنوان: صفته وهيئته وسمته.
فيقول أحمد بن العباس بن الوليد النحوي يقول: سمعت أبي يقول: رأيت أحمد بن حنبل رجلاً حسن الوجه، يخضب بالحناء خضاباً ليس بالغالي، في لحيته شعرات سود، ورأيت ثيابه غلاظاً إلا أنها بيض، ورأيته معتماً وعليه إزار.
والعمامة من السنة، لكن الناس حسب عاداتهم، قلت لأحد الإخوة: البس العلمامة، قال: يا أخي هذه سنة من السنن الجبلية، قلت: ما المراد بجبلية أمولود وعليه عمامة؟ الجبلية ما كان من طبيعة الرجل الذاتية مخلوقة فيه، وليست العمامة من هذا النوع، والعمامة فيها أحاديث راجعها في كتب الفقهاء والمحدثين، يقول: أنا ماذا أعمل بهذه السنة ما هي أمر ولا واجب، إنما هي سنن هيئة.
وأبو داود السجستاني يقول: لم يكن أحمد بن حنبل يخوض في شيء مما يخوض فيه الناس من أمر الدنيا، فإذا ذكر العلم تكلم، ما كان يتكلم في أمور الدنيا، لكن إذا جاء وقت العلم بالحلال والحرام، والمسائل الفقهية، وتفسير كتاب الله، ومعرفة حديث رسول الله تكلم، أما نحن فيقعد الواحد منا ساعة، والله الكابلت هذه موديل خمسة وسبعين، وساعة كاملة للكلام في ألوان السيارات، وساعة كاملة في أنواع التواير، وساعة كاملة والثوب هذا قطن وذاك حرير لكن أمور دينهم لا يسألون عنها؛ حتى في الأمور البسيطة، حتى الصلاة لا يسألون عنها أبداً، ولا يذهبون إلى العلماء، ولا يتصلون بهم.
اسمع إلى هذا الحديث الجميل: أبو العباس يقول: سمعت الحسن بن إسماعيل يقول: سمعت أبي يقول: كان يجتمع في مجلس أحمد زهاء خمسة آلاف أو يزيدون، أقل من خمسمائة يكتبون والباقون يتعلمون منه حسن الأدب وحسن السمت، خمسمائة فقط يكتبون الحديث، والباقي ينظرون إلى الخُلُق، ينظرون إلى التصرف، ينظرون إلى الورع، يتعلمون الأدب من شكله وهيئته.
الأخ يسأل يقول: خمسة آلاف كيف يسمعون الحديث عن الإمام أحمد ونحن بعضنا قاعدون في الخلق ولا يسمعون؟
وكذلك ورد عن البخاري أنه كان يحضره عشرة آلاف؛ كيف يكون ذلك ولا توجد عندهم سماعات ولا ميكرفونات؟
الجواب
أيها الإخوة! كانت طريقتهم التبليغ، يقوم المحدث يحدث ثم بعد مائة متر يختارون رجلاً صافي السمع يسمع المحدث ويقرأ الحديث ويبلغه كما هو، وبعضهم واقف على النخل يسمع الكلام والحديث فيبلغه، وهكذا أذان الحرم، المؤذن يقول: الله أكبر، وآخر يقول مثله فينتشر الأذان، ونتوقع في عشرة آلاف عندما يخلص الإمام الدرس يقول: وصلى الله وسلم على محمد، فينقلها الآخر، ويقوم أول الناس وآخرهم منتظر يسمع قوله: وصلى الله على محمد ثم يقومون، وهكذا تنتقل الكلمة شيئاً بعد شيء، نحن الآن ميكرفونات والناس يسمعون، وهذا الموقف يذكرني بالشيخ محمد الأشقر حفظه الله كان يلقي درساً عن البدعة، عند أناس عندهم كل شيء بدعة حتى البدعة بدعة عندهم، ما تركوا شيئاً، فيقول، كنت جالساً في بريدة فيقول أحد خطباء المساجد: هناك عالم لا يستخدم الميكرفون يقول: بدعة لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول الشيخ محمد الأشقر: يريد إقناعه، بعد يوم من الأيام كنت جالساً معه، وكان عنده كتاب، قلت له: اقرأ علي هذا الكتاب، فحمل نظارته يريد يلبسها يقرأ، قلت: لماذا تلبس النظارة، ما لبسها الرسول صلى الله عليه وسلم فهي بدعة؟ قال: لا.
تكبر الكلام، قلت: والميكرفون يكبر الصوت، فاقتنع بهذا.(62/10)
زهد الإمام أحمد
في ذكر زهده رضي الله عنه.
قال سليمان بن الأشعث: ما رأيت أحمد بن حنبل ذكر الدنيا قط، إنسان منقطع للآخرة، لذلك منَّ الله عليهم بالعلم وبكل خير، لأنهم أناس كانوا للآخرة، خلقهم الله هكذا حتى يحفظون الدين، ولذلك لما قيل لـ ابن المبارك: إن الحديث كثر فيه الوضع والكذب، قال: استرح، فإنها تعيش له الجهابذة، والله يخلف من تعيش لهذا الحديث.
ويقول أبو حفص عمر بن سليمان المؤدب: صليت مع أحمد بن حنبل التراويح، وكان يصلي به ابن عمير، فلما أوتر رفع يديه إلى ثدييه، وما سمعنا من دعائه شيئاً ولا ممن كان في المسجد، أي أنه كان يبكي، وكان من شدة البكاء ولا يسمع دعاؤه، وكان في المسجد فراش على الدرجة، لم يكن فيه قنديل ولا حصير ولا شيء، زهد وفقر، وكذلك خوف من الله سبحانه وتعالى.
طبعاً: صلاة التراويح عند الإمام أحمد رحمه الله كلها عشرين ركعة.
كذلك يقول أبو بكر المروزي: سمعت أبا عبد الله يقول لـ شجاع بن مكنز العطار: يا أبا الفضل إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وإنها أيام قلائل، أي: فلاد داعي لكثرة الهم والاغتمام، فإنما هو عمر قصير ثم نرحل إلى الله سبحانه وتعالى، وكلٌ قادم على عمله، وأول ما يحاسب المرء يوم القيامة عليه دينه وصلاته، ولكن مع ذلك فإن الله جميل يحب الجمال، وفي الوقت نفسه (البذاذة من الإيمان) كما قال صلى الله عليه وسلم.(62/11)
ورع الإمام أحمد
ذكر ورعه وزهده ابن كثير رحمه الله متسلسلة في صفحتين أو ثلاث في البداية والنهاية، وكتب قدر عشر صفحات للإمام أحمد بن حنبل وهي مختصرة وجيدة.
من شدة ورعه رحمه الله أنه كان معه طست، فجاء رجل فوضع طسته بجواره، ثم لم يعرف أيهما طست الإمام أحمد فقال: أيهما طستك؟ فاشتبه على الإمام ذلك فقال: هما لك.
وقال أحمد بن القاسم الطوسي: كان أحمد بن حنبل إذا نظر إلى نصراني أغمض عينيه، فقيل له في ذلك، فقال: لا أقدر أن أنظر إلى من افترى على الله وكذب عليه، لأنه يقول: إن لله ولداً، فكيف أنظر إليه! فمن شدة ورعه لا يطيق النظر إليهم حتى لا يتذكر الجرم في حق الله سبحانه وتعالى.
وقال علي بن المديني: ليس في أصحابنا أحفظ من أحمد بن حنبل، وبلغني أنه لا يحدث إلا من كتاب، ولنا فيه أسوة حسنة، ما كان واحد أحفظ منه، ومع ذلك يفتح الكتاب ويقرأ ليتأكد أنه صحيح، لذلك يقول الشيخ محمد فوزي: كان مشايخنا الكبار رحمهم الله يعلموننا يقولون: إذا كنت حافظاً للمسألة، وسألك عنها أحد سواء كانت قضية إسلامية أو مسألة سهلة في الصلاة -مثلاً- في الحلال أو الحرام، فالأفضل أن ترجع إلى الكتاب، لأن الإنسان قد يسهو أو يشتبه عليه الأمر، فارجع إلى الكتاب لأن هذا دين.
لذلك قيل: أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار.
وأنتم تعرفون أن أحمد بن حنبل ممن تطرق إلى مسألة فتنة خلق القرآن، وتعذيب الأمراء له كـ المعتصم والمأمون وكيف جلد بالسياط، وكيف صبر رحمه الله، وكيف فتن المسلمون لولا ثبات أحمد بتثبيت الله له، فكان بعض أبنائه -له ابن اسمه: عبد الله وابن اسمه: صالح - فكان صالح يقبل الفلوس من الأمراء والحكام فكان الإمام لا يقبل منه طعاماً ولا شراباً، حتى وهو على فراش الموت قال: لا تغسلوني بماء ولدي صالح، ولا تكفنوني بكفن اشتريتموه من أموال صالح، لماذا؟
يخاف من هذه الأموال التي من الأمراء وفيها حرام وربا، وفيها ظلم، فهو يبتعد عنها تورعاً، ولذلك لما علم أن ولده صالحاً يأخذ الأموال من الأمراء ماذا فعل؟
قال أحمد بن محمد الدستري: ذكروا أن أحمد بن حنبل أتى عليه ثلاثة أيام ما طعم فيها ولا أكل شيئاً، فبعث إلى صديق له فطلب منه شيئاً من الدقيق، فعرفوا في البيت شدة حاجته إلى الطعام، فخبزوا له بعجلة وسرعة في التنور، فلما وضع بين يديه قال: كيف خبزتم بهذه السرعة؟ فقيل له: كان التنور في بيت صالح مسجوراً فخبزنا به، قال: ارفعوا الطعام، ولم يأكل، وأمر بسد بابه إلى دار صالح، انظروا شدة الحرص وشدة الورع من هذا الإمام الجليل رضي الله عنه.(62/12)
تواضع الإمام أحمد
قال أبو بكر أحمد بن محمد المروزي: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل وذكر أخلاق الورعين فقال: أسأل الله ألا يمقتنا، فقلت له: يا أبا عبد الله! ما أكثر الداعين لك، فهل قال: ما شاء الله أنا أحسن الناس، أنا من أهل الجنة، أنا ما شاء الله عالم، أغتر بنفسه، مع أنه حافظ ألف ألف حديث، وذكر أخلاق الورعين فقال: أسأل الله ألا يمقتنا أين نحن من هؤلاء؟ فقلت لأبي عبد الله: ما أكثر الداعين لك، فأغرقت عيناه بالدموع، ثم قال: أخاف أن يكون هذا استدراجاً، أسأل الله أن يجعلنا خيراً مما يظنون، ويغفر لنا ما لا يعلمون.
هكذا الورع يا إخواني، وهكذا التقوى عند الأئمة الأعلام رضي الله عنهم.(62/13)
إجابة الإمام أحمد للدعوة
تحت عنوان الباب الثالث والخمسون في إجابته للدعوة وخروجه لرؤية المنكر، قال علي بن أبي صالح السواق: كنا في وليمة، فجاء أحمد بن حنبل فلما دخل نظر إلى كرسي عليه فضة، فخرج، فلحقه صاحب الوليمة يركض وراءه، فنفض يده في وجهه، وقال: مثل المجوس، مثل المجوس؟! وخرج مولياً مدبراً رضي الله عنه.
ويذكرون كذلك في باب تعبده وورعه رحمه الله أن صالح بن أحمد بن حنبل ولده قال: كان أبي لا يجعل أحداً يستسقي له إناء لوضوئه، يعني: يجر الدلو من البئر، بل يخدم نفسه بنفسه لوضوئه، وكان إذا أخرج الدلو مدروساً ماء -ملئ بالماء- قال: الحمد لله، قلت: يا أبي! أي شيء في هذا؟ فقال: يا بني أما سمعت الله يقول: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك:30] انظر كيف يستشعر الآيات، ويستشعر كلام الله سبحانه وتعالى.
ويقول إبراهيم بن شماس: كنت أعرف أحمد بن حنبل وهو غلام وهو يحيي الليل، أما نحن فقد تركنا السنن وأهمها قيام الليل، وكأنا لم نعلم أن المرء إذا صلاها صغيراً ثم عجز عنها كتب له أجره عليها.
وقال الخلال عن عبد الله بن أحمد قال: رأيت أبي لما كبر وأسن، اجتهد في قراءة القرآن، وكثرة الصلاة بين الظهر والعصر، فإذا دخلت عليه انفتل من الصلاة وربما تكلم، وربما سكت، فإذا رأيت ذلك خرجت فيعود لصلاته، ورأيته أكثر من ذلك يقرأ القرآن.
فتأمل كيف يقرأ القرآن، فإذا حس بأن واحداً يدخل عليه في البيت وضع القرآن تحت البشت والعباءة حتى لا يكشف أمره للناس يقولون: كان يقرأ القرآن، ما شاء الله! فلان صوته حلو بالأذان، ما شاء الله فلان خطيب جيد، لا يحب هذه الكلمات أبداً، وإنما دائماً من الورع والتقوى يخفي أعماله بينه وبين الله سبحانه وتعالى.(62/14)
كرامات الإمام أحمد رحمه الله
كراماته وإجابة الله سبحانه وتعالى لسؤاله.
إثبات الكرامة عندنا من العقيدة الإسلامية كما قال:
وأثبت للأولياء الكرامة ومن أنكرن فانبذن كلامه
أي: أن الكرامة مبدأ من مبادئ العقيدة الإسلامية عند أهل السنة والجماعة.
اسمع كرامات الإمام، وكيف يستجيب الله دعاءه مباشرة.
قال محمد بن علي السمسار: رأيت أبا عبد الله جاء بالليل إلى منزل صالح، وابن صالح تسيل الدماء من منخريه، يعني: ولد ولده، وقد جمع له الطب وهم يعالجون بالكتل وغيرها، والدم يغلبهم، فقال له أبو عبد الله: أي شيء حالك يا بني؟ قال: يا جدي! هو ذا أموت، يعني: كأني أموت، ادع الله لي، فقال له: ليس عليك بأس، ثم جعل كأنه يحرك يده فانقطع الدم وقد كانوا يئسوا منه؛ لأنه كان يرعف دماً، بشدة.
الحادثة الثانية المشهورة ويذكرها ابن الجوزي في صفة الصفوة كذلك، قال العباس بن محمد الدوري: حدثني علي بن أبي حرارة، أحد جيرانه، قال: كانت أمي مقعدة، أي: مشلولة نحو عشرين سنة، فقالت لي يوماً: اذهب إلى أحمد بن حنبل فسله أن يدعو الله لي، فسرت إليه فدققت عليه الباب وهو في دهليزه، فلم يفتح لي وقال: من هذا؟ فقلت: أنا رجل من أهل ذاك الجانب، سألتني أمي وهي زمنة مقعدة أن أسألك أن تدعو الله لها، فسمعت كلامه كلام رجل مغضب، يعني: غضبان، فقال: نحن أحوج أن تدعو الله لنا، يعني: اذهب حق على أمك أن تدعو الله لنا، أما نحن فأناس فقراء، فولى الولد منصرفاً، وفي رواية: ولى يبكي على أمه المسكينة، أحمد بن حنبل ما دعا لها، فخرجت عجوز من داره فقالت: أنت الذي كلمت أبا عبد الله أقبل، فقلت: نعم، فقالت قد تركته يدعو الله لها، يعني: أن هذه العجوز والظاهر أنها أم أحمد بن حنبل قد جعلته يدعو الله لها، قال: فجئت من فوري إلى البيت فدققت الباب، فخرجت أمي على رجلها تمشي حتى فتحت الباب، فقالت: قد وهب الله لي العافية، وهذه من كرامات الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.
حدثني إبراهيم بن هانئ قال: حدثني النساج جار لـ أبي عبد الله قال: كنت أشتكي، فكنت أئن في الليل، فخرج أبو عبد الله في جوف الليل، فقال: من هذا عندكم يشتكي؟
فقيل له: فلان، فدعا له وقال: اللهم اشفه، ودخل فكأنه كان ناراً صب عليه ماء، محموم ويئن فصار بعد ذلك بارداً وصح مباشرة من دعاء الإمام أحمد بن حنبل، مطعمه حلال، ورَعٌ، ودعاءٌ، وقيامُ ليلٍ، وخوفٌ مِنَ الله، ونحن لماذا لا ندعو؟ ولماذا لا يستجيب الله لنا؟! الله أعلم.(62/15)
وفاة الإمام أحمد
في يوم وفاته حدثت زحمة، حتى أغلقت الطرقات، زاكتظ البيت بالناس، وخرج الأطفال والنساء والرجال، وكلهم يسألون عن أحمد، ويهتمون لإمام أهل السنة الذي صبر على التعذيب من المأمون والمعتصم، وحفظ الله به الدين.
إن أحمد سوف يموت، إن أحمد سوف يفارق الدنيا، الناس في هم وكرب عظيم، حتى الطرقات احتشدت، والناس لم يعد يسعهم مكان، وتعطلت الباعة، يقول: دخل عليه شيخ فكلمه، في روايات كثيرة، وقال: اشكر وقوفك بين يدي الله يا أبا عبد الله! فشهق أحمد بن حنبل، وسالت الدموع على خديه، فلما كان قبيل وفاته بيوم أو يومين، قال: ادعوا الصبيان -أولاده وأولاد أولاده الصغار- ادعوا الصبيان الصغار، فجاءوا ينضمون إليه، وجعل يشمهم ويمسح بيده على رءوسهم، وعينه تذرف الدموع لمفارقتهم، فقال له رجل: لا تهتم لهم يا أبا عبد الله، فأشار بيده، فظننا أن معناه أني لم أرد هذا، وكان يصلي قاعداً، ويصلي وهو مضطجع لا يكاد يصبر، ويرفع يديه إيماء بالركوع أنه في الصلاة، وفي رواية: وأدخلت الصحفة تحته فرأيت بوله دماً في آخر أيامه، فيقول: فوضعته فقال: خلل الأصابع، فلما كانت ليلة الجمعة ثقلت، فظننت أنه قد قبض، وأردنا أن نمدده، فجعل يقبض قدميه وهو موجه، وجعلنا نلقنه لا إله إلا الله، ونردد ذلك عليه، وهو يهلل، وتوجه إلى القبلة واستقبلها بقدميه، فلما كان يوم الجمعة اجتمع الناس حتى ملئوا السكك والشوارع، فلما كان صدر النهار قبض رحمه الله، فصاح الناس، وعلت الأصوات بالبكاء، حتى كأن الدنيا قد ارتجت وقعد الناس، فخفنا أن ندع الجمعة، فأشرفت عليهم فأخبرتهم: إنا نخرجه بعد صلاة الجمعة، يعني: إلى الدفن، فخاف أن الناس لا تروح إلى الجمعة من شدة البكاء، وبعدها وضع على فراش الموت، تذكر أن له ثلاث شعرات من النبي صلى الله عليه وسلم كان محتفظاً بها، فقال: إذا أنا مت فاجعلوا واحدة على عيني والأخرى على عيني الأخرى والثالثة على لساني، ثم أغلقوا فمي وادفنوني مع شعر النبي صلى الله عليه وسلم، كأنه يتبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم كما يذكر ذلك ابن حجر وكما يذكر ذلك القسطلاني وكل العلماء المعتبرين.
هذه رواية تبين يا إخواني دور الشيطان في فتنة الإنسان:
ابنه عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: لما حضرت أبي الوفاة جلست عنده واختصار القصة، أنهم كانوا يقولون: قل: لا إله إلا الله، فيقول: لا بعد، لا بعد، فلما أفاق قالوا: يا أبا عبد الله مالك كنت أقول لك: قل: لا إله إلا الله فكنت تمتنع؟ قال: نعم، رأيت الشيطان يقف في زاوية البيت وقد عظ على يديه وقال: لقد فتني يا أبا عبد الله ويريد أن يفتنه، ويقول لي: مت على دين آبائك وأجدادك من كفار قريش، فأقول: لا.
لا، حتى لا أفتن في ديني، وما مات إلا بعد أن قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، وبارك الله فيكم وجزاكم الله خيراً.(62/16)
البشارة العظيمة
إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وذلك عندما ينظر الناظر فيرى المنكرات قد انتشرت في الأرض، ولكنه يستبشر عندما يعلم أن الله ناصر دينه، ومُعْلٍ كلمته ولو كره الكافرون.(63/1)
تبشير الملائكة للوط عليه السلام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهي ليست محاضرة كما ذكر المقدم، ولكنها كلمة إن شاء الله، وكما قيل: خير الكلام ما قلَّ ودلَّ، فإن أصبت فمن الله عز وجل، وإن أخطأت فمني ومن الشيطان.
أيها الإخوة الكرام: العنوان: (البشارة العظيمة) والله جلَّ وعلا يقول: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة:223] والمؤمنون مبشَّرون من الله جل وعلا ومن النبي صلى الله عليه وسلم ببشائر عظيمة، وهذه بعض منها وإلا فهي أكبر وأكثر وأعظم، وسوف تسمع بعضها أيها الأخ الكريم.
أُبَشِّر كل داعية إلى الله، وكل مصلح، وكل آمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر، وأبشر كل مُصْلِحَة، وكل آمِرَة بالمعروف وناهِيَةٍ عن المنكر، أبشركم جميعاً أيها الإخوة بأن هذا الدين منتصر، وأن الله عز وجل مُعْلٍ دينه، وناصرٌ كتابه جل وعلا، وأن هذا الدين مهما حاولوا إطفاء نوره فلن يستطيعوا: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32] بل قال عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47].
إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإن الإنسان ليصيبه الحزن والكآبة عندما ينظر في الناس فيرى المنكرات، والفساد ينتشر في الأرض، ويرى فلاناً الذي كان يصلي الفجر في جماعة؛ اليوم لا يصلي حتى ولا في بيته، ونرى ذلك الذي كان ينادي للصلاة؛ اليوم يرفع صوته بالغناء، ويرى الذي كان يحفظ القرآن؛ قد ارتد عن سبيل الله، إن القلب ليحزن وإن الصدر ليضيق من هول ما يرى.
بل عندما يدعو الإنسانُ الناسَ إلى الله جل علا، ولَمَّا يدعو الداعية إلى الله بالمعروف وينهى عن المنكر ويرى الصدود والإعراض؛ يصيبه بعض الحزن والكآبة، فإذا فتح الجرائد وسمع أخبار الناس: المسلمون يُذَبَّحون ويُقَتَّلون، وتستباح دماؤهم وتُسْلَب أراضيهم وأموالُهم؛ يصيب الإنسان منا الضيق والحزن والكآبة، ثم ماذا؟
ثم أبشر يا عبد الله! فإن نصر الله قريب.(63/2)
حب قوم لوط لفاحشتهم
هذا لوط عليه السلام يصيب قومه داءٌ عظيم، أتعرف ما هذا الداء؟
داء إتيان الذكور: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:165] يأتون فاحشة ما سبقهم بها من أحد من العالمين، يأتون الذكران أجلكم الله، وهذا حادث في بعض الدول في هذه الأيام للأسف!
فإذا به يأمر قومه وينهاهم ولكن للأسف لا مجيب ولا مستجيب.
فتأتي الملائكة في صورة ضيوف -واسمع لهذا الخبر فلكأنه يحكي واقعاً قريباً من واقعنا- فيسمع القوم بأن هناك ذكوراً ورجالاً قد دخلوا؛ فارتفعت الشهوة، وعَمِي البصر، وذهب العقل، وانمسخت الفطرة؛ فجاءوا إليه يهرعون ويركضون ويسرعون، قرعوا الباب على لوط، ففزع منهم: {وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ * وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} [هود:77 - 78].
وتَخَيَّلْ نفسك يا عبد الله! وأنت في مثل هذه الحالة التي فيها لوط، قوم لا يعرفون الزواج، ولا يعرفون نكاح النساء، لا يعرفون -أجلكم الله- إلا نكاح الرجال بعضهم بعضاً، حتى لما طرقوا عليه الباب قال لهم: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78] اتقوا الله، ألا رجل واحد رشيد؟!
يتبعون الشهوات، بل يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، فإذا جاءت مواطن الشهوات أتى الجميع يطلبون شهوتهم وتكالبوا وتآلبوا وتآمروا؛ وكادوا لأجل ذلك أن ينشروا الفاحشة في المجتمع.
ولأجل أن يقضوا الشهوات ويتمتعوا بشهواتهم جاءوا من بعيد يهرعون ويركضون، طرقوا الباب وقالوا للوط: {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ * قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} [هود:77 - 78] هؤلاء بناتي إي: تزوجوا بناتي، اتركوا هذه القذارة والنجاسة، فقد أعطاكم الله الحلال، أما ترضون إلا بالحرام؟!
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78] لا والله يا لوط! ليس هناك في القوم رشيد للأسف!
للأسف بعضهم يحصل على أرفع الشهادات، وأعلى المناصب وأكبر المنابر يركبها ويعتليها ثم هو ليس برشيد ليتكلم عن نفسه فكيف يتكلم عن غيره؟! {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78].
أتعرف بِمَ ردوا عليه؟!
{قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} [هود:79] تعلم يا لوط أننا لا نقبل بالزواج، ولا نرضى بالحلال، ولا نرضى إلا بالحرام والشهوات: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود:79].
التفت لوطٌ عليه السلام إلى الضيوف، فحزن وضاق صدره، فضيحة! فهم ضيوفه! ثم قال: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} [هود:80] لو أن لي في هذه الظروف قوة أتَقَوَّى بها على رد هؤلاء الأعداء: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80] رحم الله لوطاً! لقد آوى إلى ركن شديد، أتعرف أي ركن هذا أيها الداعية؟!
آوى إلى ركن الله، ليست هناك أسباب مادية، ضاعت القوة، جُوْبِهَ من جميع الجهات: مِن فوقه، ومِن أسفل منه، ومِن أمامه، ومن خلفه، أغلقوا كل الأبواب في وجهه، أرغموه على الفساد، وقالوا اقتحِموا بيته بالفساد؛ ولكنه آوى إلى ركن شديد.(63/3)
أليس الصبح بقريب
هنا تكلمت الملائكة ونطقت بإذن الله: {قَالُوا يَا لُوطُ} [هود:81] من هنا بدأ الفرج وبدأت البشائر: {يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ} [هود:81] تدخلت القوة من السماء، وأذن الله عز وجل بالانفراج، وبدأت البشائر: {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْك} [هود:1].
أيها الداعية إلى الله: لا تنظر ولا تقرأ الأخبار والإحصائيات والتقارير: كم عندهم من الصواريخ! ومن الأسلحة! ومن الجيوش الجرارة! ومن الأموال الهائلة! والدعاة إلى الله لا يملكون إلا ألسنتهم، وبعض الأقلام! لا تظن أنه لا مقارنة ولا سبيل للنصر، فإن النصر من عند الله وحده.
{يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود:81] وبدأت الآن خطة النصر: يا لوط اخرج في الليل.
ولربما يعمل الدعاة إلى الله أحياناً في الليل، ولا يملكون إلا العمل في الظلام بعض الأحيان، وبعض الأحيان يدعون إلى الله بالسر، بل بعضهم في روسيا الاتحادية والجمهوريات الشيوعية كانوا يعملون في السراديب.
فإذا بلوط عليه السلام يؤمر بالخروج ليلاً، قال: لِمَ؟
قالت الملائكة: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ} [هود:81] سوف يأتي الفجر أيها النبي الكريم -أيها الداعية إلى الله! سوف يأتي الفجر- فإذا بلوط عليه السلام يستبطئ الفجر الفجر بعيد والليل طويل ولكن الملائكة ترد على لوط فتقول له: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81].(63/4)
بشائر من العهد المكي
أيها الداعية إلى الله! مهما طال الليل فإن نهايته الفجر، وقد آذن الفجر بالقدوم، وسوف تأتي الشمس بعد الفجر.
أيها الداعية إلى الله! أبشر بالنصر من الله جل وعلا، وابذل ما تستطيع، فإذا أيست وبذلت جهدك وقصارى طاقتك فاعلم أن الله سوف يأتيك بالنصر: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110].(63/5)
بشارة الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالنصر
شاب في العهد المكي لم يتجاوز عمره العشرين سنة يرى محمداً صلى الله عليه وسلم -وتَخَيَّلْ هذه الصورة- أفضل الخلق وهو متوسد بردة في ظل الكعبة فيأتيه هذا الشاب الصغير وقد أنهكه التعب، وآلمه الأسى واستبطأ النصر، فقال: (يا رسول الله! ادعُ لنا، استنصر لنا) ضاقت بهم الأمور، وتَخَيَّلْ صورتهم: هذا يُجَرُّ في الرمضاء في شدة الحر، وذلك يُضْرَب، وذاك يُطْفأ الجمر بجلده، وتلك يُطْعَن في فرجها برمح فتخرج روحها أمام ولدها، وذلك يُعَذَّب وتُعَذَّب أمُّه أمامه، وهذا يُضْرَب بالأسواق، وهذا هو وبناته الصغار يتضاغون من الجوع، وما يجد إلا أوراق الشجر يأكلها هو وبناته، عذاب وأي عذاب!
فإذا بمحمد صلى الله عليه وسلم يتغير لون وجهه، ثم يقول له مغضباً: (إنه كان فيمن كان قبلكم، يؤتي بالرجل فتُحفر له الحفرة، فيُوضع فيها، ويُنشر بالمنشار على مفرق رأسه) تَخَيَّلْ أنك هذا الرجل في حفرة والمنشار على مفرق الرأس، ثم قال: (فينشر).
هل هو مخدر؟!
هل هو غائب عن الدنيا؟! لا يا عبد الله! الدم يسيل، والجسد يتعذب، والروح لم تخرج، قال: (فينشر حتى يفلق فلقتين، ويؤتى بأمشاط الحديد، فيمشط ما بين لحمه وعظمه، لا يرده ذلك عن دينه؛ ولكنكم قوم تستعجلون) تستعجلون، اصبروا فما هي إلا سنوات.(63/6)
بشارة الرسول صلى الله عليه وسلم لقريش بهزيمتهم
كان محمد عليه الصلاة والسلام في العهد المكي -واسمع لهذا الخبر- يطوف حول البيت، فإذا بالمشركين يغمزونه، فإذا به يستغفلهم ويمضي، فيأتي في الشوط الثاني يطوف حول الكعبة -وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً- فإذا بهم يغمزونه فيستغفلهم، ثم في الشوط الثالث يغمزونه ويضحكون عليه، فإذا به يستغفلهم، ثم يأتيهم وهم يضحكون، فيقول: (تسمعون معشر قريش؟! فسكتوا، قال: أما والذي نفس محمد بيده! لقد جئتكم بالذَّبح -عندي القتل والموت، أُمِرْت أن أقاتل الناس- يقول الصحابي الراوي: والله لكأن على رءوسهم الطير) عزة المؤمن.
أبْشِر يا عبد الله! فإنك مهما كنتَ وحيداً فإن في قلبك هيبة، وإن في قلبك رحمة، وإنك إن مَشَيت في تلك المجتمعات الفاسدة والضالة وبين الضالين المجرمين فإن الله يوقع في قلوبهم منك الخوف والرهبة.
فإذا بأشقى القوم، من كان قبل قليل يسبه ويشتمه، يقول له: (انصرف أبا القاسم راشداً -وانظر إليه حين قال: أبا القاسم ولم يقل: محمد- فوالله ما كنت جهولاً) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].
ألا تسمع يا عبد الله! أن الآلاف المؤلفة من الناس بعد أكثر من أربعين سنة من الشيوعية الحمراء التي تقول: إن القرآن جريمة، والأذان عقوبته لا تعد ولا تحصى، وإظهار دين الإسلام وشعائره جريمة يعاقِب عليها القانون، حفظوا دينهم، كيف حفظوه؟! وكيف أمِنوا من هذه الفتن وهذا الفساد بعد أن انكسرت الشيوعية؟!
يَخْرُجُ مِن موسكو - الشيوعية بلدِ الحديد والنار- آلاف مؤلفة كلهم يكبرون ويهللون ويقولون: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) يخرجون يحجون إلى بيت الله الحرام.
والشاهد رآهم بأم عينيه في سيارات لا يتحمل أحدٌ أن يدخل فيها ولا ليوم واحد، وهم يأتون أشهراً طويلة وأياماً عديدة مديدة ليحجون إلى بيت الله الحرام، رأيت أحدهم -أيها الأخ الكريم- يحمل أمه العجوز وبيده شيخاً كبيراً وهو كبير في السن، ويحمل أمه على ظهره يطوف قرابة ساعة، بكل نشاط وبكل حب ورغبة في دين الله، يطوف بها حول البيت في وسط الزحام، وهو متشوق إلى جنة الرحمن، إنه نَصْر الله يا عبد الله، وَعَدَ اللهُ عز وجل: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21].
هذا محمد عليه الصلاة والسلام وصل إلى وضع لم نصل إلى ربعه يسجد عند الكعبة فيقول أحد المشركين: " من يذهب إلى سلى جزور بني فلان فيرميه على محمد " فيقوم أشقى القوم -والمسلمون حوله لا يظهرون إسلامهم، لا يستطيع أحدهم أن يلتفت نحو الرسول- ويأتي بسلى الجزور -قذارة- ويرميها على ظهر محمد صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، ولم يستطع عليه الصلاة والسلام أن يرفع رأسه من السجود، والصحابة ينظرون ولا أحد يتحرك وانظر يا عبد الله! إلى الضعف الذي مر به المسلمون.
وتنطلق فاطمة وهي بنت صغيرة تركض إلى أبيها رضي الله عنها، فإذا بأبيها ساجد عند الكعبة وعلى ظهره النجاسات والقذارات، فإذا بها تزيل القذر عن ظهر أبيها وهي تبكي، فأتم عليه الصلاة والسلام صلاته والمشركون ينظرون، والبنت تبكي، والصحابة مستخفون بإسلامهم، لا يستطيع أحد منهم أن يحرك ساكناً، فإذا به يلتفت إلى القوم ويستقبلهم، ثم يرفع يديه إلى السماء وهو يقول: (اللهم عليك بـ عمرو بن هشام، اللهم عليك بـ عتبة بن ربيعة، اللهم عليك بـ الوليد بن ربيعة، اللهم عليك بفلان وفلان -عدَّدهم واحداً واحداً، فسكت القوم- قال الراوي: والله لقد رأيتهم كلهم صرعى يوم بدر) {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر:45] سيأتي يوم يُهزمون فيه، دعهم يتكلمون، ويغمزون، ويسخرون، دعهم يكيدون لك المكائد فإنما هم يحاربون الله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:15 - 17].(63/7)
بشارة لأهل الأعمال الصالحة
أبشر أيها العبد الصالح!
أبشر يا من تصلي الفجر!
أبشر يا من تشهد الشهادتين وتأتي بشروطها وأركانها وتحقِّقُها في قلبك قبل أن تقولها بلسانك!
أبشر يا عبد الله، يا من تصوم رمضان! يا من تؤدي زكاة مالك! يا من حججت إلى بيت الله!
أبشروا يا أهل القرآن!
أبشروا يا أهل الإسلام! بِمَ؟!
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] أبشر يا من استقمت على دين الله: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا} [فصلت:30] أتعرف متى؟
إنها ساعة الوفاة وساعة الاحتضار: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} ملائكة بيض الوجوه، تقول: {أَلَّا تَخَافُوا} أي: لا تخف مما سوف يأتيك ويَقْدُم عليك.
أتعرف ما الذي ستقدم عليه؟!
حفرة ضيقة مظلمة، لا أنيس فيها ولا جليس، ثم يأتي يومٌ مقداره خمسون ألف سنة، الشمس فيه على رءوس الخلائق، يوم فيه حساب ونقاش وعذاب، ومن هناك إما إلى جنة وإما إلى نار، فتقول الملائكة: {أَلَّا تَخَافُوا}.
ثم يتذكر ما مضى وما خلَّف من الدنيا فتقول الملائكة له: {وَلا تَحْزَنُوا} لا يصيبنك الحزن على أولادك وأهل بيتك الذين خلفتهم وتركتهم، فالله يتولى الصالحين، ثم تبشرهم الملائكة: {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأبشروا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30].
أبشر بالجنة إن كنت صادقاً! فإن النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام مر على الصحابة وأخبرهم: (أن بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فخاف الصحابة، فقال لهم يبشرهم عليه الصلاة والسلام: إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبر الصحابة -الله أكبر! الله أكبر! كل الأمم السابقة ثلاثة أرباع، وهذه الأمة لوحدها تأخذ ربع الجنة، بشارة عظيمة وأي بشارة! - ثم قال لهم: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة، فكبر الصحابة: الله أكبر! الله أكبر! ثم جاءت البشارة الثالثة قال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة) {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110].
نعم.
خير أمة، ولهذا كان نصف الجنة من هذه الأمة، والنصف الآخر من الأمم السابقة جميعاً، بشارة وأي بشارة! {وَأبشروا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30].
ومن بعض نعيمها وبعض صفاتها، لمن؟
لمن التزم بأركان الإسلام، وترك الكبائر ولم يصر على الصغائر، لمن إذا وقع في الذنب تاب ورجع إلى الله جل وعلا.
أبشر يا عبد الله! فكلما توضأت وشهدت الشهادتين، فُتِحَت لك أبواب الجنة في السماء.
الصحابة يوماً من الأيام يأتون بحرير -حرير طبيعي- فإذا بهم يتفكرون بالنظر إليه ويرغبون به، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (والله إن مناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذه) المناديل التي ترمى والتي لا يكون لها في الدنيا قيمة خير من هذه؟!(63/8)
آخر أهل الجنة دخولاً
أريدك يا عبد الله في هذه الجلسة أن تتَخَيَّلْ وأن تستبشر بوعود الله جل وعلا، يقول عليه الصلاة والسلام: (لو أن ظفراً مما في الجنة بدا -لو حملنا من الجنة شيئاً بالظفر أتعرف ماذا يحصل؟ - لتزخرفت طوابق السموات والأرض).
إذا بموسى يسأل عن أدنى أهل الجنة منزلة -كما في صحيح مسلم - وهي قصة عجيبة! وخبرها عجيب! أريدك أن تستبشر يا عبد الله فهذا أدنى أهل الجنة: (يخرج من النار يكبو مرة، ويمشي مرة، وتصفعه النار مرة، حتى إذا نجا منها التفت إليها وقال: تبارك الذي نجاني منك) فإذا به يظن أنه لم يعطَ أحد أفضل مما أعطي هو، يظن أنه أفضل أهل الدنيا عطاءً؛ لأنه تخلص من النار: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَاز} [آل عمران:18] ووالله ليس الفوز بالملايين ولا بالعمارات ولا بالعقارات ولا بالسفر إلى دول الكفر والإباحيات، لا يا عبد الله ليس الفوز بهذا، ولن تنجو بالحصول على أعلى الشهادات وأعلى المناصب والمراكز، بل الفوز: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].
(فإذا به يرى شجرة من بعيد -اسمع القصة- فيسأل ربه يقول: يا ربِّ! أدنني من هذه الشجرة، أستظل بظلها -أنهكه الحر، ظِلُّ جهنم يا عبد الله لا بارد ولا كريم، ظِلٌّ مِن يحموم- وأشرب من مائها، لا أسألك غيرها، فيقول الله: عبدي! هل عسيتَ إذا أعطيتكها أن لا تسألني غيرها؟ فيقول: يا ربِّ! أعاهدك أن لا أسألك غيرها -نجا من جهنم، وجلس تحت ظل شجرة، ويشرب من الماء! ماذا يريد أكثر من هذا؟! - فإذا بربنا جل وعلا برحمته يقربه من هذه الشجرة.
فإذا به ينظر إلى شجرة أخرى أجمل منها وأفضل وأحسن فيقول: يا ربِّ! أدنني من هذه الشجرة، أستظل بظلها، وأشرب من مائها، فيقول له: عبدي! ألم تعاهدني أنك لا تسألني غيرها؟ ما أغدرك -ما أغدر ابن آدم، كلما رأى نعمة أكبر نسي عهده الذي بينه وبين الله- فإذا بالرب جل وعلا يقول: هل عسيت إن أعطيتكها ألا تسألني غيرها؟ فيقول: أعاهدك يا ربِّ! وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه.
يا إخوان: الشجرة خارج الجنة، وليس له صبر عليها فكيف إذا دخل، فإذا به يقربه من الشجرة الثانية، فينظر إلى شجرة ثالثة -أين الثالثة؟ - عند باب الجنة فيقول: يا ربِّ! أدنني من هذه الشجرة، أستظل بظلها، وأشرب من مائها فيقول له: عبدي! ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟ فيقول: أعاهدك ربِّ أن لا أسألك غيرها، فيقربه الله من الشجرة الثالثة، فلما يجلس يسمع أصوات أهل الجنة) الله أكبر! أصوات ماذا يا عبد الله؟
{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ} [يس:55] ما شغلهم وما حديثهم؟
{الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ} [يس:55] مع مَن؟
{هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ} [يس:56] مع الحور العين يا عبد الله! {حُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ} [الواقعة:22 - 23] الواحدة كاللؤلؤة.
عبد الله! هذه اللؤلؤة لو عانقتها -كما في بعض الروايات- أربعين سنة ما تشبع، من جمالها وحسنها (على رأسها التاج، الياقوتة الواحدة فيه خير من الدنيا وما فيها، لو اطلعَت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بين السماء والأرض، ولملأته ريحاً، ولنصيفها -خمارها- على رأسها خير من الدنيا وما فيها).
أما النساء الصالحات فهن السيدات للحور العين، وهن أجمل من الحور العين في الجنة، تَخَيَّلْ إلى منظرهن يا عبد الله: (يُرى مخ ساقها من وراء اللحم والعظم) ما أجملها! وما ألطفها! وما أنعمها! عبد الله! حور عين: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} [يس:56].
(يسمع أصواتهم فيقول: ربِّ أدخلني إياها، وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه) ما هناك صبر يا أخي، صبر على ماذا؟! على أصوات أهل الجنة؟! أم على رائحتها التي تشم من على بعد أربعين سنة! أم على أنهارها التي تتفجر؟! تَخَيَّلْ! نهر من لبن؟! أم نهر من خمر؟! أم نهر من عسل؟!
تَخَيَّلْ نهر العسل هل تتصوره يا عبد الله؟!
أم هل تتصور نهر اللبن؟!
أم هل تتصور الكوثر الذي ماؤه أحلى من العسل وأبيض من اللبن؟! الآن تصور نهر أبيض من اللبن يجري، هل رأيت شيئاً أبيض من اللبن، أم هل ذقت شيئاً أحلى من العسل؟ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] هذا النهر يجري في الجنة.
والكوثر نهر يجري في الجنة (حافتاه قباب اللؤلؤ، وحصباؤه اللؤلؤ والياقوت) تَخَيَّلْ أنك تجلس على ضفاف هذا النهر مع زوجتك من الحور العين أو زوجتك الصالحة في الدنيا، تَخَيَّلْ يا عبد الله! وأنت على أرض الجنة البيضاء، كقرص نقي من المسك الأذفر.
هذه الجنة يا عبد الله ليس فيها شمس، كيف يرون؟! أم كيف ينظرون؟!
قال شيخ الإسلام: "الضوء والنور يأتيان من قِبَل عرش الرحمن" لأنه سقف الجنة.
(يقول: يا ربِّ! أدخلنيها -هذا آخر أهل الجنة دخولاً- فيقول الله جل وعلا: ادخل الجنة، فيقول: يا ربِّ! وكيف وقد أخذ الناس مآخذهم ونزلوا منازلهم؟! -أين أدخل؟! ماذا لي في الجنة يا ربِّ؟! كل شيء أخذوه في الجنة- فيقول الرب جل وعلا: تمنَّ يا عبدي، فيتمنى، والله يذكره الله: سَل كذا، فيسأل، سَل كذا، فيسأل -ويذكره الرب بكل شيء، فيسأل كل ما ذكره الله به- فيقول الله جل وعلا: لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها، فيقول: أتستهزئ مني وأنت رب العالمين -أدخل آخر الناس دخولاً الجنة ولي عشرة أمثال الدنيا؟! - فيضحك عليه الصلاة والسلام، فيقول الصحابة: مِمَّ تضحك يا رسول الله؟! قال: مِن ضَحِك الله جل وعلا في عبده) ضَحِكَ الله له، ولم يُعْدَم خيراً من ربه إن ضحك.
ويضحك ربنا ضحكاً يليق بجلاله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] لا كضحكنا؛ لكنه ضحك يليق به جل وعلا.
(فضحك الرب جل وعلا وقال: إني لا أسخر منك، ولا أستهزئ منك؛ ولكني على ما أشاء قادر، فيدخله الرب جل وعلا فيأتي بيته فتستقبله زوجتان من الحور العين، فتقولان له: الحمد لله الذي أحياك لنا، وأحيانا لك) هذا أدنى أهل الجنة منزلة وله مثل الدنيا عشر مرات.
يا من يتكالب على الدنيا وينسى صلاة الفجر، يا من يلهث وراء الشهوات والملذات ويترك صلاة العصر، اتركوا الدنيا (فما الدنيا في الآخرة إلاَّ كما يضع أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بِمَ يرجع) خذ من الدنيا على قدر حالك، وعلى قدر ما يوصلك إلى الله جل وعلا.
أبشر يا من تخرج من بيتك لصلاة الفجر: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) نور تام يوم القيامة.
أبشر يا عبد الله، هذا أدنى أهل الجنة منزلة، كيف بمن هو أعلاها؟! (قال موسى: يا ربَِّ! -اسمع الآن إلى أعلى أهل الجنة منزلة- فأعلاهم منزلةً) أعلى أهل الجنة منزلة.
وهل تظن يا عبد الله أنك تستطيع أن تتصور كيف يكون أعلى أهل الجنة منزلة؟!
فالرب جل وعلا لم يجب موسى على هذا السؤال، وكيف يتصور موسى أعلى أهل الجنة منزلة؟ لن يستطيع.
قال: (أولئك الذين غرسْتُ كرامتهم بيدي -ما غرسَتْ كرامتهم الملائكة ولا الأنبياء، بل الله جل وعلا هو من غرس كرامتهم قال: وختمْتُ عليها، فلم تَرَ عين، ولم تسمع أذن، وما خطر على قلب بشر) {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17] ما تعلم النفس ولا يخطر على القلب.
أبشر يا عبد الله، يا من حافظت على أركان الإسلام، يا من اتقيت الله جل وعلا أبشر بهذه الجنة إن كنت مستقيماً، ومت على لا إله إلا الله.
النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد الصحابة: (من قال (لا إله إلا الله) مخلصاً من قلبه إلا حرمه الله على النار) أي: جاء بشروطها وأركانها، لا يقول (لا إله إلا الله) وهو يأتي المشعوذين والكهان والسحرة والكفرة، ويعتقد أن غير الله جل وعلا يعلم الغيب، ويعتقد النفع والضر في غير الله جل وعلا، أو في غير ما جعله الله سبباً للضر والنفع، فإذا به يقول (لا إله إلا الله)! فلا تنفعه (لا إله إلا الله).
قال: (أفلا أبشر الناس؟! قال: لا.
فيتكلوا) وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر عن حالنا وعن حال كثير من الناس:
لم لا تصلي؟!
قال: أقول: (لا إله إلا الله).
كَذَبَ بقوله: (لا إله إلا الله).
وإذا بالحديث الآخر يقول: (مَن قال (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) وأقام الصلاة، وصام رمضان؛ أدخله الله الجنة) فإذا بالصحابة يتعجبون! -يكفي هذا الأمر- فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن للمجاهد مائة درجة -للمجاهد في سبيل الله- ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض).
وكان يحث أصحابه ويقول: (إذا سألتم الله -لا تسألوا أدنى أهل الجنة منزلة- فسلوه الفردوس الأعلى، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وسقفه عرش الرحمن).
وإذا بالصحابي يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (سلني -ماذا تريد؟ - قال: أسألك مرافقتك في الجنة) أعلى منزلة في الجنة.
أبشروا يا عباد الله! أبشروا برحمة الله جل وعلا! وأبشروا أيها الدعاة إلى الله بنصر من الله جل وعلا فإنه قادم لا محالة.
نصر الله قادم قادم، ومهما طال الليل فإن الفجر قريب، وكما قال الله جل علا: {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81].
أقول هذا القول.
وصلِّ اللهم وسلِّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(63/9)
الأسئلة(63/10)
من بشائر نصرة هذا الدين
السؤال
لو تذكُر لنا بعض البشارات التي بشر بها الرسول صلى الله عليه وسلم بنصرة هذا الدين؟
الجواب
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من الفتوح التي سوف تفتح مدينتا روميا والقسطنطينية، وقد فُتحت إحداهما، بل وهذا الخبر لعله يكون فيه شيء من عدم التأكد والثبوت، ومن الروايات التي جاءت في التبشير بالنصر أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سوف يُظهر الله عز وجل هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، ثم انظر ماذا قال! قال: (عزاً يعز به الله الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الكفر وأهله) مَن الذي يعز؟ الله جل وعلا، لا أنت، ولا قوتك، ولا أموالك، ولا كلامك، هذه أسباب فقط، فإذا كتب الله أن ينتصر هذا الدين فسوف ينتصر.
ثم انظر إلى تاريخ الإسلام، وانظر أيضاً إلى واقعنا الآن وقبل سنوات.
قبل أيام جاءني رجل بصور لكاريكاتيرات قبل أكثر من ثلاثين سنة في إحدى الجرائد الكويتية، هذه الكاريكاتيرات كانت في بداية الستينات كلها بأقبح الأساليب، وأسوأ الألفاظ، وبرسومات -يا إخوة- لا يستطيع أحد أن يراها فضلاً عن أن يذكرها، كلها تصوِّر الاستهزاء بالملتزمين في ذلك الزمن، وكان الاسم الذي يطلق على الملتزمين أيام الستينات في الكويت: (المُلاَّ مُصْلِح) وبأنه عنده بار للمسكرات -أجلَّكم الله- وبأنه في بعض الرسومات أمام التلفاز ينهى أهله عن النظر وهو ينظر، وأمور لا أستطيع أن أذكرها احتراماً لبيت الله جل وعلا، أساليب قذرة ووقحة كانت تُنشر في الجرائد على الملتزمين أيام الستينات في هذا البلد.
كان الملتحي إذا دخل الجامعة يصوَّر في الجريدة: القِرَدة تغزو الجامعة!
ولما انتقبت امرأة الجامعة رُسِمَت صورتُها في كاريكاتير إحدى الصحف وعليها شَعرة، وأمامها متبرجة تخاطبها فتقول لها: هذه الشعرة مِن لحية مَن؟ انظر! ألفاظ وقحة قبيحة فيها سب للدين، وشتم للملتزمين.
كان الملتزم إذا قصر ثيابه أمام الناس إلى سنوات يُستهزأ به في المجالس، ويُسخر منه في الطرقات.
وكان إذا التحى بعضهم لا يُزَوج.
بل والله أدركتُ شاباً كان يشتكي لي في أوائل الثمانينات وأواخر السبعينات يقول: إن أبي هددني إذا أطلقت اللحية أن يطردني من البيت.
كان هذا في زمنٍ في هذا المجتمع.
بل كانت المتبرجة التي تصل كامل ثيابها إلى فخذيها تدخل إلى بيت الله مع أبيها، كان هذا هو الحال الموجود في هذه البلد.
الآن انظر إلى الحال كيف تبدل بفضل الله جل وعلا، انظر إلى المدارس والنقابات والانتخابات في كل مكان يحوز على الأصوات الأكثر الملتزمون.
بل الآن أصبح كل من أراد أن يحصل على منصب أو سمعة جميلة يلتحي ويسبل إزاره ويتظاهر بالدين، وبعضهم يتظاهروا، وبعضهم صادق، بل أكثرهم صادقون، لكن بعضهم يتظاهر بالدين لأجل أن يحصل على المناصب وينجح في الانتخابات، أليس هذا دليل أيها الإخوة على نصرة دين الله جل وعلا.
لا يغرنك أيها الأخ الكريم! بعض ما تراه من انتشار المخدرات وهذه الستلايتات التي تغزو البيوت والصحون الهوائية وبعض الأفلام الداعرة وبعض المقالات في الجرائد من العلمانيين الذين يجحدون الحكم بالله جل وعلا، وبما أنزل الله جل وعلا، لا تغرنك هذه الهجمات فإن الساحة لدين الله وإن بشارات النصر في هذا المجتمع وغيره من المجتمعات تبشر بخير.
انظر الآن إلى الشباب في كل عطلة بإذن الله جل وعلا بفضل الله أين يتوجهون؟! إلى حلقات القرآن.
قبل ثلاث أو أربع سنوات لم نسمع في المساجد بحلقات لكتاب الله، أما اليوم أولياء الأمور حتى الذي لا يصلي يجبر ابنه على حفظ كتاب الله، تعال إلى هؤلاء؛ لأنهم جربوا فما وجدوا آمَن على أولادهم من هؤلاء الملتزمين.
إنه نصر لدين الله جل وعلا: (حتى لا يدع الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخل الله فيه هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل).
قبل سنوات مصلَّيات النساء في رمضان -إذا حضرن- صف أو صفين، الآن كل المساجد تشتكي من ضيق في مصليات النساء، ألا يدل على أن هناك من تعمل في وسط النساء بالدعوة إلى الله، بل مِنْهن كما أعلم مَن تحفظ كتاب الله كاملاً وطالبة للعلم وداعية إلى الله تفوق كثيراً من الرجال، أليس هذا نصر لدين الله جل وعلا؟!
أبشر يا عبد الله! إن الصحوة اليوم تتفجر في جميع الدول وفي جميع البلاد، اقرأ الجرائد، كل الدول الآن تنادي بالعودة إلى دين الله جل وعلا، جرَّبوا القومية، جرَّبوا الديمقراطية، جرَّبوا الماركسية، جرَّبوا جميع الدعوات والنعرات، فعلِموا أنها كلها خائبة ولا تحقق السعادة في الدنيا والآخرة، فإذا بهم يطالبون -حتى بعض غير الملتزمين ترى صورهم في الجرائد- بالحكم بما أنزل الله وبالعودة إلى دين الله.
من كان يظن يوماً من الأيام أن تركيا يحكمها رجل إسلامي كما يقولون، دعك مما عليه من سلبيات وغيرها؛ ولكن من كان يظن أن تركيا تصل إلى هذه الحال، تركيا التي تحارب فيها اللغة العربية، ويمنع فيها الأذان وليس فيها حلقة للقرآن، الآن تتفجر حلقات القرآن في كل مكان بفضل الله جل وعلا.
إنه دين الله يا عبد الله، لا تظن أن الدبابات والصواريخ النووية والكيماوية والسياسات والجيوش تقف أمام دين الله.
إذا كتب الله أن ينصر الدين ينصره: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21] بل إذا شاء الله يجبر على الاستقامة.
بل الله عز وجل لما نصر عبده الذي جاء يدعو قومه إلى الله من أقصى المدينة قتلوه، أتعرف ماذا قال الله جل وعلا لهذا الشاب الذي كان يدعو قومه إلى الخير فقتلوه، بعثه الله في الجنة فإذا به يقول: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27] وقال الله جل وعلا في نصرته: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} [يس:28] ما أنزل الله لأجله ملَكاً، لِمَ يا ربِّ؟! أليس هو عبدك؟! ألم يُقْتَل في سبيلك؟! ألم تذهب روحه لأجلك يا ربِّ؟! لِمَ لَمْ تنزل له ملائكة تقاتل؟! قال: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس:28 - 29] صيحة واحدة، فالأمر لا يحتاج إلى ملائكة ولا إلى جند تنزل من السماء، لا.
ما هي إلا صيحة واحدة فإذا بالقوم كلهم خامدون، ولا تسمع منهم صوتاً ولا حراكاً وهمساً.
فهي قوة الله جل وعلا، فاستعن بالله، وتوكل على الله، وابذل الأسباب.
لابد أن نحقق كلام الله جل وعلا، وندعو إلى الله بالتي هي أحسن، نأمر الناس بالمعروف، ننهى عن المنكر، ننشر كلام الله وأحاديث محمد صلى الله عليه وسلم بين الناس، نعظ الناس بالتي هي أحسن، أما النصر فهذا ليس من عندك ولا من عند أحد من الناس: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126] والله أعلم.(63/11)
وسائل دفع ضعف الإيمان
السؤال
أحس بضعف الإيمان، وزوجي رجل ملتزم بالدين، ودائماً يحثني على الالتزام، وعلى أن أحافظ على الصلاة؛ ولكني لا أهتم بكلامه، وخصوصاً عند صلاة الفجر يوقظني فأرده بعنف، فبماذا تنصحني جزاك الله خيراً؟
الجواب
اتقي الله، اتقي الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (والله لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا) ما هناك جنة بدون إيمان.
هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي بُشر بالجنة كان يسأل حذيفة: [أسَمَّاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المنافقين؟!] هل أنا اسمي موجود في سِجِل المنافقين؟!
عثمان رضي الله عنه يقول: [والله لو كنتُ بين الجنة والنار، ولا أدري إلى أيهما أصير، لتمنيت أن أكون رماداً] رماداً وهو مبشر بالجنة، اشترى الجنة ثلاث مرات، كان عثمان يبكي إذا ذُكِر له الموت والقبر.
هل تأمن هذه المرأة من النفاق؟! هل تأمن أن تُسْلَبَ الإيمان قبل الموت؟! هل تأمن لَمَّا تنام عن صلاة الفجر وتطلع الشمس ألا يقبض الله روحها؟!
من يأمن يا عباد الله؟! أليس هناك من الناس مَن قَبَض الله روحه وقد نام عن الصلاة؟! كثيرون، بل منهم مَن يموت هذه الأيام والأيام السابقة -كما ذكروا في الجرائد وتسمعون من أحاديث الناس- بسبب تعاطى جرعات زائدة من المخدرات! كيف يلقى الله جل وعلا؟!
هل يأمن هذا الإنسان وهذه المرأة هل تأمن أنها إذا فتحت التلفاز أن يقبض الله روحها وهي على هذه الحال؟! وما مات إنسان إلا بعث على ما مات عليه.
إذاً: فلتتقي الله جل وعلا، ولترجعي إلى كلام الله جل وعلا، ولتفتحي المصحف، فإن أفضل علاج لضعف الإيمان وأولى وأول علاج وأنجع علاج: كلام الله جل وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [الأنفال:2] لكن أي تلاوة؟ تلاوة التدبر، والفهم، والتعقل والاستشعار.
لَمَّا يقول الله: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَان} [الانفطار:6] مَن يُخاطب الربُّ؟! يُخاطبك أنت: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6] ما الذي غرك بربك؟! ما الذي غرك به يا عبد الله؟!
عندما يقرأ الإنسان: (يا أيها الذين آمنوا) يقف! ينتبه! ويستعد للرجوع إلى كتاب الله!
وكما قرأ الشيخ الفاضل قول الله جل وعلا: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان:30] متى يذكرونه؟!
يوم القيامة، أو إذا مات له ميت، أو إذا مرض له مريض، يقول: نذهب للشيخ يقرأ عليه، أما هل له ورد في الليل يقرأه، أو يقوم به آخر الليل، (مَن قام بعشر آيات لم يُكتب من الغافلين).
إذاً: علينا الرجوع إلى كتاب الله جل وعلا، وإحيائه في قلوبنا وفي بيوتنا.
والله أعلم.(63/12)
حكم استخدام السحر
السؤال
ما حكم الزوجة التي تهدد زوجها بالسحر، وأيضاً تقطع الرحم؟
الجواب
أما السحر فهو كفر، والله جل وعلا يقول: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْر} [البقرة:102].
وقال الله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102].
فالسحر كفر، فإذا شاءت المرأة أن تكفر بالله العظيم فالله جل وعلا يقول: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف:29].
جئت إلى رجل يصلي معنا حتى الفجر، يريد أن يذهب بابنه إلى ساحر دجال، قلت: ما الذي يدعوك لهذا؟! قال: لكل شيء سبب، وهذا هو علاج مرض ولدي، قلت: اتق الله.
وللأسف أنه يصلي معنا حتى الفجر.
بل كثير ممن يقرأ القرآن يغلق المصحف، ثم يذهب إلى هؤلاء المشعوذين والكهنة، للأسف.
وكما قال عليه الصلاة والسلام: (مَن أتى كاهناً أو عرافاً فسأله عن شيء، لم تُقبل له صلاة أربعين يوماً) أربعون يوماً وهو يُصلي كل يوم خمس صلوات، يعني: (40×5) = (200) صلاة، كلها تذهب في لمح البصر؛ لأنه سأله وقال: (فإن صدَّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) نسأل الله العافية.
إذاً: السحر كفر، بل هذه المرأة لعل الله عز وجل يعاقبها في الدنيا قبل الآخرة! وكم رأينا من الناس ممن يتعاطى السحر، ابتلاه الله عز وجل بالسحر، بل يقول كثير من أهل العلم: إن بيوت السحرة من أحقر البيوت، وحال الساحرين من أسوأ الأحوال.
لا تظن أنه -يا أخي الكريم- عندما يؤدي له الجن مطلبه أنه يرضى الجني بهذا الأمر، لا ليسو خدماً عنده، ولا يستعبدهم هو، ولكنه هو الذي يستجيب لهم قبل أن يستجيبوا له.
بعض الجن يجبر الساحر -أجلَّكم الله- أن يكتب آياتٍ تحت نعاله، ويدخل بها في الحمام.
وبعضهم يكتب القرآن بالنجاسات.
وبعضهم يقرأها بالمقلوب، استهزاءً بكلام الله.
وبعضهم يذبح لغير الله.
وبعض السحرة يأتي محارمه، بطلب منهم، نسأل الله العافية.
يا إخوة: السحرة حالهم لا يعلم به إلا الله جل وعلا، بل بعض من يحدثني ممن دخل إلى بيوت السحرة يقول: والله تجد الرائحة المنتنة من خارج البيت، يعيشون في قذر ووسخ، أتعرف لِمَه؟ لأنهم يتعاملون مع سفلة الجن، وسفلة الجن لا طعام لهم ولا شراب ولا ملذة إلا في هذه النجاسات والوساخات، ولهذا بعض السحرة يُروى عنه أنه لا يستنجي -أجلَّكم الله- ولا يغتسل من الجنابة أعاذنا الله.
إذاً: هذه حالهم، كيف نذهب إلى هؤلاء ونستنجد بهم؟!
ولم أر في حياتي أعظم فرية طبيب يداوي الناس وهو عليلُ
هو يريد من ينجيه من هذه الوساخات والنجاسات، والكفر بالله جل وعلا.
فلتتقي الله هذه المرأة، فهي في الحقيقة لا تهدد زوجها، وإنما هي تهدد دينها وإيمانها بالله جل وعلا، ولربما كتب الله عليها هذا الوزر وإن لم تسحر.
والله أعلم.(63/13)
حكم تارك الصلاة
السؤال
ما الحكم في من يخشون على أنفسهم المرض وهم يصلون، ولكن يصلون في البيت، وأيضاً ما حكم بعض الشباب الذين يتركون الصلوات تركاً كلياً؟
الجواب
يا أيها الأخ الكريم: الموضوع كان (البشارة العظيمة) انتبه! وقف معي! كم سنة سوف نعيش في الدنيا؟
متوسط الناس: الستين أو السبعين، أكثرهم ستين سنة.
أخي الكريم: أول عشر سنوات ذهبت من عمرك طفولة، ما تدري عنها شيئاً.
وآخر عشر سنوات شيخوخة، تنتقل من مستشفى إلى آخر، هذا أغلب الناس.
يبقى لك أربعون سنة يا عبد الله! إن كنت من أقل الناس نوماً فإنك ربع اليوم تنام، ست ساعات في اليوم الواحد.
فعشر سنوات ذهبت في النوم.
بقيت لك ثلاثون سنة، الثلاثون سنة هذه يا عبد الله بين نعيم وبؤس، وبين سعادة وشقاء.
هذه الدنيا يا عبد الله! {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] الصالح وغير الصالح، كل الناس في كبد، كل الناس يغدو، حتى ولو كان جالساً في البيت ويأتيه المال، لا بد أن يتعس، حتى أهل الملايين يشقَون في هذه الدنيا.
عبد الله! هذه الثلاثون سنة التي سوف تعيشها -بعد أن حسبناها- هل تقدَّر بوقوفك عند الله خمسين ألف سنة؟! {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ} [المعارج:4] اضربها في ألف! لو تعيش ألف سنة فما لها من قيمة أمام خمسون ألفاً ستقفها!
وكيف تقف؟! تقف حافي القدمين، والشمس على الرأس قدر ميل، والعرق يتصبب، ومنهم من يصل العرق إلى فمه، ومنهم من يلجمه العرق، هل تتَخَيَّلْ هذا يا عبد الله؟! هذا الرجل الذي وقف هذه الوقفة خمسين ألف سنة ماذا بعدها؟!
يذهبون إلى الأنبياء يشفعون لهم، حتى إن الكفار يقولون: يقضي بيننا الله بأي شيء! مللنا من الوقوف خمسين ألف سنة! فيقضي بهم الله جل وعلا، ولكن إلى أين؟ يأتي به الرب فينظر إليه، فأول ما يحاسَب به الصلاة، وهذا للمصلين، أما غير المصلين فقد انتهى أمرهم، فإنهم يحشرون مع فرعون وهامان وأمية بن خلف وصناديد الكفر.
هذا الذي لا يصلي؛ لأنه كافر بالله العظيم، هذا لا يحشر مع المؤمنين أصلاً.
أما المؤمنون فإنهم يأتون إلى الله جل وعلا، فأول ما يحاسب الله المؤمنين عن صلاتهم، ينظر كيف هي، خشوع، خضوع، أوقاتها، أركانها، واجباتها، فإن صَلُحَت الصلاة -أتَمَّها- صلح سائر العمل، أبشر! أبشر! يُتجاوز عنك فيما هو غير الصلاة.
وإن فَسَدَت صلاته -أعوذ بالله- مثل أن يصلي الفجر بعد شروق الشمس، والعصر ينقرها قبل المغرب، والمغرب ما يتذكر إلا قبل العشاء، ويجمع فيها صلاتان أو ثلاث، وإن فَسَدَت صلاته فَسَدَ سائر عمله، حتى قال عليه الصلاة والسلام -اسمع إلى هذا الحديث-: (فمن سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له -كيف تلقى الله جل وعلا بهذا الحديث- فلا صلاة له إلا بعذر من خوف أو مرض) حربٌ لا يستطيع أحد أن يخرج من البيت، أو مرض، ورجلٌ كبير في السن أُسْقِط في الفراش، أو مريض لا يستطيع الذهاب إلى المسجد، هذا معذور، أما غيره فلا يُعذر.
أراك تذهب إلى العمل وتسرع إلى المطاعم والمشارب، بل بعضهم يركض كل ليلة، ولكن يسمع النداء فلا يجيب، والله جل وعلا يقول: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43].
ثانياً: تَخَيَّلْ يا عبد الله! أنك تصلي في البيت سبعاً وعشرين سنة وحالك كمن صلى في المسجد سنة واحدة؛ لأنها بسبع وعشرين درجة.
عبد الله! الأمر ليس فيه مقارنة.
عبد الله! أنت إذا صليت في الجماعة اسمع إلى ما يكتب لك من أجر: (كل خطوة تأتيها من البيت إلى المسجد يكتب الله لك بها حسنة أو يحط بها عنك خطيئة) أما الذي يصلي في البيت أيُّ فضل؟ وأيُّ أجر؟ وأيُّ فضيلة يحصل عليها؟
فالله الله بالصلاة على وقتها، والله جل علا يقول: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59].
حافظ يا أخي الكريم على الصلوات، فهي عمود الإسلام، اجتهد في أمر صلاتك، لا تترخص فيها، حتى قال عمر: [أيها الناس لا حَظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة] هذا لا ينتمي إلى الإسلام هذا ولا يجب أن يَنْتَمي للمسلمين.
بل قال ابن مسعود: [لقد رأيتُنا -أي: في صلاة الجماعة- وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق] كان عندهم الذي يتخلف عن صلاة الجماعة منافق معلوم النفاق.
فالله الله في صلاة الجماعة يا عباد الله؛ حتى يُنال بها سنة نبيكم عليه الصلاة والسلام.(63/14)
حكم الدراسة للنساء
السؤال
يريد والداي أن يدرسا أختي -لعله يقصد جامعة أو نحو ذلك- وبعد ذلك يوظفانها، وأنا أعترض على ذلك، مع العلم أني خائف من كلامي وجدالي معهم؛ لأني لا أريد أن أغضبهم، فماذا أفعل؟
الجواب
هذا الكلام يحتاج إلى تفصيل:
فإن كانت الدراسة لا بأس بها، مثل: الثانوية المدارس ليس فيها منكر، وهذه الطالبة عندما تخرج متحجبة وملتزمة بدينها فإن شاء الله لا حرج؛ لأنه من بر الوالدين إذا كان في الدراسة خير.
أما العمل: فكل بحسبه: فإن كان العمل الذي سوف تدخل فيه شر وفسادً أو يؤدي إلى ما هو منكر محرم مثل: اختلاط بعض الموظفات في بعض اللجان، أو مقابلتهن لبعض المراجعين من الرجال، أو خروجهن من بيوتهن بغير إذن، أو تبرجهن في بعض الأماكن، أو غيرها من الأمور؛ إذا كانت وظيفتها تؤدي إلى منكر، فَسَدُّ الذرائع بعدم توظيفها.
والله والله بالنصيحة، انصح أختك، انصح والديك، فكم من الرجال اليوم يبكي الدم لأنه فرط في ابنته وعرضه.
كم من الرجال اليوم عندما يُتَّصل عليه ويقال له: قبضنا على ابنتك أو أختك في الشقة أو في ذلك المكان تسود الدنيا في وجهه، تَخَيَّلْ كيف يعيش على وجه الأرض! أم كيف يخفي رأسه! أم كيف يجلس مع الناس!
والله أيها الإخوة الكرام هذا الرجل الموت خير له من الحياة، وباطن الأرض خير له من ظاهرها لو سمع يوماً من الأيام أن ابنته قبض عليها مع فلان الفلاني.
بل نعلم أن بعض المصلين الغافلين مَن يترك ابنته ليس فقط تذهب للدوام والعمل، بل تذهب في بعض الكليات المختلطة من الصباح إلى آخر الليل، ومع مَن تذهب؟! لا يدري، مع مَن ترجع؟! لا يدري، أين تذهب هناك؟! لا يدري!
وأخبرني بعض شهود العيان، يقول: ينزلها أباها من السيارة عند الكلية ويذهب، ثم تركب مع واحد آخر.
وهذه أحاديث منتشرة وأخبار كثيرة.
أنت الآن أيها الأخ الكريم في مجتمع فيه شهوات، والبنت فيها شهوة، أما أنك تترك الحبل على الغارب وتترك الأمور هكذا ثقةً ببنتك فلا، وليست هذه ثقة بل هي غفلة أيها الإخوة.
هذه البنت الشابة التي رؤيت في إحدى المزارع عندما قُبِض عليها في الليل مع فتيات وشباب في منطقة قريبة عندنا، وأخبرني الضابط الذي كان يحقق في الأمر قال: سألناها: كيف خرجتِ من البيت؟ قالت: إن والدي يظنان أنني من أفضل النساء التزاماً وعفة وشرفاً.
يعني: كيف خرجتِ؟! قالت: قلت لهم: سوف أذهب إلى عرس لإحدى صديقاتي، وإذا بها تضحك على والديها، وتذهب إلى مكان آخر.
والله لا لوم عليها، ولكن اللوم الأكبر على والدها الغافل، وعلى أخيها الساذج.
تخرج البنت إلى عرس إلى آخر الليل، مع من؟! لوحدها؟! مصيبة! وماذا تلبس؟! المصيبة أعظم!
بعض الناس -للأسف- كما سمعنا عن بعض الرجال، وما أدري هل بقي شيء من رجولتهم؟! يسمح لبنته أن تسافر إلى بلاد أخرى غربية كافرة بدون محرم بحجة الدراسة، ويقول: هذه مهنة شريفة، وهن نساء شريفات، تذهب لتدرس هناك، وأنا أعرف بنتي، وأنا واثق منها، لن تفعل شيئاً -إن شاء الله- ولن يصيبها شيء، الله أكبر! وهل بنتك أشرف من الصحابيات؟! قال: (يا رسول الله! إني كنت أريد أن أذهب معك في غزو كذا وكذا، وزوجتي ذهبت حَاجَّةً، وليس معها محرم، قال: اذهب فحج معها) اترك الجهاد، اذهب فحج معها، وهل تأمَنْ عليها أكثر من الصحابيات؟!
انتبه! الأمر خطير، والمرأة إذا خرجت استشرفها الشيطان، فاحرص على حجابها وسترها، وإن كان ستراً لك.
فالله الله بالنصيحة، والله الله بالإكثار منها والانتباه لهذه الأمور، وليس عليك إلا التذكير، فهي مسئولية الوالد، ولعل الله عز وجل أن ينفع بنصيحتك ودعائك.(63/15)
أدنى أهل النار عذاباً
السؤال
يا شيخ: ما هي أدنى منزلة لأهل النار؟
الجواب
ذكرنا أدنى أهل الجنة منزلة، واسمع الآن إلى أدنى أهل النار منزلة، واترك أعلى أهل النار.
أما أدنى أهل النار منزلة فهو رجل توضع في رجليه جمرة واحدة من النار.
وتَخَيَّلْ الآن الجمرة وقد وضعت في رجلك! تحرقك، لكن تعرف ما الذي يحصل؟
انظر! الجمرة توضع في الرِّجل، أعلى مكان أو أبعد مكان عن هذه الجمرة ما هو في الجسم؟ الرأس، فعندما توضع في رجله يغلي دماغه، أرأيت الماء كيف يغلي داخل القدر، فإن الدماغ يغلي مثله، هذا والجمرة أبعد ما تكون عن الرأس، ما الذي تتَخَيَّلْ حصوله لبطنه؟! وماذا تتَخَيَّلْ أن يحصل لقدمه؟!
الأمر شديد! وهو يظن أنه أشد أهل النار عذاباً، وما يظن أن أحداً يتعذب أكثر منه.
هذا أدنى أهل النار عذاباً يا عبد الله!
ومساكين بعض الناس يقول: يا أخي أجلس قليلاً، ثم أخرج، ومن يضمن لك يا عبد الله؟! إذا كان مَن يقذف في النار يصل إلى قعرها بعد سبعون سنة: (وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم سبعين خريفاً).
نعم.
أبشر واحذر عقوبة الله جل وعلا! فلا تقل: الأمر بسيط، المهم أنني أدخل الجنة، لا يا عبد الله، اطلب من الله النجاة من النار، ومن سأل الله أو استعاذ بالله عز وجل من النار كل يوم ثلاثاً، قالت النار: اللهم أجره مني، اللهم أجره مني، اللهم أجره مني.(63/16)
للنساء قصص وعبر
هناك من النساء من يضرب بهن المثل في الصبر والجهاد والطاعة، وفي العصر الأول في الإسلام أمثلة كثيرة على ذلك، وهذا العصر أيضاً لا يخلو من إشراقات مضيئة لنساء حملن راية الإسلام، وقمن بدورهن خير قيام.(64/1)
قصة لعائشة أم المؤمنين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيتها الأخوات الكريمات: هذه سلسلة من الرسائل النسائية، أبدأها بالرسالة الأولى بعنوان: "قصص وعبر" وأسأل الله عزَّ وجل أن يكون لنا في هذه القصص عبرة، فإن من النساء، بل من الناس عموماً من تمر عليه القصص فلا يعتبر، والسعيد من اتعظ بغيره، نبدأ هذه القصص لا للتسلية، ولا لقضاء الأوقات، ولا للطرف، ولا للهزل، إنما نقص هذه القصص عبرة، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف:111] ويقول تعالى: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176].
فالله جلَّ وعلا قد ملأ القرآن بالقصص، لِمَ هذه القصص؟ قال الله جلَّ وعلا: {عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف:111] نبدأ هذه القصص، قصة قصة، ولعل في كل قصة فائدة وعبرة عظيمة، لكن تكفينا في بعضها الإشارة، وبعض التلميحات لها.
القصة الأولى:
إنها قصة عائشة، الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها، قال القاسم: كنت إذا غدوت بدأت ببيت عائشة فأسلم عليها، يقول: فدخلت عليها يوماً وهي تصلي وتقرأ قول الله عزَّ وجلَّ وتبكي: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] قال: فنظرت إليها وانتظرت، فأعادت الآية: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] قال: فانتظرت مرة ومرتين، فإذا بها تردد الآية وتبكي، قال: فطال عليّ المقام، فذهبت إلى السوق لأقضي حاجة لي، قال: فرجعت فإذا هي قائمة كما هي تبكي وتصلي وتقرأ القرآن.
تقول عائشة رضي الله عنها: [إنكم لن تلقوا الله عزَّ وجلَّ بشيء خير لكم من قلة الذنوب].
عند احتضارها، تلك الفقيهة العالمة العابدة، جاءها ابن عباس، وكان عندها عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، فقال لها: [إن ابن عباس يستأذن عليك، يريد الدخول -وتعلمن ما الذي حدث بينها وبين ابن عباس - فقالت: ما لي ولـ ابن عباس -وهي تحتضر- فاستأذن مرة أخرى فأذنت له فدخل، فلما دخل أثنى عليها خيراً وأخذ يطريها، ويكيل لها المدائح، فقالت: دعك عني يـ ابن عباس، دعك عني يـ ابن عباس، فوالذي نفسي بيده لوددت أني كنت نسياً منسياً] {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60].
زوجات النبي صلى الله عليه وسلم كانت إحداهن تربط حبلاً تتعلق فيه في قيام الليل، إذا تعبت تعلقت بالحبل، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (ما هذا؟ فأخبروه الخبر، قال: حلوه، ليصلِ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد، فإن الله لا يمل حتى تملوا).
أمة الله! سلي نفسك أين أنت من قيام الليل؟ أين أنتِ من قراءة القرآن؟ من العبادة، من الصيام والصدقة، من النوافل والطاعات، أين أنتِ من هذه كلها؟ ثم ماذا تقول عائشة: [لوددت أني كنت نسياً منسياً].
{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16].
سوف نقتصر في القصص -يا أمة الله- على النساء، ولما فتحت وقلبت الصفحات، واستمعت إلى العلماء والمشايخ رأيت أن في النساء أمثلة عجيبة، وأمثلة كثيرة غريبة، تفوق بعضها أمثلة الرجال.(64/2)
قصة أم سليم
إنها أم سليم، الرميصاء سهلة بن ملحان رضي الله عنها، خطبها أبو طلحة، فقالت له: [أما إني فيك لراغبة، ومثلك لا يرد، ولكنك كافر وأنا مسلمة]-الله أكبر! مَن مِن النساء تقول هذا الكلام أو مثله في هذا الزمان- قالت: [ولكنك كافر وأنا مسلمة، فإن تسلم فإسلامك مهري، ولا أريد منك مهراً].
في يوم حنين خرجت مع الرجال تداوي الجرحى -نحن من منا تسافر هذه السفرات؟ لا أريد منكِ أن تخرجي للجهاد يا أمة الله! إلا بضوابط الشرع، ولكن انظري إلى هذه المرأة أين تخرج؟ - تخرج تداوي الجرحى، وقد وضعت في بطنها خنجراً، وزوجها ينظر إليها ويبتسم، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ألا ترى يا رسول الله إلى أم سليم، وقد وضعت في بطنها خنجراً، فيبتسم ويتعجب منها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أم سليم! ما تفعلين بهذا الخنجر؟ قالت: يا رسول الله! إن دنا مني أحد، أقد به بطنه).
انظرن إلى الشجاعة! انظرن إلى قوة الإيمان! انظرن إلى التضحية في سبيل الله!
مرض لها ولد صغير، ويوماً من الأيام خرج زوجها للعمل، ولما كان خارجاً نظرت إلى ولدها وقد اشتد مرضه؛ فإذا به تفيض روحه، فهل ناحت؟ هل شقت جيباً؟ هل نتفت شعراً؟ هل دعت بدعوى الجاهلية؟ هل اعترضت على قدر الله؟ لا.
بل أخذته فغسلته وحنطته وكفنته ووضعته في جانب البيت، جاء زوجها في الليل، فجلس وتعشى، ثم قال لزوجته: كيف حال الصبي؟ قالت: هو بأهدأ حال، وما كذبت، فهي الصادقة رضي الله عنها، نعم هو بأهدأ حال لأنه ميت، ثم تزينت لزوجها وتطيبت، وجاءته في الليل، ونام معها، فلما أصبحت في الصباح أخبرته بالخبر، فغضب عليها ووجد عليها فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يذكر له الخبر، قال له: إن زوجتي فعلت كذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: (أعرستم البارحة؟ أي: جامعتها، قال: نعم.
قال: اللهم بارك لهما في ليلتهما) فكان أن رزقه الله عزَّ وجلَّ من الولد ما بارك الله عزَّ وجل فيهم.
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ} [البقرة:155] ولد يموت، أخ يموت، الأب يموت، الزوج يموت، الأم تموت، لكن ماذا نفعل: {وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155] يقول الله تعالى: (ليس لعبدي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا، ثم احتسبه إلا الجنة) إذا مات الولد، فماذا تفعلين يا أمة الله؟ البكاء لا بد منه، لكن هل تنوحين، أم تكونين كـ أم سليم التي صبرت، وَرَضيت بقدر الله، ولم تجزع، ولم ترد أمر الله عزَّ وجل، أم تفعلين كما تفعل الجاهليات؟!(64/3)
قصة امرأة فقدت ابنها
اسمعي إلى هذه العجوز وهي التي حدث لها مثل ما حدث لـ أم سليم:
يقول الأصمعي: أنه خرج وصديقه في البادية -وهذه قصة عجيبة غريبة- قال: فضللنا الطريق، فبحثنا عن مكان نأوي إليه، فرأينا ناراً من بعيد، فاتجهنا إلى هذه النار، فإذا امرأة عجوز، فقالت لنا: من أنتما؟ فقال الأصمعي ومن معه: ضللنا الطريق وأهلكنا الجوع، فرأينا النار فأقبلنا إليها، فبينما هم كذلك، إذ أقبل بعير عليه راكب، فنظرت هذه العجوز إلى هذا البعير، إنه بعير ابنها، أما الراكب فليس هو ابنها، فخافت، وأوجست في نفسها خيفة، فلما أقبل البعير عليه الرجل، قال: يا أم عقيل! السلام عليكِ، أعظم الله أجركِ في ولدكِ، فقالت: ويحك! أومات عقيل؟! فقال: نعم.
قالت: ما سبب موته؟ قال: ازدحمت عليه الإبل فرمت به في البئر، فقالت هذا المرأة العجوز: أيها الرجل! انزل، فنزل، فقربت إليه كبشاً، قالت: اذبحه، فذبحه ثم طبخت الطعام، وقربت إلى الأصمعي وصاحبه الطعام، يقول الأصمعي: فعجبنا منها! فلما فرغنا من الطعام قالت لنا، هل فيكم أحد يقرأ القرآن؟ قلنا: نعم.
قالت: اقرءوا عليّ آيات أتعزى بها بابني، فأخذا يقرءان عليها: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155] * {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156] * {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157] قالت العجوز: آلله قال هذا في كتابه؟ قال: نعم.
قالت: آلله قال هذا؟ قال: نعم.
قالت: صبراً جميلاً، وعند الله أحتسب عقيلاً، اللهم إني فعلت ما أمرتني به، فأنجز لي ما وعدتني.
ولو بقي أحد لأحد لبقي محمد لأمته.
نعم أيتها الأخوات و (إنما الصبر عند الصدمة الأولى) كيف حالكِ لو مات لكِ عزيز؟ أو مات لكِ قريب، أو كان الابن الوحيد لك ثم فارق الدنيا، ماذا تفعلين؟ نعم.
لا بأس من البكاء، ولكن إياك والنياحة! يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله عزَّ وجلَّ رأى، أو علم وهو العليم الحكيم أن رجلاً مات له عزيز، فقال لملائكته وهو أعلم به: ماذا قال عبدي؟ قالوا: يا رب! حمدك واسترجع، فقال للملائكة: ابنوا له بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد).
دع الأيام تفعل ما تشاء وطب نفساً إذا حكم القضاء
ولا تجزع لحادثة الليالي فما لحوادث الدنيا بقاء
ومن نزلت بساحته المنايا فلا أرض تقيه ولا سماء
{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ} [الحديد:22] موت ولد، أو موت قريب، أو عزيز، أو مرض، أو مصيبة: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [الحديد:22 - 23] تذكري أم سليم، وتذكري هذه العجوز: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:23].(64/4)
قصة أول شهيدة في الإسلام
إنها سمية بنت خياط - أم عمار - ما أظن أن امرأة تجهلها، إنها أول شهيدة في الإسلام، أسلمت فعلم بها أبو جهل فضربها، وصفعها، وجرها في الطرقات، وجاء بها وبزوجها وابنها عمار، أمام الناس يضربها العبيد - عبيد أبي جهل، يضربونهم ويعذبونهم، يأتي إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليهم- انظرن إلى المرأة كيف صبرت وجلدت، وكيف تحملت، تنظر إلى زوجها وابنها يعذبان، رآها النبي صلى الله عليه وسلم هي وزوجها وابنها، فقال لهم: (صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة) يخرج أبو جهل عليهم وهم يعذبون، ينظر إليها وهي تعذب، وتجلد، وتضرب وهي صابرة، ولا تقول إلا: أحد أحد، ربي الله وحده، ديني الإسلام، نبيي محمد، وهي تعذب أمام الناس، فجاء أبو جهل فاغتاظ من منظرها، وزمجر لما رآها، وأخذ رمحاً من عبيده وهي تعذب، فمر عليها، فانتزع الحربة ورماها في فرجها، فماتت فكانت أول شهيدة في الإسلام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].
بعض النساء تفتح الجريدة، فترى استهزاءً بالحجاب، أو سخرية من النقاب، أو ضحكاً على الملتزمات، قالت: وأنا لماذا أتعب نفسي؟ أرجع كما كنت أفضل لي، بعض النساء لا تتحمل كلمة من قريبة، أو استهزاءً من صديقة، أو بعض السخرية من النساء، ما إن تسمع كلمة استهزاءٍ إلا وتترك الحجاب والملتزمات، تقول: أعيش في راحة وهدوء أفضل لي من هذا التعب كله.
أيتها الأخوات: إن في هذا الزمان حرب وأي حرب على المرأة المسلمة؟! حرب على حجابها، حرب على عفتها، وعلى كرامتها.
رجل خبيث يصور في الجريدة في كاريكاتير له، صورة منقبة محجبة عفيفة طاهرة، يرسمها وعلى صدرها شعرة، وبجانبها امرأة سافرة، تقول هذه السافرة لهذه المحجبة، تقول: هذه الشعرة من لحية من؟ قاتلهم الله أنى يؤفكون!
أمة الله: هذا دور الصبر، هذا دور التحمل، هذا دور أن تتأسي بـ سمية رضي الله عنها، أول شهيدة في الإسلام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] هي سنة الله: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29].
هذا نوح يمر عليه الفجار الكفار: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38].
أمة الله: لا تغرنك تلك الكلمات، وتلك الاستهزاءات، وهذه الصرخات، وذلك النعيق والعواء، لا تغرنك هذه الزفرات، فإنما هي حرب لله ورسوله، واصبري واثبتي، ولتكن قدوتك هي أم عمار.(64/5)
قصة زوجة جليبيب
واسمعن إلى هذه القصة، التي لا أظن أن من النساء من تتحمل هذا الموقف في هذا الزمان: رجل صالح، لكنه دميم الخلقة، قبيح المنظر، يمر على النساء في أيام الصحابيات فلا أحد من النساء تقبل به، الرجل دميم، الناس يردونه، أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أصحابه فقال: يا رسول الله! إن الناس قد رفضوني، يا رسول الله زوجني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب إلى بيت فلان، واطرق عليهم الباب، وقل لهم: إن رسول الله يريد أن يزوج ابنتكم لي، فذهب وطرق الباب، ففتح الباب فقال: إن رسول الله يريد أن يزوج ابنتكم، ففرحوا، قالوا: رسول الله يريد أن يتزوج ابنتنا؟ -ظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يتزوج بها- فقال لهم: يريد أن يزوج البنت لي، فترددوا، فقالت الأم: أما كان أبو بكر؟ أما كان عمر؟ أما كان فلان؟ ما وجد إلا هذا؟ كأنها ترددت، وكأنها تلكأت، فسمعت البنت بالخبر، الآن هي في أمرين، وبين موقفين: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك المنظر القبيح الذي لا تتحمله، فقالت البنت: ما الخبر؟ فأخبرت أمها بالخبر، فقالت البنت لأمها ولأبيها: أتردان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أين تذهبان من قول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]؟ ادفعوني إليه فإن الله لن يضيعني، سمع النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر، فسر ودعا لهذه البنت، وفي ليلة الزفاف، قبل أن يدخل عليها سمع بمنادي الجهاد: يا خيل الله اركبي، حي على الجهاد، ففزع إلى الجهاد في سبيل الله، وفي أثناء المعركة، أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: أتفتقدون أحداً، قالوا: لا يا رسول الله، بحثوا عن القتلى، فقال لهم أتفتقدون أحداً؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: ولكني أفقد أخي جليبيباً، قال: فبحث عنه النبي صلى الله عليه وسلم بين القتلى، فوجده قد قتل سبعة من المشركين وقتلوه، فأخذه ووضعه بين ذراعيه، ثم مسح التراب والدم عن وجهه ثم قال: قتل سبعة من المشركين وقتلوه هذا مني وأنا منه هذا مني وأنا منه.
قال عليه الصلاة والسلام: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) من النساء في هذا الزمان من لا ترضى إلا بالزوج ذو المنظر الغربي، الذي شكله شكل الكفار، وقد يكون متساهلاً في المحرمات، يرضى بالتلفاز، ويرضى بالأغاني والمسلسلات، ويسمح لها بالذهاب يمنة ويسرة، وأن تعمل بين الرجال، وتفعل ما تريد سبحان الله! لا تريد زوجاً ملتزماً، وتقول: هذا سوف يضيق عليّ، ويمنعني من الخروج من البيت، وكل شيء عنده حرام.
فهذه المرأة تريد زوجاً بخيلاً إلا عليها، تريد رجلاً شجاعاً إلا عليها، تريد رجلاً إن قالت له: نعم؛ قال: نعم.
وإن قالت له: لا.
قال: لا.
لا تريد إلا هذا.
من منا ترضى بالزوج الصالح ولو كان فقيراً؟ من منا ترضى بزوج صالح مجاهد، لا يمكث معها إلا بضعة أشهر، وبقية العام في الجهاد، من منا ترضى بهذا الزوج: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:24].
انظرن ماذا قالت؟! قالت: كيف تردان أمر رسول الله؟ أين تذهبان من قول الله؟ لأنها كانت مستجيبة لله ولرسوله.(64/6)
قصة الخنساء واستشهاد أبنائها
وهذه القصة فيها من العبر ما فيها، وهي قصة الخنساء تلك الشاعرة، التي مات أخوها في الجاهلية فظلت سنوات تبكي عليه وترثيه بشعرها، لكن لما أسلمت تغيرت، ففي القادسية، وانظرن وتعجبن من هذه الموقف، وتخيلي أمة الله! أنك في هذا الموقف التي هي فيه! لو قال لك ابن في هذا الزمان: يا أماه! بعت نفسي لله، أريد أن أذهب إلى الجهاد، أريد الجنة يا أماه! كيف تردين عليه؟ أما هذه الأم فلها أربعة أبناء فقالت لهم: يا أبنائي! أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، وتعلمون ما أعده الله من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]، فيا أبنائي، اذهبوا إلى الجهاد.
وذهب أبناؤها الأربعة إلى الجهاد، فانتظرت الخبر، فإذا بالخبر يأتيها، قيل لها: إن أبناءك الأربعة كلهم قتلوا في سبيل الله، كلهم قد استشهدوا في سبيل الله، فماذا ستقول هذه المرأة؟ التي بكت على أخيها سنوات، ماذا تقول في أبنائها؟ قالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من الله أن يجمعني وإياهم في مستقر رحمته.
يا أمة الله! هل تربين أبناءك على الجهاد أم على الدعوة وطلب العلم، وعلى طاعة الله، ومراقبته جلَّ وعلا؟ أم ما الذي ربيت أبناءك عليه؟ في الصغر على أفلام الكرتون، وعلى الأغاني والمسلسلات، وعلى الأفلام والرقص، ثم إذا كبر شيئاً ما، على الملاهي، وعلى أماكن التبرج والاختلاط، ثم إذا كبر فعلى المطاعم والوجبات السريعة، يمكث ليله كله هناك.
وأي شيء يلبس؟ انظر إلى لباسهم، العجيب أن أمه محجبة ملتزمة، وأبوه لا يفارق المسجد، وهو يعطى من الأموال ما شاء، ويسهر الليالي أين شاء، ويسافر كيف يشاء، ويجلس مع من يشاء!
اسألي نفسك هل أرضعته حب طاعة الله؟ وهل عودته على حب الصلاة؟ وهل قرأ القرآن؟ أم ماذا يا أمة الله؟
إنها أم حرام، تستقبل بعد غزوة أحد الناس وقد شاع في الناس أن محمداً عليه الصلاة والسلام قد قتل، فجاءت تستقبل الناس، فلما استقبلت الناس قيل لها: إن أخاك قد قتل، وإن أباك قد قتل، وإن زوجك قد قتل، وإن ابنك قد قتل، كلهم قتلوا في غزوة أحد، فلم ترد عليهم، وقالت: وماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أربعة من أقرب الأقربين قد قتلوا، وهي تقول: ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فدلت عليه، فأخذت بناحية ثوبه، فقالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذا سلمت من العطب، لا أبالي إذا سلمت من العطب.
نعم إن المرأة هي مربية الأجيال، إن المرأة هي حاضنة الرجال.
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
أولئك الرجال الذين تربوا بحضن من؟ الإمام أحمد من ربته ومن علمته؟ إنها أمه رحمها الله كانت تذهب به إلى المسجد، فصار ابنها إمام أهل السنة والجماعة، شيخ الإسلام من ربته؟ الأئمة الأعلام من الذين ربوهم؟ يا أمة الله! اعقلي، إن عليك وبيديك أن تربي الرجال ليكونوا مجاهدين، وليكونوا علماء، وليكونوا دعاة إلى الله عزَّ وجل.
إن العلمانيين والمنافقين يثبطونك، خسئوا وتعسوا، يقولون: دورك الآن أن تكوني عضواً في مجلس الأمة، دورك الآن أن تخوضي مع الرجال، دورك الآن أن تخرجي من البيت، من هذا السجن، من هذه القيود، انفضي عنك الغبار، اقطعي هذا الحجاب، أحرقيه واخرجي بين الرجال، حتى قالت إحداهن: لمَ هذه القيود؟ لِمَ هذه القيود على المرأة؟ هل لأن الله ذكر وليس أنثى؟! نعوذ بالله من هذه الكلمات، وإلى آخر هذه المقولات من الفاجرات، من تلك النساء الغافلات.
أمة الله! لا تغرنكِ هذه الحرب الشعواء، فإنما أنت مربية الأجيال، وصانعة الرجال.(64/7)
قصة امرأة مراقبة لله جل وعلا في غياب زوجها
امرأة سافر زوجها للجهاد، وغاب عنها شهوراً طويلة، انتظرته فلم تتحمل -المرأة فيها شهوة وفيها رغبة للرجال- وانتظرت أياماً وشهوراً وطال عليها المقام، يتجول عمر في الليل ويتفقد الرعية، فإذا به يقترب من بيتها وكانت بيوتهم صغيرة، فسمع هذه المرأة تحدث نفسها لوحدها، فتقول شعراً -واسمعن إلى هذا الشعر-:
تطاول هذا الليل واسوَّد جانبه وأرقني ألا حبيب ألاعبه
فوالله لولا الله رباً أراقبه لحرك من هذا السرير جوانبه
{سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد:10].
الجهر بالقول والإسرار به في علم الله سواء، يا أمة الله! لا تظنين إذا خرج زوجك أنه لا يراقبك أحد، الإمام أحمد كان يحدث الناس يوماً فإذا به يغلق الكتاب ويدخل الغرفة، انتظروه ما خرج، أطال المقام، فاقترب أحد التلاميذ عند الباب فسمع الإمام أحمد يبكي، ويقول في نفسه شعراً:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن عليّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أنما تُخفي عليه يغيب
أمة الله: لا تظنين أن الزوج إذا غاب، فإن الله يغيب عنك: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7].
أمة الله: لا تظنين أنك إذا ذهبت إلى المطاعم، والحدائق، ودخلت عند الخياط يفصل الجسد، وينظر إليك وأنتِ تختلين به، أن الله لا يراكِ: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14].
إن من أعظم الإيمان أن المرأة تراقب الله عزَّ وجلَّ في السر والعلن، يقول عليه الصلاة والسلام: (يأتي أقوام من أمتي يوم القيامة، لهم أعمال كـ جبال تهامة بيضاً، يجعلها الله هباء منثوراً، قال ثوبان: صفهم لنا يا رسول الله! جلِّهم لنا، قال: هم قوم يصلون كما تصلون، ويقومون كما تقومون، لكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها).
إذا غاب الزوج، إذا غاب الأب، إذا غاب الأخ، ترفع الهاتف وتتكلم، مع من يا أمة الله؟! تظنين أن الله لا يسمع؟! تظنين أن الله عزَّ وجلَّ لا يرى؟! تظنين أنك لوحدك مع هذا الرجل تكلمينه؟! أو تنظرين إلى الأفلام والمسلسلات.
يا أمة الله! المراقبة المراقبة!(64/8)
قصة امرأة من بني إسرائيل
اسمعي إلى هذه القصة، قصة امرأة كانت من بغايا بني إسرائيل؛ هذه البغي كانت لا تمكن رجلاً إلا بمائة دينار، مرت يوماً من الأيام على عابد زاهد في صومعته فافتتن بها، فجاءها يطلبها، فأبت عليه، ومنعته إلا بمائة دينار، فترك الصومعة والعبادة، وأخذ يجمع المائة دينار، فلما جمع المائة طرق الباب عليها، فتح الباب فدخل، فتزينت له، وجلست على السرير، فلما اقترب منها قالت: هلم إليّ، هلم إليّ، فسقط جالساً وأخذ يبكي، قالت: مالك؟ ما بالك؟ هلم إليّ، فقال ذلك الرجل: ذكرت وقوفي بين يدي الله، فلم تحملني أعضائي لأقف، فأخذ يبكي، وأراد الخروج من البيت، وقالت له: قف، أطلب منك أن تتزوجني، قال: لا.
ولكن خذي المال، فخرج نادماً فجلست هذه المرأة وبكت، وأصلحت ما بينها وبين الله عزَّ وجلَّ، ثم رجعت إلى الله وتابت، ثم أخذت تبحث عن هذا الرجل، بحثت عنه فدلت عليه، فلما جاءت إلى بيته طرقت الباب، فلما فتح الباب، تذكر تلك الليلة الكئيبة، وذلك الموقف المشئوم، فشهق شهقة فمات منها وسقط على الأرض، فأخذت تبكي، فبحثت عن قريب له تتذكره به، فوجدت أخاه وكان رجلاً فقيراً عابداً زاهداً فتزوجته، وأنجبت منه سبعة من الأولاد الصالحين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:8].
إلى متى يا أمة الله تسمعين تلك الأغاني؟! إلى متى يا أمة الله تشاهدين تلك الأفلام والمسلسلات؟! إلى متى وهذه الصور الخليعات؟! إلى متى هذه الأماكن التي فيها الأغاني والاختلاط والسفور والتبرج والمنكرات؟! إلى متى هذه الأعراس التي فيها المنكرات؟! إلى متى يا أمة الله؟! إلى متى لا تستيقظين لصلاة الفجر إلا بعد طلوع الشمس؟! قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:70].(64/9)
الربا ومحقه للحياة الزوجية
اسمعن لهذا الموقف، وأطلب منكن أن تتخَيَّلْنَهُ، زوجة معها زوجها وابنتها الصغيرة التي تبلغ من العمر خمس سنوات تقول: كنا معاً في أطيب حال، وأهنأ بال، كنا زوجين سعيدين متعاونين على طاعة الله، تقول: عندنا القناعة والرضا، طفلتنا مصباح الدار، ضحكاتها تفتق الأزهار، إنها ريحانة تهتز، فإذا جن علينا الليل ونامت الصغيرة، قمت معه نسبح الله، يؤمني ويرتل القرآن ترتيلاً، وتصلي معنا الدموع في سكينة وخشوع، كأني أسمعها وهي تفيض قائلة: أنا إيمان فلان وفلانة، وذات يوم أردنا أن تكثر الفلوس التي معنا، اقترحت على زوجي أن نشتري أسهماً ربوية، لتكثر منها الأموال وندخرها للعيال، ووضعنا فيها كل ما نملك، حتى حلي الشبكة، ثم انخفضت أسهم السوق وأحسسنا بالهلكة، فشربنا من الهموم كأساً، وكثرت علينا الديون والتبعات، فعلمنا أن الله يمحق الربا ويربي الصدقات، وفي ليلة حزينة خلت فيها الخزينة، تشاجرت مع زوجي، فطلبت منه الطلاق، فصاح: أنتِ طالق، أنتِ طالق، تقول: فبكيت، وبكت الصغيرة، وعبر الدموع الجارية، تذكرت جيداً يوم أن جمعتنا الطاعة وفرقتنا المعصية: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].
ما أحلاها -يا أمة الله- أن تقومي الليل مع زوجك! ما أجملها -يا أمة الله- أن يضج البيت فجراً بالأصوات! هذا يقوم، وهذا يسبح، وهذا يبكي، وهذا يسجد، وهذا يركع!
ما أجملها -يا أمة الله- أن تجتمعي مع الزوج على قراءة القرآن! وعلى ذكر الله جلَّ وعلا، ما أجملها يا أمة الله!
انظرن إلى النساء في هذه الأزمنة، تقول لزوجها: انظر إلى فلان كيف أثث بيته، انظر إلى فلان ماذا اشترى لزوجته، انظر إلى فلان أين يسافر مع زوجته، يذهب بها إلى بلدة كذا، ودولة كذا، يسافرون كل سنة مرتين، لم لا تذهب بي إلى هذا المكان؟ إلى المسارح، إلى السينمات، إلى الملاهي، ماذا تريدين يا أمة الله؟! {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء:77].
تريدين الدنيا يا أمة الله! أم تريدين أن تجلسي مع زوجك على البساط، وعلى فراش واحد، تتقاسمين معه اللقمة، ثم تحفظينه في غيبته، ثم يأتيك وقد جاء بلقمة العيش، تجلسين معه لا ينظر إلى غيرك، ولا يعرف سواك، وأنت لا تعرفين إلا ذكر الله وطاعته، تجلسين معه على ذكر الله، وتنامين معه على طاعة الله، وتستيقظين معه على ذكر الله، يا أمة الله! اختاري لنفسك ما تشائين.(64/10)
قصص أخرى فيها عظة وعبرة
لمحات سريعة في هذا العصر، كم في هذا العصر من نساء صالحات، قانتات تائبات، عابدات، مصليات صائمات، سمعنا بنساء قد حفظن القرآن كله، وبنساء قد قرأن الصحاح من الكتب، وبنساء طالبات للعلم، وأخريات داعيات لله عزَّ وجل، وسمعنا بنساء قد أصلح الله بهن بيوتاً كاملة.
هذه امرأة، قد تزوجت رجلاً فكان عقيماً، صبرت معه، لم تطلب منه الطلاق حتى كبر في السن، وعجزت وشاب زوجها، فعمي بصره -تعرفن ماذا تفعل في هذا العصر؟ - هذه المرأة كانت تقوم كل ليلة مع زوجها، فإذا اقترب الفجر، تأخذ بيد زوجها وتسوقه إلى المسجد.
أمة الله: في هذا العصر امرأة أخرى يجرى لها عملية في عينها ثم تبكي، فيقال لها: لمَ تبكين وقد نجحت العملية؟ قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون! إنا لله وإنا إليه راجعون! بعد هذه السنين الطويلة يكشف وجهي رجل غريب، إنا لله وإنا إليه راجعون!
من النساء في هذه الأزمنة، لأجل جرح في إصبعها تكشف وجهها، ولأجل مرض لا يحتاج إلى كشف تكشف ما تشاء، وتتساهل في هذا.
أفغانية تجلس في كوخ مع زوجها وأولادها، يذهب إلى الجهاد شهراً طويلة، ثم يرجع أياماً يعطيهم قوت أشهرهم، ثم يرجع إلى الجهاد، وفي يوم من الأيام عندما رجع قالت له: أطلت المقام، لمَ لا تذهب إلى الجهاد؟ قال: لقد طال الجهاد، لقد سئمت الجهاد، لقد طال الأمر عليّ، سوف أجلس، فقالت له زوجته الصالحة: إذاً أعطني السلاح، وأعطني ملابسك، وخذ ملابسي، وسوف أذهب مكانك إلى الجهاد، واجلس أنت مكاني في البيت، لا مكان للرجال في هذه البيوت، اذهب إلى الجهاد في سبيل الله ولا تجلس مثل النساء في هذه البيوت.
إن حلقات القرآن للنساء قد امتلأت، وإن الدروس قد اكتظت بالنساء، وإن المصليات لتشتكي من ازدحام النساء، فالله أكبر أيتها النساء! إنه دينكن، إنه دوركن، إنه يومكن يا أيتها النساء، لما تكتب هذه الداعرة العاهرة العلمانية تستهزئ بالحجاب، أين قلمك؟ لِمَ تتكلم هذه في المجالس، أين لسانك؟ لم تدعو هذه إلى السفور وإلى التبرج، وإلى الفسق والفجور، أين دورك يا أمة الله؟ لمَ لا تدعين النساء إلى حلقات الذكر وقراءة القرآن؟ لم لا تعطيهن الشريط والكتيب الإسلامي، وتدعينهن إلى الله عزَّ وجل.
نعم يا أمة الله! إن هذه قصص لعل فيها بعض العبر، والله عزَّ وجلَّ جعل القصص للعبرة، والسعيد من اتعظ بغيره.
أقول قولي هذا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(64/11)
رسالة إلى مدمن
هذه رسالة موجهة إلى كل مدمن وقع في حبائل المخدرات، إلى شباب الأمة الذين كثر فيهم الإدمان وأصبح ظاهرة تطغى عليهم.
وفي هذه الرسالة بيان لهذه الظاهرة وعاقبتها وقصص وأخبار المدمنين.(65/1)
ظاهرة الإدمان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام: هذه رسالة موجهة إلى مدمن، ولعلكم تجدون في الحديث أسلوباً غير مباشر للحاضرين، لكن لعل السامع منكم أن يستفيد من كلماتي.
أيها الأخ الكريم: أوجه إليك هذه الكلمات يا من وقعت في حبائل المخدرات يا من بدأت تتعاطى؛ بل أصبحت مدمناً، أوجه إليك هذا الحديث، فارع لي سمعك، وتوقف معي دقائق، واستمع لي ولن تخسر شيئاً إن لم تستفد أمراً من كلامي.
لو سألت أكثر المدمنين في هذا الزمن، وأكثر المتعاطين للمخدرات: لِمَ تتعاطون المخدرات؟ ولِمَ أدمنتم عليها؟ ولِمَ وقعتم في حبالها؟ لأجابك أكثرهم: أبحث عن السعادة، أبحث عن الراحة، أريد الطمأنينة.
فلو سألته: هل وجدتها؟ أظن وأجزم بأن أكثر من تعمق في المخدرات وأدمن عليها سوف يجبك بهذه الإجابة ويقول: كلا، كلا والله لا زلت أبحث عنها.
عمَّ تبحث؟ أبحث عن هذه السعادة الموهومة.
جلست يوماًَ من الأيام أنصح شاباً سلم نفسه بجريمة قَتْل -قَتْل عمداً- قَتَل رجلاً ثم سلم نفسه، فلما جلستُ معه وأخذت أحدثه عن التوبة، وأخوفه بالله جل وعلا فيما فعل، قال لي: يا شيخ! ماذا تقول؟ أنا سبع سنوات مدمن للمخدرات، قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون! سبع سنوات وأنت مدمن للمخدرات؟ وانظر للنهاية قال: نعم يا شيخ! سبع سنوات وأنا مدمن لهذه المخدرات، قلت له: ماذا كنت تحس؟ قال: يا شيخ! وأنا أدمن وأتعاطى المخدرات أحس كأنني أطير في الهواء، قلت له: ثم ماذا؟ قال: ثم عذاب وألم وحسرة، يقول: وهكذا سبع سنوات لم تنته إلا بالقتل، وسلم نفسه ينتظر القصاص، أتعرف لماذا؟ لأن الله جل وعلا يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً} [طه:124] نعم يعيش، يأكل ويشرب ويلبس، ينام ويستيقظ، يمشي ويتحرك، يعيش، لكن انظر إلى عيشته: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] * {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى} [طه:125] السماء تفطرت، والأرض تزلزلت، والجبال نسفت، والبحار احترقت وسجرت، والقبور بعثرت، والوحوش حشرت، والولدان قد صارت رءوسهم شيباً، ويمشي هذا الرجل المسكين على صراط أدق من الشعر وأحد من السيف، وجهنم تلهب تحته، يقول: ربِّ إني أعمى، ويجوز الصراط وهو أعمى: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً} [طه:125] يعني في الدنيا، انظر للسبب: {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} [طه:126] أتذكر ذلك المجلس الذي سمعتَ فيه بعض الآيات؟ أتذكر ذلك الشريط الذي أهدي إليك فاستمعت إليه لكنك نسيت: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:126].(65/2)
عاقبة مدمن الخمر
أخي الكريم: تذكر وأنت تقدم على تعاطي تلك المخدرات، وتقدم على استقائها وعلى تجرعها تذكر يا أخي العزيز أنت تتعرض لغضب الرب جل وعلا، واعلم أنك لو مت وأنت على هذه الحال ما دخلت الجنة: (ثلاثة حرم الله عليهم الجنة منهم: مدمن الخمر) الخمر الذي يذهب العقل، ويتفرع عليه المخدر هذا الزمن.
تذكر يا أخي العزيز! وأنت تتجرع هذه المخدرات أن المصير في النهاية والخاتمة أنك تتجرع من ماءٍ صديد، قال تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} [إبراهيم:15 - 16] نهاية المخدرات والإدمان عذاب في الدنيا، ثم حسرة، ثم موت، ثم جهنم، قال تعالى: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم:16] قيح وصديد، تتشقق الجلود فتخرج قيحاً يتسابق أهل النار إليه ليأكلوه وليشربوه، قال تعالى: {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:17].
بل جاء في الحديث الصحيح: (أن شارب الخمر يُسقى من ردغة الخبال) عصارة أهل النار، يخرج بعضها من الجلود، ويخرج بعضها من الفروج، ويخرج بعضها من الأفواه، عصارة أهل النار يتسابق إليها شربة الخمر والمسكر والمخدر ليأكلوها وليشربوها، تذكر إن كنت من المتعاطين هذا المصير، قال تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان:43 - 44] {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} [الدخان:45] لما يأكلون منه تغلي البطون.
أرأيت القدر كيف يغلي بالماء؟ هكذا البطن يغلي ويفور من ذلك الطعام، قطرة من الزقوم لو سقطت على الدنيا لأفسدت الدنيا بما فيها، كيف بمن تكون طعامه؟! تذكر وأنت تقدم على هذه المعصية وذلك الإثم هذا المصير، قال تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ} [الدخان:43 - 47] يدفع دفعاً، الملائكة تدفعه إلى قعر جهنم: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الدخان:47] إلى قعر جهنم، {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} [الدخان:48] صبوا على رأسه عذاب الحميم، إذا صُبَّ على الرأس يدخل إلى المعدة ويقطع الأمعاء، إنا لله وإنا إليه راجعون! هل تعدل تلك الجلسات، وهذه الهلوسة، وتلك السهرات، وهذه الحبوب، ذلك العذاب؟!(65/3)
قصص وأخبار عن المدمنين
أخي الكريم: مدمن الخمر والمخدرات حاله في الدنيا عذاب وألم، وأظن أنك تستمع إلي الآن وتقول لي: يا شيخ! من قال لك؟ نحن نفرح ونتمتع، نحن نسعد ونلهو، نحن نطير في الهواء، أقول لك: كذبت ولم تصدق نفسك؛ فإن السعادة موهومة، أذكرك بتلك اللحظات التي تتقلب فيها على الفراش، أذكرك بوقت تكون فيه أنت لوحدك في غرفة مظلمة، تحس أن الدنيا قد ضاقت عليك بما رحبت، أذكرك لما نقصت عليك المادة ولم تحصل على بعض الحبوب كيف تألمت وكيف تتعذب، أذكرك يا أخي! وأنت تحاسب نفسك وتعاتبها ماذا تفعلين إذا قدمتِ على الجبار.(65/4)
قصة شاب أدمن المخدرات وصار يروجها
صليت المغرب يوماً فجاءني شاب قال لي: يا شيخ! أريد الحديث معك، قلت له: تفضل.
قال: لا.
عندي شخص آخر يريد أن يجلس معك، قلت: الآن؟ قال: لا بعد أن يخرج الناس، خرج الناس وبعد صلاة المغرب جلست معه في زاوية المسجد، جلست معه فإذا بالثاني يخرج لي هوية من جيبه نظرتُ إليها، قال لي: يا شيخ انظر إلى الصورة، نظرت إلى الصورة وأنا في المسجد، الصورة فيها وجه حسن، وجه جميل مضيء، والذي أمامي وجه مخيف مفزع، قبيح مظلم، قال لي: يا شيخ أنظرت إلى الصورة؟ قلت: نعم.
قال: هذا أنا، قلت: مستحيل.
قال: والله وأنا في بيت الله هذه الصورة صورتي.
قلت: يا أخي لا يوجد وجه للشبه أبداً، وما أحببتُ أن أخبرَه أن الصورة أجمل وأحسن بكثير من الوجه الذي أمامي، نور في الصورة وظلام أمامي، قلت له: حدثني عن خبرك.
قال لي: يا شيخ! كان لي رفقة عند بيتي، جئتهم يوماً من الأيام، أشرب معهم الشاي كالعادة، يقول: لكن الشاي لم يكن كالعادة، أحسست عند شربي للشاي بلذة، فجئتهم في اليوم الثاني أرجو أن أشرب نفس الشاي، وشربت منه في اليوم الثاني فأحسست بلذة أكبر، يقول: وكأن نفسي أصبحت خفيفة، وفي اليوم الثالث والرابع حتى أدمنت على شرب هذا الشاي، وأنا لا أدري ما الذي به.
وفي يوم من الأيام قدمتُ إليهم أسألهم عن هذا الشاي، قالوا لي: يا فلان! أتعرف ماذا بهذا الشاي؟ قلت: لا.
قالوا: به حبوب.
قلت: وما حبوب؟ قالوا: حبوب مخدرات.
قلت: الآن أنا لا أستطيع أن أتخلص منه؟!! ما الحل؟ قالوا: نعطيك منها، لا تخف فالحبوب متوفرة، قلت: أعطوني، قالوا: بالثمن -فأوقعوه الآن في حبالهم- قال لهم: ليس عندي أموال، قالوا: هذا ثمنها ابحث عن الأموال.
قلت له: من أين كنت تأتي بالمال؟ قال لي: يا شيخ! كنت أطلب من الوالدة والوالد وكانوا يعطوني في بادئ الأمر، ثم بدأت أسرق منهما، ثم بدأت أسرق من غيرهما، وأستدين وأسرق، قلت: إلى أي درجة؟ قال: قالوا لي يوماً من الأيام: إن أثقلتك الأموال فهناك طريقة أخرى.
قلت: وما هي هذه الطريقة؟ قالوا لي: تروج لنا المخدرات، أنت تروج ونحن نعطيك.
قال: كيف؟ قال: علموني الطريقة، يقول: بدأت أروج المخدرات وأنا لا أشعر، دخلت في وحل الترويج، قلت له: لم لا تتوب؟ قال: يا شيخ! جربت التوبة جربت أن أتوب، قلت: وما الذي منعك؟ قال: السلاح.
قلت: ماذا تقصد؟ قال: يهددوني بالقتل إن لم أستمر في هذا الترويج يقتلونني بالسلاح.(65/5)
حال الرفقة السيئة في النار
هذا الرجل إن استمر على حاله يُبعث عند الله جل وعلا، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:27 - 28] يا ليتني ما عرفتهم! يا ليتني ما جلست معهم! يا ليتني ما صاحبتهم! يا ليتني ما سلمت على فلان يوماً من الأيام! لكن ولات ساعة مندم! {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:28] يسميه عند الرب جل وعلا يقول: {لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:28] {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:29].
إذا دخل هذا الشاب وأمثاله إلى جهنم أتعرف ماذا يطلب من ربه؟ يقول يا رب لي طلب.
ما طلبه؟ {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} [فصلت:29] أي: يا رب أريد أن أرى ذلك الرجل الذي أعطاني الحبة أول مرة، وسقاني ذلك الكأس، وعلمني طريق المخدر، يا رب أريد أن أراه، في المحشر، إما في المحشر أو في جهنم يتمنى أن يراه.
أنظن أن يتمنى رؤيته ليصافحه؟ ليصادقه؟ ليعانقه بعد فراق طويل؟ لا.
اسمع لما يطلب رؤيته يوم القيامة: {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا} [فصلت:29] أطأ عليهما برجلي، لمه؟ {لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} [فصلت:29].
ولكن كل هذا لا ينفع، طالما جاءك الصالحون، وأعطوك الشريط، وأهدوك تلك الكلمات، ونصحوك تلك النصائح، ولكنك عصيتَ واستكبرتَ وأبيت إلا أن تستمر مع هؤلاء: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38] إلى أين؟ إلى جهنم كلما دخل رجل لعن صاحبه: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} [الأعراف:38] يقول في جهنم: يا رب هؤلاء الذين دلوني على تلك المجالس، وهذه الأماكن، وتلك المستنقعات يا رب هؤلاء الذين أعطوني هذه الحبوب، وعرفوني ذلك الطريق يا رب: {فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38] يا رب ضاعف لهم العذاب في النار، فيقول الرب: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38] أتظن أخي الكريم أن القضية تنتهي عند حبة وتقف، لا.
القضية أكبر وأدهى وأمر، الحبة هي الخطوة الأولى، وهي بداية الطريق إلى الإدمان، وإلا فالطريق مظلم وموحش.(65/6)
قصة شاب مات من الإدمان حتى انفجر مخه
رأيتُ صورة من الصور عرضها أحد المشايخ الفضلاء لشاب مات أثناء إدمانه، ولعلك وأنت تسمعني تعرف هذه الحقيقة التي يحتاج إليها الإنسان كل يوم، يحتاج أن يزيد ويزيد حتى يصل إلى حد يقتُل الإنسان، وكم نسمع في الأخبار أن شاباً وُجِدت جثته في مزبلة، وآخر في محرقة، وثالث رمي في المسجد، ورابع عند المستشفى، وخامس قبل شهر مقتول ومرمي في الصحراء، وسادس وسابع، وإحصائيات القتلى تزداد يوماً بعد يوم، لا تقل: لا.
أنا أضمن نفسي.
لا تقل: لا.
أنا سوف أتوب قبل الموت، وما يدريك! يذهب عقلك ثم تسقط على الأرض وتفارق الدنيا.
أحدثكم عن الصورة التي رأيتُ، أتعرفون كيف مات هذا الشاب؟
هذا الشاب أيها الأخ العزيز! وهو يتعاطى المخدرات، وزاد في جرعة الإدمان والتعاطي سقط على الأرض وأحس بألم، وتأثَّر حتى انفجر مُخُّهُ وبدأ يسيل مخه من أنفه، ورأيته بالصورة، انظر كيف تعذب في الدنيا قبل الآخرة، إن رأيتَ المنظر لا تتحمل، إن رأيت شكله لعلك لا تطيق طعاماً بعده، أتعرف لماذا؟ {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124].(65/7)
قصة شاب مات في غرفته من المخدرات
وآخر رأيتُ صورته جالس في شقته في غرفته، وكان يتعاطى المخدرات حاله حال المتعاطين المدمنين، ولكنه زاد في الجرعة شيئاً ما، يريد أن يتلذذ وأن يشعر بتلك السعادة، فإذا به يتعاطى جرعة زائدة، فإذا به يموت في غرفته، ما شعر به أحد، ما صلى عليه أحد، ما دفنه أحد، ظل أياماً في غرفته ميتاً، أنتنت الجيفة، أتعرف كيف عرفوا قصته ودروا بخبره؟ وجدوا رائحة منتنة تخرج من الغرفة، والذباب قد تجمع على الباب، كسروا الباب، فإذا بهذه الجثة التي ظلت أياماً، النمل يأكلها من كل جانب، رأيت المنظر بعيني أيها الإخوة، منظر ما أقبحه، بهيئة الساجد على أدوات المخدر، والنمل يأكله من كل جانب، أعوذ بالله من تلك الميتة.
أرأيت إلى خاتمتهم! هل هذا عاش بسعادة كان يرجوها؟! أين السعادة؟! أين النعيم؟! يا مسكين يا من تبكي الليالي والأيام اجلس مع بعض الصالحين، حدث بعض الأخيار الذين يبكون في الصلاة، ويقرءون القرآن، ويذهبون للعمرة قل لهم: هل وجدتم تلك السعادة التي أبحث عنها؟! أتعرف ماذا يقولون لك؟ يقولون لك: لو كان أهل الجنة في مثل ما نحن فيه إنهم والله لفي عيش طيب، {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] تقول أنا ضامن نفسي إن شاء الله لن أموت وأنا أتعاطى المخدر، اسمع لإحصائية وزارة الداخلية: أكثر من ألف وتسعين شخصاً ماتوا بسبب المخدرات في الكويت، فما الذي يضمن أنك لا تكون أحد الأرقام القادمة؟(65/8)
تعاطي المخدرات يفقد العقل والصواب
أخي الكريم: إن كثيراً من المتعاطين يفقد عقله فيفعل ما لا يفعله أي عاقل، بل لو كان يدري عن نفسه لقتل نفسه قبل أن يفعل هذه الفعلة، وكم سمعنا مِن أخبار متعاطيي المخدرات مَن أتى محارمه.(65/9)
قصة شاب أدمن المخدرات فتعرض لأمه يريد هتك عرضها
واسمع يا رعاك الله، واسمع فتح الله قلبك للإيمان، اسمع إلى قصة هذا المدمن الذي كان شاباً صغيراً لم يعرف شيئاً عن الإدمان يوماً من الأيام.
توفي أبوه فرعته أمه، وكانت تعطيه بعض المال ليبحث عن حرفة له ليشتغل بها، كانت تبحث له عن السعادة، هذا الشاب تعرف على رفقة سيئة، بدأ يدمن معهم التدخين ثم المخدرات؛ وقع في ذلك الوحل وأمه لا تدري، دخلت عليه يوماً من الأيام في الغرفة فإذا بها تجده في وضع غريب، يشرب دخاناً ليس كالدخان الذي تعرفه؛ عرفت الخبر ونصحته، وذكرته بالله وخوفته بيوم القيامة، وبالنار والقبر لكنه ما خاف من عذاب الله جل وعلا، جاءها يوماً من الأيام؛ طلب منها المال فأعطته المال، يوم ثانٍ قالت له: يا بني لا أعطيك المال وأنت على هذه الحال، تب إلى الله ثم أعطيك من المال، قال: تعطينني رغماً عنكِ، بدأ الآن، وأنتم تعرفون أن صاحب المخدرات المدمن إذا انقطع عن الإدمان لا يحس بنفسه، ويصبح كالوحش المفترس، جاءها يوماً من الأيام قال: أعطيني، قالت: لا أعطيك، ضربها وأخذ ذهبها وباعه واشترى به المخدر، بكت أمه عذاباً وحسرة وألماً.
أيها المدمن: تذكر هذه الأم المسكينة التي خلَّفتها في البيت وهي تبكي عليك، تذكر كم كانت ترعاك! وكم كانت تسهر على رعايتك! كم كانت تفرح وتتمنى أن تكون مثل فلان الطبيب! وفلان المهندس! وفلان الداعية! وفلان المصلي! وذلك الراكع الساجد! كانت تسمع أخبار جاراتها: هذا ولد لها حفظ القرآن! وآخر ذهب إلى العمرة! وثالث يدعو إلى الله! ورابع صار طبيباً! والآخر صار مهندساً! وهذا يدرس الناس في المدارس!
أما أنت تذكر واعلم أن أمك تبكي عليك دماً وأنت لا تدري.
جاءها يوماً من الأيام وقد فقد عقله، دخل على أمه في الغرفة، قال لها: تعطيني أموالاً أريد أن أشتري، قالت له: لا أعطيك، أخذ يضربها، قالت له: ماذا تريد؟ أتعرف ماذا كان يريد في تلك الحال؟ وأُجِلُّ المسجد من هذه الحكاية ولكن لا بد من إخبارك بها، فَقَدَ صوابه، أراد أن يهتك عرض أمه، واسمحوا لي في رواية القصة، فإن المجتمعات مليئة بهذه القصص، حاول أن يعتدي على أمه، مزق ثيابها، هربت أمه من البيت وهي تبكي ولا تدري أين تسير، توجهت إلى بيت ابنتها المتزوجة دخلت وثيابها ممزقة، ماذا أقول لابنتي؟ ماذا أقول لزوجها؟ دخلت وهي تقول لهم: دخل علينا لص البيت وأراد أن يسرق الأموال، فهربت ولجأت إليكما، كذبتْ عليهما.
وفي الصباح أخبرت ابنتها بالخبر الصحيح، ظلت أياماً في بيت ابنتها لم ترجع إلى البيت، بعد أيام قالت لابنتها: نرجع إلى البيت، رحمت ابنها، وعطفت على الولد، لأن الأم لا تنسى ولدها مهما كان، رجعت إلى البيت هي وابنتها، فإذا بالبيت قد بِيْع أثاثه وأجهزته كلها، باع الولد كل ما في البيت ليشتري بعض الحبوب، أرأيت نهاية التعاطي والإدمان؟
اسمع! لم تنتهِ القصة، هذه الأم دخلت وجلست تبكي على حال ابنها، وفي لحظة من اللحظات دخل الابن إلى الشقة فإذا به يجد أمه وأخته وابنة أخته الصغيرة، دخل على أمه يحاول أن يضربها على ما فعلت به، قال: أعطوني الآن من المال، قالت الأم: لا نعطيك شيئاً، قال: الآن أنا محتاج إلى المال أريد أن أشتري، قالت: والله لا نعطيك، فإذا به يحاول الاعتداء على أخته ويهدد أمه، إما أن تعطيني شيئاً من المال وإلا اعتديت عليها، بكت أمه، صاحت، استغاثت، استنجدت، وأخذ يضرب أخته حتى يواقعها، مزق ثيابها، والأم المسكينة لا تدري ماذا تفعل، ابنها أو ابنتها، أو العار أو الفضيحة، أخذت تتصارع الأم في قلبها، ماذا تفعل! والبنت الصغيرة تنظر إلى أمها وتبكي ماذا يفعل خالها؟ ماذا يفعل بأمها؟! فما كان من الأم إلا أن ذهبت إلى المطبخ وأخذت سكيناً وهي تصارع نفسها، والولد قد فقد وعيه لا يدري ماذا يفعل، فجاءت الأم إلى ابنها فلذة كبدها وطعنته عدة طعنات وأخته تنظر والبنت الصغيرة تنظر، ما الذي جرى بعد ثوان معدودة، والغرفة تسيل بالدماء، الرجل مات، أخته ممزقة الثياب، البنت الصغيرة تبكي، الأم منطرحة على الفراش، تبكي، مأساة وأي مأساة!
أيها المدمن: انتبه! انتبه! فإنك تضيع نفسك وأهلك، وكثير منهم باع عرضه وأرغم زوجته على وحل الدعارة؛ لتقبض بعض الأموال فيأتي بالمخدرات.(65/10)
التوبة إلى الله هي الحل والنجاة من الإدمان
أيها الأخ الكريم: أتعرف ما النجاة؟ إنها في قول الله جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
أيها الأخ العزيز: أقبل على الله جل وعلا، لا تقل لا أستطيع ولا أتحمل.
في يومٍ من الأيام بعد محاضرة كانت لي جاءني شاب بعد المحاضرة حسن الوجه، مضيء الوجه، مطلق اللحية، مقصر الإزار عليه سِيما الصلاح، فقال لي: يا شيخ أريد أن تذهب معي إلى مكان.
قلت له: وأي مكان؟ قال: مكان فيه أهل مخدرات قلت: ولِمَ؟ ولِمَ؟ ولِمَ أنت الذي ترسلني إلى هذا المكان؟ قال لي: يا شيخ أنا الذي أمامك كنت يوماً من الأيام مدمناً للمخدرات، يقول: كنت يومياً أتعاطى المخدرات ولا أستطيع الخلاص منها، قلت له: الآن؟ قال: والآن الحمد لله أدعو إلى الله جل وعلا، أقرأ القرآن، أحضر حلق العلم، أحضر مع الصالحين، أجلس معهم، أبر والدي، قلت له: الآن أنت سعيد أم الماضي؟ قال: يا شيخ! ما أحسست بالسعادة إلا هذه الأيام التي توجهت فيها إلى الله جل وعلا، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] تريد الهداية؟ تريد التوبة؟ تريد صفحة جديدة بينك وبين الله؟ {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] قاطع تلك المجالس وفارق تلك الصحبة، أقبل على الصالحين واجلس معهم، قل لهم: إني أقبلت على الله جل وعلا فدلوني وخذوا بيدي، قم آخر الليل، وصلِّ ركعتين في السحر؛ فإن الرب ينزل ويقول: (هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟) صلِّ ركعتين في السحر وأقبل على الله واسجد بين يديه، ثم لتدمع تلك العينان؛ لعل الله أن يغسل ذنوبك.
يا نفس توبي فإن الموت قد حانا واعصي الهوى فالهوى ما زال فتانا
أما ترين المنايا كيف تلقطنا لقطاً فتُلْحِق أخرانا بأولانا
أما تذكر يوم رفعت سماعة الهاتف وقيل لك: أتعرف فلاناً؟ نعم فلان.
الذي كان معنا في الدواوين والشوارع، وفي الدراسة، أتذكره جيداً؟ نعم أذكره جيداً، قبل أيام كنتُ معه.
فيقول لك: مات في حادث سيارة، انقلب بها وفارق الدنيا، إنا لله وإنا إليه راجعون.
أما ترين المنايا كيف تلقطنا لقطاً فتُلْحِق أخرانا بأولانا
وفي كل يوم لنا ميْت نشيعه نرى بمصرعه آثار موتانا
أقبل على الله جل وعلا، تعرَّف على الصالحين، افتح كتاب الله تبارك وتعالى لتكن همتك عالية.
أما هذه الهمة، همة الحبوب والتعاطي والإدمان فأنت تعرفها، إنها همة ما أخسها! وما أقذرها! وما أنجسها!
لتكن همتك أن تضحي بهذا الجسد الذي طالما تعاطى ذلك المخدر في سبيل الله جل وعلا، همتك همتك -يا أخي العزيز- ألا تموت إلا شهيداً في سبيل الله.(65/11)
قصة عبد الله بن حذافة السهمي مع ملك الروم
اسمع إلى هذا الشاب الذي ابتلي في دينه، وانظر إلى همته، إنه عبد الله بن حذافة؛ كان أميراً لسرية؛ وأنا أقص عليك هذه القصة لترفع همتك أيها الشاب، ولتترك هذا المرض المظلم، ولتقبل على الله جل وعلا بهمة تناطح الجبال.
هذا الشاب كان يقود سرية المسلمين، فقبض نصارى الروم على المسلمين وكان فيهم عبد الله قائدهم، وجاء ملك الروم إلى عبد الله بن حذافة وقال له: أتريد أن ترجع إلى أهلك؟ قال: نعم.
قال: أشاطرك نصف ملكي بشرط واحد.
قال: ما هو؟ قال: أن تتنصر وتغير دينك من الإسلام إلى النصرانية؛ فضحك عبد الله بن حذافة وقال: [والله لو أعطيتني الدنيا بما فيها على أن أترك هذا الدين طرفة عين ما تركته، قال الملك: ادخلوه السجن] ويدخلون عليه امرأة من أجمل النساء، وتجملت أمامه، وحاولت أن تفتنه، فإذا بها تخرج بعد زمن وتقول للملك: " لا أدري أأدخلوني على بشر أم حجر! لا أدري أأنا أنثى أم ذكر " تقول: لم يلتفت إليَّ طرفة عين، فغضب الملك.
انظر إلى الصبر على الدين، انظر إلى لذة الطاعة، جيء بالقدور وأحميت، ووضع فيها الزيت وتحته النار تشتعل، والزيت يغلي، فجيء بـ عبد الله بن حذافة وبصاحب له من أصحابه فإذا به ينزل حياً في قدر، في الزيت الذي يغلي، فاحترق حتى طفحت عظامه وشوي جلده، ونظر عبد الله، وقال الملك: الآن دورك، بكى عبد الله، فقال له الملك: خفتَ الآن قال: [لا.
والله ما خفت ولكن صاحبي هذا كان ينافسني دوماً في طاعة الله، أما الآن فقد سبقني إلى الجنة يا ليتني كنت مكانه، يا ليتني كنت مكانه، والله الذي لا إله غيره لو كان عندي أرواحاً بعدد شعرات جسمي لتمنيت أن تخرج كلها في سبيل الله] قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23].
أرأيت صاحب الهمة العالية يتقلب على الفراش، ويحلم أن هذه الرقبة تطير في سبيل الله.
ستقول لي: يا شيخ! هذا في الأزمان الماضية، أما اليوم فمستحيل.
أحدثك بقصة في هذا الزمن(65/12)
قصة شاب أدمن وتاب ليكون من المجاهدين
شاب مولع بالأغاني والطرب، والنساء والمخدرات والخمور، كل معصية في الدنيا ارتكبها لا تخطر على باله معصية إلا وقد فعلها، يقول الشاب عن نفسه: ضاقت علي الأرض بما رحبت، مللت الحياة.
وتتعجب عندما تسمع أن أعلى نسبة انتحار في الدول المتقدمة، يشنق الواحد نفسه، يقطع شرايينه بالموس؛ لينزل الدم ثم يموت، يرمي نفسه من أعلى عمارة، يضع مسدساً على رأسه فيطلق طلقة يموت منها.
ما السبب؟
يقول الشاب: ضاقت علي الأرض بما رحبت، قال الله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] يقول: خرجت من البيت وسافرت لا أدري أين أذهب، فخطر على بالي أن أذهب لأخي في بلد أخرى، دخلت وطرقت الباب على أخي -وكان أخوه صالحاً- قال أخوه: ما الذي جاء بك؟ قال: يا أخي مللتُ الدنيا، مللتُ الحياة، جئتك أمتع نفسي، قال أخوه: تفضل في البيت، يقول أخوه: نام تلك الليلة، وفي الفجر جاء رجل يوقظهم للصلاة، وعادته كل يوم كان أن يوقظ أهل البيت؛ يا أهل البيت صلاة الفجر صلاة الفجر، فقام الشاب فزعاً قال: ماذا تريد؟ قال: صلاة الفجر، قال: دعني، فأنا لا أصلي أصلاً، قال: أعوذ بالله، قال: اتركني أنا لا أصلي، قال: لِمَ لا تصلي ألست بمسلم؟! جرِّبِ الصلاة مرة، يقول: فذهب الرجل، وجلس هذا يفكر على الفراش ويردد في ذهنه: جرِّبِ الصلاة مرة يقول: فقام الشاب واغتسل من جنابة، ثم ذهب إلى المسجد، فإذا به يصلي، ثم يرجع إلى البيت يقول لأخيه: يا أخي وجدتها، قال: ماذا وجدت؟ قال: وجدت السعادة، قال: أين؟ قال: وجدتها في الصلاة، وجدتها في السجود، وجدتها في الركوع، قال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22].
قال الشاب: بعد أيام جلستُ عند أخي وسوف أرجع إلى أمي، قال له: ارجع، يقول: ذهب إلى أمه وطرق الباب، قالت أمه: ما الذي جاء بك مسرعاً هذه المرة، قال: يا أماه وجدت السعادة في الصلاة، وفي القرآن، وفي العبادة، فرحت أمه، وظل أياماً مع أمه ثم قال: يا أماه أريد السفر، قالت له: إلى أين يا بني؟ قال لها: يا أماه أريد أن أذهب إلى الجهاد في سبيل الله، قالت أمه: لِمَه؟ قال: يا أماه! جسدي طالما عصى الله جل وعلا، وأريد أن أضحي بهذا الجسد لله عز وجل، قالت أمه: ما منعتك وأنت تسافر للمعصية أفأمنعك وأنت تسافر للطاعة، اذهب يا بني، فذهب للجهاد، وتدرب، ثم دخل في المعركة، وفي ذات اليوم حمل السلاح وبجنبه صاحب له، حميت المعركة واشتدت، فأصيب صاحبه بشظية، فحمَله ليسعفه لكنه استشهد في ذلك الموقع، فحَفَرَ القبر لصاحبه، وأنزل صاحبه في القبر، لم يغسله، ولم يكفنه، وهكذا الشهيد؛ يبعث عند الله وجرحه يَثْعُبُ دماً في المحشر، اللون لون الدم والريح ريح المسك، أنزل صاحبه في القبر ولم يدفنه، قال: اللهم إني أسألك أن لا تغرب شمس هذا اليوم إلا وقد قبلتني شهيداً في سبيلك، فلما أنزل صاحبه اشتدت المعركة مرة ثانية، وأسرع إلى سلاحه وتقدم في المعركة يخوضها ويقبل بصدره في القتال، وبعد لحظات، إذا به يفارق الحياة الدنيا ويُدفن في القبر الذي حفره مع صاحبه، قال الله: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].(65/13)
رسالة إلى مدمن
إني سائلك أن تفكر في هذه الكلمات، وأن تكثر التفكير فيها لا تنَمْ هذه الليلة إلا وأنت تفكر في كل كلمة قلتُها، إن الإدمان نهايته عذاب في الدنيا وخاتمة سوء، ثم عذاب في القبر، ثم وقوف بين يدي الجبار، ثم الزقوم والحميم.
وتذكر أنك إذا تبت إلى الله جل وعلا فسعادة في الدنيا، ثم قصور في الجنة، نهر من لبن، نهر من عسل، نهر من خمر، تقول لي: لا أتحمل، أقول لك: اصبر لله جل وعلا حتى تسمع تلك الكلمات عند أبواب الجنان، تقول لك الملائكة: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24] الصبر، الصبر يا أخي الكريم، فارق تلك الصحبة، أقبل على الله جل وعلا، اشغل فراغك بقراءة القرآن، بالدعوة إلى الله، بالعلم النافع، بصلة الأرحام، ببر الوالدين، اشغل وقتك بما ينفعك عند الله جل وعلا، واعلم أنك إذا تبت فإن النهاية: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} [الإنسان:12] * {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً} [الإنسان:13].
وقبل أن أختم حديثي لي وإياك لقاء ليس على هذه الأرض، قد تكون على هذه الأرض؛ ولكن أنا على يقين بأننا سوف نلتقي يوم القيامة، إما أن نتخاصم عند الله جل وعلا، وإما أن نكون تحت ظل عرش الرحمن تبارك وتعالى، فاختر لنفسك أي الطريقين: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] سوف نلتقي يوم القيامة، فإن تخاصمنا فلعلك تقول: يا رب ما جاءني من نذير، فأقبل على الله جل وعلا، فأقول: بلى يا رب سمع حديثي من ذلك الجهاز وبهذا الشريط، سمع كلامي وتلوتُ عليه آياتك وأحاديث رسولك، وحذرته من ذلك المصير لكنه أبى، أو تأتيني يوم القيامة تحت ظل عرش الرحمن فتقول لي: يا شيخ أتذكر تلك المحاضرة فأقول لك: وأي محاضرة؟ تقول لي: يا شيخ أتذكر محاضرة (رسالة إلى مدمن) أقول لك: لعلي أذكرها، تقول لي: يا شيخ والله ما إن سمعتها إلا وبدأت صفحة جديدة مع الله، كانت البداية صعبة لكن الله عز وجل أعانني: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] يا شيخ! أقبلت على الله فإذا بالرب جل وعلا يُقبِل علي، أصبحت أقرأ القرآن، وحفظته في عدة شهور، صرت داعياً إلى الله تبارك وتعالى، تعرفت على الصالحين، غيرت هذه الحياة كلها، شعرت بالسعادة التي كنت أبحث عنها، ثم ختم الله لي خاتمة حسنة، وهاأنذا اليوم يغفر الله لي ما مضى.
لعلنا نتعانق تحت ظل عرشه جل وعلا.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يجمعني وإياك تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
هذا وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(65/14)
رجال ومواقف
إن للرجال مواقف عظيمة، تظهر فيها قوتهم وشجاعتهم وصبرهم وثباتهم على دين الله، وعلى رأس هؤلاء الرجال: أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام.
وحسبك من تابعيهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين خلد التاريخ ذكرهم.
هذا ما تحدث عنه الشيخ، ذاكراً بعض النماذج لهؤلاء الرجال من الأنبياء والصحابة والتابعين.(66/1)
الأنبياء عليهم السلام هم الرجال
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام: هذا الحديث بعنوان: (رجالٌ ومواقف) وعلى رأس الرجال أنبياء الله عز وجل ورسله.(66/2)
إبراهيم عليه السلام
فهذا إبراهيم عليه السلام يجمع له الكفار الحطب؛ لإشعال النار لحرقه، لكنه هو الرجل، شهرٌ كامل يجمع الحطب لحرق نبي من أنبياء الله، بل هو خليل الرحمن أبو الأنبياء، ليلقى في النار فيحرق، فإذا به يربط بالمنجنيق، ما استطاعوا أن يقتربوا من النار لعظمها تخيل! ويمر الطير فوق النار فيسقط من شدة حرها!
نار عظيمة تتأجج، فإذا بالمنجنيق يرمى، وإبراهيم عليه السلام في الهواء، فيأتيه جبريل في هذه اللحظات العصيبة، ويقول له: ألك حاجة؟ وفي هذه اللحظات يتعلق الإنسان بأي سبب ولو قشة أو شعرة، أما إبراهيم فقلبه معلق برب البشر، برب الأسباب جل وعلا فقال جبريل: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم، حسبنا الله ونعم الوكيل.
فيسقط إبراهيم في النار والناس ينتظرون حرقه، فإذا به يقوم في النار، فينفض الغبار عن جسده، ثم يقوم ويكبر ويصلي في النار، قال تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:69 - 70].
رجلٌ وأي رجل يدعو الله أن يرزقه الولد، ولك أن تتخيل رجلاً كبيراً في السن، وامرأته عاقر، ويرزقه الله عز وجل الولد على هذه الفترة، وفي هذه السن! كيف يتعلق قلب الأب بابنه بعد أن حرم من الولد سنوات، ورزق بالولد على كبر السن؟! تخيل لو كنت مكانه كيف تتعلق بهذا الولد؟ ثم لما كبر الولد شيئاً قليلاً، وبدأ يسعى مع أبيه، ويعينه في العمل، إذا بوحي الله عز وجل لإبراهيم أن اذبح هذا الولد: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102] ورؤيا الأنبياء حق، فهي وحي من الله جل وعلا.
والغريب ليس فقط في إبراهيم عليه السلام فهو نبي، وهو رجل كبير، وتربى على التوحيد منذ نعومة أظفاره، لكن الغريب من هذا الصبي الصغير الذي بدأ يسعى، ماذا يرد؟ وماذا يقول؟ أبوه يقول: أريد قتلك، أريد ذبحك، الله عز وجل أمرني بهذا، هل تستطيع هذا الأمر؟
بعض الناس لو أمره الله عز وجل بأمرٍ بسيط لرده بهواه وبعقله وبشهوته، ويقول: لا أستطيع، ولا يمكن أن أفعل هذا، ولا أقدر عليه، والله يأمر إبراهيم بذبح هذا الولد: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102] ماذا رد عليه؟ {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] الله أكبر! هذا معنى الإسلام، هذا معنى الاستسلام لله، أما أن يقول الإنسان: أنا مسلم، ثم يرد أمر الله، ويتكبر على شرعه، فأي إسلامٍ هذا؟ الإسلام أن تستسلم لله: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] لم ينتهِ الاختبار بالأمر فقط، بل جاء إبراهيم بابنه على تلك الصخرة، وحد السكين ليذبحه على تلك الصخرة، وبكل استسلامٍ لله ورضىً بشرعه، يضع الابن وجهه وجبينه على تلك الصخرة، وينتظر من أبيه أن يذبحه {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] ووضع على رقبته السكين، ولكن الاختبار قد انتهى، فإذا بإبراهيم ينجح، وإذا بابنه يفوز، وإذا بالنداء من السماء: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} [الصافات:104 - 105] ففاز في هذا الاختبار.
قد يقول بعض الناس: لِمَ يحرِّم الله هذا؟ ولِمَ يوجب الله علينا هذا؟ ولِمَ منعنا الله من هذا وأباح لنا هذا؟ لا تقل: لِمَ؟ {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] نفذ شرع الله جل وعلا، فإن تبينت لك الحكمة فبها ونعمت، وإن لم تتبين لك الحكمة فافعل واستسلم لله عز وجل.(66/3)
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
رجال ومواقف
وعلى رأسهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، رجلٌ وأي رجل! يذهب إلى الطائف يدعو إلى الله جل وعلا، بعد أن عانده وعارضه كفار قريش، فذهب إلى الطائف ماشياً على قدميه، فلما وصل إلى الطائف دعاهم إلى الله فكذبوه، أتعرف ماذا صنعوا؟ لقد تبعوه بالحجارة مع الأطفال والصبيان والعبيد، يرجمونه ويضربونه بها، وهو أفضل من وطئت قدمه الثرى محمد عليه الصلاة والسلام، أفضل إنسانٍ خلقه الله جل وعلا: (سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر) سيد الأولين والآخرين يرمى بالحجارة!
ومن خلفه؟ إنهم الأطفال والسفهاء والعبيد، حتى خرج عليه الصلاة والسلام، فإذا به يدعو ولكن هل سبهم؟ هل شتمهم؟ هل دعا عليهم بالويل والثبور؟ لا والله، أتعرف ماذا قال؟ اسمع وتدبر إلى دعائه رفع يديه وقال: (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا إله المستضعفين إلى من تكلني؟ إلى قريبٍ يتجهمني؟ أم إلى بعيدٍ ملكته أمري؟ أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل بي سخطك، أو ينزل بي غضبك، لك العتبى حتى ترضى) وجاءه الملك فقال له: (مرني يا محمد فلأطبق عليهم الأخشبين -أهل مكة ومن فيها- قال: لا.
إني أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً) {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:127 - 128] صبر لكن بعزة، ورضي لكن بغير ذلة.
في يوم من الأيام يطوف بالبيت عليه الصلاة والسلام، وحوله ثلاث مائة وستون صنماً! فلما طاف الشوط الأول رآه مشركو قريش وقد جلسوا؛ عتبة بن ربيعة وهشام بن أمية، وأمية بن خلف وغيرهم، جلسوا في النادي يستهزئون، فلما مر عليهم غمزوه، وتكلموا عليه، فلم يأبه لهم، فطاف، وفي الشوط الثاني غمزوه فلم يأبه لهم وطاف، فلما مر عليهم في الشوط الثالث غمزوه فاستقبلهم، لقد كان يصبر لكن بغير ذلة، وكان يتحمل بعض أقوالهم ولكن بعزة، فجاءهم عليه الصلاة والسلام وقال: (تسمعون معشر قريش -وكانوا يضحكون ويتمايلون من شدة الضحك- أما والذي نفس محمدٍ بيده لقد جئتكم بالذبح) يعني: سوف يأتي يوم فيه جهاد، فيه قتال، أما الآن فسلم ودعوة بالتي هي أحسن، ولكن: (أما والذي نفس محمدٍ بيده لقد جئتكم بالذبح) يقول الراوي: فكأنما على رءوسهم الطير، سكتوا وصمتوا، ثم قال أشدهم فيه وصاة -أكثرهم سخرية- قال: انصرف أبا القاسم راشداً فوالله ما كنت جهولاً.
وفي موقف آخر، وهو يصلي عند الكعبة، يأتي أشقى القوم فيرمي على ظهره سلى الجزور؛ نجاسات وقذارات، فتأتي فاطمة سيدة النساء في الجنة رضي الله عنها وهي جارية، تركض إلى أبيها رسول الله فتزيل النجس والقذارة عن ظهره، فأتم صلاته ثم استقبل القوم وقال: (اللهم عليك بـ هشام، اللهم عليك بـ عتبة، اللهم عليك بفلان وفلان.
يقول الراوي: لقد رأيتهم كلهم صرعى يوم بدر) {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر:45 - 46] نعم.
توعدهم الله في مكة بالهزيمة، يوم كان المسلمون مستضعفين.(66/4)
الصحابة ومواقف الرجولة
رجال ومواقف من الصحابة رضوان الله عليهم.(66/5)
أبو بكر الصديق رضي الله عنه
يستأذن أبو بكر يوماً من الأيام النبي صلى الله عليه وسلم في إعلان الإسلام، في الدعوة إلى الله، فما أذن له، لا زال الإسلام في بدايته، ثم استأذنه، ثم استأذنه، حتى أذن له النبي عليه الصلاة والسلام، فقام أبو بكر أول خطيبٍ في الإسلام، قام يخطب ويدعو إلى الشهادتين، وإلى توحيد الله، فلما رآه المشركون تآلبوا عليه، وأخذوا يضربونه، حتى جاء الفاسق عتبة، فأخذ نعله ونزعها وضرب بها وجه أبي بكر رضي الله عنه، حتى سقط على الأرض وكاد يموت، وكاد يقتل، وحملوه إلى بيته وظنوه قد صرع، وهو أبو بكر الذي قال الله فيه: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} [الزمر:33] رسول الله {وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33] وهو أبو بكر {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر:33].(66/6)
عمر بن الخطاب رضي الله عنه
وهذا عمر بن الخطاب؛ هذا الرجل الذي كان ذو شدة وغلظة قبل الإسلام، ولما أسلم وتولى أمر المسلمين، وصار أميراً للمؤمنين تغير، وكان يمشي في الليل ينظر أحوال المسلمين وشئونهم في الليل، فإذا به يرى ناراً من بعيد، فقال لمولاه أسلم: تعال معي نستكشف النار، فإذا به يقرب من النار فيرى عند النار امرأة عجوزاً وعندها أطفال صغار يبكون، وعلى النار قدرٌ ليس فيه إلا الماء، فقال عمر بعد أن سلم: ما شأنكم يا أهل الضوء؟! قالت العجوز: هؤلاء أطفالي وليس في القدر شيء، وضعت النار تحتها أصبرهم حتى يناموا وهم جياع، ليس عندي شيء أطعمهم إياه، ثم قالت المرأة العجوز: والله لئن قدمت على الله لأخاصمن عمر ومن الذي أمامها؟ إنه عمر وهي لا تدري، فقال عمر بن الخطاب: وما يدري عنك عمر يا أمة الله؟! أي: ماذا يعلم عنك وأنت في الصحراء؟ فقالت المرأة العجوز: يتولى أمر المؤمنين ولا يدري عني لأخاصمنه عند الله.
فذهب عمر وقال لمولاه أسلم: تعال معي، فذهب إلى بيت المال فدخل وأخذ كيساً من دقيق، فحمله على ظهره، فقال مولاه: يا أمير المؤمنين! أحمل عنك، فقال له عمر: أوتحمل عني وزري يوم القيامة؟ يقول أسلم: فذهب إليها، وأخذ يصنع طعامها بنفسه حتى صنع طعامهم، وترك الكيس الطحين عندهم، ثم ذهب من بعيد، فقلت له: يا أمير المؤمنين! نرجع قال: لا والله، أجلس حتى أراهم يشبعون كما جاعوا، فجلس ينظر إلى الأطفال وهم يأكلون، يقول: فنظرت إليه فإذا عيناه تدمعان، فإذا بـ عمر بن الخطاب يبكي لامرأة عجوز جاع أطفالها {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23].(66/7)
علي بن أبي طالب
سمعتم بـ علي بن أبي طالب، الخليفة الراشد رضي الله عنه بعد أن تولى الإمارة صنعوا له قصراً يسكن فيه ليكون أمير المؤمنين، فلما نظر إليه قال: ما هذا؟ قالوا: قصرك يا أمير المؤمنين.
فتولى وهو يقول لهم: قصر الخبال هذا، والله لا أسكنه، قصر الخبال هذا والله لا أسكنه، ورجع إلى بيته القديم.
علي بن أبي طالب يجلس في مصلاه ويقبض بيده على لحيته وهو يبكي ويقول: يا دنيا طلقتك ثلاثاً، يا دنيا غري غيري فقد طلقتك ثلاثاً {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:5].
ينزل يوماً من الأيام رضي الله عنه إلى السوق، يبيع سيفه بأربعة دراهم، يقول: والله لو كانت عندي أربعة دراهم أشتري بها إزاراً لما بعت سيفي، وهو أمير المؤمنين! حقاً إنه كما قال: يا دنيا طلقتك ثلاثاً، غري غيري لن تستطيعي عليَّ.
من رباهم وعلمهم؟ إنه نبينا عليه الصلاة والسلام، علمهم الشجاعة، علمهم القوة، علمهم الزهد في الدنيا، وعلمهم حب المسلمين، وحب الخير لهم ونشره.
ولا زلنا مع أولئك الرجال في الصدر الأول في زمن الخلافة الراشدة في غزوة الأحزاب ينادي علي رضي الله عنه أحد المشركين وهو عمرو بن عبد ود، هذا الرجل ينادي في الصحابة ويقول: ألا هل من مبارز؟ هل من مبارز؟ وهو فارسٌ من فرسان قريش، قوي شجاع بطل لا يقوى عليه كل العرب، شجعانها وفرسانها، فينادي هذا الفارس البطل المشرك ويقول: هل من مبارز؟ فقال علي وكان عند الرسول، قال: يا رسول الله! أنا أبارزه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا علي! إنه عمرو، دعك -أي اصبر- فنادى في الثانية وقال: هل من مبارز؟ فقال علي: يا رسول الله! أنا أبارزه.
فقال النبي لـ علي: يا علي! إنه عمرو، فنادى في الثالثة وقال: ألا هل من مبارز؟ فقال علي: أنا له يا رسول الله.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اذهب، وكان علي شاباً يافعاً، وعمرو بن عبد ود قد امتلأ بالسلاح والعتاد، ولكنها الشجاعة الإيمانية، إنها البطولة ولكنها تحت ظل رسول الله، ويخرج علي فيقول له عمرو بن عبد ود: من أنت؟ وهو لا يعرفه، فقال: أنا علي بن أبي طالب.
قال عمرو بن عبد ود: يا بني! إن في أعمامك من هو أسن منك، فارجع فليأتِ من هو أكبر منك سناً، وأعلم منك بالحرب، فإني لا أريد قتلك، فقال له علي بن أبي طالب: أما أنا فوالله إني أريد قتلك.
قال: ماذا؟ فاشتد الصراع، وثارت المعركة، وثار الغبار، فإذا بـ عمرو يشق درع علي بن أبي طالب نصفين، ويجرح علياً جرحاً، ثم يثور الغبار، ولا يعلم أحدٌ ما الذي حدث، وما الذي يجري في الغبار، فإذا بالصحابة في لحظة من اللحظات كلٌ منهم يكبر الله أكبر! الله أكبر! فاستبشر رسول الله، وعلم أن الذي انتصر هو علي بن أبي طالب، فإذا بالغبار يهدأ، وإذا بالمعركة تنتهي، وإذا بـ عمرو صريعاً في الأرض مضرجاً بالدماء، وعلي بن أبي طالب رافعاً سيفه يرجع إلى صفوف المسلمين، والصحابة يكبرون الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر!
نعم، إنهم رجال وهي مواقف.
وفي غزوة خيبر يخرج ذلك الذي يسمى مرحباً؛ يهودي لكنه شجاعٌ وبطل، فينادي في الصحابة ويقول:
قد علمت خيبر أني مرحب
شاكي السلاح بطلٌ مجربُ
إذا الحروب أقبلت تلهب
فقال علي:
أنا الذي سمتني أمي حيدره
أنا أسد، إذا كنت أنت مرحب فأنا أسد
أنا الذي سمتني أمي حيدره
كليث غاباتٍ كريه المنظره
أكيلهم بالسيف كيل السندرة
وتبدأ المعركة، فإذا بـ علي بن أبي طالب يقسمه نصفين.
إنهم رجال وهي مواقف: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23].(66/8)
صهيب الرومي
هل سمعتم بـ أبي يحيى صهيب الرومي؟ هذا الصحابي الجليل الذي جمع في مكة مالاً عظيماً وصار ثرياً، ولما أذن له بالهجرة وأراد أن يهاجر ما تركه كفار قريش، وقالوا له: جمعت أموالنا وتريد أن تخرج بها، والله لا ندعك.
فخرج، فتبعه ما يقارب الثلاثين أو الأربعين فارساً، فقال لهم وهم ينادونه من بعيد ويريدون قتله: والله لا تصلون إلي حتى أضع في كل رجلٍ منكم سهماً، وكانوا جمعاً كثيراً لكنه الشجاع البطل، ومعه قوة الإيمان، وشجاعة الإيمان.
الكفار يحبون الحياة ويخافون من الموت، أما المؤمنون فهم ضدهم؛ يتمنون الموت ويريدونه، ولهذا فهم أشجع الناس قال: والله لا تصلون إلي حتى أضع في كل رجلٍ سهماً، ثم أصير بعد إلى السيف فتعلمون أني الرجل، ثم قال: فإن شئتم المال دللتكم على مالي واذهبوا إليه.
قالوا: نعم.
لا نريد غير مالك.
لا يريدون إلا الدنيا وشهواتها، فإذا به يعطيهم كل ما جمعه في هذه السنين، لأجل شيءٍ واحد؛ أن يهاجر إلى رسول الله، وهاجر ولا يملك إلا ما يلبس، كل أمواله ضحى بها لأجل هذا الدين، لأجل هذه العقيدة، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يستقبله وهو قادمٌ إلى المدينة ويقول له: (ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحي) فأنزل الله عز وجل قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة:207] يبيع نفسه {وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207].(66/9)
بسر بن أرطأة وموقفه مع النصارى
هل سمعتم برجل اسمه بسر بن أرطأة؟ إليكم خبره، وقد لا تصدقون، ولكن هي الحقيقة هذا الرجل كان قائداً على سرية، وكانت السرية في مؤخرة الجيش، وكانت تصاب بالسهام من الأعداء ولا يدري من أين تأتيهم السهام، كلما رجعوا ما وجدوا شيئاً، وتتقدم السرية وكل فترة تصاب بالسهام ولا يدري من أين تأتيهم، فإذا به يقول لأصحابه: تقدموا ودعوني، ويتخلف ويتخفى، ويبحث في الشعاب، وفي الوديان لوحده، فإذا به يرى بين الشعاب كنيسة، وعندها براذين -أي: بغال ضخمة- وخيول، فعلم أنها لفرسان فماذا صنع؟ تخفى، وجاء إلى الباب وفتحه ودخل وهم لا يدرون ولا يشعرون، وأغلق الباب وهو لوحده، وبدأ يصارعهم لوحده، ولم يصلوا إلى رماحهم وسهامهم حتى قتل منهم ثلاثة، فلما وصلوا نشبت بينه وبينهم معركة، وأصحابه كانوا على إثره، كانوا خلفه، علموا أنه سوف يحدث أمراً فلما علموا أنه دخل وأنه بدأ يقاتلهم دخلوا خلفه، فلما دخلوا وجدوه مثخناً بالجراح ولم يمت، وكانوا قد شقوا بطنه فوضع يده على الجرح فلم ينزف الدم كثيراً، فدخل أصحابه وقتلوا من قتلوا، وأسروا من أسروا، فلما أسروا من أسروا قال الأعداء للمسلمين: من هذا؟ قالوا: لم تسألون؟ قالوا: مثل هذا لم تلد النساء، مثل هذا لم تلد النساء، مثل هذا لم تلد النساء!! إنه بشر بن أرطأة {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146].(66/10)
رجال ومواقف مع عبادة الله وخشيته
إنهم رجال وعباد.(66/11)
تميم بن أوس الداري
فهذا تميم الداري يصلي ليلة كاملة بآية واحدة، يرددها ويبكي، وهي آية: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21].
إنهم رجال، تجدهم آخر الليل:
عباد ليلٍ إذا جن الظلام بهم كم عابدٍ دمعه في الخد أجراه
وأسد غابٍ إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياهُ(66/12)
سفيان الثوري وخشية الله
كان سفيان الثوري كثير البكاء وقد قال صلى الله عليه وسلم: (عينان لا تمسهما النار: عينٌ بكت من خشية الله) فمتى آخر ليلة بكيت فيها من خشية الله، وأنت قائمٌ تصلي، أو تقرأ القرآن، أو رافعٌ يديك تدعو الله، سل نفسك هذا السؤال، سفيان كان كثير البكاء، وكان يقول لما سئل: لم تبكي؟ قال: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقياً، أخاف أن الله يكون قد كتبني من أهل النار.
وهو القائم الصائم، العابد الزاهد، العالم الورع، ويقول: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقياً، أن يكون الله قد كتبني من أهل النار.(66/13)
عتبة الغلام
هل سمعت بشابٍ يُقال له: عتبة الغلام؟ هذا الرجل له قصص أغرب من الخيال، هذا الشاب كان يقوم الليل، وكان كثير البكاء، بات ليلة من الليالي عند عنبة الخواف، يقول: فسمعته يبكي طوال الليل، وهو يقول: اللهم إن تعذبني فإني لك محب، وإن تغفر لي فإني لك محب.
ويسأل الله المغفرة، يقول: فلما جئته في الصباح قلت له: يا عتبة! لم هذا البكاء؟ لم هذا القيام الطويل والبكاء الشديد؟! فقال له: يا عنبة! ذكرت يوم العرض على الله.
ثم سقط، فحمله عنبة وقال له: يا عتبة! قم ما الذي جرى؟ يا عتبة! قم ما الذي جرى؟ ثم أفاق فقال له: يا عنبة، قطع ذكر يوم العرض على الله أوصال المحبين، ثم بكى وقال وهو يخاطب ربه: أراك مولاي تعذب محبيك وأنت الحيي الكريم، يقول عنبة: ثم بكى وأخذت أبكي معه {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16].(66/14)
سفيان الثوري مع الفضيل بن عياض
نختم بهذا الموقف إنه لـ سفيان الثوري مرة أخرى، يتقابل مع عابد الحرمين الفضيل بن عياض رحمهم الله جميعاً، عابدٌ مع عابد التقيا، فإذا بهما يتذاكران الله جل وعلا، فبكى هذا وبكى هذا فيقول سفيان من تأثره: إني لأرجو أن يكون مجلسنا هذا أعظم مجلسٍ جلسناه.
أي: أرجو أن يكون عند الله من أعظم المجالس في الدنيا بركة، فقال له: الفضيل بن عياض: ترجو هذا؟ أما أنا فأخاف أن يكون هذا أعظم مجلسٍ جلسناه علينا شؤماً عند الله، فقال سفيان: ولم ذاك يا فضيل؟! لم تخاف من هذا المجلس الذي ذكرنا الله فيه فبكينا؟! فقال له الفضيل: ألست يا سفيان نظرت إلى أحسن ما عندك فتزينت به لي، وتزينت لك به فعبدتني وعبدتك؟ أي: كل واحد أخذ يرائي الثاني، انظر لاتهامهم لأنفسهم! فأخذ سفيان يبكي حتى علا نحيبه، ثم قال: أحييتني أحياك الله، أحييتني أحياك الله.
قال بعضهم:
أيا من ليس لي منه مجيرُ بعفوك من عذابك أستجيرُ
أنا العبد المقر بكل ذنبٍ وأنت السيد الصمد الغفورُ
فإن عذبتني فبسوء فعلي وإن تغفر فأنت به جديرُ
أفر إليك منك وأين إلا يفر إليك منك المستجيرُ
وأحسن من هذا قول الله جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
لنرجع إلى الله جل وعلا، ولنجعل أولئك الرجال؛ الأنبياء والرسل، والصديقين والشهداء والصالحين، وأولئك الأسلاف، لنجعلهم قدوتنا، ولنتأسَّ بهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90].
نسأل الله تبارك وتعالى أن يحشرنا وإياهم في جنة الفردوس، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(66/15)
سلامة الصدور
أيها الإخوة: هذا اليوم يوم الأحد وغداً يوم الإثنين، سوف تُرفع الأعمال إلى الله، فيغفر الله عز وجل لكل عبدٍ لا يشرك بالله، إلا رجلين بينهما شحناء، رجل بينه وبين أخيه شحناء، وخصومة، وبغض لأجل دنيا، قال: إلا رجلين بينهما شحناء، فيقول الرب جل وعلا لملائكته: (أنظرا -أي: أخِّرا- هذين حتى يصطلحا) لا يغفر لهم الذنب حتى يصطلحا يدخل على الصحابة رجل، فيقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (يدخل عليكم رجل من أهل الجنة فإذا برجلٍ يدخل وعلى لحيته آثار الوضوء، ونعلاه تحت إبطيه، وهو رجل عادي حاله حال الصحابة، وفي اليوم الثاني قال: يدخل عليكم رجلٌ من أهل الجنة، فدخل نفس الرجل، وفي اليوم الثالث نفس الرجل، فبات أحد الصحابة عنده، وسأله بعد أيام وقال له: يا فلان! إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال فيك كذا وكذا، وما رأيتك كثير صلاة ولا صيام ولا عبادة قال: لم يكن إلا ما رأيت -قيامه مقتصد، عنده عبادة لكن ليست بالأمر الغريب على الصحابة- إلا أنني لا أبيت وفي قلبي على أحد من المسلمين شيئاً.
ابن عمر: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا تُطاق).
هل تستطيع أن تنام ولا تحمل في قلبك على أحدٍ من المسلمين شيئاً؟ جرب هذا الأمر.
هل تستطيع أن تكون كـ أبي ضمضم؟ من هو أبو ضمضم؟ رجل كان إذا أصبح قال: اللهم إني قد وهبت نفسي وعرضي.
-أي: كل من تكلم فيَّ فقد أحللته، وعفوت عنه، كل يوم في الصباح، يقول: يا رب كل من تكلم في فقد أبحته، وعفوت عنه هل تستطيع هذا؟ {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134].
فأنصحك إذا في قلبك على أخيك، أو على صديقك، أو على جارك، أو على أحد أقربائك شيء، أو بينك وبينه خصومة (لا يحل لمؤمنٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) لتكن أنت
زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنه وعن أبيه، هذا الرجل كان جالساً في مجلس علم، فدخل عليه رجل فسبه وشتمه، وما رد عليه رداً واحداً، ولو أراد لرد، ولقام أصحابه وتلاميذه يضربونه ويقتلونه، ولكنه لم يرض أن يرد لنفسه كلمة واحدة، أتعرف ماذا صنع؟ انتظر إلى الليل، فلما حل الليل ذهب إلى الرجل في بيته وطرق الباب وفتح الرجل الباب الآن ماذا يريد؟ هل يريد أن يدافع عن نفسه؟ أتعرف ماذا قال؟ قال بعد أن سلم: يا فلان! إن كان حقاً ما قلته فيَّ فغفر الله لي، وإن كان كذباً فغفر الله لك والسلام، وتركه وذهب، فجاء الرجل يتبعه فمسكه في الطريق وحضنه وأخذ يبكي وهو يقول: ادعُ الله أن يحللني، فدعا الله عز وجل له قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134].
لنكن -أيها الأخوة- كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(66/16)
الله مولانا ولا مولى لهم
عندما يلجأ الإنسان إلى الله يجد المخرج والفرج، وعلى الإنسان المؤمن أن يعلم أن الله معه وهو ناصره ومعينه، وفي المقابل عليه أن يعلم أن سلعة الله غالية، ولينظر إلى الجيل الأول صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف ضحوا بدمائهم وأموالهم وأنفسهم في سبيل نيلها.
وليعلم أن عزة المسلمين بتمسكهم بهذا الدين، ورجوعهم إلى ربهم.(67/1)
اللجوء إلى الله
الحمد لله رب العالمين، والصلاة السلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
في أحد وبعد أن انتهت المعركة بما انتهت، إذا بـ أبي سفيان -قبل إسلامه- ينادي المسلمين، فكان فيما قال: لنا العزى ولا عزى لكم، أي يخاطب المسلمين بعد جراحهم، وبعد أن قتل منهم من قتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (ألا تجيبوه؟! قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم) ثم قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال، فقال عمر: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.
الله مولانا ولا مولى لهم، فإنه جل وعلا الذي نصر نوحاً بعد أن تجمع عليه قومه، ولم يبقَ معه إلا القليل من المستضعفين، فسخروا منه، واستهزءوا به، كان معه ضعفاء القوم وأراذلهم، ولكنهم في الإيمان قمم وجبال: {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38] نعم.
الله مولانا ولا مولى لهم، فرفع نوح يديه إلى الله عز وجل قال تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10] فإذا بسنن الكون تتغير، وإذا بالسماء التي لم تكن تمطر ينهمر منها الماء، وإذا الأرض القاحلة، والصحراء التي ليس فيها ماء تتفجر بالعيون: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:10 - 12].
هود عليه السلام جاء قومه يدعوهم إلى الله عز وجل؛ فأرادوا قتله، فقال وقد توكل على الله عز وجل واستنصر به، قال يا قوم: {أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دِونِه * فَكِيدُونِي جَمِيعاً} [هود:54 - 55] أي: تجمعوا عليّ كلكم، قال: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود:55] أي: لا تؤخروني بل اقتلوني، واصنعوا ما تريدون، أي قوة يملكها هود عليه السلام، إنه يملك أعظم قوة، إنه التوكل على الله عز وجل: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود:56].
الله مولانا ولا مولى لهم، فإذا بقوم عادٍ مرت عليهم الأيام، فأرسل الله عليهم جنداً من جنوده، ريحاً صرصرا في أيام نحسات، إنها ريحٌ شديدة باردة، تحمل الواحد منهم إلى السماء، ثم تطرحه على الأرض؛ فينفصل رأس أحدهم عن جسده: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر:6 - 8].
كانوا يتحدون ربهم جل وعلا، وكانوا يقولون لهود: {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [العنكبوت:29] وكانوا يفتخرون أنهم أعظم قوة على وجه الأرض، فكانوا يقولون: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:15] أي: ليس في الأرض قوة أعظم من قوتنا، وهذا جنون العظمة، الغطرسة، الكبر، العتو، ولكن النهاية: {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة:7 - 8](67/2)
التوكل على الله والثقة به
موسى عليه السلام رجلٌ لا يملك إلا أخاه والعصا، دخل على قصر فرعون الجبار الطاغية، الذي من جبروته في الأرض وغطرسته، ومن جنون عظمته أنه كان يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] ولا يسمح برأيٍ يخالف رأيه، حتى كان يقول للناس: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29].
قتل الأطفال! ما ذنب الأطفال أيها الظالم الجبار؟ استحيا النساء وقتل الأطفال بغير ذنب، واستعبد الرجال بغير ذنب، لأنه جبار في الأرض، فوصل فرعون وجيشه إلى موسى عليه السلام، وما كان مع موسى إلا شيوخٌ ضعاف، ونساءٌ ضعاف، وأطفال صغار، أمامهم البحر، وخلفهم فرعون وجيشه: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] أي: تجمع علينا المشركون، قتلونا: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ} [الشعراء:62] ماذا معك يا موسى؟ أسلحة؟ جيوش جرارة؟ موسى لا يملك إلا عصا، وما معه إلا ضعاف القوم، ويستقبلهم طاغية وجيشٌ طاغٍ في الأرض، أسلحة وعتاد؛ لكن موسى عنده سلاحٌ عظيم: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62].
الله أكبر! إنه اليقين بنصر الله، إنه التوكل على الله، إنه صدق الإيمان بالله، فإذا البحر يأتمر بأمر موسى، فينفلق البحر له، ثم إذا بالبحر يسير فوق فرعون الذي كان يقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51] نعم.
أبصروك يا فرعون والماء يجري من فوقك، أبصروك والطين في فمك يضعه جبريل فيه، ذلٌ وأي ذل؟ إنه نصر الله جل وعلا دائماً وأبداً لعباده المؤمنين.
إبراهيم عليه السلام يُلقى في النار فيقول له جبريل: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، ولكن حسبي الله ونعم الوكيل، فإذا بالنار: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:69 - 70] الله مولانا ولا مولى لهم.
بكى أبو بكر عندما تجمع المشركون عند الغار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يبكيك يا أبا بكر؟ قال: يا رسول الله! لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا، قال: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟) {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ} [التوبة:40] اثنان يلاحقهما من في الأرض من جيوش وطواغيت، وهما رجلان ضعيفان لكنهما يملكان القوة بالله: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ} [التوبة:40] لمَ لا يحزن؟ {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] وهذا هو الفرق، الفرق إن الله عز وجل مع المؤمنين كما قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257].(67/3)
نصر الله لعباده وتأييده لهم
الله عز وجل مدبر الأمر، مصرف الآيات قال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51] كل ما يحدث في الأرض فبعلم الله، وبقدر الله عز وجل: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:79 - 80] كل شيء يدبر في السماء بعلم الله وبقدر الله.
في الأحزاب تجمع الناس على رسول الله، فإذا المنافقون الذين يترقبون الأزمات والفتن ليرفعوا رءوسهم يتكلمون، عندما يتجمع المشركون والأعداء على المسلمين ينطق المنافقون، فهذا وقتهم، وهذا زمنهم، وهذه فرصتهم.
فإذا بهم يثبطون المؤمنين، ويثيرون القلاقل، حتى قال أحدهم: لا يقدر أحدنا أن يقضي حاجته، ورسولكم يعدكم ببلاد كسرى والروم، كيف هذا؟ ويقولون: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [الأحزاب:12].
أما المؤمنون الصادقون، لما رأوا المشركين تجمعوا على المدينة، واليهود نقضوا العهود، والمنافقون يثيرون الفتنة بين الصفوف كما قال تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:10 - 11] ماذا قال المؤمنون: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] الله مولانا ولا مولى لهم.
كان النبي عليه الصلاة والسلام يقاتل وفي قلبه أن الله عز جل هو مولاه، والله عز وجل ينصره، والله عز وجل يتم كلمته، يقول علي بن أبي طالب يصف النبي عليه الصلاة والسلام وهو أشجع الناس: [لقد رأيتني يوم بدر وإنا لنلوذ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذٍ بأساً] فقد كان أشجع الناس محمداً عليه الصلاة والسلام، ولما ولى المسلمون مدبرين يوم حنين يقول العباس: [[طفق الرسول يركض بغلته نحو الكفار، تراجع المسلمون وبقي النبي صلى الله عليه وسلم وبعض أصحابه لم يتراجع؟ تقدم واستقبل صفوف المشركين وكانت صفوفهم كثيرة، والمشركون يتجمعون عليه وهو يستقبلهم على بغلته وبيده عصا، وكان يقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) يقول العباس: أنا آخذٌ بلجام بغلته لئلا يتقدم، والنبي صلى الله عليه وسلم يتقدم، ويقول عليه الصلاة والسلام: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب).(67/4)
صفقة رابحة
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى} [التوبة:111] إنها الصفقة، هل بعت يا عبد الله؟ انظر الثمن وانظر السلعة: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] نفسك ومالك تعطيها لله والثمن الجنة، وطريقة البيع: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:111] مدافع، صواريخ، رشاشات، قنابل، أسلحة: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة:111] والضمان من الله: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111] لما سمع الصحابة هذه الآيات ضحوا بمهجهم، ضحوا بدمائهم، بل بكوا إذ فاتهم الجهاد في سبيل الله.
عمر هل يوجد بين المؤمنين أمثال عمر؟! هل جعلنا قدوتنا عمر الفاروق، هادم دولة بني ساسان؟ في عهده زال ملك المجوس، وذهبت إمبراطورية كسرى، يقول رستم عن عمر: أكل عمر كبدي أحرق الله كبده، وكذب قاتله الله، بل أطفأ نارهم، ودمر ملكهم، وهز عرشهم:
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدمٌ له والكوخ مأواهُ
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه(67/5)
صور من جهاد الصحابة
علي سيد الشجعان، لما قال مرحب:
قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطلٌ مجربُ
إذا الحروب أقبلت تلهبُ
رد عليه علي فقال:
أنا الذي سمتني أمي حيدره كليث غابات كريه المنظره
أكيلهم بالسيف كيل السندره
إنه علي سيد الشجعان، لما استقبل الكفار هو وحمزة وغيره أنزل الله فيهم: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19] قضيتهم الإيمان بالله، وعدوهم الكفر بالله، قضيتهم التوكل على الله، وعدوهم التوكل على غير الله، قضيتهم عقيدة وإيمانٌ وتوحيد.
الزبير بن العوام حواري رسول الله، يرى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من المشركين يقتل في المسلمين قتلاً عنيفاً فيقول للزبير: يا زبير قم إليه، فقام إليه حواري رسول الله فصارعه فسقطا من الدابة، فوقعا على الأرض، فإذا ب الزبير يضربه ضربة على صدره، فيقتله قتلة ما قام بعدها، يقول علي عن الزبير: يغضب كالنمر، ويثب وثب الأسد، زبير في قلبه قول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف:10] * {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الصف:11] بأي شيء نجاهد؟ بكل ما نملك: {بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} [الصف:11].
ألم نسمع قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف) الروحة والغدوة في سبيل الله أفضل من الدنيا وما فيها، وموقف ساعة في سبيل الله خير من قيام ليلة القدر عند الحجر الأسود، وهي أعظم ليلة في العام، وأعظم مكانٍ في الأرض لو قامه الإنسان ليلة كاملة لكن موقف ساعة في سبيل الله خير من ذلك(67/6)
التضحية في سبيل الله
البراء بن مالك يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (كم من أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك
).
البراء بن مالك رجلٌ قد باع نفسه لله، رجلٌ بطلٌ شجاع، حتى قال عمر بن الخطاب يخاطب قادة الجيوش: لا تستعملوا البراء على جيش، أي: لا تجعلوه يقود جيشاً، فإنه مهلكة من المهالك، رجلٌ من شجاعته ربما يهلك الجيش كله، في حروب الردة لما قاتل المسلمون مسيلمة وإذا به يتحصن بحصنٍ حصين، لم يستطع أحدٌ من الصحابة اقتحامه، تعلمون ماذا قال البراء؟ قال لأصحابه: احملوني على ترس على أسنة الرماح وألقوني في الحديقة، قالوا: ماذا تقول؟ عملية استشهادية، احتمال النجاة منها (1%) فإذا بهم يرفعونه ويرمونه داخل الحصن، ويدخل الحصن، فيفاجئ المرتدين، فيقاتل هذا، ويدفع هذا، ويرد هذا، هذا يطعنه، وهذا يضربه، حتى يصل إلى الباب، فيفتح باب الحديقة فإذا بالحصن يُفتح، وإذا بالصحابة يقتحمون، وإذا بالمؤمنين ينتصرون، أين الرجال أمثال البراء؟ أين الشجعان أمثال البراء؟! أين المجاهدون المضحون؟ ما الذي يمنعهم؟ إنها الدنيا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] اترك الدنيا، تفكيرك بالأولاد، بالزوجات، بالوظائف، بالأموال، بالتجارات؛ يمنعك عن الجهاد في سبيل الله.
جعفر كأنه في الجنة قبل الموت، فلما تكسرت الرماح عليه قال:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وباردٌ شرابها
والروم رومٌ قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
ثم استلم الراية عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل وهو يخاطب نفسه يقول:
أقسمت يا نفس لتنزلنه لتنزلن أو لتكرهنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنه ما لي أراك تكرهين الجنه
...
يا أمتي وجب الكفاح فدعي التشدق والصياح
لغة الكلام تعطلت إلا التكلم بالرماح
إنا نتوق لألسن بكمٍ على أيدٍ فصاح
لا بد من صنع الرجال ومثله صنع السلاح
لا يصنع الأبطال إلا في مساجدنا الفساح
لا يستوي في منطق الـ إيمان سكرانٌ وصاح
من همه التقوى وآ خر همه كأسٌ وراح
شعبٌ بغير عقيدة ورقٌ تذريه الرياح
من خان حي على الفلاح يخون حي على الكفاح
نعيم بن مالك وما أدراك ما نعيم بن مالك؟ يقول يوم أحد: يا نبي الله لا تحرمنا الجنة، فو الذي نفسي بيده لأدخلنها، فتعجب النبي وقال: بم ذاك يا نعيم قال: بأني أحب الله ورسوله، ولا أفر يوم الزحف، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (صدقت يا نعيم) فقاتل حتى قتل: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الحديد:19] الشهداء ليسوا في الأرض، الشهداء عند الله عز وجل {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد:19].(67/7)
من جزاء الشهداء عند الله
يقول عبد الله بن عمرو بن حرام ليلة معركة أحد يخاطب ابنه جابراً: يا بني ما أراني إلا مقتولاً في أول من يقتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ يعلم أنه في الصباح سوف يقتل، ثم قال له: يا بني ولا أحدٌ أعز إلي منك إلا رسول الله، ثم وصاه، يقول: فلما أصبح الصباح يقول جابر: فكان أول قتيل في المعركة، يقول: وبعد المعركة كشفت عن وجهه وبكيت، فقام أصحاب النبي ينهونني عن البكاء، وجعلت عمتي تبكي على أبي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ابكيه أو لا تبكيه! فما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه) ثم قال لي النبي: (يا جابر ألا أخبرك أن الله كلم أباك كفاحا، فقال: يا عبدي! سلني أعطك، فقال: أسألك أن تردني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانياً، قال: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون، فقال: يا رب فأبلغ من ورائي) فأنزل الله بعد أحد قوله جل وعلا: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169].
والشهيد لا يعذب، ولا يتألم، تقول: لقد سحقته الدبابات، وتفجرت به القنابل، وصرع بالرصاصات، وأحرقته تلك القنابل الذرية والنووية، وربما سقطت على رأسه الصواريخ، أقول لك: إنه لا يتألم إلا كما يجد أحدنا ألم قرصة النملة، ومع أول قطرة دم تخرج منه يطهره الله من كل ذنب، الله أكبر! ثم يرى مقعده من الجنة، ألم ترَ بعض الشهداء يموت وهو مبتسم، يدفن وهو مبتسم، تعرف لم؟ لعله رأى مقعده من الجنة وهو في الأرض، ثم إن الشهيد إذا أدخل القبر يجار من عذاب القبر بنعيم أكبر من هذا، نحن نخاف من ظلمة القبر، نخاف من عذاب القبر، نخاف من جحيم القبر، نخاف من الديدان، نخاف من الثعابين أما الشهيد فيجار من كل هذا.
ثم إذا بعث عند ربه يأمن من الفزع الأكبر، ويبعث الناس على أعمالهم، هو يبعث والدم ينزف من جسمه؛ اللون لون دم والريح ريح مسك، ثم يُلبس تاج الوقار والكرامة، الياقوتة فيه خيرٌ من الدنيا وما فيها، ويزوج باثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين من أهله.
ثم أرأيت الشهيد الذي يُقتل؛ أتعرف أين هو؟ هو في الجنة، في جوف طيرٍ خضر لها قناديل معلقة تحت عرش الرحمن، تسرح في الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، يطلع عليهم ربهم فيقول: (أتريدون شيئاً؟ أتشتهون شيئاً؟ يقولون: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ حتى يقولون: نريد أن ترد أرواحنا بأجسادنا فنرجع إلى الدنيا فنقتل في سبيلك مرة أخرى، فيقول لهم ربهم: إني كتبُ أنكم إليها لا ترجعون) {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169].(67/8)
الله مولى المؤمنين
نعم قد يقتلون الآلاف، نعم قد يسحقون الملايين، قد يدمرون الشعوب، وقد يقتلون الأطفال والنساء والرجال؛ ولكن لا سواء، قتلى المسلمين في الجنة، وقتلى الكفار في النار، الكفار لا يعلمون أن أعظم غاية للمجاهد أن يموت شهيداً، ثم إن حصل له النصر كان بها، وإلا فغايته الشهادة، غايته أن يموت في سبيل الله، يقولون: هزم المجاهد فقتل، نقول لهم: بل انتصر، فإن غايته أن يموت شهيداً، غايته أن يدخل الجنة، وما خرج إلا للشهادة، فإن حصل النصر فـ {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف:13](67/9)
أهل الأعذار يصرون على القتال
أهل الأعذار كانوا يتمنون الجهاد، بل ذهبوا للجهاد، هذا أعرج قد عذره الله عن الجهاد عمرو بن الجموح، يقول لأبنائه جهزوني، فيمنعونه ويأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيقول لهم: (لا عليكم أن لا تمنعوه، لعل الله أن يرزقه الشهادة) وهو يقول لأبنائه: والله لأطأن بعرجتي الجنة، فقاتل حتى قتل في أحد.
ابن أم مكتوم أعمى لا يُبصر، قال: أريد الجهاد، قالوا له: ماذا تصنع بالجهاد؟ قال: والله لأذهبن إلى الجهاد، قالوا: ماذا تريد أن تصنع؟ قال: أمسك لكم الراية، فمسك الراية فتكسرت الرماح عليه، فقتل واستشهد في سبيل الله وهو ممسك براية الإسلام، قتل ولكنه ما مات إنها الرجولة أيها المسلمون {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23].
حنظلة في ليلة زفافه يجامع زوجته ويسمع منادي الجهاد ينادي: حيَّ على الجهاد، حيَّ على الجهاد، فإذا به ينتفض ويقوم من الفراش، ويلبس ملابسه، ويحمل سلاحه فيقاتل حتى يقتل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيته يُغسل بين السماء والأرض بصحاف من ذهب) ماذا صنع؟ قاتل ولم يغتسل من جنابة
يقول أنس لـ سعد: ما أجلسكم يا سعد؟ قال: قتل رسول الله، قال: قوموا فموتوا على ما مات عليه، ثم ذهب فقاتل حتى قتل رضي الله عنه.(67/10)
عزة المسلمين
خالد بن الوليد كم معركة خاضها، لم يمت في المعارك؟!!
كنا جبالاً في الجبال وربما صرنا على موج البحار بحارا
بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب نفتح الأمصارا
لم تنس أفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
إنه الجهاد في سبيل الله، إنها الشهادة.
نعم.
قد يقتل من المسلمين ما يقتل، قد يثخن فيهم الجراح؛ ولكن: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104] والفرق: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104].
أحد قادة الكفار ماهان يخاطب خالد بن الوليد يقول له: إنا قد علمنا أنه ما أخرجكم من بلادكم إلا الجُهد والجوع.
أي: نحن نعرف أنكم جياع مساكين، وأنه ما أخرجكم إلا التعب والنصب والجوع، يظنون المسلمين يريدون طعاماً أو شراباً، يظنون المسلمين يريدون المنافع من المراكب، والبيوت الفخمة، ويريدون طيب العيش، مساكين! قال ماهان يخاطب خالداً: علمنا أنكم خرجتم جائعين، فهلموا نعطي كل رجلٍ منكم عشرة دنانير -رشوة- وكسوة وطعاماً وترجعون إلى بلادكم، وكل سنة نعطيكم مثل هذا المال.
انظروا إلى الرشوة، فقال خالد بن الوليد: (والله لم يخرجنا من بلادنا هذا غير أنا قومٌ نشرب الدماء -الله أكبر إنها الحرب النفسية قبل أن تكون جسدية- وأنه قد بلغنا أنه لا دم أطيب من دم الروم فجئنا لذلك) أي: جئنا لنشرب من دم الروم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] انظروا إلى صفات أولياء الله؛ أول صفة: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِين يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54].(67/11)
عاقبة ترك الجهاد
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إذا تباعيتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، واتبعتم أذناب البقر -ربا ودنيا وشهوات- وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم) وقال في الحديث الآخر: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم -يهود، نصارى، شيوعيون، هندوس، لا تينيون- يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، قالوا: أومن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم كثير، لكنكم غثاء كغثاء السيل، قد أوهن قلوبكم حب الدنيا وكراهية الموت).
في إحدى المعارك كان عدد الروم النصارى مائتين وخمسين ألف مقاتل -ربع مليون- والمسلمون أقل من اثنين وثلاثين ألفاً في عهد أبي بكر، وكان أبو عبيدة قد أرسل إلى أبي بكر: أما بعد: فإن الروم ومن كان على دينهم من العرب -أي: من حلفائهم النصارى- قد أجمعوا على حرب المسلمين، ونحن نرجو النصر، وإنجاز موعود الله تبارك وتعالى، قال: وأحببت أن أعلمك بذلك لترينا رأيك، فقال الصديق بعد أن ثبت قلوبهم، وشجعهم، وبعد أن دعاهم إلى الجهاد في سبيل الله؛ قال: خالدٌ لها، خالدٌ لها، والله لأنسين الروم وساوس الشياطين بـ خالد بن الوليد.
فإذا بالصحابة يقاتلون فيدكون الأرض دكاً تحت أقدامهم، يأتيهم من الأفق نداء الله عز وجل وهم يقاتلون: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:14] * {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة:15] فإذا بـ خالدٍ يدك الأرض دكاً.
وتمضي قوافل المجاهدين، والجهاد باقٍ إلى أن تقوم الساعة قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من هذه الأمة تقاتل في سبيل الله حتى يقاتل آخرهم الدجال) القتال ماضٍ، والجهاد ماضٍ، والخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] الله مولانا ولا مولى لهم!(67/12)
الولاء والبراء
الله مولانا نوالي فيه، ونعادي فيه، نحب من أحب الله ورسوله، ونعادي كل من عادى الله ورسوله، نحب في الله، ونبغض في الله، نحب المؤمنين في أي مكان في الأرض، ومن أي جنسٍ، نواليهم في الله: (فالمسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه).
(مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) الحديث، حتى العاطفة فقدت في قلوب كثيرٍ من المسلمين اليوم، أين الولاء في الله؟ أين البراء في الله؟ أسوتنا بإبراهيم عليه السلام: {وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] لا نحب الكافرين ولو كانوا أقرب الناس إلينا، لا نحبهم ولا نواليهم، بل نعاديهم في الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] أي: اليهود والنصارى ومن حالفهم وشايعهم؛ بعضهم أولياء بعض: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} [المائدة:51] وأعظم الولاء الحب والنصرة، فمن أحبهم ونصرهم فهو منهم: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51].
ومن اتخذهم أولياء، فإنه ليس له من الله في شيء، الله عز وجل يتبرأ منه: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران:28] بل إن الله نفى الإيمان عنهم: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22](67/13)
المنافقون والفتن
وهنا يبرز المنافقون، ويرفعون رءوسهم، هنا وقت الفتن والمحن، إذا اشتد الأمر على المؤمنين الصادقين تكلم ونطق المنافقون، ماذا يقولون؟ وماذا يصنعون؟ هذا وقتهم قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [الحشر:11] الله عز وجل قال إخوانهم أي: كفار مثلهم: {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الحشر:11].
هذا وقت المنافقين، مذبذبين لا تعرف حقيقتهم، هل هم مع المؤمنين أم مع الكفار: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ} [النساء:138] الذين يشايعون اليهود والنصارى والكافرين: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:138 - 139] تعرف لم يصنعون هذا؟ يريدون النصر منهم، والعزة بهم: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [النساء:139].
هكذا هم في حقيقتهم يتبعون اليهود والنصارى: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لدخلتموه) الله مولانا ولا مولى لهم.(67/14)
وألف بين قلوبهم
أيها الإخوة الكرام! بشائر النصر قد ظهرت، وقد لاحظتموها، هاهم المؤمنون الصادقون في مشارق الأرض ومغاربها -وكما قيل: رب ضارة نافعة- كلهم قد أشعلت في قلوبهم جذوة الإيمان، قد رفعوا رايات وكتبوا عليها لا إله إلا الله محمد رسول الله، شعارهم: الله أكبر والعزة لله، أعلامهم ليس فيها إلا لا إله إلا الله محمد رسول الله، ما الذي جمعهم؟ ما الذي ألف بين قلوبهم؟ ما الذي أحيا الإيمان في قلوبهم؟ إنه الله عز وجل.
ألا ترون إلى المساجد كيف تمتلئ؟ ألا ترون النساء كيف يقبلن على الحجاب؟ ألا ترون الناس يقبلون على دين الله عز وجل أفواجاً؟ ألا ترون الشعوب كلها تطالب بتحكيم شرع الله؟ لا عزة إلا بتحكيم الشرع، لا نصر إلا بالرجوع إلى الكتاب السنة: (تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي).
ألا ترون طلائع الجهاد في سبيل الله، كلما أراد الكفار أن يطفئوا نور الله فإن الله عز وجل يظهر دينه: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32] كم نسمع في هذه الأيام من التائبين الذين يقبلون على دين الله أفواجاً، وأعداد لا نحصيهم، دعاهم الله جل وعلا.
يقبلون على الدين بغير دعاته إلى الله، قوافل كثيرة يقبلون على دين الله، بل كم وكم نسمع هذه الأيام من الشباب الذين يريدون أن يجاهدوا في سبيل الله، قبل أيام كانوا في المراقص، قبل أيام كانوا في الملاعب، قبل أيام كانوا لابد يدخلون المساجد، أما اليوم يبكون من خشية الله، يبكون توبة لله، وأحدهم يقول: أريد الجهاد في سبيل الله: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:110].
إذا ظن الناس أنه لا مفر ولا نجاة، جاء نصر الله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور:55] أبشروا فإن الخلافة ستعود، خلافة على منهاج النبوة، ولا تزال في هذه الأمة طائفة على الحق ظاهرين، وسوف يعود النصر للمسلمين، وسوف يبعث الله على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها.
أبشروا أيها المؤمنون، وعليكم بالدعاء: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] عليكم بالثلث الأخير، عليكم بالدعاء في السجود، فإن الدعاء سلاح المؤمن، الدعاء يفوق الصواريخ، ويفوق القنابل، ويفوق المتفجرات، الدعاء سلاح المؤمن: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62].
أشعلتها من دمي جمراً وبركاناً أججتها من قرار القلب نيرانا
فلا لشرق ولا غربٍ نطأطفها تلفظ الجبهة الشماء إذعانا
إن البطولة صاغتها عزائمنا فجراً منيراً وتحريراً وإيمانا
يؤجج النار في أعماق إخوتنا ويزهق الباطل المدحور مذ كانا
هدي الرسول رسول الله لقننا أن الهزيمة ليست من سجايانا
فبورك الدم روى قرب معتركٍ أرواحنا في لظاه من عطايانا
جند العقيدة يمضي ركبنا قدماً فلا يخلف طاغوتاً وأوثانا
نحرر الأرض من أغلال تجزئة قد مزق الدار أقطاراً وأوطانا
نحرر الفطر من أغلال مهزلة وردة مالها إلا سرايانا
نحكم الشرع منهاجاً لأمتنا ونحمل المشعل الوقاد فرقانا
منهاجنا قلعة في القلب نحرسها وبالدماء لها أغلى ضحايانا
تأبى عقيدتنا تأبى شريعتنا أن يصبح الناس أدياناً وقطعانا
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداء الدين، اللهم من أراد بالإسلام والمسلمين سوءاً فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره، ورد كيده في نحره، اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزم أعداء المسلمين من اليهود والنصارى ومن شايعهم، اهزمهم وانصرنا عليهم، اللهم اقذف الرعب في قلوبهم، اللهم شتت جمعهم، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، اللهم مزق جمعهم، اللهم انصر عبادك المجاهدين، اللهم اربط على قلوبهم، اللهم ثبت أقدامهم، اللهم اجمع كلمتهم، اللهم اجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين، اللهم ارفع راية الجهاد، اللهم ارفع راية الجهاد، واقمع أهل الكفر والفساد، اللهم انصر عبادك المسلمين، اللهم انصر عبادك المسلمين في كل مكان.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(67/15)
تاج الوقار
يقول صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) وهذه الخيرية تدل على عظم هذا القرآن وفضل تعلمه وتعليمه للناس، وكما ثبتت له الخيرية في الدنيا كذلك ثبتت له في الآخرة، فيوم القيامة يؤمر حافظ القرآن بتلاوة القرآن حتى تكون منزلته عند آخر آية يقرؤها، وحافظ القرآن يكفيه فخراً أنه يقدم في كثير من المواضع مثل الجهاد والصلاة والدفن وفي غيرها من المواضع.(68/1)
الترغيب في حفظ القرآن الكريم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فأشكر الإخوة المنظمين لمثل هذا المشروع المبارك، والقائمين عليه، والمشاركين فيه، ثم أشكر الإخوة الحضور الذين تكبدوا العناء، وقطعوا كثيراً من أوقاتهم، وفرطوا في أعمالهم؛ لأجل أن يحضروا لمثل هذا الدرس المبارك إن شاء الله.
وأنا أنتظر موعد حديثي لهذه المحاضرة تذكرت حفلاً آخر وموعداً آخر لتكريم حفظة كتاب الله، وإن كان هذا الحفل قد أثلج صدورنا، وأصاب كل واحد منا بنشوة وفرح، وأظن ما من شخص في هذا المجلس إلا وفيه حسرة لما ضيع من حفظ كتاب الله مما فرط من الأوقات؛ لأنه لم يحفظ كتاب الله كاملاً، فأي حفل أقصد؟ إنه الحفل الذي سوف يجمع الناس يوم القيامة، ويبدأ الله جل وعلا في فصل القضاء وحساب الناس، فيخرج الله جل وعلا حفظة كتابه، فيأمرهم جل وعلا بالقراءة.
أرأيتم إلى الشاب الذي قرأ؟ ألم يثر رغبتكم في حفظ كتاب الله؟! ألم يجعلكم تتحسرون لما ضاع من العمر الذي لم نحفظ فيه كتاب الله؟! حتى إذا كان يوم القيامة، يقال لقارئ القرآن وصاحبه الذي حفظه في الدنيا: اقرأ، ويبدأ يقرأ أمام الناس، وأمام الخلق، والرب جل وعلا يسمعه وهو أعلم به، وكلما قرأ آية ارتفع درجة، قل لي بربك: من حفظ البقرة كلها كم سيرتفع؟ ومن حفظ القرآن كاملاً أين منزلته؟ الله أكبر! إنه الحفل العظيم الكبير عند الله جل وعلا يوم القيامة.(68/2)
عظمة القرآن
أيها الإخوة الكرام: حديثنا عن القرآن، ومن أنا حتى أتكلم عن القرآن؟! يكفيه شرفاً أنه كلام الله جل وعلا، {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهَُ} [التوبة:6] يكفيه شرفاً أنه تكلم به الرب جل وعلا من فوق سبع سموات، نقله جبريل إلى محمد عليه الصلاة والسلام إلى هذه الأمة إنه القرآن العظيم الذي أخبر الله عنه فقال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} [الزمر:23] أحسن حديث، مهما تكلمت الآن لو تكلمت ساعات طوال لا يعادل كلامي آية من كتاب الله جل وعلا، فإنها تشتمل على معانٍ عظيمة وحكم وأحكام وشرائع، وآية من كتاب الله توازي كلام البشر وأعظم {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً} [الزمر:23] إذا سمعته ماذا يحصل لك؟ {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم} [الزمر:23] لو كنا حقاً نخشى من الله حق خشيته، لاقشعرت جلودنا عند سماعه.
وصدع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوته فما استطاعوا له، فنادوا أبلغ العرب وأفصحهم وأكثرهم جرأة وهو الوليد بن المغيرة، وقالوا له: اذهب فاهجه يا وليد، وقل له كلاماً تنقله العرب عنك.
فإنه إذا تكلم بالشعر حفظه الناس ورددوه قل كلاماً فيما يقوله هذا الرجل -يعنون محمداً عليه الصلاة والسلام- فذهب الوليد بن المغيرة إلى رسول الله، وقال: هات ما عندك يا محمد؟ فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم وأخذ يقرأ، والوليد بن المغيرة شاعر عربي فصيح بليغ يعرف معاني هذه الكلمات التي لا نعرف نحن بعضها، فهو شاعر عربي من أقحاح العرب، يعرف كل كلمة ومدلولها وما الذي جعل هذه الكلمة بعد هذه الكلمة فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوله جل وعلا: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13] فقال: حسبك حسبك، أنشدك الله والرحم.
ثم فر وهرب، وأتى إليهم وقد تغير وجهه، فقالوا: لقد صبأ صاحبكم، لقد سحره محمد، ثم قالوا: ما الذي جرى لك؟ هل صبأت؟ هل سحرك محمد؟ فقال: لقد سمعت قوله، والله إن فيه لحلاوة -يقول عن القرآن- وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وإنه ليحكم ما تحته! قالوا: ماذا تقول؟ قل فيه قولاً، قال: إن قلت شعراً فهو ليس بشعر، وإن قلت كذا فهو ليس بكذا، ماذا أقول لكم؟ فأخذ ينظر وأخذ يفكر ويقدر ثم التفت إليهم وقال: قولوا فيه: سحر يؤثر.
قال الله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} [المدثر:11 - 18] من الذي فكر وقدر؟ إنه الوليد بن المغيرة، انظر وصف القرآن الدقيق له! {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ} [المدثر:18 - 21] أخذ يفكر {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:22 - 26] أرأيت إلى المشركين كيف تأثروا بالقرآن؟ إنه قرآن عظيم!
أما سمعت يا أخي العزيز! كم من الناس أسلموا لما سمعوا آيات من القرآن، فهذا الصحابي الجليل جبير بن مطعم، وقبل أن يسلم هذا الصحابي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي المغرب في الكعبة، يقول: وما في قلبه رجل أبغض إليه من هذا الرجل -يقصد الرسول عليه الصلاة والسلام- كان يكرهه ويبغضه، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم سمعه يقرأ في الصلاة سورة الطور التي يحفظها أكثر الشباب الآن، يستمع إليها وقد كان مشركاً كافراً بالله وماذا نقول لبعض الناس من المسلمين الذين إذا قرئ القرآن لا يستمعون؟ حتى وصل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى قول الله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} [الطور:35] ففكر جبير: هل أنت خُلقت من غير شيء؟ مستحيل! لا بد أن هناك شيئاً قبلي، إذاً من الذي خلقني؟ لا بد أن هناك خالقاً خلقني إذاً من الخالق؟ {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] انظر إلى التدرج في القرآن، يخاطب النفس ويخاطب الفطرة أنت خلقت نفسك يا جبير؟ مستحيل! أنا لم أعرف نفسي قبل أن أولد، إذاً من الذي خلقني؟ هناك خالق ولست أنا، هناك شيء أعظم منك يا جبير، هناك سموات سبع عظام، هناك أراضين، هناك ما بين السماء والأرض {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} [الطور:35 - 36] قال جبير بن مطعم: فكاد قلبي أن يطير، وما إن انتهت الصلاة إلا وسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم وكلمه بعض الكلمات ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك محمداً رسول الله.
ألم تسمعوا عن قوم ما سمعوا شيئاً إلا كلام الله فإذا بهم يشهدون الشهادتين؟ ليسوا ببشر إنهم من الجن، سمعوا بعض الآيات من كلام الله جل وعلا، قال الله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} [الجن:1] الجن الذين عرف عنهم العتو وسفك الدماء والكذب والخداع والكفر إلا من رحم الله منهم يقولون: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} [الجن:1 - 2] إنه كتاب الله.(68/3)
حالنا مع كتاب الله
هذا هو القرآن الذي هجره بعضنا فلم يختمه إلا في رمضان وينتظر رمضان القادم!
هذا هو القرآن العظيم الذي كان الصحابة يجادلون الرسول في قراءته (يأتي رجل فيقول: أريد أن أختم القرآن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأه في شهر قال: إني أطيق أكثر من هذا قال: اقرأه في سبع قال: إني أطيق أكثر من هذا قال: اقرأه في ثلاث - أي: اختم القرآن في ثلاث ليال، كل يوم عشرة أجزاء -قال: إني أطيق أكثر من هذا قال: لا يفقه القرآن من قرأه في أقل من ثلاث).
يجادلون الرسول عليه الصلاة والسلام في قراءة القرآن ويريدون أن يختموه في أقل من ثلاثة أيام، وأنا أسألكم وكل منا يسأل نفسه: منذ رمضان الماضي إلى هذه اللحظات وقد مضت أشهر عديدة من منا ختم القرآن؟ ثم نبكي حالنا ونردد قول الله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان:30].
من منا -أيها الإخوة الكرام- جعل في البيت جائزة ومكافأة لمن يحفظ كتاب الله جل وعلا في هذا الصيف، أو لمن يحفظ الجزء الثلاثين أو جزء تبارك أو أي جزء من القرآن؟ من منا فكر أن يحيي القرآن في بيته ويحيي أهله بالقرآن؟ أتعلمون أن من الناس من إذا دخل البيت ضاق صدره؟ يشتكي لي بعض الناس ويقول: إذا دخلت البيت ضاق صدري، وأحس بوحشة، وأتمنى الخروج من البيت، أقول له: إن بيتك لا تدخله الملائكة، بيتك عششت فيه الشياطين، هل تقرأ فيه القرآن؟ قال: كلا.
هل تصلي فيه السنن؟ قال: كلا.
هل يسمع فيه ذكر الله؟ قال: كلا، قلت: إذاً ما الذي يكون في بيتك؟ قال: التلفاز، والمسلسلات، والأغاني، قلت: ولا تريد أن تصاب بضيق الصدر!
بيوت الصحابة كانت في الليل لا يُسمع فيها إلا البكاء، وقراء القرآن يمر عليه الصلاة والسلام يوماً ببيوت الصحابة في الليل -انظر إلى قائد الأمة في الليل يطمئن على شئون الأمة- فإذا به يجد بيتاً قديماً فيه امرأة عجوز، والمرأة تقرأ القرآن وصوتها يخرج من البيت، وهي تقرأ وتبكي، ويسمعها المصطفى عليه الصلاة والسلام وهي تقرأ قول الله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] فتبكي وتقول: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] فيسمعها المصطفى، فيبكي معها وهو يقول: (نعم أتاني، نعم أتاني) أرأيت كيف يعيشون مع القرآن؟ بيوتهم امتلأت بالقرآن، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن فإن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة) اقرءوا سورة البقرة في بيوتكم، اقرءوا القرآن، انشروا كلام الله جل وعلا، وأنا أعلم أن من الأطفال من عمره أربع سنوات ويحفظ عدة سور من القرآن بل من هو أصغر من أربع سنوات ويحفظ بعض السور، بل في بعض الدول غير العربية لا يعرفون اللغة العربية، ومن الصعب عليهم أن يحفظوا كلام الله أرسل رجل ابنه إلى مدرسة ليدرس فيها ثلاث سنوات يحفظ كتاب الله عن ظهر قلب، فرجع الابن الصغير بعد ستة أشهر وخرج من المدرسة، فقال له الأب: يا بني لم خرجت من المدرسة؟ بقي لك سنتان ونصف.
فقال الابن الصغير لأبيه: يا أبي! ومن قال لك أنني خرجت هكذا؟ قال: لم خرجت؟ قال: لقد ختمت القرآن.
خلال ستة أشهر، أتعرف لماذا؟ {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] نعم.
إن الطفل الصغير عنده حافظة قوية جبارة، بل يقولون: إن أقوى الناس استخداماً لعقله هو الطفل، وهناك من المفكرين والعلماء والعباقرة من لا يستخدم من عقله إلا اثنان بالمائة فقط.
إذاً الطفل طاقة جبارة في الحفظ، فإما أن يحفظ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1 - 2] {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1 - 2] وإما أن يحفظ تلك الأغاني، والمسلسلات، والأفلام التافهة فلابد له من أحد هذين الأمرين.(68/4)
تدبر القرآن الكريم
كيف نعيش مع القرآن؟ القرآن عظيم، وليس هو للصغار أو الكبار أو للمرضى فقط، بل هو للناس كافة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم لـ ابن مسعود: (اقرأ علي القرآن.
قال: أأقرأ عليك وعليك أنزل قال: إني أحب أن أسمعه من غيري) فلا تجعل وقتك كله قراءة، بل اجعل بعض الأوقات للسماع، وضع بعض أشرطة القرآن في السيارة وأنت ذاهب إلى العمل وأنت ذاهب إلى المنزل (قال: إني أحب أن أسمعه من غيري) من القارئ؟ إنه ابن مسعود رضي الله عنه، ومن المستمع؟ إنه أفضل الخلق محمد عليه الصلاة والسلام.
وما الحديث بينهما؟ إنه كلام الرب جل وعلا، فإذ بالمجلس يعقد، وإذا بـ ابن مسعود يستعيذ بالله ويقرأ (قال: فقرأت من سورة النساء، حتى بلغت قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حسبك الآن.
فالتفت فإذا عيناه تذرفان) هذا هو القرآن العظيم، الذي أنار تلك القلوب الخاوية، وتلك الصدور الموحشة، وتلك الأفئدة المظلمة.
كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه يقرأ القرآن في الصلاة وكان إماماً، حتى وصل إلى قول الله جل وعلا: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:4 - 6] فانفجر بالبكاء، حتى ما استطاع أن يكمل القراءة، فكبر وركع وأكمل صلاته.
يقرءون القرآن بقلوب حية وجلة قال الله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} [الأنفال:2] هذه صفة المؤمنين، انظر هل أنت منهم أم لا؟ {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] هل إذا سمعت كلام الله يوجل القلب ويرتجف؟ {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [الأنفال:2] هل أنت منهم؟ {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2].
وهذا عمر بن الخطاب الذي كان قبل الإسلام ذا قلب شديد صلى بالناس صلاة الفجر، فقرأ سورة يوسف حتى وصل إلى قول الله جل وعلا: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86] فأخذ يبكي حتى سمع نشيجه وراء الصفوف أرأيت كيف يعيشون مع كتاب الله؟
قد تسألني وتقول: هناك هم في صدري.
أقول لك: اقرأ كلام الله تقول: هناك ضيق في الصدر.
أقول لك: اقرأ كلام الله.
تقول: أحس بعض الأحيان بالوحشة.
أقول لك: ارجع إلى كلام الله جل وعلا: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
انظروا إلى بيت الفضيل بن عياض الذي كان يسمى عابد الحرمين؛ رجل بلغ القمة في العبادة والزهد، هذا الرجل كان عنده ولد اسمه علي، وكان أعبد منه وأزهد؛ لأن رب الأسرة إذا كان صالحاً يخرج أولاداً صالحين هذا في الغالب والعموم:
إذا كان رب البيت بالدف ضارباً فشيمة أهل البيت الغناء والرقص
هذا الرجل دخل إلى البيت يوماً فرأى ولده علي بن الفضيل كأنه متضايق يجول في البيت وكأن شيئاً أصابه، فقال له: ما بالك يا بني؟ ما الذي جرى؟ قال: يا أبي تفكرت في النار كيف الخلاص منها؟ -انظر بماذا يهتم الابن ويفكر، أسألكم أيها الآباء: هل دخلتم إلى المنزل يوماً واشتكى الابن من شيء من أمور دينه؟ - قال: يا أبي تفكرت في النار كيف الخلاص منها؟ ثم قال: يا أبي أسألك أن تسأل الذي وهبك إياي في الدنيا أن يهبك إياي في الآخرة، ثم بكى، يقول الفضيل: فأحزنني فأخذت أبكي.
علي بن الفضيل كان ليله قيام ونهاره صيام، يقولون: ما كان يطيق أن يقرأ سورة القارعة سورة القارعة التي نرددها صباح مساء ونقرؤها ولا نتدبرها، علي بن الفضيل كان لا يستطيع قراءتها كلها، بل كان ما يطيق أن يسمعها من غيره.
وكان سفيان الثوري يحدث الناس في المسجد، فإذا به يسمع شاباً يبكي بكاء شديداً، فقال: من هذا الذي يبكي؟ قالوا: هذا علي بن الفضيل بن عياض، فقال لهم: والله لو علمت أنه في المجلس ما حدثتكم عن النار.
سألتني امرأة بالهاتف يوماً فقالت: يا شيخ أريد أن أنتحر.
لا إله إلا الله! في بلاد المسلمين ومن أب وأم مسلمين! لِمَ تريدين الانتحار؟ تقول: جربت كل أنواع المعاصي والفساد، والآن إذا لم تكلمني وتردني عن الانتحار فسوف أنتحر.
الله أكبر! أتعرف لماذا؟ {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} [طه:124] أي قرآن في جوفها؟ أي ذكر لله؟ أي صلاة؟ أي عبادة؟ {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126].
أيها الآباء: حرضوا أبناءكم على حفظ كتاب الله، وأتوا بهم إلى حلقات القرآن.
أيها الشباب: استغلوا أعماركم في حفظ كتاب الله فأيما إهاب -جلد- خالطه كلام الله فقد حرمه الله على النار، (يقال لصاحب القرآن يوم القيامة: اقرأ وارتق ورتل، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها).
يلبس تاج الوقار، ويكرّم أبوه وأمه عند الله جل وعلا يوم القيامة فإن أكبر شرف وأكبر عزٍ لك يوم القيامة عندما يأتى ابنك وقد ختم كتاب الله جل وعلا.
هل تريد يا أخي الكريم! أن يكون ابنك حافظاً لكلام الله أو مطرباً؟ اسأل نفسك هذا
السؤال
أيهما أشرف لك، وأكثر رفعة وعزة: أن يملأ صدر ابنك كلام الله جل علا، أم يملؤه الغناء والطرب؟ فكر، وكن صادقاً مع نفسك، فإن العبرة ليست في الدنيا، إذا تعلق الابن بأبيه يوم القيامة {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37].
أخي العزيز: لنرجع مرة أخرى إلى كتاب الله قراءة وحفظاً وتدبراً، يقول تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] فهذا سعيد بن جبير قام ليلة كاملة بآية واحدة يرددها ويبكي، وهو أحد التابعين، ومن أعبد الناس، يقوم ليلة كاملة بقوله تعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس:59].(68/5)
العمل بالقرآن
كتاب الله عمل.
نقرأ ونتعلم ثم نعمل، فهذا عمر بن الخطاب أغضبه يوماً عبد من عبيده، فكاد أن يضربه، فقرأ قول تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران:134] فقال عمر: كظمت غيظي قال: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134] فقال: عفوت عنك قال: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] قال: أنت حر لوجه الله.
انظر كيف كانوا يتعاملون مع كتاب الله!! {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] فهم يلتزمون ويحتكمون بكتاب الله جل وعلا.(68/6)
الحكم بين الناس بالقرآن
إذا اختلف الناس وتنازعوا فعليهم أن يرجعوا إلى كتاب الله، قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49] فكل من انصرف عن الحكم بكتاب الله فإنه يتبع هواه {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة:49] لو تركت شعيرة من شعائر الإسلام وقلت: أحكم بالكتاب كله إلا هذه، قال الله: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:49 - 50] ويقول صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي).
وأشكركم مرة أخرى أيها الإخوة الكرام على حضوركم وصبركم في هذا المجلس.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(68/7)
الأسئلة(68/8)
الحث على حفظ كتاب الله
السؤال
ما الفائدة من حفظ كتاب الله والله يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124]؟
الجواب
أنا أظن أن الآية دليل على الذي لا يحفظ كلام الله ولا يقرأ كلام الله، فالآية -أيها الأخ الكريم- دليل على استحباب التعلق بكتاب الله وقراءته وتدبره وحفظه، بل الآية من أوضح الأدلة على هذا، ولعلك تقصد آخر الآية: {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:126].
يقول العلماء: حفظ القرآن ونسيانه على مراتب:
من نسيه مع مراجعته ومعاهدته فإنه لا شيء عليه، لكن من حفظ القرآن ثم تركه وهجره ونسيه وضيعه فإنه يأثم، وليس معنى هذا أننا لا نحفظ، بل احفظ كلام الله فإنه يعينك على مراجعته ومعاهدته.
والله أعلم.(68/9)
ضعف الهمة بعد الدروس
السؤال
الآن هممنا عالية لكن بعد الدرس نضعف، فما هو الحل؟
الجواب
ومن منا لا يضعف بعد الدرس؟ ألم يشتكِ حنظلة من هذا الأمر؟ وقال: (يا رسول الله! إذا كنا عندك كأننا نرى الجنة والنار رأي العين، فإذا ذهبنا إلى أهلينا وأولادنا وعاشرنا النساء والضياع نسينا.
قال: لو تكونون كما كنتم عندي -أي: لو ظللتم على هذه الحالة- لصافحتكم الملائكة في الطرقات) فكل واحد يجعل له مجلس ذكر في البيت، ويبدأ يذكر نفسه حتى بين الأولاد والأهل اجعل لك مجلس ذكر في بيتك في الأسبوع مرة تقرأ رياض الصالحين، واجعل لك مسابقة في حفظ كتاب الله، فأنا أعرف أحد أولياء الأمور عندنا في الكويت يجعل مكافأة مالية وسفر الصيف تكريماً لحفظ كتاب الله، يقول: إذا لم تحفظوا فلن تسافروا، والذي يحفظ له جائزة زيادة.
يعطيهم أموالاً ويشتري لهم جوائز ويقول: والله لو تدخل علينا في البيت تفرح؛ هذا يحفظ، وهذا يسمع، وهذا مستعجل يقول: يا أبي كم بقي على نهاية الصيف، وكم بقي على الحفظ، فهل جربنا هذا؟ (لو كنتم كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات) ولعل الإنسان قد يصل إلى هذه المنزلة، ألم تأت الملائكة وتسلم على بعض الصحابة وتمثلت ببعض الصحابة؟ بلى.(68/10)
أمور تعين على حفظ كتاب الله
السؤال
ما هي الأشياء التي تعيننا على حفظ القرآن؟
الجواب
أولاً: دعاء الله.
ثانياً: الإخلاص، وبغير إخلاص لا تستطيع أن تحفظ.
ثالثاً: فراغ القلب، فإذا جئت للحفظ فلا تشغل نفسك أبداً، لا تفكر في أي شيء من أمور الدنيا، اشغل نفسك بكتاب الله، وحاول أن تحفظ.
رابعاً: اختر الأوقات المناسبة، وأفضلها بعد الفجر؛ لأن القلب فارغ، والذهن غير مشغول.
أيضاً: التزموا بمصحف واحد، فلا تحفظ -مثلاً- في مصحف مجمع الملك فهد، ومرة في مصحف الحرمين، ومرة في مصحف من طبعة أخرى، حاول أن تلتزم بمصحف واحد برقم واحد، وحاول أن تحفظ بشكل واحد حتى تحفظ مكان الآيات.
خامساً: المراجعة، فإذا حفظت آيات راجع التي قبلها حتى لا تنسى لأن القرآن كما يقول صلى الله عليه وسلم: (أشد تفلتاً من الإبل في عقلها).
أيضاً: اجعل لك مدرساً تسمع عليه وتعاهده ويعاهدك، وليكن شديداً بعض الشيء عليك، وليس من أقرانك كلما أردت أن تتكاسل قلت له: اليوم لا أسمع، لا.
بل يلزمك بالتسميع.
ثم ادع الله عز وجل أن يعينك.
هذه بعض الوسائل لحفظ كتاب الله جل وعلا.(68/11)
نسيان القرآن
السؤال
جاء في بعض الأحاديث: أن من أعظم الذنوب نسيان القرآن فما تعليقكم؟
الجواب
ذكرنا قبل قليل أن الإنسان لابد أن يتعاهد ويراجع دائماً، ويقرأ في السنن.(68/12)
أجر طباعة القرآن
السؤال
ما رأيكم في المساهمة في طباعة المصحف الشريف؟
الجواب
أعظم الأمور في ذلك إذا لقيت الله أن تطبع كتابه جل وعلا.
قد تقول: يا شيخ المصاحف متوفرة.
أقول: في بعض الدول ما عندهم صفحة من كتاب الله، وفي بعض البلاد لاتصلهم مصاحف، وأنا أعلم أن بعض المشاريع الخيرية تطبع لك المصحف وتوزعه في هذه البلاد وأنت جالس في بيتك.
يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث منها: علم ينتفع به) وهل هناك علم أعظم من القرآن الذي صلاح الأمة به؟! فعليكم بطبع كتاب الله وتوزيعه، ولا تبالوا بمن يثبطكم عن هذا الأمر.
ثانياً: أرجو الإعلان للحضور بأن جمعية دار البر تقوم بطباعة المصحف بأحد عشر درهماً، أي بدينار كويتي، فاطبع ولو في الشهر نسخة، اجعل لك في كل شهر مصحفاً تطبعه، وستجدها عند الله، فكل من قرأ حرفاً بحسنة والحسنة بعشر أمثالها وكلها في ميزانك عند الله، فإنك قد لا تقرأ إلا القليل لكن انظر من الذي يقرأ في المصحف الذي طبعته ووزعته، وأنا أرجو من كل واحد منا إذا خرجنا أن تساهموا بما تستطيعون لطبع كتاب الله، ولا تؤجل عمل اليوم إلى الغد.(68/13)
مساهمة الأسرة في حفظ كتاب الله
السؤال
ألاحظ بين أسماء الفائزين في المسابقة ثلاثة إخوة من أسرة واحدة، فما تعليقكم على هذا؟
الجواب
بارك الله فيهم وبارك في والديهم.
يقولون: أكثر الأولاد وراءهم أمهات، واسمحوا لي أيها الآباء، أن أقول: إن أغلب الأولاد تجد الأم تتابعه وتحثه على حفظ كتاب الله، ولهذا اختر الزوجة الصالحة، عليك بذات الدين، (اظفر بذات الدين تربت يداك) الأب قد يكون مشغولاً ولكن من الذي يجلس عند الأولاد؟ من الذي يربيهم أربع إلى خمس سنوات؟ من الذي يعلمه ويربيه وينشئه على القرآن؟ إنها الأم الصالحة، والأب له دور عظيم، ونعم لا ننكر هذا، فأنا أعرف بعض الأولاد منهم الخاتم ومنهم من يحفظ عشرين جزءاً ومنهم عشرة أجزاء، بل أذكر عندما كنا في المملكة أثناء الأزمة التي مرت كنت في المسجد وكان هناك أب عنده ما يقارب أحد عشر ابناً نصفهم تقريباً ختم القرآن والنصف الآخر في الطريق، أحد عشر كوكبة، كل صلاة تلقاهم جالسين هذا يراجع وهذا يسمع الله أكبر! والله لو كان عندك أولاد مثل هؤلاء تنسى الدنيا كلها، ولو أنك تنام على حصير وتأكل كسرة خبز، هذا طعامك وهذا ما تملكه من الدنيا وعندك أولاد مثل هؤلاء والله لكأنما حيزت لك الدنيا بحذافيرها.
فاحرص على الأولاد، وجعلهم يلتحقون بهذه الحلقات، وإذا لم يكونوا في حلقات فقم أنت بتشجيعهم بمالك وبما تملك.
قبل الأخير: هل يجبر الأهل أو الأصدقاء على حفظ القرآن؟
الجواب: لا يجبرون على ذلك، لكن الحث، والترغيب قبل الترهيب (يسروا ولا تعسروا، بشروا ولا تنفروا) وأسلوب المكافئة للأطفال وأما إذا ضربته فقد يحفظ اليوم وينسى غداً، بل قد يكره القرآن الذي حفظه؛ لأنه ضرب لأجله، لذلك أنا أنصح الآباء بالتي هي أحسن، بالمكافأة وبالجائزة والتشجيع وتقدم الابن الذي يحفظ أكثر، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقدم حتى في القبر يقدم حافظ القرآن على غيره، وكان يقول: (يؤمكم أقرؤكم لكتاب الله) وكان الصحابة في الجيوش يقدمون الأقرأ، الذي يحفظ أكثر ولو كان أصغر سناً، بل ثبت عن عمرو بن سلمة وكان عمره سبع سنوات أنه كان يصلي بالناس، وكان أكثرهم حفظاً، وابن عباس كان عمره عشر سنوات وليس يحفظ القرآن فقط، بل تفسيره وأحكامه وكل شيء عن القرآن، حتى سمي ترجمان القرآن وعمره عشر سنوات، وكل كتب التفسير فيها: قال ابن عباس، وكان عمره عشر سنوات لما توفي رسول الله.
إذاً الله الله في الرجوع إلى كتاب الله.
نسأل الله أن يثبتنا وإياكم، وجزاكم الله كل خير، وأشكر الإخوة الفضلاء الذين أقاموا هذا المشروع وهذا البرنامج والذين حضروا، وأسأل الله جل وعلا أن يكونوا قدوات لغيرهم، وجزاكم الله خيراً.
والحمد لله رب العالمين.(68/14)
أخطار تهدد البيوت
من الأخطار التي تهدد البيوت: الخمور والمخدرات، فقد تفشت ودخلت كثيراً من البيوت، حتى إن بعض البنات يغلقن على أنفسهن غرفهن بالمفاتيح خوفاً من آبائهن الذين صاروا في حالة سكر لا يعرفون معها ماذا يعملون، وكذلك المخدرات التي قد أدمن عليها الكثير من الأبناء والبنات والآباء.
ومن الأخطار أيضاً: السحر، حيث يستخدم في التفرقة بين الزوج وزوجته، وبين الوالد وولده.
ومن الأخطار أيضاً: التلفاز والدش اللذان عم فسادهما في الأمة.(69/1)
الأخطار المحدقة بالبيوت
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الأخوة الكرام: حديثنا في هذه الخطبة عن بيوتنا وأسرنا، وعن هذه الأماكن التي نعيش فيها كيف نعيش؟! وما هي الأخطار التي تهددها؟!
عبد الله: قبل أن أبدأ بالكلام عن هذه الأخطار والمصائب التي داهمت بعض البيوت، إياك ثم إياك أن تجيبني فتقول: الحمد لله! بيتي خالٍ من هذه الأمور الحمد لله! لم أر كل هذا في بيتي، لا تقل ولا تجب بهذه الإجابة فإنك من بيت جارك قريب، وابنك يلعب مع أبناء الجيران؛ بل يدرسون في مدرسة واحدة ابنك مع ابن فلان وابن فلان، بل إنك تعيش مع البيوت التي بجوارك عيشاً واحداً ابنك معهم، وابنتك مع بناتهم، وزوجتك تزورهم ويزورونها.
عبد الله: إن ما يحدث في بيوت كثير من المسلمين لمصائب خطيرة، لا نستطيع السكوت عنها، بل لا يستطيع أحد منا أن يصبر عليها، وسوف نتكلم عن جزء يسير عما يحدث في بعض بيوت المسلمين، وإلا فلو استرسلنا لطال بنا المقام، فالمعاصي التي بدأت تدخل بعض البيوت، سوف نتكلم عن جزء وطرف منها(69/2)
الخمور والمخدرات تهدد البيوت
أولاً: ما داهم بعض البيوت من الخمور والمخدرات والمسكرات، ولا أتكلم عن خيال، بل يأتيني بعض الشباب في هذا المسجد يشتكي لي من سلات المخدرات، تدخل دور الأحداث، وسلوا المتخصصين وأهل الأمن: هل هي منتشرة أم لا؟ بل إن بعض أبناء المصلين قد أصابهم هذا الداء داء ومرض تشتكي منه الدول العظمى قبل الدول الصغرى، يحاولون حربه والتخلص منه، يطبقون أقصى أنواع العقوبات ولكنه ينتشر، يمنعونه بكل الوسائل لكنه يفشو، يحاولون حربه لكنه ينتصر هل تعرفون ما الحل؟! لا حل في نجاتنا من هذه المخدرات ودائها وانتشارها حتى في هذا المجتمع إلا بالدين، وبالرجوع إلى المساجد، وبقراءة القرآن.
اجلس مع بعض الشباب في تلك الزوايا وفي تلك الأماكن المظلمة، وسلهم عم يصيبهم وعم يعانون منه؟
يقولون لك: المخدرات لا نستطيع التخلص منها؛ بل إن هناك بعض صغار السن قد أصيبوا بهذا الداء، كان في البداية هزلاً ومزاحاً، وكان يلائم أصحابه ويسايرهم ولكنه بعد هذا أصبح إدماناً، ثم لا تسل عما يحدث بعد المسكرات والمخدرات من جرائم، بعض البنات في بعض البيوت وقد سمعنا هذا من الثقات يقولون: إنهن يغلقن على أنفسهن الباب بالمفتاح خوفاً من آبائهن وإخوانهن، تعلمون لِمَ؟ لأن الآباء في حال السكر لا يعرفون ماذا يفعلون!!
عباد الله: إنها بيوت قريبة لو كنا نعلم إنها بيوت بدأت تنتشر ونحن لا نشعر، هذا أول داء هدم كثيراً من البيوت، حتى أصبحت بعض النساء تذهب خارج البيت تبحث عن المال؛ لأن الأب قد أنفق جميع معاشه على المخدرات، بل استدان واقترض مالاً في سبيل المخدرات، لأنه لم يستطع أن يتخلص منها، بل إن بعض الرجال يسرق مال زوجته وذهبها ليشتري به المخدرات، بل إن بعض الرجال قد فصل من العمل، وطرد من الوظيفة، وجلس في البيت وتجولت امرأته في الطرقات تبحث عن مال تطعم به أولادها وأطفالها وتحفظ به نفسها، ثم بعد هذا باعت عرضها، فدمرت البيوت، هل تعرفون ما البداية؟
البداية: أن صاحب سوق دخل البيت، أو تعرف عليه الولد في المدرسة، أو صاحبة سوق تعرفت عليها البنت في الثانوية، أو في الأسواق، أو مع الجيران، وكانت في البداية حبة صغيرة وضعت في كأس من البيبسي أو الماء أو العصير فتلذذت به وتلذذ بها، ثم الحبة تلتها أخرى، ثم أصبح الأمر إدماناً، ثم تهدمت البيوت، هذه معصية من المعاصي، وهي كثيرة سوف نسرد بعضها.(69/3)
السحر وتدميره البيوت
عباد الله: إن مما يدمر بيوت المسلمين هو ما يحدث في هذه البيوت من السحر والكفر بالله العظيم، حتى أصبح كثيراً من الناس يشتكي ويقول: لا أستطيع أن أجامع زوجتي، والولد يشتكي من مرض لا سبيل له، والأم تشتكي من الزوج، حتى إن بعض الناس قد يذهب إلى بلاد أخرى ليفك سحره بسحر آخر، بل أتاني كثير من الناس، بل للأسف بعضهم من المصلين يعطيني أوراقاً يشتكي منها ليس فيها إلا طلاسم وسحر وشعوذة، فماذا كانت النتيجة؟ الانفصال عن زوجته.
نعم! إن للسحر حقيقة: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:102] لا يراقب أحد منا من يدخل بيته، ولا يحذر مِمن يدخل بيته، فعندما يدخل فلان وتدخل فلانة، يضعون الأوراق وتلك الخرزات، ويشرب هو من بيت الجيران أصحاب سوء الذين لا يعرفون ذكر الله ولا الصلاة، أو يأخذ بعض الخيوط، أو يشتكي من فلان، والمصيبة أن هذا الرجل قد يكون صاحب دين لكنه من أفجر خلق الله؛ بل لعله يكفر بالله العظيم.
عباد الله: إن ما يحصل في كثير من البيوت، نعلم عنها ويعلم عنها بعض الناس، ويدخل إلى هذا المكان ويشتكي لي أنه قد طلق زوجته، وأن المرأة قد هربت من البيت، وأن البيت قد ضاع، والأولاد قد تركوا البيت أكثر من شهر وشهرين، وأن البيت قد انهدم كل هذا كان بسبب ورقة، أو بسبب خيط، أو بعض الخرزات، أو بسبب فلانة الساحرة التي كانت تتردد على البيت، يقول: أستحي أن أطردها سبحان الله! الآن تجرع مرارة هذا الحياء الآن تحمل عقوبة هذا الذنب الذي ارتكبته؛ أنك سمحت لها أن تأتي إلى هذا البيت، بل والله لو كانت من أقرب الأقربين، أو من أقرب الأرحام، فلتطرد من البيوت.
حد الساحر -يا عباد الله- القتل؛ لأنه لا يستحق الحياة على وجه هذه الأرض، لأنه يفرق بين الناس، ولأنها تفرق بين الخلق.(69/4)
التلفاز والدش وتدميرهما للبيوت
ومن المنكرات التي دخلت بيوت كثير من المسلمين وهم لا يشعرون ولا يأبهون بها: هذا الجهاز الخبيث الذي يسمى (التلفاز) الذي جلب لنا بعده الفيديو، ثم صار الأمر أخطر من هذا وأكبر وأعظم، حتى ركبت الصحون على البيوت، وهذا البث المباشر الذي ملأ كثيراً من أسقف المسلمين، فيعرض فيه وينشر من خلاله العهر والدعارة والعري والفسق والمجون، ثم يقوم ويشتكي رب الأسرة، ويقول: لا أستطيع أن أرد الأولاد، ثم يشتكي ويقول: لو لم أشتره لاشتروه ووضعوه فوق البيت كيف أصبحت رباً للأسرة؟! ألست راعياً ومسئولاً عن رعيتك؟! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] هل هكذا تقي أهلك وأولادك وبناتك من النار؟!
عبد الله: كن عاقلاً.
يا عباد الله! إن هناك من الصحون (الدشوش) في هذا الزمان ما لا يحتاج رب الأسرة إلى أن يضعه فوق السطوح؛ بل في الغرفة، ثم تأتي لك بجميع البرامج من جميع أنحاء العالم، لتختر منها ما تشاء، ولتضع يدك على الزر الذي تختاره، فتأتيك تلك الأفلام والمسلسلات الماجنة الخليعة من الذي ينظر إليها؟ إنها ابنتك، وأختك، وزوجتك، وجارتك، وبنت عمك.
وإن لم تمنع هذه الصحون (الدشوش) من البداية، وإن لم تقطعها من دابرها، فسوف تصبح كالتلفاز، كما أننا الآن لا نستطيع أن نمنع (التلفاز) وقد كان فيمن كان قبلنا رجال صالحون إذا قيل لهم: أدخلوا (التلفاز) في بيوتكم؟ قالوا: كلا ولا.
لن ندخل (التلفاز) إلا على قطع رقابنا؛ ولكن البلاء قد انتشر، والآن عندما يقال للصالحين: أدخلوا الصحون (الدش) في بيوتكم، وهذا البث المباشر يقولون: لا والله! لا ندخله إلا على قطع الرءوس، فنحن إن سكتنا على هذا المنكر، وإن انتشر في البيوت التي بجوارنا فسوف يدخل بيوتنا، بل إن بعض (الصحون) لا تنقل هذا البث في بيتها فقط؛ بل حتى في البيوت المجاورة، فيضع الفاسق أو الماجن بثاً مباشراً على سطح بيته فينتقل هذا البث إلى بيوت الجيران من غير أن يشتروا هذه الدشوش.
عباد الله: عندما نقلب الصفحات والجرائد نتعجب من شاب عمره ثلاث عشرة سنة يسرق ويقبض عليه سارقاً للذهب والمجوهرات! أو عمره خمس عشرة سنة قبض عليه وهو يتعاطى المخدرات! أو بنت عمرها ست عشرة سنة تبيع ذهب أمها ثم تسافر إلى خارج البلد وتهرب! أو عمرها ثماني عشرة سنة هربت من بيت أبيها ولم يجدها إلا بعد شهر!
ونتعجب كيف يتعلم ذلك الشاب كيف يسرق من الناس الذهب والسيارات والبيوت والمجوهرات والخزائن؟!
بل نتعجب كيف تعلمت هذه البنت الصغيرة كيف تخرج من بيت أبيها وأمها؟!
أتعلمون ما هو السبب؟ أو ما هو الطريق؟
إنه ذلك الجهاز الذي اشتريته بمالك وكدك وجهدك ثم وضعته في البيت، ثم بعد هذا لا تسأل يا عبد الله: كيف حصل للبنت كذا؟ أو كيف تعلم الابن هذا؟ فأنت المسئول عند الله جل وعلا يوم القيامة سائلك عن ولدك، وعن زوجتك، وعن أهل بيتك، وعن من تمولهم وتعولهم، يسألك الله عنهم يوم القيامة: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8] سائلك عن مالك من أين اكتسبته؟ وفيم أنفقته؟ وسائلك عن بيتك هل حفظته أم لا؟
عبد الله: التفت قليلاً إلى بيتك، وارجع قليلاً إلى أهل بيتك، واجلس معهم وفتش في أهل بيتك عن هذه المنكرات، ولا تقل يا عبد الله: كل الناس مثلي وكل الناس يفعلون ما أفعل {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103].
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(69/5)
رب الأسرة هو المسئول الأول عن بيته
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
ما ذكرناه -أيها الإخوة- إن لم يكن في بيتك فاحمد الله، وسل الله العافية، واحرص على أهل بيتك واحفظهم.
ولكن أخبرك أن كثيراً من البيوت قد دخلها ما أقول! بل قد تجد المصلي الراكع الساجد يأخذ ابنته كاشفة شعرها ووجهها، ويخرج بها إلى الطرقات، وينزلها في الأسواق، لتذهب وتشتري وترجع، بل أقسم بالله أنني رأيت بعيني أباً كبيراً في السن من أهل الخير والصلاح تسير ابنته خلفه في الأسواق، كاشفة متعطرة متبرجة، يتبعها الرجال ولا يلتفت إلى ابنته أي دياثة أعظم من هذه؟! بل أي انطفاء للغيرة بعد هذا؟!
عباد الله! يصبح الأمر إلى أن كثيراً من المصلين يسمح لابنته أن تخرج إلى المدرسة بلباس فاضح مع من تذهب؟ لا أدري متى ترجع؟ اذهبوا فاسألوها، إن شاء الله هي شريفة وعفيفة، ترجع من المدرسة إلى البيت وقد نظر إليها وافترسها مئات من الذئاب، وهو لا يعلم، أتعرفون ماذا يعرف؟ أو فيم يتعلم؟ أو على ماذا يجلس ويقوم؟ على الدينار والدرهم، أو على ماذا يسافر؟ ولماذا يرجع؟!(69/6)
أيها الآباء! احرصوا على بناتكم
عباد الله! لا نريد أن نكون في هذه الخطبة صريحين أكثر من هذا، فليفتش كلٌ منَّا بيته.
عندما تدخل البنت البيت وعمرها أربع عشرة سنة، والمصيبة أنه يقول: جاهلة لا تعرف؛ ولو أنها تزوجت لأنجبت كثيراً من الأولاد، وهو يقول: إنها صغيرة ومسكينة، تدخل إلى البيت، وتأتي بالهاتف، وتدخل الغرفة وتغلق على نفسها الباب، وتتكلم الساعة والساعتين مع من تتكلم؟ تضحك عليك وتقول: مع الزميلة والصاحبة، حتى لو كانت الزميلة والصاحبة لِمَ لا تتكلم أمام الوالدة وأمام الوالد؟ ولماذا تكون المكالمات أكثر من ربع ساعة أو نصف ساعة؟ أي مكالمة هذه التي تستدعي كل هذه المدة، وتستدعي أن تغلق على نفسها الباب، وتستدعي ألا يكون في البيت إلا جهاز واحد؟
عباد الله: لنكن عاقلين وصريحين مع أنفسنا، لماذا هذا التقصير؟! لماذا هذا التهاون؟! أصبح الأب لا يرجع إلى بيته إلا في منتصف الليل؟! أين كنت؟ في المجالس ماذا تفعل؟ أتحدث نقضي الوقت يرجع لينام، ثم يقوم ويخرج، وإذا سألته عن التربية؟ قال: الحمد لله! يأكلون أحسن الأكل، ويشربون أحسن الشراب، ويلبسون أحسن الملابس، وكلهم أوائل في الدراسة، فهل هذه هي التربية فقط؟!
عبد الله: إن أعظم التربية هي تربية الدين والإيمان تعلمهم الصلاة، تمنعهم من هذه الأمراض، تعلمهم حسن الأخلاق، وتحذرهم من أصحاب السوء، ومن المنكرات والمعاصي.
لقد أصبح بعض الدعاة إذا خاطب امرأة وقال لها: اتق الله واستتري، ترد عليه وتقول: وأنت ما دخلك؟ ولست مسئولاً عني، وماذا تريد؟ ما الذي جعلها ترد بهذه الكلمات وبهذه الجرأة؟!
إنهم أولئك أشباه الرجال الذين سمحوا لها أن تخرج من البيت كاشفة عارية ولا يسألون عنها، بل إن بعض البيوت وصل بها الحال إلى أن المرأة هي التي تأمر وتمنع الرجل! وهي التي تأتي بالمال لتصرف على البيت! أي بيوت هذه البيوت؟! إذا كنا -ولنقلها صريحة- نسير خلف طريقة أهل الغرب والكفر والعربدة ونتبع سنن الذين كانوا قبلنا من اليهود والنصارى فلنقلها صريحة.
أما هم! فالأم تبيع ولدها في دور الحضانة تبيعه بيعاً لتطلب منه الثمن.
أما هم! فالزوج يأتي بصديقته داخل البيت، والزوجة تأتي بعشيقها داخل البيت.
أما هم! فلا يعرف أمه إلا في يوم واحد في السنة (في عيد الأم) يأتي ليطمئن على أمه هل هي لا زالت حية أم لا؟
أما هم! فالأم تقتل ولديها في سبيل عشيقها.
أما هم! فلا يعرفون بيتاً ولا أسرةً ولا راحةً ولا سكناً، يعملون اختباراً للجيش في بعض بلاد الغرب التي نتأسى بها ونسميها دولة حضارية ودولة مدنية، من كل سبعة يستثنى ستة ولا يبقى إلا واحد تعرفون لماذا يستثنون؟ لأن فيهم أمراضاً جنسية ووبائية تنتشر، من كل سبعة ستة، وقد أجريت إحصائية في سنوات ماضية قديمة في ثانوية بنات، فوجد أن أكثر من ثلث الثانوية قد حملن بطريقة غير شرعية، وأما البقية فلا يعني أنهن عفيفات! لا.
إنما نجحن في تناول حبوب منع الحمل فلم يصبن بالحمل.
عباد الله: لنكن صادقين، يأتيني شاب في صبيحة عرسه يبكي عندي وتتساقط الدموع من عينيه، أقول: ما الذي جرى؟ يقول: لا أستطيع أن أتكلم، يقول: زوجتي بنت عمي دخلت عليها في الليلة الماضية فاكتشفت أنها ليست بكراً، وأول من يتزوجها أنا، واتضح لي الأمر أنها كانت تعاشر الرجال قبلي، وكأنه يريد أن يبكي دماً، يقول: لم أكن أصدق ماذا أفعل؟ أريد أن أقتلها بفتوى واحدة.
عباد الله: أتعرفون أبنت من هذه؟ إنها بنت الجيران إن لم تكن بنتك بيوت أهل الحي إن لم يكن بيتك إن لم يكن بيتك قد وصله بعض هذه المنكرات فإنها بيوت الأقربين والقريبات.
عباد الله: لنكن حازمين في البيت، المنكر لا نسمح به، وصاحب السوء لا يدخل البيت، والذي لا يصلي والتي لا تصلي لا نسمح لهم بدخول البيت.
نعم يا عباد الله! هكذا نكون حازمين، فهذه الأجهزة الخبيثة الخليعة، إن كنت رباً للأسرة ومسئولاً عنها فأخرجها من البيت ماذا سيحدث؟!
الحمد لله! إن كثيراً من البيوت في هذه الأيام لا يدخلها (التلفاز) ولا ينتقد أحد هل عاشوا في ظلام كما يقولون؟! هل عاشوا في جهل؟! لا والله، هم أعلم وأفقه وأحفظ الناس في دينهم وأعراضهم، هل عاشوا في كآبة وضيق ونكد؟! لا والله، بل هم أسعد الناس في البيوت.
نختم بهذه القصة: كان رجل كبيراً في السن، قد أدخل على بيته التلفاز، وكان يعيش في سعادة، ولم يكن يعلم ما العاقبة؟ فتوفاه الله عز وجل، ولما مات رآه صاحب له في المنام، يقول: كنت نائماً في المسجد، فرأيت فلاناً الذي توفي قبل فتره، رأيته في المنام، ووجهه قد اسود وقد تعذب، نظرت به يستغيث بي يقول: يا فلان! أنقذني، قلت: ما الخبر؟ قال: أخرج التلفاز الذي وضعته في البيت، قال: فانتبهت له، فرجعت مرة أخرى للنوم ثلاث مرات، قال: فرأيت نفس الرؤيا، قال: ففزعت من النوم وذهبت مسرعاً إلى بيت صاحبي، قال: فطرقت الباب، واستقبلني أولاده، فجلست معهم، وقلت لهم: أيها الأبناء! لو علمتم أن أباكم قد دخل النار أكنتم تفتدوه بماذا؟ قالوا: بجميع أموالنا وبجميع ما نملك، قال: إن أباكم قد أتاني في المنام وقال لي كذا وكذا، فإن شئتم فأخرجوا هذا التلفاز إن شئتم رحمة أبيكم، وتفكوه من هذا العذاب فأخرجوا هذا التلفاز البلاء والداء والشر، ومكر الخبائث، وهو مروج الدعارة في كثير من البيوت -لا نقول كلها- فأخرجوا ذلك التلفاز، وبكوا بكاء شديداً وهم يكسرون هذا التلفاز رحمة بأبيهم.
رحمة بأنفسنا -يا عباد الله- وبأولادنا وزوجاتنا، رحمة بأهلينا، وأقاربنا، نمنع هذه المنكرات.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداءك أعداء الدين، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
أقول هذا القول، وأصلي وأسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(69/7)
الشباب والقرآن
بدأ الشيخ حفظه الله في هذا الدرس بالمقارنة بين الشباب في زمن الصحابة والتابعين والسلف الصالح وبين شبابنا اليوم الذين هرولوا وراء الموسيقى والنساء والمخدرات فذكر من السلف الصالح ابن تيمية والنووي والشافعي في سن شبابهم ووضح علو همتهم.
وبعد ذلك ذكر قصتين لشابين انجرا وراء قرناء السوء فانحرفا عن الطريق المستقيم.
كما عرض لبعض نعيم الجنة، وتحدث عن أحوال أصحاب النار في النار.
وختم الدرس بتوضيح طريق الجنة وطريق النار ليسلك الإنسان أيهما شاء، والجزاء يوم يقوم الأشهاد.(70/1)
مقارنة بين شباب الماضي وشباب الحاضر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فكم يفرح الإنسان عندما يلتقي بهذه الوجوه، ويجلس مع هذه الجموع، في حين أن كثيراً من الشباب في هذا السن وفي هذه الأوقات الله أعلم بحالهم، الخيِّر فيهم من ينام الآن في هذه اللحظات، ومنهم من يسهر أمام التلفاز، ومنهم من يلعب في النوادي والمراكز التي لا تهتم إلا باللعب، ومنهم من يفعل بعض المحرمات، قلما تجد إنساناً في هذا العمر يجلس في بيت من بيوت الله، ولعل الله عز وجل يكتب فيكم ممن قال فيهم: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ} [النور:36 - 37].
أي: يمكن أن يكون عمرك صغيراً لكنك في الحقيقة رجل كما قال الله عز وجل، لا يربط الإنسان في هذا المسجد إلا إذا كان رجلاً، قال تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:37] ما الذي جعلهم يجلسون؟ قال: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37].
اسمع إلى قصص في مرحلة قبل الشباب يمر بها الإنسان وهي مرحلة المراهقة مرحلة الصبا والصغر يمر بها كل إنسان، انظر إلى أسلافنا ثم تذكر حال الشباب في هذا الزمن أصحابك في الفصل أصحابك في الشارع أقربائك جيرانك، اعرف حال السابقين وحال الناس في هذا الزمن ثم قارن، وأدع لك الحكم لتقارن بين السابق والحاضر.(70/2)
قصة شاب حفظ القرآن وعمره ست سنوات
هذا شاب يقال له: سهل، من الشباب السابقين، لما أكمل من العمر ثلاث سنوات -أي: ما دخل الروضة- يقول: أول ما تكلم علموه كيف يذكر الله جل وعلا وعمره ثلاث سنوات.
لما أكمل من العمر خمس سنوات، أتعرف ماذا حصل؟ صام رمضان كله، واستمر في الصيام إلى أن مات، ولما وصل عمره إلى ست سنوات، ختم القرآن كله، هل منا من يبلغ من العمر ست سنوات؟ أظن أنكم قد تعديتم هذه المرحلة وتجاوزتموها منذ زمن بعيد، عمره ست سنوات ويختم القرآن كله، ولما أصبح عمره تسع سنوات سافر من بلده يطلب العلم يطلب الحديث يحضر الدروس وعمره قد لا يتجاوز التسع سنوات.(70/3)
الإمام الشافعي في سن الشباب
هذا الشافعي الذي ينتسب إليه مذهب الشافعية الإمام الجليل، حفظ القرآن وعمره سبع سنوات، من منا الآن ختم القرآن وعمره خمسة عشر سنة؟
لا تجد أحداً! أفضل واحد فينا ختم ثلاثة، أو أربعة أجزاء، أما من ختم عشرة أجزاء فهذا ما شاء الله فهو أفضلنا، وإذا سمعت له تجد أنه لا تفوت عليه صفحه أو صفحتين إلا ويخطئ، ما السبب وما الفرق بيننا وبينهم؟ ما الذي يجري؟ عقول مثل العقول، وأجسام مثل الأجسام، ولحم ودم وشحم الأجساد واحدة ما الفرق؟
الفرق أنهم كانوا منذ الصغر الواحد منهم إذا لعب نصف ساعة جلس الساعات الطويلة يحفظ ويقرأ ويردد ويكتب على الشيخ.
الواحد منا الآن إذا حفظ ساعة أو ساعتين لعب باقي الساعات، وهم يلعبون ساعة ويحفظون باقي الساعات، ولهذا وفقهم الله عز وجل وحفظ أوقاتهم.(70/4)
ابن تيمية وطلبه للعلم
شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله، هذا الشيخ كان صغيراً، وكان يحمل ألواحاً كبيرة، تخيل كيف كان يمشي مسافات بعيدة على رجليه! ما عنده دفاتر ولا ألواح خشب يحملها من أجل أن يكتب عليها الدرس، في يوم من الأيام رآه شيخ سمع أن هذا الولد نابغة -أي: عقلية جبارة، تقول له الجملة مباشرة يحفظها، هل هذا موجود فينا؟ إذا عملت اختباراً يتبين من النابغة؟
أما شيخ الإسلام فهو نابغة من نوع ثاني- جاء إليه هذا الشيخ فقال له: أنت ابن تيمية؟ قال: نعم.
أنا ابن تيمية وكان صبياً صغيراً، قال: أعطني اللوح؟ قال: تفضل، فكتب عليه ثلاثة عشر حديثاً، فقال له: اقرأ، فقرأ عليه، يقول: فأخذت اللوح منه، فقلت: أسمعه عليّ، فقرأ الثلاثة عشر حديثاً كلها قراءة واحدة، حفظ الثلاثة عشر حديثاً، الآن لو أقول لكم: رددوا حديثاً واحداً عشر مرات هل تحفظونه؟ هذا قرأ ثلاثة عشر حديثاً حفظها مرة واحدة بقراءة واحدة.
يمكن أن تقول: لا يمكن هذا أتعرف ما الفرق؟
نحن عقولنا امتلئت بقصص، وأشعار، وأفلام، ومسلسلات كرتونية، امتلئت بأسماء لاعبين بأسماء ممثلين وممثلات بأسماء موديلات السيارات بأنواع اللعب وبغيرها من الكلمات التافهة التي لو أتيت يوم القيامة قد لا تدخلك النار لكن لا تنفعك لدخول الجنة، لا تغني ولا تسمن من جوع.
إذاً: أخي الكريم! عرفت الفرق بيننا وبينهم؟ ماذا سمى الله عز وجل الذين ذهبوا؟ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا} [الأحزاب:23] رجال! هؤلاء هم الرجال، ليست الرجولة في لعب الكرة، ولا في تمثيل بطولة مسلسل، وليست القضية أن أركب أفخم سيارة وأمشي بين الناس، ليست هذه هي الرجولة! إنما الرجولة في قول الله تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [النور:23].
هل عاهدت ربك على حفظ القرآن، فهذا هو الصدق وهنا الرجولة.
بعض الشباب يقول: عاهدت ربي أن أصلي الخمس الصلوات في بيت الله، وأختم القرآن بعد تسع سنوات، هذا عهد بينك وبين الله، احضر مع الشباب الصالحين، المركز إذا كان عندهم مدرسون في المسجد أو الديوان فاحضر معهم في كل المجالس، هذا عهد بينك وبين الله من يوفي بهذا العهد؟ الرجل، {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} [الأحزاب:23].
من الرجال من قد ذهبوا شيخ الإسلام أين هو؟ ذهب، وكلما قلنا: شيخ الإسلام نقول: رحمه الله، ندعو له، لكن إذا قلنا ذلك اللاعب الذي اعتزل قبل خمس سنوات، نقول رحمه الله؟ لا.
بل أقصى ما يحصل عليه هذا اللاعب لو صار نجماً من النجوم، ويصفق له عشرون واحداً في المباراة وفي النادي، ثم يصير أكبر لاعب، ما هي جائزته؟ أعلى جائزة يحصل عليها أنهم يعطونه حذاءً ذهبياً! أسمعتم بهذه الجائزة؟ يعطى حذاءً ذهبياً -أي: يكرم بالحذاء- وإذا قلنا: حذاء في المجلس، ماذا نقول؟ نقول: أجلك الله، وكرمك الله.
إذاً: مستواه أن يحصل على حذاء، لأن جدارته وبطولته في جزمته في رجله -أجلكم الله- إذاً أيهما الرجلان؟
قبل أيام فتحت الرادو (المذياع) فإذا بي أسمع لشاب عمره أربع عشرة سنة في الخبر، في السعودية، يقرأ القرآن بأحسن ما يكون، وسأله الشيخ الذي يسمع له، قال: كم تحفظ؟ قال: أحفظ القرآن كاملاً، عمره أربع عشرة سنة، بل أزيدك من الشعر بيتاً، قبل أشهر أعطت المغرب جائزة لشاب ختم القرآن كله وكان عمره سبع سنوات، ختم القرآن كله: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور:37] لا تلهيه الملاعب ولا الشوارع، ولا ألعاب الأتاري والكمبيوتر، ولا النوم على الفرش، ولا صيد الحمام وتربيتها عن ذكر الله، يجعل ساعة للقرآن وساعة للعب.(70/5)
النووي في صغره
هذا النووي صاحب كتاب رياض الصالحين، الذي يقرأ في المساجد، هذا الكتاب من أشهر الكتب لهذا الرجل، لما كان النووي شاباً صغيراً يأتون أصحابه إليه، ويقولون له: تعال نلعب! تعال نلهو! وهو يقول: لا أريد أن ألعب، فيجرونه فيبكي عليه رحمة الله، تعرف لِمَ؟ لأنه يحفظ القرآن ويقرأ الكتب، وهم يذهبون ليلعبون.
ليس اللعب بحرام، وليس لعب الكرة بحرام، ولكن أخي الكريم أنت -الآن- شاب في مقتبل حياتك، فرق بين شاب منذ الصغر إلى الكبر لا يعرف إلا الكرة، والسيارة والحمام، والمجلات والقصص، وبين شاب يلعب ساعة لكن إذا قلت له: اقرأ {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} [الأنفال:1]، مباشرة يقرأ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1] يقرأ بسرعة.
تقول له: اقرأ براءة، يقرأ عليك: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:1] اقرأ يا فلان {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} [المجادلة:1] يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} [المجادلة:1] تأتي إلى فلان من الشباب، وقل له: {اقرأ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} [النصر:1]؟ يقول لك: هل هذه في القرآن؟ تقول له: نعم.
في القرآن اقرأ، فلا يستطيع يقرأ، بل اقرأ الفاتحة؟ يضيع بين آياتها، ما الفرق بين هذا وهذا؟ كلاهما يقرأ في الدنيا كلاهما سعيد في الدنيا، هذا يلعب وهذا يلعب، لكن هذا أوقات الفراغ أين قضاها؟(70/6)
الجنة وبعض نعيمها
أخي الكريم أخي الشاب! لعلك لا تعرفني، ولم تسمعني من قبل، لكن لعلنا نلتقي يوم القيامة في الجنة، تعرف ما صفاتها؟ وماذا داخلها؟
أخي الكريم! ألا تتمنى أن تدخل الجنة؟ الجنة ليس فيها شمس لكن تقول: كيف يرون؟ من أين تأتي الأضواء وليس هناك كهرباء، فمن أين يأتي النور؟
من منكم يجيبني لا توجد شمس ولا كهرباء في الجنة، فمن أين يأتي النور؟ الوجوه نيرة! نعم.
لكن هناك نور كيف؟ الجنة فيها سقف، وجميع الجنان فيها سقف، الآن سقف الدنيا السماء: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً} [الأنبياء:32].
أما في الجنة فهناك سقف هو عرش الرحمن: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أتعرف ماذا يخرج من السقف؟ أنوار وأضواء تضيء على أهل الجنة.
أهل الجنة هل ينامون؟ ليس هناك نوم هل يتغوطون ويتبولون؟ يأكلون الطعام فكيف يخرج هذا الطعام من أجسامهم؟ يخرج منهم عرق، وهل العرق مثل الدنيا رائحته نتنة؟
لا.
عرق الجنة مسك، كل ما أكلته يخرج منك بصورة عرق والعرق مسك.
أي: لا تحتاج إلى أن تتطيب في الجنة، كل كلما تحب، يخرج العرق مسكاً، ألا تتمنى أن تدخل هذه الجنة؟ تخيل نهراً يجري من لبن نهراً من عسل هل رأيت العسل عندما يسكب؟ شكله جميل عندما ينزل، تخيل نهراً كاملاً يجري من عسل! أخي الكريم! تخيل خمراً لكن ليس كخمر الدنيا، تشرب فيما يذهب العقل، خمر لذة للشاربين، أنهار تجري من تحت بدنه، أمر عجيب حصل له!
أخي الكريم! في الجنة وأنت جالس على الأريكة -على الفراش- تشتهي الرمان والفاكهة هل تقوم من الفراش لتقطفها؟ لا.
إنما وأنت جالس تشتهي الفاكهة تنزل لك على الفراش، تقطفها وتأكلها تشتهي الماء تشتهي الشراب، تقوم من الفراش؟ لا.
يمر عليك الغلمان المخلدون بالكئوس، اشرب كما تشتهي، يمكن أن تقول: أريد أن أجلس مع أصحابي ألعب! تعلب في الجنان، فيها أشجار كل شجرة ساقها ليس من خشب إنما من ذهب تمشي تحت الظل، وبعض الأشجار تمشي مائة سنة لا تقطع الظل.
قد يقول قائل: هل نجلس مع بعض ونعلب؟ نعم.
نجلس ونلهو ونأكل لا يوجد أحد يقول: وراءك دراسة وراءك عمل وراءك نوم وراءك شغل! لا.
العب كما تشتهي.
هل هناك صلاة في الجنة؟ لا صلاة، ولا حفظ قرآن، ولا دروس، ولا يأتيك الشيخ فيقول لك: تعال عندنا مركز وتعال وقت الحر، لا يوجد كل هذا، تجلس وتعلب كما تشتهي، وتلهو كما تريد، وتأكل ما تشتهي، مع من؟ هذا هو السؤال المهم! نجلس مع من في الجنة؟ وكيف ندخلها؟ وكيف نحصل على هذه الجنة التي نلعب فيها كما نشتهي؟ اسمع ماذا يقول الله عز وجل مع من تدخلها؟ {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ} [الزمر:73].
عبد الله! تعرف الزمرة التي تدخل معك الجنة؟ الذي كان يقرأ معك القرآن في الدنيا ويصلي معك الذي كنت تجلس معه، فإذا تكلمت بحرام قال لك: لا يجوز يا فلان، لا تغتاب الناس، إذا سببت وشتمت، قال لك: يا فلان! حرام، لا يجوز، اتق الله! تسأل عن هذه الكلمة يوم القيامة، الذي كان يدق عليك الباب يقول لك: يا فلان! تعال نصلي في المسجد، هذا الذي تدخل معه الجنة.(70/7)
فريق في السعير
هناك صنف آخر من الناس، تركوا صحبة الصالحين في الدنيا، كان يقول في الدنيا: لماذا أتعب نفسي؟ ولماذا أتضايق وأجلس في المسجد وأقرأ القرآن، وأحفظ، وأحضر الدروس؟ لماذا هذا التعب كله؟ أتمتع بالدنيا حتى إذا كبرت أتوب وأصلي وأدخل الجنة؟
أتعرف هذا الصنف من الناس أين سوف يكون مصيره؟ {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً} [الزمر:71].
يأتي يوم القيامة إلى المحشر أتعرف كم طول المحشر الذي يقف الناس؟ خمسين ألف سنة، الآن كم عشت الآن؟ أربع عشرة سنة، خمس عشرة سنة، بل قد مل بعض الناس من الدنيا، يقف الواحد خمسين ألف سنة على رجله لا يجلس، بعض الناس يعرق حتى يصل العرق إلى فمه ويلجمه إلجاماً.
أخي الكريم! بعدها يجمع مع أصحاب الدنيا أهل اللعب أهل الطرب أهل الأغاني أهل المسلسلات والأفلام أهل متابعة النساء، أهل الدخان، هؤلاء كانوا أصحابه في الدنيا، يجمعون يوم القيامة هؤلاء الصنف فريق، وهؤلاء فريق، فريق يذهبون إلى الجنة، فانظر إلى صاحبك الذي كان معك يحفظ القرآن وتركته، الذي كان يضرب عليك الباب، يقول: تعال إلى المسجد فلا تسمع له، تنظر إليه يمشي مع أصحابه إلى الجنة، أما أنت يا مسكين فتجتمع مع أصحاب اللعب والطرب والأغاني إلى أين؟ إلى جهنم، فهل تعرف ما صفاتها؟
النار تتطاير بشرر ترى النار عندما نشعلها يخرج منها شرر لا يؤثر عليك، أتعرف شرار النار كيف حجمه؟ إنه بحجم القصر، أرأيت القصر البيت الكبير، هذا هو شرار النار، فكيف بالنار؟!
النار مظلمة، ليس فيها نور، فأول ما يدخل هذا المسكين الشاب جنهم يرى فيها أصحابه من أهل الدنيا، الذين كانوا ينادونه للعب وللهو يقولون: لا.
نم.
يقول لهم: صلاة، يقولون: ما زلت صغيراً والعمر طويل، والعبادة باقية إلخ.(70/8)
قرناء السوء في السعير يتلاعنون
أهل أشرطة الأغاني أهل المسلسلات والأفلام أهل الدخان أهل الكلام في النساء أهل المجلات الخليعة، أتعرف هؤلاء ماذا يفعلون في النار؟
أول ما يدخل يلعن صاحبه: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38] يسبهم ويشتمهم، ثم بعد ذلك يقول: لا مرحباً بكم، يردون عليهم: {بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} [ص:60] أنت الذي دللتني على هذا المكان.
اسمع إلى هذه القصة! أصحاب النار كانوا في الدنيا أصحاباً فاجتمعوا في النار، قال الله جل وعلا: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38] يجتمعون في النار وكل يقابل صاحبه، الذي كان يمنع على أصحاب المسجد، وعلى أصحاب الدين وأصحاب الخير: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} [الأعراف:38] ينادون الله، هذا الذي ضحك عليّ في الدنيا، هذا الذي كان يخدعني في الدنيا يا رب! هذا، ماذا تريد يا فلان؟ {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38].
يقول: يا رب! هذا هو الذي ضحك عليّ في الدنيا، هذا الذي خدعني في الدنيا، هذا الذي أعطاني الشريط، هذا الذي قال: اجلس معنا، هذا الذي منعني عن المسجد وعن حلق الذكر ماذا تريد يا فلان؟ فيقول: {فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38] ضاعف له النار، فهو الذي كان السبب، وهو الذي ضيعني فزده عذاباً في النار، فيرد الله عليه فيقول: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38] نضاعف لهم أيضاً وأنت نضاعف لك النار.
ما هو السبب؟
لقد كنت مع أهل الصلاح والدين، تحفظ معهم قرآن وتعلب، تحضر معهم المسجد وتلهو، تسمع المسابقات وتحضر حلق العلم والذكر لكنك ما رضيت تركتهم! نضاعف لك العذاب في النار.(70/9)
قصة انحراف شاب عن الطريق المستقيم
جاءني شاب قبل فترة إلى المسجد، فأخذ يسلم علينا مع صحبه، وقال: يا شيخ! انظر إلى هذه الصورة، نظرت إلى الصورة، قلت صورة من هذه؟ قال: هذه صورتي، قلت: تكذب عليّ، قال: والله هذه صورتي، قلت: الوجه مختلف، هذه صورتك جميلة الشكل، أما الوجه الذي أمامي فهو قبيح مظلم قلت: ما السبب؟ ما الذي جرى؟
يقول: تعرفت فترة على أناس يقول: أعطوني شراباً لا أعرف ما هو، فإذا فيه مخدرات، ببسي أو غيره، يقول: فشربته وتلذذت بهذا الشراب، وبعد فترة أجبروني على المخدرات، فما استطعت أن أنفك منها، لأن المخدرات إن بدأت فيها لا تستطيع أن تتخلص منها، يضحكون عليه في البداية، ببسي أو عصير أو شاي أو حلوى ويضعون فيها المخدرات، ويقولون: كل هذه الحلوى وهذا يأكلها وهو لا يدري ما هي، فإذا به يتلذذ بها، وبعد فترة يقول: لم أستطع أن أتحمل، تركتهم فهددوني بالسلاح، قالوا: إن لم تتعاط معنا المخدرات نقتلك، يقول: حاولت، أدخلت المخدرات فمي، تعرف كيف يأتي يوم القيامة هذا الشاب ماذا يفعل إن لم يتب: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} [الفرقان:27] يأتي يوم القيامة -الواحد اليوم عندما يتحسر يعض على إصبعه- وهذا يوم القيامة يدخل يديه كلتيهما إلى فمه، ويعض على يديه: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} [الفرقان:27] لمَ؟ {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} [الفرقان:27].
يا ليتني كنت معهم في حفظ القرآن في المساجد في المراكز أحضر الذكر أتعلم السنة، هذا يوم القيامة وهو يعض على يديه: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:28 - 29].
أيها الشاب! أنت الآن في مقتبل الحياة، لا تدري ماذا يحدث خارج البيت خارج الشارع خارج هذا المحيط أتعرف ما الذي يجري في المجتمع؟
شباب عمر الواحد أربع عشرة سنة، يقبض عليه في السرقة في بيع المخدرات في أماكن محرمة ممنوعة.
أتعرف بهذا يا أخي الكريم، الواحد منهم عمره ثمان أو سبع سنوات يشرب الدخان ما الذي أرداه إلى هذه الحال، إنه تعرف على فلان في الفريق، أو صحبة فصل، ما كان يصلي ولا يحضر مع الصالحين، كان يمنعني عن القرآن.
مشيت معه فترة لعبت الكرة فإذا بالنهاية ماذا يحصل؟(70/10)
خاتمة سيئة لأحد الشباب
اسمع إلى هذه القصة العجيبة! كان شاب يحضر مع الصالحين المساجد حفظ القرآن حلق الذكر يحضر الديوانيات المسابقات، رجل سعيد في الدنيا، يلعب وقت اللعب، ويستفيد من وقته وقت الاستفادة، يطيع الله عز وجل، ويطيع والديه، ويحضر مع الصالحين، وفي يومٍ من الأيام تعرف على صحبة سوء، طرقوا عليه الباب، قالوا: يا فلان! تعال، قال: عندي طلعة مع الشباب، قالوا: مع من؟ قال: مع الصالحين، يسمونهم مطاوعة!
قالوا: يا مسكين! أنت الآن شاب، تعال معنا نذهب إلى السوق، هناك بنات، وهناك ملعب وأغاني، ونتجول بالسيارة ونتعشى ونفعل ونفعل، وتردد هذا الشاب، يذهب أم لا؟ قال: أخبركم بعد العصر، جاء إخوانه الصالحون قبل صلاة العصر، ودقوا عليه الباب، فلان موجود؟ أرسل الخادمة أو غيرها من أهل البيت، وقالت: هو غير موجود -انظر الشيطان! خطوة خطوة، ذهب الصالحون للتأكيد فصدقوه، لعله غير موجود لعله مشغول- جاء أصحاب السوق بعد العصر يا فلان! هل تذهب معنا؟ قال: نعم! انظر الشيطان خطوة ذهب إلى السوق وترك الصلاة، وفي الطريق كان الشباب من الفسقة مسرعين بالسيارة، وأثناء تلك السرعة، انفجر أحد الإطارات، وهو قاعد عند سائق للسيارة، فانصرفت به السيارة إلى الخط السريع، أراد أن يثبتها فما استطاع، وهذا السائق علم أن السيارة سوف تنقلب فرمى بنفسه منها، أما ذلك الشاب فإنه جالس في السيارة، وحاول أن يخرج فتعلق ثوبه بالسيارة ويه لا زالت تمشي، ولا زال هذا الشاب معلق والسيارة تمشي ويضرب بالسيارة ويضرب بالشارع حتى انقلبت السيارة وهو متعلق فيها، ومات هذا الشاب، وما صلى صلاة العصر مسكين! الأجر انتهى، لو ذهب مع الصالحين كيف كان سوف يموت؟
صلى العصر، وجلس يقرأ القرآن، ومات وهو يقرأ القرآن إلى أين مصيره؟ إلى جنة عرضها السماوات والأرض، أما الآن فهو مسكين، ترك الصلاة، وأمضى إلى مصيره، انظر كيف عذبه الله في الدنيا! وبعد ذلك هذا الشائق، ما أصابته شيء، أصابه جروح خفيفة، قالوا له: ماذا جرى؟
قال: والله لا أدري هذا الذي مات هو الذي كان يقود السيارة وما تحكم بها، وكان متهوراً، ومسرعاً بها، فانقلبت بنا، وهو الذي كان السبب، اتهم صاحبه وكان صاحبه بريئاً.
انظر أخي الكريم: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:27 - 28].(70/11)
الحث على مجالسة الصالحين
أخي الكريم أخي الشاب! أنت الآن مقبل على الحياة حياة فيها شر عظيم، وأخطاء كثيرة، وفيها الفساد والمعاصي والكفر، فيها المخدرات فيها الدخان فيها الخمور السرقات الأغاني المسلسلات الطرب فيها معصية الله جل وعلا.
أخي الكريم! اختر لنفسك ما تشاء، هؤلاء الصالحون عندهم اللعب، وعندهم طاعة الله عندهم السعادة في الدنيا والآخرة، أما أولئك الفسقة الفجرة فعندهم مضحكات في البداية، ويلهونك في بعض الألعاب، وبعض المباريات والأغاني والمسلسلات، ثم ما هي النهاية؟ النهاية تذكر: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38] يتلاعنون، ويتقاذفون، ويسب بعضهم بعضاً في النار، نار تعرف ما حجمها؟
كان النبي صلى الله عليه وسلم يمشي يوماً من الأيام فسمع صوتاً، فقال لأصحابه: (تعلمون ما هذا الصوت؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا حجر -صخرة- رميت في النار منذ سبعين سنة، والآن وصلت إلى قعر النار).
تخيل! حجر تنزل سبعين سنة حتى تصل إلى القعر، أطول عمارة لو رميت صخرة منها لعلها تصل خلال عشر ثوان، أو عشرين ثانية، قد نظن أنها ساعة لأن العمارة بعيدة، لكن في الحقيقة عشر أو عشرين ثانية، فتخيل سبعين سنة والحجر تهوي، هذا هو قعر جهنم.(70/12)
طريق الجنة وطريق النار
عبد الله! إذا أردت طريق جهنم، فتعرف على الذي لا يصلي في المسجد، تعرف على فلان الذي لا يحفظ معك القرآن، تعرف على فلان الذي همه في الدنيا الأغاني، والمسلسلات، والسينما، والمسارح، تعرف عليهم واجلس معهم، واخرج معهم، واذهب معهم، فهذا هو طريق جهنم، إذا أردتها -يا عبد الله- وما أظنك تستطيع الصبر عليها.
إذا أردت الجنة التي وصفناها قبل قليل، فهذا هو طريقها، وهؤلاء هم الصحبة، سوف تدخل معهم وأنت قابض بيديك على أيديهم، جماعة واحدة، ندخل بإذن الله جل وعلا في الجنة، لعلك تأتيني يوم القيامة، فتقول: يا فلان! وتناديني في الجنة، وأسلم عليك، فتقول: تذكرني؟ أقول: والله ذكرني، فتقول: تذكر في مسجد كذا، كنت جالساً أمامك وكنت تعمل لنا ذلك الدرس، أقول لك: نعم.
تذكرت بإذن الله جل وعلا، فأقول لك: ماذا جرى؟ فتقول لي: يا فلان! من ذلك الوقت سرت مع الصالحين أحضر معهم وأذهب معهم، وأحضر الدروس، وأحفظ القرآن، حتى ختمت القرآن، ثم بعدها حضرت الدروس، وقرأت الكتب، وحافظت على الصلوات الخمس، حتى توفاني الله جل وعلا.
أقول لك: يا فلان! عذبك الله؟ فتقول لي: لا والله، جئت إلى ربي جل وعلا، فكان ربي غفوراً رحيماً، أدخلني بسرعة إلى هذه الجنة، لعلي في ذلك اللحظة أعانقك وتعانقني، وأجلس معك على الأرائك، ونخوض في الحديث والسمر، ونتحدث حتى تغرب الشمس، وتقول لي: هل هناك غروب للشمس، أقول: لا.
ليس هناك في الجنة غروب ولا شروق، نجلس في الجنة ما شاء الله.
لعلك تأتيني يوم القيامة، تقول لي: يا فلان يا شيخ! تعال معنا نجلس مع الشباب فإنهم مجتمعين كما كانوا في وقت الدروس يجتمعون، فهم الآن في الجنة مجتمعون، عند الأشجار والأنهار، وفي القصور والخيام، لعل هذا الأمر يحدث.
أخي الكريم! إذا أردت هذه الطريق، وهذه النهاية السعيدة، فاصبر مع إخوانك، واحمل هذا القرآن وهذه الدروس، وتحمل إخوانك في الله، هذا يقول لك: اجلس، وهذا يقول لك: قم، اصبر سنوات قليلة ثم تحصل على هذه السعادة العظيمة النهائية.
أقول هذا القول، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(70/13)
الجنة والنار
النار التي أطارت النوم من عيون الصالحين، فكانوا قليلاً من الليل ما يهجعون، وأبكت العيون بفظيع أهوالها، وجسيم أخطارها، وتعدد كرباتها.
والجنة التي شمر لها أهل العزائم، فأضمأت الأكباد، وأسالت الدماء، ومزقت الأجساد، شوقاً ولهفاً لنعيمها الذي لا يوصف، وخيراتها التي لا تنقطع.
إن أردت أن تقف على قطرة من بحر معرفتهما، وغيض من فيض من حقيقتهما، فقد أبان الشيخ في هذه الخطبة عن ذلك، فقلب طرفك في عباراته، وفرغ قلبك لعظاته.(71/1)
حال الأشقياء في الآخرة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:(71/2)
حال الأشقياء في المحشر
أيها الأحبة! وفي المحشر بعد أن وقف الناس خمسون ألف سنة، وبعد ذلك الحر والعطش والعرق يشفع لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم لفصل القضاء، فإذا هم يرون شيئاً قد أتى إنها جهنم، قال الله عز وجل: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:23].
بعد ذلك الحر والعطش إنها جهنم يقول ابن مسعود: قال صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بجهنم يومئذٍ ولها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها) {وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً} [الكهف:53] علموا أنهم سوف يدخلونها، عند ذلك يسمعون صوت جهنم، يسمعون صوت جرجرتها، وصوت تغيظها، وصوت زفيرها من بعيد {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} [الفرقان:12] وهذا يدل على غيظها وغضبها، عند ذلك أيقن المجرمون بالعطب، وجثت الأمم على الركب وكلٌ منهم يقول: نفسي نفسي، يقول الله عز وجل: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ مَا سَعَى} [النازعات:34 - 35] يتذكر يوم أن نام عن الصلاة، ويتذكر أمواله التي وضعها في الربا، ويتذكر أنه ما أمر بناته بالحجاب، ويتذكر أنه طالما نظر إلى النساء واستمع إلى الأغاني {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} [النازعات:35 - 36].
عند ذلك يحاسبهم الله عز وجل يحاسب الكفار والمجرمين حساباً عسيراً، ثم: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:30 - 32] تدخل من منخره وتخرج من أسته، فيقاد إلى جهنم {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [القمر:48] فيساق المجرمون الكافرون وهم يدعون على أنفسهم يقول أحدهم: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ:40] ويقول الآخر: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:28] ويقول بعضهم {يَا وَيْلَتَنَا} [الكهف:49] ويدعون على أنفسهم بالهلاك والثبور {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} [الزمر:17].
ألا تعلمون -أيها الإخوة- أنه يخرج منها شرر؟ {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:32 - 34] حتى إذا اقتربوا منها فتحت أبوابها {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر:71] فإذا فتح خزنتها وهم {مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم:6] إذا فتحوا جهنم يدخلونها فينظرون إليها {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} [الأحقاف:20] فيقال لهم: {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأحقاف:34].(71/3)
حال الأشقياء في النار
فيدخلونها {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38] يدخلون فينظرون إلى الذين أضلوهم في الدنيا؛ ينظرون إلى رؤسائهم، وإلى قاداتهم، وإلى أخلائهم، ينظرون إليهم قد سبقوهم في جهنم {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38] يدخلونها، بعد أن يحاسب الكافر فيدخل جهنم يقول له صاحبه أول ما يدخل جهنم: {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ} [ص:59] فيرد عليهم أصحابه في الدنيا {لا مَرْحَباً بِهِمْ} [ص:59] أول تحية {لا مَرْحَباً بِهِمْ} [ص:59] فيتلاعنون، ويسب بعضهم بعضاً، ويشتم بعضهم بعضاً، فأول ما يتقي بوجهه النار، أما يداه فمغلولتان، قد شدتا بالسلاسل، فيريد أن يتقي النار فلا يتقي النار إلا بوجهه، أكرم شيء عنده في الدنيا، لطالما كان يجمل وجهه، ولطالما كان يحسن وجهه، ولطالما كان يتقي الحر عن وجهه.
أما جهنم: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ} [الزمر:24] * وقال تعالى: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:104] الوجه الذي هو أشرف مكان في الجسد {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:48] أين ذلك الوجه؟ أين زينتك على وجهك؟! أين طيبك الذي كنت تضعه على الوجه؟! أين الجمال؟! {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم:50] انظروا إلى ذلك الموقف الذي تقشعر لهوله الأبدان، ذلك الوجه الذي طالما كان يجمله {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّار} [الأحزاب:66] كالسمك على النار يشوى، كيف تقلبه على النار؟ هكذا تقلب وجوههم {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} [الأحزاب:66 - 68] ولكنهم لا ينفعهم الكلام، فإن جهنم أحيطت بهم {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49] {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [العنكبوت:55].
وقال تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ} [الأعراف:41] فراش من جهنم {وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف:41] لحافٌ من النار، ووجوهٌ قد غطيت بالنار، وجهنم تحيط بهم، حتى إن النار لتصل إلى قلبه {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} [الهمزة:4 - 7] تطلع: تصل {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} [الهمزة:8] إنها: أي جهنم {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} [الهمزة:9].
يريد أن يأكل في جهنم، لقد طال جوعه يقول بعض السلف: إن الجوع في جهنم يصل عذابه إلى عذاب النار، حتى استغاث بالطعام {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات:62 - 65] طلعها: ثمارها، أتظنونهم لا يأكلون منها؟ {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ} [الصافات:66 - 67] ويأكلون طعاماً {ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً} [المزمل:13] يقول ابن عباس: [يأكلون الطعام من شوك يتعلق في حلوقهم لا هو يخرج منها ولا يدخل] طعام؟ {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية:6] نفيس الشبرق اليابس من شوك يأكلونه {لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:7] طعام يأكلونه {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة:35 - 36] يقول ابن عباس: [إنه صديد أهل النار] يأكلونه رغماً عن أنوفهم {وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:36 - 37] وحينما يأكل الشوك والغسلين عندها يحس بأنه يحتاج إلى الماء فيستغيث بالماء: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:29] يقرب ماء المهل إلى وجهه، فإذا أراد أن يشرب من شدة حره تسقط فروة رأسه، وينسلخ جلد وجهه إذا قرب وجهه المهل، لكنه يشربه، يقول تعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15] يشرب الماء يريد أن يستغيث به من طعام الشوك؛ لكن الماء يسقط فروة رأسه، فيدخل به إلى أمعائه فتتقطع به الأمعاء، ثم يحرج من قدمه {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم:16] قال مجاهد: هو القيح والدم وصديد أهل النار {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم:17] يريد أن يشرب، لقد أصابه العطش، لقد أهلكه العطش {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً} [النبأ:24] ينقذهم الله عز وجل بشراب يشربه أهل النار {إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً} [النبأ:25] ماء قد انتهى حره، أتعلم ما هو الغساق يا عبد الله؟!! إنه السائل الذي يسيل من فروج الزواني {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً * إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً * جَزَاءً وِفَاقاً} [النبأ:24 - 26].
يلبس ثياباً من النار {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج:19] {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ} [إبراهيم:49 - 50] يا من كنت تلبس الحرير! يا من كنت تسبل ملابسك في الدنيا وتجرها خيلاء! {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} [إبراهيم:50] سرابيلهم: ملابسهم.
وقطران: نحاس مذاب يلبسونه وثياب من نار، نسأل الله العافية.
حتى إذا اجتمعوا في جهنم وعلموا أن النار قد أحاطت بهم، علموا أنه لا نجاة إلا بالله، ولا فرار إلا إلى الله، كانوا في الدنيا لا يلجئون إلى ربهم، يسمعون حي الفلاح فكانوا لا يلجئون إلى الفلاح، يسمعون الله أكبر وكانت الدنيا عندهم أكبر، يسمعون أن الربا حرام ويأكلون الحرام، ذلك موقفٌ يلجئون فيه إلى الله فيقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً} [فاطر:37] نصلي لك يا رب، نقيم الصلوات في المساجد، نأمر أهلينا بالحجاب وبالصلاة، أخرجنا منها {نَعْمَل صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37] فيرد الله عز وجل عليهم: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر:37] أولم نعمركم حتى وصلتم إلى مرحلة البلوغ؟ ألم يظهر ذلك الشيب؟ ألم يأتك النذير؟ ألم تسمع يا غافل أن الربا حرام، وأن الزنا حرام، وأن النظر إلى النساء حرام، وأن الصلاة واجبة، وأن الدعوة إلى الله واجبة؟! {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37] حين ذلك ينادون مالكاً خازن النار: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] لنمت في هذه النار، كانوا يحرصوا على الحياة، كان يتمنى الحياة، إذا مرض ذهب إلى الطبيب، كان لا يريد أن يذهب إلى صلاة الفجر؛ لأن الجو بارد، كان لا يريد أن يتوضأ؛ لأن الماء بارد، وكان لا يريد أن يدعو إلى الله، ويخاف على صحته، يخاف على ماله من الفقر {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] فيجيبهم مالك بعد ألف عام: {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:77 - 78] بعد ذلك ينادون الله؛ لأنهم يعلمون أن ذلك عند الله عز وجل وبيده خلاصهم، فيقولون: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} [المؤمنون:106] الآن يعترفون، الآن يندمون، الآن يتذكرون أنهم كانوا ظالمين {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107] فيرد الله عز وجل عليهم: {قَالَ اخْسئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] بعد ذلك لا يتكلمون، فيرجعون ولهم مقامع من حديد إلى النار خالدين فيها {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [هود:106 - 107].(71/4)
حال السعداء في الآخرة
الحالة الثانية: السعداء الذين أمضوا حياتهم في صلاة، وعبادة، وصوم، وذكر لله عز وجل، كانوا يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وكانوا ينظرون إلى الناس، فإذا منهم الغاصب، ومنهم الضال، ومنهم الذي لا يصلي، ومنهم الذي لا يزكي، ومنهم الذي لا يصوم، ومنهم المتبرجة، ومنهم ومنهم نظروا إلى الناس فلجئوا إلى الله عز وجل فأقاموا الصلاة، وذكروا ربهم.(71/5)
حال السعداء في المحشر
وفي ذلك الموقف يساقون إلى الجنة {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} [الزمر:73] جاءوا إلى الجنة فاجتمع المؤمنون عند أبوابها ولها ثمانية أبواب، يخرج المصطفى والناس كلهم ينظرون إليه، إلى الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، يخرج من بين الناس فيأتي يتقدم الناس فيأتي إلى باب الجنة فيطرق بابها كما صح في صحيح مسلم عن أنس: فيستفتح (فيقول له خازن الجنة من أنت؟ فيقول: محمد -والمؤمنون كلهم يتشوقون ويتلهفون لينظروا ما في تلك الجنة التي طالما سمعوا عنها- فيقول الملك من أنت؟ فيقول: محمد، فيرد عليه: أمرت ألا أفتح لأحدٍ قبلك) فيفتح باب الجنة والمؤمنون ينظرون، فيأتي أول زمرة يدخلون باب الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، يأتون إلى أبواب الجنة وما بين البابين، ما بين مصراعي الباب مسيرة أربعين عاما، وإنه ليأتي عليه يوم وإنه لكضيض: مزدحمٌ من المؤمنين يتدافعون ليدخلوا تلك الجنة التي سمعوا عنها، أول زمرة على صورة القمر، لا يبصقون فيها ولا يمتخطون ولا يتغوطون، ورشحهم المسك، يدخلونها، تخيل نفسك يا عبد الله! إذا فتحت أبواب الجنان فدخلتها ومن الناس من ينادى باسمه، أين فلان؟ يدخل من باب الريان كان يصوم، أين فلان؟ يدخل من باب الجهاد كان مجاهداً، أين فلان؟ يدخل من باب الصلاة، من باب الصدقة، ومنهم من ينادى من بابين، ومنهم من ينادى في ثلاثة أبواب، ومنهم من ينادى من أبواب الجنة الثمانية، أين فلان ليدخل جنة ربه التي وعد المتقون، حتى إذا دخل باب الجنة وهو على أبوابها: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:24].(71/6)
حال السعداء في الجنة
ماذا ترى يا عبد الله؟ (ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر) ما الذي تراه؟ لبنة من فضة ولبنة من ذهب وملاطها الذي بينها المسك الأذخر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبئس، يخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم، وصدق الله: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} [الإنسان:20] ترى أنهاراً فيها، كنت تسمع عنها، إذا دخلتها تراها بأم عينك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رأى نهراً في الجنة فسأل ما هذا النهر؟) نهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف، طينه مسكٌ أذفر تلج عليه طيور أعناقها كأعناق الجزور، ينظر إليها، ما هذه الطيور؟ ما هذا النهر؟ {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] نهر الكوثر وغيره أنهار {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد:15] غير آسن أي: لا يتغير طعمه، ولا لونه، ولا رائحته {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد:15] تخيل نهرٌ من لبن؟! {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد:15] تخيل لذة للشاربين {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ} [الواقعة:19] {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} [محمد:15] أنهارٌ من عسل مصفى تجري لا كعسل الدنيا.
عيونٌ في الجنة تفجر {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن:66] فيها {عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} [الرحمن:50] {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} [الإنسان:5 - 6].
قصورٌ وغرفٌ وخيام في الجنة {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [الزمر:20] (للمؤمن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة طولها ستون ميلاً) تخيل عبد الله! تدخل خيمة في الجنة طولها ستون ميلاً، للمؤمن فيها أهلون لا يرى بعضهم بعضاً {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً} [الإنسان:13] إذاً من أين تأتي الأنوار؟ يقول شيخ الإسلام: نور يظهر من قبل العرش، نور يأتي من عرش الرحمن.
فيها أشجار {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} [الواقعة:27 - 28] لا شوك فيه {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:29 - 30] للراكب يسير في ظلها مائة عامٍ لا يقطعها {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة:31 - 33]
الأشجار، تجلس على الفرش فتأتيك ثمارها وأنت جالسٌ على السرير {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن:54] إستبرق: حرير {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} [الإنسان:14] تجلس على السرير فإذا بالثمار تأتيك لتقطفها، لا تقوم من فراشك لتقطفها.
آنيتهم:
{يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الإنسان:18 - 19] وأنت جالسٌ على الفرش يأتيك الولدان المخلدون {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة:18] ولدان {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً} [الإنسان:19].
لباس أهل الجنة:
ما لباسهم؟ {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج:23] يلبسون الحرير، يلبسون الذهب، يلبسون الفضة، يلبسون اللؤلؤ، يجلسون على الفرش {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ} [الغاشية:13] {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن:76] يجتمعون وهم في لهوهم وهم في طعامهم، وهم يأكلون ويشربون، يجتمعون بعضهم مع بعض يتحدثون {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات:27] {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26] كنا نخاف من النار في الدنيا، كنا نخاف من عذاب الله {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:26 - 27]
يذهبون إلى سوقٍ وهو سوق الجمعة أتعلمون ما ذلك السوق؟ (إن في الجنة لسوقاً يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثوا في وجوههم وثيابهم -لا يشترون إنما الريح تحثوا في وجوههم وثيابهم- فيزدادون حسناً وجمالا، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسناً وجمالا، فيقول أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالًا، فيردون عليهم: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً، وذلك كل جمعة).
لهم في الجنة نساء حور أتعلم ما هي الحور؟ نساءٌ بياض عينها قد اشتد بياضاً، وسواد عينها قد اشتد سواداً، وسعة عينها قد اتسعت {وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة:22 - 23] يا من استبدل نساء الجنة بنساء الدنيا! يا من كان ينظر في الدنيا إلى النساء في الأسواق، وفي التلفاز، وفي الجرائد، وفي الصحف، ويتمتع بهن، أيستبدل نساء الجنة بهن، انظر إلى نساء الجنة {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} [الواقعة:35] أنشأهن الله {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} [الواقعة:36] أي: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:74] {عُرُباً أَتْرَاباً} [الواقعة:37] متقاربات في السن {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:38].
أتريد أن تعرف صفاتهن {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:56 - 58] تنظر إليهن كأنهن الياقوت والمرجان، وصفهن الله فقال عنهن: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن:70] وصف جمالهن فقال: {خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن:70] قال صلى الله عليه وسلم: (لو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت على أهل الأرض -اطلعت فقط- لأضاءت ما بينهما - بين السماء والأرض- ولملأته ريحا، ولنصيفها على رأسها -خمارها- خيرٌ من الدنيا وما فيها) وهم في ذلك الموقف يتمتعون بالنساء، يعطى أحدهم قوة مائة رجل ويتمتعون بالثمار {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} [الواقعة:20] يتمتعون باللحوم {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:21] يشربون من أنهار خمر وعسل ولبن وماء ونهر الكوثر، ويتزاورون ويمرحون، يقول الله عز وجل في ذلك الموقف يناديهم: (يا أهل الجنة تريدون شيئاً أزيدكم؟) {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] ماذا فوق الجنة؟ ما هي الزيادة؟ أفوق الجنة زيادة؟! فيقولون لربهم: (ألم تبيض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار) أفوق هذا النعيم نعيم؟! أبعد تلك الأنهار نعيم؟! أبعد الحور العين نعيم؟! بعد الثمار، والخيام، والقصور، والأشجار، أبعد اللؤلؤ، والحصباء، والياقوت، بعد كل هذا نعيم؟! (أتريدون أن أزيدكم؟ فيكشف ربنا عن الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم فينسون به نعيم الجنة كله) {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] حسنة، لقد نظرت تلك الوجوه، فاستنارت عندما نظرت إلى ربها {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته) {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] تنسى بذلك نعيم الجنة كله.
اللهم إنا نسألك الجنة ونعوذ بك من النار.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنبٍ فاستغفروه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(71/7)
ظاهرة الفحش
الفحش في الكلام، والبذاءة في القول؛ صفة قبيحة حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم كل التحذير.
وفي هذا الدرس المبارك -بإذن الله- قطوف وشذور من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم في التحذير من هذه الصفة، وبيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من حسن العبارة ولطيف القول.(72/1)
حكم سباب المسلم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله تبارك وتعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.(72/2)
بغض الله للفاحش البذيء
أيها الإخوة المسلمون: نتكلم اليوم عن ظاهرة اجتماعية فَشَتْ في أوساط كثير من المسلمين، لا يكاد مسلم -إلا من رحم الله- يسلم من هذه الظاهرة، إما فعلاً أو سماعاً من غيره، وهي ظاهرة يتهاون بها المسلمون، حتى اعتادها بعض الكبار وكثير من الصغار، وبعضهم يقولها ولا يعقلها، وهي: ظاهرة السِّباب والشتم واللعن والفُحش والبذاءة.
هذه الظاهرة التي انتشرت في كثير من أوساط المسلمين، حتى إنك لتدخل بعض المجالس، فتسمع من الفُحش والبذاءة، ومن السباب والشتم ما يجعلك لا تستطيع أن تجلس في هذا المجلس، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن شر الناس منزلة مَن تركه الناس اتقاء فُحشه).
مِن الناس مَن إذا جلستَ معه لا تتحمل الجلوس معه، فتتركه لفحشه ولبذاءة كلامه، حتى إنه بعض الأحيان ليصف العورات -أجلكم الله- وينادي الناس بأسماء البهائم والحيوانات، هذا الرجل إذا تركه الناس لهذا الفعل فهو من شر الناس منزلة عند الله، وقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله يبغض الفاحش البذيء) يبغضه الله جلَّ وعلا، فكيف يهنأ لك بال، ويقر لك قرار والله عزَّ وجلَّ يبغضك إذا كنتَ متفحشاً في الكلام، بذيئاً في اللسان، تصف ما فحُش وغلظ من القول، وبعض الناس لا يتوانى أن يقول هذا في أي مجلس كان.(72/3)
سباب المسلم فسوق والمسابان شيطانان
وقال عليه الصلاة والسلام، يصف هؤلاء الذين يفعلون هذا الفعل، قال: (سباب المسلم فسوق) فسوق: أي: خروج عن طاعة الله جل وعلا، فمن الناس مَن إذا نادى لعن، وإذا غضب شتم، وإذا تهاتر مع بعض الناس سب وفحُش في الكلام، وقال: (المُسَّابَّان) أي: الذي يسب صاحبه ويرد عليه صاحبُه: (المُسَّابَّان شيطانان يتهاتران، ويتكاذبان) وصفهما النبي صلى الله عليه وسلم بأنهما شيطانان، لهذا الفعل البذيء، وكفى به إثماً وقبحاً أن الله عزَّ وجلَّ يبغضه: (وما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً) وكان إذا بالغ في العتب على أشخاص، قال: (ما باله؟! تربت جبينه) تربت جبينه أقصى ما يقوله عليه الصلاة والسلام في الناس.
فانظروا الأدب الذي تحلى به! وانظروا عفة اللسان التي اتصف بها عليه الصلاة والسلام! ثم انظروا إلى مجالسنا، وانظروا إلى ما يحدث بين المسلمين من خصومة أو مزاح وكلام، وانظر إلى الفحش والبذاءة والسب والشتم واللعن، نعوذ بالله منها.
وانظروا إلى القرآن كيف إذا تكلم عن بعض الأمور كنَّى ولم يصرِّح، أدباً في الكلام والحديث، فلما أرد الله عزَّ وجلَّ أن يَذكُر الجماع ما صرَّح به، بل سماه: ملامسة، وسماه مباشرة: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] وأراد الجماع، ولكنه كنَّى، وقال: الرفث، وقال: الحرث: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223] وقال: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187].
قال ابن عباس رضي الله عنه: [إن الله كريم يكنِّي ما يشاء] انظروا إلى الكرم في الحديث، وانظروا إلى العفة، قال: [إن الله كريم يكنِّي ما يشاء، وإن الرفث هو الجماع].
ثم انظروا إلى مجالسنا، وانظروا إلى السب والشتم، حتى إن بعض الناس لا يتوانى، ولا يتورع أن يسب ويشتم ويذكر بعض الألفاظ القبيحة أمام صغار السن، حتى أصبح بعض صغار السن يتلفظون بها، ويقولونها وهم لا يعرفون معناها، ولا يدرون ما مغزاها، ولا يشعرون بخطورتها، والسبب: أنه رأى أباه يكلم أمه بهذه الألفاظ، أو يكلم جاره، أو يكلم صاحبه، أو تنازع أبوه مع رجل آخر، فسمع أباه يقول: كذا وكذا، فقلده واتبعه في هذه الكلمات.(72/4)
شدة حياء النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
وانظروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم كيف كان يكلم أصحابه: (كان أشد حياءً من العذراء في خدرها).
في صحيح البخاري: (أن امرأة جاءت إليه عليه الصلاة والسلام فسألته عن كيفية الاغتسال من الحيض، فقال عليه الصلاة والسلام -وهو يشرح لها، ويبين لها كيفية الغسل- قال: خذي فرصة من مسك، وتتبعي بها أثر الدم، فتطهري بها، فقالت هذه المرأة: كيف أتطهر بها يا رسول الله؟ قال: تطهري بها، قالت: كيف أتطهر بها؟ قال: سبحان الله! تطهري بها، قالت عائشة: فرأيتُ في وجهه أنه قد استحيا عليه الصلاة والسلام، فأخذت عائشة هذه المرأةَ في جانب البيت، وأخذت تشرح لها كيف تغسل دم الحيض حياءً منه عليه الصلاة والسلام) ولم يكن فاحشاً، ولا متفحشاً، ولا بذيئاً، ولا طعاناً، ولا لعاناً عليه الصلاة والسلام.
في يوم من الأيام سئل عليه الصلاة والسلام عن هذه الأمور، فكان يجيب بمثل ما أجاب، وكان يُرى في وجهه الحياء والعفة وكرم اللسان.
وكان عليه الصلاة والسلام -كما وُصِف- أنه: (أشد حياءً من العذراء في خدرها) أعلمتَم من هي العذراء؟ المرأة التي لم تتزوج، وفي خدرها أي: في بيت أمها، وفي غرفتها، وفي دارها، فهكذا هو عليه الصلاة والسلام.
أيها الأخ الكريم: إن المتفحش باللسان، والذي يتعود لسانه على السب والفحش، ووصف العورات، وغيرها من هذه الأمور البذيئة، فإن مروءته تسقط بين الناس، ويكون هذا الرجل رجلاً في الصورة ولكنه في الحقيقة قد سقطت مروءته ورجولته، أما لسانه فاللسان السوقي الذي اعتاد هذا الفُحش وتلك البذاءة.
وجاءت امرأة -زوجة رفاعة رضي الله عنه- تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: (يا رسول الله! إن زوجي قد بتَّ في طلاقي -أي: طلقني ثلاث طلقات- قالت: فتزوجتُ عبد الرحمن -أي: زوجها الثاني، وهي تسأل، وعند رسول الله عائشة، وأبو بكر، وأحد الصحابة عند الباب، وحياءً منها انظروا كيف تسأل- فقالت: يا رسول الله! وليس مع هذا الرجل إلا مثل هذه الهدبة، وأخذت جزءاً من طرف ثوبها -حتى لم تستطع أن تتلفظ بهذه الكلمات، مع أنها تستفتي في دينها، قالت: إلا مثل هذه الهدبة، أي: رجل ضعيف لا يستطيع أن يجامع- وكان عند الباب أحد الصحابة، فقال: يا أبا بكر! ألا تنهَ هذه المرأة عمَّا تجهر به عند رسول الله؟! -أي: سكِّت هذه المرأة عن هذه الكلمات الفاحشة، وما قالت كلاماً فاحشاً، ولا كلاماً بذيئاً، ولا سيئاً قبيحاً كما يقوله بعض الناس- فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لها: لعلك -يا فلانة- تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا.
حتى تذوقي عُسَيْلَتَه ويذوق عُسَيْلَتَكِ) فكان عليه الصلاة والسلام أفصح منها لساناً، وأشد أدباً عليه الصلاة والسلام فقال: حتى تذوقي عُسَيْلَتَه، كنَّى عن الجماع، بالعُسَيْلَة، هل رأيتم أدباً مثل هذا الأدب؟! وهل رأيتم عفة في اللسان مثل هذه العفة؟! وهل رأيتم كرماً وشرفاً ورجولة وأدباً مثل هذا قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
تجلس عنده عائشة، فيمر بعض اليهود، فيقولون: السام عليك يا محمد، والسام: الموت، يظنون أنه لم يفهم، ففطنت عائشة فقالت: وعليكم السام واللعنة، أي: ترد عليهم مثلما شتموا، وفي رواية: قالت: عليكم السام والذام، أي: الذم، فقال: (مَهْ يا عائشة؟! لا تكوني فاحشة) وما بالغت عائشة، لكنها ردت السيئة بالسيئة، ولكن أدبه عليه الصلاة والسلام يمنعه من هذا، فقالت: (أما سمعتَ ما يقولون يا رسول الله؟! قال: نعم.
ولكني قلت: وعليكم، انظروا إلى أدبه عليه الصلاة والسلام فرجع ما قالوا عليهم).(72/5)
تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من وصف المعاشرة الزوجية
وحبذا لو طبقنا هذا الأدب في كثير من مجتمعاتنا ومجالسنا وبيوتنا، بل عند بعض صغار السن والأولاد والأبناء، ولكن انظروا إلى أدبنا وأدبهم، انظروا إلى أخلاق الإسلام، كيف افْتُقِدَت في بعض صفوف المسلمين.
حتى إن بعض الناس يأتي فيحدث بعض الرجال عمَّا فعل مع زوجته، وهذا من أشد الفُحش والبذاءة والطعن بزوجته، يتكلم بما فعل مع زوجته، حتى قال عليه الصلاة والسلام: (لعل أحدكم يحدث الناس بما فعل مع زوجته، ولعلها تحدث بما فعلت مع زوجها، فسكت الصحابة، ثم قال: لا تفعلوا، فإنما مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانة فتغشَّاها والناس ينظرون) تخيلوا شيطاناً يتغشَّى -أي: يجامع شيطانة- في الطريق والناس ينظرون، فهذا مَثَل مَن يأتي ويصف ما فعل مع زوجته، وهي تأتي وتصف ما فعلت مع زوجها -نعوذ بالله- فهذا الوصف القبيح إذا كان الأمر حلالاً، فكيف ما يفعله كثير من المسلمين -هداهم الله- حيث يصف بعض الأمور المحرمة؟! يقول: في العام الماضي وفي الإجازة السابقة، وفي يوم كذا ذهبتُ إلى المكان الفلاني، وسافرتُ إلى بلد كذا، ففعلتُ مع فلانة كذا وكذا، أيُّ قبح أعظم من هذا القُبح؟! إذا كان الحلال بهذا القُبح، فكيف بالحرام يا إخوة؟!(72/6)
الشتم واللعن والتحذير منهما
مِن الأمور التي تزداد خطورة على هذه الخطورة قضية اللعن، وما أدراك ما اللعن؟ بعض الناس اعتاد اللعن على لسانه، حتى إنه في المدح يلعن، وفي ذكر فلان يلعن، وفي الإخبار عن فلان يلعن، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن اللعنة إذا خرجت من صاحبها تصعد إلى السماء، فتوصَد أبوابُ السماء دونها، فترجع إلى الأرض، فتوصَد أبوابُ الأرض دونها، ثم تأتي إلى الذي لُعن -إلى الذي لعنتَه- فإن كان أهلاً لها أصابته اللعنة، وإلا رجعت إلى قائلها).
أتعرف ما هو اللعن الذي اعتاده كثير من المسلمين؟
اللعن هو: الطرد من رحمة الله، واسمع وانظر وفتِّش في مجالس المسلمين، واحصِ كم يقع بينهم من اللعن: (ليس المؤمن بالطعَّان ولا اللعّان) وقال عليه الصلاة والسلام: (لعن المسلم كقتله) فإذا لعنتَه كأنك قتلته يا عبد الله.
اللعن، وما أدراك ما اللعن الذي انتشر في صفوف كثير من المسلمين؟
ثم اعلم -يا عبد الله- أن بعض الشتم كفر بالله جل وعلا، وهو سب الله، أو سب رسوله عليه الصلاة والسلام، أو سب هذه الملة، أو شيء منها، وكثير من الناس من يدعي الإسلام، وينطق بالشهادتين، ثم يسب دين فلان، ويسب شرعه، ويسب رسوله عليه الصلاة والسلام، وحين يسبه فإنما وقع في الكفر، عافانا الله وإياكم منه.
ثم إن بعض الشتم وبعض السب يوجب الحد! أتعرف ما هو الحد؟
الحد هو: جلد ثمانين جلدة، فيُجلد ثمانين جلدة على كلمة قالها، وما هي هذه الكلمة؟ أن يصف فلاناً بالزنا، أو اللواط، أو هذه الفواحش، لو وصف فلاناً بالزنا، فقال له: يا زانٍ، فإنه يُجلد ثمانين جلدة، وهذا هو الفاسق الذي لا تُقبل له شهادة أبداً.
ثم اعلم -يا عبد الله- أنه لو قال مثلاً: أنتَ أزنى من فلان، فإنه يُجلد مائة وستين جلدة -مرتين يُجلد- لأنه وصف فلاناً, ومَن فضَّله عليه بالزنا، فقال: أنت أزنى من فلان، فيُجلد مرتين، كل هذا عقوبة له.
ثم لو قال كلمة دون الزنا، وأقل من الزنا، فإنه يُعزَّر، مثل أن يصف الناس بالحيوانات أو بالبهائم، فإن حكم الله كما قال بعض العلماء أن يُعزَّر، إما بالضرب، وإما بالسجن، وإما ببعض أنواع التعذيب، حتى يكف عن هذه الألفاظ البذيئة.
عباد الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أقول هذا القول، وأستغفر الله.(72/7)
أسباب انتشار ظاهرة الفحش
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبي بعده.
أما بعد:
قال عليه الصلاة والسلام: (أتدرون مَن المُفلس؟ قالوا: المُفلس من لا درهم له ولا متاع، قال: المُفلس مِن أمتي مَن يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة وحج، ويأتي وقد سب هذا، وشتم هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا) مسكين، لو في كل يوم سبة واحدة، فإنه في السنة يزداد سبه على الثلاثمائة والستين سبة، فيأتي الناس كلهم يجتمعون عليه- فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، حتى إذا فنيت حسناته، أتعرف ما حسناتُه؟ صلاته ضاعت، صيامه فَنِي، زكاته ضاعت، حجه ذهب، كل أعماله قد ذهبت وولت، تعبه في الدنيا كله قد ضاع، قال: (حتى إذا فنيت حسناته، أُخذ من سيئاتهم، ثم طُرحت عليه، ثم طُرح في النار) أتعرف ما الذي أرداه؟ (وهل يكب الناسَ في النار على مناخِرهم إلا حصائدُ ألسنتهم).
اللسان يا عبد الله، احفظ لسانك عن سب الناس وشتمهم، ووصف القبيح والبذيء والفُحش وما غَلُظ من القول.
عباد الله: ما الذي جرَّأ الناس على هذا الكلام؟
أسباب كثيرة:
من هذه الأسباب:
السبب الأول: مخالطة الفاحشين الفحَّاشين، بذيئي اللسان:
فالمرء على دين خليله، وانظر -يا عبد الله- المجالس التي تجلس فيها، فإن كانت هذه المجالس فيها من السب والشتم والفُحش والبذاء فإنك يوماً من الأيام سوف تقول مثلما يقولون، والله جل وعلا يقول: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72] هذه المجالس لا يُجْلس فيها.
السبب الثاني: ثم من الأسباب: بعض المسلسلات والأفلام والقصص، التي تخبر بالفُحش والبذاءة، والقبح والسب واللعن -عافانا الله وإياكم منها- حتى إن بعض الناس يقص منها بعض القصص في الجرائد والمجلات والكتب، فيقص بعض الفواحش وكيفية وقوع الرجل على المرأة، وكيفية عمل بعض المنكرات، وما قَبُح من القول، فيصفه بالتفصيل في بعض القصص التي تُنشَر في بعض الجرائد والمجلات، وبعضها تكون في أفلام تُبَث عبر الهواء مباشرة من دول الغرب، والكفر والإباحة، ثم يعتاد كثير من المسلمين هذه الكلمات، فإذا أنكرت عليه يقول: أنا أفضل من فلان، ويا مسكين! أنت لا تعلم ما يقول فلان، وما يفعل فلان، أنا فقط أتلفظ، أما فلان فيفعل كذا وكذا.
سبحان الله! حتى أصبح المنكر معروفاً، وأصبحت الكبائر صغائر، وأصبح الناس يتهاونون بهذه الألفاظ.
وتذكر دائماً يا عبد الله، وتفكر في هذا الحديث: (إن الله يُبغض الفاحش البذيء) يُبغضه الله جل وعلا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداء الدين، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.(72/8)
هل وجدتم السعادة؟
إن الناظر إلى حياة الأمم خلال هذه العصور، يجد أنها قد ابتعدت عن منهج الله سبحانه، وتركت كتاب ربها وراءها ظهرياً، وسعت سعياً حثيثاً وراء المناهج الغربية والأفكار الدخيلة، والشعوذة الزائفة، ظناً منها أنها هي السعادة الحقيقية، المؤدية إلى الرقي والتمدن، والازدهار، ولكن هيهات! بحثت عن السعادة وما علمت أنها لن تجدها حتى تراجع دينها، ومنهج ربها سبحانه.(73/1)
السعادة الحقيقية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
ثم أما بعد:
فهذا المجلس لعلك تجلسه يوم القيامة في الجنة، في روضةٍ من رياض الجنة، فإياك إياك والملل! وإياك إياك والسآمة! فإن هذا المجلس عظيم! تحضره الملائكة، بل وتحفه إلى السماء الدنيا، ويختم هذا المجلس بـ (قوموا مغفوراً لكم؛ قد بُدِّلت سيئاتكم حسنات) فهي دقائق معدودة، تُمحى بها كثير من السيئات، فتحمل وتصبر فإن هذا الصبر له أجرٌ عظيم.
أيها الأخ الكريم! لو سألت الناس جميعاً ماذا تطلبون من الدنيا؟
وماذا تريدون؟
وما هي أغلى أمنية عندك في هذه الدنيا؟
أغلب الناس وكل واحدٍ منهم سوف يقول: أريد أن أعيش سعيداً مرتاحاً مطمئناً، أبحث عن شيء يُسمَّى السعادة والراحة، كلّ الناس يلهث ويتعب وراءها، وينصب من أجلها، من أجل أن يعيش سعيداً في هذه الحياة الدنيا.
انظر إلى من يجمع الأموال: الملايين العمارات العقارات والأرصدة، لا يعدها ولا يستطيع حسابها، هل حصل على السعادة؟!
سله! واجلس معه اجلس مع أولئك الذين يتمتعون بالغناء والطرب منذ الصباح إلى المساء ليلهم طرب نهارهم طرب أغاني وموسيقى ومعازف، سلهم! هل حصلتم على السعادة؟! كيف سوف يجيبونك؟
سل أولئك الذين يبحثون ويطلبون الشهرة والسمعة بين الناس، يتمنى يوماً من الأيام أن يظهر على صفحات الجرائد فيقال: النجم، أو المطرب، أو الممثل فلان الفلاني، هذه غايته وأمنيته، وبعد أن يحصل عليها سله! هل وجدت السعادة؟!
هل وجدت راحة البال؟!
كلا وربي! إن السعادة لا توجد إلا في شيء واحد وهو طاعة الله جلَّ وعلا {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا} [طه:124] ويقول ربنا: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] يقول الله: كل من أعرض عن ذكري وعن طاعتي عن القرآن عن المساجد، فحياته وعيشته ودنياه كلها ظنكٌ في ظنك {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً} [طه:124 - 125] يا رب! كنت في الدنيا أبصر وأرى، فلم حشرتني؟
الجواب
{ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:126] كذلك في الدنيا ألا تذكر ذلك المسجد في ذلك المكان بعد صلاة المغرب لما جلست واستمعت إلى آياتي لكنك نسيت؟
أتذكر تلك الخطبة -خطبة الجمعة- التي جلست فيها، واستمعت، وأنصت، وعاهدت ربك ثم نسيت؟
أتذكر ذلك الشريط الذي استمعت إليه، وعاهدت ربك بالتوبة، وما هي إلا أيام ونسيت؟ {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:126].
عبد الله: من الناس من تصل به الكآبة والحزن والضيق والهم في الدنيا، وعنده ملايين عنده أرصدة عنده كلما يريده من الدنيا، ولكنه الحزن والضيق، أي ضيق؟!
ضيق الصدر {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] فمن شدة الضيق يجلس مع أصحابه في مجلس في ليلة حمراء، يتعاطى بعض الحبوب، جلست معه يوماً من الأيام، فسألته! لمَ تتعاطاها؟
فقال لي: لأنسى تلك الهموم والأحزان، ولأشرح الصدر شيئاً ما، ولأعيش في أوهام أبتعد بها عن هذه الدنيا الكئيبة، وعن هذه الحياة المظلمة، وعن هذه العيشة الضيقة، بتلك الحبوب!!
إنه مسكين، حبة بعد أخرى، ثم ثالثة، ثم رابعة، ثم يشعر بالألم، ثم لا يتحمل يوماً إلا ويتعاطاها، ثم حياة كئيبة لا يعرف زوجاً، ولا بنتاً، ولا أماً، ولا أباً، ليس في قلبه أية رحمة، يقتل من يجد لأجل تلك الحبوب يسرق ما يجد لأجل تلك الحبوب! ثم أين مصيره؟
جرعة زائدة في ليلة سوداء مظلمة مع أصحابه الأشقياء أخذها ليتمتع بها ولينسى همه؛ فإذا به يُعالج سكرات الموت، ويستنجد بأصحابه! أليس منكم راق؟ أليس منكم طبيب؟ أنقذوني! أرجعوا الروح فإني أحس بها تخرج من رجليَّ، أتعرف ما السبب؟
أخذ جرعة زائدة فإذا بهم يهجمون عليه لينقذوه ولينجدوه، كيف؟
يقطعون شرايينه وأوصاله يمزقون جلده لينزف الدم من يديه ومن رجليه طلباً لنجاته، ولكن هيهات هيهات! بكى صاحبه استنجد أخوه، وجاءوا بالطبيب، ولكن لا مناص؛ فإذا به يُفارق الحياة الدنيا، ثم يُوضع في كيسٍ للقمامة، ثم يُرمى في إحدى الزبالات، ولم يدرِ به أحد، ولم يشعر به إنسان، غادر الدنيا ولم يصل على جسده أحد، ولم يطلب له الرحمة أحد، ولم يستغيث له بالمغفرة أحدٌ من الناس، أي عيشةٍ تلك؟! {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124].
ألم تسمع بذلك الذي جمع ملايين الدنانير، ملايين ومليارات، جمعها بهمٍ وغم، وتعب ونصب، ثم هو بعد هذا يتعب في حفظها، ويتعب في نمائها، ويهتم لحفظها حتى بلغ به الكبر عتيا، ثم ماذا؟
ثم أولاده وفلذات أكباده يترقبونه متى يُفارق الدنيا؟
ومتى يترك لنا هذه الأموال؟
بنته تعد الأيام عداً لموته، وولده يتربص به لوفاته، أهله أقرباؤه يتقربون ويتزلفون إليه ليس لأجله بل لأمواله، أيُّ حياةٍ تلك؟! وأي سعادة أرادها؟!(73/2)
حال السعداء
أتعرف أيها الأخ الكريم! من السعيد في هذه الدنيا؟
إنه الذي يقوم لصلاة الفجر والناس نيام، إنه ذلك الذي أمضى حياته بين القرآن والمسجد والذكر والمباح وطاعة الله جلَّ وعلا، إنه الذي إن نام الناس في الليل قام، لعلك تسأل سؤالاً: ما بالهم إذا نام الناس قاموا؟! وإذا ضحك الناس بكوا؟! وإذا لعب الناس توقفوا؟!
ما بالهم لا ينامون كما ينام الناس؟
ما بالهم لا يلبسون كما يلبس الناس؟
ما الذي جرى؟ أتعرف ما السبب؟
{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ} [الرعد:28] إنهم وجدوا اطمئنان القلب أين؟ {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].(73/3)
قصة رجل اهتدى وعرف السعادة
اسمع يا عبد الله! إلى هذا الرجل كيف اطمأن قلبه؟ وكيف انشرح صدره؟ كان لا يعرف من الدنيا إلا النساء والأغاني والطرب! ظن أن السعادة هناك، وظن أن الحياة أغنية، وامرأة، وكأس، ونوم، وأكلٌ وشرب، ثم تنتهي الدنيا، فإذا به في الشارع يأتيه أحد الرجال الصالحين، يراه من بعيد فيسرع إليه لينصحه، فإذا بالفتاة تهرب فإذا به يأتي إلى هذا الشاب لينصحه، اسمع إلى تلك القصة الغريبة، جاء لينصحه ويُذكِّره بالله جلَّ وعلا، فإذا به يقول له: يا عبد الله! ألا تخاف من الله وتخشاه؟ فإذا به يذكره بقول الله جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18] يُذكِّره وينذره يوم القيامة، ويحذره عذاب الله جلَّ وعلا، يقول: نصحته نصف ساعة، ثم توقفت وإذا بي أراه وعيناه تدمعان! يبكي، عيناه تذرفان الدمع، يقول: فتعجبت من حاله، فأخذت رقم هاتفه وذهبت إلى بيتي ولم أتذكره إلا بعد أسبوعين، يقول: فرفعت سماعة الهاتف في الصباح، فسلمت عليه وقلت له: أنت فلان؟ قال: نعم، فقلت له: أتذكرني؟ قال: وكيف أنسى الصوت الذي كان سبباً في هدايتي.
الله أكبر! انظر إذا أراد الله أن يهدي إنساناً، وقال: وكيف أنسى الصوت الذي كان سبباً في هدايتي؟ قال: الله أكبر! اهتديت، قال: والله إنني منذ تلك الموعظة قد صلح حالي، والتزمت بطاعة الله، فقلت له: اليوم أزورك بعد صلاة العصر وسوف آتيك إلى البيت، فقال: حيَّاك الله!
يقول هذا الشيخ الداعية: صليت العصر، وبعد صلاة العصر جاءني ضيوف أخروني عن الموعد.
يقول: فإذا بي أنتظر مغادرة الضيوف، فذهبوا وقد حلَّ الليل، فقلت: لا بد أن أزوره على الموعد، يقول: فجئته في الليل متأخراً؛ فطرقت الباب، فخرج لي رجلٌ كبير في السن، فقلت له: أين فلان؟ قال: من؟ قال: فلان بن فلان؟ قال: دفناه قبل ساعة، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، غير صحيح اليوم كلَّمته بالهاتف، قال: لم يكن به بأس، صلَّى الظهر وتغدَّى معنا، ثم نام، وقال: أيقظوني لصلاة العصر، يقول: فجئنا لنوقظه فإذا به قد فارق الحياة الدنيا، فقلت له: ومن أنت؟ قال: أنا أبوه، قال أبوه: ومن أنت؟ قال: عرفت ابنك قبل أسبوعين، قال: إذاً أنت الذي أنقذ ابني من النار {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
أسألك -أخي الكريم سؤالاً! أسألك بالله وأجبني! أجب نفسك بنفسك إلى متى هذه الحياة؟
إلى متى والواحد منا إن صلىَّ صلاةً فرَّط بالأخرى؟ لم يمر عليه يوم يحافظ فيه على خمس صلوات في بيت الله إلا ما ندر إلى متى؟
إلى متى يمر علينا الشهر والشهران ولم نختم فيه القرآن مرة؟
إلى متى والعين تنظر للحرام؟
إلى متى والأذن تستمع للحرام؟
إلى متى واللسان لا يُبالي حداً من حدود الله غيبة، نميمة، سُخرية، كذب، استهزاء؟
إلى متى يا عبد الله؟ {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ} [الحديد:16].(73/4)
بلال وسعادته في الدنيا
انظر إلى بلال رضي الله عنه هذا الرجل الذي إن نظرت إلى ظاهره تقول: هذا مسكين عُذِّب في الحياة الدنيا.
أيها الأخ الكريم: نحن المساكين! أما هو فهو من أسعد الناس في هذه الحياة الدنيا، أتعلم ما الذي جرى له؟! كان يُجرّ في الرمضاء وعلى صدره الصخرة، وكان الأطفال خلفه يركضون ويضحكون، والسفهاء يرمونه بالحجارة، وهو يتلفظ بقوله: أحدٌ أحد! قالوا له: نتركك ونعتقك بشرط أن تكفر بهذا الدين؟
وهو يرد عليهم فيقول: أحد أحد! تعرف كيف مات هذا الرجل؟
كان يحتضر وعنده زوجته، فبكت زوجته فقال لها: ولمَ تبكين؟ قالت: واحزناه، وا بلالاه، تبكي على زوجها، قال لها: بل واطرباه، وافرحاه،
غداً نلقى الأحبه محمداً وحزبه
لعلك إن نظرت إلى حاله تقول: مسكين! ماذا جمع من الدنيا؟
أي كنوزٍ جمعها؟
أي نعيمٍ عاشه في الدنيا؟
إنه السعيد حقاً، سمع النبي صلى الله عليه وسلم خشخشة نعليه في الجنة.(73/5)
حبيب بن زيد يموت شهيداً سعيداً
أسمعت بـ حبيب بن زيد هذا الرجل كان رسولاً لرسول الله إلى مسيلمة الكذاب، أرسله النبي صلى الله عليه وسلم رسولاً إليه يأمره بالرجوع إلى الإسلام، فقال له: تشهد أني رسول الله؟ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
قال: ماذا؟! ألا تعلم أني رسول الله؟
قال: إن في أذني صمماً، انظر كيف ردَّ عليه! فإذا به يشير ذلك المنافق المرتد إلى جندي من جنوده أن يقتله فقطع أعضاءه عضواً عضواً ثم مات {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].(73/6)
البحث عن السعادة
عبد الله! ألا تريد السعادة! ألا تريد الراحة في الدنيا! لعلك بحثت عنها فلم تجدها، إنك لن تجدها في الملايين، ولن تحصل عليها في القصور أو في السيارات الفاخرة، ولا عند النساء، ولا بالأرصدة، ولا في بلاد الإباحية والخنا والفجور، لن تجدها إلا بين دفتي المصحف، لن تحصل عليها إلا في آخر الليل في السحر، إذا قمت وصليت بها ركعتين، لن تراها إلا وأنت تطوف حول البيت، وأنت تقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك! سل الصالحين وقل لهم: ما أسعد لحظة مرت عليكم في الحياة؟
بعضهم سوف يُجيبك فيقول: إنه قيام الليل في ليالي رمضان، وبعضهم يقول لك: وأنا أفطر بتلك الرطب وتلك التمرات في بيت الله الحرام في شهر رمضان، أسمع الأذان يقول: الله أكبر! وأنا آكل تلك الرطب، وبعضهم يقول: إنها لحظات الجهاد في سبيل الله، انتظر الموت ولا أجده، رأيت صاحبي فارق الدنيا، وزملائي استشهدوا، وأنا أبحث عن الموت فلا أجده، إنها أسعد لحظات حياتي.
وبعضهم يقول لك: إنها لحظة بكاء، دمعت فيها عيني في بيتٍ من بيوت الله، ليس فيه أحد وأنا أقرأ كلام الله.(73/7)
غلام يبحث عن السعادة
اسمع يا عبد الله إلى هذا الغلام كيف بحث عن السعادة؟
قام شيخٌ كبيرٌ في المسجد يحث الناس على الجهاد في سبيل الله، وكان الوقت وقت حرب دخل النصارى فيه على المسلمين، وغزو بلادهم، فقام الشيخ يَحثُّ الناس على الجهاد، فخرج وجاء وقت الاستعداد للجهاد، فجاء الشيخ وركب الفرس، فنادته امرأة: أيها الشيخ! فالتفت إليها وولى ولم يجبها، فنادته وقالت: أيها الشيخ! أسألك بالله أن تجيبني؟ فقال لها: ماذا تريدين يا أمة الله؟ قالت: أيها الشيخ! سمعت خطبتك في المسجد وأردت أن أُجاهد في سبيل الله ولم أجد إلا هذا الظرف فخذه يا شيخ! واجعله رباطاً لك في سبيل الله.
يقول الشيخ: فأخذت الظرف ففتحته! أتعرف ماذا وجد فيه؟ وجد فيه ظفيرتيها -شعر تلك المرأة- قصت شعرها لتجاهد به في سبيل الله، وقالت له: أسألك بالله أن تجعله رباطاً لخيلك في سبيل الله، ليس عندي ما أجاهد به في سبيل الله إلا هو، فأخذ الشيخ تلك الظفيرتين، وربط بها فرسه وهو يتعجب من أمرها، وذهب للجهاد فإذا به يُنادى فالتفت! فإذا بغلامٍ صغير يناديه، فيقول له: يا شيخ!
فقال له: ماذا تريد أيها الغلام؟
قال: أسألك بالله أن تحملني معك على فرسك في سبيل الله، قال: يا غلام! إن الله قد وضع عنك الجهاد في سبيل الله، وأنت صغير ولست بمكلف.
فقال: أسألك بالله أن تحملني معك على فرسك، قال: لا.
قال: أسألك بالله.
قال: أحملك معي بشرطٍ واحد؟
قال: وما هو الشرط؟
قال: أحملك معي بشرط أنك إذا قُتِلتَ في سبيل الله واستشهدت وبعثك الله عنده يوم القيامة أن تشفع لي عند الله.
قال: لك ذلك أيها الشيخ.
يقول: فحملته وأردفته معي على خيلي وهو غلام صغير، يقول: فإذا بنا ندخل المعركة، وحمي الوطيس فإذا بالغلام يضرب كتفي ويقول لي: يا شيخ! فقلت له: ما تريد؟
قال: أعطني ثلاثة أسهم، قال: اجعلها لغيرك يا غلام، قال: أعطني ثلاثة أسهم، يقول: فأعطيته تلك الثلاثة، يقول: فإذا به يأخذ السهم الأول، وهو يقول: بسم الله! فإذا به يصيب نصرانياً رومياً ويسقط من ذلك السهم.
قلت: الله أكبر! غلام ولكنه مستعدٌ للجهاد في سبيل الله، يقول: فأخذ السهم الثاني! فإذا به يقول: بسم الله ورمى به رومياً آخر، يقول: فقال بالثالث: بسم الله! وأصاب به ثالثاً، يقول: فتعجبت من أمره! يقول: وبعد لحظات نظرت إليه فإذا به قد أصيب، أصابه سهمٌ طائش، يقول: وسقط من على الفرس، يقول: ونزلت أمسح الدم من عليه فكلمته وقلت له وهو يحتضر ويفارق الدنيا: يا غلام! أذكرك العهد الذي بيني وبينك أن تشفع لي عند الله يوم القيامة، فقال لي: يا شيخ! خذ هذه الخرقة وأعطها لأمي، فقال له: يا بني! وكيف أعرف أمك؟
فقال الغلام: يا شيخ! أمي صاحبة الظفيرتين {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:34] يقول: فمات فبكيت، يقول: فانتصرنا في تلك المعركة.
قال الشيخ: فأخذت الخرقة ورجعت إلى المدينة، فطرقت الباب! فإذا بأخته تخرج، فقالت: ما شأنك؟
قال: أبشرك.
قالت: وما ذاك؟
قال: أبشركم بموت ابنكم، فقالت: الله أكبر! وخرجت الأم وهي تكبر، وتقول: مات أبوه فاحتسبناه عند الله، ثم مات أخوه الكبير فاحتسبناه عند الله، والآن يموت هذا الغلام الصغير فنحتسبه عند الله جلَّ وعلا.
أرأيت يا عبد الله؟
{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30] لعلك تتعجب! لِمَ لَمْ ينم الأولون؟
ولمَ سهر الأولون؟
{كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18] كانوا ينتظرون يوماً كان مقداره خمسين ألف سنة.(73/8)
بحث السلف عن السعادة
يقول كعب الأحبار: عينٌ في النار يغمس فيها الرجل غمسة واحدة فيخرج وقد انفصل الجلد واللحم عن الجسم، لم يبق إلا العظام وهو حي أحشاؤه وعظامه، أما لحمه وجلده قد انفصل عن العظم، يقول: ويتعلق جلده ولحمه بكعبه، ويمشي يجر جلده ولحمه {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً * إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً} [النبأ:24 - 25] أرأيت لماذا ضحوا بأنفسهم؟
أرأيت! لماذا كان الواحد لا ينام الليل؟
أعلمت لماذا كان الواحد منهم لا يُفارق كتاب الله؟
كان إذا قرأ دمعت عينه.
ألم تعلم أن عمر كان إذا صلَّى سمع نشيجه من وراء الصفوف، أما أبو بكر فكان لا يستطيع الصلاة إذا صلَّى بالناس، أول ما يبدأ بالفاتحة بكى، علمت لمَ كان عثمان لم يرفع رأسه عن القرآن حتى قُتِلَ وهو يقرأ في المصحف؟ حتى سال الدم على المصحف، فبكت زوجته وهي تقول: قتلتموه وإنه ليحي الليل بالقرآن {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} [الزمر:9] أمام التلفاز يدخن يلعب بالورق يتحدث في الأحاديث الباطلة اللاغية، أم ماذا يفعل؟
{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ} [الزمر:9] يحذر الآخرة، يخاف من يوم القيامة.
يقول ابن عباس: يجمع بين رأسه ورجله في النار.
تخيل!! كيف يجمع بين الرأس والرجل؟
يقول: يُكسر كما يكسر الحطب فيلقى في التنور.
أرأيت كيف تكسر الحطب لتلقي في النار؟
هكذا يُكسر يوم القيامة {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} [الرحمن:41] النواصي -الرءوس- والأقدام يكسر ثم يُلقى في النار {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] يتمنون الهلاك! يتمنون الموت؛ ولكن {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:77 - 78].(73/9)
رسائل وتوجيهات لرجل الأمن
أخي الكريم! قبل أن أختم هذه الموعظة وهذا الحديث هذه رسائل أوجهها خاصة لك:
رجل الأمن: احفظها واجعلها نبراساً لك في حياتك الدنيا: إن وظيفتك عظيمة، وغايتك في الدنيا سامية، ومهمتك صعبة، أن تحفظ الأمن للناس، إن هذا العمل عظيم وصعب؛ ولكن أجره عند الله عظيم إن أخلصت النية، أوجه لك هذه النصيحة فاحفظها، وهذه الرسائل فعها يا عبد الله!
أولها: إنما أنت عبدٌ لله! {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً} [مريم:93 - 94] كل من في السماوات والأرض يأتي لربه جلَّ وعلا يوم القيامة عبد {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] فأنت قبل أن تكون ما تكون أنت عبدٌ لله جلَّ وعلا، تسمع وتطيع لله تبارك وتعالى، ولا تقدم على أوامر الله أحداً، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق:1].
عبد الله: إن من الناس من يدخل جهنم، فيتقلب فيها كالسمك، قال تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب:66] فاحرص على طاعة الله، ومن طاعة الله: الحرص على الصلوات الخمس، خمس فرائض لله تبارك وتعالى: الفجر، والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء.
هذا رجلٌ ماتت أخته في الزمن القديم، فحملها ليدفنها، فإذا به أثناء دفنها سقطت محفظة نقوده، أراد أخذها فنسي، فدفن أخته ورجع إلى البيت، فحلَّ الليل، فرجع مرة أخرى إلى أخته في الليل لينبش القبر ويخرج نقوده، فإذا به في الليل لوحده في القبر، يحفر القبر فلمَّا وصل إلى جثة أخته، إذا به يجد جثتها تحترق، فردم القبر وأسرع إلى بيته، فدخل وسأل أمه! فقال: يا أُماه! أخبريني عن حال أختي، قالت: عن أي شأنها تستخبر؟
قال: أخبريني عن حالها فإني رأيت قبرها يشتعل عليها ناراً، قالت: لم يكن بأختك أمرٌ أكرهه إلا أنها كانت تُؤِّخر الصلاة عن وقتها، تصلي لكن تؤخر الصلاة عن وقتها.
والمفرط متى يصلي الفجر؟
بعد ما تطلع الشمس.
متى يصلي العصر؟
لما تصفَّر الشمس.
متى يتذكر المغرب؟ إذا أذن العشاء {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59].
احرص -يا عبد الله- ألا يدخل في هذه الأذن إلا ما أحلَّ الله تبارك وتعالى، ولا تنظر بهذه العين إلا إلى ما أحل الله جلَّ وعلا، ولا تتكلم بلسانك إلا بما يرضي الرب جلَّ وعلا قال تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65] سوف يأتي يوم من الأيام هذه اليد تتكلم، والجلود -يا عبد الله- تنطق، تنطق بمن لمس هذا الجلد.
أسمعت بذلك الرجل لأول مرة في حياته! ذهب إلى إحدى البلاد ليفعل بعض الأفعال التي حرمها الله جلَّ وعلا؟
لم يُجرِّب هذا الفعل في حياته أبداً لأول مرة، ذهب وعاشر امرأةً بالحرام، وبعد أيام نظر إلى جسمه فإذا به قد تغيَّر، لكنه تحمَّل، ولم يرد أن يذهب إلى الطبيب، فطالت به الشهور وخشي أن يرجع إلى بلده وبه هذا المرض، لكنه لم يتحمل هذا المرض ولم يذهب مع هذا إلى الطبيب، فظل شهوراً طويلة ثم ذهب إلى الطبيب وقد أنهكه المرض، فإذا به في غرفةٍ رمي بها وحيداً فريداً غريباً، قال له الطبيب: هل فعلت شيئاً؟ قال: لا.
هل عاشرت امرأة؟
قال: لا.
قال: لا بد أنك فعلت شيئاً.
قال: أبداً يخاف الفضيحة والعار، فلما اقتربت ساعة وفاته وعلم أنه سوف يُفارق الدنيا، قال للطبيب: نعم! عاشرت امرأةً بالحرام، فإذا بالطبيب يتركه ويُسلِّم أمره إلى خالقه جلَّ وعلا، وما هي إلا أيامٌ تعذب بها ثم فارق الحياة الدنيا.
عبد الله! أي حياة تلك الحياة؟!(73/10)
ملازمة طاعة الله عز وجل
أولاً: عليك بطاعة الله، لا تقدم على الله تبارك وتعالى أحداً، يقول الله جلَّ وعلا: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] إذا سمعت فأطع ربك جلَّ وعلا، ولا تقدم على أمر الله أحداً.(73/11)
تجنب الظلم
الأمر الثاني: يا عبد الله! في حياتك الدنيا إياك والظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة إياك أن تظلم إنساناً، ولو بكلمة، أو لو بضربة، أو باتهام، أو بأي أمرٍ كان (فالمفلس يوم القيامة من يأتِ بصلاة وصيام ولكنه شتم هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته، أخذت من سيئاته ثم طُرِحت عليهم، ثم طُرِحَ في النار) {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم:42].
لا تقل: هذا من جنسية كذا، وهذا إنسان حقير، وهذا إنسان ضعيف فتظلمه! فالله جلَّ وعلا لا يظلم أحداً، ويوم القيامة يأتِ الظالم السمين العظيم لا يزن عند الله جناح بعوضة، يطؤه الناس بأقدامهم؛ لأنه ظلم {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42].
عبد الله: هذه نصيحة وموعظة، أطلب منك طلباً قبل أن أختم الحديث، قبل أن تضع رأسك على الفراش، أو وأنت تنتظر ساعة النوم، أن تُفكِّر في هذه الكلمات، واجعل هذه الليلة آخر ليلة في حياتك:
تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جنَّ ليلٌ هل تعيش إلى الفجر
فكم من صحيحٍ مات من غير علة وكم من سقيمٍ عاش حيناً من الدهرِ
وكم من صغارٍ يرتجى طول عمرهم وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر
وكم من عروسٍ زينوها لزوجها وقد نُسجت أكفانها وهي لا تدري
وأحسن منه قول الله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:5].
واجعل هذه الليلة بداية حياة جديدة لك بينك وبين الله الميلاد الجديد، اجعل هذه الليلة صفحة جديدة بينك وبين الله، وقل من قلبك صادقاً: يا رب! {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] قلها صادقة: يا رب! تبت إليك، قلها وأخرجها من قلبك: يا رب! لا عودة إلى الذنوب والمعاصي، يا رب! من هذه الليلة سوف أحرص على خمسٍ في اليوم والليلة، لن أفارق بيت الله، لن أهجر القرآن، يا رب! لساني بإذنك لن يتلفظ إلا بما أحلَّ الله، فإن زللت وإن غفلت فارجع إلى الرب جلَّ وعلا، فإنه يقول عن نفسه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]
هذا وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(73/12)
وقفة محاسبة
محاسبة النفس نتيجة طبيعية لإدراك حقيقة الدنيا، وحقيقة الآخرة.
ومن أدرك هذه الحقيقة لا يفتأ يستعد في كل حال للقاء ربه، فيقبل بجوارحه ولبه، على إصلاح جسمه وقلبه، ويزهد في الدنيا الفانية، ليثقل وزنه في الآخرة الباقية، ويتفكر في الموت، ويمعن النظر في لقاء الله، فلا يملك بعد ذلك أن يعصيه.
وهنا وقفات في فضل الطاعة والتوبة، وخطر المعصية والتسويف، وصور ناصعة من حياة أهل الله من السلف الصالح.(74/1)
الاستعداد الدائم للقاء الله
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فالعنوان وقفة محاسبة.
أيها الأخ الكريم! قبل أن أدخل في الموضوع، حاول أن تعيش معي هذه الآية، وأن تترجمها في حياتك العملية، ثم لنجعلها مدخلاً لحديثنا، وهي قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18] هل أنت من الذين آمنوا؟ إذن فأرخ لها سمعك: (اتقوا الله) فاجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، ثم بعدها انظر ماذا قدمْتَ لغد.
أيُّ غد يا عبد الله؟
الغد قريب {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً} [المعارج:6] * {وَنَرَاهُ قَرِيباً} [المعارج:7] قريب يا عبد الله، ربما تكون هذه الليلة هي الأخيرة، وربما لن ترى الفجر، وربما لن ترى الشمس تشرق عليك بعد هذه الليلة، وما يدريك ربما لن ترجع إلى أهلك بعد هذه اللحظات، بل ربما لن تسمع حديثي إلى النهاية، وما يدريك، هي أقرب من لمح البصر، بل يا عبد الله الأمر يأتي بغتة وفجأة.
هذا رجل خرج من بيته، فقال لأهله: ماذا تريدون وماذا تطلبون؟ قالوا: نريد كذا وكذا، فإذا به يذهب، وبعد قليل يصل اتصال إلى أهل البيت: أهذا بيت فلان بن فلان؟ قالوا: نعم، قالوا: إن أباكم أو ابنكم أو زوجكم ينتظركم في المستشفى الفلاني، أسرعوا! فإذا هو قد فارق الدنيا، مسكين كان يظن أنه سوف يرجع إلى البيت.
وهذا الذي بنى البيت ولما يؤثثه، انتظر متى يؤثث البيت وكان يحلم ويخطط، وكان يتأمل ولكن الأجل أقرب.
وهذا الذي كان يدرس، ينتظر الشهادة أربع سنين، ولما ذهب ليستلم الشهادة، فإذا هو بحادث يفارق به الحياة الدنيا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].
أيها الأخ الكريم: اجعل نفسك أمام الله جل وعلا وكأن الله يحاسبك، وكأن ميزان الأعمال قد نصب، وكأن الكتاب قد وضع أمامك: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَة} [الكهف:49] نظرة، كلمة، زلة، أغنية استمعت إليها، كلها مكتوبة، أف للوالدين، ترك للصلاة، غيبة، نميمة، {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49].(74/2)
الموانع التي تشغل الإنسان عن محاسبة نفسه
مما يمنع الناس عن رؤية هذه الحقيقة أمور:(74/3)
الدنيا ومتاعها
أولها: الدنيا.
وانظر إلى تكالب الناس على الدنيا، يمر النبي صلى الله عليه وسلم على تيس، أو جدي أسك ميتاً -أسك: أي مقطوع الأذن- يمر عليه فيقول للناس: من يشتري هذا بدرهم؟ فيقولون: يا رسول الله! جيفة نتنة، لو كان حياً ما اشتراه أحدنا بدرهم أو درهمين، كيف وهو جيفة ميتة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (للدنيا أهون عند الله من هذا عند أحدكم).
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33] تصدنا الدنيا عن ذكر الآخرة، كان سفيان الثوري في المسجد، فقال لصاحبه: ائتني بالماء، يقول: فجئت له بإناء فيه ماء يقول: فوضع يده اليمنى على خده الأيمن، ووضع يده اليسرى على خده الأيسر، وأخذ ينظر إلى الماء، قال: فذهبت ونمت أول الليل، فاستيقظت على الفجر، يقول: فجئته بعد صلاة الفجر، فإذا هو على هذه الحالة، يده اليمنى على خده الأيمن واليسرى على خده الأيسر وهو في المسجد، فقلت له: يرحمك الله، ما زلت على هذه الحالة منذ أن فارقتك، قال: لا زلت أتفكر في أمر الآخرة.
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور:36] * {رِجَالٌ} [النور:37] الآن بعد صلاة العصر من يجلس إلى المغرب في المسجد من الناس؟ كان عبد الله بن المبارك بعد العصر لا يكلم أحداً، يجلس في المجلس يذكر الله حتى تطلع الشمس، من منا يفعلها ولو مرة في الأسبوع، ولو كان يوم جمعة؟! ومن الذي يشغلنا؟ إنها الدنيا {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:36 - 37] تعرف ما الذي جعلهم في المساجد بعد الفجر وبعد العصر؟ {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37].
الإمام أبو حنيفة يقوم الليل كله بآية، يرددها ويبكي طول الليل إلى الفجر، تعرف ما هذه الآية؟ {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27].
إنها الدنيا يا عباد الله! حتى أنه قال يوماً لأصحابه عليه الصلاة والسلام: (ما لي وللدنيا! ما لي وللدنيا! ما أنا في الدنيا إلا كراكب، استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها) قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف:46].
الدنيا تتزين لك بصورة امرأة، وبيع وشراء، ومجالس لشرب الشاهي والقهوة إلى منتصف الليل، ثم لا صلاة فجر ولا قيام ليل، هذه هي الدنيا يا عبد الله! الدنيا أسهم، وربا، وأموال، وتجارات، هذه هي الدنيا.
يقول أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه: [جاهدنا مع رسول الله عليه الصلاة والسلام حتى فتح الله علينا، يقول: فقلنا بيننا وبين أنفسنا بعد أن فتح الله للمسلمين: لو التفتنا إلى ضياعنا ومزارعنا فأصلحنا ما فيها].
تركوا المزارع، والضياع، تركوا البيوت، وجاهدوا في سبيل الله، فلما نصر الله دينه، قالوا: لو التفتنا إلى مزارعنا فأصلحنا ما فيها، لا تنس نصيبك من الدنيا، فإذا بالرب جل وعلا ينزل قوله: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] أرأيت كيف صدتنا هذه الدنيا؟ فحاسب نفسك كيف تقضي وقتك، كم للدنيا وكم لله جل وعلا.
هذا الإمام أحمد ثماني عشرة سنة يلبس حذاءً واحداً، كلما تقطع النعل خصفه بيده، يرقعه بيديه رضي الله عنه ورحمه الله؛ دخل عليه ابنه عبد الله يوماً، فرآه في غرفة مظلمة متربع، مستقبل القبلة يبكي، فقال له: يا أبي! ما لك يرحمك الله؟ قال: أتفكر في أمر الآخرة، فقال له ابنه: يا أبي هلا اتكأت على الحائط، أنت رجل كبير متعب، اتكئ على الحائط قال: أستحي أن أناجي ربي وأنا متكئ.
{يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار:6 - 7] عبد الله! سل نفسك ما الذي غرك؟ يقول: (للدنيا أهون عند الله من هذا عند أحدكم) وقال: (لو كانت هذه الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء).(74/4)
نسيان المصير
ومما يلهينا: نسيان الموت والمصير.
هل تفكرت يوماً في مصيرك يا عبد الله؟! لو كنت طريح الفراش، سل نفسك؛ لربما تكون هذه حالتك، وسوف أروي لك حالة يمر بها أكثر الناس بل كلهم، هذا رجل على الفراش، أحس بأمر غريب، رأى شيئاً عند ظهره أو عند رأسه جالساً، قال له: من أنت؟ فقال: أنا ملك الموت، أنا ملك الموت، قال: ما الذي جاء بك؟! قال: جئت لأنتزع الروح -لأقبض الأمانة- فقال له: انتظر قليلاً، قال: ولم؟ قال: انتظر عندي بعض الذنوب، عندي أفلام أريد أن أحرقها، وعندي أموال ربوية سوف أتصدق بها، انتظر قليلاً ما صليت الفجر اليوم، انتظر قليلاً لم أغتسل من جنابة، انتظر لقد اغتبت أناساً وأخذت أموالهم وظلمتهم ولم أتحلل منهم، انتظرني قليلاً قال: كلا.
فإذا بالروح تنزع، وإذا بمن دخل عليه يصيح؛ دخلت أمه تبكي ودخل أبوه، ودخلت زوجته، ينظر إليهم لا يستطيع أن يرد على أحدهم.
البنت الصغيرة انطرحت على صدره تقول له: يا أبي ما لك لا تجيب؟! الولد يقول له: يا أبي ألم تعدنا بالسفر؟! ألم تعدني بتلك السيارة، وبهذه اللعبة؟! يا أبي ما لك لا تجيب؟! ينظر إلى زوجته الثكلى، تقول له: يا فلان لمن تتركنا؟ والأب قد جاء بالطبيب، والأم تنوح، وينظر إليهم ولكن: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:26 - 27] فجاء الطبيب يحاول علاجه ولكن: {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:28] فراق البيت والأثاث، أم فراق الأولاد والبنات، لمن تتركهم يا عبد الله؟! فراق القصور، والسيارات، والشهادة، والمنصب، والأرصدة، والزوجة، والوالد، والوالدة: {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة:28] فإذا به بعد لحظات يغسل، ثم يوضع في الكفن {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:29] ثم حمل على الأعناق؛ إن كان فاجراً يصيح: يا ويلها أين تذهبون بها؟ يا ويلها أين تذهبون بها؟ {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:30] ثم وضع في القبر فيا ويله! {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:31 - 32] يا ويله ما صلى الفجر، ولا صلى العصر، ولا حافظ على الدين.
يا ويله! خرج إلى حفرة ولا زال يترك بعض المعاصي والذنوب! يقول عند الوفاة: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] يقول: يا رب لحظة، يا رب ليلة واحدة فقط، تظنه لو رجع يقبل أولاده، أو يعاشر زوجته، أو يسكن قصره، أو ينفق أمواله، لا ورب العزة، يريد أن يرجع لأجل شيء واحد {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً} [المؤمنون:99 - 100].
فإن لم يكن هو، فكن أنت يا عبد الله، والله يريد أن يرجع فلا يرفع رأسه عن السجود، ولا يقطع لسانه عن ذكر الله، يريد أن يرجع فيبكي الدم وليست الدموع توبة من تلك المعاصي والذنوب ولكن: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:99 - 100] كان في الدنيا كثيراً ما يقول: يا رب لن أعود إلى المعصية، أو بعد سماع هذه الكلمات يقول: وعزتك وجلالك لأحفظن على الفجر، وأقوم الليل، وأعتزل الفجور والمنكرات، فإذا به بعد يوم أو يومين يرجع كما كان، كلمة هو قائلها.
أصيب بمرض، فقال: يا رب! لئن شفيتني من هذا المرض والله لأتوبن ولأنبيبن إليك، وبعد أيام لما شفاه الله رجع كما كان، كلمة هو قائلها؛ كذاب: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100].
أسألك بالله أن تذهب إلى المقبرة، لست على موعد، ولا تقصد فقط اتباع الجنازة، اذهب لوحدك، واجلس عند القبور واسأل أهلها، وانظر هل يجيبوك؟
أين جمال وجوههم، وكيف صنعت بها الديدان؟ أين قوة أجسادهم، وكيف فعلت بهم الأرض؟
يا عبد الله! سلهم: أين الملوك؟ أين العظماء؟ أين أهل القصور؟ أين أهل الأموال؟ أين أهل النساء؟ ماذا فعلوا في القبور؟ عبد الله سلهم واجلس عندهم، هل يجيبك أحد؟
أتيت القبور فناديتها أين المعظم والمحتقر
تفانوا جميعاً فما مخبر وماتوا جميعاً ومات الخبر
فيا سائلي عن أناس مضوا أما لك فيمن مضى معتبر(74/5)
التسويف وطول الأمل
لا تقل آخر مرة أفعل هذه المعصية، وما يدريك لعلها اللحظة الأخيرة، لعل ملك الموت ينتظر الآن، أول ما تقرب عند هذه المعصية يهجم عليك، هذا الرجل كان صالحاً، وكان مع الصالحين، وكان يحضر مثل هذه المجالس، غرته الدنيا، وسول له الشيطان، فإذا به يترك الصالحين إلى قوم فجرة فسقة، مرت الأيام ودارت، ولا زال يحافظ على الصلاة ولكن يفعل بعض المعاصي، قال له الفجرة الفسقة: نريد أن نسافر إلى بلاد كذا وكذا، قال: أعوذ بالله، قالوا: تمتع معنا، قال: معاذ الله، فصمموا عليه فأجابهم، وسافر معهم إلى بلاد الخنا والزنا، جلس معهم في الغرفة، كل ليلة يذهبون إلى المعاصي ولا يذهب معهم، يخاف الله، لا زال فيه شيء من الإيمان، كل ليلة يحاولون به ولكن لا فائدة، الرجل لا زال متمسكاً بشيء من دينه، جاءوا إليه بعاهرة داعرة، قالوا: لا بد أن ندخله معنا فيما نحن فيه، فإذا بهم يفتحون عليه الباب وكان لوحده في الليل، وأدخلوا عليه العاهرة، وأقفلوا عليه الباب، فلا زالت تراوده ويردها، وتحاول به فيصدها، ولا زالت به حتى وقع عليها، فلما وقع عليها قبض الله روحه {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [القلم:44 - 45].
لعلك تقوم لصلاة الفجر، ثم ترجع وتنام، لكنها النومة الأخيرة، فكيف تلقى الله جل وعلا؟ تركت الصلاة، نمت عن صلاة الفجر يا عبد الله، لعلك تقول: هي آخر مرة سوف أكلمها وأجلس وأختلي معها، ثم أتوب إلى الله جل وعلا، يختلي فإذا به يفارق الدنيا، سافر لأول مرة في حياته، ليفعل الزنا في بلاد يظن أنه لن يراه بها أحد، دخل إلى الغرفة، أغلق الباب مع مومسة فاجرة، كان يعاشرها بالحرام، فإذا بالفندق يحترق، وإذا به لا يكتشف إلا في نهاية الأمر أن الفندق يحترق، فتح الباب ليهرب لكن القدر والأجل كان أقرب، جثة متفحمة، رأيت خاتمته يا عبد الله، لا تقل: المرة الأخيرة، ولا تقل: إن شاء الله هذه آخر مرة، انتبه يا عبد الله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135] بشرط {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].(74/6)
من قصص الصابرين على الطاعة
عبد الله: ثباتك على دينك إلى أن تموت واجب، ليست القضية يوماً أو يومين، اليوم أصلي وغداً لا أصلي، اليوم أنا صالح وغداً مع الفجرة الفسقة وهكذا إلى أن تموت.(74/7)
ماشطة بنت فرعون
مر النبي صلى الله عليه وسلم في المعراج على رائحة طيبة، فقال لجبريل: ما هذه الرائحة الطيبة؟ قال: هذه رائحة ماشطة بنت فرعون اسمع إلى خبرها ونبئها، فنبؤها عجيب، وخبرها عظيم، قال: رائحة ماشطة بنت فرعون فرعون الذي كان يجمع الناس والحاشية والوزراء، ثم ينادي فيهم: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] بحثت لكم في الأرض ما وجدت لكم آلهة إلا أنا، وكان يتهكم موسى، يقول لـ هامان: {ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر:36 - 37] أريد أن أنظر إلى هذا الإله المزعوم، انظر كيف التهكم والاستهزاء.
فرعون الجبار الذي يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24].
هذه امرأة خادمة عند ابنته، آمنت فكتمت إيمانها خوفاً على أولادها الصغار، وفي يوم من الأيام كانت تمشط لبنت فرعون، فسقط المشط، أخذت المشط فزل اللسان، فقالت: باسم الله، فسمعتها البنت، قالت: تقصدين أبي؟ قالت: لا.
طغى الإيمان وطفح، نسيت العذاب والقتل، ونسيت أولادها، قالت: بل ربي وربك ورب أبيك الله رب العالمين، قالت: سأخبر أبي.
وأبوها هو صاحب السيف، سفاك الدماء، الشوارع تسيل من دماء الذين قتلهم ظلماً، قالت: أخبريه، ولم تبال بأولادها ولا بنفسها، دخلت في القصر وعن يمينها وشمالها الجلادون، الجلاوزة، فجاءت إلى فرعون الذي يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] قال: يا فلانة! أولكِ رب غيري؟ قالت: نعم.
ربي وربك الله رب العالمين.
قال: ما تقولين؟ قالت: ما تسمع، ربي وربك الله رب العالمين، قال: أحضروا أولادها الصغار، تخيل، وكن في موقفها يا عبد الله، والأم أعظم شفقة من الأب، جاءوا بأولادها الرضع يبكون، وأحميت القدور، فجاءوا بالولد الأول، وقالوا: ترجعين؟ كلمة واحدة تقولها تنجي نفسها وأولادها، ولكن اسمع إلى الصبر على الدين والثبات، جيء بالولد الأول فإذا به ينزل في القدر، وهو حي يبكي فيدخل، فينفصل اللحم عن العظم، حتى تقطع لحمه وعظمه في القدر ومات، والأم تنظر ولم ترجع عن دينها شبراً، جيء بالولد الآخر وأحرق وهو يبكي، وتخيل ذلك المنظر وهو ينادي أمه، يا أماه! يا أماه! تظن الولد ينظر إلى أمه ولا يستنجد بها، والمسكينة يعتصر قلبها على أولادها، ولد تلو الآخر، انفصلت عظامهم عن لحومهم، ثم جيء بها إلى ذلك القدر، دورها الآن، فقالت لفرعون: لي إليك حاجة.
ظن الطاغية أنها سوف ترجع، ففرح، قال: ماذا تريدين؟ قالت أسألك إذا أحرقتني أن تجمع عظامي وعظام أولادي في كفن واحد، وتدفننا جميعاً، قال: ذلك لك من الحق علينا، ثم رميت في القدر، فشم أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام رائحتها في السماء في المعراج.
{قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:4 - 7].
لمَ كل هذا؟ لمَ حرق الناس؟ لمَ قتلهم؟ لمَ صلبهم؟ لمَ طردهم؟ حتى قال أفضل الخلق: (أومخرجي هم؟ قيل: ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي).
{وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8].
عبد الله: يصبرون على دينهم بقتل أولادهم، أنت على ماذا تصبر يا عبد الله؟ الواحد يقاوم نفسه ويجاهد نفسه لصلاة الفجر، نسأل الله العافية، الصديق الآن والتقي الذي يصلي الفجر في جماعة، وكانوا لا يعدون الذي لا يصلي الفجر في جماعة شيئاً، كانوا يلومون الذي لا يقوم الليل، أما الفجر فصلاته معتادة عندهم، وكان الذي لا يصلي فقط هم المنافقون، الآن يقاوم نفسه على صلاة العصر، الآن يجاهد نفسه لترك تلك الفتاة، أو لهجر ذلك المسلسل، أو لترك تلك المباريات، وهذه الأفلام والمسلسلات، يقاوم نفسه لحضور مجلس علم وذكر، انظر الفرق بيننا وبينهم.(74/8)
أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18] انظر يا عبد الله إلى السابقين، عائشة رضي الله عنها، يدخل عليها عروة رضي الله عنه، يقول: دخلت عليها وهي تصلي وتقرأ قول الله جل وعلا: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] الصديقة بنت الصديق، تقرأ هذه الآية وتبكي، يقول: فطال عليّ المقام، يريد أن يسلم عليها، يقول: فذهبت إلى السوق وقضيت حاجتي، ثم رجعت إلى بيتها، فوجدتها تقرأ الآية نفسها وتردد وتبكي: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27].
ولهذا دخل عليهم أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام يوماً وهم يضحكون، والضحك حلال ويحق لهم أن يضحكوا، قال: (لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً).
فأين البكاء؟(74/9)
قصص أخرى للمحاسبة
ثابت البناني، لشدة بكائه كادت عيناه أن تذهبا، كاد يصاب بالعمى، فجاءوا له بالطبيب، فقال له الطبيب: أعالجك بشرط واحد، قال: وما هو؟ قال: ألا تبكي، إن كنت تريد عينك فلا تبك، قال: وما خيرهما إن لم تبكيا.
يقرأ ابن مسعود على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن يقول: فإذا به يقول لي: حسبك! يقول: فنظرت فإذا عيناه تذرفان، وذلك في آية {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41].
عمر بن عبد العزيز، تقول فاطمة: قرأ قول الله في صلاة الليل: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة:1 - 5] تقول: شهق شهقة حتى سقط على الأرض يبكي، تقول: فظننته مات، تقول: فقام مرة ثانية، وأخذ يجول في الدار، وهو يردد ويقول: يا ويلي من يوم يكون الناس فيه كالفراش المبثوث، ويلي من يوم يكون الناس فيه كالفراش المبثوث!(74/10)
وقفة محاسبة
عبد الله: هؤلاء الزهاد العباد، وهذا قولهم، فما قولنا يا عبد الله؟! لم هذه الغفلة؟ إنها النظرة، إنها الكلمة، إنه المجلس الذي نستمع فيه إلى الغيبة والنميمة، إنه يا عبد الله الذنب على الذنب على ذلك القلب حتى صار كما قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] النكتة بعد الأخرى، حتى صار القلب أسود، وصار لا يفقه، وصار بينه وبين ذكر الله حجاب، وصار كأن في أذنيه وقراً لا يتدبر، حتى أن بعض الناس يشتكي يقول: والله أفكر في المعصية في السجود (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) فأي غفلة؟! وأي ملهيات أوصلتنا إلى هذه الحالة؟!
أخي الكريم: جلسة محاسبة، حاسب نفسك، قبل أن يحاسبك الله جل وعلا، وزن هذه النفس، ضع كفة حسنات وكفة سيئات، وانظر أيهما ترجح؛ كفة الحسنات أم كفة السيئات، وإياك إياك أن تلتفت يمنة ويسرة، وتقول: أنا أفضل من غيري، فإن الأولين كانوا يبكون؛ عمر قبل الوفاة قال لابنه عبد الله: يا بني! ضع خدي على الأرض قال: لمََ يا أبي؟ قال: يا بني ضع خدي على الأرض، فأنزله ووضع خده على الأرض، وقال: ويل لأمي إن لم يغفر لي ربي، ويل لأمي إن لم يغفر لي ربي قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60] قلوب خائفة، يصلي ويصوم، ويركع ويسجد ويتصدق، ولكن القلب خائف: {أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60].
تقول زوجة مسروق: كان يقوم الليل حتى تنتفخ القدمان، فإذا أذن الفجر يزحف كما يزحف البعير، تقول: وأنا أجلس خلفه وأبكي على حاله، هكذا السابقون يا عبد الله!
يروى عن عثمان أنه كان يختم القرآن كله في ليلة، لا تقل لي: هذا خلاف السنة، أين نحن من السنة؟ أين نحن من قيام الليل يا عبد الله؟ يختم القرآن كله في ليلة، قتل وهو يقرأ في المصحف، طعن تسع طعنات، حتى سال الدم على المصحف، فقالت زوجته وهي تبكي: قتلتموه وإنه ليحيي الليل بالقرآن، أنزل الله فيه: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} [الزمر:9] لا التلفزيون، ولا السهرات، ولا مباريات، بل: {قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً} [الزمر:9] اشترى الجنة ثلاث مرات، ومع هذا يقوم الليل كله: {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] هذا هو العلم النافع الذي يؤدي بك إلى قيام الليل، وصيام النهار، وقراءة القرآن، وذكر الله: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] يوجل القلب ويخاف {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2].
أخي الكريم: هذه وقفة في طريق العمر، ولعلنا نلتقي وإياك عند الله جل وعلا، وما يدريك، فلعلنا نكون تحت عرشه يوم القيامة، ولعل الله عز وجل يظلنا في ظله يوم لا ظِلَّ إلا ظٍلُّه، فتأتيني، فتقول لي: يا فلان، تذكر تلك الجلسة، لقد تغيرت حياتي بعدها، لا ندري، لعلي أقبض بيدك وتقبض بيدي، ونحن ندخل جنة الرحمن، لا ندري لعلنا نكون من أول زمرة تدخل الجنة، لا ندري يا عبد الله؟! لعلك تأتيني يوم القيامة، فتقول لي: هل تذكر ذلك المجلس؟ جزاك الله عني كل خير، فمنه بدأت أترك المعاصي، بدأت أقيم الليل، وأصوم بعض الأيام، وأعتكف على كتاب الله، به هجرت تلك المجالس.
لعلنا نلتقي عند الله جل وعلا، فذلك هو الفوز الحقيقي، {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(74/11)
ولمن خاف مقام ربه جنتان
إن الله عز وجل أرسل رسوله بالهدى إلى الناس أجمعين، فأنذر الله به المشركين، وحذرهم عقابه وعذابه، وبشر به المؤمنين، ووعدهم جنته ورضوانه.
وقد تناول الشيخ حفظه الله في هذه المادة وصف الجنة وما فيها من نعيم دائم للمؤمنين، وبيّن من هم أهلها، والذين يستحقون دخولها، وضرب على ذلك أمثلة من الشباب والرجال المشتاقين إلى الجنة.(75/1)
رحلة الأبرار إلى الجنة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
عبد الله! وأنت تجلس في هذا المسجد تخيل أنك قد دخلت الجنة، لأن هذه المجالس هي روضة من رياض الجنة، فلعل الله يجمعنا في مستقر رحمته، في روضة من رياض الجنة.
فاسمع -عبد الله- وتخيل، لعل الرجاء يولِّد العمل، ولعل بعد العمل يكون الصبر عليه، ثم الجزاء الجنة.
يأتي العبد الصالح التائب إلى الله، إما أن يدخله الجنة بغير حساب، وإما أن يعرض عليه الأعمال عرضاً، ثم يقول له يذكره بالذنوب: عبدي! أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر ذنب كذا؟ وقد تاب منها، ثم يقول الله له: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم.
فيعطى كتابه باليمين فلا يصدق نفسه، فيقدم على الناس يقول: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20] كنت في الدنيا أسجد وأركع وأصلي طلباً للنجاة من ذلك اليوم: {إِنِّي ظَنَنْتُ} [الحاقة:19] يعني: علمت {أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَةْ} [الحاقة:19] ثم يساقون إلى الجنة.
ولنبدأ تلك الرحلة وذلك المشهد.
عبد الله! تخيل واستشعر أنك في تلك الزمرة!(75/2)
سَوق المتقين إلى الجنة ودخولهم
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} [الزمر:73] أتعرف أن الجنة تتلألأ من بعيد؟ يخرج منها ريح على مسيرة أربعين سنة، يشمون رائحتها، بل هي تقترب إليهم: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء:90] فيجتمعون عند أبوابها الثمانية وقد أغلقت، ينتظرون سيدهم يخرج من بينهم عليه الصلاة والسلام، فيأتي إلى بابها، فيأخذ حلقة من حلقاتها فيطرق الباب، فيسمعه الخادم فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول الملك والناس يتلهفون، انتظاراً وشوقاً، يقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك، فيفتح بابها، فإنها والله نور يتلألأ، وريحانة تهتز، يرى المؤمنون فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم قد دخل، وإذا الأنبياء يدخلون، وإذا أول هذه الأمة دخولاً أبو بكر رضي الله عنه، وإذا أول زمرة على صورة القمر يدخلون.
أتعرف أن منهم سبعين ألفاً يدخلون الجنة؛ كل واحد قابض على يد أخيه لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم؟ عبد الله! مصراعي باب الجنة مسيرة أربعين سنة، وإنه ليأتي عليه يوم وإنه لكظيظ -مزدحم- بالناس، أسأل الله تعالى في هذا المكان أن نكون ممن يزدحم في ذلك اليوم في الدخول عليه.(75/3)
استقبال الملائكة وتسليمها على المؤمنين
إذا دخلت عبد الله أتعلم ماذا ترى؟
تستقبل المؤمنين الملائكة تسلم عليهم عند أبوابها، يدخل معك أولادك إن كانوا صالحين، وزوجتك إن كانت صالحة، ويدخل معك الأب والأم إن كانوا صالحين، وأصحابك في الدنيا إن كانوا صالحين: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [الرعد:23] يدخلون معك.
وتخيل -عبد الله- نفسك تدخل وأبناؤك حولك، وزوجاتك وآباؤك كلهم على سن واحدة أبناء ثلاث وثلاثين سنة، جُرْداً مُرْداً، مكحلين، يدخلون على صورة القمر ليلة البدر، لا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يتفلون، أول ما يدخلها المرء تستقبله الملائكة تقول له: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24].(75/4)
أوصاف الجنة
أول ما يدخلها فإذا الأرض بيضاء: أتعرف ما هي؟
زعفران ولؤلؤ وياقوت، يطؤها برجله، إذا دخل يعرف مسكنه أكثر مما كان يعرف مسكنه في الدنيا، أول ما يدخل الجنة يرى عجباً، اسمع وتخيل واستشعر أنك قد دخلتها!(75/5)
قصور الجنة وقبابها
يرى القصور لبنة من فضة، ولبنة من ذهب، وأخرى من فضة، وأخرى من ذهب، وبينهما المسك، يدخلونها يعرفون بيوتهم أكثر مما كانوا يعرفونها في الدنيا: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [الزمر:20] غرفهم يُرى باطنها من ظاهرها وظاهرها من باطنها، يَرى في الجنة فإذا قباب اللؤلؤ قد انتثرت له خيمة طولها ستون ميلاً، تخيل أنك فيها الله أكبر! أي جمال هذا؟! وأي روعة تلك؟!(75/6)
أنهار الجنة
عبد الله! يقول الله عز وجل عن صفة أنهارها -هذا ماء مسكوب، والأنهار تجري، وليس في الجنة أخاديد: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} [محمد:15] وتخيل! كيف يجري العسل أم كيف يجري النهر من الخمر واللبن!
عبد الله! تصور كيف تتفجر العيون، ويخرج منها الماء المسكوب فيأتون يشربون، بل تجد منه شربة لا تظمأ بعدها أبداً.(75/7)
أرض الجنة وسقفها
عبد الله! إن في الجنة أرضاً مرمرة بيضاء من فضة؛ كأنها مرآة يمشي عليها أهل الجنة، عليها الأشجار، ما في الجنة شجرة إلا وساقها ذهب.
أتعرف ما فوقها؟ إنه عرش الرحمن: {لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً} [الإنسان:13] لعلك تسأل: كيف يرون أم كيف ينظرون وما في الجنة شمس؟
النور يأتيهم من عرش الرحمن، فتمتلئ الجنة نوراً وتخيل ذلك المنظر وقت شروق الشمس ولم تطلع، والدنيا قد أسفرت، فالجنة أفضل من هذا: {وَلا زَمْهَرِيراً} [الإنسان:13] فلا يلدغهم البرد.(75/8)
أشجار الجنة وثمارها
عبد الله! ليس في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب، بل إن في الجنة شجرة يسير الراكب على الجواد المضمَّر في ظلها مائة عام لا يقطع ظلها، فما شكلها؟
أما منظرها: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة:27] * {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} [الواقعة:28] نعم.
في الجنة سدر، ونعرف أن في السدر شوكاً فكيف يُدخله الله الجنة؟ كل شوك قد خضد أي: طُمِس، وجُعِل مكانه ثمرة يخرج منها طعام يزيد على اثنين وسبعين لوناً، كل لون يختلف عن الآخر، ألين من الزبد وأحلى من العسل، مكان كل شوكة! فما بالك بالثمرة التي في الجنة أصلاً: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:27 - 30] وتخيل مائة سنة يمشون تحت الظل لا يقطعونه، فتأتي الريح على الأشجار فتهتز ذوائب الأغصان التي في الأشجار، فإذا اهتزت في الجنة تصدر صوتاً لم يسمعه بشر قط، ليس هناك أحلى من هذا الصوت صوت وأي صوت! أحلى من المعازف والموسيقى، وأحلى من أصوات الدنيا كلها، ينتشر الصوت في الجنة كلها، تخيل ذلك المنظر، وتخيل -عبد الله- ذلك الموقف.(75/9)
طعام أهل الجنة وشرابهم
عبد الله! في الجنة طعام وشراب فماذا يأكلون؟ أم ماذا يشربون؟
اسمع عبد الله وتخيَّل!
{وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} [الواقعة:20] وهو جالس على الفراش يشتهي التفاح ليس كتفاح الدنيا، يشتهي الرمان، يشتهي أي ثمر على شجر الجنة، يأتيه الثمر وهو جالس: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} [الإنسان:14].
إذا أراد أن يشرب يطوف عليه الولدان المخلدون: {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة:18] من خمر قد امتلأت الكئوس، ثم ماذا تشتهي؟
{وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلاً * عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً} [الإنسان:17 - 18].
ماذا تشتهي من الشراب؟ من الطعام؟ من الفاكهة؟
{وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:21].
ليس هناك أنعم منها ولا ألذ منها: {مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف:71].(75/10)
لباس أهل الجنة
عبد الله! هذا طعامهم، فماذا يلبسون؟
أهل الجنة يلبسون الحرير وأساور الذهب والفضة، لو أن سواراً من الجنة بدا لطمس نور الشمس، ولو أن مما يطل ظفر من الجنة بدا لتزخرفت منه السموات والأرض.
يلبسون الحرير قال الله عز وجل: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج:23].
أما الحور العين: عليها سبعون حلة، يَرى مخَّ ساقها من وراء الحلل واللحم، ما أنعمها! وما أرقها! وما أجملها يا عبد الله! تلك هي الحور العين، ويلبس الرجال الحرير، حرموا أنفسهم في الدنيا من الحرير والذهب فجازاهم الله حريراً وذهباً في الجنة.(75/11)
سوق أهل الجنة وسررهم
يتجمعون كل جمعة في سوقها، وهل في الجنة سوق؟ نعم، يجلسون على كثبان من اللؤلؤ في كل جمعة، فتهب عليهم الريح، فتحثو المسك في وجوههم وعلى ثيابهم ويرجعون إلى أهليهم فيقولون لهم: لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً، فيجلسون على السرر، أتعرف صفتها؟ بارتفاع السماء عن الأرض: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ} [الغاشية:13 - 15] وسائد قد صُفِّفت: {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية:16] البُخْتُ والوسائد قد وزعت في بيته وفي قصره وفي خيمته.(75/12)
وصف الحور العين في الجنة
إن في الجنة لحوراً؛ اسمع إلى صفاتهن، وتعجب منهن يا عبدَ الله! وما سوف أذكره لك في هذه الجلسة جزء قليل مما ذكره الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
إن في الجنة لحورية ينظر الرجل في وجهها، فيرى وجهه فيها، حور عليها لؤلؤ اللؤلؤة الواحدة خير من الدنيا وما فيها، حور يا عبد الله، لو اطلعت إحداها على الأرض لأضاءت ما بين السماء والأرض ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها، يسلم عليها، فيقول لها: من أنت؟ فتقول: أنا من المزيد الذي أخبر الله عنه، ثم ينظر إليها فإذا عليها التيجان اللؤلؤة فيها تضيء ما بين المشرق والمغرب.
قال تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة:21 - 24] ينظر إليها، ومن شدة إعجابه بها يعانقها أربعين سنة، لا يملها ولا تمله، ينظر إليها، أتعرف صفتها؟ مَن الذي أنشأها؟
{إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} [الواقعة:35] أنشأهن الله: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} [الواقعة:36]- {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56]- {عُرُباً أَتْرَاباً} [الواقعة:37] متحببات إلى أزواجهن، وفي الآية الأخرى: {كَوَاعِبَ أَتْرَاباً} [النبأ:33] قد برزت ثُدُيُّهُنَّ، وجَمُلت وجوههن، واللهُ قد سماهن (خيرات حسان) كأنهن اللؤلؤ والياقوت.
عبد الله! تلك هي الحور العين يغنين بأغنيات: نحن الخيرات فلا نبأس، فتأتي تلك المرأة التي قد حسن جمالها على تلك الحور العين فيسألها الرجل: ومن أنت؟ فتقول: أنا من نساء أهل الدنيا، أنا من الصائمات القائمات، ثم ترد تلك الصائمة التي هي من أهل الدنيا وهي أجمل من الحور العين، ترد على الحور العين فتقول لهن: نحن المصليات وما صليتن، نحن الصائمات وما صمتن، نحن المتصدقات وما تصدقتن، نحن الذاكرات وما ذكرتن، فتقول عائشة رضي الله عنها (فغَلَبْنَهُنَّ) نعم والله، فإن نساء أهل الدنيا إن دخلن في الجنة أجمل من الحور العين، يعطى الرجل قوة مائة رجل، يجامع ما شاء، ويتلذذ بما شاء، بل له في الخيمة أهل إن أتى إلى واحدة ما تراه الأخرى، وإن أتى إلى الأخرى ما تراه الثالثة، يجامع في الليلة مائة مرة لا يتعب، يتلذذ معها، ما بالك بمن عانقها! ما بالك بمن جلس معها!(75/13)
أدنى أهل الجنة منزلة
يا عبد الله! لا تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير!
أتعلم ما هو جزاء أدنى أهل الجنة منزلة؟
جزاؤه: يدخل الجنة وله مثل ملك الدنيا عشر مرات، فيقول: (أتهزأ بي وأنت رب العالمين؟ فيقول الله له: لك مثله وعشرة أمثاله في الجنة) ذلك أدنى أهل الجنة منزلة، يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم، بيد كل واحد صفحتان، إحداهما من ذهب، والأخرى من فضة، ما بالك بأعلى أهل الجنة منزلة؟ (أولئك الذين أردت، فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر).
عبد الله! {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].
يجتمع أهل الجنة في الجنة أتعرف أين يجتمعون؟
أم على ماذا يجلسون؟
أم من الذي يخدمهم؟
أما ماذا يشربون ويأكلون؟
أم فيم يتحدثون؟
{لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً * إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً} [الواقعة:25 - 26].
عبد الله! هل لك أن تتصورها! هل لك أن تشمر إليها! هل لك أن تترك تلك المعاصي والذنوب! فإن الحياة قصيرة.
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني
ما لك يا عبد الله تسمع الأذان فتولي هارباً؟! وترجع نائماً؟! تقرأ القرآن فما أراك تقبل عليه؟! وتذكر الله ولا تخشع؟! وتسمع آيات الله تتلى وأنت معرض عنها؟!
عبد الله! أما سمعت إلى الجزاء؟!(75/14)
وصف الجنة في سورة الرحمن
استمع إلى عنوان المحاضرة وما بعدها من آيات لعلك تخشع وتتدبر!
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] خاف: تاب؛ فأدلج فبلغ المنزل، وصلى في الليل والناس نيام، وأطعم الطعام، وركع وسجد وبكى من خشية الله، وكلما دعته نفسه للمعصية قال: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} [المائدة:28] إني أخاف عذاب يوم عظيم، فإذا عصى رجع إلى الله وتاب، وادَّكَرَ وأناب.
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} [الرحمن:46 - 48] حدائق قد امتلأت في الجنة ليس هناك ساق لها إلا وهو من ذهب، وتخيل أخي إلى أصواتها وظلها فليس في الجنة شمس: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن:49 - 52] ومهما تصورت فالجنة أحلى وأجمل ومهما تخيلت فلن يخطر على قلب بشر: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن:53 - 54] الحرير الغليظ والديباج، وإذا كانت هذه هي البطائن فما بالك بظاهرها أنعم بها وأجمل! {بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن:54] قطوفها وجناها دانٍ: قريب ما تحتاج أن تقوم لتقطفه: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} [الرحمن:55 - 56] ما ترى غيرك: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56] لم يلمسها ولم يطمثها إنس ولا جان: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:57 - 58] تخيل امرأة بشكلها ياقوت الجنة والمرجان أي صفة هي؟
{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} [الرحمن:59 - 60] هل جزاء الإحسان من صلاة وركوع، وسجود وخضوع، وقيام ليل، وصيام نهار إلا الإحسان!(75/15)
شباب شمروا إلى الجنات
لما سمع بها الأولون شمروا لها وجدُّوا، وقاموا الليل، وصاموا النهار، وقرءوا القرآن، وطلبوا العلم، ودعوا إلى الله، وجاهدوا في سبيله.(75/16)
حنظلة غسيل الملائكة
هذا حنظلة في ليلة عرسه ينام مع زوجته، فإذا به يسمع: حيَّ على الجهاد، حيَّ على الجهاد، فينتفض من الفراش ويقوم فيجاهد في سبيل الله، فيُقتل في ليلة العرس، فيراه الصحابة وجسمه يقطر من الماء، وليس هناك ماء، ولم ينزل مطر، ما باله؟ من أين أتى الماء؟
قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده! لقد رأيته بين السماء والأرض تغسِّله الملائكة بصحاف من ذهب وفضة، اذهبوا إلى زوجته فاسألوها، فذهبوا إليها، فقالت لهم: قام من عندي وهو على جنابة) لم يدرك أن يغتسل حتى ذهب إلى الجهاد، فقُتل.(75/17)
عمير بن الحمام وشوقه إلى الجنة
عمير بن الحمام، شيخ كبير يسمع حديث رسول الله ينادي: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، قال: بَخٍ بَخٍ، قال: ما حملك على قولك: بَخٍ بَخٍ؟ قال: جنة عرضها السموات والأرض ما حملني إلا رجاءَ أن أكون من أهلها، قال: فأنت من أهلها، وكانت بيده تمرات، قال: إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات، فرماها، وأقبل إلى المعركة فقُتل).
عبد الله! إنها لحياة طويلة حتى تستمع إلى ذلك الفيلم، وحتى تلعب ذلك اللعب، وحتى تنام، وحتى تبيع وتشتري، وحتى تفعل وتفعل، والله إنها لحياة طويلة.(75/18)
شاب صغير مع أبي قدامة يشتاق إلى الجنة
استمع يا عبد الله إلى أبي قدامة الشامي، يقوم في الناس خطيباً يحثهم على الجهاد، والروم قد قدموا على المسلمين يحاربونهم، فقام أبو قدامة الشامي يحث الناس على الجهاد، وعلى القدوم على جنة الرحمن، وعلى الموت في سبيل الله فذهب إلى المعركة، وجدَّ الناس، وتأهبوا للقتال، فجاءت امرأة بيدها ظرف فقالت له تناديه: يا شيخ! تسلم عليه، فما رد عليها، خاف من الفتنة، فنادته الثالثة، فنظر إليها، فقالت: خذ هذا الظرف، فوالله لا أجد غيره، ففتحه فإذا فهي ضفيرتان؛ ما هذا يا أمة الله؟ شعرها، قالت: والله ليس عندي أغلى منهما، أنفقه في سبيل الله، أسألك بالله لَمَا جعلته لجاماً لفرسك في سبيل الله! قال: الله أكبر! الله أكبر! جيش فيه لجام الفرس ضفيرة لامرأة، فذهب إلى المعركة ودخل فيها فجاءه صبي صغير فقال له: يا عم، أسألك بالله لَمَا أخذتني معك في الجهاد! قال: أنت صبي صغير عذرك الله فارجع قال: أسألك بالله لَمَا حملتني معك في الجهاد في سبيل الله، فحمله على الدابة قال: بشرط، قال: وما هو الشرط؟ قال: أسألك إن متَّ شهيداً وأتيتَ إلى الله يوم القيامة أن تجعلني من الذين تشفع فيهم، قال: هو ذاك، فحمل الصغير على دابته ودخلا في المعركة، وفي أثناء المعركة قال له: يا عم أعطني ثلاثة أسهم قال: يا بني! اجعلها للرجال يرمون بها في المعركة قال: يا عم أعطني ثلاثة أسهم، فأعطاه الثلاثة فرمى الأول وقال: السلام عليك يا أبا قدامة فرمى الأول فقَتَل به رومياً نصرانياً، فأخذ الثاني فقال: السلام عيك يا أبا قدامة، فرمى به فقتل به نصرانياً، فرمى الثالث فقَتَل به نصرانياً ثالثاً، فجاءتة رمية طائشة فسقط من على الدابة، فنزل الشيخ الكبير إلى ذلك الصبي الصغير فنظر إليه وهو يقول: يا بني! لا تنسَ الوعد الذي بين وبينك، ثم قال له: يا عم خذ هذا الخَرْجَ، فأعطه لأمي قال: ومن أمك يا بني؟ قال: أمي التي أعطتك ضفيرتها: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:34].
فأخذ الخَرْجَ واجتمع الناس عليه ليدفنوه كما يُدفن سائر القتلى، فلما وضعوه في الأرض لفظته الأرض وأخرجته، سبحان الله! وكلما وضعوه في الأرض لفظته الأرض وأخرجته، فنام ذلك الشيخ الكبير، أخذته نومة، ثم جيء له في المنام، فقيل له: يا أبا قدامة! اترك ولي الله، فتركوه وابتعدوا عنه، فجاءت طير من السماء تتخطفه وتأكل لحمه، ثم ذهبت ولم يبق إلا العظم، فأرجعوه في الأرض، وتعجبوا فلما رجعوا إلى بلدهم وكان بيده ذلك الخَرْج طرق الباب على بيته، فخرجت أخته فقالت له: أمهنئ أم معزٍّ قال لها: بل مهنئ باستشهاد ولدكم، فقالت له: لقد رُزِئْنا بأبينا، قُتل أبونا في الجهاد فاحتسبناه عند الله، ورزئنا بأخينا الأكبر فاحتسبناه عند الله، والآن رزئنا بأخينا الأصغر فنحتسبه عند الله، ثم خرجت أمه التي أعطته الضفائر فقالت له: أمعزٍّ أم مهنئ؟ قال: بل مهنئ بموت ولدكم في سبيل الله، ثم أعطاها ذلك الخَرْج وأخبرها بالخبر فقال لها: جاءته طير فأخذت لحمه ثم ذهبت، فقالت له أمه: شهيد إن شاء الله قال: وما ذاك؟ ففتحت الخَرْج فإذا فيه صوف كان يلبسه ذلك الصبي تقول: كان إذا جاء الليل يلبس هذا اللباس ثم يصلي ويركع ويسجد، حتى إذا جاء السحر ونزل الرب إلى السماء الدنيا قال: اللهم لا تحشرني إلا من حواصل الطير، يعني: في بطون الطير، شهيداً في سبيلك يا رب! تقول: كل ليلة كان يدعو بهذا الدعاء أما الأول فاستجاب الله له، أما الثاني: فهي ترجوه عند الله، ثم احتسبته عند الله فقال الرجل: لا إله إلا الله!
إي والله! لا إله إلا الله! شمروا للجنة: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23].
تخيل صبياً يفعل هذه الأفعال! تخيلوا امرأة تفعل ذلك الفعل! ما بالنا نحن الرجال! ما بالنا نحن الأشداء!(75/19)
صفات أهل الجنة
أتعرف تلك الجنة أعدها الله لمن؟
للذين هم في صلاتهم خاشعون، للذين هم للزكاة فاعلون، ولفروجهم حافظون، للذين أطاعوا الله ورسوله ففعلوا السنن وحاربوا البدع، للذين وحدوا الله عز وجل، وتركوا الشرك بالله صغيره وكبيره، للذين أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وركعوا مع الراكعين، للذين تركوا المراء، وتركوا الكذب وإن كانوا مازحين، لمن حسنت أخلاقهم، لمن أطعموا الطعام، وألانوا الكلام، وأفشوا السلام، وصلوا بالليل والناس نيام.
نعم يا عباد الله! للآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، وللدعاة في سبيل الله، نعم يا عبد الله، للذين ضمنوا ما بين لِحاهُم وما بين أفخاذهِم.
عبد الله! أولئك عباد الله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] لا تقنط يا عبد الله، ركعتان تحسن فيهما وتستغفر الله عز وجل من ذنبك يغفر الله لك ذنبك كله: (مَن قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة؛ حُطَّت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)، (يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم).
فحيَّ على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيمُ
وحيَّ على روضاتها وخيامها وحيَّ على عيش بها ليس يُسأمُ
فيا ساعياً في غمرة الجهل والهوى صريع الأماني عن قريب ستندمُ
قد دنى الوقت الذي ليس بعده سوى جنة أو حر نار تضَرَّمُ
وتشهد أعضاء المسيء بما جنى كذاك على فيهِ المهيمنُ يختمُ
{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21].
أسأل الله عز وجل الذي جمعنا في هذا المكان؛ أن يجمعنا وسائر المسلمين في مستقر رحمته إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلِّ اللهم وسلِّم على نبينا محمد وعلى آله صحبه أجمعين.(75/20)
البدار إلى دار الأبرار
إن الله سبحانه وتعالى أمر المؤمنين بطاعته، ووعدهم جنته، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أوصاف الجنة في كتابه وعلى لسان رسوله، ومع ذلك فإننا لن ندرك حقيقة تلك المعاني والصفات إلا عندما ندخلها إن شاء الله.(76/1)
أوصاف الجنة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
البدار إلى دار الأبرار، ولعل العنوان يدل على عنوان المخيم المبارك إن شاء الله، ألا وهو مخيم: رياض الجنة، وسوف نتجول الليلة إن شاء الله في رياض الجنة، بأفكارنا وشعورنا، يحاول كل رجل منا وهو جالس أن يتخيلها، ومهما تخيلت ومهما تصورت فالجنة أعظم، حتى قال الله جل وعلا: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17] مهما تخيلت وتصورت ففيها: (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).
عبد الله: اسمع إلى هذه الصفات، وأريد منك أن تشتاق إليها، كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه مرة، فقال لهم: (قوموا إلى جنة -فذكر صفة واحدة من صفاتها- قال: عرضها السموات والأرض، أو كعرض السماء والأرض، فقال أحدهم: بخٍ بخٍ، قال: ما حملك على قولك بخٍ بخٍ؟ قال: رجاء أن أكون من أهلها -سمع صفة واحدة- فدخل في المعركة فقاتل حتى قتل).
صفة واحدة، والآن سوف نسرد لكم صفات، ونحاول أن نجمع لكم شتات من أوصاف هذه الجنة، فهل لك أن تشتاق إليها؟
وهل لك أن تبادر وأنت في ليلة هي أول ليلة من ليالي رمضان؟
وبإذن الله جل وعلا في هذه الليلة فتحت أبواب الجنة التي سوف نتكلم عنها، وغُلِّقت أبواب النيران وفي كل ليلة -وهذه أولها- عتقاء من النار، فاحرص يا عبد الله أن تكون هذه الليلة من عتقاء النار، كل ليلة، وإذا أعتقك الله من أول ليلة فأنت الرابح، والله مهما فعلت إلى أن تموت فقد أعتقت من النار، لن تمسك النار.
عبد الله: احرص من أول ليلة، ففي هذه الليلة صفدت بإذن الله الشياطين، مردة الجن، فالأمر ميسر، ولله عتقاء (وينادي منادي: يا باغي الخير أقبل! ويا باغي الشر أقصر) فاسمع يا عبد الله إلى صفاتها، وتخيلها يا عبد الله، واعلم أنك إن لم تدخلها فإنك محروم.
أهل الجنة إذا جاءوا عند الله يوم القيامة، وإذا استقبلوا ربهم عند الله جل وعلا يوم القيامة فجاء العبد المؤمن إلى ربه، فيقول له الله جل وعلا: (عبدي! أتذكر ذنب كذا) تذكر تلك الليلة وذلك الموقف، تذكر عندما كلمت فلانة، تذكر عندما نمت عن الصلاة، تذكر عندما استمعت إلى الأغاني، تذكر لما أكلت الربا، تذكر يا عبدي! ولكنه تاب، ولكنه أناب، ولكنه استغفر فيقول له الله جل وعلا: (سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيقول هذا الرجل: ذنوبي، يقول الله جل وعلا: أغفرها لك اليوم فيعطى الكتاب بيمينه، فيولي للناس يقول: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20]) أي: أيها الناس اقرءوا، انظروا ماذا عملت؟ انظروا إلى الصلاة والقيام والصيام والقرآن، انظروا: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20].(76/2)
وفود عباد الرحمن إلى الجنان
فيذهب مع أصحابه، ومع زملائه، يتجمعون أفواجاً، زمرةً، فتساق هذه الزمرة إلى الجنة، إلى التي كان يسمع عنها في الدنيا، وكان يحدث عن أوصافها، القلب من شوقه يكاد يطير فرحاً، يشم رائحتها على بعد أربعين عاماً، ثم يساقون إلى الجنة وقد أغلقت أبوابها، في تلك اللحظة الأبواب كلها مغلقة، كل باب منها ما بين مصراعيه مسيرة أربعين سنة ما تصل إلى الطرف الآخر.
وتخيل المؤمنين، الدفعة الأولى، الزمر الأولى، كلهم عند أبواب الجنة مصطفين لها ثمانية أبواب وليس باباً واحداً، ينتظرون أفضل البشر محمد عليه الصلاة والسلام، يتقدم الناس، والناس ينظرون ويتشوقون ويتلهفون، فيأتي إلى حلقة من حلقات أبواب الجنة، وللجنة حلقات، فيطرق باب الجنة، فيسأله رضوان خازن الجنة من أنت؟ فيقول: أنا محمد، انظر إلى التواضع، انظر إلى الأدب، أنا محمد عليه الصلاة والسلام فيقول الملك: أمرت ألا أفتح لأحد قبلك.
ما يفتح الباب لغيره، وما يؤذن في دخول الجنة إلا بعده عليه الصلاة والسلام (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى) أي: أبى دخول الجنة، فإذا بالباب يفتح، وتخيل أنك تنظر إلى هذا المنظر الباب يفتح، والرائحة تخرج، والنور يشع، والناس تدخل زمرة زمرة، وأول هذه الأمة دخولاً أبو بكر، فإذا بهم يدخلون الجنة، وإذا بك ينادى باسمك، أين فلان بن فلان ليدخل من باب الريان، كان يكثر من الصيام، أين فلان يدخل من باب الصلاة كان يكثر من الصلاة، أين فلان ليدخل من باب الجهاد كان مجاهداً في سبيل الله، أين فلان ليدخل من باب الصدقة، ومنهم من ينادى من بابين، ومنهم من ثلاثة أبواب، يختار أي باب يدخل، ومنهم من ينادى من ثمانية أبواب وأبو بكر منهم، أين فلان بن فلان؟ تخيل ينادى باسمك، فإذا بك تدخل، أتعرف كيف يدخلون أهل الجنة؟
يدخلون الزمرة الواحدة كل واحد ماسك بيد الآخر، صاحب العمل في الدنيا وزميله، ومن كان يحضر معه الدروس ويصلي ويصوم معه، يقبض على يديه، فلا يدخل واحد إلا ويدخل الآخر، ولا يدخل أولهم إلا ويدخل آخرهم، باب اتساعه مسيرة أربعين سنة.(76/3)
استقبال الملائكة للمؤمنين
عند ذلك تستقبلهم الملائكة تقول لهم: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد:24] صبرتم على ماذا؟ على قيام الليل.
هل صبرتم على التلفاز أو اللعب، أو اللهو، لا والله: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد:24].
النساء في كل مكان، الأغاني بمتناول يده، الخمر، الربا، يستطيع أن يحصل عليه لكنه صبر، وترك كل هذا لله {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد:24] تأتيه المصائب تلو المصائب، والآلام والحوادث لكنه صبر وما جزع، ورضي بقدر {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24] ويدخل بعض الناس مع ذريته وآبائه، وزوجاته، تدخل الجنة العائلة كلها، بعضهم مع بعض، تخيل يا عبد الله تدخل مع أبيك وأمك، تدخل مع زوجتك وأولادك، وأهل بيتك كلهم، تدخل معهم دفعة واحدة وزمرة واحدة.
عبد الله: هل يوجد نعيم أفضل من هذا النعيم؟ أول ما تدخل ماذا ترى؟ {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} [الإنسان:20] إنه نعيم وملك كبير.(76/4)
وصف أرض الجنة ومنازلها وقصورها
أما أرض الجنة فهي كالمرآة بيضاء، من اللؤلؤ، أو الزعفران، أو الياقوت.
تطؤها رجلك.
تريد أن تسير إلى منزلك، أتعرف أين يكون منزلك في الجنة؟
أما منزلك يا عبد الله تعرف مكانه في الجنة كما تعرف بيتك في الدنيا، تهرول إلى بيتك فإذا بخيمة طولها ستون ميلاً عند باب القصر، هذه الخيمة كيف بالقصر يا عبد الله؟!
تخيل الآن: القصر من ذهب وفضة، ملاطها أي: ممسوحة بالمسك يا عبد الله! هذا ظاهره، كيف بباطنه يا عبد الله؟!
نعيم ما تتصوره: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17](76/5)
وصف غرف الجنة وأشجارها
عبد الله: إذا دخلت تلك الغرف فإنك ترى باطنها من ظاهرها وظاهرها من باطنها {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} [الزمر:20] إذا دخلت داخل الغرفة، في القصر ترى خارج القصر وأنت داخل القصر.
عبد الله! تخيل منظر هذه الغرفة، بل تخيل تلك القصور، بعض الناس إذا دخل بيوتاً في الدنيا ينسى الدنيا وما فيها من حسنها وجمالها، كيف بقصر بناه الله جل وعلا؟!
كيف بجنة أنشأها الرحمن جل وعلا؟!
عبد الله: إذا خرجت من قصرك ماذا ترى؟
ترى أشجاراًَ موزعة في الجنة، وتخيل وتصور، الأشجار ما من شجرة إلا ساقها من ذهب، عليها ثمار، إذا اشتهيت الثمر لا ترفع يديك، وتتعب نفسك بل ينزل لك الثمر حتى تقطفه بيدك {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} [الإنسان:14] ليس في الجنة شجرة إلا ساقها ذهب.
أخي الكريم: في الجنة شجرة طول ظلها مسيرة مائة عام، للراكب السريع، على الجواد السريع مائة سنة، لا يصل إلى طرف الظل، مائة عام كم مرة يقطع الأرض ويدور حول الأرض؟
هذا ظل الشجرة يا عبد الله! كيف بصفتها؟!
كيف بلونها؟!
كيف بشكلها يا عبد الله؟!
{وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} [الواقعة:27 - 28] السدر في الدنيا فيه شوك، أما سدر الجنة فهو مخضود قد زيل عنه الشوك، وفي مكان كل شوك ثمرة، تفتق الثمرة عن اثنتين وسبعين لوناً، ما من لون يشبه الآخر.(76/6)
وصف أنهار الجنة وعيونها
طعام لأهل الجنة {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:28 - 30] يجلسون تحت الأشجار، ويأكلون من الثمار، وهم على الأنهار، وتخيل أنك تجلس على حافة نهر، صفة النهر ليس كالدنيا، أنهار الدنيا تجري في أخاديد، يحفر الأرض النهر فيجري فيها، أما في الجنة فلا، يسير نهر الجنة بغير أخاديد، يسير على أرضها: {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} [الواقعة:31] تخيل أنك تجلس على حافة النهر، وعندك، وبجنبك، أصحابك وإخوانك، ولعلهم أبناؤك يا عبد الله، ولعله أبوك وأمك، تجلسون على حافة النهر، أما حافة النهر، فإنها قباب اللؤلؤ والياقوت، أتظن يا عبد الله أنها أنهار من ماء فقط؟
لا.
{فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} [محمد:15] تصور الآن، نهر يجري من لبن: {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد:15] تخيل هذا النهر يجري من خمر، وأي خمر؟
{وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد:15] وتخيل النهر الرابع: {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} [محمد:15] تخيل النهر من عسل وهو يجري وتشرب منه ما شئت، وتجلس على حافته ما شئت يا عبد الله!
أما العيون في الجنة فإنها تفجر، يقول الله جل وعلا: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} [الإنسان:5 - 6].(76/7)
طعام أهل الجنة وشرابهم
عبد الله: يأكلون ويشتهون بغير جوع ولا عطش فيأكلون ويشربون، أتعرف ماذا يأكلون وماذا يشربون؟
قال تعالى: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:20 - 21] أي فاكهة يتخيرونها، بل أي لحم يشتهونه، يجلس في مكانه يأتيه ولا يتعب ولا يقوم من مجلسه، بل يطوف عليه الغلمان، بالصحائف، وبالأكواب، وبالأباريق، ماذا تشتهي خمر؟ لبن؟ ماء؟ عسل؟
كل ما تشتهي من شراب، وما تشتهي من طعام، يمشي عليك وأنت تجلس على الأريكة.(76/8)
وصف سوق أهل الجنة
في كل أسبوع لهم سوق يخرجون إليه في كل جمعة، فإذا بهم يجلسون على كثبان من الرمل، يجلسون فتأتي ريح تحثوا على وجههم، ثم يرجعون إلى البيوت والخيام، والقصور والحور العين، يرجعون فيقول لهم أهلوهم قالوا: والله، لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً، فيقول هؤلاء الرجال: وأنتم والله قد لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً.(76/9)
وصف فرش أهل الجنة
يجلسون على فرش، وعلى آرائك، تعرف ما صفتها؟
{فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} [الغاشية:13 - 14] فالسرر مرفوعة حتى قال بعضهم: مرفوعة إلى قدر السماء قال تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن:54] بطائن هذه الفرش داخلها من إستبرق، ما تكلم الله عن ظاهرها، تركه الله جل وعلا.(76/10)
صفة نساء الجنة
عبد الله: ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
واستعد الآن وتخيل صفات نساء الجنة، واعتبر واستمع! واعلم أن ما سوف أذكره لك حق، لا مرية فيه، واعلم أنه مهما وصفنا، فحور الجنة أعظم مما نصف.
تأتيه الحورية من أهل الجنة، فيعانقها فيرى وجهه في صفحة خدها؛ من حسنها، وجمالها، ونعومتها.
يا عبد الله! عليها تاج على رأسها، فيه لؤلؤ واللؤلؤة الواحدة لو كشفها الله؛ لأضاءت ما بين المشرق والمغرب، اللؤلؤة الواحدة يا عبد الله! في بعض الروايات إن صحت: (أن الرجل في الجنة يعانقها أربعين سنة لا يتركها ولا يمل منها) قال تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة:22 - 23] صفة الحورية كاللؤلؤة يا عبد الله! في حسنها وجمالها، لو أن امرأة من أهل الجنة طلعت فقط ونظرت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بين السماء والأرض، تخيل يا عبد الله! كيف بمن يعانقها؟!
كيف بمن يعاشرها؟!
يعطى الرجل قوة مائة رجل، كم مرة تجامع في الليلة الواحدة، مرة مرتين، مائة مرة لا تتعب يا عبد الله: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} [الواقعة:35] من الذي أنشأهن؟ إنه الرحمن جل وعلا.
نصيفها -خمارها- على رأسها خير من الدنيا وما فيها، يا من تتكالب على الدنيا! يا من ألهتك الدنيا عن الصلاة وعن الذكر وعن القرآن! يا من تمتع بالدنيا، ونسي أمر الله جل وعلا خمار الحورية على رأسها خير من الدنيا وما فيها يا عبد الله! {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} [الواقعة:35 - 36] لو تطؤها مائة مرة فإنها بكر: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً} [الواقعة:36 - 37] في سن واحد وفي عام واحد، لا يكبر سنها، ولا تبلى ولا تشيب ولا تنتن، ولا يأتيها الحيض.
لا ترى غيرك: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56].
عبد الله لا ترى غيرك، ولا تحب سواك، ولا تعلم سواك قابعة في قصرك، أو في خيمتك، كم مرة تجامعها، بل ليست واحدة يا عبد الله! لك في القصر حور، ولك في الخيام حور، ولك ما تشتهي من الحور العين يا عبد الله! {وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ الْلُؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة:22 - 24].(76/11)
أدنى أهل الجنة منزلة
عبد الله: إن أدنى أهل الجنة منزلة، -يقول بعض السلف- لمن يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم، كل واحد بيده صفحتان واحدة من ذهب والأخرى من فضة، وصح في الحديث عن أدنى أهل الجنة منزلة: (أن له مثل الدنيا وعشرة أمثالها) اسمع إلى الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: (لو أن مما يقل ظفر) تخيل يا عبد الله! لو تحمل شيئاً من الجنة بظفرك، وتخرجه من الجنة، أتعرف ماذا يحصل؟ (لتزخرفت خوافق السموات والأرض) هذا لو تحمله بظفرك (مناديل سعد في الجنة خير من الدنيا وما فيها) (موضع سوط أحدكم في الجنة خير مما طلعت عليه الشمس).
عبد الله: هل فكرت في غيرها؟
قال تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة:27].
عبد الله: أتعرف من هم أعظم من أصحاب اليمين، وأعلى من أصحاب اليمين؟
قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة:10] أهل قيام الليل، أهل الصدقة، أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة:11 - 14].(76/12)
النظر إلى وجه الله
عبد الله: واسمع إليهم وهم يتمتعون، وهم يلهون عند الأنهار تحت الأشجار في القصور في الخيام، يجامعون الحور العين، في لحظة واحدة يناديهم الرب، فيقول: (يا أهل الجنة! يا أهل الجنة! يا أهل الجنة! فيستمعون، فيقول لهم الرب: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: يا رب! ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ وأي نعيم أعظم من هذا؟ فيقول: فيكشف الرب عن الحجاب، فينظرون إليه جل وعلا فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى وجهه جل وعلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]) فينسون بعد هذا النظر نعيم الجنة وما فيها.
عبد الله: إذا كانت هذه بعض صفات الجنة، فهلا شمرنا.(76/13)
المشتاقون إلى الجنة
اسمع إلى الأولين كيف كانوا يشمرون إلى هذه الجنة، وانظر لنفسك هل أنت من المتسابقين إليها؟ أم أنت ممن تستمع إلى بعض صفاتها، ثم بعدها ترجع إلى حالك السابق، أغاني، وزمر، وطرب، ونوم عن صلاة، وقلة ذكر، وعدم قراءة قرآن.(76/14)
قصة أبي قدامة مع امرأة وابنها
يقول أبو قدامة الشامي: خطبت في الناس وكان وقت جهاد في سبيل الله، فتكلمت في فضل الجهاد، وحث الناس على الجهاد، فلما نزلت من الخطبة جاءتني امرأة فنادتني فقالت: يا شيخ! فالتفت فإذا بامرأة، فتركتها، فقالت: يا شيخ! قال: فالتفت فإذا هي تنادي فتركتها، فقالت لي: يا شيخ! والله لتقف، فوقفت واستمعت إليها، ماذا تريد فقالت لي: يا شيخ! سمعت خطبتك عن الجهاد، فوالله لا أملك شيئاً أجاهد به إلا هذا الظرف فخذه واستعمله في الجهاد في سبيل الله، يقول: فأخذت هذا الظرف، وذهبت المرأة، يقول: ففتحت هذا الظرف فإذا فيه ظفيرتان، قد قصت شعرها ووضعته في ذلك الظرف، لا تملك غيره، وأي شيء أعظم عند المرأة من شعرها، ما عندها مال، ولا دارهم، ولا تستطيع أن تجاهد فقصت شعرها، ووضعته في ذلك الظرف، ليستخدم في الجهاد في سبيل الله.
يقول: فربطت به فرسي، وصعدت على الفرس لأذهب إلى الجهاد، يقول: فلما ذهبنا، فإذا بصبي يناديني، فقال لي: يا شيخ! قلت: ماذا تريد؟ قال: يا شيخ! قلت: ماذا تريد؟ قال: احملني معك للجهاد في سبيل الله، قلت: يا بني أنت صغير والله قد عذرك، قال: أقسمت عليك لتحملني معك للجهاد في سبيل الله، يقول: فقلت له: بشرط واحد، قال: وما هو الشرط، قال: إنك إذا مت ولقيت الله جل وعلا أن تشفع لي عند الله؛ لأن الشهيد يشفع في سبعين من الناس يا عبد الله! يقول: فقال لي: نعم، فحملته على فرسي، ردفته، يقول: ودخلنا في الجهاد، وبدأت المعركة، وحمي الوطيس، وفي أثناء المعركة ناداني ذلك الغلام الصبي، فقال لي: يا شيخ! فقلت: ماذا تريد؟ فقال: أعطني سهماً، قال: اترك السهم لأهله، قال: أعطني سهماً، يقول: فأعطيته ثلاثة أسهم، يقول: فوضع السهم في النبل، ثم قال: باسم الله، فرمى السهم فأصاب به نصرانياً فقتله، وأخذ الآخر فقال: باسم الله، يقول: فرمى به الآخر فقتله، يقول: وأخذ الثالث فقال: باسم الله، فرمى الثالث وقتله، {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].
يقول: وبعد الثلاثة أصيب بسهم في صدغه، فسقط من على الفرس، فنزلت إليه أسعفه، فنظرت إليه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة يحتضر، فقلت له: يا غلام يا غلام لا تنسى العهد الذي بيني وبينك أن تشفع لي عند الله، فقال: يا شيخ! خذ هذه وأعطها لأمي، يقول: فأخذت خرقة، فقلت له: ومن أمك يا بني؟ فقال ذلك الغلام: يا شيخ! أمي صاحبة الظفيرتين، أمي صاحبة الظفيرتين، أمي صاحبت الظفيرتين، وفارق الدنيا.
يقول: فرجعنا من المعركة، وطرقت الباب، فخرجت لي بنت، فقلت لها: أين أمك؟ فقالت هذه البنت: بشرنا يا شيخ! عن أخي، فقال: أخوك قد استشهد في المعركة في سبيل الله، فقالت البنت: الحمد لله، الحمد لله، مات أبي فاحتسبناه عند الله، ثم مات أخي الكبير فاحتسبناه عند الله، الآن يموت أخي الصغير فنحتسبه عند الله، الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
الله أكبر كيف كانوا يتسابقون إلى الجنة {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21].(76/15)
حنظلة وشوقه إلى الجنة
أسمعت بـ حنظلة يا عبد الله؟! هذا الصحابي الجليل، في ليلة عرسه، وأي ليلة أعظم من هذه الليلة لأهل الدنيا؟
في ليلة عرسه يجامع الزوجة، فإذا به يسمع صيحة الجهاد، حي على الجهاد، حي على الجهاد، يا خيل الله اركبي، يا خيل الله اركبي، فينتفض من فراشه، ثم يقوم فيركب على فرسه، ثم يذهب إلى الجهاد في سبيل الله فيقاتل حتى يموت ويستشهد، يقول عليه الصلاة والسلام: (الله أكبر لقد رأيته بين السماء والأرض تغسله الملائكة).
عبد الله: هلا كنا كأمثال هؤلاء، الواحد منهم يشم رائحة الجنة وهو على الدنيا.(76/16)
أنس بن النظر وشوقه إلى الجنة
أسمعت بـ أنس بن النضر في غزوة أحد، ينظر إلى سعد جالساً فيقول ل سعد: [يا سعد! ما الذي أجلسك؟ فيقول: لقد مات رسول الله، فيقول: وماذا تصنع بالحياة بعد رسول الله؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه الصلاة والسلام، فيتقدم في المعركة ويقول لـ سعد: يا سعد! واه لريح الجنة، واه لريح الجنة، إني أجدها دون أحد] {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة:10 - 12].
أتظن أن الشهيد إذا مات فإنه في حفرة ضيقة؟ لا.
إن روحه معلقة في الجنة، في حواصل طير يطير في الجنة إلى أن تقوم الساعة، يا عبد الله! لا تظنهم أمواتاً {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169].
لقد ذهب الناس، ولقد سبق المفردون، ولقد وصل بعض الناس وهو على الدنيا يمشي لقد وصل إلى الجنة.
(يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة) أتعرف ما صفة هذا الرجل الذي مشى على الدنيا وكتب من أهل الجنة؟! (إذا نام فإنه لا يحمل في قلبه على أحد من المسلمين غشاً، أو حسداً، أو غلاً) أهل الجنة: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] تعرف كيف دخل الجنة؟!
سلَّم صدره على المسلمين، وأحسن الظن بإخوانه، وأحب في الله جل وعلا، ولم يبغض إلا لله جل وعلا، لا لحظوظ نفسه ولا لهواه.
عبد الله: أهل الجنة دخلوا الجنة بصلاة آخر الليل، وبصيام أول النهار يا عبد الله!
فحي على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم
وحي على روضاتها وخيامها وحي على عيش بها ليس يسأم
فيا ساهياً في غمرة الجهل والهوى صريع الأماني عن قريب ستندم
أفق قد دنا الوقت الذي ليس بعده سوى جنة أو حر نار تضرم
وتشهد أعضاء المسيء بما جنى كذاك علا فيه المهيمن يختم
عبد الله: ونحن في هذه الليلة المباركة، ما يدريك لعلك في هذه الليلة يكتبك الله من أهل الجنة، وماذا تريد من الدنيا إذا كتبك الله من أهل الجنة؟!
عبد الله: جاهد نفسك ألا يمر رمضان إلا وقد غفر الله ذنبك (رغم أنفه من أدرك رمضان ولم يغفر له).
عبد الله: جاهد نفسك ألا تمر هذه الليلة، إلا وقد أعتقك الله من النار.
عبد الله: أتعرف ما هو السبيل، السبيل دمعتان آخر الليل، أو في سجود، وأنت رافع يديك إلى الله، تذكر ذنوبك السابقة، ثم ترجو رحمة الله، ثم تدمع العين، ثم يتوب الله عليك.(76/17)
قصص رجال تابوا إلى الله
اسمع إلى هذا الرجل، يقول عن هذا الشاب الذي قد أهلته الدنيا وأضاعته بين الشهوات، والملذات، كيف ختم الله عز وجل له.
اسمع يا عبد الله ولعلك تكون من هؤلاء الرجال، يقول: رأيته يكلم فتاة في الطريق، فأتيت لأنصحه، يقول: لما اقتربت منه هربت الفتاة، فجئت لأنصح هذا الشاب، فإذا به يستمع، يقول: وأنا أنصحه لمدة نصف ساعة، يقول: فلما ختمت الكلام ذرفت عيناه بالدموع، بكى، (عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله) هل لك أن تبكي من خشية الله، يا عبد الله؟ إذا أردت الجنة هذا طريقها، يقول: فبكى، ثم قلت له: يا فلان أعطني رقم هاتفك، يقول: فأعطاني رقم هاتفه، يقول: وبعد أسبوعين تذكرته، فاتصلت عليه، فقلت: فلان تذكرني؟ قال: نعم، قال: وكيف أنسى صوتاً كان سبباً لهدايتي، قال: الله أكبر اهتديت، قال: والله منذ تلك الكلمات وقد شرح الله صدري، لا أفارق المسجد ولا القرآن، قلت: أزورك الليلة، قال: متى؟ قلت: بعد صلاة العصر، قال: فشغلني شاغل، وجئته في الليل فطرقت الباب، فقلت: أين فلان؟ قالوا: من تريد؟ قلت: فلان، قالوا: دفناه قبل ساعة {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر:27 - 29] فقال لي هذا الشيخ الكبير: ومن أنت؟ قال: عرفت ابنك قبل أسبوعين، قال: دعني أقبل رأسك قال: لِمَ؟ قال: دعني أقبل رأساً أنقذ ابني من النار.
عبد الله: لا تضمن أنك ستخرج من هذه الخيمة، ولا تتيقن أنك سترى الشمس تطلع، ولا تضمن نفسك أنك إذا نمت أن تصحو من نومك.
يا نفس توبي فإن الموت قد حانا واعصي الهوى فالهوى ما زال فتانا
أما ترين المنايا كيف تلقطنا لقطاً فتلحق أخرانا بأولانا
وفي كل يوم لنا ميت نشيعه نرى بمصرعه آثار موتانا
يا نفس ما لي وللأموال أتركها خلفي وأخرج من دنياي عرياناً
أبعد خمسين قد قضيتها لعباً قد آن أن تقصري قد آن قد آنا
ما بالنا نتعامى عن مصائرنا ننسى بغفلتنا من ليس ينسانا
نزداد حرصاً وهذا الدهر يزجرنا كأن زاجرنا بالحرص أغرانا
أين الملوك وأبناء الملوك ومن كانت تخر له الأذقان إذعانا
صاحت عليهم حادثات الدهر فانقلبوا مستبدلين من الأوطان أوطانا
خلو مدائن كان العز مفرشها واستفرشوا حفراً غبراً وقيعانا
يا راكضاً في ميادين الهوى مرحاً ورافلاً في ثياب الغي نشوانا
مضى الزمان وولى العمر في لعب يكفيك ما قد مضى قد كان ما كانا
عبد الله: البدار البدار، السباق السباق، واعلم يا عبد الله أن من الناس من كتب الله له الجنة وهو يمشي على الأرض، فكن من هؤلاء النفر.
نسأل الله عز وجل أن يعتقنا وإياكم في هذه الليلة من النار، وأن يكتبنا في دار الأبرار، وصلى الله وسلم على سيد الأبرار وعلى آله وصحبه أجمعين.(76/18)
أين المصير؟
إن الذي يتفكر في حال من مضوا يعلم يقيناً أن مصيرهم إما إلى نار تلظى أو إلى جنة عرضها السماوات والأرض، والله عز وجل قد بين لنا كلا الطريقين، فمن أراد أن يكون مصيره الجنة فالطريق واضح ولكنه شاق، ومن أراد أن يكون مصيره النار فالطريق أيضاً واضح وسهل، فالجنة قد حفت بالمكاره والنار بالذي النفس تشتهي.(77/1)
ضرورة التفكر فيمن مضوا
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه.
وبعد:
مر عمر بن عبد العزيز رحمه الله بعد أن صلى الناس العيد -وكان في وفد، وهو على بغلته، وكان أميراً للمؤمنين- على مقبرة فقال للوزراء وللحشم والخدم: انتظروا قالوا: إلى أين؟ قال: إلى المقبرة، فذهب إلى المقبرة ووقف عندها وأخذ ينظر إلى القبور، إلى الذين مضوا من الناس، فقال رحمه الله:
أتيت القبور فناديتها فأين المعظم والمحتقر
تفانوا جميعاً فما مخبرٌ وماتوا جميعاً ومات الخبر
فيا سائلي عن أناسٍ مضوا أما لك فيما مضى معتبر
تروح وتغدو بنات الثرى فتمحوا محاسن تلك الصور
فجثا على ركبتيه وأخذ يبكي رحمه الله.
أما تعتبر أيها الأخ! أناسٌ مضوا، كم من قريبٍ لك سمعت خبره فإذا هو قد قضى، وكم من صاحبٍ لك كان يضحك ويمشي ويلعب كان يبني الآمال، وكان يحلم أنه سوف يتزوج ويبني ويحصل على الأموال، وسوف يسافر، وينجب، ويفعل ويفعل ولكن الموت كان أسرع من هذا، قضى حياته ولم يكمل أعماله وأشغاله في الدنيا، ألا تعتبر؟!
سوف نتكلم بهذه الكلمات أيها الأخ العزيز! وحاول أن تصبر معي، فإنك بإذن الله في مجلسٍ من مجالس الرحمن، وفي روضة من رياض الجنان، فاستمع واصبر لعل الله عز وجل أن ينفعك بهذه الكلمات، وما يدريك لعلنا أن نقوم من هذا المجلس فيقال: (قوموا مغفوراً لكم، قد بدلت سيئاتكم حسنات) وما يدريك لعل الله يطلع علينا في هذا المجلس فيغفر لجميعنا حتى من أتى لحاجة، فتقول الملائكة: (يا رب إن فيهم فلاناً إنما أتى لحاجة، فيقول الله عز وجل: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) ولو كان لحاجة.
أين المصير؟!
انظر إلى الناس من حولك: هذا يعلب ويلهو، وهذا يصلي ويسجد ويركع، هذا يذهب ويسافر للزنا وللخنا، وهذا يسافر للعمرة وللجهاد، وهذا يجمع المال لينفقه في المعاصي، وهذا يجمعه لينفقه في الطاعات.
أين المصير؟!(77/2)
التذكير بالذنوب يوم القيامة
إنه يوم الجمع {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن:9] سوف نبدأ معكم -هذه الليلة- في جلسة نتكلم فيها عن المصير، مصير مَنْ؟ مصير الناس جميعاً، المؤمن والفاجر، المسلم والكافر، سوف نتكلم عن مصيرهما في هذه الدقائق باختصارٍ شديد، واسمع وسل نفسك أي المصيرين تختار؟
أخي العزيز: سل نفسك ماذا تريد، هذا المصير أو ذاك؟ في أي الفريقين تريد أن تكون {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]؟
يأتي ذلك العبد المذنب الفاجر الذي أمضى ليله ونهاره في المعاصي، يستمع إلى الأذان فيولي، يدعوه ربه للزكاة فيمنع ويجمع، يأمره الله عز وجل بالطاعة، بالذكر بالصلاة بالعبادة بالصيام فيصد ويولي، طالما أتاه رجلٌ صالح، فقال: يا أخي! اتقِ الله، وأعطاه شريطاً، وأهداه كتاباً، وزاره ونصحه ووعظه، لكنه أدبر واستكبر وأصر على المعاصي.
يلقى الله عز وجل يوم القيام، فيقول له الرب تبارك وتعالى: عبدي! ألم أصح لك جسدك؟ ألم أسقك من الماء البارد؟ أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر يوم أن ذهبت في تلك الليلة وواعدتها ولقيتها ففعلت ما فعلت؟ أتذكر تلك الليلة التي دخلت فيها في البيت وفتحت التلفاز ونظرت، أتحسب أنني لم أكن أراك {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [التوبة:78] عبدي! ألم تذكر ذلك الموقف الذي أهداك ذلك الرجل الصالح شريطاً أو كتاباً، أو نصحك أو بلغك أو وعظك، فصددت واستهزأت واستكبرت وأصررت على المعاصي، أتذكر كذا أتذكر كذا؟
{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12] وأنت تقول: رب أبصرت، رب أيقنت، نعم إن هذا لهو الحق، يا رب رأيت النار ورأيت الجنة، يا رب إن هذا لهو الحق المبين، أرجعني أعمل صالحاً غير الذي كنت أعمل، ولكن هل ينفعه الندم؟ وهل تنفعه الحسرة؟ كلا.
وإنما يعض على كلتا يديه ويقول: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} [الفرقان:28].(77/3)
عذاب النار
الآن يبدأ المصير، والآن تبدأ الجلسة، والآن استمع وتخيل، وإياك إياك عبد الله أن تتواكل على رحمة الله وتنسى أن الله شديد العذاب، يقال له -والله عز وجل ينظر إليه ويكلمه-: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:30 - 32] سلسلة كل حلقة منها كحديد الدنيا، تدخل هذه السلسلة في منخره وتخرج من دبره، ثم يجر على وجهه إلى جهنم، فلما يقترب منها ينظر إلى الملائكة تستقبله في النار، فتقول له الملائكة: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ} [الزمر:71] فتذكر هذا المجلس، وتذكر هذه الكلمات -التي أنت تسمعها الآن- إن لم يوفقك الله للتوبة.
يدخل النار الفاجر فماذا يرى فيها وقد فتحت أبوابها؟
أول ما يدخلها يجدها سوداء مظلمة، لا يستطيع أن يرى فيها شيئاً، نارٌ سوداء والعياذ بالله {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} [المرسلات:32 - 33] إذا دخلها الفاجر يتذكر ذنوبه في الدنيا، ما نفعته تلك المرأة! أين أمواله التي كان يجمعها؟ {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29] ما نفعه ذلك الجاه! أين منصبه؟ أين خدمه؟ أين حرسه؟ أين ذلك المنزل الذي كان لطالما ترك الصلاة لأجله؟ كان يجلس في البيت فيؤذن المؤذن فيستمر في تنظيفه وتلميعه وترتيبه، فينسى ذكر الله والصلاة، هل نفعه البيت؟ أم نفعته تلك الأرصدة التي كان يعدها عداً؟ المسكين يحسب أن ماله أخلده! أم تنفعه تلك المرأة التي كان يتبعها ويلحقها ويركض خلفها، وينسى ذكر الله والصلاة والعبادة وقيام الليل والدعاء؟
نسي كل هذا، ثم أول ما يرى جهنم {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ} [الفجر:23] يتذكر ماذا؟ ذنوبه في الدنيا {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:23] يتذكر يوم كان أمام الناس صالح، أما إذا جلس لوحده في البيت يفعل ما يفعل، كلما خلا بمحارم الله انتهكها، لا يرده عن ذلك شيء، إنما كان يعبد الناس لا يعبد الله، كان إذا صلى يرائي، وإذا تصدق يرائي، وإذا حج يرائي، وإذا اعتمر يرائي، وإذا صام يرائي، كل أفعاله رياءٌ في رياء، فإذا اختلى بمحارم الله انتهكها، الآن يبدأ مصيره، إذا دخل النار -أعاذنا الله وإياكم منها- ماذا يجد في النار؟ {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38] يرى أصحابه في النار، من هم؟ الذين كانوا يصدونه عن الذكر وعن الصلاة.
وعندما قرر في يوم من الأيام التوبة وعزم عليها، وقال: إني تبت الآن، وقال: يا رب عوداً إليك، هذا عهد جديد بيني وبينك فلما ذهب إلى الصلاة ناداه صاحبه فقال: يا فلان عندنا سهرة! يا فلان تعال معنا نسافر! تقول له: أصلي، يقول لك: تصلي وأنت الآن شباب! لا تضحك على نفسك، لا تتعقد ولا تتزمت، تعال معنا وتشبب، قال: أريد أن أذهب إلى الصالحين، قال: إنهم معقدون، إنهم إرهابيون، إنهم متشددون، تعال معنا نتمتع بالحياة.
ثم إذا دخل إلى النار رأى صاحبه قد سبقه إليها {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} [الأعراف:38] الآن اجتمعوا كلهم في النار، ماذا يطلبون؟ {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} [الأعراف:38] يا رب! هذا الذي أضلني، يا رب! لطالما كنت أريد التوبة فصدني عنها، يا رب! كلما أردت التوجه إليك صدني ومنعني وأغراني بالمعاصي، يا رب! يا رب! {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38].
فيرد الله عز وجل عليهم جميعاً: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38] كل واحد منكم سوف نزيده الضعف في العذاب لماذا صددت عن ذكر الله؟! فصاحبك ما ربطك؟ وما قيدك؟ وما منعك من الصلاة؟ وما كان له عليك من سلطان إلا أن دعاك فاستجبت له أيها الضال الكافر! {لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38]، وإذا دخل أهل النار النار يحترقون فيها {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى} [المعارج:15].
يا عبد الله! يا من أغرته الملاهي! يا من أغرته الأغاني! يا من كان طوال حياته يجمل وجهه! يتزين أمام المرآة! ويذهب إلى دولٍ كثيرة يطلب الصحة والعافية! يا من كان يجمع المال ويعده عداً، أتعرف ماذا يأكل أهل النار؟ أم ماذا يشرب أهل النار؟ أم كيف يعيش أهل النار؟
عبد الله: إياك إياك أن تكون موقناً أنك لست من أهلها، إن الرجل العاقل هو الذي يخاف من النار ويخاف أن يقع فيها.
أما لباسهم فقد قال الله عز وجل عنه: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} [إبراهيم:50] نحاس مذاب، أرأيت النحاس المذاب كيف يكون حاراً لا تستطيع أن تضع يدك عليه؟ إنهم يلبسونه لبساً {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [الحج:19].
أما الفرش: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ} [الأعراف:41] ينامون على النار، ويلبسون النار، فماذا فوقهم؟ {وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف:41] أتريد ظلاً؟ أتريد برداً؟ {مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} [الزمر:16] النار من فوقهم، ومن تحتهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم، النار يلبسونها لبساً.
أما طعامهم فيخبر الله عنه بقوله: {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} [البقرة:74] أما الطعام فإنه النار نعوذ بالله، قال بعض السلف: "إن عذاب الجوع في النار يعدل عذاب النار كله" يجوعون فيطلبون الطعام فيعطيهم الله عز وجل طعاماً أتعرف ما هو؟ يا من أغراه طعام الدنيا فأكل الحرام وقد أغناه الله بالحلال! يا من كان لا يكفيه طعام الدنيا، فيأكل من هذا، ويتلذذ بهذا، حتى وصل إلى الحرام فبدأ يأكل منه! أتعرف ما عقوبة أهل النار وماذا يأكلون؟ يأكلون من الزقوم: (لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم) كيف بمن يكون طعامه؟!
عبد الله: إن الأمر حقيقة، لا تظن أن الأمر هزل {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة:40] {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق:14].
{إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان:43 - 44] يأكلونها، أتعرف ما الذي يحصل بعدها؟ {كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} [الدخان:45] إذا أكلوا الزقوم فإن البطون تغلي {كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:46] ثم {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الدخان:47] يدفع دفعاً، ويسحب سحباً إلى وسط الجحيم، ثم بعد هذا ماذا؟ {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} [الدخان:48] ثم بعد هذا ماذا؟ {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49] كنت عزيزاً في الدنيا، كنت في الدنيا إن دخلت مجلساً قام الناس لك، وإذا مررت في مكان هابك الناس، وسلموا عليك ولم يستطع أحدٌ أن يتكلم في مجلسك؛ لأنك أنت العزيز الكريم، والآن ذق إنك كنت في الدنيا تتكبر على الناس وتتفاخر عليهم، أما اليوم فذق إنك أنت العزيز الكريم.
يجوعون فيأكلون طعاماً، واسمع إلى هذا الطعام {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية:6] نباتٌ فيه شوك، يأكلونه، أتعرف ماذا يحدث لهم؟ {وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً} [المزمل:13] تغص به الحلوق، فلا يستطيع أن يخرجه ولا أن يبتلعه، فيطلب من الله عز وجل الماء {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:29] أردت الماء؟ تُعطى الماء ولو كنت من أهل النار، فلما يقترب من الماء تسقط فروة رأسه من شدة حره -الأمر حقيقة- {يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:29].
عبد الله: هل لا زلت مستمراً على الأغاني؟! أبعد هذا لا زلت تصر على ترك الصلاة؟! أبعد ما سمعت من عذاب أهل النار لا زلت تصد عن ذكر الله؟! إن أنت إلا في غرور، إي والله إنك في غفلة، توشك أن تكون ميتاً.
استمع أيضاً إلى عذاب أهل النار ولعلك إلى الآن لم تستجب، وإلى الآن لم يرق القلب، وإلى الآن المسكين يظن أنه يقوى على عذاب النار.
أما إن سألت عن أهل النار وعما يحصل لهم من عذاب؟ إنهم في النار ينظرون إلى أهل الجنة يتنعمون، وهو في النار يقول الله عز وجل له: انظر هذا مكانك في الجنة؛ ليزداد حسرة على حسرة {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [سبأ:33] كل هذا الحر وكل هذه النار وكل هذا الجحيم، ومع هذا توضع الأغلال في عنقه، يشوى في النار كما يشوى الجراد والسمك، أرأيت كيف يشوى على النار؟ (ناركم هذه جزءٌ من سبعين جزءاً من نار جهنم).
أسمعت عن صرخات أهل النار؟
يقول تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37] ربي أرجعني إلى الدنيا، والله لن آكل درهماً ربا، سوف آمر زوجتي وبناتي بالحجاب، وأؤدي زكاة مالي، ولن أتخلف عن صلاة الفجر يوماً واحداً، يا رب أرجعني إلى الدنيا وسوف وسوف فيرد الله عز وجل عليه: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37].
فهم في النار قد أنهكهم حرها ولهيبها، وباتوا من الجوع والعطش يأكلون -أجاركم الله- من صديد أهل النار، إن جلودهم تتشقق فيخرج منها الصديد فيأكلونه قبل أن تحرقهم النار {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج:15 - 16] أتعرف ما معنى: نزاعة للشوى؟ ينفصل الجلد واللحم عن العظم من شدة حرها {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56] إلى متى؟ هل يخف العذاب في النار؟ لا.
ولكن يقول الله: {فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً} [النبأ:30].
ثم ينظرون إلى مالك خازن النار ويقولون له: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] يا مالك! نتمنى أن نكون تراباً في النار يا مالك! نريد الموت.
يا مسكين! ما طلب الله عز وجل منك شيئاً، وإنما أراد منك خمس صلوات في اليوم والليلة فأبيت إلا النار! ما أراد الله عز وجل منك إلا جزءاً يسيراً من المال تؤدي به زكاة مالك فأبيت إلا النار، ما طلب الله منك شيئاً، أحل لك النعم كلها وحرم عليك بعضها، أحل لك النكاح فأبيت إلا الزنا، أحل لك جميع أنواع الشرب والمشروبات فأبيت إلا الخمر أن تشربها، ما طلب الله عز وجل منك شيئاً لكنك أبيت إلا النار.
{وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] فيرد عليهم مالك بعد ألف سنة فيقول لهم: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] إنكم ماكثون في هذه النار، والسبب: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ} [الزخرف:78] أتذكرون ذاك اليوم في ذلك المجلس؟ أتذكرون تلك الخطبة؟ أتذكر ذلك الشريط الذي استمعت إليه؟ أتذكر ذلك المجلس الذي جلسته وحدثك به رجلٌ صالح؟ أتذكر صاحبك الذي مات فلم تتعظ؟ أتذكر يا فلان؟! {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:78].
لا ملجأ من الله إلا إليه، ليست هناك رحمة إلا رحمة الله، ليس لهم إلا الله فيلجئون إليه، ويدعون الله وهم في النار، فيقولون: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} [المؤمنون:106] الآن تعترف، الآن لا ينفع الندم، فلطالما طلب منك الصالحون أن تلتزم وتهتدي ولكنك كنت تصر وتستكبر وتعاند، ثم الآن تعترف: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} [المؤمنون:106] ماذا تريدون؟ {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107] أعطوا الله العهود والمواثيق، ووعدوا الله عز وجل: يا رب أخرجنا من النار فإن عدنا إلى ذنبٍ واحد فإنا ظالمون، يا رب أرجعنا إلى الدنيا فإن عصيناك معصية واحدة ولو كانت صغيرة إنا ظالمون، ما هي الإجابة؟ ماذا تتوقعون أن يرد الله عز جل عليهم؟ ماذا تظنون أن الله عز وجل يجيبهم وهم يحترقون في النار، وهم يصطلون بحرها ونارها وسمومها وجحيمها وزقومها، والغسلين والغساق، ماذا تتوقعون أن يجيبهم الله عز وجل بعد قولهم؟ {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107] تأتي الإجابة بقوله سبحانه وتعالى: {اخْسَئوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] وبعد هذا لا ينطقون، بعد هذا يعلمون أنه خلود فلا موت، خلودٌ يا عبد الله!
هل لك أن تتصور ولو لدقائق ما معنى خلود في هذه الحياة؟ {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} [الأعلى:13] أتظن أنك تستطيع أن تتحمل ذلك الحر؟ أم ذلك الجحيم؟ أم تلك النار؟ إن فروج الزواني لتسيل بالدم والقيح فيأكله أهل النار، إن في الجحيم عذابٌ والله لو نتخيله لا يستطيع أحدنا أن ينام الليل، إن أهل النار ليبكون ثم يبكون ثم يبكون فتنقطع الدموع فيبكون الدم؛ من شدة حسرتهم ومن الندم الذي يصيبهم.
عبد الله: هذا مصير مَنْ؟ مصير أهل الأغاني والطرب، مصير الذين صدوا عن الصلاة وعن ذكر الله، مصير الذين ألهتهم الحياة الدنيا، وغرتهم زخارفها وزينتها.(77/4)
صفات الجنة وأهلها
أما ذلك العبد الصالح -وأسأل الله أن يهديك لتكون صالحاً- الذي إن أذن المؤذن لصلاة الفجر وقال: الصلاة خيرٌ من النوم، وثب من فراشه وذهب إلى الصلاة وصلى وذكر الله.
ذلك العبد الصالح لو كانت عنده من الأعمال ما عنده واستمع إلى (حي على الصلاة) رمى كل ما في يديه، ثم ذهب إلى المسجد يؤدي فريضة الله.
ذلك العبد الصالح الذي إن جلس لوحده في البيت واختلى بمعصية من معاصي الله اتقى الله وصد وابتعد عن معاصي الله.
ذلك العبد الصالح الذي إن جلس في مجلس يدار فيه منكر أنكره فإن لم يستطع خرج من ذلك المجلس.
ذلك العبد الصالح ما تسمع منه إلا كل خير، إن نطق فبذكر الله، أو بغير معصية الله، ذلك العبد الصالح الذي أشغلته طاعة الله، وأشغلته محبة الله، ملأت قلبه طاعة الله ومحبته والشوق إلى لقائه، ذلك العبد الصالح ما مصيره؟
يقف بين يدي الله عز وجل فيقول الله تبارك وتعالى له -وادع الله أن تكون من أولئك-: (عبدي أتذكر ذنب كذا؟ -ومن من الناس لا يعصي الله- أتذكر ذنب كذا؟ فيقول: أي ربي هلكت، فيقول الله عز وجل له -لأنه تاب منها في الدنيا- سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يأخذ صحيفته بيمينه فيولي إلى الناس فيقول: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20]).
أيها الناس: في المحشر، {اقْرَأوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19] ماذا تجدون؟ إنها الصلاة، وذكر الله، والصدقة، والدعاء، والصيام، والعمرة، والجهاد.
ماذا ترون؟ كل خير، إنها التوبة والاستغفار، إنه التسبيح والتحميد والتهليل والاستغفار.
ماذا ترون؟ صلاة الضحى، وصلاة الوتر، والرواتب، والسنن، والنوافل.
ماذا ترون؟ الدعوة إلى الله، وطلب العلم ونشره.
ماذا ترون؟ {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19].
ثم يجتمع مع أصحابه في المحشر فيقول الله عز وجل: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً} [الزمر:73] يجتمعون على أبواب الجنة، ماذا ينظرون؟ بل ماذا ينتظرون؟ ينتظرون نبيهم أفضل البشر يخرج من بينهم، ليفتح لهم باب الجنة، والجنة لها ثمانية أبواب وما يدريك لعلك تكون منهم؟ ما يدريك لعلك تكون من أول زمرة وأول فوجٍ يدخل الجنة؟
يأتي أفضلهم إلى باب الجنة وله حلقة فيأخذ بها ويطرق باب الجنة، والناس ينتظرون، إنهم يتشوقون، إنهم يتلهفون، إن ريحها تخرج منها من مسيرة سنوات طوال، ينظرون يريدون أن يدخلوها، فيفتح فيستفتح فيقول له الملك: من أنت؟ فيقول: أنا محمد، فيقول الملك: أمرت ألا أفتح لأحدٍ قبلك، فتفتح أبوابها، الله أكبر! ثم ماذا ترى؟
ترى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس:38 - 39] وجوه مستبشرة، ضاحكة فرحة، فإذا بباب الجنة يفتح، وإذا بالملائكة تنادي بالأسماء: أين فلان ليأتي من باب الريان؟ لأنه أكثر من الصيام أين فلان ليأتي من باب الصلاة؟ لأنه أكثر من الصلاة، وذاك أكثر من الصدقة، فيقال: أين فلان ليأتي من باب الصدقة؟ وذاك جاهد في سبيل الله، فيقال: أين فلان ليأتي من باب الجهاد؟ وبعضهم ينادى من بابين، الله أكبر! يختار أي البابين يدخل، وبعضهم من ثلاثة، وبعضهم من أربعة، وبعضهم من ينادى من أبواب الجنة كلها؟ أين فلان ليدخل من هذا الباب؟ أتعرف؟ أسمعت أن: (ما بين مصراعي باب الجنة مسيرة أربعين عاماً) تمشي من الطرف الأول للباب فلا تصل إلى الطرف الثاني إلا بعد أربعين عاماً وإنه ليأتي عليه يوم وإنه لكضيض، مزدحم بالناس، تخيل نفسك وقد أمر بك إلى الجنة، وأتيت إلى بابها، ووطأت قدماً فيها، فماذا ترى؟
{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} [الإنسان:20] تنسى هموم الدنيا كلها، أين تعب الصلاة؟ أم أين تعب الجهاد؟ أم أين تعب الصيام؟ والصدقة والنفقة؟ أين التعب كله؟ ذهب، بقيت الآن اللذة والسعادة، يدخل بقدم لا يأمن العقوبة، فإذا دخلت القدم الأخرى ودخل الجنة ماذا يرى؟!
أما الأرض فبيضاء، أما إذا نظر إلى العلو فليس فيها شمس، كيف يرى الناس، أم كيف ينظرون؟ يأتي نورٌ من قبل عرش الرحمن، فيفيض على أهل الجنة نوراً.
يدخلون الجنة فإذا الأرض بيضاء، تحت رجله ماذا يرى؟ حصباؤها اللؤلؤ، الياقوت، والزعفران تحت رجله يطأها بقدميه، يدخل في الجنة إلى أين يذهب؟ هل يعرف منزله؟ يعرف منزله أفضل مما كان يعرف منزله في الدنيا، يركض إلى منزله وقصره في الجنة، أتظنه كقصور الدنيا؟ لا.
لبنة من فضة، والأخرى من ذهب، ثم من فضة، والأخرى من ذهب، وتخيل منظرها ليس كذهب الدنيا ولا كفضة الدنيا.
يمر في الطريق ماذا يرى؟ يرى أنهاراً {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد:15] أتحسب أن أنهار الجنة أخاديد كالدنيا؟ لا، إن نهر الجنة يسكب على الجنة سكباً {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} [الواقعة:31] لا يجري في أخاديد بل يجري على الجنة هكذا، نهر من ماء غير آسن لا يتغير طعمه {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ} [محمد:15] الله أكبر! هل لك أن تتصور نهراً من لبن؟ يجري ذلك النهر، وإذا أردت أن تشرب فاشرب، إذا أردت أن تغرف منه فاغرف منه ما شئت فإن هذا اللبن لا يتغير طعمه.
ثم {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} [محمد:15] يا من استبدل خمر الجنة بخمر الدنيا، يا من استبدل الحلال بالحرام، أذكرك وأخبرك أن في الجنة يجري الخمر فيها جرياً، لذة للشاربين، {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ} [الواقعة:19] يشربون من خمر الجنة ما شاءوا، أتستطيع أن تتخيل هذا؟
بل أزيدك نهراً رابعاً {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} [محمد:15] هل تتخيل نهراً من عسل يجري؟ الله أكبر! الله أكبر! {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61].
ثم يذهب إلى قصره فيرى عند القصر خيمة من لؤلؤة مجوفة، أتظنها كهذه الحجرة؟
لا.
بل طولها في السماء ستون ميلاً، هل تظن أنك ترى آخرها؟ يدخلها صاحبها فإذا به يرى فيها أهلون، أتعرف صفتهم؟ أتعرف صفة زوجته؟ يعطى قوة مائة رجل، يجامع في اليوم الواحد مائة مرة ولا يتعب.
قال عليه الصلاة والسلام: (لو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت على أهل الأرض لأضاءت ما بينهما -ما بين السماء والأرض- ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها -خمارها على رأسها- خيرٌ من الدنيا وما فيها) {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} [الواقعة:35] من الذي أنشأهن؟ إنه الرحمن {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} [الواقعة:36] مهما تطأهن فإنهن أبكارا {عُرُباً أَتْرَاباً} [الواقعة:37] متحببات لأزواجهن متساويات في الأعمار {عُرُباً أَتْرَاباً} [الواقعة:37] لمن؟ {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:38] لأصحاب الصلاة، والصيام، وذكر الله، وقيام الليل، والجهاد في سبيل الله، ودين الله {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة:38 - 40] إذا رأيت ساقها -وسوف أخبرك عن ساقها بلا حياء؛ لأنه أخبر بذلك عليه الصلاة والسلام- ترى مخ ساقها من وراء اللحم، ما أرقه، وما ألطفه، وما أنعمه، ترى العظم من وراء اللحم، أتظن كيف يكون شكلها؟ أم كيف يكون جمالها؟
يروى: أنه يجامع الحور فإذا به في لحظة يبزغ نورٌ عظيمٌ من فوقه يظن أنه الرحمن، فيقول: ما هذا؟ فتقول له امرأة وتنظر إليه فتقول: أما كان لنا فيك دولة؟ أي: أما اكتفيت بهذه فتأتي إلينا فتجامعنا، فيقول: من أنت؟ فتقول: أنا من الذين قال الله فيهم: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] فيجامعها فإذا به بعد لحظات يبزغ نورٌ عظيم فيقول: ما هذا؟ فتقول امرأةٌ ثالثة: أما كان لنا فيك دولة؟ فيقول: من أنت؟ فتقول: أنا من الذين قال الله فيهم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17] على فرش من حرير، يلبسون الحرير، ينامون على الفرش، ويتكئون عليها، خدمهم كاللؤلؤ المنثور، ينامون على الأرائك.
يشتهي ثمار الجنة، وفاكهة مما يتخيرون، لا يقوم من مكانه ليقطف الثمار، بل تأتي الثمار إليه {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً} [الإنسان:14] تأتي الثمار فيقطفها، كُلْ ما شئت، واشرب ما شئت، وتمتع بما شئت، ثم وهو في ذلك النعيم يأتيهم منادىٍ فيقول: يا أهل الجنة! تريدون شيئاً أزيدكم؟ تريدون نعيماً غير هذا؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ فيكشف ربنا عن الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم، وينسون به نعيم الجنة كله {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23].(77/5)
الصدق في التوبة
أيها الأخ العزيز: هل تفكرت في هذا المصير؟ سل نفسك أي الطريقين تختار؟ وأي الطريقين تريد أن تسير فيه؟ {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] بادر نفسك بالتوبة، ولا تقل: سوف أتوب من الغد، وما تدري فلعلك لا تدرك الغد، إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء.
أخي العزيز: لا تقل يا رب تبت إليك ولا زلت مصراً على المعاصي، وعقدت في قلبك أن ترجع إليها، فإنك تستهزئ على الله، لا تقل: يا ربِ تبت إليك ولا زلت تحتفظ بالمعاصي في البيت، ولا زالت أموالك في بنوك الربا، ولا زلت تفعل المعاصي وتقول: يا رب أستغفرك وأتوب إليك، قال الله عز وجل {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].
جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه في غزوة مؤتة يحمل الراية بيده اليمنى -انظروا إلى أولئك النفر الذين باعوا أنفسهم لله عز وجل- فإذا بها تقطع -لو كنت مكانه ماذا تفعل- ثم مسكها بيده اليسرى، ولسان حاله: أموت وتقطع يدي ولا تسقط راية الإسلام.
فلما حملها بيده اليسرى قطعت يده اليسرى، فأصبح بلا يدين، وماذا تظنه فاعلاً؟ مسك الراية بعضديه وضمهما على الراية، فإذا بالرماح تكسر على ظهره، وهو يتلفظ أنفاسه الأخيرة ويقول:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وباردٌ شرابها
والرومُ رومٌ قد دنى عذابها كافرة بعيدةٌ أنسابها
وفاضت روحه إلى الله، قال عليه الصلاة والسلام: (لقد طار في الجنة).
أقول هذا القول، وأصلِّ وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وجزاكم الله خيراً.(77/6)
مكر اليهود
إن عقيدة الولاء والبراء من أوثق عرى الإيمان، فيجب علينا أن نتبرأ من أعداء الله، وعلى رأسهم اليهود الذين لعنهم الله، وغضب عليهم، وجعل منهم القردة والخنازير.
فإنهم الذين تجرءوا على الله بالسب والرمي بالنقائص، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
وهم الذين قتلوا الأنبياء وحاربوا الرسل، وفي هذا العصر هم وراء كل فتنة وحرب وفساد.(78/1)
اليهود مكر على مر التاريخ
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون: معنا اليوم ذكرى للمسلمين، حتى لا ينسوا عقيدتهم، وهي من أصول هذا الدين الإسلامي، وهذا الأمر يجب أن يتذكره المسلم في اليوم والليلة سبع عشرة مرة، لا يكتمل إسلامه إلا به.
إن هذه العقيدة أصَّلها الله عزَّ وجلَّ في القرآن كثيراً وذكرنا بها حتى لا ننسى، سواءً كان منا طالب علم، أو عامي، أو عالم، أو جاهل، لا بد أن يعتقد هذه العقيدة، وهي عقيدة تتعلق بالولاء والبراء، بل هي أصل البراء وأوَّله، وهو: بغض أعداء الله جلَّ وعلا، وعلى رأس أعداء الله ما سوف نتكلم عنهم في هذه الخطبة، عن بعض تاريخهم، وبعض أعمالهم حتى لا ينسى المسلمون، إنهم اليهود لعنهم الله، الذين غضب الله عليهم ولعنهم وجعل منهم القردة والخنازير.
أي أمة في الأرض أبغضها الله عزَّ وجلَّ وغضب عليها، فجعل منها قردة وخنازير مثل هذه الأمة؟! أمة اليهود لعنهم الله وقبحهم، انظر إلى فعلهم في الماضي، وفعلهم في الحاضر، حتى لا ننسى هذه العداوة التي أمرنا الله بتكرارها سبع عشرة مرة في اليوم والليلة، لقوله جلَّ وعلا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:6 - 7].
صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المغضوب عليهم هم اليهود) نكرر هذا في اليوم والليلة، في الفرائض والنوافل، فهو من أوجب الواجبات على المسلمين أن يتعلموه لكي يتبرءوا من اليهود يتبرءوا من هذه الأمة الملعونة التي غضب الله عليها.(78/2)
اليهود وأقوالهم في ذات الله
انظروا -يا عباد الله- كيف يعاملون ربهم جلَّ وعلا، وماذا ينسبون إليه، ثم إن علمنا قبح مقالاتهم في الله لا نستبعد قبح مقالاتهم في الناس، بل وأفعالهم فيهم.
يقولون عن الله جلَّ وعلا -وهذا قد كتبوه بأيديهم في التوراة ونسبوه إلى الله- قالوا: إن الله جلَّ وعلا نزل إلى الدنيا، فتمثل في صورة إنسان، فتصارع مع يعقوب عليه السلام، الله جلَّ وعلا يتصارع مع نبي من الأنبياء، ثم ماذا؟ قالوا: إن يعقوب قد طرح الله أرضاً، قاتلهم الله ولعنهم!
انظر ماذا قال الله فيهم في القرآن: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64] قالوا: يد الله مغلولة، الله بخيل لا ينفق على الناس، انظروا إلى الفقراء الجياع المرضى! انظروا إلى هذه الأمم كيف تموت جوعاً؟ الله بخيل، قبَّحهم الله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] فأخبر الله أن يده مبسوطة انظروا إلى النعم انظروا إلى ما أنزل الله من السماء والأرض انظروا إلى هذه الخيرات انظروا إلى آثار رحمة الله!!
انظروا كيف يسبون الله جلَّ وعلا، يقولون في توراتهم: إن الله لما خلق السماوات والأرض تعب ونصب؛ فاستراح بعد خلقه لها، فرد الله عليهم فقال: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] ما مسنا من تعب.
ولا نصب، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً!
يقولون عن الله: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] الله يطلب منا أن ننفق ونطعم الجياع والفقراء، إذاً الله فقير ونحن أغنياء انظروا كيف يسبون الله جلَّ وعلا!(78/3)
أقوال اليهود في أنبياء الله
جاءوا إلى رسل الله جلَّ وعلا واحداً واحداًَ، إما أن يكذبوه، وإما أن يقتلوه، ولم يؤمنوا بنبي واحد من الأنبياء، هم أكثر أمة على وجه الأرض أرسل الله لهم الرسل والأنبياء، مئات بل ألوف من الرسل والأنبياء، ومع هذا كذبوهم، وقتلوا بعضهم.
انظروا ماذا قالوا عن لوط عليه السلام، نبي من الأنبياء اختاره الله من بين الناس؛ لكي يبلغ رسالات ربه، فقصوا عنه قصة مختلقة -وهذا مذكور عندهم في التوراة- فقالوا: إن لوطاً شرب يوماً من الأيام خمراً فسكر، ثم لما سكر لم يكن يشعر بنفسه إلا وقد وقع على ابنته فزنا بها في من؟! في نبي من الأنبياء: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:5].
ثم لم يكتفوا بهذا! جاءوا إلى داوُد عليه السلام، وهو من رسلِهم وأنبيائهم، قالوا عن داوُد: إنه ابن زنا، وأنه أنجب ولداً، فزنا ولده بأخته من أبيه، وأن ذريته كلهم من أبناء الزنا ذريته من الأنبياء والرسل كلهم من أبناء الزنا، ماذا بقي للأنبياء؟! بل ماذا بقي للرسل؟!
جاءوا إلى سليمان عليه السلام، فقالوا: كانت له سبعمائة من النساء يتمتع بهن ويجامعهن وينكحهن كما يشاء، صار النبي لا يعرف من الدنيا إلا الشهوات والملذات.
ولم يكتفوا بهذا، بل قالوا عن سليمان: إنه كان يرى نساءه يعبدن الأصنام والآلهة لا ينكر عليهن من شدة حبه لهن، بل كان في بعض الأحيان يساعدهن في تقريب القرابين لهذه الآلهة، حُبٌّ وعشقٌ ووَلَهٌ وشهوةٌ أعمت بصائر سليمان عليه السلام تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
اليهود هم اليهود، هم الذين غضب الله عليهم، وهؤلاء هم من نسلهم، سبوا الله، وسبوا الأنبياء، جاءوا إلى عيسى عليه السلام وقد أنطقه الله في المهد: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} [مريم:30] فقالوا: لا.
أنت ابن زنا! {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} [النساء:156] نعم! نسبوا إلى مريم الزنا، ثم لما كبر عيسى عليه السلام تبعوه ليقتلوه يقتلون نبياً من الأنبياء، تبعوه حتى رفعه الله جلَّ وعلا: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} [البقرة:87].
ولهذا الله عزَّ وجلَّ في القرآن كثيراً ما يعيد علينا قصتهم وأخبارهم وأفعالهم، يأمرهم الله عزَّ وجلَّ بألا يصطادوا في يوم السبت، فيتحايلوا على ربهم جلَّ وعلا، فكانوا يضعون الشباك يوم الجمعة، ثم يأخذونها يوم الأحد، وكأنهم لم يصطادوا يوم السبت، يكذبون على الله، ويتحايلون عليه سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة:65] بسبب تحايلهم على الله جلَّ وعلا لعنهم الله فأصبحوا في الصباح فإذا جزء منهم قد تحول إلى قردة، وجزء منهم قد تحولوا إلى خنازير قبَّحهم الله ولعنهم: {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة:75].(78/4)
عداء اليهود لرسول صلى الله عليه وسلم
جاء اليهود إلى نبي هذه الأمة ورسول هذه الملة، خير الأنبياء وخير الناس أجمعين، سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، جاءوا إليه فكذبوه، ولم يصدقوه، وفي توراتهم تبشير به، يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، يعلمون أنه جاء بالحق، وأنه رسول من عند الله، فكذبوه، وقالوا: ما بُشر به، ولا أخبرنا نبينا به، ثم جاءوا إليه يحاولون تكذيبه ورده وصده، فلما هاجر إلى المدينة احتضنوا المنافقين وألَّبوهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم لم يكتفوا بهذا، بل ألَّبوا المشركين في غزوة الخندق والأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم لم يكتفوا بهذا، بل جاء خبيثهم لبيد بن الأعصم عليه لعنة الله، فسحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ جزءاً من شعره في مشط ومشاطة، فسحر نبي هذه الأمة، حكمة من الله أرادها، فكان كما تقول عائشة رضي الله عنها: [يفعل أشياء ولا يدري أنه فعلها، ويتكلم بأمور لا يشعر أنه يتكلم عليه الصلاة والسلام] ثم نجاه الله منهم.
ثم لم يكتفوا بهذا، بل جاءت يهودية، فقرَّبت إليه شاةً ووضعَت فيها سُمَّاً، تريد قتل نبي هذه الأمة، فأراد أن يأكل منها، فأكل شيئاً قليلاً، فأخبره الله جلَّ وعلا أن الشاة مسمومة، فتركها عليه الصلاة والسلام، ولا زال يتجرع مرارة هذا السم حتى توفَّاه الله جلَّ وعلا.
جاء في يوم من الأيام إلى أحد أحيائهم، فلما اقترب عند سطح من السطوح، جاء أحدهم من فوق هذا السطح، ليرمي بصخرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} [البقرة:87].
هذا هو تاريخهم مع الله جلَّ وعلا، ومع الأنبياء ومع الكتب والرسالات.
فهاهم في التوراة يأتون إليها، فيكتبون ما تهوى أنفسهم فيها، وينسبونها إلى الله جلَّ وعلا: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79] ومحوا بعضه، ولبَّسوا الحق بالباطل: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:42].
قتلوا عشرات بل مئات من الأنبياء والمرسلين، هذا فعلهم في أنبياء الله، فكيف بفعلهم في الناس ومن هم دون الأنبياء؟!
إنهم الذين أخبر الله عنهم: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:60].
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم.(78/5)
اليهود وراء كل فتنة في هذا العصر
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
أما فعلهم في هذا الزمن وفي واقعنا فهو أكثر من أن نتكلم عليه في هذه الخطبة، فكل مسلم عاقل يعرف دين الله وشرعه، يعلم يقيناً من قلبه أنه لا عهد بيننا وبين اليهود، ولا صلح بيننا وبين اليهود، ولا سلام بيننا وبين اليهود، فهم أهل نقض العهود، كما قال الله عزَّ وجلَّ عنهم: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:100] لا عهد بين المسلمين وبين اليهود.
عاهدهم خير هذه الأمة، وصالحهم عليه الصلاة والسلام، وكانت الغلبة والقوة له، وكان الحكم له عليهم، عاهدهم وصالحهم ولكن لم يلبثوا إلا وأججوا الفتن، ودسوا الدسائس، وحاولوا قتله، ثم نقضوا العهد بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم، فقتل عليه الصلاة والسلام بعضهم، وأخذ أموالهم، وأجلى كثيراً منهم، حتى أمر آخر حياته ألا يبقى أحدٌ منهم في هذه الجزيرة.
اليهود قبَّحهم الله هم المغضوب عليهم في هذا الزمان وفي غيره من الأزمنة، كل حرب على وجه الأرض وكل معركة تدور بل أكثر المعارك والحروب على وجه الأرض لهم يد فيها، وهم طرف فيها، كما قال جلَّ وعلا عنهم: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة:64].
يؤججون الحروب، ويثيرون المعارك، ويثيرون الفتن بين الأمم، ليبقوا أقوياء، فهم الذين يتدخلون في تجارة الأسلحة، ويقبضون في النهاية الثمرة، يتفرجون ويضحكون على الأمم كيف تتقاتل، وكيف تتصارع؟ ليبقوا أقوياء، لعنهم الله وأذلهم: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة:64] نعم! يسعون في الأرض فساداً.
إنهم يتدخلون في نشر المخدرات والخمور بين الشعوب والأمم، ويصرحون بهذا، بل أكثر بيوت وأماكن الدعارة على وجه هذه الأرض لهم يد فيها ويتدخلون فيها.
يا عباد الله! محافلهم الماسونية، ومحافلهم اليهودية قد انتشرت في بقاع الأرض كلها، بل بعض أعضائهم وبعض من ينتسبون إليهم يتسمون بالمسلمين كذباً وزوراً ثم يبثون السموم والدسائس بين المسلمين، يحرشون بينهم، ويفتنون في صفوفهم، وينشرون الخمور والمخدرات والدعارة والزنا لتبقى الشعوب هكذا في غفلة: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة:64].
نعم.
إنهم اليهود، أعداء الله جلَّ وعلا، أشد الناس على وجه هذه الأرض عداوة للمؤمنين وللمسلمين: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ} [المائدة:82] قدمهم الله على جميع الكفار والمشركين.
أخبر عليه الصلاة والسلام أن المعركة قائمة بين المسلمين واليهود، بين المؤمنين وأعدى أعدائهم إلى قرب قيام الساعة، حتى تأتي تلك المعركة الفاصلة بين المسلمين واليهود، وقائد المسلمين عيسى عليه السلام، أنزله الله من السماوات إلى الأرض؛ ليقود المسلمين في تلك المعركة، أما قائد اليهود فهو الدجال الأعور، الذي يدعي الألوهية، يخرج معه من يهود أصفهان سبعون ألفاً، وينتشرون من بقاع اليهود ليتجمعوا في فلسطين والشام؛ ليقاتلوا المسلمين في الفسطاط -يتقاتل تحته جميع المسلمين وجميع اليهود- لتكون المعركة الفاصلة والحاسمة التي يتشوق إليها المسلمون، والتي يحدث المسلمون بها أنفسهم وينتظروها بفارغ الصبر، بل في تلك المعركة لا يقاتل البشر فقط؛ بل يقاتل في تلك المعركة الملائكة والأحجار والأشجار، كلها تقاتل مع المسلمين، فيختبئ اليهودي الذليل خلف الحجر والشجر: (فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله) فيأتي إليه المسلم فيحز رأسه ويقتله ويسفك دمه حتى يستأصل المسلمون اليهود، حينئذٍ لا يبقى على قيام الساعة إلا قليل، وتصبح الدنيا على قيام الساعة بعد أن يستأصل المسلمون اليهود.
عباد الله: لا بد أن نحدث أنفسنا بعداوتنا وبكرهنا وببغضنا لهم، لا نقول في الفاتحة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] إلا ونحن نتذكر اليهود الذين غضب الله عليهم ولعنهم وجعل منهم القردة والخنازير.
ثم نربي أجيالنا وأبناءنا على بغضهم وعداوتهم وكرههم، وعلى إعداد العدة لمحاربتهم في يوم من الأيام، عدة نفسية، وإيمانية، وعقائدية، وجسدية، نعد العدة لحربهم وقتالهم، انتظاراً لتلك المعركة الفاصلة التي وعدنا الله جلَّ وعلا بها على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداء الدين.
اللهم عليك باليهود والنصارى الذين يحاربون أولياءك، ويبدلون دينك، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
أقول قولي هذا وأصلي وأسلم على أشرف خلق الله محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم.(78/6)
رحل الرجل
على العبد أن يستعد استعداداً تاماً لملاقاة الله تعالى، فإن هذه الدنيا قصيرة، وإن الآخرة أبدية سرمدية، وهناك من كان يؤمل آمالاً ويظن أنه سوف يخلد في هذه الحياة، فإذا بالموت يقطع أمله، ويبتر أحلامه، وهو غير مستعد للقاء ربه، ولم يعد العدة للقبر ووحشته، فماذا ترى يكون مصيره؟
وهناك من أعد العدة، وتجهز للسفر، فإذا به يجد النور في قبره، والنجاة والسلامة من نار ربه، فيسعد بجنة عرضها السماوات والأرض.(79/1)
حال العبد عند الموت
باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:
فلقد مر عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى على مقبرة بعد أن صلى بالناس صلاة العيد، فبعد أن مر على المقبرة قال لمن حوله: امكثوا، وكان معه الوزراء والأصحاب، فذهب إلى المقبرة، وأخذ ينظر إلى القبور، فقال قولته المشهورة:
رأيت القبور فناديتها فأين المعظم والمحتقر
تفانوا جميعاً فما مخبر وماتوا جميعاً ومات الخبر
فيا سائلي عن أناس مضوا أما لك في ما مضى معتبر
ثم سقط على ركبته، وأخذ ينادي: يأيها الموت! ماذا فعلت بالأحبة؟ وأخذ يبكي رحمه الله.
أتذكر فلاناً كان صاحباً وقريباً لك في يوم من الأيام، كان يلعب معنا، ويجلس معنا، ويدرس معنا، وفي العمل معنا أين هو الآن؟ أين ذهب؟
يوم من الأيام فتحت الجريدة فإذا اسم فلان صاحب لك قد توفي وفارق الحياة سبحان الله! وإذا رجل اتصل عليك ذاك اليوم فرفعت السماعة وكلمته، فقال: أتعرف فلاناً؟ فقلت: كيف لا أعرفه وقد كنت قبل أيام معه.
قال: إنه قد ذهب وفارق الدنيا سبحان الله!
ماذا كان يعمل، وبم كان يحلم؟ كان يحلم أن يدرس ويحصل على الشهادة كان يحلم بالزواج وإنجاب الأبناء كان يحلم بالسيارات بالأثاث بالقصور بالبيوت بالسفر بالدنيا؛ ولكن! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] ذائقة: كأنه شربها في الصباح، إلى هذه الدرجة {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] المصيبة هي: هل هناك من يستأذنك؟ هل هناك من يخبرك؟ أم أنه حادث سيارة وانتهى الأمر، أو لعلها نومة لا تستيقظ منها ولا تدري هل تخبر أهلك؟ وماذا تريدون إذا رجعت من العمل أو من المدرسة؟ فإذا بك لا ترجع، لا تعلم لعلها السفرة الأخيرة، لعلها وأنت تلعب أو تسبح أو تنام أو أنت ساجد أو قائم أو راكع! لا نعرف! {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78] والله لو كنت في أفضل الأماكن، وحولك الأطباء قد تجمعوا ليرجعوا لك الروح إنها النهاية.
ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعده عن كل شي
أيها الأخ العزيز! أريد منك في هذه اللحظات أن تتخيل نفسك وقد جاءك ملك الموت، ولنبدأ معاً هذه الرحلة.
يا أخي الكريم: لعلك في هذه اللحظة تلتفت فإذا بملك الموت جالس عند رأسك، ونعرف حينها إن كنت عبداً صالحاً، هل صليت الصلاة، وحافظت على الواجبات، وهل إن عصيت الله تبت، وإن أذنبت رجعت واتقيت الله وأتبعت السيئة الحسنة؟
إن كنت من هؤلاء وجاءك ملك الموت، فإذا بك تنظر إلى ملائكة بيض الوجوه مد البصر من حولك، لعل الأم تبكي، ولعل الزوجة تبكي، ولعل الأب يبكي، ولعل الطبيب يأتي ويحاول أن يداويك ويرجع لك الروح؛ لكن {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:26 - 27] ينادون: من يداوي هذا؟ أرأيت إن أتتك السكتة؟ {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:27] كأن القارئ قد خنقته العبرة، وكأنه قد تردد هل من راق؟ أي: من يداويه وهو يعلم أنها النهاية {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاق} [القيامة:28].
أخي الكريم! لو كانت هذه اللحظة قد أتتك هل أنت مستعد؟ حاسب نفسك هل صليت الصلوات الخمس في بيت الله بخشوعها وأركانها وواجباتها، أم أنك لا تعرف بما صلى الإمام في صلاة العشاء أم أن الفجر ليس في جدولك؟ لا نعرف.
أخي الكريم! كم تلفظت بكلمة حرام في هذه الليلة أو في ذلك اليوم؟
أخي الكريم! ماذا أديت من حقوق الله في بر الوالدين وصلة الرحم وطلب العلم والدعوة إلى الله؟ كم زلة وقعت منك هذا اليوم كن صادقاً مع نفسك.
أخي الكريم! إذا خدعت فإنك لا تخدع إلا نفسك.
نبدأ إلى تلك الرحلة رحلة الرجل الصالح الذي تاب إلى الله، نعم.
يذنب، ولكنه يندم، ويخاف ويوجل القلب، ويرجع إلى الله، ويتبعها الصالحات.
هذا الرجل يأتيه ملك الموت وهو مستعد وجاهز، تخرج روحه كما تسيل القطرة من فيّ السقاء، هل يحس ويتألم بها؟ لعل الجسد يتألم أما الروح فلا، تخرج الروح كما تسيل القطرة، فيأخذها ملك الموت، فتخرج كأطيب ريح وجدت على وجه الأرض، فتصعد إلى السماء الدنيا فيفتح لها، هذه روح شريفة، مرغ جبهته لله، باراً بوالديه، واصلاً أرحامه، متصدقاً في سبيل الله، يصلي الصلوات الخمس، يعف عن الحرام، إن زل رجع إلى الله وتاب، تفتح له أبواب السماء كلها إلى السماء السابعة ثم ترجع إلى جسده، وهو الآن في حفرة ضيقة؟ يسمع أناساً يمشون فوقه، يسمع قرع نعالهم، فالأمر سريع، لعلها ساعات قليلة؛ بل لعلها دقائق، والناس لا يزالوا حوله، ولا ندري لعلهم قد صفوا صفوفاً يعزي بعضهم بعضاً، ولعل أباه يبكي عليه فوق قبره، ولعل الإخوان يقولون: مسكين فارق الدنيا! مسكين لم يتمتع بشبابه! مسكين ذهب ولم يكمل دراسته! ولم يرَ الزوجة! ولم يرَ ابنه في بطن أمه! ولم يفعل ولم يفعل!(79/2)
حال المؤمن في قبره
أيُّ مسكين ذلك الذين يجلس فإذا به بملكين أسودين أزرقين ينتهرانه فيقولان له: من ربك؟ فيجيب إجابة المستيقظ: ربي الله ما دينك؟ ديني الإسلام؛ لأنه عندما كان يسمع: الله أكبر! كان الله عنده أكبر من كل شيء، وعندما كان يسمع: الصلاة خير من النوم، رمى الفراش وهب مسرعاً إلى المسجد، وعندما كان يخر ساجداً لله فيقول: سبحان ربي الأعلى، كان في قلبه أن الله هو الأعلى من كل شيء في قلبه وفي حياته، وإن سأل فلا يسأل إلا عن شيء هو موافق لشرع الله، شراء السيارة حرام أم حلال وما حكم الشرع فيه؟ هذه الصلاة هل هي بدعة أو سنة وما حكم الشرع فيها؟ كان لا يسأل إلا عن دين الله؛ ولهذا إذا سئل: ماذا تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟
فيقول: هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي، وجاء في بعض الروايات: فيفتح له باب إلى النار، فينظر إلى النار، فيقال له: هذا مكانك لو عصيت الله، نار يأكل بعضها بعضاً، سوداء مظلمة، ثم يغلق الباب ويفتح له باب إلى الجنة، فيقال له: هذا مكانك، انظر لعلك لا زلت فوق رأسه في المقبرة، وبعضهم يمشي عليه وهو ينظر إلى قصره في الجنة، ينظر إلى الأنهار والأشجار، ثم يغلق الباب، فيقول: ربِ أقم الساعة! ربِ أقم الساعة! ربِ أقم الساعة، فيأتيه رجل طيب الثياب، حسن الوجه، طيب الرائحة، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، والله ما علمتك إلا سريعاً لطاعة الله بطيئاً إلى معصيته.
نعم.
تعصي الله؛ لكنك تخاف؛ كل الناس يخطئون ويعصون لكنك إن عصيت فلا تحرص على المعصية إن عصيت الله فإنك ترجع بعد المعصية؛ تندم تتوب تخر ساجداً لله تبكي تستغفر الله تنكسر وتنطرح بين يديه.
يقول: والله ما علمتك إلا بطيئاً إلى معصية الله، سريعاً إلى طاعته، فيجلس عنده، فيقال له: نم نومة العروس، فيأتيه من ريح الجنة ويفرش له من فراش الجنة مد بصره.(79/3)
خروج المؤمن من قبره إلى المحشر
الله أكبر! الناس فوقه يظنونه في حفرة ضيقة ونحن المساكين وليس هو نحن في عذاب وليس هو، فقد فتح له في قبره مد بصره، وفرش له من الجنة، وتأتيه رائحة من الجنة، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، يبكون وهم يخرجون من المقبرة، وهو يدعو الله أن تقوم الساعة، ينام نومة ثم يستيقظ على ماذا؟ يستيقظ حين يسمع صيحة فوقه؛ فإذا بالقبر ينشق، ثم إذا به يخرج يستمع إلى الناس وهم يبكون، والبعض منهم يدعو ثبوراً، والبعض منهم يضرب نفسه، حتى يقول المجرمون: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:52]؟ فيرد عليهم: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52] هذا الذي كنا نقرأه في كتاب الله هذا الذي كنا نسمع به في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقال لهم: أيها الناس! هلموا إلى ربكم، فيقف تحت ظل العرش أرأيت! الأمر سريع، يقف تحت ظل عرش الرحمن إنه من السبعة الأصناف من هم؟ رجل قلبه معلق بالمساجد، نشأ في عبادة الله، شاب أتته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، الشهوة تدعوه، كان عنده قوة وجرأة لكنه يخاف الله، فإن كان من هؤلاء السبعة, فيكون تحت ظل عرش الرحمن.
إن الأمر -أيها الإخوة- حق وصدق وليس بالهزل كم يقف الناس؟ خمسين ألف سنة، أما هو فيقف كما بين صلاة الظهر والعصر، أرأيت الأمر كم هو؟ إنه لحظات، بالأمس كان في الدنيا فمات، ثم نام في القبر، ثم استيقظ، ثم يؤتى إلى الرحمن -إن كان يحاسب- فتعرض عليه أعماله عرضاً عبدي! أتذكر ذنبك؟ أتذكر تلك الليلة وذلك اليوم؟ قبل أن تلتزم كم كنت تفعل وتفعل لا تصلي الصلوات، تذكر يا فلان، لكنه التزم بشرع الله، وغير حياته، وإن عصى الله ستر على نفسه، يقول الله له تلك الكلمات العظيمة: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فإذا بالكتاب يعطى باليمين، ومن شدة الفرح يولي إلى الناس، فيقول: {هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20] كنت متأكداً منه هذا اليوم، كنت أشعر أن هناك يوم قيامة، وكنت مصدقاً وواثقاً به، لهذا كانت آمالي كلها رجاء ذلك اليوم، والخوف من ذلك اليوم أيها الناس اقرءوا كتابيه! ماذا ترون؟ فيرون صلاة الفجر، وقيام الليل، وقراءة القرآن، والتسبيح والتهليل والتحميد والذكر، وطلب العلم، والدعوة إلى الله، وصحبة الصالحين ماذا يرون؟ عمرة وحج وجهاد وأذان وصلاة واستغفار.
اقرءوا كتابيه، إن كانت معصية سترها الله، بل لعل الله عفا عنها ومحاها، {اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20]، إلى أين يذهب؟ الأمر سريع ونراه قريباً، يحشر مع زمرة لعلها كانت معه في الدنيا أو تساويه في الدرجات يوم القيامة {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً} [الزمر:73].
أخي الكريم! لم لا ترجو أن تتوب إلى الله، تخيل نفسك وأنت تمشي إلى الجنة! هل يحتاجون إلى مشي طويل؟ لا، {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء:90] تقترب منهم الجنة فإذا بهم قد انتظروا عند أبوابها، ولها ثمانية أبواب مغلقة، ما بين مصراعيها مسيرة أربعين سنة تخيل عظمها! يخرج منها ريح يوجد من مسيرة كذا وكذا، ويتقدمهم أفضلهم عليه الصلاة والسلام من هو؟ إنه محمد صلى الله عليه وسلم، ذلك الذي كنت طالما أسأل عن سنته وهديه، وأحب أن أقتفي أثره كيف كان يقرأ يصلي يتوضأ كيف كان يعلم الناس؟ كل هديه أسأل عنه، الآن رأيته بعيني يتقدم الناس، فيقدم على حلقة من حلقاتها، فيطرق الباب -والأمر حقيقة فادعُ الله أن تكون منهم- فيقول الملك: من أنت؟ فيقول: (أنا محمد -انظر إلى التواضع- فيقول له الملك: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك، فإذا بالباب يفتح والناس ينظرون).
الله أكبر! هل تظن أنك سوف تتخيل كيف يفتح الباب وماذا يكون داخل الباب؟ مهما تخيلت، مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] كم هو الأمر؟ سريع ولن ندخل في تفاصيل الجنة، ولكن لمحة سريعة.(79/4)
وصف الجنة وحال المؤمن فيها
إن أول زمرة يدخلون الجنة كصورة القمر ليلة البدر، تخيل: كالقمر وما أجمل من القمر! يدخلونها تظن ماذا يرون فيها؟ إذا رأيت إلى صورهم وهم يدخلونها {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس:38 - 39] يدخلون إذا رأيت ماذا ترى {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} [الإنسان:20] أربعة أنهار: نهر من لبن هل تتصور هذا؟ والله الأمر عجيب! أم هل تتخيل نهر من عسل يجري وليس أي عسل؛ إنه عسل مصفى من الذي صفاه؟ تخيل خمر لذة للشاربين! ليس كخمر الدنيا ماء يجري أنهار، قال بعض السلف: لا تجري في أخاديد إنما تجري على أرض الجنة المستوية.
تخيل كيف يجري عليها النهر؟ أرض مستوية ليس فيها أخاديد، قال سبحانه: {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} [الواقعة:31] قال بعضهم: ليس في أخاديد.
هكذا تجري على أرض الجنة، تخيل هذه الأنهار! ما بالك بالأشجار ما في الجنة شجرة إلا ساقها من ذهب، تخيل ولو لحظات! هل تتصور ظلها مائة عام يجري فيه الجواد المضمر مائة عام لا يقطع هذا الظل.
والله إنه ليكفي أن نتخيل هذه النعمة شوقاً إلى الجنة، تخيل القصور! بعضها من ذهب وأخرى من فضة، أتعرف لمن؟ لمن ألان الكلام، وأفشى السلام، وصلى بالليل والناس نيام.
أتعرف لمن؟ لمن تعب وظمأ بالهواجر -في النهار يظمأ وفي الليل يقوم- لمن يقرأ القرآن، لمن يطلب العلم (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجن) نعم! يدخل الحنة لكن بأي طريق؟ بطريق سهل ميسر.
أخي الكريم! أتعرف ماذا في الجنة؟ وإذا دخلت في القصر ماذا ترى فيه؟ حور عين، لو أن واحدة منهن نظرت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بين السماء والأرض.
لو تحمل شيئاً من الجنة بظفرك وأخرجته منها، لتزخرفت خوافق السماوات والأرض، سوار واحد لرجال أهل الجنة -وليس للنساء- إذا خرج من الجنة طمس نور الشمس فالأمر عجيب يا إخوة! {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} [الواقعة:35] من الذي أنشأهن؟ إنه الرحمن الذي أنشأ لك الحور العين!
عبد الله! تتركها لساقطة فاجرة متبرجة يأتيها أيام في الشهر تُنْتِن يأتيها زمن يرق عظمها وجلدها ثم تذهب إلى المقبرة.
عبد الله! كن صادقاً مع نفسك، واتق الله، ولتنظر نفس ماذا قدمت لغد؟
إذا كانت لك الحور العين بتلك الصورة فسوف أصف لك شابة يرى مخ عظامها من وراء اللحم كيف هي لطيفة ورقيقة! إذا كان الجلد واللحم من رقته لا يمنع رؤية العظم داخل الساق كيف هي يا عبد الله؟ لا ترى غيرك في الجنة ولم ترَ قبلك أحد، قاصرات الطرف لا ترى غيرك، كأنهن لؤلؤ مكنون، مغطى من جمالها وحسنها؟ كل أسبوع تزداد حسناً وجمالاً، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
يجتمع أهل الجنة يتذكرون ما كان يحصل لهم في الدنيا، كل أحد يقول: تذكروا عندما كنا نفعل كذا وكذا {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26] تذكرون كان لي صاحب في الدنيا لا أراه الآن سواء في العمل في المدرسة في الشارع في البيت من الأقرباء ليس هو معنا الآن في الجنة أين هو؟ {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات:51] في الجنة يتحدثون كان صاحب يمشي معي في كل مكان؛ لكن ترك يوماً من الأيام والتزم مع الصالحين ماذا قال له؟ {يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} [الصافات:52] كان عندما تبت ورجعت إلى الله، والتزمت مع الصالحين كان يقول لي: أإنك لمن المصدقين، أين تذهب تضيع نفسك شبابك حياتك وتربي اللحية، امشِ نسافر ونذهب السوق، وفلان وفلانة {يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:52 - 53] حتى نموت وحتى يبعثنا الله أياماً طويلة أإنا لمدينون؟
من صدقك أن الله سوف يحاسبنا، ونحن مسلمون والحمد لله، وبعد لحظة وإذا بالنار تكشف لهم وهم جالسون في الجنة، قال تعالى: {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات:54]، يقول لأصحابه في الجنة: ألا ترون؟ {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:55] رأى صاحبه في قعر النار يحترق نار تلظى، نزاعة للشوى، من حرها ينفصل العظم عن اللحم، وتتطاير بشرر كالقصر، يأكل ما يسيل من فروج الزواني؛ بل إذا تشقق الجلد وخرج الصديد تسابق إليه أهل النار ليأكلونه، يأكلون طعاماً ذا غصة وهو ينظر إليه، ابتلع الطعام من شوك تغص بها الحلوق، يريد أن يشرب الماء فيقترب منه ليشرب فعندما يقترب تسقط منه فروة الرأس {إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهًَ} [الكهف:29] يقول لأصحابه: هل أنتم مطلعون؟ {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:55].
والآن تبدأ المحادثة: من في الجنة يحدث من في النار! نعم.
إنها الحقيقة أحدث فلاناً الذي كان طالما يجرك من الهداية، ويمنعك منها، ويصدك عن الصلاة، ويشوه سمعة الصالحين، ويحدثك بالنساء، ويدعوك للزنا وللسفر إلى الحرام، والذي كان طالما يدعوك للحرام، الآن تراه وتحدثه وأنت في الجنة {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات:56] كدت تهلكني معك {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:57] ثم يلتفت إلى من حوله في الجنة، فيقول لهم: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصافات:58 - 60] ثم ختم الله بتلك الآية: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61] لمثل هذا -أخي الكريم- قم لصلاة الفجر افتح كتاب الله واقرأ عندما يقال: الله أكبر فليكن حقاً الله أكبر لمثل هذا أخي الكريم! كف لسانك عن أعراض المسلمين بر بوالديك صل الأرحام اترك الفسقة الفجرة واستبدلهم بالصالحين {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61].(79/5)
العصاة ومصيرهم
الصنف الآخر: من الناس من هو؟
إنه رجل فاجر، طالما ارتكب المنكرات، ووقع في الذنوب، إذا سمع: الله أكبر! صد وولى، يقوم من فراشه يستمع "حي على الصلاة حي على الفلاح" ثم يرجع وينام، لا يريد أن يصلي، إنه لا يعرف الفجر إلا بعد طلوع الشمس نسأل الله العافية، بل ويجعل الساعة بعد طلوع الشمس وقد انتهى وقت الصلاة، إنه أسقط ركناً من أركان الدين عاق لوالديه قاطع للرحم لسانه يسري في أعراض المسلمين يمنة ويسرة لا يتورع عن أحد؛ سواء كان له فضل أو ليس له فضل في الدين رجل لا يعرف إلا النساء والأغاني والمخدرات والدخان والربا والمحرمات والمنكرات لا يعرف المساجد ولا يعرف التوبة إلى الله ولا الرجوع إليه، يأتيه ملك الموت في غفلة ليقبض منه الروح، فأول ما يرى ملك الموت يقول له: من أنت؟ يقول: ملك الموت؟! وهذا المسكين لم يرجع الأمانات إلى الناس، ولم يستسمح من المسلمين، ولم يؤدِ الصلوات، هذا المسكين إلى الآن وهو كل يوم يرتكب المعاصي، ويظن أن الله لا يطلع على ما يعمل الآن جاء ملك الموت؛ وهو لعله يكون أمام التلفاز في سفر إلى الحرام، فإذا بالروح تتمزق وتتفرق في الجسد؛ فإذا بملك الموت ينزعها نزعاً {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً} [النازعات:1] تتوزع الروح في الجسد، فتتقطع العروق والمفاصل، وتخيل أنهم في أول العذاب، يضربون وجوههم وأدبارهم، والملائكة تنظر إليه! ما باله مسود الوجه؟ لماذا يصرخ؟ ماذا حدث له؟ موتة طبيعية ولكنه يصرخ ويبكي! أتعرف من الذي يضرب؟ إنها الملائكة {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال:50] تجر الروح الملائكة كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض.
الله أكبر! طالما كان يتطيب وينظر في المرآة ويجمل وجهه ويسافر ويشتري بأغلى الأثمان ما يطيب ويجمل به وجهه، (إن الله جميل يحب الجمال) لكنه فاجر خبيث القلب والروح، خرجت روحه كأخبث ريح جيفة وجدت على ظهر الأرض، فترفع إلى السماء الدنيا فلا يفتح لها، {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} [الأعراف:40] أعوذ بالله! فإن عرف أن السماء لم تفتح له فليبشر {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40]، وأنى له أن يدخل، تطرح روحه في الأرض طرحاً، يقوم فإذا قرع النعال فوقه، والبعض منهم يقول: اعملوا بالظاهر، فيقولون: كان رجل مسلماً صالحاً وهم لا يعرفوا ما في باطنه، يقول أحدهم بعد أن تاب: لقد نبشت ألف قبر من قبور المسلمين، فوجدتها كلها قد حولت عن القبلة.
كان عثمان رضي الله عنه إذا ذكر له القبر بكي حتى تبتل لحيته، ونحن نتكلم عن القبر وعن صفات وأحوال الميت فما تنزل منا دمعة ما الفرق؟ المظهر واحد اللحى طويلة، والأذن قصيرة، ونطبق السنة الظاهرية -وهذا طيب ولعله من الواجبات- لكن المصيبة كل المصيبة في القلوب، أن قلوبنا تختلف عن قلوبهم.(79/6)
مصير العاصي في قبره
استمع ماذا يحدث للعاصي! ترجع الروح إلى الجسد، فيأتيه ملكان أسودان أزرقان ينتهرانه من ربك؟
ما دينك؟
ما تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟
ثم تعاد الأسئلة مرة أخرى من ربك؟
فيقول: هاه هاه لا أدري، كان يعرف في الدنيا لكنه نسي ما دينك؟
لا أدري، إنه رسوب في الاختبار.
ماذا تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟
فيقول: لا أدري.
فيقول له الملك: ومحمد رسول الله؟
فيقول: كنت أسمع الناس يقولون كلاماً فأقول مثلهم، فيقال له: لا دريت ولا تليت، وانتهى الاختبار؛ فإذا بمرزبة على رأسه لو ضرب بها جبل لهدته، ثم يعود مرة أخرى، فيضرب ضربة ثانية يسمعها كل من حول القبر إلا الجن والإنس، ولو سمعه من حول القبر من الجن والإنس لصعقوا.
لا حول ولا قوة إلا بالله يصيح صيحة، تخيل مطرقة! قال بعضهم: لو حملها أهل منى ما استطاعوا حملها، ثم بعدها يفتح له باب من الجنة، فيقال له: هذا مكانك لو أطعت الله، انظر القصر! الأمر كان سهلاً جداً، خمس صلوات فرضهن الله، خمس في العمل وخمسون في الأجر طاعة الوالدين، صلة رحم، طيب الكلام، عف عن الحرام، حرم الله عليك الزنا وأباح لك الزواج بأربع.
الله أكبر! الحلال كثير والحرام قليل لكنك أبيت، فيغلق عليه باب الجنة ويفتح له باب إلى النار، فيقال: هذا مكانك، قد أبدلك الله به ذلك المكان، فإذ به يرى الشرر يتطاير، والنار السوداء المظلمة يأكل بعضها بعضاً، يرى الحميم والزقوم والغسلين فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه في القبر حتى تختلف أضلاعه، ثم ماذا؟
يأتيه رجل -تخيل- قبيح المنظر، منتن الريح والثياب، فيقول له: من أنت؛ فوجهك الوجه يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، والله ما علمتك إلا سريعاً في معصية الله نعم! كلما اتصل بك أحد تذهب مباشرة إلى المعصية؛ كلما تفتح جريدة ونظرت دعوة إلى المنكر ذهبت إليها سريعاً، بطيئاً إلى طاعة الله إذا دعيت إليها.
الله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله! يطيع الله لكن ببطء، يقوم للصلاة لكنه كسلان، ينفق لكنه كاره، يصلي ويتظاهر بالصلاة أمام الناس، وليس في قلبه حب لله، ولا خوف من الله، ولا رجاء في رحمة الله أبداً، إنما هي مظاهر، بطيء التفاعل في طاعة الله، فإذا به يقول: رب لا تقم الساعة رب لا تقم الساعة رب لا تقم الساعة!(79/7)
خروج العاصي من قبره إلى المحشر
هل ينام؟ هل الوقت عليه قصير؟
لا والله! يجلس مع الذي بجانبه والقبر قد اختلف عليه حتى اختلفت أضلاعه، ويأتيه من حر النار وسمومها إلى قيام الساعة، ثم بعدها إذا بالقبر ينشق، فإذا به يخرج من قبره ماذا يقول؟ {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:52] فيرد عليهم: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:52] وعندما يخرج ماذا يرى؟
الناس يخرجون من قبورهم، فتضع كل ذات حمل حملها، وتذهل كل مرضعة عما أرضعت، والطفل الصغير الذي لم يذنب قط قد شاب شعره ما بالكم بالذي يأتي في الليل، ويغلق على نفسه الباب، ويفعل ما يفعل؟! ما بالكم بالذي لا يصلي الفجر إلا في الشهر مرة أو مرتين!! ما بالكم بالذي يجلس ويغتاب الناس! ما بالكم عباد الله بالذي يعق والديه، تقول له أمه: افعل كذا؟ فيقول: لا أفعل! ما بالكم إذا كان الطفل الصغير يشيب رأسه!
أيها الناس! هلموا إلى ربكم، يقف خمسين ألف سنة قف لحظة وفكر ما معنى خمسين ألف سنة؟ كم سنة مضت حتى الآن؟ عشرين ثلاثين، اسأل من عمره سبعين أو ثمانين سنة؟ ماذا يقول مع أنه ينام ويتنعم ويشعر ببعض النعيم، ولكنه يقول: مللت من الدنيا! فما بالك بمن يقف على رجليه خمسين ألف سنة {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] لو كان تحت الظل لهان الأمر، لكن تخيل! الشمس تدنو بمقدار ميل، والعرق يتصبب على قدر الذنوب، في ذلك اليوم تبدأ الحسرات، بعضهم يبكي فيقول: {يَا حَسْرَتَى عَلَى