أين المفر
إن الموت حقيقة لا مفر منها، وباب لابد من ولوجه لكل من هو على هذه الأرض، سواءً كان ذكراً أو أنثى، أو غني أو فقير أو شقي أو سعيد، وهو حقيقة ما بعدها أشد منها، حيث ينقسم الناس إلى قسمين: شقي وسعيد.
فالواجب على العاقل أن يحاسب نفسه قبل أن تحل به سكرات الموت، فعندها لا ينفع الندم ولا البكاء.(1/1)
حقيقة الموت
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
اتقوا الله عباد الله: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281] يوم يُنفخ في الصُّور، ويُبعث مَن في القبور، ويظهر المستور، يوم تُبْلى السرائر، وتُكْشَف الضَّمائر، ويتميز البَرُّ من الفاجر.
ثم اعلموا أن هناك حقيقة وأي حقيقة، حقيقة طالما غفل عنها الإنسان، ولحظة حاسمة، ومصير ومآل.
إنها لحظة (ملاقيكم) إلى أين من هذه اللحظة المَهْرَب؟! وإلى أين منها المفر؟! إلى الأمام مُلاقيكم، إلى اليمين والشمال مُلاقيكم، إلى أعلى إلى أسفل مُلاقيكم، إلى الوراء مُلاقيكم.
لا تمنع منه جنود، ولا يُتَحصَّن منه في حصون، مدرككم أينما كنتم!
إنه واعظ لا ينطق، واعظ صامت، يأخذ الغني والفقير، والصحيح والسَّقيم، والشريف والوضيع، والمُقر والجَاحِد، والزَّاهد والعابث، والصغير والكبير، والذكر والأنثى، كل نفس ستذوقه، شاءت أم أَبَتْ.
لعلكم عرفتموه، لا أظن أحدًا يجهله، أما حقيقته فالكل يجهلها؛ إنه الموت: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].
الموت، ما الموت؟ أمر كُبَّار، وكأس يُدار، فيمن أقام وسار، يخرج بصاحبه إلى جنة أو إلى النار، ما زال لأهل اللذات مكدِّرًا، ولأصحاب العقول مُغَيِّرًا ومحيِّرًا، ولأرباب القلوب عن الرغبة فيما سوى الله زاجراً.
كيف ووراءه قبر وحساب، وسؤال وجواب، ومن بعده يوم تُدهش فيه الألباب فيعدم الجواب؟!
السَّكرات، ما أدراكم ما السكرات! عانى منها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يقول: {لا إله إلا الله! إن للموت لسكرات} اللَّهم هوِّن علينا سكرات الموت" سكرات وأي سكرات!
يقول العلماء: كل سكرة منها أشد من ألف ضربة بالسيف.
ملك الموت، ما ملك الموت؟! الدنيا بين يديْه كالمائدة بين يديْ الرجل، يمد يده إلى ما شاء منها؛ بأمر الله فيأكله، وإنَّ له لأعوانًا ما يعلم عددهم إلا الله، ليس منهم ملك إلا لو أذن الله له أن يلتقم السماوات السبع، والأرضين في لقمة واحدة لفعل.
فلا إله إلا الله! من لحظة حاسمة لو لم تُعتقل الألسنة وتُخدر الأجسام وقت الاحتضار لما مات أحد إلا في شعب الجبال أَلَمًا! ولَصَاح الميِّت من شدة ما يعاني حتى تندكَّ عليه جدران الغرفة التي هو فيها، ولما استطاع أن يحضر ميتاً أحدٌ.
فنسأل الله العافية والسلامة، وأن يهوِّن علينا السكرات!
روي عن الحسن أنه قال: رُئِيَ أحد الصالحين بعد موته، فقيل له: كيف وجدت طعم الموت؟ قال: أوَّاهُ أوَّاهُ! وجدته -والله- شديداً، والذي لا إله إلا هو! لهو أشد من الطَّبخ في القُّدُور، والقطع بالمناشير، أقبل ملك الموت نحوي حتى استلَّ الروح من كل عضوٍ منِّي، فلو أني طُبِخْت في القُدُور سبعين مرة لكان أهون عليَّ.
كفى بالموت طامة، وما بعد الموت أطَمُّ وأعظَمُّ!
رئي آخر بعد موته في المنام، فُيقال له: كيف وجدت نفسك ساعة الاحتضار؟ قال: كعصفور في مقلاة، لا يموت فيستريح، ولا ينجو فيطير.
فالله المستعان على تلك اللحظات، اللهم هوِّن علينا السكرات، واجعلها لنا كفَّارات، وآخر المعاناة، وهي كذلك -بإذن الله -للمؤمنين والمؤمنات، ولغيرهم بداية المعاناة.(1/2)
السعداء وحسن الخاتمة
عباد الله: وفي تلك اللحظات الحَرِجَة ينقسم الناس إلى فريقين؛ شقي وسعيد، فريق السعداء حالهم: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32].
هاهي أسماء بنت عميس رضي الله عنها تقول -كما رُوِيَ عنها- إنَّا لعند علي رضيَ الله عنه وأرضاه بعدما ضربه ابن ملجم -عليه من الله ما يستحق- إذ بـ علي يشهق شهقة فيغمى عليه، ثم يفيق وهو يقول: مرحبًا مرحبًا! الحمد لله الذي صدقنا وعده، وأورثنا الجنة.
الحمد لله الذي أذهب عنا الحَزَن، لمثل هذا فليعمل العاملون، وليتنافس المتنافسون.
فيا لها من موعظة ومصير، لو وافقت من القلوب حياة! مَنْ ظفر بثواب الله فكأنه لم يُصب في دنياه.
كأنك لم توتر من الدهر مرة إذا أنت أدركت الذي أنت طالبه
واسمع معي أخرى لـ سعيد بن جبير رضي الله عنه يوم يروي لنا قصة صحيحة متواترة -كما قال الذهبي في سيره --فيقول: لما مات ابن عباس رضي الله عنهما بـ الطائف، جاء طائر لم يُرَ على خِلقته مثله، فدخل نعشه، ثم لم يخرج منه، فلما دُفِن إذا على شفير القبر تالٍ يتلو لا يُرى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
فيا لها من خاتمة! ويا له من مصير! والخير في الأمة يستمر، ولن تَعْدَم الأمة خَيِّر.
فاسمع ثالثة إلى هذا الحدث الذي ذكره صاحب كتاب: يا ليت قومي يعلمون قال: حدثني أحد الصالحين قائلاً: كان هناك رجل صالح من أهل الطائف، كان عابدًا فاضلاً نزل مع بعض أصحابه إلى مكة مُحْرِمًا، ودخلوا الحرم بعد أن انتهت صلاة العشاء، فتقدم ليصلي بهم وهو مُحْرِم في الحرم، قد خرج لله عز وجل كما يُحسب.
قرأ سورة الضحى، فلما بلغ قول الله عز وجل: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى:4] شهق وبكى وأبكى، فلمَّا قرأ: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5] تَرَنَّح قليلاً، ثم سقط ميِّتًا، فعليه رحمة الله؛ ليبعث يوم القيامة بإذن الله مصلياً؛ ومن مات على شيء بعث عليه كما ورد عن المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وآخر يقضي حياته مؤذنًا يهتف بالتوحيد كل يوم وليلة خمس مرات، ويؤذِّن يومًا من الأيام، ثم يشرع ليقيم الصلاة، ولما انتصف في إقامة الصلاة سقط ميتاُ، فعليه رحمة الله.
سنوات يؤذن، ثم يجيب داعيَ الله مؤذنًا، ليبعث يوم القيامة من أطول الناس أعناقًا فرحمة الله عليه.
يا لها من خواتم طيبة! ملائكة بيض الوجوه، يتقدمهم ملك الموت، يخاطب تلك الأرواح الطَّيبة: أيتها النفس الطيبة! اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، ورب راضٍ غير غضبان، فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فَمِ السِّقَاء، وتفتح لها أبواب السماء، وتُحمل الجنازة على الأكتاف وهي تصيح، وتقول: قدِّموني قدِّموني، تُسأل فتجيب وتُثبَّت، فيفرش لها من الجنة، ويُفتح لها باب إلى الجنة، قد استراحت من تعب هذه الدار، وإلى راحة أبدية في دار القرار.(1/3)
الأشقياء وسوء الخاتمة
وفريق آخر في تلك الساعة يشقى، حسب أن الحياة عبث ولهو ولعب، وإذا به يعاني أول المعاناة، نزلت عليه ملائكة سُود الوجوه يقدمهم ملك الموت -نعوذ بالله من خاتمة السوء، وساعة السوء- يقول: أيتها النَّفس الخبيثة! اخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتنزع نزعًا بعد أن تفرق في الجسد، ثم ترفع فلا تُفتح لها أبواب السماء، تُحمل الجنازة على الأكتاف وهي تصيح: يا ويلها، أين تذهبون بها؟! ثم تُسأل فلا تجيب فُيفرش لها من النار، ويُفتح لها باب إلى النار، فنعوذ بالله من النار، ومن سوء الختام، وغضب الجبَّار.
ذَكَرَ صاحب: قصص السعداء والأشقياء أنه وقع حادث في مدينة الرياض على إحدى الطرق السريعة لثلاثة من الشباب، كانوا يستقلُّون سيارة واحدة، توفيَ اثنان منهم في الحال، وبقيَ الثالث في آخر رَمَقٍ يقول له رجل المرور الذي حضر الحادث: قل (لا إله إلا الله) فأخذ يحكي عن نفسه ويقول: أنا في سَقَر، أنا في سقر، أنا في سقر، حتى مات على ذلك، فلا إله إلا الله! رجل المرور يسأل ويقول: ما هي سقر؟ فوجد الجواب في كتاب الله عز وجل: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42 - 43] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} [المدثر:27 - 29] نسأل الله العافية والسَّلامة.
عباد الله: فريقان لا ثالث؛ شقي وسعيد، فريق في الجنة، وفريق في السعير، فريق استراح، وفريق استراح منه العباد والبلاد، ومضى إلى جنهم وبئس المهاد.
ألا ترون؟! ألا تتفكرون؟! ألا تنظرون؟! تشيعون كل يوم غاديًا إلى الله، قد قضى نحبه، وانقضى أجله حتى تغيبوه في صدع من الأرض.
خُلع الأسباب، وترك الأحباب، وسكن التراب، وواجه الحساب، انتهى أمله وأجله، تبعه أهله وماله وعمله، فرجع الأهل والمال، وبقي العمل.
فارق الأحبَّة والجيران، هجره الأصحاب والخلاَّن، ما كأنه فرح يومًا، ولا ضحك، ولا أَنِسَ يومًا ما، ارتُهن بعمله فصار فقيرًا إلى ما قدم غنيًا عما ترك.
جمعوا فما أكلوا الذي جمعوا وبنوا مساكنهم وما سكنوا
فكأنهم كانوا بها ظُعنًا لمَّا استراحوا ساعة ظَعَنُوا(1/4)
تذكر الموت وسكراته
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بالأموات.
يقول عوف بن مالك: {صلَّى بنَا رسول الله على جنازة رجل من الأنصار، يقول: فتخطيت الصفوف حتى اقتربت منه، فسمعته يبكي ويقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، وعافه، واعف عنه، وأكرم نُزُلَه، ووسِّع مُدَخَلَه، واغسله بالماء والثلج والبَرَد، يقول عوف: والذي لا إله إلا هو! لوددت أني أنا الميت من حسن دعائه صلى الله عليه وسلم له}.
ومن رحمته بالأموات صلى الله عليه وسلم: أنه كان يذهب في الليل ليقف على مقبرة البقيع، فيدعو لهم طويلاً، ويترحم عليهم طويلاً.
صلوات الله وسلامه عليه فما أرسله الله إلا رحمة للعالمين.
وأصحابه كذلك؛ ابن عمر كان إذا قرأ قول الله: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54] بكى وأبكى ودعا للأموات، وقال: [[اللهم لا تَحُلْ بيني وبين ما أشتهي، قالوا: ما تشتهي؟ قال: أن أقول: لا إله إلا الله]] فلا إله إلا الله! ما من ميت إلا ويودُّ أن يسجَّل في صحيفته (لا إله إلا الله) ولكن هيهات! حيل بينهم وبينها، وبقيَ الجزاء والحساب، فرحم الله امرأً قدَّم من الصَّالحات لتلك الحُفَر، ورحم الله امرأ حاسب نفسه قبل ذاك اللحد الذي لا أنيس فيه، ولا صاحب إلا العمل، وكفى بالموت واعظًا!
عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول لجُلاسه يومًا ما: أرقت البارحة فلم أنمْ حتَّى الفجر، قالوا: ما أسهرك؟ قال: لمَّا أويت إلى فراشي، ووضعت عليَّ لحافي، تذكرت القبر، وتذكرت الميت بعد ليالٍ تمر عليه حينما تركه أهله وأحبَّته وخلاَّنه، تغيَّر رِيحُه، وتمزَّق كفنه، وسرى الدُّودُ على خدوده، فليتك ترى تلك الرائحة المنتنة، وترى تلك الأكفان الممزَّقة، إذًا لرأيت أمرًا مهولاً، ثم انفجر يبكي، ويقول: لا إله إلا الله! حاله:
والله لو قيل لي تأتي بفاحشةٍ وإنَّ عقباك دنيانا وما فيها
لقلت لا والذي أخشى عقوبته ولا بأضعافها ما كنت آتيها
تجهَّزي بجهاز تبلغين به يا نفس قبل الرَّدى لم تُخلقي عبثًا
كفى بالموت واعظًا لمن كان له قلب، أو ألقى السَّمع.
يمرُّ عمرو بن العاص رضيَ الله عنه بمقبرة فيبكي، ثم يرجع فيتوضأ ويصلي ركعتين، فيقول أصحابه: [[لِمَ فعلتَ ذلك؟ قال: تذكرت قول الله: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54] وأنا أشتهي الصلاة قبل أن يُحال بيني وبينها]].
عمرو الذي حضرته الوفاة فبكى، فقال ابنه: [[يا أبتاه! صف لنا الموت، قال: يا بني! الموت أعظم من أن يوصف، لكأنَّ على كتفي جبل رضوى، وكأن في جوفي شوكة عوسج، وكأن روحي تخرج من ثقب إبرة، وكأن السَّماء أُطْبِقَت على الأرض وأنا بينهما، ثم حوَّل وجهه إلى الحائط ويبكي بكاءً مراً مريرًا، فيقول ابنه محسنًا ظنه: أنت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أَمَا فتحت مصر؟ أما جاهدت في سبيل الله؟ فيقول: يا بني لقد عشت مراحل ثلاثاً؛ لقد كنت أحرص الناس على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيا ويلتاه لو متُّ في ذلك الوقت، ثم هداني الله فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبَّ النَّاس إليّ، والله ما كنت أستطيع أملأ عيني من وجهه حياء منه، والله لو سألتموني أن أصفه الآن ما استطعت، والله ما كنت أملأ عيني منه إجلالاً له، فيا ليتني مِتُّ في ذلك الوقت؛ لأنال دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وصلاته عليّ.
يقول: ثم تخلفت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلَعِبَت بنا الدنيا ظهرًا لبطن، فما أدري أيؤمر بي إلى الجنة أو النار، لكن عندي كلمة أحاجُّ لنفسي بها عند الله؛ هي: لا إله إلا الله، محمد رسول الله]] ثم قُبض على لا إله إلا الله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
كفى بالموت واعظًا!
يقول ابن عوف: [[خرجت مع عمر رضي الله عنه إلى المقبرة، فلما وقفنا عليها ارتعد واختلس يده من يدي، ثم وضع نفسه على الأرض وبكى بكاءً طويلاً، فقلت: ما بك؟ قال: يا بن عوف! ثكلتك أمك، أنسيت هذه الحفرة؟]] حاله يقول: لمثل هذا فأعدّ
اشدد حيازيمك للموت فإن الموت لا فيكا
ولا تجزع من الموت إذا حل بواديكا
كفى بالموت واعظاً، وبسِيَر الصالحين عنده عبراً!
تُحلُّ السَّكرات بـ محمد بن أسلم وتصيبه رعدة، يقول خادمه: كان يصيح ويقول: مالي وللناس، والذي لا إله إلا هو! لو استطعت أن أتطوع لله وحدي حيث لا يراني مَلَكَايَ لفعلت؛ خوفًا من الرياء، ولكن لا أستطيع.
كان يدخل بيته ومعه كوز ماء، فيغلق بابه فيقرأ القرآن، ويبكي، وينشج، فيسمعه ابنٌ له صغير، فيقلِّده في البكاء، فإذا خرج من بيته غسل وجهه واكتحل؛ لئلا يُرى أثر البكاء عليه، يقول خادمه: دخلت عليه قبل موته بأربعة أيام، فقال: أبشر؛ فقد نزل بي الموت، وقد منَّ الله عليَّ أن ليس عندي درهم يحاسبني الله عليه، فقد علم ضعفي، فإني -والله- لا أطيق الحساب، فلم يدع عندي شيئًا يحاسبني الله عليه فله الحمد، ثم قال لخادمه: أغلق عليَّ الباب، ولا تأذن لأحد عليَّ حتى أموت، واعلم أني أخرج من الدنيا ليس عندي ميراث غير كسائي وإنائي الذي أتوضأ فيه، فغَطُّوا عليَّ بكسائي، وتصدقوا بإنائي على مسكين يتوضأ فيه، ثم لفظ روحه في اليوم الرابع ليلقى الله ليس معه من الدنيا شيء، فرحمه الله رحمة واسعة.
خذ القناعة من دنياك وارض بها لو لم يكن لك فيها إلا راحة البدن
وانظر إلى من حوى الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير الحِنْطِ والكفن
كفى بالموت واعظاً!
فوالله! لو كان الأمر سينتهي بالموت لكان هيِّناً سهلاً، لكنه مع شدَّتِه وهَولِه أهون مما يليه، والقبر مع ظلمته أهون مما يليه، كل ذلك هينٌ إذا قُورِنَ بالوقوف بين يديْ الله الكبير المتعال.
تلفَّت المرء يميناً فلم ير إلا ما قَّدم، وشمالاً فلم ير إلا ما قدَّم، ونظر تلقاء وجهه فلم ير إلا النار.
فيا له من موقف! ويا لها من خطوب! تذهل المرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد!
يبلغ العرق أن يُلجم الناس إلجامًا، والشمس تدنو منهم قدر ميل، فيا لها من أحداث! مجرد تصورها يخلع ويذيب القلوب!
يوم القيامة لو علمت بهوله لفررت من أهلٍ ومن أوطانِ
روي عن الحسن: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رأسه ذات يوم في حجر عائشة فنعس، فتذكرت الآخرةَ عائشة رضيَ الله عنها فسالت دموعها على خد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستيقظ بدموعها، ورفع رأسه، وقال: ما يبكيك؟ قالت: يا رسول الله! ذكرت الآخرة، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ قال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! في ثلاثة مواطن فإن أحدًا لا يذكر إلا نفسه؛ إذا وضعت الموازين حتى ينظر ابن آدم أيخفُّ ميزانه أم يثقل.
وعند الصحف حتى ينظر أبيمينه يأخذ أم بشماله.
وعند الصراط -نعم عند الصراط- أيمرُّ أم يكردس على وجهه في جهنم}.
يؤتى بابن آدم حتى يُوقف بين كفَّتيْ الميزان، فتصور نفسك -يا عبد الله- وأنت واقف بين الخلائق، إذ نوديَ باسمك: هلمَّ إلى العرض على الله الكبير المتعال.
قمت ولم يقم غيرك، ترتعد فرائصك، تضطرب رجلاك وجميع جوارحك، قلبك لدى حنجرتك، خوف، وذل، وانهيار أعصاب:
شبابك فيما أبليته؟
عمرك فيما أفنيته؟
مالك من أين اكتسبته وفيما أنفقته؟
علمك ماذا عملت به؟
هذه الأسئلة فما الإجابة؟
كم من كبيرة نسيتها قد أثبتها عليك المَلَك؟
كم من بلية أحدثتها؟
كم من سريرة كتمتها ظهرت وبَدَتْ أمام عينيك؟
أَعْظِم به من موقف! وأعظم به من سائل لا تخفى عليه خافية! وأعظم به من حياء يُداخلك، وغمٍّ، وحزن، وأسف شديد!
فإما أن يقول الله: يا عبدي! أنا سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم؛ فيا لسرورك! وهدأة بالك، واطمئنان قلبك، والمنادي ينادي: سعد فلان بن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدًا.
وإما أن يقول الله- عافاك الله وسلمك-: خذوه فغلُّوه، ثم الجحيم صلُّوه، فيُذهب بك إلى جهنم، مسوَّد الوجه، كتابك في شمالك، ومن وراء ظهرك، قد غُلَّت ناصيتك إلى قدمك، أي خزي وأي عار؟! على رءوس الخلائق ينادى: شقيَ فلان بن فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدًا.
عباد الله: الأمر خطير جد خطير؛ إبليس قد قطع العهد على نفسه ليغوينكم أجمعين، فقال: وعزتك وجلالك يا رب! لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، والله برحمته ومَنِّه يقول: وعزَّتي وجلالي! لا أزال أغفر لهم ما استغفروني.
فالبدار البدار، والتوبة التوبة، والاستغفار الاستغفار، لا يهلك إلا هالك، ولا يشقى إلا شقي، أكثروا من ذكر هادم اللذات، زوروا المقابر؛ فإنها تذكركم الآخرة، احضروا المحتضرين معتبرين، اصدقوا الله يصدقكم، احفظوه يحفظكم، عاملوا الله فلن تخيبوا: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
نفعني الله وإياكم بالقرآن، وبسنة سيد الأنام عليه الصلاة والسلام وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين.(1/5)
التفكر فيمن مضوا والأمر بالتوبة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عباد الله: اتقوا الله، واعلموا أن الآمال تُطوى، والأعمار تفنى، والأبدان تحت التراب تبلى.
والليل والنهار يقرِّبان كل بعيد، ويبليان كل جديد.
وفي ذلك -والله- ما يلهي عن الشهوات، ويسلي عن اللذات، ويرغِّب في الباقيات الصالحات.
التفتوا، وانظروا، وتدبروا، وتأملوا، وتملُّوا بعيون قلوبكم:
أين من كان حولكم من ذوي البأس والخطر
سائلوا عنهم الديار واستبحثوا الخبر
سبقونا إلى الرحيل وإنا على الأثر
كان عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية خِلاًّ لـ عبد الملك بن مروان، فلمَّا مات عبد الملك ودُفِن، وتفرَّق الناس عن قبره، وقف عليه عبد الرحمن بن يزيد قائلاً: أنت عبد الملك، أنت من كنت تعدني خيرًا فأرجوك، وتتوعدني فأخافك، الآن تصبح وتمسي وليس معك من مُلكك غير ثوبك، وليس لك من ملكك سوى تراب أربعة أذرع في ذراعين، إنه لملك هيِّن حقيرٌ وضيعٌ، أفٍ ثم أفٍ لدنيا لا يدوم نعيمها، ثم رجع إلى أهله، فاجتهد وجدَّ في العبادة، وعلم أنها الباقية، حتى صار كأنه شنٌ بالٍ من كثرة ما أجهد نفسه في العبادة، فدخل عليه بعض أهله يعاتبه؛ لأنه أضر بنفسه، فقال للذي يعاتبه: أسألك عن شيء فهل تصدقني فيه؟ قال: نعم.
قال: نشدتك الله! عن حالتك التي أنت عليها أترضاها حين يأتيك ملك الموت؟ قال: اللهم لا.
قال: نشدتك الله! أعزمت على انتقال منها إلى غيرها؟ قال: اللهم لم أشاور عقلي بعد.
قال: نشدتك الله أفتأمن أن يأتيك ملك الموت على حالك التي أنت عليها؟ قال: اللهم لا آمن.
قال: حال ما أقام عليها عاقل، وما يقيم عليها ذو قلب ولبّ، إنَّ الطائر إذا علم أن الأنثى قد حملت البيض أخذ ينقل العيدان لبناء العش قبل الوضع، أفتراك ما علمت قرب رحيلك إلى القبر الذي ستنفرد فيه وحدك، ويُسَدُ عليك فيه بالطين وحدك؟ ألا عملت لك فراشًا من تقوى الله، فمن عمل صالحًا فلأنفسهم يمهدون.
فلا يومك الماضي عليك بعائدِ ولا يومك الآتي به أنت واثقُ
فاستعد وأعدَّ.
يا شابًا عكف على القرآن! مسجده ومصلاه، والسنة مظهره ومخبره سل الله الثبات.
وازدد من الحسنات، واجعل الآخرة همَّك يجعل الله غناك في قلبك، ويجمع لك شملك، وتأتيك الدنيا راغمة.
فجُد وسارع واغتنم زمن الصبا.
ويا شابًا هجر القرآن! وأعطى نفسه هواها فدسَّاها؛ لتقفن موقفًا ينسى الخليل به الخليل، وليركبن عليك من الثرى ثقل ثقيل، ولتسألن عن النَّقِير والقِطْمِير، والصغير والكبير.
فعُد فالعود أحْمَدُ قبل أن تقول: رب ارجعون، فلا رجوع.
ذهب العمر وفات يا أسير الشهوات ومضى وقتك في لهو وسهو وسُبات
يا شيخاً اقترب من القبر! عرف أنه منه على قاب قوسين أو أدنى، فأكثر من الاستغفار، وحبس لسانه عن الزُّور، ورعى رعيَّته كما ينبغي، وعرف قدر يومه وليلته، بشراك بشراك، ضاعف العمل؛ فإنَّ الخيل إذا وصلت إلى آخر السباق قدَّمت كل ما لديها من قوة لتفوز بالجائزة.
ويا شيخاً نسى الله في شيخوخته بعد شبابه! فارتكب الجرائم، وقارف الكبائر، ووقف على عتبة الموت.
أين الهوى والشهوات؟ ذهبت، وبقيت التَّبِعات، تتمنى بعد يُبس العُود العَوْد وهيهات!
يا من شَاب رأسه! فما استحيا من الله.
يا مَنْ شَاب رأسه! فانتهك حدود الله، وأعرض عن منهج الله، تُبْ إلى الله قبل أن تكون ممَّن لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكِّيهم، ولهم عذاب أليم.
إلى من ضيَّع الصلاة، واتَّبع الشهوات، إلى المنافقين والزناة، إلى الظلمة والبغاة، إلى من طغى وآثر الحياة الدُّنيا، إلى المُغْتابين والنَّمَّامين والحاسدين وأكلة الربا، إلى من ألهاهم التكاثر فنسوا بعثرة المقابر، وتحصيل ما في السرائر، إلى من أضنى عينيه بمشاهدة المسلسلات، واستقبال القاذورات.
إلى من طربت أذنه باستماع الأغنيات، إلى من شغلته أمواله المحرمة والشركات، إلى من أعمى الهوى بصره، وأصمَّ سمعه فكان حيًّا وهو في عداد الأموات، إلى الراشين والمُرْتشين وأهل السُّكْر والمخدَّرات، إلى المُسبل والمنَّان والمنفِق سلعته بالحَلِف الكاذب، إلى الكاسيات العاريات، إلى العصاة جميعاً:
من الموت والقبر والحساب أين المفر؟!
{كَلَّا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} [القيامة:11 - 12] {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205 - 207].
عباد الله: آن الأوان أن نُعْلِنَها توبة إلى الله باللِّسان والجَنَان.(1/6)
حاجتنا إلى التمسك بالعقيدة
إن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الأمة أمة عقيدة، روابطها بالله وثيقة، وأملها في الله شديد، لا تلتفت إلى غيره مهما اشتدت الأزمات والكربات، ومهما تكالب أعداء الله عليها؛ وكان ذلك بسبب اتباعها لدين ربها عز وجل.(2/1)
أهمية التوكل على الله في الشدائد
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله مدبر الملك والملكوت، المنفرد بالعزة والجبروت بيده مقاليد السماوات والأرض ومصايير الخلق أجمعين: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام:102] أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اتقى الله فوقاه، وتوكل عليه فكفاه، واعتمد عليه فأيده بنصره وآواه، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين توكلوا على مدبر أمرهم ومالك ناصيتهم، فأحاطهم بعونه في الحياة ونعيمه بعد الممات، أولئك هم المفلحون.
عباد الله! إن من الإيمان تفويض الأمر لله والاعتماد عليه في شئون الحياة، واستمداد العون منه في الشدة والرخاء، والاعتقاد بأنه الإله المدبر للملك الفعال لما يشاء، بيده وحده العطاء والمنة، والهزيمة والنصر، والتقدم والتأخر لا إله إلا هو،، التوكل على الله زاد المؤمنين يثبتهم عند الفزع، ويدفعهم إلى الإقدام، ويملأ قلوبهم بالعزة عند السؤال، المؤمن الحق يجد في التوكل على الله راحة نفسية وطمأنينة قلبيه، فإذا أصابه خير علم أنه هو الله المدبر الذي ساقه إليه، فحمده وشكره فكان خيراً له، وإن أصابته شدة أيقن أن الله هو الذي أصابه بها اختباراً له وابتلاءً، فصبر واسترجع فكان خيراً له {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:51].
أرشد الله المؤمنين إلى التوكل عليه، ووصل قلوبهم به إذا سعوا لاستدفاع ضر أو لتحقيق مطلب، حتى تكون يد الله فوق أيديهم، وعنايته فوق تصرفهم {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق:3].
أقول هذا الكلام في وقت أصبح الناس فيه حيارى فجعين هلعين قلقين، همهم الأعظم جمع الغذاء، وسماع الأخبار من إذاعات مرجفة كاذبة خاطئة، عنوان إرجافها: جاءنا للتو حتى آذت مسامعنا بهذه الكلمات، أقول هذا والبشر قد وقتوا اليوم الخامس عشر من يناير يوماً محتملاً لقيام حرب في هذه المنطقة لا تبقي ولا تذر، ونسوا رب البشر، نسوا من بيده مقاليد السماوات والأرض، وصدق السذج، وأيقنوا بذلك بل تعلقوا بقوى مادية لا تغني عنهم من الله شيئاً، نسوا من بيده مقاليد الأمور وهو على كل شيء وكيل.
لكن أقول للكل مخصصاً كل عبد من عباد الله: والله إن تخلى الله عن عبد فلن تغني عنه قوته، ولا استعداده، ولا ذكاؤه، ولا ماله، ولا جاهه، ولا غذاؤه، ولا جميع قوى الدنيا وإن وقفت معه، لكن المؤمنون في أشد الساعات يوم تشتد الأهوال، يوم يحجب الأمر، يوم تكفهر الأجواء وتنقطع الأسباب، لا يلتمسون إلا عون الله وفضله، لا يطلبون إلا رعاية الله ومدده، وسرعان ما تزول عنهم الشدائد وتفرج عنهم الكربات، أفلا نكون من هؤلاء المؤمنين {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174] هذا الزاد كان عماد الأنبياء في جهادهم مع أعداء الله، كان قولهم عندما يتألب الخصوم وتتألب الأعداء {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم:12].
يا مسلمون! الله حذر العباد من الاعتماد على غيره، ليعيش المسلم عزيز النفس، مرفوع الرأس، عالي الهمة، لسان حاله ومقاله يقول: ما سوى الله عبد مسخر لا ينبغي الاعتماد عليه {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف:194].
في خضم الفتن يدعونا ديننا إلى الاعتزاز بالله والثقة فيه والاعتماد عليه وصدق اللجوء إليه، لا تواكل، ولا تكاسل ولا اعتماد بل عمل بإخلاص وثقة بالله {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [العنكبوت:58 - 59].
المسلمون الأوائل توكلوا على الله وتعلقوا بالله، خاضوا ميادين الجهاد فانتصروا، كانت لهم السيادة والريادة، رائدهم وقائدهم محمد صلى الله عليه وسلم ما دعاهم إلى عدة بغذاء، وما دعاهم إلى سماع الأخبار، لكن دعاهم إلى الاستعداد بجميع القوى المادية والمعنوية، وأعظم قوة مكن الله لمحمد صلى الله عليه وسلم بها هي قوة (لا إله إلا الله) التي من أجلها أرسل صلى الله عليه وسلم، هي أعظم قوة في ذلك الوقت، وهي أعظم قوة في كل زمان ومكان.
وشعبٌ بغير عقيدةٍ ورق تذريه الرياح(2/2)
أهمية العقيدة في الحياة وقيمتها
إننا أمة عقيدة متى ما تمسكت بعقيدتها خافها أعداؤها، إننا أمة عقيدة يهابها الكفر وأهله وأعوانه مهما كان عندهم من عتاد وعدة، إننا أمة عقيدة متى ما تمسكت بها ثبتت عند الشدائد والمحن، إننا أمة لطالما قلنا إننا أمة عقيدة، فإن عقيدتها في خضم الأحداث الجارية، في خضم الفتن التي ما تأتي فتنة إلا وأختها ترققها وتحدوها من بعدها.
ماذا أقول ومن سيفقه قولتي وإذا صرخت فمن سيسمع صرختي
إنها هذه الفتنة المحدقة بنا أعطتنا إفرازات معينة تقول: إننا أمة تحتاج إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة، إنها هذه الفتنة أعطتنا: أنه يجب أن نرجع إلى الكتاب والسنة ونبحث عنها أكثر من بحثنا عن الطعام والشراب والهواء، إنها أعطتنا إن لم نرجع بصدق؛ فإن الفتن كعقد قطع سلكه فتتابع، فتن بعضها يحدو بعضاً، ومحمد صلى الله عليه وسلم تركنا على المحجة البيضاء، ولما أحدقت بنا الفتن تخبطنا يمنة ويسرة ونسينا قول المصطفى: {تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي} ترك الله لنا هذا النور، من استضاء به في الظلمات كان مهدياً منصوراً، وكثير منا تنكبه ونسيه وتعلق بغيره فهو في الظلمات ليس بخارج منها.
عقيدتنا تأمرنا أن نرتبط برب يقول للشيء: كن فيكون، وارتبط الناس بكل شيء إلا بمن يقول للشيء: كن فيكون، عقيدتنا تأمرنا أن نفتش عن أسباب الفتن وسبب تسلط الأشرار من الأعداء، فكم هم الذين ارتبطوا بذلك مع هذه الأحداث؟!
كم هم الذين انطلقوا إلى المسجد ليواظبوا على صلاة الفجر ويقوموا الليل، لما أحدقت الخطوب الآن، ورأوا أن الموت وشرر الحرب يتقد يمنة ويسرة؟!
كم هم الذين صاحوا بأعلى صوتهم، وقالوا: لا مخرج لنا مما نحن فيه إلا بعودة صادقة إلى الله؟!
كم هم الذين نادوا بالتناصح والقضاء على المنكرات التي قلما نتجه إلى جهة إلا ونجد فيها منكراً فظيعاً؟!
كم هم الذين صاحوا بأعلى صوتهم، وقالوا: إن سفينة الحياة تخرب، فهيا لإنقاذها قبل غرق الجميع؟! إنهم والله قلة، لكن يرحم الله البلاد بمصلحيها ودعاتها {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117].
عقيدتنا تقول: الولاء والمحبة والنصرة لأولياء الله لا من أجل عروبة، ولا لقومية، ولا لقرابة، ولا لقبيلة، ولا لجيرة، ولكن نوالي من قال: لا إله إلا الله بصدق ويقين وإخلاص، أما تلك فأعراف ألقاها الإسلام، داسها بقدميه وبعضنا لا زال ينادي بها، محمد صلى الله عليه وسلم يقول: {أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله} إن أحببنا فلله، وإن أبغضنا فلله، وإن والينا فلله، وإن عادينا فلله.
عقيدتنا تقول: آن الأوان لترك اللهو والطرب والمزامير والعبث، وآن الأوان لشد المئزر وحمل المدفع لا لتراب، ولا لعروبة، ولكن لرفع لا إله إلا الله.
عقيدتنا تقول: انطلقوا للدفاع عن راية التوحيد حتى لا يعبد في الأرض سوى الله، وما ذلك على الله بعزيز.
عقيدتنا تقول: لسنا بحاجة إلى قوة عسكرية فقط، بل حاجتنا والله إلى القوة المعنوية أعظم وأشد، ألا وهي قوة التوكل على الله، قوة العقيدة التي إن وجدت ينصرنا رب السماوات والأرض.
عقيدتنا تقول: وآأسفاه على أمتي! وآأسفاه على أهل العقيدة! ينظرون لتحليلات إذاعات الغرب التي تقارن قواتنا بقوات الغرب، وما علمت أنها تنصر بهذا الدين لا بعدد ولا عُدد.
عقيدتنا تقول: لا تتعلق أيها المسلم بمحادثات فلان وفلان، ولكن تعلق بمن يقول: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51].
عقيدتنا تقول: لا تتعلقوا بإذاعات الأراجيف التي تبث سمومها لتضع الفجوة بين الولاة والعلماء، لكن تعلقوا بمن يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6].
عقيدتنا تقول: إن ارتباطنا بمن يقول للشيء كن فيكون، أين إيماننا بلا إله إلا الله؟!
عقيدتنا تقول: لو جاءت جميع قوى الدنيا ولم يرد الله نصرنا ما استطعنا أن ننتصر على أحد {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:160] هل وعينا ذلك؟ هل فهمنا ذلك؟ هل أيقنا بذلك؟ نسأل الله ذلك.
عباد الله! أمتكم مستهدفة في كل شيء؛ في عقيدتها، في ثرواتها، في مناهجها، في إعلامها، والكثير لا زال يعيش في غيبوبة لا يعلم ما يحيط أمته ولا ما يحيط بها، هو بحاجة إلى نظارات من تقوى الله يبصر به المجتمع ليرى ما فيه مما يندى له الجبين.(2/3)
حال العرب قبل الإسلام وبعده
لفتةٌُ إلى الماضي: كيف كنا أيها العرب قبل لا إله إلا الله؟ كنا غثاء نتقاتل على مربط الشاة ومورد البعير، حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً تعبد من دون الله ضلالاً وظلاماً، بل ظلمات بعضها فوق بعض، ثم جاء الحق والنور على يدي محمد صلى الله عليه وسلم، وزهق الباطل، ونشر الدين في هذا العالم، ولا زال له بفضل الله أصحاب وأنصار بمقتضى قول محمد صلى الله عليه وسلم: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك}.
انطلق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم، وإلى الآن على قلة يدافعون عن عقيدتهم، فضحوا بأنفسهم، ضحوا بكل ما يملكون في سبيل الله، فربح بيعهم، وحصدوا انتصارات بارعة على أعدائهم على الرغم من قلتهم، أما اليوم فالمسلمون قد أهينت كراماتهم، وانتهكت حرماتهم، رغم كثرتهم لم؟ لاختلاف السابقين المسلمين عن الآن، أولئك صدقوا الله، وقاتلوا بقوة الله رجالاً ونساءً وأطفالاً، وتعلقوا بالله، فنصرهم الله.
هاهو طفل من أطفالهم عمير بن أبي وقاص أخو سعد كان عمره أربعة عشر عاماً، أي: بعمر أولادنا الذين يتيهون اليوم في الملاعب وعلى أنغام الموسيقى وما لا فائدة فيه، يأتي عمير يوم بدر وحمائم السيف تجر خلفه لنحافته وقصره، لكنه كبير بعقيدته وإيمانه، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعادته؛ لأنه لا يقدر على الجهاد، فبكى عمير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأخيه سعد: {ما يبكيه؟ قال سعد: والله يا رسول الله! ما خرج من المدينة رغبة في شيء إلا في الشهادة في سبيل الله، فلا تحرمه الشهادة لعله يرزقها في هذا اليوم يا رسول الله! فتدمع عيناه صلى الله عليه وسلم، ويأذن له، فيكون أول شهداء بدر رضي الله عنهم أجمعين} حريٌ بأطفالنا، لا، بل برجالنا أن يجعلوه مثلاً يحتذى به بعد أن ضللهم الفراغ، وأعدم عندهم الأخلاق والعقائد والأفكار.
من عقيدتنا إيماننا بالله، فأين ذلك؟ يوم حدث الحادث على بلد مجاور، واليوم نحن في انتظار حرب كانت هناك حرب يلتفت الناس يمنة ويسرة فزعين هلعين قد أصابهم السخط والجزع، وكأن لم يكن لهم ربٌ يقول للشيء كن فيكون، أليس هو مالك الملك؟! أليس هو مدبر الأمر؟! بلى والله، الأمر لله، والملك لله، والخلق لله، والعزة لله، يعز من يشاء ويذل من يشاء.
يا من يعرف معرفة الطريق لنصر الله! اسمع قول الله في الحديث القدسي: {ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه} فهل حققنا ذلك لنكون أهلاً، لنسأل فنعطى، ولنستعيذ فنعاذ؟ هل ارتبطنا بالله؟!
أما والله لو ارتبطنا به لسخر لنا كل ما في الكون، ولنصرنا، ولأعزنا، ولوقف معنا {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] سخر الله النهر - نهر دجلة - لـ سعد بن أبي وقاص وجنده، فمشوا عليه كأنه يابساً يرون الأسماك من تحتهم، وعبروا النهر، وأدخلوا الرعب في نفوس الفرس، فهربوا قائلين: إنكم تقاتلون شياطيناً وجناً لا بشراً وإنساً، أين يكون ذلك؟ أين يكون أن يجعل النهر يابساً إلا في عقيدتنا، نحن لا نرتبط بقوانا، ولا بقدراتنا، لكن معنا من يقول للشيء: كن فيكون.
سائلوا التاريخ عنا كيف كنا؟
كنا جبالاً في الجبال وربما صرنا على موج البحار بحاراً(2/4)
نصر الله متعلق بمن ينصر دينه
من استنصر بالله نصره الله، بل يمده الله بالملائكة، بل يمده بكل شيء وينصره: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال:12].
جاء أحد الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {كنت في الجهاد فسمعت هاتفاً يقول: اقدم حيزوم اقدم حيزوم، ما حيزوم يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هذا ملكٌ من ملائكة السماء الثالثة جاء ليقاتل معكم}.
أمتنا مددها من الله؛ يمدها بالملائكة، يمدها بالريح، بقذف الرعب في قلوب أعدائها، أفتستغيث بغيره وتتعلق بغيره، ثم ترجو النجاة.
عباد الله! في يوم الأحزاب أحدق الأعداء بمحمد صلى الله عليه وسلم وجنده {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10] وهم في خضم بلواهم واختبارهم إذ بمحمد صلى الله عليه وسلم يحن لهم، ويرق عليهم يوم يرى حال الصحابة وما بهم من جوع وبرد وقلة عدد، يعملون ثلاثة أيام لم يذوقوا شيئاً، يكشف أحدهم عن بطنه، وقد ربط عليه حجراً من شدة الجوع، ويرى النبي صلى الله عليه وسلم ما بهم من الجهد، فيسليهم بنفسه صلى الله عليه وسلم، يكشف عن بطنه صلى الله عليه وسلم، وقد ربط عليه حجران وهو يقول: {اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة} ويجيب الجائعون في بطونهم، الشبعانون بإيمانهم بالله، فيقولون:
نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبداً
لا إله إلا الله! أين نحن من هذه المفاهيم في عقيدتنا وشريعتنا الآن؟!
إن حياتنا لا بد أن تربط بالآخرة لا بالدنيا، كم نربي أبناءنا على أمل نيل الشهادات وضمان المستقبل ولقمة العيش، وإذا فاز أحد الشباب بشهادة، قالوا: أمن مستقبله.
إن مستقبل الأمة المسلمة حقاً هناك في الفردوس الأعلى، في جنة عرضها السماوات والأرض، لا في بيت، ولا وظيفة، ولا شهادة، بل في جنة:
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيشٌ نابتٌ فيها
فاعمل لدارٍ غداً رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها
وآأسفاه على أمة الإسلام! إذا انتصرت في الرياضة قالت: بتمسكنا بعقيدتنا، ويتساءل الإنسان بمرارة أي عقيدة تكون في اللهو والطرب والضياع؟!
ثم نأسى ونتحسر ونأسف على شبابنا، وعلى ضياعهم، لا نملك إلا أن نقول:
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء(2/5)
بروز العقيدة وقت الشدائد
عقيدتنا تخرج في الشدائد والمدلهمات، نرتبط بها ارتباطاً عجيباً، هاهو صلى الله عليه وسلم لا يؤمل صحابته في جهاده برجوعهم إلى الدنيا، لكن يؤملهم بجنة وما عند الله، حتى رأوا الجنة من هنا، وشموا رائحتها حتى قال قائلهم: واه لريح الجنة! إني لأجد ريحها دون أحد.
تعلقوا بالله وما عند الله؛ فنصرهم الله.
خالد بن الوليد يوم يجتمع الكفر عليه ويتألب عليه بأضعاف أضعاف عدد المسلمين لديه، فيقول المسلمون لـ خالد: لا بد من اللجوء إلى سلمى، أو إلى أجى -جبلين في حائل - فتدمع عيناه، وهو المتوكل على الله، والواثق بنصر الله، ويقول: لا، لا إلى سلمى، ولا إلى أجى، ولكن إلى الله الملتجى.
فينصر؛ لأنه نصر الله، وتوكل عليه.
ويا جامع الطعام والشراب استعداداً لخوض معركة مع أعداء الله! هاهو إبراهيم عليه السلام يضع زوجته وابنه إسماعيل في أرض مجدبة لا زرع فيها ولا ثمر، ويذهب فتقول زوجته: إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله الذي أستودعكما إياه، فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا.
ما أعظم التوكل واليقين!
يا أمة العقيدة! تمسكوا بدينكم، والتزموا شرعكم، وافتخروا به، وتحاكموا إليه في كل شئونكم، واستشعروا معية الله معكم، فإن الله مع المؤمنين {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:146] اصدحوا بالحق فقد صدح به أسلافكم، سطح ربعي في إيوان كسرى يوم سأله كسرى: لم جئتم؟ فرد بصوت مدوىٍ كالصاعقة، قال: [[جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]] يقول له كسرى: كم في جيش الإسلام من مثلك؟ قال: إني خلفت في جيش الإسلام آلافاً مثلي، فيقول كسرى: والله ليملكون ما تحت قدمي هاتين، وفعلاً ملكوه بعقيدتهم الصافية.
ألا واثبتوا -يا عباد الله- كثبات أسلافكم، ومنهم عبد الله بن حذافة يوم عرضت عليه النصرانية وهو أسير، فأبى أشد الإباء، أغليت له قدور الزيت حتى أصبح الزيت يغلي وألقي فيه اثنان من المسلمين، فتفتتوا ليرهبوه، وليردوه عن (لا إله إلا الله) وتدمع عيناه، فقيل له: لم؟! هل ستعود عن دينك إلى النصرانية؟! قال: لا.
قالوا: فما يبكيك؟! قال: [[نظرت، فإذا هي نفس واحدة، وددت أن لي أنفاساً بعدد شعر جسدي تلقى كلها في هذا القدر في سبيل الله]].
والخير لا زال، وسيبقى بمقتضى {لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة}.
هاهو أحد قادة الأفغان المعتزين بدين الإسلام، والذين يدافعون عنه بمثل هذه الأيام، يقول: اعتقل الشيوعيون أبي حتى أترك الجهاد، فرفضت، فقتلوه، ثم اعتقلوا أمي لكي أترك الجهاد، فرفضت، فقتلوها، ثم اعتقلوا أخي لأترك الجهاد، فرفضت، فقتلوه، ولا والله ما أترك الجهاد، ولن أتركه حتى النصر أو أهلك دونه في سبيل الله، فألقى الأحبة محمداً وصحبه.
الله أكبر يا عباد الله! نريد رجالاً كهذا في مثل هذه الأيام تعتز بدينها، تعتز بعقيدتها لتنصر من رب النصر سبحانه وتعالى.
يا أمة العقيدة! إن أمة العقيدة أمة نشيطة لا تضيع وقتها في اللهو واللعب؛ لأن الله سيسألها عن أوقاتها، أمة العقيدة أمة تضحية، أمة العقيدة أمة مراقبة لله، ثابتة لا تتزحزح في أي مكان، أما أمة تلتزم بعقيدتها، ثم إذا سافرت إلى بلاد الكفر نسيتها هنا، ليست بأمة عقيدة حقة.
أمة تلتزم بعقيدتها في الرخاء، وفي الشدة تضيعها ليست بأمة عقيدة.
أمة العقيدة أمة آمرة ناهية ليست متخاذلة، أمة العقيدة تنكر الروابط الأرضية من جنس ولون ولغة وترفع (لا إله إلا الله).
أمة العقيدة جعلت بلالاً وسلمان وعمر وعثمان بنعمة الله إخواناً، عقيدتنا ثمينة، عقيدتنا غالية، ألا وفي هذه الأحداث رخصت عند بعض الرخصاء من الناس، يوم خرج بعض مرضى القلوب فأطلقوا ألفاظاً نسأل الله أن لا يؤاخذ الأمة كلها بهذه الألفاظ تدل على عدم ثبات العقيدة، كقول بعضهم: إن قوى الكفر تقول للشيء: كن فيكون، لا إله إلا الله ما أحلمك يا رب! عقيدتنا تنادي هؤلاء المرضى، ولا زالت تناديهم: عودة إلى الله، فالعود أحمد.
العودة إلى الله أيها المسلمون! التعلق بالله، التوكل على الله، الثقة بالله، الرجوع إلى القرآن، الرجوع إلى السنة، تصفية العقيدة، عند ذلك أبشروا بالنصر {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد:7].
إسلامنا هو درعنا وسلاحنا ومنارنا عبر الدجاة الظلمة
هو بالإخوة رافعٌ أعلامه فامشي بظل رضائه يا أمتي
لا الغرب يقصد عزنا كلا ولا شرق التحلل إنهم كالحية
الكل يقصد ذلنا وهواننا أفغير ربي منقذٌ من شدتي
اللهم إنا نسألك يا من لا ينقذ من الشدة إلا أنت! نسألك نصرك نسألك عزك نسألك قوتك نسألك أن تثبتنا على الإيمان، وأن تنصرنا بالقرآن، وأن تخذل أعداءك أعداء الإسلام.
اللهم وأخرج للأمة رجالاً كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي إنك على كل شيء قدير.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(2/6)
احفظ الله يحفظك
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله هدية أقدمها لكل مسلم يسمع ويعي هذه الأيام، أهدي قول محمد صلى الله عليه وسلم: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء فلن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف} وفي رواية: {واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً} لا إله إلا الله ما أحوجنا إلى فهم وتطبيق هذا الحديث في هذه الأيام، وفي كل آن، يقول بعض العلماء: تدبرت هذا الحديث فأدهشني وكدت منه أطيش.
وآأسفاه من الجهل بهذا الحديث وقلة الفهم والتفهم لمعناه، أسفي على فهم تبلد فيه الفطن.(2/7)
أهمية الإيمان بالقضاء والقدر
يا مسلمون! إننا أمة تنطلق في توجهاتها وتوقعاتها من أحكام شريعتها، وصميم عقيدتها، ومبادئ دينها، ويمثل الإيمان بقضاء الله وقدره ركناً عظيماً من أركان إيماننا بربنا، يقول جل وعلا: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ويقول: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} [الأحزاب:38] ما من حدث يحدث، ولا مصيبة تحصل في أرض الله، ولا في عباد الله إلا بقدر الله {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:22 - 23] إن يقيننا بذلك يهون علينا مصائب الدنيا، ويجعلنا نشق طريقنا مع الأحداث بعقيدة قوية وعزيمة صادقة، والله ليست في المجتمعات البشرية كلها أمضى عزيمة ولا أقوى سكينة من المؤمن بأقدار الله جل وعلا، فهو يمضي فيما عزم عليه من الخير دون توقف أو تردد أو وجل، يقينه بأن كل ذرة في السماوات والأرض قد قدرها الله مبدأها ومعادها وأجلها، ونظامها، وعلاقتها بالكون وما فيه {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23].
المؤمن الحق يعلم أنه لن يأتيه إلا ما كتب له، فلا يعترض على قدر الله، بل يعمل ويجد ويصحح الأخطاء {ولا يلدغ مؤمن من جحر مرتين} أما الذين يقابلون هذه الأحداث بعقيدة مضطربة، وأفكار منهزمة، ومعنويات منهارة يمجدون المخلوق الضعيف وينسون الخالق القوي القادر، يتصيدون رضا الناس بسخط رب الناس، ينسون ربهم في حال الشدة والرخاء، يواقعون المعاصي في حال السراء والضراء، هؤلاء إنما يمكنون للعدو من أنفسهم، ويوجد في المسلمين اليوم من يستوي عنده الأمران، فأين الإيمان؟ أين العقيدة؟ هل أمنا مكر الله؟ {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]، ولا يأمن مكر الله إلا القوم الكافرون.
إن العدو الحقيقي الذي نخشاه هو من داخل أنفسنا بما كسبت أيدينا قبل أن يكون العدو الخارجي {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ * إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:10 - 11].
هل يعي المسلمون اليوم هذه الحقيقة؟!
هل يعودوا إلى قلوبهم فيصلحوها؟!
هل يعودوا إلى أنفسهم فيحاسبوها؟!
هل يعودون إلى أسرهم فيربوها؟!
لقد سمعنا مقولات، وطالعتنا صحف ومجلات، وأثقلت مسامعنا إذاعات بتوقعات وتحليلات لا تشم فيها رائحة الولاء لرب الأرض والسماوات، بل وجدت أفعال وتصرفات تبين حالة الرعب والفزع والهلع الذي حل بهؤلاء وأولئك، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! أين الله؟!
أين التوكل على الله؟!
ماذا يغني الإعداد الغذائي في غياب الإعداد الإيماني؟
لا بأس بالإعداد الغذائي، لا نقول: لا تعدوا أنفسكم، لكن الإعداد الإيماني هو الغاية، وهو الحبل الذي يمدنا الله به: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ} [الزمر:61].(2/8)
الاستعداد للمراحل التي ستمر بالأمة
إن المراحل التي تمر بها الأمة تتطلب الاستعداد بجد، يجب أن تولى حياة اللعب واللهو والترف إلى غير رجعة، ويحل محلها الإيمان والقوة والجد والنشاط والتدريب والجهاد واليقين والتوكل والتوبة والطاعة، والإيمان بقضاء الله وقدره، والاستجابة لله رب العالمين، الإيمان بأن ما حصل ويحصل من حوادث وكوارث، إنما هو بعلم الله وقدرته وإرادته، فلنعد الأنفس بالإيمان الذي تستطيع به مواجهة الشدائد، ولنقل: توكلنا على الله، ولنلجأ إلى الله بشدة، ونواصل الدعاء لنضرع عليه أن يلطف بما تجري به المقادير، لو حققنا ذلك وأيقنا أنه لن تنطلق رصاصة واحدة إلا بإذن الله، فاعتصمنا بحبل الله واجتمعنا؛ لينصرنَّا الله وهو القوي العزيز.
ليس لنا يا مسلمون بغير حبل الله مستمسك، ولا بغير دينه مستعصم، ومن اتكل في أموره على غير الله وكله الله إلى ضعفه وعجزه.
لن يحصل نصرٌ إلا بتحكيم شرع الله، وبالإعداد والتربية، بفتح الباب للدعاة، بعودة عباد الليل وفرسان النهار كما كان ذلك في تاريخ الإسلام، لكن عباد الله مع هذه الظلمة كلها، فالفجر يخرج في خضم الظلام، هذه الأمة بحمد الله وكرمه أمة خير ونصر حتى لو سلط عليها أعداؤها، فإن البشائر والآمال معقودة بأبنائها، لكن أي أبناء؟! بأبنائها أولياء الله، عمار المساجد، حفاظ الكتاب، محبي الخير، هواة الموت في سبيل الله، الدعاة إلى الله الصادقين المخلصين، عباد الله في الليل، وأسود النهار، لا زال الأمل بعد الله في هؤلاء.
فلنعتصم بالله، ولنحفظ الله، ولنتعرف على الله، ولنتضرع إليه، فهو القائل كما في الأثر: {وما اعتصم عبد من عبادي بي، فكادته السماوات والأرض؛ إلا جعلت له منها فرجاً ومخرجاً} ولنرفع أيدينا في جوف الليل إلى الله، ليدٌ مخلصةٌ في جوف الليل ترفع إلى الله أشد على الأعداء من القنابل الذرية والجرثومية والغازات السامة {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40].
اللهم من أراد بالإسلام والمسلمين سوءاً فأشغله بنفسه، اللهم دمره، اللهم مزقه، اللهم خذه أخذ عزيز مقتدر، اللهم لا ترفع له راية، اللهم اجعله لمن خلفه آية، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، يا قهار! يا جبار! يا مالك الملك! يا من أنت على كل شيء قدير! أرنا في الظلمة يوماً تقر به أعين الموحدين، اللهم إنا نجعلك في نحور الظالمين، اللهم إنا نعوذ بك من شرور المعتدين، اللهم لا تعاملنا بما نحن أهله، وعاملنا بما أنت أهله يا أكرم الأكرمين!
ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم قوي يقيننا وتوكلنا وصدقنا وإخلاصنا وثبتنا في زمن الفتن، وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها، اللهم آمنا في دورنا، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفقهم لهداك، اللهم اجعل عملهم في رضاك، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة التي تذكرهم إذا نسوك، وتعينهم على الحق يا أكرم الأكرمين!
اللهم إن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفرطين ولا مفتونين.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(2/9)
حقيقة الكلمة
إن العبد المؤمن الذي يبتغي مرضات الله سبحانه، ليتذكر يوم وقوفه بين يدي الجبار حيث يكلمه ليس بينه وبين الله ترجمان؛ فيكون ذلك دافعاً لأن يجعل تقوى الله مصاحبه، ورضا الله مطلبه، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم قائده، وإعداد الجواب والصواب بين يدي الله مقصده، فيتزود بالتقوى والأعمال الصالحة.(3/1)
وصية الله للأولين والآخرين
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهدِ الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
أما بعد: عبد الله! عقلك عقلك، وسمعك وقلبك، أعرنيهما وأرعنيهما لحظات قد تطول؛ راجيًا أن يتسع صدرك احتسابًا لما أقول.
ثم حلِّقْ معي بخيالك متخيلاً ما هو واقع، ومتصوراً ما هو حقيقة على الحقيقة.(3/2)
حقيقة الموقف وأهوال القيامة
تخيل وليداً عمره شهر واحد، قضى الله ألاَّ يعيش سوى هذا الشهر، فقبضه ديَّان يوم الدين، وقُبِرَ مع المقبورين.
وبينما هم في قبورهم إذ نُفِخ في الصور، وبُعثرت القبور، وخرج المقْبُور، وكان في من خرج ذلكم الصبي؛ ذو الشهر الواحد، حافياً عارياً أبهم، نظر! فإذا الناس حفاة عراة رجالاً ونساءً كالفراش المبثوث، والجبال كالعهن المنفوش.
السماء: انفطرت، ومارت، وانشقت، وفُتحت، وكُشطت، وطويت.
والجبال: سُيِّرت، ونسفت، ودكَّت.
والأرض: زلزلت، ومُدَّت، وألقت ما فيها وتخلَّت.
العِشَار عُطِّلت الوحوش حُشِرت البحار فُجِّرت وسُجِّرت.
الأمم على الرُّكب جثت، وإلى كتابها دُعيَتْ.
الكواكب انتثرت النجوم انكدرت الشمس كُوِّرت، ومن رءوس الخلائق أُدْنِيت.
الأمم ازدحمت وتدافعت الأقدام اختلفت الأجواف احترقت الأعناق من العطش وحرِّ الشمس ووهج أنفاس الخلائق انقطعت.
فاض العرق؛ فبلغ الحقوين، والكعبين، وشحمة الأذنين.
والناس بين مستظل بظل العرش، ومصهور في حرِّ الشمس.
الصحف نُشِرت، والموازين نُصِبَت، والكتب تطايرت، صحيفةُ كلٍ في يده، مخبرة بعمله، لا تغادر بليَّة كتمها، ولا مخبأة أسرَّها.
اللسان كليل القلب حسير كسير الجوارح اضطربت الألوان تغيرت لِمَا رأت الفرائص ارتعدت القلوب بالنداء قُرِعت والموءودة سُئلت والجحيم سُعِّرت والجنة أُزلِفَت.
عَظُم الأمر، واشتدَّ الهول، والمرضعة عما أرضعت ذُهِلَت، وكل ذات حمل حملها وضعت.
زاغت الأبصار وشخصت، والقلوب الحناجر بلغت.
وأحضروا للعرض والحساب وانقطعت علائق الأنساب
وارتكمت سحائب الأهوال وانعجم البليغ في المقال
وعنت الوجوه للقيوم واقتُصَّ من ذي الظلم للمظلوم
وساوت الملوك للأجناد وجيء بالكتاب والأشهاد
وشهد الأعضاء والجوارح وبدت السوءات والفضائح
وابتُليت هنالك السرائر وانكشف المخفي في الضمائر
هنا تخيل ذلك الوليد صاحب الشهر الواحد؟!
ما اقترف ذنباً، وما ارتكب جُرْماً، ااًلأهوال محدقة به؛ من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، تخيله مذعوراً قلبه، اشتعل رأسه شيباً في الحال؛ لهول ما يرى.
فيالله لذلك الموقف:
يوم عبوس قمطرير شرُّه وتشيب منه مفارق الولدان
هذا بلا ذنب يخاف مصيره كيف المُصرُّ على الذنوب دهور؟!
قال الله عز وجل: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} [المزمل:17].
عباد الله: في خِضَم هذه الأهوال التي تبيضُّ منها مفارق الولدان ما النجاة؟! وما المخرج؟!(3/3)
المخرج والنجاة من أهوال يوم القيامة
إن النَّجاة والمخرج في أمر لا غير، لا يصلح قلب، ولا تستقيم نفس ولا تسعد إلا به، خُوطب به الخلق أجمعون، خُّصَّ به المؤمنون، أُوصِيَ به الأنبياء والمرسلون، وخاتمهم سيد ولد آدم أجمعين، عليه وعليهم صلوات وسلام رب العالمين.
أي أمر هذا أيها المؤمنون؟
إنه وصية الله للأولين والآخرين: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] تقوى الله وكفى، قال جلَّ وعلا: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر:61] ويقول تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:71 - 72].
أي تقوى تنجي بين يدي الله؟
أهي كلمة تُنْتَقى وتُدَبَّج في مقال؟
أم هي شعار يُرفع بلا رصيد من واقع؟
كلا.
ما كل منتسب للقول قوَّال.
لو أن أسباب العفاف بلا تقى نفعت لقد نفعت إذاً إبليس
فهو القائل: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:16] لا ينجي -والله- في تلك الأهوال إلا حقيقة التقوى؛ لُبّها كُنهها ماهيتها مضمونها.
فما حقيقة تلك الكلمة يا عباد الله؟
إنها هيمنة استشعار رقابة الله على حياتك أيها الفرد، حتى كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وتلك أعلى مراتب الإيمان؛ وهي مرتبة الإحسان:
وثالث مرتبة الإحسان وتلك أعلاها لدى الرحمن
وهي رسوخ القلب في العرفان حتى يكون الغيب كالعيان(3/4)
حقيقة الاتباع عند الصحابة
بل هي هيمنة الدين على الحياة كلها؛ عقيدة وشريعة، عبادة ومعاملة، خلقاً ونظاماً، رابطة وأخوة.
هيمنة كما أرادها الله تجعل الحياة خاضعة في عقيدة المسلم وتصوره لله، لا يندُّ منها شاردة ولا واردة ولا شاذة ولا فاذة.
هيمنة تسلم النفس كلها لله حتى تكون أفكاراً ومشاعرَ وأحاسيس وسلوكاً محكومة بوحي الله، فلا تخضع لغير سلطانه، ولا تحكم بغير قرآنه، ولا تتبع غير رسوله، لا يحركها إلا دين الله، تأتمر بأمر الله، وتنتهي عن نهيه، متجردة عن ذاتها، متعلقة بربها، وحال صاحبها:
خضعت نفسي للباري فَسُدتُّ الكائنات أنا عبد الله لا عبد الهوى والشهوات
فَهِمَ هذا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصاغوه واقعاً حيّاً نابضاً انفعلت به نفوسهم، فتَرْجموه في واقع سلوكهم.
صرت ترى شرع الله يدبُّ على الأرض في صورة أُناسٍ يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق.
إذا ما دُعوا للهدى هرولوا وإن تدعهم للهوى قرفصوا
روى الإمام البخاري عن أنس رضى الله عنه أنه قال: {كنت ساقي القوم في بيت أبي طلحة -يعني الخمر- وإني لقائم أسقي فلاناً وفلاناً وفلاناً، إذ جاء رجل، فقال: هل بلغكم الخبر؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: لقد حُرِّمت الخمر، وقد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منادياً ينادي: ألا إن الخمر حرمت! فقالوا: أهرق هذه القلال يا أنس -فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل- وما دخل داخل ولا خرج خارج حتى أهراق الشراب، وكسرت القلال، وتوضأ بعضهم، واغتسل بعضهم، ثم أصابوا من طِيب أم سليم، ثم خرجوا إلى المسجد يخوضون في الخمر، قد جرت بها سكك المدينة}، فقد تواطأت المدينة كلها على تحريمها، فلما قُرئِت عليهم الآية: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91] بعض القوم شَرْبته في يده فلم يرفعها إلى فيه، بل أراق ما في كأسه، وصبَّ ما في باطيته، وقال: انتهينا ربنا انتهينا.
لم يقولوا: تعودنا عليها منذ سنين، وورثناها عن آبائنا؛ كما يفعل بعض مسلمي زماننا.
ما تكونت عصابات لتهريب المخدرات؛ لأن الدين هيْمَن على حياتهم، فاستشعروا رقابة ربهم، فبادروا في يُسْرٍ إلى تنفيذه؛ امتثالاً لأمر الله، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمر أهل المدينة ألا يكلموا كعباً حين تخلف عن تبوك، فإذا الأفواه ملجمة لا تنبس ببنت شفة، وإذا الثغور لا تفتر حتى عن بسمة، بل إن ابن عمه وحميمه وصديقه؛ أبا قتادة لمَّا أتاه ليسلِّم عليه كعب ما ردَّ عليه السلام، فاستعبرت عينا كعب رضيَ الله عنه ورجع كسير البال، كاسف الحال.
فأمْرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هؤلاء القوم فوق كل خُلة، ثم انظر إليهم لما نزلت توبة الله على هذا الرجل -على كعب رضي الله عنه وأرضاه- تتحرك المدينة وتنتفض عن بكرة أبيها إلى كعب، فإذا الأفواه تلْهَج له بالتهنئة وكانت مُلْجَمَة، وإذا الثغور تفترُّ عن بسمات مضيئة صادقة وكانت عابسة، نفوس لا يحركها إلا دين الله، حالها:
ما بعث نفسي إلا لله عز وجلِّ فمن تولى سواه يوله ما تولىَّ
إنهم لم يقفوا عند امتثال أمره واجتناب نهيه، بل تابعوا أفعال المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ولاحظوا تصرفاته بكل دقة وشوق وحرص على الاقتداء، حتى إذا ما فعل شيئاً سارعوا إلى فعله مباشرة؛ لأنهم يعلمون أن سنته سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك.
ثبت عند أبي داود في سننه عن أبي سعيد الخدري قال: {بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلي بأصحابه، إذ خلع نعليه فألقاهما عن يساره، فلمَّا رأى ذلك أصحابه رضوان الله عليهم ألقوا نعالهم، فلمَّا قضى صلى الله عليه وسلم صلاته، قال: ما حملكم على إلقاء نعالكم؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليْك فألقينا نعالنا}.
توحيد في الاتباع.
فمن قلَّد الآراء ضلَّ عن الهدى ومن قلَّد المعصوم في الدين يهتدي
بل كان الناس إذا نزلوا منزلاً مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أسفاره تفرقوا في الشِّعاب والأودية، فقال لهم -صلى الله عليه وسلم-: {إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان، فما نزلوا بعد ذلك منزلاً إلا انضموا بعضهم إلى بعض، حتى لو وضع عليهم بساط لعمَّهم} تنفيذ في يُسْر، وطاعة وامتثال، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب.
هم ذلك السلف الذين لسانهم تنحطُّ عنه جميع ألسنة الورى
تلك العصابة من يَحُدْ عن سُبْلها حقاً يقال لمثله أطْرق كرى
أطْرق كرى إنَّ النَّعام في القُرَى(3/5)
حقيقة التقوى
مما سمعتم -أيها المؤمنون- يتجلى لنا مظهر أفراد المجتمع المسلم في ظل إدراكهم الصحيح لمفهوم الإسلام، فليست المسألة عندهم فرائض يفرضها هذا الدين على الناس بلا موجب إلا رغبة التحكم في العباد، بل هي مسألة وجود الإنسان إذا رغب أن يكون إنساناً حقاً، لا مجرد كائن يأكل الطعام، ويشرب الشراب، ويقضي أيامه على الأرض كيفما اتفق؟!
بل هي وضع للإنسان في وضعه الصحيح كإنسان، يستشعر رقابة المولى، وتلك حقيقة التقوى.
عباد الله: هل استشعر رقابة الله واتقى الله حقيقة من يشهد أن لا إله إلا الله، ويصبح دائباً مُجدّاً مجتهداً في مطعم حرام، وملبس حرام، وغذاء حرام؟
يصبح وقد ضرب هذا، وشتم هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، ووقع في عِرْض ذاك وذا.
يصغر ذا بأراجيفه ويرجو بذلك أن يكبرا
ولو عاش في عالم أمثل لكان من الحتم أن يصغرا
هل استشعر رقابة الله من يجلب النار ليحرق بيته وأهله؟
من يخرب بيته بيده بوسائل لا تزال تمطره بوابل أو طلٍّ من أغانٍ وأفلام ماجنة، وقصص سافلة، وترويض للنفوس على الكذب والنفاق وقلب الحقائق؟
قائم على هدم بيته كالدودة التي تخرج من الميت، ثم لا تأكل إلا ذاك الميت.
ألم يستشعر أنه لو مات على حالته تلك؛ مات غاشّاً لرعيته، خائناً لأمانته، حاملاً وزره ووزر ما جلبه لبيته على ظهره يوم القيامة بقدر ما أفسدت هذه الوسائل في نفوس أبنائه وأهله من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً.
والله! لا يُعفيك من حساب الله، ولا من لوم الناس، ولا تأنيب الضمير أن تقول: أنا ضحية، وما البديل، وما البدل، وما المبدل منه، وبيتك حقلٌ لاستقبال الأفكار والأوضار والأقذار، تنبت فيه وتنمو وتترعرع، وأنت تسأل ماذا أفعل؟ لا يفلُّ الحديد إلا الحديد، والباب الذي يأتيك منه القبيح لا حيلة فيه إلا بسدِّه لتستريح.
ألا إن الشَّراب له إناءُ فإن دنَّسته دَنِس الشَّراب
أَمَا في هذه الدنيا أمورٌ سوى الشهوات تحرزها الطلاب
أما في هذه الدنيا أسودٌ كما في هذه الدنيا كلاب
بلى.
يمنع الليث حِمَاه أن يرى فيه كلباً عادياً إن زأرا
هل استشعر رقابة الله من يتعبد بأعمال ليس عليها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحجته ازدياد الخير، وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكم من مريد للخير لا يصيبه؟
أي فتنة أعظم من أن ترى أنك خصِّصت بفضل لم يُخصّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟ {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
هل استشعر رقابة الله من ليله سَهَر على ما حرم الله، ويصبح مجاهراً بمعصية الله؟
من إذا وصل إلى بيئة أجنبية لا يُعرف أَمِن اليهود هو، أم من النصارى والمجوس والذين أشركوا؟
كلفظ ما له معنى كتمثال من الجبس
يسير لغير ما هدف ويصبح غير ما يمسي
حقيقة الكلمة: لَجَأٌ إلى الله، وتَعرَّفٌ عليه في الشدة والرخاء، لا على سواه، عرَّافاً كان أو ساحراً أو كاهناً أو مقبوراً:
لا قبة ترجى ولا وثن ولا قبر ولا نصب من الأنصاب
الله ينفعني ويدفع ما بي
بالله ثق وله أنب وبه استعن فإذا فعلت فأنت خير مُعَانٍ(3/6)
سيد المتقين عبادته وإخباته
ها هو سيد المتقين -صلوات الله وسلامه عليه- في الشدة والرخاء لا تراه إلا أوَّاهاً منيباً مخبتاً إلى ربه؛ فبهداه يهتدي المقتدون.(3/7)
حال النبي صلى الله عليه وسلم وقت الرخاء
ثبت عند ابن حبان في صحيحه عن عطاء قال: {دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضيَ الله عنها فقال عبيد: حدثينا بأعجب شيء رأيتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فبكت وقالت: قام ليلة من الليالي، فقال: يا عائشة! ذريني أتعبد لربي.
قالت: قلت: والله! إني لأحب قربك، وأحب ما يسرك.
فقام وتطهر، ثم قام يُصلي، فلم يزل يبكي حتى بلَّ حجره، ثم لم يزل يبكي حتى بلَّ الأرض من حوله، وجاء بلال ليؤذنه بصلاة الفجر، فلمَّا رآه يبكي بكى، وقال: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، تبكي وقد غُفر لك؟! قال: يا بلال! أفلا أكون عبداً شكوراً؟ آيات أُنزلت عليَّ الليلة، ويلٌ لمن قرأها ثم لم يتفكر فيها، وويل لمن قرأها ثم لم يتفكر فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191]} هذا في رخائه صلى الله عليه وسلم.
يا نائماً مستغرقاً في المنام قم فاذكر الحي الذي لا ينام(3/8)
حال النبي صلى الله عليه وسلم وقت الشدة
وفي الشدة تنقل لنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أيضاً -كما ثبت في البخاري - أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بـ قرن الثعالب} يالله! يعيش قضيته بكل أحاسيسه ومشاعره، هَمٌّ بلغ برسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يشعر بنفسه من الطائف إلى السيل الكبير.
فيم كان يفكر؟
ترى فيم استغرق هذا الاستغراق الطويل؟
لعله كان يُفِّكر في أمر دعوته التي مضى عليها عشر سنين ولم يستطع نشر الإسلام بالحجم الذي كان يتمنى، لعله كان يُفكِّر كيف سيدخل مكة؟ فهو بين عدّويْن: عدو خَلَّفه وراء ظهره أساء إليه ولم يقبل دعوته، وعدوٌ أمامه ينتظره ليوقع به الأذى، يقول صلى الله عليه وسلم: {فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل -لطف الله ورحمة الله لمن يتعرفون عليه في الرخاء- فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت، فناداني ملك الجبال: فسلم عليّ، ثم قال: يامحمد! ذلك فيما شئت، إن شئت أن أُطبق عليهم الأخشبين}.
الله ينصر من يقوم بنصره والله يخذل ناصر الشيطان
كان صلى الله عليه وسلم رحيماً بقومه، فما أرسل إلا رحمة للعالمين.
الأمل في هدايتهم يفوق في إحساسه الشعور في الرغبة بالانتقام من أعدائه، والتشفي من قومه الذين أوقعوا به صنوف الأذى، فقال صلى الله عليه وسلم لملك الجبال: {كلا.
بل أرجو أن يُخْرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً} وكان ما رجاه وأمَّلَه؛ بذرة طيبة في أرض خصبة لم تلبث أن صارت شجرة مُورِقَة.
يبني الرجال وغيره يبني القُرى شتان بين قرى وبين رجال
رخاء وشدة لله، وتلك حقيقة تقوى الله.(3/9)
حقيقة الكلمة نظرات وتأملات
حقيقة الكلمة: أن تكون كراكب على ظهر خشبة في عرض البحر، تتقاذفك الأمواج والأثباج، وأنت تدعو: يا رب! يا رب! لعلَّ الله أن ينجيك.
حالك ومقالك:
يا مالك الملك جُدْ لي بالرضا كرماً فأنت لي محسن في سائر العمر
يا رب زدنيَ توفيقاً ومعرفة وحسن عاقبة في الورد والصدر(3/10)
إعداد الجواب بين يدي الله
حقيقة الكلمة: ألا تنطق بكلمة ولا تتحرك حركة ولا تسكن سكوناً إلا وقد أعددت له جواباً بين يديْ الله؛ فإنك مسئول، فأعدَّ للسؤال جواباً صواباً.
وعندها يثبِّت المهيمن بثابت القول الذين آمنوا
ويوقن المرتاب عند ذلك بأنما مورده المهالك(3/11)
اليقظة وعدم الغفلة عن مكر الله
حقيقة الكلمة: حذار أن يأخذك الله وأنت على غفلة، ألا يحضر حق لله إلا وأنت متهيء له، ألا تكون عدواً لإبليس علانية صديقاً له في السر.
حقيقة الكلمة: استشعار قدرة الله خصوصاً عند إرادة الظلم لعباد الله؛ عاملاً أو خادماً كائناً من كان، يحسب المرء أنه يعجز الله فيلهو ويملأ الأرض ظلماً.
روى الإمام مسلم رحمه الله عن أبي مسعود البدري قال: {كنت أضرب غلاماً لي بالسَّوط، فسمعت صوتاً من خلفي: اعلم أبا مسعود، فلم أفهم الصوت من الغضب، فلما دنا مني فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اعلم أبا مسعود اعلم أبا مسعود! فألقيت السوط من يدي هيبةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا به يُكرِّر: اعلم أبا مسعود! للهُ أقدرُ عليك منك على هذا الغلام، قال: فقلت: لا أضرب مملوكاً بعده أبداً يا رسول الله! هو حرٌ لوجه الله، فقال صلى الله عليه وسلم: أما إنك لو لم تفعل ذلك لَلَفَحَتْك النَّار- أو لمسَّتْك النار-}.
من سار في درب الردى غاله الردى ومن سار في درب الخلاص تخلصا
ثبت عن عبد الله بن أنيس -كما في المسند - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً، فيناديهم الله بصوت يَسمعه مَنْ بَعُد كما يَسمعه مَنْ قَرُب: أنا الملك أنا الديان! لا ينبغي لأحدٍ من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده مظلمة حتى اللطمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار ولأحد من أهل الجنة عنده مظلمة حتى اللطمة}.
من يعمل السوءى سيجزى مثلها أو يعمل الحسنى يفز بجِنَان
خُلِق الظلم: أُمه قلة الدين، وسوء الأخلاق أبوه.(3/12)
نصرة ونجدة المظلومين
حقيقة الكلمة: نصرة ونجدة المظلومين، وإنصافهم عند القدرة من الظالمين، ومن نصر أخاه بظهر الغيب نصره الله في الدنيا والآخرة.
ليس من شأن المسلم المتقي لله حقاً أن يدع أخاه فريسة في يد مَنْ يظلمه أو يذلّه، وهو قادر على أن ينصره، من أُذِلَّ عنده مؤمن فلم ينصره وهو قادر على أن ينصره، أذلَّه الله على رءوس الخلائق يوم القيامة.
ثبت عند ابن ماجة في سننه عن جابر قال: {لما رجعت مهاجرة البحر -مهاجرة الحبشة - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة، قال فتية منهم: بلى يا رسول الله! بينما نحن جلوس، مرت بنا عجوز من عجائز رهابينهم، تحمل على رأسها قُلَّةُ من ماء، فمرت بفتى منهم، فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها، فخرَّت على ركبتيها، فانكسرت قُلَّتها، فلمَّا قامت التفتت إليه وقالت: سوف تعلم يا غدر! إذا وضع الله الكرسي، وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، كيف يكون أمري وأمرك عنده غداً؟ فقال صلى الله عليه وسلم: صدقتْ! صدقت! كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم؟! أبغوني الضعفاء؛ فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم، بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم.
إن من الضعفاء من لو أقسم على الله لأبرَّه}.
{وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72] كم يستغيثون؟ كم هم يَئِنُّون؟
كم يستغيث بنا المستضعفون وهم قتلى وأسرى فما يهتز إنسان
والعالم اليوم شاهد بذا.
المستذل الحر والمزدرى عالي الـ ذرى والأوضع الأشرف
كم في المسلمين من ذوى حاجة، وأصحاب هموم، وصرعى مظالم، وفقراء وجرحى قلوب، في فلسطين وغيرها من بلاد المسلمين أنَّى اتجهت:
كبلوهم قتلوهم مثَّلوا بذوات الخدر عاثوا باليتامى
ذبحوا الأشياخ والمرضى ولم يرحموا طفلاً ولم يبقوه غلاما
هدموا الدُّور استحلُّوا كل ما حرَّم الله ولم يَرْعَوْا ذِمَاما
أين من أضلاعنا أفئدة تنصر المظلوم تأبى أن يضاما
نسأل الله الذي يكلؤنا نصرة المظلوم شيخاً أو أيَامى.
لا تكن العصافير أحسن مروءةً منا، إذا أُوذي أحد العصافير صاح فاجتمعت لنصرته ونجدته كلها، بل إذا وقع فرخ لطائر منها طِرْن جميعاً حوله يعلِّمْنَه الطَّيران؛ فأين المسلم الإنسان؟
إذا أخصبت أرض وأجدب أهلها فلا أطلعت نبتاً ولا جادها السما
انصر الحق والمظلوم حيث كان، ولا تطمع بوسام التقوى حقيقة إلا إن كنت فاعلاً متفاعلاً، نصيراً بكلمة بشفاعة بإعانة بإشارة خير بدعاء بعزم ومضاء.
عَبِّئْ له العزم واهْتِف مِلء مَسْمَعِه لابد لليل مهما طال من فلق
هذا عرينك لكن أين هيبته والليث ليث فتيّاً كان أو هَرِمَا
على الليالي على الأيام في ثقةٍ نقِّل خطاك وإلا فابتر القدما
كالسيل منطلقاً كالليل مهتدماً حتى ترى حائط الطغيان منهدما(3/13)
تقديم حب الله ورضاه على كل ما عداه
حقيقة الكلمة: إيثار رضا الله على رضا كل أحد، وإن عظمت المحن، وثقلت المُؤن، وضعف الطَّوْل والبدن.
تقديم حب الله على حب كل أحد؛ إن كان أباً أو أخاً أو زوجاً أو ابناً أو مالاً سكناً: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24].
لما بلغت الدعوة في مكة نهايتها، واستنفذت مقاصدها، أذن الله تعالى لرسوله بالهجرة إلى المدينة وللمسلمين معه، فما تلكئوا، ولا ترددوا، بل خرجوا يبتغون فضلاً من الله ورضواناً.
تركوا الأهل والوطن، تركوا المال والولد، لم يبقَ منهم إلا مفتون أو محبوس أو مريض أو ضعيف، وقد كانت الهجرة عظيمة شاقة صعبة على المسلمين الذين وُلدوا بـ مكة، ونشئوا بها، ومع ذا هاجروا منها؛ استجابةً لأمر الله تعالى، ولأمر رسوله صلى الله عليه وسلم ولسان حالهم:
مرحباً بالخطب يبلوني إذا كانت العلياء فيه السببا
ثم مرضوا بـ المدينة، وأصابتهم الحمى، فأباحوا بأشعار وأقوال أثناء المرض تدل على صعوبة ما لاقوه وعانوه على نفوسهم، فها هي عائشة تأتي إلى أبيها أبي بكر رضيَ الله عنهما وقد أصيب بالحمَّى، يرعد كما ترعد السَّعفة في مهبِّ الريح، وتقول له: كيف تجدك يا أبي؟ فيقول:
كل امرئ مصبَّح في أهله والموت أدني من شراك نعله
فتقول عائشة: والله ما يدري أبي ما يقول.
وبلال رضي الله عنه محموم يُسائل نفسه: هل سيرى سوق مجنة ومجاز، وجبال مكة كـ شامة وطفيل، ونباتها كالإذخر والجليل، ثم يرفع عقيرته، فيقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بوادٍ وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوماً مياه مجنة وهل يبدو لي شامة وطفيل
ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بأصحابه أمضَّه ذلك وآلمه، إذ كان يعزّ عليه عنتهم صلوات الله وسلامه عليه فدعا ربه: {اللهم حبِّب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وبارك لنا في مدها وصاعها، وانقل حماها إلى مهيعة أو إلى الجحفة} فكانت بعدها من أحب البلدان إلى أصحابه.
حالهم:
اختر لنفسك منزلاً تعلو به أو مت كريماً تحت ظل القسطلِ
وإذا نبا بك منزل فتحولِ
أخيراً: هذه مشاعر مسلم حول الهجرة، هو أبو أحمد بن جحش رضي الله عنه وأرضاه، يصورها مع زوجته بأسلوب عظيم يبين فيه أنه يطلب ويرغب ما عند الله بهجرته، ولو كان في ذلك شدة مشقة وتعب ونصب وكد، راجياً ألا يخيبه الله كما يروى، فيقول:
ولما رأتني أم أحمد غادياً بذمة من أخشى بغيب وأرهب
تقول فإما كنت لابد فاعل فيمِّن بنا البلدان ولتنأ يثرب
فقلت لها بل يثرب اليوم وجهنا وما يشأ الرحمن فالعبد يركب
إلى الله وجهي يا عذولي ومن يقم إلى الله يوماً وجهه لا يخيب
فكم قد تركنا من حميم وناصح ونائحة تبكي بدمع وتندب
ترى أن موتاً نأينا عن بلادنا ونحن نرى أن الرغائب نطلب
بهذا ما يصور قساوة الخروج من أرضهم لكنه خروج في سبيل ربهم، فماذا يضرهم والله مولاهم؟
حنوا إلى أوطانهم واشتاقوا إلى خيام اللؤلؤ في الجنة مولاهم، فغلَّبوا الأعلى على الأدنى، والأنفس على الأرخص، والأسمى على الأخس:
شتان بين امرئ في نفسه حرم قدس وبين امرئ في قلبه صنم
خذني إلى بيتي أرح خدي على عتباته واقبل مقبض بابه
خذني إلى وطن أموت مشرداً إن لم أكحل ناظري بترابه
إنها الجنة والذي نفسي بيده! لو كنت أقطع اليدين والرجلين مذ خلق الله الخلق تسحب على وجهك إلى يوم القيامة ثم كان مأواك الجنة ما رأيت بؤساً قط، فاسمع وعِ:
لا تؤثر الأدنى على الأعلى فتحرم ذا وذا يا ذلة الحرمان
ألا رُبَّ مبيض ثيابه اليوم مدنس لدينه، ألا رب مكرم لنفسه اليوم مهين لها غداً، ادفعوا سيئات الأمس بحسنات اليوم: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].
أقول ما تسمعون وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(3/14)
لا تنظر إلى صغر المعصية وانظر إلى عظمة من عصيت
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأوَّلين والآخرين، وأُصلي وأُسلم على النبي الأمين، وآله وصحبه والتابعين.
أما بعد:
عباد الله! اتقوا الله حق التقوى، فمن حقيقة هذه الكلمة: ألا تنظر إلى صغر الخطيئة، بل تنظر إلى عظمة من عصيت.
إنه الله الجليل الأكبر الخالق البارئ المصور
كم من ذنب حقير استهان به العبد فكان هلاكاً له: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15].
ثبت عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه قال: {كانت العرب تخدم بعضها بعضاً في الأسفار، وكان مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما رجل يخدمهما، فناما واستيقظا وهو نائم لم يهيء لهما طعاماً، فقال أحدهما لصاحبه: إن هذا لنئوم -أي: كثير النوم- ثم أيقظاه، وقالا: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقل له: إن أبا بكر وعمر يقرئانك السلام، وهما يستأدمانك -يعني: يطلبان منك الإدام- فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: أقرئهما السلام، وأخبرهما أنهما قد ائتدما، فرجع فأخبرهما، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنكما قد ائتدمتما! ففزعا فجاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله! بعثنا إليك نستأدمك، فقلت: قد ائتدمنما، فبأي شيء ائتدمنا؟
قال: بلحم أخيكما، والذي نفسي بيده! إني لأرى لحمه بين أنيابكما، قالا: فاستغفر لنا يا رسول الله! قال: بل مُروه هو فليستغفر لكما}.
عباد الله: إن أبا بكر وعمر ما نظرا إلى ما قالا، فإنها كلمة قد نقول أعلى منها مئات المرات، لكنهما نظرا إلى عظمة من عصو، إنه الله! وتلك حقيقة تقوى الله.
فإيَّاكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه، وإن لها من الله طالباً.
لا تحقرنَّ صغيرة إن الجبال من الحصى
والقَطْر منه تدفَّق الخُلْجَان.(3/15)
الحذر من استحلال محارم الله
حقيقة الكلمة أخيراً: الحذر من استحلال محارم الله بالمكر والاحتيال، وأن يعلم العبد أنه لا يخلصه من الله ما أظهره مكراً من الأقوال والأفعال، فإن لله يوماً تعك فيه الرجال، وتشهد فيه الجوارح والأوصال، وتجري أحكام الله على القصود والنيات، كما جرت على ظاهر الأقوال والحركات، يوم تبيض وجوه بما في قلوب أصحابها من الصدق والإخلاص للكبير المتعال، وتسودُّ وجوه بما في قلوب أصحابها من الخديعة والمكر والاحتيال، هنا يعلم المخادعون أنهم لأنفسهم يخدعون، وبها يمكرون: {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام:123] {وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأعراف:169].
هذه بعض حقائق الكلمة، جعلنا الله من المتقين حقّاً.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، اللهم آتِ نفوسنا تقواها، اللهم زكِّها أنت خير من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها، وأنت أرحم الراحمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وانصر عبادك الموحدين.
اللهم ارحم من لا راحم له سواك، ولا ناصر له سواك، ولا مأوى له سواك، ولا مغيث له سواك.
اللهم ارحم سائلك ومؤمِّلك، لا ملجأ له ولا منجى منك إلا إليك.
اللهم كن للمستضعفين والمضطهدين والمظلومين، اللهم فرِّج همهم، ونفِّس كربهم، وارفع درجتهم، واخلفهم في أهلهم.
اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء، يا سميع الدعاء.
اللهم ارحم موتى المسلمين اللهم ارحم موتى المسلمين اللهم ارحم موتى المسلمين، اللهم إنهم عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك، احتاجوا إلى رحمتك وأنت غني عن عذابهم.
اللهم زد في حسناتهم، اللهم زد في حسناتهم اللهم زد في حسناتهم وتجاوز عن سيئاتهم، أنت أرحم بهم، وأنت أرحم الراحمين!
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(3/16)
حياض النجاة
في الدنيا طريقان لا ثالث لهما: طريق الطاعة والنجاة، وطريق المعصية والهلاك.
وقد يحصل لمن يسير في طريق الطاعة والنجاة بعض الغفلة والكبوة فعليه أن يبادر بالتوبة، ويسارع بالأوبة وهناك إشارات ومحفزات تشجع العائدين إلى الله على المضيِّ في هذا الطريق.(4/1)
حقيقة الربح والخسران
الحمد لله، قضى ألا تعبدوا إلاَّ إيَّاه، لا مانع لِمَا أعطاه، ولا رادَّ لِمَا قضاه، ولا مظهر لما أخفاه، ولا ساتر لما أبداه، ولا مضلَّ لمن هداه، ولا هاديَ لمن أعماه، سبحانه خلق آدم بيده وسوَّاه، وأمره ونهاه، ثم تاب عليه ورحمه واجتباه، حاله ينذر من سعى فيما اشتهاه.
طرد إبليس فأصمَّه وأعماه وأبعده وأشقاه، وفي قصَّته نذير لمن خالف الله وعصاه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أخذ موسى من أمِّه طفلاً ورعاه، وساقه إلى حِجْر عدوِّه فربَّاه، وجاد عليه بالنِّعم وأعطاه، فمشى في البحر وما ابتلَّتْ قدماه، وأهلك عدوَّه بالغرق وَوَارَاه، خرج يطلب ناراً فشرَّفه الله وناداه.
{إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي} [طه:14].
حمداً لمن نبيه قد بعثا فدوَّخت بعوثه مَن قد عثا
ثم الصلاة والسلام ما حكت حمائم حمائماً إذا بكت
وهزَّت الغصون أنفاس الصبا فهيَّجا صبابة لمن صبا
وَلَمَعَ البرق إذا الغيث وكف وطاف بالبيت منيب واعتكف
على أجلِّ مُرْسَلٍ وآله وصحبه وتابعي منواله
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
عباد الله: إنَّ النَّاظر بعين البصر والبصيرة إلى الخلق يجد عجباً، يجدهم غادِين جادِّين في بيع أنفسهم؛ ففائز رابح، ومَغْبُون خاسر، فرابح قد رجح ميزانه، وخاسر أَوْبَقَهُ عدوانه، رابح دان نفسه وحاسبها، وعمل لما بعد الموت فزكا، وصعد بها وارتقى، وخاض المتاعب وركب الأهوال وانتقى، وإلى العلياء ارتقى، فكان الكيِّس العاقل الفاطن ذا الذكا، خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى.
فآفة المرء الهوى، فمن علا على هواه عَقْلُه فقد نجا، أعتق نفسه وشرَّفها وزكَّاها، وقد أفلح من زكَّاها.
فأَرْبِحْ بها من صَفْقَةٍ لمبايع وأَعْظِمْ بها أعظم بها ثمَّ أعْظِمِ
وخاسر نَسِيَ مصيره فانغمس في المحرَّمات على غير بصيرة، وأقبلَ على الدنيا لاهِثاً في شَرَهِ بهيمة، يجيد السباحة من أجلها في كل بحر، ويلبس لها أكثر من ثوب، ويمثِّل بها أكثر من دور، ويتكلم لها بأكثر من لسان، ويركب لها كل مطيَّة.
باع دينه بعَرَضٍ منها، وهبط والهبوط هيِّن، والهابط لم تكن نفسه يوماً أَبِيَّةٌ، أتبع نفسه هواها، وتمنَّى على الله الأماني حتى داهمته المنيَّة.
فَهَمُّه في اليوم أكلٌ وكِسَا وهَمُّه بالليل خَمْرٌ ونِسَا
خائب عاجز خائر بَائِر، خسر نفسه فأوبَقَهَا وأهلكها، وبثمن بخسٍ باعها، فيا لها من رزيَّة! دسَّاها وقد خاب من دسَّاها.
فكان كفاقئ عينيه عمداً فأصبح لا يضيء له نهار
بل كان كالحمار لا يُذكى فيدفع الجوع ولا يُزكَّى
شاد للأولى فهلا كان للأخرى يشيد
{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ للْعَبِيدِ} [فصلت:46] لا نعجب من خطئه واتباع هواه معشر المؤمنين؛ إذ لا عجب ولا غرابة أن يخطئ الإنسان، وتصدر منه الإساءة والسَّفه والجهل والظلم، فكل ابن آدم خطَّاء، والمعصوم من عصمه الله، لكن العجب منه يوم يدرك خطأه وإساءته وسفهه وجهله وظلمه، ثم يظل متلبساً بذلك مصرّاً عليه، آمناً مكر الله به ووعيده له: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] يقول ابن القيم رحمه الله: الذنب بمنزلة شرب السمِّ، والتوبة تِرْيَاقُه ودواؤه، والطَّاعة هي الصحة والعافية، وصحة وعافية مستمرة خير من صحة يتخللها مرض وشرب سمٍّ، وصحة يتخللها مرض وشربُ سمٍّ خير من بلاء دائم.
من حاد حب الكمال تعنُّتاً يتبدل الأدنى ويبقى الأحقرَا
فاغتنم حياتك عمرك فلكل غادٍ روحة ولكل وضَّاءٍ سِرَار.(4/2)
دعوة إلى التوبة والعودة إلى أفياء الطاعة
يا من بدرت منه الخطيئة وكلنا ذاك! عودة عودة إلى أفْيَاء الطاعة، الباب مفتوح، والظل والرخاء من وراء الباب فالزم سدة الباب، وقم في الدُّجا، واصرخ بلسان الذُّل، مع وجيف القلب، وواكف الدَّمع: يا أيها العزيز! مسَّنا وأهلنا الضُّرُّ.
هيا فالنَّفَس يخرج ولا يعود، والعين تطرف ولا تطرف الأخرى إلا بين يديْ العزيز الحميد.
فلابد من ساعة طاهرة تكون الرءوس بها فاغرة
إذا استوفت النفس مكيالها وزُلْزِلت الأرض زلزالها
فما لك من فرصة للإياب ولن يرجع العمر بعد الذهاب
تقدم فما زال للصلح باب وبالموت يغلق باب المتاب
{وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيماً} [النساء:27]
رِيدِي حياض النجا يا نفس واطَّرحي حياض حبِّ الهوى للشاء والنَّعِمِ
بادر قبل أن تُبَادَر! بادر بالإقلاع عن الذنب بشعور بالألم، يقضُّ المضاجع، ويؤرِّق المنام، ويقرِّح الجفون، ويزرع في القلب الحسرة والندامة، مع عزم أَكيد على استئناف حياة صالحة نقية تقية طاهرة.
بادر فإن تأخير التوبة من الذنب ذنب يحتاج إلى توبة: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن} [النساء:18].
بادر فإن الذنب يجر إلى الذنب، فكم من ذنب صغير كانت النهاية معه بالتسويف أن يُحال بين صاحبه وبين قلبه، وقد يُسلَب إيمانه فبادر.
أرأيت لو أن رجلاً أُمِرَ باقتلاع شجرة باسقة كبيرة أصولها وهو شاب، فرآها كبيرة فهابها، وقال: فلندعها إلى الغد، فلمَّا جاء الغدُ قال: لندعها إلى العام القادم إلى الذي يليه إلى الذي يليه فإنه بمرور الوقت تضعف قوته ويخور، ثم لا يستطيع بعدها قلعها، فما لا تقدر عليه في الشباب لا تقدر عليه -غالباً- وقت المشيب.
فمن العناء رياضة الهَرِم، ومن التعذيب تهذيب الذيب، والقضيب الرطب يقبل الانحناء، فإن جفَّ وطال عليه الزَّمن صعب واستعصى، والغصن أقرب تقويماً من الخشب وما عجزت عنه اليوم قد تكون غداً أشد عجزاً.
فلا تُبقِ فعل الصالحات إلى غدٍ لعل غداً يأتي وأنت فقيد
فبادر! يُفعل الذنب فَيَخْلَقُ الإيمان في القلب كما يَخْلَق الثوب، ثم يُغلَّف بالرَّان فيذبل، ثم يقسو: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم من ذِكْرِ اللهِ} [الزمر:22] ثم يموت، وعندها يُحْرم الإنسان لذَّة مناجاة الله، فعباداته بعد ذلك آليَّة لا روح فيها، لا تزكِّي نفسه، ولا تطهِّر رجْسَه، تلك عقوبة وبلية أي بلية، ثم ينسى القرآن إن كان معه شيء من القرآن، ثم يُهْمِل الاستغفار، ثم يحرص على الذنب مع عدم التلذذ به، كلما حاول أن يعود أُرْكِسَ في ذنبه مع همٍّ وغمٍّ وحزن وخوف وذلٍّ لا يفارقه، أبى الله إلا أن يذلَّ مَنْ عصاه.(4/3)
قصة رجل ارتد عن دينه
ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في البداية، في حوادث سنة ثمان وسبعين ومائتين ما يلي -بتصرف- قال: وفيها توفي ابن عبد الرحيم -قبَّحه الله- هذا الشقي، كان من المجاهدين كثيراً في بلاد الروم، فلمَّا كان في بعض الغزوات، والمسلمون يحاصرون بلدة من بلاد الروم؛ إذ نظر إلى امرأة من نساء الروم في ذلك الحصن، ما غضَّ بصره، والله يقول: {قُل للْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِن اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] أتْبَع النَّظْرة النظرة، والنظرة سهم مسموم من سهام إبليس، وكم نظرة ألقت في قلب صاحبها البلابل والآلام والحسرات.
كان كمن أدخل في جحر يدا فأخطأ الأفعى ولاقى الأسْوَدَا
نظر فهَوِيَهَا، ثم راسلها؛ هل إليك من سبيل؟ فقالت: لا سبيل إلا أن تتنصر وتتبرأ من الإسلام، ومن محمد صلى الله وسلم على نبينا محمد فأجابها، وقال -ونعوذ بالله مما قال-: هو بريء من الإسلام، ومن محمد، وتنصَّرَ وصعد إليها.
لا إله إلا الله! نعوذ بالله من الحَوَر بعد الكَوَر، نعوذ بالله من الضلالة بعد الهدى، نعوذ بالله أن نردَّ على أعقابنا بعد إذ هدانا الله.
المعاصي بريد الكفر، وكم من معصية جرَّت أختها وأختها وأختها، حتى كانت النهاية أن سُلب إيمان العبد، وهذا مَثَلٌ من الأمثلة.
ما راع المسلمين إلا وهو عندها، فاغتمَّ المسلمون لذلك غمّاً شديداً، وشق عليهم ذلك مشقة عظيمة، صَدْرٌ وَعَى القرآن يعود ليعبد الصُّلبان!
لما كان بعد فترة مرُّوا عليه، وهو مع تلك المرأة في ذلك الحصن، عليه ذلّ الكفر وغبرته وقترته، فقالوا: يـ ابن عبد الرحيم ما فعل علمك؟ ما فعلت صلاتك؟ ما فعل صيامك؟ ما فعل جهادك؟ ما فعل القرآن؟
فقال في حمأة ذل الكفر: أُنْسِيتُه، ما معي منه سوى آيتين -لكأنه المَعْنِيُ بهما- {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:2 - 3] ولقد صار لي فيهم مال وولد؛ يعني: صار منهم: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8].
يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على دينك، يا مصرِّف القلوب! اصرف قلوبنا إلى طاعتك، يا رب! ثبتنا على الإيمان، ونجِّنَا من سُبُل الشَّيطان، نسألك اللهم حُسْن الخاتمة؛ فهي وربي لحظات حاسمة، ونسأل الله لنا السعادة والفوز عند الموت بالشهادة.
بادر قبل أن تُبَادَر! هل تنتظر إلا غنى مطغياً، أو فقراً منسياً، أو هِرَماً مفنِّداً، أو موتاً مُجْهِزاً، أو الدَّجال فشَرُّ غائب ينتظر، أو الساعة، والساعة أدهى وأمَرُّ.(4/4)
ضرورة الصدق في التوبة
إن أول قدم في الطريق بَذْل الروح، فإن كنت تستطيع على بذل الروح فتعال وبادر، وإلا فاذهب والْعب مع اللاعبين حتى يأتيك اليقين.
بادر قبل أن تبادر! واصدق الله في توبتك، واجعلها نصوحاً خالصة؛ فإن الله يدعوك في عداد المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ} [التحريم:8] ويَعِد بالفلاح على ذلك فيقول: {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31]
فلو داواك كل طبيب داء بغير كلام ربي ما شفاك
الصادق في توبته لا يزال ذنبه نصب عينيه، خائفاً منه، مُشْفِقاً، وَجِلاً، باكياً، نادِماً مستحياً من ربه، نَاكِساً الرأس بين يديه، دائم التَّضَرُّع إليه، واللجوء إليه، حتى يقول عدو الله إبليس: ليتني تركتُه فلم أوقعه في ذلك الذنب.
روى مسلم في صحيحه: أن امرأة وقعت في كبيرة الزنا في لحظة من لحظات ضعفها، فتذكرت عظمة الله وعقابه ووعيده، فأنابت، بشعور عظيم بمرارة المعصية، وعِظَم الكبيرة، وأرادت البراءة بطريق مُتَيَقَّن لا يتطرق له أدنى احتمال، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: {يا رسول الله! طهرني، فقال ويحك: ارجعي واستغفري الله، وتوبي إليه -كان يكفيها ذلك- لكنها قالت: يا رسول الله، أراك تريد أن تردني كما رددتَّ ماعز بن مالك، والله! إني لحُبْلَى من الزنا، فطهرني يا رسول الله! قال: أأنت؟ قالت: نعم، فقال لها: ارجعي حتى تضعي ما في بطنك.
وبضعة أشهر تمرُّ وهي على خوفها ووَجَلِها وإشفاقها، ثم تضع، وتأتي بالصبي في خِرْقة، وتقول: هو ذا قد وَضَعْتُه فطهرني يا رسول الله! قال: اذهبي فأرضِعِيه حتى تفطميه -وحولان كاملان على خوفها وإشفاقها وعزمها على تطهير نفسها بالحدِّ، والحد كفَّارة كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم- فطمتْه، وأتت النبي صلى الله عليه وسلم بالصبي وفي يده كسرة الخبز، فقالت: هو ذا يا نبي الله، قد فطمته، وأكل الطعام، فطهرني يا رسول الله! -قلبها:
كأنه مهجة نِضْو ببلقعةٍ يعتادها الضاريان الذئب والأسد
-
دفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أُمِر بها فَحُفِر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فكان في من رجمها خالد رضي الله عنه وأرضاه، فتنضَّخ الدم على وجه خالد، فسبَّها وشتمها، فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: مهلاً يا خالد! فو الذي نفس محمد بيده! لقد تابت توبة لو قُسِّمت على أمة لوسعتهم، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مَكسٍ لغُفِرَ له}.
ما ضرها، وكأن الذنب لم يكن، وقد بقيَ لها صدقها، وثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها وعلى توبتها وعملها الصالح، وبقي لها شرف الصحبة، والذي لا إله إلا هو لو سجد أحدنا حتى ينكسر صلبه ما بلغ منزلتها؛ إذ هي منزلة الصحبة وكفى بها من منزلة، بقي لها فوق ذلك صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، ودفنه لها، فرضي الله عنها وأرضاها.
بالصدق زكا الأصل فطاب الفرع وطاب المولد فزكا المَحْتِد.
فنبِّه فؤاداك من رقدة فإن الموفَّق مَن ينتبه
وإن كنتُ لم أنتبه بالذي وُعِظْتُ به فانتبه أنت به(4/5)
عدم اليأس والقنوط
بادر قبل أن تُبَادَر! ولا تيئس ولا تقنط وإن عَظُم الذَّنْب: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رحْمَةِ اللهِ إِن اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
في صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: {إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن الإنس، والبهائم والهَوَام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، حتى ترفع الدَّابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، فإذا كان يوم القيامة أكملها الله بهذه الرحمة، حتى إن الشيطان ليتطاول، يظن أن رحمة الله ستسعه في ذلك اليوم} فيارب!
ارأف بعين حرمت طِيب الكَرَى تشكو ودمع المقلتين قد جرى
في صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب أنه قال: {قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سَبيٌ، فإذا امرأة من السبي تبتغي وليداً لها، وتسعى، حتى إذا وجدت صبياً أخذته، ألصقته ببطنها -أرضعته- فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترون هذه طارحة ولدها في النار؟! قلنا: لا والله، وهي تقدر على ألاَّ تطرحه يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: لله أرحم بعباده من هذه بولدها}.
لا إله إلا هو! هو الغني بذاته سبحانه، جلَّ ثناؤه وتعالى شأنه! العفو أحب إليه من الانتقام، والرَّحمة أحب إليه من العقوبة، سبقت رحمته غضبه، وحلمه عقوبته، الفضل أحب إليه من العدل، والعطاء أحب إليه من المنع، لا إله إلا هو!
يورد ابن القيم رحمه الله عن بعض العارفين: أنه رأى في بعض السكك باباً قد فتح وخرج منه صبي يستغيث ويبكي، وأمه خلفه تطرده، حتى خرج، فأغلقت الباب في وجهه ودخلت.
فذهب الصبي غير بعيد، ثم وقف مفكِّراً، فلم يجد مأوى غير البيت الذي أُخْرِج منه، ولا مَنْ يئويه غير والدته، فرجع مكسور القلب حزيناً، فوجد الباب مُرْتَجاً مُغْلَقاً، فتوسَّدَه ووضع خدَّه على عتبة الباب ونام، فخرجت أمه، فلمَّا رأته على تلك الحال لم تملك أن رَمَت بنفسها عليه والْتزمته تُقبِّله وتبكي، وتقول: يا ولدي! أين تذهب عني؟ من يؤويك سواي؟ ألم أقل لك لا تخالفني؟ ولا تحملني بمعصيتك على خلاف ما جُبلت عليه من الرحمة بك والشفقة عليك وإرادة الخير لك؟ ثم ضمَّتْه إلى صدرها، ودخلت به بيتها.
فتأمل قولها: لا تحملني بمعصيتك على خلاف ما جُبِلتُ عليه من الرحمة بك والشفقة عليك، وتأملْ قوله صلى الله عليه وسلم: {لَلَّهُ أرحم بعباده من الوالدة بولدها} فأين تقع رحمة الوالدة من رحمة الله التي وسعت كل شيء؟
رحمة الله هل تُنال بالتواني والكسل، أم بالجدِّ والعمل؟ لمن كتبها الله؟ اسمعوا معشر المؤمنين إلى قول الله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيل} [الأعراف:156 - 157] إنها للعاملين.
كتبها الله للعاملين لا للخاملين البطَّالين.
أتخطب الحور لم تهد الصَدَاق لها ولم تقدم لها عقداً ولا قُرْطاً
أم تشتري الخلد بالمغشوش من عملٍ وسلعة الله لا تُشرى بما خُلِطَا(4/6)
ضرورة معرفة فضل الله على العبد
فيا عبد الله! اعرف عزة الله في قضائه، وبرِّه في ستره، وحلمه في إمهالك، وفضله في مغفرته، فلله عليك أفضال وأفضال:
أولها: ستره عليك حال ارتكابك للذنب، أما -والله- لو شاء الله لفضحك على رءوس الخلائق، فما جلست مجلساً، ولا حضرت مَجْمَعاً إلا وعُيِّرت بذلك الذنب؛ فكم من عاصٍ نفس معصيتك فُضِحَ وسترك الله الذي لا إله إلا هو!
ويا عجباً! لأقوام باتوا يسترهم الله، فأصبحوا يتحدثون بذنوبهم، قد هتكوا ستر الله عليهم! أولئك غير معافين، إنهم المجاهرون، وكل أمة محمد صلى الله عليه وسلم معافى إلا المجاهرين، فاشكر ربك أنْ سترك، وتب إليه قبل أن يفعل بك ما فعل بغيرك، وقل: اللهم استر واجعل تحت الستر ما تحب، اللهم استر واجعل تحت الستر ما تحب.
ثانيها: حلم الله عليك.
حلم الله عليك في إمهالك، ولو شاء الله لعاجلك بالعقوبة، فما كنت ممن يسمع الآن سعة رحمته.
ثالثها -وهو من أعظمها-: فرح الله عز وجل بتوبتك، فرح إحسان وبرّ ولطف، لا فرحة محتاج إلى توبة عبده، فلن يَتَكثَّر بك من قِلَّة، ولن يتعزز بك من ذلَّة، ولن ينتصر بك من غَلَبَة، تبارك الله وجل الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ثبت في صحيح مسلم: {لَلهُ أشد فرحاً بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض دَوِّيَّة مهلكة قَفْر خالية، معه راحلة عليها طعامه وشرابه، فنام، ثم استيقظ وقد ذهبت، فطلبها حتى أدركه العطش، ثم قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، توسَّد ساعده ينتظر موته؛ فإذا براحلته عنده عليها طعامه وشرابه وزاده، فأخطأ من شدة الفرح، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك} لا إله إلا الله! كيف بلغ به الفرح حتى أخطأ فقال: أنت عبدي وأنا ربك؟!
فرح لا تنقله الألفاظ، وحب الله للعبد أشد من حب العبد لله.
فيفرح بتوبته، ويجازيه بأن يجعل في قلبه من اللذة والفرح والسعادة والسرور ما يُرى بادياً على قسمات وجهه إن صدق ونصح وأخلص، والله ما هو إلا كرجل برز للقتل، ثم عفي عنه، والجزاء من جنس العمل.
رابعها: تبديل السيئات إلى حسنات.
قال الله: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهَا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفْسَ التِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} [الفرقان:68 - 70] فما النتيجة؟ {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [الفرقان:70].
فإن هوى بك إبليسُ لمعصية فأَهْلِكَنْه بالاستغفار يَنْتَحِبِ
بسجدة لك في الأسحار خاشعة سجود مُعْترف لله مُغْتَرب
روى المنذري بسند جيد عن عبد الرحمن بن جبير قال: {أتى النبي صلى الله عليه وسلم شيخ كبير هَرِم، سقط حاجباه على عينيه، وهو مدَّعمُ على عصا -أي: متكئاً على عصا- حتى قام بين يديْ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها، لم يترك داجَّة ولا حاجَّة إلا أتاها، لو قُسِّمت خطيئته على أهل الأرض لأوبقتهم -لأهلكتهم- أله من توبة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هل أسلمت؟ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، قال: تفعل الخيرات، وتترك السيئات، فيجعلهن الله لك كلهن خيرات، قال: وغدراتي وفجراتي يا رسول الله؟! قال: نعم.
وغدراتك وفجراتك، فقال: الله أكبر! الله أكبر! ثم ادَّعم على عصاه، فلم يزل يردد: الله أكبر! حتى توارى عن الأنظار}.
فضل الله واسع، لا تقتحمه العبارة، ولا تجسر إليه الإشارة، لا يهلك إلا هالك، ولا يشقى إلا شقي، فلا تيئس من رحمة الله، ولا تجترئ على معصية الله، وتب كلما أذنبت.
قال بعضهم لشيخه: إني أذنب.
قال: تب.
قال: ثم أعود.
قال: تب.
قال: إلى متى؟ قال: إلى أن تحزن الشيطان، ودَّ لو ظفر منك باليأس والقنوط.
دعاكم رب بالندى يعرف يا من على أنفسهم أسرفوا
لا تقنطوا من رحمتي واعرفوا إني لغفار الذنوب العظام
يا من وسِعْتَ برحمةٍ كل الورى من قد أطاع ومن غدا يتأثَّمُ
إن كان لا يرجوك إلا محسنٌ فبمن يلوذ ويستجير المُجْرمُ(4/7)
عدم النظر إلى صغر الخطيئة بل النظر إلى عظمة من عصيت
بادر قبل أن تُبَادر! بادر ولا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت:
إنه الله الجليل الأكبر الخالق البارئ والمصوِّر
باري البرايا منشئ الخلائق مبدعهم بلا مثالٍ سابق
الأول المبدي بلا ابتداءٍ والآخر الباقي بلا انتهاءٍ
الأحد الفرد القدير الأزلي الصَّمد البرُّ المهيمن العلي
علو قَهْر وعلو الشان جلَّ عن الأضداد والأعوان
من نظر إلى عظمة الله وجلاله؛ عظَّم حُرُماته، وَقَدَره قَدْرَه، وأجَلَّ أمره ونهيه، وعَظُم عليه ذنبه ولو كان صغيراً، لكأنه الجبل هو في أصله يخشى أن يقع عليه فيهلكه، فقلبه كأنه بين جناحيْ طائر، تجده منكسر القلب، غزير الدمع، قلق الأحشاء، له في كل واقعة عبْرَة، إذا هدل الحمام بكى، وإذا صاح الطير ناح، وإذا شدا البلبل تذكَّر، وإذا لمع البرق اهتزَّ قلبه خوفاً ممن يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، الذلُّ قد علاه، والحزن قد وَهَّاه، يذم نفسه على هواه، ويصدع بأوَّاه.
أواه من غفلاتي ومن عسى ولعلا
يا من عليه اعتمادي بك اهتديت ومن لم يَرْجُ الهدى منك ضلا
بادر وإياك ومحقِّرات الذّنوب! فإن لها من الله طالباً، بادر وردَّ المظالم إلى أهلها، أو تحلَّلْ منهم واطلب المسامحة؛ فإنها لا تتم التوبة إلا بذلك.
صحَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لتُؤدُّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يُقاد للشاة الجَلْحَاء من الشاة القَرْنَاء}.
وقال صلى الله عليه وسلم: {من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلله منها اليوم، قبل ألا يكون درهمٌ ولا دينار، إن كان له عمل صالح أُخذ منه بقدر مَظْلَمَتِه، وإن لم تكن له حسنات أُخذ من سيئات صاحبه، فطرحت عليه}.
وفي حديث ابن أنيس: {يقول الله يوم القيامة: أنا الملك، أنا الدَّيَّان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، ولأحد عنده مظلمة حتى اللطمة} قال الله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:31].
لما حضرت عبادة بن الصامت رضي الله عنه الوفاة قال: [[أخرجوا فراشي إلى صحن الدار، فأخرجوه، قال: اجمعوا لي مواليَّ وخدمي وجيراني ومن كان يدخل عليَّ.
فجمعوهم له، فقال: إني لأرى يومي هذا آخر يوم يأتي عليَّ من الدنيا، وليلتي هذه أول ليلة من الآخرة، وإني لا أدري لعلّه فَرَطَ مني إليكم شيء بيدي أو بلساني هو والذي نفس عبادة بيده القصاص يوم القيامة، أحرِّج على أحد منكم في نفسه عليَّ شيء من ذلك إلا اقتص مني قبل أن تخرج روحي، فبكوا جميعاً وضجُّوا وقالوا: بل كنت والداً، وكنت مربياً، وكنت مؤدباً، ولم يكن قال لخادم قط سوءاً، قال: تجودون لي بالدمع، وما يغني الدمع.
أغفرتم لي؟ فضجُّوا وقالوا: أن نعم، قال: اللهم اشهد اللهم اشهد اللهم اشهد أشهد أن لا إله إلا الله]] ثم لقيَ الله.
الخلد تدعو فهل من مجيب والحور تهفو للقاء الحبيب
وآفرحتاه لكل عبد منيب لبَّى ندا الداعي لدار السلام
فبادر بردِّ المظالم أو التحلل منها؛ فلن يجاوز جسر جهنم إلى الجنة ظالم حتى يؤدي مظلمته.
خفف عن ظهرك؛ فظهرك لا يطيق كل ما تجني؛ ظلم هذا، وأكل مال هذا، والوقوع في عرض ذاك، وشتم ذا، خفِّفْ قد خاب من حمل ظلماً، قال الله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ منْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47].(4/8)
مجالسة الصالحين والابتعاد عن الفجار
بادرْ قبل أن تُبادَر! ولا تصحب الفاجر؛ فإنه يزين لك فعله، ويود لو أنك مثله، وطبعك يسرق منه، والمرء على دين خليله.
لا تسكن أرضاً موبوءة؛ فإن جرثومة المرض تسري فتفري، اهجر المعصية ومكانها، وعليك بقوم يعبدون الله بأي أرض، فاحبس نفسك معهم؛ فإن بيئة المعصية بيئة سوء، والله الذي لا إله إلا هو، لأن تنقل الحجارة، وتأكل الحجارة، وتنام على الحجارة مع الأبرار، خير لك من أكل الحلوى، والجلوس على الحرير، والنوم على الحرير مع الفجار؛ أولئك يدعون إلى الجنة، وأولاء يدعون إلى النار.
فما ينفع الجرباء قُرْبُ صحيحة إليها ولكن الصحيحة تجربُ
قال الله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28].
اهجر مكان المعصية، وأطِلْ الصمت، وأَدْمِن السُّكوت، ولا تخُض مع الخائضين، وقف على أحوال التائبين، وإذا رأيت العصاة فلا تشمخ بأنفك، واحمد ربك، ودُلَّهم على ما أنت فيه، وقل: {كَذَلِكَ كُنْتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:94] ففي ذلك ذكرى للمؤمنين.
هاهو أبو لبابة رضي الله عنه وأرضاه لما أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة، وقد أجهدهم الحصار، وقد غدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ونقضوا العهد، فقام إليه الرجال والنساء والأطفال يبكون، فرقَّ لهم، فقالوا: [[أننزل على حكم محمد؟ صلى الله وسلم على نبينا محمد، قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه إنه الذبح، يقول: فوالذي لا إله إلا هو! ما زالت قدماي من مكانها حتى علمت أني خنت الله ورسوله]] ورجع نادماً أسيفاً، عظَّم الله عز وجل فلم يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما رجع فارتبط بجذع في المسجد، لا يُطلق منه إلا ليصلي، ثم يعود إلى ذلك الجذع، يتلمس عفو الله، ولطف الله، ورحمة الله، وتوبة الله، حتى إذا ما نزلت توبته، أَبْشِرْ بخير يوم مرَّ عليك يا أبا لبابة؛ لقد تِيبَ عليك.
خرَّ ساجداً لله عز وجل، ثم قام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلقه، فقال -وهو يرسم منهجاً لهجر المعصية، ومكان المعصية، وبيئة المعصية-: {يا رسول الله! والذي لا إله إلا هو! ما وطئت قدمايَ أرض بني قريظة ما حييت، والله لا أُرَى في بلد خنت الله ورسوله فيه أبداً}.(4/9)
أتبع السيئة الحسنة تمحها
بادر قبل أن تُبَادر! وأتبع السيئة الحسنة تمحها، قال الله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] لما راجع عمر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، فقال: {ألست نبي الله حقّاً؟! أو لسنا المؤمنين؟! أو لسنا على الحق وهم على الباطل؟! فعلام نعطي الدَّنيَّة في ديننا ولمَّا يحكم الله بيننا؟! فقال صلى الله عليه وسلم: إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري}.
وقال أبو بكر: [[الزم غرزه يـ ابن الخطاب! فوالذي نفسي بيده إنه لعلى الحق]].
يقول عمر: [[فعملت لذلك أعمالاً، يقول: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق؛ مخافة مراجعتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية]].
بادر ولا تعجز إذا فرطت منك سيئة أن تتبعها حسنة.
واذكر مسير العمر ما أسرعه وارقب هجوم الموت ما أفظعه
وبادر قبل أن تبادر! دع المحدثات والبدع؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته} صحَّحه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب والترهيب، تدري أخي أين طريق الجنة؟! طريقها القرآن، ثم السُّنة.
وخير أمور الدين ما كان سُنَّة وشر الأمور المحدثاتُ البدائع(4/10)
الوقوف على أحوال التائبين
بادر وقف معي على أحوال التائبين؛ فإنها ذكريات متألِّمين، وذكرى المتألم تنفع المؤمنين بإذن رب العالمين، يقول صاحب رسالة: أخي الشاب إلى أين تسير: قال صاحب القصة: كنَّا ثلاثة من الأصدقاء يجمعنا الطَّيش والعبث، لا بل أربعة؛ فقد كان الشيطان رابعنا، نذهب لاصطياد أعراض المسلمين بالكلام المعسول، نستدرجهن إلى الاستراحات في المزارع البعيدة بعد موت قلوبنا وأحاسيسنا ومشاعرنا.
يقول: هكذا كانت حياتنا، يقول: أيامنا ليالينا في المزارع والمخيَّمات في السيارات على الشواطئ، إلى أن جاء يوم وذاك اليوم لا يُنسى.
ذهبت إلى المزرعة مع أصحابي، كل شيء جاهز، الشراب جاهز -ونعوذ بالله- الفريسة جاهزة -ونعوذ بالله- نسينا الطعام، ذهب أحدنا لشراء طعام العشاء بسيارته في حوالي السادسة تقريباً، مرت الساعات تلو الساعات دون أن يعود.
وفي العاشرة شعرت بالقلق، شعرت بالضيق، انطلقت بسيارتي أبحث عنه، وفي الطريق شاهدت ألسنة النيران تندلع على جانبي الطريق، يا للهول! فوجئت بأنها سيارة صديقي، النار تلتهمها، مقلوبة على أحد جانبيها، كالمجنون أسرعت أحاول إخراجه من السيارة، وجدت نصف جسده قد تفحَّم، لم يزل على قيد الحياة، سحبته إلى الأرض، فتح عينيه وأخذ يهذي: النار، النار، النار، قررت حمله بسيارتي إلى المستشفى.
فقال بصوت باكٍ حزين: لا فائدة، لن أصل، (ما عسى يُغني غريق عن غريق) خنقتني الدموع، أراه يموت أمامي، ثم فوجئت به يصرخ بأعلى صوته: ماذا أقول له؟! ماذا أقول له؟! ماذا أقول له؟!
دُهشت وقلت له: من هو؟ قال: الله، الله، ماذا أقول له؟ ثم صرخ صرخة مدوِّية، ولفظ آخر أنفاسه.
اجتاح الرعب جسدي ومشاعري، صورته لم تفارقني، يصرخ: النار، النار.
والنار تلتهمه، وهو يقول: ماذا أقول له؟ ماذا أقول له؟ تساءلت، وقلت: وأنا ماذا أقول له؟ لا إله إلا الله!
فاضت عيناي، اقشعرَّ جسدي، وإذا بالمنادي ينادي: الله أكبر، الله أكبر، نداء صلاة الفجر، أحيا فيَّ كل جارحة، أحسست لأول مرة أنه نداء خاص بي، يهز أعماقي، يدعوني لإسدال الستار على فترة مظلمة من حياتي، يدعوني إلى الهداية، إلى السعادة، اغتسلت، تطهرت، أسقطت عن جسدي وروحي ثقل رذائل غرقت فيها سنوات وسنوات، أدَّيت صلاة الفجر، ومن يومها لم تَفُتْنِي فريضة، والحمد لله رب العالمين!
واأسفاه من حياة على غرور، وموت على غفلة، ومنقلب إلى حسرة، ووقوف يوم الحساب بلا حجَّة!
ازرع لكي تحصد يوم الزحام يا ويل من يلهيه عنه الحطام
يا عبد الله! أيها الشاب! مثِّل نفسك -أجارك الله- صاحب الحادث، ثم لا تسوِّف، عجِّل عجِّل، هيا هيا، إلى الله لا طاقة لقذارة الوسخ مع بياض الصابون، قل قلباً وقالباً:
أيا ملك الملوك أقل عثاري فإني عنك أنأتني الذنوب
وأمرضني الهوى لهوانِ نفسي ولكن ليس غيرك لي طبيب
أيا ديان يوم الدين فرِّجْ هموماً في الفؤاد لها دبيبُ(4/11)
عدم الاغترار بكثرة العمل
وبادر قبل أن تُبَادَر! بادر قبل أن تُبادَر ولا تغترَّ بكثير عملك؛ فأعمالك الصالحة من توفيق الله وفضله ومَنِّه عليك، ومع هذا فليست ثمناً لجزائه وثوابه، بل غايتها أنها بعد النصح والوقوع على أكمل وجه شُكْرٌ له على بعض نِعَمِه سبحانه وبحمده، فلذلك لو عذَّب الله أهل سماواته وأرضه لعذَّبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم.
في الحديث المتفق عليه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لن يُدخل أحد منكم الجنة عملُه.
قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمةٍ منه وفضل} ألا إن المنفي هنا استحقاق الجنة بمجرد العمل، وكون العمل ثمناً وعوضاً لها.
فما العمل ولو عظم يساوي نعمة البصر؟! فادرِ وانتبه، وليكن حالك ومقالك:
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رِقِّهم عَتَقُوهُم عتقَ أبرارِ
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبت في الرِّقِّ فاعتقني من النَّار
أخرج الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن أبي مليكة، عن ذكوان مولى عائشة رضي الله عنها أنه استأذن لـ ابن عباس رضي الله عنهما على عائشة وهي تموت، وهي في سكرات الموت، وعندها ابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن، فقال لها: هذا ابن عباس يستأذن عليك، وهو من خير بنيك، فقالت: دعني من ابن عباس ومن تزكيته! فقال لها عبد الله: يا أماه! إنه قارئ لكتاب الله، فقيه في دين الله، حبيب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأذني له فليسلم عليك وليودعكِ، قالت: فَأْذَن له إن شئت.
فأذن له فدخل وسلَّم وجلس، ثم قال: أبشري يا أمَّ المؤمنين، والله ما بينك وبين أن يذهب عنكِ كل أذى ونَصَب وَوَصَب، وتلقي الأحبة؛ محمداً صلى الله عليه وسلم وحزبه إلا أن تفارق الروح الجسد، قالت: إيه وأيضاً، فقال: إن كنتِ لأحب أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، ولم يكن يحب إلا طيباً.
قالت: وأيضاً، قال: وأنزل الله براءتك من فوق سبع سماوات، فليس مسجدٌ في الأرض إلا وهو يتلى فيه آناء الليل، وآناء النهار: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ منْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [النور:11] قالت: وأيضاً، قال: وسقطت قلادتك بـ الأبواء، فَاحْتبِس النبي صلى الله عليه وسلم والناس معه في ابتغائها وطلبها، حتى أصبح القوم على غير ماء، فأنزل الله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [النساء:43] فكانت رخصة عامة للناس بسببك إلى يوم القيامة.
فوالذي لا إله إلا هو! إنك لمباركة، فأجهشت وقالت: دعني مِن هذا يـ ابن عباس! والذي لا إله إلا هو! لوددتُ أني كنت نسياً منسياً، لوددت أني كنت نسياً منسياً.
تناست كل فضائلها أمام قوة استحضار الحياة الآخرة في قلبها، وخشيتها لله تعالى، وكذلك يكون رسوخ اليقين، وقوة الإيمان برب العالمين.
وهذا ابن مسعود الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: {الغُليِّم المعلَّم}: يقول: [[والذي لا إله إلا هو! لوددت أني انقلب روثة، ثم أُدعى عبد الله روثة، وأن الله غفر لي ذنباً واحداً]].
فبادر ولا تغتر، واحمد الله؛ فله المنَّة: {لَمَغْفِرَةٌ منَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ ممَّا يَجْمَعُونَ} [آل عمران:157] يا رب أنت المرجَّى، أنت العزيز القدير.
يا رب أنت المجير قد مسَّنا ما يضير
فلا تكلنا لنفسٍ فيها تمادى الغرور(4/12)
ضرورة الاستعانة بالله للثبات على الطريق
بادر -أخيراً- قبل أن تُبَادَر! واستعن بمولاك يُعنك مولاك، قال أحد السلف لتلميذه: ما تصنع بالشيطان إن سوَّل لك الخطايا؟ قال: أجاهده، قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده، قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده، قال: الأمر بك يطول، أرأيت إن مررت بغنم، فنبحك كلبها، ومنعك العبور، ما تصنع؟ قال: أجاهده على العبور، قال: فإن لم تستطع العبور؟ قال: أجاهده، قال: فإن لم تستطع؟ قال: أجاهده، قال: الأمر بك يطول، استعن بصاحب الغنم يكفَّ وعنك كلبه: {وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هو السَمِيعٌ العَلِيمٌ} [فصلت:36].
أقسم الشيطان قال سوف لا أترككم إلا شقياً أو تقياً
يقول أحد السلف: [[رأيت كل أحد له عدو، من اغتابني فليس بعدوي، ومن أخذ مني شيئاً فليس بعدوي، عدوي مَن إذا كنت في طاعة الله أمرني بمعصية الله، حتى إذا ما زلَلْت في معصية الله آيسني من رحمة الله]] إنه إبليس وأعوانه من شياطين الجن والإنس، قد قطع العهد: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآَتِيَنَّهُم من بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:16 - 17] فالْبس لأمَةَ الحرب، وجرِّد السيف من الغِمْد، وأخرج سهامك من كنانتها، واتَّخذ موقفاً في صف جند الرحمن، وابدأ المعركة مع إبليس وأعوانه، واستعن بمولاك يعنك مولاك.
ذهب الزمان وأنت تقول عسى وأرجُو ربما
الماء عندك قد طمى ولم تزل تشكو الظَمَا
بادر قبل أن تُبَادَر! وقِفْ بالباب وأنت الذليل الحقير، واضرع إلى العلي الكبير تضرُّع الأسير بقلب كسير.
وقل: يا إله العالمين! يا أكرم الأكرمين! عبدك أسير الخطايا، صاحب الهفوات والرزايا، واقفٌ ببابك ينتظر رحمتك، الخير دأبك، والحكم حكمك، وأنت أرحم الراحمين، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأسألك سؤال الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عيناه.
اللهم اغفر لنا قبل أن تشهد الأعضاء والجوارح، اللهم اغفر لنا قبل أن تشهد الأعضاء والجوارح، وتبدو السوءات والفضائح.
يا رب من للبائس الفقير غير الكريم المالك القدير
فحسبنا الله ونعم الملتجى وحسبنا الله ونعم المرتجى
ثم الصلاة ما تغنى الشادي على محمد النبي الهادي
ما هتفت وَرْقَاء بالنِّياح وغرَّد القُمْرِيُ بالصباح
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(4/13)
رسالة إلى شاب
إن الله سبحانه وتعالى خلقنا لغاية نبيلة، ولحكمة جليلة ألا وهي عبادته سبحانه وتعالى، فحثنا على التفكر في مخلوقاته، وبين لنا صراطه المستقيم، ورغبنا في جنته ورهبنا من ناره، وجعل باب التوبة مفتوح، فهل من مبادرة ورجوع إلى الله؟(5/1)
الحث على التفكر في مخلوقات الله
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته ومن لا غنىً له طرفة عين عن رحمته، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الأحبة: شكر الله لكم هذا الترحيب الحار، ونسأل الله عز وجل أن يجعل جمعنا وإياكم على الخير دائماً وأبداً، نسأله أن يجعل جمعنا حباً فيه، فهو الرباط الذي لا ينفصم، وإذا كان الحب في الله ثبت ونبت وآتى ثماره، وإذا كان الحب لغرض آخر -وحاشاه أن يكون بيننا- فسرعان ما يذهب وكأن لم يكن، ما كان لله يبقى دائماً وما كان لغير الله يذهب سريعاً.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: [[والذي لا إله غيره لو أنفقت مالي كله في سبيل الله، ثم صمت النهار لا أفطره، وقمت الليل لا أنامه، ثم أصبحت لا أحب أهل الطاعة، ولا أبغض أهل المعصية لخشيت أن يكبني الله على وجهي في النار ولا يبالي]].
أي رباط نرتبط به أيها الأحبة؟!
نحن نرتبط بلا إله إلا الله، ولاؤنا فيها، وعداؤنا لمن لم يقم بها.
أيها الأحبة: أسأل الله عز وجل الذي جمعنا وإياكم في هذه الروضة أن يجمعنا وإياكم في روضة الخير في جنات ونهر، في معقد صدق عند مليك مقتدر.
ما أريد أن أتحدث به إليكم أيها الأحبة، هو حديث الأخ لإخوته، وحديث الأب لأبنائه، حديث ربما سمعتموه وعرفتموه ولكننا نكرره ذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين.
يا أيها الأحبة:
ألا كم ذا التراخي والتمادي وحادي الموت بالأرواح حادي
تنادينا من المنية كل وقت فما نصغي إلى قول المنادي
فلو كنا جماداً لاتعضنا ولكنا أشد من الجمادي
وأنفاس النفوس إلى انتقاص ولكن الذنوب إلى ازديادي
إذا ما الشرع قارنه اضطرار فليس دواؤه غير الحصادي
كأنك بالمشيب وقد تبدى وبالأخرى مناديها ينادي
وقالوا قد قضى فاقضوا عليه سلامكم إلى يوم التنادي
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
سؤال يا أيها الأحبة! من القائل لهاتين الآيتين؟
من المتكلم بهاتين الآيتين؟
ومن المتكلم بقوله: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ} [يونس:101] كأني بكل واحد منكم يقول: إنه الله الذي لا إله إلا هو.
الكواكب من كوكبها؟
السماء من رفعها؟
الجبال من نصبها؟
الأرض من سطحها؟
إنه الله الذي لا إله إلا هو الذي قال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190] ما صفاتهم؟ {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191].
يا أيها الأحبة: تساؤل أتساءله وأقول لكم قبل هذا التساؤل: يا أيها الأحبة! كل شيء في هذا الوجود ينطق بوحدانية الله عز وجل، وسأضرب لكم على ذلك أمثلة ولستم في حاجة إلى أن تضرب الأمثلة، لكن من باب التأكيد على ذلك، ومن باب طرح الأنظار، ومن باب التفكر والنظر في ملكوت السماوات والأرض.
ورقة التوت -يا أيها الأحبة- هذه الورقة إذا أكلتها النحلة تخرج عسلاً، فإذا أكلتها الشاة أخرجت روثاً، فإذا أكلتها دودة القز تخرج حريراً! ورقة واحدة تأكلها ثلاثة مخلوقات فيكون الإخراج مختلفاً ما بين طيب ونافع وخبيث!! إن ورقة التوت تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لسان حالها ينطق بذلك، ولسان مقالها ينطق بذلك.
أيها الأحبة: هي ورقة تشهد أن لا إله إلا الله، وإن بشراً أنعم الله عليه بقلب وعقل وعين وأذن ونعم لا تعد ولا تحصى ثم لا يعرف أن الله هو الذي لا إله إلا هو! فإن ورقة التوت في هذه أعلى منه وأعظم منه وأعلى وأحب عند الله عز وجل من هذا الذي انتكس فهمه، فلم يعرف مَنْ خلقه، ولم يعرف من يجرد نفسه له، ومن يتحرك له ومن يعبده، ورقة التوت أولى منه بذلك.
تأمل في الوجود بعين فكر ترى الدنيا الدنية كالخيال
ومن فيها جميعاً سوف يفنى ويبقى وجه ربك ذو الجلال
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداكا؟
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عفاكا؟
قل للصحيح يموت لا من علة من بالمنايا يا صحيح دهاكا؟
قل للبصير وكان يحذر حفرة فهوى بها من ذا الذي أهواكا؟
بل سائل الأعمى خطا بين الزحام بلا اصطدام من يقود خطاكا؟
قل للجنين يعيش معزولاً بلا راع ومرعى ما الذي يرعاكا؟
قل للوليد بكى وأجهش بالبكا لدى الولادة ما الذي أبكاكا؟
وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاكا؟
واسأله يا ثعبان كيف تعيش أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا؟
واسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهداً وقل للشهد من حلاكا؟
بل سائل اللبن المصفى كان بين دم وفرث ما الذي صفاكا؟
ستجيب ما في الكون من آياته عجباً عجاباً لو ترى عيناكا
ربي لك الحمد العظيم لذاتك حمداً وليس لواحد إلاكا
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، كل شيء ينطق بوحدانيته، وكل شيء ينطق بقدرته، وكل شيء ينطق بأنه سبحانه المعبود بحق وما عداه فطاغوت عبد من دونه.
لا إله إلا الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44] موكب عظيم سار إلى الله، انفلت منه من انفلت، فشقي، ومشى في ركاب هذا الموكب من مشى فسعد بإذن ربه سبحانه وتعالى.(5/2)
الحكمة من خلق الإنسان
أسأل سؤالاً آخر من خلقك أيها الشاب؟ من خلقك أيها العبد؟ سؤال قد يكون ساذجاً لكن لابد له من إجابة، إنه الله الذي لا إله إلا هو.
هل خلقك عبثاً؟ هل تركك هملاً؟ هل خلقك والبهائم سواء، تأكل كما تأكل البهائم أم كلفك وشرفك؟
إنه قد كلفك وشرفك وجعل حكمة لخلقك وإيجادك، فما الحكمة من خلقك وإيجادك؟ ذكرها الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:26 - 58].
إذاً لماذا خلقت؟ أللهو خلقت؟ أللعبث خلقت؟ هل تركت سدىً أم كلفت بأشياء لابد أن توقف أمام الله وتسأل عنها واحدة واحدة في سجلات محكمة وثيقة لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها؟ ستجد ما عملته في سجلات أمامك فإما وجه مبيض -أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من هذا الصنف- وإما وجه مسود -أسأل الله ألا يشقي أحدنا فيكون من أهل هذه الوجوه السوداء-.
إذاً: خلقنا الله لحكمة وهي عبادته سبحانه وتعالى، ثم اعلم أنه لا تنفعه طاعتك ولا تضره معصيتك، وإنما تضرك معصيتك وتنفعك طاعتك لله عز وجل، فيا لخسارة من ضيع هذه الحكمة فاستعمل هذا الجسم وهذه الجوارح وذاك العقل في غير ما يرضي الله جل وعلا.
أحد السلف يمر بصبية صغار يلعبون، وهناك طفل ينظر إليهم ويبكي، فيمر عليه ظن أنه يبكي؛ لأنه ليس له لعبة كما لهم لعبة فقال له: يا بني! أتريد أن أشتري لك لعبة؟ قال: ما لهذا أبكي يا قليل العقل شاب صغير عرف الله جل وعلا.
قال: لمَ تبكي؟ قال: أبكي لأن هؤلاء يفعلون غير ما خلقوا له، أو لم يسمعوا قول الله موبخاً أهل النار: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116] فقال هذا الرجل وقد دهش من جواب هذا الشاب الذي تربى على القرآن ففهم معاني القرآن وطبقها حياً واقعاً، ماذا قال؟ قال هذا الرجل له وقد أعجب به: يا بني إنك لذو لب (لذو عقل) وإن كنت صغيراً فعظني.
قال له بيتاً واحداً:
فما الدنيا بباقية لحي وما حي على الدنيا بباقي
موعظة عظيمة أيها الأحبة!
أما والله لو علم الأنام لمَ خلقوا لما هجعوا وناموا
لقد خلقوا ليوم لو رأته عيون قلوبهم ساحوا وهاموا
ممات ثم نشر ثم حشر وتوبيخ وأهوال عظام
ليوم الحشر قد عملت أناس فصلوا من مخافته وصاموا
ونحن إذا أمرنا أو نهينا كأهل الكهف أيقاظ نيام(5/3)
الصراط المستقيم
أيها الأحبة: رسم الله لنا طريقاً مستقيماً، وجعل له مواصفات من اتبعها هدي وكفي ووقي، ومن تنكفها فويل له ثم ويل له، ألم تسمعوا لقول الله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] طريق واحد مرسوم له مواصفات، وله مقاييس، قالها المصطفى صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرناً، فانقسم الناس من ذلك الحين إلى حزبين، ثم انقسم حزب إلى أحزاب وإلى شيع وإلى فرق حتى افترقت هذه الأمة كما أخبر المصطفى أنها ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، ما مواصفات هذه الفرقة الناجية؟
ما مقاييسها؟
ما موازينها؟
ذكرها المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: {من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي} من كان على مثل ما كان عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم، من كان على مثل ما كان عليه سلف الأمة الكرام، هو الذي لا زال على الصراط المستقيم، فهل جندت نفسك أيها الشاب لتكون من أهل هذه الفرقة؟ هل جندت نفسك لتكون ممن يستحق أن يأخذ لقب هذه الفرقة؟
كلنا يدعي ذلك، وكلنا يقول: أنا من السلف، أنا من أهل السنة والجماعة، لكن لابد لكل ادعاء من بينة
وكلٌ يدعي وصلاً لليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا
فليكن حالك يوم تسمع مثل هذا السؤال تقول:
حاشاي يغويه سراب خادع ومعي كتاب الله يسطع في يدي
ليكن لسان الحال لنا جميعاً لن نضل أو نقتدي بشرق أو بغرب وإنما هدينا الكتاب والسنة نتمسك به وإن خالفنا الناس جميعاً.(5/4)
الحث على طاعة الله
اختبر نفسك يوم تسمع نداء الله جل وعلا، يوم يناديك ويشرفك باسم الإيمان وباسم الإسلام، ويدخلك تحت عموم الناس مرة أخرى، اسمع إليه يوم يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال:20 - 22] أسمعت نداء الله؟
أقرأته؟
لقد قرأته كثيراً وسمعته كثيراً فأسأل الله أن يجعلك ممن أطاع الله ورسوله، هل أطعت الله ورسوله بحق؟
بشرى لك! بأي شيء؟
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69] بشرى لك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، في دار
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها
في الأثر أن الله عز وجل يقول: {إني إذا أُطعت رضيت، وإذا رضيت باركت، وليس لبركتي نهاية} سبحانه وبحمده!
أما الآخر الذي عصى ولم يطع الله ولم يطع رسوله، فماذا قال الله عز وجل له في مثل هذا الأثر؟ قال: {وإذا عُصيت غضبت، وإذا غضبت لعنت، ولعنتي تبلغ السابع من الولد، وعزتي وجلالي لا يكون عبد من عبيدي على ما أحب فينتقل إلى ما أكره إلا انتقلت له مما يحب إلى ما يكره، وعزتي وجلالي لا يكون عبد من عبيدي على ما أكره فينتقل إلى ما أحب إلا انتقلت له مما يكره إلى ما يحب} وعد من الله عز وجل وفرصة لك يا من عملت ما يغضب الله أن تعود إلى الله عز وجل:
فانتبه من رقدة الغفلة فالعمر قليل واطرح سوف وحتى فهما داء دخيل
الأمر جد وهو غير مزاح فاعمل لنفسك صالحاً يا صاح(5/5)
حال الخلق في يوم القيامة
ثم اعلم أن كل شيء خلا الله باطل، وكل شيء خلا الله زائل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27] كتب الفناء على كل مخلوق، واختص نفسه بالبقاء سبحانه وبحمده، ووالله لو كان الأمر سينتهي بالموت لكان هيناً، ووالله إن الموت مع سكرته ومع شدته أهون مما سيليه، وإن القبر مع ظلمته ووحشته أهون مما سيليه، كل ذلك يا أيها الأحبة هين متى؟ إذا قورن بالوقوف بين يدي علام الغيوب، وتلفت المرء يميناً فلم ير إلا ما قدم، وتلفت شمالاً فلم ير إلا ما قدم، وتلفت أمام وجهه فلم ير إلا النار، قد غضب الرب غضباً لم يغضب قبله ولا بعده مثله قط، الشهود منك وفيك، أيدٍ تشهد، وألسنة تشهد، وآذان تشهد، وجوارح تشهد، الناس وأنت منهم قد جاءوا حافية أقدامهم، عارية أجسادهم، ذاهلة قلوبهم، قد تفطرت قلوبهم، وقد تفتت أكبادهم، قد دنت الشمس منهم قدر ميل، فبلغ العرق منهم مبلغاً حتى ألجم بعضهم إلجاماً: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] حشروا بلا طعام ولا شراب، تتقطع منهم الأكباد وتتفطر القلوب، وتحترق الأجواف.(5/6)
عذاب أهل النار
ثم تنصب الموازين ثم يقول الله: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك.
فيقول: أخرج بعث النار من ذريتك.
قال: وما بعث النار من ذريتي يا رب؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، عند ذلك: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2].
تذكر يوم ينصب الميزان، ثم يقول الله للملائكة في سعي المجرم: {خُذُوهُ} [الدخان:47] فيبتدره سبعون ألف ملك، كل ملك لو أذن الله أن يلتقم السماوات السبع والأرض في لقمة واحدة لفعل، فيتفتت في أيديهم ويقول: ألا ترحموني؟ قالوا: كيف نرحمك ولم يرحمك أرحم الراحمين: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ * كَلَّا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج:12 - 16].
أوقد عليها ثلاثة آلاف عام: ألف عام حتى ابيضت، وألف عام حتى احمرت، وألف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة لا يضيء لهبها ولا يطفأ شررها: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} [المرسلات:32] تشهق على الكافر شهقة البغلة الجوعاء إلى الشعير فلا يبقى ملك مقرب إلا خر على ركبتيه جاثياً، حرها شديد، وقعرها بعيد، وطعامها زقوم وصديد، ومقامعها حديد.
إنها جهنم التي يكذب بها المجرمون، ما أشد عقابهم! وما أعظم عذابهم! {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [العنكبوت:55] {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر:16] {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:71 - 72] كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء-56] إذا بلغ العذاب بهم مبلغه لجئوا إلى الله يستغيثون: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:29] يلقي الله عليهم عطشاً عظيماً حتى تحترق أجوافهم ثم ينشئ الله لهم سحابة سوداء، ويقول: ما تبغون، ما تريدون؟ فيقولون: يا رب الشراب الشراب، يا رب الشراب الشراب.
فيمطرهم الله أغلالاً إلى أغلالهم، وسلاسل إلى سلاسلهم، وجمراً ونيراناً إلى جمرهم ونيرانهم.
ثم يأتون بعدها بالحميم، فلا إله إلا الله! أي أجسام تتحمل ذاك العذاب يا أيها الأحبة؟!! يؤتون بالحميم ليشربه ولابد له من شربه: {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ} [إبراهيم:17] قبل أن يشربه تسقط فروة وجهه عند قدميه من شدة حره، ولما يشربه بعد، ثم لابد له من شربه: {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ} [إبراهيم:17] فإذا شربه قطع أمعاءه وسلت ما في بطنه مع قدميه، فذلك قول الله: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15] {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم:17] يأتيه من تحت شعره ومن تحت أظفاره ومن تحت كل مفصل من مفاصله، تعلق نفسه عند حنجرته لا تخرج فيستريح ولا تعود إلى مكانها، يمشي على النار، لا يهدأ ولا ينام ولا يستريح، طعامه من النار، وشرابه من النار، وحياته في النار: {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} [طه:74].
ثم يلجئون بعد ذلك إلى خزنة جهنم: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:49 - 50] يتجهون بعدها إلى خازن النار إلى مالك، فيقولون: يا مالك! قد أثقلنا الحديد، يا مالك! قد نضجت منا الجلود، يا مالك! أخرجنا منها فإنا لا نعود.
فيرد عليهم بعد أربعين عاماً -كما قال الأعمش - يرد عليهم بعد أربعين عاماً فيقول: إنكم ماكثون.
فيلجئون إلى أرحم الرحمين، سبحانه وبحمده لا إله إلا هو، فيقولون: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:106 - 108] فلا ينبس أحدهم ببنت شفة، لا يتكلم أحدهم بكلمة وإنما هو الشهيق والزفير، يبكون الدموع حتى تنتهي حتى لو أرسلت السفن في دموعهم ودمائهم لجرت، نسأل الله العافية والسلامة.
هذا جزاء المعرضين عن طاعة الله ورسوله، ذكرت ذلك ترهيباً لا ترغيباً؛ لأني أرى قلبي وقلوبكم قد قست، وقلوب الأمة كلها قد قست، فلابد يا أيها الأحبة أن نعود إلى القرآن، ولابد أن نعود إلى آيات القرآن لتلين القلوب فإذا لانت القلوب فأبشروا بخير أيها الأحبة.
أشبابنا فلتسمعوا مني النصيحة والعتاب
من مخلص في حبكم يرجو لكم حسن الثواب
يخشى على هذى الوجوه من الحميم من العذاب
أحبابنا لا تغضبوا فالحق أولى أن يجاب(5/7)
استشعار معية الله
إن أوصيتكم بوصية فأوصيكم بتقوى الله عز وجل في السر والعلانية، في المنشط والمكره، في العسر واليسر، في السراء والضراء، الجئوا إلى الله، اجعلوا رقيبكم هو الله، اجعلوا حسيبكم هو الله، لا رقيب إلا هو ولا حسيب إلا هو، لا مهرب منه إلا إليه، لا منجا منه إلا إليه سبحانه وتعالى، لا ملتجأ إلا إلى الله عز وجل.
يا أيها الأحبة! خلق الله السماوات سبعاً والأرضين سبعاً، جعل سبحانه وتعالى -كما في الأحاديث- ما بين السماء الدنيا والأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، وسمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام، والله عز وجل من فوق ذلك فوق عرشه بائن على خلقه مستوى على عرشه: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] هل استشعرنا هذه المعية يا أيها الأحبة؟ لو استشعرنا هذه المعية لاستقام الحال.
إذاً: من هو الرقيب على تصرفاتنا وأعمالنا؟ إنه الله الذي لا إله إلا هو.
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب(5/8)
باب التوبة مفتوح
سبحان الله وبحمده، يعلم دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، فلا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك، امتثل أمر الله واجتنب نهي الله عز وجل، واستسلم واخضع وانقدْ لله عز وجل، ثم إن حصل منك تفريط فراجع نفسك وتب إلى ربك، واعلم أنه سبحانه يقول: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] هو القائل كما في الحديث القدسي: {يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم} هو القائل: {يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة}.
يا أيها الشاب! يا أيها الحبيب! إن أخطأت وزللت فاعلم أنك لم تخف عن عين الله وعن رقابة الله جل وعلا، هو الرقيب والحسيب، إذا استترت بالجدران والحيطان والظلام فاعلم أنه رب الظلام ورب كل شيء سبحانه وبحمده فارجع عن ذلك، إذا كنت في فراشك ثم جاءك النداء من الله "حيّ على الصلاة، حي على الفلاح" فأنت أحد شابين: إما مطيع لله ورسوله، وإما عاص لله ورسوله وحاشاك أن تكون كذلك، إن أطعت الله فقمت وذهبت وأديت ما عليك؛ كان لك عند الله ما أعده لك: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] نحتاج إلى التقوى عندما نقوم إلى للصلاة، نحتاج إلى التقوى يوم نأخذ الريال لنذهب به إلى المدرسة، نعرف من أين أخذنا هذا الريال وأين سننفقه، لا ينفق إلا في طاعة لله عز وجل؛ لأن هذا الريال ستقف أمام الله عرياناً كما خلقك فيسألك عن هذا الريال من أين اكتسبته وفيما أنفقته؟ بأي لسان تجيب ربك سبحانه وتعالى إن أنفقته في معصية؟
يا أيها الحبيب! إذا سمعت صوتاً يغضب الله عز وجل، فاعلم أن الله أنعم عليك بهذه الأذن فأصمها عن سماع هذا الصوت، وإن استطعت أن تغيره فغيره.
يا أيها الحبيب! إذا نظرت إلى منظر لا يحل لك أن تنظره، فالأُولى لك، ثم اذهب بعينك، واعلم أنك محاسب على هذه النظرة ممن يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
يا أيها الشاب! جوارح سوف تشهد عليك بين يدي الله، يوم تنفرد لوحدك، اعلم أن الشاهد سيكون من نفسك يوم تقف بين يدي الله، يد تشهد ورجل تشهد، وعين تشهد، وأذن تشهد، وكل شيء يشهد: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ} [النور:24].(5/9)
نموذج من سلف الأمة في الإقبال على الله
يا أيها الأحبة! أريد في الختام أن أذكر لكم نماذج، وهذا النماذج حافزة لكم أن تكونوا مثلها، للصغار أقول يا أيها الأحبة: في موقعة بدر -أول وقعة للمسلمين- والتي أثخن فيها المسلمون المشركين ماذا كان بطفل بمثل أعماركم؟ ماذا كان من شاب بمثل أعماركم؟ إنه عمير بن أبي وقاص، شاب صغير عرف قدر نعمة الله عليه عز وجل بالإسلام، فتوجه إلى الله جل وعلا يوم بدر، فكان أن أخذ حمائل السيف، وكانت طويلة عليه فأخذها سعد وربطها فأصبح يسحب في الأرض من قصر الرجل وطول السيف عليه! ويتجه إلى الله، ماذا يقدم؟ هل يقدم ركعة -وإن كانت عظيمة-؟ هل يقدم كلمة -وإن كانت عظيمة-؟ إنه لم يرض للجنة ثمناً إلا أن يقدم دمه لله عز وجل، فيأخذ السيف ويتوارى بين صفوف المسلمين؛ لأنه لو رآه النبي صلى الله عليه وسلم لرده، فرآه المصطفى صلى الله عليه وسلم وقال لـ عمير: ارجع.
فماذا كان من عمير؟ أفرح والسيوف تنتظره هناك؟ بل دمعت عيناه ورجع هذا الصبي حسيراً كسيراً، فيقول أخوه سعد بعد أن تأثر من منظره: يا رسول الله! والله ما خرج إلا ليقتل في سبيل الله فلا تحرمه الشهادة في هذا اليوم، فيسمح له النبي صلى الله عليه وسلم ويدخل غزوة بدر فينتصر المسلمون ليكون أحد شهدائها بإذن الله، عمير بن أبي وقاص.
كم عمره آنذاك؟ عمره بمثل أصغر أعماركم الآن، وما ذلك على الله بعزيز أن نرى من شبابنا عميراً وعميراً وعميراً، نسأل الله أن يجمعنا بـ عمير وأمثاله في جنة عدن، فهو الرحيم سبحانه وبحمده.
أيها الأحبة: هذا مثل من الماضي لكن هل الماضي فقط؟ والله يا أيها الأحبة إن من شبابنا هذه الأيام، بل من أطفالنا هذه الأيام من يحمل هم الدين ويحمل هم الإسلام أفضل ممن عمره المائة عام، إن هذا الطفل ليحمل بين طياته أعظم مما يحمل أبو المائة عام.
شاب من الشباب يأتي إلى أبيه يوماً من الأيام ويعترض عليه ويقول: يا أبتاه! نحن في نعمة لا يعلمها إلا الله جل وعلا، وعندنا في كل شارع من الشوارع هذه الثلاجة التي نضع فيها الريال فتخرج لنا من هناك عصيراً أو ما أشبهه، ففكر هذا الشاب كيف يخدم دينه من خلال هذه، الشراب ليس ضرورياً، البيبسي ليس ضرورياً، هذه المشروبات جميعاً ليست ضرورية، إن أيقاظ القلوب وغذاء الأرواح أهم من هذه، ماذا فكر هذا الصبي؟ قال: لتملأ هذه الثلاجة بالأشرطة الإسلامية فيأتي الواحد فيضع الريال فيخرج له شريطاً، إن كان من الذين يحبون هذا فهذا شيء طيب، وإن لم يكن من هؤلاء فقد ذهب الريال ولن يعود إليه ولابد أن يأخذه لعله يستفيد منه تفكير صبي من الصبيان إنه تفكير عظيم يا أيها الأحبة!
فنحتاج إلى هذا التفكير كيف نخدم ديننا؟ لا نخدم ديننا يا أيها الأحبة إلا بعد أن نتشبع من هذا العلم، العلم الشرعي الذي يقربنا من الله عز وجل، يوم تمتلئ قلوبكم علماً ويقيناً تتجهون إلى الله عز وجل، ويوم يصد الإنسان يعم الله بصيرته، لكن نقول للصاد: عد تجد الله تواباً رحيماً واحمد الله أن أمهلك.
شاب من شباب هذا البلد كان يعصي الله عز وجل في حرم الله -ويا أيها الإخوة هذه نعمة نحن فيها إن استغلينا هذه النعمة، فإن انعكست فويل ثم ويل لنا أن نعصي الله في حرم الله- هذا الشاب كان صاداً وناداً عن الله عز وجل، لا يكاد يرعوي فيأتيه أحد الشباب الطيبين أمثالكم ويقول له: يا أخي! اتق الله، تعصي الله في حرم الله؟! اللهم لا تغفر له.
وهذا يأس من هذا الشاب، ولكن ذاك زُئر ودهش وتذكر قدومه على الله عز وجل، وتذكر أن الذي لا يغفر له مصيره إلى النار التي سمعتم بعض أوصافها قبل قليل، فماذا كان منه؟ قال: يا رب أسألك بحسن ظني فيك إلا قبلتني، اللهم إني ألقيت إليك مقاليد أمري فاقبلني، اللهم قد أقلعت وتبت وندمت وعدت إليك فاقبلني، ويذهب حسيراً كسيراً نادماً على المعصية التي فرط فيها، يوم صحا قلبه وتأثرت روحه ورقت، رجع إلى الله عز وجل.
يقول: فقام يصوم نهاره ويقوم ليله، ويأتي فيذهب ليحرم من خارج الحرم، ويدخل إلى الحرم وبينما هو يطوف بالبيت وبين الركن والحجر يسقط هناك ميتاً حسن خاتمة بإذن الله جل وعلا.
من عاد إلى الله عز وجل بصدق بلغه الله عز وجل حسن الخاتمة، وما بعد حسن الخاتمة إلا كل خير بإذن الله سبحانه وتعالى.(5/10)
الحث على طلب العلم
فيا أيها الأحبة! أدعوكم إلى أن تطلبوا العلم بإخلاص، ثم تعلموا لما خلقتم وأن باب التوبة مفتوح فإياكم أن يغلق الباب وأنتم تقولون سوف وسوف وسوف
أعماركم تمضي بسوف وربما لا تجتنون سوى عسى ولعلما
هم المسوف كالتعلق بالسما أعماركم تمضي عجالا إنما
أنتم سفارا من الأسفاري
فيا أيها الحبيب!
اتق الله وقصر الأملا ليس في الدنيا خلودٌ للملا
أسأل الله عز وجل أن ينفعنا وإياكم بما قلنا وسمعتم، وأن يجعله شاهداً لنا لا شاهداً علينا يوم نلقى الله عز وجل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(5/11)
الأسئلة
.(5/12)
التحذير من الغيبة
السؤال
بعض الإخوة بالله لا يتركون الغيبة فأرجو النصيحة.
الجواب
يا أيها الأحبة: داء الغيبة خطير، يقول الله عز وجل: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12] أيحب أحدنا أن يأكل لحم أخيه ميتا؟ إن الذي يغتاب هذا الأخ في الله عز وجل، نقول له: أنت تأكل لحمه حياً ليس ميتا، فما بالك إن كان ميتا، أما تخشى الله أن تأتي في آخر نهارك بصلاة وذكرٍ لله عز وجل، ثم يسلم منك اليهود ويسلم منك النصارى، ويسلم منك جميع أعداء الدين ثم لا يسلم منك إخوانك يا أيها الحبيب!
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرج به إلى السماء: {ومررت على قومٍ لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، قال: قلت: من هؤلاء يا جبريل قال: هؤلاء الذين يقعون في لحوم الناس ويأكلون أعراضهم} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فانتبه أن تحول ما لديك من حسنات لغيرك، والقصاص بين يدي الله عز وجل.(5/13)
عرض النفس على القرآن
السؤال
كيف أعرف نفسي هل أنا صالحٌ أم طالح؟
الجواب
أنا أقول: اختبر نفسك عندما تقرأ القرآن إن وجدت نفسك مع القرآن تأتمر بأمره، وتنتهي بنهيه فأنت إن شاء الله صالح، وإن وجدت نفسك وأنت تقرأ القرآن لا تلقي له بالاً، فاسأل الله أن يمن عليك بقلبٍ فإنه لا قلب لك.(5/14)
صور وعبر
عمر بن الخطاب الذي زلزل عروش الظالمين، ودك قلاع الأكاسرة والقياصرة.
عمر نور أضاء سطور التاريخ، وهو غرة في جبين الزمان.
أمة في رجل إمام همام مميت الفتن ومحيي السنن.
في هذا الدرس وقفات من حياة عمر زهده جهاده تفقده لرعيته ونصحه لهم أدب الخلاف عنده حزمه مع من يرفض حكم رسول الله، وفي الأخير قصة وفاته رضي الله عنه وأرضاه.(6/1)
فضل الصحابة رضي الله عنهم
الحمد لله المبدئ المعيد، الغني الحميد، ذي العفو الواسع والعقاب الشديد، من هداه فهو السعيد السديد، ومن أضله فهو الطريد البعيد، ومن أرشده إلى سبل النجاة ووفَّقه فهو الرشيد،
يعلم ما ظهر وما بطن، وما خفي وما علن، وما هَجُن وما حَسُن، وهو أقرب إلى الكل من حبل الوريد.
قسَّم الخلْق قسمين، وجعل لهم منزلتين، فريق في الجنة وفريق في السعير، إنَّ ربك فعال لما يريد: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].
أحمده وهو أهل الحمد والتحميد، وأشكره والشكر لديه من أسباب المزيد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العرش المجيد، والبطش الشديد، شهادة تكْفُل لي عنده أعلى درجات أهل التوحيد، في دار القرار والتأييد.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله البشير النذير، أشرف من أظلَّت السَّماء، وأقلَّت البِيدُ، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا وعلى آله وأصحابه أولي العون على الطاعة والتأييد، صلاةً دائمةً في كل حين تنمو وتزيد، ولا تنفد ما دامت الدنيا والآخرة ولا تبيد.
روحي الفداء لمن أخلاقه شهدت بأنَّه خير مبعوثٍ من البشرِ
عمَّت فضائله كل البلاد كما عمَّ البرية ضوء الشمس والقمرِ
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته: أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل هذا الاجتماع ذخرًا لي ولكم في يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار، وأن يجعله من صالحات الأعمال، وخالصات الآثار، وباقيات الحسنات إلى آخر الأعمار.
اللهم اكتب لنا به أجرًا، وارفع به ذكرًا، واجعله لنا ذخرًا.
اللهم اجعل سرائرنا خيرًا من علانيتنا، وأعمالنا خيرًا من أقوالنا اللهم أنِرْ بصائرنا، وثبتنا على الحق حتى نلقاك، واجعل حديثنا حديث قلب لقلوب، أنت أكرم مسئول على الدوام، وأحق من يُرْتَجَى منه حسن الختام.
صور وعبر الحلقة الثانية: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يفْتَرَى} [يوسف:111].
أحبتي في الله: إن الصحابة الأبرار -كما تعلمون- هم حملة الإسلام وحفظته بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، اختارهم الله واصطفاهم لصحبة نبيه، ونشر رسالته من بعده عدَّلهم وزكَّاهم، ووصفهم بأوصاف الكمال في غير ما آية من كتابه، رضي الله عنهم ورضوا عنه نوعٌ فريد من الرجال، عدول ثقات صالحون، حازوا قَصبَ السبق في كل شيء، لم تعرف البشرية لهم نظيرًا قمة في التقوى والورع آية في التجرد والإخلاص مِشْعَل في العلم والعمل نِبْرَاس في الدعوة إلى الله.
تالله لقد وردوا الماء عذبًا زلالاً، وأيدوا قواعد الإسلام فلم يدعوا لأحدٍ مقالاً فتحوا القلوب بالقرآن، وفتحوا القرى والمدائن به وبالسنان هم أنصار الدين في مبتدأ نشأته، بذلوا المُهج يوم بخل أهل الدراهم بدراهمهم رجال المغارم يوم يندس المغرورون في ثيابهم، هم لله -عز وجل- قلوبًا وأبدانًا ودماءً وأموالاً.
لم يجعلوا همَّهم حشو البطون ولا لبس الحرير ولا الإغراق في النعم
حفظوا الشرع من أهواء الزائغين، وحموا الملة من زحف المناوئين شهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل حملوا الوحْيَين، وحضروا البيعتين، وصلَّوا أو أغلبهم صلى إلى القبلتين.
كلهم له همٌّ، وهمهم رفعة لا إله إلا الله، وكلهم له قصد، وقصدهم الجليل في علاه خرجوا من أموالهم لله ولرسوله، فما شفا ذلك لهم غليلاً، فأبوا إلا أن يقدموا الجماجم، ويسيلوا الدماء، ويستعذبوا العذاب في ذات ربهم فرضي الله عنهم وأرضاهم، وأكرم في جنات الخلد مثواهم:
بيضُ الوجوه ترى بطون أَكُفِّهِم تندى إذا اعتذر الزمانُ الممحلُ
من كان متأسيًا فليتأس بهم؛ فهم أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلُّفًا، وأقومها هَدْيًا، وأحسنها حالاً.
همُ الرجال بأفياء الجهاد نَمَوْا وتحت سقفِ المعالي والنَّدى وُلِدُوا
جباهُهم ما انحنت إلا لخالقها وغير من أبدع الأكوان ما عبدوا
الخاطبون من الغايات أكرمها والسابقون وغير الله ما قَصَدُوا(6/2)
مقدمة عن عمر بن الخطاب
ومن هنا؛ فإن الكلام عن هؤلاء العظماء، وكشف الستار عن الصفحات الناصعة التي سطروها، واجب محتم علينا في هذا العصر الذي نعيش فيه معمعة الأفكار، واضطراب الموازين، وموالاة الكفار، والوقوع في الصحابة الأبرار واجب لردع أهل الهوى من الزنادقة والملاحدة، وأهل الكفر والابتداع الذين انتقصوا وسبُّوا خير جيل وطائفة وُجِدَت على وجه الأرض؛ لا لشيءٍ إلا لأنهم حَمَلة الإسلام، ورواة الأحاديث التي تهدم بِدَعهم، وتُظهر ضلالهم، وتُبْرز خُبْث طويتهم، قاتلهم الله! وقاتل كل من حادَ عن كتاب الله وسُنَّة مصطفاه، واتَّبع غير سبيل المؤمنين!
فهَلُمَّ هلم، وحيهلا بكم -أيها الأحبة- لنعيش الليلة معكم في ظلال محطة صور، ومائدة عبر، من حياة عَلَم آخر في سلسلة أعلام هذه الأمة المباركة علم يجب على الأمة أن تجعله وصحبه حديث شيوخها في السمر، وقصص أطفالها الذين لطالما أشغلوا بالقصص الهابط، والرسوم المتحركة، وحديث شبابها في منتدياتهم ونواديهم التي لطالما شُغلت بالحديث عن اللاعبين والفنانين والساقطين والساقطات.
إنه من أظهر إسلامه يوم كانوا يخفونه إنه من تقلَّد سيفه وتنكب قوسه، وأخرج أسهمه، وأتى الكعبة وأشراف قريش في فنائها، فطاف سبعًا رغم أنوفهم، وصلى ركعتين، وأتى حلقهم واحدة واحدة يقول: [[شاهت الوجوه، من أراد أن تثكله أمه، وييتم ولده، وترمل زوجته، فليلقني وراء هذا الوادي]] فما تبعه أحد.
إنَّه مرقع القميص، وبين يديه الغالي والنفيس، إنَّه من يسلك الشيطان فجًا غير فجه، إنَّه الوقَّاف عند كتاب الله، المجاهد في سبيل الله، إنَّه القِيَم والمُثُل بعينها، وما أروع المثل يوم تكون رجالاً فتكون الأخلاق فِعالاً!
إنَّه العادل إنْ ذكر العادلون، هو من سهر لينام الناس، وجاع ليشبع الناس، هو من جعل كبير المسلمين أبًا، وأوسطهم أخًا وأصغرهم ولدًا.
هو من لا تأخذه في الله لومة لائم، هو قائل الحق ولو كان مرًّا، إنَّه من اشترى أعراض المسلمين من أحد الشعراء بثلاثة آلاف درهم، حتى قال ذلك الشاعر:
وأخذت أطراف الكلام فلم تدعْ شَتْمًا يضر ولا مديحًا ينفعُ
ومنعتني عِرض البخيل فلم يَخَفْ شتمي وأصبح آمنا لا يفزعُ
زلزل عروش الظالمين، ودكَّ قلاع الأكاسرة والقياصرة، وخضعت لعدالته الجبابرة والأباطرة، وهَوَت عناكب الظلم أمام رايات عدله الخفَّاقة وفتوحاته المظفرة، فَأَرْغَم أنوف الروم، وحطم كبرياء الفرس، وأخرج المغضوب عليهم -اليهود- من جزيرة العرب؛ لغدرهم ونقضهم العهود، أخرجهم أذلةً صاغرين.
إنَّه الزاهد العالم العابد الغيور الخائف من الله وكفى.
أظنكم قد عرفتموه، إنَّه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، ولعنة الله على من أبغضه وعاداه.
نور أضاء سطور التاريخ، وغرة في جبين الزمان، أُمَّة في رجل، إمام همام، مميت الفتن، ومحيي السُّنَنَ.
عمر الذي لا يجهله أحد، وفي نفس اللحظة قلَّ أن يعرفه أحد في هذا العصر.
يعرف بعضهم بعض أخباره، ونتفًا من نسبه وأعماله، أما روح تلك الأخبار فلا يدركها إلا من تأملها من الأخيار، وإني لأرجو الله أن نكون وإياكم من أولئك الأبرار.
مراكبُ أهل الهوى أتخمت نزولاً ومركبنا صاعدُ
إذا عدد الناس أربابهم فنحن لنا ربنا الواحدُ
إلى صور ذات عبر من حياته، وعذرًا لن نفيه حقه في هذه العُجالة:
فأعلامُه في كل أرض خوافقُ يدين بها شرقٌ ويخضع مغربُ
لكن حسبنا أن نقف عند بعض صور من حياته؛ وقفة عظة وتدبر واقتداء، ولأهل الهوى ردع وزجر.
هاهي محطتنا الليلة محطة عُمَريَّة، فهل أنتم نازلون؟ وهذه مائدتنا فهل أنتم إليها مائلون؛ أم أنكم لا ترغبون؟ معذرة لأصحاب البطون؛ أعني: من لأجل رفع مستواهم المعيشي يكدون ويقلقون وفي الكلام عن المسكن والسيارة والأثاث والراتب لا يملون، وعلى هامش الحياة بلا رسالة يعيشون، بهائم في مسالخ البشر وهم لا يشعرون، هتافهم دائماً وأبداً: أين الصُحُون؟ مائدتنا تعتذرهم ثم تعتذرهم وتقول: إلي إليَّ أيها المتيقظون العاقلون المتدبرون، ومن بِسَلَف الأمة يقتدون، ومن عن التُرَّهات يترفَّعون، أنتم جميعًا مدعوون، وأنتم -إن شاء الله- رابحون: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]
يارب:
أنت العليم بظاهري وبباطني بالسر بل أخفى وبالإعلانِ
أنت السميع لمنطقي وحروفه أنت الخبير بموقفي ومكاني
إن لم أكن أهلاً لتوفيقٍ فمُن فلأنت أهل المَنِّ والإحسانِ
يا رب أنت المُرتجى والمُبتَغَى وأنا الفقير بذلتي وهواني
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً وأنت تجعل الحَزنَ إذا شئت سهلاً.(6/3)
عمر وتفقده للرعية(6/4)
عظم شعور عمر بالمسئولية
الصورة الأولى: علم عمر -رضي الله عنه- أنَّ الخلافة أمانة لا استعلاء، وتكليف لا تشريف، وغُرْمٌ لا غُنْم، فقام يمشي في الأسواق بلا مواكب ولا مراكب، يطوف الطرقات، ويقضي حاجات الناس ويقضي بينهم، يَخْلُفُ الغزاة في أهلهم، يتفقد أحوال رعيته، همُّهم همُّه، وحزنهم حزنه، لينٌ قوي، حازم رحيم، راعٍ أمين، يقول تحت وطأة المسئولية -كما روى مجاهد عن عبد الله بن عمر -: [[لو مات جَدْيٌ بطرف الفرات لخشيتُ أن يحاسب الله به عمر يوم القيامة -وفي رواية- لو عثرت دابة بضفاف دجلة لخشيتُ أن يسألني الله عنها: لِمَ لمْ تُمهِّد لها الطريقَ يا عمر؟]] يا لله! كلمات تدعو للتأمل في شخصية ذلك الرجل الذي ضربت به الأمثال في العدل والزُّهد والحرص على رعاية الأمة بالليل والنهار؛ فلا عبقري يفري فريه.
وبالمناسبة يذكر المؤرخون أن حمامة باضت في فسطاط عمرو بن العاص والي مصر آنذاك، فلما عزم على الرحيل أمر عماله أن يخلعوا الفسطاط، فلفت أنظارهم عش حمامة فيه بيض لم يفرخ بعد، فلم يُزْعِجُوا الحمامة، ولم ينتهكوا حرمة جوارها، بل أوقفوا العمل، وذهبوا إلى عمرو -رضي الله عنه- يعرضون عليه الأمر، ويأخذون رأيه فيها، فقال: [[لا تُزْعِجُوا طائراً نزل بجوارنا، وحلَّ آمنًا في رحالنا، أجِّلُوا العمل حتى تَفْرُخَ وتطير]].
فيا للعظمة! ويا للرحمة! حتى الطير ينعم في ظل الأمن والعدل مع العدول رضوان الله عليهم!
أيها الأحبة: إن المسلم وهو يستعرض مثل هذه المواقف ليأسى ويحزن يوم يصبح المسلم في عالمنا الإسلامي يتمنى أن يحظى بالاهتمام الذي كان يحظى به الحيوان والطير، في زمن عمرو وعمر رضي الله عنهما وأرضاهما.
وأعود فأقول وأكرر مرارًا وتكرارًا: كل ذلك بما كسبت أيدينا، ويعفو الله عن كثير، من هادن الأفعى تجرع سمها يومًا ما.
ثم أثَنِّي فأقول: هنيئًا ثم هنيئًا لمن اكتحلت عيناه برؤية ذلك المجتمع وذلك الجيل، الذي عمَّ عدله الطير والحيوان، اللهم وقد حرمنا رؤيتهم في الدنيا فلا تحرمناها في الآخرة؛ في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
صورة أخرى: كان يرى مسئوليته عن كل فرد في سربه، وأيِّم في بيتها، ورضيعٍ في مهده، هو القائل: [[ما مثلي ومثل هؤلاء إلا كقومٍ سافروا فدفعوا نفقاتهم إلى رجل منهم، فقالوا له: أنفق علينا، فهل له أن يستأثر منها بشيء؟ قالوا: لا يا أمير المؤمنين! قال: فكذلك مَثَلِي ومَثَلُكُم]].(6/5)
جوع عمر في عام الرمادة
في عام الرَّمادة؛ وهو عام شديد القحط والجدب، ما قُدِمَت له لقمة طيبة فأكلها بل كان يؤثر بها الفقراء والمساكين، يوم زار الشام جِيء له بطعامٍ طيب، فنظر إليه وقال: [[يا لله! كل هذا لنا، وقد مات إخواننا لم يشبعوا من خبز الشعير؟! والله! لا أطعمه]].
إن جاع في شدةٍ قومٌ شركتهم في الجوع أو تنجلي عنهم غواشيها
جوع الخليفة والدنيا بقبضته في الزهد منزلة سبحان مُوليها
يتغير لونه في عام الرمادة من أبيض حتى يصبح مسودًّا من شدة الهمِّ بأمر المسلمين، يأكل الخبز بالزيت، ويمسح بطنه ويقول- كما رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح-: [[والله! لتمرننَّ أيها البطن على الخبز والزيت مادام السمن يباع بالأواقي، والله! لا تشبع حتى يحيا الناس]] عقمت نساء الأرض أن يُنْجِبْن مثلك يا عمر.
يقول أسلم -كما في تاريخ عمر لـ ابن الجوزي -: كان يقوم يصلي من الليل، فيذكر ما حلَّ بالمسلمين فلا يدري ماذا يصلي، يقول: إني لأفتتح السورة فما أدري أنا في أولها أم في آخرها، لما أعلم مما يلاقي المسلمون من الشدة.
وحدث الواقدي قال: حدثنا هشام عن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: لما كان عام الرَمَادَة جاءت وفود العرب من كل ناحية فقدموا المدينة فأمر عمر رجالاً يقومون بمصالحهم، فسمعته يقول ليلةً من الليالي: أحصوا من يتعشى عندنا، فأحصوهم في القابلة فوجدوهم سبعة آلاف رجل.
أما المرضى والعيال الذين لا يحضرون تلك المائدة فقد بلغوا أربعين ألفًا، فكان يرسل إليهم عشاءهم في بيوتهم.
فما برحوا حتى أرسل الله السماء، فوكل عمر بهم من يخرجهم إلى البادية ويعطيهم قوتًا وحملانًا ومتاعًا، وكان قد وقع الموت فيهم فأراه قد مات ثلثاهم، وقد كانت قدور عمر رضي الله عنه وأرضاه يقوم لها العمال من وقت السحر ليعملوا الطعام، ونفد ما في بيت المال، فلم يبق منه قليل ولا كثير.(6/6)
عمر وتفقده للرعية ليلاً
يروي ابن كثير في تاريخه: أن عمر عس ذات ليلة في ذلك العام، وقد بلغ بالناس الجهد كل مبلغ فلم يسمع أحدًا يضحك، ولم يسمع متحدثًا في منزله كالعادة، ولم يرَ سائلاً يسأل، فتعجب وسأل فقيل: يا أمير المؤمنين! قد سألوا فلم يجدوا فقطعوا السؤال؛ فهم في همٍّ وضيق، لا يتحدثون ولا يضحكون، ولا يمزحون.
فيا لله! ماذا يفعل عمر؟
قد نفد كل ما في بيت المال، فألزم نفسه ألا يأكل سمينًا؛ فكان إدامه الخل بالزيت حتى اسودَّ لونه، وتغير جسمه، وخُشي عليه خشية عظيمة - رضي الله عنه وأرضاه - وتبلغ الأمور ذروتها، وحينها يلجأ مضطرًا إلى الله عالمًا علم يقين أن رفع البلاء بالتوبة والاستغفار، لا بفصاحة المتشدقين، وتصدي المتبجحين.
فعن أبي وجزة السعدي عن أبيه قال: [[رأيت عمر خرج بنا عام الرمادة إلى المصلى يستسقي؛ فكان أكثر دعائه الاستغفار حتى قلت: لا يزيد عليه.
ثم دعا الله وأوصى الناس بتقوى الله- عز وجل- فقال: اتقوا الله في أنفسكم، وما غاب عن الناس من أمركم، فقد ابتليت بكم وابتليتم بي، فما أدري السَّخطة عليّ دونكم أو عليكم دوني، أو قد عمَّتكم وعمتني، فهلمُّوا فلندعُ الله أن يصلح قلوبنا، وأن يرحمنا، وأن يرفع عنا البلاء، فرُئِيَ يومها رافعًا يديه يدعو الله ويبكي، والناس يدعون وراءه ويبكون، ثم نزل فلم يزلْ هذا شأنه حتى جاءت الرحمة من الله]] وأذن الله للناس بالغياث والفرج بعد الشدة، واليسر بعد العسر، فله الحمد أولاً وآخراً، وظاهرًا وباطنًا.
أيها الأحبة: هذه مؤهلات الفرج، وهذه مؤهلات الغوث من رب العالمين؛ الجباه الساجدة لله، والعيون الدامعة من خشية الله، والأكف المتوضئة المرتفعة: يا رب يا رب، ومطعمها حلال، ومشربها حلال، وتغذيتها حلال فأنى يرد من هذا حاله؟
يقول أسلم: فلو لم يرفع الله المحل عام الرمادة؛ لظننا أن عمر يموت همًا بأمر المسلمين.
رحم الله عمر ورضي عن ذلك النموذج، قد عرف مسئوليته تجاه رعيته، وراقب الله فيمن تحت ولايته، فأحبهم وأحبوه، ورضي عنهم ورضوا عنه، عفَّ فعفوا، وصدق فصدقوا، ولو رتع لرتعوا:
ما كان إلا الشمس يسطع ضوءها والخصب في أرض الضلال الماحلِ
قف أيها التاريخ سجل صفحةً غراء تنطق بالخلود الكاملِ
حَرِّك بسيرته القلوب وقد قست وغدت بقسوتها كصُمِّ جنادلِ(6/7)
عمر وموقفه مع امرأة فقيرة وعيالها
صورة أخرى: روى الإمام أحمد بإسناد حسن في الفضائل، قال: عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: [[خرجنا مع عمر بن الخطاب إلى حرة واقم، حتى إذا كنا بمرتفع إذ بنار بعيدة فقال عمر: يا أسلم إني لأرى هناك ركْبًا حبسهم الليل والبرد فانطلق بنا، قال: فخرجنا نُهَرْوِلُ حتى دنونا منهم، فإذا هي امرأة معها صبية صغار، وإذا بِقِدْر منصوبة على النار، وصبيانها يتضاغون، فقال: السلام عليكم يا أهل الضوء - وقد كره أن يقول: يا أهل النار- قالت: وعليكم السلام، قال عمر: أأدنو؟ قالت: ادْنُ بخير أو دع.
فدنا فقال: ما بكم؟ قالت: قصر بنا الليل والبرد، قال: فمالِ لهؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت: الجوع.
قال: فأي شيء في هذا القدر؟ قالت: ماء أُسْكِتهُم به حتى يناموا، والله بيننا وبين عمر -كلمات يهتز لها قلب وجنان كل مؤمن، فما بالك بـ عمر؟ - يقول: أي رحمك الله، وما يدري عمر بكم؟ قالت: يتولى أمرنا، ثم يغفل عنا، الله بيننا وبينه.
قال أسلم: فأقبل عليَّ عمر به ما به، يقول: انطلق.
فأتينا نهرول حتى أتينا دار الدقيق، فأخرج عِدلاً من دقيق، وكبَّة من شحم، ثم حملها عمر على ظهره، فقلت: أحملها عنك يا أمير المؤمنين! قال: لا أمَّ لك، أتحمل عني وزري يوم القيامة؟!
قال: فانطلقنا حتى أتيناها، فألقى العِدْل عندها، وأخرج من الدقيق شيئًا، وجعل يقول: ثرِّي عليّ وأنا أُحرِك، وجعل ينفخ تحت القدر، والدخان يتخلل لحيته، فلو رأيته لرأيت عجبًا، ثم أنزل القدر فأتته بصحفة فأفرغ فيها الطعام.
ثم جعل يقول لها: أطعميهم وأنا أسطح لهم؛ فلم يزل كذلك حتى شبعوا، ثم ترك عندها فضل ذلك الطعام، ثم قام وهي تقول: جزاك الله خيرًا.
كنت أولى بهذا الأمر من عمر.
قال: قولي خيرًا قولي خيرًا، ثم تنحى عنهم ناحية واستقبلهم وقد رَبَضَ مَرْبَضًا يراقبهم، يقول أسلم: فقلت: إن له لشأنًا، وهو لا يكلمني حتى رأى الصبية يصطرعون، ثم ناموا، فقال يا أسلم: ما أسهرهم إلا الجوع، فأحببت ألا أنصرف حتى أرى ما رأيت]].
يا لها من كلمة! تكشف عن رهافة الحس ونقاء الضمير! كل ذلك قبل أن يعرف العالم حقوق الطفولة، وقبل أن تُنْشأ لها المنظمات العالمية، سبق الإسلام إلى تقرير حقوق الطفولة والأسرة، فرضي الله عن عمر وعن صحبه وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قرر مثل هذه الحقوق.(6/8)
عمر وتفقده لامرأة عمياء
أيها الأحبة: إن هذه الصورة لتذكرنا بصورة أخرى مضيئة في حياة عمر - رضي الله عنه وأرضاه- يذكر الأوزاعي أن عمر خرج في سواد الليل، فرآه طلحة فتبعه، فذهب عمر حتى دخل بيتًا، ثم خرج منه وطلحة يراقبه، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة.
فقال لها: ما بال هذا الرجل الذي يأتيك؟ قالت: إنه يتعهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى، فجزاه الله عني خيرًا.
فيقول طلحة: ثكلتك أمك يا طلحة، أعثرات عمر تتتبع؟
يا لله! هل يفعل الواحد منا مع أهله ما يفعله عمر مع رعيته؟
لا.
إنه الإيمان الذي وقر في القلب وصدقه العمل، فلا والله! لا تنساه الأيامى والثكالى واليتامى مادام في الأرض أيْمٌ أو ثكلى أو يتيم، ولا والله ما تنساه البطون الجائعة والأكباد الظامئة ما دام في الأرض بطن جائع أو كبد ظمأى.
فمن يباري أبا حفصٍ وسيرتَه ومن يحاول للفاروقِ تشبيها
ومن رآه أمام القدر منبطحًا والنارُ تأخذ منه وهو يُذكيها
وقد تخلل في أثناء لحيته منها الدخان وغاب فُوهُ فِي فِيهَا
رأى هناك أمير المؤمنين على حالٍ تروع لعَمْرِ الله رائِيْهَا
يستقبل النارَ خوف النارِ في غَدِه والعَيْنُ من خشيةٍ سالت مآقِيها(6/9)
صور من تواضع عمر
صورة أخرى: كان -رضي الله عنه- عظيم التواضع للخلق والحق، وكل الصور تدل على ذلك.
رفعه الله بتواضعه درجات في الجنة.
[[فعن الفضل بن عميرة أن الأحنف بن قيس قدم على عمر في وفد من العراق في يومٍ صائفٍ شديد الحر وهو محتجز بعباءة، يهنأ بعيرًا من إبل الصدقة، فقال: يا أحنف! ضع ثيابك، وهلم فَأَعِنْ أمير المؤمنين على هذا البعير؛ فإنه من إبل الصدقة، فيه حق لليتيم والمسكين والأرملة، فقال رجل من القوم: يغفر الله لك يا أمير المؤمنين! هلا أمرت عبدًا من عبيد الصدقة ليكفيك هذا.
قال عمر: ثكلتك أمك، وأُيُ عبدٍ هو أعبد مني ومن الأحنف؛ إنه من ولي أمر المسلمين فهو عبد المسلمين، يجب عليه ما يجب على العبد لسيده من النصيحة وأداء الأمانة]].
فيا لله! ورب عمر إن مشهدًا كهذا خير من الدنيا وما فيها.
يقول عبد الله بن عمر بن حفص: إن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يحمل القِرْبَة على عنقه، فيقال له في ذلك فيقول: إن نفسي أعجبتني فأردتُ أن أذلها.
بل إنه لربما أخذ بيد الصبي يلقاه، فيقول له: ادْعُ لي؛ فإنك لم تذنب قط.
بل إن ابن عباس -رضي الله عنه- دخل عليه يوم طُعِنَ فقال: [[أبشر يا أمير المؤمنين! أسلمت حين كفر الناس، وقاتلت مع رسول الله حين خذله الناس، وتوفيَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وهو عنك راضٍ، ولم يختلف في خلافتك رجلان.
فقال عمر: أعد، أعد.
فأعاد.
فقال عمر: المغرور مَنْ غُرَّ.
ولو أن لي ما على ظهرها من بيضاءَ وصفراءَ لافتديتُ به من هَوْلِ المطلع، وددتُ أني أنجو كَفافًا لا أجر لي ولا وزر]].
{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].
وكان متواضعًا للحق يقبله في السر والعلن، لقد كان بينه وبين رجل كلام في شيءٍ - كما أورد ابن الجوزي في تاريخه - فقال له الرجل: [[اتق الله يا أمير المؤمنين! فقال له رجل من القوم: أتقول لأمير المؤمنين: اتق الله؟!
فقال له عمر على الفور: دعه، فليقلها لي، نِعْمَ ما قال؛ لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نقبلها منكم]].
يا ليت هذه الكلمة تكون عنواناً ولجامًا يلجم به نفسه كل من ولي من أمر المسلمين شيئًا صَغُر أو كَبُر؛ إذًا لصلح الحال، وتغيرت الأحوال، وكسدت سوق النفاق،
ولكن
أشد عيوبنا أنَّا إذا ما نُصِحْنَا خَدَّرتْنَا الكبرياء.(6/10)
شدة خوف عمر من الله
كان خوفه من الله عظيمًا، بل ما قاده وحداه لتلك الأعمال المُشْرِقَة الخالدة إلا خوفه من الله - عز وجل - كان يمر بالآية فيغلبه البكاء وهو يصلي بالناس، حتى يقول ابنه عبد الله: [[إني لأسمع حنينه من وراء ثلاثة صفوف، وإنَّه لينشج حتى أقول: اختلفت أضلاعه]].
بل ذُكِر أنَّه خرج يعس ليلة من الليالي فمر بدار رجل من الأنصار، فوافقه قائمًا يصلي -يوم كانت دور المسلمين تعمر بالقرآن لها دوي كدوي النحل- وقف يستمع لقراءته فقرأ: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور:1 - 2] حتى بلغ: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور:7 - 8] فقال عمر: قسم حق ورب الكعبة، ثم نزل عن حماره، واستند إلى حائط فمكث مليًا به ما به، ثم رجع إلى منزله فعاده الناس، لا يدرون ما مرضه.
هذه حاله مع آية من آيات القرآن.
فما حالنا مع كتاب الله؟
عُمْيٌ عن الذكر والآيات تَنْدُبُنَا لو كلَّم الذِّكْر جُلْمُودًا لأبكاهُ
كان شديد المحاسبة لنفسه، يقول أنس: [[خرجت مع عمر فدخل حائطًا، فسمعته يقول وبيني وبينه جدار: عمر أمير المؤمنين! بخٍ بخٍ والله لتتقين الله أو ليعذبنك الله]].
فهلا خلا أحدٌ منَّا بنفسه يعاتبها ويحاسبها، علها أن تذكر الله فتسيل دمعة يستحق بها أن يكون ممن يستظل بظل الله يوم لا ظل إلا ظله.
نشكو إلى الله قسوة قلوبنا وغفلتنا، ونسأله بعزته وقدرته أن يلين قلوبنا فيه حتى تكون ألين من الزبد.
هو ولي ذلك والقادر عليه.(6/11)
زهد عمر بن الخطاب
صورة أخرى أيها الأحبة: إن الزهد في الدنيا، والإعراض عن طلب زينتها، والعزوف عن شهواتها، من كمال الإيمان، ورجاحة العقول.
إذ الدنيا حقيرة، وزينتها خداع وسراب، شهواتها آلام تدفع بآلام، عرف ذلك الفاروق فركلها وقد أناخت عند قدميه.
وذلك -والله- هو الزهد بعينه.
ذكر السيوطي في كتابه: تاريخ الخلفاء أن ابن سعد أخرج [[أن حفصة وعبد الله -ابني عمر - كلما عمر فقالا له: لو أكلت طعامًا طيبًا كان أقوى لك على الحق.
قال: أكلكم على هذا الرأي؟ قالوا: نعم.
قال: قد علمت نصحكم لي، ولكني تركته، لقد تركني صاحباي على جادة -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر - فإن تركت جادتهما لم أدركهما في المنزل]]:
له أمنياتٌ قَدَّسَ الله سِرَّها لتحقيقها في الأرض يرسو ويبحرُ
يَكِلُّ جناح النسر دون بلوغها وفي دربها الخيل الأصيلة تعثرُ
يذكر القرطبي في تفسيره عن قتادة أنه قال: [[ذُكِرَ لنا أن عمر-رضي الله عنه-قال: لو شئتُ لكنتُ أطيبكم طعامًا وألينكم لباسًا، ولكني أستبقى طيباتي للآخرة.
قال: ولما قدم الشام صُنِعَ له طعامٌ لم يُرَ مثله، قال: هذا لنا! فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا ولم يشبعوا من خبز الشعير، فقال خالد بن الوليد: لهم الجنة.
فاغرورقت عينا عمر بالدموع، وقال: لئن كان حظنا من هذه الدنيا هذا الحطام، وذهبوا هم في حظهم بالجنة، لقد باينونا بوناً بعيداً]] ثم أجهش بالبكاء:
يهفو إليهم لعل العيش يهنأ له ما بين صحب وأرحام وإخوان.(6/12)
عمر يتلقى الزهد من النبي صلى الله عليه وسلم
لقد تلَقَّى الزهد دروسًا عملية تربوية من سيد الزاهدين محمد صلى الله عليه وسلم، فاسمع يوم يروي مسلم فيقول: {دخل عمر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مشربة له، فالتفت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجد شيئًا يَرُدُّ البصرَ إلا جلودًا قد سطع ريحها، ورسول الله مضطجع قد أثرت حبال السرير في جنبه الشريف - صلى الله عليه وسلم فتدمع عينا عمر رضي الله عنه فيقول صلى الله عليه وسلم: ما بك يا عمر؟ فيقول: أنت رسول الله وخِيرته من خلقه على هذا، وكسرى وقيصر في الديباج والحرير وما تعلم؟! فاستوى صلى الله عليه وسلم جالسًا وقال: أفي شك أنت يا بن الخطاب؟! أولئك أقوام عُجِّلَت لهم طيباتهم في الدنيا.
أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الأخرى} أو كما قال صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:35]
تموت الأُسْد في الغابات جوعاً ولحمُ الضأن تأكله الكلابُ
وعبد قد ينام على حرير وذو نسب مفارشه الترابُ(6/13)
بعض أقوال عمر في الزهد
بمثل هذا الدرس النبوي الشريف تشبعت روح عمر بمعاني الكمال، وأصبح في ذلك نعم المثال.
يدخل بيته ذات يوم وقد أصابه الجوع، فقال: [[أعندكم شيء؟ فقالت امرأته: نعم.
ما تحت السرير، فتناول وعاءً من تحت السرير فيه تمر فأكل ثم شرب من الماء ثم مسح على بطنه، وقال: الحمد لله، ويل لمن أدخله بطنه النار! ويل لمن أدخله بطنه النار!]] ونهدي هذه المقالة للذين لا يتورعون أأكلوا من حلال أو حرام؟ ويل لمن أدخله بطنه النار!
هاهو عمر والرهط المؤمنون معه أمام غنائم كسرى من الفرس؛ بساط كسرى وسواريه وجواهره وحلله وأمواله، وبينما هو كذلك إذ بعينه تذرف الدموع حَرَّى يكفكفها بطرف ثوبه؛ ويدهش الصحابة، ويقولون: [[ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ فينهد باكياً قائلاً: فدت نفسي رسول الله هو الأحب إلى الله منا، فدت نفسي أبا بكر وهو عند الله خير منا، والَهْفَ نفسي! مَضَوا إلى الله وخلفونا، ولم يَرَوا من زهرة الدنيا شيئًا، ثم فُتِحَ علينا من الدنيا ما ترون، وأخشى أن تكون طيبات عجلت لنا]].
فضج المسجد بالبكاء فما تسمع إلا النشيج والحنين والأنين.
إيه يا عمر!
قد عشت عمرك زاهداً في كل ما جمع البشر
أتعبت من سيجيء بعدك في الإمارة يا عمر(6/14)
عمر ونيل مصر
صورة أخرى: أورد ابن كثير في تاريخه عن قيس بن الحجاج قال: [[لما فُتِحَت مصر أتى أهلها إلى عمرو بن العاص حين دخل (بؤنة) -شهر من أشهر العجم- فقالوا له: أيها الأمير! إن لنيلنا هذا سُنَّةٌ لا يجري إلا بها، فقال لهم: وما ذاك؟ فقالوا: إذا كانت ثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر، عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها فأرضينا أباها، وحملنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في النيل.
فقال لهم عمرو -رضي الله عنه-: إن هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما كان قبله، ومنعهم فأقاموا ثلاثة أشهر والنيل لا يجري منه قليل ولا كثير؛ فتنة وابتلاء من الله حتى هموا بالجلاء عن مصر، فلما رأى عمرو بن العاص ذلك الأمر وما حل بهم، كتب إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بذلك، فكتب إليه عمر: لقد أصبت بالذي فعلت، والإسلام يهدم ما قبله، ثم كتب بطاقة داخل كتابه، وقال لـ عمرو: إني قد بعثت إليك ببطاقة في داخل كتابي فألقها في النيل إذا أتاك الكتاب.
فلما قدم كتاب عمر إلى عمرو أخذ البطاقة فإذا فيها: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر أما بعد: فإن كنت إنما تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأله أن يجريك.
فألقى عمرو البطاقة في النيل، وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها؛ لأنها لا تقوم مصلحتهم فيها إلا بالنيل، فلما ألقى البطاقة أصبحوا وقد أجراه الله ستة عشر ذراعًا في ليلة واحدة]] فقطع الله عادة السوء تلك عن أهل مصر إلى اليوم.
الله أكبر! من أطاع الله وصدق وأخلص مع الله طَوَّعَ الله له كل شيءٍ، طَوَّع له الجبال والأنهار والقلوب والأرواح وأتته الدنيا راغمة:
فتقوى الله خير الزاد ذخرًا وعند الله للأتقى مزيدُ(6/15)
أدب الخلاف عند عمر بن الخطاب
صورة أخرى: لقد كان عمر -رضي الله عنه- فقيهًا متأدبًا بأدب الخلاف، وكذلك كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم، فالخلاف عندهم لا يفسد الود.
لِمَ؟
لأن الهدف عندهم هو إحقاق حق وإبطال باطل، فليظهر الحق على أي لسان.(6/16)
أدب الخلاف بين عمر وابن مسعود
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: لقد اختلفت مع عمر رضي الله عنه في مسائل تربو على مائة مسألة.
والسؤال الذي يفرض نفسه: هل أنقص هذا من حب عمر عند ابن مسعود أو العكس؟ لا والله! والشواهد تشهد بذلك.
يقبل ابن مسعود يومًا على عمر رضي الله عنه وهو جالس، فلما رآه عمر هشَّ له وبشَّ وقال: كُنَيْفٌ مُلئ علمًا وفقهًا.
هكذا كانت نظرة عمر -رضي الله عنه- لأخيه؛ نظرة تجردت عن الهوى والشهوة، فالحق مقصدها والصدق غايتها.
فما نظرة ابن مسعود لـ عمر الذي اختلف معه فيما يربو على مائة مسألة؟
اسمع أخي الكريم: يأتي ابن مسعود اثنان، أحدهما قد قرأ على عمر والآخر على صحابي آخر، فيقول ابن مسعود للأول: من أقرأك القرآن؟ قال: أقرأنيه عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فيجهش ابن مسعود بالبكاء حتى ابتلت الحصى بدموعه، ويقول: [[اقرأ كما أقرأك عمر؛ فإنه كان للإسلام حصناً حصيناً يدخل فيه الناس ولا يخرجون، فلما أُصِيْبَ عمر انْثلم الحصن]].
لا غرابة في هذا القول من ابن مسعود رضي الله عنه؛ فهو القائل بعد وفاة عمر -كما روى الإمام أحمد في فضائله بسند حسن-: [[لقد أحببتُ عمر حبًّا حتى لقد خفت الله، والله! لو أني أعلم كلبًا يحبه عمر لأحببته، ولوددت أني كنت خادمًا لـ عمر حتى أموت، ولقد وجَدَ فَقْده كل شئ حتى العصاة؛ إن إسلامه كان فتحًا، وهجرته نصرًا، وسلطانه رحمة]]، ثم يقول أخرى -كما أخرج الطبراني-: [[لمجلس واحد من عمر أوثق عندي من عمل سنة، لو أن علم عمر وضع في كفة ميزان ووضع علم أحياء الأرض في كفة لرجح علم عمر-رضي الله عنه- بعلمهم، ولقد ذهب بتسعة أعشار العلم]].(6/17)
أدب الخلاف عند أتباع عمر
أيها الأحبة: إن هذه الصور المضيئة من تاريخنا لتذكرنا بصفحات أخرى من صفحات سلفنا الكرام في أدب الخلاف؛ فإليكُمُوها فَعُوها واسمعوها:
يتناظر ذات يوم يونس بن عبد الأعلى والشافعي -عليهما رحمة الله- فاختلفا في مسألة، وانفضت المناظرة، ولم يتفقا.
يقول يونس: فوالله -الذي لا إله إلا هو- ما رأيت أعقل من الشافعي، جاءني في بيتي، وطرق بابي، ودخل وسلَّم عليَّ، ثم أمسك بيدي بحنان وتحنان، وقال: يا أبا محمد! ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة؟ ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة؟
لا ريب أن يقول ذلك الشافعي -رحمه الله- وهو القائل: ما جادلت أحدًا إلا وتمنيت أن يكون الحق بجانبه.
هذا الكلام المضيء؛ نهديه إلى الذين تضج بهم الساحة الإسلامية هذه الأيام، ممن يخيل لأحدهم أنه أعلم العلماء وأحكم الحكماء، فلا يعرف توقيرًا لكبير، ولا يجلُّ عالمًا، ولا ينظر إلى أحد أنه يستحق الاحترام إلا نفسه، فيقع في عِرْض هذا، ويعدِّل هذا، ويَجْرَح هذا.
وليس جراحهم في الجسم لكن جراح النفس تفتك بالرجالِ
زيادة على نصاب العلم كواو عمرو أو كنون الملحق
تجد الواحد منهم يفكر بعقل غيره، ويسمع بأذن غيره، ويرى بعين غيره، ما قاله فلان هو الحق وما عداه فهو الباطل.
فلو لبس الحمارُ ثياب خَزٍ لقال العمى يالك من حمارِ
ونقول لهم وللكل: ألا نكون إخوة إلا إذا اتفقنا تمامًا في كل مسألة؟ منذ متى اتفق الناس؟
هاهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قادة الناس، ومعادن العلم، وأولى الناس بكل فضيلة؛ يختلفون.
لكن انظر إلى اختلافهم وهم الأسوة والقدوة؛ تجده رفيعًا لا يفسد ودًا، ولا يكسر قلبًا، ولا يخدش عرضًا، إنما يحق حقًا ويبطل باطلاً.
يا طالب العلم: يا أخي الكريم! أتفرقني عنك مسألة؟ فترفع عقيرتك عليَّ، ولا تجمعني بك ألف مسألة اتفقنا عليها! هل هذا من العدل؟ هل هذا من الإحسان؟ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} [النحل:90] هلا جمعتنا أخوة الإيمان؟ كل شيءٍ بعد ذلك يأتي، ستكون الأخوة أقوى فتطغى.
وكلنا ينشد الحق، والحق أحق أن يتبع، والتجرد عن الهوى مطلب، لكنه عزيز المنال صعب المدرك، وما يلقَّاه إلا الصابرون.
هاهو الإمام مالك بن أنس -عليه رحمة الله- دخل المسجد ذات يوم وجلس، فغضب عليه أحد الغلمان قائلا له: قُم فَصَلِّ ركعتين، فقام وصلى ركعتين، فأنكر عليه بعض شياطين الإنس قائلاً: أتسمع لغلام وأنت الإمام؟ فقال الإمام مالك: خشيت أن أكون ممن قال الله فيهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48].
الله أكبر! أين نحن -طلبة العلم -من هذا الفقه، وأولئك الفقهاء الذين بطريقتهم تلك استصغروا أنفسهم في الحق فاستعظمهم الناس، وتحركت بأعمالهم عوالم بأسرها وما زالت تتحرك؟
إن من طلبة العلم اليوم من يتسرب إلى نفسه الكمال الزائف، فيرى في نفسه العلم كله والحكمة كلها، ويحصر فيها الهداية الكاملة، ويستفقد كل ذلك في الآخرين.
أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا تورد يا سعد الإبل
إن دعاة الأمة وعلماءها المخلصين الصادقين هم الذين يلتزمون منهج القرآن في كل شيء، يلتزمونه في الحوار، وفي الرد، ولا ينساقون وراء حب الظهور والانتصار للنفس والتشفي، ولا يفرون من مرارة الصبر على الاعتراف بالخطأ الذي يمثل عاملاً مُهِمًّا في تأهيل أئمة يهدون بأمر الله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].(6/18)
نصيحة عمر للأمة بحسن الظن
صورة أخرى: أورد ابن الجوزي في مناقب عمر خطبة عظيمة، وأوردها ابن سعد في طبقاته، قال فيها: [[أيها الناس! ألا إنما كنا نعرفكم إذ بين أظهرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- وينزل الوحي وينبئنا الله من أخباركم، ألا وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انطلق وانقطع الوحي، وإنما نعرفكم بما تقولون، مَن أظهر خيرًا ظننا به خيرًا وأحببناه، ومن أظهر شرًا ظننا به شرًا وأبغضناه عليه، سرائركم بينكم وبين ربكم، ألا وإنه قد أتى عليَّ حين وإنما أنا أحسب أن مَن قرأ القرآن يريد الله وما عنده، ثم خُيِّل إليَّ بآخرة أن رجالاً قد قرءوه يريدون ما عند الناس، فأريدوا الله بقراءتكم، وأريدوه بأعمالكم، ألا وإني -والله- ما أرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكني أرسلتهم ليعلِّموكم دينكم وسننكم، فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إليَّ، فوالذي نفسي بيده إذًا لأقصنَّه -أي: لأجرين عليه حكم القصاص- فوثب عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين! أفرأيت إن كان رجل من المسلمين على رعية، فأدب بعض رعيته، أكنت مقصُّه منه؟ قال: إي والذي نفسي بيده؛ لأقصنه، كيف لا أقصه وقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقص من نفسه ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم، ولا تنزلوهم المهالك فتضيعوهم، فإن رجلاً من المسلمين أحب إليَّ من مائة ألف دينار]].
يا للكلام!
كلام ذوي الألباب أهوى وأشتهي كما يشتهي الماءَ المبردَ شاربُه
الله أكبر! إنه الحق والسكينة ينطقان على لسان عمر -رضي الله عنه وأرضاه-.
هذه رسالة من عمر موزَّعة إلى ثلاثة أصناف: أما الأولى: فإلى من وليَ من أمر المسلمين شيئًا صَغُر، أو كَبُر تُبَيِّن أن مهمتهم تعليم الدين والسنن، لا إذلال المسلمين، ومنعهم حقوقهم، وضربهم، وإنزالهم المهالك.
وهي كذلك رسالة إلى حملة كتاب الله أن يريدوا الله بقراءته.
فليسائل حملة كتاب الله أنفسهم: ماذا زرع القرآن في قلوبهم ونفوسهم؟ وهي أولاً الرسالة إلى من يحكم على النيَّات بالفساد، فيظن بكلمات المسلمين شرًا وهو يجد لها في الخير محملاً:
تعمى بصائرهم عن كل منحرف ويرصدون ذوي التقوى بمرصاد
والرسالة الأخيرة هذه تذكر برسالة أخرى، وبصفحة أخرى مضيئة في تاريخ هذه الأمة.
يوم يدخل الربيع بن سليمان على الشافعي وهو مريض يعوده، فيقول من ضمن دعائه له: قوَّى الله ضعفك يا إمام! فقال الشافعي: يا ربيع! لو قوى ضعفي لقتلني، قال الربيع على الفور: والله -الذي لا إله إلا هو- ما قصدت ذلك يا إمام! فقال الشافعي: يا ربيع! والذي لا إله إلا هو لو شتمتني صراحًا لعلمت وتيقنت أنك لم تقصد ذلك.
يا لله! نهدي هذا الكلام مع التحية لبعض الذين يقفون على عبارة لها في الخير ألف محمل وفي الشر محمل، ثم يحملونها على الشر.
والله! إن الحسرة والألم ليعتريان المسلم يوم يرى الفُرْقَة بين من ينتسبون لعقيدة واحدة، ومنهج واحد إلى عقيدة أهل السنة والجماعة ومنهجهم، ويحزن أخرى يوم يرى الشيطان وحضور النفس تؤزُّ المسلم أزًّا للفرقة والتنازع والتباغض، وعدوهم واحد يحارب الإسلام وأهله أيًّا كانوا.
أهل السنة لا ننكر أنهم قد يختلفون، فقد يقع بينهم الاختلاف حول بعض المسائل التي يجوز فيها الاختلاف، لكن هذا لا يؤدي إلى اختلاف القلوب أبداً.
يا طلاب العلم المخلصين! يا دعاة الحق المبين! ألا من رجعة صادقة إلى الله نرتفع بها على ذواتنا وأشخاصنا وأغراضنا الدنيوية؟! ألا من رجل رشيد يفكر بعمق المأساة وخطرها على الأمة الإسلامية بأسرها؟! والله! إن لم نسعَ لرَأْبِ الصَّدْع، وبذل الولاء والمحبة لكل مؤمن فإن هناك فتنة وفسادًا كبيرًا سيحل بنا إن لم يتداركنا الله برحمة من عنده، يجمع الله بها شتات القلوب وتتوحد بها كلمات دعاته المخلصين: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73] فأي خير إن صدر من أخيك ما لم يمكن حمله على الخير فليُتَعذَّر عنه.
ولن يعدم قاصد الخير أن يجد لإخوانه ما يبقي صدره سليمًا، ونفسه رَضِيَّه، فإن لم يكن ولم تستطع ذلك فما كافأ عبد من عصى الله فيه بمثل أن يطيع الله فيه:
فوالله ما مال الفتى بذخيرة ولكن إخوانَ الثقات الذخائرُ
صورة أخرى: أورد ابن الجوزي في مناقبه عن سعيد بن أبي بردة قال: [[كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري قائلا: أما بعد: فإن أسعد الرعاة من سعدت به رعيته، وإن أشقى الرعاة من شقيت به رعيته، إياك أن تزيغ فيزيغ عمالك فيكون مثلك في ذلك مثل البهيمة: نظرت إلى خضرة الأرض فرعت فيها ترجو بذلك السمن وإنما حسبها في سمنها -بمعنى: أنها إذا سمنت ذبحت- والسلام عليك]].
يا للكلام المزين بالفعال.
قولوا لمن ملأ الزمان تشدقاً بالعدل أين العدل يا متشدق؟!
نصيحة توجه إلى من ولي ولاية صغيرة أو كبيرة فهو الناصح رضي الله عنه.
والمؤمنون من طبعهم النصح والمنافقون من طبعهم الغش {وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، والإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته، وما من راع استرعاه الله رعية فبات غاشاً لهم إلا حرم الله عليه رائحة الجنة}.(6/19)
الجهاد في عهد عمر
صورة أخرى: أتمَّ عمر الشوط الكبير الذي بدأه أبو بكر، فأخذ يعدُّ العدَّة لفتح العراق وبلاد فارس بعد أن اطمأن على سلامة الجيش الإسلامي في بلاد الشام، وعرف أن الروم ارتدوا على أعقابهم بعد اليرموك.
والمسلمون في عهده من نصر إلى نصر.
رغب عمر أن يقود الجيوش بنفسه، وتَاقَت نفسه إلى الجهاد في سبيل الله، لكن جمهرة المسلمين أشاروا عليه بـ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه فوافقهم على ذلك، فكانت وقعة القادسية التي ظهرت فيها عزة المسلمين، وذل وهزيمة الكافرين، وقُتل عشرات الآلاف من عُبَّاد النار من المجوس، وأيَّد الله دينه ورفع كلمته، وهاب الكفرُ الإسلامَ، فانتشر الإسلام، وتقلَّص الظلام، وفُتِحت المدائن، وعُبِرت الأنهار بفضل الله الواحد القهار.
أكرمهم الله بأن يسيروا على الأنهار كما نسير على البيداء، وحاز المسلمون كنوز كسرى وقيصر، ولبس سراقة سواري كسري، وتحققت نبوءة الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في ذلك.
كنا جبالاً في الجبال وربما صرنا على موج البحار بحارا
أرواحنا يا رب فوق أكُفِّنا نبغي ثوابك مَغْنَمًا وجوارا
ندعو جهارًا لا إله سوى الذي خلق الوجود وقدَّر الأقدارا
ومن القادسية إلى نهاوند.
فتح الفتوح تعالى أن يحيط به نَظْمٌ من الشعر أو نثر من الخطب(6/20)
أطفئت نار المجوس في عهد عمر
وأُطْفئت نار المجوس، وتمزق مُلْك كسرى، ولم تقم للمجوس قائمة، وفتحت الشام، ومصر، وفتح بيت المقدس، وتسلم مفاتيحه عمر -رضي الله عنه وأرضاه- وهو يخوض مخاضة الطين، ويقول: [[نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله]].
وسلمها عمر أمانة لكل من يَخْلُفه، فأين الأمانة يا مسلمون؟ ما الخبر بعد عمر؟ إنه الذل والهوان المكتوب على الأمة متى ما حادت عن دينها.
لقد ابتعد المسلمون عن مصادر عزهم فذلوا، وحادوا عن رشدهم فضلوا، وألغوا عقولهم فهانوا، عصوا الله وهم يعرفونه فسلط عليهم من لا يعرفه؛ فكان الهوان والضياع.
وضاعت القدس، ضاعت يوم أميتت في القلوب آل عمران والأنفال وبراءة، ضاعت يوم أُصِمَّت الآذان، واسْتُغْشِيت الثياب عن أصوات الناصحين الصادقين، ضاعت يوم ذُلَّ الأتقياء، وعُزَّ الأشقياء، وأغمدت سيوف الحق، ورفعت سيوف الباطل، يومها فُجِعْنَا بضياعه؛ لأننا أمة لا تستحق أن تُنْصَر.
لكل فاجعة في الدهر سُلْوان وما لنكبة أرض القدس سلوان
هذي مآذنه خرساء ذاهلة فلا أذان ولا في الناس آذان
بيت مشى أمس في ساحاته عمر فكيف يمرح فيه اليوم شيطان
ورفع الله الأتقياء بـ عمر، وسقط المجرمون، وشرَّق الإسلام في عهده وغرَّب، وأُدِيلت دول، وفُتِحت بلاد، ومُصِّرت أمصار.
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أُدْمُ له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فَرَقًا من خوفه وملوك الروم تخشاه
أيها الأحبة: إن السؤال الذي يطرح نفسه في ثنايا تلك الانتصارات: ما التوجيه الذي كانت تتلقاه الجيوش المؤمنة في ذلك العهد؟ إنه -ولا شك- قراءة سورة الأنفال تحت كل راية من رايات المسلمين، فتهشُّ لها القلوب والعيون المؤمنة، وتتنزل معها السكينة والطمأنينة، فيكون النصر.
والسؤال الآخر: ما ليل جند الله في جيش عمر؟ يقول سعد بن أبي وقاص: لقد كانوا يدوُّون بالقرآن إذا جن الليل كدويِّ النَّحل، وهم آساد في النهار لا تشبههم الأسود، ولم يفضل من مضى منهم من بقيَ إلا بالشهادة إذ لم تكتب لهم.
تحيا بهم كل أرض ينزلون بها كأنهم في بقاع الأرض أمطارُ
عُبَّاد ليل إذا جنَّ الظلام بهم كم عابدٍ دمعه في الخدِّ أجراهُ
وأُسْدُ غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون لقياه
فاسألوا عن كل نصر خالدا ً واسألوا عن كل عدل عمرا
يا رجال الليل قد طال المدى بلغ السَّيل الزبى وانحدرا
اصبروا إن عظم الخطب فما يدرك النصر سوى من صبرا
وانصروا الله يهبكم نصره واشكروه يعط من شكرا(6/21)
معركة القادسية من الداخل
ونحن في ثنايا انتصارات عمر علينا أن ندرس بعض الصور فيها من داخلها.
ففي القادسية صور مضيئة جديرة بأن نقف عندها وقفة تأمل واعتبار واقتداء.
ومنها: أنها ضمت في صفوفها ما يربو على ثلاثمائة صحابي، منهم تسعون بدرياً، فهي تتميز بذلك عن غيرها من المعارك.
ثم انظر بعين بصيرتك إلى عمر يوم يقول لـ سعد موصيًا ومودعًا -وتأمل الوصية وانظر وتفكر-[[يا سعد بن وهيب لا يغرنَّك إن قيل: خال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه ليس بين الله وبين أحد نسب إلا بالتقوى]] وتأملوا الميزان والمعيار التي قد تختلف عليه الأشكال، لكن الحقيقة واحدة، في اليرموك وفي بدر وأحد وفي زمن قتيبة، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
النسب واحد؛ هو التقوى، والمعيار والميزان هو التقوى، عَضُّوا عليها.
وإن كان سعد خال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان سعد مبشراً بالجنة، وإن كان ممن جمع له الرسول صلى الله عليه وسلم أبويه، وإن كان من قال فيه: {هذا خالي فليرني امرؤ خاله} نعم.
حذار يا سعد! من الاغترار، توجيه عمريٌ، لا تغتر بكلام الناس، والتقوى فالزم فهي المؤهَّل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
كيف لو أن عمر -يا أيها الأحبة- يرى وينظر إلى وسائلنا -وسائل الأمة المسلمة- هذه الأيام لرأى عجبًا وهي تدمر المسئولين في الأمة المسلمة، وتحوِّلهم من بشر يصيب ويخطئ ويُحاسَب إلى أناس لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم، بل لا يسألون عما يفعلون.
ويُرْفع شأن مختلس وغاو ويُجْفى كل ذي عقل رزين
والله! أيها الأحبة: يوم يدخل المرء داخل معركة القادسية وغيرها، يعرف ماذا كان يجري في جيش المسلمين، وفي جيش الكافرين، يعرف حينها عوامل النصر، ومؤهلات العز، وعوامل الهزيمة.
فادخل معي إلى المعركة، واسمع.
كما تعلمون تبدأ المعارك -غالبًا- بالمبارزة، وبدأت المبارزة بين الصفين؛ بين صف يقول: لا إله إلا الله، وبين صفٍّ يعبد النار من دون الله، فقام علج من الفرس ما عرف الله لحظة من اللحظات، ودخل الساحة، فخرج إليه رجل من المسلمين، فتجاولا وتصاولا، فلم يلبث العلج الفارسي أن قتل المسلم.
والمبارزة كما تعلمون لها تأثير نفسي -غالباً- على الجيش وعلى مستقبل المعركة، فخرج إليه رجل آخر من المسلمين وبدأت المبارزة مرة أخرى، فلم يلبث العلج أن قتل المسلم، ففتَّ ذلك في عَضُد المسلمين، ثم خرج ثالث من المسلمين -يتهاوون على الموت، يريدون ما عند الله- وتجاولا، فلم يلبث العلج أن قتل المسلم، فوهن ذلك في عزم المسلمين وهنًا شديدًا، كافر يقتل ثلاثة من المسلمين في تلك اللحظة الحرجة!
كان في جيش المسلمين شيخ كبير قد بلغ ما يربو على ثمانين عامًا، لا يزال يجاهد والمؤمن في جهاد حتى يلقى الله ممتثلاً قول الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] خرج هذا الشيخ الكبير على فرسه لسان حاله يقول:
أخي ظمئتْ للقتال السيوفُ فأورد شَبَاها الدمَ المُصْعَداَ
فإمَّا حياة تسرُّ الصديق وإمَّا مماتٌ يغيظ العدا
ويصاول ذلك العلج الذي انتفخ ريشه وتكبر؛ لأنه قتل ثلاثة من المسلمين، فتطاول معه زمناً طويلاً، لكن هذا الشيخ المسلم ما لبث أن قفز من خيله إلى خيل ذلك الفارسي فصارا على خيل واحدة، ثم حمل هذا الفارسي بيده وهو مدجج بالسلاح والدروع فرفعه بيديه، ثم أنزله على ركبتيه فكسر ظهره نصفين، ثم رمى به، وقال: هذا علج خبيث، لا يستحق أن يضرب بالسيف.
فكبر المسلمون ودارت المعركة فكان النصر لمن ينصرون الله.
هذا هو الإيمان درب نجاتنا فما بالنا عن دربنا نتنكَّب
ما بالنا نرنو إلى أعدائنا وسهامهم نحو الصدور تُصَوَّب
ما بالنا نرنو إلى أعدائنا والله للإنسان منهم أقرب
صعب طريق الموت مرٌّ طَعْمُه حقًا ولكن الدَّنيَّة أصعب
أين تربى ذلك الشيخ -أيها الأحبة- الذي عمره فوق ثمانين؟
إنه -ولا شك- في رياض كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن تربى عليهما عرف مهمته في الحياة، وهي إعلاء كلمة الله، وابتغاء مرضاة الله.
بذل كل شئ في حياته لتحقيق هذه المهمة، وهكذا كان الواحد من سلفنا، عنده بصيرة يتحرك بها على الأرض، ويعرف كيف ينصر دينه، ويفكر كيف ينصر دينه، وبالتالي نُصِرُوا.
من يتق الله وينصر دينه لابد في ساح المعارك يُنْصَرُ
هذه صفحة في ثنايا القادسية التي ما هي -والله الذي لا إله إلا هو- إلا جزء من جهاد في ثنايا جهاد عمر وصحبه رضوان الله عليهم الذين أرهبوا أعداء الله، ومكنوا لدين الله في الأرض، فما الحال، وما الواقع اليوم والأمة تدَّعي الصلة بذلك الجيل وتلك الطائفة؟(6/22)
وقفة مع الأقصى
إن الواقع مرير، ويجب أن نعلم مرارته، لعلنا نرفع هذه المرارة، وإن الأمة ممزقة، وإن التكالب على المسلمين ورميهم عن قوس واحدة حاصل، وإن الغفلة عظيمة، وما أشبه ليلة القدس بـ أندلس البارحة:
أين اللواء وخيل الله يبعثها عمرو ويصرخ في آثارها عمر
هذا هو الأقصى يُهَوَّدُ جهرةً وببؤسه تتحدث الأخبار
هذا هو الأقصى يهود جهرة وجموعنا يا مسلمون نثار
أليس لكم قلب يفيء لربه أليس لكم عين أليس لكم فم
المال مقتسم والعرض منتهك والقَدْرُ محتقر والدم طوفان
لا راية لبني الإسلام ظاهرة إذا تداعى خنازير وصُلْبَان
أين الجيوش التي تزهو بقوتها؟ كأنها في نهار العَرْضِ بركان
أين الملايين من أموال أمتنا؟ فما لها في مجال الفعل برهان
هل عندكم نبأ مما يُعَدُّ لكم أم خدَّر القومَ لعَّابٌ وفنَّانُ؟
هل عندكم نبأ من أهل أندلس فقد سرى بحديث القوم رُكْبَان؟
واليوم مسرى نبي الله ضجَّ وقد غشاه مرٌ من التنكيل ألوان
ذل وضعف وتمثيل ومَلْحَمَة ما ذاقها في مدار الدهر إنسان
الخمر تُشْرب والأوتار صاخِبَة وللرياضة فينا القَدْرُ والشَّان
أَمَا لنا في كتاب الله من عظة فقد دعانا لنصر الحق قرآنُ
أَمَا لنا في طلوع الفجر من أملٍ أما تبدد عنا الشك والرَّانُ
يا أمتي مزقي الأغلال وانتفضي فالمجدُ لا يمتطيه اليومَ وَسْنَانُ
عودي إلى الله فالأبواب مُشْرَعةٌ وعزَّة الله للأوَّابِ عُنْوانُ
واستبشري فشعاع الفجر منتشرٌ وإن تجاهل نورَ الفجرِ عُمْيَانُ
وإن تراكم غَيْمُ الظلم واحتجبت شمسُ النَّهار فللإشراق إبَّانُ
أيها الأحبة: ألا نملك مثل هذه الطاقات التي كانت في صفوف القادسية من أبناء العشرين إلى الثمانين إلى المائة؟ بلى والله! إنَّا لنملك بعضًا منها، والقصور عن السلف أمر لابد منه، لكننا لا نحسن التعامل معها.
تهينها الأمة وتمتهنها وتقتلها ولا تنتفع بها وهي أحوج ما تكون إليها:
كالعِيسُ في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها مَحْمُول
والله الذي لا إله إلا هو لا نُنْصر ما دام هذا دَيْدَن الأمة مع طاقاتها.
إنه حين تُدمَّر النفوس، ويُهَان المخلصون، ويرفع المجرمون إلى مرتبة الأتقياء، ولا يُسمع الناصحون، والله! لا تنفع عندها لا دبابات، ولا طائرات، ولا أساطيل، لأنه أمر الله بالتدمير، ولا عاصم من أمر الله إلا من رحم:
من أين يرعى الله أمتنا التي ذل التقي بها وعز المُذْنب
من أين يأتيها السلام وقلبها خاوٍ وفيها الغاشِم المستكلب
ومع ذلك فوالله الذي لا إله إلا هو! إنَّا لمتفائلون كثيرًا، فلا يأس، ولا قنوط، ولا خشية من نصارى ولا مجوس ولا يهود، العهد من الله تعالى لنا بالنصر.
ديننا الحق، والكفر ذا دينهم كل دين سوى ديننا باطل
يا قدس مهما باعدوا بيننا ففي غدٍ جيش الهدى يزحف
لابد من يوم يزول الخَنَا عهد من الله لا يُخْلف
لابد من يومٍ لنطق الحجر وعْدٌ من الله لا يُكْذَب
ولو أن كل مسلم بصق بصقة فقذف اليهود بها لغرقوا، أو نفخ نفخة مؤمن حقاً لطاروا.
طريقنا واضح كالشمس تعرفه أجيالنا بابه عزم وإيمان
آمالنا لم تزل خضراء يانعة في القلب مُنْتَجَع منها وبستان
وللباطل مهما اشتط وطغى ساعة، وللحق وأهله زمان آخر لا ينتهي إلى قيام الساعة.
شريعة الله رغم الكفر خالدة والزيف يفنى ويفنى من له عبد
ولينا الله لا نرضى به بدلاً وكيف ييئس من مولاه رحمان(6/23)
اشفاق عمر ونصحه لرعيته
صورة أخرى: روى ابن سعد في طبقاته أن عمر -رضي الله عنه- كان في سفر، فلما كان قريبًا من الروحاء سمع صوت راعٍ في جبل، فعدل إليه ونادى عمر: يا راعي الغنم! فقال له الراعي وقد عرفه: نعم يا راعيها! -يعني: يا راعي الأمة- قال عمر: لقد مررت بمكان هو أخصب من مكانك هذا، هو المكان الفلاني، وإن كل راع مسئول عن رعيته، ثم مضى عمر في طريقه.
الله أكبر! يوم ترى خليفة المسلمين ينصح راعي غنم، ويدله على مكان هو أخصب من المكان الذي هو فيه، ويذكِّره بأن كل راع مسئول عن رعيته بأن يختار لها ما هو أنفع، وأن يؤثر مصالحها في كل موقف.
عمر ينادي الراعي: يا راعي الغنم! والراعي يجيبه بقوله: نعم يا راعيها! أي: يا راعي الأمة، لا فرق في التزام المسئولية بين هذا وذاك.
مسلمون حقًا، ومؤمنون صدقاً: {يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم}.
إن سيرة عمر -رضي الله عنه- شاهدُ صدقٍ على أن الوالي المسلم راع مشفق، وناصح أمين، ورائد لا يكذب أهله.
عمر هو الذي كان يعالج البعير الأجرب ويقول للبعير: إني لخائف أن أسأل عما بك، ما أروعها من كلمات يستضيء بها كل من ولي شيئًا من أمر المسلمين صغر الأمر أو كبر! فالمسئولية تحتِّم على كل من ائتمنه المسلمون على مصلحة من مصالحهم أن يتقي الله فيها، وأن يُحسن القيام بها؛ لينجو من العقاب غدًا.
هكذا كان الراعي مشفقًا على الرعية، شديدًا على نفسه، لعله يلقى العيش الرخي في دار الخلود.
من لي بجيل مستجدٍّ لم يرث إلا عن الجد القديم الأبْعَدِ
يرث أبا حفص في أصالةِ رأيه أو خالداً في عزمه المتوقِّد
جيل إذا سِيمَ الهوان أَبَى وإن يطلب إليه البذل لم يتردد
يهوى الحياة عقيدة، ويعافها فوضى ويُدْعى للفداء فيفتدي(6/24)
عمر وحزمه مع المنافقين
صورة أخرى: أخرج ابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رجلا من المنافقين يقال له: بشر؛ خاصم يهوديًا، فدعاه اليهودي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ليحكم بينهما؛ لأن هذا اليهودي يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق، وأن ما جاء به هو الحق، ولكنهم قوم يستكبرون، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم لليهودي، فلم يرضَ المنافق وقال: تعال نتحاكم إلى عمر بن الخطاب، فذهبا إليه، وقال اليهودي لـ عمر: لقد قضى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرضَ هذا بقضائه، وجئنا لتقضي بيننا، فقال عمر لهذا المنافق: أكذلك؟ قال: نعم.
قال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل عمر، واشتمل على سيفه، ثم خرج إليهما، فضرب عنق المنافق بالسيف حتى برز، ثم قال: هكذا أقضي لمن لم يرضَ بقضاء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ما أحوج الأمة إلى ذلكم السيف العمريُ ليضرب ضربته فيمن يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، وقد أمروا أن يكفروا به.
ليضربها فيمن إذا قيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيتهم يصدون.
ليضربها فيمن إذا ذكر الله اشمأزت قلوبهم، وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون.
ليضربها في الذين يرفضون التحاكم إلى شرع الله إذا كان الحق عليهم، ويرضون بالتحاكم إليه إذا كان الحق لهم.
إلى أولئك جميعًا {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].(6/25)
وفاة عمر بن الخطاب
الصورة الأخيرة: ويحج عمر -رضي الله عنه- فلم يضرب في طريقه فسطاطًا، وإنما كان يلقي الرداء على شجرة فيستظل بظل تلك الشجرة، وينتهي من حجِّه ولما نفر من منى رفع يديه قائلاً: [[اللهم قد كبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مفرِّط ولا مضيع.
اللهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك]] أخرجه البخاري.
ويتقبل الله من المتقين.
ويرجع إلى المدينة النبوية، ويخطب يوم الجمعة، ويذكر نبي الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر -رضي الله عنه- تعلوه الكآبة والحزن، ثم يقول: رأيت كأن ديكًا نقرني نقرة أو نقرتين، وإني لا أراه إلا حضور أجلي، وإن قومًا يأمرونني أن أستخلف، وإن الله لم يكن ليضيع دينه، فإن عجل بي أمر فالخلافة شورى بين الستة الذي توفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راض.
يقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: فلم أر يومًا أكثر باكيًا ولا حزيناً من ذلك اليوم.(6/26)
اغتيال عمر في صلاة الفجر
في صباح يوم من أيام -أبعدها الله- يصلي بالناس صلاة الفجر، ويكبر ويبدأ في القراءة يبكي، وبينما هو كذلك إذ تقدمت إليه يد من أيدي الأعداء التي لا تتسلل إلا في الظلام، يد آثمة، يد مجوسية ما سجدت لله سجدة، ولا عرفت الله، لتمزق الأديم الطاهر، فيهوي صريعًا والدماء تثعب منه، فما راع الناس إلا تكبير عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- إذ أخذه عمر -رضي الله عنه- بيده فقدمه، فصلوا صلاة الفجر يومئذ صلاة خفيفة، وأما ذلك العلج فما كان منه إلا أن قتل نفسه.
وحُمِل عمر إلى بيته وهو في دمه، لم يصل صلاة الفجر، فقيل: يا أمير المؤمنين! الصلاة الصلاة، قال: ها، لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، ثم وثب ليقوم، فانبعث جرحه دمًا، فقال: هاتوا لي عمامة، فعصب بها جرحه ثم صلَّى، لم يمنعه ما هو فيه من أداء الفريضة -فلا نامت أعين من يترك الصلاة-.
ولما سلَّم من صلاته قال: أيها الناس! هل كان هذا على ملأ منكم؛ أي: كان طعنه على ملأ منكم؟ قال علي: والله! لا أدري من الطاعن من خلق الله، أنفسنا تفدي نفسك، ودماؤنا تفدي دمك، لوددنا أن الله زاد في عمرك من أعمارنا.
ثم علم أن طاعنه عدو الله أبو لؤلؤة المجوسي؛ غلام المغيرة، فقال عمر: قاتله الله! لقد أمرت به معروفًا، الحمد لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجني عند الله بسجدة سجدها قط.
كان على فخذ ابنه عبد الله فقال: يا بني! ضع خدي على التراب؛ علَّ الله أن يرحمني، فلم يفعل عبد الله فأعادها قائلاً: ضع خدي على التراب لا أمَّ لك يا عبد الله! يقول عبد الله: فوضعت خده إلى الأرض حتى نظرت إلى أطراف شعر لحيته خارجة من بين أضغاث التراب، وبكى حتى التصق الطين بعينيه، وأصغيت إليه لأسمع ما يقول، فإذا به يقول: ويل عمر إن لم يتجاوز الله عنه، ويل عمر إن لم يتجاوز الله عنه.
ويدخل الصحابة يعودونه ومن بينهم علي يقول: [[هنيئًا لك الشهادة؛ لطالما سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، وذهبت أنا وأبو بكر وعمر، فأسأل الله أن يحشرك مع صاحبيك، فبكى وقال: ليتني أنجو كفافًا لا لي ولا عليّ]] أو كما قال.
ثم قال لابنه: انظر كم عليّ من الدين؟ قال: فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفًا، فقال: يا عبد الله! إن وَفَى لها مال آل عمر فأدِّها من أموالهم، وإن لم تفِ فاسأل فيها بني عدي، وإن لم تفِ فاسأل فيها قريشًا، ولا تعدهم إلى غيرهم.
يا لله! خليفة المسلمين ميزانية الأمة تحت يديه ويموت ودينه يربو على ثمانين ألفًا!
إن قدوته رسول الله صلى الله عليه وسلم من لو أراد أن تجري الجبال له ذهبًا لكان، مات ودرعه مرهونة عند يهودي في أصوع من شعير، فلا ريب ولا غرابة.
أولئك أقوام ما إن ذكرتهم جرت عَبَرات الدمع حَرَّى تصبَّبُ
هاهو عمر على فراش الموت في حالة ارتحال من دار الفناء إلى دار البقاء، ولا زال يعطي الدروس للأمة.
يدخل عليه مسبل من الشباب فيعوده ويدعو له ويخرج، فيقول: أعيدوه عليَّ، فيرجع الشاب فيقول: [[ارفع إزارك فهو أتقى لربك، وأنقى وأبقى لثوبك]].
رضي الله عن عمر، لم يشغله ما هو فيه عن أن يأمر بمعروف، أو ينهى عن منكر رضي الله عنه وأرضاه.
ويختم حياته بأهم مالديه وهو أن يدفن بجوار قدوته الحبيب الكريم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوار أخيه أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.(6/27)
دفن عمر جوار رسول الله
يحدث الإمام البخاري عن عمرو بن ميمون أن عمر -رضي الله عنه- قال: يا عبد الله بن عمر انطلق إلى عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- فقل: يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل: أمير المؤمنين؛ فإني لست اليوم للمؤمنين أميرًا، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه.
فسلم عبد الله على عائشة واستأذن ودخل عليها، فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر السلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فجهشت بالبكاء، وقالت: كنت أريد ذلك المكان لنفسي، ولأوثرنَّ به عمر اليوم على نفسي، ورجع عبد الله، فلما أقبل على عمر قيل له: هذا عبد الله قد جاء، قال: ارفعوني.
فأسنده رجل إليه فقال لـ عبد الله ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين! قد أذنت لك، وتهلل وجهه، لسان حاله: وافرحاه واطرباه:
الآن ألقى الأحبَّة محمدًا وحزبه
أما لسان مقاله: فالحمد لله ما كان من شيء أهم إليّ من ذلك المضجع.
ثم قال: يا عبد الله! إذا أنا قضيت فاحملوني، ثم سلِّم على عائشة أخرى وقل: يستأذن عمر، فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن لم تأذن فردني إلى مقابر المسلمين.
وأسلم عمر الروح إلى بارئها.
وحمل فكأن المسلمين لم تصبهم مصيبة إلا يومئذ، فما أصابهم حزن مثل حزنهم إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر.
ودفن حيث أكرمه الله مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.
تقول عائشة رضي الله عنها بعد ذلك: [[كنت أدخل بيتي الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي وأضع ثوبي وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما دفن عمر معهم فوالله! ما دخلته إلا وأنا مشدودة عليَّ ثيابي؛ حياءً من عمر]].
فإلى السَّافرات، إلى الكاسيات العاريات نهدي هذا الكلام.
دفن عمر ولم تدفن سيرته ولا أعماله، وإنما هي باقية بقاء هذا الدين لكل مقتد من المسلمين:
فلقاه ربي في الجنان تحية ومن كسوة الفردوس ما لم يمزق
نِلْتَ الشهادة فاهنأ أيها العمر بمثل عدلك تبنى مجدها الدول
أمامك الجنة الخضراء فاهنأ بها لا يُرْتَجَى العمر يومًا إن دنا الأجل
انْعَم بخلدك في أبهائها فرحاً إنَّ الخلود جزاء أيها البطل
فالآن تنعم يا عمر بجوار من أهدى البشر
فسقى رفاتك وَابِلٌ من ماء غيث مُنْهَمِر
رحم الله عمر، وجمعنا به في دار كرامته؛ فقد عظم شخصه، وقوي خطره على أعداء الدين، كان شديدًا في سبيل إعزاز ورفعة العقيدة والدين، وفي ذات الوقت كان رقيق المشاعر، مرهف الحواس، تُشْجِيه أنَّات طفل صغير، أو نَشِيج فقير بائس، أو زفرات مهموم مغموم مكروب.
لقد كان بدرًا يستضاء بنوره فأضحى رهينًا في المقابر ثاويا
تغمده الرب الكريم بفضله ولا زال هَطَّال من العفو هاميا
على قبره يهمي عشياً وبكرة وبوَّأه قصراً من الخلد عاليا(6/28)
السعي السعي للاقتداء بالصحابة
أحبتي في الله: هذه بعض صور من حياة السلف وأخلاقهم ومناهجهم وتوجيهم وتربيتهم وثقافتهم وجهادهم، فما أحوالنا؟ وما أخلاقنا؟ وما ثقافتنا؟ وما توجيهنا؟ وما تربيتنا؟
أين نحن من هذه الأخلاق السامية الجليلة؟
إن المتأمل لأحوال المسلمين اليوم يجد البَونَ شاسعاً بيننا وبين أولئك الصَّحْب، ولكن المحب لهم بحق يسعى للتأسِّي بهم، ويجاهد نفسه ليقترب من خيامهم.
وعندما يعلم الله سبحانه وتعالى صدق التوجه في الوصول إلى هذه الأخلاق العظيمة، فإنه سبحانه يعين مَنْ هذه حَالُهُ، ويأخذ بيده ويهديه سبيله المستقيم: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
ومع أن القصور عن السلف الصالح ملازم لمن جاء بعدهم، ولكن حسبنا أننا نحبهم ونجلهم وإن قصرت أخلاقنا وأعمالنا عنهم، ونحتسب عند الله جلَّ وعلا الكريم أن يجعلنا معهم، ويحشرنا في زمرتهم كما جاء هذا الوعد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه: {أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فقال: متى الساعة؟ قال: وماذا أعددت لها، قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت، قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بذلك.
ثم قال: فإني أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي لهم، وإن لم أعمل بمثل أعمالهم}.
فاللهم إنَّا نشهدك على حبنا لنبيك محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، والتابعين لهم بإحسان.
اللهم ألحقنا بهم، اللهم احشرنا في زمرتهم وإن قصرت أعمالنا وأخلاقنا عنهم.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رءوف رحيم.
اللهم ارحم هذه الأمة رحمة عامة، يُعزُّ فيها أولياؤك، ويُذَلُّ فيها أعداؤك.
اللهم اجعلنا أغنى خلقك بك، وأفقر عبادك إليك.
اللهم أغننا عمن أغنيته عنا، اللهم لا تجعل بيننا وبينك في رزقنا أحدًا سواك.
يا ذا الجلال والإكرام! لك الحمد أولاً وآخراً، وظاهرًا وباطنًا، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
الحمد لله ثم الحمد لله.
الحمد لله الذي من فضله ألقى علي السِّتْر ثم كساني
وهدى فؤادي كي يصوغ حديثه صوراً تفيد الشِّيب والشُّبَّان
يا رب فاجعلها لوجهك كلها متكرمًا ثقِّلْ بها ميزاني
واغفر لكل المسلمين وآلهم يوم النشور ودورة الأجفان
واشمل بفضلك والديَّ برحمة وأَجِرْهُمَا من حمأة النيران
ثم الصلاة على النبي وآله ما صاح صدَّاح على الأفنان
والصحب والأتباع من ساروا على سبل الهدى والخير في البلدان
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(6/29)
كشف الكربة عند فقد الأحبة
ما خلق الله الخلق في الدنيا إلا ليعبدوه، وما مشى على وجه البسيطة إلا مصاب حتى ولو بشسع نعله، ولكل داء دواء، ولكل مصيبة دافع، سواء كان حسياً أو معنوياً.
ولكن ليحذر أصحاب المصائب من أن تجتمع عليهم المصائب مع وزر الجزع على المصاب.
فهاك أخي القارئ العديد من وسائل كشف الكرب عند المصائب والمحن؛ التزمها واعمل بها لعل الله ينفع بها.(7/1)
كل الناس مبتلى ومصاب
الحمد لله المنفرد بالبقاء والقهر، الواحد الأحد، ذي العزة والستر، لا نِدَّ له فيُبارى، ولا شريك له فيدارى.
كتب الفناء على أهل هذه الدار، وجعل الجنة عقبى الذين اتقَوْا وعقبى الكافرين النار.
قدَّر مقادير الخلائق وأقسامها، وبعث أمراضها وأسقامها، وخلق الموت والحياة ليبلوكم أيُّكم أحسن عملاً.
جعل للمحسنين الدرجات، وللمسيئين الدَّركات؛ فحمداً لك اللهم مفرج الهموم، ومُنفِّس الكروب، ومُبدِّد الأحزان والأشجان والغموم، جعل بعد الشدة فرجاً، وبعد الضيق والضر سعة ومخرجاً، لم يخلِّ محنة من منحة، ولا نقمة من نعمة، ولا نكبة ورزية من هبة وعَطِيَّة.
نحمده على حلوِ القضاء ومُرِّه، ونعوذ به من سطواته ومكره، ونشكره على ما أنفذ من أمره، وعلى كل حالٍ نحمده.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عدة الصابرين، وسلوان المصابين، الكريم، الشكور، الرحيم، الغفور، المُنزَّه عن أن يظلم أو يجور، الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون.
له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويحي الأرض بعد موتها، وكذلك تخرجون.
ونشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وخِيرته من خلقه وأمينه على وحيه، أعرف الخلق به، وأقومهم بخشيته، وأنصحهم لأمته، وأصبرهم لحكمه، وأشكرهم على نعمه.
أعلاهم عند الله منزلة، وأعظمهم عند الله جاهاً، بعثه للإيمان منادياً، وفي مرضاته ساعياً، وبالمعروف آمراً، وعن المنكر ناهياً.
بلَّغ رسالة ربه، وصدع بأمره، وتحمل ما لم يتحمله بشر سواه، وقام لله بالصبر حتى بلَّغه رضاه.
دعانا إلى الجنة، وأرشدنا إلى اتباع السنة، وأخبر أن أعلانا منزلة أعظمنا صبراً، من استرجع واحتسب مصيبته كانت له ذخراً ومنزلة عالية وقدراً، وكان مقتفياً هدياً ومتبعاً أثراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذرياته الأخيار، وسلم تسليماً كثيراً متصلاً مستمراً ما تعاقب الليل والنهار: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
لا أملك أمام ما سمعت إلا أن أقول: اللهم اجعلني خيرًا مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون.
أما بعد:
فإن الله تعالى جعل الموت محتوماً على جميع العباد من الإنس والجان وجميع الحيوان؛ فلا مَفرَّ لأحد من الموت ولا أمان: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26] ساوى فيه بين العبد والحر، والصغير والكبير، والذكر والأنثى، والغني والفقير، وكل ذلك بتقدير العزيز العليم: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر:11].
فالكيِّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والحازم من بادر بالعمل قبل حلول الفوت، والمسلم من استسلم للقضاء والقدر، والمؤمن من تيقَّن بصبره الثواب على المصيبة والضرر.
أيها الأحبة: كُرُب الزمان وفقد الأحبة عموماً مع أخصية الأبناء والأحفاد والآباء خَطْب مؤلم، وحدث موجع، وأمر مهول مزعج؛ بل هو من أثقل الأنكاد التي تمر على الإنسان.
نار تستعر، وحرقة تضطرم، تحترق به الكبد، ويفت به العضد؛ إذ هو الريحانة للفؤاد، والزينة بين العباد، لكن مع هذا نقول:
فلرُبَّ أمر محزن لك في عواقبه الرضا
ولربما اتسع المضيق وربما ضاق الفضا
كم مغبوط بنعمة هي داؤه، ومحروم من دواء حرمانه هو شفاؤه! كم من خير منشور، وشر مستور! ورب محبوب في مكروه، ومكروه في محبوب! {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة:216].
لا تكره المكروه عند حلوله إن العواقب لم تزل متباينه
كم نعمة لا يُستهان بشكرها لله في طي المكاره كامنه
لو استخبر المنصف العقل والنقل لأخبراه أن الدنيا دار مصائب وشرور، ليس فيها لذة على الحقيقة إلا وهي مشوبة بكَدَر؛ فما يُظن في الدنيا أنه شراب فهو سراب، وعمارتها -وإن حسنت صورتها- خراب، والعجب كل العجب مِمَّن يدُه في سلة الأفاعي كيف ينكر اللدغ واللسع؟!
وأعجب منه من يطلب ممن طُبع على الضر النفع.
طُبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذار والأكدار
إنها على ذا وضعت، لا تخلو من بلية ولا تصفو من محنة ورزية، لا ينتظر الصحيح فيها إلا السقم، والكبير إلا الهرم، والموجود إلا العدم، على ذا مضى الناس؛ اجتماعٌ وفرقة، وميتٌ ومولود، وبِشْرٌ وأحزان:
والمرء رهن مصائب ما تنقضي حتى يوسد جسمه في رَمسِه
فمؤجل يلقى الردى في غيره ومعجل يلقى الردى في نفسه
هل رأيتم، بل هل سمعتم بإنسان على وجه هذه الأرض لم يُصَبْ بمصيبة دقَّت أو جلَّت حتى في قطع شسع نعله؟ الجواب معلوم: لا.
وألف لا، ولولا مصائب الدنيا مع الاحتساب لوردنا القيامة مفاليس، كما ورد عن أحد السلف:
ثمانية لابد منها على الفتى ولابد أن تجري عليه الثمانيه
سرور وهمٌّ واجتماع وفرقة ويُسْر وعسر ثم سقم وعافية(7/2)
وسائل كشف الكربة
أحببت أن أجمع هذه الكلمات اللطيفة في كشف كرب من أصيب بمصيبة، عَنْوَنْتُها بعنوان كتاب في هذا الموضوع هو: كشف الكربة عند فقد الأحبة راجياً من الملك الديَّان أن ينفعني بها وسائر الإخوان، وأن يجعلها تذكرة لأولي الألباب، وتسلية وعزاء لكل مؤمن محزون مصاب، تشرح صدره، وتجلب صبره، وتهون خطبه، وتخفف أمره، ويلحظ بها ثوابه على الصبر وأجره.
والله تعالى هو المسئول أن يجعل لي ولها القبول، لا رب غيره، ولا إله سواه، هو المأمول، وأحتسب عند الله ثواب من تسلى بهذه الكلمات، وأسأله الدعاء بأن يثبتني الله في ساعة فقري وحاجتي، وألاَّ يحرمني ثواب هذه الكلمات؛ فالمُصاب -حقاً- من حُرِم الثواب، نفع الله بها وأثاب، إنه الكريم الوهاب.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلاً.(7/3)
من وسائل كشف الكربة: التأمل والنظر في الكتاب والسنة
مما يكشف الكربة عند فقد الأحبة: التأمل والتملي والتدبر والنظر في كتاب الله جل وعلا وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ففيهما ما تقرُّ به الأعين، وتسكن به القلوب، وتطمئن له -تبعاً لذلك- الجوارح مما منحه الله ويمنحه لمن صبر ورضي واحتسب من الثواب العظيم والأجر الجزيل؛ فلو قارن المكروب بين ما أٌخذ منه وما أعطي لاشك أنه سيجد أن ما أُعطيَ من الأجر والثواب أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعاف مضاعفة، ولو شاء الله لجعلها أعظم وأكبر وأجلَّ، وكل ذلك عنده بحكمة، وكل شيء عنده بمقدار.
فلنقف -أيها الأحبة- مع آية في كتاب الله جل وعلا، وفي أول سورة في كتاب الله جل وعلا، وكفى بها واعظاً، وكفى بها مسلية، وكفى بها كاشفة للكروب.
قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157].
إنا لله وإنا إليه راجعون، علاج من الله عز وجل لكل من أصيب بمصيبة دقيقة أو جليلة؛ بل إنه أبلغ العلاج وأنفعه للعبد في عاجله وآجله؛ فإذا ما تحقق العبد أن نفسه وماله وأهله وولده ملك لله عز وجل، قد جعلها الله عنده عارية؛ فإذا أخذها منه فهو كالمعير يأخذ عاريته من المستعير؛ فهل في ذلك ضيْر؟! لا والذي رفع السماء بلا عَمَدٍ.
ثم إنما يؤخذ منك -أيها العبد- المُصاب المُبتلى محفوف بعدميْن، عدم قبله؛ فلم يك شيئاً في يوم من الأيام، وعدم بعده؛ فكان ثم لم يكن؛ فمُلْكُك له متعة مستودعة في زمن يسير، ثم تعود إلى مُعيرها وموجدها الحقيقي سبحانه وبحمده: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62].
فمصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، لابد أن يُخَلِّفَ الدنيا وراء ظهره يوماً ما، ويأتي ربَّه فرداً كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا عشيرة ولا مال، ولكن بالحسنات والسيئات، نسأله حسن المآل.
هل علمت هذا أخي المصاب المكروب؟ إن علمت حقاً؛ فكيف الفرح الزائد بمتاع الدنيا أيًّا كان؟ ثم كيف الأسى على أيِّ مفقود أيّاً كان؟ يكفيك من ذلك تفكيرك في بداية العبد ونهايته علاجاً وبلسماً لكل همٍّ وغمٍّ وكرب، ومعها: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) فهي الصلاة والرحمة والهدى، ونعم العدلان ونِعْمَتْ العلاوة! فهم ذلك السلف حقَّ الفهم -رضي الله عنهم وأرضاهم- فاسمع لأحدهم وهو عبد الله بن مطرف يوم مات ولده، فقال: والله لو أن الدنيا وما فيها لي، فأخذها الله عز وجل مني، ثم وعدني عليها شربة من ماء لرأيتها لتلك الشربة أهلاً؛ فكيف بالصلاة والرحمة والهدى؟
إذا ما لقيت الله عني راضياً فإن شفاء النفس فيما هنالك
ثم اسمع معي بعض أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ ففيها الدواء لما بك من الكروب والأشجان والهموم والأحزان، إن وعيتها كشف الكرب وكأنه ما كان.
يروي مسلم في صحيحه من حديث أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: [[سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {ما من عبد تصيبه مصيبة، فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلفني خيراً منها؛ إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خيراً منها} قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت: ومن خير من أبي سلمة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم عزم الله عليَّ، فقلتها -فما الخلف؟ - قالت: فتزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن خير من رسول الله؟!]].
صلى عليه الله جل جلاله ما لاح نور في البروق اللُّمَّع
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما يصيب المؤمن من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ ولا هم ولا حزن ولا أذىً ولا غم حتى الشوكة يُشاكها إلا كفَّرَ الله بها خطاياه}.
وفي صحيح ابن حبان عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: {سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل؛ يُبتلى الناس على قَدر دينهم؛ فمن ثَخُنَ دينه اشتد بلاؤه، ومن ضَعُف دينه ضعف بلاؤه، وإن الرجل ليصيبه البلاء حتى يمشي في الناس وما عليه خطيئة}.
وفي سنن الترمذي: {ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة}.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد، فتمسه النار إلا تحلة القسم} يشير لقول الله -عز وجل-: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:71 - 72].
وأخرج مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: {أَتَتْ امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصبي لها، فقالت: يا رسول الله! ادعُ الله له؛ فلقد دفنت ثلاثة قبله.
فقال صلى الله عليه وسلم: دفنت ثلاثة؟! -مستعظمًا أمرها- قالت: نعم، قال: لقد احتظرت بحظار شديد من النار} أي: لقد احتميت بحمى عظيم من النار؛ فما أعظم الأجر! وما أكمل الثواب! وما أجدر أن يُستعذَب العذاب في طلب مثل هذا الثواب! وجاء في الحديث الصحيح -كما في السلسلة الصحيحة - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا مات ولد الرجل يقول الله تعالى لملائكته: أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم.
فيقول -وهو أعلم-: أقبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم.
فيقول: ماذا قال عبدي؟ قالوا: حمدك واسترجع.
فيقول الله جلَّ وعلا: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسمُّوه بيت الحمد} يا لها من بشارة بالموت على الإيمان؛ لأن الله إذا أمر ببناء بيت لأحد عبيده لابد لذلك العبد من سكنى ذلك البيت يوماً من الأيام.
وروى الإمام أحمد من حديث معاوية بن قرة عن أبيه: {أن رجلاً كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ابن له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أتحبه؟ فقال: يا رسول الله! أحبك الله كما أُحبُّه.
فتفقده النبي! فقال: ما فعل ابن فلان؟ فقالوا: يا رسول الله! مات.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه: أما تحب أن تأتي باباً من أبواب الجنة إلا وجدته عليه ينتظرك؟ فقال رجل: يا رسول الله! أَلَهُ خاصة أم لكلنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل لكلِكم}.
أيها الأحبة: فهم السلف الصالح -رضوان الله عليهم- ذلك فهماً عميقاً؛ فتمنَّوْا أن يُقدِّموا أولادهم وأحبتهم، ثم يرضوا بذلك ويحتسبوا لينالوا الأجر العظيم من الرب الكريم.
هاهو أبو مسلم الخولاني عليه رحمة الله يقول: لأن يولد لي مولود يُحسن الله نباته حتى إذا استوى على شبابه، وكان أعجب ما يكون إليّ؛ قبضه الله تعالى مني أحب إليّ من الدنيا وما فيها.
وكان للمحدث إبراهيم الحربي عليه رحمة الله ابنٌ له إحدى عشرة سنة حفظ القرآن، ولقنه من الفقه جانباً كبيراً، ثم مات هذا الولد، قال محمد بن خلف: فجئت أعزيه، فقال: الحمد لله، والله! لقد كنت على حبي له أشتهي موته، قال: فقلت له: يا أبا إسحاق! أنت عالم الدنيا تقول ذلك في صبي قد حفظ القرآن، ولقنته الحديث والفقه؟ قال: نعم أو يخفى عليك أجر تقديمه؟ -أو كما قال- ثم قال: وفوق ذلك فلقد رأيت في منامي كأن القيامة قامت، وكأن صبياناً بأيديهم قلال فيها ماء يستقبلون الناس، فيسقونهم، وكان اليوم حارّاً شديد حره، قال: فقلت لأحدهم: اسقني من هذا الماء.
قال: فنظر إليَّ وقال: لست أبي.
قال: قلت: من أنتم؟ قال: نحن الصبية الذين مِتْنا، واحتسبنا آباؤنا ننتظرهم لنسقيهم، فنسقيهم الماء.
قال: فلذلك اشتهيت موته، والحمد لله، وإنا لله وإنا إليه راجعون! وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صَفِّيَه من أهل الدنيا، ثم احتسبه إلا الجنة}.
يا له من جزاء! فعندك اللهم نحتسب أصفياءنا وأصدقاءنا وأحبابنا وآباءنا وأمهاتنا، وأنت حسبنا ونعم الوكيل، وإنا لله وإنا إليه راجعون! أخي المصاب: أخي المكروب! هذه بعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قُدِّمَت بين يديْك؛ فلعل لك فيها سلوى، ولعلها كشف لكربتك، ولا أظنك إلا قد سلوت وكشف ما بك؛ فاحمد الله، وأحسن نيتك، واحتسب مصيبتك، وارضَ بما قسم الله لك؛ فلعل لك عند الله منزلة لا تبلغها بعمل؛ فما يزال الله يبتليك بحكمته بما تكره، ويصبرك على ما يبتليك عليه حتى تبلغ تلك المنزلة التي سبقت لك من الله عز وجل فاحمد الله حمداً حمداً، وشكراً له شكراً، ورضاً بقضائه رضاً ولهجاً بـ (إنا لله وإنا إليه راجعون) فهي الصلاة والرحمة والهدى:
يا صاحب الهم إن الهم منفرج أبشر بخير فإن الفارج اللهُ
اليأس يقطع أحياناً بصاحبه لا تيئسنَّ فإن الكافي اللهُ
الله يحدث بعد الكرب ميسرةً لا تجزعنَّ فإن الكاشف اللهُ
إذا بُليت فثق بالله وارض به إن الذي يكشف البلوى هو اللهُ
واللهِ مالك غير الله من أحد فحسبك الله في كلٍ لك اللهُ(7/4)
من وسائل كشف الكربة: تذكر موت النبي صلى الله عليه وسلم
ومن وسائل كشف الكربة: تذكُّر المصيبة العظمى بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل مصيبة دون مصيبتنا بموته صلى الله عليه وسلم تهون؛ فبموته صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي من السماء إلى يوم القيامة، وبموته انقطعت النبوات، وبموته ظهر الفساد بارتداد العرب عن الدين؛ فهو أول انقطاع عُرَى الدين أو نقصانه، وفيه غاية التسلية عن كل مصيبة تصيب العبد أو تحلُّ بأمة الإسلام جمعاء.
وهاهو صلى الله عليه وسلم يطلب منا أن نذكر بمصائبنا موته وفراقه، وبذلك تهون علينا المصائب والخطوب؛ فيقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي صححه الألباني في السلسلة: {إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي؛ فإنها أعظم المصائب}.
إي والله! ما من عزيز أو حبيب أو قريب أو صديق فقدناه إلا وذاق القلب من لوعة فراقه وحرقة وداعه ما الله به عليم؛ فهل شعرنا بشيء من هذا، ونحن نستشعر فراق وموت النبي صلى الله عليه وسلم؟
ماذا لو فقد الرجل أسرته كلها، وقد احترق فؤاده، وأٌدمي قلبه، وأنبتت دموعه الأسى، ثم تزوج بعد فترة، ثم رزق بأبناء، وعقب سنوات مات أحد أبنائه؛ كيف يكون حزنه وألمه إذا قورن بالمصاب الأول؟ أليس الخطب أهون؟ أليست المصيبة أقل؟ بلى.
فهكذا ينبغي أن نعزي أنفسنا كلما أصابتنا المصائب بذكر موت النبي صلى الله عليه وسلم فهو أعظم المصائب.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ما من مسلم إلا وأصيب بموته وفراقه، ويتمنى أن يفتدي رؤيته بالدنيا جميعها، يخاطبنا، فيقول كما في صحيح سنن ابن ماجة: {يا أيها الناس! أيُّما أحد من الناس -أو من المؤمنين- أصيب بمصيبة فليتعزَّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري؛ فإن أحداً من أمتي لن يُصاب بمصيبة بعدي أشدَّ عليه من مصيبتي}.
ولو تأملنا كلمة: فليتعزَّ؛ لوجدنا فيها العلاج والدواء، إنها حروف يُستطبُّ بها الفؤاد، وتُربُّ بها الأكباد.
ماذا لو فقد الإنسان أبويْه الحبيبيْن في حادث سيارة؟! ألا يظلُّ أثر المصيبة في قلبه مدى الدهر؟!
إن المصيبة ينبغي أن تعظم إذا سمعنا قوله صلى الله عليه وسلم -كما روي البخاري ومسلم -: {لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين}.
وكأن المعنى بعد هذا النص سيكون: لا يؤمن أحدكم حتى يكون موتي أعظم مصيبة من موت ولده ووالده والناس أجمعين.
فأين هذا الإحساس؟! وأين بربكم هذا الشعور؟!
إن فقْدَ النبي صلى الله عليه وسلم من مصائب الدين، وإن أي إنسان فقدتَه ليهون أمام فقدان النبي صلى الله عليه وسلم.
يا نفس بعد المصطفى أفتطمعي في الخلد كلا ما إليه سبيل
هل فقدت أمك يوماً ما، وتذكرت عند موتها، وأنت تتألم لفقدها أنها -بإذن ربها- أخرجتك من ظلمات البطن إلى نور الدنيا، ورعتك وربَّتك؟ فهل تنسى في خِضَمِّ ذلك الشعور أن الله أخرجك بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم من ظلمات الضلالة إلى نور الهدى والتوحيد، وهذا -بإذن الله- إنقاذ لك من الخلود في النار؟ فهل بلبن أمك وحنانها وعطفها وعنايتها ورعايتها تُنقَذ من الخلود في النار؟ لا والله؛ فلو كان لكل واحد منا ألف أم بحنان أمِّه وعطفها ومُتْنَ في يوم واحد ما ينبغي أن يُحزن عليهن أكثر من الحزن على موت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذا فقدت ابنك، فإذا فقدت حبيبك، فإذا فقدت صديقك، فتألمت وبكيت، ثم زاد ألمُك، وزاد بكاؤك، وزادت لوْعتُك بتذكر عونه ومساعدته وعطفه وبرِّه وصلته؛ فاعلم -والله الذي لا إله إلا هو- أن كل ذلك لن يبلغ ما قدمه لك صلى الله عليه وسلم من هدى ونور يدخلك -بعون الله- جنة عرضها السماوات والأرض لتخلد فيها وتُنعَّم.
نُمتع بعون الأبناء وعطفهم سنوات سرعان ما تمضي، لكن التمتع في الجنة لا نهاية له ولا آخر؛ أفلا يستحق رسول الله صلى الله عليه وسلم منا أن نحزن على موته أكثر ممن سواه، ونتعزَّى به عن فراق من سواه، ونذكره فنتمسك بسنته، ونمضي على شرعته لننعم بعدها في صحبة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؟! ولعل من فقدته في ركبهم فعندها يجمع الله الشتيتيْن.
أيها المصاب: تذكر هذا جيداً لتحس بمصيبة فقده صلى الله عليه وسلم؛ فتهون مصيبتك، ثم تساءل: ماذا لولا ما حباك الله به من هديِه وسنته؟ ماذا لو دخلت النار -أجارك الله-؟ ماذا لو حُرمت الجنة -أعاذك الله-؟ ماذا لو عُذِّبت في القبر -حماك الله-؟ من الذي ينفعك؟ وما الذي ينقذك؟! الأحباب؟! الأصحاب؟! الأبناء؟! الأحفاد؟! لا والله، إلا الإخلاص في اتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فاصبر لكل مصيبة وتجَّلدِ واعلم بأن المرء غير مخلدِ
واصبر كما صبر الكرام فإنها نُوَبٌ تنوب اليوم تُكشَف في غد
أوَما ترى أن المصائب جمة وترى المنية للعباد بمرصدِ؟
من لم يُصب ممن ترى بمصيبة هذا سبيل لست عنه بأوحدِ
فإذا ذكرت مصيبة ومصابها فاذكر مصابك بالنبي محمد
صلى الله عليه وسلم.(7/5)
من وسائل كشف الكربة: العلم بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه
ومن وسائل كشف الكربة: أن يعلم المكروب المصاب علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد:22 - 23] إن من تأمل هذه الآية وتدبرها وجد فيها شفاء وتبديداً لجميع الكرب والأدواء: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37].
كم من عليلٍ قد تخطاه الردى فنجا ومات طبيبه والعُوَّد
ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله، ولذلك الذين علموا وتدبروا هذه الآيات عرفوا كيفية التعامل مع المُصاب؛ فها هي إحدى المكروبات المصابات تقول -عند مصيبتها بأحد أبنائها-: الحمد لله على السراء والضراء، والعافية والبلاء، والله ما أحب تأخير ما عجل الله، ولا تعجيل ما أخَّره الله، وكل ذلك في كتاب، إن ذلك على الله يسير.
فما أبرم الله لم ينتقض وما نقض الله لم يبرم
ومات ولد لـ أنس بن مالك -عليه رحمة الله ورضوانه- فقال أنس -عند قبره-: [[الحمد لله، اللهم عبدك وابن عبدك، وقد رُدَّ إليك؛ فارْأف به، وارحمه، وجافِ الأرض عن بدنه، وافتح أبواب السماء لروحه، وتقبله بقبول حسن ثم انصرف، فأكل، وشرب، وادَّهن، وأصاب من أهله]] ولسان حاله: {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70].
وكان أبو ذر -رضي الله عنه- لا يعيش له ولد، فقيل له: [[إنك امرؤ لا يبقى لك ولد.
فقال: الحمد لله، كل ذلك في كتاب، الحمد لله الذي يأخذهم في دار الفناء، ويدَّخرهم في دار البقاء]] أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه.
وتموت ابنة لـ عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- وكان راكباً في طريقه إلى مكة ليأتيه الخبر، فنزل عن دابته، وصلى ركعتيْن، ثم رفع رأسه إلى السماء، وقال: [[الحمد لله، وإنا لله، عورةٌ سترها الله، ومئونة كفاها الله، وأجرٌ ساقه الله]] ثم ركب، ومضى في رعاية الله.
والله يفعل ما يشاء فَكِلِ الأمور إلى القضاء
ومات لـ عبد الله بن عامر سبعة أبناء في يوم واحد، والأمر -كما تعلمون- مهول ومزعج وفظيع؛ فكيف استقبله هذا الرجل؟ قال: الحمد لله، إني مسلم مُسَلِّم.
يمضى الصغير إذا انقضت أيامه إثر الكبير ويولد المولود
والناس في قسم المنية بينهم كالزرع منه قائم وحصيد
وفي سلوة الحزين: يُذكر أن أعرابية فقدت أباها، ثم وقفت بعد دفنه، فقالت: يا أبتِ! إن في الله عوضاً عن فقدك، وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم من مصيبتك أسوة، ثم قالت: ربِّ لك الحمد، اللهم نزل عبدك مفتقراً من الزاد، مخشوشنَ المهاد، غنيّاً عمَّا في أيدي العباد، فقيراً إلى ما في يدك يا جواد، وأنت يا رب خير من نزل بك المُرمِلون، واستغنى بفضلك المُقِلُّون، وولج في سعة رحمتك المذنبون.
اللهم فليكن قرى عبدك منك رحمتك، ومهاده جنتك.
ثم انصرفت راضية محتسبة مأجورة بإذن الله غير مأزورة.
فإذا ابتليت بمحنة فاصبر لها صبر الكريم فإن ذلك أسلم
وإذا ابُتليت بكربة فالْبسْ لها ثوب السكوت فإن ذلك أسلم
لا تشكوَنَّ إلى العباد فإنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
ويقف محمد بن سليمان على قبر ابنه وفلذة كبده بعد ما دفنه قائلاً: كل ذلك في كتاب، الحمد لله، وإنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم إني أرجوك له، وأخافك عليه.
اللهم فحقِّقْ رجائي فيه، وآمِنْ خوفي عليه.
حاله:
أبكيه ثم أقول معتذرا له وُفِّقْتَ حين تركت أَلأَمَ دارِ
جاورتُ أعدائي وجاور ربَّه شتان بين جواره وجوارِي
يا كوكباً ما كان أقصر عمره وكذاك عمر كواكب الأسحارِ
دُرَّتْ عليك من الغمام مراضع وتكنَّفتْك من النجوم جَوارِي
فيا أيها المصاب: يا أيها المكروب! المصيبة واقعة؛ فوطِّنْ نفسك على أن كل مصيبة تأتي إنما هي بإذن الله -عز وجل- وقضائه وقدره، فسلِّم الأمر له؛ فإنه كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء أو يضروك بشيء لم ينفعوك ولم يضروك إلا بشيء قد كُتب لك أو عليك، ولو كان لرجل مثل أحد ذهباً ينفقه في سبيل الله لم يقبله الله منه حتى يؤمن بالقدر خيرِه وشرِّه، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وإن مات على غير هذا أُدخل النار.
ما قد قُضى يا نفسي فاصطبري له ولكِ الأمان من الذي لم يقدر
ثم اعلمي أن المقدَّر كائن حتماً عليكِ صبرتِ أم لم تصبري(7/6)
من وسائل كشف الكربة: الاستعانة بالله على الكربة
ومما يكشف الكربة: الاستعانة بالله، والاتكال عليه، والرضا بقضائه، والتسليم لقدره.
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: {ألا أحدثكم بحديث لا يحدثكم به أحد غيري؟ قالوا: بلى.
قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوسًا، فضحك، ثم قال: أتدرون مما ضحكت؟ قالوا: الله ورسوله أعلم! فقال صلى الله عليه وسلم: عجبت للمؤمن إن الله عز وجل لا يقضي قضاءً إلا كان خيراً له}.
فليعلم المكروب أن حظَّه من المصيبة ما يحدث له؛ فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط.
من رضى بقضاء الله جرى عليه، وكان له أجر، ومن لم يرضَ بقضاء الله جرى عليه، وحبط عمله.
فقضاء الله نافذ كالسيف، وأمره واقع لا رادَّ لقضائه، ولا معقِّب لحكمه، ولكن العبد هو الذي يربح أو يخسر بحسب رضاه أو سخطه.
جعلنا الله وإياكم من الراضين بقضاء الله وقدره.(7/7)
قصص لمن سلموا للقضاء والقدر
ولنعِشْ -أيها الأحبة- مع الراضين دقائق غالية قليلة لنتخذهم قدوة وأسوة ومثلاً، من باب:
سيروا كما ساروا لتَجْنُوا ما جَنَوْا وتشبهوا بهم إن لم تكونوا مثلهم(7/8)
عمر بن عبد العزيز وجلده في المصائب
قال أبو الحسن المدائني -عليه رحمة الله- دخل عمر بن عبد العزيز على ابنه عبد الملك في مرضه -رحمهما الله جميعاً- فقال: يا بني! كيف تجدك؟ قال: تجدني -أبتاه- في الموت.
قال: يا بني! لأن تكون في ميزاني أحب إليَّ من أن أكون في ميزانك، فقال الابن: يا أبتِ! والله لأن يكون ما تحبُّه أحبُّ إليَّ من أن يكون ما أحبُّه، ثم مات -عليه رحمة الله-.
ويروي الإمام أحمد في الزهد عن زياد بن أبي حسان أنه شهد عمر -رحمه الله -حين دفن عبد الملك ابنه قد استوى قائماً عند القبر، وأحاط به الناس، فقال: والله -يا بني- لقد كنت بارّاً بأبيك، والله ما زلت مسرورًا بك منذ وهبك الله لي إلى أن استودعتك الله في المنزل الذي صيَّرك الله إليه، فرحمك الله، وغفر ذنبك، وجزاك بأحسن عملك، ورحم كل شافعٍ يشفع لك بخير شاهد أو غائب، رضينا بقضاء الله، وسلمنا لأمر الله، والحمد لله رب العالمين، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم انصرف ورجع إلى مجلسه.
وكان قبل وفاة عبد الملك قد هلك أخوه سهل -وهو من أحب إخوته- وهلك مولاه مزاحم وهو عزيز عليه، كل ذلك في أوقات متتابعة، فلما استوى في مجلسه جاء الربيع بن سبرة -عليه رحمة الله- فقال: عظَّم الله أجرك يا أمير المؤمنين، ما رأيت أحداً أصيب بأعظمَ من مصيبتك؛ ما رأيت مثل ابنك ابناً، ولا مثل أخيك أخاً، ولا مثل مولاك مولى قط.
فطأطأ رأسه عمر -رحمه الله- فقال أحد الحاضرين: لقد هيَّجت عليه، قال: ثم رفع رأسه، فقال: كيف قلت يا ربيع؟ أعد.
قال: فأعدت عليه، فقال: لا والذي قضى عليهم الموت ما أحب أن شيئًا كان من ذلك لم يكن.
فيا أيها الكون منه استمع ويا أذن الدهر عنه افهمي
وروى ابن أبي حاتم بسنده عن خالد بن يزيد عن عياض عن عقبة أنه مات له ابن يقال له: يحيى؛ فلما نزل في قبره قال له رجل: والله! إن كان لسيد الجيش فاحتسبه، فقال والده: وما يمنعني أن أحتسبه وقد كان من زينة الحياة الدنيا، وهو اليوم من الباقيات الصالحات.
فلله ما أحسن فهمهم! ولله ما أحسن تعزيتهم لأنفسهم وثقتهم بما أعطى الله -عز وجل- من ثواب للصابرين!(7/9)
معاذ بن جبل وصبره على الطاعون
ولا يُنَسى إن نُسي أمرٌ يوم وقع الطاعون بأرض الشام -كما في السير للذهبي - فخطب الناس عمرو -رضي الله عنه- فقال: إن هذا الطاعون رجس؛ ففروا منه في الأودية والشعاب، فبلغ ذلك شرحبيل بن حسنة -رضي الله عنه- فغضب، وجاء يجرُّ ثوبه، ونعلاه في يده، قائلاً: لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسمعوا: [[الطاعون رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، يستشهد الله به أنفسكم، ويزكي أعمالكم]].
فبلغ ذلك معاذاً -رضي الله عنه، وهو يتوق إلى الشهادة في سبيل الله- فقال: [[اللهم اجعل نصيب أهل بيت معاذ الأوفر منه]]؛ لأنه يعلم أن من أصيب به له مثل أجر الشهيد، فتصاب ابنتاه الاثنتان، وتموتان، فدفنهما في قبر واحد، وحمد الله واسترجع، ثم أصيب ابنه عبد الرحمن -وهو من أعز أبنائه- فقال معاذ لابنه: كيف تجدك؟ قال: أبتاه! {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران:60].
فقال معاذ -رضي الله عنه-: ستجدني إن شاء الله من الصابرين.
ثم توفي -رحمه الله- ثم أصاب الطاعون كفَّ معاذ -رضي الله عنه وأرضاه- فجعل يقبلها، ويقول: [[لَهِيَ أحب إليَّ من حمر النعم، ثم يُغشى عليه فإذا سرِّيَ عنه قال: يا رب! غُمّ غمك، واخنق خنقتك؛ فوعزتك إنك لتعلم أني لأحبك]] ثم لقي الله جل وعلا بعد أن احتسب أهل بيته جميعاً؛ فما كان إلا الرضا والتسليم بقضاء الله وقدره.
وقبل ذلك لـ معاذ يروى عن المعاف بن عمران عن شهاب بن خراش عن عبد الرحمن بن غنم قال: دخلنا على معاذ -رضي الله عنه- وهو قائم عند رأس ابن له، وهو يجود بنفسه؛ فما ملكنا أنفسنا أن ذرفت أعيننا، وانتحب بعضنا، فزجره معاذ، وقال: [[مه! فوالله لأن يعلم الله برضائي بهذا أحب إليّ من كل غزاة غزوتها، من كان عليه عزيز وبه ضنين، فصبر على مصيبته واحتسب أبدل الله الميت داراً خيراً من داره، وقراراً خيراً من قراره، وأبدل المصاب الصلاة والرحمة والمغفرة والرضوان]] قال: فما برحنا حتى قضى الغلام، فقام فغسله وحنَّطه وكفَّنه وصلينا عليه، ثم نزل في قبره ووضعه، ثم سوَّى عليه التراب، ثم رجع إلى مجلسه، فدعى بدهن فادَّهن، وبكحل فاكتحل، وببردة جميلة فلبسها وأكثر من التبسم -ينوي ما ينوي- ثم قال: [[إنا لله وإنا إليه راجعون، في الله خلف من كل هالك، وعزاء من كل مصيبة، ولله الأمر من قبل ومن بعد، ولكن أكثر الناس لا يعلمون]].
لسان حاله:
كل ما كان من قضاء فيحلو بفؤادي نزوله ويطيب
أيها الأحبة: لا زلنا في رياض الراضين بالقضاء نعيش لنعتبر ونتعظ ونسلو ونرضى.(7/10)
الفضيل بن عياض ورضاه بالقدر
يقول أبو علي -رحمه الله- صحبت الفضيل بن عياض -رحمه الله- ثلاثين سنة ما رأيته ضاحكاً متبسماً إلا يوم مات ابنه علي -رحمه الله-، فقلت: ما هذا؟ قال: إن الله -سبحانه- أحب أمراً، فأحببت أن أحبَّ ما أحب الله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وضحك أحد السلف يوم مات ابنه، فقيل له: أتضحك في مثل هذا الحال؟! قال: نعم.
أردت أن أرغم الشيطان، وقضى الله القضاء، فأحب أن أرضى بقضائه؛ فهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
ويشتكي ابن لـ عبد الله بن عمر -رضي الله عنهم- فيشتدُّ وجده عليه حتى قال بعض القوم: لقد خشينا على هذا الشيخ إن حدث بهذا الغلام حدث، وشاء الله، فمات الغلام، فخرج ابن عمر في جنازته، وما رجل أبدى سروراً إلا ابن عمر، فقيل: ما هذا، قد خشينا عليك يا بن عمر؟! قال: [[إنما تلك كانت رحمة به؛ فلما وقع أمر الله رضينا به]] لا تعجبوا، ولا تدهشوا إنه ابن عمر بن الخطاب، والفرع للأصل ينسب رضي الله عن الجميع، الذي قال يوماً ما: [[ما من أهل ولا مال ولا ولد إلا وأنا أحب أن أقول عليه: إنا لله وإنا إليه راجعون إلا عبد الله بن عمر؛ فإني أرجو أن يطول عمره لعلمي بمنفعته للناس، والأعمال بالنيات]] ولكل امرئ ما نوى.(7/11)
شريح القاضي واحتسابه الأجر
ويروى أن شريحاً القاضي مات له صبي، فجهزه وغسله ودفنه بالليل، ولم يشعر به أحد، ولما جلس للقضاء من الغد جاء الناس على حسب العادة يعودونه ويسألونه عنه، فقال: الحمد لله، الآن فقد الأنين والوجع، ففرح الناس وظنوا أنه قد عوفي من مرضه، فقال -وهو يضحك-: احتسبناه في جنب الله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.(7/12)
من عجائب الصبر
ويذكر ابن الجوزي -عليه رحمة الله- في عيون الحكايات قال الأصمعي: خرجت أنا وصديق لي إلى البادية، فضللنا الطريق؛ فإذا نحن بخيمة عن يمين الطريق، فقصدنا نحوها، فسلمنا؛ فإذا عجوز ترد السلام، ثم قالت: من أنتم؟ قلنا: قوم ضللنا الطريق، وأَنِسْنَا بكم، وقوم جياع.
قالت: ولُّوا وجوهكم حتى أقضي من حقكم ما أنتم له أهل.
ففعلنا، وجلسنا على فراش ألْقَتْهُ لنا، وإذا ببعير مقبل، عليه راكب، وإذا بها تقول: أسأل الله بركة المقبل، أما البعير فبعير ولدي، وأما راكبه فليس بولدي.
جاء الراكب، وقال: يا أم عقيل! السلام عليك أعظم الله أجرك في عقيل، فقالت: ويحك! أوقد مات عقيل؟ قال: نعم.
قالت: وما سبب موته؟ قال: ازدحمت عليه الإبل فرمت به في البئر، فقالت: انزل، ودفعت له كبشاً، ونحن مدهوشون، فذبحه وأصلحه، وقرَّب إلينا الطعام، فجعلنا نتعجب من صبرها؛ فلما فرغنا قالت: هل فيكم أحد يحسن من كتاب الله -عز وجل- شيئاً فقلنا: نعم.
قالت: فاقرءوا عليَّ آيات أتعزَّى بها عن ابني، قال: قلت: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157] قالت: آللهِ إنها لفي كتاب الله؟ قلت: والله إنها لفي كتاب الله.
قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، صبراً جميلاً، وعند الله أحتسب عقيلاً.
اللهم إني فعلت ما أمرتني به؛ فانجزني ما وعدتني، ولو بقي أحد لأحد لبقي محمد صلى الله عليه وسلم لأمته.
قال: فخرجنا، ونحن نقول: ما أكمل منها ولا أجزل! لما علمت أن الموت لا مدفع له ولا محيص عنه، وأن الجزع لا يجدي نفعاً، وأن البكاء لا يرد هالكاً؛ رجعت إلى الصبر الجميل والرضا بقضاء السميع العليم، فاحتسبت ابنها عند الله -عز وجل- ذخيرة نافعة ليوم الفقر والفاقة.
فما أجمل الرضا بقضاء الله في كشف محن المصاب ومكروباته! هذه سجايا السلف؛ صبرٌ واحتسابٌ، وتجلُّدٌ وتحمُّلٌ، ورضا واسترجاعٌ، وبُعْدٌ عن الجزع والتسخُّط والتذمُّر عند المصاب.
لهم قدرهم باعتبار الرجال وسمعتهم في ذرى الأنجم
أنتم كهُم ومن يشابهْ أبه فما ظلم(7/13)
موقف النبي صلى الله عليه وسلم في وفاة ابنه إبراهيم
وليُعلم أن البكاء الذي لا صوت معه ولا تسخط لا يعارض الرضا؛ فأشد الناس حرصاً على رضا مولاهم هم الأنبياء، وأرضاهم وأرضى الخلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بكى يوم مات ابنه إبراهيم رأفة ورحمة منه للولد ورقة عليه، وقلبه صلى الله عليه وسلم ممتلئ بالرضا، ولسانه مشتغل بحمد الله وذكره، وهذا هو أكمل هدي وأتم؛ فإنه صلى الله عليه وسلم حملته الرحمة بالطفل على البكاء، ومحبة الله على الرضا، وخير الهدْي هديُه صلى الله عليه وسلم.
ففي الصحيحين: {أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على ابنه إبراهيم، وهو يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟! قال: يا بن عوف! إنها رحمة، إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لَمحزونون}.
وفي الحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا أو يرحم -وأشار إلى لسانه صلى الله عليه وسلم-} وفي الصحيح -أيضاً- عن أسامة بن زيد: {أن النبي صلى الله عليه وسلم رُفع إليه ابن ابنته، وهو في الموت نفسه تُقعقع، ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: هذه رحمة جعلها الله -تعالى- في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء}.(7/14)
عودة إلى وسائل كشف الكربة
أيها الأحبة: الله يقضي؛ فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط.
ومن استعان بالله، وشكر الله في السراء والضراء، ورضي بقدر الله انكشف كربه، ورضيت نفسه؛ فهو في حياة طيبة على كل حال؛ إن أصابته سرَّاء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35].(7/15)
من وسائل كشف الكربة: العلم بأن الجزع لا يرد المصيبة
ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة: العلم اليقيني أن الجزع لا يرد المصيبة؛ بل يضاعفها؛ فالجازع يزيد مصيبته، ويُشمِّتُ أعداءه، ويسوء أصدقاءه، ويغضب ربه، ويسر شيطانه، ويحبط أجره، ويضعف نفسه.
أما إذا احتسب وصبر ورضي أخزى شيطانه، وأرضى ربه، وسرَّ صديقه، وساء عدوه، وحمل على إخوانه فعزاهم قبل أن يعزوه.
هذا هو الثبات في الأمر؛ فنسأل الله الثبات في الحياة وفي الممات.
يقول بعض الحكماء: العاقل يفعل في أول يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام، ومن لم يصبر صبر الكرام سلى سلوَّ البهائم، وإنما الصبر عند الصدمة الأولى.
إذا أنت لم تَسْلُ اصطباراً وحسبةً سلَوْتَ على الأيام مثل البهائم
وكل أحد لابد أن يصبر على بعض ما يكره؛ فإما باختيار، وإما باضطرار؛ فالكريم المؤمن يصبر مختاراً لعلمه بحسن عاقبة الصبر، وأنه يُحمد عليه، ويُذَمُّ في المقابل على الجزع، ويعلم أنه إن لم يصبر لم يُعِدْ عليه الجزاء فائتاُ، ولم ينتزع منه مكروهاُ، والمقدور لا حيلة في دفعه، وما لم يُكتب لا حيلة في تحصيله؛ فالجزع ضرُّه أقرب من نفعه؛ فما دام أن آخر الأمر الصبر، والعبد معه غير محمود؛ فما أحسن أن يُستقبَلَ الأمر في أوله بما يستدبره الأحمق في آخره.
إن علم المصاب بما يعقب الصبر والاحتساب من اللذة والمَسَرَّة أضعاف ما يحصل له ببقاء ما أصيب به لو بقي عليه لكان كاشف لكربه لو تأمل ذلك.
يروى عن أنس -رضي الله عنه وأرضاه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {تُنصَبُ الموازين يوم القيامة، فيُؤتى بأهل الصلاة والصيام والزكاة والحج، فيُوَفَّوْن أجورهم بالموازين، ثم يُؤتى بأهل البلاء، فلا يُنصب لهم ميزان، ولا يُنشر لهم ديوان، ويُصبُّ عليهم الأجر صباً بغير حساب، ثم قرأ قول الله جل وعلا: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]} وفي الترمذي مرفوعاً: {يودُّ أناسٌ لو أن جلودهم كانت تُقرض بالمقاريض لِما يَروْن من ثواب أهل البلاء} فسبحان من يرحم ببلائه!
قد يُنعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
هاهي امرأة من السلف قد مات ابنها، فجاءوا يعزونها، ويقولون: يا أمة الله! اتقي الله واصبري.
فقالت: الحمد لله، وإنا لله، مصيبتي أعظم من أن أفسدها بالجزع.
لسان حالها:
كلما ازدادت عليَّ المِحَن وتوالت إِحَنٌ لا تَهِنُ
وكروب تُصطفى في زمن فلِتطهيرٍ وتدريب عميق
واختبار الذهب الصرف الحقيقي
فالجزع -وإن بلغ غايته وإن بلغ نهايته- فآخر أمر الجازع إلى الصبر اضطراراً وهو غير محمود ولا مثاب؛ فإنه استسلم للقدر رغم أنفه، وهذا ليس من الصبر.
على هذا يُذكر أن أعرابياً مات له ولد، فبكي عليه بكاء عظيماً، وجزع عليه جزعاً عظيماً؛ فلما همَّ أن يسلو عن هذا مات له ابن آخر، فقال:
إن أَفِقْ من حزن هاج حزن ففؤادي ما له اليوم سكن
فكما تبلى وجوه في الثرى فكذا يبلى عليهم من حزن
فطوبى للصابرين ثم طوبى ثم طوبى.(7/16)
من وسائل كشف الكربة: العلم بأن النعم زائلة
ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة: العلم بأن النعم زائرة، وأنها -لا محالة- زائلة، وأن السرور بها إذا أقبلت مشوب بالحذر من فراقها إذا أدبرت، وأنها لا تُفرح بإقبالها فرحاً حتى تُعقب بفراقها تَرَحاً؛ فعلى قدر السرور يكون الحزن، والمفروح به اليوم هو المحزون عليه غداً، ومن بلغ غاية من يحب فليتوقع غاية ما يكره، ومن علم أن كل نائبة إلى انقضاء حَسُن عزاؤه عند نزول البلاء، سُنة الله ولن تجد لسُنة الله تبديلاً.(7/17)
من وسائل كشف الكربة: العلم بتفاوت المصائب
سابعاً: ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة: العلم بتفاوت المصائب؛ فإن كانت المصيبة بعيدة عن الدين؛ فإنها هيِّنة سهلة يسيرة؛ لأن مصيبة الدين هي أعظم وأفدح مصيبة.
ومصائب الدنيا كذلك تتفاوت، فإذا حصَّلت الأدنى من المصائب فتسلَّ بذلك عن ما هو أعلى وأعظم واحْمَدِ الله على ذلك.
قال السفاريني -عليه رحمة الله-: المصائب تتفاوت؛ فأعظمُها المصيبةُ في الدين -نعوذ بالله من ذلك- فإنها أعظم من كل مصيبة، والمسلوب من سُلب دينه.
وكل كسر لعل الله جابره وما لكسر قناة الدين جُبرانُ
فإذا رأيت إنساناً لا يبالي بما أصابه في دينه من ارتكاب الذنوب والخطايا، من فوات للجمعة والجماعة وأوقات الطاعة، من ولوغ في المحرمات، من انتهاك للحرمات، ومن انتهاك لحدود الله وتجاوز لها؛ فاعلم أنه المُصابُ حقّاً، ثم اعلم أخرى أنه ميت لا يُحس بألم المصيبة ولا يشعر: {فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [الروم:52].
وبعد مصيبة الدين المصيبة في النفس، ثم في الأهل، ثم في المال، وكلها تتفاوت بحسب ضخامة المصاب فيه وحقارته، فتندرج إلى أن تكون المصيبة في الشوكة وفي قطع شسع النعل، وشسع النعل في غاية الخسة كما تعلمون.
ولذا يقول شريح -عليه رحمة الله-: إني لأصاب بالمصيبة، فأحمد الله -عز وجل- عليها أربع مرات؛ أحمده إذا لم يجعلها أعظم مما هي عليه، وأحمده إذ رزقني الصبر عليها والاحتساب، وأحمده إذ وفقني للاسترجاع لما أرجو فيه من الثواب، وأحمده إذ لم يجعلها في ديني؛ فإن من كل شيء عوضًا إلا الدين.
من كل شيء إذا ضيعته عوض وما من الدين إذا ضيعت من عوض(7/18)
من وسائل كشف الكربة: العلم بأن الدنيا فانية
ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة: العلم بأن الدنيا فانية زائلة، كل ما فيها يتغير ويحول ويضمحل ويفنى ويزول؛ لأنها إلى الآخرة طريق، وهي مزرعة للآخرة على التحقيق، إنها ألم يخفيه أمل، وأمل يحققه -بإذن الله- عمل، وعمل يقطعه الأجل، وعندها يُجزى كل امرئٍ بما فعل.
إنها الدنيا إن حَلَتْ أَوْحَلَتْ، وإن كَسَتْ أَوْكَسَتْ، وإن دَنَتْ أَوْدَنَتْ، وكم من ملكِ فيها رُفعت له علامات فلما علا مات.
هي الأيام لا يبقى عزيز وساعات السرور بها قليله
إذا نشر الضياء عليك نجم وأشرق فارتقب يوماً أُفُولُه
إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن سرَّت يوماً أحزنت شهوراً، وإن متَّعت يسيراً منعت طويلاً.
لا يبقى لها حبور ولا يدوم فيها ثبور
اليوم عندك دلُّها وحديثها وغداً لغيرك كفُّها والمِعصمِ
قال الله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20] ما أدقَّ التعبير القرآني! يوم يشير إلى أن الحياة الدنيا يوم تُوزن بموازين الدنيا تبدو أمراً عظيماً هائلاً ضخماً، لكنها حين تُقاس وتوزن بموازين الآخرة تبدو شيئاً تافهاً زهيداً حقيراً، بل هو لعبة أطفال بالقياس إلى ما في الآخرة من جد تنتهي إليه المصائر بعد لعبة الحياة الدنيا، لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر، ثم تأتي الصورة القرآنية المبدعة لتصور الدنيا كزرع يعجب الزُّراع نباته، ينمو شيئاً فشيئاً حتى يكتمل، ثم يهيج، فتراه مصفراً جاهزاً للحصاد؛ فهو موقوت الأجل ينتهي عاجلاً، ويبلغ أجله قريباً، ثم يكون حُطاماً، وينتهي شريط الحياة بمشهد الحُطام، ويا لها من نهاية!
وأما الآخرة فلها شأن وأي شأن! يستحق شأنها أن يُحسب حسابه، ويُنظر إليه ويُستعد له: {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20] فهي لا تنتهي في لمحة كالحياة الدنيا، وهي لا تنتهي إلى حطام كالنبات البالغ أجله؛ بل حساب وجزاء ودوام يستحق الاهتمام.
{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20] متاع يستمد قوامه من الغرور الخادع يُلهي وينسي، وينتهي بأهله إلى غرور خادع؛ فما أحوج المؤمن إلى الاستعلاء على هذا الغرور الخادع ليحقق عقيدته، ولو اقتضى أن يضحي بالحياة الدنيا جميعها؛ فما هي إلا حطام أو كظلٍ أو سراب.
روى الترمذي وابن ماجة بإسناد حسن قال: قال صلى الله عليه وسلم: {مالي وللدنيا! إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب قَالَ في ظل شجرة، ثم راح وتركها}.
أحلام نوم أو كظلٍ زائلٍ إن اللبيب بمثلها لا يُخدعُ
يقول بعض أهل العلم: لَنِعَم الله علينا فيما زوى عنا من الدنيا أفضل من نعمه منها فيما بسط لنا فيها؛ ذلك أن الله لم يرضَ لنبيِّه الدنيا؛ فلأن أكون فيما رضي الله لنبيه وأحبَّ له أحبُّ إليّ من أن أكون فيما كره له وسخط.
وأجمل بقول ابن القيم -عليه رحمة الله- من قول، يوم قال يشبه الدنيا: أشبه الأشياء بالدنيا الظل تحسب له حقيقة ثابتة، وهو في تقلُّص وانقباض، تتبعه لتدركه؛ فلا تلحقه.
وأشبه الأشياء بالدنيا السراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، ووجد الله عنده فوفَّاه حسابه والله سريع الحساب.
وأشبه الأشياء بالدنيا المنام يرى فيه العبد ما يحب وما يكره؛ فإذا استيقظ علم أن ذلك لا حقيقة له.
ترجو البقاء بدار لا ثبات لها فهل سمعت بظل غير منتقل
حياتها رصدٌ وشربها كدرٌ وعيشها نكد وملكها دُوَلُ
من ذا الذي قد نال راحة فكره في عسره من عمره أو يُسره؟
يلقى الغني لحفظه ما قد حوى أضعاف ما يلقى الفقير لفقره
فيظل هذا ساخطاً في قُلِّه ويظل هذا ناصباً في كُثرهِ
سُنَّ البلى ولكل شمل فرقة يُرمى بها في يومه أو شهره
والجن مثل الإنس يجري فيهم حكم القضاء بحلوِه وبمرِّه
أوَما ترى الرجل العزيز بجنده رهن الهموم على جلالة قدره
فيسرُّه خير وفي أعقابه همٌّ تضيق به جوانب صدره
وأخو التجارة لاهث متفكر مما يلاقي في خسارة سعره
وأبو العيال أبو الهموم وحسرة الـ رجل الوحيد كمينة في صدره
ولرُبَّ طالب راحة في نومه جاءته أحلام فهام بأمره
والطفل من بطن أمه يخرج إلى غُصَص الفطام تروعه في صُغره
ولقد خبرت الطير في أوكارها فوجدت منها ما يُصاد بوكره
والوحش يأتيه الردى في برِّه والحوت يأتي حتفه في بحره
ولربما تأتي السباع لميت فاستخرجته من قرارة قبره
تالله لو عاش الفتى في دهره ألفاً من الأعوام مالك أمره
متلذذاً معه بكل لذيذةٍ متنعماً بالعيش مدة عمره
لا يعتريه النقص في أحواله كلا ولا تجري الهموم بفكره
ما كان ذلك كله في أن يفي بمبيت أول ليلة في قبره
كيف الفعال أيا أخي فيما ترى صبراً على حُلوِ القضاء ومرِّه
صبراً فغمسة في الجنة تُنسي كل شقاء وبؤس وبلاء، وغمسة في النار -عياذًا بالله- تنسي كل لذة ونعيم.
لكل شيء إذا ما تمَّ نقصان فلا يُغَرُّ بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول من سرَّه زمن ساءته أزمان
كم من مؤملٍ أدركه الموت قبل تحقيق أمله! وكم من زرعٍ عاش ومات زارعه! فاسمع:
لما حضرت الوفاة سيبويه النحوي -رحمه الله- وضع رأسه في حجر أخيه، ثم أغمي عليه، فقطرت قطرة من دموع أخيه على خده، فأفاق من غشيته متمثلاً بقول القائل:
يؤمِل دنيا لتبقى له فمات المؤمِل قبل الأمل
وبات يروِّي أصول النخيل فعاش النخيل ومات الرجل
ثم قال لأخيه: أخيين كنا، ففرق الله بيننا إلى الأمد الأقصى، ومن يأمن الدهر، ثم لقي الله عز وجل.
هذه هي الحياة الدنيا، والآخرة هي الحياة لو كانوا يعلمون.
إنما الدنيا هبات وعَوارٍ مستردة شدة بعد رخاء ورخاء بعد شدة(7/19)
من وسائل كشف الكربة: تذكر ما في البلاء من فوائد
ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة: تذكُّر ما في البلاء من لطائف وفوائد، منها على سبيل المثال:
أولاً: تذكير العبد بذنوبه؛ فربما تاب إلى الله عز وجل، فلتوبته إلى الله عز وجل أعظم عزاء له من كل شيء.
يقول بعض السلف: [[إن العبد لَيُصاب بالمصيبة، فيذكر ذنوبه، فيخرج من عينه مثلُ رأس الذباب دمعاً من خشية الله، فيغفر الله عز وجل له]].
ثانياً: زوال قسوة القلب مع حدوث رقة القلب وانكسار العبد لله عز وجل، وذلك ملاحظ في المصائب، وذلك -والله- خير من كثير من طاعات الطائعين؛ فانكسار المذنب خير وأعظم من صولة المطيع.
ثالثاً: البلاء يوجب من العبد الرجوع إلى الله عز وجل، والوقوف ببابه، والتضرع له، والاستكانة والدعاء، وذلك من أعظم فوائد البلاء؛ ففي بعض الآثار: {إن الله ليبتلي العبد -وهو يحبه- ليسمع تضرُّعَه ودعاءه}.
رابعاً: البلاء يقطع قلب المؤمن عن الالتفات إلى المخلوقين، ويوجب له الإقبال على الخالق وحده لا شريك له؛ فالمشركون -وهم مشركون- حكى الله عنهم إخلاص الدعاء له عند الشدائد: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65] فكيف بالمؤمنين؟!.
خامساً: رحمة أهل البلاء ومساعدتهم على بلواهم؛ فإن العبد إذا أحس بألم المصيبة رقَّ قلبه لأهل المصائب والبلايا ورحمهم.
أخيراً: معرفة قدر نعمة العافية؛ فإن النعم لا تعرف أقدارها إلا بعد فَقْدِها؛ فلا يعرف نعمة إلا من ذاق مرارة ضدها، وبضدها تتميز الأشياء.(7/20)
من وسائل كشف الكربة: لطيف التعزية
فمن تأمل هذه اللطائف زال ما به، وانشرح صدره، وانفرج همُّه بإذن ربه.
ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة: لطيف التعزية عند فقد الأعزة؛ فإن الكلمة الطيبة للمصاب يُثبَّت بها -بإذن الله- ويعان، ويغدو الصبر عليه سهلاً يسيراً؛ فإن المؤمن -كما تعلمون- قليل بنفسه كثير بإخوانه، ضعيف بنفسه قوي بإخوانه، شديد بأعوانه؛ فإذا وجد هذا يُعزِّيه، وهذا يُسليه سهلت عليه الأمور العظام، وكُشِفَ ما به بإذن الله رب الأرض والسماء.
ولذا فإن الشارع -بحكمته البالغة- شرع لنا التعزية لأهل المصيبة والدعاء لهم بالثبات والأجر والخلف، وللميت بالرحمة والمغفرة؛ فعزاء الله الذي نتعزَّى به دائماً وأبداً: (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأسوة والقدوة عزَّى أصحابه عند نزول المصائب، وواساهم -كما في السُنة الصحيحة- والسلف اقتدوا به في ذلك؛ فلعلنا أن نقف على بعض ما في السنة الصحيحة وأقوال السلف في لطيف التعزية والدعاء بما هو خير، وفي السنة وأقوال السلف غُنيةٌ عن غيرهما، وخير الهدْيِ هديُه صلى الله عليه وسلم:
وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف
في صحيح مسلم عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة -وقد شخص بصره- فأغمضه، ثم قال: {إن الروح إذا قُبضت تبعها البصر، فضجَّ ناسٌ من أهله، فقال: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير؛ فإن الملائكة يؤمِّنون على ما تقولون، ثم قال -واسمعوا إلى العزاء-: اللهم اغفر لـ أبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله -يا رب العالمين- وأفسح له في قبره، ونوِّر له فيه}.
فدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم عزاء ومواساة.
وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد -رضي الله عنه- قال: {أرسلت إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم إلى النبي صلى الله عليه وسلم تدعوه، وتخبره أن لها صبياً في الموت، فقال: ارجع إليها، فأخبرها أن لله تعالى ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى؛ فلتصبر، ولتحتسب}.
وفي الحديث الحسن بشواهده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله من حُلل الكرامة يوم القيامة}.
وروي عن علي رضى الله عنه كما في التعازي أنه قال لمصاب: [[إنك إن صبرت جَرَتْ عليك المقادير وأنت مأجور، وإن جزعت جرت عليك المقادير وأنت موزور]] وروي البيهقي -بإسناده في مناقب الإمام الشافعي رحمه الله-: أن عبد الرحمن بن مهدي مات له ابن، فجزع عليه جزعاً شديداً، فبعث إليه الشافعي يقول له: يا أخي! عزِّ نفسك بما تعزي به غيرك، واستقبح من فعلك ما تستقبحه من غيرك، واعلم أن أعظم المصائب فقد سرور، وحرمان أجر؛ فكيف إذا اجتمعا مع اكتساب وزر؟ ألْهمك الله عند المصائب صبراً، وأحرز لنا ولك بالصبر أجراً، ثم أنشد قائلاً:
إني معزيك لا أَنِّي على ثقة من الحياة ولكن سُنة الدين
فلا المعُزَّى بباقٍ بعد ميته ولا المُعزِّى ولو عاشا إلى حين
ويشاء الله -عز وجل- فيموت بعدها ابن للشافعي -رحمه الله تعالى- الذي كان يُعزِّي أصبح يُعزَّى.
جاءوا يعزونه، فأنشد قائلاً:
وما الدهر إلا هكذا فاصطبر له رزية مالٍ أو فراق حبيب
ولما توفيت ياقوتة بنت المهدي جزع عليها جزعاً لم يُسمَع بمثله، فجلس وجاء الناس يعزونه، فأمر ألا يُحجب عنه أحد، فأكثر الناس في التعازي، واجتهدوا في البلاغة والفصاحة لكونه الخليفة، ثم أجمعوا بعد ذلك أنهم لم يسمعوا تعزية أوجز ولا أبلغ من تعزية ابن شبة -رحمه الله- يوم قال: أعطاك الله -يا أمير المؤمنين- على ما رُزئت أجراً، وأعقبك خيراً، ولا أجهد بلاءك بنقمة، ولا نزع منك نعمة، ثواب الله خير لك منها، ورحمة الله خير لها منك، أسأل الله ألا يحزنك ولا يفتنك، فكان مما سرَّى على أمير المؤمنين مثل هذه التعزية.
ويقول أحد المعزِّين في لطائف التعازي لقاضٍ من قضاة بلخ -وقد توفيت أمه- قال له: إن كانت وفاتها عظةً لك؛ فعظَّم الله أجرك على موتها، وإن لم يكن عظة لك؛ فعظم الله أجرك على موت قلبك، ثم قال: أيها القاضي! أنت تحكم بين عباد الله منذ ثلاثين سنة، ولم يرد عليك أحد حكماً؛ فكيف بحكمٍ واحدٍ عليك من الواحد الأحد ترده ولا ترضى به؟! فسري عنه، وكشف ما به، وقال: تعزَّيت، تعزَّيت.
وعزَّى موسى بن المهدي سلمان بن أبي جعفر في ابنٍ له مات، فقال: أيسرُّك وهو بلية وفتنة، ويحزنك وهو صلاة ورحمة وهدى؟! يشير إلى قول الله -عز وجل-: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] ويشير في الثانية إلى قول الله {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157] فلله ما أعطى، ولله ما حوى.
وليس لأيام الرزية كالصبرِ:
فحسبك منهم موحشاً فَقْدُ برِّهمُ وحسبك منهم مُسْلياً طلب الأجرِ
وروي أن سليمان بن عبد الملك لما مات ابنه أيوب قال لـ عمر بن عبد العزيز ورجاء: إني لأجد في كبدي جمرة لا يُطفئها إلا عبرة، فقال عمر بن عبد العزيز: اذكر الله يا أمير المؤمنين، وعليك بالصبر؛ فهو أقرب وسيلة إلى الله، وليس الجزع بمحيي من مات، وبالله العصمة؛ فلا تحبطنَّ أجرك.
قال: فنظر إلى رجاء، فقال رجاء لأمير المؤمنين: اقضها يا أمير المؤمنين؛ فما بذاك من بأس، فقد دمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم ولم يقل ما يُسخط ربه، فأرسل سليمان عينيه بالبكاء حتى ظنوا أن نياط قلبه ستتقطع.
فقال عمر لـ رجاء -معاتبًا-: هذا ما فعلت بأمير المؤمنين، فقال رجاء: دعه -يا عمر - يقضي من بكائه وطراً؛ فلو لم يُخرج من صدره ما ترى لخفت عليه، ثم دعا بماء، فغسل وجهه، ثم قال لهما: لو لم أنزف هذه العبرة لانصدعت كبدي.
ثم انتهى إلى مجلسه فدخل عليه رجل فعزَّاه، فقال: عليكم نزل الكتاب، وأنتم أعرف به مِنَّا، وأنتم أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منا، ولسنا نعلمك شيئاً لا تعلمه، ولا نذكرك شيئاً قد تنساه، لكنا نعزيك ونواسيك ثم أنشد قائلاً:
وهوَّن ما ألقى من الوجد أنني أجاوره في قبره اليوم أو غداً
قال: أعد، فقال:
وهوَّن ما ألقى من الوجد أنني أجاوره في قبره اليوم أو غداً
فقال: يا غلام! هات الغداء فأكل وشرب، وحمد الله، وسُرَّي عنه.
ومن لطيف التعزية ما قيل من بعض الأعراب عندما دخل على بعض ملوك بني العباس، وقد توفي له ولد اسمه العباس، فعزاه، ثم قال:
اصبر نكن بك صابرين فإنما صبر الرعية عند صبر الرأس
خير من العباس أجرك بعده والله خير منك للعباس
ومن ذلك أن أحدهم أصيب بمصيبة، فجزع، فجاء أخ له، فقال: عظَّم الله أجرك، وأحسن عزاءك:
أخي ما بال قلبك ليس ينقى كأنك لا تظن الموت حقّاً
ألا يا بن الذين مضوا وبادوا أما والله ما ذهبوا لتبقى
فكُشف ما به.
ومات لرجل من السلف ولد، فعزَّاه سفيان بن عيينة -رحمه الله- وهو في كرب شديد، وعزاه آخرون؛ فلم يُكشف ما به حتى جاء الفضيل، فقال: يا هذا! أرأيت لو كنت وابنك في سجن، فأُفرج عن ابنك قبلك أوما كنت تفرح؟ قال: بلى.
قال: فإن ابنك قد خرج من سجن الدنيا قبلك.
قال: فسُرَّي عن الرجل، وانكشف همه، وقال: تعزيت.
وأخيرًا: فإن من ألْطف وأقوى ما سمعت من تعزية غير كلام رسول البرية وسلف الأمة -رضوان الله عليهم- ما قاله ابن سناء الملك، وقد مات لأحد أقاربه ميت، فجزع عليه هذا جزعاً عظيماً، فكان مما قاله ابن سناء: إنا لله، إلى متى هذا الجزع الصبياني، والهلع النسواني، إلى متى هذا الحزن الذي لا يحيي دفينك، بل يميت دينك، ويسلب هدوءك، ويشمت فيك عدوك.
أما على هذا مضى الزمان، وعلى هذا درج الثقلان، وللخراب بُني العمران، وللانتقال سكن السكان، وللموت ولد المولود، وللعدم خلق الوجود.
أتحب أن تبقى ويبقى من تحب فذا خلود، إنا لله وإنا إليه راجعون، أفضل قول الصابر، وفي سبيل الله، وإلى رحمة الله من حُسب في أهل المقابر، أجزل الله أجرك، وأحيا على دفينك صبرك، ووسع لهذه النازلة صدرك، وأنزل على قلبك السكينة ربك، وخفَّف عن قلبك وطيئة كربك، لا جمع الله عليك فراق الأحباب وفراق الثواب، وجمع الله عليك النعمتين نعمة الجلد ونعمة الاحتساب، إني -والله- لشريكك في المصاب، ونصيبي منه لأكثر، ودمع عيني لأغزر:
ولو شئت أن أبكي دماً لبكيته ولكنني في ساحة الصبر أجمل
أخي المصاب: لعل فيما سمعته عزاء لك؛ فلست أول ولا آخر مصاب، جعل الله التعزية لك لا عنك، والخلف عليك لا منك، في الله -عز جل- عزاء من كل هالك، وخلف من كل فائت، وعوض من كل مصيبة، وشر من المصيبة حرمان الأجر فيها:
لابد من فقد ومن فاقد هيهات ما في الناس من خالد
ولا يفوتني هنا أن انبه بهذا الكاشف إلى ما يلي:
أولاً: ينبغي تجنب الاجتماع والجلوس عند أهل الميت للتعزية؛ لأن في ذلك تجديداً للحزن وتكليفاً للمعزى، ومخالفة لهدي السلف الصالح -رضوان الله عليهم- ففي الحديث الصحيح أن جرير بن عبد الله البجلي قال: {كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت بعد دفنه من النياحة} فالذي ينبغي أن ينصرف الناس إلى شئونهم وحوائجهم، فمن صادفهم عزَّاهم في المسجد، في العمل، في الشارع، في السوق وهكذا.
ثانياً: أن ما يُفعل اليوم في التعزية من نصب للخيام والجلوس فيها، من قيل وقال، وصرف للأموال الطائلة من أجل المباهاة والمفاخرة أمر مخالف للمشروع، وواجب علينا أن نتبع فقد كُفينا.
يقول ابن القيم -عليه رحمة الله-: وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تعزية أهل الميت، ولم يكن من هديه الاجتماع للعزاء، ولا قراءة القرآن عند قبره، وكل هذه بدعة حادثة.
ثالثاً: ألا يُحدَّ على ميت فوق ثلاثة أيام -كما يفعل كثير من النساء- إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً، فليُعلم كما في الصحيح:
عليكم بهدي الرسول الكريم ومنهاج قرآنه المحكم
رزقنا الله اتباع السنة، ورحمنا الله وموتانا بكرمه ومنِّه.(7/21)
من وسائل كشف الكربة: التأسي بأهل المصائب
ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة: برد التأسي بأهل المصائب؛ ففي ذلك إطفاء لنار المصيبة، وليعلم أنه في كل قرية ومدينة بل في كل بيت من أصيب؛ فمنهم من أصيب مرة، ومنهم من أصيب مراراً، وليس ذلك بمنقطع حتى يأتي على جميع أهل البيت، حتى نفس المصاب سيصاب بنفسه يوماً ما، أسوة بأمثاله ممن تقدمه؛ فإن نظر فلن يرى يمنة إلا محنة، ويسرة إلا حسرة.
ذكر ابن الجوزي بإسناده عن عبد الله بن زياد قال: حدثني بعض من قرأ في الكتب: أن ذا القرنين لما رجع من مشارق الأرض ومغاربها، وبلغ أرض بابل مرض مرضاً شديداً، فعلم أنه مرض الموت، وأشفق على نفسه، فكتب إلى أمه معزِّياً في ذكاء قائلاً: يا أماه! إذا جاءكِ كتابي فاصنعي طعاماً، واجمعي من قدرت عليه من الناس، ولا يأكل طعامك من أصيب بمصيبة، واعلمي هل وجدتِ لشيء قراراً.
إني لأرجو أن يكون الذي أذهب إليه خيراً مما أنا فيه.
فلما وصل كتابه صنعت طعاماً عظيماً، وجمعت الناس، وقالت: لا يأكل هذا من أُصيب بمصيبة، فلم يتقدم أحد للأكل من هذا الطعام، فعلمت مراد ابنها، فقالت: بني! من مبلغك عني أنك وعظتني فاتعظت، وعزيتني فتعزيت؛ فعليك السلام حياً وميتاً.
فما من مصيبة أصيب بها مصاب إلا وهناك ما هو أعظم منها عند غيره.
قيل لرجل: كم لك من ولد؟ قال: تسعة.
قيل له: إنما نعرف لك ابناً واحداً.
فقال: الحمد لله، كان لي عشرة، فقدمت تسعة، أحتسبهم عند الباري الرحيم، وبقى لي واحد لا أدري أنا له أم هو لي؟
لكل اجتماع من خليلين فرقة وكل الذي دون الممات قليل
وإن افتقادي واحداً بعد واحد دليل على ألا يدوم خليل
وهاهي أعرابية اسمها أم غسان -كما في عيون الأخبار - فقدت جميع أبنائها، وفوق ذلك كُفَّ بصرها.
مصيبة وأي مصيبة! كانت تعيش بمِغْزَلِها، وتقول: الحمد لله على ما قضى، رضيت من الله ما رضي لي، وأستعين الله على بيت ضيق الفناء قليل الإيواء، ثم تُصاب مصيبة أخرى بموت جارة لها كانت تبثُّها أشجانها وأحزانها، فيقال لها: أين فلانة؟ فتقول: الحمد لله على قضاء الله، والرجعة إلى الله.
تقسم جاراتها بيتها وسارت إلى بيتها الأدلج
وفي العاقبة للإشبيلي يروي أن امرأة من الأعراب حجَّت، ومعها وحيدها، فمرض عليها في الطريق، ومات، فدفنته بمساعدة الركب الذين معها، ثم وقفت بعد دفنه، وقالت: يا بني! والله لقد غذوتك رضيعاً، وفقدتك سريعاً، وكأن لم يكن بين الحالتين مدة ألتذُّ بها بعيشك، وأتمتع فيها بالنظر إلى وجهك، ثم قالت: اللهم منك العدل، ومن خلقك الجور، اللهم وهبتني قرة عين، فلم تمتعني به كثيراً بل سلبتنيه وشيكاً، ثم أمرتني بالصبر، ووعدتني عليه الأجر، فصدقت وعدك، ورضيت قضاءك، فلك الحمد في السَّراء والضَّراء.
اللهم ارحم غربته، واستر عورته يوم تُكشف العورات وتظهر السوءات، رحم الله من ترحَّم على من استودعته الردم، ووسدته الثرى.
ثم لما أرادت الانصراف قالت: أي بني! لقد تزودت لسفري فيا ليت شعري ما زادُك لسفرك ويوم ميعادك؟! اللهم إني أسألك الرضا عنه برضائي عنه.
اللهم إني أسألك الرضا عنه برضائي عنه.
أستودعك بني من استودعني إياك جنيناً في الأحشاء، ومن يجازي من صبر في السراء والضراء.
من شاء بعدك فليمُت فعليك كنت أحاذر
كنت السواد لناظري فعمى عليك الناظر
ليت المنازل والديار حفائرُ ومقابر
إني وغيري لا محالة حيث صرت لصائر
وأخرج ابن أبي الدنيا من الاعتبار عن الكندي قال: كانت امرأة من بني عامر لها تسعة من الأولاد دخلت بهم -ذات يوم- غاراً، ثم خرجت لحاجة، وتركتهم في الغار، ولما رجعت سقط الغار عليهم، وانطبق، فجعلت تسمع أنينهم وتتلظَّى بجحيم عويلهم، لا تملك لهم حولاً ولا طولاً، تَئنُّ وتزفر زفرات قطَّعت أحشاءها والذي عانا البلايا عرف، حتى فقدت أنينهم؛ فلم تسمع لهم أنيناً، فعلمت أنهم ماتوا جميعاً تحت هذا الغار، فرجعت وبها من الأسى ما الله به عليم، فكانت تردد وتقول:
ربيتهم تسعة حتى إذا اتسقوا أُفردت منهم كقرن الأعضب الوحدِ
وكل أم وإن سُرَّت بما ولدت يوماً ستفقد من ربَّت من الولدِ
وأخيراً: فلقد حدثني من أثق به من الصالحين -كما أحسبه والله حسيبه- أن هناك رجلاً كان له ثلاثة أولاد صغار وزوجة في هناء وأمان وسعادة وسكينة واطمئنان، وذات يوم جاءهم أضياف، فقام الأب وذبح لأضيافه كبشاً، والأولاد ينظرون، ودخل للجلوس مع أضيافه في انتظار إعداد الطعام، وقامت الأم بتغسيل وتنظيف أصغرهم في وعاء كبير مليء بالماء، أخذ أكبر الأولاد السكين يقلد أباه في ذبح الشياه، وقام على أخيه الأوسط، فأضجعه، ثم ذبحه ذبح الشاه، وجاء لأمه يخبرها فصاحت ورمت بالصغير في ذهول في وعاء الماء، فغرق الصغير في وعاء الماء، وخرجت إلى الأوسط فإذا هو يتشحط في دمه! وهرب أكبرهم إلى الشارع، فاعترضته سيارة، فدهسته! ذُهلت الأم، وثكلت جميع أبنائها، وجاء الأب فإذا بها تترنح، وتخبره الخبر، ثم تسقط ميتة وجداً على أبنائها الثلاثة، ولا إله إلا الله!
صُبَّت عليها مصائب لو أنها صُبت على الأيام عدن لياليا
أما الأب فحمد الله -عز وجل- وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ودخل إلى أضيافه، وطلب منهم أن يحفروا قبوراً، وأخبرهم الخبر، وياله من خبر! ويالها من ضيافة!
حفروا القبور، وصلُّوا على الجميع، ودعوا للميت والحي، واستعدَّ كل ضيف منهم أن يقدم ابنته زوجة لذلك الأب الصابر المحتسب، ويختار ابنة واحد منهم ويتزوجها، فيذكر لي من نقل لي هذا أن له -الآن- ثلاثة عشراً ولداً من هذه الزوجة، حدث عظيم وخطب أليم؛ فهلا نظرت لمثل هذا المَصاب أيها المُصاب.
فما مصابك مع مثل هذا المصاب؟ ستهون عليك مصيبتك ولا شك، واعلم أن هناك من هو أعظم منه مصاباً؛ فإذا علم المصاب علم اليقين أنه لو فتش العالم كله لم يرَ فيهم إلا مبتلى؛ إما بفوات محبوب، أو بحصول مكروه سُرِّي عنه؛ فسرور الدنيا أحلام نوم إن أضحكت أَبكتْ، وإن سرَّتْ ساءت، وما ملئت دار حبرة إلا مُلئت عبرة، وما حصل للشخص في يوم من سرور إلا وأعقبه شرور؛ فلكل فرحة ترحة، وما كان ضحك قط إلا وكان بعده بكاء.
فلتعلم ولتتأمل أحوال المكروبين -أيها المصاب- فما مصيبتك بينهم إلا ذرة في فضاء المصائب، وقطرة في بحار الكروب.
تأسَّ أطال الله عمرك بالأُلى مضَوْا ولهم ذكر جميل مُخلَّد
فلو لم يكن في الموت خير لمن مضى لما مات خير الأنبياء محمد
صلوات الله وسلامه عليه.(7/22)
من وسائل كشف الكربة: الدعاء واللجوء إلى الله
وآخراً: فإن مما يكشف الكربة عند فقد الأحبة: الدعاء والتضرُّع واللجأ إلى الله رب الأرض والسماء؛ فهو كاشف الضراء، وإن يصبك بسراء فلا راد للسراء.
وفي السنة الغرَّاء من الأدعية النبوية الصحيحة ما يكشف الهم والكرب والضراء؛ ففي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {ما أصاب عبداً همٌّ قط ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أَمَتِك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سمَّيت به نفسك أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أو علمته أحداً من خلقك أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي؛ إلا أذهب الله همَّه وحزنه، وأبدله مكانه فرحاً} رواه الإمام أحمد.
فالدعاء الدعاء! فالله عز وجل يقول {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60].
يا أيها المكروب خاصة! ويا أيها الناس عامة: ادعوا ربكم تضرُّعاً وخُفية، وأَلِظُّوا بيا ذا الجلال والإكرام فإليه المفزع، وفيه المطمع، لا إله إلا هو.
من لكم غيره يجبر كسركم!
من لكم غيره يبدِّد أحزانكم وأشجانكم!
من لكم غيره يؤنسكم في كربكم ووحشتكم!
من لكم إذا دُفِعْتم عن الأبواب إلا بابه!
من لكم إذا صُرِفتم وخاب الرجاء فيمن سواه إلا رجاه!
من لكم غيره أعز مطلوب وأشرف مرغوب!
لا إله إلا هو!
أيها المصابون: عليكم من الله الرحمات عدد ما سكبتم من العبرات، وكظمتم من الأنَّات، وجعل الله مصابكم من الباقيات الصالحات، وأمَّنكم من الفزع يوم تُنشر السِّجلات، وتقَبَّل منا ومنكم، وكتب لنا السعادة في الحياة والممات.(7/23)
من وسائل كشف الكربة: العلم بأن الله لا يقدر شيئاً عبثاً
وآخر ما يكشف الكرب: اعلم أن الذي قدَّر عليك الأقدار حكيم خبير عليم، لا يفعل شيئاً عبثاً، ولا يقدر شيئاً سُدى؛ بل هو رحيم تنوَّعت رحمته -سبحانه وبحمده- يرحم العبد فيعطيه، ثم يرحمه فيوفقه للشكر، ثم يرحمه فيبتليه، ثم يرحمه فيوفقه للصبر، ثم يرحمه فيكفر بالبلاء ذنوبه وآثامه، ثم ينمي حسناته ويرفع درجاته، ثم يرحمه فيخفف من مصيبته وطأتها ويهون مشقتها، ثم يتمم أجرها.
فرحمة الله متقدمة على التدابير السارة والضارة، ومتأخرة عنها و: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21].
أحبتي في الله: هذه الكلمات جمعتها من كتيبات ومن كتب، وصغتها لكم صياغة فقط -بعون من الله وتوفيق منه وتسديد- إن أكن أصبت فذاك الذي أردت، وإن تكن الأخرى فحسبي أن ذاك وسعي وجهدي وحسب معرفتي وقدرتي:
لكن قدرة مثلي غير خافية والنمل يُعْذَر في القدر الذي حملا
عظَّم الله أجر الجميع، وجبر الله كسرهم، وعوَّضهم خيرَيْ الدنيا والآخرة فيما فقدوا، وجعل هذه الكلمات في صحائف الحسنات في يوم تعز فيه الحسنات خالصة لوجه رب الأرض والسماوات.
اللهم مالك الملك، تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء، وتذل من تشاء، بيدك الخير إنك على كل شيء قدير.
يا الله! يا حي! يا قيوم! يا من لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم! يا بديع السماوات والأرض! يا فالق الحب والنوى! يا ذا الجلال والإكرام! يا عظيم العفو! يا واسع المغفرة! يا قريب الرحمة! نسألك بعزِّك الذي لا يُرام، وملكك الذي لا يُضام، يا هادي المضلين! ويا راحم المذنبين! يا من عنت له الوجوه، وخضعت له الرقاب، وخشعت له الأصوات، وفاضت له العَبَرَات، ورغمت له الأنوف! انقطع الرجاء إلا منك، وخابت الظنون إلا فيك، وضعف الاعتماد إلا عليك؛ نسألك أن تكفينا ما أهمَّنا وأغمَّنا، وأن تجبر كسرنا، وأن تعظم أجرنا، وأن تعيذنا من شرور أنفسنا، وأن ترحم موتانا، وأن تلطف بمبتلانا، وأن ترحم غربتنا في الدنيا، ومصرعنا عند الموت، ووقوفنا بين يديك، وأن تقينا من ميتة السوء، ومن يوم السوء، وساعة السوء، وليلة السوء، وجار السوء، وصاحب السوء، وأن تعيذنا من النفاق وسوء الأخلاق.
اللهم إنا نسألك فرجاً عاجلاً للمسلمين مما هم فيه وملاقوه، اللهم إنا نسألك فرجاً عاجلاً للمسلمين مما هم فيه وملاقوه، اللهم إنا نسألك فرجاً عاجلاً للمسلمين مما هم فيه وملاقوه.
اللهم اكشف كروبنا، ونفِّسْ همومنا واقضِ حاجاتنا.
اللهم هبْنا عطاءك، ولا تكشف عنا غطاءك، ورضِّنا بقضائك.
اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين، وأخصُّ من أُوصيت فيه بالدعاء.
اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين وأخصُّ من أُوصيت فيه بالدعاء.
اللهم اجعل قبورهم من الجنة رياضاً.
اللهم اجعل قبورهم من الجنة رياضاً، اللهم اجعل قبورهم من الجنة رياضاً.
اللهم إنهم عبيدك، بنو عبيدك، بنو إمائك، احتاجوا لرحمتك، وأنت غني عن عذابهم.
اللهم زد في حسناتهم، وتجاوز عن سيئاتهم؛ اللهم زد في حسناتهم، وتجاوز عن سيئاتهم؛ فأنت أرحم بهم من أمهاتهم.
لا إله غيرك، ولا معبود سواك، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
اللهم يا رب:
ومن قد عاش في الدنيا على الأمر بالتقى وعن موبقات الإثم ما زال ناهيا
تغمدْه يا رب عفواً بفضلك ولا زال هطَّالُ من العفو هاميا
على قبره يهني عشياً وبكرة وبوِّأه قصراً من الخلد عاليا
وصلِّ إلهي كلما هبَّت الصِّبَا وما انهلَّت لجُون الغدَاف العواديا
على المصطفى والآل والصَّحْب كلهم وتابعهم والتابعين الهواديا
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(7/24)
كل منا ممتحن
كل راع في هذه الدنيا مسئول أمام الله يوم القيامة عن رعيته، فمن نجح في ذلك الامتحان فهوالنجاح الأبدي ومن رسب فهوكذلك رسوب أبدي إلى جهنم وبئس المصير.
وكما أن كل والد يهتم بامتحان ابنه في اختبارات الدنيا لابد أن يجعل الأساس لهذا الاهتمام هواهتمامه باختبار الآخرة، ومن فعل ذلك فله في من سلف خير قدوة.(8/1)
بين امتحان الدنيا وامتحان الآخرة
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين؛ فشرح به الصدور وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: والأمة تمتحن امتحانات يصنع تاريخها من خلالها، غداً يخوض أبناؤنا وإخواننا ذكوراً وإناثاً غمار الامتحانات الدراسية، وبهذه المناسبة تجد القلوب وَجِلَة، والأذهان قلقة، والآذان تتلقف الأخبار عن الامتحان، قلَّمَا تجد منزلاً لم تعلن فيه حالة الطوارئ، كل أب ينتظر بصبر وعلى مضض نتيجة ابنه في هذا الامتحان؛ لأنه يرجو له النجاح، تراه يدعوالله بتوفيقه وتسديده وتثبيته، يعده ويمنِّيه إن نجح، ويتوعده ويحذره ويهدده إن رسب، وهذا إحساس من الأحاسيس التي فُطِر عليها البشر.
لكن أيها الأب الحنون! وقد اهتممت بابنك هذا الاهتمام، فأنت به الآن مشغول، تسعى وتصول وتجول، تهتم به وترعى، وتحس أنك عنه مسئول؛ فهلا كان الاهتمام بآخرته كالاهتمام بدنياه، هلاَّ كان الاهتمام به بعد موته كالاهتمام براحته في حياته.
علمك وما علمك؟!
مسئوليتك وما مسئوليتك؟!
أحاطت بعلوم الدنيا فأهملت الأخرى الباقية، شغلت به في حياته، وأهملته بعد مماته، بنيت له بيت الطين والإسمنت في دنياه، وحرمته بيت اللؤلؤ والياقوت والمرجان في أخراه.
نظرتك وما نظرتك؟!
طموحك، أمَلُك، غاية مُنَاكَ أن يكون طبيباً أومهندساً أوطياراً أوعسكرياً.
ويا لله كل الأماني دنيوية! السعي والجد للفانية مع إهمال الباقية.
هذه ليست حالة نادرة، بل قسم من الناس على ذلك.
تأهبوا واستعدوا وعملوا على تربية أبنائهم أجساداً وعقولاً، وأهملوا تربية القلوب التي بها يحيون ويسعدون، أوبها يشقون.
هذا هوالواقع، والأدلة على ما نقول هاكها أيها الأب الحنون: هب أن ابنك تأخر في نومه عن وقت الامتحان، ما حالتك؟ ما شعورك؟ ألا تسابق الزمن ليلحق الامتحان؟ ألا تنام بعدها بنصف عين لئلا يفوته الامتحان؟
كأن الجواب يقول: بلى.
هل كان شعورك حين نام عن صلاة الفجر كشعورك حين نام عن امتحانه؟ ألا تسأله كل يوم عن امتحانه؟ ماذا عمل؟ وبماذا أجاب؟ وعسى أن يكون الجواب صحيحاً؟
فهل سألته عن أمر دينه يوماً ما؟
ألا يضيق صدرك ويعلو همُّك حين تعلم أن ابنك قصَّر في الإجابة؟ فهل ضاق صدرك حين قصَّر في سنن دينه وواجباته؟
ألا تأتيه بالمدرس الخصوصي إن لم يستطع تجاوز الامتحان، وتعطيه ما يريد؟
ألا تمنعه من الملاهي التي رحبت بها في بيتك من فيديو وتلفاز وصحف ومجلات لئلا تشغله عن المذاكرة والاستعداد للامتحان؟
فما عساك فاعل أيها الأب الحنون في امتحان ليس له دور ثان، ولا إعادة، ولا حمل للمواد؟ فقط نجاح أورسوب، والرسوب معناه الإقامة في النار أبد الآبدين، معناه الخسران المبين، والعذاب المهين؟
ماذا تغني عنه شهادته ومركزه وماله إذا أُوتيَ كتابه بشماله، ثم صاح بأعلى صوته: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة:25 - 28].
ما أغنى عني مركزي، ما أغنى عني سلطاني، ما أغنى عني علمي الدنيوي وشهادتي، كل ذلك هَلَك واندَثَر: {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} [الحاقة:29 - 31].
خسارة ورسوب، وأي خسارة وأي رسوب؟
تكون في الدنيا طبيباً أومهندِساً أورسَّاماً أومُدرِّساً، أما الآخرة فمؤمن وكافر، فريقان: فريق في الجنة، وفريق في السعير.
لا نقول: اهملوا أبناءكم، ولا نقول: دعوهم، لا والله، بل نقول: إن الآخرة هي أولى بالاهتمام، وأجدر بالسعي، وأحق بالعمل.(8/2)
تربية الأبناء على عبادة الله
أيها الأحبة: مَن أب حرص على جلب مرب لابنه يعلمه القرآن ويدارسه السُّنَّة؟ قليل من فعل ذلك، وليت الذي لم يفعل إذ لم يفعل جَنَّب ابنه عوامل الفساد والإفساد، لكن البعض حَشَفاً وسوء كيل، جلب لابنه سائقاً وخادماً وسيارة، وهيأ له بيتاً ملأه بكل الملهيات عن ذكر الله وطاعته.
من أب فيكم أعطى لابنه جائزة يوم حفظ جزءاً من القرآن، أوتعلَّم حديثاً لخير نبي الإنسان عليه الصلاة والسلام؟ قليل من فعل ذلك، ونسأل الله أن يبارك في القليل.
لكنَّ البعض منا يَعِد ابنه إن نجح بقضاء أمتع الأوقات على الشواطئ في أي البلاد، وما وعد ابنه مرة إن نجح بزيارة مسجد رسول الأنام عليه الصلاة والسلام.
فماذا كانت النتيجة؟
النتيجة: أن نشأ نشء منا مِن أبنائنا يعرفون بلاد الكفر أكثر مما يعرفون مكة والمدينة النبوية.
النتيجة: أن اتجه شبابنا إلى الملاعب يوم نادى المنادي: حي على الصلاة، حي على الفلاح.
النتيجة: أن حلّ محل المصحف مجلة، ومحل السواك سيجارة.
النتيجة: أن نشأ فينا نشء كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون.
إن ابناً بنيناه جسداً حَريٌ بنا أن نربي عقله وقلبه، ونهتم بحياته بعد موته، وأول خطوة إلى ذلك: أن نصلح أنفسنا؛ ففي صلاحنا وبصلاحنا تكون استقامتهم، ورعاية الله لهم، قال تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} [الكهف:82].
وثانيها: أن نجعل التربية الإسلامية غاية وهدفاً، لا مانع من تعلُّم العلوم الدنيوية، ولكن ليس على حساب الاهتمام بالآخرة: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77].
فيا عبد الله: اتقِ الله في رعيَّتك؛ فأنت عنهم مسئول أمام الله.
اتق الله أن يستأمنك الله عليهم فتشرع لهم أبواب الفتن؛ من أفلام وأجهزة خبيثة عديدة، ومجلات فاتنة صفيقة.
يا عبد الله: يوم تهتم هذا الاهتمام المادي بابنك يصبح ابنك مركِّزاً كل همِّه في ثوبه وغترته ومسكنه ومأكله ومشربه وسيارته.
جزاك الله خيراً على اهتمامك به مادياً، لكن ماذا فعلت لتؤنسه في وحدته إذا ما دفنته في التراب؟
ما أنت صانع بشهادته؟
قد يرسب الآن في مادة أومادتين، قد ينجح فيهما غداً أوبعد غد، والمجال مفتوح للتعويض، لكن لا تعويض في الآخرة.
أعمال العمر كله تعرض للتصحيح في وقت واحد، عليها لِجَان دقيقة، وسجلات وثيقة، لا تغادر صغيرة ولا كبيرة، لجنة كالمحْكَمَة؛ رئيس وأعضاء وشهود ومحام ومدعٍ عام، أما الرئيس - فسبحانه وبحمده - أحكم الحاكمين، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأما أعضاء المحكمة فملائكة الحساب، وأما الشهود فمنك وفيك؛ هم الأعضاء: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يكسبون} [النور:24].
وأما المدَّعي العام فهي الرسالة التي بلغتك من الله، عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما المحامي فهوالقرآن الذي يأتي يوم القيامة حجيجاً لك أوحجيجاً عليك.
يا عبد الله: يوم غد ليس مضموناً، قد تسعى وتتعب وتزرع فلا تحصد، قد تدرس وتختبر فلا تدرك النتيجة، أما وقد بلغتك الرسالة فقد وجب الامتحان ووجبت النتيجة.(8/3)
وصية لقمان لابنه
يا أيها الأب الحنون: أدعوك إلى التأمل في وصية لقمان لابنه الذي يحبه، ويفتديه بالغالي والنفيس.
هل أوصاه بدنيا؟ هل أوصاه بزخرف؟
لا.
بل دعاه لما يحييه حياة طيبة، وينجيه من العذاب الأليم، نهاه أن يشرك بالله: {إنَّ الشَّرْكَ لَظُلْمُ عَظِيمٌ} [لقمان:13] وأخبره أن الله محيط بكل شيء، فلا يعجزه شيء، ودلَّه على ما ينجيه من الله؛ ألا هوالهرب منه إليه -تبارك وتعالى- بإقامة الصلاة، بالأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، بصبر على ما يصيبه من جرَّاء ذلك، ثم يدلَّه على مكارم الأخلاق التي تسمو بها نفسه، ويعلو بها مركزه.
فلا تكبُّر على الخلق، ولا ذلة مع قصد في المشية، وخفض في الصوت: {إنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوتُ الحَمِيرِ} [لقمان:19].
تلك -يا عبد الله- جملة وصية الأب الحنون حقاً، فهل رجعت إلى القرآن فقرأت هذه الوصايا، فعملت بهذه الوصية مع ابنك؟
هل أوصيته ببعضها أوبها جميعها؟
لا إله إلا الله! إن ديدن بعض الأباء تثبيط هِمَم أبنائهم، وتكسير مجاديفهم -أقول ذلك ونحن نعيش التدريس عن كثب- إذا ما هدى الله ابن بعضهم ذعروا وهبُّوا ووصفوه بالوساوس، ووسموه بالعُقَدِ النَّفسية، سخروا منه وهزئوا به، ولا أدري أيسخرون من شخصه أم من دينه الذي يحمله ويمثله: {أَفِي قُلُوبِهِم مرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللهُ عليهم} [النور:50].
أهذه هي الأمانة أيها الأب؟ {ما من راعٍ استرعاه الله رعية فبات غاشاً لهم إلا حرم الله عليه رائحة الجنة}.
عباد الله: ولنا في سِيَر الأخيار عظات وعِبَر، لقد امتحنوا فنجحوا وتفوَّقوا:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبُّه بالكرام فلاح(8/4)
وصية عمر لأبنائه
هاهو عمر بن عبد العزيز -عليه رحمات رب الجليل- يعود يوماً بعد صلاة العشاء إلى داره -وهوخليفة المسلمين، مقدرات الأمة بين يديه- فيلمح بناته الصغار، فيسلم عليهن كعادته، وكنّ يسارعن إلى تقبيله، لكنهن هَرَبْنَ هذه المرة، وهنَّ يغطين أفواههن، فقال لزوجه: ما شأنهن؟ قالت: لم يكن لديهن ما يتعشين به سوى عدس وبصل، فكرهن أن تشم من أفواههن رائحة البصل، فبكى وأجهش بالبكاء وهو يئن تحت وطأة المسئولية، فميزانية الأمَّة تحت يديه، يقول: [[يا بنياتي! أينفعكن أن تتعشين أطيب الطعام والشراب، وتكتسين أجمل الثياب من مال الأمة، ثم يُأمر بأبيكن إلى النار؟]] قلن: لا.
لا.
ثم اندفعن يبكين.
فلا والله لا تسمع في البيت إلا الخنين والأنين.
لما حلَّت به سكرات الموت -عليه رحمة الله- دخل عليه مسلمة وقال: لقد تركت أبناءك فقراء جوعى فأوصِ بهم إليَّ أوإلى أحد من أهل بيتك، وكان مضطجعاً قال: أسندوني، ثم صرخ: [[والله! ما منعت أبنائي حقاً لهم، والله لن أعطيهم ما ليس لهم، أما أن أوصي بهم إليك أوإلى غيرك فلا، إن وصيَّ ووليَّ فيهم الله الذي نزل الكتاب وهويتولى الصالحين، إن بنيَّ أحد رجلين؛ إما رجل يتقي الله فسيجعل الله له مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب، وإما رجل مكبٌّ على المعاصي فوالله لم أكن لأقويه على معصية الله]].
ثم طلب جميع أولاده -وهم بضعة عشر- فاجتمعوا، فنظر إليهم، ثم ذرفت عيناه دموعاً حارةً، وقال: [[أفديكم بنفسي أيها الفتية الذين تركتهم فقراء لا شيء لهم، يا بني! إن أباكم خُيِّر بين أن تستغنوا ويدخل النار، أوتفتقروا ويدخل الجنة، فكان أن تفتقروا ويدخل الجنة أحب إليه من أن تستغنوا ويدخل النار، إن وليَّي فيكم الله الذي نزل الكتاب وهويتولى الصالحين، ثم تلا قوله تعالي: {تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا للذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوا فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]]].(8/5)
امتحان صلاح الدين
عباد الله: كلنا في امتحان، فبين راسب وناجح، والمادة هي لا إله إلا الله محمد رسول الله، بين عامل بمقتضاها قائم بأركانها وشروطها وواجباتها، قالها موقناً محباً منقاداً مستسلماً، صدق بها قلبه، وعملت جوارحه بها، فهو الناجح، وأي نجاح! وآخر قالها بلسانه وما صدقها بالعمل، فهو الراسب المنافق، وآخر لم ينطقها، فإلى جهنم وبئس القرار.
هاهي رسالة امتحان تأتي لـ صلاح الدين من أحد المسلمين على لسان المسجد الأقصى الأسير في يد الصليبيين يوم ذاك -واليهود اليوم مع الصليبيين- تقول الرسالة وهي امتحان واختبار لـ صلاح الدين:
يا أيها الملك الذي لمعالم الصلبان نكَّس
جاءت إليك ظِلامَةٌ تسعى من البيت المقدس
كل المساجد طهِّرت وأنا على شرفي منجَّس
فقام صلاح الدين يصوم نهاره، ويقوم ليله، ويشحذ هِمَمَ الأمة الإسلامية، ويصدر أوامره ألا يضحك أحد، ولا يمزح أحد، ولا يفكر أحد إلا باسترداد بيت المقدس، ويقودها حملة لا تبقي ولا تذر، بعد استعداد جيد للامتحان، فيدمر الصليب، ويحرر فلسطين والمسجد الأقصى؛ ليكون قدوة لمن يريد استعادة الأقصى السليب.
ثم ماذا بعد صلاح الدين أيها الإخوة؟
استيقظ اليهود يوم نمنا فدنَّسوه، ودخلوا إلى قبر صلاح الدين ورفسوه، وقالوا: ها قد عدنا يا صلاح الدين، فيا ليت صلاح الدين يرى المؤامرات على أقصانا، وما هدم العدو وما استباح، ليته يرى كيف بغى اليهود، وكيف أحسنَّا الصياح.
إن أسئلة الامتحان التي قُدِّمت لـ صلاح الدين، أسئلة الآن تُقدَّم لنا، لكن صلاح الدين حلَّ الأسئلة بنفسه، ونحن أحلنا حلَّ الأسئلة إلى غيرنا، فكان ما كان.
سقوا فلسطين أحلاماً منوِّمَة وأطعموها سخيف القول والخُطَب
لكني أقول: يا عباد الله! لا يأس، لا قنوط، سَتُحلُّ الأسئلة، وستبقى طائفة على الحق؛ لتقود الأمة ليعود الأقصى، وتعود فلسطين والعاقبة للمتقين:
لا يأس يسكننا فإن كبر الأسى وطغى فإن يقين قلبي أكبر
في منهج الرحمن أمن مخاوفي وإليه في ليل الشدائد نجأر
وإن عرف التاريخ أوساً وخزرجاً فلِلَّه أوس قادمون وخزرج
أيها الآباء: وأنتم تعدون أبناءكم للامتحان اتقوا الله فيهم، اعلموا وعلموهم أن سلعة الله أغلى وأعلى، علِّموهم أن الامتحان والنجاح بقَصْر النفس على ما يرضي الله، علموهم أن السعادة في تقوى الله، واعلموا أنتم أنه لن ينصرف أحد من الموقف وله عند أحد مَظْلَمَة.
يفرح ابنك أن يجد عندك مظلمة، تفرح زوجتك أن تجد عندك مظلمة، يأتي ابنك يقف يحاجّك بين يدي الله قائلاً: يا رب! سل أبي لِمَ ضيعني عن العمل لما يرضيك، ورباني كالبهيمة، ما يكون جوابك أيها الأب الحنون؟
أَعِدَّ للسؤالِ جواباً.
يا أيها الابن تيقَّظ وانتبه وأقبل بقلب على مولاك تظفر باهتدا
وقف بالباب واطلب منه فتحاً عسى تحظى به صبح امتحان
اللهم إنَّا نسألك أن تجعلنا من الفائزين الناجين يوم القُدُوم عليك يا أكرم الأكرمين!
اللهم إنا نسألك التوفيق لأبنائنا وبناتنا وإخواننا وأخواتنا.
اللهم لا تضيِّع تعبهم، ولا تبدِّد جهدهم.
اللهم ذكِّرهم ما نسوا، وعلِّمهم ما جهلوا، ووفِّقهم لخَيرَي الدنيا والآخرة يا أكرم الأكرمين.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(8/6)
الاستعداد لامتحان الآخرة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
إن يوم القيامة هو الامتحان الأكبر، وعندها يتبين الصادق من غيره.
هل صليت وصمت لله يا عبد الله؟ هل أطعت الله ورسوله؟ هل تحب الخير وأهله؟ هذه أسئلة تتردد على مسامعكم، هل تبغض الشر وأهله؟ هل تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ هل تحب للناس ما تحب لنفسك؟ هل سلمت أعراض المسلمين من لسانك؟ هل يطمئن قلبك بذكر الله؟ هل يتعلق قلبك بالله في الشدة والرَّخاء؟ هل نزّهت أذنك عن سماع ما يغضب الله؟ هل غضضت بصرك عن محارم الله؟ هل غضبت لله؟ هل أحببت في الله؟ هل أبغضت في الله؟ هل أعطيت ومنعت لله؟ هل استسلمت لأمر الله؟ هل استسلمت لأمره يوم يأمرك بالحجاب فحجبت أهل بيتك امتثالاً لقول الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59]؟
الأسئلة كثيرة تتردد عليك صباح مساء، إن كان الجواب بنعم: فأنت من الناجحين الفائزين بإذن رب العالمين، وإن كان الجواب بلا.
فعُدْ إلى الله ما دمت في زمن الإمهال، واندم وأقلع وردّ المظالم لأهلها قبل وضع الميزان، وتطاير الصحف، وعبور الصراط يوم ينسى الخليل خليله، والصاحب صاحبه، وكلٌ يقول: نفسي نفسي، والرسل تقول: اللهم سلِّم سلِّم.
أيها المُمْتَحِن -وكلنا مُمْتحَن-: تذكر وقوفك لاستلام النتيجة؛ يوم يوقف العبد بين كفتي الميزان، ويوكل به ملك، فإن ثقل ميزانه نادى بصوت يسمع الخلائق: لقد سعد فلان بن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً.
ذاك هوالنجاح، عندها يطرب ويفرح ويقول: {هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَه} [الحاقة:19].
وإن خفَّ ميزانه نادى المَلك بصوت يُسْمع الخلائق: لقد شقي فلان بن فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبداً.
فذاك هوالرسوب، عندها يقول: {يَا لَيتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَه} [الحاقة:25].
لا إله إلا الله! ما عساك فاعل يوم ينادى باسمك يا فلان بن فلان هلم إلى العرض على الله؟ قمت ولم يقم غيرك يا لضعفك! يا لشدة خوفك! يا لخفقان قلبك! يوم تقف بين يدي الملك الحق المبين، وبيدك صحيفة لا تغادر صغيرة ولا كبيرة.
يا لله لك! يوم تقرأ صحيفتك بلسانٍ كليل وقلبٍ كسير وحياءٍ من الله عظيم، بأي لسان تجيبه حين يسألك عن عملك القبيح؟
بأي لسان تجيب يوم يسألك -يا أيها الممتحن- عن عمرك فيما أفنيته، وشبابك فيما أبليته، ومالك -يا من جعلت الربا والفوائد عنواناً له- من أين اكتسبته، وفيما أنفقته؟ وعن علمك ماذا عملت فيه؟ بأي قدمٍ تقف غداً بين يديه؟ بأي عين تنظر إليه؟ بأي قلب تجيب عليه؟ ما تقول له إذا قال لك: يا عبدي ما أجللتني؟ أما استحييت مني؟ أما راقبتني؟ أستخففت نظري إليك؟ ألم أحسن إليك؟ ألم أنعم عليك؟
عندها تكاد تسقط فروة وجهك حياء من الله، فكيف بك إن شقيت؟
فيا أيها الممتحنون غداً -وكلنا ممتحن-: لمثل هذه المواقف فأعدوا، وتذكروا بامتحان الدنيا وقوفكم بين يدي المولى، استعدوا وأعدوا وتزودوا وخير الزاد التقوى.
جد واتعب -أيها الطالب- وانصب، فوالذي نفسي بيده! لن تجد طعم الراحة إلا عند أول قدم تضعها في الجنة:
فانتبه من رقدة الغفلة فالعمر قليل واطرح سوف وحتى فهما داء دخيل
أفق قد بنى الموت الذي ليس بعده سوى جنة أو حر نار تضرم
وتشهد أعضاء المسيء بما جنى كذاك على فِيهِ المهيمن يختم
فاتق الله وقًصِّر أملاً ليس في الدنيا خلود للملا
ألا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد فقد أمرتم بالصلاة عليه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وأهله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين.
اللهم انصر عبادك الموحدين.
اللهم أصلح من في صلاحه صلاح للإسلام والمسلمين، وأهلك من في هلاكه صلاح للإسلام والمسلمين.
اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه واجعل تدبيره تدميره، واجعل الدائرة عليه، واجعل كيده في نحره، وزلزل الأرض من تحت قدميه، اللهم لا ترفع له راية واجعله لمن خلفه آية، يا كريم! يا قوي! يا جبار!
اللهم برحمتك اغفر لجميع موتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك.
اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم وأكرم نزلهم ووسع مدخلهم واغسلهم بالثلج والماء والبرد.
اللهم ارحمنا برحمتك إذا ما صرنا إلى ما صاروا إليه، اللهم آنس وحشتنا في القبور، وآمن فزعنا يوم البعث والنشور.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(8/7)
كل يغدو
الناس في مسيرهم إلى الله منقسمون إلى فريقين اثنين: إما غاد لإيباق نفسه وإما غاد لإعتاق نفسه.
وفي هذه المحاضرة المباركة توضيح لهذين الطريقين، وتبيين لبعض معالمها.
فانظر -أيها القارئ الكريم- أي الغاديين أنت، واتبع سبيل النجاة تسعد في دنياك وأخراك.(9/1)
بعض معجزات النبي صلى الله عليه وسلم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، شهادة عبده وابن عبده وابن أمته، ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صمّاً، وقلوباً غلفاً.
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
يقول المولى -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
ويقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
ويقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2].
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وأسأل الله الذي جمعني وإياكم في هذه الروضة، أن يجمعنا وإياكم في روضات الجنان، إنه سميع مجيب وعلى كل شيء قدير.
إني مُسَائِل مساءلة:
إلى كم ذا التراخي والتمادي وحادي الموتِ بالأَرْوَاح حادي
فلو كنا جماداً لاتعظنا ولكنا أشد من الجمادِ
تنادينا المنيةُ كلَ وقتٍ وما نصغي إلى قولِ المُنادِي
وأنفاسُ النفوسِ إلى انتقاصٍ ولكن الذنوبَ إلى ازديادِ
إذا ما الزرعُ قارنه اصفرار فليس دواؤه غير الحصادِ
كأنك بالمَشِيبِ وقد تَبَّدى وبالأُخرى مُناديها ينادي
وقالوا قد قضى فاقْرُوا عليه سلامَكم إلى يومِ التَنَادي
إخوة الدين والعقيدة: لم خلقنا؟ لم أُوجدنا؟ ما الهدف وما الغاية؟ آلهدف أن نأكل؟ آلهدف أن نشرب، أن نلبس، أن نتمتع؟
لا والذي رفع السماء بلا عمد ما خُلِقنا إلا لعبادة الله جل وعلا القائل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:57 - 58]، والقائل تبارك وتعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116].
أما والله لو عَلِمَ الأنامُ لما خُلِقوا لما هَجَعُوا وناموا
مماتٌ ثم حشرٌ ثم نشرُ وتوبيخٌ وأهوالٌ عظامُ
ليومِ الحشرِ قد عملت أناسٌ فصلوا من مخافته وصاموا
ونحن إذا أُمِرنا أو نُهِينا كأهلِ الكهفِ أيقاظٌ نِيامُ
جعل الله لنا طريقًا مستقيماً فقال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} [الأنعام:153] وأنزل لنا القرآن، حجة لنا أو علينا، وأرسل إلينا رسولا شاهداً علينا ومبشراً ونذيراً صلى الله عليه وسلم جاءنا بالآيات الباهرات، وبالآيات البينات، وبالمعجزات الظاهرات، هاكم بعض هذه المعجزات قبل أن نبدأ فيما نحن نريد أن نبدأ فيه.(9/2)
أعظم معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم
أول معجزة جاءنا بها المصطفى صلى الله عليه وسلم هذا القرآن الذي بين أيدينا، والذي هجرناه وتركناه؛ فكان لنا ما كان، حبل الله المتين، من تمسك به هُدِي، ومن ابتعدَ عنه ضلَّ وانحرف وإلى النار وبئس القرار، وجاءت معه الآيات الأخرى؛ لتقيم الحُجَج على الذين يريدون أن يتنكبوا الطريق.(9/3)
الذئب يشهد بالرسالة
روى الإمام أحمد -رحمه الله- في مسنده: أن أعرابياً خرج بغنمه على عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم ليرعى الغنم، وبينما هو مع غنمه إذ بذئب يعدو على شاة، فيتقدم فيأخذ الشاة من فم هذا الذئب، فيكون من هذا الذئب أن يُقعِي عنه بعيداً، ويقول له -ويتكلم كلام الإنس-: أما تتق الله؟! تأخذ رزقًا ساقه الله إليَّ.
فقال: يا عجبي! ذئب يتكلم كلام الإنس.
قال الذئب: وأعجب من ذلك رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم بشر يخبركم بأنباء من سبق.
فلم يملك الأعرابي نفسه، وأخذ غنمه وسار بها إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم فيدخل بها المسجد، ويضعها في زاوية من زوايا المسجد؛ ليدخل إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم ويخبره الخبر، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن نادى في الناس: الصلاة جامعة.
فاجتمع الناس كلهم، فقال للراعي: قل لهم ما رأيت، وما سمعت، فقام فذكر قصته مع الذئب، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: {صدق والذي نفسي بيده! لا تقوم الساعة حتى يكلم السباع الإنس} ولقد حصل هذا على عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم.
هذه آية حصلت على عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم، فانقسم الناس أمامها إلى فريقين؛ فريق آمن وصدق، وفريق آخر تنكب الطريق، والفريقان مقتسمان إلى قيام الساعة.(9/4)
حادثة انشقاق القمر
روى مسلم: أن أهل مكة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية ليؤمنوا به، فطلب من الله جل وعلا أن يريهم آية، فانفلق القمر في تمامه نصفين، نصف على جبل أبي قبيص ونصف على الجبل المقابل له، فماذا كان منهم؟ هل صدقوا وآمنوا كما وعدوا؟ ما كان منهم إلا أن تنكبوا، وقالوا: هذا سحر، سحر أعيننا محمد.
وقال المنصف منهم: نذهب إلى أهل البادية، ونرى هل رأوه في تلك الليلة قد انفلق فلقتين على الجبلين؟ فذهبوا إلى أهل البادية وسألوهم، فأخبروهم بأنهم قد رأوه قد انفلق فلقتين على الجبلين في تلك الليلة، فقالوا: سحر مستمر، عم الحاضرة والبادية!
نسأل الله العافية! إذا طمست البصيرة فلا تنفع آية، ولكنها حجج تقذف عليهم لتقام عليهم أمام الله جل وعلا: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر:1 - 2] سحر عمَّ الحاضرة والبادية.(9/5)
مخاطبة الحجر والشجر للرسول صلى الله عليه وسلم
ومن معجزاته صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث: أنه كان يمر على الشجر فيقول: السلام عليك يا رسول الله! ويمر على الحجر فيقول: السلام عليك يا رسول الله! روى مسلم في صحيحه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {والله! إني لأعلم حجراً كان يسلِّم عليَّ بـ مكة قبل أن أبعث} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.(9/6)
شكوى الظبية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم
والآيات كثيرة، وأكتفي بآية أخيرة ذكرها أبو نعيم في دلائل النبوة، يقول: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخرج ذات يوم خارج المدينة، وإذ بفسطاط -خيمة- ومشدود بهذا الفسطاط ظبية -غزالة- وإذ بها لما رأت المصطفى صلى الله عليه وسلم ذرفت عيونها الدموع، فتقدم إليها المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله! إن لي خشفين صغيرين -وليدين صغيرين- وأمسكوا بي ولم أرضعهما منذ الصباح، فأذن لي لأذهب لأرضعهما وأعود.
فقال: من صاحب الظبية؟ من صاحب الغزالة؟ قالوا: نحن يا رسول الله! قال: ائذنوا لها لتذهب وتعود.
قالوا: من يضمن ذلك يا رسول الله؟ قال: أنا.
فأطلقوها، فذهبت وأرضعت خشفيها، وعادت إليهم؛ وفاءً بالعهد -يوم ضاع الوفاء بين كثير من الناس- فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: أتبيعونها؟ قالوا: هي لك يا رسول الله! بلا بيع؛ فأطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم.(9/7)
الضب يشهد للرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة
آيات وآيات الضب يأتي به الأعرابي، ويرفعه في يده، ويقول: لا أومن حتى يشهد أنك رسول الله.
فيقول النبي صلى الله عليه وسلم للضب: {أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: أشهد أنك رسول الله}.
والآيات كثيرة وكثيرة.
لكن مع هذه الآيات، ومع أعظمها؛ وهو القرآن وجدت عقول جامدة، وقلوب فارغة ساهية لاهية غافلة، لا تقبل الحق ولا تؤمن به، كالكوز مُجَخِّياً، لا تعرف معروفاً، ولا تنكر منكراً.
أرأيتم لو أن كوباً وضع على وجهه، وأدخلنا فيه من المياه، وهو منصوب على ظهره لن يدخل فيه قطرة واحدة، وهم يستحقون أن يوصفوا بهذا الوصف: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].(9/8)
أحوال الناس في مسيرهم إلى الله
هل اكتفى النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات؟ لا والذي رفع السماء بلا عمد، بل وقف يوم نزل عليه قول الله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] فنادى، وعمَّ وخصَّ، وقال: {يا بني كعب! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم! أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد! أنقذي نفسك من النار، لا أغني عنكم من الله شيئاً، لا يغني أحد عن أحد}.
فغدا البعض بعد هذا وانقسموا إلى قسمين، غدا البعض منهم لإعتاق نفسه من النار؛ فهو الفائز، وغدا البعض الآخر ليوبق نفسه، ويهلك نفسه، فهو الخاسر.
وكل يغدو، فبائع نفسه، فمعتقها أو موبقها، وهذا هو عنوان المحاضرة.
انظر من أي الفريقين أنت؟ وصنف نفسك مع أي الصنفين تكون، وانظر أي الغاديين أنت، حدد موقعك، واعرف مصيرك، فأنت أحد غاديين لا محالة.(9/9)
أحوال الناس مع التوحيد
أما غاد فيغدو من بيته ليهلك نفسه، وليوبق نفسه؛ بالإشراك بالله -الذي لا إله إلا هو، إن تكلم فلا تسمع إلا ألفاظ الشرك تفوح من فمه، وألفاظ الشرك ما أكثرها، متعددة بين الخلق الآن وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، يخرج الرجل من بيته، وفي أدنى المواقف لا تسمعه إلا يستعين بغير الله جل وعلا: خذوه واعملوا به وافعلوا به وفي صلاته يردد بعد ذلك: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] أين الاستعانة التي قصرتها على الله جل وعلا أتقولها في المسجد، فتخرج من المسجد فتخالف هذه الكلمة، فتوبق نفسك وتهلك نفسك؟ اتق الله يا عبد الله في هذه الألفاظ، وإياك أن تكررها فإنها شرك: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72] {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] فاعصم لسانك من هذه الكلمة، فإن زللت ووقعت منك فعد إلى الله، وقل بعدها: لا إله إلا الله.
إن أصيب أحدهم بمصيبة، بمرض في نفسه، أو أهل بيته، أو في أبنائه، لم يعد إلى الله عز وجل لم يعد إلى من يشفي، لم يعد إلى من بيده الشفاء، وإنما يذهب إلى السحرة، والكهنة، والمشعوذين، فيبيع دينه ودنياه، ناسيًا قول النبي صلى الله عليه وسلم: {من أتى كاهنا أو عرَّافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم}.
يغدو الغادي من هؤلاء فيحلف بكل شئ إلا بالله، يحلف بالطلاق، يحلف بالحياة، يحلف بالأمانة، يحلف بالذمة، يحلف بالحرام، لكنه لا يحلف بالله الذي لا إله إلا هو، لا يحلف بالله العظيم الذي يستحق أن يعظم، والحلف يقتضي تعظيم المحلوف به، ناسياً أو متناسياً قول مصطفاه صلى الله عليه وسلم يوم يقول: {من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك} {من حُلِف له بالله فليرض، ومن لم يرضَ فليس من الله} {من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت}، وإذا حلف لك بالله -يا عبد الله- فإياك أن توبق نفسك، وارض بهذه اليمين، وكِلْ السرائر إلى الله جل وعلا.
هاهو كما في البخاري: إسرائيلي يحتاج إلى دنانير، فيذهب إلى آخر فيطلب منه قرض مائة دينار، فيقول له: هل لك من كفيل؟ قال: والله ما لي من كفيل إلا الله، قال: كفى بالله كفيلاً، فهل لك من شاهد؟ قال: ما لي من شهيد إلا الله، قال: كفى بالله شهيداً.
فدفع له المائة دينار، وأخذها وواعده على أن يفي بهذا الوعد، وأن يرد له هذه القرضة في يوم معين، وعبر البحر إلى الشاطئ الآخر، وذهب إلى أهله وجمع هذه المائة دينار، وجاء ليرجع بها ليوصلها إلى من أقرضه إياها، ورضي بالله كفيلاً وشهيداً، جاء إلى ساحل البحر فلم يجد سفينة توصله إلى هناك، فبقي اليوم الأول، ثم اليوم الثاني، ثم في اليوم الثالث أخذ خشبة؛ عوداً من حطب، وحفر فيه حفرة، ثم أخذ المائة الدينار وأدخلها فيه، وذاك ينتظر على الشاطئ الآخر ثلاثة أيام، يريد أن تعاد له قرضته، ويقول: حسبي الله ونعم الوكيل.
ظن أنه خانه، ظن أنه غدر به، وما كان من هذا إلا أن أخذ الدراهم والدنانير ووضعها في الخشبة، ثم قال: يا رب؛ اللهم إني استقرضته فأقرضني، فلم أجد كفيلاً إلا أنت فرضي بك، ولم أجد شهيداً إلا أنت فرضي بك، اللهم فبلغه هذه الدنانير، ثم رمى بالخشبة في البحر.
ويرسل الله الريح، وتأخذ الخشبة إلى الشاطئ الثاني، ويقابلها هذا هناك وهو ينتظر السفينة فلم يجد، قال: أعود بهذا العود حطباً لأهلي خير من أن أعود بلا شيء، فأخذ هذا العود، وهو لا يعلم ما بداخله، وذهب به إلى أهله يريد أن يجعله حطباً، وجاء ليكسر العود وإذ بالمائة دينار في وسطه، فقال: لا إله إلا الله، من رضي بالله كفاه الله، من توكل على الله كفاه الله.
فهل رضينا بالله؟!
غادٍ يغدو ويُحْلف له بالله فلا يرضى بالله، ويحلف له بغير الله فيرضى بذلك: {وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها}.
وذاك غاد آخر يغدو لإعتاق نفسه، إن تكلم فبذكر الله، وإن استعان فبالله القادر، وإن سأل فبالله المعطي.
لا تسألنَّ بُنَيَّ آدمَ حاجةً وسل الذي أبوابه لا تحجبُ
الله يغضب إن تركت سؤالَه وبُنَي آدمَ حين يُسْألُ يغضبُ
إن أصيب بأمر من الأمور بمرض من الأمراض بمصيبة، لجأ إلى الله الذي يجبر كسر المصابين، ثم طلب الأسباب الشرعية، لا الأسباب الشركية، إن حلف فبالله، وإن حُلِفَ له بالله رضي، فهو غاد في حفظ الله، وعائد في عناية الله، وكل يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.(9/10)
أحوال الناس مع الصلاة
وغاد آخر يغدو ليترك الصلوات، ويتبع الشهوات، فيوبق نفسه، كأنه لم يسمع قول ربه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] وقال في الآية الأخرى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5] وويل وغي أودية في جهنم، تستعيذ جهنم من حرها، لو سيِّرت فيها جبال الدنيا لذابت من شدة حرها: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42 - 43].
ويغدو بعض الناس إلى الملاعب ويترك المساجد، يغدو إلى كل مكان إلا هذه البقعة التي فيها الصلة بالله جل وعلا.
الصلاة ركن مهم، ومن أهميته فرضه الله عز وجل من فوق سبع سماوات، يُسرى بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، ويعرج به إلى السماوات العلى، لتفرض عليه خمسين صلاة، ثم تخفف إلى خمس بأجر خمسين، فضلا من الله ونعمة، فله الحمد أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً.
ومع ذلك يغدو الغادي فيتركها، ألا إن من تركها فقد كفر.
ذاك قول نبينا صلى الله عليه وسلم: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، من تركها فقد كفر}.
والكفر يترتب عليه أمور -الذي يترك الصلاة وينصح فلا يعود- لا يزوج، وإن كان متزوجاً بطل نكاحه، ويفسخ العقد ولا تطلق؛ لأنها اختلفت الملة هاهنا، وإذا مات لا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلَّى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يرث ولا يورث، ولا يستغفر له: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة:113] وهناك غاد آخر ما ترك الصلاة، لكنه غدا ليصليها في بيته، وقد فوت على نفسه أجراً عظيماً، وارتكب إثماً كبيراً، إن الله جل وعلا يقول: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] ويقول أيضًا: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:36 - 37].
تقول عائشة رضي الله عنها كما في الصحيح: {يكون النبي صلى الله عليه وسلم في مهنة أهله؛ يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويعجن عجينه، فإذا سمع الله أكبر، فكأنه لا يعرفنا ولا نعرفه}، ناداه منادي الله جل وعلا فترك كل شيء وذهب إلى المسجد، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هو القائل -كما في البخاري - روى سمرة بن جندب في رؤيا النبي- صلى الله عليه وسلم- ورؤيا الأنبياء حق ووحي- يقول: {أتاني الليلة آتيان فانطلقا بي حتى أتينا على رجل مضطجع -ممدود- وآخر قائم عليه بصخرة، فإذا هو يثلغ رأسه بالصخرة، فيتدهده الحجر، ويشدخ رأسه، ثم يصحُّ رأسه ويعود كما كان، ثم يأخذ الحجر مرة أخرى ويفعل به مثلما فعل في المرة الأولى، قال: قلت: سبحان الله! ما هذا؟ قال: هذا الرجل يقرأ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة}.
أما إن الذي لا يصلي مع المسلمين والذي يترك الصلاة قد رفض القرآن أولاً، ونام عن الصلاة المكتوبة ثانياً، وكفاه عقاباً مثل هذا الحديث، كفاه تهديداً مثل هذا الحديث إن كان له قلب: {ثلاثة لعنهم الله: رجل أَمَّ قومًا وهم له كارهون، وامرأةٌ باتت وزوجها عليها ساخط، ورجل سمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لم يجب}.
يقول أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه: [[لأن تمتلئ أذنا ابن آدم رصاصاً مذاباً، خير له من أن يسمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لا يجب]].
وكانت علامة المنافقين: أنهم إذا سمعوا حي على الصلاة تأخروا وأعرضوا، لذلك يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أنطلق برجال معي معهم حزم من حطب فأحرق عليهم بيوتهم بالنار}.
وفي رواية أخرى: {ولولا ما فيها من النساء والذرية لفعلت ذلك} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
أفيغدو الغادي فيترك الصلاة؟! أفيغدو الغادي فيترك الجماعة؟! والله! لو لم يكن في الجماعة إلا يوم أن تخرج من بيتك، فما من خطوة تخطوها إلى المسجد إلا كان لك بهذه الخطوة حسنة، ومُحِي عنك سيئة، ورفعت لك بها درجة، والله من فرط في هذا الأجر فهو لما سواه أكثر تفريطاً، وهو لما سواه أكثر غفلة وسهواً -يا أيها الإخوة-
فهذا غاد وكلكم غاد، فمنكم من يوبق النفس، ومنكم من ينجيها ويعتقها.
أما الآخر: وهو الذي عرف الله جل وعلا، وعلم أن الله عليه رقيب، وأنه له حسيب، فيغدو إلى المسجد ليصلي مع جماعة المسلمين، فيعد الله له في الجنة منزلاً كلما غدا أو راح، ويا لها من منقبة عظيمة -ناهيك عما ذكرت قبل قليل- ساهم فيها المسلمون، وركض إليها صحابة رسول الله، ولا زال يركض الراكضون لهذه الفضيلة، أن يعد لك في الجنة منزلاً كلما غدوت وكلما رحت.
هاهو ثابت بن عامر بن عبد الله بن الزبير كان كثيرًا ما يقول: اللهم إني أسألك الميتة الحسنة.
فيقول أبناؤه: أبتاه! تكثر من هذه الدعوة، فما الميتة الحسنة؟ قال: أن يتوفاني الله وأنا ساجد.
وتحل به سكرات الموت قبل صلاة المغرب، فيقول لأبنائه -وقد سمع المنادي ينادي: الله أكبر الله أكبر-: احملوني إلى المسجد، قالوا: قد عذرك الله من فوق سبع سماوات، أنت مريض، أنت معذور، قال: لا أسمع حي على الصلاة حي على الفلاح ثم لا أجيب، احملوني إلى المسجد، فأخذوه بينهم حتى وضعوه وأقاموه بالصف وهو في سكرات الموت، فأدخلوه في الصف، فصلى وعندما سجد كانت السجدة الأخيرة؛ ليلقى الله عز وجل وهو ساجد: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]؟ وهاهو حاتم الأصم -عليه رحمة الله- يتخلف مرة واحدة عن الجماعة، فيأتيه بعض أصحابه يعزونه في تخلفه عن الجماعة -وكان يعزي بعضهم بعضاً في تخلفهم عن الجماعة- قالوا: أحسن الله عزاءك في جماعة قد فاتتك، وكانوا قلة، فبكى -رحمه الله- قالوا: ما يبكيك؟ قال: فاتتني جماعة فلم يأتني إلا بعض أهل هذه المدينة، ولو مات أحد أبنائي لعزاني أهل المدينة كلها، ووالله لفوات أبنائي جميعا أهون عليَّ من فوات هذه الجماعة؛ لأنه يعلم أن هذه تنفعه، أما الولد فالله أعلم، هل ينفعه أم لا ينفعه؟ وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.(9/11)
أحوال الناس مع الدعوة إلى الله
غاد آخر يغدو لإهلاك نفسه، فيسلط قلمه، ويسلط لسانه، ويسلط سنانه -أعلى المجوس؟ أعلى اليهود؟ أعلى النصارى؟ ليس على هؤلاء كلهم وإنما يسلطها- على إخوانه المسلمين، ويا له من غاد أوبق نفسه، يسخر بالمسلمين، ويستهزئ بدين الله، ويستهزئ بآيات الله؛ ليرتكب جريمة هي أعظم جريمة، ويا ليتها تكفي لوحدها! لكن هي دعوة إلى ضلال، قد يتبعه غيره، فيكون عليه هذا الوزر، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، وما أكثر دعوات الضلال!
-يا أيها الإخوة- ما أكثر الذين يسخرون بدين الله في هذا الوقت، ويحاولون إنقاص رجال العلم والتقوى في نظر الناس، ليفقدوا أهميتهم عند الناس، فيضل الناس، ما أكثر هؤلاء! لكن نقول لهم: ليبوءوا بالكفر، من مات بغيظه منهم له كفن.
يطالعنا أحدهم ويغدو ليخرج ما في جعبته من السموم التي أبت إلا أن تخرج، أبى النفاق إلا أن يلقي براقعه إذ حان حين الواقعة، يخرج أحدهم ليكتب ما سمعتم وما تسمعون، ويخرج الآخر ليقول:
لم يبق من كتبِ السَّماءِ كتابُ مات الإله وعاشت الأنصابُ
جل الله تبارك وتعالى، هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم.
ويغدو الآخر ليسخر بدين الله، ويسود الصفحات بالسخرية بدين الله - جل وعلا- ممثلاً في رجال الحسبة، رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذين لا زالوا يرقعون ويسدون في سفينة نجاة الأمة، وهؤلاء يخرقون كل يوم خرقاً.
نقول لهؤلاء: اتقوا الله جل وعلا إن كنتم تعلمون أنكم ستعودون إلى الله، عودوا إلى الله جل وعلا ويا ليت هذا الكلام كان من غيرهم، لكن نقول -يا أيها الإخوة- ما قال القائل:
ولو أني بُلِيتُ بهاشمي خؤولته بنو عبد المدانِ
لهان علي ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني
إذا عيَّر الطائي بالبخل مادر وعير قساً بالفهاهة باقل
وقال السُّها للشمس أنت كسيفة وقال الدجا للبدر وجهك حائل
فيا موت زر إن الحياة ذميمةٌ ويا نفس جدي إن دهرك هازل
إن الاستهزاء بآيات الله كفر وأي كفر.
تعلمون وقعة تبوك، وماذا كان موقعها؟ وماذا كانت المسافة فيها؟ وماذا كان الجو في تلك الموقعة؟ يخرجون من المدينة في شدة الحر، وفي مفاوز في صحاري يبيد فيها البيد، ويضيع فيها الذكي والبليد، يقطعون الفيافي والقفار تحت حرارة الشمس، ما معهم إلا الدواب التي تعرفون، أصابهم الجوع حتى إن أحدهم في ليلة من الليالي، قام ليبول فبال على جلد فأحس أنه جلد، فنفضه من البول، وأحرقه وأكله من شدة الجوع، سبعمائة كيلو متر يقطعونها في تلك الفيافي والقفار.
وبعد هذا كله تقوم مجموعة منهم فتقول: تعالوا نقطع الطريق بالحديث، نتكلم ونتسلى، نخوض ونلعب كما يقولون، فماذا قالوا؟ قالوا: ما رأينا كقرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أجبن عند اللقاء، يعنون النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، والكلام يتجدد ويتجدد، وسودت به الصفحات في هذه الأيام: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:53] ماذا كان منهم؟ كان منهم أن جاء الخبر من السماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بالوقعة، وأعلن كفرهم من فوق سبع سماوات: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.
وآخر يغدو ليعتق نفسه، فيدعو الناس إلى توحيد الله، يدعو بقلمه، ويدعو بلسانه، ويدعو بهيئته، يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، يهدي الله به الضال، فيكون له مثل أجره لا ينقص من أجر ذلك شيء: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:71] أعتقوا أنفسهم، وغدوا في عتق أنفسهم.
وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.(9/12)
أحوال الناس مع الرضا بقدر الله
وذاك غاد آخر في دنياه، ويصاب بمصيبة فيوبق نفسه، ويهلكها، يتسخط من قضاء الله، ويعترض على قدر الله، ما علم أن المصائب متى ما احتسبت رفعت الدرجات، ليلقى المؤمن ربه وما عليه خطيئة من الخطايا، وما علم أن الله مع الصابرين، يصاب ذلك في دنياه، فيجعل الإصابة في دينه.
وكلُّ كسرٍ لعل اللهَ جابِره وما لكسر قناة الدين جُبْران
يقول عندما يصدم الصدمة الأولى، يوم يفقد حبيباً، يوم يصاب بمصيبة يقول: لم يا رب؟ يعترض على الله جل وعلا، ويتسخط من قضاء الله، يشق الجيب، ويلطم الخد، ويدعو بالويل والثبور وعظائم الأمور، والملائكة تؤمن على ما يقول، فإذا به قد خسر حبيبه، وإذا به قد خسر دينه مع حبيبه -نسأل الله العافية والسلامة- فإذا المصيبة مصيبتان.
يا أيها الإخوة: هل سيعود ميت إن ذهب؟ هل سمعتم بميت دُفن ثم عاد إليكم؟ ما سمعنا بذلك، الذي ذهب لا يعود، مرتهنون في القبور، قد حيل بينهم وبين ما يشتهون.
هاهو شاب من شباب السلف، كانت له زوجة تحبه حباً جماً، ويقضي الله عليه بالموت الذي لابد أن يقضى على كل نفس في هذه الحياة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فجزعت عليه، ولم تصبر، وإنما بكت، وتأثرت، وأقسمت لتبكين عليه عاماً كاملاً، وهذا ليس من الإسلام في شيء، فالإسلام يأمر بالصبر، ويأمر بأن يثبت الإنسان عند المصيبة، ويُرْجع الأمور إلى الله جل وعلا.
ما كان منها؟ أقسمت لتضعن خيمة عند قبره، وتجلس عنده عاماً كاملاً، تبكيه هذا العام الكامل كله، وذهبت بأولاده وجلست عاماً كاملاً تبكي، فما خرج إليها في يوم من الأيام يقول لها: أحسنت، أو ما قصرت، لم يخرج إلى أولاده يوماً من الأيام، ليمسح دمعة أحدهم عن خده، لم يخرج إليهم، ووالله لو خرج إليهم ما قبلهم، ولا نظر إليهم، وإنما اغتنم الفرصة في ركعة، أو سجدة، أو تسبيحة، أو قول لا إله إلا الله التي هم بحاجة إليها وحيل بينهم وبينها.
وبعد العام الكامل، بعد ما انتهى هذا العام أخذت أطناب خيمتها، وعادت إلى بيتها، لم تستفد إلا أنها جزعت، ولها جزاء الجازعين، وحينما جمعت أطناب الخيمة، إذ بهاتف يهتف ويقول: هل وجدوا ما فقدوا؟ وإذا بهاتف آخر يرد: ما وجدوا ما فقدوا، بل يئسوا فانقلبوا.
يئسوا فرجعوا إلى بيوتهم، الذي يذهب -يا أيها الإخوة- لا يعود، فما عليك يا أيها المؤمن المصاب إلا الصبر.
رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوتنا وقدوتنا وحبيبنا وإمامنا، ماذا كان منه صلى الله عليه وسلم؟ ابنه إبراهيم يوم يبلغ السنتين يموت بين يديه، فتدمع عيناه صلى الله عليه وسلم رحمة بهذا الطفل، فماذا يقول؟ يقول: {القلب يحزن، والعين تبكي، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون}، لا نقول إلا ما يرضي الرب وهو قدوتنا.
ترسل إليه إحدى بناته بأن ابنها في النزع الأخير، في حالة الاحتضار، ترسل إليه ليحضر، فيقول لرسولها الذي أرسلته: {مرها فلتصبر ولتحتسب، لله ما أخذ، وله ما أبقى، وكل شئ عنده بأجل مسمى} تسليم لله، له ما أخذ وله ما أبقى تبارك وتعالى.
ويعقوب عليه السلام يفقد ابنه وفلذة كبده؛ يوسف حبيبه يفقده أربعين عاماً حتى إن الملائكة جاءت إليه تعرض الخدمات عليه، وتقول: ألا تشكو؟ {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:86] مرد الأمور إلى الله.
وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.
أما الآخر فيغدو ليعتق نفسه، يصاب بالمصيبة فيحتسبها عند الله، فيعوضه الله ويبشره الله عز وجل {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157] وفي صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن من جزاء عندي إذا قبضت صفيه -أو خليله- من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة} ما له من جزاء إلا الجنة، ونعم الجزاء الجنة يا أيها الإخوة.
وعند الترمذي: {أن الله يقول للملائكة: قبضتم ابن عبدي؟ -والله أعلم بذلك- قالوا: نعم.
قال: أقبضتم فلذة كبده؟ قالوا: نعم.
قال: فماذا قال؟ -وهو أعلم تبارك وتعالى- قالوا: حمدك واسترجع -قال: الحمد لله، إنا لله وإنا إليه راجعون- قال: ابنوا له بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد؛ فهو كالكوكب الدري الغابر في الأفق في سماء الجنة} هذا هو جزاء الصابرين.
ولقد ذكر لنا التاريخ: أناساً كان منهم أن أصيبوا بمصائب فتحملوا، واحتسبوا، فمنهم:
عروة بن الزبير، ذلك المثل الحي للصبر، عروة يوم تأتي الآكلة فتصيبه في قدمه، فيقول الأطباء: نقطع القدم، قال: أصبر وأحتسب.
قالوا: نقطعها من الركبة.
قال: أصبر وأحتسب، وعندما زادت ورأى أنها ستسري إلى جسده كله، قال: الله المستعان، جاء الأطباء وتجمعوا يريدون قطع رجله، جاءوا بمناشيرهم -ما كان هناك مخدر- وقالوا له: تناول كأساً من خمر عله أن يذهب عقلك، فلا تجد ألم القطع، قال: كأس من خمر أشربه! عقل منحنيه ربي أذهبه بكأس من خمر؟ لا والله! ولكن إذا توضأت، ودخلت في صلاتي، وسبحت مع آيات الله البينات، فافعلوا برجلي ما تشاءون.
تركوه حتى وقف بين يدي الله، وتعلق قلبه بالله - يوم كانوا يصلون فيخشعون لله، ويعلمون أن الله قِبَل وجوههم- فيأتون عليه بالمناشير، فيقطعوا رجله، وتنزف الدماء، ويسقط مغشياً عليه، وفي هذه اللحظة ترفس دابة ابنه محمد فيموت، مصيبتان في آن واحد، رجله تذهب، وابنه يذهب، ويفيق من غشيته، فيقول له أصحابه: أحسن الله عزاءك في رجلك، وأحسن الله عزاءك في ابنك محمد، قال: الحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، رب إن كنت أخذت فقد أعطيت، وإن كنت ابتليت فقد عافيت، أعطيتني أربعة من الأطراف وأخذت واحداً، فلك الحمد أولاً وآخراً، وأعطيتني أربعة من الأولاد وأخذت واحداً، فلك الحمد أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157].
ويذهب ليدخل مجلس الوليد بن عبد الملك، ويوم دخل المجلس كان هناك طفل، فقال طفل الوليد للوليد: ما أظن أصاب عروة ما أصابه إلا بذنب قد ارتكبه، فسمع ذلك، فقال:
وأعلم أني لم تصبني مصيبة من الله إلا قد أصابت فتى قبلي
فقال الوليد: ابحثوا لنا عن أهل مصائب في هذا العام، عله يتسلى بهم، فإن مصيبته عظيمة.
وما علموا أنه فوض أمره إلى الله جل وعلا.
فخرجوا فوجدوا رجلاً عبدياً أعمى وراء قصر الوليد، فأخذوه وأدخلوه على الخليفة، قال: ما مصيبتك وما خبرك؟
قال: والله! ما كان في بني عبد رجل أغنى وأكثر مالاً وولداً مني، وجئت يومًا من الأيام فعزب لي قطيع من الإبل، فذهبت وراءه أتلمسه، وتركت أهلي، ومالي، وولدي في هذا الوادي، وبقيت ليلتين، وعدت بالقطيع، فإذا الديار خراب بلقع ليس بها داع ولا مجيب، جاء سيل فاقتشعهم كلهم؛ بقره، وغنمه، وكل ما يملك، ولم يبق إلا طفل صغير معلق في شجرة، لا زال في مهده، قال: فذهبت إليه وضممته إلى صدري، وقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، قال: ثم ندَّ بعير من الأبعرة، فلحقت به -لم يبق له إلا هذا القطيع الذي عزب- وإذ بصوت الطفل يصيح، فنظرت فإذا الذئب قد أخذه، وإذا به في فمه، فلم يبق له لا مال ولا أهل ولا ولد ولا أنيس، ما بقي إلا هذه المجموعة من الإبل، لكن من كان الله معه فلا يخاف، قال: فبقيت وراء هذا البعير أطرده لأرده، فرفسني برجله فأعمى بصري فبقيت في الصحراء أتلمس، لا مال، ولا أهل، ولا ولد، ولا بصر، ولا أنيس، ولا حبيب، وجئت إليك هنا، ووالله! ما جئت شاكياً، لكن جئت إليك لأخبرك أن من عباد الله أناساً يرضون بقضاء الله، ويسلمون إذا قضى الله أمراً: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:155 - 156].
وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.
ولا بأس بأن نذكر -أيضًا- حادثة أخرى، أبو ذؤيب الهذلي: ثمانية من أبنائه يصابون بالطاعون في يوم واحد، ويموتون كلهم في يوم واحد، فيسترجع ويحمد الله -عز وجل- ثم يتنفس بأبيات بعد ذلك، كانت من أم المراثي في الأدب العربي، يقول:
ولقد حرصتُ بأن أدافعَ عنهم وإذا المنيةُ أقبلت لا تُدْفعُ
وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمةٍ لا تنفعُ
وتجلدي للشامتين أُرِيهمُ أني لِرِيَبِ الدهر لا أَتَضَعْضَعُ
وكل يغدو!(9/13)
أحوال الناس مع ظلم العباد
وذاك غاد آخر ليهلك نفسه، ويهلك نفسه بأي شئ؟ بظلم عباد الله، ناسياً قول الله: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم:42] متناسياً أن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، متناسياً أن الله يرفع دعوة المظلوم فوق الغمام، ويقول: {وعزتي وجلالي! لأنصرنك ولو بعد حين}.
قطع من الله وعهد من الله، يوم يجمع الأولين والآخرين، يقول: {أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ وعزتي وجلالي! لا تنصرفون اليوم ولأحد عند أحد مظلمة، وعزتي وجلالي! لا يجاوز هذا الجسر اليوم ظالم} لن يجاوز جسر جهنم أحد وهو ظالم، حتى يقتص الله تبارك وتعالى منه وهو العدل سبحانه وتعالى ويأبى الظلم حتى لو كان على كافر.
هاهو سعيد بن زيد تأتيه امرأة فتشكوه إلى معاوية -رضي الله عنه- بأنه غصبها أرضها -وما كان لمثل سعيد أن يغصبها أرضها- فيقول: لقد ادعت عليك بأنك اغتصبت أرضها، فتدمع عيونه، ويقول: والله! ما كنت لأفعل ذلك، فلقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أراضين}.
أو كما قال، فلتضم أرضي إلى أرضها، وبئري إلى بئرها، ونخلي إلى نخلها، فإن كانت صادقة فذاك، وإن كانت كاذبة فأعمى الله بصرها، وأرداها في أرضها.
ويشاء الله ويعمي بصرها، وتذهب في هذه الأرض لا ترى، فتسقط في البئر متردية بدعوة المظلوم التي سرت في جوف الليل.
والبرامكة في عهد هارون الرشيد ماذا كان منهم؟ ما كان منهم إلا أن طغوا، وتجبروا، وظلموا، وتكبروا، حتى إنهم طلوا قصورهم بالذهب والفضة، ويوم يشاء الله عز وجل أن يقتص للمظلومين في هذه الحياة، وينتقم للمظلومين في هذه الحياة، فيسلط الله عليهم الخليفة، فيسجنوا ويقتل منهم من يقتل، ويسجن كبيرهم، ويدخل عليه أحد أبنائه في يوم عيد ويقول: أبتاه! بعد العز والغنى أصبحت في السجن وعلى التراب، قال: ألا تدري؟ قال: لا.
قال: يا بني! دعوة مظلوم سرت في جوف الليل، نمنا عنها وليس الله عنها بنائم.
لكن المظلوم لا ينام، لا تنام له عين، وإنما يناجي الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وبعض الناس -يا أيها الإخوة- جنَّد ظلمه على عباد الله، على الذين يريدون أن ينشروا النور بين عباد الله، فله عند الله -إذ هو من الصادين عن سبيله- النار وبئس القرار إن لم يعد إلى الله جل وعلا.
أما صنف آخر: دنيء سلط ظلمه على الحيوانات، شجاع لكن على القطط، جريء لكن على الكلاب، تجده يعبث فيها، يدوسها بسيارته، يقتلها، يتفنن في قتلها، وسأذكر لكم حادثة لهذه الحيوانات: في صحيح مسلم: {أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطًا من حيطان الأنصار -بستان- وإذ ببعير يأتي يجرجر وتذرف دموعه من عيونه - دموع البعير- فيقترب من النبي صلى الله عليه وسلم فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: لمن هذا البعير؟ قال فتى من الأنصار: لي أنا يا رسول الله، قال: أما تتق الله في هذه الدابة التي ملككها الله؟! تجيعها وتتعبها، لقد شكا إلي مما يلاقي منك}.
بهيمة سخرها الله لك، أفتظلمها وهي لا تستطيع أن تمتنع منك؟!
ورجل آخر أعرفه في قرية من قرى الجنوب، هذا الرجل جاء يوماً من الأيام فجاءه حمار على برسيم له، وتقدم على هذا البرسيم فأكل منه، فطرده، فجاءه في اليوم التالي، وكل يوم يذهب ويعود إلى هذا البستان ليأكل من هذا البرسيم، فأخذه في ليلة من الليالي -يوم قلَّت مراقبة الله عز وجل في قلبه- وربطه بسيارته وهو حي، ومشى به على الأسفلت حتى قطعه قطعاً، ويوم عاد ليدخل بيته، فإذا بيته مليء بالبعوض، فأخذ المبيد الحشري، ثم قام يرشه في هذه الغرفة، ويرشه حتى امتلأت بهذا المبيد، ثم أراد أن يضيء المصباح، ومع إضاءة المصباح قدحت هناك شرارة، فاشتعلت الغرفة عليه فأحرقته، وبعد ثلاثة أيام يلقى الله جل وعلا.
نسأل الله أن يعاملنا وإياكم برحمته، وأن يختم لنا بحسن الختام.
يا أيها الإخوة: ظلم الحيوانات ظلم كبير يا أيها الإخوة! فما بالكم بمن يظلم الإنسان الذي كرمه الله عز وجل؟
والأمثلة كثيرة: طاغية كان له قصر- ذكر ذلك وهب بن منبه، ذكره الذهبي في كتاب الكبائر - وجاءت عجوز ليس لها إلا الله عز وجل فبنت كوخاً خلف القصر، وخرجت يوماً من الأيام تبحث عن رزقها، فنزل هذا الرجل يتفرج في قصره، وإذ بهذا الكوخ يشوه منظر القصر، فما كان منه إلا أن قال: لمن هذا الكوخ؟ قالوا: لعجوز لا تملك إلا هذا، قال: اهدموه، فهدموه، فجاءت -ويوم جاءت- فإذا هو مهدوم، قالت: من هدم كوخي؟ قالوا: هذا الطاغية.
فرفعت يديها إلى الله، وقالت: يا رب! إن كنت أنا غائبة فأين أنت؟ فقلب الله القصر على من فيه: {وعزتي وجلالي! لا يجاوز هذا الجسر اليوم ظالم}.
يا ليت الظلمة يعلمون ذلك: {يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا}.
يأتي رجل من الدعاة إلى الله ينصح وزيراً من الوزراء، يأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر، يريد حياته، وذاك يريد موته، فيلطمه لطمة على خده، فيرفع يديه، ويقول: اللهم إنه لا ناصر لي إلا أنت، أسألك يا رب أن تقطع يده كما لطم خدي، وبعد أيام يؤخذ من قصره، وتقطع يده، وتؤخذ أمواله، ويوضع في السجن طريداً وحيداً فريداً، فقام يكتب على الحيطان:
ليس بعد الحياةِ لذةُ عيشٍ يا يميني بانت يميني فبِيْنِي
ويكتب على الحيطان ويبكي:
إذا ما مات بعضك فابك بعضاً فإنَّ البعضَ من بعضٍ قريبُ
{وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم:42].
آخر يغدو: ليعتق نفسه، لا يظلم أحداً، إن تكلم فبالعدل، إن حكم فبالعدل، إن خاصم فبالعدل، إن عاهد فبالعدل: {والمقسطون يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.(9/14)
أحوال الناس مع صلة الأرحام وبر الوالدين
وذاك يغدو: فإلى أين يغدو؟ يغدو ليقطع رحمه، يغدو ليوبق نفسه، يغدو لتحل به اللعنة: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23] {لما خلق الله الرحم -كما ثبت- تعلقت بالعرش وقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال الله عز وجل: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأن أقطع من قطعك؟ قالت: بلى رضيت}.
فمن وصل الرحم وصله الله، ومن قطعها قطعه الله، وبعضهم يغدو: ليعق والديه؛ والداه اللذان كانا في يوم من الأيام يجوعان ليشبع، ويظمآن ليروى، ويعريان ليكسى، ثم يأتي جزاء الإحسان عكسياً، أتعق والديك والله يقول: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23]؟! قرنها مع عبادة الله جل وعلا، ويوم يجيل المسلم سمعه وبصره، يوم يجيل هذا يسمع ويرى، ويا ليته لا يسمع ولا يرى، غُيِّر اسم الأب عند بعض الناس، وأُهِينت الأم في بيوت كثير من شباب الإسلام، فما تسمع إلا شيبة النحس، وعجوز الشؤم، والدعاء بالراحة منهما، يوم كانا سبباً في وجوده بعد الله جل وعلا.
إن رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله عز وجل في سخط الوالدين.
يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين}.
دعوة الوالدين -يا أيها الإخوة- لا ترد، دعوة الوالدين مستجابة، كم من دعوة من والدٍ أوبقت دنيا الولد وأخراه، وكم دعوة أخرى أسعدت دنيا هذا الولد وأخراه.
يقول أبان بن عياش: خرجت من عند أنس بن مالك بـ البصرة، قال: وإذ بجنازة يحملها أربعة نفر، قال: فقلت: مسلم يموت يمر بسوق البصرة، لا يشهد جنازته إلا أربعة نفر، والله لأشهدن هذه الجنازة، وإذ بامرأة وراء هؤلاء الأربعة، ويذهبون ويدفنونه وعندما انتهوا قال: ما هذا الرجل؟ وما حكاية هذا الرجل لا يدفنه إلا أربعة؟ أين المسلمون؟ قالوا: سل تلك المرأة، استأجرتنا لدفن هذا الرجل.
قال: فذهبت وراء المرأة حتى دخلت بيتها، وطرقت عليها الباب فخرجت، وقلت لها: يا أمة الله! ما هذا الرجل الذي دفنتموه اليوم؟ قالت: إنه ابني، كان مسرفًا على نفسه، عصى الله، وارتكب الموبقات، ويوم حلت به سكرات الموت، قال: أماه! أتريدين لي السعادة؟ قلت: نعم، قال: إذا حضرتني الوفاة فلقنيني كلمة التوحيد، ثم ضعي قدمك على خدي بعد أن أموت، ثم ارفعي يديك إلى الله، وقولي: اللهم إني أمسيت راضية عنه، فارض عنه، قالت: وكان منه ما كان، ثم قال: ولا تخبري أحداً بموتي، فإنهم يعلمون عصياني، فلن يشهدوا جنازتي، ففعلت الفعلة، قال: فماذا حدث؟ قال: فضحكت، قال: قلت: ما يضحكك؟ قالت: والله بعد أن دفنته، سمعت صوته يهتف ويقول: يا أماه! بدعوتك قدمت على رب رحيم، غير غضبان عليَّ ولا ساخط.
دعوة الوالدين مستجابة، دعوة الوالدين تحتاج إلى أن نكسبها ولو بذلنا في ذلك كل شيء، ولو بذلنا الأبناء، ولو بذلنا الزوجات، ولو بذلنا كل شئ في سبيل هذه الدعوة لهان ذلك.
منازل! مثل للعقوق عند العرب، شاب منهمك في اللهو والمعاصي، لا يفيق من سكرة إلا ويطيح بسكرة شهوة أخرى، من لذة إلى لذة، وأبوه يدعوه إلى الله، ويطلب منه أن يكف عن هذه المعاصي، وأن يرعوي فيلطمه يومًا من الأيام، فيحلف بالله ليحجن البيت، وليتعلقن بأستار الكعبة يدعو عليه، ويحج إلى البيت، ويتعلق بأستار الكعبة، ويقول:
يا من إليه أتى الحجاجُ قد قطعوا أرضَ المَهَامِه من قربٍ ومن بُعدِ
هذا منازل لا يرتد عن عَقَقِي فخذُْ بحقي يا رحمنُ من ولدي
وشلَّ منه بحولٍ منك جانِبَه يا من تقدَّس لم يُولد ولم يَلِد
فشل جانبه الأيمن.
دعوة الوالد مستجابة، دعوة الوالد لا ترد، والأمثلة على ذلك كثيرة.
وأذكر لكم مثلاً من الواقع، حكاه لي أحد الإخوة الذين أثق بهم، يقول: كان له جد لا ترد له دعوة، وكان أبوه راعياً للغنم في فترة مضت، قال: وكان هذا الأب قد سمع في تلك الأيام بأن السلك العسكري فتح أبوابه ليتوظف الناس، وهو في قرية، فقال: أترك الغنم، وأذهب لأتوظف، وذهب إلى أبيه وقال: يا أبتاه! أريد أن أذهب وأتوظف، وأصرف عليكم، خير لي من أن أبقى وراء هذه الغنم، ابحث عمن يرعاها، قال: لا آذن لك.
قال إذاً أذهب.
قال: والله لا أستطيع منعك، ولكن ما لي عليك إلا سهم أوجهه في وسط الليل إلى الله جل وعلا قال: فذهب وخاف ولم يستطع أن يذهب، وبقي أياماً وإذا الناس يتوافدون للدخول في السلك العسكري.
قال: وجئت في يوم من الأيام فأعطيت الغنم أحد جيراني، وذهبت مع مجموعة من الشباب، ولم أستأذنه في هذه المرة، فذهبت ولم يخبروا أبي إلا في اليوم الثاني أنني قد ذهبت، قال: فرفع يديه إلى الله جل وعلا وبينما هم في الطريق لم يصلوا إلى الطائف بعد، وإذ به يعمى وهو بينهم، فذهبوا به إلى الطائف، فقالوا: هذا لا يسجل، هذا أعمى أعيدوه إلى أهله، فأخذوه ودخلوا به على والده، ويوم دخل في فناء البيت، وإذ بأبيه يسمعه ويعرفه -ولا أريد أن أذكر اسمه- وإذ به يقول: أأصاب السهم يا بني أم لم يصب؟ قال: إي -والله- دخلت عليك أعمى.
فأدخلوه عليه فتأثر، وندم، وود أنه لم يدع عليه هذه الدعوة، وقام ليله كله -يقول هذا الأخ- وهو يبكي، ويضرع إلى الله أن يرد بصر ولده، قال: يبكي ومن كثرة تأثره بما أصاب ولده، يأتي إليه فيلحس عينه بلسانه، ثم يعود يصلي، ويدعو الله -عز وجل-.
يقول: وما طلع الفجر إلا وقد عاد بصيراً كما كان.
وهو رجل وداعية معروف، ووالده داعية معروف، وجده داعية معروف، لا أريد ذكر اسمه.
المهم أن دعوة الوالدين يجب أن نكسبها، ويجب أن نجعلها في أيدينا دائماً؛ لتنير لنا الطريق - بإذن الله- إلى الجنة، لكن الصور السيئة أكثر وأكثر، وهي صور -أيضًا- من الواقع، صورة بسيطة حدثت في منطقة الجنوب أيضاً:
بائع مجوهرات يحكي لي ويقول: جاءتني مجموعة في آخر رمضان، رجل وزوجته، وأمه، وابن هذا الرجل، قال: فجاءوا ودخلوا علي، قال: وكانت الأم على حياء واستحياء، معها ابن هذا الرجل -ابن ولدها، وابن الابن عند الأم كالابن- فأخذته ووقفت في الجانب، وجاءت زوجته، وأخذت من الذهب ما يساوي عشرين ألفاً، قال: وتقدمت الأم وأخذت خاتماً واحداً من ذهب قيمته تساوي مائة ريال.
قال: وعندما جاء ليدفع الحساب دفع العشرين ألفاً، ويوم دفع العشرين ألفاً قال صاحب المحل: بقي مائة ريال، قال: لأي شيء؟ قال: لهذا الخاتم الذي أخذته أمك -أخذته العجوز- قال: العجائز ليس لهن ذهب، وأخذه من يدها ورماه على الطاولة.
فما كان من الأم إلا أن تجرعت غصصها، وأخذت ابنه بين يديها وخرجت إلى السيارة، فأنبته زوجته، قالت: إنها ستخرج من عندنا، والزوجة لم تكن حريصة إلا على أن تمسك ابنها لها، لكن الأم ذاقت من المرارة ما ذاقت، ابنها يبخل عليها بمائة، ويعطي زوجته بعشرين ألفاً.
أي ظلم هذا يا أيها الإخوة؟!
قال: وعندما أنبته زوجته أخذ الخاتم، وذهب به إليها، قالت: والله لا لبست ذهبا ما حييت أبداً، ما كنت أريد سوى أن أفرح به يوم العيد مع الناس، فقتلت هذه الفرحة في نفسي، فسامحك الله.
إلى أين يذهب هؤلاء يا أيها الإخوة؟!
هذه صور من الواقع، وهذا جزء مما أعرف، وهذا يدل على أن هناك خلل في التربية، وخلل في البيوت، فلابد من إصلاح هذا الخلل، يصبح الابن مطواعاً، والله ما أطاع الله عبد إلا سهل له ولداً صالحاً يدعو له ويقوم على خدمته بإذنه تعالى، فضلاً من الله ومنَّة.
حق الوالدين عظيم يا أيها الإخوة: يطوف أحد الطائفين في أيام الحج، وعلى ظهره أمه، ويراه عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- فيقول لـ عبد الله: يا عبد الله! أتراني أوفيتها حقها؟ هي أمي، قال: ولا طلقة من طلقات الولادة، ما أوفيتها حقها.
طلقة واحدة من طلقات الولادة، ما أوفيتها حقها.
بروا تبروا، البر دين، البر قرضة متى ما أعطيت اليوم براً وجدت براً بإذن الله جل وعلا والجزاء من جنس العمل، ولا يظلم ربك أحداً.
يذكر أهل السير أن رجلا بلغ من الكبر عتياً، فوقف عليه ابنه يخدمه حتى ملَّ منه، ثم أخذه يوماً من الأيام على ظهر دابة، وخرج به إلى الصحراء، وجاء به إلى صخرة، قال: ما بك يا بني؟ قال: أريد أن أذبحك، مللت منك، ولا أستطيع القيام بخدمتك، قال: أهذا جزاء الإحسان يا بني؟ قال: لابد من قتلك، قال: إن أبيت إلا قتلي فاذبحني عند تلك الصخرة، قال: فما ضرك أن تكون هذه أو تلك؟ سأذبحك، قال: لقد ذبحت أبي عند تلك الصخرة.
فإن كان الجزاء من جنس العمل فاذبحني عند تلك الصخرة، ولك يا بني مثلها، يقول: سيمتد بك الزمان، وسيهيئ الله لك من يذبحك عند تلك الصخرة وكل يغدو، فبائع نفسه، فمعتقها أو موبقها.
والآخر يغدو ليبر والديه، ويصل رحمه، فيبره الله جل وعلا، ويصله الله عز وجل، ويدخله فوق ذلك الجنة.
شعاره: {ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها}.
هاهي الشيماء بنت الحارث أخت النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، رضعت معه في بادية بني سعد في الطائف، رضعت معه وهي لا زالت في المهد هي وإياه، وبعد أربعين عاماً تسمع بأن المصطفى صلى الله عليه وسلم قد انتصب وأصبح رسولاً نبياً وهو في المدينة، فما كان منها إلا أن جهزت رواحلها، وجهزت كل ما تأخذه من متاع من بادية بني سعد بـ الطائف، تريد أن تذهب إلى أخيها المصطفى صلى الله عليه وسلم، تقطع الفيافي والقفار، وتذهب إلى هناك.
ويوم وصلت وإذا النبي صلى الله عليه وسلم خارج المدينة يجيش الجيوش، ويدبر أمر الأمة، وإذ بـ عمر يلتقي بها فتقول: ائذن لي بالدخول على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أنت؟ قالت: أنا الشيماء بنت الحارث أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، أرضعتني وإياه حليمة السعدية.
فما كان منه إلا أن أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، فترقرقت عيونه بالدموع وترك مجلسه، وقام ليقابلها، تذكر الوشيجة، وتذكر تلك الرضعات، وتذكر القرابة، وتذكر صلة الرحم، وقام ليلقاها، ويعانقها عناقاً حاراً، عناق الأخ لأخته بعد أربعين عاماً، ثم يقول لها: أهلاً بك يا شيماء! -أو كما يقول- ويرحب بها، ثم يجلسها صلى الله عليه وسلم في مكانه، ثم يظللها من الشمس، ثم يسألها عن أهلها، وعن أهل بلدها، وعن ربعها هناك.
ثم يخيرها فيما بعد ويقول يا شيماء: إن شئت الحياة حياتي، والموت موتي، وإلا إن شئت أن ترجعي لأهلك، فأنت بالخيار-أو كما قال صلى الله عليه وسلم- فاختارت أن ترجع إلى أهلها، فجهز لها ما جهز، وعادت إلى أهلها؛ ليضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً في صلة الرحم لرضعات بينه وبين الشيماء، ماذا كان منه؟ كان منه أن أجلسها في مكانه، وظللها، وجعل الحياة حياته، والموت موته، خيرها بين كل شيء، برضعات بينه وبينها.
فأين الذين قطعوا أمهاتهم، وقطعوا خالاتهم، وقطعوا عماتهم؟ بِمَ يلقون الله جل وعلا؟
كل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.(9/15)
أحوال الناس مع الذكر
والناس رجلان غاديان؛ غاد إلى حلقات الذكر، يذكر الله، تحفه الملائكة، وتتنزل عليه السكينة، وتغشاه الرحمة، ويذكره الله فيمن عنده، وآخر معرض عن ذكر الله عز وجل فما مثل هذا إلا كما قال الله عز وجل: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45].(9/16)
أحوال الناس مع الشهادة
غاد يغدو ليهلك نفسه، فيشهد شهادة الزور- يوم أصبحت شهادة الزور قرضة يتبادلها الناس- اشهد لي زوراً وأشهد لك زوراً، هذه عنوان غالب الناس، وما علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يقوم شاهد الزور من مكانه حتى تجب له النار}.(9/17)
أحوال الناس مع الرزق
وآخر يغدو: ليهلك نفسه في البحث عن الرزق الحرام، فمطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، بيعه حرام، وماله كله حرام، إن تصدق من هذا المال لم يقبل منه، وإن خلَّفه وراء ظهره كان زاداً له إلى النار: {إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوماً} ومع ذلك ولغ البعض من الناس، في الربا، واستحلوه وسموه بغير اسمه، وما علموا أن: {الربا بضع وسبعون شعبة: أدناها مثل أن ينكح الرجل أمه} كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم وأخبر: {أن درهم ربا أشد من ست وثلاثين زنية} والربا عمَّ وطمَّ، وسمي بغير اسمه، وتدول بين الناس، وما كأنَّا سمعنا قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278 - 279] ومن ذا يحارب الله ورسوله؟! تداوله من أوبقوا أنفسهم، ولو لم يكن في التعامل بالربا إلا أنه لا ترفع لهذا العبد دعوة لكفى بذلك زاجراً.
والآخر يغدو ليعتق نفسه، يبحث عن اللقمة الحلال- وهي نادرة- فمطعمه حلال، ومشربه حلال، وغذي بالحلال، ذاك يغدو ليهلك نفسه، وهذا يغدو ليعتق نفسه.
هاهو أبو بكر-رضي الله عنه- يأتيه غلام بطعام فيأكل منه لقمة واحدة، ثم يسأله: من أين لك هذا الطعام؟ قال: من كهانة كنت قد تكهنتها في الجاهلية.
ثمن لكهانة! فما كان منه إلا أن وضع إصبعيه في فمه يريد أن يخرج ما أكل، وكادت تخرج روحه وما خرجت، فلاموه، فقال: والله! إن لم تخرج إلا وروحي معها لأخرجتها؛ لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {أيما لحم نبت من سحت فالنار أولى به}.
وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.(9/18)
أحوال الناس مع أعراض المسلمين
وذاك يغدو: ليهلك نفسه فيسلط لسانه على عباد الله؛ يغتابهم ويبهتهم في غيابهم، ناسياً قول الله تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات:12] وقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {يوم عرج بي مررت على أقوام لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يقعون في لحوم الناس، ويأكلون أعراضهم} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
والآخر يغدو ليدافع عن أعراض المسلمين، ليرد عن أعراض المسلمين فيرد الله عن وجهه النار يوم القيامة.
وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.
وذاك يغدو ليهلك نفسه بالإفساد بين الناس بالنميمة، والوشاية، ناسياً قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {لا يدخل الجنة نمام}.
والآخر يغدو للإصلاح بين الناس فأجره على أكرم الأكرمين سبحانه وبحمده.(9/19)
أحوال الناس مع الغناء
وذاك يغدو ليهلك نفسه، ويقسي قلبه بسماع الغناء الماجن، الذي حرمه الله جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان:6] وكأنه لم يسمع قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف}.
والمعازف جميع آلات اللهو بأنواعها، ومع ذلك نشتري الخنا بدراهمنا وأموالنا، وندخله إلى بيوتنا لتتفسخ الأسر، ولتتحلل الأسر، وبأموالنا نضعه في بيوتنا، فيخرج الأبناء منها عققة، لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام.
والآخر يغدو ليسمع آيات الله، ليسمع كلام الله عز وجل يقرع قلبه، فيلين قلبه، وتدمع عينه، ويطيع ربه، ويدخر الله له غناء ليس كهذا الغناء، غناء الحور العين في جنة عدن، عند مليك مقتدر.
وكل يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.
والكلام يطول في هذه العبارة.
فيا من غدا لإعتاق نفسه! جِد واجتهد، واغتنم، ولا تأمن، وسل الله الثبات حتى الممات، وأكثر من قول: يا مقلب القلوب والأبصار! ثبت قلبي على دينك.
ويا من غدا لإهلاك نفسه وإيباقها! وأمهله الله عز وجل دعوة لك، ودعوة إلى كل من أمهله الله عز وجل: عد إلى الله، بادر في فكاك نفسك ورقبتك من النار في زمن الإمكان، عد إلى الله تجد الله تواباً رحيماً، هو القائل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] هو القائل تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:135 - 136] ونعم الجزاء جزاؤهم، هو القائل: {يا بن آدم: إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم: لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا بن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة} {يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها}.
هو القائل: {يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم}.
هو الرحيم تبارك وتعالى، هو من سبقت رحمته غضبه تبارك وتعالى وإليكم هذا الحديث: جاء سبي إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم وبين السبي امرأة والهة على ولدها، ضيعت ولدها، رسول الله يراقبها، تبحث بين الأولاد عن ولدها، تأخذ هذا وترمي هذا، وعندما وجدت ولدها أخذته وضمته على صدرها، فيقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: {أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قالوا: لا والله، وهي تستطيع ألا تطرحه، قال: لله أرحم بعباده من هذه بولدها}.
فيا من رحمته وسعت كل شيء: ارحمنا برحمتك.(9/20)
صورة لغاد في إعتاق نفسه
أخيراً أيها الإخوة قد غدا الغادون، فمن غدا لإيباق نفسه؛ ومن غدا لإنقاذها.
وهذه صورة أختم بها هذه المحاضرة، أسأل الله أن ينفعني وإياكم بها.
شاب من الشباب -ذكر أحداث هذه الحادثة الشيخ أحمد الطويل حفظه الله- كانت أحداثها في مدينة الرياض شاب بين الثلاثين والأربعين، ما عرف قدر نعمة الله عز وجل عليه، هذا الشباب ما ينام ليلة إلا على كأس خمر، أو على زنا، ويشاء الله -عز وجل- أن يتزوج، وتكون له ابنة، وظنوا أنه يوم تزوج أنه سيعود إلى الله -عز وجل- وسيرجع إلى الله -عز وجل- وسيكتفي بالحلال الذي بين يديه عن الحرام، لكنه كان يترك زوجته ويذهب يبحث عن الحرام، يقول: لا أنام ليلة من الليالي إلا على زنا، أو على كأس خمر، وكان أن تواعد مع أصحابه بعد أن جاءت له طفلة، فما كانت تراه أبداً، ترعرعت وهي لا تراه أبداً، بالليل مع قرناء السوء، وفي النهار في عمله، فلا تكاد تراه إلا قليلاً، وبلغت الخامسة من عمرها لا تعرف أباها إلا نادراً.
وما كان منه في ليلة من الليالي إلا أن تواعد مع قرناء السوء- الذين أفسدوا شباب الإسلام- تواعدوا على أن يجتمعوا على شرب الخمر، ويشاء الله عز وجل أن يتخلف عنهم، يوم أراد الله عز وجل أن يعتق نفسه، فتخلف عنهم قال: فذهبت أبحث عنهم يمنة ويسرة فما وجدتهم، ووالله ما كان ذلك حباً فيهم، ولكني أقول: كيف أبات ليلة من الليالي لا أشرب كأس خمر؟ ولمَّا لم يجدهم ذهب إلى قرين سوء آخر، لديه بضاعة من نوع آخر؛ وهي الأفلام الخليعة، ذهب وأخذ فيلماُ خليعاُ، يقول: يستحي إبليس من رؤية هذا الفيلم، قال: ورجعت إلى بيتي في الساعة الثانية ليلاً في ساعة يتنزل فيها الرب تبارك وتعالى فيقول: {هل من مستغفر فأغفر له؟} دموع الطائعين الذين يريدون إعتاق أنفسهم تهراق على وجوههم من خشية الله في تلك الساعة، والعاصون الموبقون لأنفسهم يرضعون المعاصي في تلك الساعة.
قال: دخلت البيت ونظرت لزوجتي وابنتي فإذا هما نائمتان، قال: فدخلت غرفة فيها هذا الجهاز جهاز الفيديو الذي لطالما أفسد بيوت المسلمين، ومع ذلك نشتريه بأموالنا ونجعله قنبلة موقوتة في بيوتنا، الله أعلم متى تنفجر قال: وأدخل وأضعه في الجهاز، وأبقى لأستمع وأرى، قال: وإذ بالباب يُفْتح، قال: دهشت وخفت، وقلت: من يدخل عليَّ في هذه الساعة؟ قال: ونظرت فإذا هي ابنتي الصغيرة، تنظر إليَّ بنظرات حادة، نظرات قاسية، وتقول: عيب عليك يا والدي اتق الله! قال: ثم رجعت، فدهشت وتحيرت وقلت: من أنطقها؟ من علمها؟ بقيت في حيرتي، قال: فقمت ونظرت إليها فإذا هي نائمة، وأمها نائمة.
قال: ورجعت وأقفلت هذا الجهاز، وخرجت أهيم في الشارع، وإذ بمنادي ينادي: الله أكبر الله أكبر - نداء يحرمه كثير من الغافلين في تلك اللحظة، نداء صلاة الفجر- يوم سمع هذا النداء قال: فاستجابت نفسي للذهاب إلى المسجد، قال: فذهبت، ودخلت دورات المياه، وتوضأت واغتسلت، ودخلت مع الإمام، وعندما سجدت انفجرت بالبكاء، قال: وانتهت الصلاة، فقال صاحبي الذي بجانبي: ما يبكيك يا أخي؟ قال: سبع سنوات ما سجدت فيها لله سجدة، بأي وجه ألاقي ربي - لا إله إلا الله! سبع سنوات لم يسجد فيها لله سجدة، بأي وجه يلاقي ربه- فعزاه هذا، وقال: الله تواب رحيم، عد إليه تجده تواباً رحيماً، خرج الناس من المسجد، وبقي في مكانه لم يخرج، تذكر ذنوبه، وتذكر فضائحه، وتذكر جرائمه.
وحان وقت الدوام، وذهب إلى دوامه، فدخل على زميل له صالح لطالما نصحه، ولطالما حاول أن يعيده إلى الله فما أفلح، وإذ به يدخل عليه قال: والله! إنك بوجه غير الذي أعرفه منك، قال: إن نبأي عظيم، وخبري عجيب، وأخبره بقصته مع ابنته، ثم قال له: احمد الله الذي أرسل إليك ابنتك وأنطقها، فوالله ما أنطقها إلا رب الأرباب، ولم يرسل إليك ملك الموت ليقبض روحك، وأنت على الحالة التي تعرف.
ثم استأذن وذهب، وأراد أن يذهب إلى البيت لكنه ما ذهب إلى البيت، بل ذهب إلى مصلى الدائرة التي يعمل فيها، وبقي يصلي، به شوق عظيم إلى الصلاة، ونزل هذا الزميل في وقت صلاة الظهر، وإذ به أمامه يصلي، قال: ما بك؟ ألم تذهب لترتاح؟ قال: يا أخي! إن بي شوقاً عظيماً للصلاة، سبع سنوات ما ركعت فيها لله ركعة، بأي وجه ألاقي ربي؟!
ويذهب إلى بيته، ويتواعد مع زميله على أن يتجاذبا أطراف الحديث بعد صلاة العشاء، ويذهب إلى البيت، فما رأى ابنته أبداً، دخل إلى البيت وإذ بزوجته تصرخ وتبكي وتقول: ابنتك ماتت، فينفجر من البكاء، ويتردد وينهار ويردد مقالتها: عيب عليك يا والدي اتقِ الله! ثم يتصل بزميله، ويأتي ويغسلونها، ويذهبون بها إلى المقبرة، بعد أن صلوا عليها صلاة العصر قال: وعندما وصلنا إلى المقبرة قال زميله: خذ ابنتك وضعها في لحدها، وكأنه يقول له: موعدك أيضًا هذا اللحد، فأخذ ابنته بين يديه، ثم دخل ليضعها في اللحد ودموعه تقطر على وجنتيه:
وليس الذي يجري من العين ماؤها ولكنها روحٌ تسيلُ فتقطرُ
روحه تسيل من دمعه، قال بصوت حزين أبكى جميع من حضر الدفن: أنا والله لا أدفن ابنتي، ولكني أدفن النور الذي أراني النور.
هذه البنت ردته إلى الله جل وعلا بإذن ربه، أرته نور الهداية بعد أن كان في الضلالة والغواية.
فيا من أخطأ! ويا من أسرف! -وكلنا ذلك المخطئ، وكلنا ذلك المسرف-: لنعد إلى الله فنعتق أنفسنا.
اللهم إنا نسألك أن تيسر الهدى لنا، وأن تهدي بنا، وأن تهدينا.
يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على دينك، يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على طاعتك، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(9/21)
كلنا ذوو خطأ
إن استشعار معية الله وعظمته لها أثرها الجلي في حياة الفرد والمجتمع، إذ أن الإنسان مجبولٌ على الخطأ والزلل والتقصير، فكلما مسه طائف من الشيطان أو انتابته غفلة أو تقصير تذكر عظمة الله فأقبل على مولاه، فتجده لا يفتر عن صلاة وصيام وقيام، ولنا في سلفنا الصالح قدوة ونموذج في التوبة والإقبال على الله، وفي هذا العصر أيضاً مبشرات ونماذج مشرقة في العودة إلى الله.(10/1)
أهمية استشعار عظمة الله في حياة المسلم
الحمد لله الواحد الأحد الكريم الوهاب، الرحيم التواب، غافر الذنب وقابل التَّوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو، يحب التوابين ويحب المتطهرين، ويغفر للمخطئين المستغفرين، ويقيل عثرات العاثرين، ويمحو بحلمه إساءة المذنبين، ويقبل اعتذار المعتذرين، لا إله إلا هو إله الأولين والآخرين، وديَّان يوم الدين، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، يوم لا ينفع مال ولا بنون.
اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يُرجع الأمر كله.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6] يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات، ويعلم ما تفعلون.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين؛ فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وأسأل الله الكريم، رب العرش العظيم أن يجمعنا وإياكم في هذه الحياة على الإيمان والذكر والقرآن، وأن يجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله، ثم يجمعنا بكم سرمدية أبدية في جنات ونهر بحبكم فيه.
واسأله أن يظلنا وإياكم تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله، اللهم لا تعذب جمعاً التقى فيك ولك، اللهم لا تعذب ألسنة تخبر عنك، اللهم لا تعذب قلوباً تشتاق إلى لقاك، اللهم لا تعذب أعيناً ترجو لذة النظر إلى وجهك، يا أرحم الراحمين! ويا أكرم الأكرمين! اللهم كلنا ذوو خطأ، وما لنا إلا عفوك وحسن الظن بك، وحب من تحب، فأقل عثراتنا، وتجاوز عن أخطائنا، وأنت أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين.
يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعف عني
ومالي حيلة إلا رجائي وعفوك إن عفوت وحسن ظني
والله لو علموا قبيح سريرتي لأبى السلام عليَّ من يلقاني
ولأعرضوا عني وملُّوا صحبتي ولبؤت بعد كرامة بهوان
لكن سترت معايبي ومثالبي وحلمت عن سقطي وعن طغياني
فلك المحامد والمدائح كلها بخواطري وجوارحي ولساني
اللهم اجعلني خيراً مما يظن الظانُّون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤآخذني بما يقولون.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن سهلاً إذا شئت.
أحبتي في الله: أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله عز وجل في السر والعلانية؛ فهي وصية الله للأولين والآخرين: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131].
راقبوا الله جل وعلا فما راقبه عبد وزل وأخطأ إلا آب وعاد وحاله: رحماك يا رب رحماك
رب يا رب ويا رب الورى ما ترى في عبد سوء ما ترى
خلق الله السماوات سبعاً، وخلق الأرضين سبعاً، وفي مجموع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحاح: أن ما بين الأرض وما بين السماء الدنيا مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، وسمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام، ومن فوق السماء السابعة مسيرة خمسمائة عام، ومن فوق ذلك عرش الرحمن، ومن فوقه ربنا سبحانه وبحمده بائن من خلقه، مستو على عرشه {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] متى ما علمت هذا واستشعرته فأنت من المتقين.
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب(10/2)
صور من أحوال السلف مع الله(10/3)
خوف عمر بن الخطاب من الله ومراقبته له
ها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه في بستان من بساتين الأنصار، وأنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه يراقبه وهو لا يراه، وإذا بـ عمر يقف وقفة محاسبة، ووقفة مراقبة مع نفسه ويقول: [[عمر أمير المؤمنين! بخ بخ، والله لتتقيّن الله يا عمر! أو ليعذبنك الله، والله لتتقين الله أو ليعذبنك الله]].
عمر الذي يأتيه أعرابي قد قرص الجوع بطنه، وبه من الفقر ما به، ويقف على رأسه ويقول:
يا عمر الخير جزيت الجنه
اكس بنياتي وأمهنه
وكن لنا في ذا الزمان جنه
أقسم بالله لتفعلن
قال: وإن لم أفعل يكون ماذا؟ قال:
إذاً أبا حفص لأمضين
قال: وإذا مضيت يكون ماذا؟ قال:
والله عنهن لتسألن
يوم تكون الأعطيات منه
وموقف المسئول بينهن
إما إلى نار وإما إلى جنه
فلم يملك عمر رضي الله عنه وأرضاه إلا أن ذرفت دموعه على لحيته رضي الله عنه وأرضاه، ودخل ولم يجد شيئاً في بيته، فما كان إلا أن خلع رداءه وقال: خذ هذه يوم تكون الأعطيات منة، وموقف قف المسئول بينهن، إما إلى نار وإما جنة.
هكذا تكون مراقبة الله عز وجل وهكذا تكون تقوى الله عز وجل.(10/4)
خوف عمر بن عبد العزيز من الله
وعمر الثاني عمر بن عبد العزيز وهو يلي أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام، ويفيء الله على المسلمين فيئاً وهذا الفيء تفاح، فأراد أن يقسمه على الرعية، وبينما هو يقسم هذا التفاح إذ امتدت يد صبي من صبيانه -طفل صغير- فأخذ تفاحة ووضعها في فمه، فما كان من عمر إلا أن أمسك بفيه وأوجع فكيه، واستخرج التفاحة من فمه وردها بين التفاح، والطفل يبكي -ابن عمر يبكي- ويخرج ويذهب إلى أمه يذكر لها الحادثة.
فترسل غلاماً من البيت ليشتري لهم تفاحاً وعمر بن عبد العزيز يقسم الفيء على المسلمين وينسى نفسه فلم يأخذ تفاحة واحدة، ويذهب إلى البيت فيشم رائحة التفاح في بيته، فيقول: [[من أين لكم هذا ووالله ما جئتكم بتفاحة واحدة؟]] فأخبرته الخبر، قالت: جاء ابنك يبكي، فأرسلت الغلام وجاء له بهذا التفاح، قال: [[يا فاطمة! والله لقد انتزعت التفاحة من فمه وكأنما أنتزعها من قلبي، لكني والله كرهت أن أضيع نفسي بتفاحة من فيْء المسلمين يأكلها قبل أن يقسم الفيء]].
هكذا تكون مراقبة الله جل وعلا، وهكذا تكون تقوى الله جل وعلا، وبها النجاة: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُون} [الزمر:61].
ما راقب عبد ربه إلا أفلح وفاز، وما الحياة الدنيا إلا متاع، ما راقب عبد ربه فزلت به قدمه فأخطأ، فارتكب فاحشة إلا عاد نادماً حسيراً كسيراً؛ فيتقبله ربه وهو أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين بمنه وكرمه.(10/5)
بيان عظم رحمة الله بعباده
الله عز وجل رحيم بل هو رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما، رحمته وسعت كل شيء وسبقت غضبه سبحانه وبحمده، له مائة رحمة، أنزل لنا في هذه الدنيا رحمة واحدة، فبها يتراحم الخلق كلهم ناطقهم والأعجم، صغيرهم والكبير، حتى إن الدابة لترفع رجلها لوليدها ليرضع منها ثم يذهب بهذه الرحمة، فإذا كان يوم القيامة رفع الله هذه الرحمة إلى تسع وتسعين رحمة عنده سبحانه وبحمده، فيتطاول إبليس ويظن أن رحمة الله ستسعه في ذلك اليوم، فيا من رحمته وسعت كل شيء! ارحمنا برحمتك.
اسمع لنبيك صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري يوم يأتيه سبي وإذا بامرأة من بين هذا السبي تبحث عن صبي لها فقدته، لا تلوي على شيء، كلما وجدت طفلاً قلبته ونظرت فيه فإذا به ليس طفلها، ثم تجد ابنها بعد مشقة وعناء فتلصقه ببطنها وترضعه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم يرقبون الموقف، وإذا بها تذرف الدموع -دموع الفرح- على ابنها وهو على ثديها، فيقول صلى الله عليه وسلم: {أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قال الصحابة: لا والله يا رسول الله.
فقال رسول الله: لله أرحم بعباده من هذه بولدها}.
يا كثير العفو عمن كثر الذنب لديه جاءك المذنب يرجو الصفح عن جرم لديه
أنا ضيف وجزاء الضيف إحسان إليه
{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الحجر:49] {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:50].
أحبتي في الله: كثيراً ما يضل الإنسان في الطريق، وينحرف عن الجادة، بوازع الجهل والهوى أحياناً واستجابة لإغراء عابث أحياناً، أو لشهوة جامحة قوية، الأمر الذي يهبط بمستواه الإنساني ويحول بينه وبين الطهر والتسامي؛ فتسقط قيمته، وينحط إلى الدرك الأسفل من الرذيلة والعار، تتجه قواه كلها إلى إشباع غرائزه وإيثار لذائذه؛ فيسقط إلى منزلة البهيمة، حتى إنك لتجده بأذن لا تسمع، وبعين لا تبصر، وبقلب لا يفقه، تجده بهيمة في مسلاخ بشر، والإنسان قد تمر به ساعة تنام فيها قواه، ويغفو فيها ضميره، وتستيقظ غرائزه؛ فيسقط صريع الهوى والشهوة والشبهة، فيا له من سقوط، ويا لحقارتها من لذة مؤقتة تورث النار.
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء من مغبتها لا خير في لذة من بعدها النار
وكلنا ذوو خطأ! والمعصوم من عصمه الله جل وعلا، على كل واحد منا أن يذكر فلا ينسى أنه لم يخلق ملكاً كريماً، ولم يخلق بشراً معصوماً، وإنما هو إنسان تتنازعه قوى الخير والشر، فتارة يغلب خيره شره فهو خير من الملائكة، وتارة يغلب شره خيره فهو شر من البهائم -كما قال ابن القيم -عليه رحمة الله- و {كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون}.
كلنا ذوو خطأ! في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم}، فلابد من الخطأ، ولابد من التقصير، وكلنا ذوو خطأ!
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
تريد مبرأً لا عيب فيه وهل نار تفوح بلا دخان
لكن إياك أن تبقى على الخطأ! إياك أن تدوم على المعصية! فإن المعصية شؤم، وإن المعصية عذاب، وإن المعصية وحشة، وإن المعصية غضب من الله الواحد الديان، وقد يحبس عن أمة خير بمعصية من فرد واحد لم يأمروه ولم ينهوه، نسأل الله ألا يحرمنا خير ما عنده بشر ما عندنا.(10/6)
بيان شؤم المعصية على الفرد والمجتمع
هاهم بنو إسرائيل -كما في كتاب التوابين لـ ابن قدامة - يلحق بهم قحط على عهد موسى عليه السلام، فاجتمعوا إلى موسى وقالوا: يا نبي الله! ادعُ لنا ربك أن يسقينا الغيث.
فقام معهم، وخرجوا إلى الصحراء ليستسقوا وهم سبعون ألفاً أو يزيدون، فقال موسى: إلهنا اسقنا غيثك، وانشر علينا رحمتك، وارحمنا بالأطفال الرُّضَّع، والبهائم الرُتَّع، والشيوخ الرُّكَّع، فما ازدادت السماء إلا تقشعاً، ذهب السحاب الذي في السماء، وما ازدادت الشمس إلا حرارة، فقال: يا رب! استسقيناك فلم تسقِنا، فقال: يا موسى إن فيكم عبداً يبارزني بالمعصية منذ أربعين عاماً، فمُرْهُ أن يخرج من بين أظهركم؛ فبشؤم ذنبه مُنِعْتم القطر من السماء، قال: يا رب! عبد ضعيف، وصوتي ضعيف، أين يبلغ وهم سبعون ألفاً أو يزيدون؟ فأوحى الله إليه -سبحانه وبحمده-: منك النداء وعلينا البلاغ.
فقام ينادي في سبعين ألفاً، قائلاً: يا أيها العبد العاصي الذي بارز الله بالمعصية أربعين عاماً!
اخرج من بين أظهرنا؛ فبشؤم ذنبك مُنِعْنَا القطر من السماء، فيوحي الله إلى موسى أنه تلفت هذا العبد يميناً وشمالاً لعله يخرج غيره، فعلم أنه المقصود بذلك، فقال في نفسه: إن خرجت افتضحت على رءوس بني إسرائيل، وإن بقيت هلكت وهلكوا جميعاً بالقحط والجدب.
فماذا كان منه؟ ما كان منه إلا أن أدخل رأسه في ثيابه، وقال: يا رب! عصيتك أربعين وأمهلتني، واليوم قد أقبلت إليك طائعاً تائباً نادماً، فاقبلني واسترني بين الخلق هؤلاء يا أكرم الأكرمين!
فلم يستتم الكلام حتى علتْ السماء سحابة بيضاء، فأمطرت كأفواه القِرَب، فقال كليم الله لربه: يا رب! سقيتنا ولم يخرج من بين أظهرنا أحد.
فقال: يا موسى! أسقيتكم بالذي منعتكم به -بنفس العبد الذي منعتكم به أسقيتكم به- قال: يا رب! أرني هذا العبد الطائع التائب النادم، قال: يا موسى! لم أكن لأفضحه وهو يعصيني أفأفضحه وهو يطيعني؟!
يا من ألوذ به فيما أؤمله وأستعيذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره
لا إله إلا الله! ما أرحم الله! ما أحلم الله! هو القائل: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] ما جزاؤهم؟ {أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مغْفِرَةٌ من ربِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:136] هو القائل كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: {يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة}
سبحان من يعفو ونهفو دائماً ولم يزل مهما هفا العبد عفا
يعطي الذي يخطي ولا يمنعه جلاله عن العطا لذي الخَطَا
يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها، هو القائل كما في الحديث القدسي: {يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم} هو القائل في كتابه: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم:8].
ما أكرم الله جل وعلا! ما أكرم الله سبحانه وتعالى! {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى:25] ولن يهلك على الله إلا هالك.
فيا مخطئاً! وكلنا ذوو خطأ، ويا من سقط في المعصية! وكلنا ذاك الرجل؛ ويا من زلَّتْ قدمه! وكلنا ذاك الرجل؛ صحح أخطاءك، وعالج أمراضك، وغسِّل نفسك مما قد ران عليها، واستأنف الحياة في ثوب التوبة النقي النظيف، واسمع لداعي الله جل وعلا يوم يقول: {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
توضأ بماء التوبة اليوم نادماً به ترق أبواب الجنان الثمانيا(10/7)
نماذج من التوبة في السلف الصالح
كلنا ذوو خطأ! والله يمهل ولا يهمل، ويحب التوابين والمتطهرين، ولذلك فتح باب التوبة أمام المخطئين ليتوبوا ويئوبوا ويعودوا إلى رشدهم، فيغفر لهم ما اقترفوه من إثم وخطيئة، وموبقة وصغيرة وكبيرة؛ فله الحمد أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً.(10/8)
قصة رجل من بني إسرائيل
هاهو كما في البخاري: رجل من بني إسرائيل، أسرف على نفسه كثيراً، وهو موحد لم يشرك بالله جل وعلا، قتل وزنا، وسرق وغش، وكذب واحتال، وشهد الزور وأساء كل الإساءة، انتهك حرمات الله، تكبر وتجبر، وحلت به سكرات الموت التي لم يُعفَ منها أحد حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمع أبناءه في تلك الساعة، ساعة لا ينفع فيها مال، ولا ينفع فيها ولد، ولا ينفع فيها منصب، ولا ينفع فيها جاه، جمع أولاده وقال: أي أبٍ كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فوالذي نفسي بيده ما عملت خيراً قط، غير أني أشهد أن لا إله إلا الله، فإذا أنا مت فأضرموا فيَّ ناراً، ثم ألقوني في النار حتى أصير فحماً، ثم اسحقوني، ثم ذروني مع الريح.
فمات فنفّذوا وصيته وأضرموا له النار، ورموه فيها حتى صار فحماً، ثم سحقوه، ثم ذروه مع الريح، وتفرق على ذرى الجبال، وعلى رءوس الأشجار، وعلى السهول والوِهَاد والأنهار، لكن الذي بدأه أول مرة يعيده.
قال الله له: كن؛ فكان، قال: يا عبدي ما حملك على ما صنعت؟ أما علمت أني أستر العيب، وأغفر الذنب؟ قال: يا رب! خفتك وخشيت ذنوبي، قال: أشهدكم يا ملائكتي بأني قد غفرت له وأدخلته الجنة.
فلا إله إلا الله، ما أرحم الله! ما ألطف الله بعباده! ما أحلم الله على عباده! {وَمَن يَعْمَلْ سُوءً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رحِيماً} [النساء:110] وكلنا ذوو خطأ!(10/9)
قصة العابد والمرأة البغي
هاهي امرأة بَغِيّ، بارعة الجمال، لا تمكن من نفسها إلا بمائة دينار، وتمر على عابد ما عصى الله طرفة عين، يتعبد لله في صومعة من الصوامع، فيفتتن بها، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فاتقوا الدنيا واتقوا النساء} افتُتن بها فراودها عن نفسها، فأبت أن تمكنه إلا بمائة دينار، وهو لا يملك ريالاً ولا ديناراً ولا درهماً، فماذا كان منه؟ كان منه أن ترك صومعته وذهب يكدُّ ويتعب، وجمع المائة الدينار.
ثم ذهب إلى هذه البغي في بيتها وفي قصرها، طرق عليها الباب، ويوم طرق عليها الباب خرجت، ويوم خرجت قال لها: هأنذا، قد جمعت المائة دينار وجئت، قالت: ادخل.
فدخل إليها في قصرها، فَعَلَتْ على سرير من ذهب، وتزينت في كامل زينتها، ويوم تزينت في كامل زينتها قالت: هلمَّ إليّ، فسقط جالساً.
قالت: قد كنت تزعم أنك ستجمع وتأتي، فلما مكنتك من نفسي تجلس، قال: ذكرت وقوفي بين يدي الله -عز وجل- فلم تحملني أعضائي لأقف، فما كان منها هي أيضاً إلا أن ارتعدت وارتعشت وخافت ووجلت وقالت: لا تخرج من هذا البيت حتى تتزوجني، قال: لكني والله لا أتزوجك، وإنما خذي هذه الدنانير ودعيني أخرج، قالت: لا تخرج حتى توافق على الزواج مني، فماذا كان منه؟ قال: بلدي في المكان الفلاني، وعلك إن جئت تائبة لعلي أن أتزوجك، وهو يريد الخلاص منها.
أما هو فذهب وخرج نادماً على تفكيره في عمل المعصية، نادماً على تركه العبادة ليجمع المائة دينار ليزني بها، كما يفعل بعض شبابنا اليوم -هداهم الله- يوم يجمعون دراهمهم ودنانيرهم ليذهبوا ليعصوا الله في بلاد الكفر والعري، ثم يرجعوا وكأن لم يكن شيئاً، وكأن الله -عز وجل سبحانه وبحمده وله العزة والجلال- كأنه لا يراقبهم إلا في جزيرة العرب.
أما هي فأقلقتها بشاعة الفاحشة، وآلمتها مرارة الكبيرة، ولسعتها مرارة المعصية، وما كان منها إلا أن رجعت إلى الله، وتابت إلى الله، وذهبت تبحث عمن كان سبباً في توبتها إلى الله جل وعلا، ذهبت إليه في قريته، وسألت عنه، فدُلَّت على بيته، فلما وصلت إلى البيت طرقت الباب فخرج، فتذكر يوم كادت تزل قدمه، فشهق شهقة عظيمة فمات -كما ذكر ذلك ابن قدامة في كتابه التوابين -.
فكان منها أن حزنت حزناً عظيماً، وقالت: لأتزوجنَّ قريباً من أقربائه حباً فيه، فقالوا: له أخ فقير تقي، قالت: أتزوجه حباً في أخيه، فتزوجت هذا العبد الصالح الفقير التقي أخو ذلك الصالح التقي، فجعل الله من نسلها ومن نسله سبعة من الصالحين العابدين الزاهدين.
فلا إله إلا الله! ما أعظم شأن التوبة! وكلنا ذوو خطأ، فهل من توبة؟ وهل من أوبة؟ آن لنا أن نتوب، آن لنا أن نئوب.
أيها الأحبة.
قد يدَّعي الإنسان التوبة ثم لا يتوب، إن ذلك كقول غاسل الثياب: قد غسلتها ولم يغسلها بعد، فالقول لا ينظف الثياب، وادِّعاء التوبة لا ينظف القلوب، والنفس البشرية كالطفل إن أهملتها ضاعت وضلت وخسرت وتاهت، وإن هذبتها وأدَّبتها صلحت واستقامت، بل هي كالبعير إن علفته وغذيته سكن وثبت، وإن تركته صدَّ وندَّ وهرب، والنفس بطبيعتها تميل إلى الشهوات، وتميل إلى الملذات، ووالله لا فلاح لنفس ولا نجاح ولا فوز إلا بالعودة إلى بارئها سبحانه وبحمده القائل: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10].
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمْه ينفطمِ
خالف هواك إذا دعاك لريبة فلرب خير في مخالفة الهوى
حتى متى لا ترعوي يا صاحبي حتى متى وإلى متى وإلى متى(10/10)
قصة أبي محجن رضي الله عنه
هاهو أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو محجن الثقفي، ممن أسلم مع ثقيف حين أسلمت ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه تمادى في شرب الخمر، في تلك الكبيرة من الكبائر، وما زال يُجلد بعد عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أكثر من ذلك سجنوه وأوثقوه، فلما كان يوم القادسية رأى أن المشركين قد أصابوا من المسلمين، فأرسل لامرأة سعد بن أبي وقاص، وقد كان مسجوناً في بيت سعد، قائلاً: يا بنت آل حفصة هل لك إلى خير؟ قالت: وما ذاك؟ قال: تخُلي عني، وتعيريني البلقاء -فرس سعد بن أبي وقاص - فأقاتل مع المسلمين، ولله عليّ إن سلَّمَني الله أن أرجع فأضع رجلي في القيد كما كنت، قالت: ما أنا وذاك، فرجع يرسف في قيوده، نفسه مشتاقة للجهاد في سبيل الله، ويرى أن المسلمين يُنال منهم ما ينال، فيقول:
كفى حزناً أن تُردي الخيل بالقنا وأترك مشدوداً عليَّ وثاقيا
إذا قمت عنَّاني الحديد وغُلِّقت مصارع دوني قد تصمُّ المناديا
وقد كنت ذا مال كثير وإخوة فقد تركوني واحداً لا أخا ليا
فلله عهد لا أخيس بعهده لئن فرجت ألا أزور الحوانيا
فقالت سلمى: لقد اخترت الله، ورضيت بعهدك.
فأطلقته، وأعطته فرس سعد الذي كان في الدار، وأعطته مع ذلك سلاحاً.
فخرج كالأسد يركض حتى لحق بالجيش المسلم، فجعل لا يزال يحمل على مشركٍ إلا دق صلبه وقتله، حمل على ميسرة القوم، ثم حمل على ميمنة القوم، كان يقصفهم -ليلتئِذٍ- قصفاً عظيماً، حتى تعجب الناس منه وهم لا يعرفونه، تعجب سعد وهو يرقب المعركة، ويقول: من ذلك الفارس الملثم؟ ولِمَ يتلثم؟ ولِمَ لمْ يظهر إلا في آخر النهار؟ تساؤلات ترد على ذهن سعد.
ولم يلبثوا إلا قليلاً حتى هُزم أعداء الله عز وجل، ورجع أبو محجن ورد السلاح، وجعل رجليْه في القيد، وجاء سعد، فقالت امرأته: هنيئاً لكم النصر، كيف قتالكم اليوم؟ فجعل يخبرها، ويقول: لقي جند الله ما لقوا، ولقوا ولقوا ويذكر لها حتى بعث الله رجلاً على فرس أبلق، فلولا والله أني تركت أبا محجن في القيد لقلت: إنها بعض شمائل أبي محجن، قالت: والله إنه لـ أبي محجن، وذكرت له ما كان من أمره.
فما كان من سعد إلا أن ذرف الدموع، وقال: حلوا قيوده، وأتوني به، فأتوا به إليه، قال: يا أبا محجن -والله- إني لأرجو الله ألا أجلدك على خمر بعد اليوم أبداً، قال: لا والله ما أشربها بعد اليوم أبداً، قد كنت أشربها فتطهرني بالحد والجلد، وأما اليوم فإن شربتها فلا يطهرني إلا النار، فلم يشربها بعد ذلك أبداً.
فخالف النفس والشيطان واعصهما وإن هما محَّضاك النصح فاتَّهم
{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُم مغْفِرَةً منْهُ وَفَضْلا} [البقرة:268] فمن تجيب أخي المسلم؟
العز في كنف العزيز ومن عبد العبيد أذَلَّه الله(10/11)
توبة الغانية التي أرادت إفساد الربيع
هاهو شاب قوي وسيم -وأنا لا أورد هذا القصص إلا لأن فيه عبرة: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِى الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى} [يوسف:111]- شاب قوي وسيم حييٌّ، عالم، في أوْج شهوته وشدة شهوته، لكن شهوته مربوطة بقال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، عمره لا يجاوز الثلاثين؛ هو الربيع بن خثيم، كان في بلده فسّاق وفجَّار يتواصون على إفساد الناس وليسوا في بلد الربيع فقط، بل هم في بلدي وفي بلدك وفي كل بلد، ثلة تسمى فرقة الصد عن سبيل الله، يهمها أن تقود شباب الأمة وشيبها ونساءها إلى النار، تأخذ بحجزها لترميها على وجهها في النار، من أطاعها فليس أمامه إلا النار.
تواصوا على إفساد الربيع، فجاءوا بهذه الغانية، وقالوا: هذه ألف دينار، قالت: علام؟ قالوا: على قُبْلة واحدة من الربيع، قالت: ولكم فوق ذلك أن يزني، ثم ذهبت وتعرضت له في ساعة خلوة، وأبدت مفاتنها ووقفت أمامه، فلما رآها صرخ فيها قائلاً: يا أمة الله! كيف بك إذا نزل ملك الموت فقطع منك حبل الوتين؟! أم كيف بك يوم يسألك منكر ونكير؟! أم كيف بك يوم تقفين بين يديْ الرب العظيم؟! أم كيف بك إن لم تتوبي يوم تُرمَيْن في الجحيم؟! فصرخت وولَّت هاربة تائبة عابدة عائدة إلى الله عز وجل، تقوم من ليلها ما تقوم، وتصوم من أيامها ما تصوم، فلقِّبت بعد ذلك بعابدة الكوفة، وكان هؤلاء المفسدون يقولون: أردنا أن تفسد الربيع فأفسدها الربيع علينا: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ} [الأنعام:116] {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ ولو حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103].
فإياك وداعي الشر، إياك ودعاة الشر، واسمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعوك إلى أن تضبط نفسك في أي مكان كنت، أو في أي زمان كنت: {اتقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن} {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:43 - 44].
وكلنا ذوو خطأ! لكن الحسنات يذهبن السيئات، فلا تحتقر ذنباً، ولا تستصغر معصية، ولا تستصغر كبيرة، ولا تنظر إلى صغر المعصية، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت، القائل كما في الأثر: {وعزتي وجلالي لا يكون عبد من عبيدي على ما أحب فينتقل إلى ما أكره إلا انتقلت له مما يحب إلى ما يكره} يقول أنس رضي الله عنه وأرضاه: [[إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات]] يقول هذا لمن؟ لخير جيل عرفته البشرية، ولخير فرقة عرفتها البشرية، ولخير القرون كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، يقول ذلك للصحابة والتابعين.
أيها الحبيب! إنما يعظم الذنب في قلب المؤمن لعلمه بجلال الله سبحانه وبحمده، إن المؤمن ليرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل، يخاف أن يقع هذا الجبل عليه، وإن المنافق ليرى ذنوبه كذباب مرَّ على أنفه فأطاره بيده.
فيا أيها المخطئون! إياكم ومحقرات الذنوب، فإن لها من الله طالباً، وإياكم ومحقرات الذنوب فإنها تجتمع على الرجل فتهلكه.
خلِّ الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التُّقَى
واصنع كماشٍ فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
يا أيها المخطئون -وكلنا ذو خطأ- أفيقوا وأقلعوا عن ذنوبكم، واعزموا على ألا تعودوا، واندموا ندماً يورث العين دمعاً، والقلب خشية، وردوا الحقوق إلى أهلها قبل ألا يكون درهم ولا دينار، وإنما التعامل يكون بالحسنات والسيئات، وعندها يعضُّ الظالم على يديه حتى يأكلها ولا ينفعه ندم، ولا تنفعه حسرة، لو كان الندم هنا لنفعه، ولو كانت الحسرة هنا لنفعته، لو قال: في الدنيا يا رب لقال الله: لبيك وسعديك يا عبدي، أشهدكم أني قد غفرت له.
وتذكر يا من أخطأ -وكلنا ذوو خطأ- أننا على الله قادمون، وإليه راجعون، وبين يديه مسئولون، فمنا من يقدم عليه كالرجل المسافر الغريب القادم على أهله، تراه فرحاً، وتراه مسروراً، يوم يلقى أحبته وأهله وأبناءه وأصحابه وخِلاَّنه، ومنا من يقدم على الله -عز وجل- قدوم العبد الآبق الشارد عن سيده، تجده ذليلاً حسيراً وَجِلاً خائفاً كسيراً مهاناً: {أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم من يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [فصلت:40] شتان بين الفريقين، شتان بين مُشرِّق ومُغرِّب: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7].
يا من قسا قلبه! ويا من صدت نفسه فأمرته بالسوء والفحشاء، هلّا زرت المقابر، هلا ذهبت وأحييت هذه السنة التي كادت تموت بيننا، هل ذهبت إلى المقابر فزرتها ودعوت الله عز وجل لهم؟ لترى فيها الآباء والأمهات، لترى فيها الإخوان والأخوات، لترى فيها الأحباب والأصحاب والخلان قد توسَّدُوا التراب، وارتُهِنوا بالأعمال، ما كأنهم فرحوا مع من فرح، ولا كأنهم ضحكوا مع من ضحك، ولا كأنهم تمتعوا مع من تمتع، قد حِيل بينهم وبين ما يشتهون، ثم اعلم أنك قريباً ستكون بينهم، ووالله لن تكون إلا في روضة أو حفرة
القبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران
إن يكُ خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يك شراً فما بعد أشد ويل لعبد عن سبيل الله صد(10/12)
قصة دينار العيَّار
هاهو دينار العيَّار: كان مسرفاً على نفسه، وكان له أم تعظه فلا يتعظ، فمر في يوم من الأيام بمقبرة كثيرة العظام قد خرجت العظام من المقبرة، فتذكر مصيره، وتذكر نهايته، وتذكر أنه على الله قادم، أخذ عظْماً نخراً في يده ففتته، ثم فكر في نفسه وقال: ويحك يا نفس! كأني بك غداً قد صار عظمك رفاتاً، وجسمك تراباً، وما زلت مكبَّة على المعاصي واللذائذ والشهوات، ثم ندم وعزم على التوبة، ورفع رأسه للسماء قائلا: إلهي ألقيت إليك مقاليد أمري، فاقبلني واسترني يا أرحم الراحمين، ثم مضى إلى أمه متغير اللون، منكسر القلب، فكان إذا جنَّه الليل أخذ في القيام والبكاء، وأخذ في النحيب وهو يقول: يا دينار! ألك قوة على النار؟ يا دينار! ألك قوة على النار؟ كيف تعرضت لغضب الجبار؟!
وظل على ذلك أياماً، يقوم ليله، ويناجي ربه، ويناجي نفسه يؤدبها ويحاسبها، فرفقت به أمه يوم رأت جسمه قد هزل، ويوم رأت صحته بدأت تتدهور، فقالت: ارفق بنفسك قليلاً، فقال: يا أماه! دعيني أتعب قليلاً لعلي أستريح طويلاً، يا أماه! إن لي موقفاً بين يديْ الجليل، ولا أدري إلى ظل ظليل، أم إلى شر مقيل؟ إني أخاف عناءً لا راحة بعده، وتوبيخاً لا عفو معه.
قالت: بنياه! أكثرت من إتعاب نفسك.
قال: راحتها أريد، يا أماه! ليتك كنت بي عقيماً، إن لابنك في القبر حبساً طويلاً، وإن له من بعد ذلك وقوفاً بين يديْ الرحمن طويلاً، وتمر ليالٍ فيقوم ليلة بقول الله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93].
فيبكى ويضطرب، ثم يخر مغشياً عليه.
فيا مخطئاً -وكلنا ذوو خطأ-: {أَلَمْ يَأْنِ للذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:16].(10/13)
قصة مالك بن دينار
هاهو مالك بن دينار -كما يذكر أهل السِيَر-: كان شرطياً من شُرط بني العباس، وكان يشرب الخمر، وكان صادّاً نادّاً عن الله عز وجل، ويشاء الله عز وجل أن يتزوج بامرأة أحبها حباً عظيماً، لكنه كان لا يترك الخمر، يشربها في الصباح والمساء.
ويشاء الله عز وجل أن يرزق بمولودة من هذه المرأة، فما كان منه إلا أن ملكت عليه لبه هذه الطفلة، وملكت عليه لبه، وملكت عليه قلبه، فكان لا ينتهي من عمله حتى يأتي إليها ليداعبها ويمازحها، وكان يؤتى بالخمر، فإذا رأته يشرب الخمر ذهبت وكأنها تريد أن تعتنقه، فأسقطت الخمر من يده وكأنها تقول: يا أبت اتقِ الله! ما الخمر لمسلم أبداً.
هكذا حالها معه، وفي يوم من الأيام يأتي من عمله ويأتي ليداعبها ويلاعبها ويرميها فتسقط ميتة، فيحزن حزناً عظيماً، ويجِدُ عليها وَجْداً عظيماً، فما كان منه في تلك الليلة -كما يخبر عن نفسه- إلا أن شرب الخمر، ثم شرب ثم شرب حتى الثمالة، قال: ثم نمت في تلك الليلة وبي من الهمِّ ما لا يعلمه إلا الله، قال: فرأيت -فيما يرى النائم- كأن القيامة قد قامت، وكأن الناس قد خرجوا من القبور حفاة عراة غرلاً بُهماً، يدوك الناس في عرصات القيامة، وإذ بهذا الثعبان العظيم فاغراً فاه، يقصدني من بين هؤلاء الخلق جميعهم، ويأتي إليَّ يريد أن يبتلعني، قال: وأهرب منه ويطاردني، وأهرب منه ويطاردني، كاد قلبي أن يخرج من بين أضلاعي، وإذا أنا بهذا الشيخ الحسن السَّمْت، الرجل الوقور، قال: فتقدمت إليه فقلت: بالله عليك أنقذني، قال: لا أستطيع، ولكن اذهب إلى من ينقذك.
قال: فبقي يطاردني، فما وقفت إلا على شفير جهنم قال: فبقى من ورائي، وجهنم من أمامي.
قال: فقلت أرمي بنفسي في جهنم، وإذا بهاتف يهتف، ويقول: ارجع، لست من أهلها.
قال: فرجعت لأدوك في عرصات القيامة وهو ورائي يطاردني، ورجعت إلى ذلك الشيخ الوقور، فقلت له: أسألك بالله أن أنقذني أو دلني، قال: فأما إنقاذك فلا، ولكني أدلُّك على ذلك القصر، لعل لك فيه وديعة.
قال: فانطلقت إلى القصر، وهو لا يزال يطاردني، قال: وإذا بهذا القصر من زبرجد وياقوت، مكلل باللؤلؤ والجوهر، وإذا بالسُتُر ينادي بفتحها: افتحوا السُتُر، قال: ففتحت الستر عن أطفال مثل فلق القمر، وإذا بكل واحدة وواحد ينظر إلى هذا المنظر المهول، وإذا بابنتي من بينهن تقول: أبتاه! ثم ترمي بنفسها من القصر بيني وبين الثعبان، قال: ثم تقول للثعبان بيمناها -هكذا- فينصرف.
فتضرب على لحيتي، ثم تضرب على صدري، وتقول: أبتاه! {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:16] قلت: بل آن! بل آن! ثم قلت: ما ذاك الثعبان؟ قالت: ذلك عملك السيء كاد يرديك في جهنم، قال: وما ذلك الشيخ الوقور؟ قالت: ذلك عملك الحسن ضعفته حتى ما استطاع أن يقاوم عملك السيء، قال: ثم تضرب صدري ثانية، وتقول: أبتاه! {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ} [الحديد:16].
قال: ففزعت من نومي، وقلت: بل آن! بل آن! قال: ثم توضأت، ثم انطلقت إلى المسجد، فذهبت لأداء صلاة الفجر، قال: وإذا بالإمام يقرأ الفاتحة، ثم يبدأ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:16] فقلت: والله ما كأنه يعني إلا إياي.
فيا أيها الأحبة: أعمالكم أعمالكم، أعماركم أعماركم.
كلنا ذوو خطأ! كلنا ذوو خطأ!
ها هو عبد من بني إسرائيل أطاع الله أربعين عاماً، ثم انقلبت هذه المضغة فانتكس ورجع وارتد على عقبيه فعصى الله أربعين عاماً أخرى فقال: وقد رفع يديه إلى الله: يا رب! أطعتك أربعين، وعصيتك أربعين، فهل لي من توبة إن أنا تبت وأُبْت وعدت إليك يا رب؟ قال: فسمعت هاتفاً يهتف ويقول: أطعتنا فقربناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإن رجعت إلينا قبلناك.
فلا إله إلا الله، ما أحلم الله بعباده! ما أرحم الله بعباده! ما ألطف الله بعباده! أسأله برحمته التي وسعت كل شيء أن يرحمنا برحمته.(10/14)
حال سلفنا مع قيام الليل
هاهم سلفنا -أيها الأحبة- قلوبهم بالخوف وجلة، وأعينهم باكية، يقول قائلهم: كيف نفرح والموت وراءنا، والقبر أمامنا، والقيامة موعدنا، وعلى الصراط مرورنا، والوقوف بين يدي الله مشهدنا، كيف نفرح؟! {كَانُوا قَلِيلاً من اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18].
يأتي أحدهم إلى فراشه فيلمسه في الليل، فإذا هو ناعم لين، فيقول مخاطباً فراشه: يا فراشي -والله- إنك لليِّنٌ، ولكن فراش الجنة ألْيَنُ.
ثم يقوم ليله كله حتى يصبح: {كَانُوا قَلِيلاً من اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18].
يناجي أحدهم ويقول: يا قوم -والله- لا أسكن ولا يهدأ روعي حتى أترك جسر جهنم ورائي، والله لا أهدأ ولا أسكن حتى أترك جسر جهنم ورائي.
ويجب أن نكون كذلك.
كانوا إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وكادت أن تنخلع خوفاً من الله جل وعلا، خافوا الله جل وعلا فأمَّنَهم؛ فهو القائل كما في الحديث القدسي: {وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفيْن، ولا أجمع له أمنيْن؛ إن أمنني في الدنيا خوَّفته يوم القيامة، وإن خافني في الدنيا أمَّنته يوم القيامة} {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:28].
كان لسان حال الواحد من سلفنا وهو يناجي ربه في ثلث الليل الآخر، ثلث الآيبين ثلث التوابين ثلث المستغفرين، ثلث المخطئين ثلث النادمين الذي ضيعناه، والذي سهرنا إلى تلك اللحظة ثم رمينا أنفسنا كالجِيف، ونسأل الله أن يعاملنا برحمته، وإن عاملنا بعدله لعذبنا، ثم لم يظلمنا سبحانه وبحمده، كان لسان حال الواحد منهم:
لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا وقمت أشكو إلى مولاي ما أجدُ
وقلت يا أملي في كل نائبة ومن عليه بكشف الضر أعتمدُ
أشكو إليك ذنوباً أنت تعلمها مالي على حملها صبر ولا جَلَدُ
وقد مددت يدي بالذل معترفاً إليك يا خير من مدَّت إليه يد
فلا تردَّنها يا رب خائبة فبحر جودك يروي كل مَن يرِدُ(10/15)
حال الأمة في ليلها ونهارها
هذه حال سلفنا، فما حالنا يا أيها الأحبة؟ ما حالنا في ليلنا؟ وما حالنا في نهارنا؟ أما ليلنا -إلا ما رحم الله- فعلى الأغنيات والمسلسلات والتمثيليات، وعلى الأفلام، وعلى قيل وقال إلى الثلث الذي ينزل فيه الرب سبحانه نزولاً يليق بجلاله، فيقول: هل من داعٍ فأستجيب له؟ وهل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ وفي تلك اللحظة نحن على قسمين -أيضاً- منَّا مَن هو كالجيفة البطَّال، ومنَّا من لا زال مواصلاً في غيِّة وظلمه، يدعوه الله إلى التوبة وهو مازال على فسقه وعلى فجوره، أما يخشى أن يأخذه الله أخذ عزيز مقتدر: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيد} [هود:108].
يا راقد الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا(10/16)
قصة رياح بن عمر القيسي
كيف كان ليل سلفنا؟ هاهو أحدهم؛ وهو رياح بن عمر القيسي عليه رحمة الله، أحد التابعين، تزوج امرأة صالحة، وأراد أن يختبرها، هل هي من اللاتي ركن إلى زخارف الدنيا؟ هل هي الصائمة القائمة أم هي المشغولة بقيل وقال وبالأزياء والموديلات وما أشبه ذلك من زخارف الدنيا؟ يوم جاء الصباح ما كان منه إلا أن رآها تعجن عجينها، وتعمل عمل البيت وتقم ببيتها، فقال: يا دؤابة -واسمها دؤابة - أتريدين أن أشتري لك أَمَة لتخدمك؟ قالت: يا رياح! إني تزوجت رياحاً، وما تزوجت جباراً عنيداً.
ثم جاء الليل، فقام يتناوم، فقامت ربع الليل الأول، وقالت له: يا رياح! قم.
قال: أقوم.
ثم نام مرة أخرى، فقامت الربع الثاني، وقالت: يا رياح! قم.
فتناوم -أيضاً- مرة أخرى، ثم قامت ربع الليل الثالث، ثم قالت: يا رياح! قم.
فقال: أقوم.
ولم يقم، فقالت: يا رياح! قد فاز المحسنون، وعسكر المعسكرون، يا ليت شعري من غرَّني بك؟! يا ليت شعري من غرني بك؟!
تقول: اغتررت فيك ووقعت بإنسان لا يقوم الليل، مع أنه يقوم الليل، ولكنه أراد أن يختبرها.
فهل جعلنا لثلث الليل الآخر منا ولو ركعتين؛ علّ الله أن ينظر إلينا بنظرة رحمة، وبنظرة عطف؛ فيرحمنا في الدنيا والآخرة؛ فنسعد في الدنيا والآخرة سعادة الأبد.
نسأله سبحانه وبحمده أن يجعلنا من المرحومين المغفور لهم.
أما في النهار فما حالنا؟
منا -والله أيها الأحبة- مَن يخرج الصباح مِن بيته فيبحث عن الحرام أنى كان فيجمعه فمطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّيَ بالحرام.
فما حال سلفك يا عبد الله؟
إن امرأة من السلف يوم يخرج زوجها في الصباح تقول له: اتقِ الله ولا تطعمنا إلا حلالاً، فإنا نصبر على الجوع، لكنا لا نصبر على النار، فهل قال لنا نساؤنا كذلك ونحن نخرج؟
يا أيها الأحبة! بعد هذه الأعمال، وبعد هذا الليل المخزي، وبعد هذا النهار المخزي، نرجو النجاة؟!
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليَبَس
ركوبك النعش ينسيك الركوب على ما كنت تركب من بغل ومن فرس
يوم القيامة لا مال ولا ولد وضمَّة القبر تنسي ليلة العرْس(10/17)
تربية الأمة لأبنائها
أبناؤنا كيف نربيهم؟ ربيناهم تربية مادية، وهيَّأناهم تهيئة مادية، فجعل الواحد همَّه في سيارة وفي ثوب وفي زخرف من زخارف الدنيا وفي قصر، ونسي قصور الجنة، وأنهار الجنة، ونعيم الجنة، أشغلناه بهذا عن ذاك، ربيناه تربية البهائم، سمَّنَّاه كما تُسمَّن العجول، ثم ماذا يكون؟! هل هذه هي المسئولية التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في عنقك: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته} {ما من راع استرعاه الله رعية فبات غاشاً لهم إلا حرم الله عليه رائحة الجنة} هيَّأنا لهم كل مادة، لكنا لم نرب أرواحهم، ثم نرجو نجاتهم، فوالله ما مثلنا إلا كقول القائل:
ألقاه في الماء مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء(10/18)
قصة خيثمة بن الحارث وابنه
أما أبناء سلفنا فكيف كانوا؟ -سأضع لكم نموذجاً، كيف كان السلف يربون أبناءهم؟ وكيف كانوا يتعاملون معهم؟ وكيف تربوا فأصبح الطفل منهم كالرجل منا، بل كالعابد الزاهد منا.
هاهو خيثمة بن الحارث -عليه رضوان الله ورحمته- ما كان منه يوم أن دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للنُفرة إلى غزوة بدر إلا أن جاء إلى ابن له اسمه سعد -ابن صغير- وكان معه من النساء الكثير، ومعه من البنات والأخوات يعولهن هذا الرجل الكبير خيثمة بن الحارث فقال لابنه سعد: يا بني! تعلم نساءنا، وليس لهن من يحميهن، وأريد أن تبقى معهن وأذهب لأجاهد في سبيل الله جل وعلا، قال: [[يا أبتاه! للنساء رب يحميهن، والله ما تطمع نفسي في هذه الدنيا بشيء دونك، لكنها الجنة يا أبتاه، والله لو كان غير الجنة لآثرتك به]].
وانطلق يجاهد في سبيل الله، وجلس الأب الكبير مع هؤلاء النساء، وقُتِل هذا الطفل شهيداً -بإذن الله- في سبيل الله، ويوم جاء الخبر أباه في اليوم الثاني قالوا له: لقد قتل ونحتسبه شهيداً عند الله -جل وعلا- فما كان منه إلا أن قال: [[أواه أواه، والله لقد فاز بها دوني، والله لقد كان أعقل مني، لقد رأيته البارحة يسرح ويمرح في أنهار الجنة وثمارها وأزهارها، ويقول: يا أبتاه! الْحَقْ بنا، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً]].
إن مع الظلام الذي نراه الآن، فهناك بشائر -ولله الحمد- والباب مفتوح يا أيها الأحبة! ولن يُغلق إلا عند طلوع الشمس من مغربها أو غرغرة الروح في الحلقوم.(10/19)
نماذج من التوبة في العصر الحاضر
المبشرات كما قلت كثيرة وكثيرة ولله الحمد، والصور المضيئة كثيرة وكثيرة، والخير في الأمة لا زال ولن يزال بإذن الله إلى قيام الساعة: {لا تزال طائفة على الحق منصورة} ولولا هذه المبشرات لضاقت علينا الأرض بما رحبت، ولكن من فضل الله -سبحانه وتعالى- علينا.
كانت النماذج -يا أيها الأحبة- من الماضي، فإليكم النماذج من الحاضر، وهي مبشرات أقولها لكل من آلمَه ما يرى من تدهور حال الأمة المسلمة وذهابها إلى الهاوية، هناك بشائر تبشر وسأذكر لكم بعض الأمثلة على ذلك:(10/20)
عابدة في الرياض
هاهي عجوز بلغت الثمانين من عمرها في مدينة الرياض، هذه العجوز جلست مع النساء فرأت أنهن لا ينتفعن بأوقاتهن، جلساتهن في قيل وقال، في غيبة ونميمة، في فلانة قصيرة وفلانة طويلة وفلانة عندها كذا، وفلانة ليس عندها كذا، وفلانة طُلقت، وفلانة تزوجت، كلام إن لم يبعدهن عن الله عز وجل فهو تضييع لأوقاتهن.
فاعتزلت النساء وجلست في بيتها تذكر الله عز وجل آناء الليل وأطراف النهار، وكان أن وضعت لها سجادة في البيت تقوم من الليل أكثره، وفي ليلة من الليالي -ولها ولد بار بها، لا تملك غير هذا الولد من هذه الدنيا بعد الله جل وعلا- ما كان منها إلا أن قامت لتصلي في ليلة من الليالي، وفي آخر الليل يقول ابنها: وإذا بها تنادي، قال: فتقدمت وذهبت إليها، فإذا هي ساجدة -على هيئة السجود- وتقول: يا بني ما يتحرك فيَّ الآن سوى لساني، قال: إذاً أذهب بك إلى المستشفى، قالت: لا.
وإنما أَقْعِدني هنا، قال: لا.
والله لأذهبن بك إلى المستشفى -وقد كان حريصاً على برِّها جزاه الله خيراً- فأخذها وذهب بها إلى المستشفى، وتجمع الأطباء وقام كل منهم يدلي بما لديه من الأسباب، لكن لا ينجي حذر من قدر.
إن الطبيب بطبِّه ودوائه لا يستطيع دفاع نَحْبٍ قد أتى
ما للطبيب يموت بالداء الذي قد كان يُبرئ مثله فيما مضى
مات المداوِي والمداوَى والذي جلب الدواء وباعه ومن اشترى
حلَّلوا وفعلوا وعملوا، ولكن الشفاء بيد الله سبحانه وبحمده، قالت: أسألك بالله إلا رددتني على سجادتي في بيتي، فأخذها وذهب بها إلى البيت، ويوم ذهب إلى البيت وضَّأها ثم أعادها على سجادتها، فقامت تصلي.
يقول: وقبل الفجر بوقت ليس بالطويل، وإذ بها تناديني، وتقول: يا بني! أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، لتلفظ نفسها إلى بارئها سبحانه وبحمده.
فما كان من ولدها إلا أن قام فغسَّلها وهي ساجدة، وكفَّنها وهي ساجدة، وحملوها إلى الصلاة عليها وهي ساجدة، وحملوها بنعشها إلى المقبرة وهي ساجدة، وجاءوا بها إلى القبر فزادوا في عرض القبر لتدفن وهي ساجدة، ومن مات على شيء بُعثَ عليه، تبعث بإذن ربها ساجدة: {يُثَبِّتُ اللهُ الذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
أيعجز شبابنا، أتعجز شاباتنا، أتعجز نساؤنا، أيعجز رجالنا أن يفعلوا كما فعلت هذه المرأة؛ أن يقوموا من ليلهم ولو بعضه؛ ليقفوا بين يدي الله، ليلقوه وقد غفر لهم ما اقترفوا من إثم وخطيئة؟!
أسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى.(10/21)
توبة سائق الإسعاف
المبشرات كثيرة جداً -كما قلت- أيها الأحبة: أورد صاحب كتاب قصص السعداء والأشقياء هذا الحدث وفيه عبرة وعظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع.
سائق الإسعاف كان فظاً غليظاً، لا يتذكر إذا ذُكِّر، ولا يتعظ إذا وُعظ، يباشر الحوادث الشنيعة فيحمل أشلاء المصابين، رأس المصاب في يد، ورجل المصاب الآخر في يد أخرى، فلا يهزُّه ذلك المنظر، ولا يؤثر فيه، كان تاركاً للصلاة، مرتكباً للموبقات.
ويشاء الله عز وجل -كما يقول هو- أن بُلِّغ ليلة من الليالي عن حادث من الحوادث على مدخل مدينة الرياض، قال: في الساعة الواحدة ليلاً، قال: ركبت السيارة، وانطلقت مسرعاً نحو الحادث، ووصلت إلى موقع الحادث؛ فإذا بي أجد سيارة بيضاء قد ارتطمت بأحد أعمدة الإنارة -أحد أعمدة الكهرباء- قال: وأدت إلى انطفاء الكهرباء في تلك المنطقة، قال: والغريب أني أرى نوراً خافتاً ينبعث من السيارة.
قال: فانطلقت متوجهاً إلى باب السيارة، وكان في يدي سيجارة، قال: فإذا بي أرى رجلاً كَثَّ اللحية، مستنير الوجه -وجهه كأنه فلقة قمر- قد ملأ نور وجهه السيارة، وقد ارتطمت أجزاؤه السفلى بمقود السيارة، قال: فحاولت أن أعيد المقعد إلى الخلف لأنقذه، فقال: أتريد أن تنقذني يا بني؟ قلت: نعم.
قال: إذا سمحت أطفئ سيجارتك، واتق الله جل وعلا.
قال: فما كان مني إلا أن أطفأتها، ورجعت أحاول إنقاذه، قال: وما استطعت أن أخرجه كما ينبغي، قال: أتريد أن تنقذني فعلاً، قال: نعم.
قال: فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {من صنع إليكم معروفاً فكافئوه} والله! يا بني لا أملك لك مكافأة على إنقاذي إلا نصيحة أوجهها إليك، فهل تقبل ذلك؟ قال: قلت: تفضل، قال: عليك بتقوى الله، عليك بتقوى الله، عليك بتقوى الله، وإياك ورفقة السوء.
أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم مات.
قال: فارتجفت مكاني، وأخذته من هناك، وأخذته في السيارة، وسلمته لقسم الحوادث في الساعة الثالثة ليلاً، قال: ولم أستطع النوم، كلماته لازالت تَرِنُّ في أذني، قال: وقمت إلى صلاة الفجر، وتوضأت وصليت، وأخبرت إمام المسجد الذي بالحي بما حصل، فقال: احمد الله الذي أحياك بموت ذلك الرجل، احمد الله الذي أحياك بموت ذلك الرجل، وادع الله عز وجل له فخير ما تكافئه به الدعاء.
ثم يقول هذا الرجل: فأسأل الله أن يرحمه، وأن يغفر له، وأن يجمعني به في الجنة: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم}.
أرأيتم أيها الأحبة! رجل يلفظ أنفاسه الأخيرة، وعلم أنه مسئول أمام الله أن يأمر وينهي، فماذا كان منه؟ يقول له: أطفئ سيجارتك.
ويقول له: اتقِ الله.
وبعضنا يرى المنكرات والعظائم أمام عينه فلا تهتز فيه شعرة، ويذهب ويخرس كالشيطان لا يتكلم بكلمة، ألا فاتقوا الله، وقولوا كلمة الحق، ولا تخشوا في الله لومة لائم؛ فإن الله ينفع بها: {ولأن يهدي الله بك رجلاً واحدا خير لك من حُمر النِّعم}.(10/22)
توبة رجل بسبب دعوة ابنته
وهاهو حدث آخر حدث في مدينة الرياض، وقد نقلته قبل ذلك في محاضرة: (كل يغدو) ولكن أرى أن المقام مناسب له الآن، رجل عمره ما بين الثلاثين والأربعين، شاب في مقتبل شبابه، لا يرتاح ليلة من الليالي إلا على كأس خمر يشربها، أو امرأة يزني بها، حياته مظلمة، عربدة وفساد وعناد وبُعد عن الله الواحد الدَّيان، تمر به الأيام والليالي، ويشاء الله أن يتزوج بزوجة، وبعد زواجه يزداد طغيانه، ويزداد عصيانه، ويرزقه الله عز وجل بابنة من زوجته لتترعرع وتبلغ الخامسة من عمرها، ترعرعت وبلغت الخامسة من عمرها وهي لا ترى أباها إلا قليلاً، يسهر ليله على معصية الله، ثم يأتي مُنهكاً لينام، ونادراً ما تراه ابنته، في الليل نائمة وهو سهران على المعاصي، وفي النهار في عمله وهي في البيت.
تمر الأيام وتمر الليالي فلا يزداد إلا سوءاً، وفي ليلة يتفق مع بعض قرناء السوء ليجتمعوا على شرب الخمور، ويقدِّر الرحمن أن يتأخر عن هؤلاء الرفقة السيئين، ثم يقول هو عن نفسه: ذهبت وفتشت عنهم يمنة ويسرة، نظرت إليهم هنا وهناك -يبحث عنهم- فلم أجدهم.
قال: فما كان مني إلا أن ذهبت إلى صديق سوء آخر، وأخذت منه فيلماً ماجناً خليعاً جنسياً يستحي إبليس أن ينظر إليه، فكيف بالبشر؟! قال: ثم أخذته وعدت به في الساعة الثانية ليلاً.
ولا إله إلا الله! ثلث الليل الآخر يتنزل الرب، هل من داعٍ فأستجيب له؟ ومنا من تهراق دموعه على خدِّه من خشية الله، فذلك هو الفائز، ومِنَّا من يرضع المعاصي في تلك الساعة وخاصة هذه الأيام مع قدوم البث المباشر، في الساعة الثانية ليلاً الله يقول: {هل من داعٍ فأستجيب له؟} والناس ينظرون إلى ما يغضب الله جل وعلا.
قال: فدخلت إلى بيتي ونظرت إلى زوجتي وابنتي فوجدتهما نائمتين، قال: ودخلت إلى غرفة ذلك الجهاز -يقصد الفيديو- الذي خرب بيوت كثير من المسلمين، وأضاع شباب المسلمين، قال: فدخلت ووضعت الشريط في ذلك الجهاز، ثم جلست، وبينما أنا جالس وإذ بالباب يفتح، وإذا بها ابنتي -عمرها خمس سنوات- وإذا بها تدخل وتنظر إليّ بنظرات حادة قوية وتقول: عيب عليك يا والدي! اتقِ الله! عيب عليك يا والدي! اتقِ الله! قال: ذهلت ودهشت، وقلت: من علَّمها؟ من أنطقها؟ إنه رب الأرباب سبحانه وبحمده.
قال: وأغلقت الجهاز، وخرجت ونظرت إليها، فإذا هي نائمة، قال: فخرجت وأنا أتذكر قولتها: عيب عليك يا والدي! اتق الله! بقيت في الشارع أمشي وآتي، وإذا بمنادٍ ينادي: (الله أكبر، الله أكبر).
نداء صلاة الفجر الذي حُرِمَه كثير من المسلمين، والذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: أن من عِظَم الأجر فيه لو لم يكن من الإنسان إلا أن يأتي حبواً لتلك الصلاة لجاء حبواً، قال: فذهبت وتوضأت ودخلت في المسجد، وما كنت أصلي أبداً، قال: وكبرت مع الإمام، ويوم سجدت انفجرت من البكاء، وعندما انتهى الإمام من صلاته، قال الرجل الذي بجانبه: ما بك يا أخي؟ قال: قلت له: سبع سنوات ما سجدت فيها لله سجدة، بأي وجه ألاقي ربي؟
سبع سنوات ما ركع فيها لله ركعة، بأي وجه يلاقي الله جل وعلا.
قال: ثم ذهب الناس، وبقيت أتذكر جرائمي وفضائحي، وذنوبي التي عظُمت وعظمت وعظمت، قال: ونظرت في الساعة، فإذا وقت الدوام يحين، قال: فانطلقت إلى عملي، وكان لي زميل لطالما ذكرني بالله جل وعلا ولكنني لم أتذكر، قال: دخلت عليه ونظر إلي وقال: والله إني لأرى بوجهك اليوم شيئاً غير الذي أراه منك كل يوم، قال: لقد كان من أمري البارحة كذا وكذا وكذا وقص عليه قصته، فقال: احمد الله الذي أرسل إليك ابنتك لتوقظك وما أرسل إليك ملك الموت ليقبض روحك.
ثم قال: إني لم أنَمْ البارحة، وأريد أن تأذن لي لأذهب لأنام، فأذن له فخرج من عنده، وذهب ودخل في مصلى الدائرة التي يعمل فيها، ثم قام يصلي من الساعة العاشرة إلى صلاة الظهر، قال: وجئته وظننت أنه ذهب إلى البيت، قال: فتقدمت إليه، ولما رآني انفجر بالبكاء، فقلت له: لِمَ لَمْ تذهب وتسترح؟ قال: يا أخي! سبع سنوات ما ركعت فيها لله ركعة، بأي وجه ألاقي ربي؟ والله إن بي شوقاً عظيماً إلى الصلاة -والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {وجعلت قرة عيني في الصلاة} - وتواعد هو وإياه على ليلة جديدة وعلى عُمْر جديد؛ ليكون عمره تلك الليلة، وليكون عمره بدايته في ذلك اليوم، وما مضى فعُمْر لا يتشرف به.
وذهب إلى بيته يريد أن يرى ابنته التي لم يرَها منذ أن قالت له كلمتها، ويدخل البيت، وإذا بزوجته تصرخ في وجهه وتقول له: أين أنت؟ نتصل عليك فلم نجدك، لقد ماتت ابنتك منذ ساعات، فما كان منه إلا أن انهار، لم يتمالك نفسه إلا وهو يردد كلماتها: عيب عليك يا والدي! اتق الله! عيب عليك يا والدي! اتق الله!
ثم ماذا كان؟ كان منه أن اتصل بزميل الصلاح وأخبره، فجاء وكفَّنوها وصلوا عليها في صلاة العصر، وذهبوا بها إلى المقبرة، ويوم وصل إلى المقبرة قال: خذ ابنتك -يقول زميله- وضَعْها في لحدها، فأخذها ودموعه تقطر على كفنها.
وليس الذي يجرى من العين ماؤها ولكنها روح تسيل وتقطر
ما كان منه إلا أن وضعها في القبر، ويوم وضعها في القبر قال كلاماً أبكى جميع من حضر الدفن، قال: يا أيها الناس! أنا لا أدفن ابنتي، ولكني أدفن النور الذي أراني النور، هذه البنت أخرجتني من الظلمات إلى النور بإذن الله -سبحانه وبحمده- فأسأل الله أن يجمعني وإياها في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
أرأيتم أيها الأحبة يوم يعود العبد إلى الله فيجد الله سبحانه وتعالى توَّاباً رحيماً.(10/23)
الحث على محاسبة النفس
يا أيها المذنبون -وكلنا ذوو خطأ- المولود إذا ولد أُذِّن في أذنه اليمنى، وإذا مات صُلِّيَ عليه، فكأن الحياة ما بين الأذان إلى الصلاة، ولا إله إلا الله! ما أقصرها من حياة! إن للموت أَخْذَة تسبق اللمح بالبصر، إياكم والتسويف فإن (سوف) جندي من جنود إبليس.
أعماركم تمضى بسوف وربما لا تغنمون سوى عسى ولعلما
فاقضوا مآربكم عجالى إنما أعماركم سفر من الأسفار
وتراكضوا خيل الشباب وبادروا أن تُسْترد فإنهن عوارِ
اذكروا أن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل، وإذا كانت نظرة الخلق إليك تمنعك من المعصية؛ فإن الله أولى بذلك، أَصْلح ما بينك وبين الله، وتقرَّب إليه بطاعته؛ عسى أن تكون ممن يبدل الله سيئاتهم حسنات؛ فإنك عما قريب تُحمل على أكتاف الرجال، ونفسك إن كانت صالحة تقول: قدموني قدموني، وإن كانت طالحة تصيح بصرخات تقض منها المضاجع: يا ويلها، أين تذهبون بها؟!(10/24)
فضل محاسبة النفس
أحبتي في الله! أسعد ساعة في العمر، وأصدق لحظة في الحياة؛ تلك الساعة التي يقف العبد فيها مع نفسه محاسباً، وقفة العتاب، وقفة الملامة، إنها ساعة المخطئين المنيبين إلى رب العالمين، إنها ساعة المنكسرين من خشية إله الأولين والآخرين، إنها ساعة العتاب، إنها ساعة الحساب التي يتذكر فيها العبد ما أصاب، أيام خلت وليالٍ مضت قد قصر فيها في جنب الله، إذا تذكر السيئات وما أصاب من الأوزار رق قلبه، وانكسر فؤاده من خشية الله، تذكر حقوقاً لله ضيعها، وحدوداً لله جاوزها، ومحارم لله انتهكها؛ فانكسر فؤاده من خشية الله، ورقَّ قلبه خوفاً من الله، إنها ساعة الحزن والندامة والأسى على التفريط في جنب الله، لكن سرعان ما يزداد الألم والندم إذا تذكر أنه إلى الله صائر وراجع ومسئول، وأنه مرتحل من هذه الدنيا ليقف بين يديْ جبار السماء والأرض، ثم يسأل نفسه، كيف ألقاه وحقوقه ضيعت؟! كيف ألقاه ومحارمه انتهكت؟! كيف ألقاه وحدوده تجاوزت؟! كيف ألقاه؟! بأيِّ وجه ألقاه؟! بأيِّ قدم أقف بين يديْه؟!
عندها ينكسر قلبه ويرقُّ فؤاده، ولا يجد إلا أن يدمع من خشية الله، ثم لا يملك إلا أن يرفع يديْه، ربَّاه أسأت، ربَّاه ظلمت، ربَّاه أسرفت، ربَّاه ذنوبي من أرجو لها سواك؟ من يفتح الباب إن أغلقتَه؟ من يعطي العطاء إن منعتَه؟ فيصلح الحال، وتُبدَّل السيئات -بإذن الرب- إلى حسنات؛ فالبدار البدار.(10/25)
ضرورة التوبة قبل إغلاق الباب
انتبه عبد الله وتيقظ وادخل باب التوبة المفتوح -قبل إغلاقه- مبادراً منكسراً: {وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الْذِينَ يَتَّبِعُونُ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27].
أحبتي في الله! العيون تذنب، والآذان تذنب، والقلوب تذنب، والأبصار تذنب، والأرجل تذنب، وكلنا ذوو خطأ وذنب.
والله لا يغسل هذه الذنوب إلا التوبة النصوح، التوبة التوبة لعلكم تفلحون، الأوبة الأوبة، متى ما أقبلتم على الله فاستغلوا ذلك الإقبال؛ فإن النفس كالحديدة لا تلين بيد الحدَّاد إلا إذا كانت ساخنة، فإذا بردت جمدت وصارت أشدَّ من الحجارة.
ألا واستغلوا اندفاع الأنفس إلى الخيرات؛ فإن لكل نفس إقبالاً وإدباراً، ولكل خافق سكوناً:
إذا هبت رياحك فاغتمنها فإن لكل خافقة سكون
ولا تغفل عن الإحسان فيها فلا تدرى السكون متى يكون
إن صاحب الشِمال -المَلَك الموكَّل بالسيئات- ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ؛ فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها، وإلا كتبت عليه واحدة فضلاً مِن الله ومِنَّة، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، التوبة على عَجَل قبل دنوِّ الأجل، لنندم ونقلع، ونرد المظالم، ولنخالط الصالحين؛ فبخلطة الصالحين نتذكر رب العالمين.
{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:17].
يا نفس توبي قبل أن لا تستطيعي أن تتوبي
واستغفري لذنوبك الـ ـرحمن غفار الذنوب
إن المنايا كالريا ح عليك دائمة الهبوب
...
يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل
ويرى نياط عروقها في نحرها والمخ في تلك العظام النُحَّل
اغفر لجمع تاب من زلاته ما كان منه في الزمان الأول
نسألك اللهم باسمك الأعظم، نسألك اللهم بعزِّك وذلِّنا إلا رحمتنا.
نسألك بقوتك وضعفنا، وبغناك وفقرنا إليك إلا غفرت لنا.
هذه نواصينا الخاطئة الكاذبة بين يديك.
عبيدك سوانا كثير ولا رب لنا سواك.
لا ملجأ ولا منجى إلا إليك، لا مهرب منك إلا إليك.
نسألك مسألة المسكين، ونبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وندعوك دعاء الخائف الضرير، ونسألك سؤال من خضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عيناه، وذلَّ لك قلبه إلا رحمتنا وتقبلتنا.
من يغفر الذنوب إلا أنت؟
من يستر العيوب إلا أنت؟
اللهم آمن روعاتنا، واستر عوراتنا، واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا، ومن فوقنا، ونعوذ بك اللهم أن نُغتالَ من تحتنا، اللهم تقبلنا فيمن تقبلت، اللهم تقبل منا أحسن ما عملنا، وتجاوزْ عن سيئ ما عملنا.
ربَّاه! من يفتح الباب إن أغلقته، من يعطينا العطاء إن منعته، اللهم تقبلنا في التائبين، واغفر ذنوب المذنبين.
اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك في حاجة إلى رحمتك، وأنت في غنى عن عذابنا، اللهم جازِنا بالإحسان إحساناً، وبالإساءة عفواً وغفراناً.
اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
تم الكلام وربنا محمود وله المكارم والعُلى والجُود
وعلى النبي محمد صلواته ما ناح قُمْري وأورق عُود(10/26)
الأسئلة(10/27)
ضرورة الدعوة إلى الله
السؤال
يقول أحدهم: حبذا لو دعوت الشباب إلى أن يأخذوا في طريقهم -قبل أن يأتوا إلى حضور حلقات الذكر- إخوانهم الذين ربما انشغلوا وربما غفلوا.
الجواب
فأقول لهم: يا أيها الأحبة! {لأن يهديَ الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} إن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه يدخل على المصطفى صلى الله عليه وسلم فيؤمن برسالته، ثم يخرج من عنده ويرجع وقد أدخل في دين الله -بإذن الله- ستة من العشرة المبشرين بالجنة، يأتي يوم القيامة وهم في ميزان حسناته.
فهلا ركزت جهدك على أن تأتي بواحد لتذيقه ما ذُقتَه من حلاوة الإيمان.
إن من أعظم الأخوة علينا أن نشارك غيرنا فيما نشترك فيه في حلقات الذكر، إن المؤمنين وهم في الجنة على مقاعدهم إخواناً على سُرُر متقابلين يتذكرون بعض إخوانهم من أصحاب الكبائر، فيقولون: يا رب! كيف ننعم وإخواننا يعذبون؟ كيف ننعم وإخواننا يعذبون؟
فيأذن الله عز وجل بالشفاعة لكل رجل جلس مع آخر ولو لساعة واحدة يذكر فيها الله عز وجل: {وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتذاكرونه ويتدارسونه فيما بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده} أسأل الله أن يوفقنا وإياكم للخير أنى اتَّجهنا.
وسبحان الله وبحمده، أشهد أن لا إله إلا هو، أحمده وأستغفره وأتوب إليه.(10/28)
مكانة المرأة في الإسلام
لقد واجهت المرأة في ظل الجاهليات القديمة والحديثة أسوأ معاملة، ولقد جاء هذا الدين فرفع من قيمتها، وأعلى مكانتها، وقرر حقوقها فأصبحت بحق في ظل الإسلام مخلوقاً له مكانته في المجتمع.
وقد ضربت المرأة المسلمة أروع الأمثلة في الصبر والتضحية لهذا الدين.(11/1)
عزة المسلمين في إسلامهم
الحمد لله حمداً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، اللهم لك الحمد ملء السماوات والأرض فكل الحمد لك.
اللهم لك الشكر ملء السماوات والأرض فكل الشكر لك، نحمدك على نعمة الإسلام والإيمان والقرآن، ونحمدك على أن هديتنا للإسلام وجعلتنا من أمة خير الأنام صلوات الله وسلامه عليه، نشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمداً عبدك ورسولك صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذه الدقائق في ميزان الحسنات في يوم تعز فيه الحسنات في يوم الحسرات، وأن يجعل من تسبب في ذلك بشيء قليل أو كثير يجعل هذه في ميزانه وأن يجعلها له من الباقيات الصالحات هو ولي ذلك والقادر عليه.
أيتها الأخوات المؤمنات: إدارة ومعلمات وطالبات ومنسوبات، أوصيكن ونفسي بتقوى الله عز وجل، وأن نقدم لأنفسنا أعمالاً تبيض وجوهنا يوم أن نلقى الله: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل:111] {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30] يوم يبعثر ما في القبور ويحصل ما في الصدور.
يوم تبلى السرائر وتنكشف الضمائر، يوم الحاقة والطامة والقارعة والزلزلة والصاخة: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37].
أيتها الأخوات: من أنتن لولا الإسلام والإيمان والقرآن؟
أنتن بالإسلام وبالإيمان والقرآن شيء وبدونها والله لا شيء، ولعلكنَّ تُعِرنني أسماعكنَّ قليلاً، لتعرفن تلك النعمة التي أنتنَّ تعِشْنَها في هذه الأيام، يوم تسمعْن لحال المرأة في عصور الجاهلية، وأنتنَّ تتبوأن نعمة الهداية، كيف كانت المرأة؟(11/2)
حال المرأة قبل الإسلام
كانت المرأة سلعة تُباع وتُشترى، يُتشاءم منها وتُزدرى، تُبَاع كالبهيمة والمتاع، تُكْرَه على الزواج والبِغَاء، تُورث ولا تَرث، تُملَك ولا تَمْلِك، للزوج حق التصرف في مالها -إن ملكت مالها- بدون إذنها، بل لقد اُخْتلِفَ فيها في بعض الجاهليات، هل هي إنسان ذو نفس وروح كالرجل أم لا؟
ويقرر أحد المجامع الروسية أنها حيوان نَجِس يجب عليه الخدمة فحسب، فهي ككلب عَقُور، تُمنَع من الضَّحِك أيضاً؛ لأنها أحبولة شيطان، وتتعدد الجاهليات، والنهاية والنتيجة واحدة.
جاهلية تبيح للوالد بيع ابنته، بل له حق قتلها ووأدها في مهدها، ثم لا قِصاص ولا قَصاص في من قتلها ولا دِيَة، إن بُشِّر بها ظلَّ وجهه مسوداً وهو كظيم: {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:59].
وعند اليهود إذا حاضت تكون نجسة، تنجس البيت، وكل ما تَمسُّه من طعام أو إنسان أو حيوان، وبعضهم يطردها من بيته؛ لأنها نجسة، فإذا تطهَّرت عادت لبيتها، وكان بعضهم ينصب لها خيمة عند بابه، ويضع أمامها خبزاً وماءً كالدابة، ويجعلها فيها حتى تطهر.
وعند الهنود الوثنيين عُبَّاد البقر: يجب على كل زوجة يموت زوجها أن يُحرق جسدها حية على جسد زوجها المحروق.
وعند بعض النصارى: أن المرأة ينبوع المعاصي، وأصل السيئات، وهي للرجل باب من أبواب جهنم، هذا كله قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
فهل أتاكنَّ أيتها المؤمنات المسلمات القانتات، بل هل أتاكنَّ يا بنات حواء في هذا العالم كله أنباء ما جاء به نبي الرحمة والهدى محمد صلى الله عليه وسلم من التعاليم في حقِّكنَّ فحمدتنَّ الله على ما تبوأتنَّ به من هذه النعمة؟(11/3)
حال المرأة في الإسلام
بعد تلك المهانة والذِلَّة يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرفع مكانة المرأة، وليُعلي شأنها، فإذا به صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بيعة مستقلة عن الرجال، وإذا بالآيات تتنزل، وإذا المرأة فيها إلى جانب الرجل تكُلَّف كما يُكَلَّف الرجل إلا فيما اختصت به {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل:72] {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] صفات صالحة في الرجال، ما ذكرها الله إلا وذكر في جانبها النساء، والطالحة كذلك.
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ} [التوبة:71] {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26] {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [لمائدة:38] {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2].
وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مدة ليست باليسيرة يقول: {إنما النساء شقائق الرجال} وإذا به صلى الله عليه وسلم بعدها يقول في خطبته الشهيرة: {استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندكم عَوَان} يعني: أسيرات.
ثم يقول صلى الله عليه وسلم رافعاً شأن المرأة، وشأن من اهتم بالمرأة على ضوابط الشرع؛ خياركم خياركم لنسائهم: {خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي} صلوات الله وسلامه عليه، يأتيه ابن عاصم المنقري؛ ليحدثه عن ضحاياه من الموءودات، وعن جهله المُطْبِق فيقول: {لقد وأدت يا رسول الله اثنتي عشرة منهن، فيقول صلى الله عليه وسلم: من لا يَرحم لا يُرحم، من كانت له أنثى فلم يَئدْها، ولم يُهِنْها، ولم يؤثر ولده عليها، أدخله الله عز وجل بها الجنة}.
ثم يقول صلوات الله وسلامه عليه: {من عَالَ جاريتيْن حتى تبلغا، جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين، وضمَّ بين أصابعه صلوات الله وسلامه عليه}.
ثم يقول صلى الله عليه وسلم: {الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو كالقائم لا يفتر، أو كالصائم لا يفطر} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
أمٌّ مكرَّمَة مع الأب، أُمِرْنَا بحسن القول لهما: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء:23] وحسن الرعاية: {وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23] وحسن الاستماع إليهما والخطاب: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً} [الإسراء:23] وحسن الدعاء لهما: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:24].
أمٌّ مكرَّمة مقدَّمة على الأبِّ في البرِّ: {من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أبوك}.
يأتي جاهمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الجهاد في سبيل الله من اليمن، قد قطع الوِهَاد والنجاد حتى وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أردت يا رسول الله أن أغزو وجئت لأستشيرك، فقال صلى الله عليه وسلم: {هل لك من أم؟ قال: نعم.
قال: الْزمها؛ فإن الجنة عند رجليها} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
بل أوصى صلى الله عليه وسلم بالأم وإن كانت غير مسلمة، فها هي أسماء تقول: {قدمت أمي عليَّ وهي ما زالت مشركة، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: قدمت أمي وهي راغبة أَفأَصِلُها؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم.
صِلي أمك}.
ليس هذا فحسب، بل أنزل الله فيكِ سورة كاملة باسم سورة النساء، وخصَّكِ بأحكام خاصة، وكرَّمك، وطهَّرك، واصطفاك، ورفع منزلتك، ووعظك، وذكَّرك، وجعلك راعية ومسئولة، وأرجو من الله -عز وجل- أن تكوني كذلك، فالأمل والله فيكن أيتها المؤمنات المتعلمات كبير، والمسئولية والله عليكن عظيمة وجسيمة.
فأنتن راعيات في المدارس، راعيات في البيوت، فلتكنَّ قدوات: قدوات في المظاهر، وقدوات في المخابر، قدوات في القول، وفي العمل، وفي كل أمورِكن؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم الذي رفع شأنكن بهذا الدين يقول: {وما من راعٍ استرعاه الله رعية فضيَّعهم، أو بات غاشاً لهم إلا حرَّم الله عليه رائحة الجنة}.
منذ بزوغ فجر الرسالة -يا أيتها المسلمة- والمرأة مُكرَّمة معزَّزة تقوم بدورها إلى جانب الرجل تؤازره، وتشد من عزمه، وتقوي همَّته، وتناصره.
تحفظه إن غاب، وتسرُّهُ إذا حضر إليها، ثم تنال بعد ذلك نصيبها في شرف الدعوة إلى الله عز وجل.
وتنال نصيبها من الإيذاء في سبيل الله.
فها هي سمية ما سمية؟!
سمية أول شهيدة في الإسلام، وهاهو ابنها وزوجها يُعذَّبون، يُلبسون أذرع الحديد، ثم يُصهرون في الشمس في رمضاء مكة، وما أدراكم ما تلك الرمضاء؟!
ثم يمرُّ صلى الله عليه وسلم وهم يُعذَّبون بـ الأبطح، وهو في بداية دعوته لا يملك لنفسه شيئاً بل لا يملك ما يدفع به عنهم وعنها، فيقول: {اصبروا آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة} وذات يوم بالعشي يأتي أبو جهل إلى سمية، فيسبها، ويشتمها، ويتكلم بكل كلمة وَقِحَة ومهينة، وهي ثابتة بإيمانها، راسخة بيقينها، لا تلتفت إلى وقاحته، ولا تنظر إلى سفالته، وإنما رنت عينها مباشرة إلى جِنَانٍ زاكية، وإلى منازل ذاكية، في دار النعيم والرِّضوان والتكريم، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها، نظرت إلى هناك ولم ترد عليه ليتقدم -أخزاه الله- إلى تلك العجوز الضعيفة الكبيرة فيطعنها بالحربة في موطن عِفَّتِها، لم يرحم ضعفها ولا عَجْزَهَا، لتسقط فتكون أول شهيدة في الإسلام، ثم يموت زوجها بعد ذلك بالعذاب فيحتسبه أبناؤه، ويشاء الله أن يعيش ابنها عمار حتى يرى قاتل أمه يوم بدر مجندلاً على الأرض، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: {قتل الله قاتل أمك يا عمار، قتل الله قاتل أمك يا عمار}.(11/4)
جاهلية تعيشها المرأة في هذا القرن
أخواتي المؤمنات؛ ونَعِمَت المرأة في ظل الإسلام قروناً، ولا زالت تنعم بذلك حتى جاءت جاهلية هذا القرن والذي قبله، فوأدت المرأة وأداً معنوياً، أشد خطراً من وأد الجاهلية؛ فإن الموءودة في الجنة كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، أما موءودة هذا القرن فهي التي وأدت نفسها، وباعت عفَّتها، وأهدرت حياءها، فلا تجد الجنة، ولا تجد ريحها، كاسية عارية، مائلة مُمِيلة، لا تجد عرف الجنة، وإن ريح الجنة ليوجد من مسافة كذا وكذا.
أصغت بأذنها إلى الدعاة على أبواب جهنم، فقذفوها في جهنم، فشقيت وخسرت دنياها وأخراها، فهي تعض أصابع الندم هنا ويوم القيامة، نسأل الله عز وجل أن يتجاوز عنَّا، وعن العاصيات من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
يا أمَةَ الله! تجيء جاهلية هذا القرن في صور متعددة؛ في صورة المشفق عليك، الضاحك ظاهراً، وهو يريد قتلك باطناً.
إذا رأيت نِيُوبَ اللَّيثِ بارزةً فلا تظنِّي أنَّ اللَّيث يبتسمُ
جاءت هذه الجاهلية في صورة المشفق عن طريق مجلة، أو عن طريق صفحة جريدة، أو أغنية فاجرة، أو مسلسل، أو تمثيلية، أو جهاز استقبال، يريدون منكِ أن تكوني عاهرة، سافرة، فاجرة، يريدون أن تكوني بهيمة في مِسْلاخِ بشر، حاشاك يا بنة الإسلام! ويا حفيدة سمية وأسماء!
اسمعي لقائلهم سمع اعتبار يوم يقول، وهو أحد الكفار الذي يتربص بك وبأخواتك وبالمؤمنين الدوائر يقول: لا تستقيم حالة الشرق الإسلامي لنا حتى يُرفع الحجاب عن وجه المرأة، ويُغطَّى به القرآن، وحتى تؤتى الفواحش والمنكرات.
وخاب وخَسِر.
ويقول الآخر:
مزِّقيه مزِّقيه بلا ريث فقد كان حارساً كذاباً
يخاطب بذلك الحجاب.
ويقول الآخر: إلى متى تحملين هذه الخيمة؟
ويقول آخر: ينبغي أن تبحثي عن قائد يقودك إلى المدرسة والكليَّة.
ويقول آخر: لابد أن نجعل المرأة رسولاً لمبادئنا، ونخلِّصها من قيود الدين.
خاب وخسر.
ويقول الآخر: إن الحجاب خاص بزوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأين تنطلي مثل هذه الأمور؟ وأين هذا من القرآن؟
إنه لم يعرف القرآن، ولو عرف القرآن لقرأ قول الله في القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:59].
ويقول أحدهم -وهو قاسم أمين، من الذين تأثروا بالغرب-: إن الحجاب ضرر على المرأة؛ فهو معرقل لحياتها اليومية.
يضرب بالآيات عرض الحائط، ويحكِّم عقله، وينظر إلى الغرب الهائم؛ فعامله الله عز وجل بما يستحق.
وآخر يقول: كأس وغانية تفعلان في الأمة المحمدية ما لا يفعله ألف مدفع؛ فأغرقوهم في الشهوات والملذَّات.
كيف جاءت هذه الأمور؟
إنها لم تأتنا إلا من أعداء الإسلام، على طريقة من؟! على طريقة الذين رُبُّوا على أفكار أولئك.
يخرج سعد زغلول منفياً مُرتباً له من مصر إلى بريطانيا أيام الاحتلال، ليعود من هناك وهو بطل وزعيم وطني قومي -وقد رُتِّب له الأمر- فإذا بسرادق النساء في استقباله، وإذا بزوجته صفية زغلول -انتسبت إليه، ولا تنسب إلى أبيها على طريقة الغربيات الكافرات- تأتي معه على ظهر الباخرة، وتصل إلى هناك، ولمَّا وصلت إلى هناك، وجاءوا لاستقباله -إذ الأمر مرتب- ينزل وينطلق مباشرة إلى سرادق النساء، إلى سرادق الحريم المحجبات فتقوم هدى شعراوي -عاملها الله بما تستحق- تقوم إليه محجبة، فينطلق إليها ليمد يده -وقد مدَّ اليهودي قبل ذلك يده فدفع ثمن ذلك نفسه- يمد يده إلى حجابها ويرفع ذلك، وهي تضحك وتصفِّق، وهو يضحك ويصفِّق، ثم يصفقن النساء لِيُعْلِنَّ الرَّذيلة من ذلك اليوم، وليبدأنَ في تقليد الكافرات، هذا هو عمله، فماذا فعلت التي قامت بالدور بعد ذلك هدى وصفية؟
انطلقا في مظاهرة ظاهرها وهدفها مناوأة الاحتلال الإنجليزي، وانطلقا إلى ميدان الإسماعيلية، ليقفا في ذلك الميدان محجبات سود كالغربان، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولكن لحاجة في نفسهن، رمين الحجاب ودُسْنَهُ بالأقدام، ثم أحرقْنَه في تلك الساحات، ليُعلنَّ التمرد على القيم والأخلاق الإسلامية، فماذا كان بعد ذلك؟!
حصل في مصر ما حصل، حصل فيها أن بدأ التغريب هناك على يد هؤلاء، وبين أيادي المؤمنات، وعلى مرأى المسلمين والمسلمات، ماذا حصل؟!
انطلقوا مباشرة فإذا بالرجل ينطلق إلى جنب المرأة مباشرة، وإذا به يعمل معها، وإذا به يخالطها في المدرسة تلميذاً ومعلِّماً فيما بعد، وإذا بالأمور تنفرط ليس هناك فحسب، بل تدب العدوى إلى بلاد عربية، حتى يكاد لا يَسْلَم من ذلك بلد إلا من رحم الله، وقليل ما هم.
وإذا بنا نئن ونشكو من اختلاط، ورذيلة.
ومن طهر وعفاف يوأد، وإذا الفساد ينتشر، وإذا الداعية يصيح هنا وهناك، فإذا الآذان صُمَّت، واتجهت تقلِّد الغرب حتى في لباسها، قامت تقلدهم في الموضة والأزياء.
جاءت هذه الصرعات فاستنفذت البيوت واستنفذت ميزانيات الأسر، حتى إنك لترى التي بلغت الخامسة عشرة لا زال لباسها من فوق ركبتها، وتقول: لازلت صغيرة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وما -والله- ذكرت من هؤلاء، سواء هدىأو قاسم أو زغلول أو غيرهم من الدعاة هنا وهناك إلا نماذج للدعاة على أبواب جهنم الذين ألقوا بحجابهم وداسوه بالأقدام، إنما يتَحَدَّوْن مشاعر المسلمين، والذين يكتبون لتحرير المرأة، والذين وقفوا بذلك الميدان وسموه: ميدان التحرير إنما هو التحرر من الفضيلة والخُلُق والطُّهر ولاشك، يكتبون والله يكتب ما يُبيِّتون هم وأذنابهم إلى يوم يبعثون: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
أختي المؤمنة: هل لهؤلاء ومن على أدرابهم من الكُتَّاب والراقصات والعاهرات أهلٌ لأن يَكُنَّ قدوة للصالحات المؤمنات القانتات الصابرات الخاشعات؟
نعوذ بالله من الانتكاس، ونسأل الله الثبات حتى الممات.
أنتِ الطهر، وأنتِ الفضيلة، وأنت السُّمُو، والطهر لا يقتدي بالرِّجس والمهين، والفضيلة لا تقتدي بالرذيلة، والسمو لا يقتدي بالسُّفْل.
خابوا وخسروا وتعسوا وانتكسوا.
أغيظيهم وقولي بلسان حالك ومقالك:
دعهم يعضوا على صُمِّ الحَصَى كمداً من مات من غيظه منهم له كفن(11/5)
نماذج مشرفة من صبر المرأة المسلمة
إن آمالنا في المسلمة المتعلِّمة والمعلِّمة أن تكون أقوى من التحدِّيات، آمالنا في المسلمة في كل مكان، وآمالنا في المسلمة في هذه الجزيرة أن تكون أقوى من التحديات، تعتز بدينها، تتمسك بعقيدتها ومبادئها وأخلاقها، بل وتدعو إليها؛ فذلك من دينها.(11/6)
صبر ماشطة ابنة فرعون
هاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر ليلة الإسراء فيقول: {فلما كانت الليلة التي أُسْرِيَ بي أتت علي رائحة طيِّبة، فقلت: ما هذه الرائحة الطيبة يا جبريل؟ قال: هذه رائحة ماشطة بنت فرعون وأولادها}.
أتدرون ما خبر هذه المرأة؟ وما خبر هذه الماشطة؟
اسمعنَ إليها؛ فلعل فيها ما يثبِّت المرأة أمام شهواتها، وأمام رغباتها، والترغيب والترهيب عموماً.
هذه كانت تمشط بنت فرعون، وذات يوم من الأيام، وبينما هي تمشِّط بنت فرعون -وهو الذي يقول: أنا ربكم الأعلى- وإذا بالمِدْرَى يسقط من يديها -المشط أو المِفْرَق التي تفرق به الشعر يسقط من يديها- ويوم سقط من يديها قالت: باسم الله، وقد كانت تخفي إيمانها قبل ذلك، فقالت بنت فرعون: أبي؟
قالت: باسم الله ربي ورب أبيك وربك رب العالمين جميعاً، فقالت: إذاً أخبره بذلك.
قالت: افعلي.
فذهبت وأخبرت أباها، فجاء في تكبُّره وتجبُّره، ووقف عندها، وقال: أو إنَّ لك رباً غيري؟ قالت: ربي وربك ورب الجميع رب العالمين سبحانه وبحمده، فاغتاظ، وقال: أما أنت بمنتهية؟ قالت: لا.
فقال: إذاً أعذب أو أقتل، قالت: اقْضِ مَا أَنتَ قَاض إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاة الدُّنْيَا.
فانطلق يعذِّبها، أوتد يديْها ورجليْها، وصنف عليها أنواع العذاب، فكانت تمزج حلاوة إيمانها بمرارة العذاب، فتطفو حلاوة الإيمان على مرارة العذاب، فتشتاق وتقول: إنما هي ساعات، وإلى جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
يرسل عليها العقارب لتلسعها علَّه أن يصل إلى قلبها، ثم يقول: أما أنت بمنتهية؟ فتقول: ربي وربك الله رب العالمين، فيعود ليرسل عليها الحيَّات لتنهشها، ثم يقول: أما أنت بمنتهية؟ فتقول: ربي وربك الله رب العالمين.
ينوِّع عليها العذاب، ويصنف عليها ذلك، وهي راسخة بإيمانها وعقيدتها، قد علمت إنما هي سويعات، ثم تعود إلى الله عز وجل، فماذا حصل.
قال: إذاً أقتلك وأحرقك بالنَّار، قالت: اقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا.
فأمر ببقرة من نحاس، قيل أنه قدِر على صورة بقرة، وقيل: إنها بقرة أُذِيبت، ثم جيء بها وبأولادها ليقفوا على طرف هذه النار، ثم يأخذ واحداً من أولادها، وقبل أن يأخذه قالت: لي إليك حاجة، قال: وما هي؟ قالت: أن تجمع عظامي مع عظام أولادي، ثم تدفننا في ثوب واحد، قال: ذلك لك علينا من الحق، ثم رمى الولد الأول فوقفت، فوقف أخوه الثاني وقال: اصبري يا أماه، فإن لك عند الله كذا وكذا إن صبرت، ثم رمى بالثاني، فقال الثالث: اصبري يا أماه؛ فإن لك عند الله كذا وكذا إن صبرت، ويرمي بهم واحداً بعد الآخر، وهي تقول: ربي وربك الله رب العالمين.
لم يبقَ سوى طفل على ثديها رضيع لم ينطق بعد في شهوره الأولى، فما كان منها إلا أن ترددت أن تلقي بنفسها مع أولادها من أجل هذا الرضيع، ويشاء الله فيطلق الثدي وينطقه الله الذي تعبده؛ ربها ورب كل شيء، فيقول: يا أماه! اقتحمي؛ لَعذابُ الدنيا أهونُ من عذاب الآخرة، فتقتحم مع طفلها لتلقى الله عز وجل.
راسخة ثابتة بإيمانها؛ فعليها رحمة الله ورضوانه.(11/7)
صبر آسيا زوجة فرعون
لم يقف الأمر عند ذلك، بل كانت آسيا بنت مزاحم زوج فرعون، والتي ربت موسى صلوات الله وسلامه عليه والتي قالت: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} [القصص:9] كانت تراقب الموقف وهي مؤمنة، ولم تعلن إيمانها بعد؛ خوفاً من أن يفتنها عن دينها، ولما رأت من الماشطة ما رأت، فقوي في قلبها إيمانها، وتعلقت بربها؛ رب العالمين.
فجاء إليها ليخبرها متبجحاُ وقد علمت ما حصل، فقال: فعلت بالماشطة كذا وكذا، فقالت: الويل لك، ما أجرأك على الله! الويل لك ما أجرأك على الله! الويل لك ما أجرأك على الله!
قال: لقد اعتراك جنون الماشطة، قالت: بل آمَنْتُ بالله ربي ورب الماشطة، وربك رب العالمين.
فذهب إلى والدتها، وقال: لأذيقنَّها ما ذاقته الماشطة أو لترجع، فجاءت أمها -برحمتها وشفقتها عليها- تعرض عليها أن تتنازل عن دينها وهي إنما تتنازل عن الجنة التي عرضها السماوات والأرض- فماذا كان منها؟
قالت: يا أماه! أما أن أكفر بالله، فوالله لا أكفر بالله، عندها بدأ في التعذيب، أوتد يديْها ورجليها، وعرَّضها لأشعة الشمس، ووكَّلَ من يعذبها ويصنف عليها أنواع العذاب ويقول: أما أنت بمنتهية؟ فتقول: لن أنتهي حتى ألقى الله، أو كما قالت.
فيأتي بعد ذلك، ويقول: لأرمينك بكذا وكذا من الصخور - يهدِّد - قالت: لا أرجع عن ذلك أبدًا، فماذا يحصل بعد ذلك؟ كان الذين يعذبونها في حرارة الشمس ينصرفون عنها ويذهبون بعيداً عنها، فإذا ذهبوا، نزلت الملائكة لتظلَّها بأجنحتها.
ثم يرجع إليها ويعرض عليها الكفر مرة أخرى فترفض؛ فيرمي بالصخرة عليها ويقبض الله روحها قبل نزول الصخرة عليها لتلقى الله عز وجل ثابتة بإيمانها.
هذا خبر من قبلنا من الأمم، فما خبر من بعد البعثة؟(11/8)
تثبيت خديجة للرسول صلى الله عليه وسلم
إن الخبر ليستلزم أن نقف عند خديجة رضي الله عنها تلك المؤمنة صاحبة الثراء، وصاحبة الجاه، وصاحبة المال، التي تزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت أول مؤمنة به، وآزرته في محنته، وثبَّتته يوم خاف، ويوم عاصرت نزول القرآن من أول لحظاته، كانت أول مثبت للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي جاء النبي صلى الله عليه وسلم منها الولد، وكان يذكر ذلك لها بعد موتها، رضي الله عنها وصلى الله عليه وسلم.
جاء إليها يوماً من الأيام وهي تبكي بعد موت ابنها القاسم، فيقول: ما بك؟ قالت: دَرَّت لُبَينَة القاسم، فكان بودِّي لو عاش حتى يستكمل رضاعته، فقال صلى الله عليه وسلم: {إن له في الجنة مرضعاً تستكمل له رضاعته} فهان عليها ما كان.
وقامت معه عندما أنزل عليه الوحي، وجاء إليها يرتعش خائفاً مرتعداً؛ لما رأى جبريل وهو يقول له: اقرأ، وهو يقول لها: زملوني، دثِّروني، فيقول لها: والله يا خديجة! لقد خشيت على نفسي، قالت: كلا والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتحمل الكلَّ، وتُقْرِى الضَّيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق.
وقفت معه صلى الله عليه وسلم فقاسمته شدَّته ومحنته، وما تراجعت عن ذلك مع أنها صاحبة الجاه، وصاحبة السؤدد، وصاحبة المال، فزادت بذلك سؤدداً ومالاً وجاهاً.
واقتدي بتلك المرأة التي أتت تبحث عن جثة ابنها بين القتلى وهي مختمرة، فقال لها الصحابة: اكشفي خمارك حتى ترينه.
فقالت: لأن أفقد ولدي خير لي من أن أفقد حيائي وديني، إن الله خاطب رسوله فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] ووالله ما أنا بخير منهن.
فتخلقي بأخلاق أهل الإسلام، وارجعي إلى سِيَر هؤلاء الأعلام، وادعي إلى الله عز وجل فإنك مسئولة عن علمك، ماذا عملت به أيتها المؤمنة، فما عسى يكون الجواب؟(11/9)
نموذج من ثبات داعية معاصرة
المرأة المسلمة على ثغرة عظيمة، فاللهَ اللهَ أن تؤتى البيوت من قِبَلِك.
واللهَ اللهَ أن يؤتى الإسلام من قِبَلِك.
واللهَ اللهَ أن يؤتى أبناء المسلمين من قبلك.
هاهي مَثَل لك؛ لأن الخير يستمر في الأمة إلى قيام الساعة والأمثلة كثيرة في هذا العصر والذي قبله.
هاهي بنان الطنطاوي؛ ابنة الشيخ الوقور علي الطنطاوي غفر الله لنا وله، وتجاوز عنا وعنه؛ زوجة عصام العطار علمت مسئولية الزوجة في البيت، وآمنت بربها، ودعت بما تستطيع، وهيأت لذلك الداعية أن يدعو إلى الله عز وجل.
انطلق يرد الناس من الضلالة إلى الهدى، ومن الغواية إلى الهدى والهداية، فأغاظ ذلك المنافقين، والذين يَشْرَقُونَ بالنور، والذين ما يعيشون إلا في الظلام، فما كان منهم إلا أن سجنوه في سجن من السجون، فأرسلت إليه رسالة، فما فحوى هذه الرسالة يا أيتها الداعية، يا أيتها المعلِّمة، يا أيتها المتعلِّمة؟
اسمعي إلى هذه الرسالة ماذا تقول لزوجها وهو في سجنه.
تقول له: لا تحزن ولا تفكِّر فيَّ، ولا في أهلك، ولا في مالك، ولا في ولدك، ولكن فكِّر في دينك وواجبك ودعوتك؛ فإننا -والله- لا نطلب منك شيئاً يخصُّنا، وإنما نطلبك بالموقف السليم الكريم الذي يبيِّض وجهك، ويرضي ربك الكريم يوم تقف بين يديْه حيثما كنت، وأينما كنت، أما نحن فالله معنا، ويكتب لنا الخير، وهو أعلم وأدرى سبحانه وأحكم.
انظري إلى هذه الكلمات، كيف وقفت معه وهو بعيد عنها، وقفت معه لأنها تعلم أنها على ثغرة وأنَّ ثغرةً ذهبت فسدَّت تلك الثغرة.
ثم يشاء الله أن يخرج من ذلك السجن ليُشرَّد في ديار الغرب، وما أُخرج وما نُقِم منه إلا أن قال: ربي الله، واعتز بدينه ومبادئه، شُرِّد في بلاد الغرب، ويبتليه الله عز وجل هناك أيضاً ليرفع درجته بإذن الله عز وجل، ويوم ابتلاه الله عز وجل هناك بكونه يعيش بين الكفار، وكونه مشرداً عن أهله وغيرهم، يُبتلى بالشلل، يُشلُّ في ديار الغرب، لا أهل، ولا صاحب، ولا صديق، لكن له الله الذي أُخْرِج من أجله، وله الله الذي سُجِنَ من أجله، وله الله الذي دعا من أجله، فماذا فعلت هذه الزوجة؟
بعيدة عنه، بعيدة بجسمها لكن قلبها معه، وروحها معه، هدفها وهدفه واحد؛ وهو نشر دين الله، ولقاء الله، والتعامل مع الله عز وجل، كتبت إليه رسالة هناك، وقالت: لا تحزن يا عصام! ولا تأس، يرفع الله من يبتليه، إن عجزت عن السير سرت بأقدامنا، وإن عجزت عن الكتابة كتبت بأيدينا، الله معك ولن يَتِرَك، ولن يضيع لك ما أنت فيه، ثم تنطلق بعد ذلك لتلحق به في ديار الغرب إلى هناك لا لتجلس بجانبه تندب حظَّها، ولا لتجلس بجانبه وتقول: جَنَت الدعوة عليه، وإنما لتجلس بجانبه هناك لتأخذ أفكاره، وتأخذ علمه، فيكتب هو بيدها، ويسير بقدمها، فتنشئ مركزاً إسلامياً في ديار الكفر، فلا إله إلا الله! كم من تائبة تابت على يديها هناك، وكم من ضالة كافرةٍ لا تعرف شيئاً إلا الحياة البهيمية ردها الله على يد بنان الطنطاوي، وهي هناك مع زوجها تستشيره ليعطيها المعلومات فتنطلق، ويأبى أولئك الذين يَشْرَقُون بهذا الدين أن يروا للخير قولة أو جولة، ويأتي ثلاثة رجال يبحثون عن ذلك المشلول في تلك البلاد، وما أن دلُّوا على شقته، حتى جاءوا فاقتحموها، وتقدموا إلى هذه الداعية المسكينة -امرأة في بيت غربة، وبعيدة، لكن معها الله الذي قدمت نفسها له- فإذا بها يُطلق عليها خمس رصاصات؛ في العنق، وفي الكتف، وفي الإبط، لتسقط مضرجة بدمائها.
أسأل الله أن يجعلها من أهل الفردوس الأعلى.
وأسأل الله أن يكتب لها ولمن بعدها من أهلها النعيم المقيم السرمدي الأبدي الذي لا يزول، وأسأل الله أن يوقظ في بنات المسلمين ومعلمات ومتعلمات المسلمين نماذج مثل تلك النماذج، وأَعْظَمَ من تلك النماذج.
إن الأمة تنتظر منك الكثير والكثير.(11/10)
طريق الجنة والنار
اعلمي أخيراً أن طريق الجنة صعب، وأنه محفوف بالمكاره، لكن آخره السعادة الدائمة؛ أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم يوم يقول: {إن الله عز وجل لما خلق الجنة قال لجبريل: اذهب فانظر ما أعددت لعبادي الصالحين فيها، فذهب؛ فإذا فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فرجع إلى ربه، وقال: يا رب! وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد إلا دخلها -لِما فيها من النعيم- ثم حفَّها الله بالمكاره -بما تكره النفس من التكاليف؛ من الأوامر، من النواهي، من الضوابط الشرعية التي يتنقل الإنسان بينها وفيها، حفَّها بهذا كله- ثم قال: ارجع فانظر إليها، فنظر إليها، فإذا هي حفَّت بكل ما تكرهه النفس، فماذا قال؟ رجع إلى ربه، وقال: وعزتك وجلالك قد خشيت ألا يدخلها أحد}.
يا أيها الأحبة: والله! لا يدخلها إلا من زكىَّ نفسه، اسمعوا إلى الله وهو يقسم، مرات بعد مرات، يقسم بالضحى، وله أن يقسم بما شاء: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:1 - 2] ثم يقول هناك: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:1 - 8].
ثم الجواب يأتيك بعد هذه الأقسام المتعددة المغلظة العظيمة من الرب العظيم يقول: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9] فوالله لن يفلح إلا من زكَّى نفسه بالإيمان بالله، والدعوة إلى الله عز وجل.
وطريق النار سهل، ولكنه محفوف بالشهوات، وآخره الشقاء الأبدي السرمدي الذي لا يزول: {لمَّا خلق الله النار -في نفس الحديث السابق- قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب إليها، فإذا هي سوداء مظلمة، يحطم بعضها بعضاً، ترمي بشرر كالقصر، كأنه جِمَالت صُفْر، فرجع إلى ربه وقال: وعزتك وجلالك ما يسمع بها أحد فيدخلها، ثم حفَّها الله بالشهوات -وبكل ما تشتهيه النفس، وبكل ما ترتاح له النفس، وبكل ما تهواه النفس- ثم قال: ارجع فانظر إليها، فرجع فنظر إليها، فإذا هي قد حفت بكل ما تشتهيه النفس، فرجع إلى ربه وقال: لقد خشيت ألا يبقى أحد إلا دخلها}.
إن التعامل مع الله عظيم، وإن المتعامل مع الله لا يخيبه الله رجلاً كان أو امرأة.
فيا أيتها المؤمنة: انوِ الخير، واعملي الخير، فوالله! لن تزالي بخير ما نويت الخير، وما عملت الخير.
اسمعي لقول النبي صلى الله عليه وسلم: {من همَّ بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، ومن همَّ بحسنة فعملها كتبت له عشر حسنات، ومن همَّ بسيئة ولم يعملها كتبت له حسنة، وإن عملها كتبت له سيئة واحدة}.
فضلاً من الله ومِنَّة.
فيا ويل ويا ويل ويا ثبور من غلبت آحاده عشراته! حسنة واحدة أو سيئة واحدة تغلب عشرات الحسنات، يا ويل من كان حاله على ذلك.
فانتبهن وتقربن إلى الله عز وجل بما يرضى الله.
تقربن إليه بالفرائض؛ فإن أحب ما يتقرب به إلى الله الفرائض، ثم تقربن بالنوافل؛ فإنه لا تزال المرأة تتقرب، والرجل يتقرب بالنوافل حتى يحبه الله كما قال في الحديث القدسي: {فإذا أحببته: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه}.
فالهِمَّة الهمة؛ فإنها طريق إلى القمة، أسرعي ولا تنظري إلى الخلف، لا تنظري إلى أي عائق، واعلمي أن شبراً بذراع، وأن ذراعاً بباع، وأن مشياً بهرولة، فضلا من الله ومِنَّة.
اصبري، وجِدِّي، ولا تسأمي، ولا تملي بالنصح، بالدعوة، بالقيام بما أوجب الله عليكِ، فلا تنظري إلى لوم لائم، ولا إلى عتاب عاتب، ولا إلى هوى نفس أو شيطان.
وإذا اجتمعت عليكِ هذه كلها، فانظري إلى منازل زاكية في جنان ورضوان، أدنى أهل الجنة فيها من يأتي بعد ما دخل أهل الجنة، فيقول الله له: {ادخل الجنة، فيقول: يا رب! وقد أخذ الناس منازلهم وسكنوا مساكنهم - يخيَّل إليه أنها ملأى- فيقول الله: ألا ترضى أن يكون لك مثل مَلِك من ملوك الدنيا؟ قال: بلى رضيت يا رب، قال: فإن لك مثله ومثله ومثله ومثله، وفي الخامسة يقول: رضيت يا رب رضيت.
فيقول: ولك عشرة أمثاله، وما اشتهت نفسك، ولذَّت عينك وأنت فيها}
قولي خيراً، وادعي خيراً، وتكلمي خيراً أو اصمتي؛ فكم كلمة جرى بها اللسان هلك بها الإنسان: {وإن المرء ليقول الكلمة من سخط الله يكتب الله عز وجل له بها سخطه إلى أن يلقاه}.
أخيراً: توبي إلى الله، واستغفري الله؛ فإن الشيطان قد قطع على نفسه عهداً، فقال: وعزتك وجلالك لأغوينهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، والله يقطع العهد على نفسه -ورغمت أنف إبليس- وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني.
فاللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً، وأقرَّ أعيننا بصلاح المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العلى أن تجعلنا من الصالحين، وأولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأن تجعلنا ممن باع نفسه لله، فجعل همَّه الله والدار الآخرة.
أسأل الله أن يرينا من بنات المسلمين، وأمهات المسلمين، وأخوات المسلمين ما تقَرُّ به الأعين، صالحات، قانتات، تائبات، عابدات.
أسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، من كان سبباً في هذا الاجتماع، ومن ساهم فيه بأي مساهمة صَغُرَت أو كَبُرَت أن تجعل له ذلك في ميزان الحسنات عظيماً عظيماً؛ فأنت أهل التقوى، وأهل المغفرة.
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين.(11/11)
من منشورات العلماء
الحديث عن العلماء لا يمل ولا ينبغي أن يمل، ففي حياتهم عبرة، وفي سيرهم ذكرى، وفي طلبهم للعلم والعمل به عظة لمن بعدهم، وفي هذا الدرس ينثر الشيخ طرفاً من أخبارهم وملحهم، فما أطيب ذكرهم!(12/1)
فضل العلماء الربانيين وأهمية سيرهم
الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، ولا حزن إلا ما جعلته حزناً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً.
اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن دعوة لا تسمع، اللهم إنا نعوذ بك من هؤلاء الأربع، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، وأنت على كل شيء قدير.
أيها الإخوة في الله! إن موضوعنا في هذه الليلة حول أخبار ومنح ووصايا من أخبار العلماء وكلماتهم ومُلَحِهم وآثارهم، ولهذا الموضوع أهمية، فإن كلمات العلماء وآثارهم ومُلَحِهم ووصاياهم وأقوالهم نابعةٌ من مشكاة النبوة التي ينهلون منها، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {إن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر} وقال: {إن العلماء ورثة الأنبياء} فورثوا عنهم أقوالهم وأقوال الله عز وجل، ولذلك أصطبغت حياتهم وأقوالهم ومعيشتهم وكانت وصاياهم متأثرة أشد التأثر بما ارتووا منه؛ ألا وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
أخص بكلامي هذا العلماء الربانيين الذين قال الله سبحانه وتعالى: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79] الذين يعلمون كتاب الله حفظاً، وفهماً، وتدبراً، وعملاً، ودعوةً وصبراً على الأذى فيه، والذين يعلمون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على النسق المذكور في كتاب الله؛ حفظاً، وفهماً، وتدبراً وعملاً، ودعوةً وصبراً على الأذى في سبيل ذلك كله، فإن الله عز وجل أمرنا بأن نكون كذلك، فقال الله عز وجل: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79].
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: [[لا يكون العالم ربانياً حتى يعلم ويعمل ويدعو ويصبر على الأذى]] ونقل عنه رضي الله عنه وأرضاه: [[العلماء الربانيون هم الذين يربون الناس على صغار العلم قبل كباره]] يعني: يأخذون الناس بالتدرج خطوة خطوة، لا يقفزون بهم إلى أمور كبار لا تدركها عقولهم، فقد روى البخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: {ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة} ونقل أيضاً في الصحيح: {خاطبوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله}.
فهؤلاء العلماء الربانيون الذين أفنوا أعمارهم في تعلم كتاب الله، وفي تعلم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا بحق كما قال الله عز وجل: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].
قال الإمام ابن الجوزي في زاد المسير: أشار جل وعلا بقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، بعد قوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] أشار بهذا إلى أن الذين يعلمون حقاً هم الذين اتصفوا بهذه الصفة: {قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9].
ونقل عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: [[يعرف حامل القرآن بليله إذا الناس راقدون، وبنهاره إذا الناس يفطرون، وببكائه إذا الناس يضحكون]] أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه.(12/2)
أهمية سير العلماء
فأخبار هؤلاء القوم الذين أفنوا أعمارهم في كتاب الله، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم علماً وعلماً وتدبراً ودعوةً وصبراً حقيقةٌ؛ بأن نعقد المجالس لنتدبرها ونتذاكرها، ونتناقل أخبارهم؛ علَّ الله عز وجل أن يشحذ فينا الهمة، فنبلغ ولو جزءاً يسيراً مما بلغوا، وقديماً قيل:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
ونقل عن أبي حنيفة رضي الله عنه: "سير الرجال أحب إليَّ من كثير من الفقه" وما ذاك إلا لأن سير الرجال، وأخبار القوم من العلماء الربانيين تشحذ الهمم حينما يستمع إليها الطالب فتعينه على مواصلة طريقه في طلب العلم، وتعينه على الاجتهاد وبذل التضحيات اقتداءً وتأسياً بأولئك السابقين الذين يقرءون ويتدبرون ويتناقلون أخبارهم.
وقال الإمام ابن الجوزي رحمة الله عليه في كتاب المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: "واعلم أن في ذكر السير والتاريخ فوائد كثيرة، من أهمها أن يطلع بذلك على عجائب الأمور، وتقلبات الزمن، وتصاريف القدر، وسماع الأخبار، فالنفس تجد راحةً بسماع الأخبار، قال أبو عمرو بن العلاء: قيل لرجل من بكر بن وائل قد كبر وذهبت منه لذة المأكل والمشرب والنكاح؛ قيل له: أتحب أن تموت؟ قال: لا، قيل له: فما بقي لك من لذة الدنيا؟ قال: أستمع أخبار الرجال وأستمع العجائب"
إذاً: فخير وسيلة لإشعال العزائم، وإثارة الروح الوثابة، وقدح المواهب، وإذكاء الهمم، وتقويم الأخلاق بصمت وهدوء دون أمر ونهي، والتسامي إلى معالي الأمور، والترفع عن سفسافها، والاحتذاء بسير الأجلاء الأسلاف؛ خير سبيل إلى ذلك كله هو قراءة سير لبعض العلماء الصلحاء، والوقوف على أخبار الرجال العظماء، والتملي من اجتلاء مناقب الصالحين الربانيين، والاقتراب من العلماء النبهاء العاملين المجدين.
وبعد هذه المقدمة نبدأ في سرد بعض أخبارهم رحمة الله عليهم ورضي عنهم.(12/3)
ضوابط في الجرح والتعديل عند أهل العلم
فعن مالك بن أنس رضي الله عنه وأرضاه، قال: " سألت سعيد بن المسيب: إنه ليس من شريف، ولا عالم، ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه فقال: [[من كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله]].
وهذه درة عظيمة من سعيد بن المسيب وأما الرواية التي تنقل عنه أنه قال: [[سيبوني سيبهم الله]] فهي رواية غير ثابتة كما ذكر ذلك بعض المحققين، فالمقصود أن سعيد بن المسيب رحمة الله عليه، يقول: من كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله.
وهذه قاعدة عظيمة جليلة ينبغي لطلبة العلم أن يجعلوها نصب أعينهم دائماً، فهي قاعدة في الجرح والتعديل، إذ ينبغي للمسلم وخصوصاً طالب العلم المأمور بحفظ اللسان عن الوقيعة في العلماء، عن الوقيعة في الأخيار من العباد الصلحاء، فمن غلب جانب فضله تغوضي عن نقصه، ولم يشهر به، ولم ينكر عليه، ولم يحذر منه بسبب ما فيه من نقص وتقصير؛ لأن الفضل الكثير يغمر النقص القليل، وقديماً قيل مستدلين بحديث: {إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث}.
وقال الذهبي رحمة الله عليه في ترجمته لـ قتادة بن دعامة السدوسي: وهو حجة بالإجماع إذا بين السماع فإنه مدلس معروف بذلك وقيل كان يرى القدر- نسأل الله العفو والعافية- ومع هذا، فما توقف أحد في صدقه وعدالته وحفظه، ولعل الله يعذر أمثاله ممن تلبس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه، وبذل وسعه، والله حكم عدل لطيف بعباده {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:23]، قال الذهبي رحمة الله عليه مسترسلاً: ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتباعه تغفر له زلاته، ولا نضلله ونصطرفه، وننسى محاسنه، ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك.
وهذه في سابقتها نادرة عظيمة ينبغي أن يضعها طلبة العلم في أذهانهم، وأن يجعلوها نصب أعينهم عند تقويمهم للرجال.
وعن ابن المديني سمعت سفيان يقول: [[كان ابن عياش يقع في عمر بن ذر ويشتمه، فلقيه عمر بن ذر، فقال: يا هذا لا تفرط في شتمنا، وأبق للصلح موضعاً، فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه]].
وهكذا يجب أن يكون طالب العلم إذا بلغه عن أحد من الناس أنه يقع فيه، أو يشتمه، أو يتأو يتكلم فيه، أو يقدح؛ فإن الواجب عليه أن يلقاه ويتأكد من صحة الخبر، ثم بعد ذلك يقول له هذه المقالة: إنك إن عصيت الله فينا، فلن نعصي الله فيك، بل سنطيع الله فيك، ولا نقدح فيك، ولا نتكلم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك} وقال الله جل وعلا: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون:96] وقال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] أي: ادفع سيئة من أساء إليك بالحسنة التي هي أحسن، أي: الكلمة والخصلة التي هي أحسن {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] أي: صديق عزيز شديد الصداقة لك بسبب أنك رددت إساءته بالإحسان.
وروى عبدان بن عثمان عن عبد الله بن المبارك -وهذا أيضاً ضابط في الجرح والتعديل- قال: [[إذا غلبت محاسن الرجل على مساوئه لم تذكر المساوئ، وإذا غلبت المساوئ عن المحاسن لم تذكر المحاسن]].
فالعبرة بأغلب حاله وبمجمله وأكثره، فإن كان أكثر أحواله المحاسن والصلاح، والخير والدعوة والنصح للأمة وللمسلمين، تغوضي عن سيئاته، ولم يشهر به، وأسر بها إسراراً إليه، وإن كان غالب حاله الضلال والفساد والإضلال والمساوئ، فإن جانب المساوئ يغلَّب، ويُحذَّر منه.(12/4)
من أخبار أهل العلم في الطلب(12/5)
من أخلاق الإمام الشافعي في الخلاف
قال يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي - ظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى؛ ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة.
يعني: على الرغم من خلافي معك في مسألة من مسائل العلم، فإن الواجب أن تظل أخوتنا، ومودتنا، ولا يعادي بعضنا بعضاً بسبب اختلافنا في مسألة من مسائل العلم.(12/6)
موقف عمر ممن يرد على ابن مسعود
وقد كان السلف رحمة الله عليهم من طلبة العلم يُجلون العلماء ويرفعون قدرهم؛ أيما إجلال وأيما تقدير.
مما نقل عن الصحابة في ذلك ما رواه أبو وائل أن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه رأى رجلاً قد أسبل إزاره وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: {ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار} وصح عنه صلى الله عليه وسلم: {إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه} فالمقصود أن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال للرجل المسبل: [[ارفع إزارك، فقال ذلك الرجل المسبل: وأنت يـ ابن مسعود فارفع إزارك.
فقال: إن بساقي حموشة وأنا أؤم الناس]] فبين عذره في إنزال إزاره.
فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه وأرضاه أن ذلك الرجل رد على عبد الله بن مسعود، وقال له: [[وأنت لماذا لم ترفع إزارك؟ - فجعل عمر يضرب الرجل، ويقول له: أهكذا ترد على ابن مسعود! أهكذا ترد على ابن مسعود!]].
وما ذاك من عمر إلا تأديباً لهذا الرجل وأمثاله لكي يستقيم أدبهم مع أهل العلم والإيمان والفضل.(12/7)
أدب الطلب عند ابن عباس
عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة: [[أن ابن عباس رضي الله عنهما قام إلى زيد بن ثابت، فأخذ له بركابه، فقال: تنح يا بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن عباس: إنا هكذا نفعل بعلمائنا وكبرائنا]] وهذا من أدبه رضي الله عنه وأرضاه، ولذلك حصل ذلك العلم الجم استجابة لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل}.(12/8)
الخليفة بين يدي عطاء
وقال إبراهيم بن إسحاق الحربي: كان عطاء بن أبي رباح عبداً أسود لامرأة من أهل مكة، وكان أنفه كأنه باقلاء، فجاء سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين إلى عطاء هو وابناه، فجلسوا إلى عطاء في مكة، وكان مفتيها في زمانه رضي الله عنه وأرضاه، فجلسوا إليه وهو يصلي، فلما صلى انفتل إليهم، فما زالوا يسألونه عن مناسك الحج وقد حول قفاه إليهم، ثم قال سليمان لابنيه: قوما، فقاما، فقال: يا بني لا تنيا في طلب العلم -أي: لا تقصرا ولا تتعبا في طلب العلم- فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد.
يعني: أن أمير المؤمنين وخليفة الناس الذي ملك الناس في زمانه، بل كل الدولة الإسلامية جاء عند عطاء بن أبي رباح وكان مولى لامرأة، ثم أعتق، فجلس إليه يسأله عن العلم، وعطاء لا يلتفت إليه مستقبلاً القبلة يجيبهم على أسئلتهم وهم قريب من قفاه رضي الله عن عطاء وأرضاه، فالمقصود أن سليمان أخذ من هذا درساً، وقال لبنيه: لا تنيا في طلب العلم، فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد، وسماه العبد باعتبار ما كان.
وقيل في عطاء بن أبي رباح رحمة الله عليه من شدة علمه: كان أشل، وكان أعور، وكان أفطس، وكان بحراً بالعلوم، ولذلك قال بعضهم:
أشل أعور أفطس ومن بحوره العلوم تقتبس
رحمة الله عليه.
وعن عمر بن المدرك، قال: حدثنا القاسم بن عبد الرحمن، حدثنا أشعث بن شعبة النشيطي، قال: قدم الرشيد - يعني: هارون الرشيد - الرقة؛ فانجفل الناس خلف عبد الله بن المبارك، صادف أن عبد الله بن المبارك قدم في نفس الوقت الذي قدم فيه أمير المؤمنين، فـ عبد الله بن المبارك أمير المؤمنين بالحديث، وهارون الرشيد أمير المؤمنين في زمانه، فقدما الرقة في وقت واحد، قال: فانجفل الناس خلف عبد الله بن المبارك، وتقطعت النعال من الزحام، وارتفعت الغبرة، فأشرفت أم ولد لأمير المؤمنين من برج القصر، فقالت: ما هذا؟
فقالوا: هذا عالم من أهل خراسان، يقال له عبد الله بن المبارك قدم، قالت: والله هذا الملك لا ملك هارون الرشيد الذي لا يجمع الناس إلا بشرط وأعوان.(12/9)
نصيحة لابن مهدي في الحث على الطلب
قال عبد الرحمن بن مهدي: كان يقال: إذا لقي الرجل الرجل فوقه في العلم، فهو يوم غنيمته، وإذا لقي من هو مثله في العلم، دراسه، أي: تدارس معه العلم.
وبهذه المناسبة أيها الأحبة، فإنني أذكر إخوتي طلبة العلم بأن هناك دورة علمية، أو أكثر من دورة علمية ستقام في إجازة الربيع إن شاء الله لبعض العلماء الأجلاء من الذين قدموا من الرياض ومن غيرها لإقامة دورات علمية في الفقه، وفي الحديث، وفي العقيدة، وفي اللغة، وفي الأصول، فأنصح بملازمة هذه الحلقات، ثم إنني أنصح بأمر آخر، وهو أن طالب العلم ينبغي له أن يحرص على مجالسة أهل العلم ويتلقى العلم عنهم، فإن فاته ذلك، فهناك ما يسمى بالتجارب كما يقول عبد الرحمن بن مهدي رحمة الله عليه، يقول: كان يقال إذا لقي الرجل الرجل فوقه في العلم، فهو يوم غنيمته، أي: فليغتنم هذا اليوم، وليتعلم منه تعلماً عظيماً، وإذا لقي من هو مثله -أي من مثله في العلم- دراسه، ولذلك فإنني أنصح إخواني بالمدارسة؛ كأن تخصص لنفسك وقتاً بعد صلاة الفجر تلتقي فيه مع من هو مثلك في العلم قد لا يزيد عليك، فتلتقي أنت وهو فتحفظون مثلاً عمدة الأحكام في الحديث، أو بلوغ المرام، أو الأربعين النووية إن لم تكونوا حفظتموها، أو كتاب الله أولاً وقبل كل شيء إن لم تكونوا قد حفظتموه، وهكذا يكون لكم ورد يومي بعد صلاة الفجر أنت وأحد أقرانك يعلم بعضكم بعضاً، وينفع بعضكم بعضاً، ويخبر بعضهم الآخر بما فاته من العلم، وبما سمعه من العلماء، فإن هذا باب عظيم كان السلف يتبعونه كما يقول ابن مهدي: وإذا لقي من هو مثله، دارسه وتعلم منه، وإذا لقي من هو دونه تواضع له وعلمه، ولا يكون إماماً في العلم من حدث بكل ما سمع، ولا يكون إماماً من حدث عن كل أحد، ولا من يحدث بالشاذ.
هذه بعض أخبارهم في طلب العلم، ومن ذلك ما نقل عن إبراهيم الحربي -وهو أحد علماء السلف الكبار رحمة الله عليه- قال: كان إبراهيم الحربي رجلاً صالحاً من أهل العلم، بلغه أن قوماً من الذين كانوا يدالفونه -يفضلونه على أحمد بن حنبل - فوقفهم على ذلك، فأقروا به، يعني: سألهم هل تفضلوني على أحمد بن حنبل؟ قالوا: نعم، فعاقبهم إبراهيم عقوبة شديدة، فقال: ظلمتموني بتفضيلكم لي على رجل لم أشبهه، ولم ألحق به في حال من أحواله، فأقسم بالله لا أسمعكم شيئاً من العلم أبداً، فلا تأتوني بعد يومكم، والسبب أنهم قدموه وأنزلوه فوق منزلته حسب نظره رحمة الله عليه.
ومن أخبار السلف رحمة الله عليهم ورضي الله عنهم ما ذكره ابن جريج رحمه الله، قال: كان المسجد فراش عطاء بن أبي رباح عشرين سنةً، أي: وهو منقطع عن العلم ينام في المسجد، ويتدبر العلم ليله ونهاره.
وقال إسماعيل بن أمية: كان عطاء يجيد الصمت، فإذا تكلم خيل إلينا أنه مؤيد، يعني: كأنما تمده الملائكة بما يقول، وكان أسود أفطس أعور أشل أعرج ثم عمي، يعني: اجتمعت فيه خمسة عاهات، ففي جسمه خمسة عيوب منها: أنه أسود، وأفطس، وأعور، وأشل، وأعرج، وفي النهاية صار أعمى، فهذه خمسة عيوب كانت في جسمه رحمة الله عليه، ولكنه كان ركناً من أركان العلم والدين والصلاح والقدوة، وكان ثقةً فقيهاً حج نيفاً وسبعين حجة.(12/10)
الزهري لا ينام الليل يبحث عن حديث
قال الليث بن سعد: تذاكر محمد بن شهاب الزهري -الحافظ المحدث الفقيه، التابعي الجليل عالم الحجاز رحمه الله -ليلة بعد العشاء حديثاً وهو جالس متوضئ، فما زال ذلك مجلسه وهو يبحث في الحديث حتى طلع الصبح، قال مروان: جعل يتذاكر الحديث، وهو في مجلسه يذكر الحديث ويبحث في كتب العلم بعد صلاة العشاء وهو على الوضوء حتى طلع الفجر وهو كذلك رحمة الله عليه.(12/11)
الشنقيطي يبحث في مسألة فقهية
وقريباً من هذه القصة نقل عن الشيخ الإمام العابد الزاهد القدوة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان الذي توفي بـ مكة عام 1392 للهجرة حيث نقل عن نفسه رحمة الله عليه أنه لما كان في بلاده يطلب العلم عن مشايخه شرحت له مسألة في الفقه، فلم يفهمها، فسأل شيخه عنها، فلم يستطع أن يفهمها إياه، قال: فلما انصرفت في الضحى من عند شيخي، ذهبت إلى الكتب والشروحات والمطولات، فأخذت أفتشها وأقرأ فيها، وأبحث عن شرح هذه المسألة حتى أدركتني صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وقال: فلما صار المغرب وأظلم الليل، أمرت خادمي أن يوقد لي النار لأستضيء بها -وكنت في الصحراء- قال: فجلست أقرأ على ضوء النار حتى طلع الفجر، فقمت فصليت الفجر، ثم جلست أقرأ حتى طلعت الشمس، ثم إنني ما طلعت الشمس حتى كانت المسألة عندي واضحة كل الوضوح، وفهمتها وعقلتها وتبينتها.
فهو رحمة الله عليه بدأ بالبحث قبل صلاة العصر وأدركته صلاة العصر والمغرب والعشاء والفجر وهو في جلسة واحدة لا يقوم منها إلا لصلاة، أو لطعام رحمة الله عليه، ولم يرقد طوال ليله، وهكذا كان السلف يشغلهم العلم حتى ينسيهم أنفسهم رحمة الله عليهم.
وقال فضيل بن غزوان: كنا نجلس أنا والمغيرة، -وعدد أناساً- نتذاكر الفقه، فربما لم نقم حتى نسمع النداء لصلاة الفجر.
يجلسون بعد العشاء يتذاكرون الفقه والعلم، فربما لا يقومون من مجلسهم حتى يؤذن، أو يسمعون نداء صلاة الفجر، فيتفرقون رحمة الله عليهم.(12/12)
همة حبر الأمة في الطلب
عن عكرمة رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال ابن عباس: [[لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شاب قلت لشاب آخر معي من الأنصار: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولنتعلم منهم، فإنهم اليوم كثير، فقال: يا عجباً لك يا ابن عباس! أترى أن الناس يحتاجون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم]] يعني: أن العلماء موجودون، وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، أتظن يا ابن عباس أن الناس يحتاجون إليك، وأنت شاب صغير في الثالثة عشرة من عمرك؟
وهذه في الحقيقة كلمة فيها تثبيط، وكثيراً ما نسمعها من طلبة العلم اليوم، فنجد بعض طلبة العلم لا يجتهد في الطلب، ولا يترك أحداً يجتهد، ولا يعين مجتهداً، بل يكون همه التثبيط، فإذا رأى طالب علم شمر عن ساعد الجد واجتهد في طلبه للعلم لينال فيه القدح المعلا، تجده يفتنه فيه في الغالب حتى يصرفه عن حلقات العلم، وحتى يصرفه عن تحصيل العلم، فلا هو بالذي حصَّل بنفسه ولا هو الذي حث غيره، وهذا لم يكف المسلمين من شره ولم يجتهد هو في الخير، وهذه من شر الخصال، والواجب على المسلم أن يتقي الله، وأن يطلب العلم بنفسه ويحث غيره، فإن عجز فلا أقل من أن يطلب العلم، فإن عجز فلا أقل من أن يكف الناس من شره، ولا يثبط طالب علم مشمر عن ساعد الجد سالك السبيل.
والعبرة في قصة ابن عباس أنه لم ينثنِ، ولم ينفتل، ولم يتراجع عن عزيمته القوية على طلب العلم، ولم يصغ إلى كلام هذا الشاب الأنصاري الذي أراد أن يصرفه عن ذلك، ويقول له: اقعد، فالعلماء كثير وأبو بكر موجود وعمر وعثمان وعلي، والعلماء كثر، ولن يحتاج الناس إليك، لم يسمع لكلامه، بل شمر ابن عباس عن ساعد الجد وطلب العلم.
يقول ابن عباس: [[فترك ذاك -يعني: ترك العلم- وأقبلت أنا على المسألة -يعني: أقبل يسأل العلماء من الصحابة من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من علماء الصحابة؛ يجمع منهم ويروي عنهم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: فإن كنت لآتي الرجل في الحديث الواحد يبلغني أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم]].
في أيامهم رضي الله عنهم لم يكن العلم ميسراً كما هو الآن، فتجد الواحد منا يمسك صحيح البخاري ويجد فيه خمسة آلاف حديث، وصحيح مسلم، وغيرها من كتب الحديث، كلها موجودة بين أيدينا في ورق، في مكان صغير يجتمع عشرات الألوف من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يصل إليها الإنسان بكل سهولة، أما الصحابة فلم تكن عندهم كتب، ولم تكتب أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما الذي كتب القرآن الكريم فقط، فكان الواحد منهم يسمع أن فلان بن فلان من الصحابة عنده حديث، فيسافر إليه سفراً طويلاً من أجل أن يأخذ عنه هذا الحديث، يقول ابن عباس: [[فإن كنت لآتي الرجل في حديث يبلغني أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجده قائلاً -يعني: نائماً وقت القيلولة في منتصف النهار- فأتوسد ردائي على بابه -فلا يطرق عليه بابه في وقت من أوقات العورات التي قال الله عز وجل فيها: {مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ} [النور:58] قال: فإن كنت لآتي الرجل في حديث يبلغني أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجده قد قال: فأتوسد ردائي على بابه تسفي الريح على وجهي التراب]] رضي الله عنه وأرضاه، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينام ويتوسد رداءه على بيت عالم من علماء الصحابة من أجل ألا يطرق عليه الباب فيزعجه ويوقظه من نومه، بل ينتظره عند بابه ويتوسد رداءه، فتأتي الريح فتسفي عليه التراب وهو ينتظر أن يخرج الرجل من بيته حتى يسأله عن حديث واحد رضي الله عنه وأرضاه.
ولذلك كان ابن عباس كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل} كان عالماً جليلاً من علماء الصحابة رضي الله عنهم، بل هو من أكابر العلماء في الفقه والتفسير، وفي فهم كتاب الله، وتعلمون قصته التي رد بها على الخوارج، وكانوا ثمانية آلاف، أو عشرة آلاف كما نقل في السير والأخبار، فناقشهم ابن عباس في العلم فرجع منهم أربعة آلاف هداهم الله عز وجل بسبب علم ابن عباس واطلاعه.
فقد جاءهم وعليه ثوب غالي الثمن، ثوب جميل لبسه ابن عباس لما ذهب ليناظرهم، فقالوا: تلبس هذا الثوب بهذا الثمن الغالي وبهذا الثمن الباهظ، فرد عليهم ابن عباس بكتاب الله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32] فأفحمهم بكتاب الله.
ثم إنه ناظرهم في مسألة الحكم لما قالوا: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 7] وعلي حكم الرجال، فقال لهم ابن عباس: لو أتيتكم بشيء من كتاب الله، أفترجعون عن قولكم؟
لأن الخوارج يحتجون بأن علياً حكم الرجال، يعني: حكم أبا موسى الأشعري، وعمرو بن العاص، مع أن الله عز وجل يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:7] ويقول: {أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62] فالحكم له وحده وعلي حكَّم الرجال هكذا كانوا يقولون.
فقال: أرأيتكم لو أتيتكم بشيء من كتاب الله، أفترجعون؟ قالوا: نعم، فذكر لهم قول الله عز وجل: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] وقال تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35] قال: ألم تروا أن الله عز وجل نصب حكاماً من الخلق في مسائل في طير يقتل بالحرم، قالوا: بلى.
فالشاهد: أنه ناظرهم حتى رجع منهم أربعة آلاف وهداهم الله عز وجل على يدي ابن عباس ذلك العالم الرباني الذي طلب العلم، وبذل جهده الواسع في سبيل تحصيله حتى كان إماماً في الدين، وهدى الله على يديه هذه الأمة الكبيرة، ويناله أجرهم بإذن الله، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: من دل على هدى كان له مثل أجر من عمل به إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً} ويقول: {لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم} ويقول: {لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ من الدنيا وما فيها} ويقول ابن عباس: [[فكانت الريح تسفي التراب على وجهي حتى يخرج، فإذا خرج، قال: يا بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء بك؟ هلا أرسلت إليَّ فآتيك -الصحابي يقول لـ ابن عباس: لو أرسلت إليَّ حتى آتيك أنا بدل أن تأتي إلى بيتي وتتوسد ردائك وتسفي الريح التراب على وجهك- فيقول ابن عباس: لا، أنا أحق أن آتيك، بلغني حديث عنك أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحببت أن أسمعه منك]].
وهذه الواقعة تعددت وحصلت عدة مرات من ابن عباس رضي الله عنهما، يقول ابن عباس: [[فكان الرجل -يعني: الشاب الأنصاري الذي اقترح عليه أن يجتهد في طلب العلم في أول أيام شبابهما- بعد ذلك يراني وقد ذهب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- يعني: العلماء الكبار من الصحابة- واجتمع الناس حولي يسألونني عن العلم، فيقول: هذا الفتى كان أعقل مني]] أي: الصحابي الشاب الذي اقترح على ابن عباس أن يجمع العلم من الصحابة فرفض، ورأى ابن عباس بعد سنين طويلة أكثر من عشرين أو ثلاثين أو أكثر من ذلك من السنين رآه وقد مات علماء الصحابة الكبار وبقي ابن عباس، والتف الناس حوله يسألونه عن العلم، فرآه ذلك الشاب الذي كان شاباً، فيقول: كان هذا الفتى أعقل مني.
قال الحاكم عقب هذا الخبر: هذا الحديث أصلٌ في طلب الحديث وتوقير المحدث.
وقال محمد بن عبد الله الأنصاري بسنده عن ابن عباس قال: [[وجدت عامة علم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذا الحي من الأنصار، إن كنت لأقيل بباب أحدهم-أقيل: أقضي وقت القائلة -ولو شئت أن يؤذن لي عليه لأُذن لي، يعني: وأنا أعلم أني لو طرقت الباب، لأذنوا لي وفتحوا الباب، لكني ما كنت أفعل ذلك حتى لا أزعجه، وحتى لا يتذمر مني، وحتى يقبل عليَّ بنفس منشرحة وقد ارتاح واطمأن]] وهذا من توقير ابن عباس رضي الله عنهما للعلم وأهله، فلم يكن يسعى لإزعاج من عنده العلم، ومن عنده الفهم والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن يسعى لإزعاجه، بل كان يتلطف تلطفاً؛ مع أنه لو طرق عليه الباب لخرج له، يقول: ولو شئت أن يؤذن لي عليه، لأُذن لي، ولكني أبتغي بذلك طيب نفسه، يعني: لا يريد أن يعكر مزاجه ويحدثه وهو سيء المزاج وهو متعب متكدر.(12/13)
العلماء وإنكار المنكر
ومما نقل عن الصحابة رضي الله عنهم، وعن السلف من العلماء الأجلاء إنكار المنكر وصدعهم بالحق، لأن هذا هو ضريبة العلم، لأن كل إنسان أعطاه الله العلم، فعليه أن يصدع به، قال الله عز وجل: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [الأحزاب:39] وقال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187].
الشاهد: أن الواجب على من علمه الله العلم، وآتاه الكتاب أن يبينه للناس، ولا يكتمه.(12/14)
عبادة بن الصامت ينكر على مادح معاوية
فمما نقل في ذلك عن السلف ما ذكره أحد السلف عن عبادة، قال: كان عبادة بن الصامت مع معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم جميعاً، فأذن يوماً، فقام خطيبٌ من الخطباء يمدح معاوية ويثني عليه، وكان معاوية في ذلك الوقت هو خليفة المسلمين، فقام عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه بتراب في يده، فحثاه في فم الخطيب، فغضب معاوية رضي الله عنه وأرضاه.
فقال له عبادة: [[إنك لم تكن معنا حين بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة على السمع والطاعة في منشطنا وعلى أثرةٍ علينا، وألا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم بالحق حيث كنا، ولا نخاف في الله لومة لائم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا رأيتم المداحين، فحثوا في أفواههم التراب} فأنا أفعل ذلك طاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإن غضبت]].
ومما نقل عن السلف في هذا الباب: عن الأوزاعي قال: حدثني أبو كثير عن أبيه، قال: أتيت أبا ذر رضي الله عنه وأرضاه وهو جالس عند الجمرة الوسطى، وقد اجتمع الناس عليه يستفتونه، فأتاه رجلٌ، فوقف عليه، فقال: ألم ينهك أمير المؤمنين عن الفتيا؟ فرفع أبو ذر رأسه، ثم قال: أرقيب أنت عليَّ؟ لو وضعتم السماطة على هذه، وأشار بيده على قفاه، ثم ظننت أني أنفذ كلمةً سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تجهزوا عليَّ لأنفذتها.(12/15)
العمري يعظ الرشيد على الصفا
ومن ذلك ما ذكر عن سعيد بن سليمان، قال: كنت في مكة في زقاق، وإذا جنبي عبد الله بن عبد العزيز العمري، وقد حج هارون الرشيد، فقال له إنسان: يا أبا عبد الرحمن! هو ذا أمير المؤمنين يسعى، وقد أخلي له المسعى، فقال العمري للرجل: لا جزاك الله عني خيرا؛ ً كلفتني أمراً كنت عنه غنياً، يعني: ما دام أخبرتني أن أمير المؤمنين في المسعى، فقد كلفتني بأمر عظيم كنت في سعة منه، وكنت غنياً عنه، وهو أن أقوم إلى أمير المؤمنين، فآمره بالمعروف وأنهاه عن المنكر.
ثم تعلق نعليه -يعني: أخذ نعليه معه- وقام، قال: فتبعته، وأقبل هارون الرشيد من المروة يريد الصفا، فصاح فيه العمري رحمه الله: يا هارون، فلما نظر إليه هارون.
قال: لبيك يا عمي.
قال: ارق الصفا، فرقي هارون الرشيد، فلما رقيه، قال له العمري: ارم بطرفك إلى الكعبة -يعني: انظر إلى الكعبة-
قال: قد فعلت، قال: كم هم؟ يعني: كم الذين يطوفون حول الكعبة؟
قال هارون: ومن يحصيهم؟
قال: فكم من الناس مثلهم غيرهم؟
قال: خلق لا يحصيهم إلا الله.
قال العمري: اعلم يا هارون الرشيد! أن كل واحد من هؤلاء يُسأل عن خاصة نفسه، وأنت وحدك تسأل عنهم كلهم يوم القيامة، فانظر كيف تكون؟
قال: فبكى هارون الرشيد وجلس، وجعلوا يعطونه منديلاً للدموع.
قال العمري: وأخرى أقولها لك يا هارون.
قال: قل يا عمي.
قال: والله إن الرجل ليسرف في ماله، فيستحق الحجر عليه، فكيف بمن يسرف في بيت مال المسلمين.
ثم مضى وهارون يبكي.
فرحمة الله على هارون الرشيد، ورحمة الله على من نصحه، وبهذه القصة العطرة أختم هذه الجلسة المباركة إن شاء الله، والتي طفنا فيها في بعض أخبار العلماء وآثارهم وملحهم رحمة الله عليهم.
وفي الختام أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا جميعاً من العلماء الربانيين الذين يعملون بالكتاب ويدرِّسون كما قال الله جل وعلا: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79]، {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [الأحزاب:39].
اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم إنا نسألك علماً نافعاً وقلباً خاشعاَ ولساناً ذاكراً، ربنا زدنا علماً، ربنا زدنا علماً، ربنا زدنا وقاراً، ربنا زدنا هدى، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(12/16)
مواقف من الصدق
إن البلايا والمحن محك يكشف عما في القلوب، ويظهر مكنونات الصدور، فينتفي بالابتلاء الزيف والرياء، وقصة الثلاثة الذين خلفوا عن غزوة تبوك تكشف صدقهم وإخلاصهم، فقد صدقوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان جزاؤهم نزول قرآن كريم يجلي قصتهم يتلوها المؤمنون إلى قيام الساعة، لقد صبروا على مقاطعة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة لهم، فلم ينتكسوا ولم يرتدوا، بل صبروا ففازوا.(13/1)
قصة الثلاثة الذين خلِّفوا
الحمد لله العزيز الغفار، مقلب القلوب والأبصار، أحمده سبحانه وأشكره، ومن مساوئ عملي أستغفره، نعمه تترى، وفضله مدرار.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، رفع الأغلال والآصار، وكشف -بإذن ربه- الغشاوة عن البصائر والأبصار، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه المصطفَيْن الأخيار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار.
أما بعد:
يقول الحق تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِه وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد:31].
عباد الله: إن البلايا والمِحَن محكٌّ يكشف عما في القلوب، ويُظهر مكنونات الصدور، ينتفي بالابتلاء الزيف والرياء، وتنكشف الحقيقة والصدق معه بجلاء.
إنها تطهير ليس معه زيف ولا دَخَل، وتصحيح لا يبقى فيه غبَش ولا خلل.
إنها تفتح في القلوب منافذَ ما كان ليعلمها المؤمن من نفسه إلا حين تتعرض للابتلاء، وعند الابتلاء يتميز الغبش من الصفاء، والهلع من الصبر، والصدق من الكذب، والثقة من القنوط.
إن الابتلاء محكٌّ لا يخطئ، وميزان لا يظلم، والرخاء في ذلك كالشدة، والمؤمن الصادق ثابت في السراء والضراء.
قد يظن الإنسان في نفسه قبل البلاء القدرة والتجرد والنزاهة؛ فإذا نزل البلاء، ووقعت الواقعة تبيَّن من بكى ممن تباكى، وأدرك المرء أنه بحاجة إلى تمحيص ومراجعة، ومن الخير له أن يعتبر ويتَّعِظ، ويستدرك قبل أن يكون عبرة، ويقع ضحية: {وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آل عمران:145].
بالابتلاء تستيقظ النفوس، وترقُّ القلوب بعد طول غفلة؛ فيتوجَّهُ العبد لربه، ويتضرع إليه، ويطلب رحمته وعفْوَه، ويُعلن تمام العبودية له وحده، والتسليم الكامل لله رب العالمين لا سواه، وكفى بالتضرُّع دليلاً على الرجوع إلى الله ولجوءاً إليه وأملاً في الفرج من عنده، وحِرْزاً واقياً من الغفلة.
فلا يُرجَى في الشدائد إلا الله، ولا يُقصَد في المُلمِّات سواه، لا ملاذ إلا بجانبه، ولا تُطلَب الحوائج إلا من بابه؛ المَفْزَع إليه، لا سند إلا سنده، ولا حول ولا قوة إلا به، لا ملجأ منه إلا إليه، ما شاء كان، وما لم يَشَأْ لم يكن، هو المتصرف في الملك، لا معقِّب لحكمه، لا إله إلا هو.
ومن تصفَّح الكتب وجد فيها من الابتلاءات وصدق الصادقين خبراً، ووجد من تدليس المنافقين والمُلْتَوِين في السِيَر عِبَراً.
اقرءوا التاريخ إذ فيه العِبَر ضلَّ قوم ليس يدرون الخبر
عباد الله: ما أجمل الحديث عن القِيَم! وما أعظم الكلام عن المُثُل! وأروع من ذلك أن ترى المُثُل رجالاً، والأخلاق فعالاً.
ألا فلنقف معكم دقائق موقف صدق من مواقف الصحب البرَرَة.
إن قلم الكاتب ولسان الخطيب -مهما أوتيَ من براعة وبلاغة- عاجزان عن وصف تلك الحادثة، عن وصفها في مِحنتها وابتلاءاتها، عن وصفها في صدق رجالها وإيمان أصحابها.
فيها ابتلاء بهجر الأقربين، وبلاء بتزلُّف المناوئين والكافرين.
قصة كلها عِبَر وعَبَرات، وفكر ونظرات، ودموع حرَّاء وحسرات.
قصة تحكي مواقف الصدق والصبر في صحب محمد صلى الله عليه وسلم الذين هم مثال المتانة في البناء، وأنموذج الصدق في اللهجة، والإخلاص في الطاعة، والقدوة في الصبر على البلاء، والشكر على السراء.
إنها قصة الثلاثة الذين خُلِّفُوا في غزوة تبوك، يوم ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، ثم تاب عليهم ليتوبوا، إن الله هو التواب الرحيم.
فلا إله إلا الله! من آيات وأحداث تذرف منها الدموع، وتخشع لها القلوب.
هاهو الإمام أحمد شيخ أهل السنة، وإمام هذه الأمة، كان لا يبكيه شيء من القرآن كما تبكيه هذه الآيات.
وحديث كعب في تفصيل أخبارها وأحداثها مُبكٍ مُحزِن مُوجِد لمن كان له قلب.
هاهو صلى الله عليه وسلم يستنفر المسلمين لملاقاة الروم يوم بلغه إعدادهم للعدوان على أهل الإسلام، يوم أحسُّوا بعلوِّ شأن الإسلام في الجزيرة منبثقاً من بين جبالها، منطلقاً من صحاريها.
يوم فُتِحَت مكة فأخذت الأفواج تِلْوَ الأفواج تدخل في دين الله، فتحرك الروم بعسكرهم وفكرهم ودسائسهم، وعندها استنفر صلى الله عليه وسلم أصحابه؛ فكان التهيؤ في أيام قائظة، وظروف قاسية، وجهد مضنٍ، ونفقات باهظة؛ إنه جيش العسرة، وإنها لغزوة العسرة.
وما أدراكم ما ذاك الجيش، وما تلك الغزوة!
وصْفُها في كتاب الله استغرق آيات طوالاً، استغرق في أنباء الطائعين والمثبِّطين، والمخلصين والقاعدين.
يجيء فيها المُعذِّرون ليؤذَن لهم، ويتولى البكاءون بفيض دموعهم حَزَناً ألا يجدوا ما ينفقون.(13/2)
تخلف كعب عن غزوة تبوك
ألا فاسمعوا -رحمكم الله- إلى وصفٍ صادقٍ لقصة الخطيئة والتوبة من كعب.
اسمعوا لوصفٍ صادقٍ لقصة الخطيئة من كعب أحد الثلاثة الذين خُلِّفوا -رضوان الله عليهم وعلى الصحابة أجمعين-: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى} [يوسف:111].
والقصة في الصحيحين مثبتة، وراويها كعب بنفسه؛ فها هو كعب يقول: {وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن -قط- أقوى ولا أيسرَ مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله! ما جمعت قبلها راحلتيْن -قط- حتى جمعتهما في تلك الغزاة، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورَّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة، فغزاها صلى الله عليه وسلم في حرٍّ شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً، واستقبل عدداً كثيراً، فجلى عندها للمسلمين أمرهم؛ ليتأهبوا أُهبة غزوهم، أخبرهم بوجهتهم التي يريد، والمسلمون يومها مع رسول الله كثير، فقلما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى ما لم ينزل فيه وحي من الله.
غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة يوم طابت الثمار، ويوم طاب الظلال.
فها هو يتجهز والمسلمون معه.
يقول كعب: وطفقت أغدو لكي أتجهَّز معه، فأرجع، ولم أقضِ شيئاً، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرع الجيش، وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل، فأُدركُهم فيا ليتني فعلت}.
ويأخذ ذلك من كعب مأخذه، ويبلغ الحزن مبلغه، وتبلغ المحاسبة مبلغها.
لسان حاله يقول:
ندمت ندامة لو أن نفسي تُطاوِعني إذاً لقطعت خمسي
ولسان مقاله يقول: {فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحزنني وآلَمني ألا أرى أسوة لي إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق، أو رجلاً ممن عذره الله من الضعفاء والذين لا يجدون ما ينفقون، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال -وهو جالس بين صحبه-: ما فعل كعب؟ فقال رجل من بني سلمة -من عشيرة كعب -: يا رسول الله! حبسه برداه، ونظرُه في عِطفيْه، ويذبُّ عن عرضه معاذ -رضي الله عنه- فيقول: بئس ما قلت، والله يا رسول الله! ما علمنا عنه إلا خيراً؛ فسكت صلى الله عليه وسلم.
يقول كعب: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلاً من تبوك، حضرني بثِّي وحزني وغمي وهمي، فطفقت أتذكر الكذب، وأقول: بِمَ أخرج من سخط رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ غداً؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي؛ فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً راح عني الباطل وانزاح، حتى عرفت أني لن أنجوَ منه بشيء إلا بالصدق، فأجمعت صدقه صلى الله عليه وسلم، وجاء المُخلَّفون بأعذارهم، فقبل منهم صلى الله عليه وسلم ظاهرهم، ووكَل سرائرهم إلى من لا تخفى عليه خافية}.(13/3)
سبب تخلف كعب عن غزوة تبوك
يقول كعب: {فجئت وسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتبسم تبسُّم المغضب، ثم قال: تعال.
فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلَّفك يا كعب؟ ألم تكن قد ابتعت ظهراً؟ -أي اشتريت مركوباً- قال: قلت: يا رسول الله! والله! لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، لقد أُعْطيتُ -والله- جدلاً، لكني -والله- قد علمت لَئِنَّ حدثتك -اليوم- حديث كذب ترضى به عني ليوشكنَّ الله أن يُسخطَك عليَّ، وإن حدثتك حديث صدق تَجِد عليَّ فيه، إني لأرجو فيه عقبى الله عز وجل، والله! ما كان لي من عذر، والله! ما كنت -قط- أقوى ولا أيسرَ مني حين تخلفت عنك، فقال صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك}.
فلا إله إلا الله! صِدْقٌ ووضوحٌ وصراحةٌ، وهكذا كان صحب محمد صلى الله عليه وسلم، وهكذا يجب أن يكون المؤمنون:
والمؤمنون على عناية ربهم يتوكلون لا خوف يرهبهم ولا هم في الحوادث ييئسون
عندها جاء إليه رجال من بني قومه يريدون منه الاعتذار كما اعتذر المخلفون.
يقول كعب: {فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع، فأُكذِّب نفسي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى علمت بخبر الرجليْن الصالحيْن من أهل بدر، واللذيْن صدقَا، فقلت: لي فيهما أسوة وهما هلال الواقفي، ومرارة بن الربيع}.(13/4)
مقاطعة الصحابة للذين خلفوا
وأُعلِنَت المقاطعة؛ بل أُعلِنت التربية المحمدية؛ وأعلن الهجر والتأديب من مربي البشرية صلى الله عليه وسلم.
يقول كعب: {فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا نحن الثلاثةَ من بين كل من تخلَّف عنه، فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض؛ فما هي بالأرض التي أعرف، لبثنا على ذلك خمسين ليلة، أما صاحبايَ فاستكانا، وقعدا في بيوتهما يبكيان.
وأما أنا فكنت أشبَّ القوم وأجلدَهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف الأسواق -فلا والله ما يكلمني أحد- وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلِّم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فلا والله لا أدري هل حرَّكَ شفتيْه برد السلام أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه صلى الله عليه وسلم وأسارقُه النظر، فإذا أقبلتُ على صلاتي أقبل إليَّ، وإذا الْتفتُّ نحوه أعرض عني}.
طالت على كعب الجفوة، وعظم الابتلاء، وضاقت عليه المسالك، فقصد ابن عم له اسمه أبو قتادة في بستان له، يقول: {وتسوَّرْت جدار حائط أبي قتادة -وهو من أحب الناس إليَّ- فسلمت عليه، فوالله ما رد عليّ السلام.
قال: قلت: يا أبا قتادة أنشدُك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، قال: فكررت المناشدة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فقال: الله ورسوله أعلم.
عندها فاضت عيناي، وولَّيت حتى تسورْتُ الجدار، وجعلت أهيم على وجهي حتى دخلت السوق.
وبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذ بنبطي من أنباط أهل الشام يسأل أهل السوق: من يدل على كعب؟ فطفق الناس يشيرون له إليَّ حتى جاءني فدفع إليَّ كتاباً من مَلِك غسَّان؛ فإذا فيه: قد بلغني أن صاحبك قد جَفَاك، ولم يجعلك الله بدار هوان؛ فَالْحَقْ بنا نُواسِك.
قال: فلما قرأتُها قلت: هذا أيضاً والله من البلاء والامتحان والاختبار، فقصدت التَّنور، فأوقدته بها}.
يا أيها المسلمون: هذا هو ديدن أعداء الله في الغابر والحاضر، يتحسسون الأنباء ويترصدون المداخل، وكم من أقدام في مثل هذا زلَّت، وكم من أرجل في مثل هذه الأوحال قد انزلقت.
أما كعب فَيَمَّمَ بها التنور، فأوقده بها.
ولا يزال البلاء به -رضيَ الله عنه- حتى جاءه رسول من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره باعتزال امرأته.
يقول كعب: {فقلت: أُطلِّقُها أم ماذا أفعل؟ قال: لا.
بل اعتزلها فلا تقربها.
فقلت لها: الْحقي بأَهلِك حتى يقضي الله في هذا الأمر}.(13/5)
نزول التوبة على الثلاثة الذين خلفوا
وبعد خمسين ليلة من الهجر والمقاطعة يقول كعب: {بينا أنا أجلس على الحالة التي ذكر الله تعالى في كتابه قد ضاقت عليَّ نفسي، وضاقت عليّ الأرض بما رَحُبَتْ حتى لا أجد من يُكلمني، بل ولا من يردُّ عليَّ السلام، قد صليت صلاة الفجر، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، وإذا بي أسمع صوت صارخ بأعلى صوته على جبل سِلْع: يا كعب بن مالك! أبشر.
يا كعب بن مالك! أبشر.
قال: فوالله ما ملكت إلا أن أخرَّ ساجداً باكياً شكراً لله تعالى، وقلت: قد جاء فرج}.
فَلرُبَّ نازلة يضيق بها الفتى ذرعاً وعند الله منها المَخْرَجُ
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فُرِجَت وكنت أظنُّها لا تُفرج
وتتنزل التوبة على كعب وعلى صاحبيْه، وتأتي البشرى، وأيُّ بشرى يا عباد الله؟ بشرى بحسن العقبى، بشرى بالعودة إلى صفِّ المسلمين، بشرى يركض بها الفارس، ويهتف بها الراكب، على مثلها تكون التهاني، ولمثلها تكون الأوسمة والجوائز.
يقول كعب: {فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبَيَّ فكَسَوْتُهما إياه لبشراه لي، والله ما أملك غير هذيْن الثوبيْن، فاستعرت ثوبيْن ولبستهما، وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئونني بالتوبة، يقولون: لتهنك توبة الله عليك.
قال كعب: فدخلت المسجد وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، وحوله الناس، فقام إليَّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنَّأني، والله! ما قام إليَّ رجل من المهاجرين غيره، والله! ما أنساها لـ طلحة بن عبيد الله.
قال: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور، كأنه فلقة قمر: أبشرْ يا كعب، أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمُّك.
فقلت: أمن عندك يا رسول الله، أم من عند الله؟ قال: لا بل من عند الله عز وجل، ثم تلا قول الله: {لَقَد تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنصَارِ الذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ منْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:117 - 118]}.
وفاز الصادقون بصدقهم، وحبط عمل الكاذبين، واللهُ لا يهدي القوم الفاسقين.
يا أمة الإسلام: هؤلاء هم رجال الصدق، رجال محمد صلى الله عليه وسلم، رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، خُرِّجُوا من مدرسة النبوَّة، صِدْق في الحديث، وصدق في المواقف، وصٌبر عند اللقاء، واعتراف بالخطيئة، قبول في حال الرضا والغضب من غير تنميق عبارات من أجل تلفيق اعتذارات؛ فهل عقمت النساء أن يلدْن في هذا العصر آلافاً من مثل أولئك الصادقين؟
لا.
لم تعقُم النساء، لكن الشباب والشيب والنساء في حاجة إلى تربية إسلامية تغرس في نفوسهم الصدق والإخلاص، وتُبعد عنهم النفاق والرياء والالْتواء، وتقول لهم بكل عزة:
قد اختارنا الله في دعوته وإنا سنمضي على سنته
فمنَّا الذين قضوا نحبهم ومنا الحفيظ على ذمته.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
اللهم أخرج من أصلاب هذه الأمة رجالاً صادقين مخلصين يقولون الحق وبه يعدلون.
اللهم انصر من نصر الدين، واجعلنا من أنصاره.
اللهم أقِم دولة الإسلام في كل مكان، وارزقنا اللهم فيها العزة والقوة والمنعة تحت لا إله إلا الله محمد رسول الله.
اللهم انصر دينك وكتابك وأولياءك، إنك سميع مجيب الدعوات.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(13/6)
ربح كعب وأصحابه وخسارة الكاذبين
الحمد لله؛ وعد بحسن العاقبة للصادقين، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119].
واعلموا أن الصدق من أكرم الصفات الإنسانية، وأعظم الفضائل الخلقية؛ فهو أهم الأسس في بناء الأمة وسعادة المجتمع؛ إذ به يرتبط كل شأن من شئون الحياة، وتتعلق به كل مصلحة من مصالح الناس، ولذلك أمر الله به، وجعله خُلُقاً لحَمَلَة وحْيِه ومبلِّغي رسالاته؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة ومثلاً أعلى للصدق في القول والعمل منذ نشأته حتى لحق بربه صلى الله عليه وسلم، وكذلك كان الأنبياء والمرسلون.
وما عاش المجتمع الإسلامي الأول في ظل الأمن والاستقرار والسعادة إلا لأن أفراده كانوا يتحرَّوْن الحقَّ، ويتصفون بالصدق في علاقاتهم وعباداتهم ومعاملاتهم؛ بل في كل حياتهم الخاصة والعامة، والمؤمنون كذلك صُدُق في كل زمان ومكان.
ولنرجع معك أخي المسلم إلى قصة كعب؛ فلم تنتهِ بعدُ، لم تقف القصة عند البشارة بالتوبة والتهنئة بالقبول، إنما جلس كعب بين يدَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: {يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله.
فقال عليه الصلاة والسلام: أمسك عليك بعض مالك؛ فهو خير لك، ثم قال: يا رسول الله! إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدِّث إلا صدقاً ما حييت، فوالله ما علمت أحداً من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث أحسن مما أبلاني الله تعالى، والله ما تعمَّدْتُ كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي، والله ما أنعم الله عليَّ من نعمة -قط- بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أخشى أن أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا}.
إن الله قال للذين كذبوا شرَّ ما قاله لأحد يوم قال: {سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:95 - 96].
فيا عبد الله: الصدق فضيلة وطمأنينة بل صفة من صفات المؤمنين؛ فلتكن متعلقاً به، وليكن قدوتك كعباً وصحبه -رضوان الله عليهم- فليس بينك وبينهم حاجب يحجبك عن التشبُّهِ بهم، اقتدِ بهم تكن بعضهم.
إذا أعجبتك خصال امرئ فكنه يكن منك ما يعجبك
فليس على الصدق والمكرمات إذا جئتها حاجب يحجبك
ليكن قدوتَك الإمام ابن شهاب الزهري يوم يقول: [[والله! لو نادى منادٍ من السماء أن الكذب حلال ما كذبت]].
ألا عباد الله: تحرَّوْا الصدق، وإن رأيتم الهلكة فيه؛ فإن النجاة فيه، وتجنبوا الكذب، وإن رأيتم النجاة فيه؛ فإن الهلكة فيه، ألا واتقوا الله، وكونوا مع الصادقين، وتوبوا إلى ربكم واصدقوا، وقولوا قولاً سديداً تفوزوا فوزاً عظيماً؛ فالصدق أبلج، والكذب لجلج.
والكذب ساعة، والصدق إلى قيام الساعة.
والحق يعلو والأباطل تسفل والحق عن أحكامه لا يُسألُ
وإذا استحالت حالة وتبدلت فالله عز وجل لا يتبدلُ
ألا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد فقد أمرتم بالصلاة عليه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى أهله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين.
اللهم أصلح من بصلاحه صلاح للإسلام والمسلمين، وأهلك من في هلاكه صلاح للإسلام والمسلمين.
رباه! إن حالنا لا يخفى عليك، وذلنا ظاهر بين يديك، والمسلمون عبيدك وبنو عبيدك، وحملة كتابك وأتباع رسولك وحبيبك؛ قد تمزق شملهم، وتفرق جمعهم، وذهبت هيبتهم، ونال منهم عدوهم، وطمع فيهم الأذلاء، وسلط عليهم بذنوبهم من لا يخافك ولا يرحمهم.
اللهم فالطف بهم بلطفك الخفي والجلي، اللهم الطف بهم بلطفك الخفي والجلي، اللهم لا تعاملهم بما فعل السفهاء والكبراء منهم يا رحيم يا منان.
اللهم ارحم أمة محمد صلى الله عليه وسلم رحمة عامة شاملة يعز فيها أولياؤك، وينصر جندك، ويذل فيها أعداؤك وأعداء دينك وشريعتك وكتابك العظيم.
اللهم إنا نسألك باسمك الأعظم الطيب الطاهر المبارك الأحب إليك الذي إذا دعيت به أجبت وإذا سئلت به أعطيت وإذا استرحمت به رحمت نسألك فرجاً عاجلاً للمضطهدين والمستضعفين من المسلمين، وهلاكاً للطغاة والظلمة المجرمين، تباركت أسماؤك وتقدست صفاتك ولا إله غيرك.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأَجِرْنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا على من بغى علينا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا.
اللهم احفظ شباب هذه الأمة الذي آمن بك رباً وبنبيك قائداً وبدينك منهاجاً وطريقاً.
اللهم احفظهم من كيد الكائدين وحقد الحاقدين من أعداء دينك وصراطك المستقيم.
اللهم ثبتهم على الحق، وانصر بهم دينك، واجعلنا وهم من الصادقين والصابرين والمجاهدين في سبيلك يا أرحم الراحمين!
اللهم وأقم دولة القرآن في كل مكان، وأحينا بها سعداء كرماء أو أمتنا دونها شهداء، واجعلنا من أهل الصلاح والفلاح والنجاح يا سميع الدعاء.
اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم، اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم، اللهم وأهلك الكفرة الفجرة الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك ويقاتلون أولياءك وعبادك الصالحين.
اللهم أنزل عليهم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، اللهم شتت شملهم، وفرق جمعهم، وزلزل أقدامهم، وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
اللهم يا قريباً لمن دعاك! يا مغيثاً لمن لاذ بحماك! يا معيذاً من استعاذ بك، نسألك أن تعيذنا من النار ومن دار الخزي والبوار.
اللهم حقق رجاءنا، واقبل دعاءنا فإنك أنت القائل: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].
اللهم هذا الدعاء ومنك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التكلان، وأنت الرحيم الرحمن الحليم المنان يا ذا الجلال والإكرام!
اللهم فلا تردنا خائبين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(13/7)
هلموا إلى القرآن
القرآن إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه.
القرآن سبب لكل خير في هذه الأمة، وتركه والابتعاد عنه سبب لكل عقوبة تقع في هذه الأمة.
والرسول صلى الله عليه وسلم قد بين لنا فضله، وكان يسمعه من غيره، وإذا سمع آيات من كلام الله دمعت عيناه.
القرآن في عهد الصحابة جعلوه في صدورهم، فرفعوا، وتركه غيرهم فوضغوا.(14/1)
القرآن معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم الخالدة
الحمد لله القائل: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:29 - 30].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله القائل: {الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة} صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
عباد الله: وأنتم تعيشون شهر القرآن اتقوا الله، واعلموا أن لكل رسول من الرسل عليهم الصلاة والسلام معجزة اِختُصَّ بها بين الرسل؛ ليصدقه قومه وليعلن التوحيد فيهم بالبراهين.
فكان لموسى عليه السلام معجزة العصا، يوم خرج في قومٍ بلغوا في السحر ذروته ومنتهاه، فأتت عصاه تلقف ما صنعوا: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:118].
وبلغ قوم عيسى مبلغاً عظيماً في الطب، فأتى إليهم عيسى بطب من الواحد الأحد، يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، فوقع الحق واندحر الباطل.
وأما رسولنا صلى الله عليه وسلم فبعث في أمةٍ فصيحة في لغتها، مجيدة في بيانها، خطيبها أخطب الخطباء، وشاعرها أرقى الشعراء، فأتى إليهم صلى الله عليه وسلم بالقرآن، سمعوه فدهشوا من بيانه، وبهتوا من بلاغته وفصاحته، فما استطاعوا أن ينكروا ذلك رغم جحودهم، حتى يقول كبيرهم الوليد بن المغيرة - وقد سمع القرآن فدهش:- واللات والعزى، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وأنه يعلو ولا يُعلى عليه.
لا إله إلا الله!
الحق يعلو والأباطل تسفل والحق عن أحكامه لا يُسأل
وإذا استحالت حالة وتبدلت فالله عز وجل لا يتبدل
ما زال به قومه -بـ الوليد - حتى رجع عن مقالته، وكذب نفسه فيما قاله عن القرآن، فقال منتكساً كما حكى الله عنه: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر:24] ويتولى الله الرد عليه ويعنفه ويتهدده: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} [المدثر:26 - 28].
ويأتي الرسول صلى الله عليه وسلم لِيُرَبِّي هذه الأمة على هذا الكتاب العظيم الذي: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] فتربت الأمة وتهذبت.
وأصبح عابد والأصنام قُدماً حماة البيت والركن اليماني
تربت على كتاب ما قرأه قارئ إلا آجره الله، وما تدبره متدبر إلا وفقه الله.
كتابٌ مَن حكم به عدل، ومن استمع إليه استفاد، ومَن اتعظ بمواعظه انتفع.
كتاب من قرأه علَّمه الله علم الأولين والآخرين.
كتاب من استنار بنوره دخل الجنة، ومن تقفاه وجعله خلف ظهره قذفه على وجهه في النار.
كتاب من تدبره أخرج النفاق والشك والريبة من قلبه، هو شفاء لما في الصدور، مَن التمس الهداية فيه هداه الله وسدده، ومن التمس الهدى من غيره أضله الله وأهانه: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " من اعتقد أنه سيهتدي بهدى غير هدى الله فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" ويقول جل ذكره: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] والمعنى: ما بهم لا يتدبرون ما فيه من العظات؟ ما بهم لا يعيشون مع الآيات البينات؟
و
الجواب
رانَ على قلوبهم؛ فأقفلت فلا تسمع، وأوصدت فلا تنتفع، ولو أنها تدَّبرت لفهمت كلام ربها فاهتدت بهدي باريها.
ويقول تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] والاختلاف الكثير تجده في الكتب غير كتاب الله عز وجل، أما كتابه: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] من قرأه بارك الله في عمره، وبارك في ولده، وبارك في ماله، ومن أعرض عنه محق الله عمره، وأزال هيبته، وأفنى كابره وصاغره، وجعل معيشته ضنكاً، وحشر يوم القيامة أعمى.(14/2)
حث النبي صلى الله عليه وسلم على قراءة القرآن
كان عليه الصلاة والسلام ينادي الناس -جميعاً- لقراءة القرآن، والتلذذ بتلاوته وألا يهجروه، فيقول صلى الله عليه وسلم: {اقرءوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه} يأتيك القرآن يوم القيامة فيشفع لك عند من أنزله، وعند من تكلم به في يوم لا بيعٌ فيه ولا خلةٌ ولا شفاعةٌ، فيدخلك الجنة بإذن الله تعالى.
ويقول صلى الله عليه وسلم: {يؤتى بالقرآن وبأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما يوم القيامة} متفق عليه.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: {اقرءا الزهراوين: البقرة وآل عمران؛ فأنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما فِرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما} {اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة} يعني السحرة.
رواه مسلم {إن في سورة البقرة آية الكرسي مَن قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظاً ولا يقربه شيطان حتى يصبح} ويقول صلى الله عليه وسلم وهو يفاضل بين الناس: {خيركم من تعلم القرآن وعلمه}.
علامة الصدق والإيمان: كثرة قراءة القرآن، وعلامة القبول: تدبر القرآن، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين} قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأحد ولاته على مكة وقد ترك مكة ولقيه في الطريق: كيف تركت مكة وأتيتني؟! قال: وليت عليها فلاناً يا أمير المؤمنين! قال: ومن هو ذا؟ قال: مولى لنا، وعبد من عبيدنا، قال عمر: ثكلتك أمك تولي على مكة مولى! قال: يا أمير المؤمنين! إنه حافظ لكتاب الله، عالم بالفرائض، فدمعت عينا عمر وقال: صدق رسول الله: {إن الله ليرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين}.
يرفع الله به من اتبعوه وتدبروه، ويضع به من أعرضوا عنه فلم يقرءوه ولم يتدبروه ولم يعملوا به، والعجيب! أن تسمع من بعض هذه الأمة من يقول لأخيه وهو يحاوره: والله ما قرأت القرآن ستة أشهر! لا إله إلا الله! أي قلب يعيش وهو لم يمر على كتاب الله ستة أشهر، وهو يمر بالصحف اليومية والمجلات والقيل والقال والخزعبلات وآراء الماجنين والماجنات: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:4 - 6].(14/3)
هجر القرآن
يقول الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان:30].
يقول ابن عباس رضى الله عنه وأرضاه: [[مَن لم يختم القرآن في شهر فقد هجره]] وهَجْرِ القرآن على أضرب: مِن الناس مَن يهجر العمل به، وتلك -والله- هي الطامة، ومنهم من يهجر تلاوته؛ فيقدم صحف ومؤلفات البشر على كلام رب البشر، يسهر على المذكرات يُعللها ويلخص فوائدها وليس بها فوائد، لكنَّ كتاب الله يشكوه إلى الله، كتاب الله يشكونا، هجرناه وأهملناه وضيعناه وخالفنا أوامره ونواهيه، قرآننا صار يشكو ما قرأناه:
عميٌ عن الذكر والآيات تندبنا لو كلم الذكر جلموداً لأحياه
يقول صلى الله عليه وسلم يستثير الهمم لتطلب الأجر والثواب من عند باريها: {اتلوا القرآن! فإن الله يأجركم على تلاوته كل حرف بحسنة، والحسنة بعشر أمثالها، أما إني لا أقول: ألف لام ميم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف} فعُد -يا عبد الله- واقرأ واحتسب الأجر عند الله؛ فإنك تأتي يوم القيامة وقد نصب لك في الجنة سلماً بدرجات، يقول الله لك بلا ترجمان: {اقرأ وارق ورتل؛ فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها} فمن كان يقرأ في القرآن كثيراً رقى حتى يصبح كالكوكب الدُّري في سماء الجنة، ثم هم على منازل: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [آل عمران:163].
عباد الله: من حفظ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه غير أنه لا يُوحى إليه، لا حسد في الدنيا ولا في مناصبها ولا في أموالها، لا حسد إلا في تلاوة القرآن آناء الليل وأطراف النهار، بيتٌ لا يقرأ فيه القرآن عششت فيه الهموم والغموم والنفاق، بيتٌ سكنته المعاصي والله لا يخرجها إلا القرآن، وليس كل المؤمنين يجب عليهم قراءة كل القرآن كاملاً، فمنهم من لا يقرأ القرآن وهو تقي عابد بار صالح خير؛ لأنه لا يقرأ أصلاً، فواجب مثل هؤلاء الذين فاتتهم القراءة أن يرددوا ما تيسر من سورٍ يحفظونها، وأن يسبحوا الله، ويحمدوا الله، ويهللوا ويكبروا ويصلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتعلموا القرآن، وإن شق عليهم فإن لهم أجرين عند الله، وقد كان صلى الله عليه وسلم يعيش مع القرآن بل كتابه الذي تربَّى عليه القرآن.
ولم يكن عند الصحابة مؤلفات ولا صحف ولا مجلات، معهم القرآن مُعلَّق في طرف البيت والسيف معلق في الطرف الأخر، كانوا يمشون على الأرض وكل واحد منهم قرآن، فتحوا الدنيا بآيات الله البينات، وهذه معجزة رسولنا صلى الله عليه وسلم أن يأتي بكتاب فيتوارث منه العلماء مجلدات ومجلدات تملأ البيوت والمكتبات في كل الدهور والعصور.
أتى النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بعظيمٍ غير مُنْصَرِمِ
آياته كلما طال المدى جُددُ يَزِيِنُهُنَّ جلالِ العِتْقِ والقِدَمِ
فيا أمة القرآن! ويا حفظة كتاب الله! من يقرأ القرآن إن لم تقرءوه؟ مَن يتدبره إن لم تتدبروه؟ من يعمل به إن لم تعملوا به؟ أما سمعتم أساطين الكفر في كل مكان بدءوا -الآن- في الدخول في دين الله زرافات ووحداناً، بعد أن قال القرآن فيهم: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53] في وقت يخرج منه أبناء هذا الدين.
الموازين عطلت وغدا القرد ليثاً وأفلتت الغنم(14/4)
حال السلف مع القرآن
عباد الله: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يحب سماع القرآن، كيف لا وهو كلام الله عز وجل؟(14/5)
حال الرسول صلى الله عليه وسلم مع القرآن
ولذلك يقول لـ ابن مسعود كما في الصحيحين: {يا عبد الله! اقرأ عليّ القرآن -فيخجل عبد الله ويستحي من شيخه صلى الله عليه وسلم- فيقول ابن مسعود: كيف أقرأ القرآن عليك وعليك أنزل؟! قال: اقرأ فإني أحب أن أسمعه من غيري، قال: فاندفعت أقرأ في سورة النساء، فلما بلغت قول الله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] قال: حسبك حسبك، فنظرت فإذا عيناه صلى الله عليه وسلم تذرفان} تأثر من كلام الله الذي يقود النفوس إلى باريها، وتذكر ذلك اليوم الذي يكون فيه شهيداً على العالمين.(14/6)
أبو موسى وتحبيره القرآن
وهاهو صلى الله عليه وسلم يخرج بعد أن أظلم الليل يمر ببيوت الأنصار يستمع لحالهم في الليل، يوم كانت بيوتهم حية بكتاب الله، يوم لم تمت بالأغاني والتمثيليات والمسلسلات والأفلام، يوم كان ليلهم تعبداً هم فيه سجداً، يمر ببيت أبي موسى فينصت لـ أبي موسى وهو يقرأ القرآن، فلمَّا جاء اليوم الثاني قال: {يا أبا موسى! لو رأيتني البارحة وأنا أستمع لك، لقد أُوتيت مزماراً من مزامير آل داود.
فيقول: يا رسول الله! أإنك كنت تستمع لي البارحة؟ قال: إي والذي نفسي بيده} وفى بعض الروايات: {أنه استمع صلى الله عليه وسلم له من صلاة العشاء حتى صلاة الفجر يقول أبو موسى: يا رسول الله! والذي نفسي بيدي لو أعلم أنك تستمع لي لَحَبَّرْتُهَ لك تَحْبِيِراً} أي: جودته وحسنته تحسيناً؛ فانظروا كيف كان صلى الله عليه وسلم يعيش مع القرآن وللقرآن، وكيف كان صحابته رضوان الله عليهم.(14/7)
عثمان وتلاوته وتدبره للقرآن
هاهو عثمان رضي الله عنه كان ينشر المصحف من بعد الفجر إلى صلاة الظهر، يقرأ ودموعه تنهمر على كتاب الله، فيقول له الناس: لو خففت عن نفسك، قال: [[أما والله لو طهرت قلوبنا ما شبعنا من القرآن]].(14/8)
حال أمة الإسلام اليوم مع القرآن
والذي نلاحظه -يا عباد الله- في أنفسنا وإخواننا المسلمين عامة هو قلة الاهتمام بكتاب الله، والإعراض عن كتاب الله، والاستغناء بكتب البشر، والصدود والإعراض إلا ممن رحم الله، وقلة التجويد حتى من بعض أئمة المساجد، وقلة الحفظ والتدبر، وكثرة المشاغل حتى بين طلبة العلم، لا تجد إلا القليل النادر ممن يحفظ القرآن أو يحفظ بعضه، وإذا كُلِّفَ أحدنا بحفظ شيء من القرآن استصعب ذلك حتى كأن جبال الدنيا على كاهله.
ومعنى ذلك: هزيمة الإسلام والمسلمين وذهاب الإيمان، فوالله لا نصر ولا تمكين ولا عزة إلا بهذا القرآن، والله متى تركناه ونسيناه ابتلينا بكل خزيٍ وفضيحةٍ في الدنيا والآخرة.
يقول أحد أعداء الإسلام: من لي بمن يخرج القرآن من صدور أبناء الإسلام؟ فيرد أحد الأشقياء ويقول: نأتي إلى المصحف فنمزقه، قال: لا.
لا ينفع، نريد أن نُمزَّقه من قلوبهم وقلوب أبنائهم.
ويقول عدو آخر للإسلام: ثلاث ما دامت عند المسلمين فلن تستطيعوا إخراجهم من دينهم؛ القرآن في صدورهم، والمنبر يوم الجمعة، والكعبة التي يرتادها الملايين من المسلمين، فإذا قضي على هذه قُضَي على الإسلام والمسلمين.
ولذلك جاء أعداء الإسلام من اليهود وأذنابهم من شيعة وباطنيين ورافضة جاءوا إلى القرآن فهونوا من شأنه، وقالوا: إنه مختلق، بل اِدَّعُوا نقصه، فعلماؤهم لا يحفظون من كتاب الله إلا القليل، وعالمهم -أقصد عالم الرافضة - لا يعرف قراءة القرآن: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32] وأتوا إلى منبر الجمعة فأرادوا تعطيله ليتحول إلى مناقشة قضايا تافهة لا تمت إلى الإيمان بصلة: (وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) [غافر:25].(14/9)
عودة عودة إلى القرآن
فيا أيتها الأمة المسلمة! يا من أخرجها الله من الظلمات إلى النور! أقبلوا على بيوتكم وقلوبكم وأبنائكم، أقبلوا عليها بتغذيتها بكتاب الله، استرشدوه يرشدكم، تدبروه يعنكم بإذن الله، استهدوه يهدكم من أنزله، يغفر الله لكم ذنوبكم ما تقدم منها وما تأخر، يُحيي بيوتكم على الإيمان، يردَّكم إليه رداً جميلاً.
هذا شهر القرآن، هذا شهر التلاوة، هذا شهر مضاعفة الأجور، أقرءوا فيه القرآن فإن الله يأجركم على تدَّبره وتلاوته والنظر فيه، ملأ الله بيوتكم وقلوبكم رحمة وبركة وهداية ونوراً، وملأ صدوركم إيماناً ويقيناً وخيراً وبراً، عاشروا القرآن، جالسوا القرآن؛ ليعظم في قلوبكم القرآن.
اللهم أعنا على تلاوة كتابك آناء الليل وأطراف النهار، اللهم اجعلنا ممن يقرءوه فيقودهم إلى جنات النعيم، اللهم وتقَّبل منا رمضان صيامه وقيامه، وتلاوته وصدقته، وكل عمل صالح فيه إنك على كل شيء قدير.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(14/10)
بعض آداب قراءة القرآن
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين له بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: شهر رمضان هو شهر القرآن، وأنتم أمة القرآن وحملة القرآن، ينبغي أن تُعْرَفوا بليلكم إذا الناس ينامون، وبنهاركم إذا الناس يكدون ويلهون ويلعبون، وببكائكم إذا الناس يضحكون، وبورعكم إذ الناس يخلطون، وبتواضعكم إذ الناس يختالون، وبصمتكم إذ الناس يخوضون، وبحزنكم إذ الناس يفرحون، لسان حال الواحد منكم يخاطب نفسه ويقول:
وَيْحُكِ يا نَفْسُ أَلاَ تَيَقَّظِي للنفع قبل أن تزل قدمي
مضى الزمان في ثوانٍ وهوى فاستدركي ما قد بقي واغتنمي
أُمَّة القرآن: لتلاوة القرآن آداب نقف عندها وقفات قصيرة علَّ الله أن ينفع بها.
وأولها بل جماعها: الإخلاص لله، فمن قرأه رياءً أو سمعة كبه الله على وجهه في النار.
ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: {يؤتى بحامل القرآن رياءً فيقول الله له: ماذا عملت؟ قال: تعلَّمت فيك القرآن وعلَّمته، قال: كذبت وإنما تعلمت ليقال عالم، وقرأت ليقال قارئ، فقد قيل ثم يؤمر به فيسحب على وجهه حتى يلقى في النار} فلا إله إلا الله! لا يُقْرَأ القرآن إلا لوجه الله، فأخلصوا النية في قراءته تؤجروا وتثابوا وتكونوا مع السفرة الكرام البررة ويشفع لكم يوم القيامة، فيقول: يا رب! منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفع فيه القرآن.
ومن آداب التلاوة: أن يقرأ على طهارة؛ لأن ذلك من تعظيم كلام الله عز وجل، فإذا تطهر العبد فليُرتل وليتدبر القرآن، ولا يقرأه في أماكن مستقذرة، أو في جمع لا ينصت فيه له؛ لأن قراءته في مثل ذلك إهانة له، والقرآن مُنَّزه عن ذلك؛ لأنه كلام الله.
وليستعذ القارئ بالله من الشيطان الرجيم عند القراءة، يقول عز وجل: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98] ولتحضر قلبك عند تلاوة القرآن، ولتعلم أن الذي أنزل القرآن هو الذي خلق الإنس والجان، فامتثل أمره واجتنب نهيه.
ولا ترفع صوتك إن كان حولك من يُصلي أو يتلو فتشوش عليهم، وهذا ما يقع فيه البعض وهو من علامة الجهل وعدم الفقه في الدين، يأتي أحدهم ليقرأ فيرفع صوته ليشوش على المصلي في صلاته، وعلى التالي في تلاوته، وعلى الذاكر في ذكره، وكأن ليس في المسجد سواه، أَلاَ إن كان بجانبك من يستمع منك فلا بأس أن تسمعه، وإن كان بجانبك مصلي فإياك أن ترفع صوتك لئلا تُشَوِّشْ عليه واسمع للمصطفى صلى الله عليه وسلم يوم يخرج على الناس وهم يصلون ويجهرون بالقراءة فيقول: {كلكم يناجي ربه فلا يجهر بعضكم على بعض، لا يؤذي بعضكم بعضا} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
واسمع إلى الإمام مالك رحمه الله يوم يقول: أرى في من يرفع صوته ويُشوش على المصلين أن يُضْرَْب ويُخْرَج من المسجد.
ومن آداب التلاوة: أن يكون للعبد المسلم حزب من القرآن فأكثر، لا يَفْتُرْ عنه يومياً لو تغير كل شيء في الكون ما تغير عن حزبه، فهو علامة الإيمان، ألا فليكن لكل واحدٍ منا في كل يوم حزب لا يتركه أبداً، لتعظم الصلة بالقرآن وبرب القرآن والإنس والجان.
ومِن آدابه: أن يُعَلَّم الناس ما تعلمناه منه، وحظنا من تعليمه الأجر والمثوبة، ولنبدأ بتعليم أبنائنا وبناتنا وإخواننا وأمهاتنا وآبائنا فهم رعايانا، ونحن عنهم مسئولون وأمام الله محاسبون.
يقول صلى الله عليه وسلم: {وما من راع استرعاه الله رعية فبات غاشاً لهم إلا حرم الله عليه رائحة الجنة} ومن أعظم الغش ألا تعلِّم من استرعاك الله عليه القرآن.
ويا من حمل القرآن: إياك إياك أن تخالف أمره، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {يُمَثَّلُ القرآن يوم القيامة رجلاً، فيُؤتى بالرجل قد حمله فخالف أمره، فيُمَثَّل له خَصْماً -ومن ذا يُخاصِمُ القرآن؟! - فيقول القرآن: يا رب! حَمَّلْتَه إياي فبئس الحامل، تعدَّى حدودي، وضيَّع فرائضي، وركب معصيتي، وترك طاعتي، فما يزال يخلف عليه بالحُجَجِ حتى يقال شأنك به، فيأخذه بيده فما يُرسله حتى يُكِّبه على وجهه في النار} نعوذ بالله من النار.
يا أمة القرآن: في شهر القرآن: قفوا عند أحكام القرآن واتلوه في كل حين وآن، فهو شافع مشفع مَن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار وبئس القرار.(14/11)
حث القرآن على الإنفاق في سبيل الله
يا أمة القرآن: إن مما دعاكم له القرآن: أن تُنفقوا في سبيل الله مما رزقكم وجعلكم مستخلفين فيه، وأنتم في شهر الإنفاق، وفي شهر الصدقة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: {أفضل الصدقة صدقة في رمضان}.
فيا أخي الصائم: للصدقة في رمضان مزية وخصوصية ليست في غيره، فبادر إليها فلعلك لا تدرك رمضان آخر، أطعم الطعام لتكن ممن امتدحهم القرآن: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} [الإنسان:8].
واسمع إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم يقول: {أيما عبد مؤمن أطعم مؤمناً على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، ومن سقى مؤمناً على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم}.
فلا إله إلا الله ما أعظم الأجر! وما أيسر العمل على من يسره الله عليه! ويقول صلى الله عليه وسلم: {ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر أمامه فلا يرى إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة} ويقول صلى الله عليه وسلم: {من فطَّر صائماً كان له مثل أجره لا ينقص من أجره شيء، ومن سقى صائماً سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة} لا إله إلا الله! هبت رياح الجنة في رمضان فاغتنموها يا عباد الله!
ألا لا يخرج أحد من بيت الله هذا إلاَّ وقد فَطَّرَ -في أقل القليل- عشرة من الصوَّام أو أقل أو أكثر، وكل صائم بعشرة ريالات، والجزاء من أكرم الأكرمين، توضع هذه في صناديق موجودة على يمينك ويسارك وأنت خارج من هذا المسجد، وستقوم الهيئة بجمعها وإرسالها فوراً، فبادر أيها الصائم إلى الغنيمة الباردة، ضيوفك اليوم عشرة صائمين أو أقل أو أكثر، والأجر من أكرم الأكرمين، لك مثل أجرهم لا ينقص من أجرهم شيئاً، وكلٌ على قدر استطاعته.
الله أعطاك فابذل من عطاياه فالمال عارية والعمر رحال
ويا أهل الخير في هذا المسجد وكلكم أهل خير: أطفال أيتام توجد استماراتهم في مكاتب الهيئة هنا، كفالة الواحد منهم في العام ألف ومائتا ريال ينتظرون من يكفلهم، بادروا إلى كفالتهم، ولكم الجنة من أكرم الأكرمين، والضمين رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: {أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة} ألا لا يأتين أحدكم يوم القيامة وخصمه أحد هؤلاء يقول: يا رب! عُرِضت عليهم في يوم كذا في مسجد كذا، فتركوني فخذ لي بحقي منهم.
عباد الله: اقرءوا القرآن وتصدقوا قبل ألا تتصدقوا، وكل يوم جمعة في رمضان سيكون لفقراء المسلمين معكم لقاء، لقاء ضيافة والجزاء من أكرم الأكرمين، فاحتسبوا الأجر والثواب ممن يرزق الطير تغدو خماصاً وتعود بطاناً، أطعمكم الله من ثمار الجنة وسقاكم من الرحيق المختوم.
ألا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد فقد أُمِرتم بالصلاة عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك، اللهم شَفِّع فينا القرآن، اللهم ارفعنا بالقرآن، اللهم أحينا على الإسلام والإيمان والقرآن وتوفنا على الإسلام والإيمان والقرآن.
اللهم اجعلنا ممن يأخذ بيده القرآن إلى رضوانك والجنة، ونعوذ بك أن يكون القرآن خصماً علينا يوم الوقوف بين يديك.
اللهم اجعلنا ممن يقيم حدوده ويعمل بأوامره ويتلوه على الوجه الذي يرضيك عنا.
اللهم اجعلنا لكتابك من التالين ولك به من العاملين، وإلى لذيذ خطابه مستمعين، وبما فيه من الحكم معتبرين.
اللهم انفعنا بما فرجت به من الآيات وكفر عنا به السيئات، وارفع لنا به الدرجات، وهون علينا به السكرات عند الممات.
اللهم وأوجب لنا به الشرف والمزيد وألحقنا بكل بر سعيد ووفقنا جميعاً للعمل الصالح الرشيد.
اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك، بنو إمائك نواصينا بيدك، ماضٍ فينا حكمك، عدل فينا قضاؤك، نسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب غمومنا وهمومنا.
وسابِقَنَا ودليلنا إليك وإلى جنانك جنات النعيم، اللهم ألبسنا به الحلل وأَسْكِنَّا به الظلل وادفع به عنا النقم واجعلنا به عند الجزاء من الفائزين وعند النعماء من الشاكرين، وعند البلاء من الصابرين ولا تجعلنا ممن استهوته الشياطين فشغلته بالدنيا عن الدين فأصبح من الخاسرين وفى الآخرة من النادمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم واجعلنا من المنفقين المبتغين جنة عدن بحورها العين.
اللهم تقَّبل منا صيامنا وقيامنا وسائر عملنا، اللهم لا تصرف هذا الجمع إلا بذنب مغفور، وعيب مستور وعمل مقبول، وتجارة لن تبور، اللهم لا ترُدَّ هذا الجمع خائبين، اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم بما تصنعون.(14/12)
بلسم الحياة
الإنسان بطبيعة الحال يسعى وراء الحياة الطيبة، ولكن الناس في سعيهم لهذه الحياة يختلفون في الطرق الموصلة لها.
وفي هذه المادة -أيها القارئ الكريم- تجد حقيقة الطريق المؤدية إلى الحياة الطيبة، وصوراً من واقع من سار في هذا الطريق، وما وجد فيه من السعادة.(15/1)
أثر فقد الإيمان في الحياة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل قدير، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين؛ فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً.
فصلِّ يا رب على خير الورى ما صدحت قُمْرية على الذرا
والآل والأزواج والأصحاب والتابعين من أولي الألباب
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
أما بعد:
فيا عباد الله: لم يزل كثير من الخلق يلهثون وينصبون، ويسعون ويكدون، فمنهم: من يسعى لجمع المال من أي القنوات.
ومنهم: من يلهث في بهيمية خلف الشهوات وأوضار القنوات.
ومنهم: من يهرول وراء الشهرة والجاه والسلطان في سبات التيه قد أمضى رحلات.
ومنهم: من يعدو وراء الأماني والأحلام، يسبح في غير ماء، ويطير من غير جناح.
كمهمهٍ فيه السراب يلمح يدأب فيه القوم حتى يطلحوا
ثم يظلون كأن لم يبرحوا كأنما أمسوا بحيث أصبحوا
ضياع أعمار نفيسة في طلب أغراض خسيسة، أَمَا إنك لو سألتهم جميعاً من وراء ذلك السعي واللهث ما تريدون؟ لأي شيء تهدفون؟
لأجابوك: الحياة الطيبة نريد، إلى السعادة نهدف، نركض ونعدو إلى سرور النفس ولذة القلب، ونعيم الروح وغذائها ودوائها وحياتها وقرة عينها نتوق.
أرادوها فأخطئوا طريقها، وتاهوا فعطشوا وجاعوا، وعلى الوهم عاشوا؛ فصار حالهم كمن سقي على الظمأ بالسراب والآل، وكانوا كمن تغدى في المنام، وفي تيههم فقدوا حاسة الشم والذوق فلم يفرقوا بين الروائح العطرة من الكدرة، ولا العذب في الفرات؛ فشقوا وتعسوا ويظنون أنهم سيسعدون.
غفلوا في تيههم عن داعي الحق على الطريق وهو يندبهم ويقول: مهلاً مهلاً.
والله لا يُسعد النفس ولا يزكيها ولا يطهرها، ولا يُذهب غمها وهمَّها وقلقها، ويسد جوعتها وظمأها، ويعيد لها شمها وذوقها، إلا الإيمان بالله رب العالمين بلسم الحياة ومفتاح السعادة، قال الله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
هذا خبر من أيها المؤمنون؟
ينبيك عنه ابن القيم بما ملخصه -في تصرف-: إنه خبر أصدق الصادقين، وأحكم الحاكمين، الله رب العالمين، وهو خبر يقين، وعلم يقين بل عين يقين، فحوى الخبر: أنه لابد لكل من عمل صالحاً مؤمناً أنه يحييه الله حياة طيبة، بحسب إيمانه وعمله: {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:6].
وأما الجفاة الأغلاظ لا يعلمون، غلطوا في مسمى هذه الحياة؛ فظنوها التنعم في أنواع المآكل والمشارب والملابس والمراكب والمناكح، ولذة الرياسة والمال وقهر الأعداء، والتفنُّن بأنواع الشهوات والملذَّات، حال أحدهم:
إذا تغديت وطابت نفسي
فليس في الحي غلام مثلي
إلا غلام قد تغدى قبلي
فنصف النهار لترياسه، ونصف لمأكله أجمع.
لا ريب أن هذه لذة مشتركة بين البهائم، بل قد يكون حظ كثير من البهائم منها أكثر من حظ الإنسان، فمن لم تكن عنده لذة إلا اللذة التي تشاركه فيها السباع والدواب والأنعام والبهائم فذلك مسكين ينادى عليه من مكان بعيد، هِمَّتُه هِمَّةٌ خسيسةٌ دنيئةٌ، همة حُشّ.
كل داءٍ في سقوط الهمم يجعل الأحياء مثل الرمم
نامت الأُسْد بسحر الغنم سمت العجز ارتقاء الأمم(15/2)
صور لمن ذاقوا بلسم الحياة
أين هذه اللذة من اللذة بأمر إذا خالطت بشاشته القلوب سلا صاحبه عن الأبناء والنساء والإخوان والأموال والمساكن والمراكب والمناكح والأوطان، ثم رضي بتركها كلها والخروج منها رأساً وهو وادع النفس، منشرح الصدر، مطمئن القلب، يعرض نفسه لأنواع المكاره والمشاق، لعلمه أن الجنة حُفَّت بالمكاره، يطيب له قتل ابنه وأبيه وصاحبته وأخيه في سبيل الله، أو قتلهم إن كانوا أعداء الله.
فلم يكن في سبيل الله تأخذه ملامة الناس والرحمن مولاه
فإذا بأحدهم يتلقى سنان الرمح بظهره فيخرج من بين ثدييه، والدماء تثعب منه، فينضح من هذه الدماء على وجهه وجسده، ويقول وقد ذاق بلسم الحياة: [[فزت ورب الكعبة، فزت ورب الكعبة]]، حتى قال قاتله: فقلت في نفسي: ما فاز، ألست قتلت الرجل؟ فما زال يسأل حتى أُخبر أنه فاز بالشهادة وبما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فقال قاتله: فاز لعمر الله! أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
إن بعض النفوس، تظل في شك من مصداقية هذا الدين، حتى ترى قسمات الفرح بادية على وجوه أفراده بشراً وسروراً وسكينةً واطمئناناً، وهم يواجهون الموت في سبيله!
لنقاءٍ ونماء ولإيمان وثيق قتلهم في الله أشهى من رحيق
فازوا من الدنيا بمجد خالد ولهم خلود الفوز يوم الموعد
ويستطيل الآخر حياته، فيلقى قوت يومه من تمرات يوم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {قوموا إلى جنة عرضها الأرض والسماوات} يقول: [[لئن بقيت إلى أن آكل هذه التمرات، إنها لحياة طويلة!]] ثم يتقدم للموت فرحاً مسروراً.
آية المؤمن أن يلقى الردى بَاسِم الثغر سروراً ورضا
ليس يدنو الخوف منه أبداً ليس غير الله يخشى أحداً
ويلبس بلال رضي الله عنه أدرع الحديد، ويصهر في الشمس يئن تحت وطأة صخرة عظيمة، فوق رمضاء قاسية في يوم قائظ في مكة -وأهل مكة أدرى بقيظ مكة - يراود على كلمة الكفر، ومن الميسور عليه أن يقولها لو أراد وقلبه مطمئن بالإيمان، لكنه ذاق حلاوة الإيمان، فمزجها بمرارة العذاب والحرمان، فطغت حلاوة الإيمان على مرارة العذاب، فأطلقها كلمات تتقطع لها قلوب معذبيه حنقاً وغيظاً؛ ليرغم أنوفهم بها قائلاً: [[أحد أحد، لو وجدت أحنق منها وأغْيَظ لكم منها لقلتها]].
هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت
وثبت فكانت العاقبة، فإذا به يعلو الكعبة فيصدح بالأذان ليرغم به من المشركين القلوب والآذان، حتى إذا ما حلَّت به السكرات، قامت زوجه تقول: وا بلالاه! وا حزناه! فيقول وقد ذاق بلسم الحياة: [[بل وافرحاه! واطرباه!]]
غداً ألقى الأحبة محمداً وحزبه.
أرسلتها كلمات منك صادقة بيضاء آذانها الأخلاد والقلل
بريقها وهي تهوي في مسامعهم بلاغة خشيت لألاءها المُقَل
وإذا بسيف الله خالد أبي سليمان فارس الإسلام وليث المَشَاهد رضى الله عنه يقول حين ذاق بلسم الحياة وخالطت بشاشته قلبه: [[والله! ما ليلة تهدى إليَّ فيها عروس أنا لها محب، أو أبشَّر فيها بغلام، بأحب من ليلة شديدة البرد، كثيرة الجليد، في سرية من المهاجرين، أنتظر فيها الصبح لأغير على أعداء الله]].
كأنما الموت في أفواههم عسل من ريق نحل الشَّفا حدث ولا حرجا
حتى إذا ما حلَّت به السكرات، قال: [[لقد طلبت القتل مظانّه، فلم يقدر لي أن أموت إلا على فراشي، ولا والله الذي لا إله إلا هو ما عمل شيء أرجى عندي بعد التوحيد من ليلة بتُّها وأنا متترس، والسماء تهلني ننتظر الصبح حتى نغير على أعداء الله، لقد شهدت كذا وكذا مشهداً، وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح أو رمية سهم، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت العير، لا نامت أعين الجبناء، عدتي وعتادي في سبيل الله]] ثم لقي الله رضى الله عنه وأرضاه.
الدم الزاكي جرى في عرقهم فاض مسكاً وتندى عنبراً
فاسألوا عن كل نصرٍ خالداً واسألوا عن كل عدلٍ عمرَ
وإذا بـ ابن تيمية رحمه الله يدخل سجن القلعة ويغلق عليه الباب، فيبرز بلسم الحياة في تلك اللحظة -أعني الإيمان- فيقول: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13].
ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أنَّى رُحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، إنها جنة الإيمان.
المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه، والله لو بذلت ملء القلعة ذهباً ما عدل ذلك عندي شكر نعمة الحبس، وما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير، اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، حاله:
أنا لست إلا مؤمناً بالله في سري وجهري
أنا نبضة في صدر هذا الكون فهل يضيق صدري
يقول تلميذه ابن القيم رحمه الله: وعلم الله! ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والتنعم، وما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، ومع ذلك فهو من أطيب الناس عيشاً وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه؛ فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً وقوة وطمأنينة.
فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه! وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها.
رجحوا حلماً وخفوا همماً ونشوا سِيداً وشبوا عُلَما
علموا من أين ينزاح الشقا فأزاحوه وعاشوا سعدا
إنه بلسم الحياة.
وإذا بآخر يحكم عليه بالقتل ويُعلن عليه، فما يزيد على أن يَفتَّرَ عن ابتسامة من ثغره نابعة من صدر مطمئن هادئ، يحكم عليه بالقتل ويُعلن عليه ذلك القتل فَيفتَّر ثغره عن ابتسامة نابعة من صدر مطمئن هادئ، واثق بموعود الله كما يُحكى، فيقال له: ما تنتظر؟ قال: أنتظر القدوم على ربي، لقد عملت لهذا المصرع خمسة عشر عاماً، وإني لأرجو الله أن تكون شهادة في سبيله.
فوالله إني أرى مصرعي ولكن أرغدُّ إليه الخطا
وتالله هذا ممات الرجال فمن رام موتاً شريفاً فذا
وآخر كان يعيش حياة الضياع والحرمان والتعاسة وعدم المبالاة، فيمر على مسجد بعد صلاة المغرب، وإذا بالمتكلم يتكلم فيه حول قول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18] فألقى سمعه وقلبه، وصار في حالة من الذهول، سمع مصيره ومآله -ولا عدة له- تذكر أيامه السوداء البائسة، ووقوفه بين يدَيْ ربه لا تخفى على الله منه خافية، استفاق قلبه، استيقظ إيمانه، تغلغلت الموعظة إلى سويداء قلبه، اندفع يبكي وينتحب، ويقول: أتوب إلى الله، أتوب إلى الله، غفرانك يا رب، رحمتك يا أرحم الراحمين!
بادر واغتسل وصلّى صلاة المغرب، وذهب إلى هذا الداعية المتكلم، فقصَّ عليه قصته، وأوصاه الداعية بوصايا، وسأل الله له الثبات، أقبل على تنفيذ هذه الوصايا إقبال الظامئ على الماء البارد في يوم قائظ.
يقول هذا التائب -وقد ذاق ذلكم البلسم-: والذي لا إله إلا هو ما نمت تلك الليلة من فرحي بالهداية والإقبال على الله، وتالله لقد حفظت القرآن في أربعة أشهر عن ظهر قلب، صلح حالي، وانشرح بالي، وذهبت غمومي وهمومي، تراه طلق المُحيَّا، بشوشاً يختم القرآن في كل ثلاث، وصدق الله جل وعلا يوم قال: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22].
سعادة الدين والدنيا مقيدة بمنهج الله فهو الشرط والسبب
وإذا بالآخر يقول مع فقره وحاجته: والله لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.
وإذا بالأعرج يوم أحد كما في المسند بسند حسن يقول: {يا رسول الله! أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل أأمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم.
تقول زوجته: لكأني أنظر إليه وقد أخذ درقته، وهو يقول: اللهم لا تردني حتى أطأ بعرجتي هذه الجنة صحيحاً -وقاتل حتى قتل- فمر عليه صلى الله عليه وسلم فقال: لكأني أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة} إيهٍ إيهٍ!!
ليرفعها من حضيض التراب إلى الأفق الأرحب الأكرم
وإذا بالآخر في القادسية يبارز مجوسياً، فيقتل المجوسي ويعينه الله -عز وجل- عليه، لكنه رحمه الله يصاب في بطنه، فتنتثر أمعاؤه، ويمر به رجل من المسلمين فيقول: أعنِّي على بطني، فأدخل له أمعاءه في بطنه، ثم أخذ بصفاق بطنه يزحف نحو أعداء الله على هذه الحال، فيدركه الموت على ثلاثين ذراعاً من مصرعه، وهو يقول:
أرجو بها من ربنا ثوابا قد كنت ممن أحسن الضرابا
ثم فاضت نفسه رحمه الله.
يعانقون ظباها وهي هاوية كأنما الطعن في لبَّاتهم قُبَلُ
إنه الإيمان بلسم الحياة.
وإذا بالزوج يتوعد زوجته حين غضب عليها، فيقول: والله لأشقينك ولأتعسنك.
فتقول حين خالط الإيمان بشاشة قلبها في هدوء: والله لا تستطيع أن تشقيني كما أنك لا تملك أن تسعدني، لو كانت السعادة في راتب لقطعته عني، أو في زينة وحلي لحرمتنيها، لكنها في شيء لا تملكه أنت ولا الناس أجمعون.
قال: وما هو؟
قالت: سعادتي في إيماني، وإيماني في قلبي وعملي، وقلبي في يدي ربي؛ لا سلطان لأحدٍ عليه غير ربي.
هات ما عندك هات معي الإيمان يهديني في بحر الظلمات
بلسم الإيمان ينجي مركبي والموج عاتي
هل ترى الإعصار يوماً هزَّ شُمّاً راسيات
كلاَّ.
وإذا بالآخر يقول: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها.
قيل له: وما أطيب ما فيها؟! قال: محبة الله، ومعرفته وذكره، والله الذي لا إله إلا هو لأهل الليل في ليلهم مع الله ألذُّ من أهل اللهو في لهوِهم، وإنه لتمر بالقلب ساعات يرقص فيها طرباً حتى أقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه إنهم لفي نعيم عظيم، إنهم لفي عيش طيب.(15/3)
سبب الخلل في حياة المسلمين
عباد الله: هذه أقوال ومواقف، أَطَلْت فيها لأنني أعايش فيها شيئاً لا أراه في نفسي ولا في من حولي، أرى أنهم يتذوقون طعماً لم نتذوقه، ويولعون بشيء لم نعشقه.
إنه الإيمان بلسم الحياة.
أقف وأتساءل من الأعماق، هل هذا الإيمان الذي نعيشه هو الإيمان الذي عاشوه وأحبوه؟!
هل البلاء في الأشخاص، أم في الزمان، أم في الإيمان؟!
إن الإيمان هو الإيمان أيها المؤمنون، والزمان هو الزمان، والأجساد هي الأجساد لم يتغير شيء، لكن الذي اختل فقط: هو العلاقة بين الشخص والإيمان، إنهما لم يلتقيا بعد اللقاء الحقيقي!
أما -والله- لو التقى الأشخاص مع الإيمان لقاءً حقيقياً لا شعاراً، لقاءً عميقاً في تشبث واعتزاز، لكان ما كان مما قد سمعتموه، لذة لا يعدلها لذة، وحلاوة لا ينعم من لم يذقها، كيف؟
إنه الإيمان بلسم الحياة، وأس الفضائل، ولجام الرذائل، وقوام الضمائر، وسند العزم في الشدائد، وبلسم العبر عند المصائب، وعماد الرضا والقناعة بالحظوظ، ونور الأمل في الصدور، وسكن النفوس، وعزاء القلوب إذا أوحشتها الخطوب، والعروة الوثقى عند حلول الموت بسكراته العظمى.
المؤمن في كل أحواله وأعماله الصالحة مثل أم موسى عليه السلام، ترضع ولدها، وتطفئ بذلك ظمأ نفسها وشغف قلبها، وتأخذ على ذلك أجراً، فكذلك المؤمن يسعد بإيمانه في الدنيا وبثواب إيمانه في الآخرة، وذلك فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
فهل زلزلت أنفس جامدات فهبت لتغسل أوحالها(15/4)
حال الإنسان بلا إيمان
الفرد بغير إيمان: ريشة في مهب الريح لا تستقر على حال ولا تسكن إلى قرار.
الفرد بلا إيمان: ليس له امتداد ولا جذور، لا يعرف حقيقة نفسه ولا سر وجوده، لا يدرى من ألبسه ثوب الحياة، ولماذا ألبسه إياه، ولماذا ينتزعه منه بعد حين.
النفس بلا إيمان: مضطربة، حائرة، متبرمة، قلقة، تائهة، خائفة، كسفينة تتقاذفها الريح في ثبج البحر وأمواجه.
الفرد بلا إيمان: حيوان شَرِهٌ فاتك لا تُحدُّ شراهته، ولا تُقلَّم أظفاره، سئم حديده، فعجم عوده، وحطَّم قيوده.
الفرد بلا إيمان: يكون أدنى رتبة في سلم المخلوقات، من أذل البهائم، وأضعف وأحقر الحشرات، وأشرس الضواري، كما يقول صاحب قصة الإيمان:
البهائم تجوع كما نجوع؛ لكنها في سلامة من همِّ الرزق، وخوف الفقر، وكرب الحاجة، وذل السؤال.
البهائم تلد كما نلد، وتفقد أولادها كما نفقد، لكنها في راحة من هلع المَثْكَلة وجزع الميتمة، وهمِّ اليتامى والمستضعفين والمضطهدين والمظلومين.
البهائم تتلذذ كما نتلذذ، وتَأْلَم كما نأْلَم، لكنها في راحة مما يأكل القلوب ويُقرِّح الجفون، ويقض المضاجع، ويقطع الأرحام، ويفرق الشَّمل، ويخرب البيوت من مهلكات كالحسد والكذب والنميمة والفرية والقذف والخيانة والنفاق والعقوق ونكران الجميل.
البهائم تُعرف بنوع من الإدراك أعطاها الله إياه ما يضرها وما ينفعها، لكنها في سلامة من أعباء التكاليف، وثقل الأوزار، ومضض الشك، وعذاب الضمير، وهمِّ السؤال بين يدي الحكيم الخبير.
البهائم تمرض كما نمرض، وتموت كما نموت، لكنها في راحة من التفكير في عقبى المرض، وفراق الأحباب بعد الممات، وسكرات الموت ومصير ما وراء القبور من حشرٍ ونشور.(15/5)
علاج الخلل ومثال من الواقع
يبقى هذا الإنسان الضعيف الهلوع الجزوع، المطماع المختال الفخور المتكبر المترف، شقياً تعيساً، سيء الحظ، عظيم البلاء، منحط الرُّتبة، بائس المصير حين يكون تفكيره بلا إيمان، ولا غرابة.
فمن يزرع الريح في أرضه فلا بد أن يحصد الزوبعة
ولا والله الذي لا إله إلا هو إنه لا علاج لشقائه إلا بالإيمان، يقويه، يعزِّيه، يسلِّيه، يمنِّيه، يرضيه، يُحْييه حياة طيبة على الحقيقة، يعلو يقينه، ينفسح صدره، تعظم سعادته، وحين يفقد ذلك يشقى، ويضيق عليه صدره، ويأسى، ويحزن، ويكتئب؛ فيتداوى بالداء، يلجأ إلى المخدرات والانتحار، ظناً منه أنه يتخلص من الشقاء، وإنما هو في الحقيقية يتقلب في شقاء الدنيا -إن لم يعفُ الله عنه- إلى شقاء الآخرة، ومن عذاب الدنيا إلى عذاب الآخرة إن لم يتداركه ربه برحمة منه وَمَنٍّ، نسأل الله العافية.
اسمع معي عبد الله لهذا الشاب التائب كما أورد ذلك صاحب طريق السعادة بتصرف، قال الشاب التائب:
مرَّ عشرون عاماً من عمري وأنا في ظلام دامس، أتخبط خبط عشواء، لا أحس للدنيا طعماً، مالي كثير، أخلائي كثير، في نفسي جوعة، في صدري ضيق، ماذا يشبع تلك الجوعة؟!
ماذا يشرح ذلك الضيق؟!
معازف لم تشرح صدري بل معها الجوعة ازدادت، والضيق ازداد، بَدَّلت أخلائي، بدّلت أفلامي، سافرت وعدت، سهرت كثيراً، شربت كثيراً، لهوت كثيراً، تعبت، الجوعة تزداد والضيق كذلك: {حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125] أحسست كأني مسجون في دنياي، وأن الأرض برحابتها لا تسعني، فكرت طويلاً وطويلاً، وأخيراً ظهر الحل، الآن أشعر بالراحة -كما أزعم حينها- أخذت سكيناً وقلت: هذه سكيني بيدي تلمع باسمة راضية عن هذا الحل، الناس هجوع، الأهل نيام، السكون عام، أقول -في نفسي-: لم يبق سوى لحظات وأعيش ساعات الراحة كما أزعم، وفي تلك اللحظات سكيني في يدي تقترب من قلبي الميت، أريد أن أنتحر، أريد أن أتخلص من هذا الشقاء، وإذا بصوت يشق عنان السماء، يقطع الصمت، ويدوي في الكون، وترتج به المدينة.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر.
نداء صلاة الفجر، ويْحها من قلوبٍ لا تجيبه ما أتعسها! ما أشقاها! سقطت سكيني من يدي عند سماع الصوت، وسرى في جسدي ما قد سرى، تحرك قلبي الميت على ذلك الصوت، استيقظت بعد طول سبات، ويح نفسي ماذا جدّ؟ أغريب هذا الصوت؟ عشرون خريفاً تسمعه، أما أحسست معناه إلا الآن؟
أجبت هذا الصوت، وجئت بالماء أهريقه على وجهي وجسدي المرهق؛ فيطفئ لظى الشقاء، ويعيد الهدوء إلى نفسي شيئاً فشيئاً، خرجت متجهاً نحو المسجد لأول مرة من عشرين عاماً، الكون مخيف بهدوئه، لا صوت يعلو، لا ضوضاء، دخلت مع إقامة صلاة الفجر، وقفت في الصف مع الناس، صنف من الناس لم أعهده في حياتي.
وجوه يشع منها النور، نفوس طيبة مرتاحة، تقدم من بينهم الإمام، وأقبل يحث على تسوية الصفوف، كبر وزلزل كياني تكبيره، شرعت أصلي خلفه، نفسي هادئة، صدري منشرح، يقرأ الآيات وأنصت في تلك اللحظات، لكلام لم أسمعه منذ سنوات وسنوات.
{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:25 - 37].
تتسابق مني العَبَرَات، أحسست بملوحتها في فمي، شعرت بلسعاتها، أجهشت ببكاء صادق صنع في صدري أزيزاً كأزيز المرجل، انهال الدمع غزيراً، سال على خدي، سقى أرضاً مجدبة في قلب ميت، فأحيا بكلام الله موت فؤادي وبمعية ذلك الغيث صوت الرعد -رعد الرحمة- صوت نحيبي وبكائي من خشية الله رب العالمين، بعد إعراض دام عشرين، فالحمد لله رب العالمين، فالحمد لله رب العالمين.(15/6)
طريق السعادة الحقيقية
يا أيها الشاب! ويا ذا الشيبة! والله إن طريق المسجد طريق السعادة، ووالله ما عرفها من لم يعرف تلك الطريق.
إن رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه حين تضيق عليه الأرض وما تضيق، وتشتد عليه الخطوب يقول: {أرحنا بها يا بلال أرحنا بها يا بلال} فاتصل بالله.
ما خاب فؤاد لاذ بالله وما خاب منيب!
فيا عزيز المرام! أين الحضيض من الذرا؟
شتان ما بين الثريا والثرى.
كيف تعيش في مستنقع آسن، ودرك هابط، وعندك مرتع زاكٍ، ومرتقى عالٍ، شتان بين من ذاق برد اليقين ومن ذاق ضنك الإعراض عن رب العالمين، لا يستوي الليل والنهار، ولا ظلمة وضياء، ولا الأحياء ولا الأموات، قال الله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] كلا والله.
قال شيخ الإسلام وتلميذه -رحمهما الله-: إن القلب لا يصلح ولا يفلح ولا ينعم ولا يُسر ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحده، ومحبته والإنابة إليه، فلو حصل على كل ما يتلذذ به المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن إذ فيه فقر ذاتي، واضطرار وحاجة إلى ربه ومعبوده ومحبوبه ومطلوبه بالفطرة، لا يسعد ولا يطمئن ولا يَقِرُّ إلا بالإيمان بالله رب العالمين، فمن قرَّت عينه بالله قرَّت به كل عين، ومن لم تقِر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، وإنما يصدِّق هذا من في قلبه حياة.
فوا أسفاه! ووا حسرتاه! كيف ينقضي الزمان وينفد العمر، والقلب محجوب، ما شم لهذا البلسم رائحة، وخرج من الدنيا كما دخل فيها وما ذاق أطيب ما فيها، بل عاش فيها عيش البهائم، وانتقل منها انتقال المفاليس، فكانت حياته عجزاً، وموته كمداً، ومعاده حسرة وأسفاً؟! اللهم فلك الحمد وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك.
فيا أيها الذين آمَنوا! آمِنوا.
ويا من أعرضوا أقبلوا تسعدوا.
{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] اللهم ارزقنا إيماناً نجد حلاوته، وقلوباً خاشعة، وألسنة ذاكرة، وأعيناً من خشيتك مدرارة، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً خاتم النبيين.
صلى عليه الله ما جنَّ الدُّجى وما جَرَتْ في فَلَكٍ شمس الضحى
أما بعد:
فيا عباد الله! إن الشواهد في القلوب لتشهد بأن السعادة في الطاعة والإقبال على الله، شواهد تشهد بها النفوس المؤمنة، والقلوب السليمة، والفِطَر المستقيمة، هذا الباب باب شريف، وقصر منيف لا يدخله إلا النفوس الأبية التي لا ترضى بالدون، ولا تبيع الأدنى بالأعلى بيع الخاسر المغبون، فإن كنت أهلاً لذلك فادخل، وإلا فردّ الباب وارجع والسلام.
عبد الله! كم أطعت الله فوجدت حلاوة في قلبك، وانشراحاً في صدرك، وإقبالاً على الله عز وجل ربك، وأنساً وفرحاً بقربه منك؟
كم وُفِّقت إلى قيام ليلة، أو صيام يوم، أو إلى إصلاح بين الناس، أو صدقة على مسكين؛ فوجدت أثر ذلك بقلبك سعادة وانشراحاً؟
لاشك أنك لن تجد من حلاوة الإيمان ما وجده صحابي من الصحابة، ولكن كلٌ بحسبه، هذا -والله- شاهد قوي على أن طريق السعادة هو طريق الطاعة لا غير.
من عاش في كنف الإيمان كان له أمناً وعاش رَضِيَّ النفس مغتبطا
عبد الله! كم عصيت الله فوجدت ضيقاً في صدرك، وشقاءً في قلبك، ووحشة بينك وبين الله ربك، ووحشة بينك وبين عباد الله الصالحين؟
كم أطلقت بصرك فيما حرم الله، وتكلمت فيما لا يعنيك؛ فوجدت غِب ذلك ضيقاً ونكداً، وتعاسة وشقاءً؟
كيف بمن يقارف الكبائر والفواحش، وينتقل من معصية إلى معصية دون استغفار أو توبة، لا شك أنه في ضيق وشقاء وعَنَتٍ وعناء.
المسألة باختصار -أيها المؤمنون- أن من أطاع الله قرَّبه وأدناه؛ فأنس به وسعد واستغنى، ومن عصى الله طرده وأبعده بقدر ذنبه فاستوحش وشقي وافتقر.
أترجو مواهب نعمائه وأنت إلى صف أعدائه
كلاّ.
فلا تشتغل بما ضمنه الله لك، وأقبل على الله تجده غفوراً رحيماً، وتسعد سعداً عظيماً.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في كلام قيم ما ملخصه: فرِّغ خاطرك للهمِّ بما أمرت به، ولا تشغله بما ضُمِنَ لك، فما دام الأجل باقياً كان الرزق آتياً، وإذا سد الله عليك بحكمته طريقاً من طرقه فتح لك برحمته طريقاً أنفع لك منه وأكمل.
فتأمل حال الجنين يأتيه غذاؤه؛ وهو الدم من طريق واحدٍ وهو السُّرة، فلما خرج من بطن أمه وانقطعت تلك الطريق، فتح الله له طريقين اثنين؛ أعني الثديين وأجرى له فيهما رزقاً أطيب وألذ من الأول؛ لبناً خالصاً سائغاً.
فإذا تمت مدة الرضاع وانقطع الطريقان بالفطام، فتح طرقاً أربعاً أكمل منها، هما طعامان وشرابان؛ فالطعامان من حيوان ونبات؛ والشرابان من مياه وألبان وما يضاف إليهما من المنافع والملاذِّ.
فإذا مات وانقطعت عنه هذه الطرق الأربع، فتح الله له إن كان سعيداً طرقاً ثمانية؛ هي أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء، نسأل الله من فضله.
فالله لا يمنع عبده المؤمن شيئاً من الدنيا إلا ويؤتيه أفضل منه وأنفع، وليس ذلك لغير المؤمن، إن الله يمنعه الحظ الأدنى الخسيس ليعطيه الأعلى النفيس، والعبد لجهله بمصالح نفسه وكرم ربه ورحمته لا يعرف التفاوت بين ما مُنع منه وما ادخر له، بل هو مولع بحب العاجل وإن كان دنيئاُ، وبقلة الرغبة في الآجل وإن كان علياً، ولو أنصف العبدُ ربه -وأنَّى له ذلك- لعلم أن فضله عليه فيما منعه في الدنيا ولذاتها أعظم من فضله عليه فيما آتاه منها.
فما منعه إلا ليعطيه، وما ابتلاه إلا ليعافيه، وما امتحنه إلا ليصافيه، ولا أماته إلا ليحييه، ولا أخرجه إلى هذه الدار إلا ليتأهب للقدوم عليه، ويسلك الطرق الموصلة إليه: {جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62] وأبى الظالمون إلا كفوراً، والله المستعان.
أيها المؤمنون! إن الحديد إذا لم يستعمل غَشِيه الصدأ حتى يفسده، فكذلك القلب، إذا عُطِّل عن الإيمان بالله وحبه وذكره والإقبال عليه بالعمل الصالح غلبه الجهل والهوى والران حتى يميته ويهلكه؛ فلا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، مرباداً أسود كالكوز مجخياً.
فيا أيها المؤمنون! ويا شباب الأمة خاصة! الإيمان بلسم الحياة؛ فسيروا في ركابه تسعدوا.
سيروا فإن لكم خيلاً ومضمارا وفجروا الصخر ريحاناً ونوَّارا
سيروا على بركات الله وانطلقوا فنحن نُرْهِف آذاناً وأبصارا
وذكرونا بأيام لنا سلفت فقد نسينا شرحبيلاً وعمارا
وصلوا وسلموا على نبيكم محمد فقد أمرتم بالصلاة والسلام عليه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، وألف بين قلوبهم، وأَصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم.
اللهم كن للمستضعفين، اللهم انصر المسلمين على عدوك وعدوهم، اللهم كن للمستضعفين والمضطهدين والمظلومين، اللهم فرِّجْ همَّهم، ونفِّسْ كُربهم.
اللهم كن للمستضعفين والمظلومين والمضطهدين، اللهم فرج همهم، ونفس كربهم، وارفع درجاتهم، واخلفهم في أهلهم.(15/7)
دعوة للتأمل
هذه دعوة للتأمل في آيات الله، والتجول في صفحات هذا الكون وآياته ومعرفة عظمة الخالق فله في كل شيء آية يُعرف منها العظمة، والقدرة والتفرد والكمال.
الماء والهواء، والليل والنهار، والشمس والقمر، والحيوان والنبات واختلاف الألسنة والألوان كلها آيات تلهج بذكر الله، وتدل على وحدانيته، فهل من معتبر؟!(16/1)
الحث على التفكر في آيات الله في الكون
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ، وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ، عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ.
الحمد لله، أصبحت له الوجوه ذليلة عَانِيَة، وحَذِرتَه النُّفوس مجدّة ومتوانية، ذمَّ الدنيا إذ هي حقيرة فانية، وشوَّق لجنة قطوفها دانية، وخوَّف صرعى الهوى أن يُسقوا من عينٍ آنية.
أحمده على تقويم شانيه، وأستعينه وأستعيذه من شر كل شان وشانية، وأحصِّن بتحقيق التوحيد إيمانيه، أحمده وهو العليم العالم بالسِّر والعلانية، فالسر عنده علانية.
فهو العليم أحاط علماً بالذي في الكون من سر ومن إعلان
وهو العليم بما يوسوس عبده في نفسه من غير نطق لسان
بل يستوي في علمه الداني مع الـ ـقاصي وذو الإصرار والإعلان
فهو العليم بما يكون غداً وما قد كان والمعلوم في ذا الآن
وبكل شي لم يكن لو كان كيف يكون موجوداً لذي الأعيان
فهو السميع يرى ويسمع كل ما في الكون من سرٍ ومن إعلان
فلكل صوت منه سمع حاضر فالسر والإعلان مستويان
والسمع منه واسع الأصوات لا يخفى عليه بعيدها والدَّاني
ويري دبيب النمل في غسق الدُّجى ويرى كذاك تقلُّب الأجفان
لهو البصير يرى دبيب النملة السوداء تحت الصَّخر والصَّوَّان
ويرى مجاري القوت في أعضائها ويرى نِيَاطَ عروقها بعيان
ويرى خيانات العيون بِلَحْظِها إي والذي برأ الورى وبَرَانِي
فهو الحميد بكل حمدٍ واقع أو كان مفروضاً على الأزمان
هو أهله سبحانه وبحمده كل المحامد وصف ذي الإحسان
فلك المحامد والمدائح كلها بخواطري وجوارحي ولساني
ولك المحامد ربنا حمًدا كما يرضيك لا يفنى على الأزمان
ملء السماوات العلى والأرض والموجود بعد ومنتهى الإمكان
مما تشاء وراء ذلك كله حمداً بغير نهاية بزمان
وعلى رسولك أفضل الصلوات والتسليم منك وأكمل الرضوان
صلى الإله على النبي محمد ما ناح قُمْرِيٌ على الأغصان
وعلى جميع بناته ونسائه وعلى جميع الصَّحب والإخوان
وعلى صحابته جميعاً والأُلَى تبعوهم من بعد بالإحسان
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران:102]
أما بعد:
أحبتي في الله: إنها دعوة؛ دعوة إلى التأمل، دعوة موجَّهة إلى القلوب الذاكرة العابدة الخاشعة، دعوة إلى من يتفكرون، ويسمعون، ويعقلون، ويؤمنون، ويفقهون إلى أولي الألباب إلى أولي الأبصار إلى أولي الأحلام والنُّهَى إلى من يتأملون، ويتدبرون فينتفعون، فلا عند حدود النظر المشهود للعيان يقفون، بل إلى قدرة القادر في خلقه ينظرون، ولسان حالهم ومقالهم: {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإليه تُرْجَعُونَ} [القصص:70] ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم وكذلك يفعلون.
وهي كذلك دعوة إلى الغافلين، السَّاهين، اللاهين، المعْرِضين، إلى من لهم عيون بها لا يبصرون، وآذان بها لا يسمعون، وقلوب بها لا يفقهون.
إلى من هم كالأنعام يأكلون ويشربون ويتمتعون ولم يحققوا معنى: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
إلى من هاجموا التوحيد ولم يفهموه، وهاجموا الإسلام ولم يعرفوه، ونقدوا القرآن ولم يقرءوه.
إلى من يمرُّون على آيات الله وهم عنها معرضون، إليهم هذه الدعوة؛ علَّهم يستيقظون، ويفقهون، ويعقلون، فيقدرون الله حقَّ قدره، لا إله إلا هو فأنى يؤفكون: {ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر:6].
إنها باختصار دعوة إلى العلم بالله علماً يقود إلى خشيته ومحبته، فمن كان به أعلم كان له أخشى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] وهي أيضاً دعوى إلى تعبد الله بمقتضى ذلك العلم، في تمام خضوع وذل ومحبة من طريقين اثنين:
الأول: التدبر في آيات الله الشرعية المتلوة في كتابه العزيز.
والثاني: النظر في مخلوقات الله، وآياته الكونية المشهودة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْل وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُولِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191].
هي دعوة إلى التأمل في بديع صنع الله، وخلقه وبيان ما في هذا الكون من إبداع ينطق بعظمة الخالق جل وعلا، ووحدانيته في ربوبيَّته، وألوهيته وأسمائه وصفاته.
كيف والكون كتاب مفتوح يُقرأ بكل لغة، ويُدرك بكل وسيلة، يطالعه ساكن الخيمة، وساكن الكوخ، وساكن العمارة والقصر، كل يطالعه فيجد فيه زاداً من الحق إن أراد التطلع إلى الحق.
إنه كتاب قائم مفتوح في كل زمان ومكان، تبصرة وذكرى لكل عبدٍ خضع وأناب.
يأخذك كتاب الله إن تأمَّلته في جولات وجولات، ترتاد آفاق السماء، وتجول في جنبات الأرض والأحياء، يقف بك عند زهرات الحقول، ويصعد بك إلى مدارات الكواكب والنجوم.
يفتح بصرك وبصيرتك إلى غاية إحكام وإتقان ليس له مثيل، قد وضع كل شيء في موضع مناسب، وخُلِق بمقدار مناسب.
يُرِيك عظمة الله، وقدرة الله، وتقديره في المخلوقات، ثم يكشف لك أسرار الخلق والتكوين، ويهديك إلى الحكمة من الخلق والتصوير، ثم يقرع الفؤاد بقوله: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:63].
إن نظرت إليه بعين البصيرة طالعك بوحدانية الله في الربوبية مستدلاً بها على وحدانيته في العبادة والألوهية، ذلَّت لعزة وجهه الثَّقلان.
وفي نهاية الآيات، يقرع القلوب، ويطرق الآذان، ويصكُّ المشاعر والأحاسيس بذلك التعقيب الإلهي العظيم: (لعلهم يذكَّرون) (لعلهم يتفكرون) (لعلهم يتَّقون) (لعلهم يرجعون) كل هذا، وهناك من هم عنه معرضون: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ} [الفرقان:44].
إنه حديث طويل، يطالعك في طوال السور وقصارها، لكنه مع ذلك شائق جميل، تسكن له النفس، ويتلذَّذ به السمع، وتتحرك له الأحاسيس والمشاعر، تستجيب له الفِطَر السليمة المستقيمة، ومع ذا ينبِّه الغافل، ويدمغ المجادل المكابر؛ إذ هو حق، والحق يسطع ويقطع.
والحق شمس والعيون نواظر لا يختفي إلا على العميان
والشرع والقرآن أكبر عُدَّة فهما لقطع لجاجهم سيفان(16/2)
جولة في صفحات الكون الدالة على توحيد الله
فتعالَ معي أخي لجولة أرجو ألا يستطيلها مَلُول، وألا يستكثرها مشغول، نرتاد فيها هذا الكون بسماواته وأرضه وأحيائه، متأملين متدبِّرين: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:164].
فاللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزن إذا شئت سهلاً.
تأمل في الوجود بعين فكر ترى الدنيا الدنيئة كالخيال
ومن فيها جميعاً سوف يفنى ويبقى وجه ربك ذو الجلال
تأمَّل واطعن برمح الحق كل معاندٍ واركب جواد العزم في الجولان
واجعل كتاب الله درعاً سابغاً والشرع سيفك وابْدُ في الميدان
السماء بغير عمدٍ ترونها، من رفعها؟ بل الكواكب من زيَّنها؟ الجبال: من نصبها؟ الأرض: من سطحها وذلَّلها وقال: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:15]؟ الطبيب: من أرداه وقد كان يرجى بإذن ربه شفاه؟ المريض وقد يُئِس منه: من عافاه؟ الصحيح: من بالمنايا رماه؟ البصير: في الحفرة من أهواه؟ والأعمى في الزِّحام: من يقود خُطَاه؟ الجنين في ظلماتٍ ثلاثٍ: من يرعاه؟ الوليد: من أبكاه؟ الثعبان: من أحياه والسُّم يملأ فاه؟! الشَّهد: من حلاَّه؟ اللبن: من بين فرث ودم من صفَّاه؟ الهواء تحسُّه الأيدي ولا تراه الأعين: من أخفاه؟ النَّبت في الصحراء: من أرْبَاه؟ البدر: من أتمَّه وأسراه؟ النخل: من شقَّ نواه؟ الجبل: من أرساه؟ الصخر: من فجَّر منه المياه؟ النهر: من أجراه؟ البحر: من أطغاه؟ الليل: من حاك دُجَاه؟ الصُّبح: من أسفره وصاغ ضحاه؟ النوم: من جعله وفاة، واليقظة منه بعثاً وحياة؟ العقل: من منحه وأعطاه؟ النحل: من هداه؟ الطير في جو السماء: من أمسكه ورعاه؟ في أوكاره من غذَّاه ونمَّاه؟
الجبار: من يقصمه؟ المضطَّر: من يجيبه؟ الملهوف: من يغيثه؟ الضال: من يهديه؟ الحيران: من يرشده؟ العاري: من يكسوه؟ الجائع: من يشبعه؟ الكسير: من يجبره؟ الفقير: من يغنيه؟
أنت أنت: مَنْ خلقك؟ من صوَّرك؟ من شق سمعك وبصرك؟ من سوَّاك فعَدَلَك؟ من رزقك؟ من أطعمك؟ من آواك ونصرك؟ من جعل ملايين الكائنات ترتادُ وأنت لا تشعر فَمَك؛ ولو اختفت لاختلت وظائف فمك؟ من هداك؟
إنه الله الذي أحسن كل شيء خلقه.
لا إله إلا هو! أنت من آياته، والكون من آياته، والآفاق من آياته تشهد بوحدانيته.
إن تأملت ذلك عرفت حقاً كونه موحداً خالقاً وكونك عبداً مخلوقاً.
الكون كتاب مسطور ينطق تسبيحاً وتوحيداً، وذراته تهتف تمجيداً: {هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} [لقمان:11].(16/3)
قصيدة إيمانية
لله في الآفاق آيات لعل أقلها هو ما إليه هداكا
ولعل ما في النفس من آياته عجب عجاب لو ترى عيناكا
والكون مشحون بأسرار إذا حاولْتَ تفسيراً لها أعياكا
قل للطبيب تخطَّفته يد الردى من يا طبيب بطبِّه أرْدَاكا
قل للمريض نجا وعُوفيَ بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا
قل للصحيح يموت لا من علة من بالمنايا يا صحيح دهاكا
قل للبصير وكان يحذر حفرة فهَوَى بها من ذا الذي أهواكا
بل سائل الأعمى خَطَا بين الزحا م بلا اصطدام من يقود خطاكا
قل للجنين يعيش معزولاً بلا راعٍ ومرعى ما الذي يرعاكا
قل للوليد بكى وأجهش بالبكا لدى الولادة ما الذي أبكاكا
وإذا ترى الثعبان ينفث سمَّهُ فاسأله من ذا بالسموم حَشَاكا
واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السمُّ يملأ فَاكا
واسأل بطون النَّحل كيف تقا طرت شهداً وقل للشهد من حلاَّكا
بل سائل اللبن المُصَفَّى كان بين دم وفرث ما الذي صفَّاكا
وإذا رأيت الحي يخرج من حَنَايا ميتٍ فاسأله من أحياكا
قل للهواء تحسه الأيدي ويخفى عن عيون الناس من أخفاكا
قل للنبات يجفُّ بعد تعهُّدٍ ورعاية من بالجفاف رَمَاكا
وإذا رأيت النَّبت في الصحراء يربو وحده فاسأله من أَرْبَاكا
وإذا رأيت البدر يسري ناشرا أنواره فاسأله من أسْرَاكا
واسأل شعاع الشمس يدنو وهي أبعد كل شيء ما الذي أدناكا؟
قل للمرير من الثمار من الذي بالمرِّ من دون الثمار غذاكا
وإذا رأيت النخل مشقوق النوى فاسأله من يا نخل شقَّ نواكا
وإذا رأيت النار شبَّ لهيبها فاسأل لهيب النار من أوراكا
وإذا ترى الجبل الأشَمَّ مناطحا قِمَمَ السَّحاب فسَلْه من أرساكا
وإذا ترى صخراً تفجر بالمياه فسله من بالماء شقَّ صَفَاكا
وإذا رأيت النهر بالعذب الزُّلال جرى فسَلْه من الذي أجراكا
وإذا رأيت البحر بالملح الأُجاج طغى فسَلْه من الذي أطغاكا
وإذا رأيت الليل يغشى داجياً فاسأله من يا ليل حاك دُجاكا
وإذا رأيت الصُّبح يسفر ضاحيا فاسأله من يا صبح صاغ ضُحَاكا
ستجيب ما في الكون من آياته عجب عجاب لو ترى عيناكا
ربي لك الحمد العظيم لذاتك حمداً وليس لواحد إلاَّكا
يا مدرك الأبصار والأبصار لا تدري له ولِكُنْهِهِ إدراكا
إن لم تكن عيني تراك فإنني في كل شيء أستبين عُلاكا
يا منبت الأزهار عاطرة الشَّذَى ما خاب يوماً من دعا ورَجَاكا
يا أيها الإنسان مهلاً ما الذي بالله جل جلاله أغراكا(16/4)
من آيات الله في الجنين
أحبتي في الله: الله نصب لخلقه دلالات، وأوضح لهم آيات بيِّنات في الأنفس والأرضين والسماوات: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42] {وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات:20 - 21].
وتحسب أنك جرْم صغير وفيك انطوى عالم أكبر
تأمل أخي مدى معرفة الناس بالجنين قبل حوالي ثلاثين عاماً، لقد كان كائناً حياً لا يُعْلَم عنه إلا حركاته التي يصدرها داخل بطن أمه، ومع تطور وسائل الملاحظة والمشاهدة، ووصولها إلى بطن الجسم الإنساني -وكل ذلك بإذن الله - كالتصوير والتسجيل الضوئي والصوتي، علم أن للجنين نفسية لا ينفصل فيها عن أمه تماماً، فتراه في حالات انكماش واكتئاب مرة، وحالات انشراح وانبساط أخرى، بل يبدي الانزعاج لبعض مخالفات أمه؛ كالتدخين مثلاً، عافانا الله وإياكم والمسلمين عموماً.
يطلب طبيب مجرب من أم حامل في شهرها السادس -كانت تعتاد التدخين- أن تمتنع عنه لمدة أربع وعشرين ساعة، وهو يتابع الجنين بأجهزة التصوير الضوئي، فإذا به ساكن هادئ، وبينما هو كذلك، إذ قدم لها الطبيب لفافة سيجارة -عافانا الله وإياكم- وما أن وضعتها بين أصابعها، وتمَّ إشعالها إلا وأشار المقياس إلى اضطراب الجنين تبعاً لاضطراب قلب أمه.
فسبحان من جعله في وسط ظلمات ثلاث، يتأذى مما تتأذى منه أمه تبعاً وإن لم تشعر أمه بذلك! أمكنهم أن يروه مضطرباً حينما تقع أمه في أزمة انفعال حادة؛ كغضب وخجل، أو في تأثر جسدي كوقوع على الأرض، أو اصطدام بشيء تبعاً لتأثر أمه بذلك، ثم أمكن الأطباء أن يروه هادئاً عندما تنصت أمه لسماع ما تستريح إليه من قرآن وأناشيد وغيرها.
وحينما تسمع صوت أبيه، فتنصت له، رأوه كالمنصت له تبعاً لأمه، أما بعد الولادة، في أسبوعه الأول وجدوه أنه يأنس ويتبسم لصوت أبيه دون سائر الأصوات.
إنها أمور مذهلة، بل آيات بيِّنة بالغة، دالَّة على عظمة الله سبحانه وتعالى، وعلى أحقِّيَّته بالتَّفرُّد في العبادة لا شريك له.
أيضاً رأوا أنه حين ترغب الأم في الحمل ثم تحمل، تجدها ترسل إليه -بإذن الله- موجاتٍ من العواطف المكثَّفة، وتغمره بفيض زاخر من الرضا والحنان، فيبادلها الشعور مبتهجاً وكأنه يشكرها على حسن لقائها ورعايتها، ويعبر عن امتنانه لها بحركات لطيفة ساحرة، لا حد لعذوبتها على قلب أمه، فسبحان الله، وتبارك الله أحسن الخالقين!.
وحين لا ترغب الأم في الحمل، ثم تحمل مكرهة، تقطع الصِّلة العاطفية مع الجنين، فتراه يحيا منكمشاً، ثم يبدأ يتَّجه نحو المشاكسة، ويعبر عن ذلك بركلات من قدميْه تعبر عن احتجاجه واستنكاره، ولربما يصبح سقطاً فيما بعد، وإن لم يسقط فإنه يبدو مهيأً للعناد والرفض والعدوان بعد ولادته، ويظهر ذلك في أول أيام ولادته.
يذكر صاحب: سنريهم آياتنا أن امرأة حملت مكرهة، وحاولت إسقاط الجنين ولم تستطع؛ إذ قد ثبته الله، فجعله في قرار مكين؛ فأنَّى لأحدٍ أن يسقطه؟
ولدت بعد ذلك، وكان المولود أنثى، ولما وُلدت رفضت أن تتناول ثدي أمها، وأصرَّت أياماً على هذا، ولكنها مع ذلك قبلت أن ترضع من مرضعة أخرى غير أمها، عندها أغمضت عيناها، وأعيدت إلى أمها معصوبة العينين، فرفضت ثديها مرة أخري وهي لم تره، فأجرى الطبيب حواراً مع أمها، تبين أن الأم لم تكن راغبة في الحمل، فحملت على كُرْه، وحاولت الاعتداء عليه بإسقاطه، فانعكس ذلك على الجنين بعد ولادته.
فسبحان الله رب العالمين! إنها أحاسيس ومشاعر وأفعال أمه، تنعكس عليه فحسب، وإلا فهو لا يعلم شيئاً بنص قول الله جل وعلا: {وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78] لا تعلمون شيئاً مما أخذ عليكم من الميثاق، ولا تعلمون شيئاً مما قضى به عليكم من السعادة والشقاوة، ولا تعلمون مصالحكم ومنافعكم؛ فهم يخرجون من بطون أمهاتهم لا يعلمون، وبعد خروجهم يرزقهم الله السَّمع؛ فالأصوات يدركون، ويرزقهم البصر؛ فالمرئيات يعرفون ويحسون، ويرزقهم الأفئدة؛ فبها يميِّزون، وتحصل هذه الحواس بأمر الله تدريجياً، كلما كبر زِيدَ في سمعه وبصره حتى يبلغ أشده ليتمكن بها من عبادة ربه وطاعة مولاه سبحانه وبحمده.
طالعت أمهات هذه الحقائق فكن يَبحثْن عمَّا يريح أحاسيسهنَّ ومشاعرهنَّ أثناء الحمل لينعكس على أبنائهن، ينشدن ويسمعن آيات من كتاب الله، ولذا جاء في نفس الكتاب الماضي: أن سيدة حاملة في دمشق كانت تكثر من قراءة القرآن وسماعه قائمة وعاملة ومضطجعة، والنتيجة أنه عندما وُلِد الجنين تمكن -بفضل الله- أن يختم القرآن؛ حفظاً وتلاوة في الخامسة من عمره، فتبارك الله أحسن الخالقين!
موجز القول: أن الجنين الذي يحيا في رباط مع أمه، سعيد من العواطف المُفْعَمة بالرضا والسكينة، يستجيب -بإذن ربه- بعد ولادته، معترفاً بإحسان أمه إليه في سلوك سَويٍّ ونفسية هادئة غالباً، لسان حاله: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ} [الرحمن:60].
فيا أيها العبد العاصي: ألك قَدْر إن فارقت صراط الله ودربه؟ {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَه} [يس:77 - 78] تحتَجُّ على مولاك وقد هداك؟! وتحيد عن الطريق وقد دلَّك وأرشدك؟ بئس العبد عبد سها ولها ونسيَ المبدأ والمنتهى، بئس العبد عبد طغى وعَتَا ونسي الجبار الأعلى، السماء تستأذن ربها أن تَحْصدَه، والأرض أن تخسف به، والبحر أن يغرقه، من أنت؟ وما تكون الأرض وما عليها؟ ثق أنك سقطت من عين الله، ولو كان لك قدرٌ عند الله لعصمك من المعاصي.
يا أيها الماء المهين من الذي سوَّاك ومن الذي في ظلمة الأحشاء قد والاكا
ومن الذي غذَّاك من نَعْمَائِه ومن الكروب جميعها نجَّاكا
ومن الذي شقَّ العيون فأبصرت ومن الذي بالعقل قد حلاَّكا
ومن الذي تعصي ويغفر دائماً ومن الذي تنسى ولا ينساكا
{أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:63].(16/5)
من آيات الله في النوم
النوم: ما النوم؟ هل تأملته يوماً من الأيام؟ أنت تعرفه وتمارسه كل يوم، بل إن نصف عمرك أو أقل يذهب فيه، ضرورة لا غنى عنها، بل إن حياتك مؤلفة من قسمين اثنين لا ثالث لهما، من يقظة تبتغي فيها فضل الله وِفْقَ شرع الله، ونوم تبتغي فيه الراحة لتعاود العمل في طاعة الله، الليل لِبَاس، والنهار مَعَاش: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [يونس:67] النوم آية، بل إنه وفاة وموت؛ بنص قول الله: {اللهُ يَتَوَفَّى الأنفُسَ حِينَ مِوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42] {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} [الأنعام:60] {والله جل وعلا لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه} كما في صحيح مسلم.
حي وقيوم فلا ينام وجلَّ أن يشبه الأنام
لا تأخذه سنةٍ ولا نوم، لا إله إلاّ هو.
هل تأملت ما يجري للإنسان حين ينام وينسلخ من وعيه فيرفع عنه القلم، كيف يتسرب إليه النوم، ثم يستولي عليه؟ كيف يأتيه، أو كيف يأتي هو إلى النوم؟ إن أدنى درجات النوم -كما تعلمون- نعاس يصحبه تثاؤب، ثم تزنيق وتغفيق، سمع بلا فهم، ثم في درجة أخرى يأتي الوَسَن؛ وهو أول النوم، ثم في درجة ثالثة يأتي التهويم مع الغِرَار والإغفاء، ثم السِّنَة، ثم السهاد، ثم الكَرَى، ثم السُّبات، ثم الرُّقاد، ثم الغطيط المتميز بالشَّخير والنَّخِير؛ وهو أعلى وأثقل درجات النَّوم.
في النوم تتعطل وظائف الحس إجمالاً، يتوقف البصر -أولاً- بإغماض الجفون حتى لو لم تغمض العينان، كما هي عند بعض الناس، فتبقى الجفون مفتوحة، لكن الرؤية مفقودة، كذلك الموت، والنوم وفاة.
الحاسة التي تبقى تعمل خلال النوم هي السمع، وقد حدَّد العلماء والباحثون استمرار السمع خلال النوم بمقدار الثلثين على تفاوت بين الناس في السمع، فما أجمل الإعجاز في كتاب الله يوم يقول: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [الروم:23] فجمع بين النوم والسمع في سياق واحد، كما قال في سورة الكهف أيضاً: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً} [الكهف:11] {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} [الكهف:25] وتحقيقاً لاستقرار النوم وعدم اضطرابه عندهم أوقف الله تعالى السَّمع عنهم: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف:18].
أما الدِّماغ أثناء النوم فلا ينام بالمعني المفهوم، لكنه يتغير، فبعد أن كان يبث على موجات عالية يصبح على موجات أقل تردداً، ولذا رفع القلم عن النائم حتى يستيقظ؛ لأن العقل مناط التكليف كما هو معلوم.
هل تأملت نائميْن متجاوريْن، ودار بِخَلَدِك أنَّ أحدهما ربما ينعم بالرؤى الصالحة بودِّه ألا يستيقظ الدهر كله مما يجد من لذة، والآخر يجاوره في شقاء يُعذَّب بالأحلام الشيطانية المزعجة، بودِّه لو لم يَنَم، ثم ساءلت نفسك، هل يعلم هذا عن مجاوره، أو ذاك عن هذا؟ أو أنت تعلم ما يدور بذهنهما، ألم يَدُر بخلدك وأنت تستعرض هذا في ذهنك أن تنتقل من هذه الصورة مباشرة إلى المقابر، فتتخيل الموتى صنوفاً بجانب بعضهم، هذا يُنعَّم، وذاك يُعذَّب: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} [ق:37].
يا رب إنك ذو عفوٍ ومغفرة فنجِّنا من عذاب القبر والنَّكَدِ
واجعل إلى جنة الفردوس موئلنا مع النبيين والأبرار في الخلْد
هل تأمَّلت قيام النائم من فراشه، وتجوله في الدار، ثم عودته إلى الفراش، وهو ما يزال في نومه؟!
يذكر صاحب كتاب النوم والأرق: أن شخصاً نهض من فراشه نائماً، وخرج من النافذة، ومشى على كورنيش العمارة من الخارج، وتجمع الناس في الشارع يحبسون أنفاسهم خشية وقوعه، وظل يمشى على الكورنيش مغمض العينين حتى دار حول العمارة، ثم عاد إلى النافذة ودخل منها ليعود إلى سريره، فيواصل نومه، ولما استيقظ لم يذكر شيئاً مما حدث له، لقد كان يتحرك وهو نائم، بل يمشى على ارتفاعات شاهقة مُغمَض العينين لو كان في صحوه ما استطاع ذلك ثم يعود إلى فراشه.
من الذي قاد خطاه؟!
إن في هذا لدلالة قاطعة على وحدانية الله الواحد القهار؛ فإنما نفوس العباد بيده في الحياة والموت، والنوم والانتباه، هو الإله المتصرف فيهم جميعاً؛ فلا يسوغ لهم أن يتجهوا إلى غيره بأي حال من أحوالهم: {أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62] {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] آيات باهرات لا حدَّ لها ولا عدّ، كلها حق وصدق، تستحق الذكر والشكر باللسان والجنان والأركان، وقليل من العباد الشكور.
لو كنت أعرف فوق الشكر منزلة أعلى من الشكر عند الله في الثمن
إذاً منحتكها ربي مهذبة شكراً على صنع ما أوليت من حسن
اللهم لك الحمد أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً.(16/6)
من آيات الله في السماوات والأرض
إنها آيات في الأنفس تنطق بحكمة الخالق وعظمته، هل استعظمتم هذا؟ هل استكبرتم هذا؟ إن هناك مَا هو أعظم وأكبر: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [غافر:57].
تأمل السماء، ثم ارجع البصر إليها أخرى، انظر فيها وفي كواكبها، دورانها، وطلوعها، وغروبها، واختلاف ألوانها وكثرتها، وشمسها وقمرها، باختلاف مشارقها ومغاربها، حركتها من غير فتور ولا تغير في سيرها، تجري في منازل قد رتِّبت لها بحساب مُقدَّر لا يزيد ولا ينقص إلى أن يطويها فاطرها.
تأمل: تجد أنه ما من كوكب إلا ولله من خَلْقِه حِكْمَة، في مقداره، في شكله، في لونه، في موضعه في السماء، في قربه من وسطها وبُعْدِه، في قربه من الكواكب التي تليه وبعده، على صفحة سماوات ترونها أُمْسِكت مع عِظَمِها وَعِظَم ما فيها، فثبتت بلا علائق من فوقها، ولا عُمُدٍ من تحتها: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [لقمان:10] {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [الحج:65] والإنسان العاقل أمام بديع صنع الله في سماواته يتوقف طويلاً أمام أصغر جسم، وأعظم جسم، يرى فيها فتثبت له أدلة الإيمان، بعظمة الخالق في ملكوته، فما يملك إلا أن تخشع جوارحه، وتخضع، وتذل، وتستجيب، فتَقْدُر الله حقَّ قَدْرِه، وتفرده بالعبادة وحده لا شريك له.
فسبحان الله لا يَقْدُر الخَلْقَ قَدْرِه ومن هو فوق العرش فردٌ موحَّد
{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك:1].(16/7)
من أقوال علماء الفلك الباحثين في أسرار الكون
نظر أحد علماء الفلك الكفار إلى السماء من خلال منظار بَنَاه بنفسه، فرأى ما أذهله في هذا الكون، فقال: إن الإنسانية لن تنتهي من سَبْر أغوار الكون، ولن تعرف من الكون إلا مقدار ما نعرفه من نقطة ماء في محيط عظيم.
فهل آمن مع ذلك وصدَّق؟
لا.
وصدق الله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].
وقال آخر أيضاً: إن وضع الأجرام السماوية ليس مجرد مصادفة وعشوائية، بل هي موضوعة في الفضاء بدقة وإتقان؛ إذ أن القمر لو اقترب من الأرض بمقدار ربع المسافة التي تفصلنا عنه لأغرق مدّ البحر الأرض كلها، وما علاقة القمر بالبحر؟! الله يعلمها الذي قال وصدق: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53].
ولا يزال علماء الفلك يكتشفون من خلال تجاربهم ومراصدهم ومناظيرهم كل يوم ما يشْدَه ويدهش العقول في هذا الكون الفسيح، حتى قال مكتشف الجاذبية معبراً عن اكتشافه وضآلة ما اكتشفه بجانب ذلك الخلق العظيم، يقول: لست أدري كيف أبدو في نظر العالم، ولكني في نظر نفسي وأنا أبحث في هذا الكون أبدو كما لو كنت غلاماً يلعب على شاطئ البحر، ويلهو بين حين وآخر بالعثور على حَجَر أملس، أو مَحَارة بالغة الجمال، في الوقت الذي يمتد فيه محيط الحقيقة أمامي دون أن يسبر أحد غوره.
نعم.
{وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء:85] لقد رأى البروج الصغيرة وهي تتألف من عشرة ملايين نجم قد عُرِف منها ما عُرِف، ورأى العملاقة وقد وصل عدد نجومها المعروفة لنا إلى عشرة آلاف مليار نجم يرتبط بعضها ببعض في غاية دقة وإحكام.
الله أحكم خلق ذلك كله صنعاً وأتقن أيما إتقان
نعم.
لقد رأى مجموعة النظام الشمسي وقد تألَّفت من مائة مليار نجم قد عُرِف وعرف منها الشمس، وتبدو هذه المجموعة كقرص قطره تسعون ألف سنة ضوئية، وسمكه خمسة آلاف سنة ضوئية، ومع هذا البعد الشاسع فإن ضوء الشمس يصلنا في لحظات وكذلك نور القمر.
بل قد رأى هناك مجموعات تكبرها بعشرات المرات، أحصى منها مائة مليار مجموعة تجري، كلها في نظام دقيق بسرعة هائلة، كل في مساره الخاص دون اصطدام، كل يجري لأجل: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً} [الفرقان:61] هذا الذي رآه، وما لم يره أكثر، فقد قال الله عز وجل: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ} [الحاقة:38 - 39].
ويقول أحد كبار علماء الفلك -وهو يهودي-: أريد أن أعرف كيف خلق الله الكون، أريد أن أعرف أفكاره، الله بارع حاذق ليس بشرِّير، الله لا يلعب بالنرد مع الكون.
تعالى الله! وجلَّ الله: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللهِ تُنكِرُونَ} [غافر:81].
كيف لو اطَّلع على ما جاء في القرآن؟ لربما كان من المؤمنين حقاً، نعم.
الله لا يلعب مع الكون، عز وجل وتبارك وتعالى وتقدس هو القائل: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:16 - 18].
أحبتي في الله: ما الأرض بالنسبة للكون إلا كحبة رمل في صحراء الربع الخالي تسير في مسار حول الشمس دون أن يصطدم بها ملايين النجوم والكواكب المنتشرة في الكون.
أما إننا لو علمنا ذلك يقيناً لاعترانا رهبة وخشوع يقود إلى امتثال لأمر الله في غاية حب وذل، وعندها نزكو مَن نفسَه زكَّاها.
إن السماء وتناثر الكواكب فيها أجمل مشهد تقع عليه العين، ولا تمل طول النظر إليه أبداً، ولهذا -أخي المسلم- فإني أدعوك إلى أن تتطلع على شيء من علم الفلك، ثم اخلُ بنفسك بضع دقائق في ليل صفا أَدِيمه، وغاب قمره، ثم تأمل عالم النجوم، واعلم أن ما تراه ما هو إلا جزء يسير من مائة مليار مجموعة قد عرفت وكثير منها لم يعرف، كل منها في مسارها يسير، لا يختلط بغيره.
وأنت تتأمل انقل تفكيرك إلى ما بثَّه الله في السماوات من ملائكة لا يحصيهم إلا هو، فما من موضع أربعة أصابع إلا وملك قائم لله؛ راكع أو ساجد، يطوف منهم بالبيت المعمور في السماء السابعة كل يوم سبعون ألفاً لا يعودون إليه إلى قيام الساعة: {أطَّت السماء وحقَّ لها أن تئط} كما جاء في الصحيح.
ثم انقل نفسك أخرى وتجاوز تفكيرك إلى بصيرة يسير قلبك بها إلى عرش الرحمن، وقد علمت بالنقل سعته وعظمته ورفعته، عندها تعلم أن السماوات بملائكتها، ونجومها، ومجرَّاتها، ومجموعاتها، والأرضين بجبالها، وبحارها، وما بينهما بالنسبة للعرش كحلقة مُلْقاة بأرض فلاة.
فلا إله إلا الله! وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
الملائكة حفت من حول العرش، يسبحون، ويحمدون، ويقدسون، ويكبرون، والأمر يتنزل من الله بتدبير الممالك التي لا يعلمها إلا الله، يتنزل الأمر بإحياء قوم، وإماتة آخرين، وإعزاز قوم، وإذلال قوم، وإنشاء مُلْك، وسلب ملك، وتحويل نِعَم، وقضاء حاجات، من جبر كسير، وإغناء فقير، وشفاء مريض، وتفريج كرب، ومغفرة ذنب، وكشف ضُر، ونصر مظلوم، وهداية حيران، وتعليم جاهل، وردّ آبق، وأمان خائف، وإجارة مستجير، وإغاثة ملهوف، وإعانة عاجز، وانتقام من ظالم، وكف عدوان من معتدٍ.
مراسيم تدور بين العدل والفضل، والحكمة والرحمة، تنفذ أقطار العالم، لا يشغله سمع شيء منها عن سمع غيره، ولا تُغلطه كثرة المسائل والحوائج على تباينها واتحاد وقتها، لا يتبرم من إلحاح الملحِّين، لا تنقص ذرة من خزائنه، لا إله إلا هو! ذلكم الله ربكم، فتبارك الله رب العالمين، عندها حق للقلب والجوارح أن تسجد مطرقة لهيبته، عانية لعزَّته، سجدة لا يرفع الرأس منها إلى يوم المزيد، يلْهَج صاحبها مردداً: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارَ} [آل عمران:191](16/8)
آيات في اختلاف الألسنة واللغات
هل تأملت اختلاف الألسنة واللغات وتباينها من عربية وعجمية؛ كرومية وفارسية وتركية، وغيرها من اللغات، لا لغة تشبه لغة، ولا صوت يشبه صوتاً، إِنَّ في ذلك لآَية.
ثم هل تأملت اختلاف الألوان من بيض وسود وحمر وصفر وخضر، لا لون يشبه لوناً، حتى صار كل واحدٍ متميزاً بينكم لا يلتبس هذا بذاك.
بل في كل فرد ما يميزه عن غيره، مع أن الجميع أولاد رجل واحد، وامرأة واحدة؛ آدم وحواء عليهما السلام.
إن في هذا من بديع قدرة الله ما يستحق أن يفرد معه بالعبودية، وما يعقله إلا العَالِمُون، ولا يفهمه إلا المتفكرون: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ} [الروم:22].(16/9)
آيات في تعاقب الليل والنهار
تأمل تعاقب الليل والنهار بصورة معتدلة، وتفاوت الليل عن النهار، وكلاً عن مثله، فلا ليل يشبه ليلاً، ولا نهار يشبه نهاراً مذ خلق الله الخلق وحتى قيام الساعة، إن ذلك من أعجب وأبدع آيات الله الدالة على ربوبيته وألوهيته وحكمته: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْل وَالنَّهَار} [فصلت:37] {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62].
إن تعاقب الليل والنهار نعمة عظيمة؛ إذ هي تنظم وجود الأحياء على الأرض، من نمو النبات، وتفتُّحُ الأزهار، ونضج الثِّمار، وهجرة الطيور والأسماك والحشرات، ومن شاء فليتصور ليلاً بلا نهار، أو نهاراً بلا ليل، كيف تكون الحياة؟! {قُلْ أَرأيتُمْ إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرأيتُمْ إِن جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ} [القصص:71 - 72] أما إنها لو سكنت حركة الشمس لغرق نصف الأرض في ليل سرمدي، وغرق نصفها الآخر في نهار سرمدي، وتعطلت مع ذلك مصالح ومنافع، ومن عاش في المناطق القطبية بعض الوقت عرف نعمة تعاقب الليل والنهار؛ إذ يبقى النهار لمدة ستة أشهر، والليل كذلك: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص:73].
يقول رائد الفضاء السوفيتي الملحد عندما أصبح حول الأرض، ونظر من كُوَّة مركبته فرأى بديع خلق الله في السماوات والأرض، فقال: ماذا أرى؟! أنا في حلم أم سُحِرَت عيناي، ثم يقول: في الفضاء يحل الليل بصورة مفاجئة، وبسرعة تقطع الأنفاس، وتعمي العيون بلا تدرج كما هو الحال على الأرض، وليل الفضاء الخارجي من أشد الأشياء السوداء التي رأيتها في حياتي، يقول: ثم تظهر الشمس فجأة، وتلمع كأنها ضوء صاعقة مبدّدة خلال ثوانٍ في وسط الليل الحالك، فلا تدرج في الفضاء، بل ثوان وأنت في ليل مظلم في أَحْلَك الظلمات، وثوان أخرى وأنت في نهار ساطع النور وهاج يبدد الظلمات.
فيا لها من نعمة؛ نعمة الشروق والغروب، والليل والنهار، التي أقسم الله -عز وجل- بها في عدة آيات فقال: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} [المعارج:40 - 41] وقال: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} [الشمس:3 - 4].
ولك أن تتأمل أخرى، في قائل هذه الكلمات الشيوعي الملحد؛ فالبرَّغم من بديع ما رأى خلال دورانه حول الأرض؛ إلاّ أنه لم يَرِد على لسانه سوى الإعجاب بما صنعه الإنسان، والذُّهول أمام عظمة الكون، ثم السكوت المطلق عن خالق الكون ومبدعه، واستحقاقه للعبادة وحده لا شريك له، فسبحان الله! {مَن يُّضْلِلِ اللهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأعراف:186] {وإِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:6] {إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34].
تأمل كيف جعل الله الليل سكناً ولباساً، يغشى العالم فتسكن فيه الحركات، وتأوي إلى بيوتها الحيوانات، وإلى أوكارها الطير والحشرات، تستجمُّ فيه النفوس، ومن كَدِّ السعي والنَّصَب فيه تستريح، حتى إذا أخذت النفوس راحتها وَسُبَاتها وتطلَّعت إلى معاشها جاء فالق الإصباح -سبحانه- بالنهار يقدُمه بشير الصباح، فيهزم الظُلْمَة ويمزِّقها كل مُمَزَّق، ويكشفها عن العالم فإذا هم مبصرون؛ فينتشر الحيوان، وتخرج الطير من أوْكارِها لتطلب معاشها ومصالحها؛ فيا له من معادٍ ونشأة دالة على قدرة الله على المعاد الأكبر! {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18].
ويا سبحان الله! كيف يُعْمِي عن هذه الآيات البينة من شاء من خلقه فلا يهتدي بها، ولا يبصرها؛ كمن هو واقف في الماء، إلى حَلْقِه وهو يستغيث من شدة العطش وينكر وجود الماء.
يهدي الله من يشاء، ويضل من يشاء، يحكم لا معقِّب لحكمه، لا إله إلا هو له الحكم وإليه ترجعون.(16/10)
آية الخسف والزلزلة
تأمل في هذه الأرض: بينما هي هادئة ساكنة وادعة؛ مهاد وفراش، قرار وذلول، خاشعة، إذا بها تهتز، تتحرك، تثور، تتفجر، تدمّر، تبتلع، تتصدع، زلازل، خَسْف، براكين، تجدها آية من آيات الله، وكم لله من آية يخوف الله بها عباده لعلَّهم يرجعون! وهي مع ذلك جزاء لمن حقَّ عليه القول، وهي -أيضاً- تذكير بأهوال الفزع الأكبر، يوم يُبعثون ويُحشرون، وعندها لا ينفع مال ولا بنون.
يذكر صاحب: علوم الأرض القرآنية أنه قبل حوالي خمسة قرون ضرب زلزال شمال الصين عشر ثوان فقط، هلك بسببه أربعمائة ألف وثلاثون ألف شخص، وقبل ثلاثة قرون ضرب زلزال مدينة لشبونة في البرتغال لعدة ثوان، هلك فيه ستمائة ألف، وشعر الناس برعب وهَلَع وجزع إثر ارتجاج الأرض تحت أقدامهم على مساحة ملايين الأميال، فنعوذ بالله أن نُغْتَال من تحتنا.
وانفجرت جزيرة كاراكات في المحيط الهندي قبل قرن، فسُمِع الانفجار إلى مسافة خمسة آلاف كيلو متر، وسجلته آلات الرصد في العالم، وتحولت معه في ثوان جزيرة حجمها عشرون كيلو متراً مربعاً إلى قطع نثرها الانفجار على مساحة مليون كيلو متر مربع، وارتفعت أعمدة الدخان والرَّماد إلى خمسة وثلاثين كيلو متر في الفضاء، وأظلمت السماء على مساحة مئات الكيلو مترات حاجبة نور الشمس لمدة سنتين، وارتفعت أمواج البحر إلى علوّ ثلاثين متراً، فأغرقت ستة وثلاثين ألف نسمة من سكان جاوا وسمطرا {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُو} [المدثر:31] {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) [الأنعام:65].(16/11)
قتل الإنسان ما أكفره
{قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ *} [عبس:17]
يسمع ويرى آيات الله من زلازل وبراكين وأعاصير وأوبئة تحصد الآلاف في ثوانٍ فلا يتأمل ولا يتدبر ولا يرعوي ولا يقدر الله حق قدره بل يعيد ذلك أحياناً إلى الطبيعة في بلادة وبلاهة لا مثيل لها: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] لا يملك المسلم إزاء هذه البلاهة والبلادة إلا أن يقول بقول الله: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96] {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:75 - 76] فإلى أولي الألباب: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك:16 - 17].(16/12)
آية الهواء
تأمل الهواء: تجده آية من آيات الله الباهرة، وقد حبسه الله بين السماء والأرض يدرك ولا يرى، جعله الله ملكاً للجميع ولو أمكن الإنسان التسلط عليه لباعه واشتراه وتقاتل مع غيره عليه كما فعل في أكثر الأشياء التي سخرها المولى له وجعلها أمانة بين يديه، والله بحكمته جعل الهواء يجري بين السماء والأرض، الطير فيه محلقة سابحة كما تسبح حيوانات البحر في مائه، ويضطرب عند هيجانه كما تضطرب أمواج البحر عند هيجانها، يحركه الله بأمره فيجعله رياحاً رخاءً وبشرى بين يدي رحمته فبين مبشرات ولواقح، وذاريات، ومرسلات، ويحركه فيجعله عذاباً عاصفاً قاصفاً في البحر وعقيماً صرصراً في البر: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية:5].
تتوزع على سطح الأرض تحت نظام محكم فتلقح الأزهار والسحاب؛ فتبارك من جعلها سائقة للسحاب تذروه إلى حيث شاء الله، فهل تأملت يوماً من الأيام سحاباً مظلماً قد اجتمع في جوٍ صافٍ لا كدر فيه، وهو لينٌ رخو حامل للماء الثقيل بين السماء والأرض، حتى إذا أذن له خالقه أرسل الريح تلقحه وتسوقه فينزل قطرة قطرة، لا تختلط قطرة بأخرى، ولا تدرك قطرة صاحبتها فتمتزج بها، بل كل واحدة في طريق مرسوم لها حتى تصيب الأرض التي عينت لها لا تتعداها إلى غيرها، لا قطرة إلا وينزل نحوها ملك إلى الآكام والقيعان، هل تأملت ذلك؟ أحسب أنك تقول: نعم، ومعها: لا إله إلا الله!
(أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [النمل:63].(16/13)
آيات الله في البحر
تأمل معي البحر بأمواجه وأحيائه تجده آية من آيات الله، ومن عجائب مصنوعاته، وكم لله من آية، ثم أضف إلى علمك أن الماء في الأرض يملأ ثلاثة أرباع سطح الأرض، فما الأرض بجبالها، ومدنها، وسهولها، وأوديتها بالنسبة إلى الماء إلا كجزيرة صغيرة في بحر عظيم يعلوها الماء من كل جانب، وطبعه العلو، ولولا إمساك الرب -سبحانه وبحمده- له بقدرته ومشيئته؛ لطفح على الأرض فأغرقها ودمرها وجعل عاليها سافلها، فتبارك الله لا إله إلا هو رب العالمين.
ثم تأمل معي أخرى عجائب البحر وما فيه من الحيوانات على اختلاف أجناسها وأشكالها ومنافعها ومضارها وألوانها تجد عجباً وقدرة قادر جل وعلا، في البحار حيوانات كالجبال لا يقوم لها شيء، وفيه من الحيوانات ما يرى من ظهورها فيظن من عظمها أنها جزيرة فينزل عليها الركاب ويشعلوا نارهم فتحس بالنار إذا أوقدت فتتحرك فَيُعْلَم أنه حيوان كما ذكر ابن القيم ذلك في مفتاح دار السعادة، قال ابن القيم: وما من صنف من أصناف حيوان البر إلا وفي البحر أمثاله، بل فيه أجناس لا يعهد لها نظير أصلاً، مع ما فيه أيضاً من اللآلئ والجواهر والمرجان، فسبحان الخالق الرحيم الرحمن!
ثم انظر إلى السفن وسيرها في البحر تشقه وتمخر عبابه، بلا قائد يقودها ولا سائق يسوقها، وإنما قائدها وسائقها الريح الذي سخره الله لإجرائها، فإذا حبست عنها الريح ظلت راكدة على وجه الماء، فذاك قول الله: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [الشورى:32 - 33].
نعم.
سخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره، لا بأمر غيره سبحانه وبحمده، سخرها بأمره تجري ليست وفق رغبات النفوس الأمارة بالسوء، ولا رغبات الجشعين من الأفراد والهيئات التي استعملت أساطيلها منذ أقدم العصور إلى يومك هذا لقهر الإنسان ونهب خيراته واحتقار آدميته، فلك الحمد ربنا، ولك الأمر من قبل ومن بعد، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي صنع الإنجليز باخرة عظيمة، كانت كما يقولون فخر صناعاتهم، ثم انطلقت في رحلة ترفيهية حاملة على متنها علية القوم ونخبة المجتمع كما يصفون أنفسهم، وقد بلغ الفخر والاعتزاز ببناة السفينة درجة كبيرة من الصلف والغرور فسموها: الباخرة التي لا تقهر، بل سمع أحد أفراد طاقمها يتشدق فخراً أمام بعض كبار ركابها بما ترجمته: حتى الله نفسه لا يستطيع أن يغرق هذا المركب.
جل الله وتعالى وتقدس لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، يحيي ويميت: {إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران:47] وفي اليوم الثالث من سيرها في المحيط الأطلسي وفي خضم كبرياء صنّاعها وركّابها تصطدم بجبل جليدي عائم؛ فيفتح فيها فجوة بطول تسعين متراً- طعنت فانبجست- وبعد ساعتين وربع تستقر الباخرة التي لا تقهر -كما زعموا- في قعر المحيط ومعها ألف وخمسمائة وأربعة ركاب وحمولة بلغت ستة وأربعين ألف طن: {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40].
تأمل معي أخرى كيف مد الله البحار وخلطها، وجعل مع ذلك بينها حاجزاً ومكاناً محفوظاً، فلا تبغي محتويات بحرٍ على بحر، ولا خصائص بحرٍ على آخر عندما يلتقيان: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى) [طه:54] في إيران أنهار عندما تلتقي بمياه البحر ترجع مياهها عائدة إلى مجاريها التي جاءت منها، ونهر الأمازون يجعل مياه المحيط الأطلسي عذبة لمئات الكيلو مترات من مصبه فيه فلا يختلط بمياه المحيط الأطلسي، وتلتقي مياه المحيط الأطلسي بمياه البحر الأبيض فتبقى مياه البحر الأبيض أسفل لثقلها ولكثرة ملحها وتعلو مياه المحيط لخفتها.
وكذلك لا تختلط مياه البحر الأسود بمياه البحر الأبيض عندما تلتقي بل تشكل مجريين متلاصقين فوق بعضهما البعض، فمياه البحر الأسود تجري في الأعلى نحو مياه البحر الأبيض لأنها أخف، ومياه البحر الأبيض تجري في الأسفل لأنها أثقل فتجري نحو البحر الأسود، فتبارك الذي: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً} [الفرقان:53] {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31] عجائب البحر أعظم من أن يحصيها أحد إلا الله.
كشف علماء البحار من النصف الثاني من القرن العشرين أن في البحار أمواجاً عاتية دهماء مظلمة حالكة، إذا أخرج المرء يده لم يكد يراها، فعلى عمق ستين متراً عن سطح البحر يصبح كل شيء مظلماً في البحار، بمعنى أننا لا نستطيع رؤية الأشياء في أعماق تبعد ستين متراً عن سطح البحر، ولذلك زود الله الأحياء البحرية التي تعيش في أعماق البحار اللجية بنور تولده لنفسها، ومن لم يجعل الله له نوراً في تلك الظلمات فما له من نور.
نسي هؤلاء المكتشفون أن الله ذكر تلك الظلمات في قوله قبل أن يخلقوا وآباؤهم وأجدادهم: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].
تُرْجِمَ معنى هذه الآية لعالم من علماء البحار أفنى عمره في ذلك وظن أنه على شيء وأنه اكتشف شيئاً وجاء بشيء فيه إبداع، فقال في دهشة بعد ترجمة الآية: إن هذا ليس من عند محمد الذي عاش حياته في الصحراء، ولم يعاين البحر ولججه وظلماته وأمواجه، إن هذا من عند عليم خبير، ثم شهد شهادة الحق ودخل في دين الله نعم.
لا يملك إلا ذلك.
من واصف الظلمات في قعر الـ بحار سوى الله العليم الباري
سبحانه ملكاً على العرش استوى وحوى جميع المُلْكِ والسلطان
لا إله إلا الله!
كيف تعمى العيون وتعمى القلوب عن آيات الله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ} [النمل:63]، سأل رجل أحد السلف عن الله، فقال له: ألم تركب البحر؟ قال: بلى.
قال: فهل حدث لك مرة أن هاجت بكم الريح عاصفة؟ قال: نعم.
قال: وانقطع أملك من الملاحين ووسائل النجاة؟ قال: نعم.
قال: فهل خطر ببالك وانقدح في نفسك بأن هناك من يستطيع أن ينجيك إن شاء؟ قال: نعم.
قال: فذاك هو الله لا إله إلا هو وسع كل شيء علماً: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس:22 - 23].
ومن عجائب البحر التي تدل على إدراكه وعبوديته لله جل وعلا: أنه يعظم عليه أن يرى ابن آدم يعصي الله عز وجل مع حلم الله عليه، فيتألم البحر لذلك ويتمنى هلاك عصاة بني آدم، بل ويستأذن ربه في ذلك، جاء في مسند الإمام أحمد فيما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ليس من ليلة إلا والبحر يشرق فيها ثلاث مرات يستأذن الله أن ينتضح عليهم -أي على العصاة- فيكفه الله بمنه وكرمه} فلا إله إلا الله! البحر يتمعر، ويتمنى إغراق العصاة، ويستطيع لكنه مأمور، ومنا من لا تحرك فيه المعصية ساكناً، تُنْتَهَك حرمات الله، وتُتَجَاوز حدوده، وتُضَيَّع فرائضه، ويعادى أولياؤه، ثم لا تتمعر الوجوه، فأين الإيمان يا أهل الإيمان؟
إن في ذلك لآية وكم لله من آية، فتأملوا يا أولي الألباب!(16/14)
آيات الله في النمل
تأمل تلك النملة الضعيفة، وما أعطيت من فطنة وحيلة في جمع القوت وادخاره، وحفظه ودفع الآفة عنه، ترى عبراً وآيات باهرات تنطق بقدرة رب الأرض والسماوات وتقول: (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) [النمل:62].
انظر إليها تخرج من أسرابها طالبة أقواتها، فإذا ظفرت بها شرعت في نقلها على فرقتين اثنتين، فرقة تحملها إلى بيوتها ذاهبة، وأخرى خارجة من بيوتها إلى القوت، لا تخالط فرقة أخرى كخيطين أو جماعتين من الناس، الذاهبون في طريق والراجعون في أخرى في تناسق عجيب.
ثم إذا ثقل عليها حمل شيء، استغاثت بأخواتها فتعاونت معها على حملها، ثم خلوا بينها وبينه، وبلا أجرة، تنقل الحب إلى مساكنها ثم تكسره اثنتين أو أربعة، لئلا ينبت إذا أصابه بلل، وإذا خافت عليه العفن، أخرجته إلى الشمس حتى يجف، ثم ترده إلى بيوتها، ولعلك قد مررت يوماً عليها وعلى أبواب مساكنها حب مكسر، ثم تعود عن قريب فلا ترى منه حبة واحدة.
والنمل مع ذلك يعتني بالزراعة وفلاحة الأرض، فقد شاهد أحد العلماء في إحدى الغابات قطعة من الأرض قد نما فيها أرز قصير من نوع بري مساحة القطعة خمسة أقدام في ثلاثة، ويترائى للناظر إلى هذه البقعة من الأرض أن أحداً لا بد أن يعتني بها، الطينة مشققة، والأعشاب مستأصلة والغريب أنه ليس هناك مناطق أرز حول ذلك المكان.
ولاحظ ذلك العالم أن طوائف من النمل تأتي إلى هذه المزرعة الصغيرة وتذهب، فانبطح على الأرض ذات يوم ليراقب ماذا يصنع النمل، فإذا به يفاجأ أن النمل هو صاحب المزرعة، وإنه اتخذ الزراعة مهنة تشغل كل وقته، فبعضه يشق الأرض ويحرث، والبعض يزيل الأعشاب الضارة وينظف، وطال الأرز واستوى ونضج، وبدأ موسم الحصاد، وهذا لا زال بمناظيره يراقب، فيشاهد صفاً من النمل وهو في وقت الحصاد متسلقاً شجر الأرز، إلى أن يصل إلى الحبوب فتنزع كل نملة حبة من تلك الحبوب، ثم تهبط سريعاً إلى الأرض، ثم تذهب بها إلى مخازن تحت الأرض لتخزنها ثم تعودَ.
وطائفة أخرى أعجب من ذلك تتسلق مجموعة كبيرة منها أعواد الأرز، فتلقط الحب وتلقي به فبينما هي كذلك، إذ بمجموعة أخرى تحتها تتلقى هذا الحب وتذهب به إلى المخازن.
ويعيش النمل هناك عيشة مدنية في بيوت، بل في شقق وأدوار، أجزاء منها تحت الأرض، وأجزاء أخرى فوقها، له حراس وخدم وعبيد وهناك ممرضات تعنى بالمرضى ليلاً ونهاراً، وقسم آخر يرفع جثث الموتى ويشيعها ليدفنها، كل هذا يتم بغريزة أودعها الله في هذا القلب، فتبارك الله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام:38].
عالم النمل عالم عجيب، من تأمله ازداد إيماناً ويقيناً بأن وراء ذلك التنظيم المحكم حكيماً خبيراً، بإفراد العبادة له جديراً لا شريك له.
إنها تعرف ربها، وتعرف أنه فوق سماواته مستوٍ على عرشه، بيده كل شيء يوم ضل من ضل، روى الإمام أحمد في الزهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه قال: {خرج نبي من الأنبياء بالناس يستسقون، فإذا هم بنملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء تدعو ربها، فقال: ارجعوا فقد سقيتم بغيركم}.
للنمل مدافن جماعية يدفن فيها موتاه كالإنسان، والنمل ذكي جد ذكي، ويصطاد بطريقة ذكية، يأتي إلى شجرة فينقسم إلى قسمين، قسم يرابط تحت الشجرة قرب جذعها، وآخر يتسلق جذعها لمهاجمة الحشرات التي تكون عليها، وبذلك يحكم الطوق على كل حشرة لا تطير، فتسقط التي تنجو من النمل المتسلق فتقع في شباك النمل المتربص بها عند قاعدتها، من هداها؟ من هيأ لها رزقها؟ إنه القائل: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6] ألا له الخلق والأمر، لا إله إلا هو وحده لا شريك له.(16/15)
آيات الله في الحيوانات
وقفة ولعلها استراحة مع عجائب الأحياء، يذكر صاحب من الثوابت العلمية في القرآن من بعض التصرفات الذكية الألمعية عند الحيوان، ما يلقي الضوء على معنى قول الله: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) [طه:50].
يذْكَرُ أن طبيباً وجد في طريقه كلباً كسرت إحدى قوائمه، فأخذه إلى عيادته واهتم بها وقومها وجبرها، واعتنى به حتى شفي تماماً، ثم أطلق سراحه، وبعد ذلك بزمن سمع الطبيب قرعاً لطيفاً على باب عيادته فوجد الكلب نفسه مصطحباً معه كلباً آخر مكسور الرجل، جاء به إلى المعاينة والعلاج، فسبحان الله ولا إله إلا الله!
هذه عجائب طالما أخذت بها عيناك وانفتحت بها أذنك
والأعجب من ذلك قصة هرٍ اعتاد أن يجد طعامه اليومي أمام بيت أحد المهتمين به فيأكله، وفي أحد الأيام لاحظ رب البيت أن الهر لم يعد يكتفي بالقليل مما كان يقدم له من قبل، بل أصبح يسرق غير ذلك، فقام رب البيت يرصده ويراقبه فوجده يذهب بالطعام إلى هرٍ أعمى فيضع الطعام أمامه، فتبارك الله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] و {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [هود:56].(16/16)
من آيات الله في الخيل
ويذكر أيضاً صاحب عجائب الأحياء: أن فرساً صغيراً ماتت أمه عنه، فقام صاحبها الأعرابي واسمه الزعتري الذي يسكن مصر برعاية الفرس اليتيم رعاية بلغت حد التدليل، فكان يقدم له الشعير مخلوطاً بالسكر، وإذا مرض استدعى له الطبيب البيطري لفحصه إذا أصابه ما أصابه، ولا غرابة في ذلك الاهتمام أيها الأحبة، إذا علمتم ما ثبت في صحيح الجامع عن أبي ذر رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إنه ليس من فرس عربي إلا وُيؤَذَنُ له مع كل فجر فيدعو بدعوة فيقول: اللهم إنك خولتني من خولتني من بني آدم فاجعلني من أحب أهله وماله إليه} فالفرس العربي يتجه بالدعاء إلى من يستحق الدعاء، والله عز وجل يجيبه فيجعله من أحب أهل ومال الإنسان إليه والواقع يشهد بذلك، ولا عجب فإن جذع النخلة وهو جماد بكى وأنَّ وتألم وحزن وخار وتصدع لفراق الذكر حتى مسحه صلى الله عليه وسلم، فسكن أحسن ما يكون السكون.
حن جذع إليه وهو جماد فعجيب أن تجمد الأحياء
ويمرض الأعرابي الزعتري فيفقد الفرس شهيته ويترك حظيرته ليرابط أمام خيمة صاحبه، وظل كذلك أياماً، ثم مات الزعتري وحمل المشيعون جنازته، فسار الفرس خلفهم حزيناً منكس الرأس حتى دُفِنَ صاحبه العزيز عليه في التراب، ولما هم المشيعون بالرجوع انطلق الفرس المفجوع كالبرق وظل منطلقاً حتى وصل إلى تلٍ عالٍ فصعده ثم ألقى بنفسه من قمته ليلقى حتفه وسط دهشة الجميع، فسبحان من رزقه تلك الأحاسيس والمشاعر ومن سلبها كثيراً ممن كرمه الله من بني آدم.
ومن عجيب أمر القردة ما ذكره البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون، قال: [[رأيت في الجاهلية قرداً وقردةً زنيا فاجتمع عليهم القرود فرجموهما حتى ماتا]] عجباً لها من قرود، تقيم الحدود حين عطلها بعض بني آدم، إن هدايتها فوق هداية أكثر الناس: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44].
ومن عجيب أمر الفأر ما ذكره صاحب العقيدة في الله: أنها إذا شربت من الزيت الذي في أعلى الجرة ينقص ويعز عليها الوصول إليه في أسفل الجرة فتذهب وتحمل في أفواهها الماء ثم تصبه في الجرة، حتى يرتفع الزيت ويقترب منها ثم تشربه: من علمها ذلك؟ إنه الله أحق مَن عُبِدَ وصُلِّيَ لَهُ وسُجِد.
سبحان من يجري الأمور بحكمة في الخلق بالإرزاق والحرمان
من علم الذئب إذا نام أن يناوب بين عينيه، فينام بإحداهما حتى إذا نعست الأخرى نام وفتح بها الثانية:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بأخرى المنايا فهو يقظان نائم
من علم الطاوس أن يلقي ريشه في الخريف إذا ألقى الشجر ورقه، فإذا اكتسى الشجر اكتسى أيضاً؟ وبإذن من؟!
من علم العصفورة إذا سقط فرخها أن تستغيث؟ فلا يسمعها عصفور حولها حتى يجيء فيطير الجميع حول الفرخ ويحركونه ويحدثون له همة وقوة وحركة حتى يطير معهم، ذاكم هو الله القائل: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام:38].
واستطراداً فما أجمل قول سفيان بن عيينة رحمه الله حول قول الله: {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام:38] يوم قال: [[فما في الأرض من آدمي إلا وفيه شبه من البهائم، فمنهم من يهتصر اهتصار الأسد، ومنهم من يعدو عدو الذئب، ومنهم من ينبح نباح الكلب، ومنهم من يختال كالطاوس، ومنهم من يشبه الخنازير التي إذا ألقي إليها أطيب الطعام عافته، فإذا قام الرجل عن غائطه ولغت فيه، فلذلك تجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمة لم يحفظ واحدة منها]] رحم الله سفيان.
نعم.
وإن أخطأ أخوه حفظ ذلك الخطأ وشنع عليه بلا هدى تحت طيش الهوى وحب الغلبة ورغبة الاستعلاء، وإرادة خفض الغير، تحريش غامض وتصنيف ساقط بلا برهان ولا بينة كفى أخي ثم كفى.
إذا لم تجد قولاً سديداً تقوله فصمتك عن غير السداد سداد
أحبتي في الله: إن فيما أودع الله في مخلوقاته ما يستنطق الأفواه بالتسبيح، ويملأ القلوب إجلالاً من معرفة حكمته وقدرته، وما به يعلم العاقل أنه لم يخلق عبثاً ولم يترك سُدى، فلله في كل مخلوق حكمة باهرة، وآية ظاهرة وبرهان قاطع يدل على أنه المنفرد بكل كمال، وأنه على كل شيء قدير وبكل شيء عليم، قد خلق الخلق ليعبدوه.(16/17)
آيات الله في النحل
هل تأملت النحل وأحواله وأعماله وما فيها من العبر والآيات الباهرات، ألم تر أقراص شمعها السداسية في دقتها الحسابية وإتقان بنائها وإحكام صنعها، الذي أدهش وما زال يدهش علماء النحل والحساب؟
ما هي آلات الحساب والمقاييس التي سمحت لهذا المخلوق بالوصول إلى هذا العمل الهندسي الدقيق؟ هل هذا بواسطة قرنين استشعار والفكين الذين يدعي علماء الأحياء أن الطبيعة زودتها بهما؟ سبحان الله! وتبارك الله! عجيب وغريب منطق هؤلاء، يتسترون وراء كلمات جوفاء كالطبيعة والتطور والصدفة، كلما وقفوا أمام بديع صنع الله وإعجازه في الخلق فأنى يؤفكون! {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا} [النمل:14].
أفتستر الشمس المضيئة بالسها أم هل يقاس البحر بالخلجان
سبحان الله! لله في كل شيءٍ آية، وتعمى عنها عيون أو تتعامى.
فقل للعيون الرُّمد إياكِ أن تري سنا الشمس واستغشي ظلام اللياليا
خفافيش أعشاها النهار بضوئه ولاءمها قِطْعٌ من الليل باديا
فجالت وصالت فيه حتى إذا النهار بدا استخفت وأعطت تواريا
فيا محنة الحسناء تُهْدى إلى امرئٍ ضريرٍ وعِنِّين من الوجد خاليا
النحل مأمور بالأكل من كل الثمرات خلافاً لكثير من الحشرات التي تعيش على نوع معين من الغذاء، وتعجب أنها لا تأكل من التبغ فلا تأكل إلا الطيبات.
فهل يعتبر بذلك أهل الغفلات؟
زودها الله بقرنين استشعار، وجعل فيهما شعيرات عصبية دقيقة يصل عددها إلى ثلاثين ألفاً تشكل حاسة الشم والسمع واللمس، وتعمل كالكشاف في ظلام الخلية، فسبحان من وهبها ذاك وبه زودها!
للنحلة عيون كثيرة، في حافتي الرأس عينان، وعينان أخريان في أعلى الرأس وتحتهما عين ثالثة، مما جعل لها سعة أفق في النظر، فالنحلة ترى أقصى اليمين وأقصى الشمال والبعيد والقريب في وقت واحد، علماً بأن عيونها لا تتحرك.
ولذا فالنحل يعيش في أماكن يعيش فيها السحاب معظم شهور السنة، مع أن رؤية الشمس كما هو معلوم ضرورية لمعرفة مكان الحقول التي فيها غذاء النحل، وهنا تكمن الحكمة في قوة رؤية النحل، فبإمكانها رؤية الشمس من خلال السحب، كل ذلك لئلا يموت جوعاً في حالة اختفاء الشمس خلف الغمام، كما هو في بعض البلدان.
إنها لحقيقة مذهلة، تدل على حكمة الله، وقدرة الله، ووحدانية الله، وكمال تدبيره فتبارك الله أحسن الخالقين!
أما فم النحلة فمن أعاجيب خلق الله في خلقه، إذ هو مزود بما يمكنه من أداء جميع الوظائف الحيوية، فهو يقضم ويلحس ويمضغ ويمتص، وهو مع هذا شديد الحساسية لما هو حلو الطعم طبعياً، ولا يتحرج من المواد المرة، إذ يحولها إلى حلوة بإذن ربه الذي ألهمه فسبحانه وبحمده لا شريك له!
أما سمع النحل فدقيق جداً، يتأثر بأصوات وذبذبات لا تستطيع أن تنقلها أذن الإنسان، فسبحان من زودها به! وتحمل مع ذلك النحلة ضعفي وزنها، وبسرعة أربعمائة خفقة جناح في الثانية الواحدة، فسبحان الله، سبحان من خلق فسوى وقدر فهدى، عُبِدَ وَوُحِّدَ، وصُلِّيَ له وسُجِدَ له.
هناك من النحل مرشدات، عندما تجد مصدراً للغذاء تفرز عليه مادة ترشد إليه بقية الجانيات للرحيق، وعندما ينضب وينتهي الرحيق تفرز عليه المرشدات مواد منفرة منه، حتى لا يضيع الوقت في البحث فيه، ثم تنتقل إلى مصدر آخر، من علمها وأرشدها؟
إنه الله، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها فلا إله إلا هو.
تستطيع العاملة خارج الخلية الرجوع إلى خليتها والتعرف عليها من بين عشرات الخلايا، بلا عناء ولا تعب، ولو ابتعدت عنها آلاف الأميال، ولذا يقول أحد علماء الأحياء الكفار، وقد رصد النحل بمناظيره فترة طويلة، يقول: يا عجباً لها! تنطلق آلاف الأميال من شجرة إلى ثمرة إلى زهرة، ثم تعود ولا تخطئ طريقها، ربما أن لها ذبذبات مع الخلية، أو أنها تحمل لاسلكياً يربطها بالخلية، ربما ربما.
ثم يقف حائراً بليداً تائهاً، أما نحن فلا، إنا نوقن أن الله ألهمها ذلك، وأوحى إليها، وعندنا سورة في كتاب الله تسمى سورة النحل: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:68 - 69].
تأمل قدرة الله بخلقه يوم جعل من النحل حراساً للخلية يستطيعون أن يميزوا كل غريب ودخيل عليهم من النحل، فيطرحوه خارجاً أو يقتلوه، علماً أن تعداد الخلية يصل إلى ثمانين ألف نحلة أو أكثر فسبحان من ألهمه! سبحان من ألهمه معرفة صاحبه من غيره!
سبحان ربك رب العِزِّ مِنْ مَلِكٍ من اهتدى بهدى رب العباد هُدِي
الكل في النحل يعمل في الخلية لأجل الكل، لا حياة لفرد عند النحل بدون جماعة، ولذلك أذهل ذلك علماء النحل: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل:88].
والنحل من ألطف الحيوان وأنقاه وأنظفه، ولذلك لا تلقي مخلفاتها في خليتها، بل تطير ثم تلقيها بعيداً عنها، وتأبى النتن والروائح الكريهة، تأبى القذارة، ولذلك إذا رجعت إلى الخلية بالعشية، وقف على باب الخلية بواب منها، ومعه أعوان كثر، وكل نحلة تريد الدخول يشمها البواب ويتفقدها فإن وجد فيها رائحة منكرة، أو رأى بها قَذَراً منعها من الدخول وعزلها إلى أن يدخل النحل كله، ثم يرجع إلى الممنوعات المعزولات فيتبين ويتثبت، ويتفقدها مرة أخرى، فمن وجدها وقعت على شيء نجس أو منتن، قدها وقطعها نصفين، ومن كانت جنايتها خفيفة، بها رائحة وليس عليها قَذَر، تركها خارج الخلية حتى يزول ما بها ثم يسمح لها بالدخول، وهذا دأب وطريقة البواب كل يوم في كل عشية.
فتبارك الذي هداها أن تسلك سبل مراعيها، لا تضل عنها تسيح سهلاً وجبلاً خماصاً، فتأكل من على رءوس الأشجار والأزهار، فتجني أطيب ما فيها ثم تعود إلى بيوتها بطاناً، فتصب فيها شراباً مختلفاً ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية.
أما ملكتها أو ملكها فلا يكثر الخروج، بل لا يخرج إلا نادراً، إذا اشتهى التنزه خرج بحاشيته وخدمه فيطوف المروج والبساتين والرياض ساعة من نهار ثم يعود إلى خليته، ومن عجيب أمره أنه إذا لحقه أذى من صاحب الخلية غضب، وغضبه يعرفه أصحاب النحل، ثم يخرج من الخلية، فيتبعه جميع النحل حتى تبقى الخلية خالية.
يذهب حتى يحط رحاله على رءوس الشجر المرتفع، ويجتمع عليه النحل كله حتى يصير كالعنقود، عندها يضطر صاحب الخلية إلى الاحتيال عليه لاسترجاعه وطلب مرضاته، فيأخذ عصاً طويلة ويضع على رأسها حزمة من نبات طيب الرائحة، ويدنيه من هذا الكبير لها، من ملكها على الشجرة فلا يزال يحركه ويستجديه ويستعطفه إلى أن يرضى، فينزل على حزمة النبات الطيب الرائحة، فيحمله صاحب الخلية إلى الخلية، فينزل ويدخلها مع جنوده، ثم يتبعه جميع النحل عائداً إلى الخلية.
تأمل نتاجها تجد عجبا، تنطلق إلى البساتين، فتأخذ تلك الأجزاء الصافية من على ورق الزهر والورد، فتمصه لتكون مادة العسل، ثم تكبس الأجزاء المنعقدة على وجه الورقة وتعقدها على رجلها ثم تذهب لتملأ بها المسدسات الفارغة، ثم يقوم يعسوبها على بيته فينفخ فيه، ثم يطوف على تلك البيوت بيتاً بيتاً وينفخ فيها كلها فتدب فيها الحياة بأمر الله بعد حين، فتخرج نحلاً صغاراً بإذن الله، وتلك آية قلما يتفطن الخلق لها كما قال ابن القيم رحمه الله.
كل هذا من ثمرة الوحي الإلهي
تبارك الله وجل الله أعظم ما فاهت به الأفواه
سبحان من ذلت له الأشراف أَكْرَمُ مَنْ يُرْجَى ومن يُخَاف
جعل الله لكل مخلوق قوة وقدرة يدافع بها عن نفسه، ومن تلك المخلوقات النحل، كيف يدافع عن نفسه وعن نتاجه، يذكر أن ألد أعداء النحل هو الفأر، يهاجم الخلية فيأكل العسل ويلوث أجواء الخلية، فماذا تفعل تلك النحلة الصغيرة أمام هذا الفأر الذي هو لها كجبل عظيم، إنها تطلق عليه مجموعة من العاملات فتلدغه حتى يموت، كيف تخرجه؟ إن بقي أفسد العسل، ولوث أجواء الخلية، ولو اجتمع نحل الدنيا كله لإخراجه ما استطاع، فماذا يفعل، جعل الله عز وجل له مادة شمعية يفرزها ويغلف بها ذلك الفأر فلا ينتن ولا يتغير ولو بقي ألف عام، حتى يأتي صاحب الخلية فيخرجه، فسبحان من قدر فهدى وخلق فسوى.
إن في ذلك لآية، وكم لله من آية مما يبصره العباد وما لا يبصرونه، وتفنى الأعمار دون الإحاطة بجميع تفاصيلها، ولكن أكثر الناس لا يفقهون: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) [النمل:62].(16/18)
آيات الله في النبات
ومن عجائب النبات، ما ذكره صاحب كتاب نوادر الكتب: من أن شجرة غريبة في جنوب الصين، تكون أوراقها في الأحوال الجوية العادية خضراء كأوراق الأشجار، وقبل حدوث الفيضانات أو هطول الأمطار تتغير فتصبح حمراء، فأصبحت عند سكان تلك المنطقة كمراقبة للأحوال الجوية، وبلا تعليق إنها بلسان حالها تقول: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام:102].
عجباً ثم عجباً ثم عجباً، لا ينقضي العجب ولو كنا في شهر رجب، كل الكون بكائناته يوحد ويسلم ويستسلم وينقاد لله رب العالمين ثم يبقى هذا الإنسان في هذا الكون، إنه لظلوم مبين: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران:83].
الكون كله بكائناته يؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وتدهش وتعجب لكثير من الإنس والجن يوم تعمى أبصارهم عن الحق فيكذبون بالرسالة ويكذبون الرسول صلوات الله وسلامه عليه، في قمة بلاهة وبلادة، فهم نشاز في هذا الكون، ثبت في الصحيح عن جابر رضي الله عنه قال: {أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دفعنا إلى حائط في بني النجار، فإذا فيه جَمَل لا يدخل الحائط أحد إلا شد عليه، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم، فدعاه فجاء واضعاً مشفره على الأرض حتى برك بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هاتوا خطاماً فخطمه ودفعه إلى صاحبه، ثم التفت فقال -واسمعوا إلى ما قال صلوات الله وسلامه عليه-: إنه ليس شيء بين السماء والأرض إلا ويعلم أني رسول الله إلا عاصي الجن والإنس} فسبحان من هدى هذه الكائنات للإيمان يوم ضل بعض بني الإنسان والجان! لا إله إلا الله، كم من مركوب هو خير من راكبه!
يا قوم هذا صراط الله فاتبعوا لا تسلكوا سبلاً تفضي إلى النار(16/19)
وإن من شيء إلا يسبح بحمده
إن الكون بكائناته جميعاً يسبح الله، ويثني على الله، ويمجد الله تسبيحاً وثناءً لا نفهمه، الله سبحانه وتعالى يعلمه: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)} [الإسراء:44] سبحت الكائنات بحمده فملأ الكون تسبيحها، سبحه النبات جمعه وفريده، والشجر عتيقه وجديده، أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده، سبحته الحيتان في البحار الزاخرات، سبحته الوحوش في الفلوات، تسبحه نغمات الطيور، يسبحه الظل تحت الشجر، يسبحه النبع بين المروج، يسبحه النَور بين الغصون، وسحر المساء وضوء القمر، فسبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته.
في الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم قال: {ما تستقل الشمس، فيبقى شيء من خلق الله إلا سبح الله بحمده، إلا ما كان من الشياطين وأغبياء بني آدم} وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، غباء وأي غباء أن يسخر الله لك كل ما حولك بمنه وكرمه، ثم يسبحه كل مسخر لك وأنت غافل غبي أخرس أحمق.
سل الواحة الخضراء والماء جاريا وهذه الصحاري والجبال الرواسيا
سل الروض مزداناً سل الزهر والندى سل الليل والإصباح والطير شاديا
وسل هذه الأنسام والأرض والسما وسل كل شيءٍ تسمع الحمد ساريا
فلو جم هذا الليل وامتد سرمداً فمن غير ربي يرجع الصبح ثانيا
سبحان الله وبحمده، وسبحان الله العظيم، ليس شيءٍ إلا وهو أضرع لله من بني آدم، الكون كله بكائناته يسجد لله ويخضع ويذل وتبقى فئة من الناس صادةٌ نادةٌ نشازٌ في هذا الكون لا تستحق الحياة، فانظر إلى تلك الحشود -كما يقول سيد قطب رحمه الله- حشد من الخلائق مما يدرك الإنسان ومما لا يدرك، وحشد من الأفلاك مما يعلم الإنسان ومما لا يعلم، حشد من الملائكة، حشد من الجبال والشجر والدواب، حشد من خلق الله كلها في موكب خاشع ذليل تسجد لله وتتجه إليه لا إلى سواه في تناسق ونظام عجيب؛ إلا هذا الإنسان يتفرق فجزء منه يتنكب الموكب نشاز لا يستحق الحياة {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18].
فانظر إلى قهره، وانظر إلى ذل خلقه، كل ما في الكون يأتي خاضعاً ذليلاً ساجداً لله.
يدين له النجم في أفقه يدين له الفلك الدائر
يدين له الفرخ في عشه ونسر السما الجارح الكاسر
تدين البحار وحيتانها وماء سحاباتها القاطر
تدين له الأُسْدُ في غابها وظبي الفلا الشارد النافر
يدين له الذر في سعيه يدين له الزاحف والناشر
تدين النجاد تدين الوهاد يدين له البَرُّ والفاجر
يدين الجلي يدين الخفي يدين له الجهر والخاطر
تدين الحياة يدين الوجود يدين المقدر والحاضر
وكل العباد إليه رجوع وفوق العباد هو القاهر
الشجر والحجر والمدر يلبي ويوحد الله مع الحاج الملبي، ثبت في الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم قال: {ما من ملبٍ يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرض من هاهنا ومن هاهنا}.
تفاعل الكون كله مع توحيد الله عز وجل.
كل كنى عن شوقه بلغاته ولربما أبكى الفصيح الأعجم
بل إن الشجر ليشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى الدارمي بإسنادٍ صحيح كما قال صاحب المشكاة، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: {كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفرٍ فأقبل أعرابيٌ فلما دنا قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، قال: ومن يشهد على ما تقول؟ قال: هذه السلمة -حِجرة السلمة- فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في شاطئ الوادي فأقبلت تهز الأرض حتى قامت بين يديه، فاستشهدها صلى الله عليه وسلم فشهدت ثلاثاً أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، ثم رجعت إلى منبتها} إن في ذلك لآية.
وروى الترمذي أيضاً كما في الصحيحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! بم أعرف أنك نبي؟ قال صلى الله عليه وسلم: إن دعوت هذا العذق شهد أني رسول الله، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل ينزل العذق من النخلة حتى سقط إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم شهد، ثم قال صلى الله عليه وسلم له: ارجع، فرجع إلى مكانه، فقال الأعرابي: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، ودخل في دين الله}.
ألم يمر بذهنك وأنت تعلم عبودية الشجر لله ما روى البخاري عن سهل بن سعد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن في الجنة لشجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع في ظلها مائة عام لا يقطعها} فاشتاقت نفسك لظل هذه الشجرة فأحسنت التعامل مع الله لتكون من أهلها بإذن الله.(16/20)
الجبال والحجارة تخشى الله
وأرجو الله أن نكون جميعاً من أهلها، الجبال والحجارة تخشى الله، فأين الخشية والخوف من الله: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74] {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21] يا عجباً! من مضغة لحمٍ أقسى من هذه الجبال، تسمع آيات الله تتلى فلا تلين ولا تخشع، من حكمة الله أن جعل لها ناراً إذا لم تلن بذكره ومواعظه فبها تلين، فمن لم يلن قلبه في هذه الدار ولم يتب إلى الله ويخشه فليتمتع قليلاً فإن المرد إلى عالم الغيب والشهادة.
فنشكو إلى الله القلوب التي قست وران عليها كسب تلك المآثمِ
من خشية المولى هوى الجبل الذي في الطور لانت قسوة الأحجار
أو لم يئن وقت الخشوع فلا تغرن الحياة سوى مغرار(16/21)
أهمية الصلاة في الحياة
الطير تصلي صلاةً لا ركوع فيهلا ولا سجود، الله يعلمها ونحن لا نعلمها.
{وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور:41] ما ميزان الصلاة عند الإنسان؟ إنها وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ختم بها حياته، ومع ذلك فرط فيها من فرط، وضاع فيها من ضاع، وذل بتركها من ذل بعد العز، فاسمع إلى ما يقول صاحب وحي الواقع، بعد مجزرة الأقصى في رمضان المشهود التي راح ضحيتها المئات من القتلى والجرحى، تقابل مسلم ويهودي، فقال المسلم: مهما طال بكم الزمن يا أحفاد القردة والخنازير لنخرجنكم منها أذلة وأنتم صاغرون، وسيكون معنا الشجر والحجر في حربكم، قال اليهودي: نعم.
وهذا صحيح، نقرأه في كتبنا ويعلمه عالمنا وجاهلنا، ولكن لستم أنتم، قال المسلم: فمن هم؟ قال: هم الذين يكون عدد مصليهم في صلاة الفجر بقدر عدد المصلين في صلاة الظهر.
وصدق فإنه لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة وضيعها، إن الصلاة لتدعو الله لحافظها: حفظك الله كما حفظتني، وعلى مضيعها: ضيعك الله كما ضيعتني، فلا إله إلا الله كم من ضائع ساقط لا قيمة له بتضييع الصلاة ودعائها عليه!
إن الديك ليوقظ للصلاة ويدعو لها ويؤذن، بل أمرنا إذا سمعنا صوته أن نسأل الله من فضله لأنه رأى ملكاً، فلا إله إلا الله، كم من ديك هو خير من إنسان عند الله، وهو يأكله، فكم من مأكول هو خير من آكله! وأنت تعلم هذا، أقبل ببصيرتك لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم كما ثبت في صحيح الجامع يوم قال: {إن الله أذن لي أن أحدث عن ديك قد مرقت رجلاه الأرض وعنقه مثنية تحت العرش وهو يقول: سبحانك ما أعظمك، سبحانك ما أعظمك} فهلا عظمَّت الله وقدَّرته حق قدره فانقدت واستسلمت وأخلصت وأنبت وانسجمت مع هذا الكون صغيره وكبيره فكان حالك ومقالك: سبحانك ما أعظمك!
سبحان من لو سجدنا بالعيون له على شبا الشوك والمحمى من الإبر
لم نبلغ العشر من معشار نعمته ولا العشير ولا عشراً من العشر
أحبتي في الله: الأدلة على وحدانية الله، وأنه المستحق للعبادة لا شريك له كثيرة لا تعد ولا تحصى ولعل فيما تقدم ما يكفي لأولي الأحلام والنهى.(16/22)
الحجب المانعة من معرفة الله
وبعد هذا كله أخي لعلك تقول: فما الذي يحول بين الناس وبين العلم بالله وأن يوحدوه، ويقدروه حق قدره لا إله إلا هو، فيعظموا حرماته ويحفظوا فرائضه، ويقفوا عند حدوده ويعظموا شعائره؟
و
الجواب
أن هناك حجباً كثيفة، تحول بين البعض وبين العلم بالله، والإيمان به وتعظيمه وهي مما كسبت أيدي الناس ولا ريب.(16/23)
حجاب الغفلة عن الله
وأول هذه الحجب هي: الغفلة عن الله التي تصيب العقل بالشلل عن المعرفة، والقلب بالعطل عن الإدراك.
فهمُّ أهل الغفلة ملء بطونهم وإشباع شهواتهم، والتمتع بما تتمتع به الأنعام: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:17].(16/24)
حجاب التقليد
وثاني هذه الحجب: التقليد.
والتقليد شر مستطيل يفقد الإنسان شخصيته، فتجد صاحبه يفكر بعقل غيره، ويسمع بأذن غيره، وينطق من فيَّ غيره، ذيل إمعة: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170] فما العاقبة؟ {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:166 - 167].(16/25)
حجاب المكابرة والعناد
وحجاب ثالث: أكثف وأغلظ ألا هو المكابرة والعناد، والعزة بالإثم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} [البقرة:20].
هناك نوعية من الناس رخيصة يجادلون ليشوشوا لا ليفهموا، يلاججون ليغلبوا لا ليستمعوا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ} [غافر:69] المكابر والمعاند لا يقنعه دليل: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأنعام:7] {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر:14 - 15] {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} [الأنعام:25] {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} [الأعراف:18] {وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:10].(16/26)
حجاب الشهوات والشبهات
ومن الحجب: الشهوات والشبهات والهوى والوساوس والخطرات وغيرها كثير وكثير عافنا الله وإياكم أيها المسلمون.
أحبتي في الله: الوحي المعصوم، وصفحات الكون المنظوم، مقنعة لمن يريد أن يقتنع، هادية لمن يريد أن يهتدي، مذكية لمن يريد أن يرتقي، إنهما كتاب ميسور، وآخر منظور، من تدبرهما وجد فيهما إجابات جليلة، ترفع يقينه، وتشفي عليله، وتحيي فؤاده، وتروي غليله، وتجرد توحيده، وتوقظ ضميره، وتدحض شبهته، وتطفئ شهوته، وترد الشيطان إلى كيد الوسوسة.
تأمل خطوب الكائنات فإنها من الملك الأعلى إليك رسائل
وقد خط فيها لو تأملت خطها ألا كل شيء ما خلا الله باطل
تشير بإثبات الصفات لربها فصامتها يهدي ومن هو قائل
ختاماً: فإنه لا يوصف بالعلم حقاً إلا من كان عالماً بالله، متلبساً بخشية الله، وعالماً بالطريق الموصل إلى الله، متعبداً إلى الله بمقتضى ذلك العلم، متعرفاً على ما يحب الله فيلزمه وعلى ما يبغض الله فيجتنبه، وحاله: ربنا أنت أحق من عبد، وأحق من ذكر، وأحق من حمد، وأولى من شكر، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، كل شيء دال عليك، ومرشد إليك، لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك، نسألك بكل اسم هو لك، أن تلزمنا عتبة العبودية، وترزقنا السعادة الأبدية، وأن تكشف عنا وعن إخواننا كل كرب وبلية، اللهم يا من ذلت له جميع الرقاب، وجرى بأمره السحاب، كن لنا وامكر لنا، وانصرنا وثبتنا وإخواننا بالحال والمآل، وألهمنا التزود بالتقوى قبل حلول التراب، وأرشدنا عن السؤال إلى صحيح الجواب.
وهب لشيبنا قوى الشباب، وارزقنا عمارة القلوب الخراب يا كريم يا وهاب.
يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! نسألك قوة في دين، وحزماً في لين، وإيماناً في يقين، اللهم كن للمستضعفين والمظلومين، اللهم كن للمستضعفين والمظلومين، اللهم أزل عنهم العناء، واكشف عنهم الضر والبلاء، اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء، يا سميع الدعاء.
اللهم من كان من أمة محمد على غير الحق وهو يظن أنه على الحق، فرده إلى الحق رداً جميلاً حتى يكون من أهل الحق، آمين يا رب العالمين.
والحمد لله الذي هدانا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
حمداً لك اللهم أقولها في البؤس والإيسار والإعسار
وعلى الرسول الهاشمي وآله ليلي أصلي دائباً ونهاري
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.(16/27)
اقصد البحر وخل القنوات
تمر الأمة الإسلامية بفترة عصيبة من الفتن المتداخلة التي قد تفتن المسلم في دينه، كما أنها تعيش صحوة إسلامية مباركة تحدو الناس صوب المنهل العذب، ولكن في خضم الأحداث الجارية، والفتن المتشابكة قد يختل السير، وتضل عن الطريق بعض العير، وهذه المحاضرة هي توجيه للأمة الإسلامية، وأبناء الصحوة خاصة بمواصلة السير في الطريق الصحيح والاجتهاد لذلك.(17/1)
اختلاط المشارب والغبش الحاصل في الطريق
الحمد لله الذي نشر بقدرته البشر، وصرَّف بحكمته وقدَّر، وابتعث محمداً إلى كافة أهل البدو والحضر، فأحلَّ وحرَّم وأباح وحظر؛ لا يغيب عن بصره وسمعه دبيب النمل في الليل إذا سرى، يعلم السرَّ وأَخفى، ويسمع أنين المضطَّر ويرى، لا يَعزُب عن علمه مثقال ذرةٍ في الأَرض ولا في السَّما.
اصطفى آدم ثم تاب عليه وهدى، وابتعث نوحاً فبنى الفلك وسرى، ونَجَّى الخليل من النار فصار حرُّها ثرى، ثمَّ ابتلاه بذبحِ ولده فأدهش بصبره الورى.
أَحْمده ما قُطِع نهار بسير وليل بسُرى، أحمده حمداً يدوم ما هبَّت جنوب وصَبَا.
وأصلِّي وأُسلِّم على رسول الله محمد، أشرف الخلق عَجماً وعَرباً، المبعوث في أم القرى، صلوات الله عليه وسلامه ما تحركت الأَلْسن والشِّفا، وعلى أبي بكر الذي أنفق المال وبذل النفس وصاحبه في الدار والغار بلا مِرَا: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} [التوبة:40] وعلى عمر الذي من هيبته ولَّى الشَّيطان وهربا، من أغَصَّ كسرى وقيصر بالرِّيق وما وَنَى، وعلى عثمان مجهز جيش العُسْرة زوجُ ابنتيه ما كان حديثاً يفترى، حيَّته الشهادة فقال: مرحباً، وعلى علي أَسد الشرى، ما فُلَّ سيف شجاعته قط ولا نبا، وعلى جميع الأَهل والآل والأصحاب والأتباع ما تعاقب صبح ومسا:
صلَّى الإلهُ ومنْ يَحُف بِعْرشه والطَّيبُون على المُبَارك أحمَدا
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أحبتي في الله: إنَّ الإسلام عقيدة استعلاء، تبعث في روح المسلم إحساس العزة من غير كِبْر، ورُوح الثِّقة في غير اغترار، وشعور الاطمئنان في غير تَوَاكل، عقيدة تبعث فيه روح الاستهانة بالمظاهر الجوفاء، والاهتمام بالحقائق الناصعة البيضاء، عقيدةٌ تعلمه كيف يتغلب على شهوات النفس ومألوفات الحياة في سبيل الله، تُعلمه نِسيان حظوظ النَّفس في سبيل إعلاء دين الله، تُعلمه كيف يستقبل الشدائد في سبيل الله بثغرٍ باسمٍ، ونفسٍ هانِئة مطمئنة، عقيدة تُشعر المؤمن بالتَبِعة المُلقاة على كاهله، تبعة الدعوة للبشرية الضَّالة، لانتشالها من الضَّلالة إلى الهداية، وإخراجها من الظُّلمات إلى النور: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران:110] فسبحان من قدَّمنا على الناس، وسقانا من القرآن أروى كاس، وجعل نبينا أفضل نبي رعى وساس، وأنعم علينا بعلو الهمة وقال لنا: {كُنْتُم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110].
مَنْ تأمل وتدبر ونظر؛ وجد الأمة قد مرت بها فترات خَيْرِية، كانت فيها هادية الناس إلى باريها، قائدة رائدة:
كتيبةٌ زيَّنها مَولاها لا كَهْلها هُدَّ ولا فَتَاها
وفي العُصور المُتأَخرة تمرُّ بالأمة فترة عصيبة كادت تفقد فيها هويتها؛ لتصبح تابعةً مسخاً إمَّعة، فإذا المسلم يُجِيل نظره في رُقعة العالم الفسيح، فيرتَّد بصره خاسئاً وهو حَسِير، يوم يرى جموعاً تسير في دروب متشابكة متعرجة في ليل بهيم، تَسِير وتَسِير، ويُضْنيها المسير، ثم لا تصل إلى البحر الذي تريد، تُحدِّد أهدافاً، وتقصد غاياتٍ، ولمَّا تظن أنْها قاربت أهدافها، تُفاجأ بأن الأهداف سراب خادع، ويُطمئنك أنه في وسط تلك الدروب ترى طريقاً واحداً مستقيماً، لا ينحرف يميناً ولا شمالاً، تهب عليه الأَعاصير، تكاد معالمه تَنْدثر، فإذا بأقوام يقومون بكشف الرِّمال عنه من جديد، يُوضحون معالمه، ويجددون رسومه، يقلون على هذا الطريق ويكثرون، لكنه لا يكاد يخلو من سائر يُقيضه الله بمَنِّه وكرمه؛ ليرد على الأمة في ذاك الطريق إيمانها بدينها، ويصحح مسارها، ويُعِيد لها ثِقَتها بطريقها؛ لتفهم رسالتها؛ من مُصْلحين وأَئِمة يتعاقبون فيها إلى يومنا هذا كـ ابن عبد الوهاب رحمه الله وغيره ممن يريدون العزيز الوهاب، يُثْبتون أن الأمة كالمطر لا يُدرى أوله خير أم آخره، ولذا صَوَّت حادي المصلحين في ظلام الليل البهيم على ذاك الطريق:
إنَّ هذا العصرَ ليلٌ فأَنِر أيُّها المسلمُ ليلَ الحائرين
وسَفِينُ الحقِ في لُجِّ الهَوى لا يُرى غيرَك ربَّانَ السَّفِين
وتجاوبت بالصَّدى الأرجاء، وأقبل الناس على دين الله من كل حَدْب وصَوب على ذاك الطريق، والحمد لله رب الأرض والسماء؛ فما من أرض إلا وقد وصلتها الصحوة المباركة، رغم الكبت والتضليل والحصار، فالهُتاف يملأ الأنحاء، ويشق عنان السَّماء: أنَّا لا نريد غير الإسلام عقيدةً وشريعةً ومنهجاً:
وهاتف الكل أن الله غايتنا فنحن لا نبتغي جاهاً وسلطاناً
وإنما نبتغي للنَّاس قاطبةً خيراً ومنفعةً دوماً وإحساناً
هُتاف يستحث كل مسلم غيور، أو مُتَبلدٍ ويُذَكِّره بأن مسئوليته ضخمةٌ، وأنه يملك بصيرةً تجعله جديراً أن يكون له نصيب من التوجيه والتربية والحُداء للركب السائر على ذاك الطريق.
هُتافٌ يصرخ: الزَّمن يُسرع، ولا انتظار لبطيءٍ أو متثاقلٍ أو قاعدٍ، ومَنْ يَنْفر مع بزوغ الفجر فسيسبق من توقظه الشمس؛ لأن الطريق سيزدحم.(17/2)
الفتور في التربية مما حرف البعض عن الهدف
وبدأت الصحوة تُؤتي ثِمَارها والحمد لله رب العالمين؛ لكنه نظراً للفتور والتقاعس والتباطؤ في التوجيه والتربية، والقيام بالمسئولية، وغيرها من العوامل تجاه هذه الجموع، ظهر في الأُفُقِ سَحَائب تخاذلٍ وضَعف، أو غُلُوٍ وتنطع على نفس الطريق.
وبعبارةٍ أدق: ظهر تعلق بالأطراف والشواطئ والقنوات، وهُجِرت لُجة البحر والعمق والخِضَم، فإذا أنت ترى من تعلق بطرف أعلى يكاد يسقط فتُدق عنقه، وما هو أعز من عنقه، جاوز الحد؛ هلك ثم هلك.
وآخَرُ في الطرف الأدنى يحتضر لا يكاد يعرف هويته، يحمل اسم الإسلام ويجهل كُنْهه، قد ربط الوهم أقدامه المسرعة، وطوى أشرعته المبسوطة، وثقلت به أجنحته المُرفرفة، يَنْدب حظه وكفى.
وآخَر راكب متجه نحو هدفه، فلمَّا رأى السَّراب أراق ماءه؛ ظناً منه أنه بلغ هدفه، فلما جاءه لم يجده شيئاً، ثم ندم حيث لم ينفعه الندم.
وآَخر اتَّخذ الوسائل غاياتٍ؛ فبقى في القنوات وهجر لُجَّة البحر.
وآخر اكتفى بالكلام، وركل العطاء والعمل.
وآخر هجر الكيف واهتم بالكم، عمل غير النَّافع وترك النافع، عمل غير المُهم وترك المهم والأهم، ما حاله إلا كمن صنع ساقية، لكنِّها لا تسقى الزرع، بل تأخذ الماء من النهر فترده في النهر، تَعَجَّب النَّاس من فعله الأحمق! قالوا: ما هذا السَّفه؟! تعمل ولا نتيجة لعملك، تأخذ الماء من النهر وتعيده إلى النهر؟! قال: يكفيني من السَّاقية نَعِيْرُها -يكفيه صوتها-.
وآخر رضيَ بالزرع، واتبع أذناب البقر، وترك الجهاد، وَرَهَقَه الذُّل، ومع ذلك لم يَجْنِ من الزرع الثمر، ولم يأخذ من البقر اللبن، بل بقيَ عالة يتكفَّف ويسأل، ويُنشد مع ذلك:
أَرى ماءً وبي عطشٌ شديد ولكنْ لا سبيلَ إلى الوُرودِ
وآخر اتَّضح طريقه، وحُددت غايته، وهُيئت وسيلته، وأصابه في وسط الطريق همٌ دوَّخه، غبشٌ جاءه في وسط الطريق استولى عليه، فهو أحوج ما يكون لحادٍ يحدوه إلى البحر.
لهذا كله كان لِزاماً على كل مسلم يملك أدنى صوت للتوجيه؛ أن يرفع الأذان ليخرق الآذان، علَّه يصل إلى الجنان، ليرد ذلك المتجاوز، ويُحيي ويوقظ ذاك الرمِّة الغافل، ويُطلق الأقدام، ويبسط الأشرعة، ومعه تُرفرف الأجنحة ليُهتم بالنافع الأهم، ويهجر الكم.
من هذا المنطلق كانت هذه الكلمات بعنوان: اقصد البحر وخلِ القنوات.(17/3)
الثمرة المرجوة من هذا المقصد
اقصد البحر وخلِّ القنوات: هي دعوة للعمل بشرع الله وله، من غير ما زيادة ولا نقصان، مع هجرٍ لقنوات التَّفلت والتَّميع والتَّجاوز، بل وسطية في اتزان؛ أوجهها لنفسي أولاً، وللمسلمين ثانياً؛ علَّها تُحرك القلوب إلى علام الغيوب، وتحدو النفوس للعمل لما يرضي الملك القدوس.
هي مع ذلك صرخةٌ وحُداء؛ صرخة تهتف: أن أغلق باب الدعة والسكون والراحة، وافتح على المصراعين باب العمل بهمة وطُموح في اتزان وبصيرةٍ، وانْزِل السَّاحة، والأهم فالأهم تكن الراحة.
أن أغلق باب الكرى، وافتح باب النَّصب والعمل، رقياً مشروعاً مع أولي النُّهى، أَمِط عن رأسك قناع الغافلين، ولا تتجاوز الحد في المشروع تكن مع الهالكين، سِر بخُطى ثابتة في الميدان، ولا تَغربَنَّ عليك الشمس وأنت لازلت في تواكل أو توان، سَدِّد وقارب، فما النَّاس -وأنا وأنت منهم- إلا كإبل مائة هُزَال مترنحة مسترخية، ولا تكاد تجد فيها راحلة.
يثْقلون الأرضَ من كثرتهم ثمَّ لا يُغْنون في أمرٍ جَلل
ومُختار القليل أقل منه!
غريب -يا أيُّها الأحبة- غريب!
أتُختار الحياض وماؤها غُثاء وبحر الدين تصفو مناهله؟
فِرَّ في اعتدال إلى الله، واصبر على اللأواء والموعد الله.
لا لؤلؤ البحرِ ولا أصدافه إلا وراء الهَوْل مِنْ عُبابه
وهي كذلك -أعني هذه الكلمات- حُداء سريع لجميع الأطراف، أطوِّف فيه تطوافاً حثيثاً كأشواط الرّمْل في طواف القدوم أُرَدد فيها:
أيُّها الساعي لكحْل المُقَلِ غافلاً عمَّا به من كَحَلِ
اسْمعْ وعِ لا تَغْفلنْ وسَبباً لا تُهْمِلَنْ
وأخْلِصْ اتْبَع تَنْجُون مَع الدَّليل تَجْرِيَن
واثْبُت ودفعاً للثَّمن ميِّز برفقٍ أَجِبَن
وحقِ ذي حقّ أَعْطِين وفاضلَ الأَمر اقْصدن
وخَيْر خَيْرين اتَّبَعن وشَر شَرَّين ادْفَعَن
وكنْ ذكياً واتَّزِن بِكثْرةٍ لا تُعْجبنْ
وبعد هذا البحر فاقْـ صدْ وقناةً خَلِّيِنْ
ذلك -يعلم الله مني- جهد المقل، وقوة الضعيف الذي لا يكاد يمضي حتى يَكِل، وما أنا وهذا الأمر وأين ما أقع منه إي والله؟! إن أنا إلا رجل يقرأ ليجمع، ويكتب ليقرأ ما وسعه أن يتفرج ويندب، فإن أصاب فلكم ولا همّ، وإن أخطأ فعليه وخلاكم ذمٌّ.
أعوذ بالله من فتنة القول وزوره، وخَطَل الرَّأي وغروره.
اللهم تجاوز عن زلاتي وجرأتي، ولا تجعل حظِّي من ديني لفظي، وارْزقني الصِّدق في نيَّتِي وقولي وعملي.
اللهم إنِّي أعوذ بك من الفقر إلا إليك، ومن الذُّل إلا لك، ومن الخوف إلا منك.
اللهم إني أعوذ بك أن أقول زوراً، أو أغشى فجوراً، أو أن أكون بك مغروراً.
اللهم إني أبرأ إليك من حولي وقوتي، وألجأ إلى حولك وقوتك، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
اللهمَّ لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلاً.(17/4)
أهمية الإخلاص والمتابعة في السير إلى الله
فتى الإسلام:
اقصد البحر بأسباب وخض هول العُباب
إيَّاك والتواكل؛ فإنه التخاذل وليس بالتوكل.
لكل شيءٍ سبب
قدره المقتدر
المالك المنفرد
فاطرق بحزم سبباً
وابذر بجد حباً
وثَمراً لا تنتظر
نتيجةً لا تملكن
فالأمر للإله
الواحد القهار
لا تكن -أخي- كمن يريد أن يزرع اليوم ولا أرض ليحصد غداً، ويغرس في الصباح ولا بذر، ليجني في المساء، ذاك محال وخلاف سنة الله رب الأرض والسماء.
أتَطمعُ أنْ تَرى غَرْساً وتَهْفُو إلى ثَمَراته قَبْل الغِرَاس
محال؛ إن الله عز وجل كان قادراً أن ينصر نوحاً صلوات الله وسلامه عليه ومن معه من أول الأمر، لكنه تركه يأخذ بالسبب، يدعو ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، ألف سنة إلا خمسين عاماً، ثم نجَّاه الله بسفينة صنعها بيديه، ولم تنزل له من السماء، سُنة الله، ولن تجد لسنه الله تبديلاً.
فمَا نَيْلُ المَطَالِبِ بالتَّمنِّي ولَكنْ القِ دَلوَك فِي الدِّلاءِ
أحبتي: إن طالب علم يريد حفظ كتاب الله، ولمَّا ينتظم في حلقة تحفيظ، ولم يفتح المصحف، إنما يطلب المحال، ويسخر مع ذلك من نفسه.
إن طالباً يريد العلم، ولم يثنِ ركبته عند عالم، ولم يفتح كتاباً، ولم يجعل للعلم وقتاً فرضاً، لا يمكن أن يحوي علماً، أو أن ينتظم في سلك طلاب العلم طالباً، إنما مثله كرجل له بستان مثمر مورق يجاور نهراً، بينه وبين النهر كف من تراب، وذبل البستان، وجفت الثمار، وسقطت الأوراق؛ كل ذلك من الظمأ، فقام الرجل بدلاً من أن يزيل الكف من التراب ليصل ماء النهر إلى البستان، قام ليتوضأ من النهر، ويصلى صلاة الاستسقاء، ويدعو الله أن يغيث بستانه.
تواكل وخَور وعجز وضعف!
هل يطير طائر بلا ريش؟ هل السماء بالذهب تمطر؟
لا.
كل شيء بسبب، ومن برز بلا سبب قعد دون الرجال حسيراً مغموراً، وقعد عن نيل المعالي ملوماً محسوراً، وإذا أدركته المنية مضى وكأن لم يكن شيئاً مذكوراً.
لو كَان هَذَا العِلمُ يَحصلُ بالمُنَى مَا كَان يَبقَى في البَرِيَّةِ جَاهِل
فاعقل.
توكل.
بادر.
وانهض إلى المعالي واطلب ولا تبالي
واحذر من التواني والعيش في الأماني
واقصد البحر بأسباب ودع عنك سراب القنوات!(17/5)
أثر الإخلاص والمتابعة في الطريق إلى الله
يا فتى الإسلام:
إنْ كُنتَ تَطلبُ لُجَّة الأعمَاقِ أَخلصْ أصِب حلِّق بغيرِ تَوانٍ
جناحان لا ينفكان: إخلاص لله، واتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لا تحليق بواحد منهما: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [الملك:2].
منْ عمل بدونهما فهو من المنقطعين الهالكين، ومن عمل بهما وصال لم ترد صولته، ومن تكلم بهما علت على الخصوم كلمته.
هما روح الأعمال، ومحك الأحوال في أيام الفتن والمحن، لا يثبت إلا أصحابهما المخلصون العاملون المتبعون؛ يُشرَّفون بنصر الله وتمكينه لهم في الأرض، ليجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين؛ ولذا سئل بعضهم عن كلام سمعه من متكلم: ما حجم ذاك الكلام؟ فقال: والله ما فهمت منه شيئاً، إلا أني رأيت لكلامه صولة ليست بصولة مبطل.
فوالله! ما مُنح العبد منحة أفضل من منحة القول الصادق الثابت.
تقول بعض الروايات: إن أحد جواسيس الفرنجة، توغل داخل بلاد المسلمين في الأندلس، فرأى طفلاً تحت شجرة يبكي، فسأله: ما يبكيك يا بني؟ قال: لأنني لم أستطع إصابة الهدف الذي حُدِّد لي؛ وهو صيد العصفور فوق الشجرة.
فقال الجاسوس: هوِّن عليك، وعاود الكرَّة أخرى.
فقال الطفل المسلم: إن الذي يبكيني أعمق من صيد العصفور؛ يبكيني أن قلت في نفسي: إن لم أستطع صيد العصفور بسهم واحد، فكيف أستطيع أن أقتل عدوي وعدو الله غداً؟
دُهش الجاسوس، وبلَّغ الواقعة إلى ملك الفرنجة، فقال ملكهم: الرأي عندي ألا تعترضوهم؛ فإنهم كالسيل، يحمل من يُصادره، ولهم نيَّات تغني عن كثرة العدد، وقلوب تغني عن حصانة الدروع، وواحد كألف.
وصدق وهو كذوب.
فَكَمْ زكِمتْ أُنوفُ الفِسقِ دَوماً بعِطرِ القَولِ مِن فَمِ صَادقِينَا(17/6)
طلب وجه الله في العمل مهما كلف من تبعات
يا طالب العلم! ويا قاصد بحره! انصب وجهك لله، واملأ قلبك بحب الله وخشية الله، اجعل همك مرضاة الله لا مرضاة عباد الله؛ فإنك قد تُضطر إلى إغضاب عباد الله في سبيل مرضاة الله، ولا ضير.
إن تفعل ذلك، يكفك الله مئونة الخلق.
زِن عملك بميزان مرضاة الله، فما رجحت به كفة الميزان فاقبله وارتضه، وما شالت به الكفة فأعرض عنه واجفه.
عندها تستقيم المقاييس، ويتضح أمام العين الطريق القصد، والسبيل القويم؛ في خوض لجج البحر، فلن تقع بعدها -بإذن الله- في تلك المتناقضات المضحكة السخيفة، كأن تُرى تطيع الله في أمر، وتعصيه في آخر، إذ أنه لا مجال للتناقضات ما دامت المنطلقات صحيحة، والمنهج بيناً، والمقاييس ثابتة، مرضاة الله أولاً في اتباع وآخراً.
لا لَكَ الدُّنيَا ولا أنْتَ لَها فَاجعَل الهمَّينِ همّاً وَاحِدَا
إني لأربأ بك وتربأ بنفسك -يا قاصد البحر- أن تُرى في المسجد مصلياً خاشعاً، ثم تُرى في السوق مرابِياً أو ترى في المسجد خاشعاً، ثم تُرى في البيت والشارع والمدرسة والمنتدى غير مُحكِّم لشرع الله في نفسك أو أهلك أو ولدك ومن تعول.
كيف يليق بقاصد البحر أن ينظم مركبه وبيته والحياة من حوله، ثم يترك الفوضى في قلبه ويقصد لُجج البحر؟!
تَرجُو النَّجاةَ ولمْ تسلُكْ مَسالِكَها إنَّ السفينةَ لا تجرِي على اليَبَسِ
{إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم}.
وايم الله لو مرضت قلوبكم، وصحت أجسامكم، لكنتم أهون على الله من الجعلان.
فكَيف يَصنعُ مَنْ أقصاه خَالقه لا لَيسَ ينفعُه طِبُّ الأطبَّاء
مَنْ غصَّ دَاوَى بشُربِ المَاء غُصَّتَه فَكيفَ يَصنَعُ مَنْ قَد غَصَّ بالمَاءِ
إنَّ الفيصل استقامة السر: متى استقام باطنك استقامت لك الأمور، وصدَّق عندها الفعل القول، والعلانية السر، والمشهد المغيب، فإذا أنت بسَّام بالنهار، بكَّاء بالليل، كاللؤلؤة أينما كانت فحسنها معها، أو كسبيكة الذهب إن نفخت عليها النار احمرت، وإن وزنتها لم تنقص.
الحال ينطق:
دع الذي يفنى لما هو باقٍ(17/7)
التخلص من حب المدح والثناء سبب للوصول إلى الله
يا قاصد البحر: إني أُعيذك بالله أن تكون في نفسك عظيماً، وعند الله وضيعاً حقيراً، وأن تتزين في طريقك إلى البحر بما ليس فيك، ثم أعيذك أخرى أن تتصور أن تجمع في قلبك الإخلاص مع حب المدح والثناء؛ فإنهما ضدان لا يجتمعان أبداً.
اسمع إلى ابن القيم رحمه الله يوم يقول: لا يجتمع الإخلاص في القلب مع حب المدح والثناء والطمع فيما عند الناس، إلا كما يجتمع الماء والنار، والضب والحوت.
فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص، فأقبل على الطمع فاذبحه بسكين اليأس، وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الآخرة في الدنيا، فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء، سَهُل عليك الإخلاص.
فإن قلت: وما الذي يُسهل علىّ ذبح الطمع والزهد في الثناء؟
قلت: -أي ابن القيم - أما ذبح الطمع فيسهله عليك علمك يقيناً أنه ليس شيئاً يُطمع فيه إلا وبيد الله خزائنه لا يملكها غيره.
وصدق ابن القيم رحمه الله؛ فالقناعة بما يكفي وترك التطلع إلى الفضول أصل الأصول، والعز ألذُّ من كل لذة، والخروج عن رقَّة المِنن ولو بسفِّ التراب أفضل.
وهل عِزٌّ أعز من القناعة؟
سُئل أحدهم عن سر قوة الإمام الحسن البصري رحمه الله: فقال في صراحة: احتجنا إلى دينه، واستغنى عن دنيانا.
مُرُّ الحياةِ لمَن يريدُ كَرامَةً حُلوٌ ويُفلِّحُ مَن يريدُ فَلاحاً
أما الزهد في الثناء؛ فيسهله عليك علمك أن ليس أحد ينفع مدحه ويزين، ويضر ذمه ويشين، إلا الله وحده؛ فازهد في مدح من لا يزينك مدحه، وفي ذم من لا يشينك ذمه، وارغب في مدح من كل الزين في مدحه، وكل الشين في ذمه، ولن تقدر على ذلك إلا بالصبر واليقين، فمتى فقدت الصبر واليقين، كنت كمن أراد السفر في البحر من غير مركب.(17/8)
الثبات مع الصدق حياة للأعمال وخلود للأقوال
يا قاصد البحر: حلِّق، ثم خُض لُجة اليم بقلب مخلص كالجبل لا يتزحزح أبداً، أو بقلب كالنخلة أصلها ثابت وتهزها الريح، وإياك أن يكون قلبك الثالث كالريشة:
أينما الريح تميِّلها تَمِل
وجاهد فبالمجاهدة تُوفَّق وتُسدد
وَإذَا الأَرضُ أَجدَبتْ ذَاتَ يَومٍ فَهْيَ تَبغِي مِن زَارِعِيها اجْتِهَادا
يقول مالك بن دينار: إن الصدق يبدو في القلب ضعيفاً كما يبدو نبات النخلة، يبدو غصناً واحداً، فتُسقى فينتشر، ثم تُسقى فينتشر، حتى يكون لها أصل أصيل عظيم يوطأ، وظل يُستظل به، وثمرة يؤكل منها.
كذلك الصدق مع الله، يبدو في القلب ضعيفا، فيتفقَّده صاحبه ويزيده الله، ويتفقده ويزيده الله، حتى يجعله الله بركة على نفسه، فيكون كلامه دواء للخاطئين، ليحيي الله به الفئام من الناس وصاحبه لا يعلم بذلك.
يروى أن قاصاً كان بقرب محمد بن واسع رحمة الله عليه، وقد كان يقول القاص: ما لي لا أرى القلوب لا تخشع، والعيون لا تدمع، والجلود لا تقشعر؟
فقال ابن واسع: ما أرى القوم أوتوا إلا من قِبلك، إن الذكر إذا خرج من القلب وقع على القلب.
يكفيك أن أقواماً تحيا القلوب بذكرهم، ناهيك عن كلامهم، وأن أقواماً أحياء تقسو القلوب بل تموت بذكرهم، ناهيك عن كلامهم.
نعم -والله- يا من قصدت البحر، كم من كلمات ولدت ميتة، ومن ثَمَّ جُعلت هباء مع أصحابها لتكون من أصحاب القبور، وكم من كلمات ولدت حية، وبقيت فيها الحياة مع حياة أصحابها وبعد مماتهم، أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
بَينَ الجَوَانِحِ فِي الأَعمَاقِ سُكنَاهَا فَكيفَ تُنَسى ومَن فِي النَّاسِ يَنسَاهَا
الأُذْنُ سَامِعَةٌ وَالعَينُ دَامِعَةٌ وَالرُّوحُ خَاشِعَةٌ والقَلبُ يَهوَاهَا
والسر؛ إنه الإخلاص والصدق يمنح الكلمات روحاً، فتبقى فيها الحياة أبداً سرمداً، أو ينعدم الصدق والإخلاص ويضمحل، فإذا بالكلمات لا تهز أحياءً، ولا تنفع موتى، نَوحٌ مستأجرٌ بلا روح، وليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجَرة.
لا يعرف الشَّوق إلا مَنْ يُكَابده ولا الصَّبابة إلا مَنْ يُعانِيها(17/9)
حقيقة الإخلاص
أخي طالب العلم: اقصد البحر وحَلِّق، ثم خُض، وكن صحيحاً سليماً في سرك، تكن فصيحاً في علانيتك، فإنما صلاح العمل بصلاح القلب، وصلاح القلب بصلاح النية، ومن صَفَّى صُفِّي له، ومن خلَّط خُلِّط عليه، وإنما يُكال للعبد كما كال، ومن صحت بدايته صحت نهايته، وقد يبلغ الرجل بنيته ما لم يبلغ بعمله.
ثم اعلم أن الإخلاص لا يعني الانقطاع عن العمل خشية الرياء كما يفهم البعض، لكن الإخلاص أن تعرف لله قدره، فلا تصرف العمل إلا له وحده لا شريك له، سبحانه وبحمده.
ثم اعلم بعد ذلك أن ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما.
وعلامته أن تكون في الخَلوة كالجَلوة، بل خير من ذلك، ضحك في الملا، وبكاء في الخلا.
فاعقد مع الله عقداً -لا يكون للشيطان فيه نصيب- على صلاح النية والاتباع، وانوِ الخير؛ فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير، وعامل الله؛ فما خاب من عامله، واتقِ الله واقصد من ينفعك قصده، ولا تتشاغل بمدح من لا ينفعك مدحه، وأحسب أن عينك عين موفق، عين فرس يرى في الظلمة كما يرى في النور، والصدق منار، ومن لا يخلص في عِثَار، والعاقبة العار والنار.
فكيف يبلغ في دُنياه غايَته مَنْ تَسْتوي عنده الظلماءُ والنورُ
لا لا يا قيود الأرض؛ صفقة غبن لمن قصد البحر أن يرضى بمدح أو ثناء عن الفردوس الأعلى، لا يُحصَّل عظيم خطير كالإخلاص إلا بخطر، والدرّ في عُقر اليم، والراحة عند أول قدم توضع في الجنة، ومن أراد أن يعلم ما له عند الله؛ فليعلم ولينظر ما لله عنده، ومن لم تبكِ عليه الدنيا لم تضحك له الآخرة.
وصلاحُ الأَجْساد سهلٌ ولكن في صَلاح القلوبِ يعيا الطبيبُ
والمجاهدة توفيق: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69].
فاقصد البحر بإخلاص وصواب، وخلِّ القنوات.(17/10)
علو الهمة
يا فتى الإسلام: أما وقد أخذت بالسبب، وحلقت بجناحي الإخلاص والمتابعة تقصد البحر، فألحقْ ذلك بهمَّةٍ عالية؛ فإن الهمة طريق إلى القمة، بادر ولا تعجل، أسرع ولا تضجر، أقبل ولا إلى الخلف تنظر.
إن الطريق إلى الله واضحة مستقيمة، ما يتردد ولا يتلكأ فيها إلا الذي لا يعرفها، أو يعرفها ويتقي متاعبها، والطرق شتى، طريق الحق واحدة:
والسالكون طريق الحق أفذاذ.
فبادر وسر إلى الله بهمِّة الحازم، فإنما هو شبر بذارع، وذراع بباع، ومشي بهرولة.
كما في الحديث القدسي الصحيح: {وإن تقرب إليَّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشى أتيته هرولة}.
همٌ بالحسنة حسنة، وهم بالسيئة بلا عمل لها حسنة، حسنة بعشر وسيئة بمثلها، وفي الحديث القدسي الصحيح: {ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه}، لا يهلك إلا هالك، ولا يُحرم إلا محروم.
إذا كنتَ في الدُنيا عن الخيرِ عاجزاً فما أنت في يوم القيامةِ صانعُ
أين المبادرون؟ أين أصحاب الهمم؟ إنما هي خمس أو عشر سنين فحسب.
يا نفس ما هو إلا صبرُ أيامِ كأن مدَّتها أضْغاثُ أحلامِ
إن عاش الرجل ستين سنة، نام الليل فذهب نصفها ثلاثون سنة نوماً، ونام ثلث النهار راحة وقيلولة، فذهب ثلثاها؛ أربعون سنة نوماً، وبقي عشرون سنة، منها خمسة عشر سنة قبل البلوغ والتكليف، فبقي العمر الحقيقي لابن الستين، خمس أو عشر سنوات، لله ما أقلها! ذاك لابن الستين، فكيف بابن الثلاثين والعشرين؟!
يا نفسُ قومِي فقد نام الوَرى إن تصنعي الخيرَ فَذو العَرْش يَرى
وأَنتِ يا عينُ دَعِي عنك الكَرى عند الصباح يَحْمد القومُ السرى(17/11)
حمل النفس على الجد محمود العواقب
النَفْس.
ما النَفْس؟!
إذا عودتها البَطالة اعتادت، وإنْ عودَّتها العمل والجد والسهر سهرت وجدَّت وعملت.
وقل مَنْ جَدَّ في أمر تطلبه واستصحب الصَّبر إلا فاز بالظَّفرِ
ولله الهمم ما أعجب شأنها! ما أعجبه لمتأمل! وما أشد تفاوتها! همة متعلقة بالعرش، وهمة حائمة حول الأنتان والحُش، وبتفاوت الهمم تتفاوت الأعمال والدرجات.
ومَا كلُّ من جَر العَبَاءة سيداً يُخْشى ولا كلُّ المَظاهر تبهرُ
إني لأسأل: أين تعب عالم دَرس العلم خمسين سنة؟!
ذهب التعب وحصل العلم.
وأين لذة البطال خمسين سنة؟!
ذهبت الراحة وبقي الندم.
اتباع الهوى، وما اتباع الهوى؟!
يُغْلق على العبد أبواب التوفيق، ويفتح عليه أبواب الخذلان: {وأمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41] وأما من أطاع الهوى فوالله لقد هوى، ولا يزال الهوى يُمسك بتلابيب النفس، ويملك عليها أقطارها، حتى يصير لها إلهاً، تعطيه معنى الطاعة والعبادة، وتصير له عبداً تعطيه ما هو أكثر من الطاعة: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللهِ} [الجاثية:23].
أحبتي في الله: النَّفْس خلق عجيب، آية من آيات الله، بطبيعتها تميل إلى الأسهل وإلى الأدنى، كالماء الجاري، يهبط الأودية والشعاب والمنخفضات، ورفعه يحتاج لهمة وكلفة، وصبر وعناء، ومشقة ومجاهدة؛ كذلك النفس تحتاج لذلك كله؛ لترقى وتسمو وتحلِّق، والبحرَ تقصد.
يقول ابن الجوزي عليه رحمة الله: لو أُمر الناس بالصبر على الجوع لصبروا، ولو نُهوا عن تفتيت البعر لرغبوا فيه، يقولون: ما مُنعنا منه إلا لشيء، والواقع يشهد:
وأحَبُ شيءٍ إلى الإنسان ما مُنعا
لماذا؟ لأن النفس محصورة مسجونة في البدن، فلا تحب أن تسجن وتحصر أخرى بالتكاليف في الأوامر والنواهي: يا نفس! افعلي، ويا نفس! لا تفعلي، هذا حرام وهذا حلال وهكذا.
ولذلك لو قعد الإنسان في بيته شهراً باختياره ما صَعُب عليه ذلك، لكن لو قال له أبوه: لا تخرج هذا اليوم من بيتك، وقَفَلَ عليه باب غرفته لثقل عليه ذلك اليوم، وكأنه شهر، لماذا؟
لأن النفس تحب التحرر من القيود، والانطلاق والتفلت، فتراها تستلذ الحرام والشهوات، همها هواها، لكن صاحب الهمة العاقل الحازم يمنعها هواها، ويداريها، فيأخذها تارة بالعزائم، وتارة بالرخص، ويستعيذ بالله من شرها، ويدعو بتزكيتها، لتزكو وتتربى، وتسمو وتترقى.
هي من خلق الله عز وجل، والله أعلم بخلقه سبحانه وبحمده.
يُقْسم الله في كتابه أحد عشر قسماً متتالية، قسماً يتلوه قسم، ولله أن يُقْسم بما شاء من مخلوقاته -سبحانه وبحمده- يُقْسم على فلاح من زكاها، وخيبة من دساها، فيقول سبحانه: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:1 - 8] أين جواب القسم؟
{قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10].
وتزكيتها لا تكون إلا بهمة عليّة، يعقبها عمل خالص صالح صواب.(17/12)
بين الصالح والبطال علو الهمة
فيا من قصد البحر بهمةٍ: زَكِّها؛ قد أفلح من زكاها، أبواب الخير المشروعة مُشْرَعة لك لتدخلها بهمة حازم.
وأول هذه الأبواب: الفرائض.
فما تقرب متقرب إلى الله بأحب من الفرائض، وهذه الأبواب نفعها قاصر، ونوع آخر نفعه متعد للغير، وما كان متعدياً فهو أولى، فخض لُجْة البحر بهمة، وادخل من كل باب، واضرب في كل غنيمة بسهم، وعش مع كل طائفة على أحسن ما فيها، وخلِّ القنوات!
من هذه الأبواب -بلا ترتيب- حفظ كتاب الله وتدبره، والوقوف عند حدوده، والائتمار بأمره، والانتهاء عن نهيه، تحكيمه والرضا به.
فمالك إن تركت هذا الباب؟
اسمع لقول الرسول صلى الله عليه وسلم كما ثبت في صحيح الجامع: {لو كان القرآن في إهاب ما أكلته النار، يجيء القرآن يوم القيامة شفيعاً لصاحبه، فيقول: يا رب! حَلِّهِ، فيُلبس تاج الكرامة، ثم يقول القرآن: يا رب! زده، فيُلبس حلة الكرامة، فيقول: يا رب! ارض عنه، فيرضى الله عنه، فيقول القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها} حرف منه بحسنة، والحسنة بعشر أمثالها، آلم بثلاثين ويا خيبة البطالين!
الحرفُ منه مُضَاعفٌ وميسرُ شَقي الذي عن حُكمهِ قدْ أعْرضا
هُبُّوا إليه لحِفْظِه وتَأهبُوا وارجوا رِضَا الرحمنِ صُبْحا والمَسَا
ويقول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح الجامع: {لأن أقعد مع قوم يذكرون الله من بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس؛ خير لي من أن أعتق أربع رقاب، ومن أعتق رقبة مسلمة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه حتى فَرْجِه بفرجه}.
يا للغنيمة الباردة! والله لا تتحقق اليوم إلا لأهل تحفيظ القرآن، أهل حلقات التحفيظ؛ هنيئاً لهم ثم هنيئاً.
يا فَتى التَّحفيظ:
كنْ رَابطَ الجَأشِ وارْفَع رايةَ الأملِ وَسِر إلى الله في جِدٍ بلا هَزَلِ
وإن شَعرتَ بنْقصٍ فيك تَعْرفهُ فَغَذِّ رُوحَك بالقرآنِ واكْتَمِلِ
وحَارِب النفسَ وامْنَعْها غِوَايَتَها فالنَّفسُ تَهوَى الذي يَدعُو إلى الزلل
{بشر المشَّائين في الظُّلَمِ إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة} {من غدا إلى المسجد أو راح، أعد الله له في الجنة نُزُلاً كلما غدا أو راح} كيف لو أدرك تكبيرة الإحرام مع الإمام أربعين يوماً؟ ثبت في صحيح الجامع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كُتب له براءتان؛ براءة من النفاق، وبراءة من النار}.
هلا حاولت وجاهدت نفسك لهذا الفضل العظيم؟
قد تدركها ثلاثين يوماً، وقد تدركها تسعة وثلاثين يوماً، وقد تدركها أربعين يوماً إلا فرضاً واحداً، ثم تنخرم القاعدة، لكن عُد من جديد، وجاهد نفسك، وستجد -بإذن الله- لذة المجاهدة على هذا الفضل ماثلة ظاهرة.
والشيءُ صَعبٌ عَلى مَن لا يُجِرِّبه، لكن من جَدَّ وَجَد.
مَا كُنتُ أَرجُوهُ إذ كُنتُ ابْنَ عِشرِينَا مَلَكْتُهُ بَعدَ أَنْ جُزتُ الثَّمَانِينَا(17/13)
أمثلة لأبواب الخير تدرك بالهمة العالية
إن سعيد بن المسيب رحمه الله يتحدث بنعمة الله عليه في آخر حياته فيقول لابنته: [[والله ما فاتتني تكبيرة الإحرام مع الإمام أربعين سنة، وما رأيت ظهر مُصلٍّ في الصلاة أبداً]].
بمعني: أنه في الصف الأول دائماً، وما يُلقَّاها إلا من صبر، ولا يزال قوم يتأخرون حتى يُؤخرون.
عيادة المريض.
ما عيادة المريض؟
ثبت في الصحيح عن علي رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {ما من مسلم يعود مسلماً غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح}.
وفي حديث ثوبان: {ولم يزل في خُرْفة الجنة حتى يرجع} ومع ذلك المنادي ينادي: {طبت وطاب ممشاك، وتبوّأت من الجنة منزلاً}.
إنها الغنيمة يا أهل الغنيمة، فأين صاحب الهمة المشمر؟
فَمَا العُمرُ إلا صَفحةٌ سَوفَ تَنطوِي ومَا المَرءُ إلا زَهرةٌ سَوفَ تَذبلُ
الطواف بالبيت يا أهل البيت الحرام: ثبت في صحيح الجامع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من طاف بالبيت أسبوعاً -يعني سبعة أشواط- كان كعتق رقبة، ولا يضع قدماً ولا يرفع أخرى إلا حط الله عنه بها خطيئة، وكتب له بها حسنة} لأهل السوق ما هو خير من كل ربح يربحونه.
ثبت -أيضاً- في صحيح الجامع {أن من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة، وبنى له بيتاً في الجنة}.
فهل تذكَّرنا ذلك عند دخول الأسواق؟
ما أعظم الأجر، وأيسر الأمر! والله لحسنة من هذه خير من الدنيا وحُطامها وزخارفها ولذَّاتها.
{من أنظر معسراً فله بكل يوم مثل دينه صدقة، فإذا حل الدين فأنظره، فله بكل يوم مثل دينه مرتين صدقة}.
فضل من الله ونعمة.
وثبت في صحيح الجامع: {أن فيك يابن آدم ثلاثمائة وستين عظمة -أو مفصلاً- على كل مفصل في كل يوم صدقة}.
تحتاج إلى ثلاثمائة وستين صدقة، على كل مفصل صدقة:
والكلمة الطيبة صدقة، عون الرجل أخاه صدقة، الشربة من الماء تسقيها صدقة، تبسمك في وجه أخيك صدقة، أمر بالمعروف ونهي عن منكر صدقة، إرشاد الرجل في أرض الضلال صدقة، بصرك الرجل الرديء البصر لك صدقة، إماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق صدقة، إفراغك من دلوك في دلو أخيك صدقة، في كل كبد رطب صدقة، تسبيحة صدقة، تهليلة صدقة، تكبيرة صدقة، مَنْ عَلَّم آية من كتاب الله عز وجل كان له ثوابها ما تُليت، ومن علمَّ علما فله أجر من عمل به لا ينقص من أجر العامل شيء، الشفاعة في غير حدود الله صدقة، اشفعوا تؤجروا، والبخيل من بخل بجاهه، ذَبُّكَ عن عرض أخيك قربة من أعظم القُرب، يَذُبُّ بها الله عز وجل النار عن وجهك، عدل بين اثنين صدقة، تعين الرجل ليُحمل على دابته صدقة، ترفع متاعه على دابته صدقة، كل خطوة إلى الصلاة صدقة، كل ما تصنع لأهلك من معروف صدقة، كل قرض صدقة، كفِّ الشر عن الناس صدقة، كل معروف تقدمه لغني أو فقير صدقة، إسماع الأصم صدقة، البيان عن الأعجم صدقة، من نَفَّس عن مَدينِه أو عفا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة، من نصر أخاه بظهر الغيب نصره الله في الدنيا والآخرة، من ستر مسلماً ستره الله في الدار الآخرة.
من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله به طريقاً إلى الجنة، إنقاذ الناس من الضلالة، وإخراجهم من الظلمات إلى النور أفضل قربة: {فلأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمر النِّعم}.
وكلما كان نفع العمل متعدياً إلى الغير، كان أعظم أجراً.
ولك أن تتصور هذه الأمة اليوم، كل مسبِّح ومهلِّل وذاكر ومستغفر ومجاهد ومتصدق وحاج وصائم، كل أعمالهم لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم مثلها؛ لأنه السبب في هذه الهداية، ولأنه هو الذي حمل الخير إلى الأمة، فمن يستطيع أن يأتي بأعمال تضاهي عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يوم يأتي بعمله هو وعمل أمة محمد صلى الله عليه وسلم كلها في ميزانه: {ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4] فنسأل الله من فضله.
ثبت في صحيح الجامع أنه صلى الله عليه وسلم قال: {أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً}.
ثم يقول صلى الله عليه وسلم: {ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجته أحب إليّ من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً -يعني مسجده صلى الله عليه وسلم- ومن كفَّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظاً لو شاء أن يُمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له؛ أثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام، وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يُفسد الخل العسل}.
إذا الرَّوضُ أمسَى مُجدِباً في ربِيعهِ ففِي أيِّ حِينٍّ يَستنِيرُ ويُخصِب
أخي صاحب الهمة وقاصد البحر: لا تنس أن قيام الليل وتلاوة القرآن زاد يومي، لا غنى للمسلم عنه في مواجهة تكاليف الحياة وأعبائها، والدعوة إلى الله خاصة، وما ذكرته ما هو إلا أمثلة، وإلا فأبواب الخير لا حصر لها أبداً.
تَناوَلْ مِن الأَغصَانِ مَا تَستَطِيعهُ وَجاهِد عَلى الغُصنِ الذي لا تُطَاوِلُهْ
آنَ لكَ أن تقولَ بملءِ فيكَ: مضى عهد النوم.
يا مرتاد القمم! بادر واغتنم، فإنما هي خمس أو عشر سنوات، انتهز الفرصة في وقتها، وخذ الثمرة في كمال نضجها، ولا تعجل فتطلب الشيء قبل وقته فلا تدركه، وتقطف الثمرة قبل نضجها فلا تنتفع بها، فمن طلب المعالي استقبل العوالي، ومن لزم الرقاد فاته المراد، وإن لم يُثمر العود، فقطع العود أولى به.
والعَاجزُ الرأيِ مِضيَاعٌ لِفرصَتِهِ حَّتى إذَا فَاتَ أَمرٌ عَاتَبَ القَدَرَا
والراضي بالدون دنيء.
وَلَم أَرَ فِي عُيوبِ الناسِ عَيباً كَنقصِ القَادِرينَ علَى التَّمَامِ(17/14)
أمثلة من قصص السلف في علو الهمة
يا من قصد البحر بهمَّة! لا تستوحش إن قلَّ السالكون، فقد سبقك السابقون، ولعلك تزيد من همتك بالوقوف على بعض مواقفهم، فإليهم إليهم بلا اختيار، قد صوَّت حاديهم بك:
مَنازلَ مَن تَهوَى رُوَيدَكَ فَانزِلِ(17/15)
إبراهيم الحربي يكتب اثني عشر ألف جزء
هاهو المحدث الفقيه الأديب إبراهيم الحربي، يعتلُّ في آخر حياته، حتى يصبح صفر اليدين من متاع الدنيا؛ فليس في بيته إلا الخبز الجاف والملح، ولا غرو.
قَد يَنالُ العُصفُورُ وَفْراً وَيبقَى فِي سِجلِّ الخُمولِ تِلكَ الصُّقورُ
ويبعث له الخليفة بألف دينار، فيرفض أن يأخذها، فينصرف رسول الخليفة إلى الخليفة، ويخبره، فيقول الخليفة: ليفرقها في جيرانه.
فرجع رسول الخليفة إلى إبراهيم وقال: إن أمير المؤمنين يسألك أن تفرقها في جيرانك.
فقال: عافاك الله، هذا مال لم نشغل أنفسنا بجمعه، فلا نشغلها بتفريقه، قُلْ لأمير المؤمنين: إن لم يتركنا تحولنا عن جواره.
سمعت ابنته هذا الحوار، فغضبت وآلمها أن يرفض أبوها المال، وهم في أمسِّ الحاجة له، وجاء عمها لزيارتهم، فقالت: يا عم! نحن في أمر عظيم، لا في الدنيا نحن ولا في الآخرة، الشهر والدهر ما لنا من طعام إلا كِسْرٌ يابسة وملح، وربما عَدمنا الكسر، وربما عدمنا الملح، وقد أرسل الخليفة بألف دينار فلم يأخذها، وأرسل فلان فلم يأخذ منه، وهو عليل كما ترى يا عماه.
فنظر عمها إلى أبيها؛ يريد أن يجيبها، فالتفت إبراهيم إلى ابنته وتبسم وقال لها: يا بُنية! أو إنما تخافين الفقر؟ قالت: نعم.
قال: انظري إلى تلك الزاوية.
فنظرت في زاوية البيت، فإذا كتب بعضها فوق بعض، قالت: أبتاه! ماذا تغني هذه عنا؟ فقال: هذه اثنا عشر ألف جزء في الحديث والفقه واللغة، كتبتها بيميني، إذا أنا مِت، فبيعي كل جزء منها بدرهم، أو يفتقر من يملك اثني عشر ألف درهم؟
حاله: طعام دون طعام، ولباس دون لباس، جوع قليل، وعُريٌ قليل، وبرد قليل، وذل قليل، وصبر قليل، وإلى الله المصير.
لَيسَ السَّعِيدُ الذي دُنيَاهُ تُسعدُهُ إنَّ السَّعيدَ الذي يَنجُو مِن النَّارِ
إنها الهمم؛ تجعل في قلب صاحبها نار تتقد، كنار تتقد في قلب من يجد ابنه مريضاً لا يملك له شيئاً، أو من لا يجد في بيته شيئاً يَسُدُّ به رمق أولاده وهم يتضاغون عند قدميه، يقلق ويضطر إلى بذل الجهد والسعي.
إنها اثنا عشر ألف جزء، وبيمينه خطها، والإمكانات غير متوفرة، فلله الهمم ما أعلاها وأسماها!
وَالعَبدُ عَبْدُ النَّفسِ فِي شَهوَاتِهَا وَالحُرُّ يَشبَعُ مَرَّةً وَيَجُوعُ
يقول أبو العباس ثعلب: ما فقدت إبراهيم الحربي من مجلس لغةٍ ولا فقه منذ خمسين سنة.
لَهُ هِمَّةٌ تَعلُو علَى كلِّ هِمَّةٍ كمَا قَد عَلا البَدرُ النُّجومَ الدَّرَارِيَا(17/16)
طلب العلم عند بعض السلف
ابن عباس ينام على عتبة زيد بن ثابت يطلب العلم رضى الله عنه وأرضاه.
والإمام عيسى بن موسى يقول: مكثت ثلاثين سنة أشتهي الهريسة، ولا أقدر على شرائها؛ لأن وقت بيعها في السوق هو وقت سماعي الحديث.
شَتَّانَ بَينَ النَّاسِ فِي أَهدَافِهِم شَتَّانَ بَينَ عَصاً وبين َحُسَامِ
وأحد السلف في سكرات الموت يقول: أجلسوني لأصلي ركعتين.
فيقولون: عافاك الله أفي مثل هذه الحال؟ قال: نعم، الآن تُطوى صحيفتي، وأريد أن أختمها بركعتين، علّ الله أن يرحمني.
َفَنالُوا المُرادَ وفَازُوا بِهِ فَطُوبَى لَهُم ثُمَّ طُوبَى لَهُم(17/17)
من همم صبية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
ليست الهمة في الرجال فحسب، بل إنها في النساء، وفي الصبيان فاسمع: في معركة أحد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردَّ مجموعة من الفتيان لم يبلغوا، وكان منهم رافع وسمرة، ولشوقهما للجهاد في سبيل الله لم يستسلما للأمر، قام كل منهم يستعرض ما لديه من قدرات، تثبت كفاءته للقتال، يرفع نفسه، يمشى على أطراف أصابعه؛ ليبين أنه بلغ مبلغ الرجال.
فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن رافعاً رام الخامسة عشر.
فأجازه صلى الله عليه وسلم فقال سمرة: يا رسول الله! أجزت هذا ورددتني، ولو صارعته لصرعته.
قال صلى الله عليه وسلم: دونكه -يعنى صارعه- فتصارعا، فصرعه سمرة، فأجازه صلى الله عليه وسلم.
فيا لله! شباب امتلأت قلوبهم بالإيمان، واختلطت بحيوية الشباب وقوة البدن، فسخروها فيما يرضي الله، فرضي الله عنهم وأرضاهم.
فهل من مقتدٍ بهم يا شباب الأمة؟
أَوَ مَن يُفكرُ فِي الصُّعُود كَمَنْ يُفَكِّرُ فِي النُّزُولْ
مَنْ يَبتَغِ هَدَفاً بِغَير الحَقِّ يعيا بِالوُصُولْ(17/18)
همة سفيان بن عيينة في طلب الحديث
وهاهو سفيان بن عيينة رحمه الله يقول: كان أبي صيرفيّاً بـ الكوفة، فركبه الدَّيْن، فحملنا إلى مكة، وأنا يومئذ صبي - سفيان لا زال صبياً- يقول: وسرنا إلى المسجد لصلاة الظهر، ولما كنت على باب المسجد، إذا شيخ على حمار، هيئته هيئة صاحب حديث، فقال لي: يا غلام! أمسك عليّ هذا الحمار حتى أدخل المسجد، فأركع.
قلت: ما أنا بفاعل حتى تحدثني.
قال: وما تصنع أنت بالحديث؟ واستصغرني وردني، فقلت: حدثني أو لا أمسك لك الحمار.
قال: فسرد علي ثمانية أحاديث بأسانيدها، فأمسكت حماره، وجعلت أكرر ما حدثني به.
فلما خرج من المسجد، قال: ما نفعك ما حدثتك به يا غلام! قد حبستني عن الصلاة.
فقلت: حدثتني بكذا وكذا وكذا.
وسردت عليه جميع ما حدثني به، فقال: بارك الله فيك، تعال غداً إلى مجلسي.
فإذا هو عمرو بن دينار المحدث المعروف.
اسمع بعدها لـ نصر الهلالي يوم يقول: كنت في مجلس سفيان بن عيينة، إذ دخل علينا صبي صغير ذلك المجلس، فكأن أهل الحديث تهاونوا به لصغر سنه، فقال سفيان مغضباً من أهل الحديث: كذلك كنتم من قبل فمنَّ الله عليكم.
ثم قال سفيان: يا نصر! -ويتكلم الآن عن نفسه سفيان وهو صغير- لو رأيتني ولي عشر سنين، طولي خمسة أشبار، وجهي كالدينار، وأنا كشعلة نار، ثيابي صغار، أكمامي قصار، ذيلي بمقدار، نعلي كآذان الفار، أختلف إلى الزهري وعمرو بن دينار، وأمثالهم من علماء الأمصار، أجلس بينهم كالمسمار، محبرتيِ كالجوزة، ومُقلتي كالموزة، وقلمي كاللوزة، فإذا دخلت المجلس قالوا لي: أوسعوا للشيخ الصغير.
لو رأيتني يا نصر! حين ذاك لَمَا احتقرتَ ما رأيتَ.
مَن يَجعَل الرَّحمنَ مَقصِدَ قَلبِهِ يَبقَى شَريفاً فِي الحَياةِ نَزِيهَا
ويذكر الخطيب البغدادي رحمه الله عن علي بن عاص، قال: دفع إليَّ أبي مائة ألف درهم، وقال: اذهب فلا أرى لك وجهاً إلا بمائة ألف حديث -هكذا تكون الولاية- فهجر الوطن والأهل، وضحى بماله ووقته وجهده، وحصل على أكثر مما طُلب منه، فصار يُحدث ويُسمع منه.
وهذه أهديها لأولياء الأمور، وأقول لهم:
إنْ كُنتَ تَرجُو أنْ تُصيبَ رَميَّةً فَاثقِفْ سِهَامَكَ قَبلَ أنْ تَرمِيهَا
كَذاكَ الفَخرُ يَا هِمَمَ الرِّجَالِ تَعالَيْ فَانظُرِي كَيفَ التَّعَالِي(17/19)
العبرة من القصص السالفة الذكر
يا طالب العلم! ويا داعية الإسلام! كن على جادتهم وإن أبطأ بك المسير، فإن قدوة القوم يرعى القافلة، أنت لا تملك نفسك، حتى يسوغ لك أن تمنحها إجازة.
يا من أنت الآن في إجازة: إنما أنت وَقْف لله، فإذا لمع لك فجر الأجر، فليهُن ظلام التكليف.
إذا ضاقت عليك قناة أو طريق، فشُق إلى البحر ألف طريق.
إذا أغلق عليك باب دون البحر، فافتح لك ألف باب، ولن تعدم وسيلة.
اعمل ولو ساعة، وللحقوق -ومنها التعلم- بقية الساعات، إذا بزغ لك نجم الهمة في ظلام ليل البطالة، فأردفه بقمر العزيمة؛ لتُشرق الأرض بنور ربها.
إنما أنت همة علية، ونفس تضيء، وهمة تتوقد.
أنت لا تعيش لنفسك، ويجب أن تقنع نفسك أنك لا تعيش لها، جِد تجد، ليس كمن سهر من رقد، هذا دبيب الليالي يُسارقك أنفاسك، وسلع المعالي غاليات الثمن، فانظر لنفسك، واغتنم وقتك، فالثواء قليل، والرحيل قريب، والطريق مخوف، والخطر عظيم، والعقبة كئود، والناقد بصير.
يا من قصد البحر بهمة! ائتِ الديار البكر، وارتد كل يوم منزل فضل، وخض ميدان التنافس، وائتِ بجديد، فإن قال لك البطالون الكُسالى: لو تفرغت لنا، فاقرع أسماعهم بصوت عمر بن عبد العزيز: وأين الفراغ؟ ذهب الفراغ، لا فراغ.
والله لا مُستراح للمؤمن إلا تحت شجرة طوبى.
أحبتي في الله: إن النفس الإنسانية لابد أن تتحرك، فإذا هي كفت عن الشر، ولم تتحرك للخير، بقى فيها فراغ وخواء، قد يردها إلى الفساد، فالعبد سائر لا واقف، فإذا سار فإما إلى فوق وإما إلى تحت، وإما إلى الإمام وإما إلى الوراء، ليس هناك وقوف ألبتة، إنما هي مراحل تُطوى إلى الجنة، مُسرع ومُبطئ، ومُتقدم ومتأخر: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر:37]
كُلُّ نَفسٍ سَوفَ تَلقَى فِعلَهَا وَيحَ نَفسٍ بِهَواهَا شُغِلَتْ
والله! لا تتم حقيقة الإيمان في القلب حتى يتعرض القلب للمجاهدة في هذا الدين، بدءاً من كراهية الباطل، إلى السعي في الإصلاح، إلى نقل الناس من الغواية إلى الهدى.
إنها باختصار: الدعوة إلى الله، التي تغير ماهية الشيء، فتجعل من الرجل غير الرجل، ومن القلب غير القلب، تجعل صاحبها كالنحلة؛ لا تأكل إلا طيباً، ولا تُخرج إلا طيباً، وإن وقفتْ على عود نخر لم تكسره، بل مثل النخلة؛ ما أخذت منها من شيء نفعك.
ونتيقن ونجزم -أيها الأحبة- أن في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا، ولا يعرف قدر الرجال إلا الرجال، والهمم المَنُوطة بالرجال عظام، و:
عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتِي العَزَائِمُ وَتَأتِي عَلى قَدرِ الكِرَامِ المَكَارِمُ
وَتَعظُمُ فِي عَينِ الصَّغِيرِ صِغَارُهَا وَتَصغُرُ فِي عَينِ العَظِيمِ العَظَائِمُ(17/20)
المطلوب من المؤمن تجاه دينه
كأني بكم تقولون: ماذا يُراد منا؟ ونقول: يراد منكم الكثير.(17/21)
الإنفاق في سبيل نشر الدين بالمستطاع
نريد من الأُسَر أن تحمل همَّ دِينها، أن تدخر من قوتها في كل شهر ثمناً لكتاب قيم يهدى لمن ينتفع به، ومبلغاً لمسلم محتاج، وشريطاً نافعاً للدعوة بالقول والعمل؛ لأننا نفترض في الأسر أنها صلحت؛ ونريدها مصلحة بناءة.
نريد من طالب المدرسة أن يعمل بما علم، أن يدخر في الشهر ولو ريالاً واحداً يُسهم به في الدعوة إلى الله، نريد تمعُراً من الوجوه لانتهاك حدود الله، يعقبه تغيير أو إنكار.
نريد من التاجر أن يدعو بماله؛ يقتطع مبلغاً شهرياً يجعله في مصالح المسلمين، يطبع كتاباً ينفع الله به المسلمين، ينظر معسراً، ينفس كرباً، يقضى ديناً، يطرد جوعاً.
نريد من المربين والمربيات، من المعلمين والمعلمات، أن يقوموا بدورهم في غرس الإيمان في قلوب أبناء الأمة، فو الله! إنهم لمسئولون عن أبناء الأمة.
نريد أقلاماً قوية بليغة، عندها المقدرة البيانية، والطلاوة الأدبية، وحلاوة التعبير الذي تنفذ الدعوة بها إلى عقول الناس وقلوبهم.
نريد قلوباً تعرف الخشوع، ونريد عيوناً تعرف الدموع.
مَن ذَا يُعيرُكَ عَينَهُ تَبكِي بِهَا أَرأَيتَ عَيناً لِلدُّموعِ تُعَارُ؟(17/22)
التربية السليمة على منهاج السلف
نريد تربية كتربية أبي بكر وعمر وصحبهم رضى الله عنهم، لا نريد أن تربَّي فراخ الصقور تربية بُغاث الطير، فهذا جور، ولا أن تربَّي الأسد تربية الخراف، فهذا ميل وظلم.
نريد أن تميز بين الصحيح والزائف، فليس كل لين حريراً.
نريد كل جهد مهما ضؤُل حجمه، وصغرت مساحته، وقلّ عدده، فعند الله لا يضيع مثقال ذرة.(17/23)
ترك النواح والإقبال على العمل
نريد مضاعفة الجهد وتكثيف العطاء، ونريد ترجمة الكلام إلى عمل.
نريد أن نتحرر من تلك الآفة التي غدت ظاهرة عامة بين المسلمين، تعوق خطانا عن السير؛ ألا وهي كثرة النواح وقلة العمل.
والنواح لا يحيي ما مات، ولا يرد ما فات.
آفتنا كثرة الشاكين المتوجعين، وقلة المداوين، كثرة من يسبون الظلام، وقلة من يوقدون الشموع.
نعم يا قاصد البحر: كثرت الشكوى من الأدواء والمآسي، ولعلك ترى ذلك وتلمسه، لم يعد هناك أحد إلا ويشكو، فمن المشكو منه إذن؟! كلنا شاكٍ ومشكو منه.
ذكر صاحب أين الخلل ما نصه: حّدثوا أن واعظاً بليغاً وعظ الناس يوماً حتى بكوا من تأثير الموعظة، وكان معه كتاب، ثم بحث عن كتابه بعد الموعظة، فوجده قد سُرق، نظر إلى الحاضرين، عله أن يلمح بينهم وجهاً تلوح عليه آثار الجريمة، لكنه وجد الجميع متأثرين يبكون، فقال لهم: كلكم يبكي فعلاً فمن سرق الكتاب؟!
نعم.
كلنا نشكو، فمن المشكو منه؟!
إن علينا أن ننتقل من دائرة الشكوى إلى دائرة العمل المتواصل الدءوب، العمل للحاضر والمستقبل، وإن لم نشكُ فلا نريد أن نكون من المتفرجين، وممن ينتظر العمل من الآخرين.
بل يعمل الجميع، وكلٌ على قدر جهده وطاقته.
وعوداً على بدء؛ للرجل دوره، وللمرأة دورها، وللصبي والكبير والغني والفقير دوره، المهم أن يعمل الجميع، وأن يضع كلٌ منا نفسه في المكان الملائم، من استطاع أن يُميط شوكة عن طريق فليُمطها، ومن أمكنه أن يبذر حبة في الأرض فليبذرها.(17/24)
حمل الدعوة كل وفق تخصصه
نريد باختصار حمل هَمِّ الدعوة من كل واحد منا، أينما حلَّ وأينما رحل، كلٌّ وفق تخصصه، وينفق مما لديه: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ مَا أتَاهَا} [الطلاق:7] إنْ كان عنده علم دعا به، مالٌ دعا به، ولا مبرر للقعود أبداً؛ فالمسئولية على الجميع مشتركة وتتفاوت؛ فمسئولية العالم أكبر من مسئولية الجاهل، ومسئولية صاحب السلطة أكبر من مسئولية من لا سلطة له، ومسئولية صاحب المال أكبر من مسئولية من لا مال له، وإن كان الكل مسئولاً.
كل مسلم رجل يعمل لدينه، والأمة كلها مسئولة عن فرائض الله، وأحكام الله، وشرائع الله.
ذُكر أن أحد المستمعين قال لأحد الدُعاة يوماً، بعد محاضرة ألقاها ذاك الداعية: قد مضى لكم ثلاثون سنة وأنتم تتكلمون، فماذا صنعتم؟
وكان جواب الداعية مفاجئاً له حين قال: وأنتم مضى لكم ثلاثون سنة صامتون تستمعون، فماذا صنعتم؟!
هذا حق.
على المستمع كما على المتكلم مسئولية تحويل الكلام إلى عمل، والأفكار إلى وقائع، وإن اختلفت درجة المسئولية.
المسلم مطالب بالعمل إلى آخر رمق، حتى لو قامت الساعة وفي يده فسيلة فليغرسها إن أمكنه.
فَلينطَلِقْ كُلُّ فَردٍ حَسْبَ طَاقَتِهِ يَدعُو إلَى اللهِ إخفَاءً وَإعلاناً
ولْنَترُك الَّلومَ لا نَجعلْهُ عُدَّتَنَا وَلْنَجعَل الفِعلَ بَعدَ اليَوم مِيزَانَا
نريد أن نكون كتلة كالمطر، لا يُدرَي أوله خير أم آخره؟ كتلة فيها الكفاية في كل ناحية، كتلة هي في غِنى عن العالم، وليس العالم في غِنى عنها، تملأ كل ثغر، وتسد كل عِوَز وعجز؛ فإنه -والله- لا عمل أبقى وأنفع للمسلم من عمل يقضيه في الدعوة إلى الله؛ بياناً باللسان، وجهاداً باليد، ونفقة من العلم والمال والوقت، وكل مسلم على ثغرة من ثغور الإسلام، وعليه أن يسدها أياً كان تخصصه ومستواه وموقعه؛ إن كان في الحراسة ففي الحراسة، وإن كان في الساقة ففي الساقة، همه أداء الواجب، والمشاركة، والقيام بالمسئولية وفق ما لديه من استطاعة: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286].(17/25)
المضي في الدعوة والعمل وترك الالتفات إلى الخلف
يا قاصد البحر! لعلها فتحت لك آفاق، وشحنت همتك فحدد أهدافك، وسر وحلق مع الهمم العالية، وإياك والنظر إلى الخلف؛ لئلا تضعف فتؤكل، فالقلب كالطائر كلما علا بعد عن الآفات، وكلما هبط احتوشته الآفات.
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه
خذ من الأسباب ما يقوي همتك؛ من مجاهدة ودعاء صادق أن يعلي الله همتك، وقراءة لسير سلفك أهل الهمم، ومصاحبة لأهل الهمم، والأهم فالمهم فإن العمر يعجز عن تحصيل الكل:
إن لم تكن للحق أنت فمن يكون
والناس في محراب لذات الدنايا عاكفون
فكن رجل رجله في الثرى وهامة همته في الثريا
واقصد البحر بإخلاص وصواب وهمة وخل القنوات!
فتى الإسلام: يا من قصد البحر بإخلاص وصواب وهمة! اعلم أن سنة الله التي لا تتبدل، ألا ينال ما يرجى ويؤمل إلا بثمن، ليس هناك شيء بالمجان، وكلما كانت السلعة نفيسة كان الثمن أنفس وأغلى، وهذا ما أدركه القائل يوم قال:
بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها تنال إلا على جسر من التعب
قلما تجد ثمرة إلا ومعها زنبور، ولا لذة إلا وإلى جانبها شيء محذور، ولن يظهر أحد بمطالبه شفعاً، مهما كد وسعى، بل مرعى بلا ماء، وماء بلا مرعى، ونحلة مع الشهد، وشوكة مع الورد:
أرض بها عشب زاك وليس بها ماء وأخرى بها ماء بلا عشب
كيف ينال الفضل والجسم خامل وادع؟!
وكيف يؤتى المجد والوفر وافر؟!
أي مطلوب نيل من غير مشقة؟!
أي مرغوب لم تبعد على طالبه الشقة؟!
المال لا يحصل إلا بالتعب، والعلم لا يدرك إلا بالنصب، واسم الجواد لا يناله بخيل، ولقب الشجاع لا يحصل إلا بنزل طويل
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال
من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، سلعة الله أغلى وأعلى، سلعة الله الجنة.
قد يكون الثمن جهداً ووقتاً، وقد يكون مالاً وامتحاناً، وقد يكون دماً مراقاً وبلاءً.
لا ضير مادامت السلعة تستحق
فإن المر حين يسر حلو وإن الحلو حين يضر مر
فخذ مراً تصادف منه نفعاً ولا تعجل إلى حلو يضر
ادفع الثمن وسابق، واقصد البحر وخل القنوات!(17/26)
اقصد طريق اليمن وخل طريق الشام
فتى الإسلام: يا من قصد البحر بإخلاص وصواب، وهمة وعلم الثمن! اطلب الثبات وسل الله الثبات؛ فإن الثبات عزيز.
إذا عشقت طريق اليمن فلا تتجه إلى الشام وأعني باليمن اليمين وبالشام الشمال، وليكن لسان حالك ومقالك:
لا أحب السير إلا مصاعداً ولا البرق إلا أن يكون يمانيا(17/27)
الثبات على الدين
الطريق واضح، والمبادئ بينة، وأحسب أنك مستيقن بالحق الذي عندك لا تشك فيه أبداً، تكره أن تعود في الكفر كما تكره أن تلقى في النار، ترتضي أن تجود بالروح، وأن تحرق بالنار، وتنشر بالمنشار، أو تقطع بالسيوف على أن تترك ذاك الطريق أليس كذلك؟
أحسب أن
الجواب
بلي.
لماذا؟
لأني أحسبك مطمئناً لمبدئك اطمئناناً يثمر الانتفاع بطريق في اليمن بعمل دءوب متواصل إلى نهاية الأجل، غير آبهٍ ولا ملتفت إلى طريق الشام، وأحسب أنه لم تكثر الأشياء الكثيرة بنفسك يوماً ما؛ لأنها نفس مطمئنة، في حين تعلم وترى بأم عينك نفوساً اضطربت بأطماعها وشهواتها، فباعت بعرضٍ دينها؛ لأنها مبتلاة بهموم كثرة خيالية؛ مثلها في الهمم كطفيلي يحزن لأنه لا يأكل في بطنين، أما أنت فأحسب أنك ربيت نفسك على أن تعطي في هذه الدنيا ولا تأخذ شيئاً، قد علقت نفسك بالآخرة حيث الأجر والثواب، فقمت لله فلم يقم لك شيء، لو كادتك السماوات والأرض والجبال لكفاك الله، وجعل لك منها فرجاً ومخرجاً.(17/28)
الإمام أحمد ومحنة خلق القرآن
ألم يأتك نبأ الإمام أحمد رحمه الله يوم امتحن على القول بخلق القرآن، فثبت على الحق ثبوت الجبال، حتى أنه كان إذا أريد على ذلك تدور حماليق عينيه كالمجنون.
يؤتى بالسياط للمعتصم وبجلادين غلاظ القلوب قساة الأفئدة، ليأمر كل واحد منهم أن يتقدم ليضرب الإمام بكل ما لديه من قوة سوطين وكفى، والمعتصم يقول للضارب: شد قطع الله يدك.
ثم يقول المعتصم: يا أحمد! علام تقتل نفسك، إني والله عليك لشفيق.
ويقول آخر: أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم.
ويقول بعض بطانته الخبيثة -التي هي أخبث من بطانة فرعون- يا أمير المؤمنين! اقتله ودمه في عنقي.
فيقول المعتصم: ويحك يا أحمد! ما تقول؟
فيقول: أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أقل به؛ ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً، فيغضب ثم يقول للجلاد: تقدم، أوجعه قطع الله يدك.
فيضرب الإمام والمعتصم يقول: أجبني ويحك إلى شيء لك فيه أدنى فرج حتى أطلق عنك بيدي.
فيقول: أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أقل به.
فيأمر الجميع بضربه ويقول: شدوا قطع الله أيديكم، حتى ذهب عقل الإمام، وأغمى عليه؛ داسوه بالأقدام، كبوه على وجهه، طرحوه على ظهره، ثم يفيق ودماؤه تسيل؛ خلعت أكتافه وهو ثابت كالطود الأشم.
هنا ينتقلون إلى أسلوب المناظرة فيتقدم أحدهم يناظر ويقول: أولست تحسن كتاب الله يا أحمد! إن الله يقول: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً} [النبأ:6] أي: نخلقها مهاداً ويقول: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [الزخرف:3] أي: خلقناه قرآناً عربياً، فقال الإمام أحمد في هدوء المؤمن؛ والله تعالى يقول: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:5] أهي: بمعنى خلقهم كعصف مأكول؟ فألجم وسكت.
وتقدم آخر فقال: الله يقول {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر:62] أو ليس القرآن شيئاً، فقال الإمام والله يقول: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25] فهل دمرت كل شيء أم دمرت ما أراد ربها؟ فبهت وسكت؛ ولا غرو:
من ذا يساوي بين تغريد البلابل والنعيق.
يقول أحدهم مغضباً: وأنت لا تقول إلا كتاب سنة كتاب سنة، فكان حال الإمام ينطق: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف:43].
لسنا وإن عزبت أحلامنا وخوت منا الرءوس بقول الزور ننبهر
وثبت الإمام أحمد عليه رحمة الله، ونصر الله به السنة، وكان بحق إمام هذه الأمة في علمه وثباته وتواضعه؛ يقول أحدهم له: جزاك الله خيراً عن الإسلام يا إمام، فيقول: بل جزى الله الإسلام عني خيراً؛ من أنا وما أنا؟ رحمه الله من قدوة ماثلة إلى الآن.
قاد الهوى الفجار فانقادوا له وأبت عليه مقادة الأبرار
وبالعهد نفسه يراد أبو يعقوب البويطي على القول بخلق القرآن، فيمتنع، فيحبس في بغداد حتى مات في الحبس، يقول قبل موته: والذي لا إله إلا هو! لأموتن في حديدي هذا حتى يأتي من بعدي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} [العنكبوت:2]
ومن لاذ بالله في دربه كفاه المهيمن من كل شر
سيد رحمه الله يحكم عليه بالإعدام وتأتي أخته فتقول: اعتذر لعله يخفف عنك.
قال: أأعتذر عن العمل مع الله؟ والله! لو كان التعامل مع غير الله لاعتذرت ولكنه مع الله حاله:
إن بقي شيء في الأجل فلن يقدم؛ وإن لم يبق شيء فلن يؤخر.
إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
أخي سالك طريق اليمن: ربِّ نفسك، وليزمجر بحرك:
الله غايتنا وهل من غاية أسمى وأغلى من رضا الرحمن
أعدها للبيع على الله عز وجل؛ فإنه يوشك من أهمل نفسه أن ينهزم قلبه، وتخونه نفسه عند أول اختبار وبادرة هزة، فيتراءى لك أنه حي يرزق، ولكنه في الحقيقة ميت.
غمد محلى بلا سيف، وجدول غير ثابت.
إن طريق العقيدة الصحيحة والدعوة إليها طريق الأنبياء؛ شاق تتقاصر دونه الهمم الساقطة، والعزائم الضعيفة، وتجزع دونه الأرواح الهزيلة والقلوب الخاوية:
طريق الحق محفوف بشوك ومحتاج إلى طول المراس
إن العقيدة -والله- لا تحتاجنا، بيد أنا نحتاجها لنتذوق طعم الحياة بها، فاسلك طريق الإيمان وتدبر القرآن، وتعرف في الرخاء على الرحمن، واستيقن أن الرزق مضمون والأجل محدود، وقف على أخبار من ثبت؛ تطمئن وتسكن؛ فإذا حصل اطمئنانك إلى أن ما تفعله حق وأنه لله واستعنت بالله؛ فليكن حداؤك ودعاؤك: يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.
ثم اسلك طريق اليمن قاصداً البحر، ولا تلتفت لطريق الشام وخل القنوات!(17/29)
تميز الداعية في حياته
فتى الإسلام: بل يا قاصد البحر! التميز التميز؛ إذ هو في حياتك عمدة، وضرورة خاصة في عصور طغيان الحياة المادية على الحياة.
تميز المسلم يتمثل في تمسكه وقبضه على دينه عقيدة وعبادة وسلوكاً؛ بمعنى: ألا يتميع في دينه وينصهر مع المتفلتين منه تحت وطأة الفساد، وضغط الواقع، ومسايرة المجتمع كما يقال.
نعم.
إنه ليعرف بإصراره على دينه والغيرة على محارم الله أن تنتهك، وأي دين وأي خير وأي تميز لمن يرى محارم الله تنتهك، وحدوده تضيع، ودينه يترك، وسنة رسوله يرغب عنها، وهو بارد القلب، ساكت اللسان، شيطان أخرس ما بلية الدين إلا من هؤلاء، الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ومشاربهم؛ فلا مبالاة بما يجري على الدين، لقد بلوا بأعظم بلية؛ ألا وهي موت القلب وهم لا يشعرون عافانا الله وإياكم.
يتميز المسلم بصحة معتقده عند مسائل الاعتقاد، بالتزام السنة عند نشوب البدعة، بصدق الإيمان عند نشوب النفاق، بعبادته إذا الناس يلهون، بأخلاقه إذا أهدرت القيم، بالصدق في المعاملة إذا فشا الغش، بصمته إذا كثر الخلط، بمحاسبته نفسه إذا أهملها الغير، بدعوته بجهاده إذا أقبلت الدنيا على أهلها فغرقوا في لجتها، بالإنصاف حتى مع الشنآن.
لا يخجل من انتمائه لدينه، لا يخجل من منهاجه وشريعته، لا يخجل من أن يتحدث بلغته؛ لغة القرآن، ولا يخجل من لباسه الذي يخالف به الكفار.
التميز ضرورة للسائرين على الدرب ليقدم منهجه للعالمين عملياً قوياً.
يذكر أبو الحسن الندوي حفظه الله ورحمه؛ أنه وقع نزاع بين الهندوك والمسلمين في قرية من الهند على أرض؛ يقول الهندوك: إنها معبد لهم، ويقول المسلمون: إنها لهم مسجد، وتحاكموا إلى الحاكم الإنجليزي في ذلك الوقت، فسمع حجة الفريقين، وتحاجوا، ولم يطمئن إلى نتيجة معينة في محاكمته، فسأل الهندوك: هل يوجد في القرية مسلم تثقون بصدقه وأمانته لأحكم على رأيه؟ قالوا: نعم.
فلان.
وسموا شيخاً من صالحي المسلمين وعلمائهم، فهو تميز حتى بين الكافرين، فأرسل الحاكم في طلبه إلى المحكمة، فقال: قد حلفت ألا أرى وجه إفرنجي ما حييت، فأخبروا الحاكم بمقالة العالم، فقال: لا بأس! يحضر ويدلي برأيه في القضية ولا يلزم أن يراني، فحضر الشيخ متميزاً قد ولى دبره إلى الحاكم وقال: الحق في هذه القضية مع الهندوك، والأرض أرضهم ولا يجرمنكم شنآن قوم ألا تعدلوا، فقضى الحاكم بذلك، وخسر المسلمون القضية، ولربما غضب بعضهم ولكنهم كسبوا قلوب أولئك فأسلم منهم جمع.
أرأيت كيف يكون التميز؟
إن العلم عارية ووديعة من الله لا تباع كسلعة في السوق، لا يتعاون به على إثم آثم أو عدوان معتد أو ظلم ظالم.
فيا طلاب العلم:
ميزوا الأنفس عن رق الهوى وإلى الإسلام سيروا تبعا(17/30)
توجيهات تعين الداعية على التميز
ومن كمال التميز -يا قاصد البحر- أن تضع في حسابك أموراً وأنت تخالط الناس وتشاهدهم، وتأكل وتشرب معهم، وتزور وتزار: أن تحرص على أن تظهر بمظهر الدقة والنظام والحفاظ على حقوق الآخرين.
أنت قدوة ينظر إليه: أكثر من الاغتسال أيام الحر.
لا تكثر من التنخم والتمخط بصوت عال.
لا تظهر التجشؤ كما يفعل البعض.
لا تأكل ثوماً، ولا تصنع لضيفك طعاماً فيه ثوم؛ فإن ذلك من التميز، ولا تتكلف كثيراً لضيفك لئلا تحرجه، وإن كنت ضيفاً على أحد فكل أكلك المعتاد؛ لأن صاحب المائدة الكريم يحب أن يأكل الضيف ويكثر في الزيارة.
لا تزر وقت قيلولة أو راحة أو منتصف ليل، واستأذن قبلها بالهاتف إن أمكن، واطرق الباب برفق ثلاثاً وإلا فارجع هو أزكى لك، وقف إلى جانب الباب لا أمامه إذ ربما تفتح امرأة.
ثم لا تطل وقت الزيارة فالوقت أنفاس لا تعود.
لا تصافح أخاك بيد مرتخية ولا بأخرى حديدية، وكن وسطاً؛ لا تناد أخاك بمزمار السيارة كما يفعل الطائشون.
في الهاتف: لا تطل الكلام ولا ترفع صوتك، واذكر اسمك لمن تكلمه مباشرة.
إن خدمك خادم أو عمل لك عامل فأجزل له الأجرة ولا تماطله.
في الكلام: لا تسابق وأنصت حتى يبرأ مخاطبك.
في التعزية: لا تبادر إلى تعزية مسافر فلعله لا يعلم ما حدث.
واحذر ثم احذر مما يوجب الخجل.
وإياك وما يعتذر منه ويسلب المروءة؛ فإن الشافعي قد طبق هذا المعنى فقال: والله! لو علمت أن الماء البارد يسلب مروءتي ما شربته إلا حاراً.
تميز عام حتى في اللعب، حتى في الرائحة، في كل الأمور؛ فإن العِرْف يُعرف بغصنه والقول يعرف بلحنه، والصبح لا يتمارى بإسفاره، ولا يفتقر إلى دليل على إشراق أنواره:
وما كل من قال القريض بشاعر وما كل من عاش الهوى بمتيم
فاقصد البحر تميَّز وخل القنوات!(17/31)
الاتزان والعدل في كل الأمور
يا فتى الإسلام! اقصد البحر معتدلاً متزناً في حبك وبغضك وولائك وعدواتك، واحمل معك ميزان السنة الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يوم يقول في فتاواه: إذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وبر وفجور، وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، ومن العداوة والعقاب بقدر ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص موجبات الإكرام والإهانة.
ثم أتبع ذلك بقول الخطيب البغدادي: فليس من شريف ولا عالم غير الأنبياء إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، فمتى كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله.
ولذا نقل ابن القيم رحمه الله عن شيخ الإسلام قوله: انظر لموسى صلوات الله وسلامه عليه: رمى الألواح التي فيها كلام الله فكسرها، وجر بلحية نبي مثله وهو هارون عليه السلام، ولطم أعين ملك الموت ففقأها، وربه تعالى يحتمل له كل ذلك ويحبه ويكرمه؛ لأنه قام لله تعالى تلك المقامات العظيمة في مقابلة أعدى عدو له فرعون، وصدع بأمر الله، وعالج أمتي القبط وبني إسرائيل أشد المعالجة، وأمتان كهذه الأمم معالجتها شديدة أليمة، يعبدون بقرة ثم يتوقفون في ذبح بقرة، ثم يعبرون البحر فيقولون: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة؛ فكانت هذه الأمور كلها كالشعرة في البحر.
لا غرو.
إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، ومن قل خطؤه وكثر صوابه فهو على خير، والعبرة بكمال النهاية لا بنقص البداية.
فيا قاصد البحر: لا يكن حبك كلفاً، ولا بغضك تلفاً؛ فإن من الناس من إذا أحب كلف كما يكلف الصبي فلا يستغني عن محبوبه طرفة عين، وإذا أبغض أحب لصاحبه التلف.
إن الذي لا عيب فيه غير الأنبياء لم يخلق بعد، والكمال لصاحب الكمال.
وكفى بالمرء نبلاً أن تعد معايبه
فاربأ بنفسك وأنا أربأ بك أن تكون ممن تستفزه كلمة فينسى معها قاموس التآخي، ويجرد أصحابه من كل فضل كأن لم تكن بينه وبينهم مودة:
ولقد رأيت معاشراً جمحت بهم تلك الطبيعة نحو كل زيار
تهوى نفوسهم أذى إخوانهم شغلاً بكل دناءة وصغار
تبعوا الهوى فهوى بهم وكذا الهوى منه الهوان بأهله فحذار
فانظر بعين الحق لا عين الهوى فالحق للعين الجلية عار
صحح الأخطاء، واعدل، ولا تمس المشاعر، وامدح على قليل الصواب يكثر من الممدوح الصواب؛ ولا خير في المبالغة في شيء.
واقصد البحر بعدل واتزن وخلِّ القنوات.
عرِّف نفسك قدرها، وانهج بها نهج بكر بن عبد الله يوم يقول: إن رأيت من هو أكبر مني سناً قلت: سبقني بالإيمان والعمل الصالح فهو خير مني، وإن رأيت من هو أصغر مني فأقول: سبقته إلى الذنوب والمعاصي فهو خير مني، وإن أكرمني إخوتي قلت: تفضلوا علي فجزاهم ربي خيراً، وإن أهانني إخوتي قلت: ذاك لذنب أصبته، وعهد بيني وبين الله ضيعته، ورحم الله امرأً عرف قدر نفسه.
فاقصد البحر وقَدْر النفس فاعرف وخلِّ القنوات!(17/32)
الرفق في التعامل
فتى الإسلام:
خذهم بالرُقى إن المَهَارى يهيِّجها على السير الحُداء
لين القول أدعى للقبول، بالتي هي أحسن، بالموعظة الحسنة، وقولوا للناس حُسناً: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ} [آل عمران:159] {فما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه} {وإن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله} {ومن يُحرم الرفق يحرم الخير كله} لا مُداهنة ولا نفاق، بل نصح في أسلوب دمث مؤثر، يفتح القلوب، ويشرح الصدور.
في الحديث الصحيح: {أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد المسير إلى حنين بعث إلى صفوان بن أمية -وهو كافر- يطلب منه أن يعيره مائة درع، وما يُصلحها من عدتها وعتادها، فقال صفوان: أغصباً يا محمد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا.
بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك، فأعار النبي صلى الله عليه وسلم الدروع، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يحملها إلى حنين فحملها، ولما عاد النبي صلى الله عليه وسلم غانماً من حنين، وقد تلفت بعض الدروع في الحرب، قال لـ صفوان: إن شئت غرمتها لك يا صفوان! فقال صفوان: لا.
وجعل ينظر إلى شعب مليء بنعم وشاة ورعاء، ويديم النظر إلى ذلك النعم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرمقه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: أبا وهب! أيعجبك هذا؟ قال: نعم.
قال: فهو لك.
فقال صفوان: مه، والله ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي، أشهد أن لا إله إلا لله، وأنك رسول الله، ودخل في دين الله}.
خذهم بالرقى إن المهارى يهيجها على السير الحُداء.
وثبت في مستدرك الحاكم أن زيد بن سعنة؛ أحد أحبار اليهود اشترى تمراً معلوماً من النبي صلى الله عليه وسلم إلى أجل معلوم، وقبل الموعد بأيام جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد فرغ من صلاة الجنازة على أحد المسلمين، ودنا إلى جدار ليجلس متعباً صلى الله عليه وسلم، فيتقدم زيد فيأخذ بمجامع قميصه وردائه، وينظر إليه بوجه غليظ متجهم، ويقول: يا محمد! ألا تقضني حقي؟ والله! إنكم لمطل يا بني عبد المطلب.
عند ذلك نظر إليه عمر وعيناه تدوران في وجهه من الغضب، ثم قال: يا عدو الله! أتقول لرسول الله ما أسمع، وتصنع ما أرى؟! والذي بعثه بالحق، لولا ما أُحاذر من لومه لضربت بسيفي هذا رأسك.
فيرتعد ويخاف ويضطرب إذ الكلام من عمر، وما أدراك ما عمر؟! وينظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فينظر إلى عمر صلى الله عليه وسلم ويبتسم في سكون وتؤدة، ثم يقول: {يا عمر! أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك؛ أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن الطلب، اذهب يا عمر! فأعطه حقه، وزده عشرين صاعاً جزاء ما روعته}.
انطلق عمر وأعطى الرجل حقه، وزاده عشرين صاعاً.
فقال زيد: ما هذه الزيادة يا عمر؟
قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أزيدك جزاء ما روعتك، فتلألئ وجه زيد بالبشر، قال: ألا تعرفني يا عمر؟ قال: لا.
قال: أنا زيد؛ حبر اليهود، لم يكن من علامات النبوة شيء إلا عرفته في وجه رسول الله إلا علامتين؛ أنه يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً، وقد عرفتهما الآن، فأشهدك -يا عمر - أني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، وأشهدك يا عمر فوق ذلك أن شطر مالي صدقه على أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
يا لله! شدة وعنف تقابل من رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلم عظيم تجعل ذلك ينضم لهذا الدين، ويبذل له نصف ماله في أول لحظات إسلامه: {وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:34 - 35].
فيا قاصد البحر! ويا أيها الداعي إلى الله! تذكر أن الكلمة القاسية الجافة؛ لها كلمة طيبة مرادفة تؤدي نفس المعنى بلا أذى، وفي المثل: إنَّ نقطة العسل تصيد من الذباب ما لا يصيده برميل علقم
فبالعوراء لا تنطق ولكن بما يرضى الإله من الكلام
يمر أحد الصالحين بقرية يدعوهم فيها إلى الهدى، فيسبونه ويشتمونه، فيدعو لهم بالصلاح والهداية، فقال أصحابه: تدعو لهم وهم يريدون بك شراً، وترد عليهم خيراً؟!
قال في سُمُو خلق، ورقة نفس، وسعة صدر: كلٌ ينفق مما عنده.
إن كريم الأصلَ كالغصنِ كُلما ازداد من خيرٍ تواضعَ وانحنى
فخذهم بالرقى إن المهارى يهيجها على السير الحداء
فاقصد البحر برفق وخل القنوات!(17/33)
الشعور بالمسئولية
أخيراً: يا من قصد البحر! بسبب وصحبة إخلاص وصدق وصواب، وهمة مقرونة بها، يعقبه عمل، وقد نقد الثمن بثبات وتميز واتزان، اعلم أنك مسئول: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93] فليتق الله قاصد البحر في كل كلمة يقولها، وكل حركة أو سكون؛ فإن الله سائله.
ذُكر عن بعض العلماء رحمهم الله أنه ولي القضاء، فحكم على رجل فاجر سفيه طائش فقال له: والله! ما أردت بحكمك هذا وجه الله، ولقد ظلمتني.
فقال العالم: أو تقول ذاك؟
قال: نعم.
وأقسم عليه.
قال العالم -واسمعوا لما قال- قال: والذي لا إله إلا هو! ما تكلمت بكلمة منذ أربعين عاماً إلا وأعددت لها جواباً بين يدي الله عز وجل!
فيا قاصد البحر: {لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به} فماذا عسى يكون الجواب؟ أعدَّ للسؤال جواباً، وللجواب صواباً، واقصد البحر بإعداد وخل القنوات.
أخي قاصد البحر: -ولعل الكل قاصد- بقي أمور لابد لي من سردها نظراً للضيق.
أعط كل ذي حق حقه، وقدم فاضل الأعمال على مفضولها، واعرف خير الخيرين لتتبع، وشر الشرين، ومع الدليل تدور ولا تغتر بالكثرة، والبر البر تفلح، والقصد تبلغ، ولا تكن خباً ولا الخب يخدعك:
وابذل الخير تجني كل صلاح يبتذل الخير إذ تطيب البذور
واعلم أن الكلام في الموضوع يطول، وما قلته سوى وميض حداء على الطريق، اكتفيت فيه من القلادة بما أحاط بالعنق، عجزاً في ضيق وقت، فما وجدت من صواب وحق فاقبله وما وجدت من خطأ فاعلم أني لم آلوا جهداً في الصواب، ويأبى الله إلا أن يتفرد بالكمال، والنقص في أصل الطبيعة كامن، وكيف يعصم من الخطأ من خلق ظلوماً جهولاً؛ لكن:
إن تجد عيباً فسد الخللا جل من لا عيب فيه وعلا
واقصد البحر وخل القنوات!
أسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علماً وعملاً.
اللهم كن لنا، وامكر لنا، وانصرنا وأعنا، واهدنا واهد بنا، ويسِّر الهدى لنا.
اللهم كن للمستضعفين والمضطهدين والمظلومين.
اللهم اجبر كسرهم، وتولَّ أمرهم، اللهم أزل عنهم العناء، واكشف عنهم الضر والبلاء.
اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء، يا سميع الدعاء! يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام!
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(17/34)
الأمر بالمعروف
إن من أهم خصائص الأمة الإسلامية فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالقيام بها أصبحت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، وبسبب تركها لعنت أمم، وطردت من رحمة الله.
فالواجب على المسلم أن يقوم بها في كل وقت ومكان، كل بحسب حاله ومكانه، والأمر بالمعروف له شروط وضوابط ووسائل يجب أن ينضبط بها.(18/1)
ضرورة الانقياد للكتاب والسنة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين؛ فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
يا أمة الحق والآلام مقبلة متى تعين ونار الشر تستعر
متى الفواق وقد ضمت مصيبتنا متى الخلاص وقد لمت بنا العبر
متى يعود إلى الإسلام مسجده متى يعود إلى محرابه عمر
أكل يوم يرى للدين نازلة وأمة الحق لا سمع ولا بصر
عباد الله: ونحن نعيش زمناً عصيباً، ووقتاً دقيقاً وحرجاً، يتعلق بمصير أمتنا، أقول: إن النجاة في انقيادنا لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فلقد كتب الله لهذه الأمة حين تحيد عن كتاب الله أن تتقلب في ثنايا الإهانات، وتتنقل من هزيمة إلى هزيمة.
فلنرفع الغطاء عن أعيننا، ولنكن صرحاء مع أنفسنا، كفانا نكبات، وكفانا كوارث، وكفانا نكسات، وكفانا تلمس النصر في ثنايا البشر من دون الله، كفانا كوننا عن كتاب الله بعيدين، وعن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم حائدين، ولنعُد إلى الحق المبين، فاسمعوا إليه يوم يقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:71] ألا فاتقوا الله حق تقواه يا عباد الله! واعلموا أن من أسباب النجاة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أسباب السقوط والهلاك: السكوت عن المنكرات، قال تعالى: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} [الأعراف:165].(18/2)
الأمر بالمعروف من خصائص هذه الأمة
ألا فاعلموا أن من أعظم خصائص أمتنا أنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وأن علماءها يغضبون إذا انتُهكت محارم الله، ودعاتها يشتاطون غيظاً وغضباً لانتهاك حدود الله، فهي المأمورة بقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104].
ألا فلتكن طائفة تقف على حدود الله؛ ترعى المجتمع، تنظر لأحوال الأمة لا تسمح للجريمة، غَضِبَ مَنْ غضب ورَضِيَ مَنْ رضي، ليكن منكم علماء ودعاة يقفون أمام الشرور والمنكرات، يؤدون رسالة الله؛ ليرحمنا الله عز وجل: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:71].
يوم يترك الأمر بالمعروف، فلنعلم أننا نحارب الله، ولنعلم أن غضب الله قد طوَّقنا، وأن سخط الله قد قرب منا.
فإن تمادَتْ بنا الأهواء والخور فهي العقوبة لا تُبقي ولا تذر
ما نتيجة أن يقر الناس على الجريمة، ويسكت على الفاحشة، ويقدم العاصي، ويؤخر المؤمن المرضي الراضي؟
ما نتيجة ترك الصلوات؟
وتعاطي المخدرات؟
والركون إلى الذين ظلموا وسماع الأغاني الماجنات، والجري وراء الشهوات، والمجاهرة بكل هذه المنكرات؟
ما نتيجة الرضا بكل هذه المنكرات، وما نتيجة السكوت على هذه المنكرات؟
إن نتيجة ذلك ومعناه سوف تختل الأمور، ويغضب الله وملائكته، معناه: أن البركة نزعت؛ لأننا سمعنا ورأينا وسكتنا، فما حرَّكنا ساكناً، وإلا لماذا كنا خير أمة أخرجت للناس؟ كنا كذلك بالأمر والنهي؛ نأمر بالمعروف بالمعروف، وننهى عن المنكر بالمعروف، وإلا فإن العذاب والسوء ينتظرنا.(18/3)
عاقبة التهاون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
في الأثر: أن الله جل وعلا أوحى إلى جبريل -عليه السلام-: أن اقلب مدينة سبأ على من فيها -وجبريل كما تعلمون أعطاه الله قوة هائلة، يقتلع الجبال والوديان والثغور والأشجار والأحجار، وله ستمائة جناح، بجناح واحد حمل أربع قرى- فرفعها إلى السماء حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم، ثم رماهم، فجعل عاليهم سافلهم، أرسله الله إلى هذه المدينة ليقلبها على من فيها، فقال: يا رب إن فيها عبدَك فلاناً، لم يعصِك طرفة عين، قال الله: فبه فابدأ؛ لأنه لم يتمعَّر وجهه فيَّ قط.
لا إله إلا الله! يصلي ولم يعصِ الله طرفة عين، لكنه يرى المنكر فلا يغار، ويسكت عليه، فنزل جبريل، فأخذه بطرف جناح من معبده، فجعله في أول موكب المعذبين {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]، {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة:78] لم لعنوا؟ {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79].
ذاك في بني إسرائيل، لكن والله قد وجد في مجتمعاتنا من يدعو إلى عدم التكلم عن الجرائم والمنكرات، وعدم تشخيصها وتحذير الأمة منها، ووالله ما حصل ذلك إلا وهلكت الأمة، وذهبت إلى الدمار، والعار، والنار: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79].
الزنا ودور الخمر فشت، وقطيعة الرحم والعقوق ذاعت، وتَفْوِيت الجماعات شاع، والتطفيف في المكيال والميزان زاد، والضغينة والمنكرات فاحت رائحتها، وعلماء بني إسرائيل ساكتون، صامتون، ملجمون، لماذا سكتوا؟ رغبةً أم رهبةً، والسكوت دائماً إما رغبة وإما رهبة؛ إما رغبة في حطام فانٍ أو منازل ومناصب، أو وظائف لا تسمن ولا تغني من جوع، وإما رهبة من سوط وقسوة بعض الظلمة، فسكتوا، فماذا كان الجزاء؟
قال سبحانه: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13] قال أهل العلم: كان في الميثاق الذي أخذ عليهم: أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر.
صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث ابن مسعود الذي رواه الترمذي: {إنما دخل النقض على بني إسرائيل أنه كان إذا لقي أحدهم أخاه وهو على الفاحشة، قال له: اتق الله، ثم لا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وقعيده وشريبه، فلما فعلوا ذلك لعنهم الله، وعمَّهم بعقاب وغضب من عنده، وكان صلى الله عليه وسلم متكئًا فتربع، وجلس، وقال: كلا والذي نفسي بيده، لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهَوُنَّ عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم}.
لا إله إلا الله! نعوذ بالله من لعنة الله، وغضب الله: {لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم من لا يرحم صغيركم ولا يوقر كبيركم}، {لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم}.
أترضون أن يعم الشر؛ فيُؤخَذ الصالح والطالح، وأن تنزل لعنة الله، وإذا تنزلت لا ترفع؟!
أترضون أن يمقتنا الله من فوق سماواته؟!
أين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟!
أما اتكلنا على غير الله؟ أما عمت الشعوذة والخرافة في بعض القرى والبوادي؟ أما انتشر الفحش؟ أما استبدل القرآن في بيوت كثير من الناس بالأغنية؟ أما عوض في متاع القرآن باللهو والمجون؟ أما ضيعت الصلوات- إلا في بيوت من رحم الله-؟ أما تُهُوِّنَ بالجماعات؟ أما انتشر الربا وسُكت عليه؟ أما قطعت الأرحام؟ أما أُعلن الإلحاد؟ أما سُبَّ الإله؟ أما سُبَّ محمد صلى الله عليه وسلم؟ أما قُتِّل المسلمون؟ أما أُحييت الليالي الماجنات من المغنين والمغنيات على (هل رأى الحب سكارى مثلنا)، (ارفع ستار الخجل)، وغيرها من الترهات والخزعبلات؟ أما أُخذ الميراث؟ أما عُقَّ الوالدان؟
ولم يؤخذ على أيدي هؤلاء والدعاة مئات ومئات، والعلماء كذلك، والجامعات والمعاهد والمدارس تخرج؟(18/4)
مسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فيا طلبة العلم! ويا أيها العلماء! ويا دعاة الإسلام! هذا وقت الأمر والنهي، من يأمر وينهى إن لم تأمروا وتنهوا؟ إنا لا ندعو لمضاربة الناس، ولا لشتمهم، ولا لجرح شعورهم، ولا للتشهير بهم، حاشا وكلا، لكن ندعو إلى إنقاذ الناس من الضلالة، ندعو إلى إنقاذ الناس من النار؛ ندعو إلى أخذ الناس لمركب النجاة، ندعو إلى الأخذ بحبل الله؛ بكلمة الحق في أي مكان، بالنصيحة في الشارع، بالقدوة الحسنة، بالزيارات.
يقول محمد صلى الله عليه وسلم: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان}، وفي رواية: {وليس بعد ذلك مثقال حبة خردل من إيمان}، وعن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه وأرضاه- قال: [[بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، والعسر واليسر، وأن نقول في الله لا تأخذنا فيه لومة لائم، فمنا من وفى بذلك؛ فأجره على الله]].
ألا لا تأخذ المسلم في الله لومة لائم، يغضب مَنْ يغضب إذا رضي الله، ويسخط من يسخط إذا رضي الله {من أرضى الناس بسخط الله: سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أرضى الله بسخط الناس: رضي الله عليه وأرضى عليه الناس}، والله إذا علم منك أنك تريد إرضاءه، أرضى عنك الناس، وحماك وسددك وكفاك وآواك.
ألا فاحفظ الله يحفظك، واحفظ الله تجده تجاهك، تعرَّف على الله في الرخاء، يعرفك في الشدة.
صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {مثل القائم في حدود الله- أي: الذي يأمر وينهى- والواقع فيها، كمثل قوم استهموا في سفينة، فكان قوم أعلاها، وقوم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على الذين في أعلاها، فظنوا أنهم آذوهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في الجانب السفلي لما آذينا الذين فوقنا} ثم قال عليه الصلاة والسلام: {فإذا تركوهم هلكوا وهلكوا جميعاً، وإذا أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً} وهذا مثل من يترك المفسدين الفجرة الذين يلعبون بالأعراض والمبادئ والقيم، ويقول: نفسي نفسي، يصلي ويخرس كالشيطان الأخرس، من بيته إلى المسجد، ويرى الأمم، ويرى الأجيال، والشباب تائهين، ضائعين، حائرين، ثم لا يقول هذا هو الطريق؛ ليبقى وديعاً، هادئ البال، مطمئناً مرتاحاً.
من كلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يرى الجرائم ولا يتكلم بكلمة، أما -والله- لو أن أحدنا أمر بأمر بسيط، أو نهى عن منكر في اليوم الواحد بالتي هي أحسن لصلح حالنا.(18/5)
شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
من ننتظر أن يصلح حالنا إذا ما أصلحنا؟ {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] لكن يشترط في من يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر شروط:
أولها: أن يكون أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر خالصاً لله، لا يبتغي الأجر إلا من الله، لا ليقال أمر ونهى؛ فإن الله سوف يرد عليه مقاصده، ولا يجعل لدعوته أثراً ولا فائدة ولا نفعاً، وأن يكون ذا علم، وذا بصيرة وحكمة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] وأن يكون عاملاً بما يقول، وما أقبح من ينهى الناس، وهو واقع فيما ينهى عنه! لن تقبل دعوته.
لا تنه عن خلقٍ وتأتيَ مثله عارٌ عليك إذا فعلت عظيمُ
ابدأ بنفسك فانهها عن غَيِّها فإذا انتهت عنه فأنت حكيمُ
وأن تكون الدعوة بالتي هي أحسن؛ بالتحبب إلى القلوب، بشراء الأرواح، إن الذي يأتي ليغير منكراً بمنكر ما فعل شيئاً، بل أعان الشيطان على أخيه.
إن من يجرح ويفضح الناس، ويشتم الناس، ويسب الناس، لن يجد أثراً لدعوته، يقول الإمام الشافعي -وهو يعلن مبدأ عظيماً من مبادئ الدعوة إلى الله-:
تعمدني بنُصحكَ في انفراد وجَنِّبْنِي النَّصِيحةَ في الجماعة
فإن النصحَ بين الناسِ نوعٌ من التوبيخِ لا أرضى استماعَه
فإن خالفتني وعصيتَ أمري فلا تجزع إذا لم تُعْطَ طاعة(18/6)
صور من معاناة السلف الصالح في الأمر والنهي
ألا يا عباد الله: مروا بالمعروف ولا تخشوا إلا الله، لا خير فيكم إن لم تقولوا كلمة الحق، ولا خير في من لم يسمعها، ولا تظنوا أن الطريق مفروش بالورود لمن أمر ونهى، إنه طريق محمد صلى الله عليه وسلم أوذي فيه، ووضع سلا الجزور على ظهره، ووضع الشوك في طريقه، وأُدمي عقباه، وشُجَّ وجهه، وكسرت رباعيته؛ فما ضعف وما استكان وما هان، وما كان له ذلك، وللدعاة من بعده قدوة فيه صلى الله عليه وسلم.(18/7)
الأوزاعي مع عبد الله بن علي
هاهو عبد الله بن علي الحاكم العباسي عم أبي جعفر المنصور يوم دخل دمشق محتلاً؛ دخلها في يوم واحد فقتل ثمانية وثلاثين ألف مسلم في ست ساعات؛ كان من جبابرة الدنيا، حتى إنه أدخل الخيول في مسجد بني أمية.
ثم دخل قصره وقال: من يعارضني فيما فعلت؟
قالوا: لا يعارضك أحد.
قال: أترون أحداً من الناس يمكن أن ينكر عليَّ.
قالوا: لا يمكن أن ينكر عليك أحد إلا الأوزاعي -عالم الدنيا في ذلك الوقت، الزاهد المحدث الكبير- قال: عليَّ بـ الأوزاعي.
فلما نُوِدي الأوزاعي؛ علم أن الموت ينتظره، وأن الله أراد أن يبتليه؛ إما أن ينجح، أو يرسب رسوباً ما بعده رسوب؛ علم أن الله أراد أن يمتحنه ليصبر، أولا يصبر، فقالوا: للأوزاعى إن عبد الله بن علي يدعوك لمقابلته اليوم، والدماء لا زالت تجري على أرض دمشق لم تجف.
فماذا كان من هذا العالم الزاهد؟
لبس أكفانه بعدما اغتسل، ثم لبس ثيابه من على أكفانه، ثم أخذ عصاه، وخرج من بيته، وقال: يا ذا العزة التي لا تُضام، والركن الذي لا يُرام، يا من لا تُهزَم جنوده، ولا يُغلب أولياؤه، اللهم أنت حسبي ومن كنت حسبه فقد كفيته، ثم دخل.
وقبل أن يدخل سمع عبد الله بن علي به فصف وزراءه وأمراءه ميمنة وميسرة، ليُرهب هذا العالم، ثم مد سماطين من الجلود، ثم أمرهم أن يرفعوا السيوف حتى التقت رءوسها، ثم قال: أدخلوا الأوزاعي.
فدخل من بين السيوف، فلما دخل، ووقف عند عبد الله بن علي، غضب هذا الأمير غضباً حتى انعقد جبينه، قال: أأنت الأوزاعي؟
قال: يقول: الناس أنِّي الأوزاعي، وقال الأوزاعي في هذه اللحظة: والله ما رأيته إلا كأنه ذباب أمامي، يوم أن تصورت عرش الرحمن بارزاً يوم القيامة، وكأن المنادي ينادي: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]، والله ما دخلت قصره إلا وقد بعت نفسي من الله عز وجل.
قال الأمير: ما ترى في هذه الدماء التي سفكنا؟
قال: حدثني فلان بن فلان عن فلان عن جدِّك عبد الله بن عباس: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث؛ الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة} فغضب حتى أصبح كالحية يتلظى، قال: ورأيت الوزراء يرفعون ثيابهم؛ لئلا يصيبهم دمي إذا قُتلت، قال: وأخذت أرفع عمامتي ليقع السيف على رقبتي مباشرة، قال: فرفع رأسه.
فقال: ما ترى في هذه الأموال التي أخذت، وهذه الدور التي اغتصبت؟
قال: قلت: سوف يجردك الله يوم القيامة، ويحاسبك عرياناً كما خلقك؛ فإن كانت حلالاً فحساب، وإن كانت حراماً فعقاب.
قال: فتلمظ كالحية، ورأيت الناس يتحفزون لئلا يقع دمي عليهم، قال: وكنت أقول في نفسي: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم.
قال: فما كان منه إلا أن قال: اخرج، قال فخرجت فوالله ما زادني ربي إلا عزة وكرامة.
ولما مات هذا الإمام، أتى عبد الله بن علي -ذلك الجبار- إلى قبره، وقال: والله إني كنت أخافك أخوف أهل الأرض، ووالله إني كنت إذا رأيتك رأيت الأسد بارزاً.
لم خافه.
لأنه صدق مع الله، واعتصم بحبل الله، وخاف الله فَخَّوف الله منه كل شيء.(18/8)
أبو مسلم الخولاني مع الأسود العنسي
وهاهو الأسود العنسي -طاغية اليمن - الكافر الساحر، القبيح الظالم، يجتمع حوله اللصوص، وقطاع الطرق؛ ليكونوا فرقة للصد عن سبيل الله، ليذبحوا الدعاة إلى الله، ذبح من المسلمين من ذبح، وحرق من حرق، وطرد من طرد، وفر الناس بدينهم، وأخذ يهتك الأعراض، ويعذب الدعاة، ومن بين هؤلاء الدعاة المخلصين أبو مسلم الخولاني -عليه رحمة الله ورضوانه- عذبه فثبت كثبات سحرة فرعون، وحاول أن يثنيه عن دينه، وعن دعوته، وأمره ونهيه، فقال: كلا والذي فطرني لن أقف: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72].
جمع الأسود الناس، وقال: أتعتقدون في داعيتكم أنه على حق؟ إن كان على حق، فسينجيه الحق، وإن كان على باطل فسترون، ثم أمر بالنار فأضرمت -نار هائلة تمر الطيور من فوقها فتسقط لعِظَمِ ألسنة لهب هذه النار- ثم ربط يديْ أبي مسلم ورجليه بالقيد، ووضعوه في مقلاع، ثم نسفوه بالمقلاع ليهوي في خضم لهيب النار ولظاها وجمرها، وهو يقول: حسبي الله ونعم الوكيل.
كاد الموحدون أن تنخلع قلوبهم، وقف الناس ينظرون، وبدأت النار تخبو وتضعف، وإذ بـ أبي مسلم يخرج من طرفها الأخر ماشياً على قدميه، قد فكت النار وثاقه، عليه ثيابه لم تحترق، يدوس بقدميه الحافيتين الجمر ويتبسم وينظر إلى الناس.
ذهل الطاغية، وخاف أن يسلم من لم يسلم، فهددهم وتوعدهم؛ ليصدهم عن سبيل الله، أما أبو مسلم فخرج من النار، وواصل مشيَه فاراً بدينه، والمؤمنون يتبعونه، حتى وصل إلى المدينة -في عهد أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه ودخل المسجد، وصلى ركعتين.
وسمع به عمر -رضي الله عنه- فجاء يغذ السير إليه، فلما رآه قال: [[أأنت أبو مسلم؟
قال: نعم.
قال: أأنت الذي قذفت في النار، وخرجت منها سليماً؟
قال: نعم.
فاعتنقه عمر يبكي، ويقول: الحمد لله الذي جعل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم مثل إبراهيم الخليل عليه السلام]].
ألا فادعوا الله أيها المسلمون، ومروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، واعتصموا بحبل الله، فوالله لو كادتكم السماوات والأرض ليجعلن الله لكم منها فرجاً ومخرجاً.
فاشدد يديْك بحبلِ الِله معتصما فإنه الركنُ إن خانتك أركانُ(18/9)
أحد الصالحين مع ابن مقلة
وهاهو أحد الصالحين ذكر أهل السير أنه دخل على ابن مقلة -وزير مجرم عباسي- سفك الدماء، ونهب الأموال، فاعترض عليه هذا الرجل الصالح، وأمره بالمعروف، ونهاه عن المنكر؛ فما كان منه إلا أن جلده عشر جلدات، فقال: أتجلدني يوم آمرك وأنهاك؟ أسأل الله أن يقطع يدك ولسانك.
ويستجيب الله دعاء المخلصين الصادقين، ما مرت عليه ستة أشهر حتى أُخِذت أمواله، وقطعت يده، وقطع لسانه، وأخذ يبكي، ويكتب على الحيطان:
ليس بعد الحياةِ لذةُ عيشٍ يا حياتي بانت يميني فبِيني
يبكي ويكتب على الحيطان:
إذا ما مات بعضك فابكِ بعضاً فإن البعضَ من بعضٍ قريبُ(18/10)
ما أهون الخلق على الله إذا تركوا أمره
يا عباد الله: الأمر والنهي من خصائصنا إن كنا نريد الخيرية والأمان والاطمئنان، ومتى تركناه فلننتظر الجوع، والدمار، والحرب، والخوف، والجفاف، والغضب، والمقت، واللعنة.(18/11)
هوان أهل جزيرة قبرص
هاهو أبو الدرداء لما فتح المسلمون جزيرة قبرص، رأى صراخ أهلها، وبكاء بعضهم إلى بعض؛ فبكى كثيراً، قيل له: يا أبا الدرداء: ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ قال: [[ويحكم، ما أهون الخلق على الله إذا هم تركوا أمره، بينما هم أمة ظاهرة قاهرة تركوا أمر الله، فصاروا إلى ما ترون]].
ولا نذهب بعيداً بل نقلب النظر إلى من كانوا في رغد من العيش، في هناء وسعادة، فطغى أمراؤهم، وسكت علماؤهم، وأُبْلس دعاتهم، فما تُكِلم بمعروف وما نُهِي عن منكر، ولم يؤخذ على يد ظالم، فأمهلهم الله، ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
إليكم خياريْن لا ثالث لهما: إما أمر بمعروف ونهي عن منكر بقوة وأخذ على يد الظالم، وإما ضرب للقلوب، ثم لعنة توجب طرداً وإبعاداً من رحمة الله جل وعلا، أقول هذا إعذاراً بين يدي الله، وإقامة للحجة عليكم، وتحذيراً من أن يقع بنا بأس الله؛ فإن بأس الله لا يُرد عن القوم المجرمين، بينما الأمم هانئة وادعة، تترك أمر الله، وترتكب نهيه، ولا آمِر، ولا ناهٍ، إذ بالجو يدلَهِمُّ، والدماء تجري، والخوف والقلق يعم، هذه سنة الله، يمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.
يا أمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذا يومه، بل هذه ساعته، هذا وقت البيان، آن الوقت لئلا تأخذ الأمة في الله لومة لائم، إن الأمر جد خطير، وإن الله ينذر، ثم ينذر، ثم ينذر، ونُذُرُ الله تأتي في صور متعددة؛ فإن ارعوى الناس، وآبوا، وعادوا، وإلا: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].
أسأل الله أن يوفق الأمة وولاتها إلى القيام بمسئولية الأمر والنهي على الوجه الذي يرضي ربنا عنا، اللهم اجعلنا خير أمة أخرجت للناس بأمرنا ونهينا، كما كنا إنك على كل شيء قدير.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(18/12)
مسخ الله لأصحاب السبت
الحمد لله رب العالمين جعلنا خير أمة أخرجت للناس نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
قال الله تعالى مخاطباً محمداً صلى الله عليه وسلم: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف:163 - 166]، {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف:111].
هذه قصة قرية أُخِذت أخذ عزيز مقتدر، فضحها الله، وجعل أشخاصها قردة وخنازير، يوم تركوا أمره ونهيه، قرية كانت على الشاطئ مجاورة للبحر، حرم الله عليهم صيد السمك يوم السبت، فوقفوا لا يصطادون يوم السبت، فزاد الله ابتلاءهم ابتلاءً، وامتحن صدقهم وإخلاصهم، فجعل الأسماك يوم السبت تأتي سابحة إلى الشاطئ، وفي بقية الأيام لا تكاد تجد سمكة إلا قليلاً، فانقسم الناس حيال أمر الله عز وجل إلى أقسام، وهم في كل زمان بهذه الأقسام:
قسم هم أهل الخبث والخيانة والفجور، قالوا: نجري جداول وأنهاراً إلى داخل الشاطئ، فإذا دخلت الأسماك سددنا عليها يوم السبت وأخذناها يوم الأحد.
أَعَلَى الله يضحكون؟ أم على الله يمكرون؟ يخادعون الله وهو خادعهم.
وقسم أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وقال: لا تفعلوا هذا، بل اتقوا الله، وخافوا الله، واحفظوا الله، فلم يسمع لهذا القسم.
وقسم آخر: قال اتركوهم، لِمَ تنهونهم؟ الله سيعذبهم.
فقال الدعاة إلى الخير: نأمرهم معذرة أمام الله عز وجل يوم يجمع الأولين والآخرين؛ علهم أن يهتدوا، فنحن لا نعلم أن الله قد طبع على قلوبهم.
بدأ أهل الخبث في تنفيذ خطتهم، وخداعهم، ومكرهم، فقام الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر-الذين يثقون بما يعد الله به- بجعل سور بينهم وبين الفجرة الماكرين؛ حتى لا يصيبهم من العذاب ما يصيب أهل السوء، وتركوا في الجدار نوافذ؛ ليتطلعوا أخبارهم من خلالها، ليكون لهم في ذلك عبرة.
أما القسم الآخر فسكتوا ولم يمكروا، لكنهم رضوا بالمنكر، والراضي كالفاعل.
ويأتي صباح يوم من أيام الله، يوم يغضب الله ويسخط على أعدائه، فيمسخ أولئك قردة وخنازير، فوجئ الدعاة، وإذ بالنوافذ ممتلئة خنازير وقردة، يقولون: من أنت؟ فيقول الرجل: أنا فلان، وهو على صورة خنزير، والمرأة تقول: أنا فلانة، وهي على صورة خنزير، وقعوا فيما يغضب الله، وتركوا الأمر والنهي؛ فصاروا قردة وخنازير.
ثم أتى الله بأولئك الذين سكتوا، وما تكلموا، الذين يقولون في كل زمان: إن الدعوة تطرف وتزمُّت، أتى الله بهم فأدخلهم في الحظيرة، فحولهم قردة وخنازير، هم ما احتالوا على الله، لكنهم سكتوا على المنكر، والراضي كالفاعل ولا يظلم ربك أحداً.
أما أولئك الدعاة الآمرون والناهون فسلموا في الدنيا، ولهم السلامة في الأخرى: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:165].
إن من يسكت ويقول: نفسي نفسي، سيأخذه الله مع الطالحين: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى} [هود:102].
تداعت علينا الأمم، ونحن كثرة كاثرة، لكن غثاء كغثاء السيل، أيقاظ نيام في الغالب، نؤمر فلا نأتمر، ونُنهى فلا ننتهي-إلا من رحم الله وقليل ما هم- والحوادث شاهدة: حلت بنا الأحداث، وطوقنا الأعداء، وخوفنا الله، فما زادنا ذلك إلا طغياناً كبيراً {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً} [الكهف:57].
أَأُخيَّ إن من الرجال بهيمة في صورة الرجل السميع المبصر
فطن لكل مصيبة في ماله وإذا أصيب بدينه لم يشعر(18/13)
التحذير من الإصرار على المعاصي
قلنا: لعل الحوادث توقظ قلوبنا فنعود إلى الله نأمر وننهى، ونتوب ونعود، ونغير ونبدل، فما حصل شيء من ذلك -ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم- أسألكم بالله: هل كان الذين يتخلفون عن الجماعة عادوا لحضور الجماعات أثناء هذه الحوادث؟
أسألكم: هل الذين كانت بيوتهم تعج بالمنكرات، والمغريات، والملهيات، هل خرج شيء من هذه المنكرات في أثناء هذه الحوادث؟
أسألكم عن الذين يصبح أولادهم على الرسوم المتحركة، ويمسون على الأغنية والفيلم، والمسلسل الرخيص، والتمثيلية التي تدعو إلى الرذيلة، هل غيَّر واحد من برنامجه أثناء هذه الحوادث.
أسألكم عن المختلطين -والذين أصبح الاختلاط ديدناً لهم في كل مناسبة- هل تركوا الاختلاط أثناء هذه الحوادث؟ هل اعتبروا؟ هل تفكروا؟
أسألكم عن أسواقنا، وعن المتبرجات، والمنكرات فيها، هل غُيَّر فيها شيء أثناء هذه الحوادث؟ هل نزل الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر إلى تلك الأسواق؟
أسألكم: هل مسلم لا زال فيه بعض الإسلام حركته هذه الحوادث، فقفل محلاً من محلات الفيديو في هذه البلدة؟
أسألكم: هل رجل صاحب تسجيلات للأغاني في هذه البلدة أقفلها، أو غيرها إلى تسجيلات إسلامية أثناء هذه الحوادث؟
ألا هل علم هؤلاء -أصحاب الفساد- بأنهم يأكلون حراماً؟
أسألكم: هل اتجه الناس أثناء الحوادث إلى المساجد بدلاً من اتجاههم إلى المقاهي والملاعب، أم زاد الاتجاه إلى الملاعب والمقاهي؟
أبالرياضة نبني مجد أمتنا أم بالفنون وبالأفلام ننتصرُ
أسألكم: هل رأيتم مسلماً أثناء هذه الحوادث رجع إلى الله، فأعفى لحيته بعد أن كان يحلقها، ورفع إزاره بعد أن كان مرخياً له؟
أسألكم: هل سمعتم بتاجر قد أخذ أمواله ووضعها في مصرف لا يتعامل بالربا أثناء هذه الفتن؟
بل أسألكم عن أهم شيء في مثل هذا الوقت: هل سمعتم بالناس يتحدثون عن الجهاد في سبيل الله أثناء هذه الحوادث؟
أسألكم: هل تحرك الناس، فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر أثناء هذه الحوادث؟
يموت الميت في هذه الحوادث فلا نرى مراسم العزاء البدعية أثناء هذه الحوادث تنتهي.
ألا هل تغير شيء؟
لا والذي رفع السماء بلا عمد ما تغير شيء في الغالب، بل ازداد الناس طغياناً، وتوكلاً على غير الله، وكأنهم يقولون: ربنا عجل لنا العذاب، المتخلف عن الجماعة لا زال، والمنكرات والملهيات بدأت تدخل البيوت بحجج واهية شيطانية، الراعي في بيته غش رعيته، فلم يأمرهم ولم ينهَهم، أمسى على الأخبار، والصحف، والأفلام، والمجلة، والمسلسل، وما رفع يده، ورعيته إلى الله رب البرية، ما كأنه سمع قول محمد صلى الله عليه وسلم: {ما من راعٍ استرعاه الله رعية فأمسى غاشاً لهم إلا لم يرح رائحة الجنة}.
الاختلاط كما هو، والأسواق تعج بالمنكرات، وما رأينا آمراً أو ناهياً، الفيديو والتسجيلات الغنائية تزيد يوماً بعد يوم، حلق اللحى يتضاعف، وإسبال الثياب كالنساء يفشو، والحديث عن الجهاد يخبو ويضعف، بل لا يذكر أبداً، والسكوت عن المنكرات يزيد.
لا إله إلا الله، ما أحلمك! ما أكرمك!، تمهل الظالم حتى إذا أخذته لم تفلته!
اللهم إن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفرطين ولا مفتونين.(18/14)
وسائل الأمر بالمعروف
يا مسلمون! يا مؤمنون! يا عقلاء! أخاطب فيكم الإسلام، والإيمان، والعقل، مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، واصدقوا، وأخلصوا لله، من عنده علم فليخرجه قبل أن يُلجم بلجام من نار، من عنده منكر فليخرجه وليتخلص منه قبل أن يندم فلا ينفعه ندم، من عنده مال فليسخره للقضاء على المنكرات وليسخره لدعم المسلمين في كل مكان.
يا أيها التجار! يا من يملك مالاً! يا من ستسأل عن مالك من أين اكتسبته وفيما أنفقته! الميدان فسيح لك هذه الأيام، يا أيها التجار! اشتروا محلات الفيديو، اشتروا تسجيلات الغناء، واقلبوها إلى تسجيلات إسلامية، تكونوا بمالكم قد دعوتم إلى الله وأنتم في متاجركم، وقضيتم على المنكرات.
يا أيها الشباب: لتنزلوا إلى الأسواق فتأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر بالمعروف، يا من لا يستطيع هذا ولا ذاك: مر بالمعروف في بيتك وانهَ عن المنكر.
واعلموا -يا عباد الله- أن دين الله ليس عليه خطر، ولا على رسالة الله خوف؛ الله تكفل بحفظ دينه من دونكم، لكننا نحن بدين الله نحفظ أنفسنا وأمتنا وجيلنا، نحن بحاجة إلى هذا الدين، فلنراجع أنفسنا، لا يزال الله يمهلنا، انهضوا، وعودوا، وتوبوا، ومروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، وبادروا إلى الخيرات لعلكم تنجون من عذاب الله القائل: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} [الأعراف:165] يا أيها الأخيار: يا أمراء القبائل! يا مشايخ القبائل: أنتم قدوة لمن أنتم رعاة لهم، بصلاحكم يصلح الله القرى والبوادي، كفى نوماً، وكفى طغياناً، اجتمعوا مع الشباب، وادعوا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة في قراكم، واقضوا على المنكرات؛ ليصلح الله لكم المجتمع، وليؤمنكم مما تخافون.
إن السنن الإلهية لا تجامل أحداً، بل تجري على كل من استحقها ولو كان حراً قرشياً، ومن هذه السنن: أنه ما من بلدة أعلنت الحرب على الأمر بالمعروف، إلا جاءها عذاب الله بكرة أو عشية: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الفتح:23].
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء!
اللهم انصر من نصر الدين واجعلنا من أنصاره، واخذل من خذل الدين ولا تجعلنا ممن خذله.
اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون لتكون كلمة الله هي العليا.
اللهم انصرهم وسدِّدهم وثبِّتهم وأيِّدهم يا قوي يا عزيز.
اللهم فرِّق جمع أعداء المسلمين.
اللهم رد كيدهم، وامكر بهم، واجعلهم عبرة للمعتبرين.
اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يُرد عن القوم المجرمين.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره في تدميره، ومزِّقه كل ممزق يا قوي يا عزيز!
اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، غير خزايا ولا مفتونين.
اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك.
اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقِّهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.
اللهم ارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه.
اللهم آنسْ وحشتنا في القبور، وآمِن فزعنا يوم البعث والنشور.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(18/15)
حسرات
قسوة القلوب نسيان الآخرة عدم الاستعداد ليوم الرحيل هجر كتاب علام الغيوب هذه كلها مظاهر لما آل إليه حال الأمة الإسلامية.
ومع ذلك تجد إهمالاً شديداً لركيزة الوعظ والتذكير كركيزة تربوية مؤثرة، وتجد من يقلل من أهميتها.
وفي هذا الدرس المبارك تجد إحياء لهذه الوسيلة بالكلام عن مواقف الحسرات في يوم القيامة.(19/1)
أهمية الوعظ والتذكير
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين؛ فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعينا عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
أما بعد:
عباد الله: اعلموا أن المتأمل لحالنا -نحن المسلمين- اليوم، وحال زماننا وما ظهر فيه من الآفات والفتن، وما حصل فيه من انفتاح كبير على الدنيا وزخرفها حتى ظن أهلها أنهم قادرون عليها أو مخلدون فيها؛ ليشعر بالرهبة والإشفاق والخوف الشديد من مظاهر وعواقب هذه الحال؛ إذ قد قست منا القلوب، وتحجرت العيون، وهُجر كتاب علام الغيوب، بل قُرئ والقلوب لاهية ساهية في لُجَج الدنيا وأوديتها سابحة، كيف لا وقد زينا -غير متبعين- جدران بيوتنا بآيات القرآن، ثم لم نُزين حياتنا بالعمل بالقرآن، يقرؤه البعض منا -غير مقتدين- على الأموات، ثم لا يحكمونه في الأحياء، بل جعلت البركة في مجرد حمله وتلاوته، وتركت بركته الحقيقية المتمثلة في اتباعه وتحكيمه امتثالاً لقول الله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام:155] غفلنا ولم نشعر أننا غفلنا، وهذه -لعمر الله- أدهى وأَمَرُّ فينا؛ كثر القلق، وغلب الهم والحزن، وصَاحَبَ ذلك الأَرَق، مُكِر مكر شديد بالليل والنهار بأساليب ووسائل خبيثة ماكرة، تزين الفاحشة وتصدُّ عن الآخرة.
فَشَتْ الفواحش والمظالم، ونيل من الأعراض، وأكلت الأموال، وظهرت صور صارخة من الحسد والبغضاء والفُرْقَة والخلاف حتى بين خبراء الفضل والإحسان، وعندها اسُتضعف المسلمون، وتبجح وتسلط الملحدون والمجرمون.
قلنا ولم نفعل أمام عدونا وعلى أحبتنا نقول ونفعل
قلَّ الاهتمام والعناية بركيزة الوعظ والتذكير كركيزة تربوية مؤثرة مفيدة، فصرت تسمع من يقلل من أهمية كتاب أو محاضرة أو درس يُرَكِّز على هذا الجانب، فيقال: هذا كتاب وعظي، ومحاضره وعظية، ومقال عاطفي، وكبرت من كلمة:
إن صح أن الوعظ أصبح فضلة فالموت أرحم للنفوس وأنفع
فلولا رياح الوعظ ما خاض زورق ولا عبرت بالمبحرين البواخر
عندها عُطلت طاقاتنا الإيمانية.
وكيف يعيش في البستان غرس إذا ما عُطلت عنه السواقي
هبت رياح المعصية فأطفأت شموع الخشية من قلوبنا، وطال علينا الأمَدُ فَعَلا القلوب قسوة كما قست قلوب أهل الكتاب؛ فهي كالحجارة أو أشد قسوة.
أسأنا فهم الدين الذي هو سر تميُّزنا وبقائنا، فشُغلنا بالشكل عن الجوهر، وبالقالب عن القلب، وبالمبنى عن المعنى، بذكريات مجيدة وتواريخ تليدة، نحتفل غالباً مبتدعين غير متبعين، وأحياناً نهتم بطبع الكتب الشرعية مفتخرين، ثم نتمرد على مضمونها هازئين.
حالنا كالذي يقبِّل يد والده ولا يسمع نصحه، إنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين، وإنَّا لنخشى أن نصبح في زمرة من قال الله فيهم: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأعراف:51] وأسوأ ما تمرُّ به أمة، وأتعس ما تمرُّ به أمة أن يصبح اللهو فيها ديناً، والدين فيها لَهْواً، ثم لا تسمع نصحاً.
بُحَّ المنادي والمسامع تشتكي صَمَماً وأصبحت الضَّمَائِر تُشْتَرى
تاهت سفائنها فما خاضت بها بحراً ولا هي في الشواطئ تظهر
لهذا كله كان لابد من الوقوف على بعض مشاهد الحسرة في الأخرى، لعل النفوس تستيقظ وتخشع وتذل فتبادر إلى الحسنى، فما هناك من أمر هو أشدُّ دفعاً للنفوس إلى فعل الخير من أمر الآخرة، والوقوف بين يديْ من له الأولى والآخرة.
فكل ضعف من أسبابه الغفلة عن الآخرة، وفي ذكر اليوم الآخر سعادة وطمأنينة، وسدٌّ منيع دون الهم والحزن وعدم السكينة، وعلام يحزن طالب الآخرة؟ أَعلى أمر حقير يفنى عما قريب؟! كلا.
فالآخرة خير وأبقى.
المؤمن باليوم الآخر لا تؤثر فيه المصائب؛ لأنه موقن أن المصائب إن لم تَزُل عنه زال عنها بالموت لا محالة، فلا تذهب نفسه على الدنيا حسرات.
ذكر اليوم الآخر يطهر القلوب من الحسد والفرقة والاختلاف.
ذكره يهدد الظَلَمَة ليرعووا، ويعزي المظلومين ليسكنوا؛ فكل سيأخذ حقه لا محالة، حتى يقاد للشاةِ الجلحاء من الشاة القرناء، فلا ظلم ولا هضم:
والوزن بالقسط فلا ظلم ولا يؤخذ عبد بسوى ما عملا
ذكر اليوم الآخر يمسح على قلوب المستضعفين والمضطهدين والمظلومين مسحة يقين تسكن معه قلوبهم، ثم تثبت شماء وهي تتطلع لما أعده الله للصابرين من نعيم يُنسى معه كل ضرٍّ وبلاء وسوء وعناء، وتتطلع لما أعده الله للظالمين من بؤسٍ يُنسى معه كل هناء.(19/2)
مشاهد من يوم الحسرة
فهيا معي -يا عباد الله- إلى مشاهد من الحسرة، أسأل الله ألا تكونوا من أهل الحسرة، علَّ ذلك تصلح به القلوب، وتتجه إلى علام الغيوب، وتنقاد الجوارح إلى العمل الصالح.
إنه يوم الحسرة وما أدراك ما الحسرة، يوم أُنذر به وخُوِّف، وتُوعِّد به وهُدِّد، قال الله عز وجل: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [مريم:39] إنذار وإخبار في تخويف وترهيب بيوم الحسرة حين يُقْضَى الأمر، يوم يُجمع الأولون والآخرون في موقف واحد، يُسألون عن أعمالهم؛ فمن آمن واتبع سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً، ومن تمرَّد وعصى شقي شقاء لا يسعد بعده أبداً، وخسر نفسه وأهله، وتحسر وندم ندامة تتقطع منها القلوب، وتتصدع منها الأفئدة أسفاً.
وأي حسرة أعظم من فوات رضا الله وجنته، واستحقاق سخطه وناره على وجه لا يمكن معه الرجوع ليستأنف العمل ولا سبيل له إلى تغيير حاله ولا أمل، وقد كان الحال في الدنيا أنهم في غفلة عن هذا الأمر العظيم، فلم يخطر بقلوبهم إلا على سبيل الغفلة حتى واجهوا مصيرهم، فَيَا لَلندم والحسرة! حيث لا ينفع ندم ولا حسرة.
{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم:39]: {يوم يُجاء بالموت -كما في صحيح البخاري - كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة! هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون، ويقولون: نعم.
هذا الموت.
ثم يقال: يا أهل النار! هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون: نعم.
هذا الموت.
قال: فيؤمر به فيذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار! خلود فلا موت: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [مريم:39]}.
آهٍ من تأوهٍ حينئذ لا ينفع، ومن عيون صارت كالعيون مما تدمع.
إنها حسرة بل حسرات! أنباء مهولات، ندامات وتأسفات ورد ذكرها في غير ما آية من الآيات، تصدر عن معرضين عن الآيات ولاهين ولاهيات عن يوم الحسرات، نذكر بعضاً منها في هذه الخطبة.
من رسالة: قل هو نبأ عظيم بتصرف يسير، إنها تذكرة وعظات، علَّنا أن نحاسب أنفسنا ما دمنا في مهلة من أعمار وأوقات، وقبل أن نندم حيث لا ينفع ندم ولا حسرات.(19/3)
من حسرات يوم الحسرة(19/4)
الحسرة على أعمال صالحة شابتها الشوائب
فمن هذه الحسرات -أجاركم الله من الحسرات-: الحسرة على أعمال صالحة شابتها الشوائب، وكدَّرتها مبطلات الأعمال من رياء وعُجْب ومِنَّة؛ فضاعت وصارت هباءً منثوراً في وقتٍ الإنسان فيه أشد ما يكون إلى حسنة واحدة: {وَبَدا لَهُم مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الزمر:47 - 48].
فكيف تقيك من برد خيامٌ إذا كانت ممزقة الرواق
الفضل عند الله ليس بصورة الـ أعمال بل بحقائق الإيمان
القصد وجه الله بالـ أقوال والطاعات والشكران
فبذاك ينجو العبد من حسراته ويصير حقاً عابد الرحمن
الحسرة على التفريط في طاعة الله، وتصرُّم العمر القصير في اللهث وراء الدنيا حلالها وحرامها، والاغترار بزيفها مع نسيان الآخرة وأهوالها: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر:56 - 59]
واضيعة العمر لا الماضي انتفعت به ولا حصلت على علم من الباقي
بلى علمت وقد أيقنت وا أسفا أني لكل الذي قدمته لاقي(19/5)
الحسرة على التفريط في النفس والأهل
الحسرة على التفريط في النفس والأهل أن تقيهم من عذاب جهنم، يوم تفقدهم وتخسرهم مع نفسك بعد ما فُتنت بهم، ذلك هو الخزي والخسار، والحسرة والنار.
حالك:
بعضي على بعضي يجرد سيفه والسهم مني نحو صدري يُرسل
النار توقد في خيام عشيرتي وأنا الذي ياللمصيبة أشعل
{قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الْذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:15].(19/6)
الحسرة على أعمال صالحة ذهبت في المظالم
الحسرة على أعمال صالحة كان الأمل بعد الله عليها، ولكنها ذهبت في ذلك اليوم العصيب إلى من تعديت حدود الله فيهم؛ فظلمتهم في مال أو دم أو عِرْض، فكنت مفلساً حقاً: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} [طه:111] فيأخذ هذا من حسناتك، وهذا من حسناتك، وهذا من حسناتك، ثم تفنى الحسنات، فيطرح عليك من سيئات من ظلمتهم، ثم تُطْرح في النار، أجارك الله من سامعٍ من النار، وجنَّبك سخط الجبار بفعل ما يرضي الواحد القهار.(19/7)
الحسرة على مجالسة أهل السوء
حسرة جلساء أهل السوء يوم انساقوا معهم يقودونهم إلى الرذيلة، ويصدونهم عن الفضيلة، إنها لحسرة عظيمة، في يوم الحسرة يعبرون عنها بِعَضِّ الأيدي، يوم لا ينفع عضُّ الأيدي؛ كما قال ربي: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولا} [الفرقان:27 - 29].(19/8)
حسرة الأتباع المقلدين لكل ناعق
حسرة الأتباع المقلدين لكل ناعق، يوم يتبرأ منهم من تبعوه بالباطل، فلا ينفعهم ندم ولا حسرة: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ للهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:165 - 167].
حسرة الظالمين المفسدين في الأرض الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً حين يحملون أوزارهم وأوزار الذين يضلونهم بغير علم، وحين يسمعون عندها قول الله: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وهم بالآخرة كافرون} [الأعراف:44 - 45].
ومن أعظم المشاهد المخزية حسرة في يوم القيامة يوم يكفر الظالمون بعضهم ببعض، ويلعن بعضهم بعضاً، محتجين ومتبرئين، فذاك قول الله: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم من الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً منَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لا تَعْلَمُونَ * وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} [الأعراف:38 - 39].
فيا حسرة الظَلَمَة وأعوانهم، يوم يعلمون فداحة جريمتهم في تنفيذ رغبات الظالمين، لكن حيث لا ينفعهم علم العالمين، وعندها لسادتهم يقولون: {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً منَ النَّارِ} {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ} [غافر:47].
فإذا بالسادة أذلة قد عنت وجوههم للحي القيوم، لا يملكون لأنفسهم شيئاً ولا يستطيعون.
يقولون: {إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر:48]
إن لله غضبة لو وعاها من بغى ما غدا يمض اللسانا
كم من ظالم يردد: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم من شَيْءٍ إِنهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:12 - 13].
فالعقلاء بمقولتهم لا يغترون، وإن فعلوا فإنهم يومئذٍ في العذاب والحسرة مشتركون.
تصور معي -أخي- ذلك الجو من الحسرة والخزي والندامة المخيِمة على المستضعفين والمستكبرين.
أتباع ضعفاء يتهمون زعماءهم بالحيلولة بينهم وبين الإيمان، ومستكبرون يقولون لأتباعهم: أنتم المجرمون، دعوناكم فكنتم مجيبين.
لو رأيتهم إذ وقفوا عند ربهم من غير إرادة ولا اختيار -مذنبون ترهقهم ذلة في انتظار الجزاء- لرأيت أمراً مهولاً، يتراجعون، يرجع بعضهم إلى بعض القول، يلوم بعضهم بعضاً، ويؤنِّب بعضهم بعضاً، ويُلقي بعضهم تبعة ما هم فيه على بعض.
يقول أتباع الضلال الذين استُضعفوا؛ لقادة الضلال الذين استكبروا: {لَوْلاَ أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ:31] يقولونها جاهرين بها، صادعين في وقت لم يكونوا في الدنيا بقادرين على هذه المواجهة؛ كان يمنعهم الذُّل والضعف والاستسلام وبيع الحرية التي وهبها الله لهم، والكرامة التي منحهم الله إياها، أما اليوم -يوم الحسرة0 - فقد سقطت القيم الزائفة، وواجهوا العذاب، فهم يقولونها غير خائفين: {لَوْلاَ أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ:31]، حُلْتُم بيننا وبين الإيمان، زيَّنتم لنا الكفران فتبعناكم فأنتم المجرمون، وبالعذاب أنتم جديرون، وله مستحقون، ويضيق الذين استكبروا بهم ذرعاً، إذ هم في البلاء سواء، ويريد هؤلاء الضعفاء أن يحملوهم تبعة الإغواء الذي صار بهم إلى هذا البلاء، عندئذٍ يردون عليهم ويجيبونهم في ذلة مصحوبة بفظاظة وفحشاء: {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ} [سبأ:32] الله أكبر! كانوا في الدنيا لا يقيمون لهم وزناً، ولا يأخذون منهم رأياً، ولا يعتبرون لهم وجوداً، ولا يقبلون منهم مخالفة بل حتى مناقشة، أما اليوم -يوم الحسرة- فهم يسألونهم في استنكار الأذلاء: {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ} [سبأ:32] زيَّنا لكم الإجرام؟ نعم، لكننا لم نقهركم عليه، فما لكم علينا من سلطان.
أما إنه لو كان الأمر في الدنيا لقبع المستضعفون لا ينبسون ببنت شفة، لكنهم في الآخرة حيث سقطت الهالات الكاذبة، والقيم الزائفة، وتفتحت العيون المغلقة، وظهرت الحقائق المستورة، فلم يسكت المستضعفون ولا هم يخنعون، بل يجابهون من كان لهم يذلون، فيقولون: {بَلْ مَكْرُ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً} [سبأ:33].
مكركم لم يفتر ليلاً ولا نهاراً للصد عن الهدى، تزينون لنا الضلال، وتدعوننا إلى الفساد وتقولون: إنه الحق، ثم تقدحون في الحق، وتزعمون أنه باطل، فما زال مكركم بنا حتى أغويتمونا وفتنتمونا.
ويا عباد الله! إن صور المكر تتنوع وتختلف من عصر لآخر، ففي وقت نزول القرآن كانت تتخذ أشكالاً من الأشعار في المنتديات الجاهلية، تُوَجَّه فيها التهم الباطلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، أو بصد الراغبين عن سماع الحق وتفويته عليهم، أو بإثارة نعرة الآباء والأجداد والتهويل من خطر تركها.
هذا جلُّ ما عند الجاهلية الأولى من مكر الليل والنهار، ووالله! إنه لعظيم، لكن ماذا يساوي ذلك المكر الأول عند مكر الليل والنهار في زماننا الحاضر في أكثر ديار المسلمين اليوم، والذي ينطبق تماماً -بلفظه ومعناه- على المكر الموجود الآن الذي يعمل على مدى الأربع وعشرين ساعة؟! فما يكاد المذياع يفتر من مكره حتى يأتي دور التلفاز، وما يكاد التلفاز يفتر حتى يأتي دور الفيديو، ثم يأتي دور البث المباشر، ثم المجلة الهابطة، فالقصة الخليعة، وهكذا دواليك دواليك، مَكْرُ بالْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
هل يُعذر المسلم في فتح فكره وبيته لمكر الليل والنهار؟
كلا والله لا يعذر؛ لأن المفسدين المتسلطين لن يعذروه بين يديْ الله يوم القيامة بقولهم: {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ} [سبأ:32] ويرد هؤلاء المستضعفون: {بَلْ مَكْرُ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سبأ:33]، ثم يدرك الجميع أن هذا الحوار البائس لا ينفع هؤلاء ولا هؤلاء إلا براءة بعضهم من بعض.
علم كل منهم أنه ظالم لنفسه، مستحق للعذاب، فندم حين لا ينفع الندم، وتمني أن لو كان على الحق والإيمان والهدى سراً: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الَعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلاَلَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ:33].
قطاة غرَّها شَرَك فباتت تجاذبه وقد علق الجناح
فلا في الليل نالت ما تمنت ولا في الصبح كان لها براح
قُضِيَ الأمر، وانتهى الجدل، وسكت الحوار، وهنا يأتي حادي الغواء، وهاتف الغواية يخطب خطبته الشيطانية القاصمة، يصبها على أوليائه: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} [إبراهيم:22]-طعنة أليمة نافذة لا يملكون أن يردوها عليه وقد قُضى الأمر وفات الأوان- {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم من سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:22] ثم يؤنبهم على أن أطاعوه {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22] نفض يده منهم، وهو الذي وعدهم ومنَّاهم ووسوس لهم، وأما الساعة فلن يلبيهم إن صرخوا، ولن ينجدوه إن صرخ، {إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22] فيا للحسرة والندم.
الحسرة على أعمال محدثة وعبادات لم يأذن الله بها ولم يُتَّبع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحسب أهلها أنهم يحسنون صنعاً، لكنها تضيع في وقت الحاجة الماسة إليها، فهم الأخسرون أعمالاً، وساءوا أحوالاً، أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، أو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، ووجد الله عنده فوفَّاه حسابه.
يا أيها اللاهي الذي افترش الهوى وبكل معنىً للضلال تدثَّرَ
إن كنت ذا عقل ففكر بُرهة ما خاب ذو عقل إذا ما فكَّرَ(19/9)
الحسرة على أموال جمعت من وجوه الحرام
الحسرة على أموال جمعت من وجوه الحرام؛ ربا ورشوة وغش وغصب وسرقة واحتيال وغيرها.
فيا لله! أي حسرة أكبر على امرئ من أن يؤتيه الله مالاً في الدنيا فيعمل فيه بمعصية الله، فيرثه غيره فيعمل فيه بطاعة الله، فيكون وزره عليه وأجره لغيره؟!
أي حسرة أكبر على امرئ أن يرى عبداً كان الله ملَّكه إياه في الدنيا، يرى في نفسه أنه خير من هذا العبد، فإذا هذا العبد أفضل منه عند الله يوم القيامة؟!
أي حسرة أكبر على امرئ أن يرى عبداً مكفوف البصر في الدنيا قد فتح الله له عن بصره يوم القيامة، وقد عَمِيَ هو؟!
إنَّ تلك الحسرة لعظيمة عظيمة!
أي حسرة أكبر على امرئ علَّم علماً، ثم ضيعه ولم يعمل به فشقي به، وعمل به من تعلَّمه منه فنجيَ به؟!
أي حسرة أعظم من حسرات المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.
يوم تُبلى السرائر، وينكشف المخفي في الضمائر، ويعرضون لا يخفى على الله منهم خافية، ثم يكون المأوى، الدرك الأسفل من النار، ثم لا يجدون لهم نصيراً.
أما الحسرة الكبرى فهي عندما يرى أهل النار أهل الجنة وقد فازوا برضوان الله والنعيم المقيم، وهم يقولون: {قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف:44].
وحسرة أعظم حين ينادي أهلُ النار أهلَ الجنة: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِما رَزَقَكُمْ اللهُ قَالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50].
وحسرة أَجَلُّ حين ينادي أهل النار مالكاً: {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنكُم ماكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:77 - 78].
ومنتهى الحسرة وقصاراها حين ينادون ربهم عز وجل وتبارك وتقدس: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107] فيجيبهم بعد مدة: {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] فلا تسل لا ينبسون ببنت شفة، وإنما هو الشهيق والزفير.
طال الزفير فلم يرحم تضرعهم هيهات لا رقَّة تغني ولا جزع
فيا حسرة المقصرين! ويا خجلة العاصين! لذَّات تمر، وتَبِعات تبقى، تريدون نيل الشهوات والحصول في الآخرة على الدرجات!
جمع الاضداد غير ممكن يا تُرَى.
هواك نجد وهواه الشام وذا وذا يا خيُّ لا يلتام
فدع الذي يفنى لما هو باقِ، واحذر زلل قدمك، وخفْ فلول ندمك، واغتنم شبابك قبل هِرَمِك، واقبل نصحي ولا تخاطر بدمك، ثم تتحسر حين لا ينفع ندمك.
إذا ما نهاك امرؤ ناصح عن الفاحشات انزجر وانتهي
إن دنياً يا أخي من بعدها ظلمة القبر وصوت النائح
لا تساوي حبة من خردل أو تساوي ريشة من جانح
لا تسل عن قيمة الربح وسل عن أساليب الفريق الرابح
جعلنا الله وإياكم من الرابحين السعداء، يوم يخسر المبطلون الأشقياء، ويتحسر المتحسرون التُّعساء، إن ربي وليُّ النعماء، وكاشف الضُّر والبلاء.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(19/10)
هل آن الأوان للتوبة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأصلي وأسلم على محمد الأمين، وعلى آله وصحبه والتَّابعين.
أما بعد:
عباد الله: وبعد هذا البيان من كتاب الرحمن عن صور الخزي والحسرة والخسران، هل آنَ لنا أن نُعِدَّ لهذا الموقف العظيم عُدَّته، ونعمل جاهدين على الخلاص من صفات أهل هذه المواقف المخزية.
آنَ لنا أن نخلص العبادة لله وحده، ونجرد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
آن لنا أن نحذر من كل ناعق ملبِّسٍ خائن، يمكر في الليل والنهار قبل أن تقول نفس: يا حسرتاه، ولات حين مَنَاص.
آن الأوان للضَّعَفَة الأتباع أن يتبرءوا من متبوعيهم الظالمين المفسدين، فلا يكونوا أداة لهم في ظلم في دماء أو أموال أو أعراض؛ طمعاً في جَاهٍ أو حطام.
آنَ الأوان للإنابة والبراءة من الظالمين قبل أن يتبرءوا من تابعيهم بين يديْ الله، يوم ينقلبون عليهم فيلعن بعضهم بعضاً حيث لا ينفع لعن ولا ندم.
آن الأوان للمرأة المسكينة في زماننا اليوم أن تتنبه لهذه المواقف، فتتبرأ في دنياها اليوم من كل ناعق لها باسم الحرية والتَّمدُّن ومتابعة الأزياء والموضات، حتى لا تحقّ عليها الحسرة الكبرى عندما يتبرأ منها شياطين الإنس والجن الذين أضلوها، ثم لا يغنوا عنها من عذاب الله من شيء إلا الخصام والتلاعن المذكور في كتاب الله: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} [الأحزاب:67 - 68].
آن الأوان لأتْبَاع الطوائف الضالة المبتدعة أن يفيقوا ويدركوا خطر هذه المتابعة، التي ستنقلب حسرة كبرى وعداوة ولعنة بينهم وبين متبوعيهم يوم القيامة: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم من ناصِرِينَ} [العنكبوت:25].
آن الأوان لمن أعطوا قيادهم لجلساء السوء والمفسدين في الأرض ومن هم دعاة على أبواب جهنم يسوقونهم إلى الرذيلة، ويفتحون قلوبهم للمكر والألاعيب والصَّد عن الفضيلة.
آن لهم أن ينتهوا ويقطعوا صلتهم بهم، وطاعتهم لهم ما داموا في زمن من مهلة وإمكان، وإن لم يقطعوها في الدنيا فهي لا شك منقطعة يوم القيامة، وستنقلب عداوة وخصاماً وحسرة: {الأخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].
آن الأوان للمجاهرين عموماً بالمعاصي، والمجاهرين خصوصا برفع أطباق القنوات فوق البيوتات غير معظمين لشعائر الله والحرمات، مَن أشرعوا بيوتهم للضلال والمكر واللهو والعفن والتُّراهات بحجة الأخبار والمباريات.
يستقبل الأفكار في عُلَب الهوى والشر فيها لوَّع المستقبلُ
عُلَب يغلِّفها العدو وخَتْمُه فيها الصليب ونجمة والمنجلُ
آن لهم أن يعلنوها توبة عاجلة نصوحاً قبل الممات، وقبل يوم الحسرات بلا مبررات واهيات، فالحقائق ساطعات غير مستورات وإن تَعَامَتْها نفوس أهل الشهوات.
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم
وكل أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما أخبر معافى إلا المجاهرين، وما من راعٍ يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لهم، إلا حرم الله عليه الجنة، وكلكم راع ومسئول، وما كل راعٍ براع.
ما كل ذي لُبَدٍ بلَيْثٍ كاسر وإن ارتدى ثوب الأسود وزمجرا
يستخدم الشيطان كل وسيلة لكنَّه يبقى الأذل الأصغرا
{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27].
آن الأوان لمضيع وقته أمام ما تبثُّه هذه القنوات من محرمات أن يتوب ويئوب.
آن الأوان لمن عَقْله في أذنيه، ولُبّه في عينيه، من أَثَّر البهتان فيه، وانطلى الزور عليه، أن يتوب قبل أن يقف أمام الله، فتشهد الأعضاء والجوارح، وتبدو السوءات والفضائح، فيُخْتم على فمه، وتتكلم يده، ويشهد سمعه وبصره وجلده بما كان يكسب، ثم لا تكون إلا الحسرات، فما تغنِ الحسرات {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مما تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم منَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت:22 - 24].
يا ابن سبعين وعشر وثمان كاملات غرضاً للموت مشغولاً ببث القنوات
وَيْكَ لا تعلم ما تُلقى به بعد الممات من صغارٍ موبقات وكبارٍ مهلكات
يا بن من قد مات من آبائه والأمهات هل ترى من خالد من بين أهل الشهوات
إن من يبتاع بالدين خسيس الشهوات لغبي الرأي محفوف بطول الحسرات
عباد الله: في يوم القيامة يبحث كل إنسان عن أي وسيلة مهما كانت ضعيفة واهية لعلها تصلح لنجاته من غضب الله، ولذلك تكثر المناقشات والمحاورات بين الأباء والأبناء والأزواج والزوجات، والكبار المتسلطين والصغار التابعين، بين الأغنياء الجبَّارين والفقراء المنافقين، كل يحاول إلقاء التَّبعة على غيره، لكن حيث لا تنفع المحاورات، ولا الخصومات، ولا التَّنصُّل من التَّبِعات، ثم لا يكون إلا الحسرات.
إلى الله يا قومي فما خاب راجع إلى ربه يوماً وما خاب صابر
اللهم آنس وحشتنا في القبور، اللهم آنس وحشتنا في القبور، اللهم آمن فزعنا يوم البعث والنشور، اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين.
اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يُسْمع.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ودنيانا التي فيها معاشنا، وآخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المجاهدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم كن للمستضعفين والمظلومين والمضطهدين.
اللهم فرِّج همَّهم، ونفِّس كربهم، وارفع درجتهم، واخلفهم في أهلهم، اللهم أَزِلْ عنهم العناء واكشف عنهم الضُّر والبلاء، اللهم أنزل عليهم من الصبر أضعاف ما نزل بهم من البلاء يا سميع الدعاء.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.(19/11)
صدقوا ما عاهدوا
رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، أحبوا الله وأحبوا رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهم دلالات على تلك المحبة، منها: اتباعهم لأمر الله ورسوله، وتضحيتهم بالغالي والنفيس في سبيل الله.
فهذا صهيب يبذل ماله كله، وحبيب يقدم نفسه قرباناً لله، وثابت بن قيس يجاهد لينال الشهادة، وأبو بكر يجاهد المرتدين ليحافظ على دين الله، والمواقف تتكرر لرجال صدقوا ما عاهدوا الله.
فهذه مواقف لرجال صدقوا بفعلهم، أما نحن فقد قلنا ولم نصدق.
وهناك دروس مستفادة من الجولة في سيرة هؤلاء الأبرار لعلنا أن نلحق بهم.(20/1)
الحث على دوام ذكر الله
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
ولا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، وقيُّوم السماوات والأرضين، ومالك يوم الدين، الذي لا فوز إلا في طاعته، ولا عِزَّ إلا في التذلل لعظمته، ولا غنى إلا في الافتقار لرحمته.
لا هدى إلا في الاستهداء بنوره، ولا حياة إلا في رضاه، ولا نعيم إلا في قُرْبِه، ولا صلاح ولا فلاح إلا في الإخلاص له وتوحيد حبه.
إذا أطيع شَكَر، وإذا عُصِيَ تاب وغَفَر، وإذا دُعِي أجاب، وإذا عوُمِل أثاب.
لا إله إلا هو سبحانه وبحمده! لا يُحصي عدد نعمته العادُّون، ولا يؤدِّي حق شكره الحامدون، ولا يَبلُغ مدى عظمته الواصفون: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117].
اللهم لك الحمد مِلء السماوات والأرض؛ فكل الحمد لك.
اللهم لك الشكر على نعم لا نحصيها؛ فكل الشكر لك.
اللهم لك المتوبة والتذلل والخضوع فلا معبود غيرك.
الحمد لله شَهِدت له بالربوبية جميع مخلوقاته، وأقرت له بالألوهية جميع مصنوعاته، سبحانه وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.
ولا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته كما أنه لا شريك له في ربوبيته، ولا شبيه له في ذاته ولا أفعاله ولا صفاته.
سبحانه سبحت له السماوات وأملاكها، والنجوم وأفلاكها، والأرض وسكانها، والبحار وحيتانها، والنجوم والجبال والشجر والدواب والآكام والرمال، وكل رطب ويابس، وكل حي وميت: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [الإسراء:44].
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة قامت بها الأرض والسماوات، وخلقت لأجلها جميع المخلوقات، وبها أرسل الله تعالى رسله، وأنزل كتبه، وشرَّع شرائعه؛ لأجلها نُصِبت الموازين، ووضعت الدواوين، وقام سوق الجنة والنار، وانقسم الخلائق إلى مؤمنين وكفار، وأبرار وفجَّار، عنها وعن حقوقها يكون السؤال والجواب، وعليها يقع الثواب والعقاب، عليها نصبت القِبْلة، وعليها أسِّست الملة، ولأجلها جردت سيوف الجهاد، وهي حق الله على جميع العباد.
إنها كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، لن تزول قدما عبد بين يدي الله حتى يسأل: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟
فلا إله إلا الله، شهادة حق وصدق أتولى بها الله ورسوله والذين آمنوا، وأتبرأ بها من الطواغيت والأنداد المعبودين ظلماً وزوراً من دون الله.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، أشرف من وطئ الحصى بنعله، أرسله الله رحمة للعالمين، وإماماً للمتقين، وحجَّة على الخلائق أجمعين.
بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمَّة، وجاهد في الله حق الجهاد، وقمع أهل الزيغ والفساد، فتح الله به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً.
صلوات الله وسلامه عليه، وعلى أهل بيته الطيبين، وأصحابه المنتخبين، وخلفائه الراشدين، وأزواجه الطاهرات؛ أمهات المؤمنين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أحبتي في الله: أسعد اللحظات في حياة العبد يوم يطرق مسامعه ذكر الله، يوم يطمئن قلبه بقول الله، وقول رسول الله صلى وسلم عليه الله: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
إن من نعمة الله علينا تهيئة مثل هذا المخيم لنجتمع فيه على الخير والبر والذكر والتناصح.
فأسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يجزيَ القائمين والمساهمين عليه وفيه أفضل ما يجزي عباده الصالحين، وأن يرزقنا شكر نعمته، وقد تأذن لمن شكر بالمزيد، وحيا الله هذه الوجوه، حيا الله وجوهاً أقبلت على الله فجعلت حياتها كلها لله.
وهنيئاً لها من قلوب تَأَرِز إلى ذكر الله، فتسكن وتسعد بإذن الله.
هنيئاً لأسماع امتلأت بذكر الله، فتلذذت بقول الله وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هنيئاً لأبصار تنعَّمَت بمجالسة من يذكر الله.
هنيئاً لها من أقدام جعلت خطاها إلى ذكر الله.
هنيئاً لكم يوم يرجى لكم أن تنصرفوا مغفوراً لكم، قد بُدِّلت سيئاتكم حسنات بإذن ربكم.
هنيئاً لكم تُذكرون في ملأ خير من ملئكم، ملائكةٌ تحفُّ، ورحمة تغشى، وسكينة تتنزل.
فيا حسرة وندامة وخزي من لم تنعم عينه وجوارحه بذكر الله!
لَوْ يَعلَمُ العَبدُ مَا فِي الذِّكْرِ مِنْ شَرَفٍ أمْضَى الحياةَ بتسبيحٍ وتَهْليلِ
لَوْ يَعْلمُ النَّاسُ مَا في الشُّكْرِ مِنْ شَرَفٍ لَمْ يُلْهِهِم عَنْهُ تَجْمِيعُ الدَّنانيرِ
ولم يُبالُوا بأوراقٍ ولا ذهبٍ ولَو تجَمَّع آلافُ القناطيرِ
فأكْثِرْ ذِكرهُ في الأرضِ دأباً لتُذْكَرَ في السَّماءِ إذا ذَكَرتا
ونادِ إذا سَجدتَ لَهُ اعْترافاً بما ناداهُ ذو النون بنُ متَّى
وسَلْ منْ رَبِّك التوفِيقَ فيها وأخلصْ في السُّؤال إذا سَألتا
ولازم بابه قرعاً عساهُ سيُفتحُ بابه لك إن قَرعتا
ونفسَك ذُمَّ لا تَذْمُمْ سِواها بعيبٍ فهْيَ أجدرُ منْ ذممْتا
فلو بكت الدما عيناك خوفاً لذنبكَ لَمْ أقُلْ لَكَ قَدْ أَمِنْتا
وَمَنْ لَكَ بالأمانِ وأنتَ عبدٌ أُمِرْتَ فَمَا ائْتُمِرْتَ ولا أََطَعْتا
ثَقُلتَ منَ الذُّنوبِ ولستَ تَخْشَى بجهلِكَ أن تَخِفَّ إذا وُزِنْتا
فلا تضحكْ مع السفهاءِ لهواً فإنك سوفَ تَبْكِي إنْ ضَحِكْتا
ولا تَقُلِ الصِّبَا فيه مَجَالٌ وفكِّر كَمْ صَبِيٍّ قَدْ دَفَنْتا
تَفتُّ فؤادَك الأيامُ فتّا وتَنْحِتُ جِسمكَ السَّاعاتُ نَحْتا
وتدعوكَ المنونُ دعاءَ صدقٍ ألا يا صَاحِ أنتَ أُرِيدُ أنتا
أحبتي في الله: أوصيكم جميعاً ونفسي بتقوى الله، وأن نقدِّم لأنفسنا أعمالاً تبيض وجوهنا يوم نلقى الله: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} [النساء:42].
يقول أبو الدرداء رضي الله عنه وأرضاه: [[ما تصدق متصدق بأفضل من موعظة يعظ بها الرجل قوماً، فيقومون وقد نفعهم الله عز وجل بها]].
{والكلمة الطيبة صدقة} كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وللكلمة الطيبة ملامح، أرجو الله أن تتوفر في هذه الكلمة تلك الملامح؛ لتتغلغل إلى الجوانح، فتظهر على الجوارح.
فالكلمة الطيبة مِعْطَاءٌ جميلة رقيقة لا تؤذي المشاعر، ولا تخدش النفوس.
جميلة اللفظ، جميلة المعنى، رقيقة المبنى، رقيقة المعنى، يشتاق لها السامع فيطرب ويخشى ويسعى.
طيبة الثمر، نتاجها مفيد، غايتها بنَّاءة، منفعتها واضحة، أصلها ثابت مستمد من النبع الصافي؛ من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتمتد شامخة بفرعها إلى السماء؛ لأنها نقية، وصادرة -بإذن الله- عن صدق نية، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، يسمعها السامع فينتفع بها، وينقلها لغيره فينتفع، حتى إنه لينتفع بها الفئام من الناس، ويمتد النفع إلى ما شاء الله، وصاحبها لا يعلم مداها؛ فتبقى ذخراً له بعد الممات، ورصيداً له في الحياة.
كلمة من رضوان الله يكتب الله بها الرضوان للعبد إلى أن يلقى الله.
أسأل الله أن يجعل هذه الكلمات من الباقيات الصالحات، وأن ينفعني بها ومن رام الانتفاع بها من إخواني، وأن يجعلها من الأعمال التي لا ينقطع عني نفعها بعد أن أدرج في أكفاني، وأن يجعلها للجميع ذخراً في يوم الحسرات على ضياع الأوقات في غير الطاعات، يوم يوقف العبد بشحمه ولحمه ودمه وعصبه وشعره وأظفاره يعرض على الله، لا يخفى منه خافٍ، الجسد مكشوف، والضمير مكشوف، والقلب مكشوف، والصحيفة مكشوفة، والتاريخ مكشوف: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18].
أما بعد:(20/2)
قدوتنا جيل رباه النبي صلى الله عليه وسلم
أيها المؤمنون: إن لكل مجتمع رموزاً وقادة يمثلون قِيَمَهُ، ويوجهون الأمة، ويُقَوون الهِمَّة؛ ليصعدوا بالناس إلى القمة.
ورموز المجتمع الإسلامي هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وأفضلهم أهل السابقة؛ مَنْ محَّصتهم الفتنُ، ونقَّتهم المحن، من امتُحنوا بالنفس والنفيس، فاسترخَصُوا كل شئ من أجل رفع راية التوحيد؛ رضي الله عنهم، ورحمهم، وأخرج في الأمة من أمثالهم.
إن المتملي والمتأمل لواقع أمتنا اليوم يجدها تكاد تفتقر إلى القدوات، وينقصها المثال؛ ولذلك فتحت باب استيراد القدوات من خارج الحدود، فتنَكرتْ لتاريخِها، وتَعَاظَمَ سُخْفُهَا وجهلها بسلفها وقدواتها، وتناقص عنصر الخير فيها بمرور الأيام، وخفتت قوةُ الضوء فيها؛ لأنها ابتعدت عن مصدر الضوء، وعن مركز الإشعاع فيها.
إذا تمَثلَ ماضِينا لحَاضِرنا تكادُ أكبادُنا بالغَيْظِ تنفَطِرُ
ولذا كان لابد للأمة أن ترجع لتاريخها، لا للتسلية، ولا لقتل الفراغ، ولا لاجترار الماضي، ولا للافتخار بالآباء فحسب، بل لنتعظ ونعتبر ونتشبه، ونعرف ذلك الجدول الفياض الذي نَهَل منه أسلافنا؛ لنعُبَّ منه كما عبُّوا، لنعلم ماذا فعلوا، لنقتدي بهم فيما فعلوا، لنعلم كيف وصلوا، لنصل كما وصلوا.
ما أحوجنا إلى أن نترسَّم خطاهم، ونتلمَّس العزَّة في طريقهم، ونسير على هداهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90].
غابت شخوصهم، فلنسمع ولْنَعِ أخبارهم؛ فلعل ذاك يقوم مقام رؤيتهم على حد قول القائل:
فاتَنِي أَنْ أَرَى الديارَ بطَرْفي فَلَعَلِّي أَعِي الدِّيَارَ بسَمْعِي
لهذا كله كانت هذه الكلمات التي عنونتها بهذا العنوان: صدقوا ما عاهدوا؛ لتحكي لكم حياة جيل لا كالأجيال، وأبطال لا كالأبطال، ورجال لا كالرجال.
رجال جاءتهم دعوة الحق فما ترددوا، وما كَبَوا، وما تلكئوا، وآمنوا بها وصدقتها قلوبهم، واستيقنتها أنفسهم، فما كان قولهم يوم أن دُعوا إلى الله ورسوله إلا أن قالوا: سمعنا وأطعنا: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} [آل عمران:193].
وضعوا أيديهم في يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهان عليهم بعد ذلك أبناؤهم ونفوسهم وأموالهم وعشيرتهم؛ إذ علموا أن طريق الجنة صعب، محفوف بالمكاره، لكن آخره السعادة الدائمة فسلكوه، وعلموا أن طريق النار سهل محفوف بالشهوات لكن آخره الشقاوة الدائمة فاجتنبوه.
رجال وأي رجال: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37] في السِّلم هداة مصلحون، عالمون عاملون، وفي الحرب مؤمنون محتسبون، مجاهدون ثابتون، عبَّاد ليل، وأُسْدِ نهار، حملوا السلاح في الميدان، وعلقوا القلوب وملئوها بالقرآن، قاوموا الشهوات، وقاوموا أهل العداوات، سيَّان الشيوخ منهم والشباب والشابات.
القارئونَ كِتَابَ اللهِ فِي رَهِبٍ والواردونَ حِيَاضَ المَوْتِ فِي رَغبٍ
منحوا الحياة جمالاً، ومعنى ومغزى في جميل مبنى:
كيفَ الحياةُ إذا خلَتْ منهم ظواهر أو بطاح
أين الأعزةُ والأَسِنَّةُ عند ذلكَ والسَّماحُ
وقفة أقفها معكم إزاء هذه الصفوة المختارة ممن صدقوا ما عاهدوا، ما هي إلا قطوف من أشجار، وقطرات من بحار، ورحلة في أكثر من أربعة عشر قرناً في بساتين الصادقين اليانعة؛ للوقوف على ثمار مجتناه، وزهور منتقاه، وإني لأستغفر الله، ثم أستغفر الله، ثم أستغفر الله من وصف حال أولئك مع ضعف الاتصاف مني بصفاتهم، بل -والله- ما شممنا رائحتهم، ولكنها محبة القوم تحملنا على التعرف على منزلتهم، وقراءة سيرهم، وإن لم نلحق، فعسى همَّة منا أن تنهض إلى التشبث بساقة القوم ولو من بعيد: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى} [يوسف:111] {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55].
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً.(20/3)
مواقف من تربية النبي صلى الله عليه وسلم
صدقوا ما عاهدوا من خلال تربية المصطفى صلى الله عليه وسلم، صار كل صحابي أمَّة وحده، فما من صحابي إلا وله سمة معينة، وموقف خاص، منهم من أشار واقترح، ومنهم من أوضح وشرح، ومنهم من أضاف واستدرك، وكل ذلك فيما يخدم الدعوة إلى الله جل وعلا.
فـ سلمان يستفيد من خلفيَّته الحضارية الفارسية المادية ليخدم هذا الدين؛ فيقترح يوم تحزّب الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم حفر الخندق، وأَنْعِمْ به من اقتراح.
والخباب يقترح الوقوف في غزوة بدر على الماء، فيشرب المسلمون ويحرم المشركون.
ويوم يُعاد أبو جندل وهو يستنجد بالمسلمين ويقول: يا معشر المسلمين! أتردوني إلى أهل الشرك فيفتنوني عن ديني، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسليه ويعزيه ويقول: {اصبر واحتسب؛ فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً}.
وإذا بـ عمر -وما عمر؟! عجزت نساء الأرض أن ينجبن مثلك يا عمر - ينفعل مع الموقف، ويمشي بجوار أبي جندل ويقرب سيفه من أبي جندل؛ طمعاً في أن يستله ليقتل أباه دون مؤاخذة على بنود صلح الحديبية، لكن أبا جندل لم يفعل؛ فأعيد.
وانظر إلى الصديق، وما الصديق؟!
يوم يتولى الخلافة، فترتد بعض قبائل العرب بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم تكن الجمعة تقام إلا في بعض الأمصار؛ كـ مكة والمدينة، فيقوم لله قومة صادق مخلص؛ ليؤدب المرتدين، وينفذ جيش أسامة، وفي أقل من سنتين إذا بجيوشه ترابط على أبواب أعظم إمبراطوريتين في ذلك الوقت؛ ألا وهي فارس والروم، شعاره: [[ولو خالفتني يميني لجاهدتها بشمالي]].
شعاره شعار رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم يقول: {لأقاتلنكم حتى تنفرد سالفتي}.
وأبو بصير، ما أبو بصير؟! يخطط لحرب عصابات بعيدة عن بنود صلح الحديبية، إذ جاء مسلماً فارّاً بدينه من قريش إلى المدينة بعد صلح الحديبية، وبعد توقيع المعاهدة.
فأرسلت قريش في طلبه رجلين، فسلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم -وفاءً بالعهد- إليهم، وفي الطريق تمكَّن أبو بصير بشجاعته وحكمته وذكائه من قتل أحد الرجلين، ويفر الثاني، ويرجع هو إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: {قد -والله- أوفى الله ذمتك يا رسول الله! فلقد رددتني إليهم، ثم نجاني الله منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم-كما في البخاري - {ويل أمِّه؛ مسعر حرب لو كان معه أحد}.
فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده عليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر، واستقر به المقام هناك، وفهم المستضعفون من عبارة الرسول صلى الله عليه وسلم -وكانوا أذكياء- أن أبا بصير في حاجة إلى الرجال، فأخذوا يفرون من مكة إلى أبي بصير، وكان على رأسهم أبو جندل، جاء الفرج والمخرج كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
اجتمع منهم عصابة يتعرضون لقوافل قريش، فيقتلون حراسها، ويأخذون أموالها، وتضطر عندها قريش مرغمة ذليلة راكعة أن ترسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم أن يرسل إلى أبي بصير ومن معه؛ فمن أتاه فهو آمن.
تنازلت عن هذا الشرط تحت ضغط العصابة المؤمنة كـ أبي بصير وأبي جندل، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم وأبو بصير في مرض الموت، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه، وقدم أصحابه على رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنين سالمين غانمين قد جعلوا من أنفسهم أنموذجاً يُقتدى به في الثبات، والإخلاص، والعزيمة، والجهاد، وتمريغ أنوف المشركين، والذكاء، وبذل الجهد في نصرة هذا الدين، حتى قرروا مبدأ من المبادئ؛ ألا وهو: (قد يسع الفرد مالا يسع الجماعة).
كل ذلك في حكمة، وأي حكمة! إذ كان ذلك بإشارة من النبي صلى الله عليه وسلم، وتشجيع من النبي صلى الله عليه وسلم يوم وصف أبا بصير بأنه مسعر حرب لو كان معه رجال، ثم إن أبا بصير خارج عن السلطة، ولو في ظاهر الحال، فلا مؤاخذة على بنود المعاهدة: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:269].
وهذا خالد بن الوليد يستلم الراية يوم مؤتة -يوم سقط القوَّاد الثلاثة- بلا تأمير فرضي الله عن الجميع.
وفي القادسية تنفر خيل المسلمين من الفِيَلة، فيعمد صحابي ليصنع فيلاً من طين، ويؤنس ويؤلف فرسه به حتى يألفه، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيلة، فحمل على الفيل الذي كان يقدم الفيلة، فقيل له: إنه قاتلك، قال: لا ضير أن أقتل ويفتح الله على المسلمين.
ما كانوا يعيشون لأنفسهم، لكن يعيشون لدينهم، ويعيشون لعقيدتهم.
وهذا عبد الرحمن بن عوف يصفق بالأسواق حتى لا يكون عالة على غيره:
مَضَوْا في الدُّنَا شرقاً فأسلمَ فُرسُها وسَاروا بِها غَرباً فسلَمَ رُومُها
زيد يجمع القرآن، وابن عمرو يدوِّن الحديث، وابن عباس يخرج إلى الأسواق ليسلم على الناس، ويذكرهم برب الناس.
ويتحاور ويتناقش سلمان وأبو الدرداء حول قيام الليل، وحقوق العيال.
تسابق إلى الخيرات، عزيمة في الأداء، إيجابية في العمل دون النظر لما يقوله الآخرون، أو حب لشهرة يراها المسلمون.(20/4)
عوامل صدق الصحابة مع الله
علموا أن الإيجابية إعذار إلى الله من التقصير، فأدوا واجبهم قدر الإمكان، ولم ينتظروا النتائج، على مبدأ:
فعلي بِذرُ الحبِّ لا قَطْفُ الجَنَى واللهُ للساعين خيرُ مُعينِ
علموا أن التكليف فردي، وكل سيحاسب يوم القيامة فرداً: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21] {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء:84].
فكان كل فرد منهم أمة؛ يوم تربوا على منهج المصطفى صلى الله عليه وسلم فصدقوا ما عاهدوا.(20/5)
معاصرتهم نزول الوحيين
صدقوا ما عاهدوا: وكيف لا يصدقون وقد عاصروا نزول الوحيين، وتلقوا التربية من القدوة المطلقة -صلوات الله وسلامه عليه ورضي الله عنهم أجمعين- يوم بعثه الله بـ مكة، فأخرج العباد من الظلمات إلى النور بإذن ربه، يوم أخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام؟!
رأوه وهو يقف على الصفا وحيداً فريداً قد اجتمعوا حوله وهو يقول: {إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد} {قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا} فأعرضوا وأصروا واستكبروا استكباراً، وقال عمه: تبّاً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فتبت يداه، ثم تبت يداه.
لم يتراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ييئس، وما كان له ذلك؛ لأنه يعلم أنه على الحق، ويستمر عشر سنين يتبع الناس في منازلهم، في عكاظ ومجنة في المواسم، يقول: من يؤويني؟ من ينصرني حتى أبلَّغ رسالة ربي وله الجنة؟
فلا يؤويه ولا ينصره أحد، حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر، فيأتيه قومه، فيحذرونه غلام قريش لا يفتنه.
حرب إعلامية ضخمة في الصد عن سبيل الله تمارس ضد الدعوة إلى الله في كل زمان ومكان:
والسرُّ باقٍ والزمانُ مجددٌ والسيفُ ما فَقَدَ المضِاءَ وما نَبَا(20/6)
معاصرتهم لمحن النبي صلى الله عليه وسلم
كيف لا يصدقون وقد عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا نفر قليل؛ خمسة أعبد وامرأتان فلم يهن ولم يضعف ولم يستكن، وما كان له ذلك صلوات الله وسلامه عليه، بل جاهد وجالد حتى كثر أصحابه وأوذا كما أوذوي في سبيل الله؛ فما ضعفوا وما وهنوا وما استكانوا، بل صابروا، وهاجروا فراراً بدينهم هجرتين: إلى الحبشة ثم إلى المدينة رضوان الله عليهم أجمعين.
عاصروا وعايشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا له الأعوان والأنصار، آووه وصدقوه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه.
عاصروا محنة الهجرة بقسوتها وشدتها عليهم؛ كيف وهم يفقدون أوطانهم وأهاليهم -مرابع الطفولة وحياتهم كلها- ويرون فوق ذلك قائدهم ورسولهم صلى الله عليه وسلم يقف أمامهم يخاطب مكة بـ الحزورة قائلاً: {والله! إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إليّ، ولولا أني أُخْرِجت ما خرجت}.
دموعه تهطل على لحيته صلى الله عليه وسلم؛ فيا لها من قلوب احترقت وهي ترى نبيها على ذلك الحال! ويا لها من قلوب غلبت مصلحة العقيدة ومتطلبات الدعوة على هوى النفس وشهواتها! فما النتيجة؟
أمضى الله لها هجرتها، ولم يردها على أعقابها.(20/7)
معايشتهم لجهاد النبي صلى الله عليه وسلم ومشاركتهم فيه
كيف لا يصدقون وقد عاصروا وعايشوا وشاركوا في الصراع بين الحق والباطل، فكانوا ضمن ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً في بدر يقولون: ربنا الله، يقابلون ألفاً يكفرون بالله قد خرجوا بطراً ورئاء الناس، فنصر الله القلة على الكثرة، فيعلو الحق، ويسكنُ الباطل كما قضى الله؟!
ما كبروا الله حتَّى كلُّ ناحيةٍ ردَّت ورجَّعَ في تكبيرها النغمُ
تجاوبتْ بالصدى الأرجاءُ صائحةً فالريح تصرخ والقيعانُ والأكمُ
كيف لا يصدقون، وقد عايشوا تجمع الأحزاب من قريظة وقريش، وخذلان أهل النفاق، وتسللهم من الصف مدعين أن بيوتهم عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فراراً، جاءوا من فوقهم ومن أسفل منهم، وبلغت القلوب الحناجر وظنوا بالله الظنونا، ونصر الله جنده بعد ذلك بجندي من جنوده؛ ألا وهو الريح: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]؟!
كيف لا يصدقون وقد عاصروا صلح الحديبية، وقد بلغوا ألفاً وأربعمائة وأكثر من ذلك، فكتب الله لهم الرضوان في بيعة الرضوان كما سطر ذلك القرآن: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح:18]؟!
كيف لا يصدقون وقد كانوا جند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم من ضمن عشرة آلاف؛ منهم من أخرج من دياره بغير حق إلا أن قال: ربيَ الله، وإذ بنصر الله يتنزل، فإذا هم عائدون إلى مكة التي أخرجوا منها فاتحين، قائدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خاشعاً شاكراً لأنعم الله، يقرأ سورة الفتح وهو على راحلته، يطوف بالكعبة، ويستلم الركن بمحجنه كراهة أن يزاحم الطائفين، ثم يحطم الأصنام ويطهر البيت الحرام، ويجيء الحق، ويزهق الباطل، والباطل زهوق كما قضى الله وقدر الله.
وإذ بالذين أخرجوه نكست رءوسهم، خاضعين، أذلة، راكعين، وهو يقول لهم: ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقاموا يتملقونه وقد كانوا يؤذونه، يقولون: أخ كريم وابن أخ كريم، فكان كريماً، والكرم من طبعه وخلقه -صلى الله عليه وسلم- قال: {اذهبوا فأنتم الطلقاء}.
يا ربِّ صلِّ على المختارِ ما ضحكَتْ زواهرُ الرَّوضِ للأنداء والدِيَم
كيف لا يصدقون، وهم ضمن ثلاثين ألفاً يقودهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ليؤدب الروم في شمال الجزيرة العربية، وكان له ذلك؟!
كيف لا يصدقون، وهم يرون من كانوا ثلاثة أصبحوا مائة ألف، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك الموضع الذي أهين فيه، على الصفا يكبر ويقول: {خذوا عني مناسككم} في حجة الوداع، فيكبر وراءه مائة ألف قد شخصت الأبصار إليه؛ لتعرف نسكها منه صلى الله عليه وسلم، عندها يعلم الجميع في ذلك الوقت وفي هذا الوقت أن العاقبة للمتقين؟!
فليصدق الذين عاهدوا، فالعِبْرَة ليست بكثرة عدد، فمن ثلاثة إلى خمسة، إلى ثلاثمائة، إلى ألف وأربعمائة، إلى عشرة آلاف، إلى ثلاثين ألفاً، إلى مائة ألف؛ ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم عدواً بعدد، وإنما قاتلهم بما هو أقل من عددهم، لكنها حكمة الله الربانية التي جعلت نقباء الفضل في الناس هم الأقل، كما جعلت الصقر بين الطير هو الأقل: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249].(20/8)
رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه
صدقوا ما عاهدوا: صدقوا الله في تلقيهم للقرآن، فتلألأت كلمات القرآن على شفاههم كما تتلألئ الكواكب في صفحات السماء، ملئوا الجوانح بكلام الله؛ فظهر أثر ذلك على الجوارح.
رتَّلوا القرآن ترتيلاً ينمُّ عن التأثر بما يَتْلُونَ، وعلى وعي وحسن فَهْمٍ لما يقرءون، تلذذوا بقراءة القرآن، تعلموه وعلموه، وجعلوه خلقهم، فما من آية تنزل إلا ويرون أنهم المعنيون بها دون غيرهم، ما سمعوا: (يا أيها الذين آمنوا) إلا أصغوا بآذانهم يتلقون ما يؤمرون به؛ ليعملوا به، وما ينهون عنه لينتهوا عنه، فشرح الله صدورهم للإيمان بالقرآن، وأعلى قدرهم، ورفع ذكرهم ودرجتهم.(20/9)
وقفة مع ثابت بن قيس
يأتي أحدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم هلعاً، فزعاً، جزعاً، ترتعد فرائصه، فيقال له: ما بك؟
قال: أخشى أن أكون هلكت يا رسول الله! قال صلى الله عليه وسلم: ولِمَ؟
قال: لقد نهانا الله أن نحب أن نحمد بما لم نفعل، وأجدني أحب الحمد، ونهانا عن الخيلاء، وأراني أحب الزهو.
فمازال صلى الله عليه وسلم يهدئ من روعه حتى قال: {يا ثابت بن قيس! ألا ترضى أن تعيش حميداً، وتقتل شهيداً، وتدخل الجنة، فتبرق أسارير وجهه ويقول: بلى.
بلى يا رسول الله! فيقول صلى الله عليه وسلم: إن لك ذلك فلا تسل عن حالك}.
ثم تتنزل آية الحجرات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] وكان رجلاً جهوري الصوت، يلازم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يفارقه، عندها يلزم بيته ولا يكاد يخرج إلا لأداء المكتوبة، فافتقده النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {من يأتيني بخبر ثابت}، فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله!
فانطلق هذا الأنصاري فجاء إليه فإذا هو في بيته منكَّس الرأس، فقال: ما بك يا أبا محمد؟
قال: شر والله!
قال: وما ذاك؟
قال: تعلم أني رجل جهوري الصوت، وكثيراً ما يعلو صوتي صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد علمت ما نزل في كتاب الله، والله! ما أحسبني إلا حبط عملي، وأني من أهل النار.
فيرجع الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: يا رسول الله! كان من أمره كذا وكذا، ويقول: كذا وكذا.
قال: ارجع إليه فقل له: {لست من أهل النار، أنت من أهل الجنة يا ثابت} فيأتي إليه ليخبره، فلا تسل عن المبشِّر، ولا تسل عن المبشَّر، ولا تسل عن الحال، حال وأي حال.
وإذا به ينتظر تلك البشارة طوال حياته، يجاهد لله، ويجالد لله، وينطلق من معركة إلى معركة، إلى أن يصاب بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أصيب المسلمون؛ ويرتد العرب؛ فيكون في من يردون المرتدين إلى الواحد القهار.
جاء في المعركة، ورأى انخذال المسلمين، ورأى جرأة العدو، تحنط وتكفَّن ووقف على رءوس المسلمين يقول: [[يا معشر المسلمين! والله ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بئس ما عوَّدتم عدوكم من الجرأة عليكم، وبئس ما عودتم أنفسكم من الانخذال لعدوكم.
اللهم إني أبرأ إليك مما صنع هؤلاء وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء]].
ثم هبَّ هبَّة الأسد الضاري، فانطلق معه البراء وزيد وسالم، فنشروا الرعب في قلوب المشركين، وثارت الحمية في قلوب المسلمين، فنصر الله المسلمين، وإذا به يخر صريعاً على تلك الأرض، ينتظر بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رضي الله عنه وأرضاه، وجعل أعلى علِّيين مثواه.(20/10)
وقفة مع عباد بن بشر
عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة ذات الرقاع ونزل المسلمون شعباً من الشعاب ليقضوا ليلتهم، فلما أناخوا رواحلهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يحرسنا الليلة؟ فقام عباد بن بشر، وعمار بن ياسر -وقد آخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقالا: نحن يا رسول الله! ثم خرجا إلى فم الشعب، فقال عباد لـ عمار: أتنام أول الليل أم آخره؟ فقال عمار: بل أنام أوله، اضطجع عمار غير بعيد.
بقي عباد يحرس جند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، هدأت العيون، وسكنت الجفون، ولم يبقَ إلا الحي القيوم، عندها تاقت نفس عباد للعبادة، واشتاق قلبه للقرآن، فقام يصلي؛ ليجمع متعة الصلاة إلى متعة التلاوة، وطفق يقرأ سورة الكهف، يسبح مع آيات الله البينات.
ويراه رجل من المشركين يصلي على فم الشعب، فعرف أنه حارس جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لئن ظفرت به لأظفرن بجيش رسول الله صلى الله وسلم على نبينا محمد فوتر قوسه، وتناول سهماً من كنانته، ورماه به فوضعه فيه، فانتزعه عباد من جسده ورمى به، ومضى يتدفق في تلاوته، ورماه بالآخر فانتزعه، ومضى يتدفق في تلاوته، ورماه بالثالث فانتزعه، وإذا الدماء تنزف منه، فزحف إلى عمار وأيقظه قائلاً: لقد أثخنتني الجراح، عليك بثغر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولَّى المشرك هارباً، وأمَّا عمار فنظر -ويا للهول! أثخنته الجراح، فقال: رحمك الله هلا أيقظتني من عند أول سهم رماك به؟ فقال عباد -واسمعوا إلى ما يقول-: [[كنت في سورة أقرؤها، فلم أحب أن أقطعها حتى أفرغ منها، وايم الله؛ لولا خوفي أن أضيع ثغراً أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه؛ لكان قطع نفسي أحب إلي من قطعها]].
لا نامت أعين الجبناء، لا نامت أعين التنابلة والكسالى والبطالين.
يا بنَ الهُدَى! يا فَتَى القرآنِ! دعكَ مِنَ الأوْهَامِ؛ جلجَلَ أمرُ الله أنْ أَفِقِ.
تلذذوا بمناجاة الله في الخلوات، فما عدلوا بذلك شيئاً.
عبَّر أحدهم عن تلك اللذة بقوله: [[والله لولا قيام الليل بكلام الله ما أحببت البقاء في هذه الدنيا.
ووالله! إن أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، وإنه لتمر بالقلب ساعات يرقص القلب فيها طرباً بذكر الله، حتى أقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه إنهم لفي نعيم عظيم]].
وعبر الآخر عن لذته بمناجاة الله بقوله: والله لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه، لجالدونا عليه بالسيوف.
فقال قائل: وما الذي أنتم فيه تتلذذون، وبه تتلذذون؟
قال: لذة مناجاة الله في الخلوات.
هذه حالهم يا متأمل! هذه حالهم يا متبصر! فما حالنا؟
كُثُرٌ ولكنْ عديدٌ لا اعتدادَ بِهِ جمعٌ ولكنْ بديدٌ غيرُ متَّسِقِ
شككتْ نفسي مهانتكم أنكمُ يا قومِ منْ مُضَر
خَبِّرُونِي أين حِسِّكُم لأزْيَد الوَخْز بالإبرِ
نطقنا بالعربية والقرآن فما نكاد نلحن، ولحنا بالعمل فما نكاد نعرب، قنعنا بفصاحة اللسان مع عُجْمة الجنان:
وكانَ البرُّ فعلا دونَ قولٍ فصارَ البرُّ نُطقاً بالكلامِ(20/11)
أبو طلحة وجهاده في سبيل الله
إن الصحابة لم يتلذذوا بالقرآن فحسب، بل عملوا بمقتضاه، وطبقوه واقعاً عملياً لا نظير له في تاريخ الأمة، فإذا بك ترى أبا طلحة الأنصاري وهو يسمع قول الله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] فيبادر فيجعل أفضل بساتينه في سبيل الله صدقة؛ يرجو برها وذخرها عند الله.
ليس هذا فحسب، بل يفتح كتاب الله فيقرأ قول الله: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41] فيقول لأبنائه: جهزوني جهزوني.
يا لله! شيخ كبير نيف على الثمانين لم يعذر نفسه، فيقول أبناؤه: رحمك الله، جاهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- وصرت شيخاً كبيراً، فدعنا نغزو عنك، قال: والله! ما أرى هذه الآية إلا استنفرت الشيوخ، ثم أبى إلا الخروج لمواصلة الجهاد في سبيل الله، والضرب في فجاج الأرض؛ إعلاء لكلمة الله، وإعزازاً لدين الله.
فيشاء الله يوم علم صدق نيته أن يكون في الغزو في البحر لا في البر ليكون له الأجر مضاعفاً، وعلى ظهر السفينة في وسط أمواج البحار المتلاطمة يمرض مرضاً شديداً يفارق على إثره الحياة، فأين يدفن وهو في وسط البحر؟! ذهبوا ليبحثوا له عن جزيرة ليدفنوه فيها فلم يعثروا على جزيرة إلا بعد سبعة أيام من موته، وهو مسجى بينهم، لم يتغير فيه شيء كالنائم تماماً.
وفي وسط البحر بعيداً عن الأهل والوطن نائياً عن العشيرة والسكن دفن أبو طلحة، وما يضره أن يدفن بعيداً عن الناس ما دام قريباً من الله عز وجل، ماذا يضره أن يدفن في وسط جزيرة لا أعلمها ولا تعلمها، يوم يجبر الله -بإذن الله- له كل مصاب بالجنة.
لا نامت أعين الجبناء:
ويلٌ لكم هل سِوَى الأكفانِ حُجَّتُكُم وهلْ يكونُ سوى الأكفانِ حَظَّكُمُ
هيَّا اسلبُوها من الأجْداثِ باليةً ثم البسوها وقُولُوا الإرثُ إرثُكُمُ(20/12)
الصحابة وصدقهم مع كتاب الله
صدقوا ما عاهدوا: فكان القرآن فيصلاً في المواقف التي يحار فيها أولو الألباب، ما كانوا يرجعون إلا إلى كتاب الله؛ ففي يوم موت رسول الله صلى الله عليه وسلم أصيب المسلمون وفجعوا، وفقد بعض الصحابة الصواب، حتى قال: والله! ما مات، فإذا بـ أبي بكر -تربية القرآن- يتلو ويقول: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144] فعلموا بذلك أنه مات، حتى إن بعضهم سقط ما كادت تحمله رجلاه، وحق له ذلك.
ويختلف المسلمون بعد ذلك في من يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال المهاجرون: نحن أولى بخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعض الأنصار: نحن أولى بها، وقال بعضهم: بل تكون فينا وفيكم؛ منَّا أمير ومنكم أمير، وكادت تحدث الفتنة، ونبي الله ما زال بين ظهرانيهم ولم يدفن بعد، وإذا بأهل القرآن بكلماتهم الناصعة التي تئد الفتنة في مهدها ينطقون، إذا بـ زيد بن ثابت رضي الله عنه تربية القرآن يقول: [[يا معشر الأنصار! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين، فخليفته مهاجر مثله، وكنا أنصاراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فنكون أنصاراً لخليفته]] ثم بسط يده إلى أبي بكر رضي الله عنه وقال: هذا خليفتكم فبايعوه؛ فبايعوه ووئدت الفتنة في مهدها.
هذا صدقهم مع كتاب الله، أصلحوا سرائرهم ففاح عبير فضلهم، وعبقت القلوب بنشر طيبهم.
فالله الله في كتاب الله قراءة وتدبراً وعملاً؛ لأننا جعلناه -ومع الأسف- للمآتم صوتاً ومحدثاً، قبَّلناه وأكثرنا تقبيله، وما قبِلناه ولم يلامس شغاف قلوبنا، ادَّعينا حب من أُنزل عليه القرآن، ثم أحدثنا ما أحدثنا، وكل محدث ضلال، ومن عمل عملاً ليس عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحدث في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس منه فهو رَدٌّ.
فالله الله في القرآن! والله الله في السرائر والأعمال وفق شرع الرحمن وعلى طريقة خير الأنام! فإنه لا ينفع مع فساد السرائر وتنكُّب الاتباع صلاح ظاهر: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف:43 - 44].(20/13)
عقبة بن عامر وطلبه العلم
صدقوا ما عاهدوا: صدقوا في فقههم لدينهم، وفي طلبهم العلم ليعملوا به: {من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين} {وخيركم من تعلم القرآن وعلَّمه}.
فإذا براعي الغنم في باديته الذي رأس ماله في الحياة غنيماته يتركها يوم سمع بوصول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، يتركها وهي أعز وأنفس ما لديه في تلك الفترة؛ لينطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيشهد شهادة الحق، ويبايع المصطفى صلى الله عليه وسلم ثم يعود إلى غنيماته، ويسلم معه اثنا عشر راعياً.
اجتمعوا يوماً من الأيام وقالوا: لا خير فينا إن لم نقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفقهنا في ديننا، ويسمعنا ما ينزل عليه من وحي السماء، ثم اتفقوا على أن يمضي كل يوم منهم واحد إلى المدينة؛ فيتفقه في الدين، ويسمع ما نزل من القرآن، وما نزل من الأحكام، فيرجع فينقله إليهم.
يقول عقبة وهو أولهم: كنت أقول: اذهبوا واحداً تلو الآخر، وأنا أحفظ لمن ذهب غنمه؛ لشدة إشفاقه على غنمه أن يتركها لأحد من الناس، فطفقوا واحداً بعد الآخر يذهبون ويرجعون، فيأخذ عقبة منهم ما سمعوا، ويتلقى عنهم ما فقهوا.
يقول عقبة: ثم ما لبثت بعد ذلك أن رجعت لنفسي، وقلت: ويحك يا نفس! من أجل غنيمات لا تسمن ولا تغني من جوع تفوت على نفسك صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والأخذ عنه مشافهة بلا واسطة، والله! لا يكون ذلك، ثم يتنحى عن أنفس ما لديه؛ عن غنمه، لكن إلى الغنيمة، فيلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم يمضي معه أينما سار، يأخذ بزمام بغلته، يمضي بين يديه أنَّى اتجه، وكثيراً ما أردفه صلى الله عليه وسلم على دابته، وربما نزل صلى الله عليه وسلم عن بغلته ليركب عقبة.
جعل يَعُبُّ من مناهل رسول الله صلى الله عليه وسلم العذبة حتى غدا مقرئاً محدِّثاً فقيها فَرَضِياً أديباً فصيحاً شاعراً، بل كان من أحسن الناس صوتاً بالقرآن، وكان إذا هدأ الليل، وسكن الكون، انصرف إلى كتاب الله عز وجل ليقرأ، فتصغي أفئدة الصحابة لترتيله، وتخشع قلوبهم، وتفيض بالدمع أعينهم من خشية الله جل وعلا، حتى كان يدعوه عمر -رضي الله عنه- ويقول: [[اعرض عليَّ شيئاً من كتاب الله.
فيجعل يقرأ من آيات الله ما يتيسر وعمر يبكي حتى تبلل دموعه لحيته]].
قاد الجيوش فكان قدوة لكل قائد، وولي ولاية فعدل، ورمى وتعلم الرمي، وجاهد وجالد حتى لقي الله مخلِّفاً تَرِكَة المجاهدين الصادقين، ما تركته؟
إنها بضع وسبعون قوساً، أوصى أن تكون في سبيل الله؛ فرضي الله عنه وأرضاه، وعن جميع أهل القرآن.(20/14)
أقوالهم في طلب العلم
صدقوا: حتى قيل لأحدهم وقد استغرق طلب العلم وكتابته وتبليغه وقته، قيل له: إلى متى تكتب العلم؟
إلى متى وأنت تكتب في تلك العلوم؟
فقال: لعل الكلمة التي فيها نجاتي لم تكتب بعد.
فلا يدري المرء متى يقول الكلمة، فيهدي الله بها خلقاً كثيراً، ولا يدري المرء متى يقول الكلمة أو يكتب الكلمة الصادقة فتنجيه بين يدي الله.
حتى إن أحدهم لتعاتبه زوجته على كثرة شراء الكتب فيقول رادّاً عليها:
وقائلة أنفقتَ في الكتب ما حَوَتْ يمينُك من مالِ فقلت دعيني
لعلِّي أَرَى فيها كتاباً يَدُلني لأخذِ كتابِي آمناً بيميني
صدقوا: حتى قيل لأحدهم: بم كنت عالماً من بين أقرانك وأترابك؟
قال: لأني أنفقت في زيت المصباح لأدرس العلم في الكتب مثلما أنفقوا في شرب الخمور، وفرق بين إنسان بالعلم قد زكاها، وآخر بالمعازف ورنات الكئوس والغفلة قد دساها، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10].(20/15)
تضحية الصحابة في سبيل الله
صدقوا ما عاهدوا: صدقوا فضَحوا بالنَّفس والنفيس في سبيل الله.
صدقوا فتحمَّلوا الجوع والعطش والبرد والأذى لخدمة هذا الدين.
صبروا على الامتحان، وآثروا العقيدة على نعيم الدنيا، فتركوا أموالهم وعشيرتهم وأوطانهم وهاجروا فارين بدينهم، فرضي الله عنهم وأرضاهم.
استحقوا أن يخلِّد الله ذكرهم في كتابه بما وصفهم به من عاطر الثناء، وحفظ لهم قدرهم في الأمة على مدى الزمان.
فإذا بأحدهم؛ وهو عبادة -رضي الله عنه- يقول للمقوقس: [[وما منا رجل إلا وهو يدعو ربه صباحاً ومساءً أن يرزقه الشهادة، وألا يرَّده إلى بلده، ولا إلى أرضه، ولا إلى أهله وولده وماله، وليس لأحد منا هَمٌّ فيما خلَّفه، وقد استودع كل واحد منا ربه أهله وولده وماله، وإنما همُّنا ما أمامنا]].
بذلوا أرواحهم في سبيل الله حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله، أفنحن كذلك؟!
اللهم اجعلنا جميعًا كذلك، آمين يا رب العالمين.
أحبتي في الله: لم يكن طريق الصحابة ومن تبعهم بإحسان معبَّداً مفروشاً بالزهور والورود، بل كان محفوفاً بالأخطار، وكان الدخول فيها امتحاناً شاقّاً لا تجتازه إلا الهمم الشامخة، والنفوس العالية التي حازت الإيمان والإخلاص والمجاهدة والجهاد:
سَلُوا بلالاً وعماراً ووالدَه عنِ السلاسلِ والرَّمْضاءِ والأَلَمِ
مر رجل بـ المقداد بن الأسود -رضي الله عنه- فقال له: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله! لوددنا أنَّا رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت.
فقال المقداد: [[ما يحمل أحدكم على أن يتمنى محضراً غيبه الله عنه؛ لا يدري لو شهده كيف يكون فيه، والله! لقد حضر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أقوامٌ كبَّهم الله على مناخرهم في جهنم؛ إذ لم يجيبوه، ولم يصدقوه، أو لا تحمدون الله إذ أخرجكم لا تعرفون إلا ربكم، مصدقين بما جاء به نبيكم، وقد كفيتم البلاء بغيركم.
والله! لقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على أشد حال بُعث عليه نبي من الأنبياء، في فترة وجاهلية ما يرون ديناً أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان فرَّق به بين الحق والباطل، وفرق به بين الوالد وولده، حتى إن الرجل ليرى والده أو ولده أو خاله كافراً، وقد فتح الله قفل قلبه للإيمان ليعلم أنه قد هلك من دخل النار، فلا تقر عينه وهو يعلم أن حميمه وقريبه في النار، وإنها للتي قال الله: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74]]].
لقد كان معظم الصحابة فقراء، ومَنْ لم يكن فقيراً فقد ترك ماله يشري نفسه ابتغاء مرضات الله، وكانت الدولة الناشئة في المدينة لا تملك الأموال، فلا مطمع لمن يدخل في دين الله، في نيل المال أو الجاه أو أي عرض من أعراض الدنيا.
ومن طريف الروايات التي تصور فقرهم وحالهم ما أخرج البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: [[كانت منَّا امرأة تجعل لها في مزرعة لها سلقاً -نوع من الخضار- فكانت إذا جاء يوم الجمعة تنزع أصول السلق، وتجعله في قدر، ثم تجعل معه قبضة من شعير تطحنه، قال سهل: فكنا ننصرف إليها من صلاة الجمعة فنسلِّم عليها، فتقرب لنا ذلك الطعام، والله! إنا كنا لنتمنى يوم الجمعة من أجل ذلك الطعام، ونفرح بيوم الجمعة لأجله]] مع أنه طعام لا شحم فيه ولا وَدَك، وما عند الله خير وأبقى.(20/16)
تنازل صهيب عن ماله من أجل الله
ثم تجيل نظرك، فإذا أنت بـ صهيب قد أزمع الهجرة للحاق برسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يسعه أن يبقى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فجهز له كفار قريش فرقة مراقبة تتابعه؛ لئلا يذهب بماله، وفي ذات ليلة أكثر من خروجه للخلاء للتعمية والتغطية عليهم، فما يلبث أن يعود من الخلاء حتى يخرج مرة أخرى، وهم يراقبونه حتى قال قائلهم: لقد شغلته اللات والعزى ببطنه، فقروا عيناً الليلة.
أسلموا أعينهم للكَرَى مطمئنين، فتسلل صهيب من بينهم، ولم يمضِ غير قليل حتى فطن له أولئك، فهبوا مذعورين قلقين فزعين خائفين، وامتطوا الخيل، وأطلقوا أعنتها خلفه حتى أدركوه، ولما أحس بهم -رضي الله عنه وأرضاه- وقف على مكان عال وأخرج سهامه من كنانته، وهم يعرفون صهيباً وبرى قوسه.
وقال: يا معشر قريش! تعلمون أني من أرمى الناس، والله! لا تصلون إليَّ حتى أقتل بكل سهم منكم رجلاً، ثم أضربكم بسيفي ما بقي منه بيدي شيء، فقال قائلهم: والله! لا ندعك تفوز بنفسك ومالك؛ لقد أتيتنا صعلوكاً فقيراً، فاغتنيت وبلغت ما بلغت، ثم تذهب به كلا واللات، قال: أرأيتم إن تركت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم.
فدلَّهم على موضع ماله، وأطلقوا سراحه، فانطلق فاراً بدينه غير آسف على مالٍ أنفق زهرة العمر في تحصيله، يستفزُّه ويحدوه الشوق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما بلغ قباء رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهشَّ له وبشَّ وقال: {ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى}.
والله! لا الدنيا وشهواتها وزخارفها ولذائذها ومتعها لا تساوي: {ربح البيع أبا يحيى}.
علت الفرحة وجه صهيب، وحقاً -والله- ربح البيع: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207].(20/17)
حكيم وإنفاقه في سبيل الله
ثم انظر أخرى فإذا أنت بآخر، إنه حكيم، يسلم إسلاماً يملك عليه لبَّه، ويؤمن إيماناً يخالط دمه، ويمازج قلبه، وهو يقطع على نفسه عهداً أن يكفر عن كل موقف وقفه في الجاهلية، أو نفقة أنفقها في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأضعاف أضعافها، وقد بَرَّ في قَسَمِه، وصدق فيما عاهد.
فإذا بك تنظر فإذا حكيم قد آلت إليه دار الندوة التي كانت تعقد قريش مؤتمراتها فيها في الجاهلية، ويجتمع ساداتها وكبراؤها فيها ليأتمروا برسول الله صلى الله عليه وسلم، تخيله وهو يتخلص من تلك الدار مسدلاً الستار على ماض بغيض أليم، ويبيعها بمائة ألف درهم، فيقول فتى من قريش: بعت مكرمة قريش يا حكيم! فقال: [[يا بني! ذهبت المكارم كلها ولم يبقَ إلا التقوى، أو ما يسرك يا بني! أن أشتري بها داراً في الجنة؟ إني أشهدكم أني جعلت ثمنها في سبيل الله؛ أرجو ذخرها وبرها عند الله]] وربح البيع.
ثم انظر إليه أخرى يوم يحج بعد ذلك فيسوق أمامه مائة ناقة مجللة بالأثواب الزاهية، ثم ينحرها جميعها؛ تقرباً إلى الله تعالى.
ولا تعجب يوم يحج ثانية فيقف في عرفات، ومعه مائة من عبيده، قد جعل في عنق كل واحد منهم طوقاً من فضة، نقش عليه عتقاء لله عز وجل ثم يعتقهم جميعاً على عرفات؛ ويسأل الله عز وجل أن يعتق رقبته من النار.
ثم يحج ثالثة فيسوق أمامه ألف شاة، ثم يريق دماءها كلها في منى، ويطعم بلحومها فقراء المسلمين؛ تقرُّباً لله -عزَّ وجلَّ- فلا تنساه البطون الجائعة، ولا الأكباد الظامئة، ما دام على الأرض بطن جائع أو كبد ظمأى.
يا ناعمَ العَيشِ والأموالُ بائدةٌ أين التبرعُ لا ضَاقتْ بكَ النِّعَمُ
كان المال في يده لا يدور عليه الحول حتى ينفقه في سبيل الله.
لا يألفُ الدرهمُ المضروبُ صُرَّتهم لكِنْ يمرُّ عليها وهو يستبقُ
كبر حكيم بعد أن قدم ما قدم، وذهب بصره فاحتسبه لله، ونزل به الموت، واشتد وجعه، وإذ به يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله ويقول: [[أخشاك ربي وأحبك، أخشاك ربي وأحبك]]؛ ليلقى الله.
رضي الله عنه وأرضاه، وجعل أعلى علِّيين مثواه، ورحم الله أولئك الرجال، طلبوا الدنيا على قدر مكثهم فيها، وطلبوا الآخرة على قدر حاجتهم إليها، لم يضحوا بأموالهم فحسب، بل ضحوا بدمائهم في سبيل الله؛ رجاء ما عند الله، وما عند الله خير للأبرار {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96].(20/18)
حبيب وتضحيته بنفسه
تنظر أخرى فإذا أنت بشاب ناضر الشباب، مؤمن بالله اسمه حبيب يكلف بمهمة شاقة؛ ليكون رسولاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة الكذاب.
يأخذ الرسالة غير وَانٍ ولا متريث ولا متردد، ترفعه النِّجاد، وتحطه الوهاد حتى يبلغ أعالي نجد، ويسلم الرسالة إلى مسيلمة، فلما قرأها انتفخت أوداجه، وبدا شره، ولو علم الله فيه خيراً لأسمعه.
أمر بـ حبيب أن يقيد، وأن يعرض عليه من الغد، وما ضر حبيب وقد بلغ رسالة الحبيب صلى الله عليه وسلم.
فلما كان الغد أذن للعامة بالدخول عليه، وأمر بـ حبيب فجيء به يرسف في قيوده وسط جموع الشرك الحاقدة، مشدود القامة، مرفوع الهامة، شامخ الأنف بإيمانه، التفت مسيلمة إليه وقال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم.
أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فتميز من الغيظ وقال: أتشهد أني رسول الله -وخسئ-؟
فقال حبيب في سخرية: إن في أذني صمماً عن سماع ما تقول.
فيتغير لون وجهه، وترتجف شفتاه غيظاً وحنقاً ليقول لجلاده: اقطع قطعة من جسده، فبتر الجلاد قطعة من جسده لتتدحرج على الأرض.
ثم أعاد مسيلمة السؤال، أتشهد أن محمداً رسول الله؟
قال: نعم، صلى الله عليه وسلم.
قال: أتشهد أني رسول الله؟
قال: إن في أذني صمماً عن سماع ما تقول.
فأمر بقطع قطعة أخرى من جسده لتتدحرج على الأرض، فشخص الناس بأبصارهم مدهوشة مشدوهة من تصميم هذا الرجل وثباته؛ إنه الثبات من الله.
مضى مسيلمة يسأل والجلاد يقطع وحبيب يقول: أشهد أن محمداً رسول الله، حتى صار قطعاً منثورة على الأرض، ثم فاضت روحه وهو يردد: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، محمد رسول الله، محمد رسول الله.
إن عذَّبوا الجسمَ فالإيمانُ معتصمٌ بالقلبِ مثلَ اعتصامِ اللَّيثِ بالأَجَمِ
ثم يأتي الخبر لأمه، ويا لهول الخبر! وجدير بأمهات المسلمين وبأمهات الشباب والشابات أن يقفن مع هذه الأم ليدرسن سيرتها يوم جاءها خبر ابنها الذي قطع إرباً إرباً وهو يقول: محمد رسول الله، اسمع إلى ذلك المحضر الخالد لذلك الرجل- ما زادت -والله- يوم جاءها الخبر على أن قالت: [[من أجل هذا الموقف أعددته، وعند الله احتسبته، لقد بايع الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة صغيراً، ووفَّى له اليوم كبيراً، فحمدت الله سبحانه وتعالى كثيراً]].
فلو كانَ النساءُ كمنْ ذكرنا لفُضِّلتِ النساءُ على الرجالِ
وما التأنيثُ لاسمِ الشمسِ عيبٍ ولا التذكيرُ فخرٌ للهلالِ
هل وقفت عاجزة تبكي ابنها وتندب حظها؟
لا.
بل في يوم اليمامة كانت تشق الصفوف كاللبؤة الثائرة تنادي: أين عدو الله مسيلمة؟ فوجدته مجندلاً على الأرض، سيوف المسلمين قد ارتوت من دمه، فطابت نفساً، وقرَّت عيناً {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم:42] مضى حبيب ومسيلمة إلى ربهما، وشتَّان ما بينهما، فريق في الجنة، وفريق في السعير.
لقد ضحى الصحابة بكل شيء، وصدقوا الله فصدقهم الله، وأقر أعينهم بنصرة دينه وإعلاء كلمته.
مواكب تتلوها مواكب من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
مواكبُ الله سارَتْ لا يُزَعْزِعُهَا عاتٍ منَ البحرِ أو عالٍ من الأطم
لا يهتفونَ لمخلوقٍ فقدْ علمُوا أنَّ الخلائقَ والدنيا إلَى العَدَمِ(20/19)
عاقبة الصدق
فإذا أنت ترى أحدهم وهو عقبة بن نافع على أطراف غابة القيروان ينادي ويخاطب السباع والهوام ويقول: نحن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ جئنا لننشر دين الله في الأرض فأخلي لنا المكان، فتخرج السباع والهوام حاملة أولادها على ظهورها؛ لتخلي المكان لجند الله؛ كرامة من الله، أطاعوا الله فطوع الله لهم كل شيء؛ ليبني مدينة القيروان في تلك الغابة، لا ليركن إليها ويجلس فيها ويتنعم بها، بل ينطلق بعد ذلك فاتحاً في الأرض حتى يقف بقوائم فرسه في أطراف المحيط الأطلسي ليقول كلمته الخالدة، وقوائم فرسه قد ابتلت بمياه المحيط الأطلسي: [[والله! لو كنت أعلم أن وراء هذا البحر أرضاً وأقواماً لخضته في سبيل الله؛ لأنشر دين الله]].
وإذا بـ قتيبة في الجانب الآخر في شرق الكرة الأرضية -ذاك في غربها وهذا في شرقها- يفتح المدن والقلوب، حتى يقف على أطراف مملكة الصين ويقسم بالله ليطأن بأقدام فرسه تلك المملكة، ويسمع ملكها فيهلع ويخاف ويجزع، ويعلم أن هؤلاء إذا قالوا فعلوا، فيرسل صِحَافاً من ذهب مملوءة بتربة أرض الصين؛ ليبرَّ قسم قتيبة، وتطأ خيل قتيبة تلك التربة، وتكون الصحاف مقدمة الجزية، وأربعة من أبنائه يوضع عليهم وسام المسلمين، فيا لله!
مهلاً حماةَ الضَيْمِ إنَّ لِلَيلِنا فجراً سيطْوِي الضَيم في أطمارهِ
هارون الرشيد خليفة المسلمين يخاطب السحابة وهو على كرسيه، ويقول: أمطري أنَّى شئت؛ فسوف يأتيني خراجك.
صارت الكرة الأرضية ما بين مسلم حقاً وكافر يدفعُ الجزيةَ عنْ يدٍ وهو صَاغِرٌ.
للهدى كانوا أذلاء وللعدلِ والمَعروفِ كانُوا خُلفاءْ
لو دعاهم صارخٌ لانتفضوا مِن بطونِ الأرضِ يرمونَ السماءْ
تركُوا المنزلَ معموراً لنا ثُمَّ جِئنا فتركناهُ خَلاءْ
ضربُوا العِزَّ لنا أخبيةً فنقضنَاها حِبَاءً فخِباءْ
ومع هذا:
يا أمتي إنْ طالَ ليلُك عابثاً فتَرَقَبي بسمات فجرٍ في الظَّلام جَديدِ
ما نامَ جفنُ الحقِّ عنك وإنمَّا هيَ هدأةُ الرِّئبالِ قبلَ نفارِهِ
لعلها هدأة الأسد قبل نفاره.(20/20)
مواقف من الإخلاص
صدقوا ما عاهدوا: صدقوا في التجرد لله، وطلب الأجر العظيم من الله، وأنعم به من تطلع لا يعدله شيء من تكريم الدنيا.
صح أن أعرابياً قسم له النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر من الغنيمة وكان غائباً، فلما حضر أعطوه ما قُسِم له، فجاء الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: {يا رسول الله! ما على هذا اتبعتك، ولكني اتبعتك على أن أرمى هاهنا بسهم فأدخل الجنة -وأشار إلى حلقه- فقال صلى الله عليه وسلم: إن تصدق الله يصدقك، فلبثوا قليلاً، ثم نهضوا لقتال العدو، وكان له ما أراد، إذ أتي به يحمل وقد أصابه سهم حيث أشار، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أهو هو؟ قالوا: نعم.
قال: صدق الله فصدقه الله، ثم كفنه النبي صلى الله عليه وسلم بجبته وصلى عليه، ودعا له، ثم قال: اللهم هذا عبدك، خرج مجاهداً في سبيلك؛ فقتل شهيداً وأنا عليه شهيد}.
أرادوا الله فشمخت نفوسهم إلى رضوان الله، فترفعوا عن الدنيا حتى قال قائلهم؛ وهو جابر بن عبد الله: [[والذي لا إله إلا هو! ما اطلعنا على أحد من أهل القادسية أنه يريد الدنيا مع الآخرة]].
وهاهو أبو الحسن علي رضي الله عنه يوم الخندق يرى عمرو بن ود -فارس العرب بلا منازع- وهو يجتاز الخندق ويندب المسلمين للمبارزة، فيتقدم علي لمبارزته، فيندب الثانية وقد استصغر علياً فيخرج له علي فيندب الثالثة للمبارزة، فما لها إلا علي، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم -فيما روي عنه-: {أخرج إليه منصوراً}، فكان اللقاء، وما هو إلا قليل حتى قتله علي رضي الله عنه.
فأين تربَّى علي؟
تربى في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو ربيب الإخلاص والتجرد والصدق.
والأمرُ من معدنِهِ لا يُستغربُ والفرعُ للأصلِ حتماً يُنسبُ
صدقوا ما عاهدوا: فاتهموا أنفسهم وهضموها وروضوها على مقابلة الجهل بالحلم، والحمق بالعقل، والإساءة بالإحسان والعفو؛ ركلوا العُجْب والكبر والغرور، فعاشوا سعداء، وماتوا شهداء في حبور.
يقال لأحدهم: يا مراءٍ!
فيقول: متى عرفت اسمي؟
وآخر في الحج وقد ازدحم الحُجَّاج، وبلغت القلوب الحناجر يقول أحد الذين بجواره: والله ما أظنك إلا رجل سوء.
فيقول: ما عرفني إلا أنت.
ويؤتى بالثالث ويقف يوم عرفة آخر النهار متذللاً خاضعاً خاشعاً، قلوب الخلق وألسنتهم تجأر إلى الله أن يعتق الرقاب من النار، فإذا به تصفو نفسه، ويرق قلبه، فيتذكر ذنوبه وخطاياه -وهي من ذنوب وخطايا صغار- فيقول: لا إله إلا الله! ما أشرفه من موقف وما أرجاه! لولا أني فيهم لقلت: قد غفر الله لهم، اللهم لا تردهم من أجلي، اللهم لا تردهم من أجلي.
ليتَ شِعْرِي ما الَّذِي أطْلقهُمْ مِنْ عِقَالٍ وبقيناً أُسَرَاءْ
ما لنا نحنُ عَجِبنَا واغْتَرَرْنَا أوَ لسْنَا كُلُنَا طيناً ومَاء
لو تبعنا في الهدى آثارهم لانطلقنا وسمونا للعلاء(20/21)
أقوال في العفو والصفح عن الآخرين
صدقوا ما عاهدوا: فعفوا وصفحوا.
وهبوا النقص للفضل، والإساءة للإحسان، فصفت سرائرهم، ونصعت سيرهم، وسلمت صدورهم، ولهجت أنفسهم: {لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] كل ذلك يرجون ما عند ربهم.
يقال لأحدهم: إن فلاناً من الناس يقع فيك، فيقول: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43] {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76].
ثم يقال له أخرى وقد ظُلم وبُهِت وسُبَّ وشتم: ألا تدعو على من ظلمك وسبك وشتمك؟ فيقول: من دعا على ظالمه فقد انتصر، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {اصبروا حتى تلقوني على الحوض}.
يُسبُّ أحدهم ويشتم بما ليس فيه فيقول: إن كنت صادقاً فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك.
ويقال للثالث: إن فلاناً يقع فيك ويقول فيك كذا وكذا، ويذكرك بسوء، فيقول: رجل صالح ابتلي فينا فماذا نعمل؟! من تعدى حدود الله فينا لم نتعد حدود الله فيه، العفو أفضل، لا ينفعك أن يعذب أخوك المسلم بسببك، فتعفو وتصفح وتغفر فيغفر الله لك.
أيها الأحبة: إن مكانة المؤمن أعز من أن يتساوى في الظاهر مع ظالمه، بل يرى أن من الدين والمروءة أن يدعى إلى أن يشمخ على من يبدي الإسفاف، ويترفع عن موقف يقوده إلى رفع صوت أو إثارة فضول أو جدل أو لجاج، وبعضنا -ويا للأسف- يتخذ أخاه هدفاً ويجمع الجموع ليرجموه معه، ترى بعضنا يرفع ويخفض، ويجرح ويعدل ويشي.
وليس مَلامِي عَلَى مَنْ وشَى ولكنْ ملامي عَلَى مَنْ وَعَى
اللوم على من يمنح الآذان الصاغية للوشاة، ولأولئك أقول: وا أسفاه يوم تسود صحف التفاضح، ويوم تسترخى بيننا أيدي التصافح، ليست المنزلة -والله- بأن تنال لقباً بتجريح إخوتك، إنما المنزلة أن تحتل في قلوب المؤمنين حيِّزاً، وأن تنادي ملائكة السماء أهل الأرض: أن أحبوا فلاناً.
صدقوا ولم نصدق: قلوب امتلأت بخشية الله، وقلوب امتلأت بمحبة الله، ترجو ما عند الله، لا تتسع لحقد أو ضغينة أو حسد لخلق الله، بل -والله- كانوا مشفقين على عباد الله؛ يعلمون الجاهل، وينبهون الغافل، مغتنمين كل فرصة، مستفيدين من كل مناسبة.
يمر أبو الدرداء بجماعة تجمهروا على رجل يضربونه ويشتمونه، فقال لهم: ما الخبر؟ قالوا: وقع في ذنب كبير، قال: أرأيتم لو وقع في بئر أفلم تكونوا تستخرجونه منه؟ قالوا: بلى.
قال: فلا تسبوه ولا تضربوه، لكن عِظُوه وبصِّروه، واحمدوا الله الذي عافاكم من الوقوع في مثل ذنبه.
قالوا: أفلا تبغضه؟ قال: إنما أبغض فعله، فإذا تركه فهو أخي، فأخذ الرجل ينتحب ويعلن توبته وأوبته، ليكون في ميزان أبي الدرداء -رضي الله عنه- يوم يقف بين يدي الله: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن:14].(20/22)
حب الصحابة لرسول الله
صدقوا في حبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم فحرصوا على رؤيته وصحبته، وقد كان فَقْد صحبته ورؤيته صلى الله عليه وسلم أشد عليهم من كل شيء.
أحبوه وبذلوا المال والنفس والنفيس دونه صلى الله عليه وسلم.
أحبوه فامتثلوا أمره واجتنبوا نهيه.
أحبوه فنصروا سنته، وذبُّوا عن شريعته، وما أحدثوا في حبه ما لم يشرع.
فليحذر الذين ادعوا حبه ولم يتبعوه واتبعوا أهواءهم أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم، لقد سدَّ الله سبحانه وتعالى دون جنته الطرق، فلن تفتح الجنة لأحد إلا من طريقه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31].
أحبوه حتى جاء أحدهم إليه يفكر فيما بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: {يا رسول الله! إنك لأحب إلي من نفسي ومن ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، فإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وأنا إن دخلت الجنة خشيت ألا أراك، فلم يجبه صلى الله عليه وسلم ليتنزل الجواب قرآنا يتلى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69].(20/23)
دليل المحبة عند ربيعة
ويقول صلى الله عليه وسلم لـ ربيعة الأسلمي: {سل شيئاً يا ربيعة! قال: أسألك مرافقتك في الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: أو غير ذلك؟ قال: ما هو إلا ذاك.
قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود}.
كان الناس يسألون ما يملأ بطونهم، ويواري جلودهم مما هم فيه، أما المحب فلا يريد إلا مرافقة حبيبه في الدنيا والآخرة.(20/24)
أبو بكر وشدة حبه لرسول الله
وبعد عام من وفاته صلى الله عليه وسلم يقف أبو بكر رضي الله عنه على المنبر ويقول: {سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف من عامي الأول، ثم استعبر أبو بكر وبكى، ثم قال أخرى: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يملك أن خنقته العبرة فبكى، ثم قال ثالثة فخنقته العبرة فبكى، ثم قال -لا يسمع صوته من نشيجه- قال صلى الله عليه وسلم: لم تؤتوا شيئًا بعد كلمة الإخلاص مثل العافية، فسلوا الله العافية} نسأل الله العافية.(20/25)
مواقف دلت على حب رسول الله
أما سعد بن الربيع فهو في آخر رمق يجده زيد بن ثابت بين القتلى، وإذا به يقول: [[بلِّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام، وقل له: إني لأجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم شِفْر يطرف]].
والآخر يقول يوم أحد وقد كان يقوم النبي صلى الله عليه وسلم ويجالد فيقول: [[لا تشرف يصبك سهم، نحري دون نحرك يا رسول الله!]]
أحبوا فامتثلوا أوامره وبينما بعضهم يصلي صلاة العصر إذ حولت القبلة إلى الكعبة، فمرَّ عليهم رجل صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: {أشهد أني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وُجِّه إلى الكعبة، فانحرفوا وهم ركوع في صلاة العصر تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم}.
نزل تحريم الخمر: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91] فأريقت الخمر حتى جرت بها سكك المدينة ولسان حالهم ومقالهم: انتهينا انتهينا.
خلع صلى الله عليه وسلم نعليه وهو يصلي فألقوا نعالهم وراءه، فسألهم: {لم فعلتم ذلك؟ قالوا: رأيناك ألقيت فألقينا، فأخبرهم أن جبريل أتاه فأخبره أن فيهما قذراً}.
يقول يوماً وابن رواحة قادم إلى المسجد يريد الدخول: اجلسوا عباد الله! أو كما قال صلى الله عليه وسلم فيجلس ابن رواحة خارج المسجد، ما وسعه إلا الاستجابة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أبو بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتتبع أفعال النبي صلى الله عليه وسلم فيفعلها حبّاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالحب اتباع لا ابتداع.
وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بذهب إلى عمر ويقول له: [[انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها.
قال: فلما انتهينا إليها ورأتنا بكت، فقال لها أبو بكر: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم.
قالت: ما أبكي ألا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله، ولكن أبكي لأن الوحي انقطع من السماء بموته صلى الله عليه وسلم، ثم انفجرت تبكي رضي الله عنها، فهيجتهم على البكاء، فجعلا يبكيان معها]] إيه يا أم أيمن.
يا أم أيمن قد بكيتِ وإنَّنا نلهُو ونمجنُ دونَ معرفةَ الأدب
لم تبصري وضع الحديثِ ولا الكذب لم تبصري وضع المعازفِ والطرب
لم تشهدي شرب الخَمور أو الزنا لم تلْحَظِي ما قدْ أتانا من عطَب
لم تلحظي بدعَ الضلالةَ والهوى لولا مماتُك قدْ رأيتِ بنا العَجَب
لم تعلمي فعل العدو وصحبِهم ها نحن نجْثُو لليهودِ على الرُّكَب
واحرَّ قلبي من تَمَزُّقِ جَمعِنا أضحتْ أمورُكِ -أمتي- مثلَ اللعب
تالله ما عَرفَ البكاءُ صراخَنا ومع التباكي لا وشائجَ أو نَسَب
كيف لا يحبونه وقد أخرجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربه، فكان لهم قائداً ومربياً وأباً ورسولاً نبياً، وسراجاً منيراً؟!
ولن يؤمن أحد حتى يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحب إليه من ماله وولده وأهله ونفسه والناس أجمعين: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] وذلك هو الحب أيها الأحبة.
إن هذا الحب العميق لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع شدته، ومع مفاداتهم له بالنفس والنفيس، فإن عقائد المسلمين استقامت بفضل الله، ولم يتجاوزوا صفة النبوة، ولم ينسبوا إلى نبيهم صلى الله عليه وسلم صفة الألوهية، ولم يعبدوه من دون الله، بل كان صوته يجلجل في عقولهم ويرددون قوله: {أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بـ مكة} القرآن يذكِّر ببشريته: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف:110] والقرآن يذكر أنه يصيبه ما يصيب البشر: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] فالاتباع خير لو كانوا يعلمون.(20/26)
أمنيات الصحابة وهممهم
صدقوا الله حتى في أمنياتهم وهممهم، وهمم أهل الدين يجب أن تكون أعلى وأسمى.
هكذا كانت مطالب الصحابة رضوان الله عليهم وأمانيهم، اجتمعوا يوماً من الأيام فقال قائلهم: تمنوا.
فقال رجل: أتمنى لو أن لي مثل هذه الدار مملوءة ذهباً أنفقه في سبيل الله عز وجل.
وقال آخر: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤاً وزبرجداً وجواهراً أنفقه في سبيل الله وأتصدق به.
وأما علي -رضي الله عنه- فيتمنى الضرب بالسيف، والصوم بالصيف، وإكرام الضيف.
وأما خالد فيتمنى ليلة شديدة البرد، كثيرة الجليد، يصبِّح فيها العدو؛ ليجاهد في سبيل الله.
وأما عمر -رضي الله عنه- فيقول: [[أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة برجال مثل أبي عبيدة؛ أستعملهم في طاعة الله]] رجال أمناء كأمين الأمة، يستعملهم في طاعة الله.
يا أيها الأحبة: يتمنى عمر هذه الأمنية في أي وقت، في وقت امتلأت فيه الساحة الإسلامية برجال عز نظيرهم، وقل مثيلهم، وجل شبيههم؛ فما أعظم حاجتنا اليوم إلى مثل هذه الأمنية، وقد افتقرت البلاد وأجدبت، وعجزت النساء أن يلدن أمثال أولئك الرجال!
كم هي حاجة الأمة ماسة إلى أمين كـ أبي عبيدة بعد أن استشرت الخيانة.
كم هي حاجتنا ماسة إلى رجل كـ أبي عبيدة يرفع لواء الجهاد بعد أن استنوق الجمل، وعاثت في الأرض الغربان، واستنسر في سماء الأمة بغاث الطير.
كم هي حاجة الأمة لأمين كـ أبي عبيدة في غيبة الأمناء، حتى صارت الأمة أضيع من الأيتام على مأدبة اللئام.
تداعت علينا الأمم كتداعى الأكلة على قصعتها، لا من قلة والله، ولكن لأننا غثاء كغثاء السيل، أحببنا الدنيا، وكرهنا الموت، فكان ما كان.
كأني -والله- بقدوة من أولئك الصادقين يقول بلسان حاله وهو مرابط في قبره: وا أسفاه! وا أسفاه! أأنتم أحفادنا؟ أأنتم من قرأتم القرآن؟! أأنتم من درستم سيرة المختار؟!
وا أسفاه! نقشتم وصايا المختار على الجدران والأحجار، وكان الأحرى أن تنقشوها على الجنان!
وا أسفاه! أما قلت لكم: أقيموا الصلاة؟! فما بالكم تركتم الصلاة، وغادرتم المساجد لتعمروا المسارح والملاعب والملاهي؟! وا أسفاه! أما قلت لكم: صوموا رمضان، وقوموه إيماناً واحتساباً؟! فما بالكم تجعلونه شهر الطعام والفوازير والسهر على الحرام مع ضياع الأوقات؟!
وا أسفاه! ألم أقل لكم: تصدقوا؟! فما بالكم بخلتم فما تنفقون درهماً! إلا على أقدام راقصة أو لاعب أو صاحب مزمار أو آلة دمار وعار وأي عار؟!
وا أسفاه! ألم أقل لكم: حجوا واعتمروا؟! فما بالكم جُبْتُم أقطار الدنيا، وبيت الله منكم على مرمى حجر يهجر؟! أأنتم بشر؟
وا أسفاه! تغرقون في أزقة الغرب ومواخيرها، ولا تعرفون الخندق ولا بدراً ولا أحداً ولا الحديبية! لا تعرفون المقام ولا الحطيم ولا زمزم، وتعرفون أزقة باريس وما أشبهها!
ألم أقل لكم: انصحوا والدين النصيحة؟ فما بالكم أتقنتم صفة النفاق تَغُشُّون وتُغَشُّون، والمؤمنون نصحة، والمنافقون غششة! وا أسفاه يا رجال الحق!
يا رجال الحق قد جلَّ الأسى أرجال منْ أرى أمْ لا أَرَى؟
ضاعت الأمةُ فِي غفلتكم وتحيرنا لأمرٍ حيَّرا
الجوى ينخر في أحشائِكم والهوَى بَينَ خوافِيكُم سَرَى
اسألوا عن كلِّ نصرٍ خالداً واسألوا عن كلِّ عدلٍ عمرا
يا رجالَ الحق قدْ طالَ الجوَى وبلغَ السيلُ الزبا وانحدرا
أنتم القدوة والناسُ بكم تقَتدي فَخراً وتَزْهُو مَفخَرَا
وحِّدُوا أشتاتكم واتحدوا واربطُوا أحلامَكم ربطَ العُرَى
واصبروا إن عَظُمَ الخطبُ فما يدرك النصرَ سِوى مَنْ صبرا
وانصروا الله يَهبْكُم نَصرَهُ واشكروه يُعط من قد شَكَرَا
صدقوا ما عاهدوا: فكانوا قليلاً من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون، إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً، أشداء على الكفار رحماء بينهم، أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين؛ رضي الله عنهم أجمعين.
أحبتي في الله: هذه بعض الصفات للصادقين الغر الميامين؛ نوجه الجميع للنظر فيها: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] والاقتداء المطلق كما تعلمون بنبي الله صلى الله عليه وسلم الذي هو قدوتهم؛ لأنه لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] ثم يكون الاقتداء بالصالحين الصادقين في الجانب الذي تميز كل واحد فيه بما ينطبق مع أحكام الشرع ومقاصده، وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.(20/27)
دروس مستفادة من حياة الصحابة
وأخيراً وبعد هذه الجولة في رياضهم: فإني أدعو الجميع من خلال ما سمعتم إلى أمور، وأسأل الله عز وجل ألا نكون من الذين إذا نزلوا بقوم خرجوا من عندهم حتى يدعوا الله عز وجل أن يفرج عنهم.
هذه أمور من خلال ما ذكر أريد أن أنبه إليها ولعلها خلاصة.(20/28)
لا تحقرن من المعروف شيئاً
أولاً: لا تستقلوا قليلاً، ولا تستكثروا كثيراً، وأحسنوا النية؛ فربَّ صغير تعظِّمه النية، ورب عظيم صغرته النية.
والقليل أولى من القعود، حتى لو كان حديثاً لأهل، أو كلاماً لطفل، أو مسحاً لرأس يتيم، أو تبسماً لجار، أو نصحاً لرفيق في عمل، أو استماعاً لكلمة أو محاضرة أو قراءة قرآن، حتى لو كان ذلك في السيارة، وداوم فأحب العمل أدومه وإن قل، وكل ذلك يكسب الأجر، ويلحق بالركب.
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8].(20/29)
ألحق الطاعة بالطاعة
ثانياً: إذا فرغت فانصب: إذا فرغت من طاعة فانصب في طاعة أخرى، ألحق العمل بالعمل، والتعب بالنَصَب، ولا تغتر بالرأي؛ فالحكمة ضالة المؤمن، وهو أولى بها.
ما ضرك أيها المؤمن بدلاً من صرف الوقت فيما لا ينفع أن تتناول كتاباً لتقرأه وتلخصه، أو تستمع لمحاضرة، أو تطالع في سير الصحابة؟! وما أكثر الأعمال! بل والله أين الأوقات؟
زيارة تكسب فيها صديقاً، أمراً بمعروف، أو نهياً عن منكر، تعرفاً على تاجر يعين أنشطة الدعوة الإسلامية بماله، بحثاً عن شيخ يؤثر في مستمعيه، درساً للزوجة والأطفال ولو بالقراءة من كتاب، زيارة للمقابر، ذكراً وتذكراً للآخرة، حضور الجنائز، كثرة السنن، قيام الليل، صيام التطوع، صدقة السر، كل ذلك يكون في غير توان ولا بطالة؛ فإن التواني والبطالة -والله- لا يولدان إلا الخزي والندامة، على حد قول القائل:
تزوجت البطالة بالتوانِي فأولَدَهَا غُلاماً مع غُلامَة
فأمَّا الابن سموه بفقرٍ وأما البنت سموها ندامة
إن تيار الحياة محدود، وفرصة العيش بها قصيرة، فسددوا وقاربوا ولا تجهدوا أنفسكم فتملوا وتتركوا عملكم، وكونوا كما قيل:
يمشي الهوينا ويجي في الأول(20/30)
الاستعجال من الشيطان
ثالثاً: لا تستعجلوا؛ فإن الاستعجال يقود إلى الفشل، فتضطر إلى تكرار العمل، فلو جمعت الوقت الأول مع وقت الإعادة لكان أطول من وقت واحد.
أقول هذا لبعض المتعجلين الذين يتهمون أهل الأناة بالتباطؤ؛ لأنهم هم يستعجلون، وليتهم يفلحون ويعملون، لكن لا حاجة يدركون، ولا أرضاً يقطعون، ولا ظهراً يبقون، ولا لساناً يكفون، وفي ذلك يستعجلون:
منا الأناةُ وبعضُ القومِ يحسبُنَا أنا بطاءٌ وفي إبطائِنَا سرع(20/31)
اترك الفراغ
رابعا: إياكم والفراغ! فإن من مقت الإنسان أن يكون فارغًا ليس في عمل دنيا ولا آخرة، والوقت هو الحياة فلا يضيع، وما هذا المخيم إلا مساهمة في استغلال الوقت:
دقات قلب المرء قائلة له إنَّ الحياةَ دقائقٌ وثواني(20/32)
المسارعة في التوبة وطلب الخيرات
خامساً: إذا فتح لأحدكم باب خير فليسرع إليه؛ فإنه لا يدري متى يغلق عنه ذلك الباب
إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكل خافقة سكون
إن حياة بعض الأخيار لا تخلو من ذنوب تضخم أحياناً لحاجة في نفس، ولكني أقول للأخيار -ووالله ما أظن من حضر إلا أخياراً-: إن التوبة تعدل ذلك كله ولا ضير، فصاحب التوبة على كل حال في خير، وكل منصف يعلم أن الكثير من أبناء الأمة غثاء، غفلات وشهوات، شطط وفساد، وعدوان وعداوات، فيهم كل منخنقة وموقوذة ومتردية ونطيحة وما أكل السبع، فيهم من لوَّثه الربا، وأذهله الخمر.
والأخيار -وما أنتم إلا جزء من الأخيار- رغم كل شيء هم أهل المناقب والصدق والعفة، ولا ننزِّه أحداً، ولا نزكِّي أحداً؛ فكلنا ذوو خطأ.
من لم يلحظ هذا فهو عن ميزان العدل ناكب!
يليق بكم -يا أيها الأخيار- أن تثقوا بأنفسكم أنكم أمثل من على الساحة، وأنكم أهل للإصلاح، وأهل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أهل لأن تأخذوا الزمام، فلا تلتفتوا إلى وسوسة شيطان أو أكاذيب ملا، أو تخذيل مخذِّل، ولكن اعملوا، ومن أخطأ فليتب.
ووالله! ثم والله! ثم والله! لا يسعكم القعود، إبرأوا ممن إذا أقدمتم أحْجَم، وإذا أعربتم أعجم، ألحقوا العمل بالعمل؛ فالعمل يدفع إلى العمل، والحسنة تقود إلى الحسنة، والحركة تولِّد الحركة، والطاعة تجلب الطاعة، وليكن لسان حال الواحد منا:
أغارُ عَلَى أمَّتِي أنْ تَتِيهَ بِهَوْجِ العَوَاصِفِ فِي العيلَمِ
وتقْعُدُ صَمَّاءَ مَضْرُورَةً وتطربُها لغةُ الأَبكَمِ
وتَشْغَلُهَا سَفْسفَاتُِ الأمورِ عن الفَرض والواجبِ الأقدَمِ
وتدْفِنَ آمَالَهَا بالضُّحَى وتُمسِي وتُصْبِحُ فِي مَأْتَمِ
تُناشِدُ أبْنَاءَهَا عروةً مِنَ الدِّينِ والحَقِّ لَمْ تُفْصَمِ
وتَرْجُو لِعِلاتِها مَرْهَماً وَلَيْسَ سِوَى الدِّينِ مِنْ مَرْهَمِ
أخِي لا تَلِنْ فالأُلى قُدوة لِمِثْلِي ومِثْلِكَ في المَأزَمِ
لهم قدرهم باعتبارِ الرِّجالِ وسُمْعَتُهُم فِي ذُرَا الأْنجُمِ
تقَدَّمْ فَأنْتَ الأَبِيُّ الشُّجَاعُ ولا تتهَيَّبْ وَلا تُحْجمِ
علَيْكَ بِهَدْي الرَّسُولِ الكَرِيمِ ومنهاجِ قرآنك المُحْكَمِ
تحرَّكْ فَأَنْتَ العَزِيزُ الكَرِيمُ ولو أثَّرَ القيدُ فِي المِعْصِمِ
فلا تَتَنَازَلْ ولا تَنْحَرِفْ ولا تتشاءَمْ ولا تَسْأَمِ
ولا تكُ مِنْ معشرٍ تافهٍ يَقِيسُ السَّعَادَةَ بالدِّرْهَمِ
يعيشُ وليسَ لهُ غايةٌ سِوَى مشرب وسوى مطعم(20/33)
لتكن لك خبيئة عند الله
أخيراً: ليكن لكل واحد منا خبيئة من عمل، لا يعلم بها إلا علام الغيوب؛ فلعلها الباقية النافعة.
أحبتي في الله: عليكم بمدارسة القرآن، ومدارسة السنة، ومدارسة السيرة، واقتدوا بجيل الصحابة، واتقوا الله وكونوا مع الصادقين، وما أقوله للرجال أقوله للنساء، ما يقال لهم يقال لهن، ولا أريد أن أزيد على ذلك فقد أطلت.
أسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، أن يجمعنا وإياكم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
اللهم يا ذا العزة التي لا ترام، والملك الذي لا يضام، يا من لا يهزم جنده، ولا يغلب أولياؤه، أنت حسبنا، ومن كنت حسبه فقد كفيته، حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل.
اللهم كن للمسلمين ولا تكن عليهم، اللهم كن للمسلمين ولا تكن عليهم، اللهم كن للمسلمين ولا تكن عليهم، وامكر لهم ولا تمكر بهم، وامكر لهم ولا تمكر بهم، وامكر لهم ولا تمكر بهم.
وانصرهم على من بغى عليهم، وانصرهم على من بغى عليهم.
اللهم فكَّ أسرهم، اللهم فكَّ أسرهم، اللهم فكَّ أسرهم.
اللهم قوِّ شوكتهم، واجعل الدائرة على عدوهم.
يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
وآخر دعوانا أن الحمد له رب العالمين.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(20/34)
عوامل بناء النفس
النفس بطبيعتها ذات طموح إلى الشهوات، ونكوص عن الطاعات، لكن قمعها عن رغباتها إلى رغبات الدين فيه عزها وتمكينها.
والناس في بناء النفس مختلفون، يظهر ذلك من خلال استقبال المحن والمنح والإغراء والتحذير، فمن أسس بنيانه على رضوان الله فلا تضره فتنة، وأما من أسس بنيانه على شفا جرف هار فهو كالريشة، تتلاعب به رياح الفتن.(21/1)
الصنف الأول: بنوا أنفسهم على الحق
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، شهادة عبده وابن عبده وابن أَمَتِه، ومن لا غنى له طرفة عين عن رحمته.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صُمّاً، وقلوباً غلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلِّم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم من نفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]، {يا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله أن يجعل هذا الجمع في ميزان الحسنات في يوم تعز فيه الحسنات.
أما بعد:
أحبتي في الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا، وأن نقدم لأنفسنا أعمالاً تبيِّض وجوهنا يوم نلقى الله {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ محْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30] {يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} [الفرقان:25] {يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} [الفرقان:27] {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] يوم الحاقة، يوم الطامة، يوم القارعة، يوم الصَّاخة {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ منْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:24 - 37].(21/2)
التباين في بناء النفس
اعلموا أن النفس بطبيعتها -يا أيها الأحبة- طموحة إلى الشهوات واللَّذَّات، كسولة عن الطاعات وفعل الخيرات، لكن في قَمْعِها عن رغبتها عزُّها، وفي تمكينها مما تشتهي ذلها وهوانها؛ فمن وُفِّق لقمْعِها نال المُنَى، ونفسَه بنى.
ومن أرخى لها العنان ألْقَتْ به إلى سُبُل الهلاك والردى، ونفسَه هدم وما بنى.
فمن هجر اللذات نال المنى ومن أكبَّ على اللذات عض على اليد
ففي قمع أهواء النفوس اعتزازها وفي نيلها ما تشتهي ذلُّ سرمدِ
فلا تشتغل إلا بما يُكسب العلى ولا ترضَ للنفس النفيسة بالرَّدِي
وعلى هذا فالناس مختلفون في بناء أنفسهم وتأسيسها وتربيتها اختلافاً بيِّناً جليّاً واضحاً، يظهر ذلك في استقبال المِحَن والمِنَح، والإغراء والتحذير، والنعم والنِقَم، والترغيب والترهيب، والفقر والغنى؛ فمنهم من أسَّس بنيانه على تقوى من الله ورضوان؛ فلا تضره فتنة، ولا تُزَعْزعُه شبهة، ولا تغلبه شهوة، صامد كالطود الشامخ، فهم الحياة نعمة ونقمة، ومحنة ومنحة، ويسراً وعسراً، ثم عمل موازنة، فوجد أن
الدهر يومان ذا أمن وذا خطر والعيش عيشان ذا صفو وذا كدر
فضبط نفسه في الحاليْن؛ فلم يأسَ على ما فات، ولم يفرح بما هو آتٍ؛ فلا خُيَلاء عند غنى، ولا حزن عند افتقار، لا يبطر إن رَأَس، ولا يتكدر إن رُئِس، يقلق من الدنيا، ولا يقلق على الدنيا أبداً، يستعجل الباقية على الفانية؛ فتجده راضي النفس، مطمئن الفؤاد، إن هذا الصنف من الناس صنف قيِّم كريم، لكنه قليل قليل، وما ضره أنه قليل وهو عزيز؛ فمثله كالشجرة الطيبة، عميقة الجذور، ثابتة الأصول، مفيدة الفروع، لا تزعزعها الأعاصير، ولا تنال منها العواصف، والسر إنه الإيمان، الذي إذا خالطت بشاشته القلوب ثبت صاحبه، واطمأن وضرب بجذوره فلا تزعزعه المِحَن، ولا تؤثر فيه الفتن؛ بل يُكِنُّ الخير ويجني الفوائد، شجر بثمر، لسان، حال هذا الصنف:
أنا الحسام بريق الشمس في طرفٍ مني وشفرة سيف الهند في طرف
فلا أبالي بأشواك ولا مِحَنٍ على طريقي ولي عزمي ولي شغفي
ماض فلو كنت وحدي والدُّنَا صرخت بي قف لسرت فلم أُبطئ ولم أقفِ
وهذه نماذج من هذا الصنف العزيز الشامخ القليل، جديرة بالتأمل، أضعها بين أيديكم، وهي قليل من كثير.(21/3)
سعد بن الربيع بناء ثابت
هاهو مجاهد، جريح من جرحى أحد به سبعون ضربة؛ ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، لم يبقَ له في هذه الدنيا وما فيها من أهل ومال ومتاع إلا لحظات.
فيمَ كان يفكر هذا الشخص؟ وما الذي كان يشغل باله؟
اسمع ما رواه الحاكم عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد لطلب سعد بن الربيع رضي الله عنه وأرضاه في القتلى، وقال لي: {إن رأيته فأقرِئْه مني السلام، وقل له: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبرني كيف تجدك؟} قال زيد: فجعلت أبحث عنه في القتلى، فأصبته وهو في آخر رمق، به سبعون ضربة؛ ما بين طعنة رمح، وضربة سيف، ورمية سهم، فقلت له: يا سعد! إن رسول الله يقرؤك السلام، ويقول: أخبرني كيف تجدك؟ قال: وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام وعليك السلام، قل له: إني -والله- لأجد رائحة الجنة -ليس هذا موضع الشاهد، ولكن اسمع ماذا قال؟ - وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله أن يُخلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف، ثم فاضت روحه رحمه الله.
ثبت سعد وعلَّم غيره دروس الثبات وهو يودِّع الدنيا، فما أوصى بأهل، وما أوصى بمال، كان همُّه أعلى وأغلى وأحلى، همُّه الرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم؛ فرَضِيَ الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة مأوانا ومأواه.
ولئن انتقلت بعيداً عن هذا لوجدت الخير في الأمة لا يزال وسيبقى بإذن الله عز وجل.(21/4)
الزهري لا تغيره محنة أو منحة
ها هو الزهري عليه رحمة الله ذلكم المحدث الكبير الذي يدخل على هشام بن عبد الملك، فيقول هشام للعلماء -وكانوا حوله-: من الذي تولى كِبر الإفك في حادثة الإفك؟ -وكان هشام يدعي أن الذي تولى كبره هو علي رضي الله عنه وأرضاه، فقال هشام لـ سليمان بن يسار: من الذي تولى كبره؟ قال: ابن أُبيّ، فقال هشام: كذبت، هو علي بن أبي طالب، فقال سليمان: الأمير أعلم بما يقول، ثم قال للآخر: من الذي تولى كبره؟ فأجابه وكذَّبه.
ثم وصل الدور إلى الإمام الزهري عليه رحمة الله ذلكم الرجل الذي نحسب أنه أسَّس بنيانه على تقوى من الله ورضوان، فقال له هشام: من تولى كبره؟ قال: ابن أُبيّ -عليه من الله ما يستحق- قال: كذبت، فانتفض الإمام الزهري، وقال: أنا أكذب لا أبا لك! والذي لا إله إلا هو لو نادى منادٍ من السماء: أن الكذب حلال ما كذبت، والذي لا إله إلاَّ هو لقد حدثني سعيد وعروة وعبيدة وعلقمة عن عائشة بأن الذي تولى كبره هو عبد الله بن أبي، فارتعد هشام وانتفض، وقال: هيَّجناك يا إمام سامِحْنا، سامِحْنا.
إنه الثبات! وإنه بناء النفس الذي لا يضره أي موقف يتعرض إليه من محنة أو منحة!
وقبل هذا وذاك أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم.(21/5)
يوسف عليه السلام الثبات بكل معانيه
هاهو يوسف عليه السلام في عنفوان شبابه، وفي قمة نضجه؛ تخرج وتبرز إليه امرأة العزيز الجميلة، بأبهى حُلَّة، متعطرة، متبهرجة، مبدية لمفاتنها، قد غلَّقت الأبواب، ودَعَتْهُ بصريح العبارة ولم تُكنِّ، فقالت: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] أقبل {قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23].
ولم تقتصر الفتنة عند ذلك؛ بل ازدادت سعيراً حين شملت نساء عِلْيَة القوم؛ حين أُعجِبْنَ بيوسف -عليه السلام- وفُتِنَّ برجولته وجماله؛ فأخذن يطاردْنَه يُردْنه أن يعمل بهن الفاحشة، وتبلغ الأمور ذروتها يوم تأتي امرأة العزيز تهدده، وتقول: {وَلَئِن لمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونن من الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32] فماذا رد؟ {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن منَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33].
إنه ثبات أنبياء الله أمام الشهوات وأمام التهديدات، عليهم صلوات الله وسلامه، وهم الأسوة والقدوة.
إنه الثبات بكل معانيه، والثبات بكل مبانيه أمام الشهوات وأمام الشبهات، والذي لا يوفَّق له إلا مَنْ علم صدقَه ربُّ الأرض والسماوات.(21/6)
الإمام أحمد ذهب أحمر
لا يَخْفَاكُم إن خَفَاكُم شيء ما لقيه الإمام أحمد في سبيل عقيدته من أذى وتعذيب، تُخلَع يداه، ويُجلد السياطَ الكثيرة، يختار الظالمون له عدداً من قساة القلوب، وغلاظ الأفئدة ليجلده كل واحدٍ منهم سوطيْن بكل ما أوتي من قوة، وهم يتعاقبون عليه، وهو ثابت كالطَّوْد الأشمِّ، لا يتراجع أبداً، يغمى عليه من شدة التعذيب ثم يفيق، فيعرض عليه الأمر فلا يتراجع، حتى انتصر بإيمانه وبناء نفسه، وبتوفيق الله قبل هذا وذاك، وكان انتصاره دليلاً على الإخلاص والعزم والقوة.
لقد خرج الإمام من المحنة خروج السيف من الجلاء، والبدر من الظلماء، أُدخل في الكِير فخرج ذهباً أحمر، وتواطأت القلوب على محبته، حتى أصبح حبه شعاراً لـ أهل السنة.
فأين الذين عارضوه؟ وأين الذين عذَّبوه؟ وأين الذين نالوا منه؟ ذهبوا إلى ما قدموا.
وبقي حيّاً بذكره، والذكر للإنسان عمر ثانٍ، والبغي مهما طال عدوانه، فالله من عدوانه أكبر.(21/7)
العز بن عبد السلام الإباء والاستعلاء
وتتعاقب النماذج الثابتة المبنية في هذه الأمة، والخير فيها ولو خلت لانقلبت -كما قيل-.
ويتحالف الصالح إسماعيل مع الصليبيين، والثمن تسليم ديار المسلمين، فشهد ذلك الأمر العز بن عبد السلام، وشقَّ عليه الأمر، شقَّ على سلطان العلماء، فأنكر ذلك أيَّما إنكار، وترك الدعاء لـ إسماعيل، وعندئذٍ كتب جواسيس السلطان الذين بثَّهم لاستراق السمع بذلك، ورفعوا التقارير الظالمة، وحرَّفوا القول وزخرفوه، فجاء كتاب السلطان باعتقال العز بن عبد السلام عليه رحمة الله.
فسجن وضُيِّق عليه، ثم أطلق ومُنع من الخطابة والتدريس، ومُنع من الاجتماع إليه، وخرج مهاجراً إلى أرض مصر، فأرسل له السلطان رسولاً وطلب منه التلطف مع العز، وعرض عليه بعض الأمور علَّه أن يلين أو يَهِن أو يضعف.
وقال: إن وافق فذلك، وإن خالف فاعتقله في خيْمة بجانب خيْمتي.
فذهب رسول السلطان إلى سلطان العلماء، وقال له: يا إمام! بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وزيادة أن تنكسر للسلطان، وتقبل يده لا غير، فأبى سلطان العلماء إلا الثبوت على محض الحق، وقال قولاً خرَّ من هوله ذلك الرسول صعقاً.
قال: يا مسكين! والله الذي لا إله إلا هو ما أرضى أن يقبل السلطان يدي فضلاً عن أن أقبل يده، يا قوم أنتم في وادٍ وأنا في وادٍ، الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به.
فأرغى رسول السلطان وأَزْبَدَ وهدده، وأعلن اعتقال الشيخ على الملا، فقال الشيخ: افعلوا ما بدا لكم، فاعتقلوه في خيمة بجانب خيمة السلطان، فأخذ الشيخ يرتل آيات الله البينات، يتصل بالله عن طريق التعبد بكلام الله.
وكان بعض ملوك الصليبيين عند ذلك السلطان، فقال هذا السلطان: أتسمعون هذا الذي يقرأ القرآن؟ قالوا: نعم.
قال: هذا أكبر رجل دين في المسلمين، وقد حبسته وعزلته عن الخطابة والتدريس من أجلكم، فلما سمع ملوك الفرنجة هذه الميوعة الرخيصة من ذلك السلطان أرادوا أن يهينوه ويُذلُّوه؛ لأنه هان واستمرأ الهوان فقالوا: والله لو كان هذا قسيسنا لغسَّلنا رجليْه وشربنا مرقتها.
ثم انتصر المسلمون بعد ذلك على الصليبيين، ونجَّى الله الشيخ من كيد الشيطان وحزبه، فدخل مصر آمناً لم يقدم تنازلاً، وازداد في الحق صلابة، فرحمه الله.
إنه بناء النفوس، إنه الإباء والاستعلاء، إنها ليست كبرياء إنما هي عزة العقيدة وعلو الراية ولاشك، ولقد تعرض البناة لأنفسهم في كل العصور لمواقف فنجحوا فيها بفضل الله.(21/8)
بناء النفس يظهر في الفتن
أحدهم يصدع بكلمة الحق فيشْرَق بها المنافقون والظالمون، ويذيقونه في سبيلها ألواناً شتى من التعذيب في السجن لا تضاهيها إلاَّ ألوان التعذيب في محاكم التفتيش في القرون الوسطى، كانوا يسلطون عليه الكلاب بعد تجويعها، فتطارده الساعات، ثم تنقض على لحمه، تنهشه نهشاً إذا توقف عن الجري وهو صابر ثابت، معتصم بالله، لم يرده ذلك عن هدفه، ولم يصده عن بغيته وغايته، فأغاظهم ذلك فماذا يفعلون؟
حكموا عليه بالقتل، وتلك -والله- فتنة أيما فتنة، ثم جاءه الإغراء أن استرحِمْ ذلك الظالم ليخفف عنك الحكم، فقال في إباء واستعلاء: لئن كنت حوكمت بحقٍ فأنا أرتضي الحق، وإن كنت حوكمت بباطل؛ فأنا أعلى من أن أسترحم الباطل، إن إصبعي التي تشهد لله بالوحدانية كل يوم مرات لترفض أن تقر حكم ظالم أيّاً كان ذلك الظالم ثم يقاد إلى حتفِه، ولسان حاله:
الله أسعدني بظل عقيدتي أفيستطيع الخلق أن يشقوني
ويأتي أحد علماء السوء الذين باعوا دينهم بعرَضٍ من الدنيا، وما بنَوْا أنفسهم ليلقنه كلمة التوحيد التي يُقاد إلى الموت من أجلها، فيقول له: قل: لا إله إلا الله فيتبسم تبسم المغضب، ويقول: يا مسكين! أنا أقاد إلى الموت من أجل لا إله إلا الله، وترجع أنت لتأكل فتات الموائد بلا إله إلا الله، لا نامت أعين الجبناء.
إنه البناء الحقيقي للأنفس، إنها الثقة بأنهم على الحق، إنها الثقة بغلبة دين الهدى على دين الهوى وبقوة الله على كل القوى.
لا تظنوا -يا أيها الأحبة- أن البناء في الرجال فقط، إنه كذلك في النساء والأطفال.(21/9)
محمد بن عاصم وبذله من أجل العقيدة
هاهو أحد المحدثين بـ خراسان، واسمه محمد بن عاصم عليه رحمة الله له بُنيات صغار، لا ولد ذكر يقوم عليهن، انتقل إلى بغداد يوم سمع بمحنة الإمام أحمد ليحدث الناس، ويسد ثغرة قد فُتِحَت في ذلك البلد، ترك بنياته بـ خراسان، وسمع في بغداد بتلك المحنة، فانطلق إلى الإمام أحمد، وقد علم أنه سُجن وعُذِّب وأوذي في الله عز وجل، فقال لأصحابه - وهو يحدث يوماً من الأيام في حلقته-: ألا نقوم فنقول كلمة الحق؟ وقام ليقولها، وتذكر بنياته اللاتي تركهن في خراسان، وعلم أن رجلاً يقوم ليقول كلمة في ذلك المقام ما عاقبته إلا الموت.
وهو في هذا الصراع مع نفسه يأتيه كتاب من بنيَّاته يقلن له: يا أبانا! إنا قد سمعنا أن الرجل قد دعا الناس إلى القول بخلق القرآن، وإنا نأمرك بألا تجيب؛ فوالذي لا إله إلا هو -يا أبانا- لأن يأتينا نعْيُك أحبُّ إلينا من أن نسمع أنك قلت بخلق القرآن.
الله أكبر! إنه البناء في أوساط النساء، وفي أوساط البنات، وفي أوساط الرجال، أُسَرٌ لم تعرف إلا ربها فهان في سبيله كل شيء، واستعذب في سبيله كل صعب.
كل بذل إذا العقيدة ريعَتْ دون بذل النفوس بذل زهيد
مسلم يا صعاب لن تقهريني في فؤادي زمازم ورعود
لا أبالي ولو أُقيمت بدربي وطريقي حواجز وسدود
من دمائي في مقفرات البراري يطلع الزهر والحيا والورود
هذه سمة المؤمنين، الاطمئنان إلى الله يملأ نفوسهم فيبنيها، يحرك جوارحهم فيقوِّيها، لا يستمدون تصوراتهم وقِيَمَهم وموازينهم من الناس، وإنما يستمدونها من رب الناس؛ فأنى يجدوا في أنفسهم وهناً عند محنة أو عند منحة أو عند شهوة، أو يجدوا في قلوبهم حزناً على فائت من الدنيا؟
إنهم على الحق؛ فماذا بعد الحق إلاّ الضلال، وليكن للباطل سلطانه، وليكن له هيله وهيلمانه، وليكن معه جمعه وجنوده، إن هذا لا يغير من الخطب شيئاً.
هذا هو الصنف الأول من الناس، ممن أسَّسَ بنيانه على تقوى من الله ورضوان؛ هامات لا تنحني، وقامات لا تنثني، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل هذا الصنف.(21/10)
الصنف الثاني: بنوا أنفسهم على شفا جرف هار
أما الصنف الثاني: فأسَّس بنيانه على شفا جُرُف هارٍ، يعبد الله على حرف، إن أصابه خير اطمأنَّ به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة، يذوب أمام المحنة فلا يتماسك، يلعب بعواطفه الخبر البسيط فلا يثبت، يطير فؤاده للنبأ الخفيف فلا يسكن، فؤاده هواه، يعيش موزعاً بين همِّ حياة حاضر ومفاجآت تنتظر، لا تطمئن لقوله، ولا تثق في تصرفاته، بصره زائغ، عقله فارغ، أفكاره تائهة، مغلوب على أمره، لا ينفع في ريادة ولا يُعتمَد عليه في ساقة، جبان مفتون فرَّار غرَّار.
يوماً يمانٍ إذا لاقاه ذو يمنٍ وإن تلقى معديّاً فعدناني
مثل هذا كالشجرة لا جذور لها ولا ثمرة، لا تثبت أمام الريح، ولا تقوى على مقاومة الآفات، أو كالبناء بلا أساس، سرعان ما يخر سقفه على من فيه، فهو قلق بائس متردد، تعصف به الفتن، وتدمره المِحَن، إن عذلته لم يرعوِ، إن خاطبته لم يفهم.
ومن البلية عدل من لا يرعوي عن غيِّه وخطاب من لا يفهم
إن المؤمن ليقف شامخاً وهو يرى مثل هذا الصنف البائس، وقد غرق في شهواته الهابطة، وفي نزواته الخليعة السافلة يَعُبُّ منها، لكنها حكمة الله البالغة، التي أرادت أن يقف الإيمان مُجرَّداً من الزينة والطلاء، عاطلاً عن عوامل الإغراء، لا هتاف لذة، ولا دغدغة شهوة، وإنما هو الجهد ليقبل عليه من يقبل وهو على يقين أنه يريد الله والدار الآخرة، ولينصرف عنه من يبتغي المطامع والمنافع الدنيوية، ومن يشتهي الزينة ويطلب المتاع؛ ليحيا من حيَّ عن بينه ويهلك من هلك عن بينة.(21/11)
ملك غسان وبناؤه المنهار
هاهو أحد الساقطين الذين بنوا أنفسهم على شفا جرف هار فانهار بهم، إنه جبلة ملك غسان، أسلم وجاء المدينة في موكب عظيم بحاشيته وجنده، ففرح المسلمون بإسلامه كثيراً، فخرجوا للنظر فيه وفي موكبه، فإذا الخيول معقودة أذنابها، وسلاسل الذهب في أعناقها، وعلى رأسه التاج المُرَصَّع بالجوهر، وذهب إلى مكة وجعل يطوف بالبيت، وبينما هو يطوف إذ وطئ رجل فزاري إزاره، فلطم جبلة الفزاري فهشم أنفه، فشكاه الفزاريُ إلى عمر رضي الله عنه وأرضاه.
فبعث عمر إلى جبلة فأتاه، فقال له عمر: ما هذا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، إنه تعمد وطأ إزاري فلطمته، ولولا حرمتك لضربت ما بين عينيه بالسيف، فقال عمر: قد أقررت على نفسك بما فعلت؛ فإما أن تُرضي الرجل، وإلا أقتص له منك بهشم أنفك كما فعلت به.
قال: وكيف ذلك وهو سوقة، وأنا ملك؟ قال عمر رضي الله عنه: الإسلام سوَّى بينكما.
فلم يرَ جبلة مخرجاً إلا بإعطائه مهلة، فطلب مهلة إلى الغد ليلوذ بالفرار ليلاً؛ ويرتدَّ عن دينه، ولو علم الله فيه خيراً لأسمعه، سقط عند أول امتحان؛ لأن البناء لم يؤسَّس على تقوى، وإنما أُسِّس على شفا جُرُفٍ هارٍ.
كيف يقوى على العواصف غرس جذره في ترابه موءود(21/12)
أسباب بناء النفس
أحبتي في الله: بعد الذي سمعتم لعلكم أدركتم أن الحاجة العظيمة ماسَّة إلى بناء أنفسنا، وتأسيسها على تقوى من الله ورضوان، أشد من الحاجة إلى الطعام والشراب والكساء.
ذلك لعدة أسباب لعلنا أن نقف عليها:
أولاً: لكثرة الفتن والمغريات وأصناف الشهوات والشبهات؛ فحاجة المسلم الآن -لا ريب- إلى البناء أعظم من حالة أخيه أيام السلف، والجهد -بالطبع- لابد أن يكون أكبر؛ لفساد الزمان والإخوان، وضعف المعين، وقلة الناصر.
ثانياً: لكثرة حوادث النكوص على الأعقاب، والانتكاس، والارتكاس حتى بين بعض العاملين للإسلام، مما يحملنا على الخوف من أمثال تلك المصائر.
ثالثاً: لأن المسئولية ذاتية، ولأن التبعة فردية: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نفْسِهَا} [النحل:111].
رابعاً: عدم العلم بما نحن مقبلون عليه؛ أهو الابتلاء أم التمكين؟ وفي كلا الحاليْن نحن في أَمَسِّ الحاجة إلى بناء أنفسنا لتثبت في الحالين.
خامساً: لأننا نريد أن نبني غيرنا، ومن عجز عن بناء نفسه فهو أعجز وأقل من أن يبني غيره، وفاقد الشيء لا يعطيه كما قيل.(21/13)
من عوامل بناء النفس
لذلك كله كان لابد من الوقوف على بعض العوامل المهمة في بناء النفس بناءً مؤسَّساً على تقوى من الله ورضوان؛ فها هي بين أيديكم -الآن- بعض العوامل غير مرتبة، فما كان من صواب فمن الله، وما كان من خطأ فمن نفسي ومن الشيطان.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً.(21/14)
من عوامل البناء التقرب إلى الله بما يحب
من عوامل بناء النفس: التقرب إلى الله عز وجل- بما يحب من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وخير ما تقرب به المتقرِّبون إلى الله الفرائض التي فرضها الله جل وعلا، وعلى رأس هذه الفرائض توحيد الله جل وعلا وإفراده بالعبادة وحده لا شريك له، ثم إن في النوافل لمجالاً واسعاً عظيماً لمن أراد أن يرتقي إلى مراتب عالية عند الله تبارك وتعالى، وفضل الله واسع يؤتيه من يشاء.
يقول صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عن ربه، كما في البخاري: {وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأًعيذنَّه} ومن فضل الله جل وعلا علينا أن جاء هذا الدين بعبادات شتى تملأ حياة المسلم في كل الظروف والأحوال؛ بالليل والنهار، بالقلب والبدن؛ فهناك السنن القولية، والسنن الفعلية والقلبية التي يعتبر أداؤها من أهم عوامل بناء النفس؛ من قيام ليل، وصيام تطوع، وصدقة، وقراءة قرآن، وذكر لله آناء الليل وأطراف النار، ولاشك أن هذه العبادات تقوِّي الصلة بين العبد وبين ربه، وتوثِّق عُرى الإيمان في القلب؛ فتنبني النفس وتزكو بها، وتأخذ من كل نوع من العبادات المتعددة بنصيب؛ فلا تَملُّ ولا تَسْأَمُ.
لكن علينا أن ننتبه في هذه القضية إلى أمور:
أولاً: الحذر من تحول العبادة إلى عادة؛ لأن البعض يأْلَف بعض العبادات حتى يفقد حلاوتها ولذَّتها؛ فلذلك تراه لا يستشعر أجرها، فتصبح العبادة حركة آلية لا أثر لها في سَمْتٍ أو قول أو عمل أو بناء.
ثانياً: الحذر من الاهتمام بالنوافل على حساب الفرائض؛ لأن البعض يُخطئ، فيهتم بالأدنى على حساب الأعلى -وما في العبادات دنيء- فيقوم الليل -مثلاً- ثم ينام عن صلاة الفجر، فليكن لك من كل عبادة نصيب، وعلى حسب الأهمية؛ كالنحلة تجمع الرحيق من كل الزهور، ثم تخرجه عسلاً مصفًّى شهياً سائغاً لذة للآكلين.
ثالثاً: إذا تعارض واجب ومستحب؛ فالواجب مقدَّم ولا شك.
رابعاً: التركيز على أعمال القلوب، وتقديمها على أعمال الجوارح؛ فالقلوب هي محل الفكر، ومحل التدبُّر، ومحل العلم، والقلب مع الجوارح -كما تعلمون- كالملك مع الجنود: {ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله؛ ألا وهي القلب}.(21/15)
من عوامل بناء النفس المجاهدة
من عوامل بناء النفس: المجاهدة: وكل فكرة لا يصحبها مجاهدة فهي في طريقها إلى الاضمحلال والذوبان والزوال، يقول الله جل وعلا: {وَالذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69].
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطمِ
فجاهد النفس والشيطان واعصهما وإن هما محَّضاك النصح فاتهمِ
إن استشعار المؤمن أن الجنة محفوفة بالمكاره يتطلب منه طاقة عالية متمثلة في هِمَّة عالية تتناسب مع ذلك المطلب العالي؛ للتغلب على تلك المكاره التي حفَّت بذلك المطلب العالي، ألا وهو الجنة -نسأل الله من فضله- مع تنقية تلك الهمم من كل شائبة تدفع لوجه غير وجه الله عز وجل، وإنما تفاوت الناس بالهِمَم لا بالصور، والله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.
هاهو ثابت البناني عليه رحمة الله يقول: تعذبت بالصلاة عشرين سنة، ثم تنعمت بها عشرين سنة أخرى، والله إني لأدخل في الصلاة فأحمل همَّ خروجي منها.
لا شك -والله- أن هذا نتيجة مجاهدة وصل بها إلى الهداية من الله جل وعلا.
ويقال للإمام أحمد: يا إمام! متى الراحة؟ فيقول -وهو يدعو إلى المجاهدة-: الراحة عند أول قدم تضعها في الجنة.
إِي والله! إنها الراحة الأبدية التي يُستعذَب كل صعب في سبيل الوصول إليها.
وأعظم المجاهدة -يا أيها الأحبة- مجاهدة النيات: {فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى} والعمل بغير نية عناء، والنية بغير إخلاص رياء، والإخلاص من غير صدق هباء: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً منثُوراً} [الفرقان:23].
يأتي أناس يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة يجعلها الله هباءً منثوراً، مع أنهم كانوا يصلون مع المصلين، ويصومون مع الصائمين، ولهم من الليل مثل ما للمصلين وما للمخلصين، لكنهم إذا خلَوْا بمحارم الله انتهكوها؛ أمام الناس عُبَّاد زُهَّاد نُسَّاك، لكن إذا خلَوا ظنوا أن الله لا يعلم كثيراً مما يعملون؛ فالنيةَ النية!
هاهو صلى الله عليه وسلم يتجه إلى تبوك من المدينة بجيش قوامه ثلاثون ألفاً في صحاري يبيد فيها البيد، ويضيع فيها الذكي والبليد، وقت عسرة ووقت شدة حرٌّ ودنوّ ثمار في المدينة، ومشقة عظيمة في سفرهم بلغت فوق ما يتكلم المتكلمون، حتى إن عمر رضي الله عنه ليقول: [[لقد أصابنا عطش شديد حتى ظننَّا أن رقابنا ستتقطع من شدة العطش، حتى إن الرجل لينزل عن بعيره فينحره، فيعتصر فرثه ثم يشربه]] الحال هذا بعضه.
وعندما قفلوا راجعين منصورين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا التعب العظيم: {إن بـ المدينة أقواماً ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً، ولا وطئتم موطئاً يغيظ الكفار إلا كانوا معكم؛ حبسهم العذر قالوا: يا رسول الله! صلى الله عليه وسلم وهم بـ المدينة؟! قال: نعم، وهم بـ المدينة} إنهم -ولاشك- أقوام حسَّنوا نيَّاتهم.
جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: يا رسول الله! زادٌ وراحلة، لا نملك ذلك، فيقول صلى الله عليه وسلم: {لا زاد ولا راحلة} {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة:92] فبحسن النية بلغوا ما بلغ أولئك الذين سمعتم بعض ما حصل لهم.
ولذلك يقول الإمام أحمد موصياً ابنه: يا بني! انوِ الخير؛ فإنك لا تزال بخير ما نويت الخير، فالنية النية، والإخلاص الإخلاص؛ فهي من أهم عوامل بناء النفس وتزكيتها، وكل ما لا يراد به وجه الله يضمحل.(21/16)
علامات الإخلاص
ثم اعلم -يا أخي الحبيب- أن للإخلاص علامات اعرض أعمالك عليها، واختبر نفسك وجاهدها وهي على سبيل المثال لا الحصر:
أولاً: استواء المدح والذم؛ فالمخلص لا يتأثر بمدح مادح، ولا ذم ذامٍّ؛ لأنه جعل الهمَّ همّاً واحداً، وهو إرضاء الله رب العالمين وكفى، ولذا يُمدح أحد الأئمة في وجهه، فيغضب، ويقول: أشهد الله أني أمقتك على ما تقول، والذي لا إله إلاَّ هو لو علمت من نفسي ما أعلم لحثَوْتَ على رأسي التراب.
ثانياً: نسيان العمل بعد عمله، ويبقى الهم هماً واحداً؛، هل تُقُبِّل هذا العمل أم لم يتقبل، و {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27].
ثالثاً: الحب في الله: حباً يزيد بالبر لكنه لا ينقص بالجفاء، {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة:143].
رابعاً: إخفاء ما يمكن إخفاؤه من الطاعات؛ خوفاً من دواعي السُّمْعَة والرياء [[فمن استطاع منكم أن يكون له خبيئة من عمل صالح فليفعل]].
لقد كان الرجل من أسلافنا يجمع القرآن ويحفظه وما يشعر به جاره، ويفقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس حتى يُسأل، ويصلي الصلاة الطويلة والضيف في بيته ولا يشعرون؛ بل إن أحدهم ليدخل مع زوجته في فراشها ثم يخادعها كما تخادع المرأة صبيها، فإذا نامت سلَّ نفسه، ثم قام ليله كله: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16] فما جزاؤهم؟ {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُم من قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17].
يقول أحد السلف: لقد أدركنا أقواماً ما كان على ظهر الأرض من عمل يقدرون على أن يعملوه في السر؛ فيكون علانية أبداً، يجلس الرجل منهم في المجلس المعمور بذكر الله، فتأخذه الخشية، فتأتيه العَبرة لتخرج فيردها؛ فإذا خشي خروجها خرج من مجلسه خوفاً من دواعي السمعة والرياء.
يصوم أحدهم يوماً، ويفطر يوماً لمدة أربعين سنة لا يعلم أهله به، كان حمَّالاً -يعمل حمالاً- يحمل غداءه معه في الصباح، فيتصدق به في الطريق على أحد المساكين، ويرجع في المساء ليتعشى مع أهله؛ فذاك إفطاره وهو عشاؤهم.
بل إن ابن المبارك عليه رحمة الله كان يجاهد في سبيل الله، وكان يضع اللثام على وجهه لئلا يُعرف خوفاً على نيته أن يشوبها شائب من الشوائب.
هل عاش أولئك يوماً من الدهر على وجه الأرض.
إي والله اللهم إنا نشهدك أنَّا نحبهم، اللهم احشرنا وإياهم في زمرة الصالحين.
إيمانهم بالله لا يتزعزع وضميرهم في الله لا يتزلزل
قد أرخصوا في الله كل عزيزة ثم استقلُّوا فيه كل مُذلِّل
ليست مبادؤهم حديث مُنمِّق زيف اللسان ولا كلام مجمِّلِ
صارت مبادؤهم وصارت خلفها أفعالهم في موكب متمثِّل
حملوا القلوب على السيوف وأمعنوا في حملهن على الرماح الدُّبَّل
الموت للجبناء منحدر وللهمم الصعود شتان ما بين الثعالب في المعامع والأسود(21/17)
من عوامل بناء النفس: محاسبة النفس محاسبة دقيقة
من عوامل بناء النفس: محاسبتها محاسبة دقيقة؛ فالنفس بطبيعتها تميل إلى الشهوات، إلى اللذات، إلى الهوى؛ فلابد لها من محاسبة، والكل لا يشك أننا إلى الله راجعون، محاسبون على الصغير والكبير والنقير والقطمير.
والأعمال محصاة في سجلات محكمة لا تغادر صغيرة ولا كبيرة: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6] {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْس شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ منْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:92 - 93].
ما دمنا نعلم ذلك؛ فمن العقل أن نحاسب أنفسنا في الرخاء قبل الشدة؛ ليعود أمرنا إلى الرضا والغبطة؛ لأن من حاسب نفسه علم عيوبها وزلاَّتها، ومواطن الضعف فيها، فبدأ بعلاجها ووصف الدواء لها، فينمي ذلك في النفس الشعور بالمسئولية ووزن الأعمال والتصرفات بميزان دقيق، ألا وهو ميزان الشرع.
لقد عرف السلف الصالح أهمية ذلك، فحققوها في أنفسهم.
هاهو أحدهم - كما أورد ابن أبي الدنيا بسنده- جلس مع نفسه ذات يوم محاسباً في آخر عمره، نظر وقلَّب وفكر وقدر؛ فإذا عمره ستون عاماً، حسب أيامها فإذا هي تربو على واحد وعشرين ألف يوم وخمسمائة، فصرخ وقال: يا ويلتاه! أألقى الله بواحد وعشرين ألف ذنب وخمسمائة، هذا إن كان ذنباً واحداً؛ فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب؟! ثم خرَّ مغشياً عليه.
فالمحاسبة تروِّض النفس وتهذبها، وتزيد العمل الصالح، وتولِّد الحياء من الله، وتُلزم خشية الله، فحاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوها قبل أن توزنوا؛ فإنه أهون في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتَزَيَّنوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18].
والمحاسبة على أقسام: محاسبة قبل العمل: قف عند أول همِّك أو إرادتك العمل، فأسأل نفسك: هل العمل مشروع؟ أقدم وأخلص وجِدَّ وسارع إن كان كذلك، وإن لم يكن: {فمن عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد} كما قال صلى الله عليه وسلم.
ومحاسبة أثناء العمل: هل أنت مخلص صادق أم مراءٍ؟ وأنت أعلم بنفسك؛ لأن العمل قد يبدأ وهو خالص لله عز وجل ثم يشوبه شيء من الرياء أثناء أدائه؛ فليُنتبَه للنية فيه.
ومحاسبة بعد العمل وهي على أنواع:
أحدها: محاسبة النفس على طاعة قصرت فيها في حق لله؛ فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي أن توقع، وحق الله -كما تعلمون- في الطاعة ستة أمور:
الإخلاص في العمل.
ثم النصيحة لله فيه.
ثم متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم شهود مشهد الإحسان، وهو أن تعبد الله كأنك تراه.
ثم شهود مِنَّةِ الله عليك في التوفيق لأدائه.
ثم شهود تقصيرك فيه بعد ذلك كله.
أما الثانية: فمحاسبتها على كل عمل كان تركه خيراً لك من فعله.
وأما الثالثة: فمحاسبتها على الأمور المباحة أو المعتادة لِمَ فعلتها؟
ومما يعين على محاسبة النفس معرفة عيوبها، ومن عرف عيبه كان أحرى بإصلاحه.
ومما يعين على معرفة عيوب النفس أمور: ملازمة العلماء الصادقين المخلصين العاملين الناصحين، وكذلك ملازمة الإخوة الصالحين الذين يذكرونك الله ويخوِّفونك حتى تلقى الله -سبحانه وتعالى- آمناً.
والمؤمن للمؤمن -كما تعلمون- كاليدين؛ تغسِّل إحداهما الأخرى، وقد لا يُقلع الوسخ أحياناً إلاَّ بنوع من الخشونة، لكن ذلك يوجب من النظافة والنعومة بعد ذلك ما يحمد به ذلك التخشين؛ فاصبر على مرارة التخشين بتعريفك بعيوبك من إخوانك، لتحمد ذلك ولو بعد حين.
ومما يعين على معرفة العيوب، التأمل في النفس بإنصاف وتجرد؛ فمن تأمل في نفسه بإنصاف وتجرُّد عرف عيوبها، فإن عدمت عالماً، وإن عدمت قريناً صالحاً ولم تتأمل في نفسك بإنصاف -وإن شاء الله لا يعدم هؤلاء- فابحث عن عيوبك عند أعدائك، واستفد منهم؛ فالحكمة ضالتك.
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا
والكيِّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنَّى على الله الأماني.(21/18)
من عوامل بناء النفس: طلب العلم
ومن أهم عوامل بناء النفس: طلب العلم المقرب إلى الله جل وعلا، والعمل به، والدعوة إليه، والصبر على الأذى في تبليغه، أقول هذا لسببيْن اثنيْن؛ لأن العبادة بلا علم توقع في البدع، وما وقع المبتدعة فيما وقعوا فيه إلا عن جهل غالباً، ولأن العلم مادة الدعوة إلى الله جل وعلا، ودعوة إلى الله بلا علم قد تضر ولا تنفع، وقد يصاحبها الانحراف والضلال.
وما الداعية بلا علم إلا كواقف على شاطئ البحر ينتظر وينظر؛ فإذا الأمواج تتقاذف سمكة من الأسماك يَمْنَة ويَسْرَة، تطفو بها تارة، وتغوص بها أخرى، فيشفق عليها مما هي فيه، فيأخذها، ثم يرميها على الشاطئ ظناً منه أنه أنقذها، وما علم أنه أهلكها، وإن للخير سبلاً، وكم من مريد للخير -يجهل العلم- لا يدركه.
فيا طالب العلم: العلم هام لهاتيْن النقطتيْن، ولك خصال عند الله وميْزات قلَّما توجد لأي شخص من الأشخاص في هذه الحياة، اسمعها وعِها وقف عندها علَّها تكون لك حافزا: ً
أولاً: {من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنة} فأنت تسلك طريق الجنة ولا شك، قال ذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع.
ثالثاً: أهل السماوات والأرض -حتى الحيتان في جوف البحر- يصلون على معلم الناس الخير.
رابعاً: الخيرية لك {خيركم من تعلم القرآن وعلمه}.
خامساً: النضارة والوضاءة في الدنيا والآخرة، فتجد وجوه طلبة العلم المخلصين عليها النور وعليها الوضاءة في الدنيا وتبيض: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها؛ فربَّ مبلَّغ أوعى من سامع}.
سادساً: التعديل والتزكية لا من البشر القاصرين المخطئين، ولكن من رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين}.
العلم أحلى وأغلى ما له استمعت أذن وأعرب عنه ناطق بفم.
العلم أشرف مطلوب وطالبه لله أكرم من يمشي على قدم
فقدِّس العلم واعرف قدر حرمته في القول والفعل والآدابَ فالتزم
يا طالب العلم لا تبغي به بدلاً فقد ظفرت ورب اللَّوح والقلم
واجهد بعزم قوي لا انثناء له لو يعلم المرء قدر العلم لم ينمِ
والنية اجعل لوجه الله خالصة إن البناء بدون الأصل لم يقمِ
هذه المزايا العظام -يا أيها الأحبة- تحتاج في نيْلها إلى صبر ومصابرة ومجاهدة.
فمن لم يصبر على ذل التعلم، بقي طول عمره في عماية الجهالة، ومن صبر عز في الدنيا والآخرة.
طالب العلم -يا أيها الأحبة- يحتاج إلى الصبر، لماذا؟ لأنه يحتاج إلى عالم يذهب إليه، يحتاج -بالطبع- إلى أن يتأدب معه، إلى أن يستأذن عليه، إلى أن يتلطف في السؤال، إلى أن يزاحم طلاب العلم بالرُكَب، إلى قسوة قد يجدها من العالم في لفظ يعنفه به أمام الناس، ومع هذا كله فإن الصعاب تُستعذَب في سبيل الجلوس مع العلماء، للتأدُّب بأدبهم، ونيل العلم الذي يكسبك خشية رب الأرباب؛ فأصل العلم خشية الله جل وعلا.(21/19)
بناء العلماء لطلابهم
وللعلماء -يا أيها الأحبة- خطة تربوية عظيمة في تأديب طلاب العلم سابقاً ولاحقاً، تتفاوت من عصر إلى عصر.
جدير بنا أن نقف عند هذه الخطة التربوية، لقد كانوا يقسون على طلابهم قسوة عظيمة تصل بهم إلى حدٍّ لا يكاد يحتمل، لماذا؟ لأنها قسوة الحازم ليتأدبوا ويتعلموا.
ومن يك حازماً فليقْسُ أحياناً على من يرحم
روى الخطيب البغدادي في كتاب: شرف أصحاب الحديث أن أصحاب الحديث كانوا يهجمون على الإمام الأعمش عليه رحمة الله أبي محمد سليمان بن مهران؛ لأنه إمام ثقة، والرواية عنه شرف، فكانوا يتهافتون عليه، فأراد أن يؤدبهم وأن يختبرهم ليرى هل هم صادقون أم ليسوا بصادقين.
فاشترى كلب صيد، أول ما يسمع قرع الأقدام اقترب من البيت أطلقه عليهم، فيطردهم حتى يخرجوا خارج الحدود، ثم يرجع.
وفي اليوم الثاني هل يئس أولئك الطلاب -طلاب العلم-؟ لا؛ بل عاودوا مرة أخرى إلى بيت الأعمش، وهم على حَذَر، وعلى خوف ووَجَل، ولما قربوا أطلق عليهم الكلب مرة أخرى حتى خرجوا خارج الحدود، ثم عاد.
وفي اليوم الثالث يأتون، وما يئسوا وما فتروا وما قالوا: لا خير في هذا الإمام، وإنما علموا قدر ما عند هذا الإمام وقدره، فصبروا على كل شيء في سبيل أن يحصلوا على حديث واحد من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءوا في اليوم الثالث، وتقدموا على خوف ووَجَل يتوجسون أن يرسل عليهم الكلب، ووصلوا إلى البيت فلم يخرج عليهم شيء، فاستأذنوا على الإمام، فأذن لهم، ولمَّا دخلوا بكى، قالوا: ما يبكيك يا إمام؟ قال: قد مات الذي كان يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، يعني الكلب.
ما ترون لو أن عالماً طرد طالب علم ناهيك عن أن يرسل عليه كلباً، هل سيرجع إليه في هذا العصر الذي ماتت فيه الهمم؟ كلا وألف كلا؛ بل لا يسلم من لسانه أبد الدهر؛ لأن الهِمَم ضعيفة، وأي عائق يعيق الضعيف، وأما السلف فلا، بل أقوياء أتقياء؛ فليكن لنا من سِيَرِهم دافع لأعمالهم.
وتشير الأخبار عن الإمام الأعمش -أيضاً- إلى أن تلاميذه كانوا يحتالون عليه ليكتبوا عنه الحديث؛ نظراً لأنه يَضِنُّ عليهم بما لديه، لتربيتهم ولتعريفهم قدر هذا الحديث الذي يأخذونه عنه.
ومن ذلك ما يرويه أحد تلاميذه -وهو عيسى بن يونس - يقول: خرجنا في جنازة من الجنائز، ورجل من طلاب العلم كان يقود الإمام الأعمش فلما دُفنت ورجعنا، عدل بالإمام الأعمش قليلاً قليلاً حتى أصحر به -يعني: حتى أصبح بالإمام في الصحراء- ثم قال: يا إمام! أتدري أين أنت الآن؟ قال: لا.
قال: في جبّانة كذا وكذا، والله لا أردك حتى تملأ ألواحي هذه حديثاً، طالب علم حريص على الحديث، والأعمش لن يستطيع أن يعود إلى بيته، قال: اكتب، حدثنا فلان عن فلان حتى ملأ الألواح التي بين يديْه، ثم قفل به راجعاً، وهو يعرف ماذا سيكون من هذا الإمام؛ فلما دخل الكوفة، دفع الألواح لطالب علم آخر وقال له: خذها واهرب بها، وذهب بـ الأعمش إلى داره، ولما وصل تعلق الأعمش به، وصاح بالناس، وقال: خذوا الألواح من هذا الطالب، فقال: يا أبا محمد! قد فاتت الألواح.
قال: كل ما حدثتك به كذب لئلا ينتفع به، فقال التلميذ -وهو يعرف إمامه- أنت أعلم بالله من أن تكذب.
من يقول حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكذب أبداً، وهو الصحيح فلم يكذب عليه أبداً.
والسؤال المتبادر إلى الذهن -يا طلاب العلم- هل كانوا يبخلون ويضنون بالحديث على طلبة العلم؟ والله ما كانوا كذلك؛ فأحاديثهم تملأ دواوين الإسلام، لكنهم كانوا يُربون أيَّما تربية.
إن هذه الطريقة -يا أيها الأحبة- دواء ناجح لكسر الشموخ والخيلاء التي توجد عند بعض طلبة العلم عندما يتعلم مسألة واحدة من مسائل العلم، فبعضهم يحضر إلى حلقة الشيخ، ويرى أنه هو الشيخ، وبعضهم يحضر إلى الحلقة وقد استحضر نسبه وماله وجاهه؛ فما له إلا أن يؤدب على التواضع للعلم والذل له ليناله؛ فلا ينال العلم مستكبر.
ومن لم يذُقْ مر التعلم ساعة تجرَّع ذُل الجهل طول حياته
فإذا حضرت مجلس علم -يا طالب العلم- فلا يكن حضورك إلا حضور مستزيد علماً وأجراً، لا حضور مستغنٍ بما عنده، ولا حضور طالب عثرة تشنعها، أو غريبة تشيعها؛ فهده أفعال الأراذل الذين لا يفلحون في طلب العلم أبداً؛ فإذا حضرت على هذه النية فقد حصَّلت خيراً على كل حال؛ فإن لم تحضر وهذه النية معك فجلوسك في منزلك أروح لبدنك، وأكرم لخلقك، وأسلم لدينك؛ فإذا حضرت مجلس العلم فإما أن تسكت سكوت الجهال؛ فتحصل على أجر النية في المشاهدة، وعلى الثناء عليك بقلة الفضول، وعلى كرم المجالسة ومودة من تجالس؛ فإن لم تفعل فاسأل سؤال المتعلم؛ فما صفة هذا السؤال؟ أن تسأل عما لا تدري، ولا تسأل عما تدري؛ فإن السؤال عما تعلمه سُخف، وقلة عقل، وقطع لزمانك ولزمان غيرك بما لا فائدة فيه، وربما أدى إلى اكتساب العداوات، وهو عين الفضول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل:43] فإذا سألت وأجابك بما فيه كفاية لك، فاقطع الكلام؛ فإن لم يجبك بما فيه الكفاية فاستزده؛ فإن لم تفهم فقل: لم أفهم واستزده؛ فإن لم يزدك أو سكت أو عاد عليك الكلام الأول بلا مزيد فأمسك عنه، وإلا حصلت على العداوة، ولم تحصل على ما تريد من الزيادة، وإياك وسؤال العَنِت والمُكابِر الذي يطلب الغلبة، ويبين أن عنده علماً؛ فإن ذلك دليل على سوء الخلق، وعلى قلة الدين، وعلى كثرة الفضول، وضعف العقل والسخف: {وإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم}.(21/20)
الوقوف على أخبار العلماء
ثم اعلم -أخي طالب العلم- أن الوقوف على بعض أخبار طلبة العلم والعلماء من خير الوسائل التي تغرس الفضائل في النفوس، وتدفع النفس الضعيفة إلى تحمُّل الشدائد والمكاره في سبيل الغايات النبيلة والمقاصد الجليلة، وتبعث فيها روح التأسي بذوي التضحيات في سبيل العلم لتسمو إلى أعلى الدرجات، في أخبارهم إثارة قوية لمشاعر طالب العلم الذي يسعى جاهداً للوصول إلى المقامات العليَّة في العلوم الشرعية.
- ابن القاسم:
جاء في ترتيب المدارك: أن ابن القاسم عليه رحمة الله تزوج ابنة عمه، وحملت منه، وقد كان شغوفاً بطلب العلم، فقرر أن يرتحل لطلب العلم، وخيَّرها عند سفره بين البقاء أو الطلاق، فاختارت البقاء معه، فسافر حتى أتى المدينة، وترك زوجه حاملاً في بلاده، فاسمع ما يقول.
يقول: كنت آتي كل يوم الإمام مالك عليه رحمة الله في ظلمة الليل -في آخر الليل- في غلس، فأسأله عن مسألتيْن أو ثلاث أو أربع، وكنت أجد منه في ذلك الوقت انشراحاً للصدر، فكنت أستغل ذلك الانشراح، فآتيه كل سحر، قال: فجئت يوماً، فتوسدت مرة عتبة بابه، فغلبتني عيناي، فنِمْتُ، وخرج الإمام مالك إلى المسجد، ولم أشعر به.
قال: فخرجت جارية سوداء له، فركضتني برجلها، وقالت: إن الإمام قد خرج إلى المسجد، ليس يغفل كما تغفل أنت، إن له اليوم تسعاً وأربعين سنة قلَّما صلى الصبح إلا بوضوء العتمة، يصلي الصبح بوضوء العشاء لمدة تسع وأربعين سنة!
يقول ابن القاسم: فأنخت بباب مالك سبع عشرة سنة أطلب العلم، والله ما بعت فيها ولا اشتريت شيئاً، وإنما أطلب العلم.
قال: وبينما أنا عنده إذ أقبل حجاج مصر -بلده- فإذا شاب ملثم دخل علينا، فسلم على مالك، وقال: أفيكم ابن القاسم؟ فأشير إليَّ، قال: فأقبل علي يقبل عيني ويدي ووجدت منه ريحاً طيبة؛ فإذا هي رائحة الولد، وإذا هو ابني الذي ذهبت، وهو في بطن أمه قد أصبح شاباً يافعاً فيالله! تركوا كل شيء، وأعطوْا العلم كل شيء، ففتح الله عليهم فتحاً لا يخطر بالبال، ولا يدور بالخيال.
لا نقول: أعطُوا ما أعطَوْا؛ فنحن أقلُّ والله.
لكن نقول: لنعطِ العلم بعض شيء علَّنا نكون شيئاً، نسأل الله أن ييسر لنا العلم النافع والعمل الصالح، هو ولي ذلك والقادر عليه.
- أبو الحسن الفالي:
حكى الخطيب التبريزي اللغوي: أن أبا حسن الفالي الأديب كانت له نسخة من كتاب الجمهرة لـ ابن دريد وكانت في غاية الجودة، فدعته الحاجة ذات يوم لبيعها، فكتب أبياتاً في آخرها يعبر عن معاناته في بيع أعز ما لديه وهو الكتاب، لكنها الحاجة -ونسأل الله أن يغنينا عمن أغناه عنا- عرضها للبيع فاشتراها منه ابن القاسم -المذكور قبل قليل- بستين ديناراً، ثم قام بتصفحها، فوجد فيها تلك الأبيات بخط بائعها يقول فيها:
أنست بها عشرين حولاً وبعتها لقد طال وجدي بعدها وحنيني
وما كان ظني أنني سأبيعها ولو خلدتني في السجون ديوني
ولكن لضعف وافتقار وصبية صغار عليهم تستهلُّ شجوني
فقلت ولم أملك سوابق عبرتي مقالة مكويِّ الفؤاد حزين
وقد تخرج الحاجات يا أم مالك كرائم من ربٍّ بِهن ضنين
فقرأها وتأثر ابن القاسم، وفاضت عيناه، وذهب وأرجع النسخة له، وترك له الدنانير، فرحم الله الجميع.
- البخاري:-
وفي البداية يقول ابن كثير: لقد كان البخاري يستيقظ في الليلة الواحدة من نومه فيوقد السراج، ثم يكتب الفائدة تمر بخاطره، ثم يطفئ السراج لينام، ثم يقوم أخرى وأخرى، وكان يتعدد ذلك منه في الليلة الواحدة أكثر من عشرين مرة.
بل إن الإمام الشافعي تذكر عنه ابنته وتقول: إنه في ليلة واحدة أطفأ وأضاء السراج ستين مرة.
فما الذي نَامَهُ هؤلاء من ليلهم، رحمهم الله؟ قد كانت الشدائد في سبيل تحصيل العلم عندهم أشهى وألذَّ وأحلى من جنى النحل في الفم؛ لأنهم يعرفون قدر ما يأخذون.
يقول عمرو بن حفص الأشقر: إنهم فقدوا البخاري عليه رحمة الله صاحب الصحيح -نسأل الله أن يرحمه وأن يجعل كتابه في موازين حسناته يوم يلقى الله- فقدوه أياماً من كتابة الحديث، وقد كان من أحرص الناس على كتابة الحديث، قال: فطلبناه نتلمسه، فوجدناه في بيته وهو عريان لا يملك حتى ثوباً يلبسه، قال: وقد نفد كل ما لديه، ولم يبقَ معه شيء، ولم يستطع الخروج؛ لأنه عريان.
قال: فاجتمعنا، وجمعنا له الدراهم حتى اشترينا له ثوباً وكسوناه.
قال: ثم اندفع معنا في كتابة الحديث.
فماذا يقول من يملك عشرات الثياب؟ ماذا يقول من يملك عشرات الأقلام والأوراق ثم ينام عن حلقة علم يذهب لها لا على قدميْه بل بسيارته في مكان مُكيَّف مُعدٍّ مُهيَّأ لذلك؟ لا نامت أعين الكسالى.
لا نامت أعين البطالين.
كلنا نلهج بالعلم، ولا أحد منا يباري العلماء.
وهاهو أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة -عليهما رحمة الله- يموت ابنه ويجهزه ويصلي عليه مع المصلين، ثم يوكِّل أناساً يدفنونه، ويذهب لحلقة إمامه، وهو يقول: ذهب الابن، وأحتسبه عند الله، وأخشى أن تفوتني مسألة لا تذهب حسرتها من قلبي حتى أموت.
يا خاطب العلياء إن صداقها صعب المنال على قصير الباع
أما المنذري: فيقول أحد تلاميذه: جاورته ثنتيْ عشرة سنة -بيتي فوق بيته- ما قمت في ساعة من ليل إلا وسراجه مُضاء يكتب أو يصلي.
وهذا خبر أخير من أعجب الأخبار وأغربها: وقع لعالم أندلسي ممن رحلوا من الأندلس إلى المشرق، رحل هذا العالم إلى المشرق على قدميْه ليلقى إماماً من أئمته ليأخذ عنه العلم، ولكنه حين وصل إليه وجده محبوساً ممنوعاً من الناس، فتلطف وتحيَّل حتى لقيه، فأخذ العلم عنه بصورة لا تخطر على البال، ولا تدور بالخيال.
- بقي بن مخلد:-
جاء في السير للذهبي أن بَقي بن مَخْلَد الأندلسي كان جُلُّ بغيته ملاقاة الإمام أحمد والأخذ عنه، فخرج من الأندلس على قدميْه ماشياً.
يقول: فلما قربت من بغداد وصلني خبر المحنة التي دارت على الإمام أحمد، وعلمت أنه ممنوع الاجتماع إليه والسماع عنه.
قال: فاغتممت لذلك غمّاً شديداً فلم أعرج على شيء؛ بل أنزلت متاعي في بيت اكتريته، ثم أتيت الجامع الكبير، وحضرت بعض الحِلَق، قال: ثم خرجت أستدل على منزل الإمام أحمد، قال: فدُللت عليه، فقرعت بابه، فخرج إليَّ، وفتح الباب، فنظر إلى رجل لم يعرفه، فقلت: يا أبا عبد الله رجل غريب الدار، وهذا أول دخولي البلد، وأنا طالب حديث وجامع سنة، ولم تكن -والله الذي لا إله إلا هو- رحلتي إلا إليك يا إمام.
فقال: ادخل الممر، ولا تقع عليك عين، فدخلت الممر، وجاء لي، فقال: من أين؟ قلت: من المغرب الأقصى من الأندلس، فقال: إن موضعك لبعيد، وما كان من شيء أحب إلي من أن أحسن عون مثلك على مطلبه، غير أني في حيني هذا ممتحن بما لعله قد بلغك، فقلت له: بلى قد بلغني، وأنا قريب من بلدك بعد أن قطعت ما قطعت مقبلاً نحوك، لكن يا أبا عبد الله! هذا أول دخولي البلد، وأنا مجهول عندكم؛ فإذا أذنت لي أن آتيك في زِيِّ سائل، فأقول ما يقول السائلون المتسولون: الأجر رحمكم الله، فتخرج إلى هذا الممر؛ فلو لم تحدثني في كل يوم إلا بحديث لكان لي فيه خير عظيم.
فقال الإمام أحمد: نعم على شرط ألا تظهر في الحِلَق عند أصحاب الحديث.
فكنت آخذ عوداً بيدي وأَلُفُّ رأسي بخرقة، وأجعل ورقتي ودواتي في كُمِّي، ثم آتي بابه، فأصيح: الأجر رحمكم الله، الأجر رحمكم الله.
قال: فيخرج إليَّ في الممر ويغلق باب الدار، ثم يحدثني بالحديثين والثلاثة حتى اجتمع لي نحو ثلاثمائة حديث.
قال: والْتزمتُ تلك الطريقة حتى زالت المحنة عن الإمام أحمد؛ يوم مات المبتدع، وتولى من كان على السنة.
قال: فظهر الإمام، وسما ذكره، وعظم في عيون الناس، وكانت تضرب إليه آباط الإبل، فكنت أحضر له، فيعرف لي حق صبري، ويعرف لي حق تجلدي في طلب العلم؛ فإذا رآني هشَّ وبشَّ، وقال: تعالَ إليَّ، وأفسح لي في مجلسه، وأدناني من نفسه، ثم يقول لطلبة الحديث: هذا هو الذي يستحق أن يطلق عليه اسم طالب العلم، ثم يقص عليهم قصتي.
قال: ثم مرضت يوماً من الأيام، فزارني الإمام أحمد؛ فما بقي أحد بعد ذلك إلا زارني، وأَجلَّني الناس لزيارته وخدموني؛ فواحد يأتيني بفراش، وآخر يأتيني بلحاف، وآخر يأتيني بأطايب الأغذية، وكانوا في تمريضي -والله- أكثر من تمريض أهلي لو كنت بين أظهرهم؛ فرحم الله الجميع، وجزاهم الله عن العلم وأهله خيراً.
هذه بعض أخبارهم في رحلاتهم في طلب العلم، في نَصَبِهم، في تعبهم، في هجر النوم، في الصبر على شظف العيش، في مرارة الفقر والجوع والعطش في الهواجر الأيام والساعات، في نفاد أموالهم ونفقاتهم في الغربة، في فقد كتبهم ومصابهم في بيعها؛ لأنها من أعز ما يملكون.(21/21)
فائدة أخبار العلماء
هذه الأخبار هلاّ كانت -أيها الأحبة- مجلاة للقلوب من الصدأ والكسل، ومدعاة لتحريك الهمة للجد والعمل، أنتم كهم ومن يشابه أبه فما ظلم.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبُّه بالكرام فلاح
قوموا اقرعوا بالعلم أبواب العلى لا تقصروا عن همة القرَّاع
واستعذبوا شوك المنايا في اجتنا ورد الأماني رائق الإيناع
وتعلموا فالعلم معراج العلا ومفاتح الإخصاب والإمراع
وإذا علمتم فاعملوا فالعلم لا يجدي بلا عمل بحسن زمام
ثم إن لكل شيء ثمرة، وثمرة العلم العمل والتبليغ، وعلم بلا عمل كشجر بلا ثمر
هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل
ومن كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة، وما أحوج الأمة في حاضرها إلى الدعوة إلى الله جل وعلا.
ما أحوج الأمة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى بصيرة، وعلى علم مستوعب للشرع والواقع والبيئة وأحوال الناس.
إن تبليغ هذا الدين، يروض النفوس ويكسبها الصبر، ويكسبها الحلم والطمأنينة والسكينة؛ إذ إنه لابد من مخالطة المدعوين، ولابد من الصبر على أذاهم، والحنو عليهم لانتشالهم مما هم فيه، ومن يبني غيره هو أحق بأن يكون ثابت البناء، لا يُزحزَح بسهولة.
إن سفينة الأمة تتقاذفها الأمواج يمْنَة ويسرة، ويخرق فيها المفسدون كل يوم خرقاً؛ فإن لم تجد من يصلح تلك الخروق، فلربما تتحطم السفينة، وتغرق ولاشك، وسيغرق من على ظهرها، وركابها بحاجة إلى أن يكونوا على قدر كبير من الوعي والبناء واليقظة لما يراد بهم، وبإصلاح النفوس تصلح السفينة وتسلم ولاشك.
هاهو رجل من الصالحين في مدينة الرياض -كما ذكر من نحسب أنه ثقة- يقول: كان له عمل مسائي، وهذا العمل المسائي امتد لمدة شهر، يقول: فكنت أمُرُّ على أحد الأرصفة فأجد عليها أربعة من شباب هذه الأمة يلبسون من الثياب ما يستحيي إبليس أن يلبسه، ومعهم من آلات اللهو ما ينزه المقام عن ذكره.
قال: فكنت أتأثر لحالهم، وأذهب لعملي قال: وجئت في اليوم الثاني، وإذ هم على آلات اللهو، وفي جلسةٍ اللهُ يعلمها قال: وأتأثر لذلك، وشهر كامل وأنا أمر عليهم على هذا الرصيف.
قال: فجئت في ذلك اليوم، وقلت: والله لئن جلسوا إلى الغد لآتين إليهم ولأذكرنهم بالله -الذي لا إله إلا هو-.
قال: وجئت في اليوم الثاني وانطلقت لعملي.
قال: ومررت فإذا الأربعة على ما هم عليه.
فأوقفت سيارتي بعيداً عنهم.
ثم تقدمت إليهم وئيدَ الخُطى؛ علَّهم أن يعدلوا من جلستهم، أو يغيِّروا من بعض المنكرات التي هم عليها.
قال: فقاموا فأدخلوا العود في السيارة، وأطفئوا ما معهم من سجائر، وأطفئوا الموسيقى، وجلسوا جلسة معتدلة.
قال: فتقدمت إليهم، وسلمت عليهم واستأذنت، فأذنوا لي.
قال: فجلست إليهم، وقلت: أنتم تعلمون لِمَ جئت، يا أيها الشباب! أنتم أحفاد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم وأرضاهم- أرأيتم لو انحرفت سيارة من هذا الشارع، ثم ارتطمتْ بكم وأنتم على هذا الحال، أيسركم أن تلقوا الله بذلك؟ ثم ذكرتهم بالقبر والمصير الذي ينتظرهم، ثم ذكرتهم بوقوفهم بين يديْ الله عز وجل، وبمصيرهم إما إلى الجنة وإما إلى النار، قال: وإذا بدموعهم تنزل على خدودهم، وإذ بأحدهم يقول: وشهر وأنت تمر علينا، لا سامحك الله.
قال: ولم؟ قال: أرأيت لو أخذنا الله قبل هذه الليلة، والله لا نسامحك بين يديْ الله جل وعلا.
يقول هذا الأخ: فإن الأربعة لأئمةُ مساجد الآن.
إن الأمة لأحوج ما تكون إلى كلمة: اتقوا الله عودوا إلى الله أيسرُّكم أن تلقوا الله بم أنتم عليه من المنكرات.
كلمات بسيطة، لكن الله عز وجل إذا علم من قائلها الصدق نفع الله عز وجل بها.(21/22)
تنبيهات لكل داعية
فادع الله يا طالب العلم محتسباً أجرك على الله أكرم الأكرمين.
أقول لك: يا طالب العلم! يا أيها الداعية إلى الله! لابد أن تضع نصب عينيْك بعض الأمور الغير مرتبة:
أولاً: أن الحكمة مطلوبة، وهي وضع الشيء في موضعه: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] فالشدة في موضعها حكمة، والرفق في موضعه حكمة، وما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه.
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مُضِرٌ كوضع السيف في موضع الندى.
ثانياً: رَبِّ نفسك وربِّ الناس، وابنهم على صغار العلم قبل كباره؛ فإن غذاء الكبار -كما يقال- سم الصغار، فلو قدمت لقمة لحم لرضيع لربما تقتله فلينتبه لذلك.
فلا بد من التدرج في طلب العلم؛ فالقفزات المحطمة لا خير فيها.
ثالثاً: تحديد الهدف، مع الدراسة والتخطيط لاتخاذ الوسائل المناسبة الموصلة إلى الهدف، ومثل الذين يعملون من غير تحديد لأهدافهم كمثل إنسان يضرب في الصحراء دون أن يكون معه دليل يرشده أو قائد يهديه، ولا شك أنه سيظل يسير حتى يَمَلَّ السير، ويضرب في الأرض حتى يضطرب ويختل، وعندئذٍ يتمنى لو يعود من حيث أتى، وهيهات هيهات! ولاشك أن الهدف هو نشر دين الله في الأرض كما أمر؛ فلابد من وسائل صحيحة سليمة ومقدمات معينة توصل للهدف المطلوب، وهي غير خافية على المسلم البصير.
رابعاً: ليس كل ما يعرف يقال، ولكل مقام مقال: [[حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله؟!]].
خامساً: علينا أن نتعرف على طبيعة الأرض قبل أن نحرث فيها الحرث؛ بمعني أن نكون على معرفة بأحوال المدعوين النفسية، وظروفهم الاجتماعية، ودراسة البيئة التي ندعو فيها، وخير قدوة لنا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان على علم بالأفراد؛ فتعلمون في صلح الحديبية يوم يأتي أحد المشركين للصلح، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: هذا رجل فاجر، فكان كما قال صلى الله عليه وسلم، ولم يحصل معه شيء.
قال: ويأتي آخر، فيقول صلى الله عليه وسلم: {هذا رجل متألِّه ابعثوا الهدي في وجهه}، فبعثوا الهدي في وجهه، فرجع وهو يقول: ما كان لمثل هؤلاء أن يُصَدُّوا عن البيت، ويأتي سهيل، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: {سَهُل أمرُكم}؛ فكان الصلح.
بل إنه صلى الله عليه وسلم هو الأسوة، كان يدرس نُظُم الحُكم والبيئات التي حواليه، فيقول لأصحابه: {إن في الحبشة ملكاً لا يُظلم عنده أحد} فيأمرهم بالهجرة إليه، ويقول لـ معاذ: {إنك تأتي قوماً أهل كتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله}.
سادساً: لا يعول على الكثرة من الجماهير في الرخاء وقت الشدة، بل ليكن التعويل على أصحاب السوابق، يا أهل سورة البقرة، ويا أهل بيعة الشجرة.
سابعاً: المنبر من أعظم وسائل الدعوة إلى الله، لكنه ليس الوسيلة الوحيدة؛ فهناك الرسائل، وهناك الهاتف والملصقات والكتب واللقاءات والأشرطة، وما الأشرطة؟ مالئة الدنيا ونافعة الناس، قال فيها أحد العلماء:
وفي كل وقت مضى آية وآية هذا الزمان الشريط
ولن يعدم قاصد الخير الوسائل الشرعية إن خطط ودرس وأخلص وصدق.
ثامناً: الترفع عن مجاراة السفهاء؛ إذ كيف يجاري العالم السفيه؟ وكيف يعامل الحليم من فقد الحلم؟ وكيف يباري الخَلُوقُ سيء الخلق؟ إنه إقحام للنفس في ميدان لا تضمن فيه السلامة، ولا تؤمن فيه العاقبة؛ فأمسك -أيها الداعية ويا طالب العلم- عن مخاطبة السفهاء، ومجاراة السفهاء، والتورُّط معهم، فهم موجودون في كل عصر، وهم موجودون في كل بيئة، مشاغبون مع كل داعية، لا يخلو منهم جيل، ولذا نبه القرآن الكريم على خطرهم، وحذر عن مجاراتهم ومناقشاتهم فقال: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199].
تاسعاً: لا تلتفت إلى الوراء؛ فإن وراء الداعية نعيقاً وعواءً للباطل لو التفت إليه لربما تأثر به، ولربما ضعف سيره به وانشغل به، عمَّا هو أهم منه، ولذا ضرب ابن القيم عليه رحمة الله مثلاً للملتفت لنعيق الباطل بالظبي، ومثل أهل الباطل بالكلب، فيقول: الظبي أشد سعياً من الكلب، لكن الظبي إذا أحس بالكلب وراءه التفت إليه، فضعف سعيه، فأدركه الكلب، وهو أبطأ منه؛ فالسالك لهذا الطريق ليس في وقته متسع لتشتيته هنا وهناك؛ فكيف يتأثر بأقاويل وادعاءات المبطلين، فإذا وثقت بالطريق الذي تسير فيه وصاحوا لك في طريق سَيرك فلا تلتفت إليهم.
عاشراً: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، لا تأخذ العلم من صاحب هوى أو من غافل: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28].
أخيراً: -وقد أطلت في هذه النقطة لأهميتها- لابد للطلب والدعوة من صبر عظيم كصبر الجماد، وليكن معزيك ما يجده الصابر عند ربه يوم يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب، إن المريض ليتجرع الدواء المرَّ لا يكاد يسيغه؛ أملاً في حلاوة العافية ولو بعد حين.
صبرت ومن يصبر يجد غبِّ صبره ألذ وأحلى من جنى النحل في الفم(21/23)
من عوامل بناء النفس: المداومة على العمل وإن قل
ومن عوامل بناء النفس: المداومة على العمل وإن قل؛ لأن المداومة على الأعمال الصالحة والاستمرار عليها تثبيت وترويض للنفس البشرية لمواجهة أعباء الطريق وتكاليفه، وصرفٌ لمكايد الشيطان ونوازعه، ولذا لمَّا سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أدومها وإن قل} كما روى البخاري، ويقول صلى الله عليه وسلم: {تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد} فإذا عود المرء نفسه على الفضائل انقادت له -ولاشك- وإذا تهاون فأقدم مرة وأحجم مرة كان إلى النكوص أقرب، والشيطان إذا رآك مداوماً على طاعة لله عز وجل فبغاك وبغاك؛ فإن رآك مداوماً مَلَّكَ ورفضك، وإن رآك مرة هكذا ومرة هكذا طمع فيك؛ فداوم على الطاعات؛ فإن الله من فضله وكرمه أنه إذا جاء ما يصرفك عن أداء الطاعات من عجز ومرض وفتنة؛ فإن الأجر يجريه الله تعالى لك كما كنت صحيحاً كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما في البخاري: {إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً} فضلاً من الله ونعمة فله الحمد.(21/24)
من عوامل بناء النفس: مجالسة الصالحين
من عوامل بناء النفس: مجالسة من رؤيتهم تذكر بالله عز وجل؛ فمجالستهم تريك ما في نفسك من قصور وضعف وعيوب؛ فتصلحها وتهذبها؛ فهم زينة الرخاء وعدة البلاء، يذكرونك إن نسيت، ويرشدونك إن جهلت، يأخذون بيدك إن ضعفت، مرآة لك ولأعمالك، إن افتقرت أغنوك، وإن دعوا الله لم ينسوك {هم القوم لا يشقى بهم جليسهم}.
من جالسهم وأحبهم أذاقه الله حلاوة الإيمان التي فقدها الكثير، وأحلّوا بدلاً منها حبَّ المصلحة التي تنتهي بنهاية المصلحة، إذا رأيت هؤلاء خشع قلبك، واطمأن وسكن ووصل إلى ما يصل إليه سلفنا -أحياناً- يوم يجد أحدهم حبيبه في الله؛ فيتهلل وجهه بشراً وفرحاً، ويفيض دمعه حينما يرى أحد جلاَّسه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
فإذا ظفرت -أخي- بمجالسة مثل هؤلاء؛ فأحبهم وأخبرهم أنك تحبهم واطلب الدعاء منهم -في حال الفراق- في ظهر الغيب، وأطلق وجهك عند لقائهم، وابدأهم بالسلام، ونادهم بأحب الأسماء والكُنَى لديهم، وافسح لهم في المجلس، وزرهم بين آونة وأخرى؛ فالثمرة اليانعة لمجالسة من يذكرونك بالله يقصر العبد عن إحصائها، ويكفي أنها تجعلك تذوق حلاوة الإيمان، وتدخلك في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28].
ومنها: طلب الوصية من الصالحين، يوم يُقيِّض الله للمرء رجلا صالحاً يعظه، فيثبته الله وينفعه بتلك الكلمات، فتنبني نفسه، وتُسدَّد خطاه يوم يتعرض لفتنة أو بلاء من ربه ليمحصه به.
هاهو الإمام أحمد يساق إلى المأمون مقيداً بالأغلال، وقد توعده وعيداً شديداً قبل أن يصل إليه حتى قال خادمه: يعز عليَّ يا أبا عبد الله أن المأمون قد سلَّ سيفاً لم يسله قبل ذلك، وأنه أقسم بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن لم تجبه ليقتلنك بذلك السيف، وهنا يأتي الصالحون، أهل البصيرة لينتهزوا الفرصة ليلقوا بالوصايا التي تثبت في المواقف الحرجة.
ففي السير: أن أبا جعفر الأنباري قال: لما حُمل الإمام أحمد إلى المأمون أخبرت، فعبرت الفرات، وجئته، فسلمت عليه، وقلت: يا إمام! أنت اليوم رأس، والناس يقتدون بك؛ فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبنَّ خلق كثير، وإن لم تجب ليمتنعن خلق كثير، ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك فإنك تموت، ولابد من الموت فاتق الله ولا تجبه.
والإمام أحمد في سياق رحلته إلى المأمون يقول: وصلنا إلى رحبة، ورحلنا منها في جوف الليل، قال: فعرض لنا رجل، فقال: أيكم أحمد بن حنبل؟ فقيل: هذا، فقال: يا هذا ما عليك أن تقتل هاهنا وتدخل الجنة، ثم قال: أستودعك الله، ومضى.
وأعرابي يعترضه، ويقول: يا هذا إنك وافد الناس فلا تكن شؤماً عليهم، إنك رأس الناس فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه؛ فيجيبوا، فتحمل أوزارهم يوم القيامة، إن كنت تحب الله فاصبر؛ فوالله ما بينك وبين الجنة إلاّ أن تقتل.
ويقول الإمام أحمد: ما سمعت كلمة مذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رحبة طوق، قال: يا أحمد! إن يقتلك الحق مت شهيداً، وإن عشت عشت حميداً فقوَّى بها قلبي.
فإن أردت بناء نفسك -أخي الكريم- فاحرص على طلب الوصية من الصالحين، واعقلها إذا تُلِيَت عليك، اطلبها قبل سفرٍ إذا خشيت مما يقع فيه، واطلبها أثناء ابتلاء، أو قبل حدوث محنة متوقعة، واطلبها إذا عُيِّنت في منصب صغر أو كبر، أو ورثت مالاً وصرت ذا غنى، واطلبها في الشدة والرخاء والعسر واليسر لتنبني نفسك، وينبني بها غيرك، والله ولي المؤمنين.(21/25)
من عوامل بناء النفس: التفرغ للعبادة
ومنها: الخلوة للتفرغ للعبادة، والتفكر في ملكوت الله والاستئناس بمناجاة الله عن مناجاة الخلق، في قيام ليل والناس نيام، في صلاة في بيتٍ عدا المكتوبة، في ذكر لله، في خلوة، عامل مهم في بناء النفس؛ فإن في ذلك صفاء للذهن وسلامة من آفات الرياء والتصنع للناس والمداهنة، وفيه بُعْدٌ عما يتعرض له الإنسان غالباً بالمخالطة من غيبة ونميمة ولهو وضياع وقت ومداهنة، ولعل المرء في خلوة يذكر الله فتفيض عيناه من خشية الله؛ فيكون من السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله، ومع هذا فإن مخالطة الناس والصبر على أذاهم خير -كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم- ولكن اخلُ وخالط، وكلٌ له وقته.(21/26)
من عوامل بناء النفس: الدعاء
ومنها: الدعاء.
فهو أهم عامل في بناء النفس؛ إذ هو العبادة -كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم- ففيه الذل والخشوع والانكسار بين يديْ رب الأرباب ومسبب الأسباب، وهو الذي يجعل من الداعي رجلاً يمشي مرفوع الهامة والقامة، لا يخضع لأحد دون الله -الذي لا إله إلا هو- وهو من صفات عباد الله المتقين الذين يعلمون أن القلوب بين إصبعيْن من أصابع الرحمن يقلِّبها كيف يشاء؛ فكان لسان الحال والمقال: "يا مقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك" هلاَّ تحسسنا وتلمسنا مواطن وأسباب إجابة الدعاء؛ لعلنا نحظى بنفحة ربانية تكون بها سعادة الدنيا والآخرة، في ثلث ليل آخر، والناس هاجعون، والناس نائمون.
فقد روى الثقات عن خير الملا بأنه عز وجل وعلا
في ثلث الليل الأخير ينزل يقول هل من تائب فيُقبِل
هل من مسيء طالب للمغفرة يجد كريماً قابلاً للمعذرة
يَمُنُّ بالخيرات والفضائل ويستر العيب ويعطي السائل(21/27)
من عوامل بناء النفس: تدبر كتاب الله تعالى
ومن عوامل بناء النفس: تدبر كتاب الله جل وعلا، والوقوف عند أسمائه الحسنى وصفاته العلا: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} [النساء:82] كلنا يقرأ القرآن، وكثير منا يحفظ القرآن؛ لكن هل من متدبر ربط حياته بالقرآن؛ أقبل عليه تلاوة وتفسيراً وعلماً وعملاً وتدبراً، منه ينطلق، وإليه يفيء، أولئك البانون أنفسهم، أولئك الثابتون إذا ادلهمَّت الخُطُوب، أولئك المسدَّدون المهديون إذا أطلت الفتن برأسها؛ فأصبح الحليم حيراناً، وإن وقفة واحدة مع أسماء الله الحسنى وصفاته العلا الواردة في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لتبني النفس بناءً لا يتزلزل ولا يحيد، إنه السميع البصير ليس كمثله شيء، إنه العليم الخبير ليس كمثله شيء، لو تفاعل المؤمن مع اسم الله السميع العليم، فربَّى نفسه عليهما، فعلم أن الله يسمعه في أي كلمة ينطقها، في أي مكان يقولها: وحده أمام الناس عند من يثق به عند من لا يثق به؛ فالله يسمعه سمعاً يليق بجلاله؛ بل إنه ليسمع ويرى دبيب النملة السوداء على الصفاة السوداء في الليلة الظلماء؛ إذن لَصَلُح الحال.
هو الذي يرى دبيب الذَّر في الظلمات فوق صمِّ الصَّخر
وسامع للجهر والإخفات بسمعه الواسع للأصوات
وعلمه بما بدا وما خفي أحاط علماً بالجلي والخفي
فيا طلبة العلم؛ ويا أيها الدعاة إلى الله: إن الله يسمع ما تقولون، ويعلم ما تقولون؛ فلا تأسوا ولا تحزنوا.
يا أيها الدعاة إلى الشر والضلالة: إن الله يسمع ما تقولون، وما تسرون، وما تعلنون، وما تدبِّرون، وما تخططون؛ فاللهَ اتقوا، أما والله لو تفاعلت النفوس مع أسماء الله لتعلقت القلوب بالله فلا يقول الإنسان ولا يلفظ إلا بميزان، هل هذا الكلام مما يرضي الله الذي هو يسمعه وسيحاسب عليه فأقدم وإلا فلا.
في يوم من الأيام، وعلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل رجل على زوجته مغضباً، وكانت مغضبة، وكان حديث عهد بجاهلية، فأغضبته، فقال لها: أنت عليَّ كظهر أمي، بمعنى أنها حرمت عليه، فنزل الخبر عليها مهولاً كالصاعقة.
إلى أين تذهب؟ ذهبت إلى من أرسله الله رحمة للعالمين؛ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
دخلت عليه في بيت عائشة، وما ذاكم البيت يا أيها الأحبة؟ ما ذاكم البيت يا أصحاب القصور؟ غرفة واحدة، إذا جاء الضيف أو السائل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وُضع ساتر في وسط الغرفة، وتجلس عائشة في أقصى الغرفة، والنبي صلى الله عليه وسلم مع السائل والضيف في أدنى الغرفة.
قالت: يا رسول الله! ظاهر مني، فيقول صلى الله عليه وسلم: ما أراك إلا قد حرمت عليه، فتقول: يا رسول الله! أكل مالي، وأفنى شبابي، نثرت له بطني، حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي ظاهر مني! فيقول صلى الله عليه وسلم: ما أراك إلاّ قد حرمت عليه، فتقول: يا رسول الله! لي منه صبية صغار إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا.
تجادل وتحاور الرسول صلى الله عليه وسلم، وعائشة في الشق الثاني من الغرفة يخفى عليها بعض كلامهم.
ويأتي الحل مع جبريل من عند السميع البصير يقول: {قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ التِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1] وتنزل كفارة الظهار كما تعلمون، ولك أن تتخيل -يا أيها الأخ الحبيب- عائشة بجانبهم يخفى عليها بعض كلامهم، وما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، وسُمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام، ومن فوق السماء السابعة مسيرة خمسمائة عام، ومن فوق ذلك عرش الرحمن، ومن فوقه الرحمن بائن عن خلقه، مستوٍ على عرشه، يسمعها ويسمعهم؛ بل {مَا يَكُونُ مِن نجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] إنه الكمال المطلق لا إله إلا هو السميع البصير، تقول عائشة رضي الله عنها بعد ذلك: [[تبارك الذي وسع سمعه السماوات والأرض وكل شيء، لقد سمعها من فوق سبع سماوات، وما سمعتها وما بيني وبينها إلا الحجاب]] أو كما قالت.
إن النفس يوم تتفاعل مع هذه الصفة تتعلق في كل أمورها بالله، فتراقبه، وتنسى رؤية الخلق مقابل ذلك.
فيا أيها العبد المؤمن إذا لقيت عنتاً وظلماً ومشقة وسخرية واستهزاء فلا تحزن.
يا طالب العلم، يا أيها الداعية: إذا جُعلت الأصابع في الآذان، واستُغشيت الثياب، وحصل الإصرار والاستكبار، فلا تحزن؛ إن الله يسمع ما تقول، ويسمع ما يقال لك: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11].
يا أيها الشاب الملتزم الذي وضع قدمه على أول طريق الهداية، فسمع زميلاً يسخر منه، ويهزأ به؛ لا تأسَ، ولا تحزن، واثبت، واعلم علم يقين أنك بين يديْ الله يسمع ما تقول وما يقال لك.
وسيجزي فاعلاً ما قد فعل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] {وَمَا يَعْزُبُ عَن ربكَ مِن مثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ فِي السماء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ} [يونس:61].
سمعتم -يا أيها الأحبة- ما سمعتم، إن النفوس يوم تربى على تدبر كتاب الله جل وعلا والوقوف على معاني أسماء الله الحسنى وصفاته العلا، والتملي في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم تتخذه قدوة مطلقة، وتقتدي بمن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم.
تُبنى بناءً لا يزعزعه أي عارض في أي شبهة أو شهوة أو ترغيب أو ترهيب أو إغراء أو تحذير؛ بل تعلق باللطيف الخبير السميع البصير الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.(21/28)
إساءة الظن بالنفس
أخيراً: أسئ الظن بنفسك يا عبد الله! لأن حسن الظن بالنفس يمنع عن كمال الإصلاح، ويري المساوئ محاسن والعيوب كمالاً، ولا يسيء الظن بنفسه إلا من عرفها، ومن أحسن ظنه بنفسه فهو في أجهل الناس بنفسه، وكم من نفس مستدرجة بالنعم، وهي لا تشعر مفتونة بثناء الجُهَّال عليها، مغرورة بقضاء الله حوائجها وستره عليها.
فابنوا على التقوى قواعدكم فما يُبْنَى على غير التقى متداع
اللَّهم أنت خلقت أنفسنا وأنت تتوفاها؛ فزكِّها أنت خير من زكَّاها، أنت وليها ومولاها، لك مماتها ومحياها، إن أحييتها فاحفظها بما تحفظ به أنفس الصالحين، وإن أمَتَّها فاغفر لها وارحمها وأنت خير الراحمين، اللهم أتمم لنا العافية في الآخرة والدنيا والدين، اللهم أتمم لنا العافية في الآخرة والدنيا والدين، أنت ولينا توفَّنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(21/29)
نظرات في غزوة تبوك
من سنن الله الكونية صراع الحق والباطل، وهو مستمر إلى قيام الساعة، والحرب سجال، وهنا صراع بين حامل الحق محمد صلى الله عليه وسلم وبين الروم دعاة الباطل، وكان النصر للمصطفى صلى الله عليه وسلم.
لكن المصطفى صلى الله عليه وسلم مر بأحداث أثناء ذهابه إلى تلك الغزوة منها: تثبيط المنافقين للصحابة، وكذلك محاولة التحريش بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومرور النبي بديار ثمود وفيها عبر ودروس.
وفي طريق العودة محاولة المنافقين اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم ولكنها باءت بالفشل ولله الحمد.
وهناك دروس مستفادة من هذه الغزوة.(22/1)
وقائع في الطريق إلى تبوك
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يَهْدِه الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين، فشرَح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أَعْيُناً عُمْياً وآذاناً صُماً وقلوباً غلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران:102]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأن نقدم لأنفسنا أعمالاً تُبَيِّض وجوهنا يوم نلقى الله يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون، إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.
ثم اعلموا علم يقين أن حكمة الله اقتضت أن يكون الحق والباطل في خلاف دائم وصراع مستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كل ذلك ليميز الله الخبيث من الطيب، فمذ بَزَغَ نجم هذا الدين وأعداؤه من يهودٍ ونصارى ومشركين يحاولون القضاء عليه بكل ما يستطيعون: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوكَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32].
حاول أعداء هذا الدين القضاء عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فما أفلحوا، وحاولوا في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم فما أفلحوا، ثم في العصور المُتَأَخرة إلى وقتنا هذا وهم يحاولون دائبين؛ بالعنف والصراع المُسلح تارة، وبالمكر والخداع والخطط والمؤامرات تارة أخرى، ولسنا مجازفين -والله- عندما نقول ذلك؛ فالله يقول: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] والله جل وعلا يقول: {وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120].
هذه شهادة الله على أعدائنا بما يريدونه منا، وأَيُ شهادة أعظم من شهادة الله وأصدق، والتاريخ في ماضيه وحاضره يشهد بذلك، لكن أنَّى لهم أن يفلحوا ما تمسَّكنا بكتابنا وسُنَّةِ نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم.
كلُّ العِدَا قَدْ جَنَّدوا طَاقَاتِهِم ضِدَّ الهُدَى والنُّورِ ضِدَّ الرِّفْعَةِ
إِسلامُنا هَُودِرْعُنَا وَسَِلاحُنَا ومنارنا عَبْرَ الدجى فِي الظُّلْمَةِ
هَُوبِالعَقِيدةِ رَافِعٌ أَعْلامَهُ فَامْشِ بِظِلِّ لِوَائهَا يَا أُمَّتِي
لا الغَْربُ يَقصِد عِزَّنَاكَلا ولا شَرْقُ التَحَلُّلِ إنَّهُ كَالحَيَّةِ
الكُلُّ يَقْصدُ ذُلَّنَا وهَوَانَنَا أَفَغَيْرُ رَبِّي مُنْقِذٌ مِنْ شِدَّةِ
عبادَ الله: يوم يُقلِّب المرء صفحات الماضي المجيد، ويتدبر القرآن الكريم، ثم ينظر لواقعنا، ويقارنه بماضينا، يتحسر يوم يَجِد البَوْن شاسعاً والفرق عظيماً، يتحسر يوم يرى تلك الأمة وقد كانت قائدة وإذا بها قد أصبحت تابعة، ثم يدرك أن السبب هو بُعدنا عمَّا كان عليه أسلافنا، ويتساءل المرء: متى ينزاح هذا السواد الحالِك من الذل والمسكنة؟
متى يَنْبَرِي للأَمَّة أمثال خالد وصلاح والقعقاع؟
متى تُحيَا في القلوب آل عِمران والأنفالُ وبَرَاءة؟
قُلْ: عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً:
وإنَّا لنرجُو اللهَ حتَّى كأنَّما نَرَى بِجَمِيلِ الظَّنِّ مَا اللهُ صَانِعُ
عَوداً والعَود أحمد، عَوداً سريعاً إلى الماضي المجيد لنستلهِم منه الدروس والعبر في هذا الحاضر العاثر، عَوداً لسيرة من لم يطْرق العالم دعوة كدعوته، ولم يُؤَرِّخ التاريخ عن مُصلِح أعظم منه، ولم تسمع أُذن عن داعية أكرم منه:
رُوحِي الفِدَاءُ لِمَنْ أَخْلاقُهُ شَهِدَتْ بِأَنَّهُ خَيْرُ مَبْعُوثٍ مِنَ البَشَرِ
عَمَّتْ فَضَائِلُهُ كُلَّ البِلادِ كَمَا عَمَّ البَرِيَّةَ ضوء الشَّمسِ والقَمَرِ
صلوات الله وسلامه عليه ما هَطَلَتْ الغمائم بتهتان المطر، وما هَدَلَتْ الحمائم على أفنان الشجر.
العَيْش في سيرته عَيْشٌ رَغِيد سعيد؛ هِداية ونور وحبور وبِشْر وسرور، ما أحرانا ونحن في هذه الأيام العَصِيبة أن نخترق أربعة عشر قرناً؛ لنعيش يوماً من أيام محمد صلى الله عليه وسلم، بل ساعة من سُوَيْعاته الثمينة؛ لنأخذ العِبرة والدروس من تلك الساعة في هذه الساعة:
اقرءوا التَّارِيخَ إِذْ فيه العِبَرْ ضَلَّ قَوْمٌ لَيْسَ يَدْرُونَ الخَبَرْ
عَوْداً بكم إلى السنة التاسعة للهجرة والعود أحمد؛ لنعيش معكم أحداث غزوة العسرة التي تساقط فيها المنافقون، وثبت فيها المؤمنون، وذَلَّ فيها الكافرون.
ما السبب وما الأحداث؟ ما آيات النبوة فيها؟ ما الدروس المستفادة؟ إليكموها، فاسمعوها وعُوها واعتبروا بما فيها.
واسألوا التاريخ عنا كيف كنا نحن أسسنا بناءً أحمدياً
بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن الروم تتجمع لحربه ولتهديد الدولة الإسلامية في ذلك الوقت، يريدون مبادرته بالحرب قبل أن يبادرهم؛ لكونه قد أذاقهم مرارة غزوة مؤتة التي جلبوا لها مائتيْ ألف، ولم يتمكنوا من إبادة ثلاثة آلاف مقاتل؛ بل ولا هزيمتهم، فيا للَّه!!
كنا جبالاً في الجبال وربما صرنا على موج البحار بحارا
عند ذلك أعلن النبي صلى الله عليه وسلم ولأول مرة عن مقصده، وأعلن التعبئة العامة فتجهز أقوام وأبطأ آخرون، تجهز ثلاثون ألف مقاتل قد باعوا أنفسهم من الله، وأعلنوا نصرة لا إله إلا الله.(22/2)
موقف المنافقين من غزوة تبوك
تساقط المنافقون: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [المائدة:41].
هاهو أحد المنافقين يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم له: هل لك في جلاد بني الأصفر؟ -أي: الروم- فيقول: يا رسول الله!! ائذن لي ولا تفتني؛ فوالله! لقد عرف قومي أنه ما من رجل أشد عجباً بالنساء منِّي، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر: (فر من الموت وفي الموت وقع).
أعرض عنه صلى الله عليه وسلم وعذَره، لكن الذي يعلم خائنة الأعين، والذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فَضَحَهُ وأذلَّه وأنزل فيه قرآناً يُتلى: {ومِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لي ولاَ تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49].
ويتخلف أناس آخرون عن الخروج، لا رغبةً بأنفسهم عن نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن غلبتهم نفوسهم لصعوبة الظرف واشتداد الحر، قد آن أوان الرطب وظلال الأشجار، فاعتذروا بعد عودة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقَبِل عُذْرَهم، وتاب الله عليهم وأرجأ توبة ثلاثة منهم امتحاناً لهم فَمُحِصُوا حتى: {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وظَنُّوا أَلاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّه تَّوَّابُ رَّحِيمُ} [التوبة:118].
ويأتي سبعة رجال مؤمنون صادقون، لكنهم فقراء لم يجدوا زاداً ولا راحلة، وعز عليهم التخلف، نياتهم صادقة لكن ليس هناك عدة، فأتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: يا رسول الله! لا زاد ولا راحلة، ويبحث لهم صلى الله عليه وسلم عن زاد وراحلة فلا يجد ما يحملهم عليه فيرجعوا: وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون يالله! ظلّ السيف للمسلم مثل ظل حديقة خضراء، تنبت حولها الأزهار.
وتدنو ثمار المدينة ويشتد الحر، ويبتلي الله من يشاء من عباده: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] ويخرج صلى الله عليه وسلم ويستخلف على أهل بيته علياً رضي الله عنه، ويخيم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثنية الوداع ومعه ثلاثون ألفاً.
ويأتي المنافقون الذين لا يتركون دسائسهم وإرجافهم على مر الأيام يلاحقون أهل الخير والاستقامة، يلمزون ويهمزون ويتندرون ويسخرون -سخر الله منهم- ويستهزئون -والله يستهزئ بهم- يأتون إلى علي رضي الله عنه ويقولون: ما خلفك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا استثقالاً لك؟ يريد التخفف منك، وعلي بَشَرٌ، تأثَّر لذلك، ولبس دِرعه، وشَهَرَ سيفه يريد الجهاد في سبيل الله، ويلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعتنق رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: {يا رسول الله! زَعَم الناس أنك استثقلتني فخلفتني في النساء والصبيان؟ فتهراق دموعه صلى الله عليه وسلم ويقول: كذبوا يا عليُّ! فاخلفني في أهلك وأهلي، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟! إلا أنه لا نبي بعدي} فيقول بلسان الحال: بلى رضيت، بلى رضيت، وعاد علي رضي الله عنه.
يَدعُو جَهاراً لا إلهَ سِوى الذِي خَلَقَ الوُجُودَ وقَدَّرَ الأقْدَارَا
وقبل مسير الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم تقوم فرقة للصَدِّ عن سبيل الله، تُثبِّط الناس بعد أن اجتمعوا في بيت أحدها، تقول- وهي تزهد في الجهاد-: لا تنفروا في الحَرِّ، تشكك في الحق وترجف برسول الحق، ويتولى الحق سبحانه الرد: {وقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوكَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81] هم في مؤامرة الصَدِّ عن سبيل الله، ويأمر صلى الله عليه وسلم بإحراق البيوت عليهم، ويُنَفِّذُ ذلك الأمر طلحة رضي الله عنه؛ فيقتحمون الأسوار خوفاً من نار الدنيا، فتنكسر رِجل أحدهم، ويفِرُّ الباقون:
ويَعِزُّ جُنْدَ الحق رغم أنوفهم ويخيب كل منافق خَوَّان(22/3)
مرور النبي صلى الله عليه وسلم بديار ثمود
يتوجَّه صلى الله عليه وسلم ويمر بديار ثَمُود، وما أدراكم ما تلك الديار؟!
ديار غضب الله على أهلها، فتلك بيوتهم خاوية، وآبارهم معطَّلة، وأشجارهم مقطَّعة، فيدخلها وقد غطَّى وجهه وهويبكي، ويقول لجيشه: {لا تدخلوها إلا باكين أو مُتباكين لئلا يصيبكم ما أصابهم}.
يا لله!! هذه أرض سكنها الظَلَمَة، فقولوا لي بالله في من يجالس الظَلَمَة، ويؤيد الظَلَمَة، ويركَن إلى الظَلَمَة، ويكون لهم أنيساً ولساناً وصاحباً؛ كيف يكون حاله؟! ألا يخاف أن يغضب الله عليه؛ فيأخذه أخذ عزيز مقتدر {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113].
ويستسقي الناس من بئر في ديار ثَمُود فيقول صلى الله عليه وسلم: {لا تشربوا من مائها، ولا تتوضئوا منه للصلاة، وما عَجَنتم من عجين بمائها فاعْلِفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئاً} ففعلوا امتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومع الغروب يُعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها سوف تَهُبُّ رياح شديدة، فلا يخرج أحد من مُخَيَّمِه إلا مع صاحب له حتى تهدأ الريح، وخالف أمره رَجُلان من المسلمين، لضَعف في إيمانهم، خرج أحدهم ليقضي حاجته فخَنَقَتْه الجِنُّ عند حاجته، وخرج الآخر في طلب بَعِير له، فاحْتَمَلته الريح حتى طرحته في جبال طيء، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي أُصيب بخَنْق الجِنِّ، فَشُفِي، فكانت هذه آية من آيات نبوَّته صلى الله عليه وسلم وأمَّا الآخر: فسُلِّم للنبي صلى الله عليه وسلم عند عودته إلى المدينة.(22/4)
حفظ أبي قتادة للرسول صلى الله عليه وسلم
لازال صلى الله عليه وسلم في طريقه إلى تبوك، قد بلَّغ به الجوع والتعب والإرهاق مبلغاً عظيماً، لكن في سبيل الله يهون، ومع السَّحَرِ ينام من التعب صلى الله عليه وسلم على دابَّتِه حتى يكاد يسقط كما في صحيح مسلم فيقترب منه أبوقتادة فيَدْعَمَه بيده حتى يعتدل، ثم يميل مَيلةً أخرى، فيدعمه أبوقتادة حتى يعتدل، ثم يميل مَيلة أشَدَّ من المَيلتين الأُولَيين، حتى كاد يسقط، فيدعمه بيده، فيرفع رأسه صلى الله عليه وسلم ويقول: {من هذا؟ قال: أنا أبوقتادة -فيُكَافِئَه صلى الله عليه وسلم، فبمَّ كافأه؟ - قال: حفظك الله بما حفظت نبي الله يا أبا قتادة}.
يقول أهل العلم: فوالله مازال أبوقتادة محفوظاً بحفظ الله في أهله وذريته ما أصابهم سوء حتى ماتوا.
وهذا درس عظيم، فإن من حفظ الله حفظه الله فلا خوف عليه، إن صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان.(22/5)
علامة من علامات النبوة
وينزل صلى الله عليه وسلم والمؤمنون منزلاً، يقول عمر في ذلك المنزل: وقد أصابنا عطش عظيم حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره، فيعتصر فرثه فيشربه، وتضل راحلة النبي صلى الله عليه وسلم ويخرج أصحابه يبحثون عنها، فيقوم أحد المنافقين فيقول: إن محمداً يزعم أنه نبي ويخبركم بخبر السماء وهو الآن لا يدري أين ناقته، ويأتي جبريل رسول الله صلَّى الله عليه وسلم بالخبر، ويقول: إنَّ رجلاً منكم يقول: إنَّ محمداً يزعم أنَّه نبي ويخبركم بأمر السماء وهولا يدري أين ناقته، وإني -والله- ما أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها.
يقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم: {هي في هذا الوادي في شعب كذا، قد حبستها شجرة بزمامها، فانْطَلِقُوا حتى تأتوني بها} فذهبوا فوجدوها كما ذكر صلى الله عليه وسلم وظهرت آية نبوته؛ وفُضِحَ هذا المنافق؛ وطُرِدَ عدو الله من جيش محمد صلى الله عليه وسلم.(22/6)
أبو ذر يلحق بالجيش
ويمضي صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى تبوك، ويتخلف عنه بعض المسلمين، فيقول الصحابة: {فلان تخلف يا رسول الله! فيقول: دعوه إن يكن فيه خير فسَيُلْحِقَه الله بكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم الله منه} ويتأخر أبو ذر لأن بعيره هزيل، أبطأ به بعيره، فترك بعيره وأخذ متاعه وحمله على ظهره، وينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض منازله على الطريق، وينظر ناظر المسلمين ويقول: {يا رسول الله! رجلٌ يمشي على الطريق وحده، متاعه على ظهره، فقال صلى الله عليه وسلم: كن أبا ذر كن أبا ذر فيتأمل الصحابة، فيقولون: هو والله أبوذرٍ يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده}.
وتمضي الأيام على هذه المقولة، وتمضي الأعوام، ويُنْفَى أبو ذر إلى الربذة، ويحضره الموت هناك، وليس معه إلا امرأته وغلامه، وقبل موته أوصاهما: أن يُكَفِّنَاه ويُغَسِّلاه، ويضعاه على الطريق، وأول ركب يمر بهم يقولون: هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعينونا على دفنه.
ويفعلان ذلك، ويأتي عبد الله بن مسعود في رهط من أهل العراق؛ ليعتمروا، وما راعهم إلا الجنازة على قارعة الطريق، كادت الإبل أن تطأها، عندها قام غلام أبي ذر وقال: هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعينونا على دفنه، فاندفع عبد الله بن مسعود باكياً يقول: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: {تمشي وحدك وتموت وحدك} ثم نزل هو وأصحابه فدفنوه، ودموعهم تَهْراق على خدودهم.
وليس الذي يجري من العين ماؤها ولكنها روحٌ تسيل فتَقْطُرُ(22/7)
صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على معاوية الليثي في تبوك
وينتهي المسير بمحمد صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، ويقيم بضع عشر ليلة حافلة بالأحداث المثيرة.
روى البيهقي من حديث يزيد بن هارون أنَّه صلى الله عليه وسلم لما نام ليلة في تبوك أتاه جبريل عليه السلام وقال: {يا رسول الله! قم صَلِّ صلاة الغائب على معاوية بن معاوية الليثِي فقد تُوفِى بـ المدينة} من يا ترى معاوية؟
عابد صالح يذكر الله قائماً وقاعداً وعلى جنبه، وكأنَّه صلى الله عليه وسلم يتساءل لِمَ؟
فأُخْبِر أنَّه كان يقرأ: {قُلْ هُو اللهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] قائماً وقاعداً وعلى جنب؛ بالليل والنهار، وقد تُوفِي بـ المدينة وصُلِّيَ عليه هناك، وشهد الصلاة عليه صفان من الملائكة، في كل صف سبعون ألف ملك، فلا إله إلا الله، قام صلى الله عليه وسلم وصلَّى عليه، وكان قد سافر صلى الله عليه وسلم إلى تبوك وهو مريض فهنيئاً له دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم وصلاة الملائكة عليه.(22/8)
دفن النبي صلى الله عليه وسلم لذي البجادين في تبوك
لا زالت الأحداث المثيرة تتوالى في تبوك: يقول ابن مسعود رضى الله عنه: {ونِمْنا تلك الليلة وانتبهت وسط الليل، فالتفت إلى فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجده، إلى فراش أبي بكر فلم أجده، إلى فراش عمر فلم أجده، وإذ بنار وسط الليل تضيء آخر المعسكر، فذهبت أتبعها؛ فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم قد حفر قبراً ومعه أبو بكر وعمر، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم سراج بيده قد نزل إلى القبر قال: قلت يا رسول الله من الميت؟ قال هذا أخوك عبد الله ذوالبجادين} من هو؟
إنه أحد الصحابة، حلت به سكرات الموت بالليل، فقام صلى الله عليه وسلم وشهد موته، وودعه ودعا له، وحفر قبره بيده الشريفة وأيقظ أبا بكر وعمر.
يقول ابن مسعود: {فو الذي لا إله إلا هو! ما نسيت قوله صلى الله عليه وسلم وهو في القبر، وقد مد ذراعيه لـ ذي البجادين، وهو يقول لـ أبي بكر وعمر: ادنيا إليَ أخاكما فدلياه في القبر ودموعه صلى الله عليه وسلم تتساقط على الكفن.
ثم وقف صلى الله عليه وسلم لما وضعه في القبر رافعاً يديْه مستقبلاً القبلة، يقول: اللهم إني أمسيت عنه راضياً فارض عنه، اللهم إني أمسيت عنه راضياً، فارض عنه.
يقول ابن مسعود: يا ليتني كنت صاحب الحفرة، لأنال دعاءه صلى الله عليه وسلم} من هو ذوالبجادين؟
إنه صحابي جليل، أسلم وكان تاجراً، فأخذ قومه أهله ماله؛ لأنه آمن وهم يريدون له الكفر، أخذوا حتى لباسه، فذهب فما وجد لباساً غير شملة قطعها إزاراً ورداء - بجادين- وفر بدينه يريد الله والدار الآخرة.
قدم على المصطفىصلى الله عليه وسلم ذوالبجادين، وأُخبِرَ صلى الله عليه وسلم بخبره: {فقال: تركت مالك لله ورسوله، أبدلك الله ببجاديْك إزاراً ورداء في الجنة، أنت ذوالبجادين} فلُقِّب من تلك اللحظة بـ ذي البجادين، وكان مصرعه في تبوك، ومضى الركب وخلفوه هناك، لكنهم يجتمعون معه في جنة عرضها السماوات والأرض: {يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم:8].
ويقيم صلى الله عليه وسلم بـ تبوك ويدنو من الروم ويفزعهم، ويكاتب رسلهم، ويفرض عليهم الجزية، وهم صاغرون، ولم يلق كيداً منهم؛ لأن الله قد نصره بالرعب مسيرة شهر، فلم يقرب إليه الروم خوفاً وفزعاً، وقد كانوا قبل قد عزموا على غزوه في عقر داره: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:16 - 18].(22/9)
القبض على ملك دومة الجندل
يرسل صلى الله عليه وسلم خالداً على رأس أربعمائة مجاهد في سبيل الله إلى أكيدر ملك دومة الجندل، ويخبر صلى الله عليه وسلم خالداً أنه سيلقاه يصيد بقر الوحش.
خرج خالد، ولما بلغ قريباً من حصنه، وجده قد خرج للصيد، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فتلقته خيل الله بقيادة خالد، فأسرته واستلب خالد منه قباءً مخوصاً بالذهب -قميصاً مخوصاً بالذهب- وبعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل قدومه عليه، فجعل المسلمون يتعجبون من هذا القباء، فقال صلى الله عليه وسلم مُزهِّداً لهم في زخرف الدنيا: {أتعجبون من هذا؟ لَمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذا}.
قدم خالد بالـ أكيدر، وحقن دمه صلى الله عليه وسلم وضرب عليه الجزية، ولكنه مجرم، ولو علم الله فيه خيرا لأسمعه، نقض العهد في عهد أبي بكر، فقتله خالد رضي الله عنه وأرضاه.
وهكذا نصر الله جنده وأولياءه ورسله وعباده في الحياة الدنيا، وينصرهم يوم يقوم الأشهاد.(22/10)
رجوع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة
عباد الله: ويعود صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، بعد إرهاب أعداء الله من نصارى ويهود ومشركين، يعود في يوم بهيج، لتستقبله المدينة، لتستقبل نور بصرها صلى الله عليه وسلم، يخرج الأطفال في فرح، ليصطفُّوا على مداخل المدينة، وعلى أفواه الطرقات، ليستقبلوا رسول البرية صلى الله عليه وسلم، أصواتهم كما حقق ابن القيم عليه رحمة الله:
طلعَ البدرُ علينَا مِن ثنيات الوداع
وجَب الشكر علينَا ما دَعا لله دَاعْ
أيها المبعُوث فينَا جئتَ بالأمرِ المُطاعْ
جئتَ شرَّفت المدينةْ مرحباً يا خيرَ داعْ
وهنا قال صلى الله عليه وسلم: إنَّ بـ المدينة رجالاً، ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً، ولا وَطَئِتُم موطئاً يغيظ الكفار، إلا كانوا معكم، حبسهم العذر.
قالوا: يا رسول الله! وهم بـ المدينة؟! قال: نعم.
وهم بـ المدينة} ويتبسم صلى الله عليه وسلم ويمسح الرءوس، ويقبل ويدعو.
وهكذا انتصر المسلمون في تبوك على شهواتهم وأنفسهم، وبالتالي انتصروا على أعدائهم: {وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40].
هذه غزوة تبوك قائدها محمد صلى الله عليه وسلم، جنودها صحابته رضوان الله عليهم، عز فيها المؤمنون، وسقط المنافقون، وذل الكافرون وانهزموا، وبالجهاد في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله يُنصَر المؤمنون:
والمؤمنون على عنا ية ربهم يتوكلون
لا خوف يُرهبهم ولا هم في الحوادث يحزنون
اللهم أنت الناصر لدينك، والمعز لأوليائك؛ افتح لنا فتحاً مبيناً، انصرنا نصراً عزيزاً، واجعل لنا من لدنك سلطاناً نصيراً، اللهم ثبِّت أقدامنا، وزلزل أعداءنا، اللهم أدخل الرعب في قلوبهم، واستأصل شأفتهم، واقطع دابرهم، وأَبِدْ خضراءهم، واجعل تدبيرهم تدميرهم، وأورثنا أرضهم، وديارهم وأموالهم، وكن لنا ولياً، وبنا حفيّاً.
يا من نصرت بماض ضعف أمتنا على الطواغيت عجل نصرنا الثاني
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(22/11)
دروس وعبر من غزوة تبوك
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: ها قد عشتم بعض أحداث غزوة تبوك التي انتهت -كما عرفتم- بنصر المؤمنين، ولئن انتهت، فما انتهى نورها، وما انتهت دروسها وعبرها ومواعظها، ففي كل حديث منها قصة، وفي كل قصة عظة وعبرة، وفي كل ذكرى منها موعظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
هل يكفي سرد أحاديث الماضي والتغني بالذكر الغابر؟
هل يُجدي هذا وقد تشابكت بأمة الإسلام -في هذه الأعصار- حلقات من المحن، وتقاذفتها أمواج من الفتن، وصيح بهم من كل جانب، وتداعى عليهم الأكلة من كل فج؟ لا.
لابد أن نستفيد مما مضى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُّفْتَرَى} [يوسف:111].
فهاكم بعض دروسها وعظاتها؛ علَّ الله أن يجعلنا وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.
وأول هذه الدروس: أن هذه الأمة أمة جهاد، ومجاهدة وصبر ومصابرة، ومتى ما تركت الجهاد؛ ضُربت عليها الذلة والمسكنة.
دعِ المِداد وسطِّر بالدَّمِ القانِي وأسكتِ الفَمَ واخطبْ بالفمِ الثَّانِي
فَمُ المدافعِ في صدرِ العداة لهُ منَ الفصاحةِ ما يزري بسحبانِ
وثانيها: أن الله تعالى كتب العزة والقوة لهذه الأمة، متى ما صدقت وأخلصت؛ فها هي دولة الإسلام الناشئة، تقف في وجه الكفر كله بقواه المادية فتهزمه، وتنتصر عليه: {ولَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ} [الحج:40].
وثالثها: أنه ما تسلل العدو سابقاً ولاحقاً إلا من خلال الصفوف المنافقة، ولم يكن الضعف والتفرقة في هذه الأمة، إلا من قِبَل أصحاب المسالك الملتوية: {لَو خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47].
رابعها: أن مواجهة الأعداء، لا يشترط فيها تكافؤ القوى، يكفي المؤمنين أن يعدُّوا أنفسهم بما استطاعوا من قوة، ثم يثقوا بالله، ويتعلقوا به ويثبتوا ويصبروا، وعندها يُنصروا.
فهاهو سلفهم ابن رواحة يقول: [[والله ما نقاتل الناس بعَدد ولا عُدد، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به]].
خامسها: أن الحق لابد له من قوة تحرسه، لا يكفي حق بلا قوة.
فما هو إلا الوحيُ أوحدُّ مُرهَف تقيم ظباه أخدعيْ كل مائلِ
فهذا دواء الداء من كل جاهل وهذا دواء الداء من كل عاقلِ
دعا المصطفى دهراً بـ مكة لم يُجَب وقد لان منه جانب وخطاب
فلما دعا والسيف بالكف مسلط له أسلموا واستسلموا وأنابوا
سادسها: أن الأعداء لن يَرْكنوا إلى السكون، ولن يصرفوا أنظارهم عن دولة محمد صلى الله عليه وسلم سابقاً ولاحقاً، فهم يُجمعون أمرهم وشركاءهم، ويُعمِلُون مكرهم ودسائسهم: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].
سابعها: في نهاية هذه الغزوة هاهي مؤامرة دنيئة يقوم بها أدنياء سفلة عددهم اثنا عشر شقياً منافقاً؛ تواطئوا على قتل محمد صلى الله عليه وسلم وتنفيذ الخطة -في تقديرهم- بمضايقته في عقبة في الطريق إلى تبوك ليسقط من على راحلته فيهلك -على حد زعمهم- ويصل إلى العقبة تَحُفُّه عناية الله ورعاية الله، حذيفة آخذ بخطام ناقته، وعمار يسوقها، وإذ بالأشقياء يعترضون الناقة لينفذوا مخطط الشقاء والعار، فيصرخ فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيولوا مدبرين، ويحفظ الله سيد المرسلين، وينزل الله قوله في المنافقين: {وهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} [التوبة:74] ويرسل بعدها صلى الله عليه وسلم عليهم سهماً إلى الحي القيوم الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؛ إذ يدعو اللهَ عليهم أن يهلكهم، فيصاب كل واحد منهم بخُرَّاج يخرج في ظهر الواحد منهم، ويدخل إلى قلبه؛ فلم ينجُ منهم أحد؛ فإلى جهنم، وبئس القرار.
ومن دسائس أعداء الله أنهم أرسلوا لـ كعب بن مالك رضي الله عنه يوم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهجره؛ أرسلوا إليه يقولون له: بلغنا أن صاحبك جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة؛ فالْحقْ بنا نُواسِك، لكن كعباً مؤمن، علم أن هذا من الابتلاء، فيمَّمَ التنور، فأوقده بالرسالة: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} [غافر:25].
عباد الله: هذا هو ديدن أعداء الإسلام في الغابر والحاضر في كل زمان ومكان، يتحسسون الأنباء، ويترصدون ويتربصون بالإسلام وأهله، وكم من أقدام في مثل هذا ذلَّت! وكم من أرجل في مثل هذه الأوحال قد انزلقت!
أما كعب فيمَّمها التنور وسجَّرها، وكم في الأمة من أمثال كعب!
فدت نفسي وما ملكت يميني فوارس صدقت فيهم ظنوني
ثامنها:
إن العقيدة في قلوب رجالها من ذرةٍ أقوى وألف مهند
قضى الله أنه متى ما حادت الأمة عن عقيدتها، وتعلقت بهذا أوبذاك؛ إلا وتقلبت في ثنايا الإهانات والنكبات والنكسات حتى ترجع إلى كتاب ربها وسنة نبيها.
من يتق الله وينصر دينه لابد في ساح المعارك يُنصَر
تاسعها: ألا وإن من أعظم الدروس -وليكن الأخير من غزوة تبوك -: والمسلمون يمرون بأحداثهم المعاصرة ومتغيراتهم الحثيثة، وهو الدرس الجامع الذي يكون من محراب الجهاد وكفى، فمن محرابه تنطلق قوافل المجاهدين، وبالجهاد ترد عاديات الطغيان؛ فيكون الدين لله، ولا تكون فتنة.
جهاد بالنفس والمال واللسان والسنان، ويبقى دين محمد صلى الله عليه وسلم مهيمناً.
فيا أمة الإسلام في كل زمان ومكان: أجمعوا أمركم، وذُودوا عن دينكم ومحارمكم؛ فإن من لا يذد عن دينه ومحارمه ولا ينتصر لدينه ذليل حقير غير حقيق بالعزة؛ بل لا تحلو له الحياة.
اصبروا، وصابروا، ورابطوا، وبما تمسك به أسلافكم تمسكوا، جاهدوا كجهادهم، واصبروا كصبرهم، وتوكلوا على الله، وثقوا بالله واطمئنوا، وأبشروا، والعاقبة للمتقين: {ولَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173].
خذوا إيمان إبراهيم تنبت لكم في النار جنات النعي
يا أمة الإسلام فانتفضي فإن الجرح غائر
والجمع مُذْ فقد العقيدة فهو مضطرب وحائر
وجريحنا الأقصى هوى وديس بالحوافر
فهناك تعبث في جوانب أرضه عُصَب الكوافر
وتسومهم ذلا وخسفاً كالبهائم في الحظائر
يا أمتي فلتنفضي عنك الغبار وتستعدي
ولتنفري نحو الجهاد بكل إقدام وجدِّ
إن الجهاد به نرد لَجاجة الخصم الألَدِِّ
وبدونه نبقى على ما نحن من أخذ وردِّ
يا رب أيقِظْ أمتي حتى تعود إلى رحابك
واهدِ الولاة لكي يسوسوها بوحي من جنابك
وأمدها بالنصر ليس النصر إلا من جنابك
هذه بعض دروس من هذه الغزاة العظيمة، غيض من فيض، وقطر من بحر، وكتب السيرة تفيض بذلك؛ فاتقوا الله، وعوها، وطريق أسلافكم اسلكوها، عودوا فالعود أحمد، وصلوا وسلموا على نبيكم محمد، فقد أمرتم بالصلاة عليه: {إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين.
وأذل الشرك والمشركين، اللهم أصلح من في صلاحه صلاح للإسلام وللمسلمين.(22/12)
صفة الجنة
الجنة سلعة الله الغالية، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وقد ورد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ذكر صفة الجنة وما أعده الله لأهلها.
وهنا بيان لذلك مع ذكر قصص لمن شمر عن ساعد الجد وعمل ليكون من أهل الجنة.(23/1)
الغاية من خلق الإنسان
الحمد لك يا الله جعلت الفردوس لعبادك المؤمنين نُزُلا؛ فلك الحمد أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، الحمد لله الذي يسَّرها لنا، ويسَّر الأعمال الصالحة لنا؛ فلم يتخذ السالكون إلى الله سواها شغلاً، وسهل لهم سبلها فلم يسلكوا سواها سبلاً، خلقها قبل أن يخلقهم، وأسكنهم إياها قبل أن يوجدهم، وحفَّها بالمكاره ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، وأودعها ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وفوق ذلك: {خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا} [الكهف:108].
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، شهادة أدَّخرها لي ولكم إلى يوم المصير، شهادة عبده وابن عبده وابن أَمَتِه، ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته وفضله ومنِّه وكرمه، ولا مطمع له في الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا بمنِّه وكرمه ورحمته.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومحجة للسالكين، وحجة على العباد أجمعين، شرح الله به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صمّاً وقلوباً غلفاً:
قدْ كانَ هذا الكونُ قبلَ وُصولِهِ شُؤْماً لظالِمِهِ وللمظلومِ
لمَّا أَطَلَّ محمدٌ زَكَتِ الرُّبا واخضرَّ في البُسْتانِ كلُّ هشيمِ
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته في روضة من رياض الجنة، لو أذن الله -عز وجل- لنا أن ننظر من يحفُّنا في هذا المكان لرأينا الملائكة تحفُّنا، ولرأينا السكينة تتنزل علينا، ولرأينا الرحمة تغشانا، وفوق ذلك كله أن الله -عز وجل- يذكرنا في ملئه الأعلى سبحانه وتعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة:152] {أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
فيا عبد الله! طوبى لك يوم جئت إلى هذا البيت في ضيافة الرحمن لتنتفع بذكر قد سمعته ولكن: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55].
فَأَكْثِرْ ذكرَهُ في الأرضِ دأباً لِتُذْكَرَ في السماءِ إذا ذُكِرْتَا
ونَادِ إذَا سَجدتَّ لَهُ اعتِرافاً بِمَا نَاداهُ ذُو النونِ بنُ متَّى
تفِتُّ فؤادَك الأيامُ فتّاً وتَنْحَتُ جِسمَكَ السَّاعات نَحْتاً
وتدْعُوكَ المنونُ دعاءَ صدقٍ ألا يَا صَاحِ أنْتَ أرِيدُ أنتا
فلا تقل الصِّبَا فيه مَجَالٌ وفكِّرْ كَمْ صبيٍّ قد دَفَنْتَا
إذا مَا لَمْ يُفِدْك العلمُ شيئاً فليتَكَ ثمَّ ليتَك ما عَلِمْتَا
وإنْ ألقَاكَ فهمُكَ في مَغَاوٍ فليتكَ ثمَّ ليتَكَ ما فَهمْتا
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته مرة أخرى، وأنتقل بكم إلى قول الحق تبارك وتعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [المؤمنون:115 - 116].
لا إله إلا الله! لم يخلق الناس عبثاً ولم يتركهم سدى؛ بل خلقوا لأمر عظيم وخطب جسيم؛ عرض على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنَه وأشفقْنَ منه، وحمله الإنسان على ضعفه وعجزه ظلماً وجهلاً فانقسم الحاملون له إلى فريقيْن: فريق عطَّل تفكيره، وانساق وراء شهواته وملذاته؛ كل همِّه إرضاء نزواته وإشباع غرائزه؛ بشرٌ في مسلاخ دواب -أجار الله هذه الوجوه أن تكون من هذا الصنف- نظرتهم قاصرة وعلمهم أقصر: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً منَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] {نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19].
أما الفريق الآخر -وأرجو الله أن أكون وأنتم منهم- آمن بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيّاً، جعل خوف الله في قلبه، وجعل خشية الله نصب عينيْه، فأتمر بأمر الله وانتهى عن نهيه وراقبه حق المراقبة، وقال عند سماع أوامره: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285].
ومن كمال الألوهية لله سبحانه وتعالى أن جعل للناس يوماً آخر إليه فيه يرجعون، ويوفَّون ما اكتسبوه بالقسطاس المستقيم، فيصدرون من أرض المحشر راضين بعدل الله المطلق: {أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:8] بلى.
فائزين يُزفون إلى الجنة: {فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمرن:107].
وآخرون خاسرون يساقون إلى النار فهم في العذاب محضرون، يبين ذلك قول الله جل وعلا: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:106 - 107].
أيها الإخوة في الله: والإيمان بيوم الجزاء وباليوم الآخر ركن هام من أركان الإيمان؛ من لم يؤمن به لم يؤمن بالله جل وعلا.
لا يتم إيمان عبد حتى يؤمن باليوم الآخر.
وعرض الجنة ونعيمها والنار وجحيمها أسلوب ناجح لإصلاح النفوس ولهدايتها ولتهذيبها ولكسر كبريائها أحياناً، ولحبسها أحياناً، فمن الناس من ينفعه الترغيب، ومن الناس من ينفعه الترهيب، ومن الناس من ينتفع بالاثنين معاً، وكل ذلك ورد في كلام الله جل وعلا الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تقدم أحدهما مرة، وتأخر أحدهما مرة، واقْترَنَا مرة أخرى، وكل ذلك في كتاب الله جل وعلا.
ومن فضل الله عز وجل أن جلَّى لنا أمر الجنة، ووصف نعيمها، وأكَّد خلودها وكمالها من غير نكد ولا تنغيص ولا نقص، لا حر ولا برد، لا تعب ولا صخب ولا نصب، لا عجز ولا هرم؛ غمسة في الجنة تنسي كل شقاء في هذه الحياة، ثم أظهر -سبحانه- في الجانب الآخر حقيقة النار وعذابها؛ لهيب يتصاعد، وصراخ مفزع، وخوف وحميم وزقوم، وتقريع وتوبيخ وأهوال، وشهيق وزفير؛ غمسة فيها تنسي كل نعيم في هذه الحياة، نسأل الله أن يجير هذه الوجوه.
ذلك كله لماذا يا عباد الله؟
ليسعى المؤمنون إلى الجنة بلهفة وشوق مشرئبين إلى نعيمها ورياضها وقصورها، ذلك كله -أيضاً- لينأى الخلق عن النار بحذر وخوف، كل ذلك: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42] كل ذلك: {لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال:37].
فيا أيها الإخوة في الله: تلك مقدمة ذكرتها لابد منها.(23/2)
الترغيب في الجنة
أما وقفتنا هذه الليلة فوقفة -بإذن ربنا- مع الجانب المشرق ومع الجانب المفرح المشوق، مع الجنة ترغيباً لا ترهيباً، وحفزاً للهمم لتطلب ما عند الله، وتدفع الثمن ولو كان الدماء والأوقات والأموال وكل شيء، فحيهلاً بكم -يا عباد الله- إلى الجنة ورياضها وقصورها ودورها وحورها لنتعرف عليها؛ علَّنا أن نكون من أهلها، ولنعرف من هم أهلها؛ علنا أن نكون متشبهين بهم: إن التشبه بالكرام فلاح.
ونعرف السبل الموصلة إليها فنسلكها لنكون مع الذين أنعم الله عليهم، ففي رياضها نعيش وما راءٍ كمن سمع، وما مخبر كمعاين، أسكننا الله وإياكم فردوسها الأعلى برحمته ومنِّه وكرمه.(23/3)
الجنة ما الجنة؟
الجنة ما الجنة؟!
والفردوس ما الفردوس؟!
لا خطر لها، لا مثيل لها، ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مضطرد، وثمرة نضيجة، وحلل كثيرة، وزوجة حسناء جميلة، وفاكهة وخضرة، وحبرة ونعمة، في محلة عالية بهية، في جنة عدن عند مليك مقتدر.
بناها الله تعالى لعباده المتقين أحسن بناء، وملأها من كرامته ورحمته ورضوانه؛ فبناؤها أحسن وأجمل وأتم وأكمل بناء، وكيف لا يكون ذلك وهي لبنة من ذهب ولبنة من فضة، بلاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت والجوهر، وترابها الزعفران، وسقفها عرش الرحمن؛ لا إله إلا هو! غرفها مبنية يُرى ظاهرها من باطنها، ويرى باطنها من ظاهرها، من دخلها ينعم لا يبأس، ويخلد لا يموت، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه.
أما أشجارها، فما أشجارها؟
ما من شجرة إلا ولها ساق من ذهب، ولها ساق من فضة.
أما ثمارها فألين من الزبد، وأحلى من العسل.
وأما ورقها فلا إله إلا الله! أحسن وأرق من رقائق الحلل.
أما تصفيق الرياح لذوائب أغصان أشجار الجنة، فيستفز من لا يطرب بالطرب.
ظل الشجرة يسير الراكب فيه مائة عام لا يقطعه؛ فأسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم ممن يستظل بظلال أشجارها، إنه غفور رحيم.
أما أنهارها فما أنهارها؟
أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى.
وفوق ذلك ظلُّها ممدودٌ، وطلحُها منضود، تعلمون -يا عباد الله- أن الطلح له شوك، يقول أحد الأعراب للنبي -صلى الله عليه وسلم-: {ذُكر في الجنة شجرة ما نعرف منها إلا الأذى -يقصد شوكها- قال: ألم تسمع لقول الله تعالى: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة:29]} نضد هذا الشوك، فأنبت مكان كل شوكة ثمرة ألْيَن من الزبد، وأحلى من العسل، فضلا من الله ومِنَّة.
أما ماؤها -يا عباد الله- فمسكوب، حدائق وأعناب وكواعب أتراب.
أما طعام أهلها فلا إله إلا الله! فاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، شرابهم التسنيم والزنجبيل والكافور.
أما آنيتهم فالذهب والفضة في صفاء القوارير، وأَجْمِلْ بتلك الآنية!
فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذُّ الأعين، وفوق ذلك: مَن دخلها يخلد فيها أبداً.
فيها روح وريحان ورب راضٍ غير غضبان.
قد ذُلِّلت قطوفُها تذليلاً، يتكئ أهلها على الأرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً، ولا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلاماً.
فيها مائة درجة، والناس في الجنة على درجات؛ منهم من يبلغ أعلى الجنة، ومنهم من هو في وسط الجنة، ومنهم من هو في ربض الجنة، لو أن العالمين اجتمعوا في درجة واحدة لوسعتهم.
سعة أبوابها: ما بين المصراعين مسيرة أربعين عاماً، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام.
فأسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يزاحم على تلك المصاريع.
أما ما للمؤمن فيها: فللمؤمن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوَّفة طولها في السماء ستون ميلاً، له أهلون يطوف على بعضهم فلا يرى بعضهم بعضاً، فضلاً من الله ونعمة.
أما لباس أهلها فلا تَسَل عن لباسهم؛ حرَّم عليهم الحرير والذهب في هذه الحياة وجعل لباسهم هناك من الحرير والذهب، وأنعم بذاك اللباس!
وأما صورتهم فأهلها جميعاً على صورة القمر ليلة البدر؛ فلا إله إلا الله، أي جمال يكون ذاك الجمال!!! حليهم وأساورهم من ذهب وفضة ولؤلؤ وزبرجد وياقوت، من لذة إلى لذة إلى لذة، لا يجوعون ولا يظمئون، ولا ينصبون، ولا يشبعون، ولا يتعبون، وإنما لذَّات فوق لذّات: {فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف:71].
{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ من معِينٍ} [الواقعة:17 - 18].
{إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} [الإنسان:19 - 20].
أما أسنان أهل الجنة: فأبناء ثلاث وثلاثين في سن الشباب، وما أجمل هذا السن يا عباد الله!
أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ} [هود:108] في سعادة أبدية.
أما أمشاطهم فالذهب، وأما رشحهم فالمسك، وأما مجامرهم فالألوَّة، وهو أفضل الطيب وأفضل العود.
وأما أزواجهم فالحور العين، ولنا وقفة مع الحور العين يا عباد الله!(23/4)
أدنى أهل الجنة منزلة وأعلاهم
أما أدنى أهلها فيسير في ملكه وقصوره مسيرة ألفي عام؛ فما بالكم بأعلى أهل الجنة، إذا كان أدناهم كذلك؟ واسمعوا كما في صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {سأل موسى عليه السلام ربه: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ فقال الحكيم سبحانه وتعالى: رجل يأتي بعد ما أُدخل أهل الجنةِ الجنةَ، فيخيل إليه أنها ملأى، فيقول الله عز وجل له: ادخل الجنة.
فيقول: يا رب! كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟! فيقول الله عز وجل: ادخل الجنة.
فيقول: كيف وقد أخذوا منازلهم، وأخذوا أخذاتهم، وأخذوا نعيمهم -يخيل إليه أنها ملأى- فيقول الله عز وجل له: ألا ترضى أن يكون لك مثل مُلْك مَلِكٍ من ملوك الدنيا؟ قال: بلى يا رب، وكيف لا أرضى بذلك؟! قال: فإن لك ذلك ومثله، ومثله، ومثله، ومثله، حتى بلغ الخامسة، فقال هذا العبد: يا رب رضيت رضيت، قال فإن لك ذلك، ولك عشرة أمثاله، ولك ما اشتهت عينك، ولذَّت نفسك، وأنت فيها خالد: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم من قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]}.
وفي الحديث الآخر الذي روي في الصحيحين: {أن الله عز وجل بعد أن يقضي بين العباد، يبقى رجل مقبل بوجهه على النار، قد نجا منها، ولكنه لم يدخل الجنة، ولم يقدم إلى باب الجنة، فيقف، فيقول: يا رب! برحمتك اصرف وجهي عن النار، فقد قشبني ريحها، وآذاني وسمَّني، وأحرقني ذكاؤها ولهبها، فيدعو ما شاء الله عز وجل أن يدعو، فيقول الله عز وجل له: هل عسيت إن صرفت وجهك عن النار ألا تسألني غير ذلك؟ قال: وعزتك وجلالك! لا أسألك غير ذلك، فاصرف وجهي عن النار.
فيصرف الله الرحيم الحليم الغفور وجهه عن النار.
فيبقى ما شاء الله أن يبقى ساكتاً ثم يسأل الله مرة أخرى، فيقول: يا رب! برحمتك قدِّمني إلى باب الجنة، فيقول الله: ويلك يا بن آدم ما أغدرك، وما أظلمك! ألم تُعطِ العهود والمواثيق ألا تسألني غير ذلك؟ قال: يا رب! برحمتك قدمني إلى باب الجنة.
قال: هل عسيت إن أعطيتك ما سألت ألا تسألني غير ذلك؟ قال: وعزتك وجلالك! لا أسألك غير ذلك.
فيقدمه الله عز وجل إلى باب الجنة.
فيبقى هناك، ويسكت ما شاء الله أن يسكت، ثم تنفتح له الجنة، فيرى حورها، ويرى قصورها، ويرى رياضها، ويرى نعيمها، فيقول: يا رب! برحمتك أدخلني الجنة.
فيقول الله: ويلك يا بن آدم، ما أغدرك! ما أظلمك! ألم تعط العهود والمواثيق ألا تسألني غير ذلك.
قال: يا رب! برحمتك أدخلني الجنة.
قال: هل عسيت إن أدخلتك ألا تسألني غير ذلك؟ قال: وعزتك وجلالك! لا أسأل غير ذلك، قال الله عز وجل ادخل الجنة -برحمته وكرمه ومَنِّه- فيدخل الجنة فيكفيه هذا.
فيقول الله عز وجل له: تمنَّ يا عبدي فيتمنى، ثم يتمنى، ثم يتمنى، ويذكره الله -عز وجل- رحمة منه وفضلاً بالأماني التي يتمناها حتى تنقطع به الأماني، ثم يقول له: تَمنَّ، قال: لا أريد شيئاً يا رب! قال: فإن لك ما أخذت، ولك عشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك، ولذَّت عينك، وأنت فيها خالد: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]}
{يقول موسى -في الحديث الأول-: فما أعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]} فلا إله إلا الله! ما أرحم الله! وما ألطف الله! وما أحلم الله! نسأله برحمته التي وسعت كل شيء أن يرحمنا برحمته، سبحانه وبحمده!
سُبحَانَ مَنْ يَعفُو وَنَهْفُو دَائِماً ولا يزَل مهما هفا العبد عَفَا
يعطي الذي يخطى ولا يمنعه جلاله عن العطا لذي الخطا
خلق الله الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، ثم أنزل إلى الأرض أو جزءاً واحداً من هذه الرحمة؛ فبه يتراحم الخلق كلهم، إنسهم وجِنُّهم وعجماواتهم ودوابهم وبهائمهم؛ فإذا كان يوم القيامة رفع الله هذه الرحمة إلى التسع والتسعين عنده جل جلاله، فيتطاول إبليس -وهو في الموقف- بعنقه يظن أن رحمة الله سَتَسَعه في ذلك اليوم، فيا من رحمته وسعت كل شيء؛ ارحمنا برحمتك.
والله! لو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة لم ييْئسْ من الجنة، ولَعمِلَ للجنة.
ووالله! لو يعلم المؤمن ما أعد الله من العذاب للكافرين لم يأمن النار أبداً حتى يضع أول قدم من أقدامه في الجنة.
إخوتي في الله: هذا أدنى أهل الجنة وأعلاهم.(23/5)
أزواج أهل الجنة
كأني بكم تقولون: ما أزواجهم؟
وأقول لكم: لا إله إلا الله! ماذا يصف الواصفون في أزواج أهل الجنة، إنهن الحور، وما الحور يا عباد الله؟
كواعب أتراب، لهن خدود كالورد والتفاح، ونهود كالرمان، وثغور كاللؤلؤ المنظوم، فيا له من نعيم، وأي نعيم لمن فاز بحوريات أهل الجنة! قدْ رقَّ خصر الواحدة منهن، وحاجبها وأنفها، وطال قوامها وعنقها وشعرها، تجري الشمس من محاسن وجهها إذا برزت، ويضيء البرق من بين ثناياها إذا ابتسمت، إذا قابلت زوجها، فقل ما تشاء في تقابل الشمس والقمر! إن حادثت فما ظنك بمحادثة المحبين! وإن ضمها فما ظنك بتعانق الغصنين!
يرى وجهه في صحن خدِّها، ويرى مخ ساقها من وراء لحمها وعظمها وجلدها وعصبها وحُللها، لو طلعت على أهل الدنيا لملأت ما بين السماوات والأرض ريحاً، ولاستنطقت أفواه الخلائق تسبيحاً وتهليلاً وتكبيراً.
لو طلعت لقالوا: لا إله إلا الله! وسبحان الله والحمد لله والله أكبر!
لو طلعت لتزخرف لها ما بين السماوات والأرض، ولأغمضت عن غيرها كل عين، ولطمست ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم، ولآمن مَن على ظهر الأرض بالله الحي القيوم.
نصيفها -أي: خمارها- على رأسها خير من الدنيا وما فيها، لا تزداد على طول الدهور والأحقاب إلا حسناً وجمالاً، مبرأة من الحمل والولادة والحيض والنفاس، مطهرة من المخاط والبصاق والبول والغائط وسائر الأدناس، لا يفنى شبابها، ولا تبلى ثيابها، لا يُمل طيب وصالها، قد قصرت طرفها على زوجها؛ فهن قاصرات الطرف، لا تطمح لأحد سوى زوجها، إن نظر إليها سرَّته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب حفظته؛ فهي معه وهو معها في غاية الأمان، لم يطمثها قبله إنس ولا جان.
كلما نظرت إليه ملأت قلبه سروراً، وكلما حدثته ملأت أذنه لؤلؤاً منظوماً، وإذا برزت ملأت القصر والغرفة نوراً.
هن الخيرات الحسان، هن العُرُب المتحببات إلى الأزواج.
ما ظنُّكم -يا أيها الإخوة في الله- بامرأة إذا ضحكت أضاءت الجنة كلها من ضحكها، إذا حاضرت زوجها فيا لذة المحاضرة! ويا لذة الكلام! وإن خاطرتْه فيا لذة المخاطرة والمعانقة! وإن كلمته فيا لذة الأسماع! فحديثها السحر الحلال.
إن طال لم يملل وإن هي حدثت ودَّ المُحَدِّثُ أَنَّهَا لَمْ تُوجِزِ
سبحان من صورها! سبحان من عدلها! سبحان من أنشأها! سبحان من جعلها للمؤمنين الصادقين! سبحان من جمعني وإياكم في روضة من رياض الجنة، وأسأل الله أن يجمعنا وإياكم في روضة من رياض الجنة عنده.(23/6)
غناء الجنة
إن غنَّت هذه الحورية فيا لذة الأسماع! ليس كغنائنا؛ فُحش وخنا ومجون وتحلل، وبعضنا -يوم انتكست بصيرته- يأخذ هذا الغناء ليدخله إلى بيته، ليفسد بيته، ولينشر الفحش في بيته، وليخرج ملائكة الرحمن من بيته، وليدعو إلى الرذيلة في بيته، وينسى أن هناك غناء قد يحرمه إن لم يتُب إلى الله جل وعلا.
إن غنَّت الحورية فيا لذة الأسماع والأبصار! وإن قبَّلت فلا شيء أشهى من التقبيل، وإن آنست فيا لذة الأُنس بسماع الغناء والكلام والمحاضرة، هؤلاء حوريات أهل الجنة الذين أنشأهم الله في الجنة إنشاءً.
لكن هناك حوراً من نساء أهل الدنيا صمن، وصلَّين، ووحدن وتصدقن، وقمن بالتكاليف كلها يكنَّ في الجنة أفضل من حوريات أهل الجنة، فضلاً من الله ونعمة لنساء أهل الدنيا، فطوبى لامرأة غضت بصرها عن محارم الله، وطوبى لامرأة اتجهت إلى الله لتكون أفضل من حوريات أهل الجنة الذين أنشأهم الله في الجنة إنشاء.
وأقف معكم ومع ابن الجوزي عليه رحمة الله في - رياض السامعين - وهو يصف مشهداً من مشاهد نعيم أهل الجنة، حتى إنه ليتخايل ذلك النعيم، ويقول: والله إني لأتخيل دخول أهل الجنةِ الجنةَ وخلودهم فيها بلا تنكيد ولا تعب ولا نصب ولا صخب، يقول: فأكاد أطيش ويكاد طبعي يضيق عن تصديق ذلك لولا أن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ضمِنه لنا.
انظروا إليه وهو يصف هذا المشهد، يقول: يا أيها الإخوة! بينما رجل من أهل الجنة يتنعم فيما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وإذا ببرق يضيء في الجنة، وهو مع حورية من حوريات أهل الجنة يتنعم معها، قال: فيرفع رأسه فإذا هو بحورية أجمل من التي بين يديه، وإذا بها تقول: يا ولي الله! أما لنا فيك دولة؟ أما لنا فيك نصيب؟
تعرض خدماتها عليه، تعرض نفسها عليه، فيقول: بالله من أنت؟
قالت: أنا ممن قال الله فيهن: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] وكل ما في الجنة مُذلل لأهل الجنة، فيطير بسريره إليها، فيأتي وإذا هي تضْعُفُ بسبعين ألف جزء من النور عن التي كانت بين يديه هناك، فيتعجب ويقول: لم؟!
قالت: لأنني صليت وصمت وعبدت الله، أنا من نساء أهل الدنيا، لم أتزوج في الدنيا؛ فأنا أعرض نفسي عليك.
قال: أو أنت لي؟!
قالت: نعم.
جزاء من الله لك، وجزاء من الله لي.
قال: فيعتنقها أربعين عاماً لا تمله ولا يملها، تقف بين يديْه، وفي رجليْها خلاخل من ياقوت، إذا مشت سمع من خلاخلها صفير صوت كل طير في الجنة.
فلا إله إلا الله! أي نعيم هذا النعيم؟!
وهو يعتنقها ينظر ليدها اليمنى فإذا هو مكتوب عليها: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر:74].
يقول: مكتوب بالنور على اليمنى {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر:74] وعلى اليسرى: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر:34] أما كفُّها فألْيَن من المخ، يُشم من رائحة كفها رائحة كل طيب في الجنة، وهي تمشي بين يديه، ثم يتمنى أن يمشين مشيات ومشيات؛ لأن كل مشية للحورية لها لذة ونعيم من نوع خاص، قال: فيتمنى أن تمشي، فيقول لها: اشتقت إلى مشيتك، فيكون معها سبعون ألف وصيفة -كما يقول ابن الجوزي في رياض السامعين - قال: فيمشون معها بسبعين ألف مشية فيضع الله لهم روضة من الكافور وروضة أخرى من الزعفران، فيمشين بسبعين ألف مشية في هذه الروضة ويرجعن بسبعين ألف مشية في الروضة الأخرى، لو قضى الله الموت عليه طرباً من مشيتهن لمات، ولكن خلود في الجنة ولا موت، لو تَفَلَتْ في بحار الدنيا لأصبحت بحار الدنيا كلها عذبة من تفال هذه الحورية.
ثم يشتاق بعد ذلك إلى البخور، وكل ما في الجنة رائحة طيبة، قال: فيأتين بمجامر من در فيها بخور من غير نار، فيمشين به تمشي رائحته في الجنة مسيرة مائة عام.
ثم يشتهي الغناء يا من صان سمعه عن الغناء! يا من نزَّه بيته وأهله وأذنه التي أنعم الله به عليه عن الغناء! يشتهي إلى الغناء فماذا يكون الأمر؟ كيف يكون الأمر يوم يشتهي الغناء يا أيها الإخوة؟ يقول: فيجتمعن قسمين من النساء المؤمنات اللائي كن في الدنيا قسم، وقسم آخر من نساء وحوريات أهل الجنة اللائي أنشأهن الله عز وجل في الجنة إنشاء.
فاسمع إلى كلمات هؤلاء واسمع إلى كلمات هؤلاء، أما أهل الجنة اللائي أُنشئن في الجنة فيقلن:
نحنُ الخَالِداتُ فَلا يَمُتْنَ نحنُ الرَّاضِياتُ فَلا يسخطن
نحن المقيماتُ فلا يظعنَّ نحنُ النَّاعماتُ فلا يبأسنَ
نحنُ الحورُ الحِسَان، أزواجُ قومٍ كِرَامٍ طوبى لمن كان لنا وكنا له
فيرد نساء أهل الدنيا وحوريات أهل الجنة منهن:
نحنُ المُصَلِّياتُ وما صّلَّيْتُنَّ نحنُ الصَّائِماتُ وَمَا صُمْتُنَّ
نحنُ المُتصدقاتُ ومَا تَصَدَقْتنَّ نحنُ العَابِدَاتُ ومَا عَبَدْتُّنَّ
تقول عائشة رضي الله عنها: فغلبنهن.
يا من سمع هذه الكلمات! لا فحش ولا خنا، لا فجور ولا تحلل، وليس كهذا الغناء، وإنما خلود بلا موت، إقامة بلا ظعن، نعيم بلا بأس، صلاة وصدقة وصيام، وكل يفخر بهذا النعيم.
أما موسيقاهن يا من نزَّه نفسه عن الموسيقى في هذه الحياة! يرسل الله ريحه فتهز ذوائب أغصان أشجار الجنة فتحدث صوتاً يشبه صفير كل صوت طير في الجنة؛ فلا تسل عن ذاك النعيم، وهن يغنين بأصواتهن الرخيمات اللذيذات، لو قضى الله الموت على أهل الجنة طرباً بهذا الغناء لماتوا، ولكن خلود بلا موت.
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الإنسان كالنغمات بالأوزان
يا لذة الأسماع لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان
خابت أذن تركت ذاك النعيم، وتلذَّذت بالأوتار والعيدان المحرمة: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة:61] هذا مشهد من مشاهد أهل الجنة، جعلنا الله وإياكم من أهل الجنة.(23/7)
رجال تنافسوا علىالحور
لهذا كله بادر المبادرون، وتنافس المتنافسون يوم سمعوا بما سمعوا من هذا الوصف، ماذا كان منهم يا عباد الله؟
أحدهم قال: لأشترين حورية من الحور العين بثلاثين ختمة للقرآن لا أنام حتى أختم هذه الثلاثين ختمة، ويختم تسعاً وعشرين فيغلبه النوم، فينام فيرى حورية من حوريات أهل الجنة تأتي فتركله برجلها، وتقول:
أتخطُبُ مثْلِي وعنِّي تَنَامُ ونومُ المُحبِّينَ عنِّي حَرَام
لأنا خُلِقْنَا لكلِّ امرئٍ كَثيرِ الصلاةِ كثيرِ القِيام
فقام بعدها، وأكمل ذلك واجتهد، وقال: برحمة الله لأجتهدن إلى أن أنال هذه الحورية.
وأبو سليمان الداراني -عليه رحمة الله- ينام ليلة من الليالي، وهو عابد زاهد عبَد الله، وأخلص لله، وصدق مع الله، يمني نفسه بما في الجنة من نعيم، فيقول في ليلة من الليالي نائماً -والنفس أحياناً تحدث بما ترغب وبما تريد وبما تحب- قال: فرأيت -فيما يرى النائم- كأن حورية جاءتني، وقالت: ما هكذا يفعل الصالحون يا أبا سليمان؟! أتنام وأنا أربى لك في الخدور من خمسمائة عام؟!
لا إله إلا الله! فما نام بعدها إلا قليلاً؛ جد وطلب ليلحق بها.
وأبو سليمان كانت له رحلة الحج المعروفة، والتي ذكرها صاحب حادي الأرواح -عليه رحمة الله- يقول: رافقه شاب عراقي في طريقه إلى الحج، قال: فما رأيت هذا الشاب إلا باكياً أو تالياً أو مصلياً؛ نركب فيتلو القرآن، ننزل فنصلي فيصلي، ويذكر الله، لا يتكلم بكلام إلا بذكر الله أو بالصلاة والقيام، قال: فقلت: لا أسأله ولا أشغله، وعندما رجعنا من رحلة الحج، ووصلنا إلى بلاد العراق.
قال: قلت له: أيها الشاب أسألك بالله؛ ما الذي هيَّجك على العبادة لا تفتر عنها؟
قال: يا أبا سليمان! أما إن سألتني؛ فإني رأيت -فيما يرى النائم- حورية في قصر من ذهب، وقصر من فضة، له شرفتان من زبرجد وياقوت، وبينهما هذه الحورية مرخية شعرها لم أرَ جمالاً كذاك الجمال، وهي تقول لي: جِدّ إلى الله في طلبي؛ فإني أربى لك في الخدور من خمسمائة عام، فوالله برحمة الله! وأقسم على الله برحمته! لأجتهدنَّ حتى أصلها أو أهلك دونها.
والله! لا أرتاح حتى أبلغ تلك المنزلة.
هيَّجهم ذكر الجنة إلى الجنة، طيَّرت الجنة نوم العابدين من جفونهم، فتركوا الفراش، واتجهوا إلى الله في أسحارهم وفي لياليهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16] يبيتون لربهم سجداً وقياماً.
يأتي أحدهم، فيفرش فراشه، ثم يضع يده عليه، ويقول: والله! إنك لَلَيِّنٌ، لكن فراش الجنة ألْيَن، فيقوم ليله كله لا ينام.
هكذا -يا عباد الله- جَدُّوا إلى الله؛ لأنهم علموا ما عند الله.(23/8)
سوق أهل الجنة
وكأني بكم تقولون: هل في الجنة سوق؟
ولا إله إلا الله -أيها الإخوة- كيف حال أسواقنا هذه الأيام؟
أسواقنا أشغلت المصلين عن صلاتهم، وأشغلتهم عن ذكر الله حتى يوم يُذكر الله يهربون من المساجد إلى الأسواق، إلى مجتمع الشياطين، أسواقنا فيها ما لا يعلمه إلا الله، ونسأل الله أن يعدل حال هذه الأسواق، وأن يرد الأمة إليه رداً جميلاً؛ فما حالها في أسواقها بل حالها سيء في كثير وكثير، لكن نسأله برحمته أن يردنا إليه رداً جميلاً.
وأهل الجنة لهم سوق لكن أي سوق يا عباد الله؟
سوقهم يوم الجمعة، فيوم الجمعة من شرفه أنه سوق -أيضاً- لأهل الجنة؛ فيأتون كل جمعة، فيركبون نجائبهم، ودوابهم من ذهب وفضة ولؤلؤ إلى كثبان المسك، فيجلسون عليها، ثم يأتيهم الريح، فتأخذ من كثبان المسك، فترمي في وجوههم، وفي نواصي خيلهم ونواصي دوابهم، فيرجعون إلى أهلهم، وقد ازدادوا حسناً وجمالاً، فيقول أهلهم وزوجاتهم من الحوريات: والله لقد ازددتم حسناً وجمالاً، فيقولون: وأنتم -والله- بعدنا لقد ازددتم حسناً وجمالاً.
هذا هو سوق أهل الجنة، سوق أهل الجنة يا من أشغله سوق الدنيا عن طلب سوق الجنة! اتق الله، وتاجر مع الله، وإياك إياك أن تقصر رجلك عن مثل هذه المجتمعات، ومثل هذه الروضات، كم من إنسان قصر رجله عن مثل هذا المسجد، فقصرت به قدمه وزلَّت به من على الصراط إلى كلاليب النار.
نسأل الله العافية والسلامة.
يُعد الله -عز وجل- للذين يأتون إلى المساجد نزلاً في الجنة كلما غدوا وكلما راحوا فضلاً منه ونعمة.
نعيم الجنة لا ينفد، نعيم الجنة لا يبيد، نعيم الجنة لا يوصف، وإن من أعظم نعيم أهل الجنة -يا أيها الإخوة- حلول رضوان الله جل وعلا على عباده في الجنة، هذا من أعظم النعيم الذي ينالونه، وأعظم من ذلك التلذذ بالنظر إلى وجه الله الكريم جلّ جلاله وتقدست أسماؤه.
ذلك اليوم يسمى يوم المزيد، يوم زيارة العزيز الحميد، تصور نفسك والله -عز وجل- يستزيرك ويزورك، لا إله إلا الله!
استمع ومَثَّل نفسك في روضات الجنة يوم يأتيك المنادي ينادي أنت وأهل الجنة: يا أهل الجنة! إن ربكم يستزيركم، فحي على زيارته.
لا إله إلا الله! من الزائر جل جلاله، وتقدست أسماؤه، سبحانه لا إله إلا هو! يقولون: سمعاً وطاعة.
وينهضون إلى الزيارة مبادرين، وإذ بالنجائب أعدت لهم، فيستوون على ظهورها، وينهضون، فيستوون إلى الوادي الأفيح المبارك على كثبان المسك الذي جُعل لهم موعداً، ثم يأمر الرب تبارك وتعالى بكرسيه فيُنصب، ثم يأمر بمنابر لأهل الجنة منابر منوعة على قدر الأعمال من ذهب، من فضة، من لؤلؤ، من نور، من ياقوت، من زبرجد، وأدناهم -وما فيهم دنيء- على كثبان المسك؛ فلا إله إلا الله! ما أعظم نعيم الله في الجنة!
حتى إذا استقروا في مجالسهم، واطمأنت بهم أماكنهم، نادى المنادي مرة: يا أهل الجنة! إن لكم موعداً عند الله يريد أن يُنجزكموه، فيقولون -وقد رضوا بما أتاهم من النعيم-: ألم يثقل موازيننا سبحانه وبحمده؟ ألم يزحزحنا عن النار؟ ألم يدخلنا الجنة؟ ألم يبيض وجوهنا؟ فبينا هم كذلك إذ سطع لهم نور أشرقت له الجنة، فرفعوا رءوسهم؛ فإذا الجبارجل جلاله وتقدست أسماؤه قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة! سلام عليكم، فيردون بصوت واحد: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام.
ثم يضحك الله لهم -يقول أحد الأعراب: لا نعدَم خيراً من رب يضحك- ثم يقول: يا أهل الجنة! يا من أطاعوني بالغيب ولم يروني هذا يوم المزيد؛ فسلوني.
فيقولون: ربنا قد رضينا فارض عنا.
قال: لو لم أرضَ عنكم لم أسكنكم جنتي، أحللت عليكم رضواني، لا أسخط عليكم أبداً، هذا يوم المزيد فسلوني.
لا إله إلا الله ما أكرم الله لا إله إلا الله ما أرحم الله!
يا أيها الإخوة: يعرض عليهم عرضاً، فيقولون: أرِنا وجهك نتلذذ بالنظر إليه، فيكشف لهم الرب جل جلاله الحجب، ويتجلى لهم، ويغشاهم من النور، ما لولا أن الله عز وجل قضى ألا يحترقوا لاحترقوا من نوره: {اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} [النور:35] لا يبقى أحد في ذلك المجلس إلا حاضره ربه محاضرة، وكلمه ربه كفاحاً بلا ترجمان.
يقول الله: ألم تعمل كذا في يوم كذا ألم تعمل كذا ألم تعمل كذا فيذكره ببعض غدراته وزلاته فيقول: يارب ألم تغفر لي، قال: بمغفرتي بلغت ما بلغت.
فيا لذة الأسماع بتلك المحاضرة! ويا قرة عيون الأبرار بالنظر إلى وجه الكريم الغفار {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23].
فكيف تعلم؟
فإن كنت لا تدرى فتلك مصيبة وإن كنت تدرى فالمصيبة أعظم
هذا بعض ما أعده الله عز وجل لنا من النعيم في الجنة، يجمع هذا كله قول المصطفى صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: {قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر وإن شئتم فاقرءوا: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]} إنها الجنة وكفى، إنها الفردوس وكفى، إنها طوبى وكفى.
فللَّه ما فِي حشْوِهَا من مَسرةٍ وأصناف لذَّاتٍ بها يَتَنَعَّمُ
وللهِ برد العَيشِ بيْنَ خِيامِها وَرَوْضَاتهَا والثَّغْرُ فِي الرَّوض يبسِمُ
وللهِ واديهَا الَّذِي هُوَ موعد المزيد لوفد الحب لو كنتَ منهُمُ
ولله أفْرَاحُ المحبِّينَ عندمَا يُخاطِبُهُم مَولاهُمُ ويُسلِّمُ
ولله كمْ حوريةٍ إنْ تبسمتْ أضاء لها نور من الفَجْرِ أعظمُ
فيَا لذَّةَ الأبصارِ إنْ هِيَ أقْبَلتْ ويا لذة الأسماع حين تكلم
فيا خاطِبَ الحسناءِ إنْ كنْتَ بَاغِياً فهذا زمانُ المَهرِ فَهْوَ المُقدَّمُ
فأقْدِمْ ولا تقنعْ بعيشٍ مُنغصٍ فَمَا فاز باللّذاتُ مَن ليس يَقْدُمُ
وإن ضاقتْ الدنيَا عليكَ بأسرِها ولَمْ يكن فيها مَنزِلٌ لك يُعْلَمُ
فحيَّ على جناتِ عدنٍ فإنَّها منازلُنَا الأُولَى وفيها المخيمُ(23/9)
رجال عملوا للجنة
يا أيها الإخوة في الله: لما علم الصالحون هذا النعيم، ورأوا أن الفرصة قائمة، وأن السوق رائجة، وأن الثمن الجنة؛ رفعوا رءوسهم فنظروا إلى الأعلام فإذا هي أعلام الجنة قد نصبت، فشمروا إليها، فماذا عملوا؟
قدموا أموالهم ودماءهم وأوقاتهم وكل ذرة ونفس من حياتهم ثمناً للجنة ففازوا وأفلحوا، يحدوهم في ذلك ترغيب المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى الجنة ونعيمها، يوم كان صلى الله عليه وسلم لا يضع جائزة إلا الجنة على أي عمل من الأعمال.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الأمثلة في الجوائز: {من يجهز جيش العسرة وله الجنة} {من يشتري بئر رومة وله الجنة} من يعمل كذا وله الجنة {من أقبل هذا اليوم ولم يدبر صادقاً محتسباً فله الجنة} فتجده يرفعهم إلى الجنة دائماً، لا يضع شيئاً مادياً عندنا دنيوياً -وإنما يرفعهم على زخرف الدنيا إلى الجنة ونعيمها.
أرأيتم إليه يوم يرسل خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه إليه قميصاً مخوصاً بالذهب، والقميص هذا للأكيدر ملك دومة الجندل، يوم ذهب إليه خالد فأخضعه واستأسره وأخذ قميصه الذي عليه وكان مخوصاً بالذهب -موشى بالذهب- فأرسله للمصطفى صلى الله عليه وسلم، يوم كنا نغزو ولا نغزى، يوم كنا نفرض شروطنا ولا تفرض علينا الشروط:
كم صرفتنا يد كنا نصرفها وبات يملكنا شعب ملكناه
رباه! ارفع ما بالأمة.
رباه! ارفع ما بالأمة فإنها قد ذلت وأي ذل! ولا رافع لهذا الذل إلا أنت سبحانك وبحمدك!
يا أيها الإخوة: يوم جاء النبي صلى الله عليه وسلم هذا القميص نظر الصحابة وتجمعوا وقالوا: قميص من ذهب، والواحد منهم ما يجد ما يستر به سوءته، فأعجبوا بهذا، فقام النبي صلى الله عليه وسلم ليرفعهم عن هذا الزخرف فقال -كما في البخاري -: {أتعجبون من هذا! لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منه} والله! لبعض ذاك المنديل خير من هذا عند الله جل وعلا، فكان يرفعهم فارتفعوا.(23/10)
أبو بكر من أهل الجنة
هاهو أولهم -وهو خير من دب على الثرى بعد الأنبياء والمرسلين- أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه الذي كان سنداً للمصطفى صلى الله عليه وسلم قدم ماله وأهله وكل شيء في سبيل الله يريد ما عند الله، فماذا قدم الله له من جائزة؟
اسمعوا إليه يوم يأتيه محمد صلى الله عليه وسلم يدعوه ويدعوني ويدعوك ويدعو كل إنسان إلى قيام الساعة فيقول: {قولوا لا إله إلا الله تفلحوا}.
يريد أن ينقذهم من النار، لكن بعض الناس كالفراش لا يزال يرى النور فيتركه ويرمي بنفسه في النار.
فيقول أبو بكر -ماذا قال؟ أنفكر أو ننظر في هذا الأمر-: ما جربت عليك كذباً، أشهد أنك رسول الله وأشهد أن لا إله إلا الله، قبل ذلك مُدَّ يدك أبايعك.
فكانت أول يد امتدت إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم هي يد أبي بكر رضي الله عنه الذي هضم حقه ولعنه بعض الذين أخذ الله سمعهم وأبصارهم، فرضي الله عنه وأرضاه ولعن من أبغضه وعاداه.
يا أيها الإخوة: هل وقف أبو بكر بعد أن قال لا إله إلا الله؟
لا والله! بل قام بعد ذلك كلما سمع أمراً للمصطفى صلى الله عليه وسلم بلغه، وجاءه الصادون عن سبيل الله -يوم أُسري بالنبي- يقول رسولك -كما تزعم- أنه ذهب وعاد في ليلة، ونحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس شهراً، كانوا يظنون أن أبا بكر سيقول: أما هذه فلا، قال: إن كان قال فقد صدق.
يا ليت ذلك عنوان لنا في كل لحظة من لحظاتنا؛ يوم نسمع أوامر المصطفى؛ يوم نسمع أحاديث المصطفى نقول: إن كان قال فقد صدق، سمعنا وأطعنا.
فهل اكتفى بالتصديق فقط؟ لا.
بل خرج من عند المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو لم يحفظ سوى بعض آيات من القرآن -لكنه رأى أن المسئولية عظيمة، وأن الخطب جسيم، وأن المؤمن له دور في بيته وفي مجتمعه، له دور سيسأله الله يوم يقف بين يديه: ماذا قدم لهذا الدين؟ وماذا عمل لهذا الدين؟ وعاد وقد أدخل ستة من العشرة المبشرين بالجنة في دين الله.
فلا إله إلا الله! يأتي يوم القيامة وقد أدخل في دين الله ستة من العشرة المبشرين بالجنة.
يأتي وهم في ميزانه يوم يلقى الله جل وعلا، وهل اكتفى بذلك؟
لا.
بل صَفَّى تجارته وأمواله -أربعين ألفاً- ثم أخذها، فإلى أين يذهب؟ رأى المستضعفين من المسلمين ورأى الموالي الذين شهدوا أن لا إله إلا الله يوم رفض الشرفاء -كما يزعمون- والكبراء، رآهم يستضعفون ويذلون، خشي عليهم أن يفتنوا في دينهم، فقال: أتاجر مع الله.
ونعمت التجارة في شراء هؤلاء وإعتاقهم لوجه الله تعالى.
يمر على بلال في بطاح - مكة - وأهل مكة! أعلم بشدة الحر في هذه البطاح- يمر عليه في الرمضاء وهو يضرب ويوضع فيها وتوضع الحجارة على صدره رضي الله عنه وأرضاه، وإذ به يقول: أحد أحد.
يتعلق بالله فيقول له: أحد ينجيك أحد ينجيك.
يعني الله الأحد سينجيك يا بلال! ويذهب وهو يحترق لما يرى، فهل جلس في بيته وبقي يتكلم ويقول: إنا لله ولا حول ولا قوة إلا بالله؟
لا.
بل ذهب وأخذ خمسة أواق من ذهب من حر ماله وذهب بها إلى أمية بن خلف، إلى سيد هذا -مع أن بلالاً سيد له، وما كان سيداً الكافر أبداً- وقال: هذه خمس أواق من ذهب، أتبيعني بلالاً؟ قال: أبيعكه لا خير فيه؛ لأنه استعصى عليه ورفض أن ينساق معه إلى النار، فأخذ منه الخمس الأواقي، وقال: والله! لو أبيت إلا أوقية واحدة لأعطيتك بلالاً، فهو زاهد فيه، قال: والله! لو أبيت إلا مائة أوقية من ذهب لأعطيتك إياها؛ لأن لـ أبي بكر معايير ومقاييس ليست لذاك ولأمثال ذاك من الذين أخذ الله سمعهم وأبصارهم.
فهل وقف عند ذلك؟
قام المستهزئون وقام الساخرون يقولون: ما أنفق أبو بكر هذا المال وأعتق بلالاً إلا ليد كانت لـ بلال عنده أي: لنعمة ولمعروف قدمه بلال يريد أن يكافئه أبو بكر، لكن الرد جاء ممن يدافع عن الذين آمنوا، من الله جل وعلا يأتي فوراً الرد وينزل به جبريل على المصطفى صلى الله عليه وسلم: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل:19] ما لأحد عند أبي بكر من نعمة تجزى: {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل:20] ما جزاؤك يا أبا بكر: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:21].
من الذي وعده بالرضا؟ الذي خلقه والذي أمره والذي أعد له ما أعد، والذي جعل إعتاق الأرقاء من أعظم الأعمال.
فهل توقف أبو بكر عند هذا؟
لا والله! ما توقف وما كان له أن يتوقف.
ووالله! لو استرسلنا في كلامنا عن أبي بكر لما كفانا هذا المجلس ولا مجالس أخر ولكن حسبنا منه هذه المواقف.
ماذا أعد الله عز وجل له؟
يدعى أما أبو بكر يوم القيامة من أبواب الجنة الثمانية، كل من باب، كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم.
هل أبو بكر فقط؟
ننتقل لغيره لنرى ونعلم أن هناك رجالاً قد قدموا وأننا إذا مشينا على ما مشوا عليه واقتدينا بما اقتدوا به وصلنا إليهم بإذن الله جل وعلا.(23/11)
أبو الدحداح يشتري نخلة في الجنة
جاءت المصطفى صلى الله عليه وسلم خصومة -كما روى البخاري عليه رحمة الله- بين يتيم وصحابي على نخلة، والناس على الدنيا تجد النزاع بينهم عظيماً، ولم يخل منه حتى عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكان هناك بستان لهذا الصحابي بجانب بستان آخر لهذا اليتيم وبينهما نخلة، وهذا اليتيم لا زال لم يدرك حق الإدراك، فقال هذا الصحابي: هذه النخلة لي.
وقال هذا اليتيم الصغير: هذه النخلة لي.
تشاجرا فذهب اليتيم فاشتكي هذا الصحابي إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم، فأحضر هذا الصحابي وقال: هذا اليتيم يشكوك -أو كما قال صلى الله عليه وسلم- في نخلة أخذتها له.
قال: والله ما كان ذلك لي يا رسول الله! وما كنت لآخذ نخلته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذاً نخرج ونعاين.
خرج النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعتمد على كلام هذا ولا هذا وإنما خرج ليعاين البستانين ويعاين النخلة، تواضعاً منه صلى الله عليه وسلم وحكماً بالعدل؛ لأنه يأخذ عن العدل سبحانه وتعالى.
وعندما وصل إلى ذاك المكان؛ فإذا بالنخلة في بستان الصحابي واضحة جلية، فهل يعطف على هذا اليتيم فيحكم بغير حكم الله؟ لا.
ما كان ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فحكم بالنخلة للصحابي فذرفت دموع اليتيم على خديه؛ فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يجبر كسر قلب هذا اليتيم؛ لأنه لم يدرك الحق.
فقال لهذا الصحابي: أتعطيه هذه النخلة ولك بها عذق نخل في الجنة؟
لكن الصحابي كان في وقت غضب إذ كيف يشكوه إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم والحق له! وكان في الجلسة رجل يتمنى مثل هذه الفرصة اسمه أبو الدحداح رضي الله عنه وأرضاه، قال: يا رسول الله! لئن اشتريت هذه النخلة وأعطيتها هذا اليتيم ألي العذق في الجنة؟ قال: لك ذلك.
فيلحق بهذا الصحابي ويقول: أتبيعني هذه النخلة ببستاني كله.
قال: أبيعكها.
لا خير في نخلة شكيت فيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فباعه النخلة بالبستان كله، وذهب إلى أهله ونادى فيهم: يا أم الدحداح! ويا أبناء أبي الدحداح! قد بعناها من الله فاخرجوا منها، فخرج ومع أطفاله بعض الرطب فقام يأخذه ويرميه فيها ويقول: قد بعناها من الله جل وعلا بعذق في الجنة، لا نخرج منها بشيء، خرج هو وأهله وقد باع كل شيء واشترى عذقاً من نخلة عند الله جل وعلا.
فهل قال: انتهينا.
لنا في الجنة عذقاً ويكفي، لا نصلي ولا نصوم ولا نعمل أي شيء.
لا.
فإن الذي بذل هذه سيبذل أعظم منها، بذل المال وبذل الأولاد وبذل كل نعيم في هذه الحياة ثم في الأخير يقدم نفسه لله جل وعلا.
يخرج في معركة أحد؛ والتي ابتلي فيها المؤمنون ابتلاء شديداً، وربي فيها المؤمنون تربية عظيمة، وكسرت فيها رباعية المصطفى صلى الله عليه وسلم وشج وجهه، يوم انتهت المعركة ذهب يفتش صلى الله عليه وسلم وهو في تلك الحالة عن أصحابه يتفقدهم، ويأتي إلى صاحب العذق إلى أبي الدحداح، وإذ به مضرج بدمائه، فيرفعه ويمسح الدم عن وجهه ويقول: {رحمك الله يا أبا الدحداح! كم من عذق مذلل الآن لـ أبي الدحداح في الجنة}.
لا إله إلا الله! ماذا خسر أبو الدحداح؟! خسر تراباً؟! خسر شجيرات؟! خسر نخيلات؟! لكنه فاز بجنة عرضها الأرض والسماوات: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185].
هل هذا فقط في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ والله! إن الأمثلة لكثيرة وإن النماذج لعظيمة، ولكني أنتقل بكم إلى نموذج آخر قصير.(23/12)
حنظلة تغسله الملائكة
حنظلة وما حنظلة يا أيها الإخوة؟!
ذلك العبد الذي يؤمن في يوم ويتزوج وفي ليلته التي يدخل فيها على زوجته وبعد ما يقضي وطره من زوجته، وإذ بمنادي الجهاد ينادي: يا خيل الله! اركبي.
يا خيل الله! اركبي.
أيجلس مع هذه في كامل زينتها في أول ليلة من زواجه، خرج وهو جنب ليقدم نفسه إلى الله لتنتهي المعركة ويجدوه مضرجاً بدمائه، والمياه لا زالت تقطر من على رأسه وجسده، من أين جاءته المياه ولا مطر؟
فيقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: لقد رأيته بين السماء والأرض تغسله الملائكة في صحاف من ذهب وفضة؛ فسلوا زوجه.
ذهبوا لزوجته ليسألوها قالت: خرج وهو جنب.
خرج وهو جنب فغسل في صحاف من ذهب، بشرى له الآن وله عند الله ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؛ ذاك غسيل الملائكة والله! لن نبلغ مراتبهم حتى نتبع الطريق الذي اتبعوا، نتبع ذلك النور الذي أخذوا منه، والذي اقتبسوا منه، وإن لم نقتبس ونأخذ من ذلك النور فوالله! إنها الخيبة والندامة.
نسأل الله ألا نكون من أهل الخيبة والندامة.
لا نقول ذلك فقط، بل سننتقل بكم إلى نموذج آخر في عصر متأخر.(23/13)
قصة طفل يرويها أبو قدامة الشامي
ويذكر هذا ابن الجوزي في صفة الصفوة في الجزء الرابع، رجل اسمه أبو قدامة الشامي - وهو غير ابن قدامة - يقول أبو قدامة الشامي: أغارت جيوش النصارى على بلدة من بلاد الشام.
يوم كانوا إذا أغاروا وجدوا الليوث أمامهم، يوم كانوا إذا أغاروا نيل منهم ما نيل ورجعوا ليدفعوا الجزية صاغرين، فماذا يعمل؟
ذهب إلى المسجد الذي تعقد فيه مؤتمرات المسلمين، والذي تعقد فيه كل مشاكل المسلمين لحلولها، والذي تطرح فيه الآراء ومنه تنطلق الجيوش والكتائب، والذي ما كان صلى الله عليه وسلم يعمل عملاً إلا وانطلق من هذا المسجد يذهب أبو قدامة إلى المسجد، ويقف على منبر المصطفى صلى الله عليه وسلم وينادي في الناس على المنبر في خطبة الجمعة -حضر النساء والرجال- نداء عظيماً ويقول: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الصف:10 - 11] {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41] لم يترك آية من آيات الجهاد، ولا حديثاً من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ فاشرأبت الأعناق إلى الجنة وأرادت ما عند الله، منهم من يريد اثنتين وسبعين حورية من الحور العين، ومنهم من يريد ما هو أعظم من ذلك كالنظر إلى وجه الله الكريم.
فخطب أبو قدامة خطبته وصلى الناس، وكل في نفسه أن يدَّخر له عند الله منزلة بمشاركته في هذا الجهاد حتى النساء والأطفال، وخرج ذاهباً إلى بيته وبينا هو في الطريق في أحد الأزقة، وإذ بامرأة تقول: السلام عليك يا أبا قدامة! قال: فقلت في نفسي: لعلها تريد أن تفتنني؛ لأنه يعلم أن النساء في الغالب فتنة، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء.
قال: فلم أرد عليها.
فقالت: السلام عليك يا أبا قدامة! قال: فلم أرد عليها.
قالت: السلام عليك يا أبا قدامة! ما هكذا يفعل الصالحون.
قال: فتوقفت.
قال: فجاءت وقالت: يا أبا قدامة! سمعت منك ما قلت على المنبر، سمعت آيات الله وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهذا ظرف أقدمه علَّني أن أكتب عند الله من المجاهدات في سبيله فقال: ماذا فيه؟ قالت: فيه ضفيرتان من شعري، والله! لم أجد ما أقدمه أغلى من هاتين الضفيرتين، اجعلهما لجاماً لفرسك في سبيل الله، علّ الله أن يكتبني في عداد المجاهدات في سبيله، فأجهش أبو قدامة بالبكاء، وقال: والله! هذا هو أول النصر.
هذه بشارة النصر؛ أن تقدم امرأة شعرها يوم لم تجد ما تقدمه إلا هذا، جادت بما لديها يوم لم تجد إلا شعرها وهو أعز ما لديها، فأخذه وذهب لبيته وبقي يجمع في الصفوف.
وفي اليوم الثاني ينطلق بكتائب الإيمان يريد أن يقابل الروم في موقعة من المواقع، وإذ بذاك الطفل يقابله، طفل صغير أمثاله عندنا لا زالوا يلعبون في الشوارع لا هدف لهم ولم يغرس فيهم أي هدف.
يقول يا أبا قدامة! أسألك بالله إلا جعلتني في عداد المجاهدين في سبيل الله.
قال: يا بني! أخشى عليك أن تطأك الخيل والإبل بأخفافها.
قال: أسألك بالله لا تحرمني الشهادة في سبيل الله.
أطفال -يا أيها الإخوة- بهذه الهمم؛ أسأل الله يجعل في الأمة رجالاً كهؤلاء الأطفال.
ويتقدم أبو قدامة مندهشاً فيقول: أقبلك بشرط واحد: إن استُشهدت في هذه المعركة أن أكون من شفعائك عند الله لأنك ستشفع في سبعين.
قال: قبلت الشرط.
فركب معه، وأبو قدامة يحار في تلك المرأة ويحار في هذا الصبي.
ويقول: والله! جيش لجام الفرس فيه ضفائر امرأة وفيه مثل هذا الطفل يريد أن يموت في سبيل الله؛ جيش لا يهزم بإذن الله: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج:40].
أخذه رديفاً له على دابته، وبينما هم مقبلون على الروم، قال: يا أبا قدامة! وكان يحمل معه خرجاً لا يعلمون ما فيه- فقال: يا أبا قدامة! أسألك بالله ثلاثة أسهم أرمي بها في سبيل الله.
قال: يا بني! ستضيعها ولا نستفيد منها دعها لمجاهد يوغل بها في الروم.
قال: أسألك بالله ثلاثة أسهم.
قال: لا تنس الشرط.
قال: لا أنساه.
قال: فأعطاه ثلاثة.
وعندما قابلوا الجيش أخذ الأول وقال: السلام عليك يا أبا قدامة! وأطلقه فقتل رومياً، ثم أخذ الثاني وقال: السلام عليك يا أبا قدامة! فقتل رومياً آخر، ثم أخذ الثالث فقال: السلام عليك يا أبا قدامة! سلام مودع ثم رمى به فقتل رومياً وجاءه سهم طائش فضربه في لُبته فسقط من على الفرس.
يقول أبو قدامة: فسقطت وراءه، وأقول له: يا بني! لا تنس الوصية، أي: لا ينسى أن يشفع له عند الله جل وعلا، قال: يا أبا قدامة! خذ هذا الخرج وأعطه أمي، قال: ومن أمك؟ فقال: أمي صاحبة الضفيرتين.
الله أكبر! أُسَر يخرج منها أمثال هؤلاء هي أُسَر المؤمنين، هذه هي الأسر التي نرجو من الله أن يكثر من هذه الأسر في أسر المؤمنين.
فيندهش مكانه ويجهش بالبكاء ويجلس، ويقول: الله أكبر! جيش فيه مثل هؤلاء وفيه مثل هذه الأُسَر لا يهزم أبداً، أبشروا بالنصر أبشروا بالنصر.
ويأتوا ليدفنوه فيفتحوا له القبر ويضعوه وبينما هم يدفنونه إذ لفظته الأرض فتعجبوا وخافوا واندهشوا.
يقول ابن الجوزي: والموقف يستحق ذلك -أن يدهشوا- قال: فأخذتني سنة من نوم -والناس يدوكون ويقولون: لعله لم يستأذن أبويه، لعله مراء، لعله كذا مع أنه لم يبلغ الحلم، ولم يكلف بهذا كله- وإذ بمناد يناديني ويقول: يا أبا قدامة! اترك ولي الله.
يا أبا قدامة! اترك ولي الله.
هؤلاء هم أولياء الله الذين أخذوا طريق الله وأخذوا طريق رسول الله؛ لا أولياء الشر والبدعة والخرافة، إن هؤلاء هم الأولياء.
أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين يتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يأخذ عن الوحي والذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي.
وإذ بطير تنزل من السماء فتلقط لحمه من على عظمه حتى لا يبقى على عظمه شيء، وتأخذه إلى السماء.
قال: فزادت الدهشة.
قال: ثم دفنا عظامه وذهبنا، وكان أن نصرنا في هذه الموقعة، ورجعنا بالخرج هذا لنذهب به إلى صاحبة الضفيرتين أم الولد لنعزيها في ابنها.
قال: فجئت إلى البيت وطرقت الباب فخرجت أخته وقالت: أمهنئ أم معز؟ قال: بل مهنئ.
قالت: إذاً استشهد أخي.
قال: إي والله لقد استشهد.
قالت: إذاً فهنئنا، لقد روزئنا بأبينا فاحتسبناه عند الله، وروزئنا بأخينا الأكبر فاحتسبناه عند الله، والآن روزئنا بأخينا الأصغر فنحتسبه عند الله، فلنا ما لهم في الجنة عند الله.
فتخرج أمه فيقول: أحسن الله عزاءك في ابنك.
قالت: أمعز.
أم مهنئ قال: بل مهنئ.
قالت: وما أدراك؟ قال: أنه شهيد.
قال: لذلك علامة ذكرها لي.
فما كان منه إلا أن قام ليذكر هذه العلامة.
وقال: يوم أن دفناه لفظته الأرض وجاء الطير من السماء فالتقطت هذا اللحم فلم يبق إلا عظمه، قالت: إذا فهنئني الآن، إنه شهيد بإذن ربه تبارك وتعالى.
قال: فما هذا الخرج الذي أوصاني أن أعطيك إياه؟ قالت: أتدري ماذا فيه؟ ثم أخرجت ما فيه فإذا هو قيد وإذا هو لباس من صوف خشن.
قال: ما هذا يا أمة الله؟
قالت: كان إذا جنه الليل أخذ هذا القيد فقيد نفسه، ثم أخذ هذا اللباس فلبسه، ثم بقي طول ليله يذكر الله قائماً وقاعداً وعلى جنبه يبكي ويضرع إلى الله، فإذا جاء وقت السحر -وقت نزول الرب تبارك وتعالى: {هل من داع فأستجيب له} يوم يأتي ذاك الوقت- يرفع يديه ويقول: اللهم لا تحشرني إلا من حواصل الطير شهيداً في سبيلك، اللهم لا تحشرني إلا من حواصل الطير شهيداً في سبيلك.
طفل صدق الله فأعطاه الله ما سأل فله في الجنة ما لا عين، رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
والنماذج -والله- كثيرة، ولن نتوقف عند ذلك، وإنما نأخذ بعض الأعمال التي توصلنا إلى ما وصلوا إليه يا أيها الإخوة.(23/14)
صفات أهل الجنة
يا أيها الإخوة: هذه سلعة الله، وهذا بعض نعيمها: وما راءٍ كمن سمع، وما مخبر كمعاين.
سلعة الله غالية! سلعة الله الجنة! خلقها الله يوم خلقها وخلق فيها ما لا عين رأت ثم قال لجبريل: اذهب فانظر إليها -كما في صحيح مسلم - فذهب إليها ونظر، فإذا فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت فرجع وقال: يا رب! وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فحفها الله بالمكاره -حفها الله بالتكاليف وبما يجب أن نعمله- ثم قال: ارجع ثم انظر إليها يا جبريل.
فنظر فإذا هي حفت بالمكاره فعاد فقال: يا رب! وعزتك وجلالك قد خشيت ألا يدخلها أحد.
يخشى ألا يدخلها أحد لما حفت به من المكاره.
يا أيها الإخوة: خلقها الله وجعلها دار رحمته وكرامته ورضوانه ثم قال لها.
تكلمي.
قالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1].
فمن هم أهلها إذاً؟
أهلها المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون، والذين هم للزكاة فاعلون، واقرءوا أول سورة المؤمنون.
أهلها من أطاع الله ورسوله فحققوا التوحيد، وأصلحوا العمل، واتبعوا المصطفى صلى الله عليه وسلم: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً} [الفتح:17] وقال صلى الله عليه وسلم مبيناً أهلها: {كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى! قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟} لا يتصورون أن هناك إنسان يأبى ذلك: {قالوا ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى}.
أهلها من حاربوا البدع وأحيوا السنن وعلموا أن البدع مردودة ليس لها قبول، قبيحة ليس فيها حسن، ضلالة ليس فيها هدى، باطل ليس فيها حق، وزر ليس فيها أجر؛ لأنها شرع لم يأذن الله به، ولم تكن على أمر المصطفى صلى الله عليه وسلم ولا على أمر أصحابه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو عليه رد} وهو القائل صلى الله عليه وسلم: {كل بدعة ضلالة}.
أهلها من أقام الصلاة وآتى الزكاة وصام وحج وصدق مع الله واتبع سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم: {من رغب عن سنتي فليس مني} كما أخبر صلى الله عليه وسلم.
أهلها من تركوا المراء: {أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً}.
أهلها من ترك الكذب: {أنا زعيم ببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً}.
من أهلها؟
أهلها من حسنت أخلاقهم: {أنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه} يقول أحد السلف: ذهب حسن الخلق بخيري الدنيا والآخرة.
أهلها أهل قيام الليل: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة:16].
أهلها {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134].
أهلها من بذلوا أنفسهم ليأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ولما كان الأمر والنهي يجد الإنسان في طريقه المتاعب ويجد المشاق، جعل الله له في الجنة جزاء عظيماً، اسمع لـ أبي هريرة رضي الله عنه يوم يذكرك بهذا الجزاء، فيقول: [[إن في الجنة حوراء يقال لها العيناء، إذا مشت مشى حولها سبعون ألف وصيف، كلهن مثل جمالها، تقول هذه العيناء: أين الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر؟]] عوضاً لهم عما لقوه في الدنيا من أذى، عوضاً عما لاقوه من مشقة، واستهزاء وسخرية.
من أهلها؟
أهلها من باتوا لا يحملون على أحد حسداً.
أهلها أهل العفو.
أهلها من ضمن ما بين لحييه وما بين فخذيه.
أهلها من أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، ووصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام.
أهلها من راقبوا الله جل وعلا في كل حركة من حركاتهم وسكناتهم وعلموا كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: {أن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وسمك كل سماء خمسمائة عام، وما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، ومن فوق ذلك خمسمائة عام ومن فوق ذلك عرش الرحمن} الله مستو عليه عال عليه بائن من خلقه: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] يجب أن نستشعر هذا.
الله عز وجل معنا بعلمه، ومعنا بقدرته، لا يمكن أن نذهب عن نظر الله طرفة.
إن بعض الناس يوم يعصي الله يستتر بالجدران ويستتر بالحيطان ونسي الواحد الديان.
لا تنظر إلى المعصية ولكن انظر إلى عظمة من عصيت.
ألا أن سلعة الله غالية! ألا إن سلعة الله الجنة! هبت رياح الجنة فاغتنموها لتفوزوا بنعيمها: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185] ألا فالسباق السباق! ألا فالبدار البدار! جددوا السفن فإن البحر عميق، وأكثروا الزاد فإن السفر طويل، وخففوا الحمل فإن العقبة كئود: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21].
{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
يا مذنباً! أذنب وأساء وكلنا ذاك المذنب، يا مخطأً أخطأ وزل وكلنا ذلك المخطأ والزال؛ عودة إلى الله: {خير الخطائين التوابون} يقول الحق تبارك وتعالى: {يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً؛ لأتيتك بقرابها مغفرة} ما أرحم الله! ما ألطف الله! ما أحلم الله! نسأله برحمته التي وسعت كل شيء أن يتقبل منا أعمالنا، وأن يتوب علينا.
من لنا إلا أنت يا ربنا إن لم تتب علينا.
{يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم}.
فلنستغفر الله، ولنعد إلى الله.
والله! نحن بحاجة إلى التوبة -ملتزمنا ومنحرفنا وضالنا- أحوج من الماء والطعام واللباس؛ لقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم سبعين مرة، وقيل: مائة مرة صلى الله عليه وسلم وهو من غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
ثم اعلموا: أن المولود إذا ولد نؤذن في أذنه اليمنى، فإذا مات نصلي عليه، فكأن الحياة ما بين الأذان والصلاة.
ولا إله إلا الله! ما أقصرها من حياة! أتقصر بالمعاصي؟! أتقصر بالشهوات والجري وراء الغرائز والنزوات؟! ما قصَّرها بهذا إلا شقي.
ونسأل الله ألا يكون بيننا شقي.
فإياكم و (سوف) وإنما عزمة إلى الله وانتبهوا من (سوف) فإن (سوف) جندي من جنود إبليس: سوف أعمل، سوف أعمل:
أعماركم تمضي بسوف ورُبما لا تجتنون سوى عسى ولعلما
هم المسوف كالتعلق بالسما
أعماركم تمضي عجالى إنما أنتم على سفر من الأسفار
كأنكم بالجنة وقد فتحت أبوابها، وتقسمها أصحابها، وغنت ألسن الأماني قريباً من قبابها.
بشرها دليلها وقال غداً ترين الطلح والجبالا
فحي على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم
وحي على روضاتها وخيامها وحي على عيش بها ليس يسأم
أيا ساهياً في غمرة الجهل والهوى صريع الأماني عما قليل ستندم
أفق قد دنا الوقت الذي ليس بعده سوى جنة أو حر نار تضرم
وتشهد أعضاء المسيء بما جنى كذاك علا فِيِه المهيمن يختم
أسأل الله برحمته التي وسعت كل شيء أن يرحمنا.
اللهم إنا نحن عبادك الفقراء إلى رحمتك فارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء.
اللهم جازنا بالإحسان إحساناً وبالسيئات عفواً وغفراناً.
اللهم اجعل هذا الجمع جمعاً مباركاً.
اللهم اجعلنا منصرفين منه وقد كتبت لنا أن نسكن رياض جنانك.
اللهم لا تحرمنا نعيم الجنان.
اللهم ويسر لنا الطريق إليك إنك على كل شيء قدير.
اللهم بيض وجوهنا يوم تبيض وجوه أهل السنة، وتسود وجوه أهل البدعة إنك غفور رحيم، وبالإجابة جدير.
اللهم إنا نسألك من فضلك الكريم، اللهم اجعل هذا الجمع جمعاً مغفوراً له، وإذا مشى كنت معه بسمعك وبصرك وأنت الله لا إله إلا أنت.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(23/15)
صراع الدعاة مع المنافقين
هناك فئة من الناس تكره الإسلام وأهله، خرجت حين عز الإسلام وقوي، فلم تستطع إظهار بغضها وكرهها له؛ فاتخذت النفاق طريقاً، وياله من طريق! إنه مرض عضال، ومقت ووبال، من تلبس به فقد أغضب الواحد القهار، وأسكن نفسه الدرك الأسفل من النار.
وقد ظهر هذا المرض في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكان على رأس هذه الضلالة دعامة الجهالة، عبد الله بن أبي -عليه الغضب واللعنة-.
وهنا حادثة الإفك وموقف الرسول والصحابة منها، ودروس مأخوذة من هذه الحادثة.(24/1)
تلذذ المنافقين بلمز المؤمنين
يقول الحق تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً * وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب:57 - 58]
ها هو صلى الله عليه وسلم يقارب الأربعين من عمره ذاهب إلى الغار، ما يمر بشجر ولا حجر إلا سلم عليه صلى الله عليه وسلم، ويأتيه جبريل بالوحي فيعود فزعاً خائفاً إلى زوجه خديجة رضي الله عنها وأرضاها يقول: {زملوني زملوني} فزملوه حتى ذهب عنه الروع، وأخبر خديجة بالأمر، وقال: {قد خشيت والله على نفسي} قالت: [[كلا والله لا يخزيك الله أبداً إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة]].
ذهبت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وقد قرأ الكتب السابقة فأخبرته الخبر فقال: [[هذا هو الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، يا ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك]] قال: {أَوَمُخرِجِيَّ هم} قال: [[نعم.
ما أتى أحد بمثل ما جئت به إلا عودي]] والآن.
أرى خلل الرماد وميض جمر وأخشى أن يكون لها ضرام
أقول هذا في وقت لا نزال نسمع عن كثير ممن قل حظهم من مراقبة الله وخشيته والخوف منه، ونسوا حظاً مما ذكروا به، لا تحلوا لهم مجالسهم، ولا يطربون في حديثهم، ولا ينبسطون في جلساتهم حتى يتناولوا أعراض عباد الله القائمين بأمر الله من علماء الأمة، ودعاة الملة، ورجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من الذين جردوا سواعدهم لرفع راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذين بذلوا أوقاتهم وأنفسهم لله عزَّ وجلَّ في وقت خرست فيه الألسن، قالوا وقد سكت الناس، ونطقوا وقد خرست الألسن، وجاهدوا في وقت ركن فيه كثير من الناس إلى الدعة والسكون، وأخلدوا إلى الحياة الدنيا وملذاتها، وتسابقوا إلى الوظائف والمناصب، ومع ذلك فقد قام هؤلاء المخلصون بأمر الله؛ لا يبتغون إلا رفعة وإعلاء كلمة الله، ودحر الباطل وأهله من أعداء الله.
تجد هؤلاء الفسقة بل كثير منهم يسارع إلى تناول أعراض الدعاة وتتبع عوراتهم، والتلذذ بالحديث عنهم في المجالس، يلمز هذا، ويتكلم في عرض هذا، ويردد ما أشيع عن هذا، لم تتورع ألسنة بعض هؤلاء من اختلاق الأكاذيب وإلصاق التهم بهم، وترديد بعض الأباطيل التي تلصق بهم، والتي هي -والله- من اختلاق أعداء الإسلام وخصومه الذين تتقطع قلوبهم غيظاً وهم يرون راية الدعوة إلى الله ترفع في هذه البلاد؛ لأن هؤلاء المحتسبين من الدعاة والعلماء يُقِضُّون مضاجعهم، ويفسدون عليهم ملذاتهم وسكرهم وعربدتهم وفجورهم، ودعوتهم إلى منكرهم؛ ولهذا فإن كثيراً من هؤلاء يلفق التهم والأكاذيب ليرميهم بها، فيتلقفها خفاف الأحلام والسذج من الناس، ويطيرون بها فرحاً يبلغون بها الآفاق
أقلوا عليهم لا أباً لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
لكن لا ضير ولا ريب، هذه هي سمة الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ، أوذي صلى الله عليه وسلم؛ وقيل عنه بأنه ساحر، وقيل عنه بأنه كاهن، وقيل عنه بأنه مجنون، ورمي في عرضه صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك أتم الله النور وأكمل الدين رغم أنف الكفار والمشركين والمنافقين، خرجت فئة المنافقين يوم عز الإسلام تدعي الإسلام وهي منه براء، تريد ضرب الإسلام ودعاته؛ فاتخذت النفاق طريقاً وياله من طريق موحش مظلم مبتور، إنه مرض عضال، ومقت ووبال، من تلبس به فقد أغضب الله الواحد القهار، وأسكن نفسه الدرك الأسفل من النار.
لا إله إلا الله! ماذا فعل المنافقون والمغرضون والحاقدون بالإسلام ودعاته في الماضي والآن! لا إله إلا الله كم كادوا لرسول الأنام عليه الصلاة والسلام؛ هم في كل عصر يعيشون، يعشعشون ويبيضون ويفرخون، همهم إطفاء كل نور يدعي له المسلمون.
تهاونوا بنظر الله تعالى، وعملوا من المنكر أعمالاً.
في المنكرات والصد عن سبيل الله ينشطون، وعن الصالحات والدعوة إلى سبيل الله يتباعدون: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10] {يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142] يستهزئون بأهل الاستقامة والصلاح، ومن الدعاة إلى الله يضحكون، وإذا مروا بهم يتغامزون، فالله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون.
لا يريدون أن يتكلم داعية، لا يريدون أن يأمر بمعروف ولا ينهى بناهية، لا يريدون علماً ولا دعوة ولا أن تقام ولو محاضرة.
لا إله إلا الله ما أخس وأنذل حالهم! إن سألتهم عن آيات الله البيانات ما عرفوا إلا المغنيين والممثلين والراقصات أحياءهم وأمواتهم، يدّعون الإيمان وما هم بمؤمنين، هم في كل عصر يعيشون يرمون بالتهم وبالأكاذيب دعاة الإسلام، رموا نبي الله موسى قبل نبينا عليهما الصلاة والسلام بالزنا فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً، ورموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرضه، وهم أصحاب الإفك في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهم هم في كل زمان ومكان بهذا الدور يقومون، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها سيوجدون، فقاتلهم الله أنى يؤفكون.(24/2)
حادثة الإفك وموقف المنافقين فيها
لنقف قليلاً مع حديث الإفك لنأخذ منه الدروس والعبر، إن في ذلك لذكرى لمن له قلب، فاسمعوا لـ عائشة المبرأة من فوق سبع سماوات رضي الله عنها وأرضاها، صاحبة المعاناة في حديث الإفك يوم تقول: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق، ولما دنونا من المدينة نزلنا منزلاً فبتنا فيه بعض الليل، ثم أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحيل.
قالت: فقمت فمشيت حتى جاوزت الجيش لأقضي حاجتي، وفى عنقي عقد لي، فلما قضيت شأني انسَلَّ من عنقي ولا أدري، ثم أقبلت إلى رحلي وتلمست صدري فلم أجد العقد، وقد أخذ الناس في الرحيل، قالت: فرجعت أتلمس عقدي فحبسني طلبه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه، وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافاً؛ فلم يستنكروا خفة الهودج.
قالت: فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، جئت منازلهم فإذا هي بلقع ليس بها داعٍ ولا مجيب، جلست في مكاني متلففة بحجابي أسبح الله وأستغفر الله، قالت: فأخذني النوم، وإذا برجل من أهل بدر من الذين اطلع الله عليهم فقال: {اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم} هو صفوان بن المعطل رضي الله عنه -هذا المجاهد الذي يقول عن نفسه بعد أن رمي بالفاحشة: [[والذي نفسي بيده، ما كشفت خمار أنثى لا تحل لي في جاهلية ولا إسلام]]- أتى إلى مكان عائشة فرآها وعرف أنها زوج المصطفى صلى الله عليه وسلم لأنه يعرفها قبل الحجاب، قالت عائشة: والذي نفسي بيده ما كلمني كلمة ولا سلم عليّ حتى السلام، وإنما سمعته يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! زوج المصطفى صلى الله عليه وسلم، ثم أناخ بعيره فقمت وركبت بعيره، فأخذ زمام البعير يمشي به ولا يلتفت ولا يتكلم.(24/3)
إطلاق المنافقين للشائعات
وإنما تقول عائشة: كنت أسمعه يسبح الله، وأتى بها في الظهيرة وهي على بعيره.
فأما الذين في قلوبهم إيمان فاطمأنوا إلى موعود الله، وهم في كل زمان يطمئنون لذلك، وأما الذين في قلوبهم زغل وحقد وغشش على الإسلام وعلى رسول الإسلام، وعلى دعاة الإسلام، فأخذوها فرصة لا تتعوض، قام كبيرهم الذي علمهم الخبث - ابن أبي - بين المنافقين يقول لهم: لماذا تأخرت؟ لماذا أتت مع هذا الأجنبي؟ لم ركبت على بعيره؟ لم تركها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسمع بهذا الكلام، هو واثق من زوجه أنها أطهر من حمام الحرم، وأنقى من ماء الغمام، قريشية من القرشيات:
حور حرائر ما هممن بريبة كظباء مكة صيدهن حرام
متحجبات في الخدور أوانس ويصدهن عن الخنا الإسلام
انطلق الجيش إلى المدينة، ولا زال المنافقون يُشَّهرون ويلصقون هذه التهمة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبفراشه الطاهر.
لما وصل صلى الله عليه وسلم إلى المدينة سمع الخبر، وأتاه النبأ العظيم، ضُرب في صميم قلبه، ضرب في قواعد دعوته، ضرب في صميم رسالته الخالدة، أُصيب في شرفه وفى بيته ومروءته، فلما أتاه الخبر عن طريق رجل من المسلمين، أتاه وقال: يا رسول الله! إن المنافقين يقولون كذا وكذا، فدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] تحمل صلى الله عليه وسلم هذه اللطمة التي لم يصب بمثلها.
ذهب إلى بيته وسلَّم على زوجه وهي مريضة في فراشها، بعد السفر أصابتها حمى ولم تدرِ أنها متهمة، وأن المنافقين قد ألصقوا بها أعظم فرية، هي مريضة على الفراش، فسلَّم عليها صلى الله عليه وسلم.
قالت عائشة: ولم أر منه ذاك الحنان والعطف الذي كنت أراه منه كلما مرضت، قالت: فاستأذنته لأمرض -في بيت أبي في بيت خليفة الإسلام، في بيت المجاهد الأول، في بيت الرجل الأول بعد رسول الهدى صلى الله عليه وسلم- فأذن لها صلى الله عليه وسلم.
قالت: فأخذني النساء إلى بيت أبي، وإذا بأبيها الآخر يعلم بالنبأ وينزل عليه كالصاعقة، ويأتيه الخبر فيصاب ويبكي ويقول: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] ويأتي الخبر أمها فتصاب في قلبها، وتنتشر الفرية في المدينة وتسري سريان النار في الهشيم، ويشارك كثير من الصحابة رسول الله في هذا المصاب فيحزنوا لحزنه ويتأثروا لتأثره:
إن أولى الموالي من تواليه عند السرور كما والاك في الحزن
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا من كان يألفهم في الموطن الخشن
قالت عائشة: ولم أعلم الخبر، ولم أدر ما السر، قالت: فلما شفيت من مرضي خرجت مع نساء في ضاحية من ضواحي المدينة وكان معنا امرأة اسمها أم مسطح صالحة من الصالحات، وولدها صالح من الصالحين من أهل بدر، لكنه وقع في هذه الريبة ونشر الخبر، وساعد في نشر التهمة كما يفعل بعض الناس الآن، فلما أصبحنا في الصحراء عثرت هذه المرأة الصالحة فقالت: تعس مسطح -والعرب تدعو على عدوها بالتعاسة إذا أصيبت- قالت عائشة: فقلت لها: كيف تدعين على ابنك وهو من الصالحين من أهل بدر؟ قالت: إنك ما علمت ماذا قال وماذا فعل.
قالت عائشة: وماذا قال؟ قالت: اتهمك هو وأمثاله في عرضك، وقالوا: إنك ارتكبت الفاحشة مع صفوان.
لا إله إلا الله! قالت عائشة: فسقطت على وجهي مغشياً عليّ من البكاء، رفعها النساء إلى فراشها في بيت أبيها، وأما رسول الله فبقي شهراً كاملاً لا ينزل عليه الوحي، يتلمس متى يسمع النداء العلوي ليشفي غليله في هذه المشكلة، ما عنده دلائل ولا براهين، لا يعلم الغيب، اضطربت عنده الأمور صلى الله عليه وسلم، يثق في زوجه لكنه بشر.(24/4)
استشارة النبي لبعض أصحابه
دخل صلى الله عليه وسلم يستشير بعض أقاربه، استشار علياً رضي الله عنه قاضي قضاة الدنيا وهو منه بمنزلة هارون من موسى، فقال علي: [[يا رسول الله! لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسلها تصدقك فو الله ما عهدناها كاذبة]].
قد قيل ما قيل إن صدقاً وإن كذباً فما اعتذارك من قول إذا قيل
ذهب صلى الله عليه وسلم بعده إلى أسامة، حبه وابن حبه، إلى المولى الذي رفعه الإسلام، فيعرض النبي صلى الله عليه وسلم الأمر وعُمْر أسامة أربع عشرة سنة، فيقول أسامة -وهو يعرف من هي عائشة رضي الله عنها-: [[يا رسول الله! أهلك أهلك، والله ما نعلم عنهم إلا خيراً، والله إنها صوامة قوامة بارة رشيدة، فاسأل جاريتها يا رسول الله!]]
فيذهب صلى الله عليه وسلم إلى الجارية التي معها في البيت واسمها بريرة، فتقول: [[والله يا رسول الله ما علمت عن عائشة إلا خيراً، أحمي سمعي وبصري، إنها صوامة قوامة، والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمراً أعيبه أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله]] والداجن هي الشاة التي تربى في البيت.
قام صلى الله عليه وسلم على المنبر، وشكى إلى الناس ما لقيه من المنافقين في عرضه، ما لقيه من اتهامات جريئة في دعوته، شكي من عبد الله بن أبي رأس الضلالة، وعمود الجهالة، المريد التدمير لهذا الدين، فكان مما قاله صلى الله عليه وسلم: {ما بال رجال يؤذونني في أهلي ويقولون عليهم غير الحق، والله ما علمت منهم إلا خيراً} فقام الأوس والخزرج فكادوا يقتتلون على اختلاف بينهم في المسجد دفاعاً عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم.
هدأ صلى الله عليه وسلم الأوضاع، وعاد إلى عائشة في بيت أبيها ليجلس معها مجلس التحقيق والمحاكمة، إما أن تعترف وتتوب إلى الله، وإما أن تتبرأ من هذا، وإما أن يعلن الله توبتها من فوق سبع سماوات.
جلس صلى الله عليه وسلم قالت عائشة: وما جلس بعدها إلا ذاك المجلس، وجاء الفرج من مفرج الكروب ومنفس الهموم، قالت: ومعي أبي وأمي ونساء يبكين معي يشاركنني مصيبتي.
فلابد من شكوى إلى ذي قرابة يواسيك أو يسليك أو يتوجع(24/5)
نزول الوحي ببراءة أم المؤمنين
قالت: فجلس صلى الله عليه وسلم، ثم شهد أن لا إله إلا الله، ثم حمد الله الذي بنوره تقوم السماوات والأرض، ثم قال: {يا عائشة! إن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه؛ فإن العبد إذا اعترف ثم تاب تاب الله عليه}.
تلعثمت من البكاء لا تستطيع الكلام، تقول لأبيها: أجب عني رسول الله فيما قال، فيبكي أبو بكر ويقول: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وماذا يقول أبو بكر في اتهام كهذا، ماذا يقول في فرية المغرضين من أعداء الإسلام؟!
قالت: فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله فتبكي أمها، وتقول: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: فاستجمعت قواي وجف الدمع من عيني، وقلت: إني والله قد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في نفوسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر لم أعمله لتصدقنني، فوالله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف حين قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18].
قالت: فاندفع أبي وأمي باكيين، أما رسول الله فلم يتحرك، مهموم به من الهم ما به، قالت: فوالله ما غادر مكانه صلى الله عليه وسلم حتى أتاه الوحي، وكان إذا أتاه الوحي من السماء ثقل جسمه، فاضطجع على فراشه، وأخذ عرقه يتصبب من جبينه الطاهر، فعرفنا أنه الوحي، قالت: فوالله ما فزعت، أما أبي فكادت نفسه أن تخرج خوفاً أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس.
تحدر العرق بعد ما استفاق صلى الله عليه وسلم كالجمان من على وجهه، فجعل يمسح العرق وهو يبتسم ويقول: {يا عائشة! أبشري إن الله قد برأك من فوق سبع سماوات} براءة من الله، ولطف من الله، ورحمة من الله، يوم أن توصد الأبواب فلا يوجد إلا باب الله، يوم أن تسدل الحجب فلا يأتي إلا عطف الله وحنان الله.
فلرب نازلة يضيق بها الفتى ذرعاً وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تفرج
تهلل وجهها رضي الله عنها، قال لها أبوها أبو بكر رضي الله عنه: يا عائشة! قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمي عليه واحمديه، قالت: لا والله لا أقوم ولا أحمده ولا أحمدك ولا أحمد أمي، وإنما أحمد الذي أنزل براءتي من فوق سبع سماوات، لقد سمعتموه فما أنكرتموه ولا غيرتموه.
يدخل صلى الله عليه وسلم بعدها المسجد منتصراً على أعداء الرسالة الذين ألصقوا به التهمة في عرضه وشرفه، يجمع الناس ويقف على المنبر يتلو آيات الله البينات، تنزل من على المنبر كأنها القذائف، يسمعها المؤمن والمنافق والذكر والأنثى، وتقرؤها الأمة إلى قيام الساعة؛ لأن التهمة كانت فيه صلى الله عليه وسلم.
اسمعوا إلى الآيات التي نزلت قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:11 - 12] إلى أن قال تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:14 - 15].
وليست التهمة له صلى الله عليه وسلم؛ بل تتجدد يوماً بعد يوم في صور ومخططات رهيبة مفزعة، لكن العاقبة مع ذلك للمتقين والإسلام منتصر في كل مكان: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17].
ألا فليخسأ الذين يريدون هدم هذا الدين من الذين يلصقون التهم بدعاته وعلمائه العاملين، وإن نجحوا فالنجاح مؤقت والعاقبة للمتقين، نسأل الذي بيده مقاليد الأمور أن يفضح من أراد علماء الإسلام من اليهود والمنافقين وأذنابهم على رءوس الأشهاد، اللهم افضحهم على رءوس الأشهاد، اللهم افضحهم على رءوس الأشهاد.
اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك.
اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم أرنا فيهم يوماً أسود تقر به أعين الموحدين الآمرين والناهين.
اللهم احفظ علماء الأمة بحفظك، اللهم احفظ علماء الأمة بحفظك، اللهم احفظ علماء الأمة بحفظك، واكلأهم برعايتك، وسدد رميهم، واجعل كلماتهم فوارق على كل من أراد بهم الخذلان، وافضح أعداءهم على رءوس الأشهاد، اللهم واهدنا إلى الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(24/6)
دروس وعبر من حادثة الإفك
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
قال الله عزَّ وجلَّ: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
عباد الله: في حادثة الإفك دروس وعبر أيما عبر ذاك لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.(24/7)
طريق الدعوة محفوف بالمكاره والمخاطر
من هذه الدروس: أن طريق الدعوة والجهاد طريق محفوف بالمكاره، كله عراقيل، كله عقبات، وقد لاقى الدعاة في سبيل الله في هذا الطريق مكاره عظيمة فما صدتهم ولا ردتهم عن دعوتهم.
هاهو صلى الله عليه وسلم يَخرج من مكة من بين الأهل والجيران والإخوة والخلان حسيراً حزيناً كئيباً طريداً في تلك الفيافي والقفار، ما معه من مظلة إلا (لا إله إلا الله)، يصعد إلى أهل الطائف لأنه ما وجد هناك بيئة تتقبل لا إله إلا الله، ويذهب إليهم فيسخروا منه ويستهزئوا به، فهذا هو طريق الدعوة.
وهذا هو المصطفى صلى الله عليه وسلم لقي ما لقي من أذىً في سبيل الدعوة إلى الله، فطريق الدعوة هذا هو.
وإلى عهد قريب ليس في ذاك العهد، وإنما إلى عهد قريب نرى سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عبد الوهاب حفيد إمام الدعوة رحمه الله يصدح بدعوة الحق، فيجعله أعداء الإسلام في فوهة المدفع، ثم يطلقون به المدفع لتتطاير أشلاؤه لتقول لكل الدعاة: قدموا أنفسكم في سبيل الدعوة إلى الله، فما نقموا منه إلا أن آمن بالله العزيز الحميد.
طريق الدعوة إلى الإسلام طريق تضحيات، ومن يفزع من هذا الطريق فليس بداعية حق الدعوة، إن الحافظ الله، إن الولي هو الله، إن المسدد هو الله.
هاهو موسى ذلك الغلام الذي رآه فرعون في منامه، ورأى هلاك ملكه على يديه، قتل من قتل من أولاد بني إسرائيل، ويربى هذا الطفل في بيت فرعون، ويترعرع أمام عينيه؛ لأن الله عزَّ وجلَّ حفظه ومن حفظه الله فلا خوف عليه.
وهذا والله درس عظيم للدعاة إلى الله؛ إذ مهما علا الباطل وزمجر، وارتفع هديره؛ فإن الله سيجعله زبداً ويبقى ما ينفع الناس، لا خوف فالله ناصر دينه شاء من شاء وأبى من أبى، أما كيد البشر فكيد ضعيف مهما عظم، ووالله لا تستطيع أي قوة في الأرض أن تصل لقلب مؤمن صادق في إيمانه ويقينه، ما أجمل وأصدق ما قاله أحد الدعاة حين أوذي في ذات الله!
تالله ما الدعوات تهزم بالأذى أبداً وفى التاريخ بر يميني
ضع في يدي القيد ألهب أضلعي بالسوط ضع عنقي على السكين
لن تستطيع حصار فكري ساعة أو رد إيماني وصد يقيني
فالنور في قلبي وقلبي في يدي ربي وربي حافظي ومعيني(24/8)
الدعاة إلى الله معرضون للتهم
ومن دروس هذه الحادثة: أن المنتمين لهذا الدين بإخلاص وصدق معرضون للاتهام، ولإشاعة الشائعات، وإلصاق التهم بهم.
سمعتم كيف اتهم صلى الله عليه وسلم في عرضه، وهذا أمر معرض له كل من ترسم خطاه، ومضى على منهجه صلى الله عليه وسلم.
تجد كل تهمة تلصق بأهل هذا الدين، وبعلماء هذا الدين، وبدعاة هذا الدين، تشاع عنهم الشائعات، وتلصق بعلماء الأمة وشبابها الملتزم، وبكل صالح في الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:53]، وصف الدعاة بالرجعية والتأخر، وصفوا بعدم مسايرة العصر، وصفوا بالسذاجة والبساطة؛ لكن هذه الألفاظ لم تجدِ، فبدءوا الآن برمي الدعاة بالشذوذ الخلقي لتحطيم وتضليل قدوة الأمة في نظر أبنائها، وهذه كلمات وأفعال -والله- ما جاءتنا إلا من اليهودية الحاقدة، صدرتها إلى بلاد الإسلام، فأخذها الذين أخذ الله سمعهم وأبصارهم وختم على قلوبهم وزادوا عليها، وزعوها في مجالس الناس، صار الصالحون في أوساط الناس مصدر شبهة وأهل ريبة، وبالتالي سيفقد علماء الإسلام ثقة الناس فيهم، فيضل الناس وعند ذاك يعمنا الله بعقاب من عنده وذاك مطلبهم: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30].
يأتي كل من في قلبه زغل ونفاق يتشفى بالصالحين وبالدعاة المخلصين ويقول: الشاذون، كانوا يقولون المتشددين والآن أصبحوا يقولون: الشاذين، ونسأل أصحاب هذه الكلمات ما الشذوذ في نظرهم؟
هل هو التمسك بحبل الله يوم أن انقطعت حبال الذين من دونه؟
هل الشذوذ هو الحرص على تطبيق السنة بالمسلك والآداب والتعامل يوم ضاعت تعاليم السنة بأشخاص كثير من الناس؟
هل الشذوذ في إحياء القلوب بكتاب الله وسنة محمد صلى الله عليه وسلم يوم أن أصبحت مجالس الناس لنشر الشائعات، وللسذاجة واللهو واللعب؟
هل الشذوذ أن يتروض الشباب في بساتين آيات الله يوم تروض غيره في مزابل الأغاني وفي مزابل البغايا والعاهرات؟
هل الشذوذ أن تدرس كتب السلف الصالح يوم شغل الكثير عن المصحف بالمجلة الخليعة، وعن المسجد بالمقهى، وعن السواك بالسيجارة، وعن زيارة بيت الله الحرام بزيارة بلاد الكفار كـ بانكوك وأمثالها وما أدراكم ما تلك البلاد؟
لا إله إلا الله! سبحانك هذا بهتان عظيم! الشذوذ والانحراف في البعد عن منهج الله، في الانسلاخ عن الإسلام والقيم والآداب والأخلاق، الشذوذ والانحراف في البعد عن كتاب الله الذي أنزله الله عزَّ وجلَّ، وما خرجت -والله- مثل هذه التهم إلا يوم أن ابتعدنا عن الإسلام، يوم أن تركنا الأمر والنهي أصبح البعض يمشي خجلاً أنه مطبق للسنة، فتجرأ الرعديد، وتجرأ الملحد، وتجرأ المنافق ليطلق الشائعات عن أنصار الدين وعلمائه، عن حاملين راية محمد صلي الله عليه وسلم ولكن نقول:
إذا عير الطائي بالبخل مادر وعير قساً بالفهامة باقل
وقال السهى للشمس أنت خفية وقال الدجى للبدر وجهك حائل
فيا موت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جدي إن دهرك هازل(24/9)
دعاة الإسلام مستهدفون
ومن هذه الحادثة نستفيد: أن دعاة الإسلام مستهدفون، وعلى رأسهم قائدهم محمد صلى الله عليه وسلم، أشيعت عنه الشائعات، وإشاعة الشائعات أمر عظيم ومرض خطير لكنها كثيرة وموجودة.
كثير من الناس لا يسمع كلمة -صدقاً كانت أو كذباً- إلا وأخبر بها فرية كانت أو حقيقة، تمس أخاً أم غير أخ، ما كأنه سمع قول المصطفى صلى الله عليه وسلم، ما كأنه تربى بالمصطفى صلى الله عليه وسلم {كفى المرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع} كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع، رب كلمة توجب لصاحبها النار {إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يهوي بها في النار سبعين خريفاً} {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6].(24/10)
قذف المحصنات من الكبائر
ومن الدروس أيضاً: أن قذف المحصنات المؤمنات الغافلات كبيرة من الكبائر، وموبقة من الموبقات استوجب صاحبها اللعنة من رب الأرض والسماوات، وكذلك قذف المؤمنين: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:23 - 24].
ومن دروس حادثة الإفك: ألا تشاع الفواحش، فلا يتحدث بالجرائم التي تحدث في المجتمع في المجالس حتى ولو حدثت؛ لأن التحدث بها يقلل من خطرها في قلوب الناس، أوما سمعتم قول الله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19].(24/11)
اتقوا مواطن الشبه
ومن الدروس: ألا يقف المسلم في مواقف الريبة أو في مواقف التهمة حتى ولو كان أطهر من ماء الغمام، إن النفوس يشرع إليها الشك والقلوب تنتابها الأوهام.
وها هو صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء في مسجده، وتأتيه صفية زوجه تعوده وهو معتكف، فلما قام يودعها مر به أنصاريان فقال لهما: {على رسلكما، هذه صفية بنت حيي} يخبرهم صلى الله عليه وسلم لئلا يجري الشيطان في دمائهم فيظنوا به سوء، فدع مواطن الشبهة والريبة يا عبد الله؛ فذلك أصلح وأسلم وأتقى وأنقى.(24/12)
المؤمن مبتلى
ومن الدروس: {أن المؤمن مبتلى وأشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل} أوذي صحابة رسول الله أذى عظيماً فصبروا واحتسبوا، وأوذي من قبلهم فصبروا، كان يؤتى بالرجل فيوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق نصفين، ثم يمشط بأمشاط الحديد ما بين جلده وعظمه ما يصرفه ذلك عن دينه: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:1 - 2].
عباد الله: علماؤنا زهرة الدنيا ونورها، وهم حاملو ميراث الأنبياء، والداعون إلى صراط الله العزيز الحميد، عرف أعداء الإسلام ذلك؛ فألصقوا بهم التهم، ونشروا عنهم الشائعات، وبعض السذج وخفاف الأحلام -عن قصد وغير قصد- يروج لهذه الشائعات.
لا إله إلا الله! والله ما يريدون بتشويه العلماء سوى ضرب ميراث الأنبياء، يريدون إطفاء نور الله، فلتكن على وعي وإدراك أخي المسلم، المسلم كَيّس فطن المسلم لا يغتر، المسلم بنور الله يمشي، المسلم لا تنطلي عليه الشائعات، المسلم يفرق بين السم والدسم.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك، اللهم انصر علماء أمة محمد صلي الله عليه وسلم والصالحين من عبادك وأوليائك.
اللهم انصر علماء أمة محمد، اللهم انصر من نصر الدين، اللهم اخذل من خذل الدين، اللهم من أرادنا والإسلام بسوء فأشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره، ومزقه كل ممزق يا أكرم الأكرمين!
اللهم اكشف أستاره، اللهم افضح أسراره، اللهم ابد عواره، اللهم أخرس لسانه، اللهم أذهب عقله، اللهم دمر جنانه، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك يا أكرم الأكرمين!
اللهم انتقم لأوليائك، اللهم انتقم لعلماء المسلمين، اللهم انتقم لأحبابك ودعاتك وصالح عبادك، اللهم ثبتنا على الحق.
اللهم من نصر الدين فمكنه في الأرض واجعله هادياً مهدياً، اللهم من خذل الدين فأرنا فيه يوماً كيوم فرعون وهامان وقارون.
نسألك يا رب أن تحفظنا، نسألك يا رب أن تحمينا، نسألك يا رب أن تهدينا سواء السبيل، نسألك أن تمنعنا من كل ما يدبر للمسلمين من كيد وسوء.
اللهم لا تدبير لدينا إلا تدبيرك، ولا حيل لدينا ولكن حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق، أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الحياة شراً لنا، اللهم نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك لذة النظر إلى وجهك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.
اللهم من أراد بعلمائنا سوء فعليك به، اللهم اهلكهم بدداً، واحصهم عدداً، ولا تغادر منهم أحداً.
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(24/13)
صفحات مطوية
السلف الصالح هم القدوة، ولنا في أقوالهم وأعمالهم عبرة، فإنما هم طلاب مدرسة النبوة، فهاك -أخي الكريم- بعض مواقفهم مع ما فيها من العظة، علنا أن نتأسى بهم، فهم -والله- خير قدوة.(25/1)
مواقف من سيرة السلف الصالح
الحمد لله قَدَّم من شاء بفضله، وأخر من شاء بعدله، لا يعترض عليه ذو عقل بعقله، ولا يسأله مخلوق عن علة فعله.
هو الكريم الوهاب، هازم الأحزاب، ومنشئ السحاب، ومنزل الكتاب، ومسبب الأسباب، وخالق الناس من تراب.
الواحد الأحد العزيز الماجد، المتفرد بالتوحيد والتمجيد، ليس له مثل ولا نديد، هو المبدئ المعيد، الفعال لما يريد، جل عن اتخاذ الصاحبة والولد، ولم يكن له كفواً أحد.
لم يزل حكيماً قديراً، عليماً خبيراً، سبق الأشياءَ علمُه، ونفذت فيها إرادته، ولا يعزب عنه مثقال ذرة سبحانه وبحمده.
لم يلحقه في خلق شيء مما خلق كلال ولا تعب، وما مسه لغوب ولا نصب، خلق الأشياء بقدرته، ودبرها بمشيئته، وقهرها بجبروته، وذللها بعزته، فذلت له الرقاب، وحارت في ملكوته فطن ذوي الألباب، وقامت بكلمته السماوات السبع والأرض المهاد، وثبتت الجبال الرواسي، وجرت الرياح اللواقح، وسار في جو السماء السحاب، وقامت البحار، وهو الله الواحد القهار، مغشي الليل النهار، خضع لعظمته المتعززون المتكبرون، وخشع له المترفعون، واستكان لربوبيته المتعظمون، ودان طوعاً وكرًها له الخلق أجمعون.
نحمده على حَزن الأمر وسهله، ونحمده كما حمد نفسه، وكما حمده الحامدون من جميع خلقه.
ونستعينه استعانة من فوَّض أمره إليه، وأقر أنه لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه.
ونستغفره استغفار مقرٍّ بذنبه، معترف بخطيئته.
ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
شهادة عبده، وابن عبده وابن أَمَته ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته؛ إقراراً بوحدانيته، وإخلاصاً لربوبيته، فهو العالم بما تبطنه الضمائر، وما تنطوي عليه السرائر، وما تغيض الأرحام وما تزداد، وكل شئ عنده بمقدار، لا يوارى عنه كلمة، ولا يغيب عنه غائبة.
{وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام:59] ونشهد أن محمداً عبده ونبيه ورسوله إلى خلقه، وأمينه على وحيه، أشرف من وطئ الحصى بنعله، بلغ عن الله رسالاته، ونصح له في برياته، وجاهد في الله حق الجهاد، وقاتل أهل البغي والزيغ والعناد والفساد؛ حتى تمت كلمة الله، وقطع دابر الفساد، صلوات الله عليه وسلامه -من قائد إلى الهدى- وعلى آل بيته الطاهرين، وعلى أصحابه المنتخبين، وعلى أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، ومن سار على نهجهم واقتدى بهديهم من الفقهاء والزهاد والدعاة العاملين المشمرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
آمين آمين لا أرضى بواحدة حتى أبلغها مليون آمينا
أما بعد:
أحبتي في الله: لقاؤنا الليلة معكم يتجدد بعد زمن في هذه الكلمات القلائل المُعَنْوَنِ لها كما رأيتم وسمعتم: (بصفحات مطوية) أودعتها طرفاً من حياة بعض العلماء الأفذاذ، ونتفاً من حرص طلاب العلم على العلم، ونادراً من ثبات أكثر أهل الملة، ونبذاً من نصح الأمة لدينها، وشذراً من زهد العلية الأجِلَّة، وطيفاً من قوة البرهان والحجة مع السير على المحجة.
هي باقة من مكارم الآباء تهدى إلى الأبناء، وطاقات علمية نادرة، وعبقريات فذة مدهشة، هي لأهل العلم تذكرة، وللعامة والخاصة تبصرة، نرجو أن ينعش بها العليل، ويشحذ بها الكليل، ويُبعث الوسنان، ويُوقظ الهاجع، ويُنشر المطوي، ويُفتح المغلق، وينهض المقعد، ويمشي الكسيح.
أضعها بين أيديكم كالمائدة تختلف عليها أصناف الأطعمة لاختلاف شهوات الآكلين، وأنا لا أدعي -معاذ الله- أني أتيت فيها بجديد، ولا أدعي أني أتيت بخفي أو دقيق، فهي أشهر من أن تذكر، ما أظن أحداً منكم إلا وقد سمعها.
جمعتها من كتب السير والتراجم، مجتهداً -فقط- باختيار اللفظ المناسب للموقف؛ فجاءت مشكلة المباني، مختلفة المعاني، راجياً أن تنبع من بين الجوانح لتصل إلى الجوانح وتظهر على الجوارح، فإذا مر بك -يا أخي- ما لا يعجبك فلا تصعِّر خدك، ولا تعرض بوجهك، ولا تسُلّ لسَانَكَ، ولا تجلب بخيلك وَرَجِلَك، وخذ من المائدة ما يعجبك واتهم فهمك.
فكَمْ مِنْ عائبٍ قوْلا صَحِيحاً وآفَتُهُ منَ الفَهْمِ السَّقِيمِ
ولا يصدنك عن الحكمة قائلها؛ فقد يقول الحكمة غير الحكيم، وتكون الرمية من غير الرامي، وربَّ حامل فقه إلى من هو أفْقَهُ.
اعْمَلْ بعلمِي وغُضِّ الطَّرْفَ عَنْ زَلَلَي يَنفَعْكَ قَوْلِي ولا يَضْرُرْكَ تَقْصِيرِي
لقد خففت وإن كنت أكثرت، واختصرت وإن كنت أطلت، وتوقيت ما يتوقاه من رضي من الغنيمة فيها بالسلامة، ومن بعد الشقة بالإياب، لكني لم أجد بداً من الوقوف على ما أودعته هذه الصفحات؛ إذ لا يسع الصمت؛ ففي الصمت عِيٌ كعي الكَلِم، فأسأل الله بعزته وقدرته أن يمحو ببعض بعضاً، ويغفر بخير شراً، وبجد هزلاً، ثم يعود علينا بفضله، ويتغمدنا بعفوه، ويعيذنا بعد طول الأمل فيه، وحسن الظن به من الخيبة والحرمان.
اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول والعمل، ونعوذ بك من التكلف لما لا نحسن، ونعوذ بك من العُجْب لما نحسن، ونعوذ بك من السلاطة والهذر، ونعوذ بك من العي والحصر.
فالقولُ ذُو خَطَل إذَا مَا لَمْ يَكُنْ ربِّي مُعِينِي
أعذني ربِّ مِنْ حَصَرٍ وَعِيٍّ ومن نفسٍ أُعَالِجُهَا عِلَاجاً
اللهم إنا نستعينك ونتوكل عليك، ونفر من حولنا وقوتنا إلى حولك وقوتك، لا إله إلا أنت، لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحَزْن إذا شئت سهلاً.(25/2)
فيم يختصمون؟
الصفحة الأولى: فِيمَ يختصمون؟ روي أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه عيَّن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه قاضياً على المدينة، فمكث عمر سنة كاملة لم يختصم إليه اثنان، لم يعقد جلسة قضاء واحدة، وعندها طلب من أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه إعفاءه من القضاء، فقال أبو بكر: أمن مشقة القضاء تطلب الإعفاء يا عمر!
قال عمر: لا يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن لا حاجة بي عند قوم مؤمنين، عرف كل منهم ما له من حق، فلم يطلب أكثر منه، وما عليه من واجب فلم يقصر في أدائه، أحب كل منهم لأخيه ما يحب لنفسه، إذا غاب أحدهم تفقدوه، وإذا مرض عادوه، وإذا افتقر أعانوه، وإذا احتاج ساعدوه، وإذا أصيب عزوه وواسوه، دينهم النصيحة، وخلقهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففيمَ يختصمون؟ ففيمَ يختصمون؟ هنيئاً، ثم هنيئاً، ثم هنيئاً لمن اكتحلت عيناه برؤية ذلك الجمع.
اللهم كما حرمناه في هذه الحياة فأقر أعيننا برؤيتهم في جنات النعيم، إخواناً على سرر متقابلين.
أولئك النَّاسُ إنْ عُدُّوا وإنْ ذُكِرُوا وما سِوَاهُم فَلَغْوٌ غَيْرُ مَعْدُودِ
واحرَّ شَوقِي إليهِم كُلَّمَا هَجَست نفسِي فنفسي بهمْ مجنونة الكَلَفِ
إنِّي سَئِمْتُ هَوَى الدُّنْيَا وزَهْرَتَهَا وملَّ قَلبِي ذُرَا رَوْضَاتِها الأُنَفِ
وقد بلوتُ لياليهَا وأَنهُرَها فَتَىً وحُزْت لآليها منَ الصَّدَفِ
فلم أجدْ غيرَ دربِ اللهِ دربَ هُدَى وغيرَ ينبوعِهِم نبعاً لمُغترِفِ
كَرِّرْ عَليَّ حدِيثَهُم يَا حادِي فحدِيثُهُم يَجْلُو الفؤادَ الصَّادِي(25/3)
شامة في جبين التاريخ
الصفحة الثانية: شامة في جبين التاريخ، وغرة في ثبات المؤمنين.
روى أهل السير: كـ الذهبي وابن حجر وغيرهم: أن عمر رضي الله عنه وجه في السنة التاسعة عشرة للهجرة جيشاً لحرب الروم، وفتح بلادهم للإسلام، وقد علم قيصر الروم من أخبار جند المسلمين، وما يتحلون به من صدق إيمان، ورسوخ عقيدة، واسترخاص للنفوس في سبيل الله، وصبر وبذل للمُهَج والأرواح في سبيل الله ما علم.
علم ما أذهله وما أدهشه وما أشدهَهُ! فأمر رجالاته أن إذا ظفروا بأسير من المسلمين أن يبقوا عليه حياً ويأتوه به، وشاء الله جل وعلا أن يقع في الأسر عدد من المسلمين من بينهم صحابي جليل قد أدرك معنى العبودية لله عز وجل فتخلص من رقِّ المخلوقين، فلا تراه إلا وهو يصوم النهار، ويتلو القرآن، يقوم في جنح الليل، ويستغفر بالأسحار، فقليلاً ما يهجع، راقبوه، فرأوا من تقاه وصلاحه وصلابته ورجولته وعقله ورزانته ما أدهشهم، ورأوا إن كسبوه لدينهم أنهم حققوا نصراً عظيماً، وكسباً عظيما، فذكروه لقيصرهم.
فقال: ائتوني به، فجاءوا به فكان الخُبْر أعظم من الخَبَر، وجاوزت المعاينة الخبر، (وما راءٍ كمن سمع) كما قيل.
نظر إليه قيصرهم فرأى فيه عزة واستعلاء المؤمن، ونجابة الأبطال، فبادره قائلا: إني أعرض عليك أمراً، قال: ما هو؟ قال: أن تَتَنَصَّر، فإن فعلت خلَّيت سبيلك وأكرمت مثواك، فقال الأسير في أنفة وحزم: هيهات هيهات! إن الموت لأحب إليَّ ألف مرة مما تدعوني إليه.
هيهات! أنَّى لقلوب خالطتها بشاشة الإيمان أن تعود إلى ظلمات الكفر والضلال مهما كانت الإغراءات، أنَّى لقلوب عرفت النور بحق أن تتدثر بالظلام مرة أخرى مهما كانت المغريات، يفشل العرض الأول من هذا القيصر ويتحطم على صخرة الإيمان؛ لأن هذا الرجل امتلأ قلبه بعبودية الله، فلم يبقَ في قلبه متسعٌ لغير تلك العبودية.
بدأ بالإغراءات، فقال قيصرهم: لو تنصرت شاطرتك ملكي، وقاسمتك سلطاني.
يريدون أن يبيع دينه بعرض من الدنيا، يريدون أن يُصرف عن عبودية الله إلى رق المركز الذي طالما سال له لعاب كثير من الناس، فضيعوا حقوق الله في سبيل نيله، وباعوا دينهم بعرض من الدنيا.
هربوا من الرقِّ الَّذِي خُلِقُوا لَهُ فَبُلُوا بِرِقِّ النَّفسِ والشَّيطانِ
فقال رضي الله عنه مبتسما في قيده: اخسأ عدو الله، والذي لا إله إلا هو! لو أعطيتني جميع ما تملك وما تملكه العرب والعجم على أن أرجع عن دين محمد طرفة عين ما قبلت.
الله أكبر! يتحطم الإغراء بالمركز على صخور الإيمان الشُّمِّ في نفس ذلك الصحابي، لماذا؟ لأنه طالب جنة، ولا يمكن أن يغرى بما هو دون الجنة، وليس بأيديهم ما هو أعلى من الجنة ليغروه به، فأنى لهم أن يصلوا إليه، إنها سلعة الله، غالية جد غالية، مهرها بذل النفس والنفيس لمالكها الذي اشتراها من المؤمنين، وايم الله! ما هزلت حتى يستامها المفلسون المعرضون الجبناء، وايم الله! ما كسدت حتى يبتاعها نسيئة وتأجيلاً المعسرون المفلسون، لقد أقيمت للعرض في السوق لمن يريد، وقيل: هل من مزيد؟ فلم يرضَ لها بثمن دون حبل الوريد.
عندها قال قيصرهم: ردوه إلى الأسْرِ، فردوه، وطلب من حاشيته وبطانته الاجتماع فوراً لتداول الرأي في طريق يكسب به هذا الفتى ليكون من جند النصارى -وحقاً إنه كسب-
وبعد المداولة استقر الرأي على أن الشهوة طريق مجرب ناجح صُرِفَ به الكثير عن دينه ومبادئه وثوابته، فلكم رأوا ولكم رأينا ولكم نرى من أناس يعبدون الشهوة، فينفقون أموالهم في الشهوة المحرَّمة؛ لتكون عليهم حسرة وبئس الإنفاق.
يسافرون وراء الشهوة المحرمة وبئس السفر والركب، يبيعون دينهم في سبيل الشهوة المحرمة وخسر البيع، والنار حفت بالشهوات وهم يتهافتون إليها وساء التهافت، عبَّاد شهوة وبئس العبيد.
قال قيصرهم: ائتوني بأجمل فتاة في بلادي، فجيء بملكة جمال البلاد -كما يقولون- وأغراها بالأموال العظيمة إن استطاعت أن توقعه في الفاحشة؛ لأن الفاحشة طريق إلى ترك دينه، ولك أن تتصور -أخي الحبيب- ما حال هذا الرجل، شاب في كامل فتوته ورجولته وشبابه وقوته وفوق ذلك غائب عن أهله منذ شهور، وهذا عامل يجعلهم يتفاءلون، فأدخلوها عليه، فتجردت من ملابسها بعد تجردها من الحياء المترتب على التجرد من الإيمان، ولا ذنب بعد كفر، فقامت تعرض نفسها أمامه، ثم ترتمي في أحضانه، فيهرب منها قائلا: معاذ الله، معاذ الله، فتطارده ويتجنبها، ويغمض عينيه؛ خشية أن يُفتن بها، ويقرأ القرآن ويستعيذ بالرحمن ولسان حاله ومقاله: رب القتل أحب إليَّ مما تدعوني إليه، وإلا تصرف عني كيدها أصْبُ إليها وأكن من الجاهلين.
تتابعه من جهة إلى جهة، وهو يستعيذ بالله الذي ما امتلأ قلبه إلا بعبوديته حتى يئست منه، نَقَلَة الأخبار على الباب من شياطين الإنس ينتظرون خبر فتنة ذلك الصحابي ووقوعه في الفاحشة لينقلوه إلى الآفاق شماتة في الإسلام وأهله، وإعلاناً لانتصارهم في صرفه عن دينه، ولعل غيره يتبعه في ذلك: {حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُم إِنْ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] وإذا بها تصيح: أخرجوني أخرجوني، فأخرجوها قد تغير لونها، إذ قد فشلت مهمتها، كرتها خاسرة عاهرة فاجرة، سألها مَن عند الباب من نقلة الأخبار: ما الذي حدث؟ هاتِ البشرى، يريدون أن يطيروا بالخبر.
قالت: والله ما يدري أأنثى أنا أم ذكر، ووالله ما أدري أأدخلتموني على بشر أم على حجر.
الله أكبر! الإغراء بالشهوة يفشل أمام عبودية الله التي ما تركت متسعاً لغيرها في قلبه.
كيف يرضى طالب الحور العين بعاهرة فاجرة، ولذة قد يعقبها الهاوية؟!
كيف يرضى وقد وُعِدَ بمن لو اطلعت إحداهن إلى أهل الأرض لملأت ما بين السماء والأرض ريحاً ولأضاءت ما بينهما؟!
كيف ونصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها؟!
كيف وقد وعد بمن ينظر إلى وجهه في خدها أصفى من المرآة؟!
كيف وقد وعد بمن أدنى لؤلؤة عليها تضيء ما بين المشرق والمغرب؟!
كيف وقد وعد بمن يكون عليها سبعون ثوباً ينفذ البصر حتى يرى مخَّ ساقها من وراء اللحم والدم والعصب والعظم؟!
كيف وقد وعد بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؟!
خاب من باع باقياً بفانٍ، خاب من باع الجنة بما فيها بشهوة ساعة.
هنا يقول قيصرهم: إذاً أقتلك.
انتقل الأمر إلى التهديد وأنى لمؤمن امتلأ قلبه بعبودية الله أن يخشى تهديداً دون نار جهنم؟! إنه هارب من النار وما هناك تهديد بما هو أعظم من النار؛ فكل تهديد دونها ولا شك.
قال رضي الله عنه: أنت وما تريد.
افعل ما بدا لك، فأمر بصلبه، ثم أمر برميه بالسهام قرب يديه ورجليه وهو يعرض عليه أثناء ذلك أن يرتد عن دينه فيأبى.
فيطلب منهم قيصرهم أن ينزلوه عن خشبة الصلب لينوع التهديد عليه؛ علّه أن يلين، فيدعو بقِدْرٍ عظيم ويصب فيه الزيت، ويوقد تحته النار حتى أصبح الزيت يغلي، ثم يأتي بأسيرين من أسرى المسلمين فيلقيهما في القدر أمام عينيه، فإذا بلحمهما يتفتت وعظامهما تبدو عارية، منظر فظيع بشع وحشي، ظنوا أنهم به وصلوا إلى قلب هذا الصحابي وإلى بغيتهم منه.
التفت القيصر إلى الصحابي وعرض عليه النصرانية؛ فكان أشد إباء من ذي قبل، فلما يئس منه أمر به أن يلقى في القدر مع صاحبيه، فلما ذهب به دمعت عيناه، فظنوا أنه قد جزع وسيرتد عن دينه، فعرضوا عليه النصرانية مرة أخرى فأبى، قال: ويحك فما أبكاك؟ قال: أبكاني أن قلت في نفسي إنما هي نفس تلقى الآن في هذا القدر فتذهب،
وقد كنت أشتهي أن يكون لي بعدد ما في جسدي من شعر أنفس تلقى كلها في هذا القدر في سبيل الله.
لا إله إلا الله! والله أكبر! ويا لها من قلوب امتلأت بخشية الله! وعبودية الله! لم يترك فيها فراغاً لوعد أو وعيد دون الجنة أو الجحيم.
عندها ردوه إلى الأسر ووضعوا معه خمراً ولحم خنزير، ومنعوا عنه الطعام والشراب، وبقي ثلاثة أيام يُراقَب علَّه أن يأكل لحم الخنزير، أو يشرب من الخمر فلم يفعل، وانثنت عنقه رضي الله عنه وأرضاه -مالت عنقه- من شدة الجوع والعطش وأشرف على الهلاك، فأخرجوه وقالوا له: ما منعك أن تأكل أو تشرب؟ فقال: أما إن الضرورة قد أحلت لي ذلك، ولكن -والذي لا إله إلا هو- لقد كرهت أن يشمت أمثالكم بالإسلام وأهله.
لسان حاله:
فَيَا أيُّها الكونُ منِّي اسْتَمِعْ ويا أُذُنَ الدَّهرِ عنِّي افهمِي
فَإِنِّي صريحٌ كَمَا تَعْلَمِين حريصٌ عَلَى مَبدأ قِيِّم
ومَهْما تعدَدَتِ الواجهاتُ فَلَستُ إلَى وِجْهَةٍ أنْتَمِي
سِوَى قِبلة المُصطَفَى والمَقامِ لأَرْوِى الحُشَاشَةَ مِنْ زَمْزَمِ
وأُشهدُ مَنْ دبَّ فوقَ الثَرَى وتحتَ السَّمَا عزةَ المُسْلِمِ
يا لها من كلمة! كرهت أن يشمت أمثالكم بالإسلام وأهله.
هذه الكلمة أهديها إلى أحبتنا الذين يخجلون من مواجهة الناس بالتزامهم، تجده يوم تلاحقه أعين السفهاء بالهمز والغمز واللمز يمشي على خجل وعلى استحياء، يتوارى من القوم ليشمت غيره به، إن حامل الحق يجبر غيره على أن يخجل منه أو يموت بغيظه، فلينتبه لذلك وليكن لسان الحال:
أنَا مُسْلمٌ وأقولُها مِلءَ الوَرَى وعقيدَتِي نورُ الحيَاةِ وَسُؤْدُدِي
كرهت أن يشمت أمثالكم بالإسلام وأهله.
فقال له القيصر معجباً بثباته ورشده وقوة عقله ولبِّه: هل لك أن تقبل رأسي فأخلي عنك -وكانوا لا يعيشون لأنفسهم- فقال: وعن جميع أسرى المسلمين؟ قال: وعن جميعهم.
فقال يُسائل نفسه: عدو من أعداء الله أقبل رأسه ليخلي عن أسرى المسلمين لئلا يقتلوا، لا ضير في ذلك، فقبله فأطلق له الأسرى وأجازه بثلاثين ألف دينار وثلاثين وصيفاً وثلاثين وصيفة كما روى ابن عائذ في السير للذهبي، وقدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه بأسرى المسلمين ثابتاً كالطود الشامخ، يطأ بأخمصه الثرى، وهامه توازي الثريَّا، وأخبر عمر الخبر، فسُرَّ أعظم سرور، ثم قام فقبَّل رأسه وقال: [[حق على كل مسلم أن يقبل رأسك]]، رأس مَنْ؟ لا أظن أحداً يجهل مثل هذا الرجل إنه عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه وأرضاه، شامة في جبين التاريخ، وغرة في جبين الزمن.
أحبتي في الله: لا يملك الإنسان أمام هذه المواقف التي تقف لها الهام إلا أن يقول: إنها النفوس المؤمنة يوم تجاهد في سبيل الله، لا في سبيل قول، ولا في سبيل نفس، ولا في سبيل وطن، بل في سبيل الله؛ لتحقيق منهج الله في أرض الله في سبيل الله؛ لتنفيذ شرع الله على عباد الله، ليس لها لنفسها حظ، بل كلها لله الواحد القهار، لا يخافون لومة لائم، وفيم الخوف من لوم الناس وقد ضمنوا حب وعبودية رب الناس؟ إنما يخشى الناس ولومهم من يستمد حركاته وسكناته ومقاييسه من أهواء الناس، فهو أرضيٌّ طينيٌّ دونيٌّ.
أما من يعود إلى موازين الله ليجعلها فوق كل الموازين فما يبالي بأهواء البشر وشهواتهم وقيمهم، ولا يبالي بما يقولون، ولا بما يفعلون، ولا بما يتوعدون، إنها سمة المؤمنين المحبين لله ورسوله، الاطمئنان إلى الله يملأ قلوبهم، فهلا أعددت نفسك لتكون من أمثال هؤلاء؟!
فإن الينبوع واحد، وإن المورد واحد، وإن النهر واحد، ما أخذوا منه أنت تأخذ منه، ثبات على المبادئ، وصدق مع الباري، وإخلاص في الظاهر والخافي، سماويون لا أرضيون، لا دونيون، لا طينيون، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
فيا ضعيف العزم! ويا دنيء الهمَّة! أين أنت؟ لا تستطل الطريق، الطريق طريق تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورمي في النار الخليل، وأفجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس، ولبث في السجن بضع سنين، ونشر بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضر أيوب، وزاد بكاء داود، وعالج الأذى محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنكم تستعجلون.
إنما يقطع الطريق ويصل المسافر بلزوم الجادة وسير الليل، فإذا حاد السائر عن الطريق أو استطاله ونام الليل فمتى يصل إلى المقصود؟ متى؟ أفيقوا استيقظوا.
وخُذُوا منَ الأَسْلافِ مِمَنْ قبلكُم عظةٌ تُنِيرُ قلوبكم وتبصروا
رُومانَ في جَبروتِها وغُرورِهَا رضخت لمنْ حَمَلوا الضياءَ وحرَّرُوا
دُحر البغاةَ بظلمِهِم وشُرُورِهِم فخذوا دروساً منهم واستعبروا(25/4)
إنما هي نفس واحدة
الصفحة الثالثة: إنما هي نفس واحدة: روى حميد بن هلال كما في السير للذهبي قال: أتى بعض مخالفي أهل السنة مطرف بن عبد الله عليه رحمة الله يدعونه إلى رأيهم المخالف لـ أهل السنة، فقال -واسمعوا لما قال- قال: يا هؤلاء لو كان لي نفسان بايعتكم بإحداهما وأمسكت الأخرى، فإن تبين أن الذي تقولونه هدى أتبعتها الأخرى، وإن كان ضلالة هلكت نفس وبقيت لي نفس، ولكن إنما هي نفس واحدة، والله لا أغرِّر بها، والله لا أغرر بها.
إجابة حازمة وجازمة للدعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها: (إنما هي نفس لا يغرر بها).
إجابة لمن لا يملك تقوى أهل الإسلام، ولا عقول أهل الجاهلية: (إنما هي نفس لا أغرر بها).
إجابة حاسمة جازمة لمن يريد أن تجعل دينك دونه: (إنما هي نفس واحدة لا أغرر بها).
يا من باع كل شيء بلا شيء! واشترى لا شيء بكل شيء: (إنما هي نفس واحدة).
إلى عباد الأهواء والشهوات: (إنما هي نفس واحدة) إلى المتاجرين ببث الشبهات: (إنما هي نفس واحدة).
مَنْ كانَ حينَ تصيبُ الشمسُ جبهتَهُ أو الغبارُ يخافُ الشَينَ والشَّعثَا
ويَأْلفُ الظِّلَ كيْ تبقَى بَشَاشَتُهُ فسوفَ يسكنُ يَوماً راغماً جَدَثَا
في قعْرِ مظلمةٍ غبراءَ موحشةٍ يُطيلُ فِي قَعْرِهَا تحتَ الثَّرَى اللَّبثا
تَجَهزِي بجهازٍ تَبْلُغِينَ بِهِ يَا نَفْسُ قَبْلَ الرَّدَى لَمْ تُخْلَقِي عَبَثاً
إنما هي نفس يا عبد الله! فلا تغرر بها، اشترها اليوم فإن السوق قائمة، والثمن موجود وخطير، والبضائع رخيصة وفي ذات الوقت نفيسة، وسيأتي على السوق والبضائع يوم لا تصل فيه إلى قليل ولا كثير: {ذَلِكَ يَومُ التَّغَابُنِ} [التغابن:9] {ويَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا} [الفرقان:27] يوم الحساب.
إنَّ يومَ الحسابِ يومٌ عَسِيرٌ ليسَ فيه للظاَّلمينَ نَصِيرُ(25/5)
من استطاع منكم أن يؤثر الله في كل مقام فليفعل
الصفحة الرابعة: من استطاع منكم أن يؤثر الله في كل مقام فليفعل.
في تهذيب الكمال، وفي صور من حياة التابعين أن ابن هبيرة كان والياً على العراقين؛ والمقصود بـ العراقين البصرة والكوفة في عهد الخليفة يزيد بن عبد الملك، وكان يزيد يرسل إليه بالكتاب تلو الكتاب ويأمره بإنفاذ ما في تلك الكتب ولو كان مجافياً للحق أحيانا، فدعا ابن هبيرة عالميْن؛ هما الحسن البصري، وعامر الشعبي يستفتيهما في ذلك، هل له مخرج في دين الله أن ينفذ تلك الكتب؟
فأجاب الشعبي جواباً فيه ملاطفة ومسايرة والحسن ساكت، فالتفت ابن هبيرة إلى الحسن وقال: ما تقول يا أبا سعيد؟ فقال: يـ ابن هبيرة! خَف الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله، واعلم أن الله عز وجل يمنعك من يزيد، وأن يزيد لا يمنعك من الله.
يـ ابن هبيرة! إنه يوشك أن ينزل بك ملك غليظ شديد لا يعصي الله ما أمره، فيزيلك عن سريرك، وينقلك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك حيث لا تجد هناك يزيد، وإنما تجد عملك الذي خالفت فيه رب يزيد.
يـ ابن هبيرة! إنك إن تكن مع الله وفي طاعته يكفك بائقة يزيد، وإن تكن مع يزيد في معصية الله فإن الله يكلك إلى يزيد.
فبكى ابن هبيرة حتى بللت دموعه لحيته، ومال عن الشعبي إلى الحسن وبالغ في إعظامه وإكرامه.
فلما خرجا من عنده توجها إلى المسجد فاجتمع عليهما الناس وجعلوا يسألونهما عن خبرهما مع ابن هبيرة، فالتفت الشعبي إليهم وقال: أيها الناس! من استطاع منكم أن يؤثر الله عز وجل على خلقه في كل مقام فليفعل؛ فوالذي نفسي بيده! ما قال الحسن لـ ابن هبيرة قولاً أجهله، ولكني أردت فيما قلته وجه ابن هبيرة، وأراد الحسن وجه الله فأقصاني الله منه، وأدنى الحسن وحببه إليه.
أيها الأحبة: إن القلب هو محل التأثر من الإنسان، والقلوب بيد الرحمن يقلبها كيف يشاء، ومن راءى بعلمه ونصحه فقد قطع ما بينه وبين الله، وأنى له أن يمنحه الله إقبالاً من الناس أو تأثيراً فيهم! لذا تراه إن تكلم لم يُسْمع، وإن عمل لم يحرك ويظن أنه قد أحسن، ولكن كم من مسيء يرى أنه محسن، وجاهل يرى أنه عالم، وبخيل يرى أنه كريم، وأحمق يرى أنه عاقل، وظالم يرى أنه مظلوم، وآكل للحرام يرى أنه متورع، وفاسق يعتقد أنه عدل، وطالب علم للدنيا يرى أنه لله، والأجل قصير، والأمل طويل، والمرد إلى الله، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، من آثر الله دله الله على الطريق، وإنا لله من بُعْدٍ عن الطريق.
وفي السير -أيضاً- أن الحسن قد خرج من عند ابن هبيرة فإذا هو بالقراء على الباب، فقال: [[ما يجلسكم هنا؟! تريدون الدخول؟! أتجالسونه مجالسة الأبرار؟ تفرقوا فرَّق الله بين أرواحكم وأجسادكم، قد فَرْطَحْتُم نعالكم، وشمرتم ثيابكم، فضحتم القراء فضحكم الله، والله! لو زهدتم لرغبوا فيما عندكم من العلم، ولكنكم رغبتم فيما عندهم فزهدوا فيكم.
أبعد الله من أبعد، أبعد الله من أبعد، أبعد الله من أبعد.
أهينوا الدنيا؛ فوالله لأهنأ ما تكونون إذا أهنتموها]]، ثم كان مما قال: [[السكين تُحدُّ، والكبش يُعْلف، والتنور يُسْجَر، ومن سمع سمّع الله به، وما أحد أعز الدرهم إلا أذله الله.
تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار]].
أيها الأحبة: إننا نفوس لا ألفاظ، والكلمة من قائلها بمعناها في نفسه، لا بمعناها في نفسها، فما يحسن بحامل الشريعة أن ينطق بكلام يرده عليه الشرع، ولو نافق طالب العلم لكان كل منافق أشرف منه، ولطخة في الثوب الأبيض ليست كلطخة في الثوب الأسود.
والدينار إذا كان صحيحاً في أحد وجهيه دون الآخر، أو في بعضه دون بعض فهو زائف كله، فمن ترك واجباً مخافة أحد نزعت منه هيبة الله حتى لو أمر بعض ولده أو مواليه لاستخف به.
يقول الفضيل: إنما يهابك الخلق على قدر هيبتك لله عز وجل.
فاجعلْ رِضَا اللهِ كلَّ القَصدِ تنْجُ فَمَا يُغني رِضَا الخَلْق والخَلاقُ قد سخطا
هل يبسطون لِمَا القهارُ قابضهُ أوْ يَقْبضونَ إذا الرّحمنُ قد بَسَطَا
لا والله.(25/6)
من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه
الصفحة الخامسة: من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.
في ذيل طبقات الحنابلة ذكر ابن رجب في ترجمة القاضي أبي بكر الأنصاري البزاز أنه قال: كنت مجاوراً في مكة -حرسها الله- فأصابني يوماً من الأيام جوع شديد، ولم أجد شيئاً أدفع به عني ذلك الجوع، وخرجت أبحث عن طعام فلم أجد، فوجدت كيساً من حرير مشدوداً برباط من حرير أيضاً، قال: فأخذته وجئت به إلى بيتي، وحللته فوجدت فيه عقداً من لؤلؤ لم أرَ مثله قط، قال: فربطته وأعدته كما كان، ثم خرجت أبحث عن طعام فوجدت شيخاً ينادي ويقول: من وجد لنا كيساً صفته كذا وكذا فله خمسمائة دينار من الذهب.
قال: فقلت في نفسي إني محتاج وجائع أفآخذ هذه الدنانير لأنتفع بها وأرد عليه كيسه؟ لا ضير، فقلت له: تعال إليَّ فأخذته، وذهبت به إلى بيتي، وسألته عن علامة الكيس، وعلامة اللؤلؤ، وعدد اللؤلؤ، والخيط المشدود به، فإذا هو كما قال، قال: فأخرجته ودفعته إليه، فسلم إليَّ خمسمائة دينار -الجائزة التي ذكرها- قال: فقلت له: يجب علي أن أعيده لك ولا آخذ له جزاءً، قال: لابد أن تأخذ، وألحَّ عليَّ كثيراً، وأنا أحوج ما أكون، قال: فقلت: والذي لا إله إلا هو! ما آخذ عليه جزاءً من أحد سوى الله، فلم يقبل الدنانير، قال: فتركني ومضى.
ورجع الشيخ بعد موسم الحج إلى بلده، وأما أنا -الإمام البزاز الكلام له- فإني خرجت من مكة وركبت البحر في وسط أمواجه المتلاطمة وأهواله، فانكسر المركب، وغرق الناس، وهلكت الأموال.
قال: وسلمني الله إذ بقيت على قطعة من المركب تذهب بي يمنة ويسرة لا أدري إلى أين تذهب بي، وبقيت مدة في البحر تتقاذفني الأمواج من مكان إلى مكان حتى لفظتني إلى جزيرة فيها قوم أميون لا يقرءون ولا يكتبون.
قال: فجلست في مسجدهم، وكنت أقرأ، قال: فما أن رآني أهل المسجد حتى اجتمعوا عليَّ، فلم يبقَ في الجزيرة أحد إلا قال: علمني القرآن.
قال: فعلمتهم القرآن، وحصل لي خير كثير من جراء ذلك، قال: ثم إني رأيت في ذلك المسجد مصحفاً ممزقاً، فأخذت أوراقه لأقرأ فيها، فقالوا: أتحسن الكتابة؟ قلت: نعم، قالوا: علمنا الخط، قال: قلت: لا بأس، فجاءوا بصبيانهم وشبابهم فكنت أعلمهم، وحصل لي من ذلك خير عظيم.
ثم رغبوا فيه فقالوا له بعد ذلك وهم يريدون أن يبقى معهم: عندنا صبية يتيمة ومعها شيء من الدنيا، ونريد أن نزوجك بها، وتبقى معنا في هذه الجزيرة.
قال: فامتنعت، فألحوا عليَّ وألزموني، فلم أملك أمام إلحاحهم وإصرارهم إلا أن أجبت لطلبهم، فجهَّزوها لي، وزفُّوها إليَّ -زفها محارمها- وجلست معهم، وإذا بي أنظر إليها وإذا ذلك العقد الذي رأيته بـ مكة بعينه معلق في عنقها فدهشت، وما كان لي حينئذ من شغل إلا النظر لهذا العقد، فقال محارمها: يا شيخ! كسرت قلب هذه اليتيمة، لم تنظر إليها، وإنما تنظر إلى العقد، قلت لهم: إن لهذا العقد قصة، قالوا: وما هي؟ فقصصتها عليهم فصاحوا وضجوا بالتهليل والتكبير، وصرخوا بالتسبيح حتى بلغ صوتهم أنحاء الجزيرة.
فقلت: سبحان الله! ما بكم؟ قالوا: إن الشيخ الذي أخذ منك العقد في مكة هو أبو هذه الصبية، وكان يقول عند عودته من الحج ويردد دائماً: والله! ما وجدت على وجه الأرض مسلماً كهذا الذي ردَّ عليَّ العقد في مكة، اللهم اجمع بيني وبينه حتى أزوجه ابنتي، وتوفى ذلك الرجل، وحقق الله دعوته وزوَّجك بابنته.
فيقول: فبقيت معها مدة من الزمن فكانت خير امرأة، رزقت منها بولدين، ثم توفيت فعليها رحمة الله، فورثت العقد المعهود أنا وولدي، قال: ثم توفي الولدان واحداً تلو الآخر، فورثت العقد منهما، فبعته بمائة ألف دينار.
ويحدث بعد مدة ويقول: هذا من بقايا ثمن ذلك العقد، فرحمة الله على الجميع.
من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، وصنائع المعروف تقي مصارع السوء: {وَمَن يَتَّقِِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]
{وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق:4].(25/7)
زد من الضرب وزد من الحديث
الصفحة السادسة: زد من الضرب وزد من الحديث.
ذكر أهل السير أن هشام بن عمار عليه رحمة الله كان شغوفاً بطلب علم النبوة وهو صغير، وكان معاصراً للإمام مالك عليه رحمة الله فجاءه في رحلة شاقة طويلة -فاسمع لها يا طالب العلم وعِهَا فلعل لك فيها عظة وعبرة- عن محمد بن الفيض الغساني قال: سمعت هشام بن عمار يقول: باع أبي بيته بعشرين ديناراً وجهزني للحج وطلب العلم، قال: فتوجهت من دمشق تاركاً أهلي ووطني رغبة في الحج إلى بيت الله ولقاء الأئمة أمثال مالك رحمه الله قال: فلما صرت إلى المدينة أتيت مجلس الإمام مالك ومعي مسائل -أعدَّ مسائل يريد أن يسائل الإمام فيها- قال: وأريد مع ذلك أن يحدثني، قال: فأتيته وهو جالس في هيئة الملوك، وغلمانه قيام حوله، والناس يسألونه ويجيبهم، يتدفق كالبحر، قال: فلما انقضى المجلس قمت لأسأله وأطلب أن يحدثني، فاستصغرني ورآني لست أهلا للرواية.
فقال: حصَّلنا على الصبيان -يعني أنه لم يبقَ إلا الصبيان- يا غلام -لأحد غلمانه الذين حواليه- احمله، قال: فحملني كما يُحْمل الصبي، وأنا يومئذ غلام مدرك، فأخرجني.
يقول ابن جزرة: ودخل هشام ذات يوم على الإمام مالك بغير إذن وقال له: حدثني، فرفض الإمام مالك، يقول هشام: فكررت عليه وراددته فقال لغلامه: خذ هذا واضربه خمسة عشر سوطاً، قال: فأخذه وذهب به وضربه خمسة عشر سوطاً.
فوقف يبكي على الباب حتى خرج الإمام مالك فإذا به يبكي، فقال له: ما يبكيك يا هشام! أو أوجعتك؟ قال هشام: إن أبي باع منزله بعشرين ديناراً، ووجه بي إليك لأتشرف بالسماع منك، فضربتني وظلمتني بغير جرم فعلته سوى أني أطلب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لا جعلتك في حلٍّ، لأسائلنك بين يدي الله.
فتأثر الإمام مالك، وعلم أنه طالب حديث وجامع سنة بحق، فقال: يا بني! ما يرضيك؟ ما كفارة ذلك؟
فقال هشام: أن تحدثني بكل سوط ضربتنيه حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فجلس الإمام وقال: حدثنا فلان عن فلان عن فلان، فسرد له خمسة عشر حديثاً، فقال بعدها: يا إمام! زد في الضرب، وزد من الحديث.
فضحك الإمام مالك وقال: اذهب.
فانظر يا طالب العلم! كيف عرفوا العلم وقدره، واستعذبوا العذاب في سبيل الحصول عليه، باعوا بيوتهم، وقطعوا الفيافي والقفار حتى وصلوا؛ لأنهم يعرفون أنه بواسطة العلم يُعْبد الله في الأرض على بصيرة.
هاهو الحافظ ابن عساكر عليه رحمة الله لاقى في تحصيل العلم ما لاقى من الشدائد مما تنقله كتب السير والتراجم وهاجر من دمشق إلى نيسابور وكانت ذات ثلج شديد، وبرد زمهرير لم يألفه في موطنه دمشق، وفي ذات ليلة تحت وطأة الغربة، وفراق الأحبة، وفراق الأبناء، وشدة برد البلدة -في نيسابور - قال يصور معاناته، ويذكر لأهله أنه لا زال على عهده أن يطلب العلم ثم يعود إليهم، فكان مما قال:
لولا الجحيم الذي في القلبِ من حُرَقي لفُرقة الأهلِ والأحبابِ والوطنِ
لمِتُّ من شِدةِ البَردِ الذي ظهرتْ آثارُ شدَّتِهِ في ظَاهرِ البَدَنِ
يا قومِ دُوموا على عهدِ الهُدى وثِقوا أنّي على العهدِ لم أغدِرْ ولَم أَخُنِ
ثم ذكر ما كان له من أسفار متواصلة، ورحلات في الأرض متباعدة في سبيل طلب العلم الشرعي، فقال رحمه الله:
وأنا الذي سافرتُ في طلبِ الهُدى سفرَيْنِ بينَ فدافدٍ وتنائفِ
وأنا الذي طوَّفت غيرَ مدينةٍ منْ أصبهان إلى حدودِ الطائف
الشرق قد عاينت أكثر مدْنِه بعدَ العراق وشامِنا المُتَعارفِ
وجمعت في الأسفار كل نفيسةٍ ولقيت كل مخالِفٍ ومآلف
وسمعتُ سنةَ أحمد منْ بَعد ما أنفقت فيها تالدي مع طَارفِي
صلى الله على نبينا محمد.
لله درهم! ما أمضى عزائمهم! وما أشد جلدهم وشوقهم لطلب العلم لوجه الله! وما أقواهم على الدخول فيما يريدون حين يريدون! طافوا الدنيا لتحصيل العلم، زرعوها بالأقدام زرعاً يوم لم يكن قطار ولا سيارة ولا باخرة ولا طيارة، طواف للبلدان، ونَصَب للأبدان، وكسب للزمان، لا راحة ولا استرخاء، لا صعوبة تمنعهم من لقاء العلماء، أمانيهم في تحصيل العلم، وخدمة هذا الدين تحدوهم إلى المزيد، وتنسيهم ما يلقون من تعب وعناء شديد، لسان حال بعضهم:
كَنَفِي بَعِيرِي إنْ ظعَنتُ ومَفْرشي كُمِّي وجُنحُ الليلِ مطرح هَوْدجِي
ماتوا وغُيِّبَ في الترابِ شُخُوصُهم فالنَّشرُ مسكٌ والعظامُ رميمُ
هل من مقتد بهم -يا طلبة العلم- في هذا الزمان؟
إن مرحلة تحصيل العلم شاقة تنقطع دون بلوغها حيازيم الصبر، وتنحسر أمامها عزمات الرجال، ولا يصبر على اجتيازها إلا الأفذاذ الأبطال، من لم يستسلموا للكسل والتواني، ولو لاقوا الألاقي.
من لم يطيعوا التواني ولم يضيعوا الحقوق.
فيا طلبة العلم: اعلموا أن علوم الإسلام لم تدون في ظلال الأشجار والثمار، وعلى ضفاف الأنهار، إنما دوِّنت باللحم والدم والعصب، وظمأ الهواجر، وسهر الليالي، على السراج الذي لا يكاد يضيء نفسه أحياناً، في ظل الجوع والعري، وانقطاع النفقة في بلاد الغربة، والصبر على أهوال الأسفار، وملاقاة الخطوب والأخطار، والتيه في الفيافي والقفار، والغرق في البحار، مع البعد عن الأهل والزوجة والدار.
لسان حال الكثير منهم من علماء الإسلام:
في الشام أهلِي وبغداد الهَوَى وأنَا بـ الرقمتين وبـ الفسطاط خِلاَّنِي
بالصبرِ بلَغُوا ما أرادُوا:
والصبرُ يُوجدُ إنْ باءٌ له كُسِرَت لكنَّهُ بِسُكُونِ الباءِ مفقودُ
رحمهم الله، تحمَّلوا ما تحملوا لتدوين العلم، فلم يبقَ لك إلا أن تطلبه في مظانه بهمة الرجال التي تتصاغر وتتضاءل أمامها المشاق والمتاعب والأخطار، ولن يخيب الله مسعى من سعى، ولن يتخلف الصادق عن النبوغ؛ فالنبوغ صبر طويل كما قيل.
وإنَّ سِيادةَ الأقوامِ فاعلمْ لَهَا صُعَدَاءُ مَطلعُهَا طَوِيلُ
وأنت لها أهل.
خلَقَ اللهُ للخُطُوبِ رجالاً ورجالاً لقَصْعَةٍ وثَرِيدِ
فكن من رجال الخطوب لا من رجال القصعة والثريد، فمن ساير الأماني، وصاحب التواني، واستلذَّ المطاعم، واستحبَّ النوم، وشغلته تقلبات الفصول عن التحصيل فما أبعده عن العلم! وما أبعد العلم عنه! وما أنفره عن العلم! وما أنفر العلم عنه!
إذا كان يؤذيك حر المصيف ويبس الخريف وبرد الشتا
ويلهيك حسن زمان الربيع فأخذك للعلم قل لي متى
فكُنْ رَجُلا عَلَى العَلْياءِ جَلْداً وشيمتُك التَّصَبُّرُ للعَنَاءِ
فقلْ منْ جدَّ في أمرٍ يحاوِلُهُ واستَصْحَب الصَّبْرَ إلا فَازَ بالظَّفرِ
كَمْ حاجةٍ بِمكانِ النَّجْمِ قرَّبها طولُ التَّرَدُدِ فِي الرَّوْحَاتِ والبكرِ(25/8)
تكليف لا تشريف
الصفحة السابعة: تكليف لا تشريف.
حدَّث الفضيل بن الربيع قال: حج أمير المؤمنين هارون الرشيد عليه رحمة الله قال: ثم أتاني وخرجت مسرعاً، أقول له: لو أرسلت إليَّ لأتيتك، قال: ويحك قد حاك في نفسي شيء فانظر لي رجلاً أسأله، فقلت له: هاهنا سفيان بن عيينة، فقال: امض بنا إليه.
قال: فأتينا فقرعنا الباب، فقال: من؟ قلت: أمير المؤمنين، فخرج وقال: لو أرسلت إليَّ أتيتك، فحادثه ساعة، ثم قال له: أعليك دين؟ قال: نعم.
قال: اقض دينه.
فلما خرجنا قال: ما أغنى عني صاحبك شيئاً، انظر لي رجلا آخر أسأله، قلت: هاهنا عبد الرزاق بن همام قال: امض بنا إليه، فأتيناه، فقرعنا الباب وخرج إلينا، فإذا هو بأمير المؤمنين، فقال: لو أرسلت إليَّ لأتيتك، فحادثه ساعة، ثم قال: أعليك دين؟ قال: نعم.
قال: يا أبا عباس اقضِ دينه،
قال: فلما خرجنا قال: ما أغنى عنا صاحبك شيئاً، انظر لي رجلاً أسأله، قلت: هاهنا الفضيل بن عياض قال: امض بنا إليه، قال: فأتينا، فإذا هو قائم يتلو آية من القرآن يرددها.
قال: فقرعت الباب فلم يرد، فقلت: أجب أمير المؤمنين، قال: فاستمر في قراءته، فقلت: أما عليك طاعة، قال: بلى.
لكن ليس للمؤمن أن يذل نفسه، ثم نزل ففتح باب الدار، ثم ارتقى إلى غرفة من الغرف، وأطفأ السراج، والتجأ إلى زاوية في بيته، قال: فدخلنا فجعلنا نجول بأيدينا علَّنا نجده، فسبقت كف هارون إليه، فقال: يا لها من كف ما ألينها إن نجت غداً من عذاب الله عز وجل!
فقلت في نفسي: ليكلمنه الليلة بكلام قوي من قلب تقي، قال: خذ -رحمك الله- لمجيئنا إليك، وأعطاه مالا، فقال: إن عمر بن عبد العزيز لما وليَ الخلافة دعا سالم بن عبد الله، ومحمد بن كعب، ورجاء بن حيوة فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء، فأشيروا عليَّ.
فعدَّ الخلافة بلاء، وعددتها أنت نعمة، خذ مالك لا أريده.
ثم واصل فقال: قال له سالم: يعني قال سالم لـ عمر: إن أردت النجاة من عذاب الله فصم عن الدنيا، وليكن إفطارك منها الموت.
وقال له محمد بن كعب: إن أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المؤمنين لك أباً، وأوسطهم أخاً، وأصغرهم ابناً، ووقِّر أباك، وأكرم أخاك، واحنُ على ولدك.
وقال له رجاء: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله، فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إن شئت، وإني أقول لك -يا أمير المؤمنين- إني أخاف عليك أشدَّ الخوف من يوم تزل فيه الأقدام، فهل معك -رحمك الله- من يشير عليك بمثل ذلك.
فبكى هارون بكاءً شديداً حتى غشي عليه، فقلت له: ارفق بأمير المؤمنين، فقال: يـ ابن الربيع؛ تقتله أنت وأصحابك وأرفق به أنا، النصح رفق، النصح رفق.
ثم أفاق الرشيد وقال: زدني رحمك الله.
فقال: يا أمير المؤمنين! بلغني أن عاملاً لـ عمر بن عبد العزيز شُكي إليه، فكتب عمر إليه قائلاً: يا أخي! أذكرك طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد.
فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر فقال له عمر: ما أقدمك؟
قال: خلعت قلبي بكتابك، والله لا أعود إلى ولاية حتى ألقى الله عز وجل فبكى الرشيد بكاءً شديداً، ثم قال: زدني رحمك الله.
فقال: يا حسن الوجه! أنت الذي سيسألك الله عز وجل عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقيَ هذا الوجه النار فافعل، وإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك؛ فإن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: {من أصبح لهم غاشاً لم يرح رائحة الجنة}.
فبكى هارون بكاءً شديداً، ثم أفاق وقال له: أعليك دين؟ قال: نعم، دين لربي لم يحاسبني عليه، فالويل لي إن سألني، والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم أُلْهَم حُجَّتي، ثم انفجر باكياً مضطرباً كما يضطرب العصفور المبلل بالماء، ثم هدأ.
فقال له هارون: أما عليك دين لعباد الله نقضيه عنك؟ قال: إن ربي أمرني أن أصدق وعده وأطيع أمره، فقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم من رزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58].
توكلت في رزقي على الله خالقي وأيقنتُ أنَّ اللهَ لا شكَّ رَازِقِي
وما يك منْ رزقٍ فليسَ يَفوتني ولَوْ كانَ في قاعِ البِحارِ العَوَامِقِ
قال: هذه ألف دينار تقوَّ بها على عبادتك، وأنفقها على عيالك، وسد بها حاجاتهم، قال: سبحان الله! أدلك على طريق النجاة، وتكافئني بمثل هذا سلمك الله.
ثم صمت فلم يتكلم بعدها، قال: فخرجنا من عنده، فلما صرنا إلى الباب قال هارون لحاجبه: إذا سألتك أن تدلني على أحد فدلني على مثل هذا، فلما انصرفنا قال: دخلت عليه امرأته فقالت: يا هذا قد ترى ما نحن فيه من ضيق الحال، فلو قبلت المال لتسد به حاجتنا.
فقال لها: إنما مَثَلِي ومثلكم كمَثَل قوم كان لهم بعير يأكلون من كسبه، فلما كبر نحروه فأكلوا لحمه، فلما سمع هارون كلامه وهو على الباب قال: نرجع إليه فعسى أن يقبل الدراهم، فلما علم الفضيل بعودتهم خرج فجلس على سطح الغرفة، فجاء هارون وجلس إلى جنبه، فجعل يكلمه فلا يجيبه، فبينما هم كذلك إذ خرجت جارية فقالت: يا هذا! قد آذيتموه هذه الليلة، دعوه مع كتاب الله وانصرفوا رحمكم الله.
فانصرفوا رحم الله الجميع.
أحبتي في الله: يمكننا أن نأخذ من هذه الحادثة عبرتين:
أولاً: أن طلب النصيحة من صاحب المنزلة والسعي للبحث عنها في مظانها، وطرق الأبواب لها، وتلمس الوسائل للحصول عليها، عقل ورشد وأي رشد! لأن إتيان النصيحة إلى صاحب المكانة يجعلها في مركز الضعف، والعكس بالعكس؛ إتيانه للنصيحة يجعلها في مركز القوة.
ثانياً: أن المؤمنين إخوة لا تظالم، ولا تخاذل، ولا تحاقر بينهم، الصغير ابن، والوسط أخ، والكبير أب، جسد واحد، وأمة واحدة.
قد قالها عمر بن الخطاب رضي الله عنه لإخوة له خرجوا يريدون نشر دين الله في الأرض بأمره خلف السهوب والبحار والفيافي والقفار، فقال لهم: سيروا على بركة الله، وأنا أبو العيال حتى تعودوا.
قالها حتى لا يترك في قلوبهم شغلاً بهؤلاء الصغار.
فهل تستطيع أمة الإسلام أن تربي مثل هذه النماذج؟ نعم والله!
إنها لأمة خير يتعاقبه جيل بعد جيل، ولن تعدم الأمة وسائل لتربية مثل هذه النماذج، وأعلى وسيلة علم كل فرد وهو على ثغرة من ثغور الإسلام أن المسئولية تكليف لا تشريف، وأن له شيئاً وعليه شيء، فليأخذ ما له من حق وليقم بما عليه من واجب، وليكن مع ذلك أصم سميعاً، أعمى بصيراً، سكوتاً نطوقاً.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.(25/9)
حكمها رحمة ونعمة
الصفحة الثامنة: حكمها رحمة ونعمة.
كان قتيبة بن مسلم الباهلي عليه رحمة الله في شرق الكرة الأرضية يفتح المدن والقرى، ينشر دين الله في الأرض، ويفتح الله على يديه مدينة سمرقند، افتتحها بدون أن يدعو أهلها للإسلام أو الجزية، ثم يمهلهم ثلاثاً؛ كعادة المسلمين، ثم يبدأ القتال.
فلما علم أهل سمرقند بأن هذا الأمر في دين الإسلام كتب كهنتها رسالة إلى سلطان المسلمين في ذلك الوقت؛ وهو عمر بن عبد العزيز عليه رحمة الله وأرسلوا بهذه الرسالة أحد أهل سمرقند، فاسمع إلى هذا الرسول.
يقول: أخذت أتنقل من بلد إلى بلد شهراً حتى وصلت إلى دمشق دار الخلافة، فلما وصلت أخذت أتنقل في أحيائها، وأحدث نفسي بأن أسأل عن دار السلطان، ثم أخشى على نفسي إن نطقت باسم السلطان أن أؤخذ أخذاً، فلما رأيت أعظم بناء في المدينة دخلت إليه، وإذا بالناس يدخلون ويخرجون ويدوكون، وإذا بحلقات في هذا البناء، وأناس يركعون ويسجدون، يقول: فقلت لأحدهم: أهذه دار الوالي؟ قال: لا.
بل هذا هو المسجد.
قال: هل صليت؟ قلت: وما صليت؟ قال: فما دينك؟ قلت: على دين أهل سمرقند، فجعل يحدثني عن الإسلام حتى اعتنقته، وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قلت له: أنا رجل غريب، أريد السلطان، دلني عليه -يرحمك الله- قال: تعني أمير المؤمنين، قلت: نعم، قال: اسلك هذا الطريق حتى تصل إلى تلك الدار، وأشار إلى دار من طين، فقلت: أتهزأ بي؟ قال: لا.
ولكن اسلك هذا الطريق، فتلك دار أمير المؤمنين إن كنت تريده، قال: فذهبت واقتربت، وإذا برجل يأخذ طيناً، ويسد به ثلمة في الدار، وامرأة تناوله الطين.
قال: فرجعت إلى الذي دلَّني وقلت: أسألك عن دار أمير المؤمنين فتدلني على دار رجل طيَّان؟! قال: هو ذاك أمير المؤمنين.
قال: فطرقت الباب، وذهبت المرأة، ونزل الرجل، ورحب بي، وغسل يديه وخرج وقال: ما تريد؟
قلت: هذه رسالة من كهنة سمرقند، فقرأها، ثم قلبها فكتب على ظهرها، من عبد الله عمر بن عبد العزيز إلى عامله بـ سمرقند: أن نصِّب قاضياً ينظر فيما ذكروا، ثم ختمها، وناولني، وانطلقت يقول: فلولا أني خشيت أن يكذبني أهل سمرقند لألقيتها في الطريق، ماذا تفعل هذه الورقة وهذه الكلمات في إخراج الجيوش الجرارة، وذلك القائد الذي دوَّخ شرق الكرة الأرضية برمتها؛ يعني قتيبة بن مسلم؟
قال: وعدت بفضل الله مسلماً، كلما دخلت بلداً صليت في مسجده واجتمعت بإخوتي وأنست بهم، فأكرموني وأنسوا بي، فلما وصلت إلى سمرقند وقرأ الكهنة الرسالة أظلمت عليهم الأرض، وضاقت بما رحبت وقالوا: ما تنفع هذه الرسالة وماذا تغني عنا؟!
ذهبوا بها إلى عامل عمر على سمرقند، فنصَّب لهم الوالي جميع بن حاضر الباجي قاضياً لهم لينظر في شكواهم.
وحدد القاضي لهم يوماً اجتمعوا فيه، ثم قال القاضي: ما دعواك يا سمرقندي؟ قال: اجتاحنا قتيبة ولم يدعُنَا إلى الإسلام، ويمهلنا لينظر في أمرنا، فقال القاضي لخليفة قتيبة، وقد مات قتيبة عليه رحمة الله قال: أنت ما تقول؟
قال: لقد كانت أرضهم خصبة، وأرضهم واسعة، وخشي قتيبة إن هو آذنهم وأمهلهم أن يتحصنوا عليه، والحرب خدعة.
قال واسمعوا إلى ما قال: لقد خرجنا مجاهدين في سبيل الله، وما خرجنا فاتحين للأرض أشراً وبطراً، ثم قضى القاضي بإخراج المسلمين على أن ينذرهم قائد الجيش الإسلامي بعد ذلك وينابذهم وفقاً للمبادئ الإسلامية.
ما ظن أهل سمرقند أن تلك الكلمات ستفعل فعلها، وما غربت شمس ذلك اليوم ورجل من الجيش الإسلامي في أرض سمرقند، فخرج الجيش كله، وبدأ لينذرهم ويدعوهم إلى الإسلام أو الجزية أو القتال، فلما رأى أهل سمرقند ما لا مثيل له في تاريخ البشرية؛ من عدالة تنفذها الدولة على جيشها وقائدها قالوا: هذه أمة حكمها رحمة ونعمة، فدخل أغلبهم في دين الله، وفرضت الجزية على الباقين.
فيا لله! أرأيتم جيشاً يفتح مدينة ويدخلها ويشتكي أهل المدينة للدولة المنتصرة، فيحكم قضاؤها على الجيش الظافر بالخروج، بل هل رأيتم في التاريخ قديماً وحديثاً حرباً يتقيد أصحابها بمبادئ الأخلاق والحق كما تقيد به الجيش الإسلامي؟ والله لا نعلم في الدنيا كلها موقفاً مثل هذا لأمة من أمم الأرض.
والليلُ يشهدُ والكواكبُ والثَّرى وكفى بهم شهداء يومَ الدِّينِ
جمال ذي الأرض كانُوا فِي الحياةِ وهم بعد الممات جمال الكُتْب والسير(25/10)
لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر
الصفحة التاسعة:
لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر
جاء في إنباء الرواة في ترجمة أبي نصر القرطبي قال: كنا نختلف إلى أبي علي القالي رحمه الله وقت إملائه النوادر في جامع الزهراء بـ قرطبة ونحن في فصل الربيع، قال: فبينما أنا ذات يوم في بعض الطريق إذ أخذتني سحابة، فما وصلت إلى مجلس أبي علي إلا وقد ابتلت ثيابي كلها، وحوالي أبي علي أعلام أهل قرطبة، فلما رآني مبتلاً بالماء أمرني بالدنو منه، وقال لي: مهلاً يا أبا نصر! لا تأسف، ولا تأس، ولا تحزن على ما عرض لك؛ فهذا شيء يضمحل عنك بسرعة، بثياب تبدِّلها بغير ثيابك، لكن اسمع -يريد أن يعزيه وأن يسليه على ما أصابه- قد عرض لي -يقول أبو علي عن نفسه- ما أبقى في جسمي ندوباً وجروحاً تدخل معي القبر، لقد كنت أختلف في الطلب؛ يعني في طلب العلم إلى ابن مجاهد رحمة الله عليه فذهبت إليه آخر الليل قبل طلوع الفجر؛ لأقترب منه لأستفيد، فلما انتهيت إلى الطريق الذي كنت أخرج منه إلى مجلسه ألفيته مغلقاً، قال وعسر عليَّ فتحه، فقلت: سبحان الله! أبكِّر هذا البكور ثم أغلب على القرب منه، والله لا يكون ذلك، فنظرت إلى سَرَبٍ بجانب الدار ضيق فاقتحمته، فلما توسطته ضاق بي ذلك السرب وذلك النفق، فلم أقدر على الخروج منه، ولم أستطع النهوض، قال: فاقتحمته بشدة حتى خرجت بعد أن تخرقت ثيابي، وأثَّر السرب في لحمي حتى انكشف العظم، ومنَّ الله علي بالخروج فوافيت مجلس الشيخ على حالتي هذه، فأين أنت مما عرض لي؟ ثم أنشد يقول:
دببتُ للمجدِ والسَّاعينَ قدْ بَلَغُوا جُهدَ النُّفوسِ وألقَوا دُونَهُ الأزرَا
وكابدوا المجدَ حتَّى ملَّ أكثرُهُم وعانَقَ المجدَ مَنْ أوْفَى ومَنْ صبرَا
لا تحسب المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
قال أبو نصر: فسلاني ما حكاه، وهان عندي ما عرض لي من بلل للثياب بجانب ما أصابه، فلازمته حتى مات، فرحمة الله على الجميع.
هم أسلافنا، وندعي الصلة بهم، فهل مجالسنا مجالسهم، وهممنا هممهم؟
لمَّا تَبَدَّلَتِ المَجالسُ أوجُهاً غيرَ الذينَ عَهِدتُ مِنْ عُلمائِهَا
ورأيتُها محفوفةً بِسِوَى الأُلَى كَانُوا وُلاةَ صُدُورِهَا وفَنَائِها
أنشدتُ بيتاً ثائراً متقدماً والعينُ قدْ شرَقَت بجَارِي مائِها
أما الخيامُ فإنَّها كخيامهِم وأَرَى نِساءَ الحَيِّ غيرَ نِسَائِها
يا حسرةً من لي بصفقةِ رابح فِي مَتْجَرٍ والعِلْمُ رأسُ المالِ
يا ويح أهل العلمِ كيفَ تأخَّرُوا والسَّبْقُ كُلُّ السَّبْقِ للجُهَّالِ
فإِلَى إلهِي المُشْتَكَى وبفضلِهِ دونَ الأنامِ منوطة آمَالِي
لله هذه المواقف ما أبلغها! وما أعلى على هام الثُّريَّا مواضعها! وهكذا فليكن الطلب وإلا فلا.
إن هذه الصفحة - أعني الماضية- لتذكِّر بموقف آخر لـ ابن برهان؛ كما جاء في طبقات الشافعية يوم تزاحم الطلاب على بابه حتى صار جميع نهاره، وقطعة من ليله مستوعباً في التدريس، يجلس من وقت السحر إلى وقت العشاء الآخرة، ويتأخر أحياناً بعدها إذا دعت الحاجة لذلك.
ذكر أن مجموعة من طلبة العلم سألوه أن يدرس لهم كتاباً فقال: لا أجد لكم وقتاً، فذكروا أوقاتاً معينة فلم يجد إلا في نصف الليل فوافقوا.
وانظر يا أخي كيف نظم أوقاته للعبادة والطاعة والمنام والمطالعة والحفظ والتدريس والقراءة وهذا شيء مهم جداً يتمكن به العالم وطالب العلم من بلوغ مرغوباته العلمية جميعاً، فلا يطغى مرغوب على مرغوب.
ثم انظر أخي طالب العلم -رعاك الله- إلى هذا الصبر العجيب من هذا الشيخ الجليل على بث العلم ونشره، والاحتساب في أدائه ونقله، ثم انظر أخرى إلى هذا الشوق والحرص المحرق من أولئك الطلبة المحترقين بالعلم الذين لم يجدوا وقتاً ليقرءوا عليه إلا نصف الليل، فأتوا مسرورين وظنوا أنهم محظوظون مكرمون.
ثم انظر لذلك الذي نسي بدنه واقتحم السرب وخرج اللحم عن العظم ليحظى بالقرب من العالم ليستفيد فلله در أولئك المشائخ! ولله در أولئك الآباء والطلبة الأبناء! ما أشد حب أولئك للطلب! وما أصبر أولئك على إشاعة العلم وإيصاله للمتعلمين! أداءً للأمانة ووفاءً بالعهد، وإنا لله من طلبة هذا العصر الذين يستعجلون دق الجرس ليخرجوا من الدرس المؤقت بخمس وأربعين دقيقة، في ألين الأوقات راحة، وأفضلها نشاطاً، وأجمعها ذهناً، من قاعات مبردة صيفاً مدفأة شتاءً، يخرجون يزحم بعضهم بعضاً كأنما يفرون من حريق، أو ينطلقون من سجن ظالم عنيد واهً لهم.
إذا مَا علا المرء رَامَ العُلى ويقنَعُ بالدُّونِ مَنْ كَانَ دُونَا
إذَا رأيْتَ شبابَ الحيِّ قَدْ نشئوا لا ينقلونَ مِدَادَ الحِبْرِ والوَرَقِا
وَلا تَرَاهُم لَدَى الأشْيَاخِ في حِلَق يَعُونَ مِنْ صَالحِ الأخبارِ مَا اتَّسَقَا
فذَرْهُم عنكَ واعْلَم أنَّهُم هَمَجٌ قد بَدَّلُوا بِعُلُوِّ الهِمَّةِ الخَرَقَا
أنتم كأسلافكم ومنْ يشابِه أبَهُ فمَا ظَلَمْ
على المرءِ أنْ يَسعَى إلَى الخيرِ جاهداً وليسَ علَيْهِ أن تَتِمَّ المَقاصِدُ
فانْفُضُوا النومَ وهُبُّوا للعُلى فالعلى وقْفٌ علَى منْ لَمْ يَنَم
أفيقوا لا مجال لخامل ولا سبْقَ إلا للذي يتَقَحَمُ(25/11)
استراحة
الصفحة العاشرة: استراحة:
في السير للذهبي أن همام بن منبه قعد في مجلس ابن الزبير، وكان هناك رجل من نجران يعظمونه اسمه حنش، كبير السن، وليس له لحية، فقال رجل قرشي في مجلس لـ ابن الزبير لـ همام: من أين أنت؟ قال همام: من أهل اليمن.
قال: ما فعلت عجوزكم؟ يعني كبير السن حنش؟ قال -واسمعوا إلى القول-: عجوزنا أسلمت مع سليمان لله رب العالمين، وعجوزكم يا قريش حمَّالة الحطب، فبهت القرشي، وقال ابن الزبير: أتدري من كلَّمت؟ إنه همام، وله من اسمه نصيب.
وروي أن أبا حنيفة رحمه الله كان عند الخليفة العباسي أبي جعفر ومعه الربيع حاجبه، وكان بين الربيع وبين أبي حنيفة بعض سوء فهم، فقال الربيع محاولاً الإيقاع بين أبي حنيفة وأبي جعفر: يا أمير المؤمنين! إن هذا يخالف جدك ابن عباس فلا يجيز الاستثناء في اليمين إلا متصلاً باليمين، فلو استثنى بعد يوم لم يجز له ذلك، فقال أبو حنيفة: يا أمير المؤمنين! إن الربيع يزعم أن ليس لك في رقاب الناس بيعة، فقال المنصور: كيف؟
قال أبو حنيفة: إنهم يحلفون لك على البيعة، ثم يرجعون إلى منازلهم فيستثنون فتبطل أيمانهم.
فضحك المنصور، وقال للربيع: لا تعرض لأبي حنيفة، وانقلب السحر -كما يقال- على الساحر.
وفي السير للذهبي: أرسل الأمير عيسى بن موسى إلى الإمام الأعمش بألف درهم وصحيفة ليكتب له فيها الحديث، فكتب فيها الأعمش: بسم الله الرحمن الرحيم: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، ثم أرسل بها إليه، فلما وصلت إلى عيسى رفعها ونظر فيها وقال: يابن الفاعلة؛ ظننت أني لا أحسن كتاب الله؟! فرد عليه الأعمش قال: وظننت أني أبيع الحديث؟!
وفي السير للذهبي -أيضاً- أنه أتي بـ عبد الرحمن بن عائذ إلى الحجاج، فقال له الحجاج: كيف أصبحت؟ قال: لا كما يريد الله، ولا كما يريد الشيطان، ولا كما أريد، قال: ويحك ما تقول؟
قال: نعم.
يريد الله أن أكون عابداً زاهداً، وأنا أعلم أني لست كذلك، ويريد الشيطان أن أكون فاسقاً مارقاً، وما أنا بذاك، وأريد أن أكون مخلىً في بيتي، آمنا في أهلي، ولم تتركني يا حجاج، فقال الحجاج: أدبٌ عراقي، ومولدٌ شامي، وجيراننا إذ كنا بـ الطائف، خلُّوا عنه.
فخلوا عنه.
وفي السير للذهبي -أيضاً- أن سليمان بن عبد الملك استصغر أبا العلاء؛ مولى من موالي الحجاج؛ وكان مشوهاً ودميماً.
فقال هذا المولى: إنك رأيتني والأمور مدبرة عني، ولو رأيتني وهي مقبلة لاستعظمت ما احتقرت، فقال سليمان: قاتلك الله، ما أسدَّ عقلك! أَتُرى الحجاج يهوي بعد في جهنم أم بلغ قعرها؟ قال: لا تقل ذاك، فإنه يحشر مع من ولاَّه، والذي ولاَّه أبو سليمان، فقال: مثل هذا فليُصْطَنَع.
ودخل أعرابي على سليمان بن عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين! إني مكلِّمك بكلام فاحتمله وإن كرهته؛ فإن وراءه ما تحب إن قبلته.
فقال: يا أعرابي -وكان عاقلاً- إنا لنجود بسعة الاحتمال على من لا نرجو نصحه، ولا نأمن غشه، فكيف بمن نأمن غشه، ونرجو نصحه؟
فقال الأعرابي: يا أمير المؤمنين! لقد تكنَّفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم، وابتاعوا دنياهم بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله ولم يخافوا الله فيك، حرب للآخرة وسلم للدنيا، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله؛ فإنهم لم يألوا في الأمانة تضييعاً، وفي الأمة خَسْفاً وعَسْفاً، وأنت مسئول عما اجترحوا، وليسوا بمسئولين عما اجترحت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك؛ فإن أعظم الناس غبْناً من باع آخرته بدنيا غيره.
فقال سليمان: يا أعرابي! أما إنك سللت لسانك وهو أقطع من سيفك،
قال: أجل يا أمير المؤمنين! ولكن لك لا عليك.
والدين النصيحة، والمؤمنون نصحة، والمنافقون غششه، والنصيحة لك لا عليك.(25/12)
من أورق بوعد فليثمر بفعل
الصفحة الحادية عشرة: من أورق بوعد فليثمر بفعل:
يروي أهل السير أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أعطى رجلاً من قريش شبه وعد أن يزوجه ابنته، فلما حضرته الوفاة أرسل إليه فزوَّجه إياها، وقال: كرهت أن ألقى الله عز وجل بثلث نفاق.
إذا قالَ تمَّ عَلَى قولِهِ ومات العناءُ بلا أو نَعَمْ
وبعضُ الرجالِ بمَوعودِه قريبٌ وبالفِعْلِ تحتَ الرَّجَم
كجَارِي السرابِ تَرَى لمعَهُ ولستَ بواجِدِهِ عِنْدَكَم
هذه الصفحة رسالة لي، ولإخوتي معشر طلاب العلم، وللناس عامة؛ أن نتق الله فيما نعد به؛ فكم من أوقات تهدر ومصالح للأمة تتعطل بناءً على مواعيد عرقوب، يعدك الواحد في السابعة ويأتيك إن أتى في العاشرة، أو لا يأتيك ولا يعتذر إليك عن مجيئه، وما هكذا تكون أخلاق المسلم أبداً.
إن عرقوباً المضروب به المثل أصبح واقع كثير منا هذه الأيام.
وما قصة عرقوب؟
يأتيه أخ محتاج سائل فيسأله شيئاً، فيقول: عرقوب: إذا أطلع النخل أعطيتك، فلما أطلع أتاه فقال: إذا صار بلحاً أعطيتك، فلما صار بلحاً أتاه، فقال: إذا أزهى بحمرة وصفرة، فلما أزهى أتاه، فقال: إذا صار رطباً، فلما صار رطبا أتاه، فقال: إذا صار تمراً، فلما صار تمراً خرج إليه في الليل، وقطعه في الليل ولم يعط أخاه شيئاً، فقال ذلك الرجل:
وعدتني ثم لم تُوف بموعدتي فكنت كالمُزْن لم يمطرْ وقدْ رعَدَا
كانت مواعيد عرقوبٍ لنا مثلاً وما مواعيدُهُ إلاَّ الأبَاطِيلُ
فيا أيها المؤمنون عامة! ويا طلبة العلم خاصة! إن وعد الكريم نقد، ووعد اللئيم تسويف، فإن وعدت بخير فأوف، وإن أوعدت بشر فاعف، وإياك أن تلقى الله بخصلة نفاق؛ فإن من آية المنافق أنه إذا حدَّث كذب، وإذا ائتمن خان، وإذا وعد أخلف، والنسيان جائز ومغفور: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286].(25/13)
الحق يدفع الباطل
الصفحة الأخيرة: الحق يدفع الباطل:
أورد ابن كثير في البداية والنهاية: أنه في القرن الخامس الهجري زور يهود خيبر إحدى الوثائق -وكثيراً ما يزورون ويغشون ويكذبون ويفترون ويمكرون، وتاريخهم لا يخفى على ذي عين- زعموا في وثيقتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط عنهم الجزية، وأقرهم على خيبر، يمكثون فيها ما شاءوا، وكما هو معلوم فقد أخرجهم عمر رضي الله عنه وما أخرجهم عبثاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب}.
فحاولوا بهذه الوثيقة الرجوع إلى خيبر، كما يحاولون في كل زمان وبكل الوسائل المتاحة لإطفاء النور، ولن يرضوا حتى تتبع ملتهم، والله متم نوره ولو كرهوا وخططوا ودبروا ومكروا والله خير الماكرين، والعاقبة للمتقين.
زوروا الوثيقة وجاءوا بها إلى الوزير العباسي أبي القاسم بن مسلمة، جاءوا إليه وقالوا: معنا كتاب نبوي بإسقاط الجزية وإقرارنا على خيبر، بكتابة صحابي، وشهادة الصحابة، فنظر الوزير في الوثيقة وفكَّر وقدَّر وتأمل وتملَّى، ثم لم يفصل في المسألة، بل رد الأمر إلى أهله الذين يستنبطونه.
دفع الكتاب -وحسناً فعل- إلى الحافظ الخطيب البغدادي؛ شيخ علماء بغداد ومؤرخها ومحدثها في عصره، فنظر فيها ثم قال: هذا كذب والذي لا إله إلا هو! قال الوزير: كيف ذلك؟ ما دليل كذبها؟ أريد دليلاً.
قال: لأنها بكتابة وشهادة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ولم يكن أسلم إلا عام فتح مكة، فكيف يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم أو يشهد قبل إسلامه بعام، هذه واحدة.
أما الثانية: فإنها بشهادة سعد بن معاذ رضي الله عنه، وسعد بن معاذ قد مات بعد الأحزاب وقبل خيبر، فكيف يشهد بعد وفاته بأكثر من عام؟
فبهت الذين كفروا، والله لا يهدي القوم الظالمين، وخابوا وخسروا، أولئك في الأذلين.
وبذلك نقضت الوثيقة، وظهر زيفها وباطلها، ولو جيء بها إلى غير أهلها -العلماء- لوقعت الأمة في شباك أعدائها ولكنه العلم.
العلم يجلو العمى عن قلب صاحبه كما يجلي سوادَ الظلمة القمرُ
وقبل ذلك بعدة قرون يجيء رجل من الخوارج إلى أبي حنيفة رحمه الله فيقول له: تب وعد إلى الله، قال أبو حنيفة: مِمَّ؟ قال الخارجي: من قولك بتجويز الحكمين في الخلاف بين علي ومعاوية، والله يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ} [الأنعام:57] {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44].
فقال أبو حنيفة: ألا تقبل أن تناظرني في هذا الموضوع؟ قال الخارجي: قد قبلت.
فقال أبو حنيفة: فإن اختلفنا فمن يحكم بيني وبينك؟
قال الخارجي: من شئت.
قال -وكان مع الخارجي صاحب له آخر- فالتفت أبو حنيفة إلى صاحبه وقال: اقعد فاحكم بيننا فيما اختلفنا فيه إن اختلفنا، فسر الخارجي بكون صاحبه هو الحكم، عندها فاجأه أبو حنيفة قائلاً: أترضى بهذا حكماً بيني وبينك؟ قال: نعم.
فقال أبو حنيفة: إذاً أنت جوَّزت التحكيم، فبهت الخارجي ولم يحر جواباً، وبهت الذين كفروا، والله لا يهدي القوم الظالمين.
العلم فيه حياة للقلوب كما تحيا البلاد إذا ما مسها المطر
وإن نسيت فلا أنسى بالأمس القريب يوم يزور أحد علماء المسلمين مدرسة نصرانية، ويُجري حديثا طويلاً بينه وبين مديرها، فكان مما قاله هذا العالم لمديرها: لماذا تحملون على الإسلام وعلى نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم في كتبكم المدرسية، وفي اجتماعاتكم بما لا يصح أن يقال في عصر تعارفت فيه الشعوب، والتقت فيه الثقافات كما تدعون؟
فأجاب قائلاً: نحن الغربيين لا نستطيع أن نحترم رجلاً تزوج من تسع نساء؛ يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ومن تحترمون من أنبياء الله؟ هل تحترمون نبي الله داود عليه صلوات الله وسلامه؟ قال: نعم.
إنه من أنبياء التوراة، قال: ونبي الله سليمان؟ قال: نعم.
إنه من أنبياء التوراة أيضاً.
فقال العالم المستضيء بنور العلم الساطع، بحجة الحق: إن نبي الله داود كان له تسع وتسعون زوجة، وأكملهن مائة من أجمل فتيات زمانهن، ونبي الله سليمان كما جاء في التوراة له سبعمائة زوجة وثلاثمائة ألف جارية، وكن من أجمل أهل زمانهن، فلم يستحق احترامكم من يتزوج ألف امرأة، ولا يستحق احترامكم من يتزوج تسعاً؛ ثمان منهن ثيِّبات وأمهات، والتاسعة هي الفتاة البكر الوحيدة التي تزوجها طيلة العمر، فسكت الرجل، وألقم الحجر، ولم يُحِر جواباً، والحق يعلو والأباطل تسفل.
أرأيتم إلى العلماء -يا أيها الأحبة- كيف يدفعون الشبه عن الأمة، ويلجمون من يقع في الأنبياء؟ لأنهم ورثة الأنبياء، بل إنهم صمام أمان الأمة ولا شك، إليهم يُرْجع في النوازل والمدلهمات، فضلهم عظيم، وخيرهم جزيل، الحيتان والنمل لهم في البحر والجحور تستغفر، والملائكة بأجنحتها لهم تخضع، والعلماء في القيامة تشفع، حياتهم غنيمة، وموتهم مصيبة، يذكِّرون الغافل، ويعلِّمون الجاهل، لا يتوقع منهم بائقة، ولا يخاف منهم غائلة، بجميل موعظتهم يرجع المقصرون.
الطاعة لهم في غير معصية الله واجبة، والمعصية لهم محرمة، من أطاعهم رشد، ومن عصاهم عند، ما ورد على إمام المسلمين من أمر اشتبه عليه فبقول العلماء يعمل، وعن رأيهم يصدر، وما ورد على ولاة المسلمين من حكم لا علم لهم به فبقولهم يعملون، وعن رأيهم يصدرون، وما أشكل على قضاة المسلمين من حكم، فبقول العلماء يحكمون وبعلمهم وعلى علمهم يعولون.
حجة الله على العباد، ولن تخلو الأرض من قائم لله بحجة: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ} [النساء:165] هم سراج البلاد، ومنار العباد، وقوام الأمة، وينابيع الحكمة.
هم غيظ الشيطان، بهم تحيا قلوب أهل الحق، وتموت قلوب أهل الزيف، مَثَلهم في الأرض كالنجوم في السماء يُهْتَدى بها في ظلمات البر والبحر، إذا طمست النجوم تحيروا، وإذا أسفر الظلام أبصروا.
فليس ذو العلم بالفتوى كجاهلها ولا البصير كأعمى ما له بصر
لحومهم مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، ومن وقع في العلماء بالسلب، بلاه الله قبل موته بموت القلب.
أحبتي في الله: هذا ما تيسر جمعه من مطوي الصفحات من تاريخ مشرف احتوى على أحداث ووقائع قامت على أكتاف رجال كالنجوم تضيء لمن يسري، وتبدد الظلام، رجال أسسوا حضارة نابعة من عقيدة ليست مسخاً مشوَّهاً من حضارات مشوهة، لم يقيموا حضارتنا على فكر بشري، أو رؤية شخصية، بل أدركوا دورهم وفق ما شرعه الله، فقدموا الإسلام في صورة بناء حقيقي متماسك، في صورة مجتمع ملموس محسوس، في صورة أمَّة واقعية، فلم يتخلوا عن حياتهم، ويقبعوا في زوايا مساجدهم، بل انتشروا في الأرض يدعون بدعوة المرسلين: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:32] فكانت حضارة الإسلام التي نعم بها العالم أجمع، حضارة تجمع الدين والدنيا، تحققت بها مطالب البشرية من غير اعتبارات جاهلية لعنصر أو لون أو قومية، أكرمكم أتقاكم.
صفحات مطوية مضيئة وضعتها بين أيديكم مشعلاً ومناراً ومَعْلَماً ومقتدىً مع اشتغال البال، وكثرة الأوزار، فلعل سامعاً ينتفع بها.
جعل الله الجهد نافعاً، وجعلني للحق طالباً، ومن الشر محذراً، وإلى الخير منادياً.
فلئن أُفِدْ أو قد أَجَدتُّ فإنها مطوية من ربنا الباري فَتَح
فالله يجزيكم بأجر وافر ويثيبكم ويزيدكم مِمَّا صَلَح
ويبارك الرحمن في أوقاتكم حتى نرى منكم سواها قد نجح
ثم الصلاة مع السلام لأحمد والآل والأصحاب ما نُور وَضَح
اللهم إنا نسألك بأنَّا نشهد أن لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، نسألك بكل اسم هو لك، ونسألك باسمك الأعظم الذي إذا سئلت به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام أن تعز الإسلام والمسلمين، وأن تدمر أعداء الدين، وأن تصلح من في صلاحه صلاح للإسلام والمسلمين، وأن تهلك من في هلاكه صلاح للإسلام والمسلمين.
اللهم ثبِّتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم احرسنا بعينك التي لا تنام، واخلفنا بركنك الذي لا يرام، ولا تهلكنا وأنت رجاؤنا.
يا رب كم من نعمة أنعمت بها علينا قلَّ لك عندها شكرنا، وكم من بليَّة ابتليتنا بها قل لها عندك صبرنا.
يا من قل عند نعمته شكرنا فلم يحرمنا! ويا من قل عند بليته صبرنا فلم يخذلنا! يا من رآنا على المعاصي فلم يفضحنا! يا ذا النعم التي لا تحصى! يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبداً! هب لنا فرجاً قريباً، وصبراً جميلاً، وأعنَّا على ديننا بدنيانا، وعلى آخرتنا بتقوى، وكن لنا في الآخرة والأولى، وامكر لنا ولا تمكر بنا، وكن لنا ولا تكن علينا، وتول أمرنا، أنت حسبنا ومن كنت حسبه فقد كفيته، حسبنا الله ونعم الوكيل.
وآخر دعوانا أَنِ الحمد لله رب العالمين.
وصلِّ اللهم على نبينا محمد.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(25/14)
جلسة تكريم
إن أفضل عمل في هذه الحياة يقدمه الإنسان لنفسه هو طلب العلم، وعلى طالب العلم أن يعرف كيف يطلب العلم، وما هي الواجبات التي تلزمه، وقد بين الشيخ في هذا الدرس ما يلزم طالب العلم، ثم أتبع ذلك ببيان أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ممارسته من قبل طالب العلم، وأن يكون ذلك بلين وحكمة مع اعتزاز بهذا الدين واستعلاء بمبادئه.(26/1)
أهمية طلب العلم والعمل به
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الأحبة في الله! يسرنا ويسعدنا أن نعيش مع طلبة العلم دقائق وإن كنا مشغولين، لكن من باب قول القائل:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواءً في البضاعة
يأيها الأحبة! تعلمون أن هذه الحياة عبارة عن سفينة يركبها المجتمع كله، وهي تمخر عباب البحر -وأنتم أهل البحر يا أهل جدة - لا تكاد تهدأ حتى تضطرب، تتقاذفها الأمواج من ناحية إلى ناحية، ولن يكتب الله السلامة لمن هم على ظهرها حتى يكون كل واحدٍ منهم على يقظةٍ مما يفعل وحذرٍ مما يريد.
السفينة -كما قلت- يركبها المجتمع كله، بره وفاجره، طائعه وعاصيه، المصلح والفاسد، الذي يخرق في السفينة والذي يصلح في السفينة، والذي يطارد أفراداً على ظهر السفينة، والذي يرقب الجميع ولا يحرك ساكناً.
هاهم أفراد السفينة، هم هذا المجتمع، هناك من يخرق، وهناك وراءه من يحاول إصلاح هذه الخروق، وهناك من يمنعه لئلا يحدث شيئاً في السفينة؛ لأنه بسقوط السفينة يهلك الكل.
فأقول لك يأيها الحبيب: أي فردٍ أنت على هذه السفينة؟ ماذا تفعل على ظهر السفينة؟
هذا يخرق والماء يدخل إلى داخل السفينة، وذاك يحاول الإصلاح وقد لا يصلح.
يأيها الحبيب: لا بد أن تكون ممن يحاول إنقاذ السفينة؛ لأنها إن هلكت هلك الجميع، وإن سقطت سقط الجميع.
فأقول لكم يا أيها الأحبة: إن الذي يريد أن يصلح في السفينة لا بد له من عدة يقوم بها، الذي يريد إصلاح خرق معين في جدارٍ معين، لا بد له من مؤونة معينة، لا بد له من قطعة مناسبة، يسد بها هذا الخرق، لا بد له من خياطة معينة، لا بد من هذه الأشياء كلها.
أقول لك يا طالب العلم: أنت على ظهر السفينة انتبه وجد واجتهد، ثم اجعل العلم هو أول هذه الأشياء بعد الإيمان بالله عز وجل، بل إن الإيمان بالله عز وجل لا يكون إلا بعد علم، وأنتم طلبة علم، كل إنسانٍ منا ما لم يكن لديه العلم سيحاول إصلاح خرق من الخروق هذه فيزيد في اتساعه؛ لأنه يفسد من حيث يريد الإصلاح، لا بد أن تكون إيجابياً، وأن تجاهد في الإصلاح، وليكن من سلاحك العلم كما قلت لك أيها الحبيب!
يقول حافظ الحكمي عليه رحمة الله:
يا طالب العلم لا ترض به بدلاً فقد ظفرت ورب اللوح والقلمِ
عندما تأخذ العلم في يدك فاعلم أنك بحاجة إلى أمرٍ آخر مع هذا العلم، وهو أن تعمل.
أنا عندي علم بأن أصلح هذا الخرق في هذه السفينة، لكني ما عملت شيئاً، ستغرق السفينة مهما كان، إذاً لا بد أن تقوم وتعمل شيئاً:
وعالم بعلمه لم يعملن معذب من قبل عباد الوثن
الحسن البصري عليه رحمة الله يحاول إنقاذ السفينة في عهدٍ من العهود، ويتكلم ويصدع بكلمة الحق، فيقولون: نخشى عليك من فلان قال: لقد أخذ الله الميثاق على أهل العلم ليبيننه للناس ولا يكتمونه: {من كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار}.
إذا جاهدت وحاولت بالإصلاح ثم سقطت السفينة، ما الفرق بينك وبين غيرك؟
شتان ما بين غريقٍ وغريق!
غريق قد جاهد فإلى جناتٍ ونهر شهيداً بإذن الله سبحانه وتعالى، وغريق آخر بقي ينظر للسفينة حتى هلكت أو ساهم في إغراق السفينة فهذا إلى جهنم وبئس القرار.
نسأل الله أن تكون من الجاهدين الذين يجاهدون أنفسهم أولاً، ثم يجاهدون في إصلاح سفينة الأمة لتمخر عباب البحر، فلا تقف إلا في الموقف الذي يجب أن تقف فيه على شاطئ الأمان، لا تقف إلا في جناتٍ ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.(26/2)
مزايا طالب العلم
وأقول لك وأنت تأخذ هذا العلم وتعمل به: اعلم أن الله خصك بأربع مزايا:
الأولى: الخيرية: {خيركم من تعلم القرآن وعلمه}.
كل واحد منا يريد أن يكون خير الناس.
تعلم القرآن وعلمه تفز بهذه الخيرية.
أما الثانية: فهي النضارة والوضاءة في الدنيا والآخرة.
إنك لتجد على وجوه المؤمنين العاملين بعلمهم آثار الإيمان، ووضاءته في الدنيا، حتى وإن كان الواحد أسمر، فإنك تجد عليه وضاءة الإيمان والعمل بالعلم.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها؛ فرب مبلغٍ أوعى من سامع}.
أما الثالثة: فإن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى الحيتان في قاع البحر ليصلون على معلم الناس الخير -يدعون لمعلم الناس الخير- وهذه مرتبة عظيمة تجعل الإنسان يتفانى في أخذ العلم والعمل به.
أما المرتبة الأخيرة: فهي لا تقل عن الأولى، وهي أنك تكون معدلاً، والذي يعدلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {يحمل هذا العلم من كل خلفٍ عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين}.
أربع خصال، يحتاج الإنسان أن يفني وقته وجهده فيها.(26/3)
حال السلف في طلب العلم
أيها الحبيب: وأنت تطلب العلم أقول لك: ارجع إلى سلفك فإن لكل إنسان سلفاً، وسلفنا بإذن الله عز وجل هم خير القرون، قرن النبي صلى الله عليه وسلم ثم القرن الذي يليه، ثم القرن الذي يليه، وارجع إليهم كيف كان حالهم.
الإمام الشافعي عليه رحمة الله يجتمع به بعض طلبة العلم فيقولون: يا إمام ما شهوتك في طلب العلم؟ قال: إني لأسمع بالكلمة مما لم أسمع، فتود أعضائي أن يكون لها آذان، فتستمع لما استمعت له أذني -أي أن كل عضو يتمنى أن له أذنين ليستمع إلى هذه الفائدة- قالوا: فما حرصك عليه؟ قال: حرص الجموع المنوع على ماله -حرص البخيل على ماله- قالوا: فما طلبك له؟ قال: طلب المرأة المضلة لولدها ليس لها ولدٌ غيره -امرأة ما معها إلا واحد وضاع منها فهي تطلبه في كل مكان بكل ما أوتيت من قوة- ثم يقول بعد ذلك:
ولست بمدركٍ ما فات مني بلهف ولا بليت ولا لو اني
يقول أحمد فارس اللغوي:
إذا كان يؤذيك حر المصيف ويبس الخريف وبرد الشتا
ويلهيك حسن زمان الربيع فأخذك للعلم قل لي متى
إذا كان كلما جاء وقت قلت: نؤجله للوقت الثاني، يأتي الخريف بيبوسته فتقول: نؤجله للشتاء، يأتي الشتاء ببرده فتقول: نؤجله إلى الصيف، يأتي الصيف فتقول: نؤجله إلى الربيع، يأتي الربيع فتقول: نطلع ونتمشى ونذهب ونأتي.
كيف إذاً تطلب العلم؟! متى تأخذ العلم إن لم تأخذه في كل وقت، وتجند من وقتك جزءاً عظيماً للعلم؟!
إن الدعوة بلا علم توقع الإنسان في البدع.
إن المبتدعة عندما وقعوا في بدعتهم دعوا إلى الله بلا علم، والسلاح الأول لكم -أيها الدعاة- هو طلب العلم، ولذلك خذوا أمثلة على ذلك أيضاً، لأن الإنسان إذا نظر إلى قدوة حية أمامه -أو قدوة ميتة أيضاً- قد يحاول أن يقلدها لأنه تعجبه خصالها.
الإمام النووي عليه رحمة الله: ما كان يأكل إلا أكلة واحدة في اليوم، ويشرب شربة واحدة وقت السحر، ولا يأكل الفاكهة يقول: ترطب جسمي فتجلب لي النوم، ووالله إن أحب ما إلي أن أطالع في الكتب، ثم يلقي في اليوم الواحد أحد عشر درساً، ومنكم من هو يدرس الخمس الحصص ويراها تقض المضاجع، فما بالك بأحد عشر درساً في اليوم الواحد؟!
الإمام المنذري عليه رحمة الله: يقول أحد تلاميذه: جاورته اثنتي عشر سنة، والله ما قمت في ليلة من الليالي في أول الليل أو في آخره إلا وهو مضيء سراجه وهو يقلب كتب العلم.
شهوتهم في العلم، اشتهوا العلم، فعملوا لهذا العلم، فأنتجوا ما أنتجوا.
الإمام أحمد عليه رحمة الله: يقول عن أمه: كانت توقظني قبل صلاة الفجر، فأصلي الفجر في المسجد، وتذهب معي وعمره عشر سنوات قد حفظ القرآن، ثم بعد أن بلغت السادسة عشرة -انظروا إلى الأم، يا ليت الأمهات يسمعن مثلما نسمع من أم أحمد، ويا ليتهم يعرفون سيرة أم أحمد ليربوا الشباب على طلب العلم وعلى الدعوة إلى الله عز وجل- يقول: عندما بلغت السادسة عشرة قالت لي: يا بني هاجر في طلب الحديث؛ فإن طلب الحديث هجرةٌ في سبيل الله، ثم زودته ببعض أرغفة من الشعير، وقالت له: اذهب إلى المدينة وإلى مكة وإلى صنعاء واطلب العلم، وعندما أراد أن يذهب قالت: إن الله إذا استودع شيئاً حفظه، وأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه، ويذهب إلى مكة وإلى المدينة وإلى صنعاء ليعود الإمام أحمد، وهو الآن بعد هذه السنين كلها حيٌ بين أيدينا بعلمه، ما تدخل مكتبة من المكتبات إلا وتجد الإمام أحمد أمامك
يا رُبَّ حَيٍّ رُغامُ القبر مسكنه ورُبَّ مَيْتٍ على أقدامه انتصبا(26/4)
وصايا لطلاب العلم(26/5)
أهمية جمع الفوائد لطالب العلم
إن الإنسان يوم يتكلم عن هؤلاء يرى بأنه لم يقدم شيئاً، لكني أقول لك: أيها الحبيب! اطلب العلم، ولا تحقرن فائدة من الفوائد؛ فإن القليل إلى القليل كثير، إن فائدةً اليوم وفائدةً غداً وفائدةً بعد غد قد تصبح بعد شهر ثلاثين فائدة، وبعد سنة كم ستصبح؟ فوائد جمة وعظيمة، لكن هل فكرت ونويت، وعلمت أن هذا العلم عبادة أفضل من بعض العبادات.
إن الصلاة عبادة لك لا تتعداك إلى غيرك، أما العلم فعبادة متعدية إلى الغير، يجب أن نعي هذه الأشياء يأيها الأحبة.
اليوم شيءٌ وغداً مثله من نخب العلم التي تلتقط
يحصل المرء بها حكمةً وإنما السيل اجتماع النقط
اجمع ولا تحقر شيئاً من العلم، وجد في طلبه ثم بلغه، فوالله لن يثبت هذا العلم إلا بتبليغه، رجل يقول: سأحفظ كل شيء ويبقى بين جنبيه ولا يبلغه لا يبقى بين جنبيه، وإنما سيضيع من بين جنبيه بين آونة وأخرى وكأنه لم يكن، هذا هو الأمر الأول.(26/6)
ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ممارسته
إن الله عز وجل قد جعلنا خير أمةٍ أخرجت للناس، لكن اشترط فينا شروطاً لنأخذ هذه الخيرية: أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونؤمن بالله.
ليسألْ كل واحدٍ منا نَفْسَه عن هذه الثلاثة، هل فعلاً هو من أهلها؟ إن كان كذلك فقد حاز الخيرية التي وعده الله عز وجل بها، فهو من خير أمة، وإن قصر في ذلك فعليه أن يجتهد فيه، فلا يزال في مهلة.
ثم أقول لك يأيها الحبيب: إن الله عز وجل ليحيي بكلمة تحتقرها أنت أمماً وأمماً، إن الإنسان ليرمي الكلمة أحياناً لا يعلم كيف وقعت في الناس وماذا أثرت.
يقول أحد زملائي سابقاً في مدرسة من المدارس من أهل القصيم، يقول: في وقتٍ من الأوقات ذهبت من القصيم قبل حوالي عشر سنوات متجهاً إلى مكة، وجئت في ليالي العشر الأواخر في رمضان، وإذا بمجموعة من شباب مكة في وسط جبل الهدى، وإذا هم بعودهم، وبأوراقهم، وإذا هم بعبثهم وبلهوهم، قال: فتوقفت وقلت: والله إن النزول إلى هؤلاء لواجب من الواجبات، لكني أخشى أن يكونوا سكارى، فأنزل إليهم فيضربوني أو يؤذوني أو يفعلوا بي شيئاً، والشيطان يخذله فقط، والشيطان يأتي إلى الإنسان حين يريد أن ينكر منكراً من المنكرات فيقف عنده ويقول: قد تفتتن بهذا، انتبه قد تقع في شيء، حتى يترك الخير.
يقول: أنزل إلى الأرض فما تحملني رجلاي، ترتعش خوفاً، فأرجع، فبقيت بين هذا وذاك، ثم انطلقت مرةً أخرى، فجئت أركض إليهم وقلت لهم: يأيها الشباب! اتقوا الله! اتقوا الله! الناس يأتون من كل مكان إلى حرم الله، وأنتم تخرجون من حرم الله لتعصوا في هذا المكان؟ اتقوا الله! قال: ثم هربت خوفاً أن يقوم أحدهم ويفعل معي شيئاً من الأشياء، قال: وركبت سيارتي ومضيت، ثم جئت في رمضان الذي بعده، ودخلت الحرم وإذا برجل عليه سيما الخير وقد أطلق لحيته، وإذا به يتأمل في تأملاً عجيباً، قال: فوقفت وقلت: ما بك؟ قال: هل مررت العام الماضي في العشر الأواخر من رمضان على الجبل في المكان الفلاني؟ قلت: نعم، قال: إذاً أنت الذي قال: اتقوا الله ثم هرب؟ قلت: نعم، فقال لي: أنا ثمرة من ثمرات (اتقوا الله) في تلك الليلة ومعي أخوان من الإخوة.
كلمة على ضعف وعلى خوف لكنها صادقة بإذن الله عز وجل، وخرجت من قلبٍ صادق، فصادفت قلباً خالياً فتمكنت منه.
فلا تحقرن شيئاً -يأيها الحبيب- وأنت تسلك هذه الطريق، وأنت على ظهر سفينتك، فالعلم لا بد منه، والعمل لا بد منه.
وأذكركم بحادثة أخرى يذكرها صاحب قصص السعداء والأشقياء، يقول: رجل من الرجال كان لا يتذكر ولا يتعظ أبداً، ويعمل سائق إسعاف، لا يأتي إلى حادث من الحوادث الشنيعة إلا ويأخذ الجمجمة في يد، ويأخذ قطعاً من اللحم في اليد الأخرى، وكأنه يحمل قطع لحمٍ لبهائم لا لبشر، ولا يتأثر، يقول: وفي ليلة من الليالي يشاء الله عز وجل، وفي وسط الليل في الساعة الواحدة ليلاً كنت أنا المستلم للسواقة في ذاك الليل، قال: وإذا بخبر يخبر بحادث في مدخل من مداخل الرياض الساعة الواحدة، وزميلي كان في خارج المكان ذلك الوقت، فخرجت أنا، ولم أكن أصلي، وكنت أشرب الدخان، وكنت صاداً وناداً عن الله عز وجل، قال: وخرجت وجئت إلى مدخل الرياض، وإذا بهذه السيارة قد ارتطمت بعمود من أعمدة الإنارة، وإذا المنطقة مظلمة قد انقطعت عنها الكهرباء، ووالله إني لأرى نوراً خافتاً يخرج من وسط هذه السيارة، فتقدمت ونزلت وولعت سيجارتي، وتقدمت إلى هذا الرجل، فوجدته رجلاً كث اللحية، مستنير الوجه، وجهه كأنه قراطيسٍ بيضاء، وإذا المقود مقود السيارة -الدركسون- قد ضربه على أسفل بطنه، وهو ممسك به على المقعد، قال: فجئت والسيجارة في فمي، قال: أتريد أن تنقذني؟ قلت: نعم، قال: لو سمحت! اتق الله وأطفئ هذه السيجارة، وهو في وضع من الأوضاع لا يفكر فيه الإنسان إلا فيمن ينقذه، وهو لم ينس مهمته في ذلك الوقت.
يقول: فأطفأت السيجارة ورجعت مرة أخرى أحاول أن أخرجه ما استطعت، قال: وإذا به في سكرات الموت يقول: إن رسول صلى الله عليه وسلم يقول: {من صنع إليكم معروفاً فكافئوه}.
ولا أملك لك يا بني في هذه اللحظة إلا النصيحة، فهل تقبلها؟ قلت: تفضل، قال: اتق الله! اتق الله! وإياك ورفقة السوء! أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم لقي الله، وانطوى على مقود السيارة.
يقول: أنا لم تحملني رجلاي بعد ذلك، وكلماته ترن في أذني وكأنها تزلزلني زلزالاً، ليس في ذاك المكان إلا أنا وهذا الرجل قال: فما كان مني إلا أن أخذته بالقوة وكسرت مقعد السيارة ووضعته في السيارة وأمشي في الطريق، وما زالت المطرقة تطرق في ذهني: اتق الله! اتق الله! ثم سلمته إلى قسم الحوادث في الساعة الثالثة ليلاً، ورجعت إلى بيتي وذهبت إلى أهلي، واغتسلت وتوضأت، وإذا بالمنادي ينادي لصلاة الفجر، قال: فانطلقت إلى المسجد وصليت، وذهبت إلى الإمام وأخبرته، قلت: حدث الليلة كذا وكذا وكذا قال: احمد الله الذي أحياك بموت ذلك الرجل، ولم يرسل إليك ملك الموت ليقبضك على ما أنت عليه.
الشاهد من هذا -يأيها الأحبة- أنه إنسان في أحلك اللحظات يلفظ روحه، ومع ذلك لم ينس واجبه في الدعوة إلى الله جل وعلا.
ثم أقول لكم: أيها الأحبة! عليكم بالصبر! عليكم بالصبر! فقد قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].
بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين:
ما صبر إنسان وتحمل وجالد في هذه الحياة في سبيل إبلاغ دين الله عز وجل إلا وذلل الله عز وجل له كل صعب، وهذا مشاهد ومعروف، والواقع يشهد بذلك {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].
صبروا وأيقنوا بآيات الله، فمكنهم الله عز وجل وجعلهم أئمة يقتدى بهم، فالصبر هو الشيء الثاني أيها الأحبة.(26/7)
الاعتزاز بهذا الدين
الأمر الثالث يا أيها الأحبة: أن نرفع رءوسنا بهذا الدين، لأن منا من يحمل هذا الدين لكن وهو مطأطئ الرأس، هذا لا ينفع الله به أبداً، لأن هذا الدين من حمله فهو يطاول السحابة في السماء، لأنه دين الله، دين الله عز وجل لا يعلو عليه شيء، يجب عليك أن تبلغه وأنت مرفوع الهامة والقامة، لتكن مثل ربعي بن عامر في إيوان كسرى وهو يصدح: [[جئنا نخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]].
ينبغي أن تكون كـ ربعي لكن في الوقت المناسب.
ينبغي أن تكون كأحد علماء الشام وهو الشيخ سعيد الحلبي في يوم من الأيام وكان يلقي دروساً في مسجداً من المساجد، وجاء إبراهيم بن محمد علي باشا والي مصر ودخل المسجد، فقام الناس كلهم له إلا هذا الرجل، فتأثر في نفسه، فهو يريد أن يقوم له، وعندما تأثر من نفسه قال: لآتينه من باب لطالما أتي طلبة العلم من هذا الباب، باب الدنيا، ذهب إلى بيته وأعطى أحد جنوده مبلغاً من المال، وقال: اذهب وأعطه فلاناً، وكان المبلغ ألف ليرة ذهبية، فجاء به إليه.
وكان الشيخ في جلسته يلقي الدرس وهو مادٌ رجله، ولم يتغير عن ذلك عندما دخل ذلك الطاغية، فجاء إليه رسول الطاغية وقال: إن إبراهيم باشا يقول: هذه لك -وهي ألف ليرة ذهبية- فتبسم، وقال: ردها له وقل له: إن الذي يمد رجله لا يمد يده.
ينبغي -كما قلت لكم أيها الأحبة- أن نحمل هذا الدين بعز، وإلا فوالله لن ينفع الله بنا ما دمنا نحمله على استخذاء وعلى حياء ونطأطئ رءوسنا.(26/8)
الحذر من الانجرار إلى معارك وهمية
ثم أقول لكم أيها الأحبة: بعد ذلك ينبغي ألا نستجر إلى معارك وهمية خاسرة ولا شك.
وأضرب لكم مثالاً في هذا الوقت الحاضر:
جريدة الندوة -على سبيل المثال- في مكة المكرمة مع الأسف، وما قامت تكتب فيه من أشياء.
سبحان الله! اتجه الشباب عموماً -حتى إن الإنسان ليحزن ويأسى على ما يرى- اتجهوا كلهم ليشتروا هذه الجريدة الكاسدة التي كنت تراها معلقة الليل والنهار ولا أحد يأخذها.
أيها الإخوة! لا ينبغي أن نغضب لأنفسنا، علينا أن نسمو فوق ذلك، وهؤلاء لا ننظر إليهم:
لو كل كلبٍ عوى ألقمته حجراً لأصبح الصخر مثقالاً بدينارِ
لا ينبغي أن نستجر من غيرنا، لا ينبغي أن يحركنا غيرنا، بل يكون تحركنا ذاتياً، نحن الذي نحرك أنفسنا متى شئنا، ومتى رأينا أن الوقت مناسب نتحرك، هذا مثل من الأمثلة يدل على أن هناك خلل أيها الأحبة.
في وقعة أحد وقد أصاب النبي صلى الله عليه وسلم ما أصابه، وأبو سفيان رضي الله عنه ينادي قبل أن يكون مسلماً ويقول: أفيكم محمد؟ أفيكم أبو بكر؟ أفيكم عمر؟ فلم يأمرهم بالرد، مع أن الجواب قد يكون أغيظ له في ذلك الوقت، لكن من باب قول القائل:
والصمت عن جاهلٍ أو أحمقٍ شرفٌ وفيه أيضاً لصون العرض إصلاحُ
أما ترى الأسد تُخشى وهي صامتةٌ والكلب يخزى لعمر الله نباحُ
إذا نطق السفيه فلا تجبه فخير من إجابته السكوتُ
فإن كلمته فرجت عنه وإن خليته كمداً يموتُ
كذلك -أيها الأحبة- اللين اللين، والرفق الرفق، نحن لا ندعو يهوداً ولا نصارى، نحن ندعو إخواننا، وعليهم من المعاصي ما عليهم، وعليهم من الأخطاء ما عليهم، فلنلن لهم.
بعضنا يشتد على إخوانه الذين يرتكبون معصية من المعاصي أكثر مما يشتد على المجوسي والشيعي والرافضي واليهودي والنصراني، وهذا خلل يأيها الأحبة.
إن إبراهيم بن أدهم عليه رحمة الله يمر في يومٍ من الأيام على يهودي معه كلب، فيقول اليهودي وهو يسخر ويستهزئ -وهم لا يزالون يسخرون ويستهزئون ويتهكمون بالأمة إلى قيام الساعة، أمرٌ معروف عنهم وسنة متبعة- فيقول له: ألحيتك أطهر أم ذنب هذا الكلب؟ فلم يستفز بهذا الموضوع، وإنما قال له: إن كانت في الجنة فهي أطهر من ذنب كلبك، وإن كانت في النار فذنب كلبك أطهر، فقال هذا اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والله ما هذه إلا أخلاق الأنبياء.
وهذا أثر الكلمة اللينة، قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
يجب علينا ونحن نسلك هذا الطريق أن نسلكه برفق، وأن نمشي بخطىً ثابتة؛ لأننا نحمل ديناً ثابتاً باقياً ما بقيت السماوات والأرض، فيدخله الله عز وجل كل بيت بعز عزيزٍ أو بذل ذليل، فتبقى طائفة على الحق منصورة، إنما جند نفسك لتمشي في ركاب هذه الطائفة.
هذه كلمات أستطيع أن أقول: إنها متفرقات، وأنا -وكما قلت في بداية المحاضرة- كمثل من يبيع زمزم على أهل مكة.
مشكلة من المشاكل ليست في الدعوة فقط، وإنما في الدين كله، هناك من يمشي ويمشي ثم يسقط، وإن لكل عملٍ شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنة، فهذا هو الذي نريد، لكن المشكلة من كانت فترته إلى أخرى.
أقول أيها الأحبة: إن الإنسان يسمو أحياناً ويرتفع فأقول له:
إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكل خافقةٍ سكون
إذا وجدت الإقبال على الدعوة إلى الله عز وجل فلا تتأخر، واستغل هذا الإقبال؛ فإن الحياة فرص، متى ما ضيعت فرصة فقد لا تتعوض، وقد تعض عليها أصابع الندم، فإذا جاءك الإقبال ووجدت الإقبال من نفسك، فضع لنفسك حداً معيناً، فإن استطعت أن تزيد عليه فزد، فهذه فرصة، لأنك قد لا تجد هذه الفرصة في يوم من الأيام، لكن إذا جاء العكس -أيها الأحبة- سواء كان في دعوة أو في أمرٍ آخر، فاجعل لك حداً معيناً لا تنزل عنه، على سبيل المثال إذا كنت تخصص في اليوم الواحد للدعوة مثلاً أربع ساعات فليكن الحد الأدنى لك في حالة الفترة ساعتين مثلاً، هذه الساعتان لا تنزل عنها أبداً حتى ولو تخطفت.
على سبيل المثال: قيام الليل، أحياناً يأتي للإنسان رغبة في قيام الليل أقول: قم ما استطعت، لكن بعض الناس يقوم ما استطاع اليوم وغداً وبعد غدٍ والذي وراءه، ثم يأتي فيترك القيام بعد ذلك: {أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل}.
فأقول: اجعل لك حداً أدنى، وليكن ركعتين في الليلة، ركعتين مع الوتر وانتهى الموضوع، هذه لا تنزل عنها ولو تخطفت تخطفاً، أما ما فوقها فيتفاوت الأمر إلى ما لا نهاية، فعلى الإنسان أن يجعل لنفسه حداً معيناً، ففي وقت الفترة يقف على هذا الحد، وفي وقت الإقبال يستغل كل ما لديه من قوه، ثم عليك برفقة الصالحين، الداعية إذا انعزل لوحده جاءه إبليس فخذله، وقال له: دع هذا اليوم، اليوم أهلك أحق بك، وغداً فلان أحق بك، ولنفسك عليك حق، وإن من حق النفس عليك أن تبلغ ما أمرها الله عز وجل به، يوم تأتي كل نفسٍ تجادل عن نفسها، بم تجادل إذا لم تقم هنا بما أوجب الله عليها؟
فعليك برفقة الصالحين، وعليك بالاجتماع بإخوانك، فإن المرء قليلٌ بنفسه كثيرٌ بإخوانه، وأحياناً يأتي الإنسان وبه خيبة أمل عظيمة مما يرى، لكنه يأتي إلى أحد إخوانه، فيعطيه عزيمة، تفل الحديد، فعليك بإخوانك، فإن المرء -كما قلت- كثيرٌ بإخوانه قليلٌ بنفسه.
وفقنا الله وإياكم إلى استغلال كل خير! وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(26/9)
صفحة صدق
إن المحن تطهير ليس معه زيف ولا دخل، وتصحيح لا يبقى معه غبش وخلل، إنها لتفتح في القلب منافذ ما كان ليعلمها المؤمن من نفسه لولا المحن، وقد تعرض الكثير من الصحابة رضوان الله عليهم للمحن والشدائد، ومن هؤلاء كعب بن مالك رضي الله عنه الذي تعرض لمحنة التخلف عن الغزو، وكان أكبر سبب لهذا التخلف هو التسويف، وقد كان لمقاطعة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لكعب أثر كبير، وقد استمرت ما يقارب الخمسين يوماً حتى منّ الله عليه بالتوبة، فأصبح قدوة للمسلمين في الصدق والشجاعة.(27/1)
المحن وفوائدها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
أما بعد: عباد الله! اتقوا الله واعلموا أن المحن محك لايخطئ، وميزان لا يظلم؛ يكشف عما في القلوب؛ ويظهر مكنونات الصدور؛ ينتفي معه الزيف والرياء؛ وتنكشف معه حقيقة الصدق بجلاء.
إن المحن تطهير ليس معه زيف ولا دخل، وتصحيح لا يبقى معه غبش ولا خلل؛ إنها لتفتح في القلب منافذ ما كان ليعلمها المؤمن من نفسه لولا المحن.
قد يظن الإنسان في نفسه قبل المحن التجرد والنزاهة؛ فإذا وقعت الواقعة تبين من بكى ممن تباكى، تميز الغبش من الصفاء، والهلع من الصبر، والصدق من الكذب، والثقة من القنوط، عندها يدرك المرء أنه بحاجة إلى تمحيص ومراجعة، فمن الخير له أن يستدرك نفسه قبل أن يكون عبرة ويقع ضحية: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آل عمران:154].
بالمحن تستيقظ الضمائر، وترق القلوب، وتتوجه إلى بارئها؛ تضرع إليه وتطلب رحمته وعفوه معلنةً تمام العبودية والتسليم الكامل له، لا حول ولا قوة إلا به، لا مهرب منه إلا إليه، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لا معقب لحكمه، لا إله إلا هو
باقٍ فلا يفنى ولا يبيد ولا يكون غير ما يريد
منفرد بالخلق والإرادة وحاكم جل بما أراد
سبحانه وبحمده!
عباد الله: وصور المحن والمنح في السيرة كثيرة وجليلة، وجديرة بالتملي والتأمل، والحديث كما تعلمون بل كما تشعرون عن سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وصحبه، حديث تحبه وتجله النفوس المؤمنة، تأنس به قلوب بالإيمان هانئة مطمئنة، حبه في شغاف القلوب والأفئدة، وتوقيره قد أُشْرِبَتْ به الأنفس، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.(27/2)
كعب بن مالك وتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
فَهَلُمَّ هَلُمَّ عباد الله! لنتصفح ونتفحص صفحة صدق بيضاء ونقية لنرى من خلالها المحنة بكل صورها -وبالصدق تتخطى- لنعلم عبرها وعظاتها؛ فقد مُلِئَتْ عِبَرَاً وعَبَرَات، وفكراً ونظرات، دموعاً حَارة وحسرات، هجر الأقربين فيها شديد المظاظة، ومع ذلك بارز وظاهر، وتزلف المناوئين والمنافقين فيها مشرئبٌ زاخر.
صفحة مُلِئَت بأحداثٍ تذرف منها الدموع، وتخشع لها القلوب.
صفحة جسدت الصدق والإخلاص والقدوة في الصبر على الضراء والشكر على السراء تطبيقاً عملياً ماثلاً.
إنها صفحة بُدِئَت باستنفار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه لملاقاة من؟
لملاقاة الروم يوم تحركوا بعسكرهم وفكرهم ودسائسهم ليطفئوا نور الله بأفواههم: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8].
إنه استنفار وأي استنفار! في أيام قائظة، وظروف قاسية، في جهد مضنٍ ونفقات باهظة، طابت الثمار، واستوى الظلال، وعندها بدأ الامتحان؛ ليسطر في آيات الكتاب بإفاضة واستيعاب.
أفاضت آيات الله في أنباء الطائعين والمثبطين، واستوعبت أنباء المخلصين والقاعدين، فيالها من مشاهد وأحداثٍ في تنوع مثير!
يجيء المعذرون لِيؤذن لهم، ويقعد الذين كذبوا الله ورسوله، ويتولى الذين لم يجدوا ما يحملون عليه بفيض دموعهم حزناً ألا يجدوا ما ينفقون، ويرجف المرجفون: لا تنفروا في الحر ونار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون، والساقط في الفتنة يقول: ائذن لي ولا تَفْتِنِّي وفي الفتنة وقع، (فر من الموت وفي الموت وقع).
وآخرون يلمزون ويسخرون من المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم، فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله.
ومنهم رجال تخلفوا عن ركب المؤمنين لا عن شكٍ ولا عن نفاق، لكن غلبتهم أنفسهم، وأدركهم ضعفهم البشري، مع سلامة إيمانهم ومعتقدهم رضي الله عنهم وأرضاهم على رأس هؤلاء صحابي جليل، مجاهد نحرير، لن يبلغ ألف رجل منا بالقول ما بلغه مرة واحدة بالفعل، لكنه بشر -تبقى له بشريته- غير معصوم.
لنقف مع صفحة من صفحات حياته، صفحة تتضمن قصة الخطيئة، وحقيقة التوبة؛ أهي قول باللسان، أم هي الندم الدافع لعمل الجوارح والأركان، والتأثر البالغ في النفس والجنان؟
صفحتنا مثبتة في الصحيحين، راويها صاحب المعاناة فيها، فاسمع إليه عبد الله، تجد كلامه يدخل الأذن بلا إذن، أصغ إليه وهو يتحدث عن نفسه ويخبرنا عن (سوف) كيف صنعت به، فيقول وقد تخلف عن تبوك: وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما اجتمعت راحلتان عندي قبلها قط، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا وَرَّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزاة في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً ومفازاً وعدواً كثيراً، فجلىَّ للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد.
والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرٌ؛ لا يكاد يجمعهم كتاب، فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أنه سيخفى ما لم ينزل وحي الله فيه، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه.(27/3)
التسويف هو سبب تخلف كعب بن مالك
يقول: فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئاً، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه، فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئاً، فقلت: سوف أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئاً.
قال: فلم يزل بي ذلك حتى أسرعوا وتدارك الغزو وفات، وهممت أن أرتحل فأدركهم -ويا ليتني فعلت- فلم يقدر لي ذلك ويأخذ ذلك من كعب مأخذه، ويبلغ الحزن مبلغه، وتبلغ المحاسبة مبلغها.
ولسان حاله يقول:
ندمت ندامةً لو أن نفسي تُطاوِعني إذًا لقطعت خمسي
عباد الله: إن كعباً رضي الله عنه يعيش كل يوم مع (سوف)، وهذه والله ليست مشكلة كعب فحسب؛ إنها مشكلة كبيرة في أمة الإسلام: مشكلة التسويف؛ استطاع الشيطان أن يلج إلينا من هذا الباب الواسع ونحن لا نشعر، حال به بيننا وبين كثير من الأعمال قد عزمنا على فعلها وقلنا: سوف نعملها ولم نعمل، كم من مذنب قال: سوف أتوب وداهمه الموت وما تاب! كم من باغ للخير عازم عليه وأدركه الموت ولم يستطع ذلك؛ حال بينه وبينه الموت!
كم من عازم على الخير سوفه، كم ساع إلى فضيلة (سوف) ثبتطه وقيدته، فالحزم الحزم في تدارك الأمور وترك التسويف! فإن (سوف) جندي من جنود إبليس
فاطرح سوف وحتى فإنهما داء دخيل
يقول كعب: فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحزنني ألا أرى أسوة لي إلا رجلاً مغموصاً عليه النفاق، أو رجلاً ممن عذره الله من الضعفاء والذين لا يجدون ما ينفقون، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال -وهو جالس بين أصحابه-: {ما فعل كعب؟ فقال رجل من بني سلمة -من عشيرة كعب -: يا رسول الله! حبسه برداه، ونظرُه في عِطفيْه- يعني: إعجابه بنفسه -فقال معاذ وقد استنكر الأمر وهو يعلم من أخيه ما يعلم: بئس ما قلت! -والله يا رسول الله- ما علمنا عليه إلا خيراً، فسكت صلى الله عليه وسلم}.
يا أيها المسلمون: إن معاذاً رضي الله عنه لم يسعه السكوت وهو يرى من ينال من عرض أخيه المسلم فبادر بالإنكار، لم تغلبه المجاملة فيسكت كما يفعل البعض، كيف يسكت وهو يعلم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه}، {من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة} ويعلم أيضاً أن الساكت كالراضي والراضي كالفاعل؟!(27/4)
كعب بن مالك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من تبوك
يقول كعب: فلما بلغني أنه قد توجه قافلاً -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- حضرني همي -حضره بثه وحزنه- قال: فطفقت أتذكر الكذب، وأقول: بِمَاذا أخرج من سخط رسول الله صلى الله عليه وسلم غداً؟ واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي؛ فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً زاح عني الباطل، وعرفت أني لن أخرج منه أبداً بشيء فيه كذب، فأجمعت صدقه.
ويا له من رأي! وقدم صلى الله عليه وسلم، ثم جلس للناس، وجاءه المُخلَّفون يعتذرون إليه ويحلفون له، فقبل منهم صلى الله عليه وسلم علانيتهم، ووكَل سرائرهم إلى الله -وهذا هو منهجنا- وجئته فلما سلمت عليه تبسم تبسُّم المغضب، ثم قال: تعال، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال: {ما خلَّفك يا كعب؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ فقلت: يا رسول الله! والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، والله لقد أُعْطيتُ جدلاً، ولكني والله لقد علمت لَئِن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكنَّ الله أن يُسخطَك عليَّ، ولئن حدثتك حديث صدق تَجِد عليَّ فيه، إني لأرجو فيه عفو الله.
والله -يا رسول الله- ما كان لي من عذر، والله ما كنت أقوى ولا أيسرَ مني حين تخلفت عنك، فقال صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، قم حتى يقضي الله فيك}.
صِدْقٌ ووضوحٌ وصراحةٌ، لا التواء ولا مراوغة.
علم كعب أن نجاته في الدنيا والآخرة إنما هي بالصدق، وقد هدي ووفق إلى الرشد والصواب، والموفق من وفقه الله.
يقول كعب: فقمت وسار رجال من بني سلمة، فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك -يا كعب - قد أذنبت ذنباً مثل هذا، أوقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله بما اعتذر له المخلفون؟ قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك: يقول: فو الله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع، فأُكذِّب نفسي.
عباد الله: ما أشد خطر صديق السوء! كاد يهلك كعب بسبب بني عمومته الذين يظهرون بمظهر الناصح المشفق وهم يدفعون به إلى وادٍ سحيق من الهلاك، هلك فيه جمع كبير من المنافقين.
إنها مقالة ويا لها من مقالة! كثيراً ما تتكرر في مجالسنا! يتهمون الصادق بأنه طيب القلب غِرٌ لا يحسن المراوغة ولا المخارج، ويصفون الكاذب بالذكي الألمعي العبقري، وكبرت كلمة تخرج من أفواههم! أرأيت هؤلاء عندما وصفوا الأمر لـ كعب بأنها أول كذبة ولا ضير فيها، وسيعوضها استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، وكل ذلك وسائل لتزيين الباطل؛ يبهرجها قرين السوء من حيث شعر أو لم يشعر.
فمن العداوة ما ينالك نفعه ومن الصداقة ما يضر ويؤلم(27/5)
مقاطعة المسلمين لكعب بن مالك وأثرها عليه
وأُعلِنَت المقاطعة لهذا ولصحبه؛ بل التربية النبوية العميقة، يقول كعب: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا -نحن الثلاثةَ- من بين كل من تخلَّف عنه، فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا حتى تنكرت لي الأرض؛ فما هي بالأرض التي أعرف، ولبثنا على ذلك خمسين ليلة، وكنت أَشبَّ القوم وأجلدَهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف الأسواق، فلا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلِّم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرَّكَ شفتيْه برد السلام علي أم لا؟ ثم أصلي قريباً منه صلى الله عليه وسلم فأسارقُه النظر، فإذا أقبلتُ على صلاتي أقبل إليَّ، وإذا الْتفتُّ نحوه أعرض عني.(27/6)
بكاء كعب بن مالك من شدة المقاطعة
حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إليَّ؛ قال: فسلمت عليه، فوالله ما رد عليّ السلام.
قال: فقلت: نشدُتك الله! هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، فنشدته فسكت، فأعدت عليه؛ فقال: الله ورسوله أعلم! ففاضت عيناي، وتولَّيت حتى تسورْتُ الجدار، أهيم على وجهي.
وانظر أخي في الله كيف تكاتف المجتمع المسلم بكامله وامتثل الأمر الموجه إليه، فلا أحد يكلمه حتى ولو كان ذلك في غيبة أعين الرقباء، نعم.
إن الرقابة لله! حتى ولو كان ابن عمه، نعم.
إن المراقبة لله! إن أضر شيء على المجتمع أن يجد أهل الفسق والفجور صدوراً رحبة تحتضنهم وترضى عنهم وتبجلهم وتقدرهم، ولو أن العصاة والمنحرفين وجدوا مقاطعة وازدراءً عاماً لكان دافعاً إلى أن يرشد الغاوي ويستقيم المعوج ويصلح الطالح.
انظر لذلك الأسلوب التربوي العميق المتمثل في تلك المقاطعة النفسية والاجتماعية التي شملت مختلف مجالات الحياة الاجتماعية في الأسواق وفي المساجد ومع الأصدقاء بل حتى مع بني العمومة بل مع الزوجة، فلم تترك منفذاً يمكن أن يخل بهذه المقاطعة أو يحول دون تحريك الغاية التربوية منها، كان لذلك تأثير عميق على النفوس الخيرة التي تعودت أن تألف وتؤلف، وذلك عين الحكمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقضي باللين في مكانه والشدة في مكانها، وهذا ما يحتاجه الناس في دعوتهم وتعاملهم وتربيتهم لمن تحت أيديهم.(27/7)
ملك غسان يحاول استمالة كعب أيام محنته
عباد الله: وهل تخفى أخبار المجتمع الإسلامي على الأعداء؟ إن هناك صَفَّاً يعمل داخل الصف الإسلامي دائماً، ولذلك يجب أخذ الحيطة والحذر وألا تكون أسرار وخفايا المجتمع المسلم معلنة للجميع لتنقل للعدو فينفذ من داخلها للمسلمين.
يقول كعب: فبينما أنا أمشي بسوق المدينة إذا نَبَطي من أنباط أهل الشام يسأل أهل السوق: من يدل على كعب؟ فطفق الناس يشيرون له إليَّ حتى جاءني فدفع إليَّ كتاباً؛ ممن؟ من مَلِك غسَّان؛ فإذا فيه: أما بعد: قد بلغني أن صاحبك -يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم- قد جَفَاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ومضيعة؛ فَالْحَقْ بنا نُواسِك.
قال: فلما قرأتُها قلت أيضاً: هذا من البلاء -هذا من الامتحان- ثم تيممت بها التَّنور، فسجرته بها -أحرقها يا عباد الله- هذا هو ديدن أعداء الله يتحسسون الأنباء ويترصدون الفرص والأخبار، وكم من أقدام في مثل هذا زلَّت وانزلقت.
إن المسلم قد يخطئ لكنه لا يعالج الخطأ بخطأ آخر؛ قد يخطئ فيتخلف عن الغزو في سبيل الله، لكنه لا يتبع هذا بخيانة الأمة وموالاة أعداء الله ومظاهرتهم على المؤمنين.
إن أداة المعصية حين تكون قريبة فإنها تذكر بالمعصية، وتفتح للشيطان باب الوسوسة والمراودة الكرةَ بعد الكرةَ، أما كعب فقد تخلص من هذه الأداة، فأحرقها حتى يغلق مثل هذا الباب رضي الله عنه وأرضاه، وهذا هو الحل.
إن آلة المعصية التي توجد في المنازل وفي المكاتب وفي غيرهما حين تترك -بعد العلم بضررها والتوبة منها- مدعاة لأن يضعف أمامها يوماً ما، ويعاود القرب منها والممارسة لها إلا من عصم الله، فلينتبه وليتخلص منها كما فعل كعب بالرسالة، يمم بها التنور فسجرها، ولا يزال البلاء والتمحيص بـ كعب؛ حتى أمر باعتزال زوجته، فامتثل الأمر واعتزلها وطلب منها اللحاق بأهلها حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.(27/8)
توبة الله على كعب وأصحابه
يقول كعب: فتمت لنا خمسون ليلة، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس في الحال التي ذكرها الله -فيما بعد- قد ضاقت علي نفسي، وضاقت عليّ الأرض بما رَحُبَتْ، سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته: يا كعب بن مالك! أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك.
قال: فخررت ساجداً شاكراً لله عز وجل، وعرفت أن قد جاء الفرج.
وجاء الفرج وانبلج الفجر بعد أن بلغ الليل كماله في السواد، وأدرك كعب عظم نعمة الله عليه بسبب صدقه، فقال بعد ذلك: والله ما أنعم الله علي بنعمة بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأتي البشرى، وأيُّ بشرى يا عباد الله! بحسن العقبى، بشرى بالعودة إلى صفِّ المسلمين، بشرى يركض بها الفارس، ويهتف بها الراكب، على مثلها تكون التهاني، ولمثلها تكون البشائر والجوائز.
يقول كعب: فلما جاءني الذي بشرني نزعت له ثوبَيَّ فكَسَوْتُه إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما، واستعرت ثوبيْن فلبستهما.(27/9)
الصحابة يهنئون كعباً بتوبة الله عليه
وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلت عليه في المسجد، فإذا هو جالس والناس حوله جلوس، فقام إليَّ طلحة فرحاً مغتبطاً يهرول حتى صافحني وهنَّاني، والله ما قام إليَّ رجل من المهاجرين غيره، والله ما أنساها لـ طلحة رضي الله عنهم.
الله أكبر! ما أعظمه من تعامل للصحابة مع أخيهم! بالأمس القريب لا يتحدثون معه ولا يردون عليه السلام، واليوم يتنافسون فيمن يصل إليه أولاً ليبلغه نبأ التوبة.
إنه حب الخير لأخيهم كما يحبونه لأنفسهم، ولكن تحت ضوابط الشرع وأوامر الشارع.
قال كعب: فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال وهو يبرق سروراً وجهه كأنه فلقة قمر: {أبشرْ يا كعب بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمُّك.
فقلت: أمن عندك يا رسول الله، أم من عند الله؟ قال: بل من عند الله} فحمد الله وأثنى عليه.
{ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:118].
وفاز الصادقون بصدقهم، وحبط عمل الكاذبين، واللهُ لا يهدي القوم الفاسقين.
وظهر الاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية، هؤلاء هم رجال الصدق، رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، تخرجوا من مدرسة النبوَّة، صِدْق في الإيمان، قوة في اليقين، صدق في الحديث، صدق في المواقف، صٌبر عند اللقاء، اعتراف بالخطيئة، كلمة الحق في الرضا والغضب من غير تنميق عبارات أو تلفيق اعتذارات: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119].
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تخرج من أصلاب هذه الأمة رجالاً صادقين مخلصين يقولون الحق وبه يعدلون.
اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك الصالحين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(27/10)
قصة كعب درس من دروس الصدق
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله وكونوا مع الصادقين، وعودوا معي -والعود أحمد- إلى كعب بن مالك صاحب القصة رضي الله عنه وأرضاه، فإن الأمر لم يقف عند بشارته بالتوبة وتهنئته بالقبول، إنما جلس كعب بين يدَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم معلناً التأكيد لهذه التوبة والتمسك بها، قائماً مقام الذاكرين الشاكرين التائبين المخبتين، قائلاً: {يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله ورسوله.
فقال عليه الصلاة والسلام: أمسك عليك بعض مالك؛ فهو خير لك}.
ثم يعلن أخرى رضي الله عنه التمسك بالصدق سلوكاً ثابتاً في مستقبل حياته إذ بالصدق نجا، فيقول: {يا رسول الله! إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدِّث إلا صدقاً ما بقيت} حاله كحال الآخر الذي يقول: والله لو نادى منادٍ من السماء أن الكذب حلال ما كذبت.
يقول: فو الله ما علمت أحداً من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني الله به، والله ما تعمَّدْتُ كذبة مذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي، والله ما أنعم الله عليَّ نعمة قط بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
لم يا كعب؟
قال: ألا أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوا، فإن الله قال للذين كذبوا شرَّ ما قاله لأحد، يوم قال سبحانه: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:95 - 96].
عباد الله: الصدق فضيلة وطمأنينة وصفة من صفات المؤمنين فعليكم به، وليكن قدوتكم كعباً وصحبه ومن اقتدى به؛ فليس بينكم وبينهم حاجب.
إذا أعجبتك خصال امرئ فكنه يكن منك ما يعجبك
فليس على الجود والمكرمات إذا جئتها حاجب يحجبك
تحرَّوْا الصدق، وإن رأيتم الهلكة فيه؛ فإن النجاة فيه، وإياكم والكذب، وإن رأيتم النجاة فيه؛ فإن الهلكة فيه وعظيم الفتنة به، وكم تركت الفتن من قلب مقلب وهوى مغلب، وكم سار في طريقها من كادح، فكثر الهاجي وقل المادح.
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى فكن الحر وخذها بزمام
واصدق حديثك إن المرء يتبعه ما كان يبني إذا ما نعشه حملا
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم اجعلنا من الصادقين، اللهم اجعلنا من الصادقين، اللهم اجعلنا من الصادقين الصابرين الشاكرين.(27/11)
الاختلاط وأثره
إن الإسلام أكد وشدد على حفظ الأعراض والأنساب، وحرم كل طريق يؤدي إلى اختلاطها، وحذر أيما تحذير من مخالطة النساء، والخلوة بهن، أو الدخول عليهن، وعندما تناست الأمة هذا التحذير وقعت فيما وقعت فيه، فكل يوم نسمع عن فعلة قبيحة وفاحشة خبيثة سببها الاختلاط والخلوة.
هذا ما تعرض له الشيخ حفظه الله، مبيناً أثر الاختلاط والخلوة في حياة الأمة.(28/1)
آثار الاختلاط على الأمم والمجتمعات
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسانٍ وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: يقول الحق تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً * لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} [الأحزاب:59 - 61].
وقعنا في الخطايا والبلايا وفي زمن انتقاض المحدثات
فهان الخير والصلحاء ذلوا وعثَّ بذلهم أهل السفاءِ
وباء الآمرون بكل عرسٍ فما عن منكرٍ للناس نائي
فصار الحر للمملوك عبداً فما للحر من قدرٍ وجاه
فهذا شغله طمعٌ وجمعٌ وهذا غافلٌ سكران لاهي(28/2)
اهتمام الإسلام بحفظ الأعراض والأنساب
عباد الله: اتقوا الله تعالى؛ فتقوى الله خير زادٍ نتزود به في رحلتنا إلى الله الواحد القهار، ثم إن الإسلام أكد وشدد على حفظ الأعراض والأنساب وحرم كل طريقٍ ممكنٍ إلى اختلاط الأنساب، فأوجب على المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم، وأوجب على المؤمنات أن يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن، وشدد الإسلام في الحيلولة دون اختلاط النساء بالرجال، وحذر الإسلام أيما تحذير من الخلوة بالنساء أو الدخول عليهن من غير المحارم، وبين أن هذا العمل مذموم عند الله عز وجل وعند رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: {إياكم والدخول على النساء، إياكم والدخول على النساء، قالوا: يا رسول الله! أفرأيت الحمو -يعنون قريب الزوج، من أخٍ، وابن عمٍ، وابن خالٍ، وغيرهم ممن يحق لهم دخول بيته- قال صلى الله عليه وسلم: الحمو الموت} نعم إنه الموت؛ لأن الناس لا يحسبون دخوله وخروجه من عندك، فلا يرى بأساً أن يدخل البيت وصاحبه خارج، فيقع في المؤمنين ما لا تحمد عقباه، وتقشعر منه القلوب، وتتفطر منه الجفون.
ومن الفواحش التي تدمي القلوب: {ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما} وما ظنكم باثنين الشيطان ثالثهما؟ أينتج عن ذلك خير؟ أينتج عن ذلك براءة؟ الشيطان يجمل ويزين، ويقرب ويؤنس، ويدني، فوالله لا فلاح ولا نجاح.(28/3)
تهاون الناس في أمر الخلوة والاختلاط
عباد الله: ومع تحذير الرسول صلى الله عليه وسلم من الخلوة التي بسببها نسمع كل يومٍ حادثة قبيحة وفعلة شنيعة، ومع ذلك ما زلنا نرى ونسمع ألواناً من الخلوة والاختلاط، بل صار الناس لا يرون بها بأساً، ولا يرفعون بها رأساً، وصارت أمراً طبيعياً مألوفاً، بل لوناً من ألوان التقدم والرقي، فصارت الخلوة عادية في مجال الاستطباب، حتى صار كثيرٌ من الأطباء يبيح لنفسه الخلوة بالمرأة الأجنبية، ويرى فضلاً عن وجهها شيئاً من جسمها، بل يرى فخذيها وعورتها المغلظة، مستبيحاً ذلك بحجة أنه طبيب، ناسياً بل متناسياً أنه رجلٌ أجنبي لا يجوز له أن ينظر إلى ما حرم الله؛ إلا في مجالٍ ضيقٍ شديد، ألا وهو مجال الضرورة العظمى التي تتطلب التدخل لإنقاذ حياة المرأة في حالة عدم وجود المرأة الطبيبة.
إن ذلك لا حرج فيه لكن بضوابط، مع وجود المحرم قدر الاستطاعة، فإن لم يوجد المحرم، فليوجد رجلٌ أو امرأة ثالثة، أو رابعة، حتى تنتهي الخلوة التي تحدث بين الطبيب والمريضة.
ونحن عندما نقول هذا الكلام، قد يستنكره بعض الذين في قلوبهم مرض، فيمدون شفاههم في وجوه الدعاة، زاعمين أن هذا تشددٌ وتخلفٌ رجعي، بل سوء ظنٍ من الدعاة بالمدعويين، ناسيين أو متناسيين أنه ما ديست كرامة المرأة إلا بعد أن وجدت هذه الأفكار، وما من بلية ولا رزية إلا وكان للخلوة والاختلاط فيها نصيب الأسد.
إن كثيراً من أطباء النساء يتعمدون الكشف على سوءة المرأة الحامل مدعين أنهم بذلك يطمئنون على صحة الجنين، يا له من قبحٍ وسوء فعلٍ وقلة حياء وأدب!! وبالإمكان وضع سماعة الطبيب على بطن المرأة فوق الثياب وسمع النبضات، لكن الدنية الخبيثة تأبى عليه ذلك، بل يتجرأ بعضهم ويمد يده ليتحسس وضع الرحم كما يقول، وإن جئت لطبيبة تريد الستر حولتك إلى طبيب، ما دور تلك الطبيبة؟! قبح الله تلك الأخلاق والشيم.
إن الرجل صاحب المروءة ولو لم يكن ذا دين؛ تأبى عليه مروءته أن يطلع على عورات النساء.
ولا إله إلا الله مع كثرة اللمس تبلد الإحساس، وصار الأمر متستطاباً ومستحسناً عند بعض النساء من اللاتي قل حياؤهن، وغاب عنهن وليهن فلم يتربين التربية الإسلامية الحقة.(28/4)
الخلوة والاختلاط صور وعواقب
يذكر بعض العاملين في بعض المستشفيات: أن بعض النساء تأتي لطبيب النساء متجملة غاية الجمال، لابسة عارية، تلبس ما يثير الشهوة عند من لا يشتهي: كاسيات عاريات، فإذا جاءت ولم تجد الطبيب غضبت ورجعت ولم تذهب للطبيبة؛ لأنها تدربت وألفت لمسة الرجل الأجنبي، وتلذذت بتحسيسه على بطنها وفخذيها فصارت لا تأتي للعلاج ولكن لمرضٍ في القلب والنفس نسأل الله غفرانه وعفوه.
وصار بعض الأطباء يرى أن الخلوة حقاً من حقوقه، فيتجرأ ويخرج الرجل الذي يأتي مع زوجته -إن صح أن نسميه رجلاً- قائلاً له: لو سمحت لا يجوز أن تحضر الكشف، وبعض الرجال -بل أشباه الرجال- يطأطئ رأسه وينزع مروءته فيترك زوجته ليخلو بها الطبيب!
لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ إن كان في القلب إخلاصٌ وإيمانُ
يذكر أحد الإخوة: أنه دخل إحدى العيادات وإذا به يرى الطبيب قد أغلق على نفسه مع امرأة، فظن أن المرأة مع زوجها أو أخيها، فأخره فدخل لوحده، وإذا به يرى الطبيب يتلون وجهه عندما دخل عليه وهو في حالة مرثية لا تدعو إلى الاطمئنان، ماذا كان يفعل مع تلك المرأة أيها المسلمون؟!
أواه! أفهذا يرضي الرجال الكرام؟! أهذا يقبله شرعٌ أو خلق؟! أين الغيرة يا أبناء وأحفاد محمد صلى الله عليه وسلم؟! أين الشهامة؟! ألا تغارون؟! ألا تستحون؟! ألا تخجلون؟! ألا تخافون من الله؟!
إن الخلوة محرمةٍ بكل أنواعها، لا يجوز للرجل أن ينظر إلى امرأة لا تحل له مهما كانت الأسباب والدواعي، فضلاً عن الخلوة بها.
وأصبحت المصافحة للأجانب أمراً مألوفاً، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لئن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خيرٌ له من أن يمس امرأة لا تحل له} فبأي حقٍ يستبيح بعض الرجال الخلوة بالنساء؟ وبأي حقٍ يبيح بعض الأولياء لنسائهم أن يخلو بهن الأطباء أو غير الأطباء من غير المحارم، من سائقين، وعمال، متجاهلين قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {ما خلا رجلٌ بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما}.(28/5)
السائقون والخدم من أسباب الفاحشة
لا إله إلا الله كم نسمع من الوقائع والمآسي التي حصلت نتيجة الخلوة من السائق أو العامل بربة البيت أو بابنتها!! وكم من امرأة استدرجت سائقها لفعل الفاحشة بها! كم من سائقٍ ذكيٍ لبقٍ استغل فرصة غياب رجل البيت -إن صح أن نسميه رجلاً- ليستدرج صاحبته إلى الفاحشة؟! فإذا سقطا فيها مرة صعب بعد ذلك الانتهاء عنها، وكثير من الرجال اكتشفوا ذلك بعد وقوع الفأس بالرأس كما يقولون، فوجود السائق والخادم في البيت خطر عظيم.
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد
يقول بعض أشباه الرجال لما أراد أن يستبدل السائق؛ لخصومة وقعت بينه وبينه، يقول: انطلقت زوجتي لتدافع عنه بقوة، وهي تصيح هو حبيبٌ لنا ولطيفٌ يخدمنا ويقضي لوازمنا وأنت مسئول عنا.
لا يلام الذئب في عدوانه إن يك الراعي عدو الغنمِ
ما دخل امرأته في حكم الرجال؟! رجلٌ يريد أن يستبدل سائقاً أو يغير شيئاً ثم تتدخل المرأة في الدفاع عنه، إن في الأمر ما فيه!!
ولا إله إلا الله! يغطي بعض الناس رأسه يوم يسمع مثل هذا الكلام، وقد يقول البعض: إن الخطيب يفتري على الناس شيئاً لم يقع، لكن يا عباد الله يجب مواجهة الحقائق ووضع النقاط على الحروف، فإن المقدمات الخاطئة تولد نتائج خاطئة، والسكوت عن الذنب الصغير يفضي إلى الكبير.
كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
ويأتي بعض السذج ويقول: لمَ لم تفعل الدولة كذا؟ لماذا تسمح بدخول الخدم والسائقين؟ نقول: نعم على الدولة مسئولية، لكن أتريد من الدولة أن تضع حارساً على نسائك؟ أتريد أن تضع رقابة على بيتك؟ إن الرجل المسلم حريصٌ على بيته وعرضه، حريصٌ على محارمه.
إن خطر السائق عظيم، فإذا اضطررت إليه فليكن في حدود الشرع يا عبد الله، يسكن في مكانٍ بعيدٍ، لا يحق له دخول بيتك، ولا تسمح لنسائك بكلامه أو مخالطته، لا يخرج بهن إلا وأنت معه أو ابنك، أو ثالث أو أخوك معه، هذا إن اضطررت إليه، ولكن المؤسف الذي يدمي القلب أن بعض الناس يعتبر السائق شكلاً تكنيكياً من لوازم الحضارة والتقدم! وما علموا أنه من بوادر الحقارة والدعارة، والتفاهة والتدهور:
سوف ترى إذا انجلى الغبارُ أفرسٌ تحتك أم حمارُ
عباد الله: إنا نرى ويا ليتنا لم نر، إنا لنرى الإنسان يسوق سيارته سائق وعنده خمسٌ من البنين كلهم يقودون سياراتهم، ولا يكلف الواحد منهم نفسه أن ينقل عرضه إلى المدرسة، ويأتون برجلٍ غريبٍ كافرٍ جاء من بلدٍ مختلف، الزنا فيه أمرٌ طبيعي لا يستنكر ولا يستغرب، يأتون به لينقل أعراضهم، ويؤتمن على نسائهم، أهؤلاء رجال؟!
إن كنت لا تدري فتلك مصيبةٌ وإن كنت تدري فالمصيبة أعظمُ
يؤتى برجلٍ شاب يتجمل ويتهندم ويعتني بشعره أكثر مما يعتني صاحب المرأة بنفسه، فيضع السلاسل الذهبية في عنقه، وتسلم له سيارة أنيقة، ويسلم له فتياتٍ قد بلغن الكمال في الأنوثة والصحة والجمال، وقد حيل بينهن وبين الزواج غالباً، فيقولوا لهذا السائق: خذهن لقمة سائغة، اذهب بهن إلى الأسواق والمدارس والحدائق فأنت الصادق الأمين.
إن كنتم تشكون في كلامي فاذهبوا إلى الأسواق، وانظروا في طوابير السيارات الواقفة ستجدون هذا كافراً، وذاك جندياً هندوسياً يحمل في سيارته امرأة من نساء المسلمين ويؤتمنون عليها.
يا أمة الحق والآلام مقبلةٌ متى تعين ونار الشر تستعرُ
متى الفواق وقد تمت مصيبتنا متى الخلاص وقد لمَّ بنا الخطر
نتائج الأمة عظيمة، إذا قلبت النظر وجدت ظلاماً وليلاً حالكاً، ومن هذا الظلام خلوة صاحب البيت أو ابنه بالخادمة وتلك والله مصيبة، وكثيرٌ من الآباء سمح للخادمات بلبس القصير، والخلوة بابنه المراهق، وما علم أنه فتح باباً من الشر على بيته وابنه يوم جلب الخادمة، فإذا هي أجمل وأحسن شكلاً من صاحبة البيت، وقولوا لي بالله كم سيغض صاحب البيت طرفه عنها، إنه شيءٌ يضحك ألماً، وشر البلية ما يضحك.(28/6)
الشيطان يورد المهالك
حذار حذار يا عباد الله! من الخلوة والاختلاط، كم من رجلٍ تعلق قلبه بامرأة أجنبية حتى صار يعزف عن زوجته التي أحلها الله له، لا يجد لذة ولا راحة في معاشرتها ولا في الجلوس معها ولا في حديثها؛ لأن الشيطان قد علق قلبه بامرأة غيرها، فأصبح حاله كحال الشاعر الفرزدق مع زوجته يوم كان يتركها ويذهب ليعمل الفاحشة بغيرها، وهو رجلٌ أعمى البصر والبصيرة، فتسللت زوجته إلى إحدى النساء اللواتي يعمل معهن الفاحشة، فطلبت من هذه العاهرة أن تحل محلها في مقابل أن تسترها ولا تفضحها، وجاء الأعمى يظن أن هذه عشيقته وما علم أنها زوجته؛ فأخذت بيده إلى المكان الذي تعود به عمل الفاحشة، وواقعها وعندما انتهى قالت له: قبحك الله! فعرف أنها زوجته فقال لها: أنت فلانة؟ قالت: نعم قبحك الله، قال: ما أبغضك حلالاً وما ألذك وأهنأك حراماً!!
ومن يك ذا فم مر مريض يجد مراً به الماء الزلال
انظروا إلى الشيطان، فإياكم منه، إنه مدبر الحرام، يبين ويرغم فيه، فلو كان الرجل يملك زوجةً من أجمل نساء الدنيا حسناً وخلقاً، فإنه يراها غير جيدة أمام النساء الأجنبيات؛ لأن الشيطان يصور ويزين، ولقد حُدثنا وسمعنا أن رجالاً لديهم من الغيد الحسان ما يتمناه كل إنسان، ثم يتركونه وهو الحلال، ليتعقبوا أذيال نساءٍ مومسات، قبيحات الأشكال، خبيثات الأجسام، منتنات الروائح، وما ذلك إلا لأن الشيطان سول لهم وأملى لهم فاستبدلوا الحلال بالحرام فأولى لهم.
لم نر من الاختلاط خيراً أبداً، فحوادث الاختلاط نسمعها تقض المضاجع كل آن، فهاهو حدثٌ تقشعر منه الأبدان، الراوي يروي ما حدث منه، ويطلب التوبة والرجوع إلى الله جل وعلا بعد أن آلمته مرارة المعصية، يقول: إنه كان يخلو بزوجة خاله وهي في مثل سنه، يتحدث معها، والشيطان ثالثهما، فخيل لهما الشيطان أنهما حبيبان لا يقدر أحدهما على فراق الآخر، فكانت إذا خرج زوجها استدعته للجلوس معها، ويوم بعد يوم وتقع الفاحشة ونعوذ بالله من الفواحش، ثم بعد ذلك يسعى ليطلقها من خاله بحجة أنه سيتزوجها، وفي سبيل هذا وقع عليها أكثر من أربعين مرة كلها برضاها ورضاه، لا إله إلا الله ما أعظم جرم الزنا! ولم يكتف بالزنا بل خان عرض خاله وهو كعرضه وعرض أمه، سمع موعظة فتذكر فاحشته، فأبغض زوجة خاله وأراد قتل نفسه، وذهب يستفتي أحد العلماء هل يجوز قتل هذه المرأة؟! سبحان الله، ولا إله إلا الله!
يا إخوتي: عندما يكثر التساهل والتسامح يحدث ما نسمع، ويحدث ما نرى، فيا من اشتغل بماله وتجاراته عن أهله:
أصون عرضي بمالي لا أدنسه لا بارك الله بعد العرض بالمالِ
يا من ادعى طهر القلب: إن محمداً صلى الله عليه وسلم وبناته وزوجاته هم أطهر الناس قلوباً، يا من يدعو إلى انحلال هذه الأمة بانحلال نسائها، لتخسأ، ما زالت في الأمة بقية تحمل حقاً، والحق يزهق الباطل: {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81]
عباد الله: اتقوا الله، ولنحفظ ديننا ولنحفظ أعراضنا وسلوكنا بالمحافظة على أمتنا وعلى استقامتها وسلامتها، وعلى حفظ نسائنا، وبناتنا، وأخواتنا، اللهم من أراد بنا وبهن سوءاً فاقصم ظهره، وأرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم لا ترفع له راية، واجعله لمن خلفه آية، إنك على كل شيء قدير.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(28/7)
المرأة هي الهدف
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور:21].(28/8)
محاربة الحجاب والعفاف
عباد الله: الحجاب والعفاف، لو