الأخذ بالأسباب
إن الناظر إلى حياة المسلمين يجد وللأسف الشديد أنهم في انحطاط وذل وفقر مستمر، وكل هذا يرجع إلى عدة أسباب منها: أن الناس اعتمدوا على الأسباب وتوكلوا عليها، ونسوا الله المسبب سبحانه وتعالى فلم ينسبوا له أي فعل لا مقالاً ولا حالاً، وفي مقابل هؤلاء عمدت طائفة كبيرة من الأمة إلى ترك بذل الأسباب الجالبة لنصرة هذا الدين، والأسباب الجالبة للرزق والحياة وتواكلوا على ربهم دون أي فعل من قبلهم، وطائفة ثالثة أعرضت عن مقتضى الأخذ بالأسباب التي تجلب الراحة والسعادة في الدنيا والآخرة وإلى الله المشتكى.(35/1)
ترك الالتفات إلى الأسباب
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن أمتي أمة مرحومة) وهذا قول حق، ولأن هذه الأمة مرحومة فقد بقيت تعيش إلى اليوم؛ لأن من خصائص الإسلام التي فطن إليها أعداؤنا أكثر منا أن هذا الدين يستحيل أن يموت؛ إنما يمرض ويضعف جداً لكن لا يموت.
الدلائل على أن هذه الأمة مرحومة كثيرة؛ من هذه الدلائل: كثرة الناطقين بالحكمة فيها والعاملين بها، ذاكم هم أسلافنا رضوان الله عليهم الذين يتأسف بعض الناس من مجرد سماع وصفهم، إذا قلت له: (قال السلف) امتعض وظنك تدعو إلى جماعة، والواقع غير ذلك، سلفك هم رأس مالك، بغيرهم تساوي الصفر، إذا سمعتهم يتكلمون ولم تعلم من المتكلم قلت: هذا نبي يتكلم، كلام حكمة! والأقوال التي أقف عندها اليوم هي لبعض هؤلاء السلف العظماء، وقد تكلم بهذا القول أكثر من عالم قالوا: (إن التفات القلب إلى الأسباب قدح في التوحيد، ومحو الأسباب بالكلية نقص في العقل، والإعراض عن مقتضى الأسباب قدح في الشرع).
فهذا من عيون الكلام؛ لأنه جمع الدين كله أعلاه وأدناه.
وهذا كلام حق مأخوذ من مشكاة النبوة، فإن التفات القلب إلى الأسباب يضيع عبودية العبد؛ لذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم واسطة بين العبد وربه في كل شيء إلا في الدعاء، والالتجاء إلى الله والتضرع بين يديه.
وكل أسئلة القرآن الكريم ثبتت الواسطة فيها: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ} [البقرة:219] {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ} [البقرة:222] {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ} [البقرة:217] {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ} [البقرة:215]) قل) هذه هي الواسطة، أي: قل يا محمد كذا وكذا، إلا في الدعاء: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186] ولم تثبت الواسطة هنا، لم يقل: فقل إني قريب، كما هي العادة في السؤال، لماذا؟ لأنه لو كان هناك واسطة بين العبد وربه لاستعبدت الواسطة هذا العبد، أرأيت إن كان هناك أمير عدل لا يظلم، لكن له نائب لئيم خبيث، كلما رفعت شكايتك إلى الأمير حجبها النائب فلم تصل إلى الأمير، فماذا عساك أن تصنع؟ لابد أن تتزلف إلى هذا الخبيث حتى يوصل شكايتك، فإذا تذللت لهذا الخبيث واستعبدك ذهب الأمر كله، فلو أن هناك واسطة بين العبد وربه تبارك وتعالى لذل العبد إلى الواسطة حتى يشفع له عند مولاه، وليس هذا هو مقتضى العبودية، فمقتضاها: تمام الذل مع كمال الحب، فهذان جناحان لا يمكن أن يكون العبد عبداً إلا بهما: كمال الحب مع تمام الذل، فهذه هي العبودية.
فإذا أرقت ماء وجهك لهذه الواسطة ماذا بقي لربك إذاً؟ لذلك ألغيت الواسطة، فهي سبب من الأسباب التي يتوصل الإنسان بها إلى مراده، فإذا التفت قلبك إلى هذا السبب كان قدحاً في توحيدك، لذلك تجد أن هذه الوسائط فيما يتعلق باتصال العبد بربه ملغاة كلها، بل إن أي شيء يشوبه اشتراك بين العبد وربه فهو ملغى أيضاً.(35/2)
إبراهيم عليه السلام والتفاته إلى مسبب الأسباب
وما أنصف ما دعا به إبراهيم عليه السلام قومه وهو يعرِّف صفة إلهه العظيم -الذي يعبده لأول مرة- لهؤلاء، وكانت مفاصلة بينه وبينهم، قال عليه السلام: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:77] فكأنه سئل: وما رب العالمين؟ قال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:78 - 81].
كلام الأنبياء موزون، ليست هناك لفظة زائدة؛ لأنهم معلمون: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78] تأمل سياق الآيات؛ لتعلم أن أي نوع اشتراك بين العبد وربه كان يلغى بالبيان: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:78 - 80].
يقول علماء اللغة: إن ضمير الرفع المنفصل الذي لا محل له من الأعراب يأتي لتأكيد الكلام، (هو) ضمير رفع منفصل جاء لتأكيد الكلام، كرر في الثلاث الآيات الأولى، ولم يذكر في الرابعة؛ لأن في الآيات الثلاث الأولى شوب اشتراك بين العبد وربه، الهداية: لفظة يشترك فيها العبد مع الرب تبارك وتعالى، لكن الهداية من العبد بيان وإرشاد، ومن الله هداية على الحقيقة، لذلك أثبتها للنبي صلى الله عليه وسلم مرة ونفاها مرة، فقال عز من قائل: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]، وقال له: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56].
الهداية الأولى التي أثبتها له هداية بيان ودلالة، والهداية التي نفاها عنه هداية أثر، فالأثر لا يكون إلا من الله، السبب والفعل منك والتأثير من الله، لذلك ليس بالضرورة أن يؤتي السبب الأثر؛ فالعبد قد يأخذ الدواء ويموت مع أنه أخذه ليشفى من مرضه لكنه مات به، فلو كان لابد أن يشفى كل إنسان بهذا الدواء لشُفي الكل.
الطعام أنت تأكله لتزيل علة الجوع، ومع ذلك أحياناً تأكل ولا تشبع، فلو كان الطعام لابد بالضرورة أن يدفع الجوع لشبع الإنسان بعد الأكل، وأحياناً تشرب فما تزداد بعد الشرب إلا رغبة في الشرب حتى تكاد بطنك أن تنفجر وأنت ما زلت ظامئاً، فلو كان امتلاء المعدة بالماء يدفع الظمأ لدُفع الظمأ بذلك.
الهداية من العبد بيان، ومن الرب تبارك وتعالى تأثير، فلما كان ذلك موضع اشتراك بين العبد وربه -كأن يقول العبد: كنت ضالاً فهداني فلان- فقال إبراهيم عليه السلام: لا.
الهداية الحقة إلى التوحيد لا تكون إلا من الله، ولذلك أثبتها بهذا الضمير، قال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78] لا غيره، هذا معنى الكلام.
{وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء:79] من الجائز أن تقول: كنت سأموت من الجوع لولا فلان أطعمني وسقاني، فكأنه قال له: إن فلاناً ما زاد على أن أعطاك سبب دفع الجوع فقط، أما الشبع والري فهما من الله، ومما يؤكد هذا الكلام ما ثبت في الصحيحين: (أن رجلاً كافراً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: اسقني يا محمد! فحلب له سبع شياه والرجل يشرب، ثم شبع، فأسلم الرجل، فجاء في اليوم الثاني فقال: اسقني يا رسول الله! فدعا بشاة فحلبت له فشرب وأبقى فضلة وحمد الله، فقال عليه الصلاة والسلام: المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء) أي أن الكافر قد يأكل أكل سبعة ولا يشبع، وأقول: (قد يأكل) وحرف التحقيق إذا دخل على الفعل المضارع أفاد الشك حتى لا يأتيني رجل يقول: هناك من الكافرين من يأكل عشر ما يأكل المؤمنون، فيعترض على الحديث بهذه القضية!! لا.
ومن علمائنا من حملها على أنها واقعة عين مخصوصة بهذا الرجل.
لكن المقصود أن دفع الجوع وإثبات الري من الله تبارك وتعالى، فلما حدث التباس في مسألة الأكل والشرب أكدها إبراهيم عليه السلام بهذا الضمير، أي: هو الذي يطعمك لا غيره، سواء بالسبب أو بالأثر، فإن ما في الأرض ملكه، ولو شاء لأمسك الأمطار فهلك كل من على الأرض، ففي حقيقة الأمر كل ما ملكت يداك هو ملكه وأنت ملكه، فالسبب والأثر ملكه.
قوله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] من الجائز أن يقول العبد: كنت على شفا الموت لولا الطبيب الفلاني الماهر الذي شفاني، فكأنه قال له: لا؛ لأن الطبيب هذا يموت بنفس العلة التي يداوي منها، وما ألطف ما نبه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الأمر عندما قال: (لا عدوى ولا طيرة فقال رجل: يا رسول الله! فما بال الجمل الأجرب يعدي السليم؟ -هل هذا نفي لوجود العدوى إذا كان ذلك كذلك؟ فكيف والحس والواقع يقول: إن الجمل الأجرب يعدي السليم- فقال له: فمن أعدى الأول؟) أول جمل جربان على وجه الأرض من أعداه؟ يريد أن يقول: إن العدوى لا تنتقل بذاتها، إن الله هو الذي ينقلها بدليل: (من أعدى الأول؟) فليس بالضرورة إذا كان هناك مرض معدٍ إذا لامست صاحبه تصاب بنفس المرض، لا يقول هذا أبداً ذو علم لا في الطب ولا في الشرع، لكن اقترابه من مصدر العدوى مظنة العدوى وليس بالضرورة أن يحمل العدوى.
فلا عدوى هنا تنتقل بذاتها، إنما ينقلها الله تبارك وتعالى، فهذا سبب لكن الأثر من الله تبارك وتعالى، فهو الذي ينقله وهو الذي يحجبه إذا أراد.
قوله: {وَإِذَا مَرِضْتُ} [الشعراء:80] تأمل اللطف في الكلام، لم يقل: وإذا أمرضني، بل نسب المرض إلى نفسه تأدباً من أن ينسب الشر إلى الله، كما قال الخضر: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف:82] ولما ذكر السفينة قال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] فنسب إثبات العيب لنفسه وإرادة الخير إلى الله تبارك وتعالى تأدباً.(35/3)
وجوب الفصل بين الأسباب المشتركة بين العبد وربه سبحانه وتعالى
إذا كان هناك قضايا مشتركة بين العبد وبين الله تبارك وتعالى يجب أن تفصل حتى لا يقدح في توحيد العبد، قال ابن عباس: (من قال: لولا الكلب لسرق اللص الدار فقد أشرك) لأن الكلب سبب، لكن من الذي منع اللص؟ قال تبارك وتعالى: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56] فالذي أخذ بناصية هذا اللص هو الله وليس الكلب، فإذا قال العبد: (لولا الكلب لسرق اللص الدار فقد أشرك) هي نفس القضايا التي نبه عليها الخليل عليه السلام، من قال: (لولا فلان لدخلت النار، ولولا فلان أطعمني لمت من الجوع، ولولا فلان شفاني لمت من المرض) كل هذا فيه شرك.
إذاً القلب إذا التفت إلى الأسباب كان ذلك إعراض عن رب الأسباب، وأنت ترى هذا في ضعاف الإيمان، فمثلاً: شخص مرضاً خطيراً، فذهبوا به إلى الطبيب، وتجد الكل واقف على باب الغرفة ينتظر أن يرى الطبيب ماذا سيقول؟ وتجده يسأل: هناك أمل يا دكتور؟ لو قال: ليس هناك أمل، لخر ساكتاً! قوله: (ليس هناك أمل) هذه الكلمة ليست لأحد على وجه الأرض، ولذلك تجد أصحاب العقائد الراسخة يتحركون بها، أحياناً يمرض لك إنسان مرضاً خطيراً، فتجد كل الأطباء يجمعون أنه لا أمل، ويقولون لك: يا بُني! وفر مالك، لا فائدة! ومع ذلك تخرج من عندهم لتبيع آخر ما تملك وتنفقه على هذا المريض، لماذا؟ لأنه راسخ في ذهنك أن الكلمة الأخيرة ليست لأحد غير الله، تقول: الله على كل شيء قدير، ولو كنت تعلم من قرارة نفسك أن الطب هو صاحب الكلمة الأخيرة لكففت عن الإنفاق، لكنك ما أنفقت مالك إلا لتجري وراء أمل راسخ عندك وهو: (إن الله على كل شيء قدير)، هذه عقيدة راسخة، لكن أحياناً يتصرف المرء بضدها جهلاً أو ضعف إيمان.(35/4)
التفات القلب إلى الأسباب قدح في التوحيد
لما مرض أبو بكر الصديق سيد الموحدين بعد النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة الذي ملئ إلى مشاشه إيماناً وحكمة رضي الله عنه، دخلوا عليه وهو مريض فقالوا له: ألا نأتي لك بطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني -كلام واضح جداً- قالوا: ألا ننظر لك في دواء؟ قال: إن الطبيب قال: إني أفعل ما أشاء، ليس هذا من أبي بكر الصديق دفعاً للعلاج وإلا فهو قد عُولج، لكن أراد أن ينبه إلى المعنى الذي نبه إليه إبراهيم الخليل عليه السلام، وهو أن التفات القلب إلى الأسباب قدح في التوحيد، وطالما أن العبد متعلق بالله تبارك وتعالى لا يرجو غيره إذاً هو في عافية وستر، كل شيء يكون عليه يحمد الله تبارك وتعالى له وبه، فما من محنة تكون على غيره إلا كانت في حقه منحة، ولذلك الله تبارك وتعالى لما أراد أن يعطي الجائزة للمتقين -والتقوى أصلها اعتماد القلب على الله، كما قال عليه الصلاة والسلام: (التقوى هاهنا وأشار بيده إلى قلبه) - قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2]، هكذا بالجزم: {يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2].
ننظر في (يتقِ ويجعل) أفعال مضارعة تفيد التجدد والاستمرار، أي: كلما أحدثت تجديداً في تقواك كان في مقابله فرج، وإن اختلف الناس في تعريف الفرج، فبعض الناس يرى الفرج النعمة المطلقة، لكن ليس كذلك، بل أحياناً يكون الفرج في النقمة التي لا يراها العباد إلا نقمة بحتة، فمثلاً: انسحاب القائد في الوقت المناسب من أعظم أبواب النصر، مع أن الانسحاب عند بعضهم يعد من الهزيمة؛ لأن الانتصار عندهم أنك تكسب أرضاً.
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2] انظر إلى الكلمة التي بعد هذه مباشرة: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:3] انظر إلى الكلام الجميل: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:3] فتكون فرحته طاغية؛ لأنه لم يحتسب.
أنت موظف كبير تأخذ ألف (جنيه) في الشهر، معروف كل شهر أنك تذهب إلى الخزينة لتقبض الألف، فهل أحسست بالفرح؟ لا؛ لأنك متوقع أنك كل شهر ستأخذ الألف (جنيه)، لكن جاءك خمسون (جنيهاً) علاوة أو أي شيء وأنت لا تحتسبها، فإن فرحتها في قلبك أعظم من الألف (جنيه)، لماذا؟ لأنك لم تحتسب، وكل شيء لا تحتسبه تكون الصدمة به قوية، إما فرح وإما ترح.
أنت تتوقع أن يضربك جارك على وجهك، لكن لا تتوقع أن يضربك ابنك على وجهك؛ لذلك لطمة ولدك لك تكون أعظم ألف مرة من ضرب كل الناس لك؛ لأنك ما توقعت، فالصدمة التي أخذتها بمجرد الضرب أعظم من الضرب نفسه.
لذلك لو وضعت عصابة -مثلاً- على عيني إنسان وأخذت تعذبه، فإنه لا يدري من أين يأتيه الضرب، من الأمام أو من الخلف أو من الجنب، أو من فوق أو من تحت لا يدري، فالرعب الذي يصيبه بعدم درايته أعظم من العذاب نفسه، لماذا؟ لأنه لا يحتسب ذلك العذاب، لذلك قال الله تبارك وتعالى: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:3] حتى يتمم له فرحته بالتقوى، ليس رزقاً عادياً وراتباً، إنما من حيث لا يحتسب ولا يتوقع، مكافأة من الله لهذا العبد التقي.
إذاً: يجب أن لا يلتفت ملك البدن إلى الأعراض -وملك البدن: هو القلب- ومن أعظم دلالات العجز أنك أيها الإنسان لا تملك قلبك، تملك أن ترفع يدك، تملك أن تمشي برجلك، لكن لا تملك أن تحب، ولا تملك أن تبغض، ولا أن تؤمن ولا أن تكفر، منتهى العجز، قلبك الذي يضخ وقوام حياتك به أنت لا تملكه؛ لذلك كان من دعاء النبي عليه الصلاة والسلام: (يا مثبت القلوب ثبت قلبي على دينك) لأنه لا يملكه، وكان يقول عليه الصلاة والسلام: (إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله عز وجل يقلبها كيف شاء)، وكان أكثر يمينه يقول: (لا ومقلب القلوب).
وفي الحديث الصحيح عندما تجيء الفتن كأمواج البحار قال عليه الصلاة والسلام: (يمسي الرجل مؤمناً ويصبح كافراً، ويصبح مؤمناً ويمسي كافراً) فلو كان قلبك بيدك ما كفرت طرفة عين، لكن ليس بيدك، إعلاناً بعجزك التام، إن أعظم ما في بدنك لا تملكه، هذا سر الإخلاص فيك؛ لذلك حتى تضمن ألا يدخل هذا الشرك إلى قلبك لا تلتفت إلى الأسباب من حيث هي أسباب، ولكن التفت إلى رب الأسباب.(35/5)
محو الأسباب بالكلية نقص في العقل
التفات القلب إلى الأسباب قدح في التوحيد، ومحو الأسباب بالكلية نقص في العقل.
هناك فرقة وكل يوم نرى منها العجب؛ وهي فرقة الفرماوية، والتي رأينا شيخها الفاني الهالك الضال عن نحو خمسة وتسعين سنة، هذا الرجل الكافر بالأسباب، يعتقد أنه إذا ذهب المريض إلى الطبيب فهو كافر!! يا أيها الأحمق! لم تأكل إذا جعت؟ لم تلبس؟ ومن الذي حاك لك ثيابك؟ أنزلت من السماء كثياب بني إسرائيل معلقة على الشجر؟! ألم يحكها حائك؟ والذي يحيك الثياب هو واحد منهم، لكن أجلوا تكفيره حتى توجد الولاية في قلبه، هذا الضال المضل كان وجماعته كل سنة يحرقون صحيح البخاري، لماذا؟ قالوا: لأن البخاري شيوعي! أليس من الاتحاد السوفيتي؟! أليس من بخارى؟! والله ما ندري الآن ماذا يقولون بعدما انهار الاتحاد السوفيتي؟! وانظر إلى هذا الجاهل وهو يقول: كل الأحاديث المنسوبة لـ عائشة وحفصة وأمهات المؤمنين كذب، لماذا؟ قال: لأن صوت المرأة عورة!! هل المرأة ولدت لتكون خرساء؟ لماذا خلق الله فيها الكلام؟ من قال: إن صوت المرأة عورة؟ صوت المرأة ليس بعورة، ولا أظن أنه يختلف في هذا أحد له مساس بالشرع، لكن الخضوع بالقول هو العورة، والخضوع بالقول شيء زائد عن مجرد الصوت، كامرأة يكون صوتها عادياً فتحاول أن ترققه، هذا القدر الزائد على الصوت هو الممنوع، لكن الصوت العادي ليس بعورة، والأحاديث والأقوال متواترة أن الصحابة والتابعين كانوا يدخلون على أمهات المؤمنين ويسألونهن من وراء حجاب.
ثم إن ربنا سبحانه وتعالى لما قال: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] فإذا كانت خلف الحجاب، وأنا لا أراها، وهي لا تتكلم، كيف أفهمها؟ فلابد أن يكون هناك صوت حتى أفهم المرأة التي لا أراها.
ذات مرة جاء أمر بتصوير كل المساجين، والفرماوية يرون أن التصوير حرام -وهو كذلك لا نختلف معهم في هذا، التصوير كله حرام إلا ما دعت إليه الضرورة، ونحن لا نملك من أمرنا شيئاً- لكن صدر الأمر إليهم وكانوا بضعة وثلاثين رجلاً فقالوا: ممنوع التصوير، وقد يقتلون دون شيخهم حتى لا يُصور، عندهم فداء لهذا الشيخ لا تتخيله، فاجتمعوا كلهم في زنزانة واحدة، والرجل عمره فوق التسعين، وعنده ضيق في الجهاز التنفسي يتنفس بصعوبة، فاجتمعوا جميعاً وصنعوا حاجزاً بشرياً خلف الباب، فأتوا وقالوا لهم: افتحوا الباب، قالوا: أبداً! لا يمكن أن نتصور، حرام! فرموا عليهم قنابل مسيلة للدموع وهم أبداً! لا يمكن أن يفتحوا، فلما امتلأت الغرفة بالدخان! وكاد الشيخ أن يختنق! قاموا ورفعوه إلى الشباك حتى وضع أنفه في الخارج ليتنفس.
فباءت كثير من المحاولات بالفشل، ثم قاموا معهم بآخر محاولة وهي الحصار الاقتصادي، فمنعوا عنهم الطعام، وتركوا شخصاً يقف على الباب حتى لا يتعاطف أي إنسان معهم، ولكن أصحاب الزنزانة التي في الدور العلوي فكروا! وقالوا: كيف نتركهم يموتون؟! هذا لا يعقل! فأخذوا حبلاً وربطوا فيه خبزاً وحلاوة وأنزلوه من الشباك من الخارج.
وانظر هنا إلى هذا الضال المضل! جعل يكبر: الله أكبر، ليلة عيسى، خبز وحلاوة! فاغتروا بهذا الشيخ حين وجدوه يضع يده في الهواء ويأتي بخبز، ثم يضع يده ثانية ويأتي بحلاوة، إذاً الرجل كلامه جد، فازدادت عقيدتهم في هذا الرجل، وهو كافر بالأسباب قليل العقل، لكن كما قال الشاعر: لكل ساقطة في الأرض لاقطة وكل نافقة يوماً لها سوق استفادت إدارة السجن من هذا الدرس فمزقوا الجماعات عندما نقلوهم إلى سجن آخر، فلا توجد جماعة بكاملها في زنزانة، إنما متفرقون، من كل جماعة خمسة حتى يحصل نوع من التفكك، فقدر أن يكون معنا اثنان من الفرماوية، وهم يقدسون لونين: اللون الأبيض، واللون الأخضر، اللون الأبيض لا يلبسه إلا ولي واصل، واللون الأخضر هو المهزلة الذي يعمل لأجل أن يأكل الذي يلبس القميص الأبيض، فصاحب اللون الأخضر رفعوا عنه كلمة الكفر مؤقتاً حتى توجد الولاية في قلبه ثم يصعد للدرجة التي تعلوها.
فكان معنا رجل ممن يلبسون الثياب الخضراء، يناقش طوال النهار والليل أن الأخذ بالأسباب كفر، فكان إذا قام جماعة التكفير يلعبون رياضة الصبح يقوم فيلعب معهم، أليس هذا من الأخذ بالأسباب؟! وكان إذا لعب رياضة فإن العرق يتصبب منه مباشرة، فيأتي وقت الراحة وزملاؤه يمرون ليسلموا عليه، فيغطي نفسه ببطانية، لماذا؟ لأنه لو رأوه وقد عرق يسألونه: ما بالك؟ فإذا علموا أنه يلعب كفروه مباشرة، فكان يغطي نفسه ببطانية ويبرز عينيه فقط، فيقولون: مالك؟ فيقول: عندي برد! برد في عز الحر؟! واستحلفني أن لا أقول لهم شيئاً.
شيء ضد العقل! لو قال رجل: إني أريد الولد بغير زواج، لاتهمه الكل بالجنون، ولو قال: إني أريد أن أشبع ولا أضع في فمي لقمة، يُتهم بالخبل، فمحو الأسباب بالكلية نقص في العقل لا شك، والإعراض عن الأسباب قدح في الشرع.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من أهل الوسطية، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(35/6)
الإعراض عن الأخذ بمقتضى الأسباب قدح في الشرع
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
الإعراض عن الأخذ بمقتضى الأسباب قدح في الشرع؛ لأن كل شيء ندبك الشرع إليه لا يكون إلا بسبب منك، وكل شيء ندبك الشرع إليه وأمرك به وجوباً أو استحباباً لابد من إحداث سبب له، فإذا تسنى لك أن تعرض عن السبب فقد أعرضت عن كل الأوامر والنواهي، ولذلك أباح الله الميتة مع أنها محرمة، لماذا؟ حتى لا تموت، لذلك قال سفيان الثوري أخذاً بمفهوم الآية: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:3] والقاعدة الفقهية معروفة: (الضرورات تبيح المحذورات) قال سفيان الثوري أخذاً من هذا: من جاع فلم يأكل حتى مات دخل النار؛ لأن الله تبارك وتعالى ما أباح له الذي حرمه إلا ليحفظ حياته، وليس لها معنى إلا ذلك، فكونه يتلف حياة نفسه ويعرض عن الذي أعطاه الله إياه فهو معرض عن رخصة الله تبارك وتعالى له، معرض عن أمره، يموت وهو كافر.(35/7)
جباية الزكاة وترك الضرائب والمكوس من الأخذ بالأسباب
الضرائب هل هي حلال الآن في الوضع الحالي، أسأل الله مخلصاً أن يوصلها من يسمعها إلى أولياء الأمور،؟
الجواب
لا.
هي حرام في الوضع الحالي، وأرجو أن نضع تحت كلمة (الوضع الحالي) خطوطاً كثيرة خطاً، لماذا؟ لأن التفصيل سيبينها بعد ذلك، وطالما أننا نتكلم باسم الإسلام إذاً لابد علينا أن نأتي بآية أو حديث.
نحن نعلم أن دم المرء وماله وعرضه كله معصوم، لا يحل شيء منه إلا بشيء يفيد الحل، فما الذي يحل من مال العبد وجوباً رغم أنفه؟ الزكاة.
هناك رجل أخرج زكاة ماله، هل لأحد أن يجبره على دفع شيء غير الزكاة؟ الجواب: لا.
الشرع يقول: لا يحل جبر المرء على دفع شيء إلا الزكاة.
شخص يدفع زكاته، هل تجبره على صدقة؟ لا.
هل تجبره على ضريبة؟ لا.
سيقولون لك: معنى ذلك أنك ستغلق مكتب الضرائب، وهناك رواتب كثيرة جداً، ومصالح سوف تتعطل، فهذا من الضرر الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) وجاءت الشريعة بدفع المضار وجلب المنافع، وهكذا دواليك.
فنقول له: هل جبيت الزكاة أولاً، ثم وجدت أن أموال الزكاة لا تفي؟ الجواب: لا.
إنه لم يكلف خاطره بجباية الزكاة من أحد؛ لذلك لا يجوز أن توضع الضريبة مكان الزكاة أبداً، لأن الزكاة أصبحت غير واجبة، والإنسان فيها مخير، والضرائب إذا لم يدفعها يدخل السجن، أي كلام هذا؟! الذي نعرفه من الآيات والأحاديث أن الشخص إذا لم يدفع الزكاة فإنه يقتل ولا يسجن، أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما حارب المرتدين من أجل ماذا حاربهم؟ هل كفروا بجميع شرائع الدين؟ لا.
بل كانوا يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وكانوا يصلون، وقالوا: سنحج، لكن فهموا أن الزكاة كانت تؤدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فلما مات ارتفعت، وتأولوا -تأويلاً باطلاً- قوله تبارك وتعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103] أي: خذ يا محمد، فهذه خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وطالما مات فلن ندفع الزكاة.
قال الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم، فهل نقولها أم لا؟! {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} [الأنعام:162] كل هذه الأوامر موجهة للرسول عليه الصلاة والسلام فقط أم موجهة له حتى يبلغها أمته؟ فـ أبو بكر الصديق قال: (والله لو منعوني عناقاً - وفي رواية أخرى: عقال بعير- كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم على منعه) وقامت الحروب المعروفة بسبب الزكاة.
فليس لعبد خيار أن يقول: أدفع الزكاة أم لا؟ ليس له في هذا خيار! إما أن يدفع الزكاة وإما أن يموت مباشرة، هذا هو الذي عليه جميع العلماء، خلافاً لـ أبي حنيفة.
فلو أنهم يجمعون أموال الزكاة كلها أكاد أجزم أنهم لن يحتاجوا شيئاً، لماذا؟ لأن كل شخص يعلم أن الضرائب تقدر جزافاً ليس لها قانون، فلو دخل مسئول الضرائب عيادة طبيب وقدر أنه جاء وفد زيارة من بلد، فعدهم كمرضى وبدأ يحسب على كل شخص ويضرب الحسابات، وكلما زاد كلما يأخذ عمولة، وبالتالي يجتهد في فرض أقصى ضريبة يستطيعها.
كذلك: أنا أعرف أنني مظلوم، والشريعة تقول لي: ادفع عن نفسك الظلم ما استطعت، إذاً ماذا أفعل؟ ليس لي حيلة إلا أن أبحث عن شخص وأدفع له مالاً مقابل أن يسقط عني الضريبة، أو يحرق لي الملف -لا يوجد مانع- أو أن أرفع طعناً وإثبت أنه ليس عندي أي مال، وأنني سأموت من الجوع، ثم أذهب هناك وبطريقة معينة أتملص، لكن الزكاة هل يستطيع أحد أن يفعل ذلك؟ لا.
لأنها بين العبد وربه، فهناك قلب يحرك الإنسان فيدفع الزكاة مباشرة، ولذلك في مسألة الزكاة بعض الناس يأتي فيسأل ويقول: أنا أدفع الزكاة بزيادة، هل هذا جائز؟ أقول له: هذا جائز ولك الفضل، لكنه لا يقول: أنا أدفع الضرائب وزيادة، لماذا؟ لأنه في الزكاة يقول لك: أنا أريد أن أرضي ربي، فإذا كان عندك باب مفتوح من السماء، وهناك قلب يحرك العبد، وأنت ضامن أنه لن يغش، فلو غش صار إنساناً فاسقاً، لكن أنت ضامن أن عنده ضمير يحركه، والزكاة أموالها كثيرة جداً، أضف إلى ذلك أن فيها بركة، النبي عليه الصلاة والسلام لما أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن قال له بعد ذكر الصلاة: (فإن هم أجابوك إلى ذلك فأخبرهم أن الله قد افترض على أغنيائهم صدقة ترد على فقرائهم -ثم قال لـ معاذ - وإياك وكرائم أموالهم) انتبه أن تأخذ أحسن شيء في أموالهم! بل الذي يدفعوه خذه، لا تقل له: لا، أنت أعطيتني من السيء، هذا شيء لا يعينك.
الله عز وجل أدب المؤمنين قبل ذلك فقال: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267] انظر إلى تربية النفس! يقول للمؤمنين: إذا كنت تريد دفع الزكاة أو الصدقة فلا تدفع أسوأ شيء: {وَلا تَيَمَّمُوا} أي: لا تتوجهوا إلى الخبيث من أموالكم فتأخذوه فتدفعوه للفقراء، {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} أي: ضع نفسك مكان الفقير، لو أعطاك شخص فولاً مسوساً هل تأخذه؟ تأخذه وأنت مغمض العينين ليس لك رغبة في أخذه؛ لأنك لو أخذته ماذا ستعمل به؟! {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267] لو كنتم مكان هؤلاء الفقراء لأخذتموه على إغماض.
فأدب المؤمنين أولاً ألا يتيمموا الخبيث لكن يخرجوا من كل المال جيده ورديئه، لذلك قال لـ معاذ: (وإياك وكرائم أموالهم) لا تأخذ حاجة نفيسة من عندهم غصباً، انظروا إلى الكلام يا إخواننا! كلام منظوم، كأنه در يتلألأ، ثم قال له: (واتق ودعوة المظلوم)، لو أن الجابي أخذ كرائم أموالهم رغماً عنهم فقد ظلمهم، ولو أن أي دولة في الدنيا كان بوسعها أن تعين شرطياً على كل رجل ما استطاعت أن تخرج الضريبة مائة في المائة.
المسألة مسألة مراقبة، فالشرطي وإن قعد إلى جانبي لن يعرف شيئاً، أذكر قصة حدثت في الخمسينات عندما كان يحصل تحقيق مع المساجين، ويدخل مسجون جديد في غرف التحقيق -التي هي جهنم الأرض، نسأل الله العافية- فالجماعة القاعدون من الإخوان -وما أقصد جماعة الإخوان المسلمين فقط- يريدون أن يعلموا هذا السجن الجديد، لأنه لا يعرف شيئاً، يريدون أن يقولوا له: لا تقل كذا وقل كذا لكن هناك حراس واقفون، فكيف يعملون؟ يقولون له التعليمات بالتجويد: (إذا جآءك المُحقِّقُ فَقَالَ كذا وكذا) فكان يظن الحرس أن هذا من القرآن، لأنهم لا يعلمون شيئاً منه فيفهم الجديد المقصود فلو أن أي إنسان عنده أي قراءة -ولو متباعدة- لكتاب الله عز وجل لعرف أن هذا ليس بقرآن.
فإذا كان الله تبارك وتعالى كفاك مؤنة هذا الصنف، فلماذا تسد على نفسك الباب؟ اجب الزكاة أولاً، فإن وجدت أن الزكاة لم تف قل للناس حينئذٍ: المصارف الفلانية ليس عندها مال، نحتاج إلى مليار أو مليارين، فعلى كل فرد مبلغ محدد من المال نرجو المبادرة، وسنفرض هذا الأمر إلى حين سداد العجز ويرتفع هذا القانون.
فهذا كلام مشروع؛ لأن المصلحة إذا لم تتحقق إلا بذلك لا يكون إلا ذلك، و (مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، و (الوسائل لها أحكام المقاصد).
أنا أذكر أنني كنت أعمل في بعض المحلات يوماً ما، ويوم (1/ 5) علاوة العمال، فقالوا: لا يوجد مال كافٍ للعلاوة، فصدر قرار -والقرار هذا خاضع للبلديات- غرامات أشغال طريق على كل المحلات، لماذا؟ أهو ينام في الشارع حتى يدفع غرامات أشغال الطريق؟ لماذا يدفع ثلاثمائة جنيه أشغال طريق؟ أنا بيني وبين الطريق عشرة أمتار! ليس لك إلا خيار من اثنين: إما الدفع وإما الحبس، يعني: شخص يمشي في الطريق فوجد لصاً فقال له: أخرج المال وإلا قتلتك، ماذا يعمل؟ يفتدي نفسه بماله، وهكذا جمعت العلاوة، فأنا لا بأس أن أدفع ولكن أريد أن أقتنع، يجب أن أعلم لماذا دفعت؟! هذا الكلام كله يترتب عليه أشياء في النفس حتى يصل الإنسان إلى قناعة أنه يُسرق، وينتج من هذا الفعل مسألة انعدام الولاء لأي شيء، لا يوجد ولاء أبداً، كلٌ يقول: أنا فقط.
عندما تأتي بعد كل هذه الأعمال وتقول: يا جماعة! انزعوا الحقد! كيف أنزعه وأنا أراه أمامي ليل نهار؟ لكن لو جئت إلى شخص وقتلته أمام إخوانه كلهم؛ لأنه لم يدفع الزكاة، لقالوا: يستحق ذلك؛ لأن ربنا أمره بدفع الزكاة فلم يدفع، ولله المثل الأعلى، ويقال: ضرب الحكومة ليس عيباً يعني: لو ضرب شخص من قبل رجال الحكومة فهذا لا يعد عيباً، لكن لو ضرب من جاره فهذا عيب، أي: أن الإنسان إذا عوقب من جهة عليا ليس له فيها خيار يتسلى بهذا الكلام، وإلا فالضرب عيب، لماذا ضرب الحكومة ليس عيباً؟ لأنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً.
فكذلك العبد ولله المثل الأعلى، إذا جاءت له مصيبة من السماء يقول: ليس بيدي شيء، نحن مؤمنون بالقضاء والقدر، وقد يكون هو غير راضٍ من الداخل، لكن لابد أن يسلي نفسه طالما أنه ليس بإمكانه أن يفعل شيئاً.
إذاً: الضريبة هذه كان بإمكان الرسول عليه الصلاة والسلام أن يفرضها على الصحابة أم لا؟ كان بإمكانه أن يفرضها على الصحابة، لكن لماذا لم يفرضها؟ ما احتاج إليها مع وجود الزكاة.
فنحن نقول: يجب على أولياء الأمور جباية الزكاة، من لم يدفع فليتقرب هذا الولي إلى الله بدم هذا الإنسان العاق لربه تبارك وتعالى، إذا لم يكف هذا المال لسد الحاجة، هنا يجب عليه فرض ضرائب من أجل أن يفك هذه الورطة، ولكن بعد ذلك ترجع المسألة كما كانت، وهكذا دواليك.
إذاً: الأسباب يا إخواننا لابد أن تكون مشروعة، تقصيرنا فيها علامة على وجود الذل، والأمثلة التي ضربناها تقصير في الأسباب، الزكاة سبب للغنى، فعندما قصرنا في السبب ذهب عنا الغنى ودام الفقر واستمر.
كما أن تسوية الصف سبب لاجتماع القلوب، وتقصيرنا في تسوية الصف أدى إلى اختلاف القلوب، فإذا أردت أن توجد القلوب ساوي الصف، تريد الغنى أن يرجع ادفع الزكاة، وإذا أر(35/8)
تسوية الصفوف في الصلاة من الأخذ بالأسباب
نلاحظ في المساجد أنهم يضعون خطاً على الأرض، لماذا؟ لتسوية الصف، هذا الخط هل كان قبل ذلك موجوداً؟ لا.
هل كانوا يصلون معوجين؟ لا.
ما الذي تجدد؟ الذي تجدد أن الأئمة لم يقوموا بما أُوجب عليهم، يقول الإمام: استووا، وهو مولٍ لهم ظهره، نحن لا نعرف رجلاً في الأرض كان ينظر من الأمام والخلف إلا الرسول عليه الصلاة والسلام فقط، هو الوحيد في أولاد آدم الذي كان ينظر وراءه كما ينظر من أمامه، كما في الحديث الصحيح في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: (استقيموا، فوالذي نفسي بيده إني لأراكم من خلفي كما أراكم من أمامي) ومع ذلك كان عليه الصلاة والسلام لا يصلي إلا إذا اطمأن أن الصفوف سويت، نحن مقصرون في هذا، وهذا التقصير مشترك، ولا يعفى منه الأئمة.
الإمام لا ينبغي له أن يصلي حتى يتأكد أن الصف استوى، لذلك كان من عاقبة عدم الأخذ بالسبب الظاهري في تسوية الصف أن القلوب التفتت عن بعضها، وهذا قاله النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: (لتسوون بين صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم)، فإذا لم يستو الصف فمعنى ذلك أن القلوب تنفر، وكل شر في الأرض بسبب نفرة القلوب.
تسوية الصفوف سبب في ائتلاف القلوب، إذاً لابد أن نسعى إلى تحقيق السبب حتى نجني الثمرة، فالخط الذي على الأرض بدعة لا يجوز فعله؛ لأنه جعل الأئمة يتكلون على الخط، ويقول لك: كل الناس أمامها خط تقف عليه، وماذا عملك أنت؟ ما جعلناك إماماً إلا لترص هؤلاء وتكون وخدهم إلى الله، كما في سنن الدارقطني أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (تخيروا أئمتكم فإنهم وخدكم إلى ربكم) لأن هذا الإمام أنت تجعله بينك وبين ربك، يعني: إذا ذهبنا إلى ولي العهد هل نأخذ أي شخص ونقدمه أم ننتقي شخصاً عاقلاً رزيناً؟! كما حدث أن بعض الوفود ذهبوا إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يهنئونه بالخلافة فأدخلوا شاباً صغيراً فاستعظم عمر ذلك وقال: (يا بني! أما وجدوا أكبر منك؟) يعني: كبِّر كبِّر! الكبير مهما كان له قيمة، قال: أما وجدوا أكبر منك؟ فقال الغلام: يا أمير المؤمنين! لو كانت المسألة بالسن لكان غيرك أولى منك، قال: أفلحت) مباشرة! فالذي تضعه على رأس الوفد لابد أن يكون زينة للوفد كله، لو وضعت أخرق على رأس دولتك شاهت دولتك كلها، انظر اليوم إلى العراق مثلاً، هل يستطيع أي عراقي أن يدخل أي بلد؟ لا، لماذا؟ هل العراقيون كفرة؟ العراقيون فيهم أخيار، وفيهم أناس أفاضل، كما أن في المصريين فجار وفي السعوديين فجار وفي كل مكان فجار، لكن لماذا العراقي لا يستطيع دخول أي بلد؟ لأن هناك رجلاً أخرق على الرأس، فالشخص ينظر إلى أي عراقي على أساس أنه مجرم؛ لأن الرأس هكذا.
فكونك تضع إماماً يصلي بالناس لا يعرف أي شيء عن أحكام الصلاة لا يصلح، والعجيب جداً أنه لو غاب الإمام ينظر المؤتمون بعضهم إلى بعض، وكل واحد يقول للآخر: تفضل! فيقول الآخر: لا والله تفضل أنت! فيقول: أبداً! لا يمكن! تفضل أنت! أي كلام هذا؟! أهي وليمة؟! لا يتقدم إلا أولو النهى الذين يعرفون أحكام الصلاة.
أذكر مرة -وهذه من العجائب- الجماعة هؤلاء -أصحاب تفضل أو تفضل أنت- أدخلوا شخصاً منهم فوقف يشير بيده؛ لأنه يرى الأئمة قبل أن يدخلوا في الصلاة يقولون استووا تراصوا، ويشيرون بأيديهم يميناً وشمالاً، وقد نسي ماذا يقول؟! فاستمر يشير بيده يميناً وشمالاً ولم تأت معه الكلمة، ثم قال: جاهزين يا رجَّالة!! كأن هذا الرجل رئيس وفد! سبحان الله! كيف تضع مثل هذا يقف بين يدي الله عز وجل ويأخذك إلى الله؟! لا.
هذا لا يكون، لذلك الإمام يجب أن يكون فقيهاً ويقوم بما عليه، الإمام له فضل كبير؛ ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التدافع للإمامة؛ لأن فضلها كبير، لا يرتقيها إلا أهلها؛ فهل تأخذ الفضل بدون أن تبذل أي مجهود؟! لذلك إذا كنت إماماً فقم بواجبك، رصَّ الصف بشكل صحيح، ورص الصف لا يكون بمقدم القدم، تجد الإمام أحياناً يقول: ارتفع أنت قليلاً وتأخر أنت قليلاً! لماذا؟ مثلاً: شخص رجله طويلة وآخر رجله قصيرة كيف تساوي بين هؤلاء؟ لا تستطيع أن تساوي بين هؤلاء إلا بالعقب، لماذا؟ لأن ظهور الناس متساوية، بخلاف البطن، فمن الناس من تكون بطنه كبيرة، وآخر بطنه ملتصقة بظهره، فماذا ستقول للذي بطنه كبيرة وهو خارج عن الصف: ادخل! لا يصلح هذا الكلام؛ لأنه سيخرج من الخلف، إنما لو سويته بالعقب وهو مؤخر الرجل ستكون آخر الرجل كلها مع بعضها، وهكذا تضمن استواء الصف كله مع بعضه.
الخط على الأرض هل كان ممكناً أيام الرسول عليه الصلاة والسلام أم كان مستحيلاً؟ كان ممكناً، وهناك قاعدة فرقنا بها بين البدع والمصالح المرسلة وهي: (أن الأمر إذا كان له مقتضى في عهد النبي عليه الصلاة والسلام ولم يفعله لا يجوز لك فعله).
لأنه لو كان هذا الشيء فعلاً لابد من وجوده لبادر النبي عليه الصلاة والسلام إليه وفعله، أما إذا لم يفعله فلا يجوز لك فعله.
فرسم الخط لتسوية الصف على الأرض كان في قدرة النبي عليه الصلاة والسلام أن يفعله ولا يكلفه شيئاً، ومع ذلك لم يفعله، إذاً: لا يجوز لك أن تفعله على الأرض، وهو أيضاً من أسباب إهمال الأئمة لما يجب عليهم من تسوية الصفوف.
إذاً ترك الأخذ بالسبب ضيع عليك الثمرة، ولذلك قال تبارك وتعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7] افعل ما أمرك به يفي لك ما وعدك: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7] تنصره بإقامة حدوده في الأرض وعدم الاجتراء عليها، وإقامة أمره، إذا كنت عبداً فكن عبداً حقاً، فإذا نصرت الله بفعل الأوامر والنواهي نصرك بأن يمكن لك في الأرض.
فهذه الثمرة إذا أهملت السبب منعها الله عنك.(35/9)
العبد في الطاعة قدري وفي المعصية جبري
قال بعض العلماء: (العبد في الطاعة قدري وفي المعصية جبري).
يشير هذا العالم بهذا القول الموجز المختصر إلى أن العبد متبع لهواه، ففي الطاعة: قدري، يقول لك: أنا ربي قدر لي كذا، وعند المعصية: جبري، يقول: ربي كتب عليَّ كذا، أي أنه متبع لهواه، حيث كان هواه في معصية قال: قضاء وقدر؛ طالما فيها مصلحته وشهوته، وكلما زاد في العصيان يريد أن يفلت من العذاب يقول: كتب الله عليَّ ذلك، وأنا ماذا أفعل؟! قال قائلهم: جرى قلم القضاء بما يكون فسيان التحرك والسكون جنون منك أن تسعى لرزق ويرزق في غشاوته الجنين يقول: الجنين الذي ليس له كسب ولا سبب أليس يرزق؟ فأنت لماذا تسعى؟ كما أن الرزق جاء إلى هذا الجنين فسوف يأتيك، فهذا الرجل ليس عنده شيء من العقل؛ لأن هذا الجنين أخذ الطعام بسبب أكل الأم، ولو لم تأكل لمات الجنين، فهذا سبب، لكن قد يكون السبب من كسبك مباشرة وقد يكون بغير كسبك، لكن هو ظن أن السبب لا يكون إلا مباشراً؛ لذلك قال هذه الأبيات، وقال قائلهم الآخر: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء كيف لا يبتل بالماء وأنت ألقيته مكتوفاً؟ يريد أن يقول: إن القدر كتفه، ثم بعد ذلك تضعه في نار جهنم، إذاً كيف يعمل؟ كتب الله عليه المعصية ثم يعذبه بها؟! هذا هو اعتراض الجبرية الذين يقولون: إن الإنسان مجبور على كل شيء، فلا قيمة للأخذ بالأسباب، لكن انظر إلى جيل الصحابة، فقد سألوا نفس السؤال لكن بصورة مختلفة تماماً، ففي الصحيحين من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة ببقيع الغرقد، فلما دفنا الرجل -دفنا الميت- جعل ينكت بمخصرته في الأرض -معه عود ينبش به في التراب- ثم قال: ما من نفس منفوسة إلا كتب مقعدها من الجنة ومقعدها من النار -انتهى جف القلم- فقال رجل: يا رسول الله! جف القلم بشيء كان أو يكون؟ قال: بشيء كان -بأمر فرغ منه- فقال: يا رسول الله! أفلا ندع العمل ونتكل على كتابنا، فأما من كان من أهل السعادة فسيصير إلى السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى الشقاوة؟ قال له: لا.
اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له) اسكتوا عن هذا واستأنفوا العمل، قال علي بن أبي طالب: (فما كان أجد منا بعد سماعنا هذا الكلام (يعني: هذا الكلام جعله يجد أكثر، مع أنه لا يدري أهو إلى الجنة أم إلى النار صائر، لكن أي إنسان عنده عقل، وتدبر آيات الكتاب المنزل، وفهم كلام النبي عليه الصلاة والسلام يفهم أن هذا الكلام ليس معناه ترك العمل والاتكال، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله تبارك وتعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:1 - 7].
إذاً: أثبت للعبد عملاً قبل التيسير: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:8 - 10] أثبت له عملاً قبل التعسير.
إذاً لابد للعبد أن يعلم أن الخاتمة مربوطة بالأولى التي هي السبب منه، هؤلاء الصحابة لم يقل أحد منهم: إن كان قدَّر عليَّ المعصية فلم يدخلني النار؟ لأن هذا الكلام البسيط الشديد معناه أن الله ظالم! ليس لها معنى غير هذا، إذا كنت تعتقد أنه حكم عدل -عدله مطلق- فلم تسأل هذا السؤال؟ لا تقل له: (لم) لأنه يفعل ما يريد، (لم) هذه تقال لمن يمكن أن تلومه على فعله، وهل لك اختيار مع الله؟! الله يفعل ما يريد، فلا يجوز أن تقول له: لم.
بل العبد يجب أن يتقرب إلى الله زلفى؛ حتى إن ابتلاه يكون ذلك مدعاة القرب، كما قال الله تبارك وتعالى لموسى عليه السلام: {وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى} [طه:83] لماذا تركتهم وجئت على عجل؟ قال: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] إنما عجلت لترضى، فدل على أن العجلة في الإياب إليه سبيل من سبل الرضا عن العبد، وقد قال الله تبارك وتعالى عن المؤمنين: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} [آل عمران:193] الفاء هذه فاء التعقيب السريع، يعني: أول ما سمع أحدث إيماناً عقب القول مباشرة، إذاً: قربك إلى الله مهم جداً.
الذي يقول: إن كان كتب عليَّ المعصية لماذا يعذبني؟ يتهم ربه بالظلم؛ لأنه يجب عليه أن يقول أيضاً: وإن كان كتب عليَّ الطاعة فلم يدخلني الجنة؟ لا يقول هذا أبداً، لأن هذا في مصلحته، فهو في الطاعة قدري، وهذا هو نفس قول المشركين الأوائل: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ:35] وقارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] لولا أنني أستحق لما أعطاني الله، أعطاني لأنني أهلٌ لذلك، فقال الله تبارك وتعالى لهم: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ} [سبأ:37] (إلا) هنا بمعنى لكن، أي: لكن من آمن فهو الذي له الزلفى.
إذاً الذي يقول: لولا أنني أستحق دخول الجنة لما أدخلني الله الجنة، هذا قدري؛ لأنه في باب المعصية جبري.
فنفهم من هذا أن العبد لابد أن يحدث سبباً حتى يكون له الأثر، وإذا لم يحدث السبب بطل الأثر، ولذلك قال الله تبارك وتعالى للنبي عليه الصلاة والسلام في وقعة بدر: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] ليس لمجرد أنك ألقيت بالسهم أنه أصاب، لا.
لأنه عليه الصلاة والسلام لما أمسك بقبضة من الرمل ورماها في وجوه الكفرة وقال: (شاهت الوجوه) ثم قال: (انهزموا ورب الكعبة) وفي الرواية قال الصحابي: (ما بقيت عين لهم إلا دخلها هذا التراب) أي قبضة هذه؟ قبضة تصل إلى كل هؤلاء! الله هو الذي أوصلها، كما أن المفسرين يذكرون في قوله تبارك وتعالى لإبراهيم عليه السلام: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] أن إبراهيم عليه السلام قال: (رب كيف يبلغ صوتي الناس كلهم؟ قال: عليك النداء وعلينا البلاغ).
لابد أن تتكلم، ووصوله ليست مهمتك، توصيل الصوت من الله تبارك وتعالى.
يعني: أن العبد لابد أن يأخذ بالسبب؛ فإذا لم يأخذ بالسبب لا يتحقق الأثر.(35/10)
سيد المتوكلين يأخذ يمقتضى الأسباب في الهجرة
التوكل ليس معناه خلع الأسباب، التوكل معناه: التجاء القلب إلى الله مع الأخذ بالأسباب، هذا هو حقيقة التوكل، ولا التفات لما يحكى عن بعض الناس -وإن كان صحيحاً- كمثل حمزة الصوفي يقول: نزلت في بئر أستقي، فجاء اثنان فردما علي البئر -لا يعلمان أن فيه أحد- لا يعرفان أن فيه إنسان، قال: فجاء رجلان فطماها عليَّ، قال: فسكت حملاً لنفسي على التوكل، قال: ثم جاء أسد فأخرجني.
لو سلمنا أن هذا الكلام صحيح، فقد يكون هذا حدث اتفاقاً رحمة من الله بعبده الجاهل، وإلا فسيد المتوكلين لما أراد أن يخرج من مكة إلى المدينة لماذا اختفى في الغار؟ لماذا لم يمش أمام الكفار؟ لماذا لما رأى سراقة بن مالك دعا عليه فساخت أقدام فرسه في الأرض حتى بلغت الركبتين، قال: يا رسول الله! ادع الله أن يخرجني ولك أن أرد عنك، فدعا له فقال له: (أخفِ عنا)، لماذا قال له: أَخفِ عنا؟ أخذاً بالأسباب؛ لأن الإعراض عن الأسباب هدم لصرح الأمر والنهي.(35/11)
مريم العذراء يأمرها ربها بفعل السبب
ومن ألطف ما يذكر في ذلك قوله تبارك وتعالى لمريم عليها السلام: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم:25] لو جاء أربعون رجلاً أشداء أقوياء وقلنا لهم: هزوا النخلة لينزل الثمر، ما نزلت تمرة، فما هي القوة عند امرأة نفساء، لتهز النخلة؟ امرأة نفساء وأضعف ما تكون المرأة بعد الولادة، خارت قواها كلها، لذلك ابن عمر لما كان يطوف بالبيت ورأى رجلاً يحمل أمه العجوز على كتفيه يطوف بها وهو يقول: أنا لها بعيرها المذلل إن أذعرت ركابها لم أذعر يعني: أنا جمل أنا مطية لها، ويطوف في وسط الخلق، ثم التفت إلى ابن عمر وقال: (يـ ابن عمر! تراني وفيتها؟ قال له: لا ولا بزفرة) الزفرة هي: (الآهات) التي تقولها المرأة في الولادة، التأوه، كل الذي فعلته لا يساوي زفرة منها وهي تلدك.
فكيف قال الله لمريم وهي بتلك الحال: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:25]؟ إشارة إلى الأخذ بالسبب، ولذلك أجاد ذلك الشاعر -لله دره- حين صور هذا المشهد فقال: توكل على الرحمن في الأمر كله ولا ترغب بالعدل يوماً عن الطلب ألم تر أن الله قال لمريم وهزي إليك الجذع يساقط الرطب فلو شاء أن تجنيه من غير هزه جنته ولكن لكل رزق سبب لو شاء أنزل عليها الرطب، لكن هو الذي جعل النخلة في يدها كفرع شجر، وهذا من ألطف ما يقال في الأخذ بالأسباب.
الإعراض عن الأسباب هدم للدين كله، قدح في الشرع الذي هو الأمر والنهي؛ لذلك كان المؤمن الذي يرجو ربه تبارك وتعالى يبدأ بطلب السبب ولا يلتفت قلبه إليه، لذلك وصف الواصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -وهو يميزهم عن الذين أتوا من بعدهم في تعاملهم مع الدنيا- فقال: كانت الدنيا في أيديهم ولم تكن في قلوبهم.
مطلوب منك أن تكون غنياً لكن لا تكن عبداً للمال، المال يكون في يدك، وقلبك فيه الافتقار إلى الله تبارك وتعالى، وليس الطغيان بذلك المال.(35/12)
الإخلاص بين الصوفية والسلف
الإخلاص شرط في قبول العمل، فلا يقبل الله عز وجل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه، فهو سبحانه وتعالى أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه مع الله تعالى غيره تركه وشركه، وقد ضلت الصوفية في هذا الباب فعرّفوا الإخلاص بما يذهب بالإخلاص، واختلقوا في طريقه عقبات موهومة فقالوا: إن طلب النعيم والجنة ينافي الإخلاص وغير ذلك من خرافاتهم.(36/1)
الصيام عنوان الإخلاص
إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا ًعبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة الكرام: الصيام عنوان الإخلاص، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن الله تبارك وتعالى: (كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)، ونعلم ضرورة أن الصيام للعبد أيضاً، فكل عمل ابن آدم له حتى الصيام؛ لأنه إذا لم يصم عوقب، فدل ذلك على أنه إذا عمل فهو له، وإنما استثنى الله عز وجل الصيام دون الصلاة -والصلاة هي رأس الأمر بعد الشهادتين- لأن الصيام عنوان الإخلاص، لا يتأتى فيه الرياء مثلما يتأتى في الصلاة.
إن العبد قد يتوضأ في بيته ويخرج إلى المسجد ويرائي الناس بصلاته؛ لكنه لا يستطيع ذلك في الصيام، فقد يكون في البيت وحده فيشتد به العطش حتى يكاد أن يهلك، ومع ذلك لا يستطيع أن يشرب هذا هو معنى الإخلاص.
إن الإخلاص في العبادة شرط باتفاق العلماء، والعمل الذي يخلو من الإخلاص لا قيمة له، قال الله تبارك وتعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23]؛ لأنه خالٍ من الإخلاص.
الإخلاص يرفع صاحبه من أسفل سافلين فيجعله في أعلى عليين، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:145 - 146].(36/2)
تعريف الصوفية للإخلاص
هل يشعر المرء إذا كان مخلصاً أم لا؟ من العجب أن بعض الصوفية عرّفوا الإخلاص تعريفاً يذهب بالإخلاص، عرفوا الإخلاص تعريفاً يكاد المرء يشك في نفسه، فقال قائلهم: إذا شهدوا في إخلاصهم الإخلاص؛ فإن إخلاصهم يحتاج إلى إخلاص.
أي: إذا أحس المرء أنه أخلص في عمله، فإن هذا الإحساس مضيع للإخلاص، فشرط الإخلاص: ألا يشعر بأنه مخلص أبداً.
نسوا إرادة العبد للإخلاص، فكيف يتأتى الفعل بدون إرادة؟! هذا مستحيل! لأن هذا أمر يجده المرء من نفسه، ولا يختلف فيه أحد، فالمخلص يجب أن يعلم أنه مخلص، فكيف يقال: إذا شعرت بأنك مخلص فهذا قدح في إخلاصك؛ أو إخلاصك يحتاج إلى إخلاص؟!(36/3)
حديث الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار يرد على الصوفية في تعريفهم للإخلاص
يكفي أن يُرد على هؤلاء بحديث واحد ساقه النبي صلى الله عليه وسلم مساق المدح لفاعله، وإن لم يفعله أحد من هذه الأمة، ولكنه حدث في بني إسرائيل، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما وغيرهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (خرج ثلاثة ممن كانوا قبلكم يرتادون لأمرهم، فأخذهم المطر، فآواهم المبيت إلى غار، فلما دخلوا الغار سقطت صخرة من أعلى الجبل مما يهبط من خشية الله، فسدَّت عليهم باب الغار، فالتفت بعضهم إلى بعض وقالوا: سقط الحجر وعفي الأثر، ولا حيلة لكم إلا بالله، فادعوا الله بصالح أعمالكم.
فقال الأول: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً)، والغبوق: هو الشراب بالعشي، يقول: كنت لا أسقي بالعشي أحداً قبلهما، والشراب في الصباح اسمه: صبوح، (فنأى بي طلب -أي: الشغل- يوماً، فلم أرد عليهما، فجئتهما وقد ناما، فوقفت على رأسهما ولم أوقظهما، ووضعت الإناء على كفي والصبية يتضاغون -أي: يصرخون من الجوع- تحت قدمي، وأنا أكره أن يشرب أحد قبلهما، فما زال ذلك دأبي ودأبهما حتى برق الفجر، فاستيقظا وشربا غبوقهما، اللهم إن كنت تعلم أنني فعلت هذا ابتغاء مرضاتك ففرِّج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة قليلاً، غير أنهم لا يستطيعون الخروج.
وقال الثاني: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عم، وكنت أحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، فأصابتها سنة، فجاءتني تطلب مالاً، فراودتها عن نفسها فأبت، ثم جاءتني تطلب مالاً، فراودتها عن نفسها فرضيت، والتمست لها مائة وعشرين ديناراً، فلما قعدت منها مقعد الرجل من امرأته قالت: يا عبد الله! اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه! فقمت عنها وهي أحب الناس إلي وتركت لها المال، اللهم إن كنت تعلم أنني فعلت هذا ابتغاء مرضاتك ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة قليلاً، غير أنهم لا يستطيعون الخروج.
وقال الثالث: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجراء استأجرتهم على فرق من أرز -أو ذرة- فاستقل أحدهم أجره فذهب مغضباً وتركه، فثمرته له حتى كان منه البقر والإبل والغنم، فجاءني وقال: يا عبد الله! ادفع إلي حقي ولا تبخسني حقي، فأخذته على سقف البيت وقلت: انظر! كل الذي ترى لك، هو من مالك، فقال: يا عبد الله! لا تسخر بي، قال: هو كما أقول لك، فاستاق النعم كلها ولم يترك منها شيئاً؛ اللهم إن كنت تعلم أنني فعلت هذا ابتغاء مرضاتك ففرج عنا ما نحن فيه.
فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون).
فهؤلاء علموا أنهم أخلصوا في هذا العمل، فدعوا الله عز وجل بما يتيقنون أنهم أخلصوا فيه، فإن الكذب على الله جريمة من أعظم الجرائم، فكيف يقول لله عز وجل وهو كاذب: اللهم إن كنت تعلم! ويكذب في الموضع الذي يبتغي فيه النجاة؟!! فعليه نعلم أن المضطر مخلص في اضطراره، حتى لو كان مرائياً في غير ذلك، قال الله تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ ُُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) [يونس:22 - 23]، وقال تبارك وتعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65]، وقال تبارك وتعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان:32].
فالعبد يخلص إذا أصابه الاضطرار، وهل تخلّص العبد من الاضطرار، وحياته كلها أزمات، وكلها محن ومصائب؟! فهو محتاج إلى ربه دائماً، وهو مضطر دائماً، فلِمَ يخلص في موضع ويرائي في آخر؟!(36/4)
الإخلاص شرط في قبول العمل
قد أمرنا الله عز وجل بالإخلاص في العمل، وأعلمنا أنه لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه، قال تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من أشرك معي أحداً تركته وشركه)، وهذا تقرير لمعنى الإخلاص، قال تبارك وتعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2] {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} [الزمر:11 - 14] {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر:65] {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف:29].
فلا يقبل الله عز وجل عمل عامل إلا بالإخلاص.(36/5)
عقبات موهومة في طريق الإخلاص عند الصوفية
إن في طريق الإخلاص عقبات موهومة وعقبات حقيقية، وأكثر الناس مبتلى بالعقبات الموهومة، فيشتبه عليه العمل أهذا إخلاص أم رياء؟ فيبتلى في آخر الأمر بالنفاق، فتكون عاقبته وخيمة، والذين يضخمون هذه العقبات هم الصوفية، يضخمونها حتى يشك المرء في نفسه.
وكما وردت المقولة: إذا اعتقدت أنك مخلص فإخلاصك يحتاج إلى إخلاص!! يقول رويم بن أحمد الصوفي الشهير فيما رواه الخطيب في تاريخ بغداد في ترجمته: (رياء العارفين أفضل من إخلاص المريدين!!) سبحان الله! فلو صدر الرياء من أكبر رأس على وجه الأرض لكان رياءً مذموماً، ولو صدر الإخلاص من أدنى رجل لأُجر عليه، فكيف يقال: إن رياء العارفين أفضل من إخلاص المريدين؟! هناك فرق هائل، وهل حسنات الأبرار كسيئات المقربين؟ ومتى كانت الحسنة سيئة؟! إن الله تبارك وتعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65]، ليس هناك مداهنة إطلاقاً، فأدنى رجل إذا فعل الطاعة قبلت منه، قال صلى الله عليه وسلم: (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره)، لا يعرف رسماً ولا اسماً، ولا يؤبه له، ومع ذلك إذا أقسم على الله أن يفعل كذا أبر قسمه.
إن الله تعالى هو الخبير الذي لا يعرف أخبار خلقه إلا هو ترى الرجل فتزدريه بعينيك وهو من الأولياء، وترى الرجل يشار إليه بالبنان، ويتبركون به، وهو من أهل النار، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة، حتى إذا كان بينه وبينها قيد ذراع -أو قال: قيد شبر- عمل بعمل أهل النار فدخل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار، حتى إذا كان بينه وبين الموت قيد ذراع -أو قال: قيد شبر- عمل بعمل أهل الجنة فدخل الجنة)، والفارق هو الإخلاص.(36/6)
الاقتداء بالصحابة أمان من الفتن والضلالات
إن أولياء الله عز وجل من الصحابة رضي الله عنهم قد حققوا الإخلاص غاية التحقيق، وضربوا لنا أروع الأمثلة في ذلك، وبهم نقتدي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد) {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ} [التكوير:2] أي: تساقطت، فعندها لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل.
إذاً: بقاء النجم في السماء علامة أمان، فطالما أنك ترى النجوم فأنت في أمان، لكن إذا سقطت النجوم فليس بعدها إلا القيامة (النجوم أمنة في السماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون)، فإنه لما ذهب الصحابة زادت الفتن في هذه الأمة، وكم من المحن التي حلت بالأمة مما يندى لها الجبين! إذاً: بقاء الصحابة كان علامة أمان لهذه الأمة، فإن ذهب الصحابة أتى هذه الأمة ما توعده.
إذاً: العودة لهدي الصحابة أمان، واستحضارك لعمل الصحابة وأقوالهم أمان، وهذا هو المذهب الذي نريده.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(36/7)
الجزاء حافز وداع إلى العمل
لقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن العبد إذا لم ينصب له جائزة فإنه لا يعمل، والنبي عليه الصلاة والسلام أخذ هذا المعنى من القرآن، فعندما ذكر الله عز وجل أن الجنة للمتقين وأن النار للعاصين، جعل حافزاً وجزاءً، وفي صحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن امرأة لقيت النبي صلى الله عليه وسلم ومعها غلام، فرفعته وقالت: يا رسول الله! ألهذا حج؟! قال: نعم، ولك أجر)، والمرأة لم تسأل عن الأجر، إنما سألت عن الحج، وكان الجواب كافياً بنعم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أردف ذلك وقال لها: ولك أجر؛ لأن العبد إذا علم أنه يؤجر عمل، وزادت همته.
ونضرب مثلاً للأعمال والأجور: موظفو القطاع العام يأخذون الراتب سواء عملوا أو لم يعملوا، ولذلك كثر فيه الغش والخداع، بينما القطاع الخاص نادر؛ لأنه يربط الأجر بالإنتاج، فإذا أنتج رجل قطعة أخذ مقابلها أجراً، فتجده يجد ويعمل ابتغاء الأجر.
فهذا شيء خلقه الله عز وجل في فطر الناس، فإذا علم الإنسان أنه لن يؤجر؛ فترت همته، وقل عمله، لكن إذا علم أن الله عز وجل سيجزيه ويعطيه؛ فإنه يعمل ويجد ويجتهد، فكيف غفلوا عن هذه الخصلة الموجودة في بني آدم وخاطبوا عبداً مجرداً من الإحساس؟! وقد جاء أن أحد الصحابة قال للنبي عليه الصلاة والسلام في غزوة بدر وكان يأكل تمرات: (يا رسول الله! مالي عند ربي إن قتلت في سبيله؟ قال: لك الجنة! وذكر الجنة ونعيمها، وحورها وشجرها، فقال: إنها لحياة طويلة إن عشت حتى آكل هذه التمرات، فرمى بالتمر ودخل في الصف فقاتل حتى قتل).
ولو أن هذا الصحابي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ما لي عند ربي إن قتلت في سبيله؟ فقال: لا أجر لك! فهل سيضحي الرجل كما ضحى ورمى التمرات وقال: إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات؟!! ما الذي جعله يضحي بنفسه ويدخل في غمار الصف؟! إنه الجزاء والأجر الذي أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام.
الناس في الدنيا نماذج كثيرة، فرجل يعمل ويبني عمارات ومصانع لأجل ماذا؟ وآخر تزوج ولم ينجب ومنذ سنين وهو يذهب إلى الأطباء وهم يرخون له الحبل، ويستدرجونه بالأماني: هناك أمل إن شاء الله!.
وقد حدث هذا الأمر لطبيب أعرفه، تزوج بابنة خاله، وكان يحبها حباً شديداً، ويتمنى منها الولد، وظل سنيناً طويلة يبحث عن ولد، وهم ينسجون له حبال الأماني: هناك أمل! والرجل معتمد على الله عز وجل؛ لأنه قيل له أن هناك أملاً، وفي حياة طويلة على مدار عشرين عاماً، وهي نسبة ذهابه إلى الأطباء في أنحاء العالم رجاء الولد، وخلال ذلك وهو يبني ومعه عقارات، ومعه عيادتان، وفي آخر مرة رجع من بلد أوروبي وقد قال له الأطباء: لا أمل على الإطلاق! فلما رجع بدأ يبيع العقارات والعمارات، وباع عيادة من العيادتين، فسألوه عن ذلك، فقال: لمن أتركها؟! إذاً: لماذا كنت تعمل طيلة عشرين عاماً؟ لمن كنت تبني وتعمّر؟! لقد كان عنده أمل، فلما فقد الأمل أنفق ما جمع، والرسول صلى الله عليه وسلم قال كما في الحديث الصحيح: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها)، والفسيلة: هي النخلة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يحض على الزراعة، فيقول لأحدنا: إذا كان بيدك فسيلة فاغرسها قبل أن تموت، لا تقل: لمن أزرعها؟ والمرغوب فيك أنك لا تعمل إلا لهدف، فخالف طبعك واغرسها، ولماذا لا يغرسها؟ سيقول: لأن الساعة قد قامت، فمن سيأكل منها إن أنا غرستها؟ فكأنه قال له: خالف ما هو مغروس فيك واغرسها.
إذاً: العبد لا يعمل إلا إذا جعل له الأجر، أما إذا لم يجعل له أجر فترت همته.
فجعل هؤلاء طلب النعيم الأخروي عقبة من عقبات الإخلاص، فضيعوا معنى الإخلاص على سواد الجماهير من المسلمين.(36/8)
ضلال الصوفية في جعلهم النعيم الأخروي منافياً للإخلاص
إن الأنبياء كانوا يدعون الله عز وجل أن يدخلهم الجنة، وكانوا يتعوذون من النار، والله تبارك وتعالى أثنى على عبادٍ له ونسبهم إلى نفسه تشريفاً لهم، قال الله عز وجل: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63]، وهؤلاء يتعوذون من النار: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان:65 - 66]، والذين وصفهم الله عز وجل بالعقل من جملة البشر وهم أولو الألباب، تعوذوا من النار، قال تبارك وتعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران:190] ومن جملة قول هؤلاء: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران:192]، وقبل ذلك بآيات: (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) [آل عمران:185]، وهذا كلام الله وحكمه: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185].
لكنهم يقولون: هذه عبادة التجار! فالذين يعبدون الله طمعاً في جنته وخوفاً من ناره عباد سوء!! فجعلوا طلب الأجر عقبة من عقبات الإخلاص، ومن هو الذي يستطيع أن يحقق ما يقولون وقد كان سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم يدعو بالنجاة من النار وهو ساجد؟! وجاءه رجل -كما روى أبو داود في سننه- فقال له: (أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ -أي: أنتم تتكلمون كثيراً، وهذا الدعاء لا أفهمه ولا أتقنه ولا أحفظه- لكنني أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، فقال عليه الصلاة والسلام: حولها ندندن)، أي: حول طلب الجنة والعياذ من النار ندندن.
فكل الذكر وكل الدعاء إنما هو لطلب الجنة والنجاة من النار إن هؤلاء يظنون أن الجنة فاكهة ورمان فحسب، لا.
إن أعظم ما في الجنة النظر إلى الله عز وجل، فينسبون إلى رابعة قولها: (وإن كنت أعبدك طمعاً في لقاء وجهك فلا تحرمني)، سبحان الله! وهل يرى العبد ربه خارج الجنة؟! هل هناك مكان ثالث غير الجنة والنار؟! قال الله عز وجل: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، قال الشافعي رحمه الله: (لو لم يكن من العقوبة إلا الحجاب فلا يرون الله لكان كافياً).
فهذا أعظم من عذاب النار، وهو ألا يرون الله، كما أن رؤية الله عز وجل أكبر من كل نعيم الجنة، كما في الحديث الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استقر أهل الجنة في الجنة، يقول الله عز وجل لهم: يا عبادي! هل رضيتم؟ فيقولون: يا ربنا! وكيف لا نرضى وقد جنبتنا السعير؟! قال: أفلا أعطيكم ما هو أكبر من ذلك؟ قالوا: يا ربنا! وما هو أكبر مما نحن فيه؟! قال: فيكشف الحجاب، فيرون الله عز وجل، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى الله عز جل).
إن أعظم نعيم في الجنة هو أن يرى العبد ربه، فكيف يقولون: (وإن كنت أعبدك طمعاً في وجهك فلا تحرمني من وجهك) ولا يرى العبد ربه إلا إذا دخل الجنة؟! هذا غلط وقعوا فيه، وشيدوه، وبنوا عليه أصولاً في علم السلوك، وتمسك به كثير من الذين تأثروا بـ أبي حامد الغزالي.
فاحذروا باب السلوك وباب العقيدة في إحياء علوم الدين، فهذا الكتاب لا يحل لأحد أن يقرأه إلا إذا كان عالماً، ففيه طامات وحيات وأفاعي بين السطور كم أردت من قتيل! وقد حذر العلماء من هذا الكتاب.
لقد جعل الصوفية طلب النعيم الأخروي عقبة في طريق الإخلاص، فإذا كان الرجل يطلب من الله الجنة ويستعيذ به من النار، يقولون له: أنت لست بمخلص، وإخلاصك يحتاج إلى إخلاص! فضيعوا الإخلاص على جماهير المسلمين.(36/9)
طلب النعيم الأخروي
إن أول العقبات الموهومة كما تزعم الصوفية: هي طلب النعيم الأخروي، ويرون أن ذلك قدح في الإخلاص، يقول رويم بن أحمد هذا: (الإخلاص ألا تطلب على عملك عوضاً في الدارين، ولا جزاء من الملكين)، وهناك كلمة ينسبونها إلى رابعة العدوية عابدة أهل البصرة: (اللهم إن كنت عبدتك خوفاً من نارك فأحرقني بنارك، وإن كنت عبدتك طمعاً في جنتك فاحرمني من جنتك، وإن كنت عبدتك طمعاً في لقاء وجهك فلا تحرمني).
ويقول أبو حامد الغزالي صاحب الإحياء، الذي ضيع علم السلوك بهذا الكتاب، يقول: إن من عمل للجنَّة وخاف من النار كمثل الأجير السوء، إذا أُعطي عمل وإذا مُنع لا يعمل، ودرجته بمنزلة البنجي.
أي: الحمقى.(36/10)
القضاء والقدر
الإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان، فلا يتم إيمان العبد حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وقد ضلت القدرية في هذا الباب فأنكروا القدر، وقالوا: إن الأمر أنف، بمعنى: أن الله لا يعلم بالشيء إلا بعد وقوعه، أما أهل السنة فيقولون: إن الله على كل شيء قدير، وقد قدر الله كل شيء قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وإن الله سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما سيكون، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.(37/1)
الفهم الصحيح للإيمان بالقضاء والقدر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد: يقول الله تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] لقد اشتملت هذه الآية على عدة صفات لله عز وجل: كصفة العلم، وصفة القدرة، فلا يكون غالباً على أمره إلا إذا كان عالماً بما يئول إليه الحال، ولا يكون غالباً على أمره إلا إذا كان قادراً على إمضاء ما يريد، وهذا هو سر القضاء والقدر: العلم والقدرة.
لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم في هذا الباب نسيجاً وحدهم، ليس لهم نظير؛ لاستقامة فهمهم، واستقامة عربيتهم، فما كانوا يسمعون القرآن سماع الأعاجم، ولا كانوا يسمعون كلام النبي صلى الله عليه وسلم سماع الأعاجم، ففي الصحيحين من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ندفن جنازةً في بقيع الغرقد، وكان بيده عود، فجعل ينكت في الأرض بذلك العود، ثم قال: ما من نفسٍ منفوسة إلا كتب مقعدها من الجنة ومقعدها من النار، فقال سراقة بن مالك: يا رسول الله! أهذا أمرٌ مضى وانقضى أم لأمرٍ مستأنف؟ قال: بل لأمرٍ مضى) وفي الرواية الأخرى: (قالوا: يا رسول الله! ففيم العمل؟)، طالما أن كل إنسان قد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار قبل أن يخلق الله السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وقدر الله مقادير الخلائق، وجرى القلم بما كان وما يكون إلى قيام الساعة قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة إذاً ففيم العمل؟ قال: (اعملوا فكل ميسرٌ لما خلق له، فأما من كان من أهل السعادة، فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فإنه ييسر لعمل أهل الشقاوة.
ثم تلا قوله تبارك وتعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5 - 10] قال سراقة: فما أجدني أحرص على العمل مني الآن) هذا هو استقامة الفهم، قال: ما أجد حافزاً لي على الجد في العمل وطلب رضوان الله مثل الآن.(37/2)
اختصاص الله تعالى بعلم مآل الأحوال
إن الإيمان بالقضاء والقدر لا يكون إلا مجملاً؛ لأن حكمة الله لا تدركها العقول.
فهذا موسى عليه السلام مع كونه نبياً مرسلاً من أولي العزم، وهو أكثر الأنبياء ذكراً في القرآن المجيد، عندما اتبع الخضر فقتل الغلام أنكر عليه: {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف:74]، وفي القراءة الأخرى: ((زاكيةً))؛ لكن الله عز وجل الذي علم الخضر هذه الأمور التي حجبها عن موسى -وهو العليم الذي يعلم مآل الأحوال وما تصير إليه- قضى بأنه إن عاش هذا الغلام سيكون كافراً، وحينها سيرهق أبويه طغياناً وكفراً.
من الذي يمكن أن يطلع على هذه النتيجة؟ من الذي يقول: إن فلاناً سيختم له بشقاء أو بسعادة؟ كون الإنسان لا يملك علم معرفة المآل؛ لا يجوز له الاعتراض بظهور الحال، فإن العبرة بالمآل، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالخواتيم)، فلو صام الإنسان يوماً طويلاً، وقبل المغرب بوقت قليل شرب الماء، لبطل صوم يومه، وكذلك قبل أن يسلم من صلاته، لو أحدث لبطلت صلاته.
إذاً: (إنما الأعمال بالخواتيم)، والخاتمة محجوبة، ومن مذهب أهل السنة والجماعة: أن لا نشهد لمعينٍ بجنة ولا نار، فلا نقول: فلان: من أهل النار، حتى لو كان مشركاً أو يهودياً أو نصرانياً، إلا أن تذكر النتيجة مقيدة، كأن يقال: فلان النصراني من أهل النار إن مات على ذلك، ذكر ذلك ابن كثير رحمه الله تعالى واستدل بقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} [البقرة:161]، هذا هو الشرط؛ لاحتمال أن تتدارك رحمة الله عز وجل هذا النصراني فيسلم قبل أن يموت، إذاً: الذي ظهر كفره بجلاء لا تُعرف خاتمته، فإذا كان العبد يجهل الخاتمة فكيف له أن يحكم وعلمه ناقص؟! روى البخاري وغيره من حدث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافراً)، أي: خلقه الله كافراً، والخضر لو لم يعلمه الله عز وجل لما علم الحقيقة؛ بل لم يعلمها موسى الكليم، الذي هو من أولي العزم، فلذلك لا ينبغي للعبد أن يحكم على المآل بظهور الحال.
إن الذين يتكلمون على الصحوة الإسلامية الآن وهم يرونها ضعيفة، فأحدهم يستهزئ ويقول: دعوهم يدعون على أمريكا ليل نهار، أمريكا لديها صواريخ عابرة للقارات، وعندها قنابل ذرية، وقنابل هيدروجينية، وعندها أربعون قمراً صناعياً تجسسياً فوق منطقة الشرق الأوسط، فكأنها تسمع دبيب النملة، وأوهمونا في حرب الخليج أن الطائرة الشبح تستطيع أن ترى ماركة الفنيلة! وهؤلاء هم القادة العسكريون الذين هم عسكر من رءوسهم إلى أخمص أقدامهم، هم الذين كرروا هذا الكلام.
فهؤلاء ينظرون إلى الحال ولا ينظرون إلى المآل: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران:123]، لم يكن عندهم السبب الكافي الذي ينتصرون به على قريش، ولكن نصرهم الله وهم أذلة، هذا هو المآل! أما هؤلاء فكما قال الله عز وجل: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7]، هذا كل علمهم، يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، يقولون: كل يوم يكتشف العلماء أشياء مذهلة، والذين ماتوا قبلهم كانوا جهلاء بها.
إذاً: عِلم الناس جميعاً ظاهر فقط، وما أطلعهم الله عز وجل على علم الحياة الدنيا، فمملكة السماوات والأجرام سر حتى الآن، حتى الصعود إلى القمر، وأنا أقول هذا الكلام على عهدة الرجل الذي ألف كتاباً وقد كان أحد رواد الفضاء، وجنسيته كندي، وألف كتاباً يفضح فيه المخابرات الأمريكية، وعنوانه: (لم نصعد إلى القمر)، وهو منشور باللغة الإنجليزية منذ حوالي سبع سنوات، قال فيه: إن الصعود إلى القمر أكذوبة للمخابرات الأمريكية، وإن بيننا وبين القمر منطقة تصل درجة حرارتها إلى أربعة آلاف درجة مئوية، لا يصل شيء إليها إلا ذاب وقال: ولست أنسى -وهذا الكلام على لسانه ونقوله على عهدته- يوم دعوا الجمهور الأمريكي ليتفرج على كبسولة الفضاء وهي تصل إلى القمر، ثم أشرنا إلى الجماهير وقام التلفزيون والقنوات بالتصوير، وأغلقوا علينا باب الكبسولة، ولم يعلم الجماهير أننا نزلنا من الباب الآخر، ثم أرسل الصاروخ كبسولة الفضاء ولم يعلم الجماهير أن هذه الكبسولة نزلت في المحيط وهذا ليس بغريب، وليس بمستبعد، فقضية الأطباق الطائرة خرافة المخابرات الأمريكية، وأنت عندما تريد أن تعمل شيئاً في الدنيا فلا بد أن تهيء له بشيء يلفت نظر العالم كله.
واليهود هم ملوك الدعاية، وقد وصلنا الآن إلى درجة أن أمريكا وإنجلترا قد ملكت مقاليد الدنيا، وأول ما يشعر العباد أنهم قد ملكوا الأرض حينئذ تقوم القيامة كل شيء في الدنيا ملعون إلا ذكر الله وما والاه، ما غاية سعي العباد إلا الرئاسة والمال، وأعظم رجل ترأس في الدنيا كلها وشعر بحظ النفس هو فرعون، فليس هناك أحد أعظم منه والله ما سمعنا برجلٍ عُبد وكان له هذا الجبروت إلا فرعون، وغاية ما يتمناه الغني أن يكون مثل قارون، ولو جمع كل ما عند الناس الأغنياء المعدودين فلن يصل إلى ركن في خزائن قارون، وقد علمنا قصة فرعون وقصة قارون لتكون عبرة لأولي الألباب.(37/3)
سبب ضلال الضالين عن المعتقد الصحيح
أيها المسلم! هل أنت جاد في طلب الطريق الوحيد الذي يوصلك إلى الله؟ هل أنت وجل وخائف أن تزل بك القدم فتعير أذنك لشخص من إحدى الفرق الثلاث والسبعين شخص له منطق عذب وبيان حسن؛ فتضل وتذهب معه، وأنت تعلم أن الذين ضلوا ما أتوا من غباء؟! فها هو أمير المؤمنين المأمون كان يوقر عمرو بن عبيد رأس المعتزلة، وكان عمرو بن عبيد رجلاً زاهداً، يضرب به المثل في الزهد والتقلل من الدنيا، فكان المأمون إذا رآه يقول: كلكم يمشي رويد كلكم طالب صيد إلا عمرو بن عبيد (كلكم يمشي رويد): أي: يمشي الهوينا وهو يتلفت، رجل يريد أن يصطاد؛ لكن الزاهد الذي لا ينوي إلا غايته لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فهو: رجلٌ زاهد ولا يطلب صيداً من أحد، وهو مع ذلك رأس في الضلال، ذكر له حديث، فقال: من رواه؟ قالوا: جابر بن سمرة، فقال: قبح الله جابراً! وجابر بن سمرة صحابي.
إن البوابة التي عبر منها أهل البدع هي عدم احترام أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، وعدم الاكتراث بهم، والزعم أنهم رجال وهم رجال، حتى لا تتم الأسوة بهم، ومذهب أهل السنة والجماعة معروف، فالطريق الوحيد له ثلاثة أصول: (ما عليه اليوم أنا وأصحابي)، أي: الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح، (ما عليه اليوم أنا) هو الكتاب والسنة، (وأصحابي): هذا هو الأصل الثالث.
أما المبتدعة فإنهم لا يقيمون للصحابة وزناً، ولا يرفعون لهم رأساً، فالأمر إذاً جد خطير.
جاء في حديث الخوارج الذي رواه البخاري ومسلم أن ذا الخويصرة جاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: (يا محمد! اعدل فإنك لم تعدل! فقال: ويحك! ومن أحق أهل الأرض أن يعدل إذا لم أعدل أنا؟ فلما تولى الرجل وأراد خالد أن يقتله، قال له: دعه، فإن له أصحاباً، يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)، فهم عباد زهاد يصلون ويصومون؛ لدرجة أن الصحابة الأبرار الأجلاء يحتقرون أعمالهم إذا نظروا إلى جدية هؤلاء في العبادة.
إذاً: لا تغتر بسمت مبتدع حتى تعلم أنه على الكتاب والسنة بفهم السلف الصالح.
ما ظهرت الثنتان والسبعين فرقة إلا بضلالهم عن الطريق الوحيد، والطريق الوحيد -أيها الإخوة- هو أول طريق سُنَّ للمسلمين: (تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة)، (الفرقة الواحدة) هي أول فرقة ظهرت، أما باقي الفرق فلم تظهر إلا بعد الفرقة الأولى الناجية.
بأيمانهم نوران ذكر وسنة فما بالهم في حالك الظلمات اثنتان وسبعون فرقة ضالة جاءت بعد ظهور الطريق الوحيد إلى الله عز وجل، إذاً فكيف بنا الآن، لا سيما بعد اندثار آثار النبوة، وموت العلماء الربانيين، وظهور علماء السوء بين المسلمين، فصار البحث عن الطريق في غاية المشقة، وإنما يسهل البحث إذا كثر الأدلاء عليه، فإذا كثر الأدلاء على الطريق هان عليك الأمر، أما إذا ذهب هؤلاء العالمون به، فما أتعس العامة بدون العلماء! إذاً: هذا هو الأصل الذي نؤصله لهذه القضية الخطيرة وهي: (كلها في النار إلا واحدة)، فالقرآن موجود، لكنهم يؤلونه ويحرفونه، فعندما أنكرت المعتزلة رؤية الله عز وجل يوم القيامة، هل أنكروا القرآن؟ لم ينكروه؛ بل احتجوا به على نفي رؤية الله عز وجل، مع أن السلف رحمهم الله، أجمعوا إجماعاً ظاهراً بدلالة النصوص على أن الله عز وجل يُرى في الآخرة قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15].
قال الشافعي رحمه الله: هذه الآية حجةٌ لأهل السنة أن الله عز وجل، يُرى في الآخرة بدلالة حجب الكافرين؛ إذ لو كان المسلمون محجوبين أيضاً عن رؤية الله، لما كان في حجب الكافرين عن الرؤية معنى.
فلم يقل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] إلا لأن آخرين لا يحجبون، ولو كان الكل محجوبين لما كان لهذه الآية معنى، وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، فهل أنكر المعتزلة هذه الآية؟ لم ينكروها، إنما قالوا: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] (إلاً) هكذا بالتنوين، وجمعها آلاء، أي: إلاً ربها ناظرة، أي: هي تنظر إلى آلاء الله ونعمه.
فما أنكروا القرآن، ولو أنكروه لكفروا، لكنهم حرفوه، وهذا هو الذي صنعته كل الطوائف الضالة.
فالصحابة رضوان الله عليهم سمعوا الآية، وعلموا أنه لا بد من عمل، وعلموا أن العبد مختار، وعلم العبد لا يجاوز شراك نعله؛ لذلك لا يجوز عليه أن يحكم في المآل وهو لا يعلم ما ينتهي إليه الحال، مع ظهور الحال، فكيف إذا كان المآل في غاية الخفاء؟! كما قال الله عز وجل في قصة موسى وفرعون: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8]، فلو كان فرعون يعلم أنه سيكون له عدواً وحزناً لما التقطه، ولا رعاه ولا رباه؛ لكنه التقطه وهو يظن أنه سيكون قرة عين له، فمن الذي يعلم هذا المآل؟ إذاً: هذه الآية: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:21]، إشارةٌ إلى نفاذ إرادته تبارك وتعالى، وأنه الغلاب، وأن العبد لا ينبغي له أن يغتر بظاهر الحال؛ فليس له إلا التسليم، فقوله تبارك وتعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، إشارة إلى هذا القهر، وأنك لا بد أن تسلم؛ لأنك لا تعلم، وعدم العلم هنا ليس هو الجهل، بل قد يكون العلم النظري غير المصحوب باليقين: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، أي: لا يوقنون أن الله غالب على أمره، وأنه قادر على كل شيء.
أحد الذين هربوا سنة (1964م) من السجن إلى دولة عربية أراد أن يرجع إلى بلاده، فخاف أن يقبضوا عليه في المطار، فذهب إلى صديق له دبلوماسي كبير، وقال له: أريد منك أن تكتب لي خطاب تزكية إلى رجل ليستقبلني في المطار.
وكان الرجل ذكياً فطناً، وظاهر القصة تدل على أن الرجل عنده فهم، فقال له: أنا سأكتب لك إلى شخصية كبيرة، لكن لا تفتح هذا الخطاب إلا في المطار (مطار القاهرة) وأنا سوف أتصل، فأخذ صاحبنا الخطاب ولما نزل في مطار القاهرة وفتح الخطاب، وجد أنه قد كتب فيه: (قل: يا رب!) فقط.
هذا هو ما عناه ذلك الدبلوماسي، قال حاكي القصة: فاقشعر بدني لما قرأت هذه العبارة؛ لأنه قال له: أنا سوف أتصل، وكان يعني بالاتصال: الدعاء والمناجاة، ونزل الرجل ومضى، وانتهى الأمر.
فهذا الرجل يعلم أن الله عز وجل على كل شيء قدير، لكن ليس عنده يقين، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:187] أي: لا يوقنون، فعدم العلم هنا مشتمل أيضاً على عدم اليقين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(37/4)
خطورة القدرية وفرق الضلال
التأصيل الذي أريد أن أذكره: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟! قال: ما عليه اليوم أنا وأصحابي).
أريد أن أشعرك -أيها المسلم- بالنعمة التي تعيش فيها؛ لتشعر بمدى تقصيرك، فهناك ثلاث وسبعون طريقاً، والذي يدخل الجنة طريق واحد فقط من الثلاث والسبعين، تُرى: الذين ضلوا من الثنتين والسبعين فرقة هل أنت أذكى منهم؟ أم هل أنت أشد عبادةً منهم؟ لا والله لقد كان فيهم الذكي الذي لو وزع عقله على أهل بلد لكانوا عقلاء، وكان فيهم الزاهد، وكان فيهم الورع والتقي، وحسبك ذلك الحديث: الذي ذكرناه آنفاً جماعة يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم، وفي رواية أخرى: (يتقعرون)، أي: وصلوا إلى قعر العلم، ومع ذلك يقولون: لا قدر!! ما هذا الضلال المبين؟! وأين العلم الذي نزلوا إلى قعره؟ هل نفعهم؟ لم ينفعهم، وهل أتوا من غباء؟! لا.
لم يؤتوا من غباء، ولا من جهل لا بالأصول ولا بالفروع؛ لكنهم حادوا عن سيرة السلف الأوائل، وعن الطريق الوحيد الذي يوصل إلى الله عز وجل.
وعلى كل طريق من هذه الطرق شيطان يدعو إليها، ويزين الحجج، ويلقي بالشبهات؛ ولذلك سئل الإمام أحمد رحمه الله: هل نجادل أهل البدع؟ قال لا.
إلا أن تكون البدعة مشتهرة ولها خطر، وعلل الإمام ذلك بقوله: إن الشبهة خطافة، والقلوب ضعيفة، فمثلاً نجد القدرية يقولون: إن قدر الله عليَّ المعصية فلم يعذبني؟ ولو أرسلت عقلك خلف هذا السؤال لتحير عقلك؛ لأنك لن تجد جواباً، وفي آخر الحال ستتهم ربك بالظلم لماذا قدر عليَّ المعصية؟! كتب نهايتي قبل أن يخلقني بخمسين ألف سنة ثم يقال لي: أنت مختار! مختار في ماذا؟! لستُ بمختار؛ بل مجبر في الاختيار، فإن الاختيار شكلي محض، وفي حقيقة الأمر أنا مجبر!! لو أرسلت عقلك لأوصلك إلى هذه النتيجة.(37/5)
بداية ظهور فرقة القدرية
إن هذه القضية التي كانت من القطعيات عند الصحابة أصبحت مثار جدلٍ عظيم في القرون التي جاءت بعد ذلك، وهناك فرقة تنتسب إلى الإسلام اسمها: (القدرية)، أي: نفاة القدر، وقد ظهرت هذه الفرقة في البصرة في أواخر عهد الصحابة، كما في صحيح مسلم من حديث حميد بن عبد الرحمن الحميري ويحيى بن يعمر قالا: (خرجنا حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نسأله عما أحدث معبد الجهني من القول بالقدر، قال: فوفق لنا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد، فاكتنفناه، فقلت له: يا أبا عبد الرحمن! إنه ظهر قبلنا ناسٌ يقرءون القرآن ويتقفرون العلم)، وذكر من شأنهم، ومن عبادتهم وجدهم واجتهادهم، قال: (وأنهم يقولون: إنه لا قدر، وأن الأمر أنف)، أي: مستأنف، أو أن الله لا يعلم الفعل إلا بعد وقوعه، قال عبد الله بن عمر: (فإذا لقيت هؤلاء فأخبرهم أنني بريء منهم وهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر! لو أن لأحدهم ملء الأرض ذهباً ما قبل الله عز وجل منه حتى يؤمن بالقدر)، ثم ساق الحديث وفيه أركان الإيمان: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره حلوه ومره.(37/6)
الالتفات إلى الأسباب وتركها
هذا الشيء البدهي عند الصحابة صار مختلفاً فيه بعد ذلك.
وقد أشار الله عز وجل في عجز هذه الآية إلى شيء في غاية الأهمية، قال تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، إشارة إلى استكانة العباد إلى الأسباب، والإنسان بمجرد أن يبدأ بالعمل ويأتي بالأسباب على كمالها، يعتقد أن العمل لا بد أن يكون.
أكثر الناس لا يعلمون أن الله غالب على أمره؛ ولذلك يتقن الشيء ويظن أنه لا بد أن يحصل على مرامه، ولكن هيهات! قد يكون السبب قوياً وله صلاحية؛ ولكنه لا يصيب، كالمطر هل يكفي في إخراج البذر والنبات؟ لا يكفي، حتى تأتي الرياح، ولا تكفي الرياح حتى تنتفي الآفات عن الزرع إذاً لا بد من وقوع أسباب وانتفاء موانع.
وانظر إلى الرجل والمرأة: امرأة لا عيب فيها، ورجل لا عيب فيه، ورغم ذلك لا ينجبان، فمن ظن أنه بمجرد إنزال الماء يحصل الولد فهو جاهل، فكم من رجل أنزل ولم ينجب! وتحمل المرأة ولا يتم حملها، فلا بد من انتفاء الموانع.
إن الالتفات إلى الأسباب مسألة خطيرة جداً تقدح في التوحيد، كما قال بعض السلف: (الالتفات إلى الأسباب شرك، وترك الأسباب بالكلية قدحٌ في التشريع).
وفي قصة مريم عليها السلام أبلغ العبرة، فإن الله عز وجل قد يرزق العبد بدون أن يبذل أي سبب، وقد لا يرزق العبد إلا بسبب ولو كان تافهاً، فتحصيل الثروة العظيمة لا يشترط لها الجد والاجتهاد؛ بل قد تأتي بأدنى سبب، فهاهي مريم عليها السلام صحيحة، والأسباب متوفرة لديها لكسب القوت، ومع ذلك: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37]، بغير سبب! مع أنها مستطيعة، وليس بها مرض، فمن الممكن أن تكسب قوتها، ومع ذلك جاءها الرزق بلا سبب، فلما حملت وولدت وكانت في أشد حالات الضعف قال لها: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم:25]، وفي قراءة أخرى (تسَّاقط)، ولفظ (تسَّاقط) يدل على كمية التمر الكبيرة التي نزلت عليها بهذه الهزة، وكان الأولى ألا تبذل السبب؛ لضعفها، فرزقها الله بدون سبب، وهي في كامل صحتها، فلما خارت قواها قال لها: هزي!(37/7)
الالتفات إلى الأسباب قدح في التوحيد وتركها قدح في الشرع
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
قال بعض السلف: (الالتفات إلى الأسباب قدحٌ في التوحيد، ورفض الأسباب بالكلية قدحٌ في الشرع).
أما بالنسبة للأول: فقد ألغى الله عز وجل الواسطة بينه وبين عباده، إذاً: الالتفات إلى الأسباب قدحٌ في التوحيد، فلأجل تجريد التوحيد ألغى الله الواسطة، فقال عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186]، وجرت العادة في كل آيات القرآن الكريم المشتملة على السؤال أن يثبت لفظ: (قل)؛ لأن الواسطة بين الله وبين الناس هو الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن العباد لا يعرفون ما يحبه الله ويرضاه إلا عن طريق الرسول.(37/8)
لا واسطة بين الله وبين خلقه
لقد ألغى الله عز وجل الواسطة: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186]، لاحتمال أن يكون الواسطة لئيماً، فمثلاً ولله المثل الأعلى: لو كان هناك رجل وزير أو محافظ أو مدير، وأنت تريد الدخول إليه، فلن تستطيع الوصول إليه إلا عن طريق السكرتير أو مدير المكتب، فلو كان هذا الرجل الواسطة لئيماً أو مرتشياً وقال لك: لن أوصلك إلى الوزير إلا إذا دفعت كذا وكذا، أو عملت لي كذا وكذا، وأنت في حاجة ماسة لمقابلة الوزير، وتريد أن تقابله بأي ثمن، فسوف تدفع ما أراده منك ذلك الواسطة؛ بل سوف تتذلل له وتقبل يده إلخ، فلو كان هناك واسطة بين الله وبين خلقه؛ لذهب ما لله للواسطة؛ من التضرع والابتهال، والترجي الذي أترجاه من أجل أن يوصلني، فالرغبة والرهبة لا تكون إلا لله.
فلئلا يُصرف هذا الأمر للواسطة ألغاها الله عز وجل؛ لتجريد التوحيد والحفاظ على جنابه.
إذاً: الالتفات إلى الأسباب قدح في التوحيد؛ ولذلك ألغيت الواسطة حتى لا يلتفت إليها.
وترك الأسباب بالكلية قدح في الشرع؛ لأن الله عز وجل قال: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32]، والباء هنا باء السببية، وليست هي الباء التي في قوله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد الجنة بعمله)، فإن الباء في (بعمله) غير الباء في: {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، فالباء في قوله عز وجل: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] باء السببية، أي: ادخلوا الجنة بسبب ما كنتم تعملون، والباء في قوله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد الجنة بعمله)، هي باء العوض والمقابلة، أي: لن يدخل أحد الجنة لأنه عمل عمل أهل الجنة، وكان عمله كفؤاً وعوضاً لدخول الجنة، استحق دخول الجنة بالعمل.
إذاً: الباب باء العوض في الحديث، وليس لأحد أن يؤدي شكر نعم الله عز وجل عليه أبداً لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال هذا الحديث، قالوا: (ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(37/9)
العقول لا تستقل بمعرفة ما يحبه الله ويرضاه
إن العقول لا تستقل بمعرفة ما يحب الله ويرضى، ولذلك كان الشرع هو الحاكم على العقل، فمثلاً هل الربا بالنسبة للعقول منكر؟ ليس بمنكر؛ بل فيه مصلحة، فالرجل ينمي أمواله، لكن الشبهة التي دخل منها المفتي بتحليل الربا، هي أن: كلا الطرفين مستفيد.
مثلاً: مر رجل بضائقة مالية، ففرجت عنه وأخرجته من ضائقته، فهو إذاً مستفيد.
وفي نفس الوقت صاحب رأس المال لا يعطل ماله، فعندما يخرج ماله بفائدة يكون قد استفاد، فالمقرض والمستقرض مستفيدان، هذا هو العقل!! وهذا هو الحال! لكنَّ المآل إلى الخراب، فهذا (بنك الاعتماد والتجارة)، وهو بنك شيوخ الخليج، وشيوخ البترول، الدنيا كلها كانت تتصور أن أي بنك في العالم يمكن أن يفلس إلا (بنك الاعتماد والتجارة)؛ لأنه مسنود، فشيوخ الخليج يضعون أموالهم فيه، ومع ذلك فأول بنك أفلس هو بنك الاعتماد والتجارة! والذين يمسكون بعجلة المال هم اليهود، أكلة الربا، وأكلة أموال العباد ولحومهم.
فلو استقلت العقول ونظرت لقالت: ليس في الربا بأس! بل لقالت: ليس في الزنا بأس! سيقولون: الرجل الفقير الذي لا يستطيع أن يتزوج ويريد أن يقضي حاجته، فلماذا تعكرون عليه؟ ولماذا تحرمونه؟! والشيعة عندهم مذهب زواج المتعة، الذي أراد أحد الهالكين على مدار واحد وثلاثين مقالاً أن يحله عندنا، وتهكم بمذاهب الفقهاء الأربعة، وتهكم بشيوخ الأزهر الذين ردوا عليه، وقد جاء في الموسوعة الفقهية، وهي موسوعة الفقه الإسلامي التي أخرجتها وزارة الأوقاف في (الستينيات): زواج المتعة أنك تشترط مدة في أصل العقد، كأن تقول: أنا سأتزوج هذه المرأة يومين، أو شهرين، أو سنتين، أو عشر سنين، أو عشرين سنة فهذا لا يجوز.
قالوا: أنتم تعسرون على الشباب، والشاب الآن لا يملك إلا هذه الساعة، فاتركه يتزوج يومين لا يملك إلا ثوباً واحداً اتركه يتزوج ثلاثة أيام عنده عشرة أو خمسة عشر جنيهاً، اتركه يتزوج ساعتين هذا هو زواج المتعة، أليست ظاهرة تيسير على الشباب المحروم؟! الذي حرقنا دمه وجففنا كبده بقولنا له: صم! يأتينا شاب فيقول: أنا شديد الشبق، ولا أستطيع الزواج، فنأمره بالصوم.
وهذه وصية الرسول عليه الصلاة والسلام: (من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم)، مع أن هؤلاء الشباب لهم مخرج على مذهب الشيعة، وهو أن يتزوج يومين أو ثلاثة أو أربعة.
فانظروا إلى استقلال العقول! فلو استقلت فلن تعرف ما يحبه الله ويرضاه؛ لأن الله عز وجل قد يأمر بالأمر الذي يصعب على العقل إدراك حكمته، فمثلاً: سعي هاجر عندما سعت بين الصفا والمروة، لقد كانت تبحث عن الماء، فقد يقول قائل: لماذا نسعى نحن بين الصفا والمروة، نحن نسعى على الرخام؟ وهناك تكييف مركزي في المسجد الحرام، إذاً المسألة مسألة شكلية محضة، فليس هناك إرهاق ولا تعب حتى نشعر فيها بتعب أم إسماعيل.
فلماذا نفعلها حتى الآن؟ لماذا نطوف بالكعبة؟ لماذا نقبل الحجر الأسود؟ ولماذا نحلق؟ هذا كله ليس له جواب على مقتضى العقل، فقد يأمرك الله عز وجل بالفعل ابتلاءً بلا علة.(37/10)
بدر التمام في ترجمة الشيخ الإمام
إن للعلماء أهمية عظيمة في حياة الناس فهم أئمة الهدى ومصابيح الدجى، وإليهم يرجع الناس في المدلهمات والفتن.
وإن من أولئك العلماء الربانيين الشيخ محمد ناصر الدين الألباني الذي ظل طوال حياته يدفع عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريف المحرفين وانتحال المبطلين، فأحيا الله به السنن، وأمات به البدع.
وإن كانت الأمة قد فقدت هذا الإمام إلا أن آثاره ستبقى بارزة المعالم لكل من أراد معرفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم.(38/1)
خسارة فقد العلماء
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
فدرسنا هذا المساء بعنوان (بدر التمام في ترجمة الشيخ الإمام) وهي ترجمة مختصرة لشيخنا الشيخ الإمام حسنة الأيام، ومحدث بلاد الشام بل بلاد الإسلام، عميد السلفيين، وشيخ المتكلمين، وناصر سنة سيد المرسلين، شيخنا أبي عبد الرحمن محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله.
ففي يوم السبت الثاني والعشرين من شهر جمادى الآخرة سنة (1420هـ) الموافق الثاني من شهر أكتوبر سنة (1999م) قضى الله عز وجل قضاءه بالحق، وألحق بالرفيق الأعلى شيخنا رحمه الله، وقبض ملك الموت وديعته في الأرض، واستودع مسامعنا من ذكره اسماً زاكياً، ومن عمى الأبصار من رسمه شخصاً تالياً.
وإني والله لحقيق بقول متمم بن نويرة يرثي أخاه مالكاً فقال: لَقَدْ لاَمَنِي عِنْدَ الْقُبُورِ عَلى البُكا رَفِيقي لِتَذْرَافِ الدُّمُوعِ السَّوَافِكِ وَقالَ أتَبْكِي كُلَّ قَبْرٍ رَأيْتَهُ لِقَبْرٍ ثَوَى بَيْنَ اللِّوَى فَالدَّكَادِكِ فُقُلْتُ لَهُ إنَّ الشَّجَى يَبعَثُ الشَّجى فَدَعْنِي فَهَذَا كُلَّهُ قَبْرُ مالك وفاة الشيخ الألباني رحمه الله خسارة جسيمة على هذه الأمة، فقد اندك بموته أقوى معقل كان يرسل الشيخ منه القذائف على خصوم الإسلام، وما لانت له قناة قط رحمه الله.(38/2)
الشيخ الألباني وإحياء السنة
أول معرفتي بشيخنا -رحمه الله- كانت سنة (1395هـ) كنت أصلي في مسجد (عين الحياة) خلف الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله، وبعد انتهاء الصلاة كنت أطوف على البائعين الذين يبيعون الكتب، ففي يوم من الأيام وقفت على كتاب (صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التسليم إلى التكبير كأنك تراه) فأخذت الكتاب بيدي وقلبته، ولكنه كان باهظ الثمن، فتركته ومضيت أبحث عن كتاب آخر، فإذا بي أجد كتيباً لطيفاً بعنوان (تلخيص صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للشيخ الألباني) فاشتريته بخمسة قروش، وتصفحته وأنا في طريقي إلى مسكني، فوجدت ما فيه يخالف ما ورثته من الصلاة عن آبائي؛ إذ أن كثيراً من هيئات الصلاة لا تمت إلى السنة بصلة؛ فندمت ندامة الكسعي أنني لم أشتر الآخر.
والكسعي هذا رجل يضرب به المثل في الندم، وقصته أنه كان رجلاً رامياً، وكان لا يخفق في رميه، فرمى بالليل ظباء، فظن أن السهم لم يصب الظباء فكسر قوسه، وقيل: قطع إصبعه، فلما أصبح وجد الظباء ميتة وسهمه فيها، فندم أنه كسر السهم، وصار مثلاً يقال: ندامة الكسعي ومنه قول الفرزدق: ندمتُ ندامةَ الكُسَعِيّ لما غدت منّي مُطلَّقةً نوار فندمت ندماً شديداً أنني لم أشتر ذلك الكتاب، وظللت أبحث عن ثمن الكتاب طيلة الأسبوع حتى وفقني الله عز وجل لشرائه في الجمعة التي بعدها، فلما قرأت الكتاب كنت كما قال القائل: (ألقيت الألواح، ولاح لي المصباح من الصباح) ووجدت نموذجاً فريداً في التصنيف، مع أنني ما كنت أفهم شيئاً قط من الحاشية التي كتبها الشيخ رحمه الله، ولكنني أحسست بفحولة وجزالة لم أعهدها في كل ما قرأته من قبل، فملك عليَّ هذا الكتاب حواسي، وكنت في كل جمعة أبحث عن مصنفات الشيخ ناصر الدين الألباني، حتى وقفت على كتاب (سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة) وقفت على المائة الحديث الأولى، وهذا الكتاب هو الذي فتح عيني وأنار بصيرتي.
وكان لهذا الشيخ رحمه الله الفضل ليس عليَّ فقط، ولكن على أبناء جيل الإسلام، فإن هذا الشيخ المبارك كان له من الأثر ما لم يفعله كثير من العلماء، فما من رجل ينسب إلى السنة في هذا الزمان إلا وللشيخ عليه فضل، دق أو جل.
ومن بعدها لم أكن أصلي في مسجد عين الحياة خلف الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله؛ لأن الشيخ رحمه الله كان على رغم ما له من فضل، فكل المنتسبين إلى الصحوة هو الذي أجج فيهم نار الالتزام والحمية للإسلام، إلا إن أكثر من ستين أو سبعين بالمائة من الأحاديث التي يذكرها الشيخ رحمه الله كانت من الأحاديث الضعيفة والموضوعة.
وللشيخ كشك رحمه الله عذر في ذلك؛ لأنه حفظ أحاديث كتاب (إحياء علوم الدين) لـ أبي حامد الغزالي، وأبو حامد الغزالي كان تام الفقر في علم الحديث، وكتابه من أكثر الكتب كذباً على النبي صلى الله عليه وسلم، وتستطيع أن تدرك ذلك بالنظر إلى حاشية الكتاب، وإلى تخريج الحافظ زين الدين العراقي المسمى بـ (المغني عن الأسفار في الأسفار بتخريج ما في الإحياء من الأخبار) فإن الحافظ زين الدين العراقي حكم على كل أحاديث هذا الكتاب، وأكثر من ستين أو سبعين بالمائة من أحاديث هذا الكتاب إما موضوع أو باطل أو منكر أو ضعيف أو لا أصل له، والقليل منها صحيح.
وقد ذكر الشيخ الألباني رحمه الله في الجزء الأول من السلسلة الضعيفة الأحاديث المشهورة على ألسنة الناس، وإذا بي أفاجأ أن أغلب الأحاديث التي حفظتها من الخطباء في الجمعة تدور ما بين المكذوب على النبي عليه الصلاة والسلام والموضوع والباطل والضعيف والشاذ والمنكر إلى آخر هذه الأقسام التي هي من نصيب الأحاديث الضعيفة.
فعكر عليَّ كتاب الشيخ الألباني هذه الخطب، حتى أنني أصبحت أشك في كل حديث أسمعه، وفي يوم من الأيام سمعت الشيخ يقول على المنبر حديثاً وهو: (إن الله تبارك وتعالى يتجلى للناس عامة، ويتجلى لـ أبي بكر خاصة) لأول مرة أشك في حديث أسمعه وأقول في نفسي: ترى هل هذا الحديث صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ ومع ذلك فقد انفعلت له لما أسمعه من صراخ الجماهير من حولي إعجاباً واستحساناً.
فلما رجعت إلى بيتي نظرت في سلسلة الأحاديث الضعيفة للشيخ ناصر الدين فلم أجد هذا الحديث، فواصلت بحثي فوجدت هذا الحديث في كتاب (المنار المنيف في الصحيح والضعيف) لـ ابن القيم رحمه الله، وقد حكم عليه ابن القيم بأنه موضوع على النبي عليه الصلاة والسلام.
وكان قد استقر عندي ببركة القراءة في كتب الشيخ الألباني أن التحذير من الأحاديث الضعيفة والموضوعة واجب أكيد، فقلت في نفسي: لابد أن أذهب إلى الشيخ وأبلغه أن هذا الحديث مكذوب.
وكان للشيخ كشك رحمه جلسات في مسجده بين المغرب والعشاء، فلحقت بالصف الأول حتى أكون في أوائل الناس الذين يسلمون عليه، فسلمت عليه وهمست في أذنه إلى أن الحديث الذي ذكره في الجمعة الماضية وسميته قال عنه ابن القيم رحمه الله: إنه موضوع على النبي عليه الصلاة والسلام، فقال لي الشيخ: بل هو صحيح، وقال لي كلاماً لا أضبطه الآن، لكن خلاصة هذا الكلام أن ابن القيم لم يكن مصيباً في حكمه على هذا الحديث بالوضع، ولم يكن هناك وقت للمجادلة؛ لأن هناك طابوراً طويلاً خلفي، وكلهم يريد أن يسلم على الشيخ ويسر إليه بما يريد.
وكان مما حز في نفسي أن الشيخ كشك رحمه الله سألني عن العلة في وضع هذا الحديث، فقلت له: لا أدري.
فقال لي: يا بني! تعلم قبل أن تعترض.
فمشيت من أمامه مستخزياً، وخرجت من عنده وكلي إصرار أن أدرس هذا العلم، حتى أعلم ما هو السبب في أن الحديث موضوع أو ضعيف أو باطل.
فكان من بركات الشيخ الألباني عليَّ وعلى كثير من أمثالي أنني تمذهبت بمذهب أهل الحديث؛ لأن التمذهب بمذهب أهل الحديث بمثابة طوق النجاة، ولم أتقلب يميناً ولا شمالاً، ولا تعدد انتمائي للجماعات المختلفة أبداً، وكان الفضل في ذلك بعد الله للشيخ الألباني رحمه الله.
فطفقت أسأل إخواني عن شيخ يدرس هذا العلم، فدللت في ذلك الوقت على شيخنا الشيخ محمد نجيب المطيعي رحمه الله، وكان يعقد هذه المجالس في بيت طلبة ماليزيا، وكان يدرس كتباً أربعة: كان يشرح صحيح البخاري، والمجموع للنووي، وإحياء علوم الدين للغزالي، والأشباه والنظائر للسيوطي.
فوجدت في هذه المجالس ضالتي المفقودة، ودرست عليه نبذاً كثيرة من علم الحديث، ولكن قلبي متعلق بكتب الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله.(38/3)
الحويني ورحلته إلى الشيخ الألباني
حتى منَّ الله تبارك وتعالى بأول رحلة إليه، وكانت في شهر محرم (1407) من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كنت التقيت قبلها بصهره وزوج ابنته الأخ نظام، فقلت له: إن كان هناك إمكانية للدراسة عند الشيخ وملازمته، فذكر لي أن المسألة في غاية الصعوبة، وأن ملازمة الشيخ مسألة صعبة، ولكن تعال وجرب، فكتبت للشيخ رسالة قلت له فيها كلاماً معناه: (إنني علمت أنكم تطردون الطلبة عن داركم، وأنا عندي أكثر من مائتي سؤال في علل الأحاديث ومعانيها، ولست أقنع إلا بجوابكم دون غيركم) أو كلاماً نحو هذا المعنى، وسلمها الأخ للشيخ، وقرأها عليه، وكان مما تألم منه الشيخ في هذه الرسالة كلمة (الطرد).
وكنت قبلها قد صنفت ثلاثة كتب، وكانت جميعها قد وصلت إلى الشيخ الألباني قبل أن أذهب إليه، فذهبت في الثاني من محرم، وكان ذلك في سنة (1407هـ)، ونزلت في عمَّان، وكلمت الشيخ بالهاتف، وقد هيأت نفسي على الرضا بالطرد إذا فعل الشيخ ذلك، فباغتني بأن بدأ، فألقى عليَّ السلام، فرددت عليه السلام بمثل قوله، فقال لي: لم تحسن الرد.
فقلت: لم يا شيخنا؟! قال: اجعل هذا بحثاً بيني وبينك إذا التقينا غداً.
وظللت طوال الليل أتأمل لم أسأت الرد، فهو قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فقلت: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
ولم أكتحل بنوم حتى أذن المؤذن للفجر، وقررت في نفسي أن الذي يرد السلام يزيد شيئاً على الملقي، يعني: أن أزيد بعد: (وبركاته) لفظ: (ورضوانه) (ومغفرته) ولم أكن وقفت على بحث الشيخ في سلسلة الأحاديث الصحيحة (الجزء الثالث) لماذا؟ لأنه لم يصلنا في ذلك الوقت.
وراح عليَّ لقاء الفجر مع الشيخ بسبب أنني نمت قبل الفجر بقليل ولم أستيقظ إلا بعد الفجر، فأخذت منه موعداً آخر بعد صلاة العشاء في يوم الثالث من محرم، فبعد صلاة العشاء التقيت بالشيخ، وإن لساني ليعجز عن وصف شعوري عندما رأيته لأول مرة.
وقد كتبت ترجمة للشيخ الألباني سميتها (الثمر الداني في الذب عن الألباني) وقد نشرت قبل سنتين وحتى هذه اللحظة أشعر أنني عاجز عن وصف الشيخ مع أنني أمهلت نفسي كثيراً حتى أكتب ما شعرت به أول مرة رأيت الشيخ فيها، وكأني رأيت رجلاً من القرون الثلاثة الأول، عليه نضارة أهل الحديث، والشيخ ناصر كان بهي الوجه أبيضه، مشرباً بحمرة، ربعة من الرجال، خفيف اللحية أبيضها -لحيته بيضاء- عيناه زرقاوان، وزرقتهما رائقة كأنها بحر، ثم هو قوي البنية، فلما صافحني صافحني بقوة، وظل قوياً إلى آخر حياته رحمه الله، وكان شاباً فتياً بهمته، وكان يقود السيارة بسرعة عالية، ويحكي لي بعض الإخوة الذين كانوا يذهبون معه إلى العمرة بسياراتهم، فكانوا يتبادلون القيادة، فكان الشيخ أكثرهم قيادة، وكان التعب والملل يدركهم، وأما الشيخ فكان يقود سبع ساعات متواصلة لا يمل ولا يكل، مع ما كان عليه من الشيخوخة وكبر سنه.
وفي الحقيقة أني لما رأيته تذكرت حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأ سمع منا مقالة فوعاها، فأداها كما سمعها).
قال ابن حبان رحمه الله بعد رواية هذا الحديث: (وإني لأرجو أن تدرك بركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم كل من نقل عنه حديثاً، فترى تلك النضرة في وجهه) ولقد كانت نضرة الحديث على وجه الشيخ باهرة ظاهرة.
فلما اقتربت منه -اقتربت منه على حذر؛ لأن له هيبة شديدة- ففوجئت بأنه يعانقني وكان لقاءً حاراً، ولم أتوقع أن يتلقى الشيخ تلميذاً صغيراً بمثل هذه الحفاوة، فتكلمت معه ساعتين، وكانت هذه هي أول جلسة مع الشيخ الألباني رحمه الله، وبعد هذه الجلسة تنحيت به جانباً وأخبرته أنني لم أخرج من بلدي إلا للقائه والاستفادة من علمه، فلو أذن لي أن أخدمه، وأكون معه سنداً له أقضي له حاجياته، فاعتذر بعدم وجود الوقت الكافي، فقلت له: إذاً أعطني قليلاً من الوقت أسألك عن الأسئلة التي جئت من أجلها، فاعتذر أيضاً؛ لضيق وقته.
فقلت له: أعطني شيئاً من وقتك ولو كان قليلاً، فاعتذر أيضاً؛ فأحسست برغبة حارة في البكاء، وأحسست أن رحلتي ضاعت، وأنا لم أخرج من بلدي إلا بأعجوبة، وكان حلماً لا أستطيع تحقيقه، فخروجي إلى الأردن كان معجزة، فقد كابدت فيه الأهوال وذقت المر حتى وصلت إلى الشيخ الألباني.
فقلت له -وقد خنقتني العبرة-: يا شيخنا! والله ما خرجت إلا لطلب العلم، فإن كنت أخلصت نيتي؛ فإن الله عز وجل سيفتح لي، وإن كانت الأخرى فحسبي عقاباً عاجلاً أن أرجع إلى بلدي بخفي حنين، وسأدعو الله عز وجل.
فافترقنا ولم أذق طعم النوم في تلك الليلة، وكاد رأسي أن ينفجر من الصداع.
فلما صليت الفجر معه في اليوم التالي قابلني، فصافحته وقبلت يده، فقال لي مبادراً: لعل الله استجاب دعاءك.
ففرحت فرحاً عظيماً بأن الشيخ رحمه الله قد سمح لي بالجلوس، وأنه سيأذن لي بالاستفادة منه وسؤاله.(38/4)
الألباني ورحلته إلى بلاد الشام
فكان من جملة فوائد الرحلة أنني سألته عن ترجمة لحياته، ولا أعلم أحداً سبقني إلى هذه الترجمة إلا الأخ محمد بن إبراهيم الشيباني، وهو أحد إخواننا من الكويت، وقد ألف في ذلك كتاباً وهو (حياة الألباني) ويقع في مجلدين، وهذا هو الذي سبقني في سؤال الشيخ الألباني ولكن لا أعلم أحداً سبقني في تسجيل حياة الشيخ رحمه الله بتوضيح، وهذه الترجمة موجودة في خمسة أشرطة.
فحياته رحمه الله -كما سردها لي- أنه ولد عام (1914م) أي: أن الشيخ الألباني رحمه الله توفي عن خمس وثمانين سنة.
قال: وكنا في ألبانيا، وكان الحاكم أحمد سوغو بدأ يفرض على الألبانيين (القبعة) بدلاً من العمامة، وكان يضايق النساء في لباسهن، وكان والد الشيخ الألباني رحمه الله شيخ الحنفية في بلده، وكان هو المفتي الذي يرجع إليه، فلما رأى والده هذا النذير -نذير الشؤم- بفرض (القبعة) بدلاً من العمامة، وهذا هو شأن العلماء النابهين، فالمسألة ليست مجرد عمامة أو قبعة كما يتصور بعض الناس الذين يهمشون المسائل الخطيرة، ويقولون: المهم القلب لا، فالعمامة مظهر إسلامي والدين الإسلامي أصيل، بينما القبعة من أزياء أعدائنا، والقبعة إنما توضع على الرأس، وأعلى ما في المرء رأسه، فأنت حين تضع شيئاً على رأسك فكأنما وضعت عنواناً، وأعلى ما فيك هو الرأس، فلا يرى الناس إلا (القبعة).
وهذه الغفلة قد سرت إلى بلادنا، وحتى في بعض الناس الذين يوصفون بالالتزام، فتجد ابنه يلبس (فنيلة) -مثلاً- عليها العلم الإمريكي، ويوضع العلم على صدر أبنائنا، وأنت تعلم أنه لا يوضع على الصدر إلا الوسام، فعندما أضع علم عدوي اللدود على صدر ابني، فكأنني أعطيته وساماً، أو يكون على ظهره، والولد يتحرك ليلاً ونهاراً وهو يرفع العلم الأمريكي مجاناً، ويصير لون العلم لوناً مستأنساً بالنسبة له، وليس غريباً، وهذا له تأثير خطير في مسألة الانتماء.
فالمسألة ليست مسألة قماش يوضع على الرأس وإنما هو رمز تحمله، وأنت ترى كل دولة لها علم يرفرف باسمها، تكون حريصة على أن يظل العلم مرفوعاً، وأكبر جريمة أن شخصاً يمسك هذا العلم وينظف به الحذاء؛ لأن هذا يدل على أنه ليست له قيمة عنده.
فلما رأى والد الشيخ الألباني هذا قرر أن يرحل إلى بلاد الشام لما كان قد قرأه من الأحاديث في فضائل الشام عامة وفي فضائل دمشق خاصة، فرحل إلى دمشق واستوطنها، وكان عمر الشيخ الألباني آنذاك تسع سنوات، ولم يكن يعرف عن العربية شيئاً، فبدأ تعليمه في جمعية اسمها (جمعية الابتعاث الخيري) وكان كما يقول: كأن الله عز وجل فطرني على محبة اللغة العربية، فتفوقت على أقراني من العرب السوريين من أول سنة، وقال: وأخذت الابتدائية في سنتين، وكان المدرس يعير الطلبة السوريين بي؛ لأنني رجل أعجمي، ومع ذلك أتقنت العربية خلال سنتين.
ولم يواصل الشيخ رحمه الله تعليمه فخرج من المدرسة، وكان أبوه يمارس مهنة تصليح الساعات، فلما خرج من المدرسة بدأ يعمل مع خال له، وكان نجاراً يصنع البيوت التي سقفها من الخشب على نحو ما هو موجود في باريس.
قال: فجئت ذات يوم مبكراً.
فقال: ما جاء بك؟ فقلت: لأعمل، فقال: هذه المهنة لا تصلح لك، تعال معي، وبدأ الشيخ ناصر الدين رحمه الله يعمل مع والده في تصليح الساعات، حتى برع فيها، وكان الشيخ رحمه الله يقول: إن مهنة تصليح الساعات علمتني الدقة.
وهو حقاً كان دقيقاً جداً، فعندما ذهبت إليه في بيته إلى (الفيلا) التي يسكن فيها في مازدا الجنوبية في الأردن، ودخلت الحديقة لمست أثر مهنته عليه.(38/5)
شدة الشيخ الألباني على المخالفين للدليل
فالشيخ ناصر مشهور عند الناس أنه صارم، نعم كان الشيخ صارماًً؛ لأن أكثر الذين خالطوه ما كانوا يتأدبون مع الدليل، ولا أقول: يتأدبون معه؛ فالشيخ لم يكن يهتم بذلك، وقد رأيت أناساً في مجلس الشيخ الألباني وأحدهم نائم على ظهره وهو واضع إحدى رجليه على الأخرى أمام الشيخ الألباني! وآخر قدمه موجهة إلى وجه الشيخ الألباني.
وأما أن يعترض أحدهم على الشيخ بعد ظهور الدليل، ويجادل بالباطل، فكان يصير قاسياً جداً.
بعض إخواننا أراد أن يناظره في مسألة في (كتاب المحلى) فجمع بحثاً وذهب إلى الشيخ ناصر وظن أنه سيقيم عليه الحجة، وقد سمعت الأشرطة، ولما سمعتها تعجبت من طريقة الشيخ الألباني في إقامة الدليل وإقامة الحجة، ولقد سأله عن أشياء في بحثه لم يستطع أن يرد عليها، وجعل يناظره فيها، وكانت المناظرة حامية جداً، فعندما أحرج الأخ قال وهو يسأل الشيخ: يا شيخنا! قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لا يرحم صغيرنا)، فكانت لفتة طيبة، فضحك الشيخ ناصر ضحكة تشعر أنها من القلب، قال له: هات ما عندك.(38/6)
رقة الشيخ الألباني في آخر حياته ورؤيا رؤيت له
فالشيخ الألباني كان صارماً، ولكن في المناظرات مع المخالفين، ولكنه كان رقيقاً جداً في آخر حياته، وغلب عليه الزهد، ورق قلبه كثيراً، وكان سريع الدمعة في آخر حياته، وقد حدثني إخواني كثيراً عنه، وسمعته في أشرطة مع أخت جزائرية اتصلت به، وقالت: يا شيخ! أنا رأيت في المنام أنا وأخت لي -وكنا في شرفة- أن النبي صلى الله عليه وسلم يمشي في الطريق، وبعد ذلك بقليل رأيت شيخاً يمشي خلفه، فسألتني صاحبتي: من هذا؟ قلت: الشيخ الألباني، فرأيتك تمشي خلف النبي صلى الله عليه وسلم على نفس الطريق.
فالشيخ لم يتمالك نفسه من البكاء، وبكى وانتحب بصوت عال، وفض المجلس الذي كان معقوداً آنذاك لطلبة العلم في بيته أو في بيت أحد إخوته، فكان سريع الدمعة غزير العبرة في آخر حياته.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يرحم الشيخ الكبير، وأن يجزيه عما فعل من تنقية لسنة النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الضعيفة والموضوعة والمنكرة، ومن تعظيم الدليل، ومن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، أن يجزيه عنا خير الجزاء، وأن يخلف على المسلمين في مصابهم الجلل، لاسيما وقد فقدنا ركناً رشيداً أيضاً بوفاة شيخ جليل قبل أربعة أشهر وهو سماحة شيخنا الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله، فمات أكبر علمين من علماء المسلمين في هذا العصر، فنسأل الله تبارك وتعالى أن يرحم من مضى، وأن يبارك فيمن بقي.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.(38/7)
الشيخ الألباني والتمذهب
وكان من الأسئلة المهمة التي سألتها الشيخ في هذا اليوم سألته عن التمذهب؛ لأنه شاع بين الناس أن الشيخ ناصر الدين الألباني يحارب المذاهب الأربعة، ويحارب التقليد، وكانت -في الحقيقة- شائعة قوية جداً وصلتنا إلى مصر، وكنت أريد أن أعرف رأي الشيخ فيها، فلما تكلم الشيخ في هذه المسألة تكلم بكلام هو الذي عليه الأئمة الأربعة، فالشيخ ناصر لا يقول للمسلمين: لا تتمذهبوا وإنما يقول: لا تتخذوا المذهب ديناً، بمعنى: أن تجمد على المذهب، وإذا علمت الحق في غيره تقول: لا، أنا لا أخالف المذهب، فهذا هو الذي كان الشيخ ناصر ينكره، وقد أنكره العلماء المتقدمون، وتبرءوا من مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم أحياءً وأمواتاً، وقالوا قولتهم المشهورة: (إذا صح الحديث فهو مذهبي).
فالشيخ ناصر كان يقول: إذا كنت أنا شافعي المذهب، وظهر الحق في المسألة عند المالكية أو الحنابلة أو الحنفية، فليس معنى ذلك على الإطلاق أن أجمد على مذهبي وأقول: أنا شافعي ولا أخالف المذهب، وأترك الحق الذي قامت عليه الدلائل وأخالفه.
فالشيخ ناصر كان يحارب هذا أشد المحاربة، كما كان الأئمة المتقدمون أيضاً يحاربون هذا أشد المحاربة.
قال رجل للشافعي رحمه الله: (إذا جاءك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالف قولاً لبعض العلماء الذين من قبلك، أتأخذ بالحديث؟ قال: فصاح الشافعي وعلا صوته وغضب وقال: تراني في كنيسة؟! تراني في بيعة؟! ترى على وسطي زناراً؟! إذا قلت بقول على خلاف الحديث فاعلم أن عقلي قد ذهب).
فالأئمة كلهم كانوا يحذرون من مخالفة النبي عليه الصلاة والسلام، فجاء الشيخ الألباني وأخذ هذا ومضى على نفس المنوال، ولكن الحياة العلمية كانت جامدة، وقد كان الناس ركنوا إلى التقليد، وأصحاب المذاهب كلهم لا يتركون المذهب، حتى لو كان على خلاف الحديث الصحيح، بل كانوا يأخذون بفتاوى بعض المتأخرين التي لا يجوز أن تكتب في كتب الفقه أبداً، فمثلاً هناك كتاب من أهم كتب الأحناف المتأخرة ذكر فيه الإمامة في الصلاة ومن أحق الناس بها، ووصل به الحال أن يقول بعدما يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فأكبرهم سناً، فأقدمهم هجرة، فأجملهم زوجة، فأكبرهم رأساً، فأصغرهم عضواً! وهذا مكتوب في كتب الفقه، فهل هذا الكلام يكتب في كتب الفقه ويكون عمدة؟! (أجملهم زوجة) ولا يتأتى هذا إلا إذا كشفنا عن وجوه النساء وقلنا: أجمل واحدة هي امرأة الشيخ الفلاني، إذاً فهو الذي يؤم الناس، ولماذا أجملهم زوجة؟ قالوا: هذا يدل على أنه عفيف.
ولا ينظر إلى النساء لأنها تكفيه، فهل يعقل هذا الكلام؟! وهل هذه الآراء تسمى فقهاً؟ وهناك كثير من الآراء التي لا تصل في الفساد إلى هذا، ولكنها آراء تعتمد على أحاديث ضعيفة موضوعة ومنكرة باتفاق علماء الحديث، ومع ذلك جاء الفقهاء الذين لا يعلمون الصحيح من الضعيف، فأسسوا عليها أقوالاً وأحكاماً فقهية، ولقد وقف الشيخ ضد هؤلاء وقفة قوية صامدة، ولذلك فإن أعداءه كثيرون، لماذا؟ لأنه فل جموعهم بالحجة القوية البالغة.
فالشيخ ناصر لا يقول: بأنه لا يجوز لأحد أن يتمذهب بأحد المذاهب الأربعة، بل يقول: تمذهب، ولا بأس أن تتخذ المذهب وسيلة لدراسة الفقه، ولكن إذا علمت أن الحق في مذهب آخر فإنه يجب عليك أن تتبع الحق مهما كان.
ولقد سألته: أي المذاهب تختار -أي: لو أن هناك طالب علم أراد أن يدرس الفقه ويتخذ المذهب سُلماً لدراسة الفقه، مع الشرط الذي ذكرناه، وهو أنه إذا علم الحق في مذهب آخر فيجب عليه أن يتبع الحق حيث كان.
قلت له: فأي المذاهب تفضل لطالب العلم؟ قال: المذهب الشافعي، هو أثرى المذاهب جميعاً، ثم المذهب الحنبلي، ثم المذهب المالكي، ثم المذهب الحنفي، وهذا مع رعاية الدليل والنظر إليه.(38/8)
تواضع الشيخ الألباني وبساطته
فلما كان في اليوم الثاني لم يأت الشيخ الألباني رحمه الله لصلاة الفجر، وكان يأتي من على بعد (خمسة عشر كيلو) ليصلي في هذا المسجد الذي كان يؤخر الصلاة نصف ساعة، وكان الشيخ الألباني يرى أن الصلاة تصلى قبل الوقت بحوالي نصف ساعة في بقية المساجد، فكان لأجل هذا يأتي من سكنه إلى هذا المسجد ليصلي فيه.
فالشيخ لم يأت لصلاة الفجر في هذا اليوم، فخشيت على ضياع هذا اليوم بلا استفادة، فقررت أن أذهب إليه، فاستشرت إخواني فأجمعوا ألا أذهب، وقالوا: الشيخ لا يفتح الباب لأحد ليس له موعد سابق.
وأنت بعد المكانة التي وصلت إليها لا يليق بك أن يقول لك: ارجع، فلا عليك أن يضيع عليك اليوم، ولكن لا تحرج نفسك، وكذلك رفيقي في هذه الرحلة، استشرته قلت: ما رأيك؟ قال: أنا رأيي أن تذهب، فقوى من عزمي أمران: الأمر الأول: أن صاحبي -الذي كان معي- أشار عليّ بالذهاب.
الأمر الثاني: أنني تذكرت وقتها قصة وقعت لـ ابن حبان مع شيخه ابن خزيمة، وذكرها ياقوت الحموي في مادة (بست) -المدينة التي كان منها ابن حبان البستي - فلما ذكر مدينة بست، وذكر من فيها من العلماء ذكر ابن حبان وذكر له هذه الواقعة مع شيخه كليب، أما ابن حبان رحمه الله كان بعثه لسفر لهما، وكان ابن حبان يكثر من سؤال ابن خزيمة ويخزيه، فسأله سؤالاً: فقال له ابن خزيمة: يا بارد! تنح عني -أي: اتركني- قال: فكتبها ابن حبان (يا بارد تنح عني)، فقالوا له: أي فائدة في هذه العبارة؟ قال: لا أدع لفظة تخرج من فم الشيخ إلا كتبتها.
فأنا قلت: ومالي لا أفعل مثلما فعل ابن حبان، وحتى لو قال لي: ارجع كما قال ابن خزيمة لـ ابن حبان لعددت هذه من فوائد هذا اليوم، وانطلقنا، وكانت المفاجأة أنه الذي فتح الباب واستقبلنا هاشاً باشاً، وجلسنا في حديقة منزله.
وأنا أوصي إخواننا المتصدرين للدعوة أن يتبسطوا في معاملة الغرباء، فأنت لا تعلم ظروف هذا الغريب، ولا تدري كيف وصل إليك.
فأجلسنا الشيخ وأصر على أن نفطر معه، فكان يأتي بالطعام، فكنت أريد أن أقوم بمساعدته، فكان يأبى عليَّ ويقول: اجلس.
فأقول: يا شيخ! هذا من سوء الأدب أنني أجلس وأنت الذي تخدمني.
فقال لي عبارة حفرت في ذهني قال: (الامتثال هو الأدب، بل هو خير من الأدب) الامتثال: أي أن تمتثل أمره، أفضل من سلوكك الذي تظنه أدباً؛ لأن الطاعة والامتثال هنا هي الأدب بعينه.
ومرة شخص من الذين يقولون: أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله في التشهد والأذان جرى بيني وبينه مناقشة، فقلت: إن النبي عليه الصلاة والسلام كان يعلم الصحابة التشهد كما يعلمهم السورة من القرآن، وكل صيغ التشهد ليس فيها (سيدنا) أبداً، وهو سيدنا بلا شك، ولكن علينا أن نقف عند حدود ما علمنا، فقال: لا، الرسول كان لا يقول: سيدنا؛ لأنه كان متواضعاً.
فقلت له: حسناً الصحابة بعدما مات النبي صلى الله عليه وسلم هل ظلوا على سوء أدبهم معه صلى الله عليه وسلم؟ ولماذا لم يقولوا: أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله؟! فأحد الذين معه قال: يا أخي! يقول الرسول: (لا تسيدوني في الصلاة)، وهذا حديث لا أصل له، وتصحيح الكلمة: (لا تسودوني) من السؤدد، فانظر إلى سيء الأدب، الذي ليس عنده رائحة الأدب بماذا يرد، يقول: هو قال: لا تسيدوني وأنا سأسيده.
إذاً هذا سيئ الأدب؛ لأنه إذا سلمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسيدوني في الصلاة) فلا يجوز لأحد أن يخالف أمره؛ لأنه إذا خالف أمره لم يدع له اعتباراً، فمسألة الوقوف عند الأمر والنهي هي التي تبين أن الإنسان يجعل للآمر الناهي اعتباراً عنده.
فكان يقول: (الامتثال هو الأدب، بل هو خير من الأدب) وكان هذا اليوم هو أفضل أيام الرحلة على الإطلاق، ففيه تلطف الشيخ رحمه الله، ولقد كنا متعودين من الشيخ الألباني الصرامة العلمية في الكلام، ولا تحس أن فيه لطفاً ووداً، والأشرطة التي سجلتها في ترجمة الشيخ ناصر فيها أن الشيخ ضحك وتبسم، حتى إن الشيخ محمد إسماعيل المقدم حفظه الله لما سمع الأشرطة في أول مرة قال لي: كنت أتمنى أن تحذف ضحكات الشيخ الألباني.
فقلت له: لماذا؟ قال: لأننا ما تعودنا هذا من الشيخ، ونحن متعودون أن نسمع كلاماً علمياً، وما تعودنا على مسألة الرقة ومسألة الضحك.(38/9)
علاقة الشيخ الألباني مع طلابه الغرباء
وقد كنت أصحبه في زياراته فكان يقدمني لعلمه بأنني غريب، وكان يواسيني، ومرة دعاه جماعة من الأثرياء في منطقة جبل عمان، وهذه المنطقة يسكن فيها الناس الأثرياء، فقلت له: يا شيخنا! هل يمكن أن أصحبك؟ قال: نعم، انتظرني تحت الجسر الفلاني في الساعة الفلانية، وكان دقيقاً في مواعيده، فجاء وكان معه زوجته أم الفضل في الكرسي الخلفي، فجلست بجانبه وشعرت بالحرج أنني أركب معه وامرأته في السيارة، فلاحظ ذلك فجعل يسري ذلك عني ويسألني عن حياتي الشخصية، مثلاً: (هل تزوجت؟ هل عندك سيارة؟ موديل كم؟ كيف تعلمت القيادة؟ وفي كم أيام تعلمتها؟ كيف تأكل؟ وكيف تشرب؟ ومن أين تكسب قوتك؟) لا تتصور كيف كان وقع هذا الكلام وما له من الأثر عليَّ! وأنت إذا شاء الله سبحانه وتعالى وجعل لك في القلوب مكاناً، وجعل لك في الأفئدة وداً فأعظم ما ترقق به هذا الود أن تهتم بالحياة الشخصية لمريدك، فلا تجعل العلاقة بينك وبينه علاقة محاضرة أو تدريس كتاب لا، ليس هذا هو الذي يربطك به، والنبي صلى الله عليه وسلم كان كثيراً ما يهتم بمثل هذا، ولعلكم تعلمون الحوار الذي دار بينه وبين جابر بن عبد الله الأنصاري لما رجع هو وجابر من غزوة من الغزوات بعدما أعيا جمل جابر، فجعل يقول له: (ما أعجلك يا جابر! قلت: يا رسول الله! أنا حديث عهد بعرس.
قال: بكراً تزوجت أم ثيباً؟ قال: قلت: بل ثيباً، قال: فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك وتضاحكها وتضاحكك! فقلت: يا رسول الله! إن أبي ترك لي تسع نسوة حمق، فكرهت أن آتيهن بحمقاء مثلهن، فقلت: هذه أجمع لأمري وأرشد.
قال: أصبت.
قال: ما ترك عبد الله من الدين؟ قلت: يا رسول الله! ترك ألف ألف وسبعمائة ألف، -على والده عبد الله بن حرام (مليون وسبعمائة ألف درهم) - فسأله: كيف سيرد هذا الدين؟ قال: إن عندنا حائطاً -بستاناً- فيه نخل.
فقال صلى الله عليه وسلم: إذا جاء جذاذ نخلكم فأتني -إذا طلع الثمر فادعني- ثم قال له: بعني جملك يا جابر.
فقال: هو لك يا رسول الله.
قال: لا، بعنيه.
قال: هو لك.
قال: بعنيه.
فباعه بثنتي عشرة أوقية، واشترط ظهره إلى المدينة -أي: بشرط أن يركبه مجاناً إلى المدينة- فلما وصلوا إلى المدينة ووصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته جاء جابر بالجمل إلى النبي، فقال له: خذ الجمل والدراهم) إنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يسهم في قضاء دين عبد الله بن حرام والد جابر بن عبد الله.
فكان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يفعل ذلك، فمثلاً: قال يوماً في مجلس فيه عمر بن الخطاب: (دخلت الجنة البارحة -أي: في المنام- فرأيت قصراً، ورأيت على القصر جارية تتوضأ -في بعض الروايات: جارية وضيئة تتوضأ- فقلت: لمن هذا القصر؟ فقيل: لـ عمر، قلت: ومن هذه؟ قيل: جارية لـ عمر.
قال: فلما ذكرت غيرتك وليت مدبراً.
فبكى عمر وقال: يا رسول الله! أعليك أغار؟!) فمثلك في وفائه لأصحابه حتى في المنام لا يغار منك، فقد كان رسول الله وفياً لأصحابه حتى في المنام، قال: (فلما ذكرت غيرتك وليت مدبراً).
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: (بينما رجل يسوق بقرة إذ ركب عليها، فالتفتت إليه البقرة وقالت: ما لهذا خلقنا، إنما خلقنا للحرث.
فقال الناس: سبحان الله بقرة تتكلم! فقال صلى الله عليه وسلم: فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر، وليسا ثم -أي: لم يكونا موجودين في المجلس- قال: وبينما راع في غنمه إذ عدا الذئب على غنمه فأخذ شاة، فطلبه الراعي حتى أخذها منه، فأقعى الذئب على ذنبه وقال للراعي: أما تتقي الله؟! تأخذ مني رزقاً ساقه الله إليَّ؟! فقال الراعي: ما رأيت كاليوم عجباً: ذئب يتكلم! وقال الصحابة: سبحان الله ذئب يتكلم! قال: فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر).
فهذه المحاورة التي جرت بيني وبين الشيخ كنت أحس فيها بالدهشة، فالأصل أنك إذا رأيت الرجل مندهشاً مستغرباً أن تسكن من روعه.
وقال لي: كم عندك من الولد؟ وكانت ابنتي الأولى -التي رزقت بها- رزقت بها قبل أن أسافر بيومين، فقلت له: رزقت ابنة.
قال: ما اسمها؟ قلت: سلمى.
قال: سلمها الله.
فاستبشرت بيني وبين نفسي لعل دعوة الشيخ تدركها، وظل يسألني في ذلك حتى وصلنا إلى الباب، فقال لي: أنا أعلم حرصك على السؤال، ولكن أنا وأنت ضيوف، وليس من الأدب أن تنتزع الوقت لنفسك من صاحب البيت، ولكن إذا انتهى من الأسئلة فلا بأس؛ فهو يعلم أنني جئت من بلدي وأنا حريص على طلب العلم، فيرشدني ويدلني كيف أستثمر الوقت، وفعلاً لم يسأل صاحب البيت غير سؤال واحد؛ لأن صاحب البيت كان يريد أن يحظى ببركة دخول الشيخ عنده وزيارة الشيخ لبيته، وكان هذا اليوم من أظرف الأيام التي قضيتها.(38/10)
الشيخ الألباني في المكتبة الظاهرية
قال: وخرجت من البيت وليس معي درهم ولا دينار، ولا أدري إلى أين أذهب، حتى استأجرت من بعض إخواننا، وكان الشيخ الألباني رحمه الله له أيضاً دروس يعقدها في دمشق، وكان يشرح في تلك الأيام كتاب (زاد المعاد) لـ ابن القيم، وكان من ثمرة تدريسه هذا الكتاب الذي وضعه على زاد المعاد باسم (التعليقات الجياد على زاد المعاد) خرج فيه أحاديثه، ونقحه، واعترض عليه في بعض المسائل وأدلى بحجته، وما لم يظهر دليله أظهر دليله، ولكن الشيخ -كما أخبرني- لم يتم هذا الكتاب ولم يطبعه حتى الآن.
ودرَّس أيضاً كتاب الباعث الحثيث في شرح اختصار علوم الحديث للشيخ أحمد شاكر رحمه الله.
قال: وتزوجت ولم يساعدني أبي بشيء إلا بمائتي (ليرة) سورية، قال: ولكني كنت دقيقاً في مهنتي فبسط الله علي الرزق، فكثرت الزبائن وتحسن الحال.
ثم بدأ الشيخ يرتاد المكتبة الظاهرية، والمكتبة الظاهرية تساوي دار الكتب المصرية، فهي مكتبة عامرة بنفائس المخطوطات النادرة، فكان يذهب إلى هذه المكتبة ويمضي يومه كاملاً إلى وقت متأخر من الليل، حتى إن الموظفين في المكتبة إذا أرادوا كتاباً ولم يعلموا بمكانه كانوا يسألون الشيخ الألباني عنه وهم الموظفون المختصون بالمكتبة! حتى وصل به الحال إلى أن أخذ مزية لا أعلم أحداً في الدنيا أخذها غير الشيخ الألباني، وهي أن مدير المكتبة الظاهرية أعطاه مفتاح المكتبة، مع أنها مؤسسة حكومية، وأنت تعلم أن المخطوطات ثمينة، فالمخطوطة الواحدة تباع بمليون (جنيه) وهذه المخطوطات هي تراث أمتنا الذي جاء المستعمرون وسرقوه ومضوا، والحملة الفرنسية لما أتت شغلونا بالكلام الفارغ، يقولون: اللغة الهيروغليفية! ماذا فعلت لنا هذه اللغة؟ عرفنا ماذا كان يأكل القدماء، وماذا كانوا يشربون، وكيف كانوا ينامون فما قيمة هذا الكلام؟ ولكن المستعمرين لما رحلوا إلى فرنسا سرقوا آلاف المخطوطات معهم وذهبوا لينصبوا المكتبات في باريس، ويوجد في العالم مئات المكتبات التي تضم آلاف المخطوطات الإسلامية.
فمدير المكتبة الظاهرية أعطى الشيخ ناصر الدين الألباني المفتاح، وأعطاه غرفة خاصة في المكتبة، ولم يشغل نفسه كثيراً بالبحث عن القوت.
فيا ليت طلاب العلم يتأسون به في ذلك، فالشيخ ناصر الدين الألباني لم يصل إلى هذه الرتبة بسهولة، إنما وصل إليها بعد جهد جهيد وعناء شديد وعزم لا يلين.(38/11)
الشيخ الألباني وتجرده للحق وبعض ما لقي من الإيذاء
وكان هذا العزم واضحاً حتى في تصميمه على آرائه الشكلية التي خالف فيها الناس، فعندما كان يقتنع بمسألة فقهية فلا يتركها أبداً إلا إذا ظهر له دليل آخر يرجعه عنها، حتى ولو أوذي بسببها، وهذا فيه دلالة على صلابة الشيخ رحمه الله في الحق، وحسبك أنه مع نباهته ومع شدة تأثيره في الناس عاش غريباً إلى أن مات، فالشيخ الألباني قبل أربع سنوات كاد أن يطرد من الأردن بسبب فتوى له حرفتها بعض الجماعات الإسلامية ممن يسيطرون على مجلس الأمة الأردني، وزعموا أن الشيخ الألباني يوجب على الفلسطينيين الهجرة من فلسطين وتركها لليهود.
وحتى أن بعض إخواني سمع هذه الفتوى في إذاعة إسرائيل، فالمذيع في إذاعة إسرائيل ذكر الشيخ الألباني وترجم له ترجمة لطيفة وظريفة وقال: إنه أكبر محدث في العالم الإسلامي، وقد أفتى بوجوب هجرة الفلسطينيين من فلسطين.
مع أن الشيخ الألباني ما أفتى بذلك، وإنما الفتوى خرجت على مقتضى السؤال الذي وجه إليه، وأنت تعلم أن العالم أسير السؤال، والجواب إنما يخرج على مقتضى السؤال.
السؤال الذي سمعته بأذني من السائل أنه قال للشيخ: إننا نعاني من الاضطهاد في الأرض المحتلة، ونخاف على أنفسنا، حتى لا يستطيع الواحد منا أن يقيم الصلاة في المسجد خوفاً على أهله؟ فقال له الشيخ: إذا لم تستطع أن تقيم الصلاة فيجب عليك أن تهاجر، فإن هذا النوع من الهجرة أوجبه جميع علماء المسلمين، وهذا النوع لم ينقطع: الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، ومن بلاد المعصية إلى بلاد الطاعة، ومن بلاد البدعة إلى بلاد السنة، فهذه الهجرة الواجبة ينبغي على المسلم أن يسعى إليها ولا تسقط عنه إلا بعجزه عن الهجرة.
فالجواب واضح، قال: إذا عجزتم عن عبادة الله فاخرجوا من دياركم وارجعوا إليها فاتحين.
وكاد الشيخ رحمه الله أن يطرد بسبب هذه الفتوى، لولا تدخل بعض كبار تلاميذه، مثل الشيخ: أبي مالك محمد بن إبراهيم الشقرة، وهو مدير المسجد الأقصى في الأردن، وخطيب مسجد صلاح الدين ومن أفضل تلاميذ الشيخ ومن أشدهم وفاءً له، وكان هذا الشيخ له حظوة عند الملك حسين، ودخل إلى الملك حسين أكثر من مرة، بل ما دخل الشيخ الألباني الأردن إلا بضمان الشيخ أبي مالك؛ لأنهم رفضوا أيضاً استقباله في الأردن، وظل الشيخ ثلاثة أشهر على الحدود لا يدري إلى أي بلد يدخل؛ لأن كل بلد ترفض دخوله.
ولما عقد مؤتمر السنة والسيرة النبوية عام (1400هـ) هنا في مصر دعي إليه كل الناس إلا الشيخ الألباني، مع أن أغلب هؤلاء المؤتمرين الذين حضررا المؤتمر ليس لهم أي جهد يشكر في خدمة هذه الأمة فيما يتعلق بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف لا يدعى مثل هذا الشيخ العظيم؟ وظل هذا التجاهل الرسمي للشيخ الألباني حتى العام الماضي، فأعطوه جائزة الملك عن خدمة الحديث، وهو الذي شرف الجائزة، والجائزة لم تشرفه يوماً من الأيام، ولقد ظل الشيخ يخدم السنة أكثر من ستين عاماً وهو إمام للسنة وإمام للعقيدة وإمام في الفقه وفي تعظيم النبي، وظل رد الفعل الرسمي هذا ضعيفاً جداً، ولكن الله عز وجل جعل له من المحبة في قلوب المسلمين ما ظهر مقتضاه حين مات، فيوم موته كانت فجيعة، وكثير من الناس لم يصدق أن الشيخ الألباني رحمة الله عليه مات، ولقد وصلت كتبه إلى آخر مكان في الدنيا، وجعل الله تبارك وتعالى لها القبول في الأرض، ورزقه الله عز وجل حسن التصنيف، بحيث أنه لو عرض مسألة ما، فإنك تقتنع بها ولو كان الشيخ مخطئاً فيها، وإنك إذا قرأت كلامه وقع في قلبك أنه الحق، وهذا لم يبدع فيه إلا قليل من أهل العلم ممن رزق حسن العبارة في التصنيف.
فالشيخ رحمه الله ظل غريباً، ولم يتحرك بعز الدولة -أي دولة- إلى أن مات، وكان رأيه في حرب الخليج رأياً واضحاً، وقد أوذي بسببه أيضاً، ولم يتراجع فيه لأنه يعتقد أنه الحق في المسألة.
والشيخ الألباني رحمه الله كان إذا اعتقد مسألة أنها حق لا يفارقها أبداً ولو أدى ذلك إلى حرمانه من سكنى آمنة، أو إلى طرد من البلد، وكان ذلك أيضاً سبباً في محنته لما سجن في سوريا فإنه كان متزعماً للتدريس، وجمع الله عز وجل حوله الأفئدة، وكان رجلاً نابهاً، قال لي: كان عندي سيارة قديمة وكنت أطوف سوريا كلها بهذه السيارة، ومرة اختلف إخواني السلفيون في حلب -وكان هو يسكن في دمشق- فقالوا: إن لم تتدارك إخوانك تفرقوا.
وذهب إلى هناك وسهر الليل كله، وظل هناك أكثر من أسبوع حتى فصل النزاع بين إخوانه ورجع.
فكان قد أوقف حياته كلها لهذه الدعوة المباركة، ولما سجنوه استثمر وقته في السجن وأخرج لنا كتاباً وهو (مختصر صحيح الإمام مسلم رحمه الله) درس الكتاب دراسة دقيقة، وجرد الكتاب من أسانيده، وجمع وضم الروايات بعضها إلى بعض، وأخرج مختصر صحيح مسلم بقلمه، ولا أظن أن هذا الكتاب قد طبع حتى الآن.
والذي طبع هو مختصر صحيح مسلم بتحقيق الشيخ الألباني، أما (مختصر صحيح مسلم) للشيخ الألباني نفسه فلم يطبع.(38/12)
الشيخ الألباني وبداية الطريق إلى علم الحديث
أول مرة يبدأ الشيخ ناصر فيها يقرأ في علم الحديث، كان سببها أنه قرأ مقالةً في مجلة المنار التي كان يصدرها آنذاك الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله، وكان الشيخ محمد رشيد رضا استوطن أهله الشام، ثم رحل إلى مصر، وأي شخص يريد أن يبرز في أي فن حتى المغنين ويريد أن يكون له صيت، وله شهرة، وأن يكون له احترام في مهنته يأتي إلى مصر.
فنزح الشيخ محمد رشيد رضا، والشيخ محب الدين الخطيب من الشام إلى مصر.
وكان الشيخ محمد رشيد رضا يكتب في مجلة المنار، وكان قد كتب مقالاً عن كتاب (إحياء علوم الدين) وعن تخريج الحافظ زين الدين العراقي له، وهذه كانت أول مرة الشيخ الألباني يقرأ عن علم الحديث.
قال الشيخ: فجعلت أبحث عن هذا الكتاب كالعاشق الولهان، حتى ظفرت به عند رجل كان يؤجر الكتب، لأنه لم يكن أحد يهتم بعلم الحديث؛ لأن علم الحديث من أصعب العلوم في ذلك الوقت، ويضاف إلى صعوبته أن دارسه لا يحصل على وظيفة بعد ذلك، والإنسان لو درس الفقه فربما يكون مفتياً، أو واعظاً، أو خطيباً، ولكن إن كان محدثاً -كما قال ابن معين وقال أحمد بن حنبل وقال الدارقطني - فأين يبيع بضاعته؟! فلم يكن أحد يقبل على دراسة علم الحديث.
والناظر إلى المدارس التي بنيت في بلاد المسلمين قديماً يعلم غربة علم الحديث، فإذا نظرت إلى مدرسة نظام المفتي في بغداد، وكل المدارس التي جرت على هذا المنوال حتى الأزهر، فإنهم كانوا يهتمون بشيئين: الشيء الأول: الفقه وأصوله.
والشيء الثاني: علم الكلام.
بينما الحديث لا يدرس، فكان الذي يقبل على دراسة علم الحديث يدفع من جيبه، ولا يقبل عليه إلا إذا كان له هدف وكان محتسباً.
فالشيخ الألباني بحث عن هذا الكتاب عند رجل فأجره منه لمدة سنة؛ لأنه لم يكن يستطيع شراءه، فبدأ الشيخ الألباني يفتح عينيه على علم الحديث.(38/13)
بين الشيخ الألباني ووالده
فبدأ يحصل بينه وبين والده مجادلات، فوالده كان حنفياً جلداً، (جلد) أي: لا يخالف مذهب الأحناف في قليل أو كثير، ومن المعروف أن مذهب الأحناف يخالف كثيراً من الأحاديث الصحيحة، حتى إن العلماء أخرجوا كتباً في الرد على أبي حنيفة منهم الأوزاعي، ومنهم أبو بكر بن أبي شيبة له في كتاب المصنف كتاب كبير اسمه (الرد على أبي حنيفة فيما خالف فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم) فكانت تحصل مجادلات بين الشيخ وبين أبيه.
يقول الشيخ الألباني: فكان والدي كلما عجز عن الإتيان بحجة في مقابلي كان يرفع صوته ويقول: علم الحديث صنعة، ويأبى عليه أن يعارضه في شيء من الحديث، حتى كثرت مخالفته مع أبيه.
ثم في يوم من الأيام، كان والد الشيخ الألباني على سفر، فجعل الشيخ البرهاني -وهو أحد مشايخ الشيخ الألباني - خلفاً له في صلاة الجماعة، وكان الشيخ الألباني في ذلك الوقت تبنى كراهة الجماعة الثانية في المسجد الذي له إمام راتب، وعلم مع دراسة الأدلة أن هذه المسألة مكروهة، وكان من شؤم تفرق المسلمين إلى شيع وأحزاب أن المسجد الواحد كان فيه أربعة محاريب: محراب للمالكية، ومحراب للحنفية، ومحراب للشافعية، ومحراب للحنابلة، وكان إمام الشافعية يصلي أولاً، لأن الشافعية يصلون الفجر بغلس -أي: في أول الوقت- والحنفية يصلون الفجر بإسفار -أي: في آخر وقت صلاة الصبح بعدما يسفر الفجر- فلما علم الشيخ الألباني أن الجماعة الثانية في المسجد لا تجوز وأراد خليفة والده أن يستخلفه إماماً؛ لأنه يريد السفر أبى ذلك، وقال: أنا لا أخالف ما أعتقده، فأنتم تؤخرون الصلاة، وإمام الشافعية يصلي قبلكم وكل هذا في مسجد واحد!! وقد قال الشيخ أحمد سالم رحمه الله: ولقد رأيت هذه المحاريب الأربعة في الجامع الأزهر، وكانت هذه المسألة جارية ومسألة عادية لا تعارض فيها ولا إشكال، وكل هذا بسبب غياب الدليل وعدم الرجوع إلى النص، وعدم الوقوف عند حدود ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فبدأت هذه المخالفات تظهر في رفض الشيخ الألباني أن يصلي بدل الشيخ البرهاني، بل كان يصلي مع الشافعية؛ لأنها أول جماعة تقام، فلما رجع والده من السفر حكى له الشيخ البرهاني الذي كان من ابنه، فأضمرها الوالد في نفسه، ولكنه بدأ يحصل نوع من الشقاق والنزاع بين الشيخ وبين أبيه.
ولقد قرأ الشيخ الألباني -وهو يواصل القراءة في عقيدة السلف- أن الصلاة في المسجد الذي فيه قبر لا تجوز، وشاع في دمشق أن المسجد الأموي دفن فيه سبعون نبياً، قال الشيخ ناصر: فجعلت أفتش عن أصل هذا الكلام، فإذا سنده ضعيف جداً ولا أصل له، وأن هذه الحكاية لا تصح عن أحد من أئمة المسلمين ولا من المؤرخين.
قال: فجمعت بعض ورقات في هذا الباب كانت نواة لكتابي (تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد) قال: ورفعت هذه الأوراق إلى الشيخ البرهاني وكان شيخي، وقلت له: في هذا البحث حرمة الصلاة في المسجد الذي فيه قبر، فقال: هات الأوراق، وقال: سأرد عليك بعد العيد.
فلما كنا بعد العيد قال: لم تصنع شيئاً، ونحن إنما نأخذ الدين من كتب الفقه لا من كتب الحديث.
قال الشيخ: وفي يوم من الأيام وبعد أن تعشينا قال لي والدي بلسان عربي مبين: إنك أكثرت مخالفتي ومخالفة الموروث من المذهب، فإما أن توافق وإما أن تهاجر.
فقلت له: أمهلني ثلاثة أيام حتى أنظر في أمري.
قال: ولما مضت الأيام قلت لوالدي: أنا لا أستطيع أن أترك ما أعتقد أنه الحق، ولا أستطيع أيضاً أن أزعجك، فسأهاجر.
وهذا هو الذي نقوله لإخواننا الذين يتعرضون للضغط والإرهاق في بيوتهم من قبل آبائهم المناوئين لهم في التزامهم وإن كثيراً من الآباء يحلف بالطلاق إن لم يحلق ابنه لحيته ونحن نقول لهذا الولد: أطع ربك وأطع أباك، أطع ربك لأنه هو الذي أمرك على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أن تعفي لحيتك، وأطع أباك إذا أمرك بالخروج من البيت، فلا تحلق لحيتك واخرج من البيت، وبذلك تكون قد أطعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكون قد أطعت أباك أيضاً الذي أمرك بالخروج.(38/14)
حماقة المبتدع
الغلو في الدين ومخالفة رسول رب العالمين واتباع الأهواء والآراء وتقليد المشايخ والآباء كل هذه الأسباب تصل بالإنسان إلى ارتكاب البدع والآثام وولوج أبواب النيران لأنها مدعاة لاتهام الرسول الكريم بعدم تبليغه الدين، ومن ثم فتح أبواب الشرع الحنيف للجهلة والمتعالمين أن يحدثوا في دين الله، ويتلاعبوا بشرع الله، بالزيادة والنقصان، والتقديم والتأخير.(39/1)
نعمة إكمال الدين وإتمام النعمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فإن مما يقال: لكل داء دواء يستطب به إلا الحماقة أعيت من يداويها ولا أحمق من المبتدع! فإنه جمع على نفسه آصاراً وأغلالاً وألقاباً ذميمة يربأ كل عاقل أن ينسب إلى نفسه مثل هذه البدع.
أيها الإخوة الكرام! إن الله عز وجل امتن علينا بإكمال الدين وإتمام النعمة، فقال عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].
وفي الصحيحين من حديث طارق بن شهاب قال: (قالت اليهود لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لقد أنزلت عليكم آية -معاشر المسلمين- لو نزلت علينا معاشر يهود لاتخذناها عيداً.
فقال عمر: وما هي؟ فقالوا له: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني لأعلم أين نزلت، ومتى نزلت، وفي أي يوم نزلت، نزلت ونحن بجمع -بعدما دفعوا من عرفات إلى مزدلفة- ليلة الجمعة، وفي رواية: يوم الجمعة) فنزلت هذه الآية في يوم عيد، وهو يوم الجمعة، ونزلت في يوم عرفة ليلاً.(39/2)
حال المبتدع تجاه الأحكام الشرعية
المبتدع يزعم بلسان حاله أن الله لم يكمل الدين، ولذلك أراد أن يضيف من عنده ما لم يأذن به الله ورسوله، ولذلك سميت بدعة لأجل هذا، فإن المبتدع نازع الله عز وجل حق الانفراد بالتشريع، وأي لقب سوء أعظم من أن يكون المرء منازعاً لربه في حق التشريع؟! إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن للصحابة أن يزيدوا في المأذون فيه، فكيف يأذن لهم أن يخترعوا ما لم يأذن به الله ورسوله؟! المشروع لا يجوز لك أن تزيد فيه، مع أنك تفعل ذلك زيادة قربى إلى ربك لتنال الأجر، ومع هذا لم يؤذن لك فيه.
وحديث الثلاثة الذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته يريدون التقرب إلى الله والجد في العمل، فذهبوا إلى القدوة والأسوة، الذي ليس بعده مبتغى في الجد في العبادة، فسألوا عائشة فأخبرتهم أنه بشر كالبشر، يمارس حياته بصورة طبيعية، فلما سمعوا ذلك قالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
ما معنى هذا التعليق؟ معناه أن هذه عبادة قليلة، لا يُرفع لها رأس، لكن هذا رسول الله سواء أكثر أو أقل في العبادة، فهو مغفور له.
لكنه إذا احتقر الأسوة وميزان العمل ماذا يبقى له؟ إذا كان الأسوة في نظره قليل العمل، لكن الذي جبره أن الله غفر له ما تقدم من ذنبه، هذا أول درجات الطغيان بأن تعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم قليل العبادة، لكنه مغفور له، ولذلك غضب النبي عليه الصلاة والسلام فجمع الناس، ولم يمرر هذا الموقف؛ لأنه يشتمل على أمر خطير، لو ترك هذا الأمر لكان فيه الضياع الكامل: أن يعتقد المرء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قليل العبادة.
فقال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا أما إني أتقاكم لله وأشدكم له خشية).(39/3)
قبول عمل المبتدع في الميزان
أنت لا تدري أي عملك يقبل، رب عمل جودته واعتنيت به لا يساوي صفراً عند الله، ورب عمل فعلته ولم تلق له بالاً هو الذي ينجيك، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تفرغ من دلوك في دلو أخيك) والماء سبيل، لكن لعل إفراغك من دلوك في دلو أخيك خير من قيام الليل طيلة عمرك، وهذا من أدل الدلائل على أن العقول لا تستقل بمعرفة ما يحبه الله ويرضاه ويكرهه ويسخطه، إنما نعرف ذلك بالوحي.
وأضرب لكم بعض الأمثال التي هي خروج على القاعدة: لما خاض بعض المسلمين في حديث الإفك وتكلموا، مجرد نقل كلام، لم يفتروا القصة من عند أنفسهم، رمى عبد الله بن أبي ابن سلول عائشة رضي الله عنها بالفاحشة مع صفوان بن المعطل السلمي.
إذاً: من المفتري؟ الذي تولى كبره هو رأس النفاق عبد الله بن أبي، فبعض المسلمين نقل هذا الكلام، فقال بعضهم لبعض: (أولم تعلموا أن عائشة رميت بـ صفوان بن المعطل السلمي؟) فقال الله عز وجل لهم: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15]، مجرد كلام ينقل لكنه عند الله عظيم.
وفي صحيح البخاري ومسلم: (رب كلمة لا يلقي لها الرجل بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً) (لا يلقي لها بالاً) أي: ما ظن أن تبلغ هذا المبلغ، كلمة خرجت منه فلتة، لم يلق لها بالاً، ولم يعرف خطورة الكلمة (تهوي به في النار سبعين خريفاً).
وعلى المقابل: قال النبي صلى الله عليه وآله سلم -في الحديث المتفق عليه أيضاً-: (دخلت امرأة بغي الجنة في كلب سقته) امرأة بغي تتاجر بعرضها طيلة عمرها، آثام بعضها آخذ برقاب بعض، ظلمات بعضها فوق بعض، أيسقط هذا الذنب العظيم المتكرر سقيا كلب، هذا عمل لا يلقي المرء له بالاً، لكن الله غفر ذنوبها جميعاً به.
إذاً: لا يستقل العبد في إدراك مرام التشريع، إنما العبرة بالعبادة والاتباع والإخلاص، وليس الكثرة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الثلاثة: (أما إني أتقاكم لله) أنا أصلي مثلك، لكن ما بين صلاتنا كما بين السماء والأرض، رجل يتصدق وآخر يتصدق، هذا تقبل صدقته وهذا ترد عليه، والفعل واحد، لماذا قبل هذا ورد ذاك؟ بسبب الإخلاص من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول ماشٍ على مهله ويكون الأول، هذا بسبب الإخلاص، فرب عمل يسير يكون أعظم عند الله عز وجل في الميزان.(39/4)
موقف النبي عليه الصلاة والسلام من الإحداث في الدين
جاء في صحيح البخاري من حديث أبي جحيفة قال: (آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فجاء سلمان يوماً يزور أخاه، فرأى أم الدرداء متبذلة -أي: بثياب المهنة- فقال لها: مالي أراك متبذلة؟ قالت: أخوك أبو الدرداء لا حاجة له في الدنيا) لا ينظر إلى زوجه، والزوج إذا كره النظر إلى زوجه أهملت الزوجة نفسها وأضاعتها، وليس هذا من فقه الزوجة، إذا أهمل الرجل النظر إلى المرأة فلا يجوز لها أن تهمل زينتها، فإن الاستمرار في الزينة يجعل الرجل يرجع إلى زوجه، كما روى النسائي في سننه: (أن امرأة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إن المرأة إذا تركت الزينة ثقلت، وكره زوجها النظر إليها).
فهي امرأة لا يطلبها زوجها، ولا ينظر إليها، ولا يعيرها التفاتاً، فهي بثياب المهنة دائماً (مالي أراك متبذلة؟ قالت: أخوك أبو الدرداء لا حاجة له في الدنيا.
فجلس، وجاء أبو الدرداء فرحب بأخيه، ثم أمر بإعداد طعام، فقرب الطعام، قال له سلمان: كل.
قال: إني صائم.
-وفي غير البخاري قال: والله لا أطعمه إلا إذا أكلت- قال: ما أنا بآكل حتى تأكل.
فأكل، فلما جن الليل أراد أبو الدرداء أن يقوم ويصلي، فقال له سلمان: اجلس.
فكره أبو الدرداء أن يخالفه؛ فنام حتى مضى شطر الليل، فقاما فصليا جميعاً، فلما أصبحا قال له سلمان: إن لنفسك عليك حقاً، ولبدنك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولضيفك عليك حقاً، فآت كل ذي حق حقه، فلما أصبحا أتيا النبي عليه الصلاة والسلام، فقال أبو الدرداء للنبي عليه الصلاة والسلام مقالة سلمان، فقال عليه الصلاة والسلام: صدق سلمان) وفي بعض الروايات: (لقد أشبع سلمان علماً)، وفي رواية أخرى: (لقد أوتي سلمان فقهاً).
هذه عبادات مأذون فيها، ومع ذلك كره الزيادة فيها.
وجاء في الصحيحين من حديث أبي العباس الشاعر عن عبد الله بن عمرو بن العاص في قصة صيامه وقيامه -القصة المعروفة- قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ عبد الله بن عمرو: (أولم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار.
قال: أجل يا رسول الله، إني لأفعل ذلك.
قال له: لا تفعل -وهذا ليس صداً عن العبادة، لكنه نظر إلى ما يئول إليه الأمر- فإنك إن فعلت هجمت عينك، ونفهت نفسك) (هجمت عينك) أي: غارت، ودخلت في المحاجر؛ بسبب كثرة السهر، (ونفهت نفسك) أي: ضعفت وذهب جدك، فنهاه عن الوصال والمواصلة.
كان عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه رجلاً فتياً آنذاك، فقبل الجد في العبادة، لكنه ندم في آخر عمره، فكان يقول: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا في المأذون فيه.
وأيضاً لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في مزدلفة قال لـ ابن عباس: (القط لي مثل حصى الخذف، وإياكم والغلو في الدين!) الغلو: أن تحضر حجراً كبيراً وتقول في نفسك: هل ممكن أن أرمي الشيطان بحصوة؟! الشيطان لا يكفيه إلا حجراً كبيراً أقذفه بها، فنهى عن الغلو حتى في حجم الحجر؛ لأن الغلو يؤدي في النهاية إلى احتقار الشريعة، واعتقاد أن ما أمر الله عز وجل به لا يوصل العبد إلى مرضاة الله، فيخرج المرء من الشريعة في آخر الأمر، فنهى عن كل غلو يفضي إلى ذلك.
وهناك من يضرب بهم المثل في هذا الباب وهم الخوارج، قال عليه الصلاة والسلام: (يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وقيامه إلى قيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية).
فرجل مصل ومزكٍ وقارئ قرآن، وهذا أعلى ما يحصله الإنسان، ومع ذلك يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، ما نفعتهم صلاتهم ولا صيامهم ولا قراءتهم للقرآن، فاعتبروا بهذا.
المأذون فيه نهاك عن الزيادة فيه، أيأذن لك أن تخترع شيئاً لم يشرعه الله ورسوله؟! إن هذا أشد في المقت، فالمبتدع مضاد لله عز وجل في حكمه، منازع له في حق التشريع، إذ إنه شرع شيئاً لم يأذن به الله ورسوله، وقد ذم الله عز وجل البدع وأهلها، والمعاصي وأهلها، لكن البدع تدخل دخولاً أولياً في المناهي؛ لأن أعظم المناهي هي البدع.(39/5)
تحذير القرآن من مخالفة الصراط المستقيم والإحداث في الدين
قال تبارك وتعالى -وهو يحث المسلمين على لزوم الصراط المستقيم-: {وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} [المؤمنون:74]، وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] (وصاكم به) فهي وصية من الله لنا أن نتبع صراطه المستقيم، وقد بينه النبي عليه الصلاة والسلام، كما في حديث ابن مسعود قال: (خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً طويلاً على الأرض، وخط على جنبتيه خطوطاً قصاراً، ثم قال: هذا صراط الله -طويل- وهذه صرط الشياطين، على كل صراط شيطان يدعو إليه).
فتأمل! الفرق بين صراط الله وبين صرط الشياطين، صراط الله طويل، لكنه مستقيم، وصُرط الشياطين قصيرة، لكنها معوجة.
ومعنى: (صراط الله طويل) أي: أنك لن تلقى جزاءك فيه؛ لأنك قد تموت في أثناء الطريق وأنت تمشي، أما صرط الشياطين فعادةً يحصلون مآربهم قبل أن يموتوا، وهذا فيه مزيد إغراء لسلوك سبيل الشياطين؛ لأنه سيحصل ما يريد ويستمتع به في حياته، أما صراط الله فطويل، قد تموت ولا تحصل مأربك، طول عمرك تدافع عن الشرع والدين وتدعو المسلمين إلى لزوم الصراط لتقيم الدولة المسلمة، ومع ذلك تموت ولا ترى الدولة بعينك، إنما يراها ولد ولدك، فهذا يدل على بعد النظر، وأن السالك يريد الله عز وجل لا يريد العاجلة.
إن الطريق إذا كان مستقيماً، وكان المرء أعشى البصر -لا يرى- فثبت قدميه على الصراط فإنه سوف يصل، أما هذه الطرق الملتوية فلا يصل إلى شيء منها.
قال الله عز وجل: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل:9]، وتأمل الآيات قبلها ترى شيئاً بديعاً، وهذا الشيء موجود في القرآن في أكثر من آية، فقد ذكر الله عز وجل الأنعام، ثم امتن علينا بخلق هذه الأنعام، فقال: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النحل:7 - 9]، والرابط بين هذه الآية وآية {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ} [النحل:7]، هو أن هناك ثقلاً لا تستطيع أن تحمله أنت بنفسك، وهناك خيل وبغال وحمير تركبها لتسلك سبيلك، وتقرب لك المسافات للسفر والسير، فهذا سير حسي نراه ونشعر به، ونعلم قدر الراحة التي حظينا بها لما خلق الله هذه الأنعام.
تصور إنساناً يحمل كيس رمل على كتفه مسافة خمسين كيلو، هل تتحمل هذه المشقة؟! لكن إذا حملت هذا على ظهر سيارة أو على ظهر بغل أو حمار، فلا تشعر بأي مؤنة ولا تعب، إذاً: أنت تحس بهذا إحساساً يقينياً.
وبعد هذا الشيء الحسي -الذي تشعر به ولا تنازع فيه- أبان ربنا عز وجل الخط والسير المعنوي إليه، إنما نقل المقام من الحس إلى المعنى مباشرة ليحصل لك حسن تصور للمعنى.
((وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ)) (قصد السبيل): أنت مسافر إلى الله، فالحياة الدنيا معبر، وأنت كل يوم مسافر على جناح الليل والنهار، يحملك ليل ويحفك نهار، ويحملك نهار ويحفك ليل، وكل هذا عبارة عن سفر؛ لأنك كل يوم تقترب من المنزل النهائي وهذا سفر معنوي لا تشعر به بسبب قرارك ومقامك في بلدك.
فأراد الله عز وجل أن تحسن تصور هذا السير إليه؛ فجاءك بالبغال والحمير الذي هو السير الحسي، أنت تركب البغال والحمير لتسافر هنا وهناك، فنقلك هذه النقلة؛ ليحسن لك التصور بالنسبة للمعنى، كما قال تبارك وتعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف:26] هذا تصور حقيقي، فأنت تلبس الملابس لتواري السوأة والعورة، ويقيناً فيها الحر والبرد.
ثم قال: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26] قال هذا مباشرة بعد هذا اللباس؛ لأنك الآن لديك تصور لقيمة هذا اللباس، يجملك، ويواري سوأتك، ويدفع عنك الحر والبرد، فيعطيك المعنى الأهم {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26]، لما أمر الناس أن يذهبوا إلى الحج قال: {وَتَزَوَّدُوا} [البقرة:197] كل شخص يأخذ متاعه معه {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197]، بعدما يتزود الإنسان التزود الحسي يذكر له الزاد الحقيقي الذي ينفعه عند ربه تبارك وتعالى.
وقوله: ((وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ)) هو مثل قوله عز وجل: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} [الحجر:41]، أي: على الله بيان السبيل الحق، ((وَمِنْهَا جَائِرٌ)) أي: ومن هذه السبل جائر.
وقرأ ابن مسعود ((ومنكم جائر))، لكن هذه القراءة شاذة، لا يقرأ بها، لأن القرآن يشترط فيه أن يكون موافقاً لرسم المصحف، وأن يكون متواتراً، وأن يوافق وجهاً من وجوه العربية، والعلماء يستخدمون القراءات الشاذة في بيان معاني القرآن، وإن كنا لا نقرأ بها، ولا يحل أن تسمى قرآناً.
إذاً قوله: ((وَمِنْهَا جَائِرٌ)) هذا يدل على طرق أهل البدع والشهوات كما فسرها مجاهد رحمه الله.
ومن الأدلة الدالة على التحذير من البدع قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159]، وقرأ حمزة والكسائي ((إن الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء))، وقراءة الجمهور تذكر الحال، وقراءة حمزة والكسائي تذكر المآل، فإن الذي يفرق دينه لا بد أن يفارقه، فرَّق ففارق، كما قال تبارك وتعالى: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:31 - 32] وقرأ حمزة والكسائي أيضاً هذا الحرف: ((من الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعاً)).(39/6)
عواقب ارتكاب البدع
المبتدع حظي بأسوأ الألقاب كلها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة) فمعنى الكلام: أن كل مبتدع ضال، فأي خطبة خسف أعظم من هذه! أن يقال له قد اختلف العلماء فيك: هل أنت كافر أم فاسق.
من الذي يتمنى أن يحمل لقباً من هذه الألقاب؟! وأيضاً: المبتدع متوعد بالخزي في الدنيا والآخرة، قال تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف:152]، والمبتدع مفترٍ على الله عز وجل، متقول عليه، يقول هذا من دين الله عز وجل.
وليس منه؛ فسيناله غضب في الحياة الدنيا، ويرد إلى ربه عز وجل وهو يحمل لقب المفتري على الله عز وجل.
وأيضاً: المبتدع متبع لهواه، لأن الله عز وجل حصر الحكم في شيئين لا ثالث لهما، قال تبارك وتعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50]، فحصر الحكم: إما وحي، وإما هوى، وقال تبارك وتعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الكهف:28]، فإما ذكر، وإما هوى.
وقال تبارك وتعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ} [ص:26]، فجعل الأمر حقاً أو هوى، فهذا الذي افترى على الله ورسوله ما لم يأذن به الله لم يتبع الوحي قطعاً، فما بقي إلا الهوى، والهوى من الهوي، يهوي بصاحبه ولا يرفعه.
فيا له من عمل فاسق يرفعه الله إلى أسفل هذه رفعة لكن إلى أسفل.
ثم إن نبينا عليه الصلاة والسلام وعظ أصحابه يوماً -كما في حديث العرباض بن سارية - موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقالوا: (يا رسول الله! كأنها موعظة مودع؛ فاعهد إلينا.
قال: عليكم بالسمع والطاعة، وإن كان عبداً حبشياً، فإنه من يعش بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضّوا عليها بالنواجذ).
إذاً: العاصم من البدعة هو العلم، فإن عجزت أن تكون عالماً أو طالب علم، فتعلق بأهداب أهل العلم، أهل العلم هم مراكب النجاة في زمان الفتن، كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك.
وكان الناس قديماً، وبعض طلاب الآخرة في كل زمان يرحلون من بلادهم، يقطعون مئات الكيلومترات ليأتي الواحد منهم فيأخذ حرفاً من العلم يتزود به، ثم يرجع ولا يرى أنه أضاع عمره ولا ماله في سبيل ذلك، بل كان بعضهم يأتي المسافات الطويلة ليرى وجه العالم ثم يرجع.
قال جعفر بن سليمان الضبعي: (كنت إذا رأيت قسوة في قلبي جئت محمد بن واسع فأنظر إليه، كأن وجهه وجه ثكلى) أول ما ينظر إليه يستفيد بلحظه مثلما يستفيد بلفظه، ويرجع إلى بلده ولا يرى أنه ضيع رحلته! قال عبد الله بن المبارك: (كنت إذا نظرت إلى وجه الفضيل بن عياض جدد الحزن لي، ومقتُ نفسي) ثم يبكي عبد الله المبارك.
ويقول علي بن عمر البزار: (كان أناس يأتون يصلون خلف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ ليسمعوا منه تكبيرة الإحرام في الصلاة، فإذا قال: الله أكبر انخلعت القلوب)؛ من جلالة الكلمة؛ وما يشعرون به من الإخلاص حال الإتيان بالكلمة.
ويقول ابن القيم رحمه الله: (كانت إذا ضاقت بنا الدنيا، وساءت بنا الظنون، نأتي شيخ الإسلام، فما هو إلا أن ننظر إلى وجهه، ونسمع كلامه؛ حتى نشعر بالطمأنينة، مع ما كان يعانيه من التعب والإرهاق).
العالم نجاة، فكل شيء يطرأ لك تسأل العالم: هل هذا حلال أم حرام بدعة أم سنة؟ فيفتيك، افعل هذا، أو لا تفعل ذاك.
فقول النبي عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي) فيه دلالة أكيدة على التعلم أو التعلق بأهداب أهل العلم أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(39/7)
وجوب ملازمة السنة ومجانبة الهوى والبدعة
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
إن قوله عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي) فيه دلالة على طلب علم السنة؛ لأن السنة بيان للقرآن، ومن النظر في السنة تعرف الآداب.
إن النبي صلى الله عليه وسلم كان قرآناً يمشي بين الناس، كما قالت عائشة، وقد سئلت عن قوله تبارك وتعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] قالت: (كان خلقه القرآن).
القرآن مجمل، فيحتاج إلى تفصيل، والتفصيل مهم للتصور، {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199].
ننظر في السنة سلوك النبي عليه الصلاة والسلام، وتصرفاته مع الأعداء تصرفاته مع الأبعدين تصرفاته مع الجهلاء تصرفاته مع أهل العلم، ترى لكل أحد من هؤلاء موقفاً، ولكل شخص طريقة، لم يكن يسوي بينهم جميعاً في المعاملة، ولا يعامل العالم كما يعامل الجاهل، وإنما تعلم هذا من القرآن أيضاً.
أزواج النبي عليه الصلاة والسلام لكمال فضلهن؛ قال الله عز وجل لهن: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب:30]، فهن يعذبن أكثر مما تعذب المرأة العادية؛ لأن الله عز وجل قال: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب:31]، فهي مفضلة في الأجر وأيضاً مضاعف لها العذاب، فإن الرجل الفاضل يعامَل ما لا يعامل به الرجل الخامل.(39/8)
تحذير حذيفة من البدع وأهلها
وقد جاء في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، لما قال: (كان الناس يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، قلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير -الذي هو الإسلام- فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم.
قال: فهل بعد هذا الشر من خير؟) فقوله: (فهل بعد هذا الشر من خير؟) أي: بعد الخير الأول الذي هو الإسلام، (والشر الأول): الذي هو بعد الإسلام مباشرة (ثم خير فيه دخن) إذاً: خير محض لا دخن فيه، ولا شر فيه (100%) الذي هو الخير الأول في الحديث.
وقوله: (إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير -الذي هو الإسلام، فهذا الخير (100%) - فهل بعد هذا الخير - (100%) - من شر؟ قال: نعم -الشر ضعيف قليل؛ لأن الخير كثير، ولذلك تجاوزه حذيفة ولم يسأل عنه- قال: فهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم -فهذا الخير الثاني، وقد وصفه النبي عليه الصلاة والسلام، فقال:- خير، لكن فيه دخن -الدخن: ما فيه غبار وضباب، وغبش-.
قال: وما دخنه؟ قال: قوم يهتدون بغير هديي، ويستنون بغير سنتي، تعرف منهم وتنكر، قال: فهل بعد هذا الخير -الثاني الذي فيه دخن- من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها) إذاً: بوابة جهنم هي البدع، هذا ترتيب الحديث الخطير (بوابة النار): ولوج البدع (قوم يهتدون بغير هديي، ويستنون بغير سنتي، تعرف منهم وتنكر) فلا يزال هذا يستفحل مع غياب وموت العلماء وظهور البدع، حتى تأتي المرحلة الخطيرة (دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها).
فقال: (صفهم لنا يا رسول الله؟ قال: قوم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا)، (من جلدتنا): أي: شكلهم مثلنا، ويتكلمون بألسنتنا.
حسناً ما هو النجاة؟ قال: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم.
قال: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام -مثل هذا الزمان- قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت).
قوله: (ولو أن تعض على أصل شجرة) بعض الناس يقول لك: علينا أن نعتزل؛ لأنه قال: (اعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة)، نقول: هذا صحيح، لكن الشجر التي ستعض عليها هي أهل العلم، وأن تتعلق بأهداب عالم، فإن لم تجد عالماً فاعتزل، فإن العزلة مع وجود أهل العلم شر للإنسان إذا كان جاهلاً.
إذاً: هذا فيه تلميحة لطيفة لمعنى قوله عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي)، ولذلك قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ)، وهنا قال: (ولو أن تعض على أصل شجرة)، وأنت تعلم أن الذي يستخدم أسنانه فهذا معناه أن يديه خلتا به، وأن ساعده ضعف، وأنه يكاد يسقط، ما بقي إلا أن يستخدم أسنانه؛ لأن ساعده ضعف أن يحمله، وأنت ترى هذا إذا تعلق إنسان وكاد أن يسقط فإنه يتعلق بأي شيء حتى لو تعلق بأسنانه، فكلمة (أن يعض على أصل شجرة) هذا هو النجاة، وهذا الأمل الأخير، أن يستخدم الإنسان أسنانه حتى يثبت مكانه.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يربط على قلوبنا حتى نلقاه.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.
رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.(39/9)
موقف ابن عمرو من اتباع السنة
كان النبي عليه الصلاة والسلام يعامل أصحابه الأقربين منه معاملة أشد من معاملة الأبعدين من الأعراب وغيرهم، يرى مثلاً عبد الله بن عمرو يلبس ثوباً أحمر، فيعرض عنه، يلقي ابن عمرو السلام فلا يرد السلام عليه، ويعرض عنه، ويتغير وجهه عليه الصلاة والسلام.
فـ عبد الله بن عمرو المعلم المؤدب الملازم عرف وجه الخلل عنده بغير تنبيه من النبي عليه الصلاة والسلام، لما رأى نظر النبي عليه الصلاة والسلام يتوجه إلى الثياب الأحمر، فذهب إلى أهله فوجدهم يسجرون التنور فقذف الثوب في النار، وغيَّره وجاء، فأقبل عليه النبي عليه الصلاة والسلام وسأله: (ماذا فعلت به؟ قال: سجرت به التنور.
قال: هلا أعطيته بعض أهلك، فإنه لا بأس به للنساء) أي: أن الثوب الأحمر البحت الذي لا يخالطه لون لا بأس به للنساء، لكن لا يجوز أن يلبسه الرجال فإن قال قائل: إنه ثبت في الصحيح (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس ثوباً أحمر) فهل هناك تعارض؟ نقول: لا؛ لأن الثوب الذي لبسه النبي عليه الصلاة والسلام كان يختلط به لون آخر لكن الأحمر غالب، ولذلك يقال: (أحمر)؛ لأننا نلغي القليل ونعمل بالأغلب، فمثلاً: لو سألك شخص: كم الساعة؟ وقد تكون الواحدة وثلاث دقائق، فتقول له: الساعة واحدة.
لماذا أهملت الكسر؟ لأنه لا قيمة له، والعرب درجوا على إهمال الكسر، إلا إذا كان في تعيينه فائدة، كما ذكر الله عز وجل عن نوح أنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، وكان يمكنه أن يقول: تسعمائة وخمسين، لكنه لم يقل ذلك؛ لأن الكسر قد يلغى، فلما قال: {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت:14] علمنا حقيقة الكسر في الأمر.
فلبس النبي عليه الصلاة والسلام الأحمر وفيه شيء من البياض لكن الأحمر غالب، فينسب الثوب إلى ما غلب عليه، إنما الذي نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام الأحمر (100%)، لا يخالطه لون آخر، فهذا لا يحل للرجال أن يلبسوه؛ لأن عبد الله بن عمرو كان ملازماً للنبي عليه الصلاة والسلام، ودائماً يأتيه، لكنه عليه الصلاة والسلام غضب وتغير وجهه ولم يرد عليه السلام.
بخلاف الأعرابي الذي يأتي من البادية، ولو ارتكب شيئاً يصل إلى درجة الكفر، فإن النبي عليه الصلاة والسلام يحلم ويصبر عليه؛ لأنه جاهل، ولا يعامله معاملة العالم الماكث عنده بصفة مستمرة يتعلم الهدى منه، كما في حديث خزيمة بن ثابت عند النسائي وأبي داود وغيرهما، قال: (رأى النبي صلى الله عليه وسلم قعوداً - الجمل الصغير- لرجل أعرابي، فقال: بعني جملك يا أعرابي.
قال: بكم؟ قال: بكذا -وإذا ذهبنا إلى المدينة أعطيناك الثمن- فجاء رجل من المسلمين لا يعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام اشترى الجمل، فقال للأعرابي: بعني هذا الجمل.
قال: بكم؟ -وكان ينبغي للأعرابي ألا يبيع الجمل، يقول له: الجمل اشتراه النبي عليه الصلاة والسلام، لكن الأعرابي جاهل، ظن أن البيع لم ينعقد طالما أن الثمن لم يعجل، لاسيما وقد فرض هذا الرجل سعراً أعلى من الذي فرضه النبي عليه الصلاة والسلام، فطمع الأعرابي في الزيادة- فقال: بعتك الجمل.
فعلم النبي عليه الصلاة والسلام أن الأعرابي باع الجمل، قال: يا أعرابي! أو لم تبعني الجمل؟ قال: ما بعتك شيئاً.
قال: يا أعرابي! بل بعتني الجمل.
قال: ما بعتك، هلم بشهيد يشهد أنني بعتك.
فانبرى خزيمة بن ثابت الأنصاري وقال: أنا أشهد أنك بعته الجمل، فقال عليه الصلاة والسلام لـ خزيمة: بم تشهد يا خزيمة؟ قال: بتصديقك، أشهد أنك صادق لا تكذب، فهذا يدل دلالة قاطعة على أنك اشتريت الجمل من الأعرابي وهو من الكاذبين).
هل يمكن أن أحداً من الصحابة المقربين من النبي عليه الصلاة والسلام أرتكب مثل هذا، والرسول عليه الصلاة والسلام يتركه هكذا بلا عقوبة؟! هل يمكن أن يجرؤ أحد على أن يرتكب جزءاً من هذا؟! إذاً: الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يعامل أهل البادية كما يعامل أصحابه المقربين منه؛ لذلك قال عليه الصلاة والسلام: (عليكم بسنتي).
قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه ولله دره، ما كان أثقب نظره! - (إذا جادلكم أهل الرأي بالقرآن فخذوهم بالسنن) لأن السنة مبينة للكتاب، فهذا يبين ضرورة العلم بالسنة؛ لأنها كثيرة التفصيلات.(39/10)
رحلتي العلمية
الرحلة في طلب العلم رحلة مليئة بالذكريات والمواقف، تبتدئ من المحبرة وتنتهي في المقبرة، يُستقى فيها من معين الكتاب والسنة علوم شتى، تتزاحم فيها الركب بين أيدي العلماء، فيتعلم من علمهم ويتأدب بأخلاقهم، وما ذلك إلا جهد يسير تجاه العلم والعلماء، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة.(40/1)
قصتي مع كتاب (صفة صلاة النبي للألباني)
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
لقد طلب مني أن أتحدث عن رحلتي في طلب العلم أو عن مراحل طلبي للعلم، وهذا هو التوصيف الصحيح.
هذا الموضوع يصعب في الحقيقة على نفسي من أن أتكلم فيه؛ لأني لا أرى شيئاً ذا بال يذكر، لكن سأقول طرفاً من كيفية تحصيلي للعلم وكيف كان، لعل الله عز وجل أن ينفع بها.
كان أول ما فتحت عيني على العلوم الشرعية سنة (1974م) أو (1975) مع مطلع ازدهار الدعوة السلفية في مصر، وقد كنت أصلي في مسجد العين الحياة الذي كان خطيبه الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله، فكان تجار الكتب يعرضون هناك أصنافاً شتى من الكتب، وبعد أن ننهي الصلاة ننظر في هذه الأرففة، فلفت نظري كتاب اسمه (صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم) للشيخ الألباني بالحجم الصغير، الطبعة الثانية، فتناولت الكتاب وقرأت في مقدمته شيئاً وأنا واقف، فأعجبني أسلوبه، ونظرت إلى حواشي الكتاب فأحسست بفخامة الكتاب، ولكن لا أفهم شيئاً، فسألت عن سعر الكتاب، فكان وقتها أظن بـ (15) قرشاًَ، ولم أكن أقدر على ذلك الثمن آنذاك، فقلت: أؤجله للأسبوع القادم، فدرت أيضاً أبحث، فوجدت (تلخيص صفة صلاة النبي) للشيخ الألباني، فتناولته وكان بقرشين أو ثلاثة تقريباً، فلما قرأت هذا الكتاب وجدته يزلزل ما ورثته من الصلاة عن آبائي، أشياء جديدة جداً ومختلفة، فجعلت أحلم باقتناء الأصل، وأنا ما زلت خائفاً أني إذا رجعت إلى المسجد مرة أخرى ألا أجده، فقد يشتريه أحدهم، فعندما اشتريت الأصل -كما يقال- ألقيت الألواح ولاح لي المصباح ونور الصباح، وقرأت المقدمة التي -أحمد الله عز وجل- أوقفتني على الطريق من البداية.
إن الإنسان الذي يتردد ما بين الأفكار لا يكون منهجه سليماً أبداً، مرة يكون على الفكر الفلاني، فيكتشف أنه أخطأ ثم يحول إلى الفكر الآخر فيكتشف أنه أخطأ مرة أخرى، لكن إذا فتح الله عز وجل عينه على المنهج الصحيح من أول أمره فهذا يكون له فاتحة خير.
فمقدمة الشيخ الألباني على كتاب صفة الصلاة من أمتع ما قرأت في حياتي حتى الآن، لأنها لخصت القسم الثاني من الشهادة (وأشهد أن محمداً رسول الله) أي: لا متبوع بحق سوى النبي عليه الصلاة والسلام.
فالله تبارك وتعالى لا شريك له في العبادة، والنبي عليه الصلاة والسلام لا شريك له في الاتباع، فهذه المقدمة كانت مقدمة نفيسة، بدأت أشعر بها أن علم الحديث هو العلم الذي بدونه تبقى العلوم كلها مغلقة، لا تشعر بطعمها ولا حلاوتها؛ لأن علم الحديث علم خادم، وبقية العلوم مخدومة.
ولك أن تتصور منزلاً فيه أمير، ولكنه لا يستطيع أن يصنع لنفسه كوباً من الشاي! فهو لا يستغني عن الخادم، فبقاء الخادم هو بقاء حياته، كذلك علم الحديث بالنسبة لبقية العلوم الأخرى، علم الحديث يحتاج إليه المتكلم في التوحيد والتفسير والفقه؛ لأن أكثر الأدلة التفصيلية جاءت من السنة، فلو لم يكن الفقيه عالماً بتصحيف الآثار، فمن السهل جداً أن يقصر، بل قد وجدنا هذا في كتب الفقه، وكم من واجب صرفوه إلى مستحب بدليل واهٍ ضعيف أو العكس، ولذلك تجد الفقيه المعظم للدليل العالم بصحيحه من سقيمه؛ تجد لفقهه حلاوة لا تجدها للفقيه الصرف.
وخذ مثلاً بشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله، عندما يتحدثون في الفقه تشعر أن الفقه مثل الحكاية، تقرأ ولا تمل، لكن اقرأ بعض كتب المعاصرين لشيخ الإسلام ابن تيمية ممن بلغ رتبة الاجتهاد في المذهب، كـ علي بن عبد الكافي المعروف بـ تقي الدين السبكي، وقد كان في نظر البلقيني وولي الدين العراقي -ابن الحافظ زين الدين العراقي - قد وصل إلى رتبة الاجتهاد، وقد وقعت محاورة بين ولي الدين العراقي وبين شيخه البلقيني، يقول ولي الدين لشيخه البلقيني: لماذا تقي الدين السبكي إذا أفتى يفتي بخلاف الدليل، مع أنه بلغ رتبة الاجتهاد؟ فسكت البلقيني ولم يجبه، فقال ولي الدين العراقي: أظن ذلك لأجل الوظيفة، فقد كانت هناك مدارس في تلك الفترة، فمدرسة تدرس الفقه الشافعي، ومدرسة تدرس الفقه الحنفي، وأخرى الحنبلي إلخ، فلم يكونوا يسمحون لـ تقي الدين السبكي أن يخالف المذهب الشافعي، ولما فعل ذلك ابن رجب الحنبلي مع نباهته اعتزله الحنابلة؛ لأنه خالف ابن تيمية، فـ ابن رجب أراد أن يقول: إن ابن تيمية مع جلالته ليس نبياً معصوماً، ومن ذلك أنه خالفه في مسألة الطلاق ثلاثاً، فقد كان ابن تيمية يوقعها واحدة وابن رجب يوقعها ثلاثاً كبقية المذاهب.
فكذلك جماهير العوام من الشافعية لا يتحملون مخالفة تقي الدين السبكي للمذهب الشافعي، فـ ولي الدين قال: أرى أن ذلك لأنه كان يشغل منصب قاضي القضاة، وله فضائل على الشافعي.
قال: فتبسم البلقيني.
وكأنه أقره على مثل هذا، فأنت عندما تقرأ لـ تقي الدين السبكي في أي مسألة فقهية تشعر أن أمامك عقبات لابد أن تتجاوزها، ألفاظاً -من صعوبتها- تحتاج أن تفتح القاموس لكي تفهمها، بخلاف شيخ الإسلام ابن تيمية، عندما تقرأ له تشعر بالحلاوة، حلاوة الفقه والعرض، وتشعر معه أن المسألة هبة من الله سبحانه وتعالى.
فكانت مقدمة الشيخ الألباني في وجوب اتباع النبي عليه الصلاة والسلام مع تشديد نقل ما قاله الأئمة المجتهدون في تعظيم الرسول عليه الصلاة والسلام، وأنه لا ينبغي لأحد أن يوضع في مقابل النبي عليه الصلاة والسلام، وجدد لنا الكلام الذي لم نكن نعرفه عن علماء (إذا صح الحديث فهو مذهبي) ونحو هذه العبارات.
فعندما قرأت هذه المقدمة وجدت أن علم الحديث ينبغي أن يكون هو أولى العلوم الأكاديمية التي أدرسها، وأقول: (الأكاديمية) حتى لا يُستدرك علي بعلم التوحيد، أقول: أول العلوم الأكاديمية علوم الآلات، طالما دخلنا في الدراسة بعد اعتقادنا أنه لابد من دراسة العلم العيني، الذي لا تصح عبادة المرء إلا به، وإذا كان هناك جهد إضافي فيكون في علم الحديث.(40/2)
حضور دروس الشيخ المطيعي رحمه الله
في تلك الفترة كان الشيخ المطيعي رحمه الله صاحب تكملة المجموع في شرح المهذب للنووي، يعطي في ذلك الوقت أربعة دروس في بيت طلبة ماليزيا، فكان يشرح صحيح البخاري والمجموع للنووي وكتاب الأشباه والنظائر للسيوطي.
فبدأت أواظب على حضور دروس الشيخ المطيعي رحمه الله، ولكني تكاسلت عن حضور هذه الدروس في أواخر حياة الشيخ المطيعي في مصر بسبب كلمة قالها في الشيخ الألباني، والألباني هو الذي فتح عيني على الحق فأواليه، وهذه طبيعة الإنسان، ولذلك استأذنت أن أقول: من المفروض أن الإنسان عندما يدرس الفقه يدرسه بالدليل؛ لأنك بهذا تجعل الطالب يوالي صاحب الكلام، الذي هو الرسول عليه الصلاة والسلام.
وكان من ضمن المسائل التي تكلم فيها المطيعي رحمه الله مسألة قضاء الفوائت، والمعلوم أن الجماهير يقولون بوجوب القضاء حتى على المتعمد، خلافاً لـ ابن حزم ومن نحا نحوه كـ ابن القيم مثلاً، واختار هذا القول الشيخ الألباني.
فأنا عندما قرأت على الشيخ المطيعي ووصل إلى هذا الموضع في تدريس الفقه، قال: إن الصواب الإعادة.
- فقلت: يا شيخ! هناك من العلماء من يقول: إنه لا يستطيع أن يقضيها ولو أراد؛ لأن الصلاة فاتته من عشر سنوات فكيف يقضيها الآن، والله عز وجل يقول: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] (موقوتاً) أي: لها وقت أول ووقت آخر، فكما لا يجوز أن يصلي المرء قبل الوقت لا يجوز أن يصلي بعد الوقت.
- فقال لي: من قال بهذا؟ - فأنا كنت حديث عهد، ما قرأت في المحلى ولا أعرف أن هذا مذهب ابن حزم، فقلت له الشيخ: الألباني.
- قال: من الألباني؟ - قلت: هذا عالم.
- قال لي: من أصحابنا -أي: الشافعية-؟ - فقلت له: لا، هو عالم معاصر.
- قال لي: دعك من المعاصرين.
بعد ذلك جئت أكلم الشيخ المطيعي على مختصر البخاري للشيخ الألباني، وقال لي: إن البخاري لو أحياه الله لقال: لا أعرف هذا الكتاب، وإن مثل هذا المختصر كمثل رجل كتب حديثاً ثم مزقه -أي: الأوراق- وبدأ يجمع الأوراق مرة أخرى.
فالحقيقة بعدما سمعت هذا الكلام غضبت قليلاً وقلت: طالما أنه يقع على الشيخ الألباني فأنا لا أحضر الدرس، وتقاعست عن حضور الدروس مدة شهر أو شهرين، لكنني شعرت بحاجتي الشديدة لهذه الدروس، فما استطعت أن أتركها، وتبين لي مقدار الخسارة في ترك مثل هذه الدروس، خاصة لما قرأت تراجم العلماء وأنه لا يجوز للطالب أن يهجر أستاذه إذا وجد في خُلقه شدة أو نحو ذلك، ولقد تأثرت بما قرأته في ترجمة الطيماني الحنفي عندما قال: كنت أقرأ سنن الدارقطني عليه، فوقع الدارقطني في أبي حنيفة فتركت مجالسته، فمات الدارقطني وما قرأت عليه السنن، قال: ما ضر الدارقطني أني لم أقرأ، وندم كثيراً؛ لأنه تغيب عن هذه المجالس وفاته الخير الكثير.
وهذا خلق مذموم من الطالب أن يهجر شيخه لمجرد أنه آنس منه شيئاً يخالف هواه، كان الأعمش رحمه الله يشتد على طلبته، لدرجة أنه كان يهينهم أحياناً، جاءه راوٍ مشهور فقال: يا أبا محمد! اكتريت حماراً بنصف دينار وجئت لأسمع منك حديثاً.
فقال له: اكتر بالنصف الآخر وارجع، وأبى أن يحدثه.
وجاءه طالب آخر، فقال له: يا أبا محمد! حديث كذا وكذا ما إسناده؟ فأخذ بحلقه فألصقه بالحائط وقال: هذا إسناده، ولم يجبه، ولم يعطه الحديث.
والمشهور أن الأعمش ربى له كلباً، كان إذا سمع همهمتهم ودبدبة أرجلهم كان يطلق عليهم الكلب، وكان شعبة بن الحجاج وسفيان الثوري لما يرجعون إليه مرة أخرى، فكان الأعمش يقول لهم: لو تركتم ما عندي لسوء خلقي خسرتم.
فالحقيقة أن كلام الشيخ المطيعي في الألباني هون قليلاً من الاستفادة الكبرى والمواظبة التي كنت أواظبها على الشيخ المطيعي؛ لأن الألباني أول من فتح عيني على المنهج الحق، فصرت أواليه وأحبه، حتى إنه كان في فترة من الفترات في بداية الدعوة السلفية في مصر كان يوالى ويعادى على شخص الشيخ الألباني، وكنا نرى أن هذا مشروع، بدليل قول العلماء: إذا رأيت الرجل يبغض أحمد؛ فاتهمه على الإسلام، أي: لا يجتمع بغض أحمد مع السنة؛ لأن الإمام أحمد علم مشهور عندما يصفونه يقولون: إمام الحديث والسنة، مما يشعرك أن الرجل قد يكون إماماً في الحديث وليس إماماً في السنة، فكنا نأتي بمثل هذه الأقوال، ونقول: الألباني في زماننا مثل الإمام أحمد في زمانه، فنحن نوالي ونعادي عليه، فكانت هذه لها بعض السلبيات.(40/3)
رحلتي مع علم الحديث
لما أردت أن أقرأ في علم الحديث لم أكن أعرف إطلاقاً اسم كتاب من كتب المصطلح، فبدأت أذهب إلى المكتبات أبحث في الأرفف عن أي كتب في الحديث، فأول كتاب تناولته -وهو الذي فتح عيني- الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني، فأخذت هذا الكتاب، وبدأت أعرف أن هناك أحاديث مكذوبة، وبدأ هذا الكتاب يعكر علي المتعة العظيمة التي كنت أعيشها مع الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله، لقد كنت أذهب إلى خطبة الجمعة متعجلاً في الأسبوع كله، أتمتع بالإلقاءات والأحاديث، ولكن اكتشفت فيما بعد أن الشيخ رحمه الله كأنه كان يحضر خطبة الجمعة من الفوائد المجموعة، من كثرة الأحاديث الموجودة فيه.
فأول حديث وقفت عليه في الكتاب وسمعته من الشيخ عبد الحميد رحمه الله كان حديث: (إن الله يتجلى للناس عامة، ويتجلى لـ أبي بكر خاصة) كان الشيخ -رحمه الله- له درس بعد صلاة المغرب، وكان الناس يأتون يقبلون يده بكثرة، فما استطاع أن يمنعهم، فصار يتركها، يجلس على الكرسي ويمد يده، فمن مقبل ومن مصافح، ونحو ذلك.
فأنا وقفت في الطابور من أجل أن أنتظر دوري في السلام فسلمت عليه، وهمست في أذنه، وقلت: يا شيخ! هناك حديث قرأته لـ ابن القيم رحمه الله قال فيه: الحديث مكذوب وموضوع، وهو حديث كذا وكذا، قال لي: لا، هذا الحديث صحيح.
فما راجعته.
لكن هذا الكتاب فتح عيني على أن هناك أحاديث موضوعة ومكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك أحاديث نسمعها من الواعظين ومن هم في نظرنا من العلماء؛ لأنا لم نكن نفرق آنذاك بين العالم والواعظ، فوجدت كثيراً من الأحاديث التي يحتج بها هؤلاء موجودة ضمن هذه المجموعة، فشدني هذا أكثر إلى ضرورة دراسة علم الحديث؛ حتى أميز بين الأحاديث الصحيحة من الأحاديث الموضوعة والمنكرة والشاذة.
وبعد اقتناء هذا الكتاب صار عندي قناعة كاملة في ضرورة دراسة هذا العلم الشريف، وبينما أنا أطوف أيضاً على الكتب وجدت أول مائة حديث من سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للشيخ الألباني، لما تناولت السلسلة الضعيفة ووجدت أن الشيخ كان حريصاً على أن يحقق أشهر الأحاديث على ألسنة الناس، فأصبت بشيء من الإحباط، وظننت أنه لا يوجد حديث صحيح؛ من كثرة الأحاديث المشهورة على ألسنتنا التي أوردها الشيخ في السلسلة الضعيفة.
فبدأت مع الشيخ المطيعي رحمة الله عليه أفهم لأول مرة المصطلحات التي كان يقولها عن الإسناد وأنا لا أفهمها، سألته عن كتب أستعين بها، فدلني على كتاب اسمه (احتراز السنة في تبسيط علوم الحديث)، فأخذت هذا الكتاب، ومن خلال حواشي الكتاب عرفت كتب الفن التي ينقل منها، مثل: تدريب الراوي، وفتح المغيث، توضيح الأفكار، وغيرها من الكتب التي بدأت أنقب عنها.
المهم: وصلت إلى المائة الأولى من السلسلة الضعيفة، ووجدت أن الشيخ الألباني له أحكام مختلفة على الحديث، فمرة يقول: باطل، ومرة يقول: موضوع، ومرة يقول: منكر شاذ ضعيف معل، فسألت نفسي: هل هذه الألفاظ كلها لها معنى واحد أم لها معانٍ مختلفة، أو أن الإنسان عنده الحرية أن يعبر بأي لفظ من هذه الألفاظ على أي حديث؟ فبدأت دراسة السلسلة الضعيفة، وكانت من أمتع الدراسات التي درستها ونفعني الله عز وجل بها كثيراً في تمييز الأحاديث.
أول حديث حققت معناه (المنكر)، والمنكر في الاصطلاح: هو مخالفة الضعيف للصدوق، فحديث الصدوق يكون مقبولاً، وحديث الضعيف يكون منكراً، لكن أجد أحياناً أن الثقة إذا خالف فإنه يكون منكراً أيضاً، فبدأت بهذه الطريقة، حتى استكملت الخمسة الأجزاء الأولى -التي هي الخمسمائة حديث الأولى- مع بقية السلسلة، وبدأت أنظر في كل حديث قال فيه الشيخ الألباني: منكر، هل هناك سمة معينة في كل حديث قال فيه: منكر، بحيث أعرف حد المنكر أم لا؟ فقرأت كل الأحاديث التي قال فيها: منكر كاملةً، فلم أجد شيئاً أستطيع أن أفسره آنذاك، لكن صار عندي رسم للمنكر ونفيه، أول ما أرى هذا الحديث أعرف أنه منكر، ولا يقال عليه مثلاً: باطل أو موضوع أو نحو ذلك.
هناك فرق كبير جداً ما بين المحدث والرجل العالم بالاصطلاح، المحدث نادر الوجود، إنما الذي يعرف الاصطلاح كثيرون، فأنت ربما وجدت رجلاً لم تقف له على تحقيق حديث، لكن له فهم في مصطلحات أهل الحديث، وهذا ليس صعباً، لكن هل هو محدث بمعنى: هل له ملكة يستطيع بها تمييز الحديث الصحيح من الضعيف؟ هناك فرق كبير ما بين الشيخ الألباني -كرجل محدث، اختلط الحديث بشحمه ولحمه على مدار ستين سنة- وبين كثير من الفقهاء الذين صنف بعضهم رسائل في مصطلح الحديث.
أبو حاتم الرازي ألقي عليه مرة حديث رواه الأعمش عن أبي سفيان طلحة بن نافع عن جابر بن عبد الله الأنصاري، فقال: هذا لا يشبه أحاديث الأعمش، هذا يشبه أحاديث عمرو بن الحصين.
مع العلم أن عمرو بن الحصين كذاب، والأعمش كان مدلساً، فمن المحتمل أن يكون الأعمش دلسه.
يقول أبو حاتم الرازي: إنه دخل بعد عدة سنوات بلداً من البلدان لطلب الحديث، فإذا به يجد هذا الحديث عن الأعمش عن عمرو بن الحصين عن أبي سفيان طلحة بن نافع عن جابر، فصدقت فراسة أبي حاتم الرازي، التي يسميها العلماء الملكة، وهذه الملكة لا تتأتى إلا بكثرة الممارسة، وهذه الملكة ليست مقصورة على علم الحديث فقط، بل كل الصناعات خاضعة للملكة من ذلك: كنت أقف مع رجل ميكانيكي سيارات، وكان أمامنا طريق سريع، فمرت سيارة مسرعة ولها صوت مزعج، صاحبي الميكانيكي قال لي: هذه السيارة التي مرت ولها صوت مرتفع ليست مشحمة، والعجيب أن صاحب السيارة كان آت إلى هذا الميكانيكي، فأول ما رآه الميكانيكي قال له: السيارة تحتاج إلى شحم.
فقال له: أنت تعلم الغيب! فقال له: أنا بمجرد سماعي للصوت أعرف العلة أين، فعندما فحص السيارة وجد فعلاً أنه ليس فيها شحم.
فهذا الميكانيكي صبي له عشر سنين استطاع أن يعرف خلل السيارة سريعاً، وما ذلك إلا بسبب الممارسة المستمرة للعمل.
فالمسألة ليست مقصورة على علم الحديث، أن يقال: إن علم الحديث هو الذي يحتاج إلى ملكة فقط، بل كل العلوم، والإنسان تزداد خبرته في هذا العلم مع طول الوقت وبالتالي يحصل هذه الملكة.
لذلك هناك فرق بين المحدث والمتكلم في المصطلح، التكلم في المصطلح سهل جداً، أنا قد أقرأ قواعد اللغة العربية وأتكلم وأقول: هذا مرفوع وهذا منصوب وهذا مجرور، لكن متى يظهر علم العالم؟ يقول الشافعي رحمه الله: إنما العالم الذي يعرف الاختلاف، ليس العالم الذي يعرف الاتفاق أن يقال: أجمعوا على كذا، إنما العالم هو الذي يعلم الراجح من اختلافه، فيقال: أهل الكوفة قولهم كذا، وأهل البصرة قولهم كذا، والراجح كذا، فالعلم في الحقيقة هو علم الخلاف.
ومن مسائل علم الحديث: التفريق بين الباطل والموضوع، حيث أنهما لا يحتج بهما، لكن علماء الحديث جعلوا جل حكمهم على الموضوع إذا كذبه أحد الرواة، فإذا كان هناك كذاب في السند فإنهم يقولون عليه: موضوع، وإذا كان في الحديث رجل صدوق، لكنه سيء الحفظ يقولون: باطل، وهذه مسألة اصطلاحية، ولا مانع أن تجد أحد العلماء يضع هذه التسمية مكان تلك.
فمثلاً: حديث: (من صلى بالليل حسن وجهه بالنهار) كان شريك بن عبد الله النخعي رجلاً مداحاً، يجلس في المسجد يملي على الطلبة، فقال مرة: حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال، فدخل ثابت بن موسى الزاهد من الباب -وسمي الزاهد لزهده وعبادته وورعه- فعندما رآه شريك أحب أن يرحب به، فقال له: (من صلى بالليل حسن وجهه بالنهار) أراد أن يداعبه، فظن ثابت بغفلته أن هذا هو الحديث، فخرج ثابت بن موسى الزاهد من المسجد يقول: حدثني شريك قال: حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى بالليل حسن وجهه بالنهار) فهذا الحديث دخل على ثابت لغفلته، ما كذبه ولا افتراه، فنحن عندما نأتي نحكم على هذا الحديث نقول: هذا باطل، لا نقل: موضوع؛ لأنه ما كذبه، ومع ذلك هناك من العلماء من يقول: هذا الحديث موضوع، كـ العراقي في الألفية يقول: والواضعون بعضهم قد صنعا من عند نفسه وبعضٌ وضعا كلام بعض الحكما في المسند ومنه نوع وضعه لم يقصد نحو حديث ثابت (من كثرت صلاته) الحديث وهلة سرت يريد أن يبين أن هناك بعض الواضعين الذين وضعوا الأحاديث وتعمدوا الكذب، وهناك نوع آخر وضعه لم يحفظ وهو المغفل.
وحديث ثابت قد خفي أمره على القضاعي، فأورد هذا الحديث في مسند الشهاب وقواه بخمس طرق، لفق الكذابون له أسانيد من عندهم، فلم يفطن القضاعي لهذا، وقوى الحديث بهذه الطرق.
دخل الكسائي على هارون الرشيد، وكان هارون الرشيد متكئاً، فلما دخل الكسائي عليه؛ قال له هارون: اجلس.
قال: بل أقعد يا أمير المؤمنين.
أي: لا تقل لي: اجلس، ولكن قل لي: اقعد، فقال هارون: فما الفرق بينهما؟ قال له: القعود يكون من وقوف، والجلوس يكون من اتكاء، كما في الحديث: (وكان متكئاً فجلس) ومع ذلك فإن العرب تضع الجلوس للقيام، لكن ليس هذا هو الغالب.
فالحقيقة: أن سلسلة الأحاديث الضعيفة قضيت معها نحو سنتين من عمري أتأمل وأقرأ وأعيد القراءة مرة وا(40/4)
مع الشيخ الألباني
بعد نحو عشر سنوات تقريباً جاء الشيخ الألباني حفظه الله إلى مصر سنة (1976م) وحاضر في أنصار السنة في العابدية، لكنني ما استطعت أن ألتقي به، لكنني التقيت بالشيخ حفظه الله أول مرة (سنة 1407هـ) لما رحلت إلى الأردن، وكان بصدد إصدار بعض الكتب، وأذكر أنه كان يوجد هناك طالب غال في حب الشيخ ناصر، والغلو لا يأتي بخير أبداً، وهو الآن عدو للشيخ الألباني، وهذا الطالب ذكره الشيخ ناصر في مقدمة كتابه (مختصر الشمائل) ذكر أنه لما نزل الأردن أخلى داره للشيخ الألباني وأهله، وذهب يستأجر لنفسه داراً أخرى لمدة ثلاثة أشهر، حتى بنى الشيخ الألباني داره التي يسكن فيها.
فهذا الذي تطوع هو الذي أعطى الشيخ الألباني فكرة سابقة عني، وهو الذي سهل لي أن ألتقي به، وإلا كانت المسألة صعبة جداً.
كان أعظم شيء اكتسبته في الرحلة إلى الشيخ الألباني الأدب، لا العلم، فمصاحبة العلماء مسألة في غاية الضرورة، وعندما رأيت الشيخ قلت في نفسي: إن هذا الرجل سقط سهواً من القرون الأولى، نظرة الحديث واضحة على وجهه، وتواضعه الشديد وهضمه لحجم نفسه.
قلت له مرة: يا شيخ! أنت قلت بأنه يجوز تقبيل يد العالم.
قال: العالم، وهل رأيت عالماً؟ قلت له: أنا أرى الآن عالماً.
قال: لا، أنا طويلب علم.
لا أنسى أبداً هذه الجملة، كم أثرت هذه الجملة في نفسي! هذه الرحلة بالرغم أنها كانت قصيرة قرابة شهر، إلا أنها كسرت هذا الأمر تماماً، وندمت أن الإنسان لم يبق في الأردن فترة طويلة يلازم الشيخ حتى يتعلم منه الأدب، لكن على أية حال هذا جاء مجمل الكلام على طلب الحديث خاصة.
وقد كنا نحضر في الجامع الأزهر عند كثير من المشايخ، ندرس الفقه والقراءات والنحو، وليس في سيرتي شيء أكثر يستحق الذكر.
والله أعلم.(40/5)
الأسئلة
السؤال
هل درست عند الشيخ سابق؟
الجواب
كان الشيخ المطيعي شيخ سيد سابق، تتلمذنا على يديه لفترة من الفترات، وأخذنا قراءة ورش -لكن ليس كلها- على خاله، أستاذ قراءات، كان يدرسنا كتاب (هداية المريد).
السؤال: الجواب: والله لا أدري، لكن الشيخ سيد سابق أنت تعلم كتاب فقه السنة للشيخ سيد سابق كتبه وكان عمره خمسة وعشرون سنة، وهذا موافق نيل الأوطار، فالشيخ سيد سابق لم يكن له فيه ترجيح، كان شاباً صغيراً، وأحسن تلخيص نيل الأوطار، كما أحسن عرض الفروع.(40/6)
صناعة رجل النصر
أمة الإسلام أمة مليئة بالعظماء أمة تصنع الرجال، لا تعرف الذل والانكسار إلا لله، وما ذلك إلا لأنها عرفت حقيقة العبودية والتزمت بها، ومتى ما تنكبت عن طريق العبودية أصابها الذل والهوان فهانت على عدوها وتولى زمام أمورها أحقر الناس وأراذلهم، والله عز وجل لا يحابي أحداً من عباده، فمتى رأى من عباده صدق العبودية والتوبة والرجوع إليه؛ نصرهم ومكنهم من رقاب أعدائهم، وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.(41/1)
فساد المرأة وأثره على الأجيال
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
روى البخاري رحمه الله في مطلع صحيحه حديث أبي سفيان بن حرب رضي الله عنه، وقد رواه مسلم أيضاً في مناظرة أبي سفيان مع هرقل عظيم الروم.
وقد كانت هذه المناظرة في شأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في وقت ظهوره، فكان من جملة المحاورة قول هرقل لـ أبي سفيان: كيف كان قتالكم إياه؟ قال: الحرب بيننا وبينه سجال، ننال منه وينال منا.
وفي صحيح البخاري أيضاً من حديث البراء بن عازب وهو يذكر طرفاً من واقعة أُحد، لما خالف الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركوا مواقعهم: (وصعد أبو سفيان على قمة الجبل وقال: أفيكم محمداً؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا تجيبوه؟ أفيكم أبو بكر؟ قال: لا تجيبوه؟ أفيكم عمر؟ قال: لا تجيبوه؟ حينئذٍ رفع عقيرته قائلاً: اعلُ هبل)، لعلمه أن قيام الإسلام كان بهؤلاء، وحيث أنهم لا يجيبونه إذاً فقد قتلوا، فحينئذٍ افتخر بآلهته ورفع صوته وقال: اعلُ هبل.
فقال صلى الله عليه وسلم: (ألا تجيبوه، قالوا: وماذا نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل، فقال: لنا العزى ولا عزى لكم.
قال: ألا تجيبوه؟ قالوا: كيف نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم، فقال أبو سفيان: يومٌ بيوم بدر، والحرب سجال).
الحرب سجال كما قال أبو سفيان: ننال منه وينال منا، وكما قال تبارك وتعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، كانت الحرب سجالاً، فكيف صارت الحرب من طرف واحد؟ سجال.
يعني: لنا الغلبة مرة ولهم الغلبة مرة أخرى، لكن تاريخنا المعاصر يشهد بأن الغلبة لأعدائنا في كل الجولات باستثناء جولة واحدة، وقد ذهبت أدراج الرياح أيضاً، والتاريخ المعاصر يشهد أن كل الهزائم بلينا نحن بها، ولم تعد الحرب سجالاً كما كانت، فما هو السبب يا ترى؟ السبب أن أجل صناعة عرفتها الدنيا والتي انفردنا بها أجيالاً وقروناً طويلة، قد جفت منابعها، ألا وهي صناعة الرجال.
إن الشخصيات الكبيرة التي يلمع أسماؤها في بلادنا اليوم هي شخصيات مصابة بالشذوذ الجنسي والعقد النفسية، وأعداؤنا يقدمون هذه الشخصيات لأمتنا على أساس أنها هي القدوة والأسوة.
أمة الإسلام أمة مليئة بالعظماء، فكيف جفّت هذه الصناعة وكيف عز الرجال فيها؟! وهذا واضح من كلام أبي سفيان: أفيكم محمداً؟ أفيكم أبو بكر؟ أفيكم عمر؟ هذه هي الشخصيات التي يقوم عليها دين، ونحن لا نعلم من لدن آدم عليه السلام إلى هذه اللحظة التي أتكلم فيها من شهر رجب من عام ألف وأربعمائة وواحد وعشرين هجرية لا نعلم جيلاً من الأجيال أقام دولة في عشر سنوات إلا هذا الجيل الفريد.
لقد جفت منابع هذه الصناعة بسبب فساد المرأة، فالمرأة هي المعمل الطبيعي الذي يخرج منه الأبطال، فالمرأة مهمتها أن تلد وتربي، ولذلك تجد أعداء الدين يدندنون حولها وما ملوا أبداً.
وهناك قاعدة إعلامية معروفة تقول: (ما تكرر تقرر).
فإذا أرادوا أن يقرروا شيئاً كرروه ليلاً ونهاراً، حتى لو كان شيئاً تافهاً ليس له قيمة.
أذكر عندما جاءوا بقصة حسنين ومحمدين، كان العالم كله يضحك لتفاهة المضمون، لكن النتيجة ظهرت بعد أربع سنوات من استمرار العرض للقصة، فقد اقتنع العالم بفكرة تكوين أسرة صغيرة وأن فيها حياة أفضل، وقد انطوت هذه القصة بكل أسف على بعض رجال العلم مع فهمهم للفكرة ومصادمتها لنصوص قاطعة في الكتاب والسنة.
وبدأت المسألة بذهاب قاسم أمين إلى باريس، ليؤدي الدور المطلوب، ثم رجع إلى مصر، وكان بطبيعة الحال لا يستطيع أن يواجه المسألة مرة واحدة، فكتب كتاب: تحرير المرأة.
وقال: إنني لا أقصد بتحرير المرأة تحريرها من دينها، حاشا لله، لا، ولكن نريد أن تتعلم المرأة.
لقد استغل الأوضاع السيئة التي بالغ الآباء الجاهلون فيها في رفض تعليم المرأة حتى في البيت، فقال: أنا أريد أن المرأة تخرج لكن في حدود الدين، وتتعلم القرآن، وتقرأ سنة نبيها صلى الله عليه وسلم.
وقد كان محمد عبده من الذين تبنوا فكرة قاسم أمين، ودافعوا عنه وأشادوا بعقله المستنير، وأن الذي يطلبه هو من صميم الإسلام، فقالوا: لذلك نحن نبني مدارس خاصة للبنات لا يدخلها رجال، لأن هذا مناقض لديننا، ونحن لا نقصد بتحرير المرأة أن تخرج من دينها، لا.
نحن نريدها أن تتعلم حتى تستطيع أن تقرأ في الكتاب والسنة، فنحن نبني مدارس خاصة للبنات، ونشدد أن ولي الأمر هو الذي يصطحب ابنته من البيت إلى المدرسة، فكانت البنت تخرج من البيت على (الحنطور) ولا يراها أحد وتنزل داخل فناء المدرسة، وبدأت الفكرة النيرة تظهر وتتبلور، وبدأ الناس يقتنعون بها ويتبناها بعض العلماء.
لكن الواقع أن ولي الأمر بطبيعة الحال لا يستطيع أن يوصل البنت إلى المدرسة يومياً ولفترة زمنية طويلة؛ فأوجدوا سائقاً يوصلها إلى المدرسة يومياً، واستمرت لفترة حتى جاءت مشكلة زحمة الأشغال على السائقين وعدم قدرتهم على توصيل البنات يومياً إلى المدرسة، فقرروا أن البنت هي التي تذهب من البيت إلى المدرسة.
إذاً: بدأت المسألة شيئاً فشيئاً، فالأب ما عاد يستطيع أن يذهب كل يوم، والسائق كانت لديه أشغال كثيرة، وما يستطيع أن يوصل الحنطور إلى المدرسة، فجاءت فكرة أن البنت تخرج بنفسها من بيتها إلى المدرسة، قال تعالى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سبأ:33].
وما هي إلا فترة بسيطة حتى بدأ قاسم أمين يظهر منهجه وفكره خاصة في كتابه: المرأة الجديدة الذي ألفه بعد كتاب: تحرير المرأة، وأسفر فيه عن وجهه فعلاً.
لقد دعا فيه إلى ضرورة الاختلاط بين الرجل والمرأة، وأن الدنيا هذه كلها رجل وامرأة، وما المانع أن يخاطب الرجل المرأة وتكون نفسيته طاهرة، وأن تخاطب المرأة الرجل وتكون إنسانة عفيفة نبيلة.
لماذا نفترض سوء الظن، وأنه ما اجتمع رجل وامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما إن هذا سوء ظن!!.
من ذلك الوقت صار هم المرأة أن تتعلم، وأن تدخل في وسائل التعليم المختلفة وتأخذ الماجستير والدكتوراه، وأصبحت تنافس الرجل في كثير من المناصب والمراكز والأعمال.
كان أبو البنت يقول: كل هذا التعليم حتى تجلس في البيت!! لا.
لا بد أن تحقق ذاتها، والمرأة هي نصف المجتمع، فتكون نصف طاقات المجتمع معطلة!! كان ثلاثة أرباع الشباب جالسين على الأرصفة لا وظائف ولا أعمال وهم يقدمون المرأة.
من الأولى بالوظيفة؟ هل الشاب الجالس على الرصيف بلا وظيفة أم المرأة التي لا عمل لها بالحقيقة؟! فمن هنا بحثنا عن الرجال الذين سيقفون لهؤلاء الأوغاد الجبناء الذين وصفهم رب العالمين بقوله: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14].
هذه الأمة ينتسب إليها مليار مسلم، لو بصق كل واحد منهم بصقة لأغرقوا خمسة عشر مليون يهودي، يتحكمون في اقتصاد العالم وزراعته وتجارته.
في سنوات الضعف والهزيمة، أصبح الضعف والاستسلام كياسة وحكمة، وهؤلاء لا يعرفون إلا منطق القوة.
أحد الشعراء أجاد في تصوير الضعيف والقوي من الأمم، فذكر قصة رمزية دارت بين طائر الشحرور الضعيف وبين الثعبان القوي، فقال كان الربيع الحي روحاً حالماً غض الشبابِ معطر الجلبابِ يمشي على الدنيا بفكرة شاعرٍ ويطوفها في موكبٍ خلابِ فرآه ثعبان الجبال فغمهُما فيه من مرحٍ وفيضِ شبابِ فانقض مضطغناً عليه كأنه سوط القضاءِ وفرية الكذابِ بُغت الشقيّ من هول الردى متلفتاً للصائل المنتابِ وتدفق المسكين يضرخُ قائلاً ماذا جنيتُ أنا فحقَ عقابي لا شيء إلا أنني متغزلٌ بالكائنات مغردٌ في غابي ألقى من الدنيا حناناً طاهراً وأبثها نزو المحب الصابي أيعّدُ هذا في الوجود جريمةً أين العدالة يا رفاق شبابي فالشرع المقدس ها هنا رأي القوي وفكرةُ الغلابِ وسعادة الضعفاء جرمٌ ما له عند القوي سوى أشد عقابِ ولتشهد الدنيا التي غنيتها حلم الشباب وروعة الإعجابِ أن السلام حقيقة مكذوبةٌ والعدل فلسفة اللهيب الخابي لا عدل إلا إن تعادلت القوى وتصادم الإرهابُ بالإرهابِ فتبسم الثعبان بسمةَ هازئٍ وأجاب في سمتٍ وفرط إهاب يا أيها الغر المثرثر إنني أُرثي لثورة جهلك التلآبِ فاكبح عواطفك الجوامح إنها شردت بلبك واستمع لخطابي إني إلهٌ طالما عبد الورى ظلي وخافوا لعنتي وعقابي وتقربوا لي بالضحايا منهمُ فرحين شأن العابد الأوابِ أفلا يسرك أن تكون ضحيتي فتحل في لحمي وفي أعصابي وتكون عزماً في دمي وتوهجاً في ناظري وحدةً في نابي فكر لتدرك ما أريد وإنه أسمى من العيش القصير النابِ فأجابه الشحرور في غصص الردى والموت يخنقه إليك جوابي لا رأي للحق الضعيف ولا صدى والرأي رأي القاهر الغلابِ فاصنع مشيئتك التي قد شئتها وارحم جلالك من سماع خطابي أصبح الضعيف لا يملك إلا الشجب والاستنكار، والقوي يفعل ما يريد، إننا في أمس الحاجة إلى هذا الصنف الذي رفع أبو سفيان عقيرته قائلاً: أفيكم محمداً؟ أفيكم أبو بكر؟ أفيكم عمر؟ وهذه أمة متفردة في صناعة الرجال.
فينبغي على المرأة أن تقوم بدورها في هذه المحنة، وأن ترجع مرة أخرى إلى بيتها، وأن تربي الأبن(41/2)
دروس من غزوة بدر
لقد تمت غزوة بدر على غير ميعاد، فقد خرج المسلمون من ديارهم بقصد إحراز العير، حيث كان المهاجرون قد خرجوا من ديارهم وأموالهم فقراء مختارين راضين، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} [النساء:66].
الخروج من الديار ليس أمراً سهلاً، ومع ذلك تركوا أموالهم أيضاً، منهم: صهيب الرومي خرج سراً في جناح الليل، من مكة إلى المدينة، فعلم كفار قريش بخروجه فأدركوه في الطريق، قالوا: جئتنا صعلوكاً لا مال لك، وتريد أن تخرج بالمال؟ قال: أرأيتم لو أعطيتكم مالي تخلو بيني وبين ذهابي؟ قالوا: نعم.
فأعطاهم المال، فلما وصل إلى المدينة لقي النبي صلى الله عليه وسلم وحكى له ما جرى، فقال له: (ربح البيع أبا يحيى).
هذه الأنفس خالقها هو الله وهذه الأموال رازقها هو الله، يأخذها منا ويعطينا الجنة، فخرج هؤلاء من ديارهم وأموالهم، وكان لا بد من القصاص، قالوا: نعترض العير ونأخذ هذه الأموال عوضاً عن الأموال التي أخذوها منا.
أراد جماعة من الأنصار -وكانت بيوتهم في عوالي المدينة- أن يذهبوا ويأتوا بالعدّة ولأمة الحرب والخيول، فقال صلى الله عليه وسلم: إنا لم نخرج لقتال، إنما لنحرز العير وهذا العدد كاف.
كانت القافلة فيها أبو سفيان وبضعة عشر رجلاً، خرج لها ثلاثمائة وبضعة عشر مسلماً، لم يكن معهم غير فرسين: فرس الزبير بن العوام وفرس المقداد بن الأسود وكان معهم ثلاثون بعيراً، كل ثلاثة يتناوبون بعيراً.
لكن الحرب فرضت نفسها، فقد استطاع أبو سفيان أن يستأجر رجلاً ويأخذ ساحل البحر هارباً، وأرسل الأجير إلى قريش يطلب النجدة ويخبرهم أن العير أفلتت وأن المسلمين خرجوا للاعتداء عليها.
فقال أبو جهل للناس: لابد أن نرد بدراً وننحر ونشرب الخمر وتغني لنا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبداً، لكن الله عز وجل جمع بينهم على غير ميعاد.
فلما فرضت الحرب نفسها ولم يأخذ المؤمنون أهبة استعدادهم؛ تضرع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه وبالغ في رفع يديه وفي إظهار الذل له تبارك وتعالى: اللهم نصرك الذي وعدت، اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إنهم عالة فقراء، اللهم إنهم جياع فأطعمهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض.
وبالغ في رفع يديه ذلاً واستكانة وانخلاعاً من الحول والقوة، حتى أمسك أبو بكر بمنكبه صلى الله عليه وسلم بعدما سقط رداءه من على منكبه وقال: يا رسول الله! كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك.
حينئذٍ تهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا أبا بكر! هذا جبريل نزل على ثناياه النقع وقد لبس لأمة الحرب.
وقال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9] مردفين، أي: بعضهم يتبع بعض، فلماذا نزلوا؟ {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} [الأنفال:10]، كان نزول الملائكة بشرى أن النصر قادم ولتطمئن القلوب بأن الملائكة في جوار المؤمنين، وهذا النصر هو من عند الله؛ ولذلك قال عز وجل: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأنفال:10]، ما انتصر الملائكة وما نزلوا للنصر، إنما نزلوا للبشرى ولتثبيت الأقدام {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126]، عزيز لا يُغلب، ولا يذل جاره إذا استجار به.
ودارت رحى الحرب وكانت موقعة بدر الكبرى، وكانت فرقاناً كما قال الله عز وجل: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال:41]، فصارت شامة في جبين الدهر، حتى صار الذي حضرها يُنسب إليها ولا ينسب لأي غزوه من غزوات الإسلام، فيقال: فلان البدري، ولا يقال: الأُحدي ولا التبوكي ولا اليرموكي ولا أي غزوة من الغزوات، فنزلت فيهم بشارات عظيمة.
منهم حاطب بن أبي بلتعة لما كاتب المشركين بخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وأعطى امرأةً كتاباً بخروج النبي صلى الله عليه وسلم فوضعته في ظفيرتها يخبرهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل جبريل عليه السلام يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما فعل حاطب، فأرسل علي بن أبي طالب والمقداد بن الأسود وقال: اذهبوا إلى روضة خاخ، حيث تجدون ضعينة، في ظفيرتها كتاب، ائتوني به.
فذهبوا إلى هناك، فوجدوا المرأة، فقال لها علي بن أبي طالب: أخرجي الكتاب.
قالت: ما معي من كتاب، قال: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، ففكت المرأة ظفائرها وأخرجت الكتاب، فأخذه علي بن أبي طالب، ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان حاطب في المجلس لا يعلم شيئاً، ففتح الكتاب وقرأ: من حاطب بن أبي بلتعة إلى نفر من المشركين يخبرهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
لما قرئ الكتاب استشاط عمر غيظاً وقال: يا رسول الله! دعني أقطع عنق هذا المنافق.
فقال حاطب الذي شهد بدر: يا رسول الله! لا تعجل عليِّ، فوالله ما فعلت هذا كفراً ولا رضاً بالكفر بعد الإيمان، ولكن لي قرابة في مكة.
كان حاطب ليس له نسب وليس له ظهر في مكة، فكان المشركون يؤذون قرابته أشد الأذى، فأحب أن يتخذ يداً عند المشركين يحمي بها قرابته، فكان هذا هو الذي دفعه إلى هذا الفعل، قال: ما فعلت هذا كفراً ولا رضاً بالكفر بعد الإيمان، ولكني كنت امرءاً ملصقاً في قريش، فأردت أن أتخذ صنيعة أحمي بها قرابتي ومالي).
فقال عمر: يا رسول الله! دعني أقطع عنق هذا المنافق.
فقال لـ عمر: (وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم).
هذه خاصِّية ليست لأحد إلا لهذه الطائفة التي شرفها الله عز وجل بحضور هذه الموقعة، ففي الحديث الصحيح أيضاً أن حاطب بن أبي بلتعة كان قاسياً على غلامٍ له يضربه، فذهب الغلام يشتكي حاطباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكان من جملة ما قاله الغلام للنبي صلى الله عليه وسلم: والله يا رسول الله ليدخلن حاطب النار، فقال صلى الله عليه وسلم له: كذبت إنه شهد بدراً إنه شهد بدراً.
وقال: (لا يلج النار أحد شهد بدراً والحديبية) لأن بدراً كانت فتحاً وكانت الحديبية فتحاً أيضاً، ونزل في الحديبية قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، مع الظلم الظاهر في بنود صلح الحديبية.
فاستغاث النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون بالله، وقد كان له صلى الله عليه وسلم عريش يصلي فيه طول الليل ويدعو الله تبارك وتعالى أن ينصره على هذه الطائفة.(41/3)
مقومات النصر في غزوة بدر
إن المقومات التي كانت عمود النصر في بدر، أربع مقومات: قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران:123]، أول مفتاح من مفاتيح النصر: ذل الإنسان وافتقاره إلى رب العالمين، فليس له قيمة إلا إذا نظر الله إليه، فيحقق العبودية؛ لأن العبودية معناها: الذل الكامل لله.
ولذلك الحجر والشجر عندما يختفي يهودي خلفه يقول: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله.
فهل حققنا العبودية لله تباك وتعالى؟ بكل أسف لم نحققها على المستوى الجماعي، بل ولا حتى على المستوى الفردي، إلا طائفة من عباد الله هم الذين صبروا على اللأواء، وصبروا على التشريد وصبروا على الضرب.
ومن تمام العبودية لله: أنك لا تقدم شيئاً من الأحكام مطلقاً على حكم الله.
فهل يُعقل يا أخي أن يستفتى على تحريم الخمر؟ الخمر الذي حرمه الله بالنص القاطع الظاهر الذي لا يحتمل تأويلاً قط، تجدهم يعرضونه للتصويت، من كان حالهم مع دينهم هكذا فأنَّى ينصرون، لا والله لا ينصرون.
إن سنة الله الكونية لا تتخلف، ولا تحابي أحداً.
إن الله لينصر الدولة الكافرة لو كانت عادلة، ويخذل الدولة المسلمة لو كانت ظالمة.
إن المظاهرات كلها لعب وضحك يتم فيها استفراغ شحنات الغضب: الموت لإسرائيل، يسقط اليهود.
ثم بعد ذلك تنفد قوة المتظاهر ولا يستطيع أن يمشي على رجليه، فيذهب إلى البيت وينام على السرير.
هذه الأمة ينبغي أن يبقى بركان الغضب تأثراً في نفوس أبنائها، وأن تسير وفق برنامج عملي، منهجي يتم فيه تحقيق العبودية على وجهها كما أراد الله عز وجل، وكما سنها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بيوتنا اليوم تعج بالمخالفات.
وأنت ولي الأمر في بيتك، ما الذي يمنعك أن تنقي بيتك من المخالفات؟ ما الذي يمنعك أن تكون قيماً على من في بيتك؟ إن الله سائل كل راعٍ عما استرعاه: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته).
يوم نكون عبيداً لله عز وجل سننتصر على أعدائنا برغم قلة عتادنا وعدتنا، كما نصر الله عز وجل الذين خرجوا لا بنية القتال، وكانوا يقتسمون التمرات، وكانوا يتناوب الثلاثة منهم على البعير الواحد نصرهم على الكفرة الذين كانوا يذبحون عشرة جمالٍ في اليوم ويأكلونها؛ لأن الله قد حسم القضية فقال: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:10]، (عزيز): لا يغلب جاره.
(حكيم): لا يمكن أن يضع النصر في أيدي أناس لم يحققوا العبودية له حكمته تأبى ذلك.
هل يعطي الله النصر لرجل لا يحقق العبودية له تبارك وتعالى؟ هيهات هيهات فأول مفتاح من مفاتيح النصر: الذل لله تبارك وتعالى وإقامة العبودية على وجهها.
والعبودية (باختصار): أن لا تحرك ساكناً ولا تسكِّن متحركاً إلا إذا كان مأذوناً لك فيه.
العبودية: أن لا تخالف النص حتى لو ظننت أنه يضرُّك، طالما أنه مطلوب منك أن تفعل فيجب عليك أن تفعل.
العبودية: أن تسبح ضد مصالحك الشخصية إذا كان فيه إيصال الخير لأخيك المسلم، كما حدث لـ جرير بن عبد الله البجلي، فقد كان له غلام يفهم في البيع والشراء، فذهب إلى السوق واشترى بعيراً جيداً بثمن بخس، وكان البعير يثمن بثمانمائة درهم وقد اشتراه الغلام بأربعمائة، وجاء مغتبطاً متهللاً إلى جرير بن عبد الله فلما سمع جرير كلامه قال: ائتني بصاحب الجمل.
فجيء به، وقال له: إن جملك يساوي ثمانمائة درهم وأعطاه الأربعمائة الباقية، فكان الغلام يقلِّب كفيه عجباً!! يقول: أنا اجتهدت واستطعت أن أربح في البيعة وآخذ البعير بأربعمائة، وإذا بك تعطيه ثمانمائة؟ قال: إني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم، وليس هذا من النصح.
هناك من يبيعون الله ورسوله بلا مقابل لوجه الشيطان، وهناك من لا يفك البيعة بأموال الأرض فضلاً عن أربعمائة درهم العبودية تشمل الدين كله.
العامل الثاني: على قول الطائفة التي تعتقد أن هذه الآيات التالية نزلت في بدر: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} بقي العامل الثالث والرابع، {إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران:124 - 125]، (مُسَوِّمِينَ): عليهم سيما وعلامة.
ولا تعارض بين هذا العدد وبين العدد الذي ورد في سورة الأنفال: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ} [الأنفال:9]، هنا ألف ثم ثلاثة آلاف ثم خمسة آلاف، فلا معارضة؛ لأن آية الأنفال تقول: {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9]، وفي قراءة نافع: (مُرْدَفِيْن): أي سيأتي بعدهم آخرون، فبدأ الإنزال بألف ثم ثنى بثلاثة آلاف حتى وصل إلى خمسة آلاف، كل هذه دفعات متتابعة كما نزل القرآن منجماً؛ لأنه أوقع في تثبيت النفوس، ولو نزل دفعة واحدة لما كان له تأثير قوي، لكنه نزل منجّماً على حسب الوقائع، تحدُث حادثة فتنزل آيات على مقتضى الحادثة، فإذا نزل الشيء على مقتضى الحدث ينفعل المرء له.
القول الثاني أن هذا الإمداد كان في أُحد، وسياق الآيات جميعاً في غزوة أحد، وإنما جاء ذكر بدر مُعْتَرَضَاً بين الآيات للتذكير، قال تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:121 - 124].
فقالوا: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:124] هذه نزلت في غزوة أحد، وقد جعل الله عز وجل الإمداد مشروطاً بالتقوى والصبر، فلما خالفوا الشرط في غزوة أحد لم يحصل الإمداد فلهذا غُلبُوا آخراً، بعدما كانت الدولة لهم في الأول.
إذاً: مقومات النصر في غزوة بدر هي: ذلٌ، وصبر، وتقوى، واستغاثة: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9].
أما الهزيمة في أحد فقد ذكر الله عز وجل الخلل الذي وقع فيه المسلمون في آية واحدة: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} [آل عمران:152] قال ابن مسعود: (لولا هذه الآية لقلت أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جميعاً يريدون الآخرة) حتى قال الله عز وجل: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} [آل عمران:152]، ولا يحل لأحد أن يعيِّر الصحابة بهذا؛ لأن الله عز وجل قال: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:152].
أما في حنين، فقد قال الله عز وجل: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25]، وقالوا: (لن نغلب اليوم من قلة) فعوقبوا بالإدبار، وعوقبوا بالهزيمة حتى منّ الله عز وجل على المؤمنين ونصرهم لما نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين- لما أدبر الناس يوم حنين نادى نداءين فصل بينهما، النداء الأول قال: (هلموا إلي)، والنداء الثاني قال: (أنا عبد الله ورسوله) فأنزل الله عز وجل نصره عليهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(41/4)
القدس لن تعود إلا بالجهاد والرجوع إلى الله
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أيها الإخوة إن الحق المسلوب لا يعود بالمظاهرات، ولا يعود بإحراق العلم الإسرائيلي، ولا يعود بالمفاوضات، القدس مسألة حيوية بالنسبة لليهود، تجمعوا كلهم في القدس؛ لأنها هي مقبرتهم، هم لن يتركوا القدس، والقدس لن تعود إلا بالجهاد، وعلى حكام المسلمين أن يرفعوا راية الجهاد في سبيل الله، وأن يتيحوا لهذه الأمة أن تثبت وجودها.
إن الحجارة عذبت اليهود أكثر من عشر سنوات، على يد طفل صغير، فاليهودي جبان جبان، وأقوى الناس قلوباً وأشجعهم هم المسلمون، ولو واجه المسلم اليهودي مواجهة صريحة لغلبه.
إننا نريد برنامجاً عملياً نجمع فيه طاقات الشباب وطاقات الأمة لنسخرها في خدمة هذا الدين.
إن المظاهرات يدخل فيها أناس كثيرون ليس لهم في العير ولا في النفير، تجدهم يدمرون الممتلكات العامة والخاصة، والغوغاء إذا اتصلت بالفتنة؛ لا يستطيع أحكم الحكماء من البشر أنه يوقف هذا الزحف.
فلهذا ينبغي علينا أن نكون صرحاء، لا يقولن أحد: إن هذه دعوة إلى التخذيل، المظاهرات لا تغير القرار السياسي ولا الاقتصادي إلا أن يشاء الله، لكن هذه الأمة ينبغي أن ترجع مرة أخرى إلى الأصول العامة والضوابط التي وضعها أهل العلم.
ولا يتكلم في هذه المسائل إلا العلماء، فيأتي أنصاف المتعلمين يقولون: لا.
المظاهرات مشروعة؛ لأن الرسول صلى الله عليه سلم قام بمظاهرة في أول الإسلام، عمل صفين، جعل في الصف الأول عمر، وجعل في الصف الثاني حمزة بن عبد المطلب، نحن نقول: يا جماعة اثبتوا القصة أولاً، هل هذه القصة لها إسناد يُحتج به أم لا؟ ثانياً: لما خرجوا بهذا الوضع وهذه الصورة، خرجوا عن إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليرهبوا الأعداء.
وهل المظاهرات ترهب الأعداء؟ وها هم أكثر من ثلاثمائة وخمسين فلسطينياً يموتون ويقتلون شر قتلة وماذا فعلت لهم المظاهرات.
ولما يقتل اثنين من اليهود تتعرض الأرض كلها للجحيم، ونضطر أن نعتذر عن مقتل اثنين من اليهود، أما ثلاثمائة وخمسين مسلماً شربت الأرض من دمائهم ليس لهم قيمة، نحن نناصر السلام، واليهود لا يعرفون السلام: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [البقرة:100]، هذه خاصية اليهود، قالها العلماء وتكلموا حتى جفت حلوقهم أن اليهود لا أمان لهم، وأنهم لا يعرفون السلام، والأيام كلها تثبت صدق المقالة.
أفلا نرجع إلى الله؟! ويقولون: نحن لا نستطيع أن نرجع، لماذا؟ لأن اليهود معهم العتاد والرؤوس الذرية والقنابل النووية.
يا إخواننا! نحن نريد أن نرجع إلى الله، نريد أن نحقق العبودية لله، حينئذٍ هو الذي ينصرنا: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:10]، {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126].
وفي بعض الكتب الإسرائيلية أن الله عز وجل أوحى إلى موسى عليه السلام لما لقي فرعون، فأمتلأ قلبه خوفاً منه، فقال الله عز وجل له: (لا تنظر إلى لباسه فإن قلبه بيدي) لا تغتر بهذا اللباس فإن قلبه بيدي، ومقاليد الأمور جميعاً ترجع إلى الله: {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [لقمان:22] أي: نهايات الأمور.
المطلوب منا أن نرجع إلى الله رجوعاً جاداً لا رجوعاً هزلياً كالذي نفعله، هذا كله لعب ليس له قيمة، إنما الرجوع الحقيقي أن نعود إلى الله، كذلك النساء يعدن إلى البيوت حتى يخرج الجيل المنشود الذي سيواجه اليهود.(41/5)
حقيقة معركتنا مع اليهود
أيها الإخوة: إن المعركة بيننا وبين اليهود معركة عقيدة، وليست قتالاً على الأرض، فالذي يراهن على الأرض خاسر، والذي يستظل بلواء العقيدة لا ينهزم، وهذا هو الفارق الجوهري بيننا وبين اليهود.
رئيس الوزراء الإسرائيلي عندما يلقي خطاباً في الكنيسة، يقرأ آية من التوراة توقيراً للتوراة، ويتلوها وهو معتقد أن هذا حق، ونحن نقاتل على تراب نريد أن نسترد أرضاً، اليهود يستطيعون استرداد الأرض التي أعطونا أياها في أسرع وقت.
ولقد صرح أكابر السياسيين اليهود أن باستطاعتهم طرد ياسر عرفات وأخذ فلسطين كلها.
لقد شرع الجهاد لإعلاء كلمة الله.
سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، وعن الرجل يقاتل حمية، هل ذلك في سبيل الله؟ قال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).
اليهود يتحركون عن عقيدة، والقدس تشكل بالنسبة لهم حجر الزاوية، فهم يعتقدون أنها أرض الميعاد، وأنهم الشعب المختار وهذه أرضهم، لقد جاءوا من كل بلاد الدنيا إلى هذه البقعة، والدول الكبرى كلها تدعم هذا الوجود، خاصة بعدما ظهر مصطلح الأصولية، والأصولية تعني: أن العهد الجديد التحم مع العهد القديم.
العهد الجديد: الإنجيل، والعهد القديم: التوراة، ومسألة أرض الميعاد قد هيأ لها اليهود من قديم، حتى أنهم استطاعوا أن يستقطبوا النصارى معهم في هذه المسألة، وأن يجدوا مساعدات بالمليارات لتحقيق الوعد الذي هو واردٌ عندهم في التوراة.
فهذه مسألة حيوية جوهرية، لن ترد القدس بالمفاوضات أبداً، لن يردها إلا الجهاد لكن بعد أن تكون الأمة قد خسرت كثيراً جداً.
في هذا الوقت يدخل شارون المسجد الأقصى؛ لأن هناك مفاوضات على القدس وإعلان الدولة الفلسطينية، فقال لك: نعمل أي حركة جانبية، نشغلهم بها عن الموضوع الأصلي.
هذه المفاوضات والقمم تقام لوقف الصلف اليهودي، والرجوع مرة أخرى إلى قرارات أوسلو، وفي هذه الفترة يشن اليهود غزواً ثقافياً واقتصادياً، فالإعلام والاقتصاد والمال بيد اليهود، وهم حريصون على إدخال الحشيش والمخدرات والأفيون إلى بلاد المسلمين، وهم على استعداد أن يخسروا مائة مليار دولار على أن تقفل كل المصانع في مصر، وكل هذا الكلام مدون في بروتوكولات حكماء صهيون، وأنا لا أدعو الجماهير إلى قراءة كتبهم، لا.
الجماهير يجب أن تشتغل بالكتاب والسنة، إنما الذي يقرأ هذه الكتب هم الدعاة إلى الله؛ حتى يعرفوا كيف يكيد الأعداء لهذه الأمة.
ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ زيد بن ثابت: (تعلم لغة يهود فإني لا آمنهم على كتابنا) فتعلم زيد بن ثابت لغة اليهود وأتقنها في ثمانية عشر يوماً؛ لأن هذا جهاد يرضي الله ورسوله.
وكما يقرأ العلماء في كتب أهل البدع، ليعرفوا كيف يؤسس أهل البدع أصولهم حتى يردوا عليهم ويحموا عقيدة أهل السنة، ويكشفوا التلبيس والتزوير، كذلك قراءة علما في كتب أهل الكتاب ومعرفتهم بالأناجيل والتوراة، وقد وجد من علمائنا من كانوا أفقه في دين النصارى من أعظم القساوسة، كـ ابن تيمية وابن كثير وابن القيم.
فيجب أن يحال بين الجماهير وبين هذه الكتب؛ لأنها مضيعة للوقت ولا فائدة منها بل خطرها على عوام الجماهير شديد.
وهناك شيء آخر وهو: أن بعض الدعاة يضخم إمكانات العدو ويحقر من إمكاناتنا، وهذا إذا جاز أن يقال: أنه يوضع كالملح في الطعام، فلا يجاز أن يدندن عليه بصفة دائمة، لأن ما ظنك برجل مهزوم كل يوم تقول له: لا فائدة الأقمار الصناعية تراقب دبيب النملة، هم عندهم أربعمائة إذاعة وخمسمائة مجلة، والعملاء بالألوف المؤلفة، فهذا معناه عند رجل مهزوم أن يزداد هزيمة، ولا يتحرك، فقد يكون من المصلحة أن تحجب إمكانات عدوك عن الجماهير التي لا تدرك شيئاً لكن عليك أن تضع الإمكانات الحقيقية بين أيدي أصحاب القرار، الذين يعرفون كيف تدار الأمور.
في بروتوكولات حكماء صهيون قالوا: نحن سوف ندعو إلى تحريم تعدد الزوجات، وقد كنت أستغرب كيف سيحرموه هل سيأتي شخص يقول لك: إن تعدد الزوجات حرام؟ لقد ظللت أفكر حتى دخلت في حيرة، ولم أصل إلى النتيجة إلا بعد فترة، وقد كانت النتيجة أن بثوا وزرعوا في عقول الناس اشتراطات وأسئلة ثلاثة، جعلوا الزوج والزوجة يفكران فيها قبل أن يقدما على الزواج: السؤال الأول: هل توافق على أن تكون العصمة في يد امرأتك؟ فلو كان هناك رجل يحب امرأة ويموت في حبها، ويريد أن يتزوجها وشرطت عليه أن تكون العصمة بيدها لوافق.
وللأسف عندنا شريحة من الرجال مستعدة لهذا الأمر تلقائياً.
السؤال الثاني: هل توافقين أن يتزوج زوجكِ عليكِ؟ إن أي امرأة لو أتيت بها وخيرتها من قبل الزواج: هل توافقين أن يتزوج زوجك عليك؟ لقالت: لا.
ومعلوم لدينا أن المرأة إذا كانت من الطراز الذي يحمل هموم الأمة، ويعتقد أن التعدد نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله ستقول: نعم أوافق، لكنها سوف تجد ضغطاً من المجتمع كيف توافقين على هذا يا مجنونة، أنت مخدوعة، ما هذه المبادئ التي تتكلمين عنها.
إذاًَ: لا يوجد من النساء من سيوافق على هذه المسألة، وبطبيعة الحال فإن هذا الأمر لو كتبته بيديك فإنه سوف يرفع بأمرك إلى المحاكم وتدخل في سؤال وجواب.
هذه المرحلة الأولى.
المرحلة الثانية: استحداث عقوبات للمخالفات، فإذا أخللت بشرط من شروط العقد يحدد لك عقوبة.
وسيكون نتيجة تطبيق ما سبق من مراحل: أن تظهر شريحتان في المجتمع: شريحة ستجعل العصمة بيد المرأة، والشريحة الثانية: أن المرأة لن تسمح أبداً لزوجها أن يتزوج عليها بل تشترط ذلك في عقد الزواج.
السؤال الثالث: هل توافق أن تعمل امرأتك؟ هذه هي الثلاثة الأسئلة المكتوبة!! لماذا؟ لأن الفساد كله يتحقق بها أو بنفيها، فاليهود استطاعوا بدهاء ومكر أن يستخدموها، مثلما استخدموا الشيخ محمد عبده في الثناء على قاسم أمين.
كانت الماسونية العالمية تدعي إليها بعض العلماء ليتحدث في نواديها ومنتدياتها، ونتيجة للجهل والتغرير كان أحدهم يذهب ويقول: أنا أبلغ كلام الله في أي مكان.
ومن هنا تكتسب التزكية والقبول.
هؤلاء جميعاً لهم أهداف وهم صناع القرار في العالم، إذا أرادوا تولية أحد قيادة أي بلد من البلدان أخذوه ووضعوه تحت المجهر من طفولته إلى أن يضعوه في المكان المناسب.
أذكر أنه كان هناك مسجد في القاهرة يراد توسعته، فقام الخطيب وقال: يا إخوان! نحن نريد أن نوسع المسجد بسبب ضغط المصلين، ونحن نحتاج إلى مائة ألف جنيه، وقد كان هذا الكلام عام (1976م)، فقام شخص بعد ما أنهى الخطيب كلامه وقال: أنا أنتمي إلى نادي (الروتاري) وسأتبرع بمائة ألف، فصاح الناس: الله أكبر، بارك الله فيك، والناس -طبعاً- لا يعرفون ما المقصود بكلمة (روتاري)، هم يعرفون أن الرجل محسن وأنه يريد الخير.
فقام رجل مسلم من جنوب الفلبين لما سمع الكلمتين وقال: اسمحوا لي بكلمة وأمسك الميكرفون وتكلم، فبين للناس أنه سيُكتب على لافتة الملحق الجديد للمسجد: أن هذا الملحق بناه نادي (الروتاري) وهذا يعطي سمعة حسنة لهذا النادي الماسوني.
وبين للناس حقيقة هذا النادي وأهدافه.
فلما يقال: إن نادي (الروتاري) يحتاج إلى أعضاء جدد، فإن أي إنسان سيعلن انتماءه إليه مباشرة، وإذا وجدوا داعية أو عالماً استدرجوه بأن يذهب إلى النادي ليلقي محاضرة عن الأخلاق والقيم والمبادئ.
ثم يخرج الإعلان في الصحيفة في اليوم الثاني أن العالم والداعية الفلاني شرف نادي (الروتاري) وألقى فيه محاضرة.
فيتخذون من سمعة العالم أو الداعية ستاراً لمزيد من الإيهام، وينطبع في مخيلة الجماهير: لولا أن هذا النادي أهدافه عظيمة وحسنة ما جاءهم العالم الفلاني.
هذه الحقائق لابد أن يعرفها أهل العلم، وعليهم أن يبصروا الجماهير بها بالطريقة اللائقة، والحكمة والموعظة الحسنة.
نحن قلنا: إن اليهود لهم معنا حروب طويلة، وليس من حق أي مخلوق مهما كان قدره أن يقول: إن الحرب بيننا وبين اليهود الآن آخر الحروب، ليس من حقه أن يقول ذلك؛ لأن الله عز وجل قضى أن الحرب بيننا وبين اليهود لن تضع أوزارها إلا مع قيام القيامة.
فالحرب بيننا وبينهم دائمة مستمرة، ونحن لابد أن نكون مستعدين، ولا نضلل الجيل القادم، وأنا معتقد أن الجيل القادم سوف يكون ذا قيمة، وأن المواجهة مع اليهود ستكون مواجهة شاملة مع جيل أولادنا.
ولهذا ينبغي أننا نربي أولادنا على عقيدة الانتماء لله ورسوله، والعزة التي نقرأها في جيل الصحابة رضي الله عنهم وجيل التابعين من بعدهم، ونحدثهم عن المعارك التي انتصر فيها المسلمون من أهل الشام ومصر على التتار.
لقد قرأت أحداث لكل المعارك وأنا راجع من رحلة الإمارات إلى القاهرة في خلال ثلاث ساعات، لقد ضللت أبكي منذ بدأت القراءة حتى نزلت المطار؛ لأن التتار كانوا قد ملكوا الدنيا كلها، وكان اسم التتار يبعث على الرعب.
لقد بدأ التتار يجهزون الجيوش حتى دخلوا الشام، فبدأ أهل الشام يستنجدون بأهل مصر، وبدءوا يراسلون الخليفة ولقد كان لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله دور كبير في معركة شقحب التي يقول فيها ابن القيم رحمه الله: (ورأيت شيخ الإسلام يركب فرساً ويقاتل كأشجع الفرسان وما ركب فرساً قط)، وكان شيخ الإسلام يطوف على الجنود ويتكلم بقلبه، ويحلف أننا منصورون هذه المرة، وكانت المعركة في رمضان، وكان يذكرهم ببدر وأنها كانت في رمضان.
وكان يفتي الجنود بالإفطار ويقول: تقووا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أفطروا، وكان يحلف بالله أننا منصورون هذه المرة، فقال له الخليفة: (قل: إن شاء الله) فقال: (تحقيقاً لا تعليقاً) إن شاء الله هي موجودة في قلوبنا حتى لو لم نتلفظ بها.
ودارت رحى الحرب بعدما قسّموا الجيش إلى ثلاث فرق: الميمنة والميسرة والقلب، وكان الخليفة والأمراء في الخلف، وهجم التتار على الميسرة في الليل، واستطاعوا أن يقتلوا أكثر من ثلاثة آلاف مسلم(41/6)
عجبا يا بلد الأزهر
إن الأمة الإسلامية في حاجة ماسة إلى العلماء وطلبة العلم، فبوجودهم ينتشر العلم، ولكن للأسف فإن المسلمين لا يهتمون بالعلم، ولا يدركون حجم المحنة النازلة بهم، فتجدهم يهتمون بمظاهر الدنيا أكثر من اهتمامهم بالعلم، بل إنه يخرج من بين أظهرهم من يعملون على عرقلة نشر العلم.
ولهذا فإن العمل على نشر العلم، ومعاونة العلماء بالمال، وتفريغ الطلبة للتعلم يعد واجباً على كل مسلم.(42/1)
العلم الشرعي والتفرغ لطلب العلم
إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.(42/2)
صعوبة الحصول على المخطوطات في بلاد المسلمين
هناك ظاهرة حتى أبين لك حجم المحنة أيضاً، مخطوطات المسلمين مفرقة في بلاد الكفر كلها، ما من بلد من بلاد الكفر إلا وفيه مخطوطات للمسلمين، ما علينا من بلاد الكفر، دعنا نحن في البلاد مثل بلادنا وتركيا، ومثل هذه البلاد التي تزخر بدور المخطوطات، عندما أذهب أنا كباحث في الحديث، أو أنت كباحث في الفقه، أو هذا كباحث في اللغة، أو هذا في التفسير أو هذا في الأصول، ويريد أن يحقق كتاباً لينشره بين المسلمين، فإذا أراد أن يحصل على المخطوط، فإنه لا بد أن يريق ماء وجهه ذلاً للموظف في المكتبة، وأنا لا أذهب بكم بعيداً، أقول لكم جزءاً من محنتي في تحقيق تفسير الحافظ ابن كثير رحمه الله: فأنا أحقق تفسير الحافظ ابن كثير، على أكثر من عشرين مخطوطة، بعضها يرجع إلى حياة الحافظ ابن كثير نفسه، أقدم مخطوطة عندي تاريخها سنة (759هـ)، وابن كثير مات سنة (774هـ) قرابة خمسة عشر سنة، وهناك مخطوطة مكتوبة سنة (825هـ)، موجودة في المكتبة الأزهرية بالقاهرة، وهذه المخطوطة نشرت عنها طبعة دار الشعب التي هي ثمانية مجلدات، فأردت أن أحصل على المخطوط فذهبنا إلى المكتبة: - قال: المخطوطات في الشماعة.
- لماذا؟ - نحن أصلاً سننقل إلى حديقة الخالدين، ولستُ عارفاًَ ماذا، وكلاماً من هذا.
هذا الكلام عمره خمس سنوات.
المهم أننا دخلنا على الموظف وجئنا بواسطات وما إليها.
قال: يمكن نخرج لكم المخطوطة لكن لا بد من إمضاء شيخ الأزهر الشيخ جاد الحق رحمه الله، واستطعنا بالواساطات أن نصل إلى مدير مكتب شيخ الأزهر وهو أخ فاضل، وكتبنا التماساً، ووصل الالتماس بالفعل على حسب ما قال صاحبنا إلى مكتب الشيخ رحمه الله.
ومع ذلك كلما نتابع الخبر ما استطعنا على الإطلاق إلى لحظة هذا الكلام أن نحصل على المخطوط، ساومنا: طيب! نحن على استعداد أن نأتيكم بمخطوطة نفيسة غير موجودة في المكتبة أبداً عندكم، وتقايضونا بالنسخة، وندفع على الورقة تسعين قرشاً مقبل تصوير المخطوطة، وتفسير ابن كثير الطبعة التي هي موجودة في المكتبة الأزهرية ثمانية مجلدات، كل مجلد أكثر من ثلاثمائة ورقة وجه وظهر، فالمجلد الواحد يمكن أن تكون تكلفته ثلاثمائة جنيه، أو خمسمائة تقريباً، وعندها (500 × 8 مجلدات) يمكن أن ندفع أربعة آلاف جنيه مقابل تصوير، ولم نحصل على مخطوط.
قالوا: لا بأس.
فذهبنا -لست أنا طبعاً إنما أنا أوكل، وطبعاً كل شيء بفلوس، فأنا قلت: أوكل، أليس كذلك؟ فمكتبة الجامع الكبير في اليمن في صنعاء فيها نسخة نفيسة لتفسير فتح القدير الجامع بين الدراية والرواية في علم التفسير للشوكاني رحمه الله، وهذه المخطوطة بخط تلميذ الشوكاني، وقُرِئت على الشوكاني في حياته، والشوكاني له تعليقات على هامش النسخة، وتعتبر هذه النسخة نفيسة جداً، وتقع في أربعة مجلدات ضخام، وصُوِّرت بمبلغ وقدره بعدما جئنا بالنسخة وعرضناها على المكتبة قالوا: لا، لا، لا، لا، لا.
هذا رجل حديث، نحن نريد مخطوطة عريقة، يعني: عمرها تسعمائة سنة أو ثمانمائة سنة.
- يا جماعة! هذه النسخة ليست عندكم! وذهبت كل هذه النفقات سدىً، وعجزنا حتى الساعة أن نصور نسخة.
أنا أقول لكم واثقاً غير متلجلج: لو أن هذه المخطوطة في تل أبيب، لكنت قد جئت بها في اليوم الثاني، أقولها غير متلجلج وبكل أسف، أنا أريد مخطوطة، أتصل مثلاً بالأنتريال بأسبانيا: أريد المخطوطة الفلانية بالرقم الفلاني، أحول تصويراً بالدولار عليهم فتصل إلي المخطوطة من أسبانيا، على أحسن تصوير وأفخم ورق بعد أسبوع واحد! فإذا كان هذا حال القائمين على الكتاب، ونحن لسنا في دار كتب، ولا نأخذ المخطوطات نُثْري بها، ولا نبيع بالدولار ولا بأي ماركة من الماركات، إنما نأخذ هذا المخطوط ونواصل الليل بالنهار ويجفو عيونَنا النوم، لفظة واحدة يمكن أن أظل أسبوعاً كاملاً أحقق فيها، هل هي بالنون أم بالباء؟ النقطة فوق أم تحت؟ لأنه سينبني على هذا حكم شرعي، وأنا مؤتمن على تراث المسلمين، وسيصعد واحد فقيه يأخذ هذا الكتاب ويحتج بهذه اللفظة ويعتبرها من الألفاظ المحفوظة، ويبني عليها الحكم الشرعي.
إذاً: كأنني أسهمت في هذا التضليل، فإذا عجزتُ بعد هذا البحث الطويل العريض عن أن أرجح هل هي بالنون أم بالباء، أكتب كل ملحوظاتي في الحاشية، وأنني نظرت في الكتاب الفلاني، والكتاب العلاني، ويترجح لي في النهاية كأنها بالباء أشبه، أو كأنها بالنون أشبه، وليحرر هذا الموضع.
فمن الذي يقوم بهذا الجهد، إذا كان لا يوجد في المسلمين من يقوم بهذا، وهذا تراثنا، وهذا ديننا كله؟! ومن يحاول إخراج المسلمين مرة ثانية؟! هل المسلمون بعد سماع مثل هذا الكلام سيفهمون؟ وهذا قُل مِن جُل، المعاناة أكثر بكثير جداً إذا كانت المخطوطة وحيدة، مثلاً لو أن عندك خمس أو ست مخطوطات، فمن الممكن لو كان ثمة طمس في المخطوطة أن تجده في مخطوطة ثانية شبيهة، تُصَوِّر المخطوطات من بعضها؛ لكن لو كانت مخطوطة واحدة في العالم ليس لها شبيه وفيها طمس، أو الناسخ استعجل، أو غفل وهو يكتب، ولا تستطيع أن تراجع هذا في مخطوطة أخرى، فهذا عذاب أليم.
فمن الذي يقوم بهذا الجهد؟!(42/3)
لا يقضى على البدعة إلا بالحجة والعلم
بمناسبة الكلام على البدعة على حجم محنة المسلمين في تمييزهم هذا الباب الوحيد في وسط أبواب عليها دعاة أقوياء، والمحنة لها حجم آخر، وذلك أن دعاة الحق مع قلتهم قد يبطلون دعوة الحق بعدم الإجادة، وبعدم إقامة الدليل وإقناع المستمع أو طالب الحجة ببعض الدلالة.
داعية الضلال قد تجده قوي العبارة والحجة، ويعتمد اعتماداً أساسياً على الشبهات، بحيث إنه يحيرك في بعض البلاد التي لا تجد فيها داعية حق واحد، وقد تجده ولكن عنده ضعف في اللسان، فتزداد حجم المحنة بأن الباب غير مميز بالنسبة للناظر الأزهري، وفي نفس الوقت الرجل الذي يقف على هذا الباب لا يحسن عرض الحجة ولا الحق الذي معه.
إنما أقول هذا الكلام وأكرر الدعوة التي كررتها كثيراً حتى قلتُ مرة: إن حلقي جف من كثرة الدعوة إليها مع عدم الاستجابة من الجماهير حتى هذه اللحظة التي أنبه فيها، الاستجابة لا تشكل أكثر من نصف في المائة، وهذا يبين لك حجم المحنة أكثر وأكثر، نصف في المائة، الدعوة التي أدعو إليها دائماً.
أقول: يا جماعة المسلمين! فرغوا طلبة العلم لمصلحتكم، طالب العلم الذي يعمل أكثر من عشر ساعات في اليوم ويعطي العلم والدعوة فضل وقته، هذا لا يمكن أن تأتي من خلفه ثمرة محترمة.
لماذا لا تفرغون؟ انظروا إلى النصارى يفعلون ذلك، واليهود يفعلون ذلك، عندهم رءوس أموال موقوفة، فأنت -مثلاً- إذا نظرت إلى القس في الكنيسة، وإلى إمام أو خطيب المسجد عند المسلمين، ترى مهزلة بمعنى الكلمة.(42/4)
من المسئول عن عجز الخطباء والدعاة
ما معني أن يكون رجل ساكن في عين شمس ويخطب الجمعة في حلوان وهو كفيف البصر، ما معنى هذا الكلام؟ رجل كفيف البصر يسافر من عين شمس؛ لكي يخطب الجمعة في حلوان على بعد (30كم) يتعلق بمواصلتين وثلاثة، هل عين شمس خلت من المساجد؟ لماذا لا يخطب هذا الرجل في عين شمس، ورجل حلوان يخطب في حلوان؟ ثم تنظر إلى البدلات التي تصرف للأئمة، نحن على يقين أن أكثر من (95%) من خطباء الأوقاف جهلة، والمسألة مزدوجة، أي: ليس الذنب عليهم دائماً، لَمَّا يُعْطَوا (10) جنيهات (بدل كتب) لو أراد أن يشتري كتاب فتح الباري مثلاً وهو كتاب قاموس السنة، والإنسان لا يستغني عنه أو أي باحث في العلم، الكتاب هذا بـ (250) أو (240)، يعني: أنه يظل سنتين يسدد أقساط كتاب واحد إذا وافق البائع على ذلك، مع أننا يمكننا أن ننفق مائة ألف أو تزيد في استقبال واحد من النصارى: مرحباً بالضيوف، مائة ألف، بئر معطلة وقصر مشيد، بئر لا ماء فيها، وقصر مشيد، المائة ألف التي تنفق في كل ضاحية وكل حي، لو جاءوا بها بكتب لهؤلاء الناس، حتى يعلموهم شيئاً؛ لكن وبكل أسف! الذي يصعد هذا المنبر لا يدري أبجديات الإسلام، قد يكون ذكياً ومحصلاً، ومحباً لدينه، ويتمنى أن يخدم؛ لكن ليس عنده علم.
كثير من هؤلاء الشباب يسألونني سؤالاً واحداً: ما حكم الشرع في (الهروب) من الدروس؟ هو له جدوى كل يوم لا بد أن يعطي درساً بين المغرب والعشاء في المسجد المعين فيه.
هذا الرجل من أين سيأتي بالكلام؟ ليس عنده كلام، إن الذي يقدر أن يعمله أنه يزوغ من الدرس، لأنه سيحرم نفسه، يصعد ماذا يقول؟ يقول مثل أشعب! المحتال الطفيلي الذي ذكر الخطيب البغدادي في ترجمته من تاريخ بغداد قالوا: يا أشعب! أدركت الناس والطبقة -أي: التابعين- ولا تزال تجري على الموائد وعلى بطنك، فقد أدركتَ عكرمة والناس، فهلا عقدت مجلساً للعلم يُنْسَأ به أثرك، وتنبل في الناس؟ قال: أفعل إن شاء الله، وحدد موعداً للدرس، وجلس، واجتمع الناس من كل حدب ينسلون - أشعب مدرساً، يعني: هذه أعجوبة من الأعاجيب، حتى يكون هناك من يستفيد من أشعب كيف سيتكلم؟! - فوقف على المنبر وقال: حدثني عكرمة عن ابن عباس -يا له من إسناد عالٍ بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم إسناد فقط، هذا هو الإسناد العالي المشرف، قال: حدثني عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خصلتان في المؤمن إن أحرزهما دخل الجنة) ثم سكت، قالوا: هيه! يا أشعب، قال: أما الأولى فنسيها عكرمة، وأنا نسيت الثانية.
فالرجل ليس عنده كتب وليس عند زاد يتزود منه، كل يوم درس؟ أهو ابن تيمية، سيأتي بكلام من أين؟ كل يوم درس؟ فيجيء الشاب الذي من المفروض أنه يعلم الناس الدين، فيهرب ويريد أن يسأل عن حكم الشرع في (الهرب)، عندما يكون هذا هو الإمام المقتدى به، لذلك أقل القليل من المساجد هي التي تقوم برسالتها وواجبها، لكن أغلب المساجد فقدت أهميتها وقيمتها وصارت مجرد مكان لإقامة الصلاة.
إذاً: عندما يكون هؤلاء جميعاً وفيهم طلبة نابهون ويقول: إن الجهل الذي وقعوا فيه ليسوا هم السبب فيه، يعني: هم أحياناً مظلومون، وهؤلاء يحتاجون إلى مراجع، من الذي يوفر لهم المراجع؟(42/5)
محنة العالم إذا كان وحيداً في بلده
إنني أقول هذا الكلام، لكي أحنن قلوبكم؛ لأنه بعد الكلام الطويل لم يستجب لي نصف في المائة، وأنا عملت النسبة المئوية هذه على رواد الجمعية الشرعية، بالنسبة لعدد المستفيدين من الجمعية الشرعية، سجلت العدد الذي يحضر، وعملت نسبة مئوية ظهر أن نصف في المائة هو الذي استجاب لهذه الدعوة برغم الحرارة والمرارة التي أتكلم بها، وطلاب العلم الآن يعملون مثل غيرهم، طالب الهدى إذا أراد أن يطلب عالماً أين يجده؟ وأيضاً أقول أو أظهر شيئاً آخر من حجم المحنة، ولا أقوله من باب التشفي، نعوذ بالله، فنحن خدام لدين الله عز وجل، فقط أوضح لك الصورة التي أعيشها، أنا أعيشها يومياً:(42/6)
كثرة الأعمال وتنوعها وضيق الوقت
ثالثاً: المطلوب لما آتي إلى محاضرة مثل هذه، أن أحضر وأحترم عقول السامعين، وأعتقد أن في الجلوس من هو أكفأ مني وأفهم، فذا يزيد من حجم محنتك ليلة الجمعة، ولا بد أن تجيء بحاجة جديدة لتهز بها العقل والقلب، لكي توصل الهدى إلى الناس.
رابعاً: المطلوب منك أن تحقق في الكتب، وتقرأ في المخطوطات، وتحقق الأحاديث، وتنظر في الطرق وفي متابعة الرواة.
خامساً: أنت رب أسرة ووراءك أولاد وزوجة، وهذا عنده مشكلة، وآخر كذا! وذا يريد أن يعمل ماذا، أنت رجلٌ تمثل وحدك في المجتمع وجارك عنده كذا، وذا أنا أريده في كذا إلخ.
قسم هذا الكلام على (24) ساعة، هل تستطيع أن تفي بشيء من هذا، لو أن هذا البلد فيه مثلاً (30) أو (40)، أليس الحمل كان سيخف عليَّ وعلى إخواني، من أكبر المحن أن تكون وحدك، وأنا أقول هذا لطلاب العلم، احذر أن تفكر أنك إذا كنت وحدك تكون مرتاحاً، وأنك بالانفراد تنجو من البلاء، ولا يوجد في البلد غير واحد، هذه محنة لا يفتخر بها.
قرأت في كتاب لـ أبي موسى المديني حكاية ما تمالكت نفسي، وذرفت عيني بالدمع، وهذا الكتاب مخطوط ولم يطبع حتى الآن واسمه: كتاب اللطائف في علوم الحديث، يقول هذه الحكاية: كان سفيان بن عيينة في مجلسه يوماً، فقال: هل فيكم أحد من أهل الشام؟ - قال رجل: نعم.
- قال: ما فعل الوليد بن مسلم؟ - قال: مات.
- هل فيكم أحد من البصرة؟ - قال فلان له: نعم.
- قال: ما فعل فلان؟ - قال: مات.
- هل فيكم أحد من الكوفة؟ - قال: نعم.
- قال: ما فعل فلان؟ - قال: مات.
- هل فيكم أحد من بلاد ما وراء النهر؟ - قال: نعم.
- قال: ما فعل فلان؟ - قال: مات.
فحينئذٍ بكى سفيان، ثم أنشد قائلاً: خَلَت الديار فسُدْتُ غير مُسَوَّدِِ ومن الشقاء تفردي بالسؤددِ يبكي سفيان فهو بعدما مات أقرانه هؤلاء، وكان عندهم حديث، كل الشباب الذين كانوا في الحلقات المتفرقات جاءوا تحت رجليه يسمعون.
إذاً: هذا جيدٌ أن يحضرَ له مائةُ ألف بدلاً من أن يحضرَ له عشرةُ آلاف أو خمسةُ آلاف، ويكون فرحاً بشبابه أن كل هؤلاء يحضرون له! لا.
هذه محنة وليست منقبة؛ لأنه كلما كان لك أتباع يحملون عنك ويوصلون الهداية يكون أبلغ من أن توصلها وحدك.(42/7)
كثرة الأسئلة من العامة وطولها
لو أنني تركت نفسي للهاتف أجيب عن كل مكالمة تأتيني -بلا مبالغة- سأظل ست ساعات في اليوم أتكلم، فجرس الهاتف لا يكف عن الرنين ليل نهار، الساعة الرابعة في الليل، الساعة الخامسة في الليل، الساعة الثالثة في الليل، لا يكف عن الرنين، بعدما قلنا للناس: يا جماعة! ارجعوا إلى الله، وعبِّدوا أنفسكم لله.
الحمد لله كانت النتيجة مبهرة، ورجع أناس كثيرون إلى الله؛ لكن كل إنسان رجع إليك بعُجَرِه وبُجَرِه يقول لك: أنا لخبطت، ولي عشرون سنة ماشٍ على كَيفي، وارتكبت موبقات، فأنا أريدك أن تسمعني وتطول بالك؛ حتى أحكي لك، لكي تقول لي الخلاص من هذه ماذا؟ والخلاص من هذه كيف؟ والخلاص من هذه كيف؟ هذا فرد لا بد أن تعطيه خاطرك، وتعطيه أذنك، وتسمع منه بإتقان؛ لأنك ناصح وهذا أثر دعوتك، إذا أخذت السماعة وقلت له: أنا لست فارغاً.
إذاً: لماذا ظللت (تتنطع) على المنبر، وكادت حنجرتك تنفلق؟ يعني: من أول يوم قلتَ فيه: ارجعوا إلى الله، فأنا أريد أن أرجع، من الذي يرجعني إلى الله؟ أنت الذي أرجعتني، إذاً: لا بد أن تكمل المشوار.
إذاً: ليس عندك خيار على الإطلاق، غير أنك تعطي أذنك وتسمع، طبعاً يتكلم بإسهاب، ويدخل في الكلام: ونسيتُ أن أقول لك: لستُ عارفاً ماذا؟ ومن هذا الكلام، ويعطيك حينها سيناريو الموضوع لكي يبين عذره.
مثلاً: غلط ومشى مع امرأة، ويريد أن يبين لك أيضاً أنه إنسان نبيل في الأصل؛ لكنه معذور، ظلت تعمل لي، وتعمل لي، ولا يوجد جمل يتحمل هذا الكلام، فوقعت.
وطبعاًَ أول ما تقول له: يا أخي، طيب، ليس مهماً، ادخل في الموضوع باختصار، يقول لك: لا.
الكلام الذي سأقوله مهم.
والكلام الذي يقوله يريد به فقط أن يبين أنه ليس وِحِشَاً؛ أنا لم أقع بالسهل.
فلا بد أن تسمع الكلام، وهذا فرد واحد.
وصلت المسألة أن يتصل بك يستشيرك مثلاً في زواج ابنته أو زواج ابنه.
ووصلت المسألة أن عنده ميراثاً يريد أن يشغله، بأن يضعه مثلاً في بنك فيصل، أو يناوله فلاناً، فهل تعرف تاجراً حذقاً أميناً؟ إلى آخر هذه التفصيلات التي لا بد أن تستمع إليها، وتعطيها أذنك وقلبك.
هذا جهد غير مرئي وأنت جالس على مكتبك، فتنزل إلى فتلقى ثلة من طالبي الحق ينتظرونك أيضاً على بوابة البيت، وهم يتصورون أنك نائم تحت التكييف.
شخص كتب لي رسالة في الأسبوع الذي مضى، ورماها لي من فوق الباب: قال: يا عم، تأكلون كباباً، -لست أعرف ما أدراه؟ مع أن الأكل هذا من المفروض أنه حاجة مستترة، لا يعرفها إلا مَن استضفته- تأكلون كباباً بثلاثين جنيهاً، وتركبون عربيات، وجعلتم تغيرون في العربيات، وأنتم تتكلمون عن الزهد والتقشف وما إليه، ولست عارفاً ماذا! ومن هذا الكلام، وآخذٌ في الزواج، تظل تتزوج واحدة بعد أخرى، وأنا لا أجد زوجة.
هذا يَقُرُّ، {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54].
فيظن أنك قاعد مرتاح، و (100%)، وهات يا عصير، وهات يا كباب، وهات يا كفتة، وما إليه، و (100%).
وأول ما تقول له: أنا آسف لأني مشغول، يغضب منك، وأنت الآن أذناك مثل هذا، ودماغك سينفجر؛ لأنك واضع السماعة على أذنيك، مما يسبب لك الصداع، وأول ما تحاول أن تعتذر، أو تكون متعباً؛ لأن ثمة مشاكل تغير قلبك حتى أحياناً يشعر المرء أنه بحاجة إلى أن يستقيء، أن يتقيأ من المشكلة التي يسمعها، فأنزل وعندي شيء من الاكتئاب، فأنزل والمفروض أن ألقى إخواني بالابتسامة، وكذا؛ لكن لا.
عندي تعب، فلا أريد أن أتكلم، مواهبي ذهبت، لأن الفتوى والكلام كثر حتى مللت من الكلام وكلَّ ذهني وأصابني الحزن والهم، هذا يسألك في سؤال يقول لك: مسألة مهمة جداً جداً ولا بد هذا الوقت، طيب قُل.
الجماعة الثانية: أناس يسألون، ويعتبرون أسألتهم مهمة جداً جداً، ولا يمكن أن تتركها، ويظن أحدهم أنه لو أخر السؤال أسبوعاً أو يومين أنه سيموت.(42/8)
دعوة المسلمين إلى النفقة على العلم وطلابه
إنني أقول هذا الكلام تحفيزاً لكم ولنحنن قلوبكم أيضاًَ، وأبين حجم المحنة التي يعانيها الدعاة على وجه الخصوص، وهم قلة في كل بلد، وعليهم أعباء أكثر بكثير مما أقول.
إذاً: المطلوب منا أن نرجع مرة أخرى وندرك حجم المسئولية.
وأيضاً: أحفزك بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الدال على الخير كفاعله).
يا أخي! أنت عندما تسهم في تفريغ طالب علم، ولا أقول: تصدَّق؛ ولكن أقول: من زكاة المال، وعندنا تجار وعندنا أناس من أصحاب رءوس الأموال، لا تجب عليهم الزكاة كالأطباء مثلاً، الأطباء وأصحاب العيادات لا تجب عليهم الزكاة لأن الزكاة لها شرطان: - أن يحول الحول.
- وأن يبلغ المال النصاب.
يمكنه في الشهر أن يكسب مائة ألف، ويمكنه أن ينفق مائة ألف في الشهر.
إذاً: هذا لا تجب عليه الزكاة.
أنت تعرف عبد الله بن المبارك؟ كانت غلته في السنة مائة ألف ولم تجب عليه زكاة قط.
لماذا؟ كان المال الذي يأتيه دائماً يصرفه، ليس بقصد الهروب من الزكاة.
لا؛ لكن لأنه كان له مصاريف ووجوه يصرف فيها المال.
في هذا الزمان كل المسلمين الذين عندهم تجارات أو زراعات أو أي عرض من الأعراض، هؤلاء في مالهم زكاة.
نعلم عليك أن تصرف من زكاتك للأقارب والأرحام؛ لكن خصص جزءاً من زكاة مالك لطلاب العلم، أريد أربعين طالباً.
إذا كانت زكاة مالك أربعين جنيهاً، فأربعون جنيهاً لن تفعل حاجةً لطالب علم.
فإذا كنت أنت واثنان وثلاثة وأربعة وخمسة ادخرتم مائة جنيه أو مائتي جنيه أو ثلاثمائة جنيه، إذا كنتم أربعة فاكفلوا طالب علم من ناحيتكم، واشترطوا عليه وخذوا عليه المواثيق الغلاظ أن ينصر دين الله عز وجل، وأن لا يفرط في وقته وأن لا يضيع هذه الأمة، ودَعُوه.
إنه لا يعلم حجم غياب العالم إلا الباحث عن الحق، الذي يبحث عن الهدى ولا يجد من يدله.
وأنا أقول هذا الكلام لعموم الناس الذين عندهم سيارات.
عندما يكون في طريق مفترق طرق، وهو يريد الذهاب إلى بلد من البلدان ولا توجد لافتة تقول: الطريق هذا يؤدي إلى أين وإلى أين، حينها تظهر الحيرة.
وكذلك طلبة العلم والعلماء، هم أدلاء للجماهير على هذا الخير.
أتمنى من كل قلبي أن تجد هذه الدعوة صدىً عند الجماهير، وأن يدركوا حجم المحنة التي يعانونها لعدم وجود طلاب العلم، وأن يكفلوا طلاب العلم، وأن يوفروا المراجع الأساسية حتى ولو في مكتبة عامة.
إذا عجزنا عن أن نوفر مكتبة أساسية لكل طالب علم، فلا أقل من أن يكون هناك أموال، وهذه الأموال على المذهب الراجح لا تكون من أموال الزكاة، وهي لشراء الكتب، وإن كان شيخ الإسلام ابن تيمية أجاز شراء بعض الكتب المهمة الضرورية لبعض طلاب العلم من أموال الزكاة، مثل أن يكون هناك عالم في البلد وإليه المرجع في الفتوى، ولا يوجد عنده كتب هذه الفتوى، فيجوز أن يُشترى لهذا الرجل من أموال الزكاة، فإن هذا آكد من إطعام الفقير، لأن دلالة الناس على الهدى وعلى حكم الله عز وجل آكد من إطعام الفقير.
فنسأل الله تبارك وتعالى أن تجد دعوتي صداها، وأحس أن الناس إن فعلوا بما أقول وشعرت بهذه المحنة، فسيقف الواحد ولو جنيهاً واحداً، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (خير الصدقة جهد المقل).
وقال في الحديث الذي يحسنه بعض أهل العلم: (سبق درهم مائة ألف درهم، قيل: كيف يا رسول الله؟ فقال: رجل معه درهمان فتصدق بدرهم، ورجل معه ألوف من الدراهم فتصدق بمائة ألف درهم) أو معه ملايين فيتصدق بمائة ألف، فهذا الذي تصدق بدرهم واحد تصدق بنصف ما يملك، إنما هذا الذي تصدق بمائة ألف إنما تصدق بجزء مما يملك.
أسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما علَّمنا، ويعلمنا ما جهلنا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
والحمد لله رب العالمين.(42/9)
الأسئلة(42/10)
تحكيم الكتاب والسنة في أفغانستان
السؤال
قال لي رجل: لو أقيمت الدولة بالكتاب والسنة لانقسمت إلى أحزاب، كما حدث في بعض الدول مثل أفغانستان.
الجواب
أفي أفغانستان كان كتاب وسنة؟ أفغانستان لم يكن فيها كتاب وسنة، أفغانستان هذه عبارة عن أحزاب، كل حزب بما لديهم فرحون، وكل واحد يأخذ الإسلام بطريقته وبمفهومه، ما أعلم حزباً كان على الكتاب والسنة إلا الشيخ جميل الرحمن رحمه الله في ولاية كونر، أما الباقون فأشعري، صوفي، ماتريدي، فالله المستعان! ما كانوا على الكتاب والسنة، لو جاز لنا أن نصحح هذا السؤال لقلنا: لو قامت الدولة على الكتاب والسنة لم يوجد فيها أي حزب، إنما هو حزب واحد فقط هو حزب الله تبارك وتعالى.(42/11)
صحبة المرتاب
السؤال
لي صديق كثر الكلام حوله، وأن له أفعالاً مريبة، وكثيراً ما يسألني الناس عنه فأتحرج من الكلام عنه، فهل تنصحني بالبقاء معه، مع العلم أنني نصحته كثيراً فلم يرجع؟
الجواب
أما إذا نصحته كثيراً ولم يرجع، فأنصحك أن تتركه خشية على نفسك هذا أولاً.
ثانياً: إذا كان الناس قد أشاعوا عنه كلاماً وأفعالاً، فإذا تحققت من صدق ما يقوله الناس، فبالتالي لا يحل لك الكلام إلا إذا كان له مقتضى، كأن يكون إذا أخذ أموال الناس لا يردها، واشتهر عنه المماطلة، فجاءك رجل فقال: يا فلان! فلان يريد أن أعطيه كذا، هل أعطيه؟ أقول له: لا، عندما أسكت هذه خيانة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (المستشار مؤتمن) فهذا الإنسان إذا كان له بعض ذنوب مثلاً بينه وبين الله، فالأصل ستر المسلم وعدم فضحه.(42/12)
توصيل بعض الأسئلة إلى الشيخ وحجب بعضها
الشيخ: أي سؤال يتقدم لابد أن يصل، أي سؤال يتقدم يجيء، ربما أنت ترى أنه ليس من المصلحة أن يقال، وأنا أرى أنه من المصلحة، لماذا؟ لأنه جاء كلاماً مثلاً متعلقاً بخلق سيء موجود، فأنا ينبغي أن أنبه عليه.
فطبعاً كل سؤال يأتي ينبغي أنه يصل.
ولا يفوتني أن أنبه أيضاًَ إلى أنه يوجد بعض مِن إخواننا مَن يرسلون أسئلة للحكم على شيوخ معينين: ما رأيك في الشيخ الفلاني؟ والشيخ الفلاني مثلاً قال بعض الناس: إنه مثلاً كان سلفياً مُتَصَوِّفاً، أو لستُ أعرف ماذا، وهل هذا الكلام صحيح أم لا؟ طيب الجماعة العلانية يقولون عنها: كذا وكذا، ولست أعرف ماذا؟! هذا الكلام أنا لا أجيب عنه، هذا الكلام أنا لا أجيب عنه في هذه الحالة، المسائل الخاصة بالحكم على شيوخ معينين، أو على أشخاص معينين، أو على بعض الدعوات المعينة، أنا لا أجيب عنها إلا بطريقة غير مباشرة، وبالنسبة للشيوخ أنا لا أحكم على المشايخ، إنما بالنسبة للمناهج فأنا أحكم على المنهج نفسه، ولا أنسب المنهج إلى الجماعة، والذي هو حاضر يفهم، وهذا يكفي.(42/13)
الغش في الامتحان في رمضان
السؤال
هل الغش في الامتحان في شهر رمضان يفطر الصوم؟
الجواب
البذاء والفحش والفسق لا يفسد الصيام من باب الإجزاء، فمن الممكن أن يحبط العمل، ويسقط الأجر، فيكون قد صام وليس له من الصيام إلا الجوع والعطش.
فإذا كان المقصود بالفساد الصحة والبطلان: فهذا لا.
أما إذا كان المقصود به القبول: فمسألة قبول الصيام من عدمه هذه محجوبة لا يعرفها أحد إلا الله تبارك وتعالى، أما الصحة والبطلان فلا.(42/14)
فعل جميع المستحبات أو ترك جميعها
السؤال
رجل يمشي في الطريق فوجد غصن شوك على الأرض، فأراد أن يأخذه ويضعه على جانب الطريق؛ كي لا يدخل في رجل أحد من الناس، فقام شخص وقال له: أنت فعلت كل شيء، ولم يبق غير الزجاجة هذه فهل ينفع هذا الكلام؟
الجواب
لو جاز لنا أن نقرر هذا السؤال لأبطلنا الدين كله، إنما ينبغي على العبد أن يفعل ما يستطيعه.
هذا سؤال سخيف جداً وليس له أي وجاهة، ولا مقياس شرعي.(42/15)
حكم إعفاء اللحية
السؤال
هل اللحية سنة؟
الجواب
اللحية فرض، من الذي قال: إن اللحية سنة، ومصطلح السنة لدى المتأخرين أنه إذا فعلها يثاب عليها وإذا لم يفعلها لم يعاقب لا، من قال هذا الكلام؟ لقد اتفق العلماء المجتهدون -الأئمة الأربعة وغيرهم وجماهير أصحابهم- على أن إعفاء اللحية فرض، وليس سنة مستحبة، فهذا أيضاً يعتبر اللحية من المستحبات، ويقول لك: أنت فعلت السنن كلها حتى مثلاً تعفي هذه السنة؟ لا، اللحية ليست سنة بالمعنى الاصطلاحي: أنك إذا فعلتها تثاب، وإذا لم تفعلها لا تعاقب لا.(42/16)
استشارة في الزواج
السؤال
نويت أن أتزوج بامرأة تحفظ نصف القرآن، ورأت أمي وأختي هذه المرأة وشهدوا لها بطيبة القلب وقبول الشكل؛ ولكني مرةً أوافق ومرةً أرفض، متردد فما رأيكم؟
الجواب
لو كنت أنا لحزمت أمري، إذا كنت تريد رأيي في المسألة؛ لكن أنت المتردد، أنا رأيي أنك لا تتردد، أنت جئت لامرأة زكتها أمك وأختك، فماذا تريد؟ إذا كانت امرأة طيبة، ومن أسرة طيبة، ومن بيئة جيدة فماذا تريد بعد ذلك؟ يا أخي! احزم أمرك، وأنا أخشى أن تظل متردداً طوال حياتك؛ لأن هذه الخطوة لها مهابة، أن يذهب الشخص ليتزوج.
جاء شخص إلي بعد ما عقد، فقال: جاءته كوابيس مستمرة لمدة ستة أشهر، حتى ظن أن ثمة علاقة بين المرأة والكوابيس، حتى كاد أن يطلق، وهذا كله بعد ما حكى حكايته، واستقصيت الحكاية فعرفت أن هذا أمر لأول مرة يجربه، فهو خائف من الحياة الجديدة، ولا يدري هل يسعد أم لا، ومن أين سيؤكلها؟ هكذا يعني، فيقول -مثلاً-: أنا أعطيها يوم كذا ويوم كذا، طيب وأنا من أين سأؤكلها؟ ولو مرضت من أين أجيء بالمبلغ؟ من أين أُدَبِّره؟ يعني: أنه واضع كل المصائب أمامه.
فاحزم أمرك وتوكل على الله.(42/17)
الزواج وطلب العلم
السؤال
هل الزواج من العوامل التي تعين على طلب العلم الشرعي؟
الجواب
نعم.
إذا أردت أن تستقر وتحفظ القرآن فتزوج؛ لأن دعوى الشخص أنه لا يتزوج إلا إذا حفظ القرآن، هذه دعوى عجيبة جداً.
ثمة شخص جاءني منذ اثنتي عشرة سنة تقريباً وأنا في القاهرة، فقال لي: أن فلاناً حذره أن يتزوج إلا إذا أكمل حفظ القرآن، قال: وأنا أشعر أني محتاج للزواج، قلت له: تزوج وسيعينك ذلك على حفظ القرآن، فحفظ القرآن في ستة أشهر بعد ما تزوج، فاستراح واستقر، فيلقى الله عز وجل بزوجة طيبة.
الرجل يحصن فرجه، فالزواج من أعظم المرغبات على طلب العلم، فادعُ الله عز وجل أن يرزقك بزوجة بشرط أن تعينك على طلب العلم.
وبعض الإخوان يقول لك: أنا أريد طالبة علم، فأنا أقول له: لو تركتك تطلب العلم فالحمد لله، ليس أنها تكون طالبة علم، لا.
أنت عندما تذهب لتتزوج، تزوج امرأة فيها خصلة واحدة فقط ودع ما دون ذلك، وهي تسمع وتطيع فقط، لو كفر زوجها كفرت معه، تسمع وتطيع فقط لا غير؛ لأنك مهما كلفتها به من المعروف ستستجيب؛ لكن أن تتزوج امرأة مثلاً ليس عندها صفة السمع والطاعة، وعندها علم؛ فهذه ستسود الدنيا تماماً، يعني: في كل شيء ستقف لك مثل العقدة في الزور، كل ما ذكرت لها حكماً، قالت لك: ما دليلك؟ أنا رأيت شخصاً منذ شهر تقريباً مختصماً مع امرأته، وأبوه جاء إليه ليعمل معروفاً والسبب أن هذا طالب علم جديد المهم بعد ما أرجعوها إليه، في هذه الليلة قعدَت تمزح معه وتُطَبْطِب عليه، فقال لها: معكِ دليل؟ على أن تُطَبْطِبي علي، انظر! سدَّ نَفْسَها، ماذا تعني عبارة معكِ دليل على هذه الطبطبة؟ هو ليس معه دليل أصلاً على أن يرد أو يرفض أو ما شابه.
وأشياء عجيبة جداً، فتجد -مثلاً- أختاً وطالبة علم وعقلها صغير جداً جداً، وكل شيء تريد دليلاً عليه، وتعكر أيضاً على زوجها بهذا الكلام، تريد دليلاً على المسألة الفلانية.
فأحياناً قد يكون طلب العلم بالنسبة للمرأة نقمة عليها؛ لأنه واسع جداً، وهي لا تستطيع أن تتكيف مع العلم ولا التعامل مع الأدلة.
فأنت إذا أردت أن تتزوج فتزوج من بيئة صالحة، وخذ هذا الخُلُق فقط في المرأة، وإذا كنت طالب علم ستكون مثلك طالبة علم، وإذا كنت عابداً ستكون مثلك من العُبَّاد، وهكذا.(42/18)
عزاء للغرباء
احتوى القرآن الكريم على كثير من قصص الأنبياء، وذلك للعظة والعبرة، ومن أعظم تلك القصص عبرة، قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام؛ إذ فيها عزاء للغرباء الذين يعيشون في مجتمعات يغلب فيها الكفر أو الفسوق والعصيان، فيظل الواحد منهم متعلقاً بربه، لا أنيس له إلا ذكر الله، ولا ناصر له إلا الله، ونعم بالله ولياً وناصراً.(43/1)
التأثر بالآباء قد يكون سبب الشقاء
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
قصة الآباء مع الأبناء لها شأنٌ عظيم، ويكفي لتدرك خطورة هذه العلاقة أن تعلم بأن شطر الكفر الموجود في الأرض سببه الآباء.
وقد كان الآباء حجةً للأبناء على الرسل؛ فإنه لما جاء صالح عليه السلام إلى ثمود يدعوهم إلى الله عز وجل، أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، كانوا يردون عليه: {يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود:62].
ولما جاء شعيب عليه السلام إلى مدين: قال {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود:84] ردوا عليه: {يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود:87].
ولما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى العرب يدعوهم، قالوا له: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، فيقول الذين أشركوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} [الأنعام:148] {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} [الأعراف:28].
وفي الصحيحين من حديث المسيب بن حزن في وفاة أبي طالب، دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عمه وهو في سياق الموت، يقول: (يا عم! قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله.
وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية وجماعة، فيقولون له: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟) الآباء لهم وقع عميق الجذور في نفوس الأبناء، ولذلك المرأة تخوف ولدها بأبيه، برغم أن الأب قد يكون بينه وبين البيت ألوف الأميال، تخوفه بأبيه والأب مسافر في أي بلد، ولا يأتي إلا مرة كل سنة، أو مرة كل سنتين، أو مرة كل ثلاث سنين، ومع ذلك تخوفه بأبيه، والولد يخاف ويقول لها: إذاً: لا تقولي له وأنا لن أفعل، وهذه آخر مرة.
أين هذا الوالد، وأين تأثيره؟ له حضور حتى وإن كان غائباً، لكن من حق الوالد على الولد: أن الولد إذا كان عالماً بالتوحيد، أن ينقل هذا لوالده، ولا يضعف أمام والده بطبيعة العلاقة بينهما.
بعض الأبناء يدركهم الضعف في هذه العلاقة، فيأمره أبوه بما يغضب الله وينفذه، يقول: أبي لا أستطيع أن أعارضه، أبوه يقول له: اذهب يا ولد واشتر علبة سجائر، هات ورقة معسل أو ما دون ذلك أو ما فوق ذلك، والولد يعلم أن السجائر حرام وأن المعسل كذلك، يذهب صاغراً ليأتي بهذه المنكرات التي يعتقد أنها حرام.
ما الذي يحملك؟ يقول: أبي، لا أستطيع أن أخالفه.
لا تقل لي: هذا حياء؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الحياء لا يأتي إلا بخير)، ولما حدَّث عمران بن حصين رضي الله عنه بهذا الحديث لبعض التابعين قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الحياء كله خير)، فقال هذا التابعي لـ عمران: (إن من الحياء ضعفاً)، مثل هذه الصفة التي نعرضها وهي أنه يؤمر بمعصية الله فيفعلها حياءً، فقال: إن من الحياء ضعفاً، فغضب عمران وقال: أُحدثك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتحدثني عن الكتب؟! لا كلمتك أبداً؛ لأنه يعارض كلام النبي صلى الله عليه وسلم بما هو موجود في الكتب على ألسنة بعض الناس.
فإذاً: إذا أُمر الرجل بمعصية فاستحيا لا تقل لي: إنه مستحٍ، هذا ليس من الحياء، هذا ضعف، وهذا الضعف يرجع إلى حقيقة التصور الإيماني عند هذا الإنسان، إذا أُمر المرء بمعصية الله عز وجل، ولو كان الآمر الوالد، فلا يجوز للولد أن يمتثل.(43/2)
قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه
ودونك هذه القصة الرائعة التي قصها الله تبارك وتعالى علينا في القرآن لأبر الناس بأبيه، رجلٌ أدى حقوق البنوة وأدى حقوق العبودية، ولم يخلط بينهما، وهو إبراهيم الحنيف عليه السلام، أدى حقوق البنوة: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم:42 - 45]، أربع مرات يناديه: (يا أبتِ) يستجلب الحنان، ويستجلب عطف الوالد {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:46].
{قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47].
انظر إلى هذه الثقة، (كان بي حفياً) أي: إذا أقبلت عليه أقبل عليَّ أكثر من إقبالي عليه، فأنت إذ خرجت من يدي، وإذ لا أستطيع أن أفعل معك شيئاً، فما بقي إلا الله، وهو حفيٌ بي، كما قال زكريا: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم:4] أي: ما تعودت أن أشقى أبداً إذ دعوتك، بل كلما دعوتك فرجت عني، وكلما دعوتك جاء الخير، فتعودت أني كلما دعوتك وجدت الخير كله، {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم:4] ما تعودت أبداً أن أشقى لما أتوجه إليك.
فأدى إبراهيم حقوق الأبوة، فلم يستطل على والده، ولم يسبه ولم يشتمه ولم يهجره: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]؛ لأن المصاحبة بالمعروف من حقوق الوالد، وبقي حق الله عز وجل وهو ألا تكفر به، وأن لا تطيع في معصيته أحداً كائناً من كان، حتى لو كان الوالد عميق الجذور في نفس الولد، لكن هذا لا يجيز لك أن تعصي ربك، إذ أن حق الله عليك أوجب من حق والدك عليك، فإذا تعارض الحقان قدم أوجبهما وأعلاهما.
وقام بحقوق العبودية: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنعام:74] بعض الناس يقول: إن آزر في اللغة الأعجمية معناها (أف) فيكون المعنى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه أف أتتخذ أصناماً آلهة)، ولئن جاز أن يقال هذا فالذي يقطع بخطأ هذا التأويل السنة، والسنة مهمة في تفسير القرآن، ترى الرجل واسع العلم بالسنة إذا فسر القرآن كان على تفسيره من البهاء ما ليس على تفسير الجاهل بالسنة معلوم أن كثيراً من المواضع في القرآن مجملة، وفصلها النبي عليه الصلاة والسلام: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44]، فمهمة النبي عليه الصلاة والسلام أن يبين ما أجمله الله في الكتاب، فقد ورد في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة ما يقطع كل ريبٍ بخطأ هذا التفسير، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة، وقد قضى الله عز وجل عليه بالنار، فيقول له إبراهيم: ألم آمرك ألا تعصيني؟ قال: اليوم لا أعصيك، فيتوجه إبراهيم عليه السلام إلى ربه، فيقول: ربِّ! قد وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فأي خزيٍ أن يدخل أبي النار؟!) أي: فهذا خزيٌ عظيم، فلذلك يستشفع لأبيه عند ربه (فيقول الله عز وجل لإبراهيم: إني حرمت الجنة على الكافرين انظر! فينظر تحت قدميه فإذا أبوه ذيخاً)، الذيخ: الضبع الذكر، تحول أبوه إلى ضبع، مرتكسٌ في نتنه وفي رجيعه، منتن، ومعروف أن الضبع من أقذر الحيوانات، فيدعو عليه إبراهيم ويتبرأ منه، ويدخل النار، وعجباً له كيف يقول له: اليوم لا أعصيك {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91].
فإبراهيم عليه السلام أدى حقوق العبودية؛ لأنه توجه إلى ربه وأنكر ما عليه أبوه، وهذا شيء عجيب.
كلمة (الإله) مشتقة من (أله، يأله) ومن (وله، يوله)، الولوه: شدة التعلق والحب، تقول: عنده وله، أي: عنده محبة شديدة وتعلق شديد،
السؤال
هذا الحجر الذي تحبه حتى تصير عاشقاً للحجر.
قد يعشق العاشق من يبادله الحب، لكن هذا الحجر الذي تعشقه وتموت في حبه؛ ما هي الخصائص التي في هذا الحجر؛ ولذلك أنكر عليه قائلاً: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} [مريم:42]، أنت تعلم أنه عندما يكون حبيبك أطرش فإنك لا تشعر بلذة، ستقول له: أحبك فلا يتأثر، وتسمعه الكلام الجميل التي يستثير الأعصاب ويهيج المحبة فلا يستجيب، فهو أطرش أصم؛ إذاً ستجد الكلمات كلها تموت على لسانك أنت، لأنه أصم لا يسمع.
والعين واسطة الجمال، أحياناً يحب القلب بمجرد النظر فقط، وربما يحب بالسمع، يشكو أحد الناس أنه بينما كان يرفع سماعة الهاتف كلمته امرأة صوتها غزا قلبه، فالسمع والبصر أيسر طريقين إلى القلب، وأشدهما البصر.
ولذلك تجد الذين امتحنهم الله عز وجل بالعمى أذكى قلوباً من أصحاب العيون المبصرة، وأقرب إلى سواء السبيل؛ لأن هذا الطريق الخطير الموصل إلى القلب مسدود، لا يلجه شيطان من الإنس أو الجن.
إبراهيم عليه السلام يتعجب: كيف يعبد أبوه ما لا يسمع ولا يبصر؟!! ومع فقده السمع والبصر، لا يستطيع أن يدافع عنك (ولا يغني عنك شيئاً) فقل لي: ما هي الميزة التي فيه؟ قل لي أين ذهبت عقولكم؟! ولذلك السؤال كان عجيباً واستنكارياً: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنعام:74]، أي: فواضح جداً أن هذا ضلال مبين.
ثم ذكر الله سبحانه وتعالى ما منَّ به على إبراهيم(43/3)
إبراهيم يتعرف على ربه ويبحث عن صفاته
هناك جماعة يحتجون بقصة إبراهيم عليه السلام في رؤية الكوكب والشمس والقمر على أن ربنا يعرف بالعقل، قال لك: إبراهيم عليه السلام فكر بعقله في الكوكب ثم القمر ثم الشمس، وأنه عرف ربنا سبحانه وتعالى بالعقل، وهذا خطأ، وقولهم: (ربنا يعرف بالعقل فقط) هذه عبارة خاطئة وغلط.
إن الله عز وجل لا يعرف إلا عن طريق الرسل، كما أن معرفة الله منحة من الله وهدية، وإلا لو جاز أن يكون العقل مستقلاً بمعرفة الله لما كفر عالم الذرة، وآمن الرجل الفلاح البسيط الذي يشتغل في الأرض.
عالم هندوسي كان يعمل في محطة الفضاء الأمريكية، وبينما هو يركب سيارته الفارهة بأمريكا إذ أبصر عجلاً في الطريق، فأوقف السيارة ونزل وسجد للعجل، ثم واصل الطريق إلى محطة الفضاء! فلو قسنا عقل هذا الإنسان بعقل رجل بسيط فلاح يعمل في الأرض، فأيهما أكبر بمقياسنا: هذا عالم فضاء وعقله كبير، ومع ذلك يسجد للعجل، وهذا الرجل البسيط إذا أصابته مصيبةٌ قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، أو إذا أصابته سراء حمد الله عز وجل؟ فمن أين جاءه هذا الهدى؟ والثاني سجد للعجل، وهذه عقليته، لا تقل لي: العقل يستقل بمعرفة الله فمعرفة الله هدية، ومنحة من الله، ثم يأتي دور العقل بعد ذلك تبعاً لهذه المنحة، فكلما كان العقل أرحب كان إيمانه أرسخ، لكن لا يستقل أبداً بمعرفة الله.
وليس في هذه القصة ما يدل على ذلك؛ لأن الله عز وجل قدم للقصة بلفظةٍ عرَّفتنا خطأ هذه المقالة، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي} [الأنعام:75]، من الذي أراه الآيات الكونية، وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء:51]، فتوجه إبراهيم عليه السلام إلى ربه منحة من الله، ثم أعمل عقله الكبير، بعد هذا التسديد بالبحث عن صفات إلهه.
لا تغضب وتقول: إن إبراهيم كان يبحث عن الله، ما كفر إبراهيم بالله طرفة عين، ولا شك في وجوده طرفة عين، إنما كان يبحث عن صفات إلهه بعدما استيقن أن له رباً، وأن له إلهاً ولمّا يأته الوحي بعد، فأخذ يبحث عن صفات إلهه.(43/4)
وصف الجو النفسي الذي في قصة إبراهيم
سل أي محب: صف لي من تحب.
لو أجاب لخلع كل جميل الخصال ونعوت الجلال على من يحب، وهكذا عين المحب لا ترى سيئة على الإطلاق، كما قيل: وعين الرضا عن كل عيبٍ كليلةٌ كما أن عين السخط تبدي المساويا وفي المثل الدارج عندنا: (حبيبك يبلع لك الزلط وعدوك يبحث لك عن الغلط) الزلط: الحصى.
إذاً المحب لا يرى عيباً فيمن يحب، ولو رأى فيه عيباً لم تكن محبته تامة، لو جاز له أن ينسب إلى حبيبه عيباً لما كان محباً كامل المحبة، ولا يكون كامل المحبة إلا إذا عمي عن عيوب حبيبه، فكيف إذا لم يكن لمحبوبه عيبٌ أصلاً؟ إبراهيم عليه السلام أخبرنا الله عز وجل بقصته، وفيها عبرة للباحثين عن الحق في زمان الغربة، ما أغرب إبراهيم عليه السلام! رجلٌ واحدٌ موحد في أمة الكفر، ما أغربه! لكن ما أقواه إذ لاذ بذي الجلال! فكان أقوى منهم جميعاً.
وأرجو وأنت تسمع الآية، أن ترسل خيالك في توصيف الجو النفسي الذي كان يعيش فيه إبراهيم عليه السلام وهو يبحث عن صفات إلهه: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} [الأنعام:76] يذكره الله وكأنه ليس في الكون غيره، فهو وحده الذي لفه حزام الظلام، وكلمة: (جنَّ عليه الليل) تفيد أنه في كبد الليل، فهو يعرف الوقت الذي نامت فيه العيون وهجع الخلق، وهو مستيقظ.
ومعلوم أن العاشق لا ينام، المحب لا ينام، مسهد الطرف دائماً، مشغول بمن يحب، يسأل نفسه: ماذا يفعل المحبوب الآن؟ هل يفكر فيَّ كما أفكر فيه؟ ويسأل نفسه نحو هذه الأسئلة، ومع ذلك لا يتضجر من كثرة السهر؛ لأنه يسهر لمن يحب.
كلمة (جنَّ عليه الليل) أي: في كبد الليل، في كبد الظلام، في الوقت الذي كل الناس فيه مستمتعة بالنوم هو مستيقظ، وكأنما لفه الليل وحده بظلامه، وهو يبحث عن صفات إلهه الذي هو مستيقن من وجوده، لكنه يريد أن يتمثل بشيءٍ يراه جميلاً، يقول: هذا ربي.
(فلما جنَّ عليه الليل رأى كوكباً) منيراً في وسط هذا الكون المظلم، إذاً هذه هي النقطة الوحيدة الجميلة في الكون، فقال: إذاً! هذا هو إلهي.
وهكذا المحب لا يرى سيئة لمن يحب، وينسب كل نعوت الجمال وجميل الخصال لحبيبه وإن لم يكن كذلك، فالنجم علامة مضيئة في هذا الكون {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:76].
لماذا لم يقل: أنا أكره الآفلين؟ لماذا نفى الحب ولم يثبت الكره؟ لأن ذكر الحب حتى لو على جهة النفي فيه تهييج للحب، عندما تقول لأحد: أنا لا أحبك غير ما تقول له: أنا أكرهك، فقولك: (أنا لا أحبك) معناها بقاء سبيل للحب، أما إذا قلت: أنا أكرهك، فكأنما قتلت الحب، كما قال القائل: وكنت إذا ملني صاحبي ولم أر في وده مطمعاً غسلت بماء القِلى شخصه وكبرت من فوقه أربعاً فإن قالت الناس: صل حبله أقل: إن من مات لن يرجعا فقال: (غسلت بماء القلى شخصه) أي بماء الكره، وإمعاناً في إثبات هذا الكره كبرت من فوقه أربعاً، أي: صلاة الجنازة، مات وصلى عليه الجنازة، وقوله: فإن قالت الناس: صل حبله أقل: إن من مات لن يرجعا كما يئس الكفار من أصحاب القبور، أي: فإذا كان يمكن رجوع أي ميت، فهذا يمكن أن أعيد العلاقة معه.
فعندما يقول: لا أحب الآفلين، أي: إن إلهي الذي عرفته بنفسي لا يغيب عني طرفة عين، ولا أصدق أن هذا الذي يغيب يمكن أن يكون إلهاً لي، وإلهي ما غاب عني طرفة عين.
إذاً: غياب الإله عن حياة العبد نقص، وهذا دالّ على رجاحة عقله وفطنته، كما قال الله عنه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ} [الأنبياء:51]، فهو مسدد يعلم من قبل أن يأتيه وحيٌ أن غياب الإله عن عبده نقص، إذاً: معنى ذلك أن الإله لابد أن يكون موجوداً، ولذا قال: لا أحب الآفلين.(43/5)
جهر إبراهيم بالدعوة إلى التوحيد
بعد هذا الاعتقاد بدأ يجهر بما يعتقد، ولا يجهر المرء بما يعتقد إلا إذا كان متحققاً مما يدعو إليه ويعتقده.
أهل الكهف، الشباب الصغير في أمة منحرفة لما لاذوا بالكهف، قال الله عز وجل فيهم: {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:14]، (إِذْ قَامُوا فَقَالُوا)؛ لأنه لا يستطيع أن يقول إلا إذا قام، ولا يقوم ويصلب عوده إلا إذا اعتقد ما يدعو إليه، فكلمة (إذ قاموا) ليس معناها: قاموا من النوم، أو كمن كان مضطجعاً فقام بل معناها: صلب عودهم، هنا القيام بمعناه العام التام، (إذ قاموا) انتصبت قامتهم، فلما وجدوا القوة من أنفسهم قالوا -وواجهوا قومهم-: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:14]، أي: لو ادعينا آلهةً مع الله عز وجل لقد قلنا شططاً من القول وانحرافاً.
فإبراهيم عليه السلام لما وصل إلى يقين أنه لا يوجد في الكون -مما رأى- مثالٌ يعلق عليه معرفة الله عز وجل وأسماءه الحسنى، تبرأ من كل ذلك وقال: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:79]، وكلام إبراهيم عليه السلام هنا كلام قرآني، وطريقة قرآنية معروفة في القرآن، أنه يستدل بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ} [الأنعام:79] (فطر) يعني: خلق، {فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:79]، أي: إني وجهت وجهي حنيفاً للذي فطر السموات والأرض.
وإنما قال هذا الكلام وحاج قومه به، لأنه لما جهر بتوحيد الله بدءوا يحاجونه، فاحتج عليهم بهذه الحجة؛ لأن المشركين جميعاً يقرون بتوحيد الربوبية، ولا يجحدون أن الله عز وجل هو الذي خلق ورزق وأحيا ويميت، لا يخالفون في ذلك كله، ما علمنا من المشركين من يقول: إن آلهةً شاركت الله في خلق السموات والأرض، بل كانوا يقرون بذلك.
فالمناسب في حصر الحجة: أن تأخذ من إقرارهم وسيلةً ودليلاً لإقامة الحجة على ما ينكرونه، وهذا لا يستطيع أن يقيمه إلا الراسخون في العلم، قال الله عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت:61] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت:63] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [لقمان:25] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف:87] {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:84] * {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون:85] {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون:84 - 89] {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس:31].
أليس هذا إقراراً؟ كلهم يقولون: الله، {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:59]، ثم عدَّد الله عز وجل آلاءه في الكون، فاستدل بما يقرون به على ما نفوه من توحيده وعبادته.
الذي تفرد بالخلق وتفرد بالرزق، وتفرد بالإحياء والإماتة، أهل أن يتفرد بالعبادة، لماذا تستغربون؟! تفرد بكل شيء، فلماذا تشركون معه آلهة في العبادة؟ إذا كان هؤلاء الآلهة خلقوا مع الله عز وجل خلقاً، فأرونا ما خلقوا، لكنهم ما خلقوا.
إبراهيم عليه السلام احتج عليهم بما يقرون به في أنفسهم، ولذلك جهر به: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنعام:79] وهذا متعلق بتوحيد الربوبية: (فطر) أي: خلق، {فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:79].
نعوذ بالله تبارك وتعالى أن نشرك به شيئاً نعلمه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(43/6)
اشتغال إبراهيم بربه
وواصل إبراهيم البحث، وكل ليلة يسهر مشغولاً، انظر القضية! شبابنا، رجالنا، نساؤنا بأي قضية شغلوا؟ بينما إبراهيم عليه السلام مشغولٌ بإلهه، هو كل حياته، يوظف كل شيءٍ في طريقه إلى الله ليزداد إيماناً، فهذه هي قضيته، قضية القضايا أن تُشغل بإلهك الذي تعبده، ليس هناك قضيةٌ ينبغي أن تطفو فوق هذه على الإطلاق إذا كنت محباً لربك، فقد وجدنا في حياة الناس وهم يتكلمون عن الحب والمحبوب فلو أن فلاناً من الناس قال: أنا أحب كذا.
فيقول المحب: وفلان -أي: محبوبه- كذلك يحب كذا، للذي يحبه.
فإذا سمع من يقول: أنا أكره كذا، يقول له: وكذلك فلان يكره هذا أيضاً.
يقول: وأنا مالي ومال فلان، من الذي دخل فلاناً في الموضوع؟ ألأنه حبيبك تحشر اسمه في كل شيء، حتى ولو لم يكن لذكره معنى.
فهل -مثلاً- إذا قال شخص: أنا أكره الخمر.
أقول: وربي حرمه.
هل مثلاً إذا قال: إني أحب السماحة وأحب التجاوز.
فيقول: وربي يحبه هل ممكن تقول هذا الكلام؟ كلما جاءت نقيصة قلنا: إن الله يكرهها، وكلما جاء خير قلنا: إن الله يحبه؟ نحن نرى آيات الله في مظاهر الكون، ومع ذلك نمر عليها معرضين، أنا أتعجب! قبل عدة أيام المطر كان شديداً، وبعض الناس يقول: مطر في عز الصيف، أهذا وقته؟! ماذا يعني هذا؟ يعني أن الذي أنزل المطر لم يعلم مصالح العباد! هذا كثير من الناس يقول هذا الكلام، ألا يعلم أن هذا المطر يحيي به الله ملايين الكائنات، لماذا لم ينسب الفضل والجمال إلى إلهه ويسلم له بالحكمة؟ إبراهيم عليه السلام يواصل، قضية القضايا (إلهه الذي يعبده)، ويبحث له عن مثالٍ في الكون يتعلق به، وإن كان هو أجل من المثال؛ فإن الله ضرب مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، والله أعلى وأجل، إنما يبحث المرء عن مثالٍ جميلٍ كلما رآه ذكَّره بإلهه أو ذكره بمن يحب، فيواصل البحث.
{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:76]، ثاني ليلة: {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام:77]، أجمل من الكوكب وأشد نوراً، فهذا هو، إذاً البارحة شُبه لي، هو هذا الآن، {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام:77].
انظر: (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) إذاً: هو يعلم إلهه، ويعلم أن التثبيت بيده، {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً} [الأنعام:78] ثاني يوم الصبح {قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام:78] لكنه أضاف صفةً أخرى، قال: {هَذَا أَكْبَرُ} [الأنعام:78] إذاً: الوصف الذي يبحث عنه: ربٌ لا يغيب عن الوجدان، وهو أكبر، قال: (هذا ربي، هذا أكبر)، لم ير في الكون نجماً أكبر من الشمس، {فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:78] وصل إلى قناعة كاملة بعد ثلاث ليالٍ فقط، و {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:78 - 79].(43/7)
محنة الغرباء
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
قصة إبراهيم عليه السلام عزاءٌ لكل الغرباء، من كان غريباً في قومه يدعوهم إلى الله عز وجل؛ فإنه يحتاج إلى من يسليه، ولذلك ضرب الله عز وجل الأمثال والقصص تسليةً وعزاءً للغرباء، وحسبك أن تكون متفرداً في معرفة الله عز وجل، وأن الله اجتباك واصطفاك وعرَّفك، فلا ترضى بالله بديلاً، وثق أنه مهما ابتليت فإن العاقبة لك.
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (نحن معاشر الأنبياء نبتلى، ثم تكون العاقبة لنا) وهذا كلام فصل واضح، وقال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]، وقال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
كل هذا يؤكد أن المرء إذا استقام لا يضره كثرة المخالفين له.
وأنت سائر في طريقك إلى الله هناك لصوص، هناك قطاع طرق يريدون سرقة قلبك، أحدهم -بل كلهم- لا يريد جيبك، بل يريد قلبك، فكلما ساق إليك سهماً فإنما يسدده إلى قلبك، ثم إنهم يصرخون عليك وينادونك مرة بالترغيب ومرة بالترهيب، وربما تفاجأ بأحدهم يبشرك بسوء العاقبة وأنت تمشي على الأرض، يقول لك: هذه السكة آخرها مشكلة، أنا لك ناصحٌ أمين، لا تواصل السير.
فإذا كنت ضعيف القلب ووجد هذا الكلام صدىً عندك؛ إما أن ترجع وإما أن تتقاعس في السير فتطول المسافة على نفسك.(43/8)
سر ابتلاء الصالحين
لماذا جعل الله عز وجل البلاء من نصيب أوليائه؟ إنما نجلي الإجابة عن هذا السؤال لنقوي قلب المتقاعس المتردد.
اعلم أن القلب يخالف البدن في مادة حياته؛ القلب مادة حياته غير مادة حياة البدن، الآفات والمصائب والأمراض والأوجاع هي علل البدن، إذا أصاب عضواً من الأعضاء عطب مات أو شُل أو ضعف، فهذه المحن تضعف الجسم، لكنها تقوي القلب؛ القلب لا يستمد مادة حياته إلا من المحن، والعباد يوزنون عند الله يوم القيامة بقلوبهم لا بأجسامهم، رب رجلٍ سمينٍ عظيمٍ يأتي يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة.
وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه نحيفاً شديد النحافة، حتى ذكروا أن الريح إذا هبت كانت تكفؤه على ظهره من شدة ضعفه، ولما صعد شجرةً وأبصر الصحابة دقة ساقيه ضحكوا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مم تضحكون؟ قالوا: يا رسول الله! من دقة ساقيه.
قال: والذي نفسي بيده! لهما أثقل في الميزان من أحد).
إن العبد لا يوزن عند الله بجسمه، إنما يوزن بقلبه، فلئن تذهب إلى الله عز وجل مبتلى بكل مرضٍ في بدنك أهون ألف مرة من أن توافيه وقد ابتليت في قلبك، فالقلب يستمد حياته من المحن، فلما كان الأمر كذلك وحياة القلب هي الحياة الحقيقية؛ جعل الله البلاء من نصيب أوليائه لتحيا قلوبهم ولا تموت، ويبتليهم في أبدانهم ثم يلهمهم الصبر على البلاء، فالحمد لله أولاً وآخراً.(43/9)
الكرامة بالتقوى لا بمتع الدنيا
الحمد لله الذي ابتلى ورفع بالبلاء وصبَّر على البلاء: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127]، لا تتصور أنك أنت الذي تصبر، فإنه إذا لم يصبرك الله فلن تصبر، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون.
لذلك لا يستدل بالبلاء على أنه إهانة إلا أهل الكفر والجهل فقط، فالجاهل كلما يجد إنساناً مبتلى يظن هذا الإنسان أنه هين على الله، ويظن أنه إنسان سيء، يقول: قد أهان الله كرامته، هذا رجل ليس له كرامة.
وهم لا يعلمون أن الله بذلك يرفعه، وهذا من جنس احتجاج المشركين، الذين يرون أن الابتلاء علامة غضب، وأن العافية من البلاء علامة رضا الله، والله عز وجل نفى هذا الكلام.
وقالوا -أي المشركين-: {نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ:35]، أي: إذا كان يريد أن يعذبنا فلماذا يعطينا الأموال وأولاد؟ لا يمكن أن يعطيني المال والولد، إلا لأنني إنسان جيد؛ لأنه لو كان يريد أن يعذبني لأجاعني.
هو هذا احتجاج المشركين، فالله سبحانه وتعالى رد عليهم بقوله: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ} [سبأ:37]، أي: ليس لها قيمة، ولا تقربك من الله سنتيمتراً واحداً، إلا من آمن، أي فالإيمان هو الذي يقربك من الله: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ} [سبأ:37].
{فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر:15 - 16] أي: ضيقه عليه، {فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:16] فربنا نفى القضية كلها، فليس الإعطاء دليل كرامة، ولا المنع دليل إهانة، قد نمنع الطعام والشراب عن مريض -مثلاً- بعد أن أجرى عملية جراحية، وهو يتوجع ويتوسل يقول: أريد قطرة ماء، سأموت، ألا ترحموني؟ ومع ذلك أنت يتقطع قلبك أسى عليه ولا تعطيه الماء؛ لأنك لو أعطيته الماء لقتلته، فبرغم توجعه إلا أنك لا تعطيه الماء، وكمثل الدواء المر، نتحمل مرارته لما نرجوه من البرء والشفاء بعد ذلك، والأعمال بالخواتيم.
فكذلك ذل الدنيا ساعة، سل الذي رُد إلى أرذل العمر، سل أطول الناس عمراً، قل له: ما قدر حياتك الماضية؟ يقول: طرفة عين.
الإنسان ابن لحظته فقط، وجعلت متعته كحياته، فمثلاً قد يمر عليك زمن طويل تتمنى أكلة معينة تشتهيها، وإذا سئلت عن سائر أمانيك من الدنيا وأعظمها، تقول مثلاً: آكل الأكلة الفلانية، فإذا أكلتها كم تكون لذتك؟ كم قدرها من الوقت؟ ثلاثين ثانية فقط، وهي مدة بقاء الطعام في فمك، مجرد ما بلعته انتهت متعته، كذلك العمر وكذلك الدنيا، ما فات مات، وأنت إنما تعيش اللحظة التي أنت فيها، الآن لو مرض رجل فسألته عن العافية، يقول: كأني ما مر بي عافية قط، ما فات مات أيضاً.
إذاً: ذل الدنيا ساعة، ولا خير في لذةٍ عاقبتها النار {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم:55]، ويوم النشور يتساءلون: كم لبثتم؟ قالوا: يوماً أو بعض يوم، فالدنيا قصيرة، مهما عمِّرْتَ فيها فهي قصيرة، فلا ترضَ عن الله بديلاً {إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49].(43/10)
العاقبة للمتقين
فينبغي على العاقل وهو سائرٌ إلى الله عز وجل بعدما تحقق من صدق دعوته ألا يصغي إلى أحد، وربنا تبارك وتعالى قال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف:111] أي: لا يستفيد من قصص الأنبياء إلا أصحاب العقول، وهم الذين يعملون عقولهم ويستفيدون، قولوا لي: هل هزم نبيٌ حتى غُلب في آخر الأمر، قصوا عليَّ قصة نبيٍ غُلب، لا توجد أبداً، وأما البلاء فحدث ولا حرج، لماذا جعل الله عز وجل البلاء من نصيب أوليائه؟ هل لهوانهم عليه؟ هل لأنهم رخصوا فسلط عليهم السوقة الذين غضب عليهم ومأواهم النار؟ لماذا لا يعز الله عز وجل أولياءه ويجعل لهم الغلبة؟! الفاسق يركب أفخر السيارات، ويسكن الفلل العظيمة، ويحجز مائتين أو ثلاثمائة متر على القمر، إذ يزعمون أنهم يؤجرون القمر الآن، وإذا أحب أن يأكل أكلة سمك ركب الطيارة ويذهب ليأكل سمكاً في باريس، وهو ساكن في أستراليا! أليس المؤمن أحق بهذه المتع؟! أليس هو الذي يحمد ربه، وهو الذي يشكره، وهو الذي يثني عليه؟! أليس هو كل ما يفعل يقول فيه: باسم الله، إشارة إلى أن الله هو الممتن، ما نسيه قط، فيحرمه من الذي يريده، ويسلط عليه السوقة والدهماء والطغام؟ أليس المؤمن أولى؟!(43/11)
طوبى للغرباء
فيا أيها الغرباء في زمن الغربة: لكل زمانٍ غربة وغرباء، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم للغرباء فقال: (طوبى للغرباء) طوبى للذين يصبرون على مخالفة السواد الأعظم، ويتركون متع الدنيا لما يعتقدون أنه الحق: {طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد:29]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة شجرة؛ يسير في ظلها الجواد المضمر مائة عامة لا يقطعها، وتلا أبو هريرة قوله تعالى: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:30]) الظل الممدود: شجرة واحدة في الجنة، الفرس المضمر -الذي يمنع عنه الطعام ليلة السباق فتضمر بطنه ويخف وزنه فيسبق غيره من الخيل- فإذا ركبت الفرس هذا وأطلقت له العنان مائة سنة، لا يقطع ظل هذه الشجرة، هذه هي للغرباء، علامة لهم، إن هؤلاء صبروا على مخالفة السواد الأعظم، وضحوا بمتع الدنيا، ولم يضحوا بالهدى، والذي يعرف الله عز وجل يستعذب العذاب كله فيه لو عرفه حق معرفته.
وسئل سعيد بن المسيب رحمه الله (عما يراه عند أهل الدنيا من المتع؟ فقال: مساكين! خرجوا من الدنيا وما ذاقوا ألذ ما فيها.
قالوا: وما ألذ ما فيها يا أبا محمد! قال: ذكر الله)، هذا ألذ ما في الدنيا كلها، الذي يتعود على الذكر ويدمنه، والذي هو حياة قلبه؛ لا يشعر بغربةٍ على الإطلاق؛ والله لا يغيب عنه طرفة عين.
فلماذا يطول الليل على المريض؟ ولماذا الآلام تكون أشد على المريض في الليل دون النهار، مع أن المرض واحد، وقد يكون النهار أطول والليل أقصر، ولكن الليل دائماً طويل على المريض والمرض أشد فيه لماذا؟ لقلة العواد، لقلة الزائرين، وأما النهار فمهما كان مريضاً وكان المرض شديداً والزوار يعودونه فإنهم يخففون عنه، أحدهم يقول له: نحن نتمنى لك الشفاء.
فلما يحس أنه محل أفئدة الناس، وأن كل الناس تحبه، وكل الناس متوجعة لما أصابه، وكل الناس تتمنى له الشفاء، فيخف عليه المرض، لكن في الليل لا أحد يزوره ولا أحد يعوده؛ لذلك يشعر أنه غريب وحيد منفرد، فتزيد عليه الآلام، برغم أن الآلام كانت بنفس قوتها في النهار.
كذلك إذا شعر المرء أن الله غائبٌ عنه، وأن الله لا يكلؤه، وأن الله لا يرعاه؛ يشتد عليه البلاء.
وأقل البلاء يكون -عليه- مصيبة كبرى بذلك، أما الذي يشعر أن الله لا يفارقه، وهو معه بصفة دائمة فكلما ذكره التذ بذكره، وما أجمل وأحلى وأعذب وأطيب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل حبك أحب إليَّ من الماء البارد)، ولا يقدّر مدى حب الماء البارد على ظمأ إلا رجل تكاد عنقه تنقطع من الظمأ في يومٍ شديد الحر وقدم إليه كوب ماء بارد، فإذا شربه وروى ظمأه شعر بحلاوة هذا الدعاء: (اجعل حبك أحب إليَّ من الماء البارد).
نسأل الله تبارك وتعالى أن يردنا إليه رداً جميلاً، وألا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.(43/12)
كلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة
الدعوة إلى كلمة التوحيد تكون قبل الدعوة إلى توحيد الكلمة؛ لأن توحيد الكلمة على غير أساس من الكتاب والسنة والتوحيد لا فائدة فيه ولا منفعة، بل ربما عاد بالضرر الكبير، خاصة مع كثرة البدع والأهواء وقلة العلماء الربانيين.(44/1)
كلمة التوحيد
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قرأت لأحد الكتاب مقالاً يزعم فيه أن الإنكار على الشرك يُتْرك إذا كان سيؤدي إلى تفريق الكلمة، ويقول: والدليل على ذلك: أن موسى عليه السلام لما عاتب هارون عليه السلام في تركه الإنكار أو مقاتلة الذين عبدوا العجل قال له: {يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:94] فخشي هارون وهو نبي أن ينكر على الذين عبدوا العجل -وهذا داخل في صميم الشرك- حتى لا يقول له موسى: إنك لم ترقب قولي في بني إسرائيل.
وكأن هذا الرجل يظن أنه ليس هناك أحد يحفظ القرآن أو يقرأ القرآن أو ليس هناك قرآن بين يدي الناس.(44/2)
مخالفة المبتدعة لأصول أهل السنة
وقبل أن تفكر في توحيد الكلمة بين المسلمين وحِّد عقيدتهم، إذ كيف تجتمع مع رجل يقول: إن الله في كل مكان، وينكر أن يكون الله على العرش؟! وكيف تجتمع مع رجل يقول: إن الله لا يسمع، ولا يبصر، ولا يتكلم، ولا يرى؟! ويوجد في بعض الفرق المنتسبة إلى الإسلام من يقول هذا، حتى قال القائل من أهل السنة: (إن المجسمة يعبدون صنماً والمعطلة يعبدون عدماً).
المعطلة الذين لا يثبتون لله صفة؛ لأن إثبات الصفة عندهم يستلزم منه وجود الجارحة، فلما قال هؤلاء هذه المقالة، تطرف آخرون ضدهم، فأثبتوا الجارحة لله، والجارحة: هي العضو؛ فإذا كان يتكلم فلا بد من لسان وشفتين وأسنان ولهاة وفك وحنك، وإذا كان يرى فلا بد من عين وحدقة إلخ، وإذا كان يسمع فلا بد من صماخ أذن ونحوه.
فالذي يسمع عند المجسمة له أذن مجسمة، وفي المقابل المعطلة الذين يقولون: لو أننا قلنا: (يسمع) لزم أن نقول بالتجسيم، فينفون عنه السمع، فهؤلاء يعبدون صنماً، وأولئك يعبدون عدماً، وأهل السنة هم الطريق الوسط، يثبتون الصفة لله تبارك وتعالى، ثم يقولون: كما يليق بجلاله.
فأنت كيف تضع يديك في يد رجل، كلما جاءت آية من آيات الصفات، أوَّلها أو عطَّلها، وكلما جاء حديث من أحاديث العقائد أنكره ورده وقال: حديث آحاد؟! فالمبتدعة أصلوا أصولاً لأنفسهم؛ ليجادلوا أهل السنة بها، فالواحد منهم يقول وفقاً للأصل: أنا لا أنازعك فيما تقوله الآن؛ لكن أنازعك في الأصل الذي أصلته، فأنا لا أقبل عقيدة جاء إثباتها بخبر آحاد، فنقول: من سلفك في هذا الأصل؟ بل نقولها بكل تواضع: نتحدى من يأتي بحديث أو واقعة صحيحة، تذكر أن صحابياً روى حديثاً في العقيدة والصفات والأسماء لصحابي آخر فرده عليه بخلاف الأحكام الشرعية، فالصحابة اختلفوا كثيراً جداً في الأحكام الشرعية، ولم يختلفوا قط في أحاديث التوحيد والأسماء والصفات، فمثلاً: عندما روى أبو سعيد الخدري الحديث الذي رواه البخاري صحيحه وهو حديث الشفاعة، وفيه قال: (فيكشف الله عن ساقه)، وقد جاءت في القرآن الكريم م نكرة، ولم تنسب إلى الله عز وجل، في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42]، ولكن نسبت في حديث النبي إلى الله عز وجل، وكلامه مبين للقرآن الكريم، كما رواه أبو سعيد الخدري، فقال: (فيكشف الله عن ساقه) والضمير يعود على لفظ الجلالة، فهل هناك صحابي اعترض على أبي سعيد وقال: كيف تقول هذا الكلام؟! ومن الذي روى معك هذا الكلام؟! بينما إذا أردت أن تقف على عشرات بل مئات الأحاديث التي تضمنت أحكاماً فرعية، واعترض بعض الصحابة على بعض فيها، فدونك أحاديث السنن والصحاح، فهذه السيدة عائشة رضي الله عنها لها اعتراضات وانتقادات كثيرة على كثير من الصحابة والزركشي له كتاب (الإجابة على ما استدركته عائشة على الصحابة) أتى باستدراك عائشة على كل صحابي ممن استدركت عليهم؛ حتى أنها استدركت على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وهؤلاء السادة.
فمثلاً: عندما روى عمر بن الخطاب حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه) قالت عائشة رضي الله عنها كما في صحيح البخاري: (إنكم لا تحدثوني عن كاذبين -وهما عمر وابنه- ولا مكذَّبين، ولكن السمع يخطئ) إن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك في يهودية قال: (إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب) إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه.
وقد رد أحد العلماء بهذا الحديث الأخير عليها رضي الله عنها، إذا لا يعذب الله حتى الكافر على ذنب لم يرتكبه، والكافر والمؤمن في هذه المسألة سواء، فلا يعذب أحد بذنب الآخر.
ولا ينتقد على هذا الكلام بقول الله تبارك وتعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:13] فيقال: إنهم حملوا أثقال غيرهم؛ لأن هذا في الذين ضلوا وأضلوا، فهو عندما أضل غيره أذنب، فهو ذنبه في الحقيقة حينما ضل وذنبه حينما أضل، ولكن لا يزيد الله الكافر عذاباً بذنب لم يجنه ولم يكن له فيه يد، وهو والمؤمن سواء؛ فلا يعذب أحد بغير ذنب فعله.
وهكذا أيضاً انتقاد أبي هريرة رضي الله عنه على ابن عباس في حديث الوضوء مما مست النار، وإنكار الصحابة على عثمان رضي الله عنه في إتمامه الصلاة بمنى، وإنكار أبي سعيد الخدري على أبي موسى الأشعري في جملة السلام، وهكذا.
فكثير من الأحاديث في الأحكام الشرعية اعترض بعضُهم على بعض فيها وردوها؛ لكن لم يفعلوا ذلك في حديث توحيد أو حديث عقيدة على الإطلاق، فدل على أن حديث الآحاد كان يُتَلَقى بالقبول، لا سيما أحاديث العقيدة، فإنها كانت تُتَلَقَّى بالقبول عند الصحابة، ولا أدل على ذلك -ولا يجادل في ذلك إلا مكابر لا يذعن للحق- من حديث الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل معاذ بن جبل وحده إلى اليمن فقال له: (إنك تأتي قوماً أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)، وهذا عقيدة؛ فلو أن أهل اليمن لم يسمعوا لـ معاذ، لكانوا كفرة، ولو كان خبر الواحد في العقيدة لا تقوم به حجة، لما جاز تكفير هؤلاء، وقد اتفق جمهور المسلمين على أن الإمام المسلم لو أرسل نذيراً إلى بلاد الكفر، يدعوهم إلى التوحيد، فردوا دعوته، فإنهم كفارٌ، ويجب عليه قتالهم بناءً على إرسال فرد واحد، ولو كانت عقيدة التوحيد لا تقوم بحديث الواحد، لما جاز أن يكفر هؤلاء، ولا أن تنتهك أموالهم وأعراضهم.
والأدلة على ذلك تطول بنا، والمقصود أن هؤلاء المبتدعة عندما رأوا قوة أدلة أهل الحق وعلموا أن أصولهم الفاسدة لا تقوى على الوقوف أمام أصول أهل الحق، لجأوا للنصوص التي تحتمل ظواهرها عدة معانٍ، فاختاروا المعنى الذي يؤكد أصلهم، وأتوا عليه بخيلهم ورَجِلهم، وصاروا ينافحون عنه بقضهم وقضيضهم.(44/3)
النصر ليس بالكم وإنما بالكيف
إذاً: (كلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة) وكيف يقال: نجتمع جميعاً على كلمة الإسلام وهناك مَن يشرك بالله؟! والله تعالى يقول: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال:65] فلا تظن أنه يمكنك أن تنتصر بما عندك من التكنولوجيا وما عندك من المعدات العسكرية وغيرها، فنحن نعلم يقيناً أن هذا سبب؛ لكنه لا يكون مفتاح النصر، فالصحابة الذين كانوا يقتسمون التمرات في يوم بدر، غلبوا الذين كانوا يأكلون عشرة من الجمال في اليوم الواحد.
وهذا هو الفرق بين الأجيال المتأخرة وبين جيل الصحابة.(44/4)
الابتلاء يزيد العقائد ثباتاً
كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمر على الفئة الضعيفة المستضعفة وهي تعذب، إما في رمضاء مكة، وإما وجلودها تتوجع من عصي المشركين، وهو صلى الله عليه وسلم لا يملك لهم شيئاً، وكان الله تبارك وتعالى يريد أن يستخلص هؤلاء، فأنت لو استخرجت الذهب من باطن الأرض، وعرضته في الأسواق، فإنه لا يعطي شيئاً كبيراً، إنما يساوي الذهب قيمته إذا أدخلته النار، فتحترق كل شائبة خالطت الذهب، ولا يبقى إلا الذهب؛ لأنه لا يحترق، إنما يزيد لمعاناً في النار، بخلاف غيره، (والناس معادن خيارهم في الجاهلية، خيارهم في الإسلام، إذا فقهوا) فالمؤمن إذا دخل في فرن الابتلاء احترقت كل الشوائب من رياء وسمعة وشرك ونفاق ونحو ذلك، ولن يبقى إلا الإيمان مصقولاً.
ولذلك ترون -في الدنيا كلها- أن من يضطهد لأجل عقيدة يعتقدها لا يزيد عليها إلا ثباتاً، وإن كانت عقيدة باطلة، وخذ مثالاً على هذا: أحد المدافعين عن حقوق العمال طالب حكومته بحقوق العمال، فأبوا أن يستجيبوا، فأضرب عن الطعام ومات جوعاً بعد واحد وعشرين يوماً، وتصور الألم عندما تكون جائعاً جداً، فإنك تموت في كل ثانية وفي كل دقيقة، ولو كانت القضية طلقة رصاصة يستريح بها، أو مات دفعة واحدة لكان هيناً؛ لكن هذا يموت كل ثانية، وهو ثابت على الباطل الذي هو عليه أو على عقيدته التي يعتقد أنها حق، وبعدما مات صنعوا له تماثيل وصار إلهاً؛ لأنه رجل مات على عقيدة، لأنه دافع عن حقوق العمال، فصار هؤلاء العمال يوقرونه حتى عبدوه!! الهندوس فيهم عقول وعجول!! لأنهم يعبدون العجل، بل يعبدون أنثى العجل.
ولو كان أحدهم يمشي بسيارته فاعترضته بقرة في مكان عام، فلا بد أن يسجد، ولا يمكن أن يتعداها، فهذا ممنوع، بل يقف، وإذا قعدت البقرة في الطريق، فإنه ينتظرها حتى تقوم من تلقاء نفسها!! بينما نحن نجد كثيراً من المسلمين لا يوقرون الله ورسوله -وهم أهل الحق- كما يفعل أهل الباطل بباطلهم.
وقد قلت مقالة في هذا المسجد ولا أزال أقولها: إن من بيننا من يلبس دبلة الذهب وخاتم الذهب، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (هذا حرام على ذكور أمتي) فيا أيها الذكر الفحل المسلم هلاَّ نزعته الآن في الحال اتباعاً لنهي النبي صلى الله عليه وسلم، وقلت: لا ينبغي لي أن أخالف نبيي ورسولي، إذا فعلت هذا الآن فلن يعيبك أحد، بل هي مكرمة فيك أن تمد يدك فتنزع هذا الخاتم أو هذه الدبلة ولا تلبسها، وقد جمعني مرة مجلس برجل فأخرج (سيجارة) فقلت له: هلا أطفأت هذه السيجارة! فقال: أليس مكروهاً؟ فنقول: ولو فرضنا أنه مكروه، فلم تفعله؟! فهو يخالف وهو يسمع النهي عن المخالفة ولا يرتدع ولو مؤقتاً، بل في أثناء سماعه للنهي يفعل المنهي عنه.
فتعجب عندما تنظر إلى رجل يعبد بقرة وقد تجده عالم ذرة أو صاحب شهادة دكتوراه في الهندسة أو في مجال آخر، ويكون ضليعاً في العلم وله عقل كبير ورغم ذلك ينتكس بعبادة البقرة.(44/5)
العقل لا يستقل بمعرفة الله تعالى
وبهذه المناسبة نصحح قولاً خاطئاً يجري على ألسنة الناس يقولون: ربنا نعرفه بالعقل فأقول: هذا كذب، لأن الله تبارك وتعالى لو عرف بالعقل استقلالاً لما كفر هؤلاء؛ لأن عقولهم أفضل من عقول كثير من عوام المسلمين المتقين الموحدين؛ لكن الهداية منة ومنحة من الله، ثم بعد ذلك يجيء دور العقل تبعاً، لتثبيت وجود الله تبارك وتعالى ومعرفته؛ لكن العقل لا يستقل بمعرفة الله وحده.
وهذا قول علماء المسلمين، خلافاً للمعتزلة ومن جرى مجراهم من أشباه العلماء الآن، الذين يجعلون العقل قاضياً على النقل، فإن لم يقبل عقله الحديث رده، ونحن لا ننكر دور العقل؛ لكن العقل في المرتبة الثانية، فالنقل أولاً، ثم العقل، فإن جاءك نقل صحيح لم يقبله عقلك، فاتهم عقلك ولا تتهم النقل.
إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعقله يزن عقول أمم لما قَبَّل الحجر الأسود قال: (والله إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولكن لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك).
فهو قام بتقبيل الحجر مع أن الإسلام قد جاء بهدم الأحجار التي اتخذت آلهة، ونحن لا نعظم حجراً، ولا نعبد حجراً، بل جاء الإسلام بتحطيم هذه العقيدة.
وعمر رضي الله عنه يقول: (إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر) وهذا من تمام عقيدته، وهو لا يفهم معنىً لتقبيل الحجر، ولكن الذي جعله يفعل ذلك هو ما بينه بقوله: (لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك).
وهكذا النصوص التي لا تفهم لها معنى، فإذا لم تفهم النص فكِلْه إلى عالمه؛ ولا ترد النصوص.(44/6)
سبيل العلماء في التوفيق بين النصوص
هناك رجل ألَّف كتاباً يطعن فيه في السنة النبوية بزعم أن الفقهاء يخالفون المحدثين فيها، فلما جاء حديث: (الوائدة والموءودة في النار) قال: هذا مستحيل أن يكون، بل هذا حديث به علة قادحة.
وليس في الحديث علة؛ لأن العلماء يقولون في هذا الأصل: إذا لم تعلم شيئاً فكِلْهُ إلى عالمه، فهلا سأل إذا لم يعلم.
! لكن لأنه ظن أنه لا يوجد في الأرض عبد يمكنه أن يرجع إليه لم يسأل.
ثم إذا سألت غيرك فلم تجد جواباً، فاحمل اللفظ على بعض ما تقتضيه الأصول، وإلا فقل: الله أعلم.
وهنا (الوائدة والموءودة في النار) الوائدة: لأنها ظلمت، فما بال الموءودة؟ أي التي قتلت ظلماً لماذا تدخل النار؟ من جملة ما يوفق العلماء به أن يقولوا: أن الألف واللام للعهد، وليست للاستغراق، فيقولون: إن الحديث خرج مخرج الخصوص، فهي وائدة بعينها وموءودة بعينها.
فالألف واللام وإن كانت تفيد الاستغراق لكنها أيضاً تفيد العهد الذي يشبه الخصوص، كما أن الاستغراق يشبه العموم في قوله تبارك وتعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] مع قوله تبارك وتعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف:158] فلفظ (الناس) في هذه الآية يفيد عموم الناس جميعاً، من يهود ونصارى ومجوس وزنادقة وشيوعيين، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف:158] فالألف واللام هنا خرجت مخرج العموم بنفسها وبمقتضى سياق الآية، في حين أن قوله تبارك وتعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] يراد به خصوص المسلمين، فيخرج منه اليهود والنصارى وغيرهم، فقوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] لا يشمل النصارى واليهود؛ لأنه لا يحج البيت مشرك.
فالألف واللام في الحديث حملت على العهد، أي على الخصوص، في حين أنها حملت في الآية الأولى على الاستغراق، فشملت جنس الناس جميعاً.
فمن جملة ما يوفق العلماء به بين الأحاديث أو الآيات التي ظاهرها التعارض: أنهم يحملون الألف واللام على الخصوص، فيقال: إن الحديث ورد بوائدة مخصوصة وموءودة مخصوصة، كأن تكون الموءودة قد طبعت كافرة، كما في الحديث الذي رواه الشيخان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الغلام الذي قتله الخضر طُبِع كافراً) أي: خلقه الله كافراً، فيمكن أن تكون الموءودة طبعت كافرة، فهي في النار لهذا الاعتبار، والوائد في النار لظلمه.
فلماذا لا نسلك سبيل العلماء في التوفيق بين النصوص التي ظاهرها التعارض؟ لكن الواحد يعتد بعقله، وكل شيء لا يقبله عقله -كأنه ليس للناس عقول- يقول: هذا باطل وفيه علة، لذلك فالعقل مكانه في المرتبة الثانية بعد النقل، ووظيفة العقل إعمال الفكر في النقل، ولهذا المجنون لا يجتهد، بل المجنون قد سقطت عنه العبادة والتكليف، والمخالفون يقولون: إننا بتقديم النقل نزري بالعقل! ونحن -أهل السنة- ما وضعناه إلا في موضعه الصحيح، وما ضل المعتزلة عن منهج أهل السنة إلا لأنهم جعلوا العقل قاضياً على النقل، فكل شيء وافق عقولهم، فهو صحيح، وما خالف عقولهم فهو باطل مردود.
فالمقصود بالكلام أن كلمة التوحيد تكون أولاً، وأي اجتماع لا يكون على التوحيد لا قيمة له.(44/7)
الرد على من استدل بقصة هارون على ترك الكلام في التوحيد بحجة عدم التفريق
وفي مقدمة هذه الآية ما يدل على أن هارون عليه السلام أنكر عليهم قال تعالى: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} [طه:90].
ومما يدل على أنه أنكر ما قاله تبارك وتعالى في سورة الأعراف: {قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي} [الأعراف:150] فلماذا يقتلونه إذا كان ساكتاً لم يتكلم؟ إنما كادوا يقتلونه لأنه أنكر عليهم، فكادوا أن يقتلوه، {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي} [الأعراف:150].
ثم هل يليق بنبي أرسله الله تبارك وتعالى ليعلم الناس توحيده أن يراهم يعبدون عجلاً ثم يسكت حتى لا يتفرقوا؟!(44/8)
لا قيمة للاجتماع إذا لم يكن على الكتاب والسنة
إذا لم يكن الاجتماع على الله ورسوله فلا كان، ما قيمته؟! والصحيح أن (كلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة) ولا يكون الأمر إلا ذلك، أما مبدأ (كَتِّل ثم ثَقِّف) فهو مبدأ خاطئ، والصواب (ثَقِّف ثم كَتِّل).
والذين يريدون أن يجمعوا العوام في صعيد واحد ويفرحون ويقولون: إن تعدادنا في هذا العام عشرة ملايين تقريباً، لا ينفعهم هذا، إذا كان تعدادكم عشرة ملايين فماذا فعلتم؟ لا شيء، بل استهانوا بكثير من الأوامر بدعوى أن غيرها أولى منها.
ولو أننا أردنا أن نكتِّل أولاً ثم نُثَقِّف، فسنجمع الزنديق والملحد والكافر والشيوعي والرافضي وصاحب الهوى، وسنجمع الكل في صعيد واحد، ثم نبدأ نثقف، فإذا قلت شيئاً يخالف ما عند هذا الملحد، قال لي: لا.
الأمر كذا وكذا وكذا، فأظل أجادل هذا الملحد، وقد لا أستطيع أن أجيب على شبهاته؛ لأنها قوية، فيفتن مَن يسمعون، أو على الأقل يصرف جهدي في تعليم هؤلاء لغير منفعة.
وإذا كان صاحب هوىً وكلامك على غير هواه، فستظل تبين له أن المسألة كذا وكذا وتذكر له قال الله وقال رسوله وقال العالم الفلاني، وحتى يفهم يكون الجهد قد ضاع، بخلاف ما إذا ثقفت قبل أن تكتل، فإن تثقيفك لن يكون على منهج هؤلاء، ولن يبقى معك إلا من هو على منهجك، فإذا قلت الكلمة آتت ثمارها؛ لأنهم جميعاً على نفس منهجك، ولهذا لا يُفْرَح بالعوام، وإياك أن تفرح أن العوام في جانبك؛ لأنهم غداً ينقلبون عليك، وصدق الذي قال: إن العامي مشتق من العمى؛ لأنه بيد من يقوده غالباً أو دائماً.
وإذا نظرت إلى العوام في زمن موسى عليه السلام: {وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:39 - 40]، إذا غلبوا فنحن وراءهم، هؤلاء هم العوام، ولا تنتصر أمة على الإطلاق عوامُّها هؤلاء.(44/9)
حاجة الأمة إلى العلماء الربانيين
كثير من أتباع الحق لم يكتفِ بنور الحق الذي هو يمشي مع كتيبته، وعرض له الشك في قلبه، ومع قلة العلماء الربانيين يكثر اختطاف أهل البدعة والضلال لبعض من يمشي مع كتيبة أهل الحق.
العلماء الربانيون قلة قليلة جداً، والمسلمون كثيرون، فنحن الآن مثلاً في بلدنا لو أردنا أن نعد العلماء الربانيين، الذين هم على طريقة السلف، وأقصد بالعالم الرباني العامل بعلمه، ممن هم معروفين للناس؛ لأننا لا ننكر وجود بعض العلماء الذين لا يُعْرَفون؛ لكن على الظاهر الآن: كم من العلماء في الفقه وفي الحديث وفي الأصول وفي التفسير؟ ترجع بخفي حنين؛ لأنك لا تستطيع أن تكمل العلماء الربانيين في شتى الفروع على أصابع اليد الواحدة، أو على أصابع اليدين.
ولو نظرنا إلى عدد المسلمين المتشوفين إلى معرفة دينهم لوجدنا أنهم ملايين، فلو فرضنا أنه يوجد ألف عالم رباني، لكانوا عدداً قليلاً بالنسبة لهذه الملايين، حتى يلبُّوا حاجتهم إلى المعرفة.
فالذين يتشوفون إلى معرفة دينهم ملايين، والعلماء الربانيون لا يكادون يوجدون، مع كثرة أبواق أهل البدع والضلال، كأمثال هذا الكاتب الذي يقول: إنه لا يجوز أن يتفرق المسلمون حتى لو اختلفوا في عقيدة التوحيد وهل بعد ضياع عقيدة التوحيد شيء؟! وهل ضعنا نحن الآن في الأرض شذر مذر، إلا بتضييع عقيدة التوحيد؟!(44/10)
ظن العوام أن كل صاحب لحية عالم
بعض الناس إذا قابله شخص عليه سمت أهل العلم يقول له: يا مولانا يا شيخ، عندنا سؤال كذا وكذا وكذا.
وهم يعتبرون أن كل صاحب لحية عالم.
وهذا أيضاً من جملة الأخطاء التي هي عند العوام، وهو مما يحجبهم عن إعفاء اللحية، فحين تسأل الواحد منهم: لماذا لا تعفي لحيتك؟ يقول: أنا طالب في الهندسة، واللحية تريد عالماً، وتريد شخصاً عنده معلومات! ولا تدري من الذي اشترط هذا في اللحية! ولو أننا رأينا طالباً فاسقاً له لحية، فهل يجوز شرعاً أن نقول له: احلق لحيتك؟ لا يجوز؛ لأن اللحية هدي ظاهر يميزك، كأنها بطاقة علنية؛ تقول أنك مسلم، وأنت لك من الحقوق كمسلم ما ليس لغيرك، فإذا لم أعرف هل أنت مسلم أم لا فسأتوقف في إعطائك حقك، فأكون قد ظلمتك.
وأنا أريد أن أعرف من أول نظرة أنك مسلم، فتأتي اللحية وغيرها من الهدي الظاهر، فتبين أنك مسلم، بدون أن أقول لك: أرني البطاقة.
فيخطئ العوام ويقولوا: إن كل صاحب لحية عالِم.
والصحيح أنه ليس كل صاحب لحية عالِماً، وليس كل معمم عالماً، كما أنه ليس كل حليق جاهلاً، وليس كل من معه يد كاتباً.
فلا بد أن تتحرى عن العالِم الرباني حتى تتعلق به؛ لأنه هو طوق النجاة في بحر الشبهات، أو في بحر الظلمات، ولذلك وُقِّق ذاك الرجل الذي قتل تسعةً وتسعين نفساً كل التوفيق حين سأل عن العالم، وكان قد أخطأ، عندما قال: دلوني على أعبد أهل الأرض، فدلوه على الراهب فأفتاه خطأ، فقتله، ثم قال: دلوني على أعلم أهل الأرض -وفَهم السؤال نصف العلم- ولم يقل: دلوني على عابد، وإنما قال: على أعلم أهل الأرض؛ لأن هذا هو الواجب؛ فإذا أردت أن تسأل عن شيء من دينك، فعليك أن تسأل شخصاً متقناً فيه، لا سيما إذا كان عاملاً بعلمه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(44/11)
البحث عن العالم الرباني
لذلك كان من الضروري أن تبحث أنت عن العالم الرباني، فتتعلق به؛ لأنه طوق نجاة بالنسبة لك في بحر الشبهات والكفر، وأنت إذا مرضت تقول: دلوني على طبيب.
فإذا قيل: الطبيب في الشارع المجاور.
تسأل: معه دكتوراه؟ لأن هؤلاء الناس -أصحاب الدكتوراه- متقنون وفحوصهم دقيقة.
وتكون مستعداً لأن تضحي بمبلغ كبير في مقابل أن يفحصك فحصاً جيداً ويحدد العلة بدقة ولا تبالي بالمال.
فأنت إذا كنت في داء بدنك -وأنت لست بمخلد وستموت مهما عشت صحيحاً طيلة عمرك- تبحث عن أفضل الأطباء وأعلمهم.
فمن باب أولى أن تبحث عن أفضل العلماء لدينك؛ لكن المرء يذهب ليبحث عن أحسن طبيب، ولا يبحث عن العلماء.(44/12)
مع النبي وأزواجه
لقد اختلفت مشارب الناس وآراؤهم في معاملتهم لنسائهم ما بين مشرق ومغرب، وإن الناظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وحياته وتعامله مع نسائه يرى سعة حلمه وكرم أخلاقه، ويدرك يقيناً أنه خير الناس جميعاً لأهله وأرحمهم بأزواجه.
وهاك من قصصه مع أزواجه لطفاً ونبلاً ما يخلب الألباب ويطير بالقلوب في عوالم الرقة والعاطفة المشبوبة، ويحلق بها في سماء لم تطاولها سماءٌ عذوبةً وحلاوةً وجاذبيةً وحسن عشرة.(45/1)
سؤال ابن عباس لعمر عن قصة التحريم والإيلاء
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
قال الإمام البخاري رحمه الله في كتاب النكاح، في باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (لم أزل -وبعض الألفاظ من طرقٍ أخرى من خارج صحيح البخاري- حريصاً على أن أسأل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المرأتين اللتين قال الله تعالى فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]، حتى حج وحججت معه، وعدل وعدلتُ معه، فقضى حاجته، فصببت عليه وضوءه، فقلت: يا أمير المؤمنين! من المرأتان اللتان قال الله فيهما {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]؟ فقال: واعجباً لك يا ابن عباس! إنهما عائشة وحفصة، ثم استقبل عمر الحديث يسوقه، قال: كنت أتناوب النزول إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنا وجار لي من الأنصار، فكان ينزل يوماً وأنزل يوماً، فكان إذا نزل أتاني بخبر الوحي وما كان من أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا نزلت فعلت مثل ذلك، وكنا معشر قريشٍ قوماً نغلب نساءنا، فلما قدمنا على إخواننا من الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم.
قال عمر رضي الله عنه: فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار، فصخبت على امرأتي ذات يوم فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني، فقالت: أَوَفي هذا أنت يا ابن الخطاب؟! لم تنكر أن أراجعك؟ ووالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل.
قال عمر: فأفزعني ذلك، ونزلت إلى حفصة فقلت: أي بنيتي! أتغاضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم وتهجره اليوم حتى الليل؟! قالت: نعم.
فقلت لها: قد خبت وخسرت! وما يؤمنك أن يغضب الله لغضب رسوله فتهلكي؟! لا تسألي النبي صلى الله عليه وسلم ولا تستكثريه، وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك أن كانت جارتك -يعني: عائشة - أوضأ منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال عمر: وكنا نتحدث أن غسان تُنعل الخيل لغزونا، فجاءني صاحبي يوم نوبته عشاءً، فطرق الباب طرقاً شديداً وقال: أثم هو؟ ففزعت فخرجت إليه، فقال: قد حدث اليوم أمر عظيم فقلت: أجاء غسان؟ قال: لا، بل أعظم من ذلك وأهول! طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه! فقال عمر: قد كنت أظن هذا يوشك أن يكون.
قال: فجمعت علي ثيابي ونزلت، فدخلت على حفصة فإذا هي تبكي، فقلت لها: ما يبكيك؟ ألم أكن حذرتك هذا؟! أطلقكن النبي صلى الله عليه وسلم؟! قالت: لا أدري! ها هو ذا معتزل في المشربة، فخرجت فجئت المنبر، فإذا حوله رهط يبكي بعضهم، قال: فجلست معهم: ثم ذهبت إلى باب المشربة، وكان على الباب رباح -وهو غلام للرسول عليه الصلاة والسلام- فقلت للغلام: استأذن لـ عمر.
فدخل الغلام ثم رجع، فقال: ذكرتك له فصمت.
قال عمر: فرجعت فجلست مع الرهط الذين عند المنبر، ثم غلبني ما أجد، فقلت للغلام: استأذن لـ عمر.
فدخل ثم رجع.
فقال: قد ذكرتك له فصمت.
قال: فذهبت فجلست مع الرهط الذي عند المنبر، ثم غلبني ما أجد، قال: فقلت للغلام: استأذن لـ عمر.
قال: فدخل ثم رجع إلي.
فقال: قد ذكرتك له فصمت.
فلما وليت منصرفاً، إذا الغلام يدعوني، فقال: قد أذن لك النبي صلى الله عليه وسلم.
فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا هو مضطجع على رمال حصير، ليس بينه وبينه فراش، قد أثر الرمال في جنبه، فأردت أن أستأنس، فقلت: يا رسول الله! لو رأيتنا معشر قريشٍ نغلب نساءنا، فلما قدمنا على إخواننا من الأنصار إذا هم قومٌ تغلبهم نساؤهم.
قال: فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! لو رأيتني أقول لـ حفصة: لا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم تبسمة أخرى، فجلست حين رأيته تبسم، فرفعت بصري في بيته عليه الصلاة والسلام، قال: فلم أر شيئاً يرد البصر -أي: يملأ العين- غير أهبة ثلاثة -أهبة: جمع إهاب، وهو الجلد- فقلت: يا رسول الله! ادع الله أن يوسع على أمتك، فإن فارساً والروم قد وسع عليهم وأعطوا الدنيا وهم لا يعبدون الله.
قال: فجلس النبي صلى الله عليه وسلم، وكان متكئاً، وقال: أوفي هذا أنت يا ابن الخطاب؟! إن أولئك قومٌ عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا إلى أن قال: فدخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة فبدأ بها، تقول عائشة: فدخل عليّ من تسع وعشرين أعدها عداً، فلما دخل قلت: يا رسول الله! قد أقسمت أن لا تدخل علينا شهراً، وإنما أصبحت من تسعٍ وعشرين أعدها عداً.
فقال عليه الصلاة والسلام: الشهر تسع وعشرون.
قالت عائشة: فكان ذلك الشهر تسعاً وعشرين.(45/2)
استحباب تلطف طالب العلم مع شيخه
هذا الحديث اشتمل على جملة من الفوائد، أظهرها ما سنسوقه في هذا الدرس إن شاء الله تبارك وتعالى.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ما زلت حريصاً على أن أسأل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه) وللبخاري أيضاً: قال ابن عباس: مكثت سنةً أريد أن أسأل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المرأتين التي قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]، فتمنعني هيبته، فقال ذلك لـ عمر.
فقال له عمر: يا ابن أخي! إذا علمت أن عندي علماً فسلني.
قال ابن عباس: (حتى حج وحججت، وعدل وعدلت) أي: وهم في الطريق قضى عمر بن الخطاب حاجته، فتبعه ابن عباس بإداوة، ليتوضأ منها عمر، وسأله وهو يصب عليه الماء سأله هذا السؤال.
وفي هذا دليل على استحباب أن يتلطف طالب العلم بشيخه، وأن يتحرى مواضع خلو باله فيسأله، فإن كثرة سؤال الشيخ -لاسيما وهو متضجر- تزعجه، وقد كان هذا مذهباً لبعض الطلبة المجدين، كأمثال ابن حبان رحمه الله، فقد كان يصحب شيخه ابن خزيمة رحمه الله، ولا يتركه سفراً ولا حضراً، وكان يكثر عليه السؤال، فأكثر عليه ذات مرةٍ في سفرٍ، فقال له ابن خزيمة: (تنح عني يا بارد!) فكتبها ابن حبان.
فقيل له: أتكتبها ولا فائدة فيها؟! قال: لا أدع لفظاً يخرج من فم الشيخ إلا كتبته.
فالصواب في هذا: أن الإنسان يقبل على شيخه في وقت فراغه ونشاطه وخلو باله، وقد كان طلبة الحديث يزعجون مشايخهم كثيراً، وأشهر من أزعجوه في ذلك هو الإمام سليمان بن مهران الملقب بـ الأعمش، واستعمل معهم الشدة كثيراً، حتى ذكر الخطيب رحمه الله في كتاب (شرف أصحاب الحديث) أن الأعمش اشترى له كلباً، فكان إذا سمع وقع نعالهم خارج البيت أطلق عليهم الكلب، ولك أن تتخيل من يجري أمام الكلب من أمثال شعبة وأمثال هؤلاء الكبار كـ عبد الله بن إدريس! فما أن يدخل الكلب الدار حتى يرجعوا مرةً أخرى، فيطلق عليهم الكلب، وهكذا كان يحول بينه وبينهم هذا الكلب، فجاءوا ذات مرةٍ وهم يتوجسون أن يخرج عليهم الكلب، وإذا هم يقتربون شيئاً فشيئاً ولم يخرج الكلب، فهجموا على الدار ودخلوا عليه، فلما رآهم بكى، فقالوا: ما يبكيك يا أبا محمد؟ قال: قد مات الذي كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر! (يعني: الكلب).
وكان الأعمش يكره أن يقعد بجانبه أحدٌ في أثناء الدرس، فجاء رجلٌ من الغرباء، فجلس بجانب الأعمش وهو لا يدري أن الأعمش يكره ذلك، فأحس به فتركه، فكلما قال: (حدثنا) بصق عليه (فلان) بصق عليه.
والرجل ساكت حتى قضى الأعمش درسه! ويذكر الخطيب في هذا الكتاب أخباراً كثيرة أخرى عن الأعمش أنه كان يستعمل الشدة، وكان إذا غضب عليهم يقول: شرٌ أناسٍ على ظهر الأرض! فأنت -أيها الطالب النبيه- إذا أردت أن تستفيد، فاعلم أن الفوائد لن تتم إلا بصفاء الذهن، فعليك بالرفق؛ فإن القلوب إذا كلت عميت لأن هذا الإرهاق يحرمك خيراً كثيراً، ولا يحملك جدك ونشاطك ونهمك على أن تكثر من مماراة شيخك، فقد قال الزهري رحمه الله: (لقد خسر أبو سلمة بن عبد الرحمن علماً كثيراً؛ لكثرة ما كان يماري ابن عباس).
فـ أبو سلمة كان كثير المماراة، فكلما تكلم ابن عباس بكلمة كان أبو سلمة يماريه ولا يسلم له ويناقشه ويعارضه، ويظهر معارضات وإلزامات، فمن كثرة ما كان يماري ابن عباس زهد ابن عباس في إفادته وفي مجالسته: (لقد خسر أبو سلمة بن عبد الرحمن علماً كثيراً لكثرة ما كان يماري ابن عباس).
بخلاف ابن جريج فقد لازم عطاء بن أبي رباح عشرين سنة، وقال: قد استخرجت ما عند عطاء من نصح، ولم يتضجر منه عطاء بن أبي رباح، لماذا؟ لأنه كان يترقب خلواته، فإذا رآه صافي الذهن مقبلاً سأله.
وكذلك فعل ابن عباس رضي الله عنه، فقد ظل سنةً يهاب أن يسأل عمر بن الخطاب حتى رأى أنه بمفرده معه (فانتهز الفرصة) فبادره بهذا السؤال، وقدم بين يدي السؤال هيبته إياه، فقال: (يا أمير المؤمنين! إني أريد أن أسألك منذُ سنةٍ فتمنعني هيبتك.
فقال: يا ابن أخي! إذا كان عندي علمٌ فسلني.
فقال له: من المرأتان اللتان قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]؟ فقال له عمر: وا عجباً لك يا ابن عباس!) وإنما تعجب عمر بن الخطاب رضي الله عنه من ابن عباس لما كان لـ ابن عباس من الفضل في البحثٍ عن التفسير وعن التأويل، فعجب عمر أن يخفى عليه مثل هذا الموضع مع شهرته، لاسيما وقد كان عمر حسن الرأي في ابن عباس برغم صغر سنه، وقد روى البخاري رحمه الله في صحيحه، عن ابن عباس قال: (كان عمر يدخلني مع أشياخ بدرٍ، فغضب أحدهم -وهو عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه- وقال: لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟! -أي: في مثل سنه- قال: فسمعها عمر فأضمرها -أي: أسرها- حتى كان يومٌ، فسألهم سؤالاً في حضور ابن عباس.
قال: ما تقولون في قول الله عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3]، ما تقول يا فلان؟ قال: هذا أمرٌ من الله عز وجل أنه إذا جاء نصر الله والفتح، فأمره أن يستغفر.
-فسر الماء بعد الجهد بالماء- وأنت يا فلان ما تقول؟ قال: أقول فيها ما قال أخي، وأنت يا فلان! قال ابن عباس: فعلمت أنه يريد أن يريهم لماذا يدخلني، فقال: وأنت ما تقول يا ابن عباس؟ أتقول بقولهم؟ فقلت: لا يا أمير المؤمنين.
قال: فما تقول؟ قلت: هذا نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإعلام بقرب أجله فأنه {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:1 - 2] فما بقاؤك إذاً؟ فقد تمت الرسالة وكمل الدين وتمت النعمة، فهذا إشعارٌ بقرب أجله صلى الله عليه وسلم.
فقال عمر: والله يا ابن أخي ما أعلم منها غير ما تقول.
فقد بلغت منزلة ابن عباس أن عمر يدخله مع أشياخ بدر، وكان يضرب بأشياخ بدر المثل في رجاحة العقل وفي دقة النظر، حتى قال أبو حصين -وهو أحد التابعين- منكراً على الذين يتسرعون في الفتوى: إنكم لتفتون في المسألة؛ لو عرضت على عمر لعرضها على أشياخ بدر؛ أي: لا يجرؤ عمر -مع جلالته ورجاحة عقله- أن يفتي فيها حتى يشرك معه أشياخ بدر، وأنتم تتسرعون في الفتيا! الشاهد: أن عمر تعجب من ابن عباس لعدم معرفته بالمرأتين، مع أنه كان مهتماً بعلم التفسير، استجابةً لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل).
وهناك احتمال آخر وهو أن ابن عباس كان يعلم القصة مجملة، فأراد أن يعلمها مفصلة من عمر.
وهناك احتمال ثالث: وهو أن ابن عباس سمع القصة بنزول، فأحب أن يسمعها بعلو، أي: ربما يكون قد سمعها من رجل عن رجل، فأراد أن يعلو بهذه القصة، فطلب ذلك من عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
فقال عمر: (واعجباً لك يا ابن عباس! إنهما عائشة وحفصة، ثم استقبل عمر الحديث يسوقه.(45/3)
الجمع بين التجارة والعلم مذهب كثير من العلماء
قال: (كنت أتناوب النزول أنا وجار لي من الأنصار، فكان ينزل يوماً وأنزل يوماً).
وهذا يدلنا على أنهم لم يكونوا يتفرغون لطلب العلم، بل كان بعض العلماء المشاهير لا يتفرغون أيضاً لطلب العلم، بل كانوا يجمعون ما بين التجارة وما بين طلب العلم.
ومن أشهر هؤلاء الذين عقدت عليهم الخناصر في التجارة وفي العلم وفي الجهاد هو الإمام ذو الفضائل عبد الله بن المبارك.
هذا الرجل لو قرأتم سيرته لأحببتموه غاية الحب! وكان تاجراً، وكان ينفق على أعظم ستةٍ من علماء عصره، بل من مشايخه، فكان ينفق على السفيانين والحمادين وابن علية والفضيل بن عياض، أي: كان ينفق على سفيان بن عيينة وسفيان الثوري، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، والفضيل بن عياض وإسماعيل بن علية، وكان يقول: (لولا هؤلاء ما اتجرت) وكان شديد السخاء، وكان يحج عاماً ويغزو عاماً، حتى أنه ذات مرة جاء إليه رجل متسول، فأعطاه عشرة دراهم، فقيل له: إن هذا الرجل لديه مالٌ كثير، وهو يأكل المشوي -همس إليه رجل بهذه المقالة- وهؤلاء يأخذون الأموال ويكنزونها، وهم أغنى منا، فلماذا تعطي هؤلاء؟ فليس بفقير طالما أنه يأكل المشوي واللحوم، فقال ابن المبارك: آلله؟! أي: أهذا حقاً يأكل المشوي؟! قيل: نعم.
قال: إذاً هذا لا يكفيه عشرة دراهم، هذا لا يكفيه إلا مائة درهم.
انظر إلى فقه هذا الإمام! لأن العبرة أن يخرج المال من يده، وليست العبرة أن يقع في موقعه أم لا، فهذه مسألة وهذه مسألة، ولكن عندما يطاوع المرء شحه، ويقول: هؤلاء الناس ليسوا محتاجين، وغير مستحقين، ومعهم أموال، ولو وجدت مستحقاً لأعطيته.
هب أنك أعطيته وهو غير مستحق، فما يضرك؟! قال النبي صلى الله عليه وسلم -فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه-: (قال رجلٌ: لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج في الليل، فوجد امرأةً، فوضع الصدقة في يدها، فأصبح الناس يقولون: تصدق الليلة على زانية! فقال الرجل: الحمد لله! على زانية؟! لأتصدقن الليلة بصدقة.
فخرج فوجد رجلاً، فأعطاه الصدقة، فأصبح الناس يقولون: تصدق الليلة على سارق! فقال الرجل: الحمد لله على سارق، لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج فوجد رجلاً فأعطاه الصدقة، فأصبح الناس يقولون: تُصدق الليلة على غني؟!) لماذا أعاد الصدقة ثلاث مرات؟ لأنه في كل مرةٍ يرى أنها لم تقع في موقعها الذي يريد، فهو يريد أن يوقعها في يد مستحقٍ لها، فوقعت في يد زانية، فلعلها تستعين بهذا المال على الزنا، ووقعت في يد سارق، فبدلاً من أن تقطع يده يعطي مالاً، ووقعت المرة الثالثة في يد رجلٍ غني غير محتاج.
فجاءه ملك في صورة رجلٍ، فقال له: (أما صدقتك فقبلت) هذا هو المطلوب، المهم أنك تتصدق، وتصل إلى أي مكان لا يضرك إذا ابتغيت بها وجه الله عز وجل (فأما المرأة الزانية فلعلها تستعف، وأما السارق فلعله يتوب، وأما الغني فلعله يخرج الذي عنده، فنحن نستدل بهذا الحديث على أن الصدقة على أهل المعاصي مع تتبعهم ورعايتهم أفضل من إعطاء الصدقة -أحياناً- لبعض الملتزمين، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يعطي العطاء لرجالٍ ويدع من هم أحب إليه منهم) ويقول: (أكلهم إلى إيمانهم) والرجل الملتزم إذا لم تعطه، فلن يكفر ويفسق ويترك التزامه، بل سيصبر على الجوع والعطش، بخلاف الرجل الحديث العهد بالإسلام، فإنك إذا أعطيته التزم، وسهم المؤلفة قلوبهم أخذ منه كثير من الصحابة الذين تألف النبي صلى الله عليه وسلم قلوبهم بالمال، ثم حسن إسلامهم.
فكان عبد الله بن المبارك رحمه الله يتعامل بهذه العقلية؛ لأنه إمام فقيه محدث، فكان يجمع بين التجارة والعلم، وانظر إلى دواوين الإسلام، فلا تكاد ترى باباً يخلو من ذكر عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى.
وكذلك أبو حنيفة رحمه الله كان تاجراً، والإمام الشافعي رحمه الله، كانت له تجارة لطيفة وصغيرة.
المقصود: أن طالب العلم ليس من شرطه أن يتفرغ، بل قد يجمع بين العلم وبين التجارة؛ لكن ذلك يحتاج إلى همةٌ عالية.
ابن أبي داود - عبد الله بن أبي داود السجستاني - قال: رحلت إلى أبي سعيد الأشج فاشتريت ثلاثين مداً باقلاء فكان يأكل كل يوم أربع حبات أو خمس حبات.
وليس كما نصنع نحن اليوم، نأخذ (الساندويتش) الفول، ونضع فيه نصف كيلو فول، ونأكله في لمح البصر! قال: فما نفدت الباقلا حتى كنت قد كتبت عن أبي سعيد الأشج ثلاثين ألف حديث.
وكان معه الخبز اليابس الذي لو ضربت به في جلدك ربما جرحك، فكان يذهب إلى الفرات، ويبله فيه حتى يلين ويأكله، وكان مقدار أكله في اليوم الواحد عبارة عن أربع حبات فول مع رغيف واحد.
وواصل هؤلاء الأئمة الكبار الجد والرحلة في طلب العلم، وقل أن تجد الآن رجلاً يجمع بين التجارة والعلم، أي: إما هذه وإما تلك، وإنما البكاء -كما يقول ابن الجوزي رحمه الله- على خساسة الهمم.
فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينزل يوماً إلى تجارته فيصلحها، وإلى معاشه فينظر فيه، وينزل يوماً إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذه طريقة جيدة حتى لا يفوته شيء من حديث الرسول عليه الصلاة والسلام.
قال: كنت أتناوب النزول أنا وجار لي من الأنصار، فكان ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزل أتى بخبر الوحي وما قاله النبي عليه الصلاة والسلام، وإذا نزلت فعلت مثل ذلك.(45/4)
معاملة النساء بين أهل القرى وأهل المدن
قال: وكنا معشر قريشٍ قوماً نغلب نساءنا، فلما قدمنا على إخواننا من الأنصار، إذا هم قومٌ تغلبهم نساؤهم.
وهذا هو الفرق بين أهل المدينة وأهل القرى، أهل القرى عندهم خشونة في معاملة النساء، فمهمتها الخدمة والخلفة فقط، أما المحاورات واللطف والمعاشرة بالمعروف، فليست عند هؤلاء، حتى أن عمر بن الخطاب في هذا الحديث من طريق آخر يقول: فصخبت علي امرأتي فراجعتني، فتناولت قضيباً فضربتها.
فقالت: أو في هذا أنت يا ابن الخطاب؟! -هل تظن أننا لا زلنا بمكة؟! - لم تنكر أن أراجعك وهؤلاء أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يهجرنه الليل حتى الصبح؟! كأنها تقول: لك فيه أسوة، ولي فيه أسوة، وأنا لم أهجرك بل راجعتك، أتنكر علي أن أراجعك.(45/5)
تأثير البيئة على الإنسان
كل إنسان وليد بيئته، والبيئة تؤثر في الإنسان، ولا ينكر المرء أن البيئة تؤثر فيه، بل حتى المركوب يؤثر في صاحبه، ولست أعني بالمركوب الحذاء، بل ما يركبه الإنسان من الحيوانات فهو يؤثر في صاحبه، ودليلي في هذا من السنة، قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (الكبر والبطر في أهل الخيل، والسكينة والوقار في أهل الغنم)، فالخيل من طبعها أن فيها نوعاً من الكبر، والإنسان حين يركب الخيل يشعر بالعظمة، وكانت هذه هي علامة العظماء آنذاك، كما في حديث أم زرع، الحديث الجميل، قالت أم زرع وهي تصف زوجها السابق؛ لأن أبا زرع طلقها، إذ أنه -كما قالت- (لقى امرأةً معها ولدان لها كالفهدين، يلعبان من تحت خصرها برمانتين، فطلقني ونكحها، قالت: فنكحت بعده رجلاً سرياً): من سراة الناس وأشرافهم.
(ركب شرياً) الشري: هو أجود أنواع الفرس.
(وأخذ خطياً) الخط: مدينة كانت في البحرين، وكانت الرماح تجلب من الهند إليها، ثم توزع منها على جزيرة العرب، فنسبت السهام إلى الخط، وهي البلد التي توزع منها هذه الرماح.
فالخط: هو الرمح، فزوجها هذا يركب فرساً ولكي يكمل مشهد الفخامة يضع الرمح تحت إبطه وهو راكب.
فهذا الكبر الذي في الفرس ينتقل إلى صاحبه، وأنت تلاحظ هذا في أي إنسان يركب سيارةً فارهة، ونحن عندنا -مثلاً- أحدث نوع من أنواع السيارات هي (المرسيدس) ثمنها مليون وسبعمائة ألف جنيه، هذا ثمن سيارة وهي سيارة (مرسيدس) ضد الرصاص -أي: مصفحة- وأول من أدخلتها مصر راقصة! ولهذا كان اسم هذه السيارة- بكل أسف- (الفاجرة).
وسيارات (المرسيدس) لها أسماء كثيرة مثل (الشنزيرة) و (التمساح) و (الشبح) و (الزنمكة)، و (البودرة).
والبودرة هذه نسبة إلى تجار الهروين؛ لأنها سيارات باهضة الثمن، ولا يستطيع شراءها إلا تجار الهروين فقط، والشبح سموها باسم طائرة الشبح الأمريكية التي شاركت في حرب الخليج.
فعندما يركب الإنسان سيارة فارهة فإنه يحس بالكبر.
حدثني بعض أصحابنا ممن كان يركب هذه السيارات، ثم استبدلها عندما التزم، فكان يحكي لي لما سمع مني هذه المعلومة، قال: أنا أصدق الذي تقول؛ لأنني حين كنت أقود السيارة وارى سيارة أمامي، فإني أظل أضايق صاحبها بالأنوار، وأزعجه ببوق السيارة، وأنظر إليه باحتقار، وأكاد أضربه لماذا؟ لأنه تصور أنه انتقل إليه ثمن السيارة.
ويقول: لما كنت أنزل عند صاحب الفواكه أنزل وأنا مغتر بنفسي، وأقف عند باب (العربية) بشكل ملفت.
وقد أثبتت ذلك الدراسات، والذين يدرسون علم النفس يقولون بهذا، حتى وصل بهم الحال أن يقولوا: إن أكل اللحوم من حيوان معين يمكن أن يكسب الإنسان بعض صفاته.
والبيئة تؤثر في صاحبها.
فالإنسان الذي يعيش في البادية تجده جلداً، يقف في الشمس الساعات الطوال، ولا يدركه نصب ولا تعب ولا أي شيء من هذا وكذلك البيئة الصحراوية تؤثر في أخلاق من يعيش في الصحراء فيكون خلقه صحراوياً أيضاً، مثلما قالت أول امرأة في حديث أم زرع: قالت: (زوجي لحم جمل غث، على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل).
فهي تصف زوجها بأنه رجل جاف سيئ الخلق: (زوجي لحم جمل غث)؛ لأن لحوم الجمال أكثر الناس لا يأكلونها إلا نادراً -وهي من لحوم الجمال الجيدة- أما هذا فشبهته بلحم جمل غث، أي: رديء، هذا اللحم من الجمل الغث وضعوه على قمة جبال عالية، فمع رداءته انظر أين وضعوه، (لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل) ويا ليت اللحم الذي عليه جيداً فنتحمل المشقة في سبيل جلبه، فهي تشير إلى أنه في سوء خلقه كالجبل الوعر.
ففي القرى كان الرجال يعاملون النساء معاملةً قاسية، ليس للمرأة إلا أن تلد وتخدم الرجل، فلما جاءوا إلى المدينة بلد الحضر، -يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه- طفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار.
وهذا من أدب عمر؛ فمع أنه معترض على هذا الخلق الجديد، إلا أنه لم يقل: (فطفق نساؤنا يأخذن من قلة أدب نساء الأنصار) وإنما قال: (يأخذن من أدب نساء الأنصار) وفي رواية: قال: (يأخذن من أرب نساء الأنصار)، والأرب: هو العقل والطريقة.(45/6)
إعانة الرجل لابنته على طاعة زوجها
قال: فصخبت علي امرأتي ذات يوم فراجعتني، فتناولت قضيباً فضربتها.
قالت: أو في هذا أنت يا ابن الخطاب؟! إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يهجرنه الليل حتى الصبح، قال: فأفزعني ذلك.
ولم يفزع على أم سلمة، ولا على عائشة، ولا جويرية، وإنما فزع على ابنته، قال: أو تفعل حفصة ذلك؟! وهذا فيه دليل على ضعف الوالد تجاه ولده، وحبه لسلامته، قال: أو تفعل حفصة ذلك؟! خابت وخسرت.
قال: ثم نزلت إلى حفصة، فقلت لها: أي بنيتي! أتغاضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم، وتهجره الليلة حتى الصبح؟! قالت: نعم.
وفي هذا دليل على أن الهجر يكون ليلة، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (إذا باتت المرأة -والبيات لا يكون إلا ليلاً- هاجرةً فراش زوجها؛ لعنتها الملائكة حتى تصبح).
فلو قال شخص: لو أنه دعاها إلى الفراش نهاراً فهجرته، فهل تدخل في الحديث؟ نقول: نعم.
إذاً لماذا ذكر الليل فقط؟ لأن الليل هو داعية الفعل، وليس النهار، فالتقييد بالبيات وذكر الإصباح في الحديث خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، أي: إذا باتت المرأة بالليل هاجرةً فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح، فليس مفهومه أنه يجوز لها أن تهجره بالنهار، فإن القيد إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له عند العلماء.
قال لها: خبت وخسرتِ! وما يؤمنك أن يغضب الله لغضب رسوله فتهلكي؟! لا تسألي النبي صلى الله عليه وسلم ولا تستكثريه وسليني ما بدا لك.
وهذا هو الذي عناه الإمام البخاري في الترجمة، فـ البخاري ذكر الحديث تحت قوله: باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها.
فكذلك ينبغي للآباء أن يسلكوا هذا الخلق القويم: أنه لا يقوي ابنته على زوجها، بل عليه أن يعينها على طاعة زوجها؛ لأن هذا من النبل ومن الوفاء.
بعض الإخوة كثيراً ما يشكوا من ذلك يقول: هل يحق لي أن أقطع رحم زوجتي؟ أي: لا أسمح لها أن تزور أباها ولا أخاها ولا أمها ولا غيرهم.
لماذا يا أخي؟! فقطع الرحم لا يجوز، يقول: كلما ذهبت رجعت ناشزة علي.
حتى أني حضرت بعض المشاكل والمرأة الحمقاء أم الزوجة تعين ابنتها على عصيان زوجها وطلب الطلاق منه، وما هي المصلحة في ذلك؟ وكان الأولى أن تأمرها بالمعروف وتقول لها: يا بنيتي! إن النبي عليه الصلاة والسلام أبصر أسماء بنت يزيد فقال لها: (أي هذه! أذات بعلٍ أنت؟ -أي: أمتزوجة أنت-؟ قالت: نعم يا رسول الله.
قال: كيف أنت له؟ قالت: ما آلوه -أي: لا أقصر في طاعته- قال: فانظري أين أنت منه، فهو جنتك ونارك).
فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: لا تسأليه ولا تغضبيه ولا تستكثريه -أي: لا تكثري من الطلبات- وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم (يعني: عائشة) ومما يدل على عظيم حب النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنه وأنها كانت أحب نسائه إليه ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: (أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنت عليه وهو مضطجع معي في مرطي فأذن لها فقالت يا رسول الله إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة وأنا ساكتة قالت فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أي بنية ألست تحبين ما أحب؟ فقالت بلى قال فأحبي هذه قالت فقامت فاطمة حين سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعت إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرتهن بالذي قالت وبالذي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن لها ما نراك أغنيت عنا من شيء فارجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولي له إن أزواجك ينشدنك العدل في ابنة أبي قحافة فقالت فاطمة والله لا أكلمه فيها أبدا قالت عائشة فأرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي التي كانت تساميني منهن في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أر امرأة قط خيرا في الدين من زينب وأتقى لله وأصدق حديثا وأوصل للرحم وأعظم صدقة وأشد ابتذالا لنفسها في العمل الذي تصدق به وتقرب به إلى الله تعالى ما عدا سورة من حد كانت فيها تسرع منها الفيئة قالت فاستأذنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع عائشة في مرطها على الحالة التي دخلت فاطمة عليها وهو بها فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة قالت ثم وقعت بي فاستطالت علي وأنا أرقب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرقب طرفه هل يأذن لي فيها قالت فلم تبرح زينب حتى عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكره أن أنتصر قالت فلما وقعت بها لم أنشبها حين أنحيت عليها قالت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبسم إنها ابنة أبي بكر).
هذا يذكرني بالحديث الذي رواه البخاري عن أسماء قالت: تزوجني الزبير بن العوام وما له في الأرض شيء غير ناضح، وقطعة أرض من المدينة، قالت: ذهبت ذات يوم آتي بالنوى، فلقيها النبي صلى الله عليه وسلم في بعض طرق المدينة ومعه بعض أصحابه، قالت: فلما رآني أناخ البعير، ودعاني للركوب خلفه، وهو زوج أختها، ثم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والظاهر من مجموع الأدلة أنه كان محرماً لنساء الأمة، قالت: أسماء: فذكرت الزبير وغيرته فاستحييت.
وكان الزبير بن العوام رجلاً غيوراً، وكان قاسياً، وكان الزبير متزوجاً بامرأتين، وكان إذا أراد أن يضربهن يربط ظفائرهن، ببعض وكانت أسماء لا تحسن أن تدافع عن نفسها، فكانت فتذهب إلى أبيها أبي بكر الصديق تشتكي الزبير، فكان يقول: يا بنيتي! ارجعي، فإن الزبير رجلٌ صالح.
والله إن هذا الجيل الفريد حق له أن يمكن وتصير له دولة في عشر سنوات، لماذا؟ لأنهم كانوا رجال صدقٍ.
تقول أسماء: (فذكرت الزبير وغيرته) برغم أن راحتها أنها تركب خلف الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن تذكرت الزبير وغيرته.
وهذا من الحرص على شعور الزوج، فإذا كان الزوج يغضب من أمر معين، فلا ينبغي للمرأة الوفية المؤمنة أن تفعل ذلك الأمر، وأن تكدر خاطر زوجها وتعكر صفوه.
قالت: فاستحييت؛ فعلم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فتركني، فلما رجعت تحكي للزبير بن العوام ما حدث، فقال لها: لمشيك أشد علي من ركوبك خلفه.(45/7)
حب النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة
فـ عائشة رضي الله عنها تقول: فنظرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم هل يكره أن أنتصر.
قالت: فلما علمت أنه لا يكره أن أنتصر قمت لها فأفحمتها.
فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (إنها ابنة أبي بكر) كما نقول في المثل الشعبي: (ابن الوز عوام) أي: لها الحجة القوية مثل أبيها، وحق لها أن تكون مثل أبيها، وهذا يدلك على مدى حب الرسول عليه الصلاة والسلام لها، وأيضاً يدلك على كمال خلق النبي عليه الصلاة والسلام كيف أنه لم يغضب ولم يضرب هذه مرة وهذه مرة.
وحين نتأمل في حال المتزوجين بامرأتين أو بثلاث أو بأربع وحال الرسول صلى الله عليه وسلم، تشعر أن هناك جانباً من جوانب العظمة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم مع زوجاته التسع.
يظهر من هذا الحديث كيف كان النبي عليه الصلاة والسلام يحب عائشة رضي الله عنها، ويفعل معها ما لم يفعله مع أي امرأة، فعند أحمد وغيره أن عائشة قالت: (كنا في غزاة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال للناس: تقدموا.
فتقدموا، قال: تعالي أسابقك) فهل هناك أحد يعمل مع امرأته ذلك؟ ويقول لها: تعالي أسابقك، أو حتى يلين معها الكلام؟! فكثير من الناس يأنف أنه يعمل ذلك مع زوجته، لكن أنت تخيل فخامة الرسول صلى الله عليه وسلم وشموخه وهو يجري بجانب عائشة رضي الله عنها، الفتاة الصغيرة التي كان سنها لا يتجاوز الثلاث عشرة سنة.
قالت: (فسابقته فسبقته، قالت: فتركني حتى نسيت) -نسيت هذا السباق- وحملت اللحم -أي: صارت بدينة- وكنت معه في غزوة فقال لهم: (تقدموا ثم قال: تعالي أسابقك، قالت: فسابقته فسبقني، فجعل يضحك ويقول: هذه بتلك).
فانظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم كيف كان يترفق بنسائه! وكان يقول: (رفقاً بالقوارير) أي أن المرأة مثل القارورة ومثل الزجاجة، فتحتاج إلى رقة في المعاملة، ويقول عليه الصلاة والسلام: (إنهن عوان عندكم) أي: المرأة مأسورة، فأول ما تزوجت دخلت السجن مباشرة، لماذا؟ لأنها لا تستطيع أن تتزوج غيرك إلا إذا طلقتها.
وأيضاً كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يعلمن هذه المكانة لـ عائشة، فمرة حفصة -أو أظن صفية - أغضبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت إلى عائشة وقالت: إني مستعدة أن أهبك ليلتي وترضيه عني.
فكن يعلمن مكانة عائشة رضي الله عنها، فتقول عائشة: فبللت خماري بالماء ففاح عطره، فجلست بجانب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إليك عني يا عائشة، ليس هذا بيومك.
فقالت: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وظلت تترضاه حتى رضي.
جاء في مسند الإمام أحمد أن بعض التابعين سمع من عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم) فاستغرب الأمر، فذهب إلى أم سلمة يسألها، فقال لها: أكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك وهو صائم؟ قالت: لا.
قال لها: فإن عائشة تقول: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم).
فقالت أم سلمة: لعله كان لا يتمالكها حباً، أما إياي فلا.
فهذه حقيقة معروفة من كل من يعرف مكانة عائشة رضي الله عنها، ومنهم عمر الذي يقول لابنته: لا تغضبي النبي صلى الله عليه وسلم وتقلدي عائشة، فلست مثل عائشة، فهو يحتملها ويمكن أن يغفر لها، وليس لك من المكانة ومن الجمال ما لـ عائشة رضي الله عنها.(45/8)
محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم له
قال عمر: (وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لغزونا).
وكان ملك من ملوك غسان يهدد المسلمين، فكان المسلمون على أهبة استعدادهم لمقاتلة هذا الرجل إذا فكر أن يغزو المدينة.
ففي ذات يوم كانت النوبة للأنصار، فجاء إلى دار عمر بن الخطاب وطرق الباب طرقاً شديداً على غير العادة، فخرج له بعض من في البيت قال: أثم هو؟ -أي: هل عمر موجود؟ ففزع عمر وخرج يجرجر إزاره؛ لأنه ربما كان نائماً.
فقال: أجاء غسان؟ قال: لا، بل ما هو أهول من ذلك وأعظم: طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه.
فـ عمر قال: قد كنت أعلم أن ذلك يوشك أن يكون؛ لماذا؟ لأن النشوز هذه نهايته، وكل شيء له نهاية، كما قال الله عز وجل: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:67] وعندما يستقر فسوف تعلمون.
فجمع عمر رضي الله عنه ثيابه ونزل إلى حفصة فوجدها تبكي، قال لها: ما يبكيك؟! أولم أكن حذرتك؟! أطلقكن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالت: لا أدري.
فذهب عمر بن الخطاب إلى المسجد، فلما دخل المسجد وجد رهطاً عند المنبر يبكي بعضهم.
فانظر إلى الصحابة رضي الله عنهم: لو أن واحداً منهم طلقت ابنته فلن يذرف عليها دمعة، لأنه من العيب أن يبكي الرجل على طلاق ابنته عند العرب، فلقد كانوا يدفنوهن وهن أحياء؛ لأنهم كانوا يعتبروهن عاراً عليهم، فهل سيغضب أو سيبكي لأن ابنته طلقت؟! ولكنهم بكوا لأن النبي صلى الله عليه وسلم طلق نساءه وتكدر خاطره.
وهذا الحب الكبير للنبي عليه الصلاة والسلام هو الفارق ما بين ذلك الجيل الفريد وبين كل الأجيال التي أتت بعد ذلك.
قال عمر: فذهبت إلى المشربة، وكان النبي عليه الصلاة والسلام جالساً فيها -والمشربة: الغرفة- وقد أمر رباحاً -الغلام- أن يحفظ الباب.
وفي هذا دليل على جواز أن يتخذ الحاكم حاجباً عند الحاجة، أي: للحراسة، وهؤلاء جائز استخدامهم، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: قلت: (لأكونن مع النبي صلى الله عليه وسلم سائر يومي.
وخرج فإذا النبي صلى الله عليه وسلم دخل بستاناً لبعض الأنصار، وقال له: احفظ الباب.
فجاء أبو بكر، فقال أبو موسى: على رسلك، ودخل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبو بكر بالباب؟ قال: ائذن له وبشره بالجنة.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً على بئر وقد كشف عن ساقيه ودلى رجليه في البئر، فجاء أبو بكر فجلس عن يمينه وكشف عن ساقيه ودلى رجليه في البئر، قال أبو موسى: فقلت: إن يرد الله بفلان خيراً يأت به -يريد أخاه وكان قد سبقه في الوضوء وسيأتي وراءه.
قال: فجاء عمر، قلت: على رسلك، فقلت لرسول الله: عمر بالباب؟ فقال: ائذن له وبشره بالجنة، فدخل، فجلس بجانب أبي بكر ودلى رجليه في البئر، قال: ثم جاء عثمان، فقلت: على رسلك، فقلت لرسول الله: عثمان بالباب.
فقال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه، فبشره بالجنة على بلوى تصيبه، فقال عثمان: الله المستعان! ودخل عثمان فوجد أن ناحية البئر امتلأت، فجلس في مقابلهم، قال سعيد بن المسيب رحمه الله: فأولتها قبورهم.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات دفن بجانبه أبو بكر، ثم عمر، ودفن عثمان في البقيع).
فهذا فيه دلالة على جواز استخدام الحاجب أيضاً.
ولكن إذا لم تكن هناك ضرورة إلى ذلك، فالأولى عدم اتخاذ الحاجب، كما في الحديث الذي رواه البخاري وغيره أيضاً: (أن النبي عليه الصلاة والسلام مر على امرأة تبكي عند قبر جديد، فقال: يا أمة الله! اتقي الله واصبري.
فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي.
قالت: ثم علمت أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتاعت لذلك، فأتت بيته فلم تجد حاجباً ولا بواباً، فأخبرته بما كان من شأنها، فقال لها: إنما الصبر عند الصدمة الأولى).(45/9)
استحباب الاستئذان
فاتخذ النبي صلى الله عليه وسلم رباحاً حاجباً على الباب، فجاء عمر فاستأذن، وقال له: استأذن لـ عمر.
وفي هذا دليل على استحباب أن يسمي المرء نفسه إذا استأذن، وفي هذا حديث جابر بن عبد الله الأنصاري في صحيح مسلم، قال: (استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من؟ قلت: أنا.
فسمعته من خلف الباب يقول: أنا أنا! كأنه كرهها).
يقول ابن الجوزي: إنما كرهها النبي صلى الله عليه وسلم لأن فيها نوعاً من الكبر، كأنما يقول: أنا الذي لا أحتاج إلى ذكر اسمي ولا تعريف نسبي، وكلمة (أنا) هي التي أهلكت إبليس لما قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف:12].
فلعل قائلاً أن يقول: في قصة صاحب الجنة المتكبر في سورة الكهف لما تحاور مع صاحبه استخدم المؤمن كلمة (أنا) أيضاً، قال تعالى: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف:34]، فرد عليه المؤمن وقال: {إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف:39 - 40]، فلماذا استخدم المؤمن كلمة (أنا)؟ نقول: الفرق بين استخدام المؤمن لـ (أنا) واستخدام المتكبر لـ (أنا): أن (أنا) عند الرجل المتكبر هي محور الارتكاز، بحيث أنك لو فرغت كلامه من (أنا) لا تجد لكلامه معنى، فكلامه يدور حول تمجيد نفسه، بخلاف المؤمن فقد يقول: (أنا) عرضاً؛ ولكنه لا يدور عليها ولا يعتبرها كاعتبار المتكبر لها.
فهيا بنا نطبق هذا الكلام على الآيتين: الرجل الذي طغى قال: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف:34]، احذف (أنا) من الكلام واقرأ: (قال له صاحبه وهو يحاوره أكثر منك مالاً) فإنك ترى الكلام غير مستقيم، لكن إن حذفت (أنا) من كلام المؤمن فسيبقى مستقيماً، {إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} [الكهف:39] احذف (أنا): (إن ترن أقل منك مالاً وولداً)، ألا ترى أن الكلام مستقيم؟! وإنما ذكر (أنا) في مقابل (أنا) فقط، وكما حدث لقارون لما وعظه قومه فطغى عليهم وبغى: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] إنما هذا الذي جمعته بعبقريتي وذكائي وجدي وحساباتي الدقيقة، فهذا أيضاً يدور حول نفسه.
فلذلك الرسول عليه الصلاة والسلام كره أن يقول الرجل المجهول الذي لا يعرفه صاحب الدار: (أنا)، والسنة أن تعرف نفسك.
ولذلك قال عمر: (جئت فقلت: استأذن لـ عمر -فسمى نفسه- قال: فدخل ثم رجع، وقال: ذكرتك له، فصمت).
وفي هذا دليل على أنه ليس كل سكوتٍ علامة الرضا.
ولم يفهم عمر بن الخطاب أن السكوت علامة رضا، بدليل أنه لم يدخل.(45/10)
سياق الكلام يكشف معناه
إذاً ما هي حكاية أن السكوت علامة الرضا؟ هل هذا الكلام صحيح؟ نقول: نعم، صحيح، ولكن في نكاح البكر، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (تستأمر البكر، فقالوا: يا رسول الله! إن البكر تستحيي.
قال: إذنها سكوتها) فسكوت البكر علامة على رضاها، فلأبيها أن يمضي العقد لمجرد سكوتها.
ربما يقول قائل: فكيف نفرق إذاً بين السكوت الذي هو علامة الرضا والسكوت الذي هو علامة السخط؟ نقول: بالسياق، وعلماء الأصول يقولون: (السياق من المقيدات).
فالسياق: هو الذي يرشدك إلى المعنى، فمثلاً التبسم: هناك رجل يتبسم تبسم رضاً، ورجل يتبسم تبسم المغضب، أما تبسم المغضب، فكما في حديث كعب بن مالك في الصحيحين، قال: (فلما قفل النبي صلى الله عليه وسلم راجعاً حضرني همي -ثم ساق كلاماً- قال: فجئته، فلما رآني تبسَّم تبسُّم المغضب، وقال لي: ما خلفك؟) إذاً هذا تبسم المغضب.
في قصة سليمان عليه السلام لما سمع النملة وهي تقول: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18] فالله عز وجل ماذا قال؟ قال: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا} [النمل:19]، فلماذا قال: (ضاحكاً) هنا؟ ليدلك على أن هذا التبسم علامة رضا، وليس لأنه ملك وأن النملة تتكلم وتقول: (لا يحطمنكم)؛ فكأنها قالت له: اتق الله، لم يغضب من كلام النملة بل تبسم (ضاحكاً) هذه أعلمتنا أن التبسم علامة رضا، وأن سليمان رضي ولم يغضب من قول النملة.
كذلك الترخيم، والترخيم: أن تحذف بعض حروف الكلمة على سبيل التدليل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب يدلل عائشة فكان يقول لها: يا عائش.
وليس: يا عائشة، وكان يقول لـ أسامة بن زيد: يا أسيم.
والترخيم هذا فيه دلالة على مزيد الحب.
وأذكر قصة أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل هذا مع عائشة رضي الله عنها؛ حتى أريك أن السياق هو الذي بين لنا أن هذا الترخيم خرج مخرج الحب.
فروى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إنه لما كانت ليلتي التي هي لي جاء ففتح الباب رويداً رويداً، وحمل نعله ومشى رويداً رويداً، ووضع جنبه على الفراش رويداً رويداً - (رويداً رويداً) بهدوءٍ شديد- وما هو إلا أن وضع جنبه على الفراش -وهي تحت اللحاف مستيقظة، وترى كل شيء، والنبي صلى الله عليه وسلم يتصور أنها نائمة- ثم قام رويداً رويداً، وأخذ نعله رويداً رويداً، ومشى رويداً رويداً، وفتح الباب رويداً رويداً، وانطلق -فحين خرج الرسول عليه الصلاة والسلام خرجت هي من تحت اللحاف مباشرةً- قالت: فتقنعت إزاري، وانطلقت وراءه، وظللت أمشي وراءه، والنبي عليه الصلاة والسلام ذاهب إلى البقيع، ورفع يديه ثلاثاً يرفعها ويخفضها، ويرفعها ويخفضها، قالت: ثم انحرف راجعاً فانحرفتُ، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحسر -أي: مشى بهدوء- فأحسرت وسبقته) فهو يرى الذي أمامه ولكن لا يعلم من هو، أول ما دخلت إلى الحجرة دخلت تحت اللحاف وتغطت به كأن شيئاً لم يكن، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل وجد أن اللحاف ينخفض ويرتفع بحركة مستمرة، وهو قد تركها نائمة، فما هذا الذي جد؟ فقال: (مالك يا عائش؟ هذا هو الشاهد: مالك يا عائش: حشياً رابية -أي: هل ألم بك مرض خطير فجأة-؟).
فالسياق فيه لطف وشفقة، إذاً الترخيم هنا علامة حب، بدليل السياق، قال: (ما لك يا عائش؟ حشياً رابية؟ قالت: لا شيء.
قال لها: لتخبرني أو ليخبرني اللطيف الخبير.
فقالت: يا رسول الله! مهما يكتم الناس يعلمه الله -في رواية أخرى أنه قال: نعم- فقصت عليه الخبر، قال لها: أنتِ السواد الذي كان أمامي؟ قالت: نعم.
قالت: فضربني في صدري فلهذني -وفي رواية أخرى: فلهدني، بالدال المهملة- في صدري لهدة أوجعتني -أي: ضربها بمجامع يده في صدرها- وقال لها: أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله؟!).
فهي ظنت أنه ذاهب إلى أم سلمة، أو إلى جويرية، أو إلى زينب، وهي لم تفكر في المسألة إلا بعقلية المرأة؛ وهذا الظن له شاهد من صحيح مسلم، فلعل بعض الناس يقول: وما أدراك أن عائشة ظنت ذلك؟ فأقول: هذا الظن فيه نص في صحيح مسلم عن عائشة أيضاً، قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم نائماً بجانبي، قالت: فتحسسته فلم أجده، فظننت أنه ذهب لبعض نسائه، فنزلتُ -لأنها كانت نائمة على السرير، ولم يكن في البيوت مصابيح- فوقعت يدي على قدميه وهما منصوبتان وهو ساجد، يقول: أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، أعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
فقالت عائشة: فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إنك لفي شأنٍ وأنا في شأنٍ آخر).
وروى مسلم أيضاً في صحيحه عن عائشة قالت: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم من عندي فغرت، فرجع فرآني غيرة، قال: مالك؟ أغرت؟ قالت: وما لمثلي لا يغار على مثلك) لفظ آخر قال لها: (أجاءك شيطانك؟ فقالت لرسول الله: أوليس لك شيطان؟) فـ عائشة كانت ذكية في تغيير دفة الحوار، فالمرأة الذكية تتعلم، ولا تقعد زوجها على كرسي الاعتراف وتقول له: أين ذهبت وماذا عملت؟ لا، والرجل يحاول أن يلملم الموضوع، وهي تقول له: لا تلملم الموضوع، لابد أن أعرف بالتفصيل الممل ما الذي حصل.
نقول لها: تعلمي من عائشة.
قالت له: (أوليس لك شيطان؟ قال: بلى، ولكن الله أعانني عليه فأسلم).
فقال: (أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله، هو جبريل أتاني فناداني فأخفى منك، فأجبته فأخفيته منك، ولم يكن ليدخل عليك وقد وضعت ثيابك، وكرهت أن أوقظك فتستوحشي) وأنت تعلم أن المرأة جبانة، ولاسيما إذا كانت صغيرة.
فالنبي عليه الصلاة والسلام سيتركها وحيدة، ولم يكن في البيوت مصابيح آنذاك، وليس لها ولدٌ تتسلى به، فكره أن يوقظها فتستوحش.
قال: (فقال لي: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم.
فقالت: وكيف أقول إذا مررت عليهم يا رسول الله؟ -انظر إلى ذكائها وتأمل كيف غيرت دفة الكلام! - قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، أنتم لنا سلف ونحن لكم تبع) الحديث.
فالمقصود أن السياق هو الذي يبين لك إذا كان الترخيم المقصود منه التدليل والرحمة والحب، أو المقصود منه السخط أو الشدة كما في الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى برجلٍ يوم القيامة فيقول الله عز وجل له: أي فل - فل: اختصار وترخيم: يا فلان- ألم أذرك ترأس وتربع، وأزوجك من النساء، وأكسبك من الخيل والإبل؟! فأين شكرك؟! قال: أي رب! نسيت.
قال: اليوم أنساك).
فانظر إلى كلمة (أي فل) فهذا ترخيم، ولكن السياق دلنا على أنه ليس المقصود به الترخيم السابق، مثل: يا عائش، ويا أسيم، ونحو ذلك.
فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت.
ففهم عمر بن الخطاب أن السكوت ليس علامة رضا فذهب وجلس عند المنبر، قال: فغلبني ما أجد، فقلت للغلام: استأذن لـ عمر، فدخل ثم خرج قال: ذكرت له فصمت، فذهب وجلس عند المنبر، قال: ثم غلبني ما أجد، فقلت للغلام: استأذن لـ عمر، فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت، فانصرف عمر، فلما وصل إلى باب المسجد إذا بالغلام يناديه: قد أذن لك.
فدخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: (فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم مضطجعاً على رمال حصيرٍ قد أثر الحصير في جنبه).(45/11)
الصحابة وحرصهم على إرضاء النبي صلى الله عليه وسلم
قال: (فأردت أن أستأنس) وهذا من فطنة عمر ومن ذكائه، فالرسول عليه الصلاة والسلام غضبان، فلابد أن يحدث عمر جواً من البهجة ومن الود حتى يستطيع أن يتكلم.
يقول: (فقلت: يا رسول الله! لو رأيتنا معشر قريشٍ قومٌ نغلب نساءنا، فقدمنا على إخواننا من الأنصار فإذا هم قوم تغلبهم نساؤهم.
فتبسم الرسول عليه الصلاة والسلام).
يقول: يا رسول الله! أنت أخذت بسيرة الأنصار فهجرنك ونشزن عليك، فلو أخذت بسيرة القرشيين ما وصل الحال إلى ما وصل إليه.
وسكوت النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك فيه دلالة على أنه رضي سلوك الأنصار في معاملة النساء، ففي سنن أبي داود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه نساء يشتكينه أن أزواجهن يضربونهن، فمنع من ضرب النساء، فجاء عمر فقال: يا رسول الله! ذئرن النساء على أزواجهن).
فالرسول عليه الصلاة والسلام أذن لهم في الضرب، قال: فما بقي بيتٌ إلا فيه ضرب.
فطاف على النبي صلى الله عليه وسلم سبعون امرأة كلهن يشتكين أزواجهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد طاف على آل محمدٍ سبعون امرأة كلهن يشتكين أزواجهن، وليس أولئك خياركم) أي: ليس الذين يضربون هم خياركم لماذا؟ لأن النبي عليه الصلاة والسلام خيرهم ولم يضرب نساءه ولا ينبغي ضربهن إلا أن ينتهكن حرمات الله عز وجل.
قال عمر: (فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم؛ وعمر يريد أن يخلق جواً من الأُنس، حتى يلطف عن الرسول عليه الصلاة والسلام ما به، وقد كان بعض الصحابة يمزحون في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أنه كان هناك صحابي يلقب حماراً، وكان يضحك النبي عليه الصلاة والسلام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه، فلما جيء به وقد شرب الخمر، جلد فلعنه أحد الصحابة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تعن الشيطان على أخيك) وقال في الرواية الأخرى: (إنه يحب الله ورسوله) فيمكن أن يجتمع حب الله ورسوله في قلب العبد مع بعض المعاصي التي يتلبس بها.
وأيضاً صحابي جليل لا يعرفه كثير من المسلمين، اسمه زاهر، روى الترمذي حديثه في الشمائل، وكان زاهر دميم الوجه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه، وكان زاهر لطيفاً، فأبصره عليه الصلاة والسلام ذات يوم في السوق، وكان زاهر من البادية يأتي إلى السوق أحياناً ليبيع ويشتري، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم، جاء من ورائه وأغمى على عينيه، فجعل زاهر يقول: مَن مَن؟!! ويحرك يده، فلما وضع يده على يد النبي صلى الله عليه وسلم عرفه، وكانت يد النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أنس: (ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم) فلما عرف أنه النبي صلى الله عليه وسلم جعل يلصق ظهره ببطن الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بأعلى صوته في السوق: (من يشتري هذا العبد؟ فقال زاهر: إذاً يا رسول الله تجدني كاسداً -أي: بضاعة خاسرة- قال له: لا، ولكنك عند الله لست بكاسد -وفي الرواية الأخرى- قال: لا، ولكنك عند الله غال).
فإحداث جو من الأنس كان يعمله بعض الصحابة، فـ عمر بن الخطاب لما رأى النبي متكدراً أراد أن يحدث هذا الجو، فلما تبسم النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا رسول الله! لو رأيتني وأنا أقول لـ حفصة: لا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم تبسمة أخرى، فجلست).
وجعل عمر بن الخطاب يدير عينيه في الغرفة، فلم ير فيها شيئاً يرد البصر غير أهبة ثلاثة.
ولو أن أحدكم دخل بيت بعض الأمراء أو بعض الأثرياء ونظر إلى الحيطان وإلى النمارق والسجاد، لرأى قمة الأبهة والفخامة، فـ عمر بن الخطاب ينظر إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم ماذا فيه، فلم ير شيئاً يملأ العين غير ثلاثة جلود -جلود مدبوغة- هذا هو الموجود في بيت الرسول عليه الصلاة والسلام.
فقال: (يا رسول الله! ادع الله أن يوسع على أمتك، فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله.
قال عمر: وكان متكئاً فجلس) (جلس) أي: اعتدل.
وهنا طرفة حدثت بين الكسائي وبين هارون الرشيد، وكان الكسائي يهذب هارون الرشيد ويعلمه، فدخل الكسائي على هارون فقال له الرشيد: اجلس.
فقال له: بل (اقعد) يا أمير المؤمنين؛ -أي: لا تقل: اجلس، ولكن قل: اقعد، قال: وما الفرق؟ قال: القعود من القيام، والجلوس من الاتكاء.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.(45/12)
ذم الكبر
إن الكبر من المهلكات التي قد تصيب أي إنسان، والحذر منه فرض عين على كل مسلم، فهو من الأمراض التي قد يصاب بها المرء وهو لا يشعر، فيجب على المسلم أن يروض نفسه ويعودها على تذكر أصل نشأتها، حتى لا تستعلي على أحد من خلق الله تعالى.(46/1)
شرح حديث وصية نوح عليه السلام لابنيه
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أخرج النسائي في سننه، والبخاري في الأدب المفرد، وأحمد في المسند، والبزار والحاكم والبيهقي وغيرهم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (أتى أعرابي من البادية عليه جبة من طيالسة، مكفوفة بديباج أو مزرورة بديباج فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن صاحبكم هذا هذا يريد أن يضع كل فارس ابن فارس، وأن يرفع كل راعٍ ابن راعٍ، ثم قام إليه فجذبه بمجامع جبته، وقال له: أرى عليك ثياب من لا يعقل، ثم تركه، وقال صلى الله عليه وسلم: إن نوحاً قال لابنه -وفي رواية لـ أحمد-: (إن نوحاً قال لابنَيه: إني قاصرٌ عليكما الوصية) هذا لفظ لـ أحمد، وهناك لفظ آخر لـ أحمد وغيره: قال: (إني قاص عليكما الوصية.
إن نبي الله نوحاً عليه السلام لما حضرته الوفاة قال لابنه أو قال لابنيه: إني قاصرٌ أو قاصٌّ عليكما الوصية: أوصيكم باثنتين وأنهاكما عن اثنتين، أوصيكما ب (لا إله إلا الله)؛ (فإن لا إله إلا الله) إذا وضعت في كفة ووضعت السماوات والأرض في كفة لرجحت بهن (لا إله إلا الله)، فلو كانت السماوات والأرض حلقة مبهمة -أي: مصمتة جامدة- لفصمتهن أو لقصمتهن (لا إله إلا الله)، وأوصيكم بـ (سبحان الله وبحمده) فإنها صلاة كل شيء، وبها يرزق الخلق، وأنهاكما عن الشرك والكبر - في رواية أحمد - قال رجل: يا رسول الله! إني أحب أن يكون لي نعلين حسنتين لهما شراكان حسنان، أفهذا كِبْر؟ قال: لا.
قال: فإني أحب أن يكون لي حلة، أفهذا كِبْر؟ قال: لا.
قال: فإني أحب أن يكون لي صحبة، أهذا كِبْر؟ قال: لا.
فقالوا: فما الكِبْر؟ قال: الكِبْر بطر الحق وغمط الناس -وفي رواية للحاكم - قال -عليه الصلاة والسلام-: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس).
هذا حديث جليل وهو من القصص الصحيحة التي قصها علينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
أخرج الطحاوي رحمه الله في شرح معاني الآثار هذا الحديث مختصراً تحت النهي عن لبس الحرير، وهذا يوضح لماذا جذب النبي عليه الصلاة والسلام هذا الأعرابي جذبة شديدة، مع أن خلقه عليه الصلاة والسلام هو السماحة، وأنه كثير ما آذاه الناس أو كثير ما رأى بعض المخالفات من بعض المسلمين فكان يترفق بهم؟!(46/2)
معنى قوله: (إني قاصر -أو قاص- عليكما الوصية)
وهنا ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث فقال: (إن نبي الله نوحاً عليه السلام لما حضرته الوفاة قال لابنه أو قال لابنَيه: إني قاص عليكما الوصية -وفي رواية لـ أحمد - إني قاصر عليكما الوصية).
كلمة: قاصر.
هنا تحتمل معنيين: المعنى الأول: (إني قاصر عليكما الوصية) أي: إنني سأوصيكما أنتما فقط، ولعلك لو تأملت في قول نوح عليه السلام: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح:26] تعلم أن امرأة نوح وابنه ومعظم قومه كفروا، وقد ظل ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم فلم يستجيبوا، فهذا يوحي إليك أن المؤمنين كانوا قلة، فلم يجد في حال موته غير ابنيه، لذلك قال: (إني قاصر عليكما الوصية) أي: إني سأقتصر عليكما في هذه الوصية.
هذا هو المعنى الأول.
المعنى الثاني: (إني قاصر عليكما الوصية) أي: إني سأقصِّر في وصيتي ولن أطيل عليكم، فهذا واضح من رواية النسائي، والنسائي إنما روى هذا الحديث في السنن الكبرى -وله السنن الصغرى لم تطبع حتى الآن، إنما المطبوع من سنن النسائي الآن: السنن الكبرى- فيُفهم من سياق الحديث في سنن النسائي أن نوحاً عليه السلام قال: (إني سأقصر) يعني: لن أطيل عليكم حتى تحفظوا وصيتي، ولذلك قال: (آمركما باثنتين وأنهاكما عن اثنتين) ما أطال.
(إني قاص عليكما الوصية): أي: وصية نوح عليه السلام، وتجد أن كثيراً من الأنبياء كانوا يوصون عند الموت، وكثير من الصحابة كانوا يوصون عند الموت، ولا ترى رجلاً صالحاً إلا ويوصي عند الموت، وهذا شيء يغفل عنه أهل الدنيا العاملين لها، قلَّما يوصي، يوصي بماذا؟ بماله الذي سيتركه فلا يحتاج هذا المال إلى وصية، قال صلى الله عليه وآله وسلم (خير الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تبقى حتى إذا كانت ههنا -أي: الروح- قلت: هذا لفلان، وهذا لفلان، وقد كان لفلان) يعني: بغير أن تتكلم، وبغير أن توصي هذا المال سيذهب رغم أنفك إلى فلان إرثاً يرثه.(46/3)
من بدا فقد جفا
فهذا رجل أعرابي من أهل البادية، وفي الحديث: (مَن بدا فقد جفا) أي: مَن سكن البادية يورثه ذلك جفاء في الطبع، لذلك أنت ترى الفرق ما بين أهل المدينة وما بين أهل البدو، تجد البدو عندهم غلظة حتى في الألفاظ والطباع بخلاف الذي يسكن في الحضر وفي المدن ترى أن خُلُقَه أقرب، وأن ألفاظه ألين وأرق من ألفاظ الرجل الذي يعيش في البادية، فهذا يبين لك معنى: (من بدا).
أي: من سكن البادية (فقد جفاء) أي: يصيبه جفاء في الطبع.(46/4)
قوله: (إن هذا يريد أن يضع كل فارس)
فقال عليه الصلاة والسلام: (إن هذا يريد أن يضع كل فارس ابن فارس، وأن يرفع كل راعٍ ابن راع) ما معنى هذه العبارة؟ أورد الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية روايةً: أن هذا يريد أن يضع كل رأس ابن رأس وهوالفارس، يضع.
أي: من الضعة، وهي الهوان، ويرفع.
أي: من الرفعة، يريد أن يقول: إن هذا الرجل الأعرابي جاء متبختراً مختالاً مفتخراً بحلة من سندس، يريد أن يضع وأن يلحق الهوان بكل فارس ابن فارس، والفارس: هو الرجل النبيل.
الرواية التي ذكرها الحافظ ابن كثير في البداية: (رأس)، فهذا يريد معنى الفارس، والمقصود به الرأس.
وجرى في اللغة أنهم إذا رأوا رجلاً نبيلاً يسمونه فارساً، يقولون: هذا له أخلاق الفرسان.
أي: أنه نبيل، رأس.
فهذا الأعرابي جاء مختالاً متكبراً يريد أن يرفع كل راع ابن راع، فأنت تعلم أن الراعي هذا إنما يكون من أهل البادية، الذين يرعون أغنامهم، بخلاف أهل الحضر، فإن عندهم الخيول.
فالمقصود من هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى الكبر على وجه هذا الرجل وعلى مشيته، فقال: إنه يريد أن يضع المرفوع ويرفع الوضيع.
هذا معنى الكلام، ولذلك أخذه فجذبه جذبة شديدة.(46/5)
قوله: (أرى عليك ثياب من لا يعقل)
قال له: (أرى عليك ثياب من لا يعقل).
أي: الحرير.
هذه شهادة بأن الذي يلبس الحرير كأنه لا عقل له، والسر في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (من لبس الحرير في الدنيا حُرِمَه في الآخرة) أهناك رجلٌ عنده عقل أو ذرة من عقل يلبس الحرير هنا ثم يحرمه إذا دخل الجنة وهو يرى أترابه يلبسون الحرير؟ فالذي يفضل هذا الحرير على حرير الجنة غير عاقل، لذلك قال له النبي: (أرى عليك ثياب من لا يعقل) أي: لا يزن الأمور وزناً صحيحاً.(46/6)
هدي السلف الصالح في الوصية عند الموت
الذين يوصون عند الموت هم الذين يخافون الله تبارك وتعالى، قال عز وجل في حق إبراهيم عليه السلام: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} [البقرة:131 - 132] وصى بها بماذا؟ بـ {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131]؛ لأن هذا أقرب مذكور للضمير، وأقرب مذكور للضمير هو المقصود من الكلام، فقوله: (بها)، والهاء هنا هو الضمير،؟ وأقرب مذكور: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131] أي: أنه أوصى أولاده بالإسلام.
ويعقوب أيضاً وصى أولاده: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} [البقرة:133] فهو يطمئن على هذه الذرية، وعلى دورها في الحياة.
وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم أوصى، فقال: (استوصوا بالنساء خيراً) مِن آخر ما تكلم به صلى الله عليه وسلم، وهذا ومن آخر ما تكلم به عليه الصلاة والسلام أيضاً قوله: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا إني أنهاكم عن ذلك -ثلاث مرات).
وعند مسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه أوصى في مرض موته قال: (الحدوا لي لحداً، وانصبوا عليَّ اللبِن كما صُنِع برسول الله صلى الله عليه وسلم).
وفي سنن ابن ماجة ومسند أحمد بسند حسن عن أبي بردة عن أبيه أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه لما جاءته الوفاة قال: (ألا لا تتبعوني بمجمر -أي: بنار - ولا تبنوا على قبري بناءً، وإني بريء مِن كل سلق وحلق وخرق، قالوا: أسمعته من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم).
وقصة الرجل الذي أوصى أولاده أن يحرقوه إنما أوصى بذلك؛ لأنه كان نباشاً للقبور، يعني: فإذا دفنوا الميت يفتح القبر ثم يأخذ الكفن ويترك الميت عرياناً.
فلما قرب أجله وأحس بدنو أجله جمع أولاده فقال لهم: (أي بَنِيَّ! كيف كنتُ لكم؟ قالوا: يا أبانا كنت خير أب، قال: فإن أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني -أي: يطحنوه- ثم ذروني في يوم عاصف، فإن الله إن قَدَر علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات نفذوا الوصية، فجمعه الله تبارك وتعالى بقوله: كن، فكان الرجل فقال: أي عبدي! ما حملك على ما صنعتَ؟ قال: خشيتُك، قال: أما قد خشيتني فقد غفرت لك).
فجرت عادة الصالحين الخائفين من لقاء الله عز وجل أن يوصوا؛ ولكن لا يفوتني أن أنبه إلى أن الوصية إن كانت بمعصية فلا تنفذ بالاتفاق، وهذه قصة رجل ممن سبقنا، فلا حجة بهذه القصة؛ لأن في شرعنا ما يخالفها.(46/7)
فضل لا إله إلا الله
نوح عليه السلام أوصي ابنيه -وهو من أولي العزم من الرسل- فقال: (أوصيكم باثنتين وأنهاكم عن اثنتين، أوصيكم بـ (لا إله إلا الله) فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة ووضعت (لا إله إلا الله) في كفة لرجحت بهن (لا إله إلا الله)) فلا يعقل أن تكون السماوات والأرض وهما من خلق الله تبارك وتعالى أثقل من (لا إله إلا الله) الكلمة التي بني عليها هذا الكون كله، والكرسي أكبر من السماوات والأرض، فـ (لا إله إلا الله) هذه الكلمة الطيبة المباركة لو وضعت في كفة، ووضعت السماوات والأرض بمن فيهن لرجحت بهن (لا إله إلا الله).
وفي الحديث المشهور عند أهل السنة باسم حديث البطاقة: (أن رجلاً عاصٍ، يُنْشَر له تسعة وتسعون سجلاً من الذنوب -السجل الدفتر الطويل، فلما أيقن الرجل أنه ذاهب إلى النار وسُحب، فقال الله عز وجل: أعيدوا عبدي، فقال له: إنه لا يُظْلَم عندي اليوم أحد، وإن لك عندنا شيئاً، فأخرج بطاقة -انظر! تسعة وتسعون سجلاً موضوعة في كفة من الميزان- فأخرج بطاقة فيها: (لا إله إلا الله) -أي: أن هذا الرجل كان يقول هذه الكلمة -، فوضعت هذه البطاقة في كفة أمام السجلات فطاشت كل هذه السجلات، ورجحت (لا إله إلا الله وليس هناك شيء يترجح على اسم الله تبارك وتعالى)).(46/8)
فضل التسبيح
فيقول: (أوصيكم بـ (لا إله إلا الله) - الكلمة المباركة التي ينجو بها العبد- وأوصيكم بـ (سبحان الله وبحمده) فإنها صلاة كل شيء، وبها يرزق الخلق) قال الله تبارك وتعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [الإسراء:44].
إذاً: هذا التسبيح هو حياة كل شيء، ولذلك الإنسان الذي لا يلهج بذكر الله عز وجل ميت، وذكر الله تبارك وتعالى بالنسبة للقلب كالماء بالنسبة لكل شيء حي، فيه الري وفيه الحياة: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44].
وقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ} [الإسراء:44] يدل على أن كل شيء يسبح بحمده، قال بعض السلف: حتى صرير الباب يسبح بحمده، انظر! لما تفتح الباب يصدر صريراً، فهذا الصرير تسبيح، وهذا الحجر الذي تراه يخر يسبح، {وَإِنَّ مِنْهَا} [البقرة:74] أي: من الحجارة {لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74].
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (لا يسمع صوتَ المؤذن شجر ولا حجر -إنس ولا جن ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة).
وقد وردت رواية مفصلة في سنن ابن ماجة، ومسند الإمام أحمد، عن أبي سعيد بلفظ: (لا يسمع صوت مؤذن إنس ولا جن، ولا شجر ولا حجر ولا مدر، إلا شهد له يوم القيامة).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كما في صحيح البخاري قال: (كنا نسمع تسبيح الطعام ونحن نأكله مع النبي صلى الله عليه وسلم).
واحتج الذين يقولون: إن الذي يسبح هو الحي وليس الحجر بقوله صلى الله عليه وسلم لما مر على قبرين يعذبان: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فكان يمشي بين الناس بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستبرئ من بوله، ثم دعا برقائق من جريد -جريدة خضراء- فشقها نصفين ووضع على كل قبر نصفاً وقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا) وقالوا: الدليل أنه قال: (ما لم ييبسا) فهذا يدل على أنهما إن يبسا لن يسبحا.
ورد العلماء الآخرون على هذا القول منهم الخطابي أبو سليمان وغيره أن التخفيف عن صاحبي القبرين ليس للنداوة التي في الجريد، وإنما بشفاعته -عليه الصلاة والسلام-، بدليل حديث جابر الطويل الذي أخرجه مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبر يعذب، فوضع عليه رقائق من جريد، وقال: لعله يرفعه عنه بشفاعتي)، فدل على أن الشفاعة المذكورة أو التخفيف المذكور، ليس للنداوة التي في الجريد، وإنما هي لشفاعته عليه الصلاة والسلام.
ومن هنا تعلم خطأ الذين يضعون الأشجار في المقابر أو يضعون الرياحين والورود، وقد توسعوا فيه توسعاً منكراً، كما يفعل بعض مَن يُسَمون بالعظماء في بلاد المسلمين، فإنهم إذا ذهبوا إلى بلاد الكفرة يأخذون هذه الورود التي لا حياة فيها ولا نداوة ولا طلاوة، ويذهبون إلى قبور الكفرة الفجرة ويضعونها، وقد عقدوا وجوههم مظهرين التألم والتأسف والحزن، مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا مررتم بقبور الظالمين فمرُّوا مسرعين حاسري رءوسكم، خشية أن يحيق بكم ما حاق بهم)، زفتا صلى الله عليه وسلم: (حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار).
ولكن هؤلاء -الذين يسمون بالعظماء- يقولون: تيتو صديقي، تيتو يرحمه الله، وتيتو هذا لم يكن حتى نصرانياً بل إنه شيوعي، ومع ذلك يقول: صديقي وماكاريو رحمه الله، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يترحم المسلم على الكافر.
ومثل هذه الورود أو الأشجار أو الجريد لا يحصل بها تخفيف على صاحب القبر لمجرد النداوة الموجودة فيها، إنما هو لشفاعته عليه الصلاة والسلام في أولئك، وهذا كما قال بعض العلماء خاص به صلى الله عليه وسلم.
فقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44]: يدل على أن كل شيء يسبح كما قال سعيد بن جبير وغيره أن هذا عام في كل شيء، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [الإسراء:44].
ورد في صحيحي البخاري ومسلم قوله صلى الله عليه وسلم: (من قال سبحان الله وبحمده في اليوم مائة مرة غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر)، زبد البحر: الفقعات التي تكون فوق الماء، وترى هذا لو ذهبت إلى أي شلال أو نافورة يطلع منها الماء بقوة ستجد هذه الفقاقيع، فهذا اسمه الزبد، كما قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} [الرعد:17] يتفرقع، ولا أحد ينتفع منه: {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ) [الرعد:17] ما الذي ينفع الناس؟ الماء، فهذا يمكث في الأرض.
فيقول عليه الصلاة والسلام: (لو كانت ذنوبك مثل زبد البحر فقلت: سبحان الله وبحمده مائة مرة غُفِرَت لك ذنوبك).
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم مائة مرة لم يأتِ أحدٌ يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا رجل زاد عليه) أي: تزيد فوق المائة، تقول مائة وخمسين أو مائتين أو ثلاثمائة أو أربعمائة على حسب ما يُتاح لك، أو على حسب ما تستطيع فهذا معنى قوله: (إلا رجل زاد على ما جاء به).
وفي صحيح مسلم من حديث جويرية بنت الحارث وهي أم المؤمنين رضي الله عنها: (أنها جلست بعد صلاة الغداة تسبح الله تبارك وتعالى، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم بعد فترة فوجدها جالسة كما تركها، تسبح؛ فقال لها: أنتِ جالسة منذ خرجتُ؟ قالت: نعم.
قال: لقد قلتُ أربع كلمات أفضل مما قلتيه: سبحان الله وبحمده، رضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته)، هذه الكلمات النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إنها أفضل مما قالته جويرية من صلاة الغداة حتى قرابة الظهر.
وفي الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم).
فـ (سبحان الله وبحمده) صلاة كل شيء كما قلنا: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ} [الإسراء:44] فالتسبيح صلاة.
{وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44].(46/9)
معنى الكبر
ذوأنهاكما عن اثنتين: عن الشرك، وعن الكبر، قالوا: يا رسول الله! فأما الشرك فقد عرفناه، فما الكبر، الرجل يتخذ نعلين حسنتين لهما شراكان حسنان أفهذا أكبر؟ قال: لا.
قال: الرجل يتخذ حلةً أفهذا أكبر؟ قال: لا.
قال: فيتخذ أصحاباً أفهذا أكبر؟ قال: لا، قالوا: فما الكبر؟ قال: بطر الحق وغمط الناس).
وفي حديث أبي هريرة عند مسلم قال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال ذرة من كبر.
قالوا: يا رسول الله! إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً أفَيُعَدُّ هذا من الكبر؟ قال: لا.
إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس) (بطر الحق): البطر.
معناه: الكفر، بطر بالنعمة، أي: كفرها، بطر بالحق: أي كفر بالحق ورده بعدما ظهر له، فهذا هو الكبر، الذي قال فيه ربنا تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، من نازعني فيهما ألقيتُه في النار ولا أبالي).
وقوله: (وغمط الناس) معنى الغمط: أي: الحط، غمط على فلان.
أي: حط منه واحتقره، ونسبه إلى الضعف والهوان، فغمط الناس أي: الحط عليهم واحتقارهم.
فهذا هو الفعل الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونهى عنه نوحٌ عليه السلام وهو يوصي ولديه.
وإن يسر الله تبارك وتعالى سيكون لنا بعض الدروس -لكن ليست في مواعيد ثابتة- في مثل هذه الصفات المذمومة مثل: الكذب، والعُجْب، والبطر، حتى لا يركن المسلم إلى مثل هذه الصفات؛ لأن مثل الرياء أو الشرك قد يكون أحياناً أخفى من دبيب النمل، والرجل قد يأمن مكر الله تبارك وتعالى، ويتصور أنه لا يمكن أن يغتر في يوم من الأيام، فتزل قدمه.
ولا يدخل الجنة إلا خائفٌ، أي: لا يصل إلى الجنة بأمان إلا الخائف، فأين الذي قد نام ملء جفونه وظن أن مثل هذه الصفات لا يمكن أن تحوم حوله، ونام (قرير العين هانيها)! هذا في الغالب، وكما يقول بعض السلف: (رب طاعة أورثت عزاً واستكباراً، ورب معصية أورثت ذلاً وانكساراً).
ويقول بعض السلف -وهو متسرع في هذه الكلمة- (إن العبد ليذنب الذنب فيأخذ بيده إلى الجنة، وإن العبد ليفعل الطاعة فتقوده إلى النار).
لو أن أي رجل سطحي التفكير قرأ هذا الكلام لهذا العالِم الجليل لظن أن هذا ضد الآيات وضد الأحاديث، وهو لا يقصد هذا، لا يقصد أن الذي يفعل الطاعة تأخذه طاعته إلى النار، وأن الذي يفعل المعصية تأخذه معصيته إلى الجنة، فهذا مستحيل، بل لا يمكن أن يخطر على بال أحد.
إنما يقصد هذا العالِم الجليل أن الرجل قد يطيع الله تبارك وتعالى في طاعة ما، فيفتخر بها، ويقول: أنا أقوم الليل، وأصوم، وأتصدق بمالي، وفلان كان جائعاً وأنا أكَّلته، وفلان كان يريد غطاءً وأنا كسوته، وفلان الفلاني في المستشفى أنا وصِّيت عليه وأعطيته مبلغاً، ويجهر بهذا، وعنده من الشهوة الخفية وهو العُجْب، شيء كثير يحبط مثل هذه الأعمال.
هذا معنى ما يريده هذا العالِم.
(ورب معصية أورثت ذلاً وانكساراً): كالرجل يفعل الذنب ويظل مشفقاً على نفسه، ويظن أن الله تبارك وتعالى سيؤاخذه بذنبه، فيظل خائفاً من لقاء الله تبارك وتعالى، فلا يقارف المعاصي أبداًَ.
فهذه المعصية عادت عليه بالنفع، وهذه الطاعة عادت عليه بالضر.
ومحور ارتكاز هذا المفهوم هو: النية.
فكلما أخلصت لله تبارك وتعالى، وخلَّصت أعمالك من شوائب الرياء والسمعة والعُجب، كان عملك أقرب إلى القبول.
ففي صحيح البخاري أن عائشة رضي الله عنها قالت عندما تلت قوله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60]، معنى الآية: أن عباداً لله تبارك وتعالى يفعلون الشيء وهم خائفون، وسر خوفهم أنهم سيرجعون إلى الله تبارك وتعالى فيحاسبهم على ما فعلوا: ((وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا)) [المؤمنون:60] أي: يفعلون الفعل الذي يفعلونه، ويأتون به: ((وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)) [المؤمنون:60] من هذا الفعل: ((أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)) [المؤمنون:60] أي: بسبب أنهم راجعون إلى الله عز وجل، فقالت عائشة: (يا رسول الله! أهذا الرجل يسرق ويزني؟ -الرجل يفعل الشيء وهو خائف، من المؤكد أنه يفعل معصية؛ فهل سيتصدق وهو خائف؟! أو يدخل مثلاً يصلي أو يقوم الليل وهو خائف؟! هذا لم يخطر في بال عائشة، إنما قالت: - يا رسول الله أهذا الرجل يسرق ويزني؟ قال: لا يا ابنة الصديق.
هؤلاء أقوام يُصَلُّون ويزكون ويصومون ويخشون ألاَّ يُتَقَبَّل منهم).
إذاً: المسألة لم تَعُد مسألة معصية، بل إن هذا أرقى درجات الورع، بمعنى أننا الآن بعيدون جداً عن حيز المعصية، نحن مع أتقى خلق الله عز وجل: ((يُؤْتُونَ مَا آتَوا)) [المؤمنون:60] يتصدقون ويصلون، ويصومون ويزكون، ويفعلون الخيرات وقلب الواحد منهم خائف، خائف من أن الله تبارك وتعالى يردُّ عليه عمله، بأن يكون قد تسلل إلى قلبه شيء من هذه الشهوة الخفية، والله تبارك وتعالى لا يظلم، فإن رد على العبد عمله فهو لم يظلمه.
(فيخشى هؤلاء ألاَّ يُتَقَبَّل منهم).
لذلك من منطلق قول حذيفة رضي الله عنه في صحيح البخاري: (كان الناس يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني) أما وقد استطالت مثل هذه الشرور فإننا نضع إن شاء الله تبارك وتعالى معالم لكل صفة مذ مومة حتى يتجنبها المسلمون.
نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يأخذ بأيدينا ونواصينا إلى الخير، وأن يتقبل منا العمل الصالح إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين.(46/10)
حول الصحوة الإسلامية
تشهد الأمة صحوة إسلامية أثرية، تنزع بجذورها إلى الجذور الأولى للسلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين، ولكي تثمر هذه الصحوة كان لابد من النظر في أحوال سلفها للسير على خطاهم فيما وصلوا إليه مع ربهم مع أنفسهم مع بعضهم البعض.(47/1)
تطبيق الصحابة لنصوص الكتاب والسنة دون جدال
إن الحمد لله تعالى، نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إن هذه الأمة تشهد صحوة إسلامية أثرية، ومعنى أثرية: أي أنها تنزع بجذورها إلى الجذور الأولى للسلف الصالح رضي الله تعالى عنهم جميعاً.
وبلدنا هذا -مصر- أحد البلاد التي تشهد هذه الصحوة المباركة، وكما حدثني خلق كثير من بلاد كثيرة، وهم أناس لهم وزنهم الفكري: أن الله تبارك وتعالى لو أحيا هذا البلد؛ لانجرَّت وراءه كل البلاد الإسلامية وغيرها، ولذلك تجد أن المؤامرات والدسائس على هذا البلد أشد بكثير جداً من أي بلد آخر، حتى أن حجم الضرب الذي تشهده الحركة الإسلامية بلغ حداً عجيباً جداً، ولولا أن الله تبارك وتعالى أذن بحياة هذا الجسد لمات من كثرة الضربات التي تتوالى على رأسه.
هذه الصحوة الإسلامية المباركة إن شاء الله تعالى يراد لها أن ترجع إلى الجذور الأولى، وهذا إنما يكون بمزيد من العلم، وهذا التخبط الفكري الذي يشهده المسلمون الآن سببه الجهلُ وقلةُ العلم، حتى أن بعض من نظنهم من الأخيار -هكذا ظاهرهم والله حسيبهم- وقد ظننته يأمر بناته بالحجاب قال لي: أنا لا أريد أن أجبرها، أنا أريدها أن ترتدي هذا الحجاب وهي مقتنعة.
إن هذه السفسطة التي عشنا فيها وما زالوا حتى الآن يعرضونها بقضهم وقضيضهم، قد عرضت أصول الإسلام للجدل.
إذا قال الله تبارك وتعالى ورسوله أمراً؛ لا يجوز للمسلم أن يجادل فيه، هل يمكن أن يقال: أنا أترك ابنتي حتى تلبس الحجاب عن قناعة؟ هب أنها لم تقتنع، تكره حكم الله أيضاً! ثم ما وزنها أصلاً وما وزن عقلها حتى يمكن أن يقال: اقتنعت أم لا؟ إذاً سيكون رأي البنت هو المقدم، وحكم الله تبارك وتعالى في آخر القائمة؛ لأنها لم تقتنع بهذا.
هذا مما ورثناه، وما زال بعض المسلمين يعاني هذه السفسطة التي ورثها بدعوى الحرية العقلية، فعرضوا أصول الإسلام للجدل.
لو نظرت أنت إلى أسلافك، وكيف أن الواحد منهم إذا جاءه أمر اجتهد في أن يلتزم به حتى وإن أخطأ، المهم أن يلتزم من وجهة نظره؛ وإذا تبين له الخطأ، يستمر فيه، إنما يرجع.
انظر إلى هذا الحديث الصحيح: لما أنزل الله تبارك وتعالى قوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187]، كان بعض الصحابة يربط في يديه خيطاً أبيض وخيطاً أسود، ويأكل ويشرب حتى يظهر له الخيط الأبيض من الخيط الأسود؛ لكن هذا ليس هو المقصود من الآية، المقصود بالخيط الأبيض من الخيط الأسود هو: شعاع النور والظلمة.
فهذا الصحابي عندما وصله النص وفهمه؛ بادر إلى العمل به على مقتضى فهمه، ولم يتوقف حتى يقول: حتى ألقى رجلاً مجتهداً أو نحو ذلك.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لزوجاته رضي الله عنهن: (أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً) أي: التي ستموت بعدي منكن أطولكن يداً، فكن يقسن أيديهن، فكن يعتقدن أن التي يدها أطول من يد الأخرى هي التي ستموت عقب النبي عليه الصلاة والسلام.
وبرغم العقل الراجح الذي كانت نساء النبي صلى الله عليه وسلم يتمتعن به، ما فقهن إلى معنى الحديث إلا عندما توفيت زينت بنت جحش رضي الله عنها، فهي أول أزواج النبي عليه الصلاة والسلام موتاً بعده، وكانت قصيرةً، ومن لوازم القصر قصر كل الأعضاء، فلم تكن هي أطول نساء النبي صلى الله عليه وسلم يداً بهذا المعنى المتبادر، فلما توفيت زينب رضي الله عنها علمن المقصود من الحديث، وأن معنى قوله: (أطولكن يداً) أي: في الصدقة، وكانت زينب رضي الله عنها أكثر نساء النبي صلى الله عليه وسلم صدقة.
إذاً: مبادرة هذا الجيل للعمل بمفهوم الآيات والأحاديث كان يدل على عظم الإيمان في قلب أولئك.
لا تعرض قول النبي صلى الله عليه وسلم للجدل، لاسيما إن كنت تجادل عن غير بينة أو أصول، وإلا فتناظر العالِمَين على مقتضى الأصول المعروفة في سبيل الوصول إلى الحق فيه مصلحة ومفسدة، حتى لا يقال: إن المناظرة أو المناقشة منهي عنها بإطلاق لا، إن لم تكن عالماً بأصول المناظرة والمناقشة -أي: أصول ما تتكلم به- فاعلم أن هذا الكلام كله داخل في باب الجدل المقيت.
أما قول الله عز وجل: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] فالمقصود أنك إذا سمعت قولاً للنبي عليه الصلاة والسلام فتسلم به تسليماً، بحيث لا يترك حرجاً في القلب.
جاء في سنن الترمذي بسند صحيح أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (توضئوا مما مست النار)، وهذا كان في أول الإسلام: أن أي إنسان يأكل أو يشرب شيئاً مسته النار يُحدث وضوءاً جديداً.
ثم نسخ هذا الحكم بعد ذلك، كما في حديث جابر بن عبد الله الأنصاري وغيره: (كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار).
فـ أبو هريرة سمع الحديث الأول ولم يسمع النسخ، فصار يفتي بوجوب الوضوء على من أكل شيئاً مسته النار.
فدارت بينه وبين ابن عباس هذه المناظرة: قال ابن عباس: يا أبا هريرة! أتوضأ من طعام أجده في كتاب الله حلالاً؟ أي: لا يمكن أن آكل اللحم نيئاً، لا بد أن يُطبخ، وهذا مما أحله الله لي، فما هي العلة في إفساد الوضوء، فـ ابن عباس يلزم أبا هريرة بالجدل العقلي.
كان أبو هريرة معه نص، وابن عباس معه فهمه.
ولذلك استنكر أبو هريرة أشد الاستنكار على ابن عباس مثل هذا.
فلما قال ابن عباس: يا أبا هريرة! أتوضأ من طعام أجده في كتاب الله حلالاً؟! أفلا نتوضأ من الحميم؟! يعني: ألا يجوز الوضوء بالماء الساخن والاستحمام بالماء الساخن، وهذا لا شك أن النار مسته، فكيف إذا توضأت بماء مسته النار هل أعيد الوضوء أيضاً؟! فأمسك أبو هريرة حفنة من الحصى وقال: أشهد بعدد هذا الحصى أنني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (توضئوا مما مست النار)، يا ابن أخي! إذا حدثتك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فلا تضرب له الأمثال، اتهم معرفتك، اتهم فَهمك؛ لكن لا تتهم هذا الحديث.
هكذا كان توقيرهم! وكذلك سمع أبو هريرة رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم ينهى المحرم عن التطيب.
ثم إن عائشة رضي الله عنها قالت: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله وإحرامه جميعاً) وهذا واضح أنه معارض لحديث أبي هريرة، فما وصل أبا هريرة هذا الحديث الذي حدثت به عائشة.
فقيل له في ذلك، فقال: (لأَن أطلى بالقار -الذي يطلى به الجربان - أحب إلي من أن أمس طيباً وأنا محرم).
أيها الإخوة! هناك فرق بين الذين قاتلوا على آيات القرآن الكريم وبين الذين ورثوا القرآن الكريم، وهناك فرق كبير بين الذي عانى وعرض لكل أنواع المهانة في سبيل تبليغ آية من آيات الله عز وجل وبين الذي ورث القرآن الكريم وراثة؛ الأول كالرجل المكافح الذي يكون ثروته من عرق جبينه وتعب الأيام والليالي، هذه الثروة غالية جداً على نفس الرجل؛ لأنه كونها بكل ذرة من كيانه، بخلاف الذي يرث، فإنه يمكن أن ينفق كل هذه الأموال الطائلة في أسبوع واحد، والتي ظل يجمعها والده عشرات السنوات، ولذلك قال الله عز وجل عن بني إسرائيل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف:169] يفرط في آيات الله عز وجل ويحرفها لأجل الدينار والدرهم، ثم يقول: أنا سيغفر لي، فإذا تأملت قوله عز وجل: (ورثوا الكتاب) علمت أن هؤلاء لا يختلفون عن الذين نزلت عليهم التوراة.
فكذلك الصحابة رضوان الله عليهم وراء كل صحابي قصة طويلة دامية في سبيل الإسلام، فهؤلاء كان إحساسهم بالنص الشرعي بخلاف حال المسلمين الآن.(47/2)
صور من ورع السلف وزهدهم في المباحات
نحن نجد الآن من يرى ورع الصحابة داخل في جملة التنطع، يقول: هذا ورع! والورع لا يثبت حكماً.
فنقول له: دعنا الآن من هذه القاعدة الفقهية، لماذا تزري بهؤلاء وبورع هؤلاء؟ يذكر أن امرأة قالت لولدها: افتح لي نصف الباب.
فقاس الولد طول الباب بالشبر، فوجده ستة أشبار، ففتح الباب ثلاثة أشبار؛ لأنها قالت له: افتح لي نصف الباب، فخاف إن فتح أقل أو أكثر أن يقع في جملة الكاذبين.
فهل نقول: إن هذا تنطعاً؟ لِمَ تعده تنطعاً؟ هب أنني فتحت أكثر من النصف هل سأكون آثماً شرعاً؟ لكن لا تزري على أمثال هؤلاء.
باب الورع واسع جداً، وقد ضرب أسلافنا بفهم واسع في هذا الباب.
جاء في سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي في ترجمة الإمام العلم المفرد وكيع بن الجراح أن رجلاً سبه، فدخل وكيع داره، ومرغ أذنه بالتراب، ثم خرج على الرجل الذي شتمه، وقال له: زد وكيعاً بذنبه، فلولاه ما سلطت عليه.
أي: هو لا يلوم الرجل؛ لأنه يعتبر نفسه هو المذنب، وما ذلك إلا من سوء المعصية، فكان أن مثلك يتجرأ عليَّ فيسبني.
وجاء في ترجمة عبد الله بن وهب، الإمام العَلَم المفرد المفتي، وهو تلميذ الإمام مالك رحمه الله أنه قال: نذرت أني كلما اغتبت إنساناً أصوم يوماً -يريد أن يكف عن الغيبة ويؤدب نفسه- قال: فكنت أغتاب وأصوم، فأزهدني الصوم، فنذرت أنني كلما اغتبت إنساناً أن أتصدق بدرهم، قال: فمن حبي للدراهم تركت الغيبة.
هذا نوع من الأدب والسلوك كان أسلافنا يفعلونه مع أنفسهم لبلوغ درجة أعلى من درجة الورع، فهم يرتقون في المستحبات، ونحن في واد آخر، هم يرتقون في الصدقة والتطوع، وصيام الإثنين والخميس، ونحن لا يزال البعض منا يجاهد نفسه بالقيام بالواجبات، وإذا ذكرته بحديث للنبي صلى الله عليه وسلم يرفع من درجته في الجنة، ويبعده عن النار استهزأ به، وهذا لا يمكن أن تجده إلا في رجل مقصر في الواجبات حقيقةً.
فمثل هؤلاء يرون ورع هؤلاء المتقين داخلاً في باب التنطع، ويرونه من التشديد، ويقولون: الدين يسر.
مثلاً: يذكر عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله أنه جاءه رجل فقال: قد سرقت شاتي.
فذهب الإمام أبو حنيفة إلى راعي غنم وقال له: كم أقصى عمر تعيشه الشاة على الأرض؟ فقال له -مثلاً-: عشرين سنة.
فحرم على نفسه أكل لحوم الشياة عشرين سنة لماذا؟ لأنه قد يأكل من لحم الشاة المسروقة، فما يريد أن يدخل إلى بطنه إلا حلالاً صِرْفاً، مع أنه لو اشترى وأكل فليس عليه شيء.
هؤلاء الأئمة لا ينظرون بهذه النظرة، فـ أبو حنيفة رحمه الله -وهو أحد الأئمة المجتهدين الكبار- لا تغيب عنه مثل هذه الحقيقة أو الحكم الفقهي حتى يحرم على نفسه أكل لحوم الشياة عشرين سنة، وهذا يدخل في باب الورع.
نحن ننظر إلى هؤلاء السلف نظرة إعجاب وتقدير! وحالهم كحال النبي عليه الصلاة والسلام عندما كان يمشي في الطريق فرأى تمرة على الأرض فقال: (لولا أنني أخشى أنها من تمر الصدقة لأكلتها) أي: إنني لا أدري على وجه اليقين هل هي من تمر الصدقة أم لا؟ فهي مجهولة الحال بالنسبة لي.
فالنبي عليه الصلاة والسلام هو سيد المتقين، وكلهم أخذ منه عليه الصلاة والسلام.
جاءت أخت بشر الحافي إلى الإمام أحمد وقالت له: بينما أنا أغزل إذ مر حرس السلطان بمشاعلهم -يعني: ذاهبون إلى قصر السلطان- قالت: أيحل لنا أن نغزل في ضوء هذه المشاعل؟ فقال لها: من أي بيت أنتم؟ قالت: من بيت بشر الحافي.
فبكى الإمام وقال: من بيتكم يخرج الورع الصادق، لا تغزلي في مشاعلهم.
لا يتصور أن أحداً يقول: لا تغزلي في مشاعلهم، والغزل في مشاعل هؤلاء حرام.
نحن الآن لا نتكلم عن الحرام.
نحن نتكلم عن باب واسع جداً اسمه: باب الورع الذي لا حد له ولا نهاية، بل على حسب دينك تجد الورع، كلما ولجت في هذا البحر تجده يتسع جداً أمامك.
امرأة فاضلة من العالمات، وهي عاتكة الكوفية كانت تسكن مكة، فظلت ثلاثين عاماً لا تأكل الفواكه ولا اللحوم التي تأتي من بلد من البلدان لماذا؟ لأنها علمت أن أهلها لا يورثون الغنائم، فلم تأكل، وكذلك أخوها نور الدين ما كان يأكل أبداً من ثمار المدينة لماذا؟ لأنه علم أن أهلها لا يؤدون الزكاة، مع أنه لو أكله لا يقال: إنه آثم شرعاًَ؛ لكن هو من باب الورع الواسع جداً.
وكذلك الإمام النووي رحمه الله ظل طيلة عمره المبارك -ومات وعمره خمس وأربعون سنة، وبلغ مبلغ الاجتهاد المنتشر في مذهب الإمام الشافعي- لا يأكل من ثمار دمشق، فيُسئل عن ذلك، فقال: هي كثيرة الأوقاف.
أي أن هذه البساتين أكثرها كلها وقف، فأخشى أن يدخل بطني من هذه الأصناف التي لا تحل لي.
ولذلك هؤلاء الناس سادوا، والله تبارك وتعالى بارك في أعمارهم، نجد -مثلاً- حجة الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول عنه ابن القيم في كتاب "الوابل الصيب من الكلم الطيب": وكان شيخنا -قدس الله روحه ونور ضريحه- يكتب في ليلة ما ينسخه الناس في الجمعة، أي: يكتب في الليلة الواحدة ما لو أردتُ أنا أن أنسخ وراءه أظل أسبوعاً كاملاً أنقل ما كتب، مع أن الذي يصنف يريد أن يركز ويجمع أدلته، ومع ذلك تجده يكتب في ليلة ما ينسخه الناس في جمعة.
فترى أن هؤلاء العلماء بارك الله عز وجل في أعمارهم، لكن انظر أنت الآن وفكر بعد أن ترى مثل هذه الأمثلة وراقب وانظر إلى حال المسلمين الآن.
هل هناك فرق بين هؤلاء وبين أولئك؟(47/3)
الاختلاف في الفروع لا يفسد للود قضية
إن البعد عن التمسك بالنصوص الشرعية يكلف المسلمين تكليفاً باهضاًَ جداً، فتجده يتعصب لجهله ولا أقول لعلمه، فإن لدينا من الضعف والهوان أضعاف ما أوتي أسلافنا من الجد والقوة، فقد كانوا يتفاضلون بالعلم ونحن نتفاضل بالجهل، كان يقال: فلان أعلم من فلان، نحن الآن نقول: فلان أقل جهلاً من فلان، فمن مصائبنا ترك التعلم، وسبب وجود الفئات المنحرفة عن الكتاب والسنة هو ترك التعلم والتعصب للجهل، ولا أقول: التعصب للعلم؛ لأن التعصب للعلم خير، ويدخل في ذلك المجتهد، فإنه نظر في الأدلة الشرعية فيثبت على ما يعتقد أنه الحق، وهذا لا يُلام.
كان ابن حزم في الأندلس يذهب إلى اجتهادات يخالف فيها الكتاب والسنة، وكان يرى أنه على حق وأن مخالفه على خطأ، فكان إذا علم أنه على الحق جهر بالحق، فهذا هو التعصب للعلم.
وفي مثل هذا يقول ابن حزم: قالوا: تجمَّل فإن الناس قد كثرت أقوالهم وأقاويل الورى محنُ أي: لا داعي أن تجهر بما تعتقد جهاراً نهاراً، لكن تجمل وتلطف بلسان الحق الذي تعتقده.
فقلت: هل عيبهم لي غير أني لا أقول بالرأي إذ في رأيهم ثمنُ أي: فساد.
وأنني مولع بالنص لست إلى سواه أرنو ولا في نصره أهن لا ضيفين في صدري وفي كتبي ويا سروري به لو أنهم فطنوا دعهم يعضوا على صم الحصى كمداً من مات من قالتي عندي له كفن فهذا يعتقد أنه على الحق فلا يضره أن يجهر الآن بين المسلمين من يتعصب لبعض آرائه بالجهل، ولا أقول: بالعلم؛ لأن العلماء يسعهم الاختلاف، والجهال لا يسعهم الاختلاف، لذلك تجد المسلم إذا اختلف مع أخيه المسلم في مسألة فرعية يسيرة، ولست أقصد بقولي: (يسيرة) أنها يسيرة من جهة الشرع لا، أقصد أنها بالنسبة لمثيلاتها عند المتعصبين تعد يسيرة.
مثلاً: من يرى الضم بعد الركوع الثاني، أو يرى أن الوتر واجب، أو يرى القنوت في الفجر دائماً.
إن أولئك إنْ اختلفوا في مثل هذه المسائل الفرعية الكثيرة جداً، لعل بعضهم -وقد رأينا- يترك المسجد الذي يصلي فيه أخوه.
إذا رأيتَ رجلاً يسعه الخلاف شرعاً في المسائل الفرعية مع آخر؛ فاعلم أنه على قدر من العلم؛ لأنه يعذر هذا المخالف، لا يبدعه ولا يؤثمه، لاسيما إن كان الخلاف فيها معتبراً، أي: لا يجوز لك أن تبدع المخالف فيها؛ لأن للمخالف محمل ووجهة نظر معتبرة على أصل من الأصول، لأنه فهمها هكذا، وقد فهم بفهمه جماعة من العلماء السابقين.
هذا اسمه خلاف معتبر؛ مثل مسألة ارتداء النقاب الواقعة بين الوجوب والاستحباب، فلا يجوز لأحد أن يبدع الآخر فيه، لكن لو وجد من يرى حرمة النقاب، فإن هذا الخلاف لا يعتبر؛ لأنه جاهل، ولأنه لم يفت بهذه الفتوى أحد من المحدثين إطلاقاً، وإنما القول فيها واقع بين الاستحباب والوجوب، وهذان القولان معروفان عند العلماء.
وهذا الذي يرى حرمة النقاب يرى عدم حرمة أن تكشف المرأة عن فخذيها أو ساقيها أو نحرها أو صدرها، فهل رأيتم عالماً ممكن أن يتصور هذه الصورة؟! عندما ننظر الآن إلى عوام المنتسبين إلى هذه الدعوة المباركة، نراهم في خلافاتهم الفرعية وقد ضاق عقلهم، ولا يتحمل بعضهم بعضاً، فنحن نقول: إن هذا بسبب الجهل.
وأنا أذكر هنا أمثلة تبين هذه المواقف، وأن الاختلاف الفرعي لا يفسد للود قضية -كما يقولون-.
عندنا بعض المسائل اختلف فيها الصحابة رضوان الله عليهم، فالذي ذكرته آنفاً بين ابن عباس وأبي هريرة، اختلاف يسعه الشرع، طالما أن المختلف عالم، أو على الأقل أدنى ضوابط العلم أو بعضها موجودة عنده.
وهناك مثال آخر أخرجه أبو داود في سننه: قيل لـ ابن مسعود: (إن عثمان -رضي الله عنه أيام كان أميراً للمؤمنين، وكان أمير الحج- يصلي الظهر في منى أربعاً).
فـ ابن مسعود استرجع قائلاً: (إنا لله وإنا إليه راجعون) إن هذا خطأ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين، وصلى أبو بكر ركعتين، وعمر ركعتين، بل وعثمان أيضاً، في بداية خلافته صلى ركعتين، فما باله الآن يصلي أربعاً؟! فلما أُذِّن للصلاة؛ قام فصلى خلف عثمان أربعاً، فاستعظموا هذا الفعل منه، فقال لهم كلمتين اثنتين دلتا على عظم فقهه رضي الله عنه، قال: (الخلاف شر)، فنحن نفترض الآن أن جماعة قالوا برأي ابن مسعود وقالوا: لا، النبي عليه الصلاة والسلام لم يصلِّ أربعاً.
وأنت خالفت النبي عليه الصلاة والسلام، وخالفت أبي بكر وعمر، ألا فلا يصلى خلفه، من أراد أن يصلي اثنتين فليأتِ وراءنا فماذا سيكون حال المسلمين وقد انقسموا إلى فرقتين بين يدي الله عز وجل في أعظم شعائر الإسلام وهو الحج؟! كان رأي ابن مسعود ثاقباً، وهذه قضية متأصلة عند علماء الأصول: أن رأي المجتهد ليس بحجة على مجتهد آخر.
فمثلاً: الآن أبو حنيفة أفتى بفتوى، والشافعي أفتى بفتوى، لا يلزم الشافعي برأي أبي حنيفة؛ لأن الشافعي عالم مجتهد عنده أصول تمكنه أن يستنبط كـ أبي حنيفة تماماً، إنما يكون رأي المجتهد حجةً على مَن هو دونه من العوام؛ لأن العامي ليس عنده ملكة الترجيح ولا الاستنباط، فله أن يتبع رجلاً من المجتهدين.
فـ ابن مسعود رضي الله عنه رأى أن عثمان ما فعل ذلك لهوىً في نفسه، بل تأول، فقال لهم: (إن لي أهلاً بمكة) أي أنه أصبح مقيماً، فرأى أن القصر إنما يكون للمسافر، فقال: أنا لستُ بمسافر، فلِِمَ أقصر الصلاة؟ إذاً عثمان بن عفان فعَلَ هذا اجتهاداً منه، ووافقته عائشة رضي الله عنها في هذا الاجتهاد.
وكذلك ما رواه الإمام أحمد بسند فيه مجهول، أن أبا ذر الغفاري لما كان في الربذة، قيل له: (إن عثمان أتم، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون) وهذا يدل على خطأ الفتوى من وجهة نظره، ومع ذلك عندما أقيم للصلاة صلى خلفه ولم ينازع عثمان.
فانظر كيف أن خلافاً مثل هذا وسعهم.
ولو حدث هذا بل لو حدث أقل من هذا بكثير جداً في وقتنا لحدثت عليه مقاطعات وتشنيعات.
بل أنا أقول مثالاً أعظم من هذا: لما أراد عثمان بن عفان أن يجمع المصحف، قال لهم: (إن اختلفتم في شيء؛ فارجعوا إلى قراءة زيد بن ثابت؛ فإن القرآن نزل بلسان قريش) وقد كانت السور تكتب على الأوراق والعظام بغير ترتيب، أي بالترتيب الذي كان صلى الله عليه وسلم يقول فيه: (ضعوا هذه الآية في سورة كذا) وأقصد بكلمة (بغير ترتيب) أي: على غير الترتيب الموجود الآن.
فلما كانت العرضة الأخيرة في رمضان الأخير للنبي عليه الصلاة والسلام؛ جاء جبريل فعرض المصحف مرتين على النبي عليه الصلاة والسلام، فاستقر المصحف على ما هو عليه الآن، ولذلك تجد المصاحف السابقة مثل مصحف أبي بن كعب أن سورة الأنفال والتوبة سورة واحدة، وتجد سورة الفيل وسورة قريش سورة واحدة، للتقارب الشديد جداً بين السورتين؛ ولذلك بعض الأئمة كالإمام السيوطي له كتاب قيم جداً اسمه "تناسق الدرر في تناسب السور" بين فيه أن هناك علاقة قوية جداً بين كل سورتين متتابعتين، مثل سورتي الفيل وقريش؛ فإن قريشاً كانت لها رحلتان: رحلة الشتاء ورحلة الصيف، وكانت هذه كل تجارتهم، ولو انقطعت هاتان الرحلتان لماتوا من الجوع؛ ولو دخل أبرهة أرضهم لعاث فيها الفساد، فالله تبارك وتعالى يمتن على قريش أنه أهلك أبرهة وجنوده، وجعلهم كعصف مأكول: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} [قريش:1] أي: لأجل أن تظل الألفة بين قريش.
فـ عثمان بن عفان لما حدثت المعركة المشهورة التي قتل فيها القراء خشي أن يضيع القرآن بموت الحفظة، فأحب أن يجمع القرآن، فجعل لكل آية شاهدي عدل.
فقال: (إن اختلفتم في شيء؛ فارجعوا إلى قراءة زيد بن ثابت؛ فإن القرآن نزل بلسان قريش) وأمر عثمان بإحراق جميع المصاحف ما عدا المصحف الجامع الذي يسمى الآن بالمصحف العثماني نسبة إلى عثمان رضي الله عنه.
فماذا كان موقف ابن مسعود؟ قال: (والله لا أحرق مصحفي، أأنا أرجع إلى قراءة زيد؟ فوالله لقد أخذت سبعين سورة من فم النبي صلى الله عليه وسلم أقرأها عليه، وإن زيداً له ذؤابتان يلعب مع الصبيان) أي: أن زيداً كان لا يزال يلعب مع الصبيان، فأنا الذي أرجع إليه أم هو الذي يرجع إلي؟! وأبى أن يحرق مصحفه.
فقال عثمان: (أيها الناس! من كان عنده مصحف فليلغه، فإن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161]) فقال ابن مسعود: أنا لا أرضى أن أقرأ بقراءة زيد.
فأجبره عثمان أن يترك الذي سمع من فم النبي عليه الصلاة والسلام، ولقد كان الذي مع ابن مسعود قرآناً، وأظن لو أن هذا حدث الآن لتقومن الأرض على قدم وساق، ولكن ماذا حدث في النهاية؟ لقد نزل ابن مسعود على رأي الجميع، وإنما هي حمية كان يراها في الخير، فإن كدر المجموع أفضل من صفو الفرد، لأن تتعكر وأنت مع إخوانك خير من أن تكون صافياً وأنت وحدك.
ولقد كانوا يأتون بالرجلين يشهدان للآية الواحدة، فلما جاءوا إلى قوله تبارك وتعالى في سورة الأحزاب: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23] الآية، ما وجدوها إلا عند خزيمة بن ثابت الأنصاري وحده، فقبلوها منه باعتبار أن شهادته بشهادة رجلين، كما في الحديث الذي رواه أصحاب السنن كـ(47/4)
إضاءات في طريق الصحوة الإسلامية
هذه الصحوة الإسلامية المباركة لابد لها أن ترجع، فتكون صحوة أثرية، ومعنى (صحوة أثرية): أن تكون صحوة بالنص، قبل أن تعمل شيئاً اسأل: ما حكم الله في هذه المسألة؟ لا تجعل حكم الله هملاً وقوله رأياً لا قيمة له، ولا يكون آخر ما تنظر إليه في المسألة هو قول الله عز وجل لماذا؟ كل خطوة تخطوها يجب أن تسأل نفسك قبل أن تخطوها: أهذا حلال أم حرام؟ يجب أن نتنبه له جيداً، لأن بعض الناس قد يقع في مثل هذا، فإذا قلت له: إن هذا حرام.
يقول لك: لم أكن أعلم بذلك فما الذي جعلك لا تدري؟! وما الذي جعلك تقدم قبل أن تعرف قول الله تبارك وتعالى في المسألة؟ إذاً: هذه الصحوة تحتاج إلى هذا الضابط: وهو أن تتعلم حكم الله تبارك وتعالى في المسألة، وهل أذن الله عز وجل لك بهذا الفعل أم لا؟ جاء في ترجمة بهلول بن راشد، وهو أحد تلاميذ الإمام مالك رحمه الله تعالى أنه أدمى إصبعه، فلفها بقماش حتى لا تنزف.
ولماذا ذهب إلى الصلاة، نزع القماش من على هذا الأصبع ثم صلى، وظل قابضاً على هذه الإصبع لماذا؟ خشي أن يقتدي به الناس؛ لأنه في محل قدوة، وإنما فعله لشبهة عارضة، فأخبأ إصبعه حتى لا يقتدى به في المسألة، ولم تطب نفسه حتى أرسل إلى أحد أقرانه يسأله عن فقه هذه المسألة.
فروى بسنده عن عبد الله بن عمر أنه كان يصنع ذلك، قال: الحمد لله الذي جعلني على سنة.
الشاهد: أنه لما أتته أشكلت عليه هذه المسألة نظر فيها: هل هناك فيها نص يرجع إليه أم لا؟ يقول أبو زرعة الرازي رحمه الله: إن استطعت ألا تحك رأسك إلا بأثر فافعل -أي: حبذا لو كان عندك نص يبيح لك ألا تحك رأسك إلا بأثر الرأي مرج والحديث درج، فإن كنت في المرج فسر حيث شئت، وإن كنت في الدرج؛ فاحذر أن تزل قدمك فتندق عنقك).
يريد أن يقول بهذه الكلمة الحكيمة: الرأي مرج: المرج هو البحار الواسعة أو المكان الفسيح، طالما في المسألة رأيي ورأيك، فالمسألة واسعة جداً، سر يميناً أو شمالاً، لأن الآراء لا تحد، ولا ترجع إلى نص.
والحديث درج: الدرج هو السلم، أي: التزم بالنصوص الشرعية.
إن كنت على الدرج فاحذر أن تزل قدمك فتندق عنقك، أي: إن كنت تمشي على مقتضى النصوص الشرعية؛ فاحذر أن تفهم خطأً، فتحرم الحلال أو تحل الحرام هذا معنى (فتندق عنقك).
فهؤلاء كان التزامهم بمثل هذه النصوص الشرعية التزاماً مطلقاً عالٍ جداً، وهو الذي جعلهم في هذه السعادة الغامرة، والصلة العامرة بالله تبارك وتعالى.
هذا الالتزام المطلق هو الذي يعطيك الفهم الواعي المطلوب، وهذا ما تنشده الصحوة الإسلامية الآن وهو: تقوية وازع الضمير، وتقوية جانب الورع في نفوس المسلمين.
روى الإمام أحمد في كتاب الزهد قال: (حدثني سفيان بن عيينة قال: قال رجل لـ مالك بن مغول: اتقِ الله.
فوضع خده على الأرض).
هذا معنى: اتقِ الله.
نحن الآن نقول: اللهم اجعلنا من المتقين.
ثم نستمر في المخالفات الشرعية، وهذا يدلك على أنها مجرد كلمة ما مست شغاف القلب.
عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه اعتبر خامس الخلفاء الراشدين كما قال الإمام الشافعي، جيء إليه بقوارير العطر من الأمصار، وكان من بينها المسك، وأنت تعلم أن المسك له رائحة فواحة جداً، ولذلك كان يضرب به المثل في الأحاديث، فيقال: (أطيب من ريح المسك) والمسك الحقيقي مسك بعيد جداً عن هذا المسك، فالمسك الطبيعي فواح جداً، فلو أغلقت زجاجة المسك فإنك تشم رائحته.
جيء بقوارير المسك ووضعت أمام الناس، فدخل عمر بن عبد العزيز يستقل هذه البضاعة، فأول ما دخل سد أنفه.
قيل: يا أمير المؤمنين! هذا ريح! فقال: وهل يستفاد منه إلا لريحه؟! فانظر إلى مثل هذه المواقف، ثم انظر إلى الذين يتلبسون -لا أريد أن أقول: في المحرمات- على الأقل بالشبهات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الشيخان: (الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه ولعرضه، ومن حام حول الحمى كاد أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه).
انظر إلى هذا الحديث الجامع المانع، قسم لك الأشياء الموجودة في الأرض إلى ثلاثة أقسام: - حلال محض.
- حرام محض.
- ثم بينهما مرتبة تتردد ما بين الحل والحرمة.
فأما الحلال المحض فالكل يعرفه.
والحرام المحض أيضاً الكل يعرفه، وإن أظهروا الجهل وأنهم لا يعلمون.
قال بعض العلماء: وكيف لا يعلم الإنسان الحلال المحض من الحرام المحض، والحيوان يعلم به؟ قيل له: وكيف ذلك؟ قال: انظر إلى الهر -مثلاً- إذا أخذ قطعة اللحم منك فإنه يجري هارباً، لا يستطيع أن يأكلها بجانبك، أما إذا أعطيتها له يأكلها بجانبك.
الهر يميز ما بين الحلال وما بين الحرام، وابن آدم لا يستطيع أن يميز!! بعض علماء الأصول يقول: إن الشبهة من باب المباح؛ لأنها ليست بمحللة ولا محرمة، إنما هي داخلة في باب المباح، ومعروف أن باب المباح أقرب إلى الاستحباب والحل منه إلى الكراهة والتحريم.
والإكثار من المباحات بابه واسع، فقد تجد الإنسان يأكل كثيراً فيأكل أي شيء وبأي ثمن، لكن تعوده على هذا المباح وإكثارك منه يدخله في باب الكراهة والتحريم، وهو وسيلة لمخالفة نص شرعي آخر؛ وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه)، فهذا من باب الاستحباب.
ثم قد يورث هذا عنده البطر، حيث أنه لا يرضى إلا بهذا المستوى من العيش، ونحن قد وجدنا كثيراً من الناس أكثروا على أنفسهم في المباحات، وعندما ضاقت عليهم أحوالهم أبوا أن ينزلوا عن المستوى الاجتماعي الذي كانوا يعيشون فيه، مما اضطرهم بعد ذلك إلى ارتكاب الحرام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن اتقى الشبهات؛ فقد استبرأ لدينه ولعرضه، ومن حام حول الحمى -أي: ظل يقتحم الشبهات بدعوى أنها مباحة- كاد أن يقع فيه).
ما هو الحمى؟ محارم الله.
إذاً: فإكثارك من المباح باب إلى المكروه الذي هو باب إلى الحرام في النهاية.
وانظر إلى أي إنسان تمسك بالمباح وأسرف فيه، فإنه لا بد أن يقع في الحرام.
فالذين يقولون: إن الشبهة من باب المباح أخذوا هذا من قوله عليه الصلاة والسلام: (فمن اتقى الشبهات) قالوا: لو كانت من باب الحرام لما خير المكلف فيها، فقالوا: هي من باب المباح.
ولو سلمنا جدلاً أنها من باب المباح، علمنا أن الإسراف في المباح مدعاة للوقوع في المكروه، وإذا اقتحم الإنسان أبواب المكروه قل إحساسه بالحرام.
انظر إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي أخرجه الشيخان: أن رجلاً باع لرجل أرضاً، فبينما هو يحرث فيها يوماً، ويضرب فيها بفأسه، إذ ارتطمت سن الفأس بحجر، فلا زال يبحث حتى وقع على ذهب كثير، فأخذ الذهب وذهب إلى صاحب الأرض.
قال له: خذ ذهبك، فإنما اشتريت منك الأرض دون الذهب.
فقال له الرجل: إنما بعتك الأرض بما فيها، فلا آخذ الذهب.
خذ ذهبك.
فاختلفا، فمر بهما رجل فقالا: نحتكم إلى هذا الرجل.
فقال الرجل: ألكما ولد؟ قال: نعم.
لي غلام.
وقال الآخر: لي جارية.
قال: فأنكحا الغلام الجارية، وأنفقا عليهما الذهب.
فهذا الرجل من ورعه لا يرى أنه اشترى الذهب.
وحدث في زمن التابعين: أن رجلاً باع لرجل داراً، وهذه الدار كانت على الطريق، وفي إحدى الأيام مر صاحب الدار القديم من أمام داره، وكاد حر الشمس أن يهلكه، فمر على داره السابقة، فصعد بجانبها الذي في الشمس، فخرج إليه صاحب الدار الجديد فقال له: يرحمك الله لم تقعد هنا؟! قال: إنما بعتك الدار، وظلها ليس ملكاً لي.
كما قلنا: باب الورع واسع جداً، لا يحده حد، بل لو أراد هذا أن يتورع أكثر من هذا لاستطاع، كل هذا بشرط ألا يخالف حكماًَ شرعياً، فلو خالف الورع حكماًَ شرعياً كان المتورع آثماً، بل يكون الورع فيما لم يرد فيه نص خاص بمخالفته.
كأن يكون هناك رجل يمشي في صحراء، ثم أدركه الجوع والعطش، فرأى خنزيراً -مثلاً- فيقول: أعوذ بالله، لقد حرم الله الخنزير، فأنا لا آكله، أنا أفضل أن أموت على أن آكل الخنزير.
هذا لو مات -كما قال سفيان الثوري - لدخل النار؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} [المائدة:3] أي: في مجاعة {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} [المائدة:3] أي: غير ملابس إثماً شرعياً، فلا إثم عليه، وهذا كله بعد قول الله تبارك وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ} [المائدة:3] إلى آخر الآيات.
إذاً: هذا الرجل في محل ضرورة شرعية، فلا بد أن يأكل، وإن تعفف عن رخصة الله تبارك وتعالى له فإنه معرض عن حكم الله -عز وجل- في المسألة، فهذا إن مات فقد قتل نفسه والعياذ بالله.
إذاً: باب الورع واسع جداً؛ لكن هذا كله مشروط بأن لا يخالف ورع هذا الإنسان حكماً شرعياً.
نحن نحتاج إلى هذا الباب، وهذا الباب -بطبيعة الحال- لن يأتي إلا إن استوفيت الواجبات، ثم حرصت على المستحبات فاستوفيتها، ثم دخلت في باب المباحات؛ فإنك إن فعلت ذلك فقد اقتربت جداً جداً من باب الورع.
وهذا جواب سؤال على الذين يقولون: إننا نحاول كثيراً أن نجبر أنفسنا على بعض ما كان الصحابة يفعلونه من مثل هذه النماذج التي سردتها عن بعض الصحابة والتابعين، فنفشل فشلاً ذريعاً، فما الذي يجعلنا نخفق هذا الإخفاق الذريع؟ يقال: يا أخي! انظر! هل استوفيت الواجبات؟ وبعد أن تستوفي الواجبات؛ انظر! هل دخلت في المستحبات بجهد وافر؟ ولا أريد أن أقول لك: هل استوفيت المستحبات؛ فإن استطعت بعد ذلك أن تستوفي المستحبات فإنك لن تسألني هذا السؤال، أو أنا لن أسأل غيري هذا السؤال، لماذا؟ لأنك اقتربت قاب قوسين أو أدنى من باب الورع الواس(47/5)
الأسئلة(47/6)
معنى الشهادتين
السؤال
ما معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟
الجواب
هذا يحتاج إلى محاضرة خاصة؛ لأن المعنى باختصار شديد: لا معبود بحق سوى الله، يعني: لا شريك له في العبادة، والنبي صلى الله عليه وسلم لا شريك له في الاتباع.
فالشهادتان فعلاً تحتاج في شرحهما إلى عدة محاضرات؛ لأن عصب الدعوة الإسلامية يكون في تحقيق هذه الكلمة تحقيقاً عملياً، وكيف حققها المسلمون الأوائل! وكيف انحرف عنها المسلمون المتأخرون! حيث إننا نجد أن فهم بعض المشركين لكلمة "لا إله إلا الله" كان أفضل من فهم جماهير المسلمين الآن لكلمة "لا إله إلا الله" ولذلك قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم القتال الشنيع العنيف لأجل ألا يقولوها، كان يقول لهم: (قولوا (لا إله إلا الله) أضمن لكم بها الجنة)، فأبوا أن يقولوها، فالمسألة إذَنْ ليست مسألة قول، هم يعلمون أنهم إن قالوا: (لا إله إلا الله) خلعوا الأنداد وخلعوا السلطان، وانتُزع منهم كل شيء من زينة الحياة الدنيا بمجرد أن يقولوا: (لا إله إلا الله)، {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57] يعني: لم يعد هناك سلطان ولا هيلمان ولا هيمنة، فلذلك قاتلوا دون الاعتراف بها أشد القتال، وكان يمكن أن يقولوها ويتخلصوا من جميع الحروب التي قاتلوا فيها النبي وأصحابه، لكن المشركين كانوا يفهمون معنى "لا إله إلا الله" أكثر من كثير من المسلمين الآن.
نسأل الله تبارك وتعالى أن ييسر لنا محاضرات أخرى إن شاء الله؛ لكي نستتم الكلام فيما يتعلق بتحقيق "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله"، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وسلم.(47/7)
حكم توجه المرضى النفسانيين إلى الأطباء النفسانيين
السؤال
ما قولكم في توجه المرضى النفسانيين إلى الأطباء النفسانيين؟
الجواب
بالنسبة لتوجه المرضى النفسانيين إلى الأطباء النفسانيين فنقول: إن معظم أطباء النفس يحتاجون إلى طبيب نفساني؛ لأنهم أيضاً مرضى، يذهب إليه الشاب يقول: أنا متعب.
- فيقول له: أأحببت قبل هذا؟ - يقول له: لا، أبداً، ما لي أي تجربة.
- يقول له: حاول تجرب.
أسمعت موسيقى؟ - لا.
- حاول تسمع موسيقى، لاسيما الموسيقى الكلاسيكية -مثلاً- من الساعة الثانية عشرة إلى الساعة الواحدة.
هؤلاء الناس يحتاجون إلى طبيب يعالجهم؛ لأنهم مرضى فعلاً.
لذلك ننصح أي مريض مرضاً نفسياً إن كان لا بد ذاهباً فليذهب إلى طبيب نفساني تقي، يأخذ بيده إلى الله تبارك وتعالى؛ لأن الله عز وجل هو الذي سلبه النعمة، وهو الذي يرجعها إليه وحده تبارك وتعالى لا إله غيره، فأنت تذهب وتلتمس لعبدٍ مثلك، يمكن أن يكون هو مريض نفسياً، أنا أعرف أطباء مرضى نفسيين.
يا أيها الرجل المعلم غيرَه هلاَّ لنفسك كان ذا التعليمُ تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى كيما يصح به وأنت سقيمُ ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيمُ فهناك يُسمع ما تقول ويقتدى بالقول منك وينفع التعليمُ لا تنهَ عن خُلُق وتأتي مثله عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ هؤلاء الذين يعانون من أمراض نفسية علاجهم -وهذا علاج مجرب- الصحبة الصالحة، يلغي كل هذه المعارف من حياته، ويعطيه الجرأة أن يقاطعهم ويخاصمهم لا، لا يستأمنهم على قلبه، وعليه بمصاحبة الأتقياء.
صاحبك من إذا ذكرتَ الله أعانك، وإن نسيتَه ذكَّرك.
هذا هو صاحبك، فالمشكلة من جذرها هو البُعد عن الله عز وجل بأي صورة كانت، ولو نظرت إلى أي رجل في حياته ذنب عظيم فهو الذي جعله ينطوي هذا الانطواء.
فالعلاج: أن يرجع وأن يصحح هذه الصحبة.
ثم يقول لصاحبه: أنا مريض، أنا مكتئب، أنا أحسست -مثلاً- أن الله لن يغفر لي؛ لأنني فعلت كذا وكذا وكذا، فيتلو عليه من آي الذكر الحكيم ما هو شفاء لما في صدره، ومن حديث النبي صلى الله عليه وسلم ما يرغبه في الآخرة، ويجعله يجزم أن الله تبارك وتعالى بحسن ظنه سيتجاوز له عن ذنبه، هنا يأتي العلاج وشفاء الصدر.
أما أن يطرق باب الطبيب النفساني الذي يحتاج هو نفسه إلى طبيب نفساني، فهذا كالمستجير من الرمضاء بالنار.
أتفر من الذي يرحمك إلى الذي لا يرحمك؟ هذا غير معقول! هذا دجال، ويريد أن يستحوذ أيضاً على ماله.
ثم إن هذا الدجال الذي تستعين به -مثلاً- يستعين بالجن.
بعضهم يقول: جني صالح.
فأقول له: وما أدراك أنه صالح؟ أتأخذ دعوى الصلاح من فم الجني نفسه؟ الساحر أكفر رجل في الأرض، ويقول لك: أنا أعبد إنسان في الأرض، وكل ضال في الأرض يظن أنه على هدىً مستقيم.
فالمعروف أن الجني لا يريد للإنسان خيراً، ومعروف أنه ليس لك عليه سلطان؛ بل العكس: قد يكون له عليك من السلطان ما ليس لك عليه، ومصداق ذلك قوله عز وجل: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] هل هناك شخص يجعله الجني مستقيماً؟ طبعاً لا، هل سنصنع مثل ما صنع المفتي، الذي ذهب ليأخذ الفتوى من محافظ البنك المركزي فقال له: - أنت تتعامل بالربا؟ فقال له: أبداً يا سيدي، نحن نتعامل بالربا! فقال: يكفي يا جماعة، هذا الرجل يقول أنه لا يتعامل بالربا.
فهذا يقول للجني: أنت مؤمن؟ - يقول له: نعم، أنا مؤمن.
- إذاً أنا أتعامل مع جني مؤمن.
طيب فما أدراك أيضاً أنه مؤمن؟ يقول: بدليل أن الجني غير المؤمن يتكلم كلاماً سافلاً.
نحن أيضاً يمكن أن نقول هذا الكلام، وكما يقول الله عز وجل على لسان الجن: {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} [الجن:11]، فيهم الشيوعي، والكافر، والنصراني، والمنافق كالإنس تماماً، فهذا الرجل عندما يقول: أنا مؤمن، ما أدراك أنه مؤمن؟ واعلموا أن هؤلاء الذين يتعاملون مع الجن لا يمكن أن يسخروا الجن إلا بعد أن يكفروا؛ لأن الجني لا يمكن أن يخدم أحداً من الإنس إلا إن طلب منه: ألا يصلي، وأن يضع المصحف في دورة المياه، وأن يعمل عملاً نجساً فيأتي بأوراق المصحف فيضعها في دورات المياه، ويقول: إن فعلتَ ذلك أنا تحت أمرك، أعمل كل شيء يخطر ببالك، وهناك كثيرون جداً ممن كتب الله تبارك وتعالى عليهم الشقاء، يكون الجني تحت أمره، ولا يكاد يقول له قولاً إلا وجده كما قال، كأنه يعلم الغيب.
فهذا الجني هو الذي أعطى هذا الرجل هذه المعلومة، كما ورد عن الرسول عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيحين- فيما معنى الحديث: (إن الكهان يقذفون بالكلمة، فنجد فيها حقاً وباطلاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليسوا بشيء، إن الجني يأتي بالكلمة من الحق فيلقيها على أفواه الكهان فيخلطونها بمائة كذبة).
في عهد النبي عليه الصلاة والسلام كان الجني يصعد إلى علو السماء ويسترق السمع، ويعرف الأخبار التي في السماء الدنيا، فينزل يلقيها على أفواه الكهان، يقول: سيكون كذا ويفعل كذا، فتنزل الأقدار على نحو ما التقط الجني، فلما بعث النبي عليه الصلاة والسلام جعل الله تبارك وتعالى على السماء حراسة مشددة، قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات:10] أي واحد من الجن يسترق السمع ويضع أذنه على بابنا ويستمع؛ نرسل عليه شهاباً ثاقباً يقتله، فماذا يفعل الجن؟ يركبون على بعضهم، إلى أن يصلوا إلى باب السماء، فيأخذ الكلمة ويطير، ثم يذهب إلى الكاهن قبل صلاة الفجر، يقول: قل لفلان: ابق في مكان كذا وكذا، ولا تمش من طريق كذا؛ لأن ثمة شيء سيقع، وسيقع كذا في بلاد كذا.
يخرج إلى الناس في الصبح وفعلاً يجد هذا كما قال الكاهن تماماً، فيظنون أنه يعلم الغيب، وهذا لا يعد غيباً؛ لأن الغيب المطلق إنما يستأثر به الله تبارك وتعالى، فإذا قضى الله عز وجل أن فلاناً سيموت، فيُخبر ملك الموت أن فلاناً سيموت في وقت كذا، فملك الموت مع الملائكة الموكلين بقبض الأرواح يأخذون هذا الأمر ويبدءون بتنفيذ الأمر الإلهي في هذا الإنسان.
إذاًَ: طالما علم بالخبر ملَك أو أكثر لم يعد غيباً، فالغيب غيبان: - غيبٌ مطلق لا يعلمه أحدٌ إلا الله.
- وغيب نسبي: يعلمه بعض الخلق دون بعض.
فهو غيب بالنسبة لنا، وليس غيباً بالنسبة للملائكة، فيأتي هذا الجني فيلقي بهذا الشيء الذي لم يعد غيباً مطلقاً على أفواه الكهنة فيُحْدِث تناقضاً، فيمكن يقول لك: أنت مكتئب لأن فلان الفلاني مات.
- فتقول له: نعم.
- وقد صارت عندك حمى لمدة خمسة عشر يوماً.
- نعم.
فتجد أن أخباره صحيحة؛ لأن الجني زوده بها.
فما زال بك حتى يستحوذ عليك وعلى مشاعرك، فتتصور أنك إن ابتعدت عنه خطوة فلن تعالَج.
وأنه فعلاً أتى بالمرض من قراره كما يقولون.
فالإنسان يتشبث به، ويتصور أن الشفاء بيده، فلا يجوز الذهاب إلى هؤلاء العرافين؛ لأنهم دجالون؛ لا يملكون ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، والذي يملك هذا كله هو الله تبارك وتعالى.(47/8)
حكم لبس الثوب الأحمر
السؤال
ما حكم لبس الثوب الأحمر؟
الجواب
بالنسبة للُبس الثوب الأحمر، فلو أن إنساناً يلبس جلابيةً حمراء -أحمر بحت- لا يخالطها لون آخر، فهذا أقل درجاته الكراهة، للحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (رأى علي النبي صلى الله عليه وسلم بُرداً أحمر، فعلمتُ الكراهة في وجهه، فذهبتُ إلى أهلي، فجردته واقفاً ورميت به في التنور، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عن القميص الأحمر، فقلت: تيممت به التنور فسجرته -يعني: أحرقته- قال: لم لم تلبسها بعض أهلك؟! فإنه لا بأس للنساء).
إذاً: الثياب الحمراء البحتة مكروهة بالنسبة للرجال.
فإن قلتَ: فما قولك في الحديث الصحيح الذي قال فيه أحد الصحابة: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز وعليه حلة حمراء، فكان أجمل الناس)؟ فيقال: لعل الغالب عليه كان اللون الأحمر، ولا زال الناس يحكمون بالغالب.
الرسول صلى الله عليه وسلم عندما رأى الثوب الأحمر على عبد الله بن عمرو يقول عبد الله: فعلمت الكراهة في وجهه، فلا يتصور في وصفه عليه الصلاة والسلام أن يكره الشيء ثم يفعله، فلابد من هذا التأويل: أن هذا الثوب لم يكن ثوباً أحمر بحتاً، وإنما كانت تخالطه بعض الألوان الأخرى، فلم يكن كالذي كرهه النبي صلى الله عليه وسلم.(47/9)
حكم تأخير الأذان بعد طلوع الفجر الصادق بنحو نصف ساعة
السؤال
بالنسبة للفجر الصادق، لو قلت لرجل: إن الفجر الصادق هو قبل الأذان الذي يؤذن في الجمهورية عموماً بنحو ثلاثين دقيقة أو خمس وعشرين دقيقة، فهل هناك إثم علي؟
الجواب
أنت لا جناح عليك، لأنك لا تؤخره، ولا نستطيع الحكم ببطلان صلاته إلا إذا أقمنا عليه الحجة؛ لأنه قد تكلم في ذلك علماء وهم أعلم منك وأنت لست بعالم، أنا أتركها لشيخ الأزهر أو للمفتي.
أما إن علم الحق مثلاً، وأُقيمت عليه الحجة بحيث لم يبق له دليل أو لم يبق له أي علة يمكن أن يعتل بها؛ فحينئذ قد يترجح الحكم ببطلان صلاته؛ لأنه خالف الحجة بغير دليل.(47/10)
حكم اقتناء الصور
السؤال
هل أباح أبو حنيفة التصوير؟ وما حكم اقتناء الصور؟
الجواب
أنا لا أدري، ولا يحضرني النص عن الإمام أبي حنيفة أنه أباح الصور، وبالنسبة لاقتناء الصور، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون، الذين يضاهون خلق الله عز وجل، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم).
فذهب العلماء إلى أن الصور المذكورة في الحديث قسمان: - قسم لم يختلف العلماء في تحريمه وهو النحت، والمقصود بها التماثيل المجسمة التي يقول العلماء فيها: ليس لها ظل.
- لكن استثنى العلماء المحرمون للتصوير ما كان لضرورة كصورة البطاقة الشخصية، أو صورة الجواز، أو صورة البحث عن مجرمين، أو، أو إلى آخره، فكل الأشياء التي تدخل في نطاق الضرورة أباحوها تحت القاعدة المشهورة: (الضرورات تبيح المحظورات).(47/11)
تفسير قوله تعالى: (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) [الغاشية:7]
السؤال
ما هو تفسير قوله تعالى: {لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:7]؟
الجواب
{ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:7] أي: أنه يأكل فلا يشبع، ويشرب فلا يرتوي، فيظل دائماً يقول: أنا جوعان، أنا عطشان، أي: يأكل الزقوم باستمرار ويشرب ماء الحميم باستمرار، وهذا أدعى لعذابه، أي أن هذا لا يسمنه ولا يغني عنه جوعه، فتظل حاجته دائماً إلى الطعام والشراب.
أما بالنسبة لأهل الجنة -نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من أهلها وإخواننا المسلمين جميعاً- فإن جسوم أهل الجنة تختلف عن جسوم أهل الدنيا، فهذا الجسد يفنى بعد موت الإنسان وتظل الروح فقط؛ لأن الله تبارك وتعالى يوم قضى علينا أن ننزل في هذه الدنيا قال للروح: اركبي هذا البدن، فالبدن مركوب فقط لكي تمضي بك الحياة الدنيا، {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2]، وبعد أن يموت الإنسان ما عاد له أي حاجة من هذا الجسد، فهذه الروح ستذهب إلى الجسد الخاص بها إن كان في الجنة أو في النار.
ولذلك جاء في الحديث الصحيح: (أهل الجنة على طول آدم ستين ذراعاً) فكل أهل الجنة ستون ذراعاً، وعلى خلق آدم، جميعاً كنفسٍِ واحدة.
فهذا الجسد -الذي هو كجسد آدم- يناسب الخلود، لذلك لا يمرض، ولا يهرم، ولا يشيخ، ولا تصيبه العلل، وهذا يُفهم من قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فيؤتى بالموت على هيئة كبش فيُذبح بين الجنة والنار، فيُقال: يا أهل النار! خلود فلا موت، ويا أهل الجنة! خلود فلا موت).
فهذه الأبدان مركبة بشكل خاص بحيث تناسب الخلود، ولذلك في الحديث الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ضرس الكافر في النار مثل جبل أحد) إذا كان ضرسه فقط كجبل أحد، فما بالك برأسه ويديه ورجليه وكتفيه؟! فكل الموجودين في النار لهم أبدان تناسب النار، وكل الذين يدخلون الجنة -ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها- لهم أجسام تناسب هذا الخلود.
إذاًَ: لا نقيس ما نجده في حياتنا الدنيا الآن من الهرم والتعب وغير ذلك من الأشياء على الحياة الأخروية؛ لأن لها مقاييس تختلف تماماً عن مقاييس أهل الدنيا والله أعلم.(47/12)
حكم وضع اليدين على الصدر بعد القيام من الركوع
السؤال
هل ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضع يده على صدره بعد القيام من الركوع على أساس أنه يعد من القيام؟
الجواب
مسألة القبض بعد القيام من الركوع مسألة اجتهادية.
فالذين أفتوا باستحباب وضع اليمنى على اليسرى على الصدر بعد القيام من الركوع إنما أخذوه من عموم بعض النصوص الشرعية التي وردت في وصف صفة صلاته صلى الله عليه وسلم، كما في حديث وائل بن حجر وغيره: (أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا كان في القيام وضع اليمنى على اليسرى) فقالوا: القيام لفظ عام يشمل كل القيام، يشمل القيام الأول والقيام الثاني، فمن فرق بين القيامين فعليه بالدليل، وإلا فنحن متمسكون بهذا العموم.
هذا فحوى ما أجاب به الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز عالم السعودية المبجل -رحمه الله تعالى- وعليه تقريباً معظم البغداديين من العلماء الأفاضل الذين يرون جواز بل استحباب الضم بعد القيام من الركوع.
أجاب المانعون وفي مقدمتهم الشيخ العلامة ناصر الدين الألباني رحمة الله عليه وأسكنه فسيح جناته بأن هذا العموم لم يكن عليه عمل السلف الصالح، وجاء بالقاعدة التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه العظيم الذي نوصي كل مسلم باقتنائه والاطلاع عليه، وتدبره سطراً سطراً لأهميته في هذا العصر، وهو كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم".
ذكر في هذا الكتاب هذه القاعدة التي تقول: (إن العمل بأي جزئية من الدليل العام لم يكن عليه عمل السلف الصالح سبيل إلى الابتداع في الدين).
فأقول: ليس كلُّ عموم يُعمَل به، وإن كان السلف الصالح أعرض عنه، فهذا من أعظم القدح فيه.
فضرب -مثلاً- وقال: لا شك أنه لو دخل رجل إلى المسجد فوجد رجلاً يصلي تحية المسجد، وآخر يصلي تحية المسجد، وآخر يصلي تحية المسجد، وجد عشرةً -مثلاً- يصلون، قال: لماذا تصلون فرادى؟! لماذا لا نصلي هذه الشعيرة جماعة؟! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يد الله مع الجماعة)، وقال صلى الله عليه وسلم: (صلاة الجماعة تعدل صلاة الفرد بسبع وعشرين)، فلم يقل: فرضاً ولا نفلاً، وإنما قال: (صلاة الجماعة)، فلماذا نصلي فرادى؟! فقاموا جميعاً وصلوا تحية المسجد جماعة، فهل هؤلاء مبتدعون أم لا؟ مبتدعون بلا شك مع أن الأدلة العامة تعضد فعلهم، وهم لم يخرجوا عن الشرع، بل أتوا بأدلة عامة تقضي باستحباب صلاة الجماعة مطلقاً، وتحية المسجد صلاة، فهي داخلة! قال: الجواب معروف: أن هذا لم يكن عليه عمل السلف الصالح، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، ولو كان العمل ينهض به هذا العموم لبادر السلف الصالح إلى فعل هذا.
والذين نقلوا لنا أدق الحركات والجزئيات في صفة الصلاة، فنقلوا لنا حركة الإصبع، ونقلوا لنا أن أصابع القدم تكون متجهة في حالة السجود إلى القبلة، ونقلوا لنا أن الراكع يجب أن يكون ظهره متساوياً، بحيث لو وضعت قطرة ماء على الظهر لا تتحرك، ونقلوا لنا كيفية القبض بالكف على الركبة.
أفيغفلون هذا القبض الذي هو ظاهر جداً، على اعتبار أنه لو كان ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم بحيث لا يوجد نص خاص في المسألة يقول: إن الضم في القيام الأول دون القيام الثاني، ويُترك هذا للعموم؟ هذا غير ممكن! ثم هناك مسألة أخرى وهي قوية جداً، وهي: أن هيئات الصلاة لا يصلح فيها الاجتهاد ولا الاستنباط، إنما هي توقيفية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، فلا يجوز أن تستنبط هيئة بفهمك من النص، بل لا بد لكل هيئة من دليل قاطع.
فقالوا: اجتهاد مشايخنا من علماء الحجاز اجتهاد في فهم النصوص الشرعية، وهيئات الصلاة توقيفية تحتاج إلى أدلة خاصة تقوم بها.
فلذلك المسألة فيها -كما قلتُ- خفض ورفع.
لكن ماذا لو أنه لم يفعله؟ مثلاً: إن كنت أنا أنكر عدم مشروعية القبض، فهل هذا الإنكار يجعلني -مثلاً- لا أصلي خلف من يرى المشروعية، ولا أصافحه، ولا أسلم عليه لا، هو مقلد لأئمة مجتهدين علماء، وهؤلاء العلماء سواء أصابوا أم أخطئوا، فهذا بالنسبة إليك بمنزلة العامي مع المجتهد، فهؤلاء من تبعهم لا جناح عليه كما يقول الإمام الشافعي: قول المجتهد بالنسبة للعامي كالدليل بالنسبة للمجتهد.
انظروا إلى الكلام الجميل! أي: كما أنه لا يجوز للمجتهد أن يخالف الدليل، فلا يجوز للعامي أن يخالف قول المجتهد لماذا؟ لأن العامي سيخالف قول المجتهد بوجهين: إما بعلم الدليل المخالف، فلا يكون -كما قلنا- عامياً، وإما أن يكون أقل منه في العلم فلا يحل له أن يخالف قول العالم، وإلا كان متبعاً لهواه.
ولذلك العلماء يقولون: مذهب العامي مذهب مفتيه، أي رجل عامي من المسلمين أفتاه عالم بفتوى لا يجوز له أن يخالفها؛ بدعوى أن هناك عالم آخر أفتى بفتوى مضادة؛ لأننا سنقول له: اثبت لي أن القول الذي ذهبت إليه أرجح من القول الذي صرفته؟ ولن يستطيع بمستطيع حتى يلج الجمل في سم الخياط لماذا؟ لأنه من العوام، فَقَدْ فَقَدَ مَلَكَةَ التمييز والترجيح، فكيف له أن ينتقل من قول هذا المجتهد إلى قول مجتهد آخر إلا بداعي الهوى؟! فلذلك مثل هذه المسائل يكفينا فيها اختلافاً، وإن خاصمت أخاك لأجل مسألة فرعية بحيث أنك تهجره؛ فاعلم أن صرح الأخوة هش جداً بينك وبينه، ولو كان هذا الصرح قوياً لا يمكن أن يزول لا بهذه المسألة ولا بعشرين مسألة مثلها.
فمثل هذه المسائل نحن نبتعد عنها بمثل هذا النقاش.
والله أعلم.(47/13)
حصوننا مهددة من الداخل
تتعرض السنة النبوية المطهرة للمهاجمة من قبل أناس متأثرين بالشيعة والمستشرقين، فهؤلاء يحاولون التشكيك في صحتها، وذلك بطرح الشبهات، واختلاق التناقضات والمخالفات، وهذا قد يتأثر به كثير من أبناء المسلمين، وقد تنطلي عليهم هذه الأباطيل، فكان لزاماً علينا أن نعد أنفسنا ونربي أبناءنا التربية السليمة، الكفيلة بدفع هذه الشبهات وبيان زيف هذه الترهات.(48/1)
الهجوم على السنة
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد, وبارك على محمد وعلى آل محمد؛ كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
فدرسنا في هذا المساء بعنوان: (حصوننا مهددة من الداخل).
وأفتتح هذه المحاضرة بقول الله عز وجل: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32] نور الله عز وجل هو الذكر، قرآناً وسنة (يريدون أن يطفئوا نور الله) أي: حجة الله عز وجل على الخلق (بأفواههم) أي: بما يثيرونه من شبهات حول هذا الذكر، فالقرآن الكريم من جهة ثبوته لا يمتري أحد فيه، ولو شك أحد في ثبوت القرآن الكريم فهو كافر بإجماع المسلمين.
بقيت السنة من جهة الثبوت، فهناك المتواتر الذي أجمع العلماء على أن منكره كافر، لكن هذا المتواتر لا يشكل إلا قدراً يسيراً جداً بالنسبة لمجموع الأحاديث التي ثبتت عن النبي عليه الصلاة والسلام، فدخلوا من هذا الباب الواسع، المتواتر لا يشكل (1 %) بالنسبة لمجموع الأحاديث التي صحت عن النبي عليه الصلاة والسلام.(48/2)
ضرر المتعالمين على العلم
فظن الرجل أنه بمجرد قراءة كتاب في المصطلح أو كتاب في أصول الفقه يصير عالماً، وبدأ يستخدم كلمة الأصول يهدد بها ويرهب المخالف، فكلما قرأت عدة أسطر يقول لك: (كما هو مقرر في الأصول)، وهذا حتى يرهبك ولا تعترض عليه، ومثال ذلك: صحة السند لا تستلزم صحة المتن، يقول لك: العلماء يقولون هذا، السند في البخاري مالك عن نافع عن ابن عمر يقول لك: أصلاً علماء الحديث قالوا: إن صحة السند لا تستلزم صحة المتن.
وهذا كلام حق، فالسند صحيح مالك عن نافع عن ابن عمر، لكن المتن ما له قيمة.
بدأ يدخل ويهدم في السنة من خلال هذا القول، أخذ كلام الكبار وتكلم به بغير دراية ولا روي، فاضطره ذلك إلى مساورة جبال الحفظ والأئمة الثقات الفحول، وظن أنه رجل مثل هؤلاء الكبار فساورهم، ونقول: لا.
ليس كل ذكر رجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ} [الأحزاب:23] وليس من المؤمنين ذكور، هناك ذكران الإناث أفضل منهم، لكن لا تكون المرأة أفضل أبداً من الرجل، لكن ممكن تكون أفضل من الذكر.
وهذا ذكرني بقصة ظريفة: أن رجلاً ينتحل لبس رجل آخر ويظن أنه صار مثله، أو يتكلم باصطلاحه ويظن أنه صار مثله، هذه القصة ذكرها أهل الأدب منهم صاحب الأغاني عن شاعر من طبقة الشعراء الصعاليك في الجاهلية، وهو من أشهر ثلاثة منهم، وشعره أكثر الشعر دوراناً في الكتب لهذه الطبقة، طبقة الشعراء الصعاليك، واسمه: ثابت بن جابر ولقبه: تأبط شراً , معروف في الكتب بـ تأبط شراً، قال تأبط شراً ثم يذكرون أبياته اسمه غير معروف.
ولماذا قيل تأبط شراً؟ حكايات، منها أنه وجد الغول -حكاية- على هيئة خروف، فوضع الغول تحت إبطه، وذهب إلى أهله فقالوا: ما لك يا ثابت؟ ما هذا؟ هذا الغول، لقد تأبطت شراً، فقالوا: تأبط شراً ومضى هذا اللقب والتصق به.
فهذا تأبط شراً كان دميماً ونحيفاً، فقابله رجل ثقفي فقال له: بم تغلب الرجال يا ثابت وأنت دميم وضئيل؟ قال: باسمي، ساعة ألقى الرجل أقول له: أنا تأبط شراً فينخلع قلبه، فآخذ منه ما أريد، قال: بهذا فقط؟ قال: ليس أكثر من هذا.
ففكر الثقفي قليلاً ثم قال له: هل تبيعني اسمك؟ قال: بكم تشتريه؟ قال: بهذه الحلة الجيدة -كان لابساً قميصاً جديداً- وبكنيتي، أعطيك كنيتي على البيعة كذا، وأعطيك هذه الحلة الجيدة، قال: موافق، اخلع، أخذ منه الحلة وقال له: أنت فلان، قال له: وأنت إذاً تأبط شراً، والرجل الثقفي كان يكنى أبا وهب، قال له: أنت تأبط شراً وأنا أبو وهب! فـ تأبط شراً أرسل إلى زوجة هذا الثقفي الأحمق ثلاثة أبيات من الشعر، قال فيها: ألا هل أتى الحسناء أن حليلها تأبط شراً واكتنيت أبا وهب فهبه تسمى اسمي وسماني اسمه فأين له صبري على معظم الخطب وأين له بأس كبأسي وثورتي وأين له في كل فادحة قلبي نعم.
هو أخذ الاسم، لكن هل أخذ قلبي وجرأة جناني، وثباتي على الأحداث؟ هل أخذ جلدي؟ ما أخذها، أهو أبو وهب هذا الجبان الذي لبس جلد السبع، إذا قابل رجلاً وأراد أن يخوفه، يقول له: أنا تأبط شراً وقلبه ضعيف؟! صحيح إنه لابس جلد سبع، لكن قلبه ضعيف، فـ تأبط شراً أعطاه الاسم فقط، لكن بقي قلبه القوي.
ألا هل أتى الحسناء أن حليلها تأبط شراً واكتنيت أبا وهب فهذا الرجل بمجرد أنه تصور أن صحة السند تستلزم صحة المتن ظن أنه صار كـ أبي حاتم الرازي، أو كـ أبي زرعة الرازي، أو صار كالإمام البخاري، أو الإمام مسلم، لا.
فدع عنك الكتابة لست منها ولو لطخت وجهك بالمداد لو كب على نفسه دواة حبر سنقول له: اذهب اشتغل بأي شيء إلا الكتابة، فالرجل بمجرد أنه قرأ كتاباً في المصطلح ظن أنه يستطيع أن يساور جبال الحفظ وأئمة الدين والورع، هيهات هيهات!! هذه العلوم تحتاج إلى ملكة، وحتى صحة السند تستلزم صحة المتن أيضاً.(48/3)
السنة بيان للقرآن فلا يجوز العبث بها
ونحن نعلم أن السنة بيان للقرآن، وإذا ضاع المبين لم تنتفع بالمجمل، لأن أغلب الإشكال يأتي من الإجمال، والمبين يزيل الإشكال، إنما أكثر المشاكل أتت من الكلام المجمل الذي يحتمل معنىً ومعنين وثلاثة وأربعة وخمسة، فيختلف الناس وتذهب العقول فيه كل مذهب، فإذا ساغ أن يلعب في هذا البيان بدعوى أن الرواة ليسوا معصومين فقد ضيعنا الدين كله، وهذه هي أعظم المحن التي ابتلي المسلمون بها، وهي أعظم من غزو اليهود لأراضي المسلمين.
العبث بهذا الصرح العظيم من أناس جهلة أتيحت لهم الفرصة أن يتكلموا باسم الحياز والنقاش العلمي، فبدءوا يعيثون في الأرض فساداً، ومنهم هذا البيطري الغلام الذي نشر كتاباً قبل ذلك سماه: تذكير الأصحاب بتحريم النقاب، هذا الكتاب لا يساوي شيئاًَ بجانب الكتاب الذي نشره بعنوان: تبصير الأمة بحقيقة السنة، ويقول: إن هذا هو الجزء الأول من ثلاثة أجزاء.
الرجل ينشر فيه جهله وضلاله على الأمة، ويقول في افتتاح هذا الكتاب: إن علماء المسلمين جميعاً لا يستثني واحداً، من أيام سعيد بن المسيب، تتابعوا يقلد بعضهم بعضاً، ويسلمون بأقوال ليست بحجة حتى أقامه الله ليقيم الحجة للمسلمين، وليبين ضلال الألوف المؤلفة من العلماء الذين مضوا على توالي هذه القرون، وقلد بعضهم بعضاً بلا روية وبلا أي فهم.
فهذا افتتاح الكتاب.
وهذا الافتتاح ينطبق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال هلك الناس فهو أهلكهم).
رجل يدعي أنه وحده على الهدى، فالعدل والأقرب إلى سواء الصراط أن يكون هو الهالك، إذ إن الباطل أقرب من الواحد وأبعد عن الجماعة، لاسيما إذا مضت القرون الفاضلة بمثل هذا الفهم، فيأتي هذا ليعبث بهذا الصرح، صحيح أنه لا يضر السحاب نبح الكلاب، لكن بكل أسف هناك من ينطوي تحت لواء أهل السنة والجماعة ولا يفهم شيئاً عن مذهبهم، وهذه المحاضرات التي نبثها في كل مكان إنما هي حماية ووقاية لأمثال هؤلاء، وهم يشكلون سواداً عظيماً بين صفوف المسلمين.
العناوين تشد انتباه الغالب الأعم، لأن أكثر الناس لا يقرءون، لذلك اختيار العناوين البراقة أحد أساليب خطف القلوب، يعني: هذا البيطري الغلام صاحب الكتاب، لما قام المسلمون العلماء وهاجموا هذا الهراء والخبل والخطل الذي نشره باسم العلم.
فقال: أنتم اكتفيتم بقراءة عنوان كتابي ما قرأتم الكتاب، ويحتج بمثل هذا، يقول: لا بد من قراءة الكتاب، فلا تحكموا على الكتاب من هذا العنوان، نقول: من ينشر كتاباً بعنوان: تذكير الأصحاب بتحريم النقاب، فماذا تريدني أن أقرأ؟! قد لخصت كل الكتاب في العنوان (تحريم النقاب) كان لو وضع عنواناً موهماً مثل رسالة للجلال السيوطي سماها: إسبال الكساء على النساء، أنت عندما تسمع العنوان تظن أن موضوع الكتاب هو الحجاب، مع أن هذا الكتاب يتكلم عن النساء: هل يرين الله في الآخرة أم لا؟ الموضوع بعيد جداًَ، الموضوع لا علاقة له بعنوان الكتاب (إسبال الكساء على النساء) أنت تتصور أنه يتكلم في الحجاب والنقاب وهو يتكلم عن القضية المختلف فيها بين العلماء: هل النساء يرين الله عز وجل في الآخرة أم لا؟ والصواب الراجح الذي لا محيد عنه أنهن يرين الله أيضاً كالرجال.
فهذا عنوان موهم، فمثله يمكن أن تقول: أنت لا تحكم على الكتاب حتى تقرأ مضمونه.
لكن إذا قال: (تذكير الأصحاب بتحريم النقاب)، فقد فصل في القضية، فلو كتب رجل كتاباً وسماه مثلاً: غاية المنى بتحريم الزواج واستحباب الزنا، تريدوني أن أقرأ الكتاب! لو أنني هاجمت هذا الكتاب وقلت: هو دعوة للفجور والفحش، يأتي يتوجع ويقول: لم يقرأ كتابي! هذا عنوان واضح جداً، و (العناوين أنساب الكتب) كما يقال.
فعندما يأتي هذا الرجل ويدخل على السنة النبوية، هذا الصرح الشامخ الذي تحمَّل كل ضربات المبتدعة وما زال شامخاً، لأنه تتمة الذكر: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، علماء المسلمين أجمعوا على أن المقصود بالذكر في هذه الآية هو القرآن والسنة، إذ لو جاز أن يضيع البيان لم ننتفع بالمجمل، (أقيموا الصلاة) هذا إجمال، (آتوا الزكاة) هذا إجمال، بيان الأنصبة، بيان تنوع الزكوات، بيان الركعات والسجدات، ما يقال في الركوع وما يقال في السجود، كل هذا حفظته السنة، فلو جاز أن يضيع هذا البيان لضاع كثير من أحكام القرآن والإسلام.(48/4)
منهجية الحياد العلمي في ميزان الشرع ومعيار الألقاب الأكاديمية عند العلماء
فهذه المحاضرة إطلالة على الخطر الداهم الذي يدهم ديار المسلمين من أبنائهم، أو ممن ينتسبون إليهم بدعوى البحث العلمي، ودعوى الحياد العلمي الموجود الآن في مناهج الدراسات العليا ومناهج تحصيل الدكتوراه والماجستير في الجامعات، خرجت لنا دكاترة، وخرجت لنا من يدرس وعنده انتماء ضعيف لهذا الدين، سبب هذا الانتماء الضعيف هذه المناهج التي وضعت باسم الحياد العلمي.
إذا أراد رجل أن يكتب في مقارنة الأديان أو في المذاهب يقول له: لابد أن تتجرد من كونك مسلماً؛ لأنك إذا كتبت عن الفرق الأخرى، أو عن الديانات الأخرى، أو الشرائع الأخرى وأنت مسلم ستنحاز إلى دينك، وإلى مذهبك، فهذا يضللك عن الوصول إلى الحق بحياد، كيف تكون محايداً لا تكن منتمياً.
وظن البسطاء الذين وقفوا على عتبات طلب العلم أن هذا حق، وأنه ينبغي فعلاً أن يكون الإنسان محايداً، ويأتون بالأدلة العامة، العدل في الغضب والرضا، والعدل مع الخصوم ومع غير الخصوم، سبحان الله! أعداؤنا هل يتعاملون معنا بهذا الحياد؟! لا يتعاملون بهذا الحياد أبداً.
قيل للإمام أحمد: -وقد تكلم في بعض المبتدعة- هلا سكت؟! قال: وهل سكتوا حتى أسكت؟!! أي: ماداموا هم يتكلمون فأنا لا أسكت أبداً، والكلام في أهل البدع من أعظم الجهاد لاسيما في هذا الزمان، لاسيما إذا كانت البدعة قبيحة منتشرة، مع هذا الفقر المدقع الذي يعاني منه جماهير المسلمين، أعني: فقر العلم.
نشر الرجل الكتاب وكتب على آخره: حصل على بكالوريوس في الطب البيطري سنة كذا، وبعد ذلك عين فوراً معيداً، وموضوع فوق (فوراً) نقطتين، كأنه هو الذي أنقذ الحيوانات والبهائم! ها هو كل المعيدين يعينوا فوراً ما الإشكال؟ وضع (فوراً) بنقطتين حتى لا تفور، وبعد أن حضر الماجستير أخذ وعين مدرساً مساعداً، وحتى ترقى إلى حد أستاذ، وبعد ذلك رئيس قسم، وبعد ذلك رئيس لجنة السموم الثلاثية، وبعد ذلك رئيس قسم إلخ، أخذ نصف الصفحة في نياشين يشاركه فيها أي واحد وصل إلى درجة الأستاذية في الجامعة، لأنه يمر بهذه المراحل كلها.
لكن الناس عندهم اغترار بالألقاب والنياشين، فمثلاً: شخص يريد أن يكشف عن مرض في جسده، فيبحث عن دكتور، فيذهب لدكتور له اسم طويل عريض وتحته خمس سطور: زميل هيكل الجراحين وزميل مشارك وصديق , وخمسة سطور، فهذا هو الممتاز، يدخل هذا زميل الجراحين في كذا وكذا وكذا والأمر أسهل من هذا، لكن الناس أسرع لهذه النياشين والألقاب، ولا مانع من أن يكتب نصف الصفحة حتى وصل إلى اللجنة الثلاثية في السموم.
لكن ما هي المؤهلات الشرعية التي حصل عليها؟! أنت لا تتكلم الآن في الطب، أنت تتكلم في الشرع، فما هي مؤهلاتك في الشرع؟ دبلوم في القراءات من الأزهر الشريف! دكتوراه في الفلسفة! وأخذ في كلية الحقوق! كل هذا أيضاً على حسب النياشين العلمية لا تؤهلك أصلاً أن تتكلم في الشرع.
لكن كما قلت لكم الناس أسرع للنياشين، وهذا يذكرني بصاحب القط: يقال أن رجلاً كان له قط أراد بيعه، فجاءه رجل فقال: كم ثمن هذا القط؟ قال: كذا درهم، فتركه وجاء آخر فقال: كم ثمن هذا الهر؟ ثم تركه، وجاء ثالث فقال: كم قيمة هذا السنور؟ ثم تركه، وجاء رابع وخامس وكل واحد يذكر له اسماً ثم لا يشتريه، فرمى به وقال: قاتلك الله، ما أكثر أسماءك وأقل غناءك! أسماء كثيرة ونياشين بمقدار نصف صفحة كاملة، لكن ما أقل غناءها! هذه لا تعطيه علماً ولا أدباً عندما يتكلم عن أبي هريرة، يقول: أبو هريرة كان من المصائب التي ابتلي بها المسلمون، وكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن بحسن نية بلا شك! ولم يكن عنده فقه ولا دراية! لذلك كان ينقل الأحاديث التي تهدم الدين ولا يدري، إذ لو كان يدري ما رواها أصلاً، لمز أبا هريرة في أكثر من عشرين موضعاً في الكتاب.
أما الإمام البخاري فمسح به الأرض، قال: إن البخاري رجل طيب، (يعني: مغفلاً) ينقل الأحاديث؛ لكن لم يكن له دراية بعلم الحديث، البخاري! يعني: لو جاء رجل وقال سيبويه والكسائي وأبو عمرو بن العلاء ويونس بن حبيب والخليل بن أحمد والأخفش الصغير والكبير لا يعرفون أن الفاعل مرفوع بالضمة لرجموه بالحجارة، سيبويه لا يعرف أن الفاعل مرفوع بالضمة! عندما يقول للبخاري: الرجل طيب، أي: المغفل، ولم يكن له دراية بعلم الحديث، البخاري الذي وضع أصول هذا العلم مع العلماء الجهابذة الكبار لم يكن له دراية! تصور عندما يمشي الكتاب كله على هذه الوتيرة! وتكلم عن الصحابة والتابعين كلاماً سخيفاً جداً، كل هذا بدعوى الحياد العلمي ومنهجية: لا نجامل أحداً أصلاً، الكل أمام الحق سواء، بدءاً من أبي بكر إلى آخر شخص، نعاملهم على أساس أن الدماء متكافئة، ومشى بهذه الصورة في الكتاب كله، وسنعرض بعض النماذج، وأنا اتخذت هذا العرض صورة لتجسيد المحنة التي نعيشها الآن، ثم كيف الخلاص من هذه المحنة؟!(48/5)
امرأة لبنانية تنشر كتاباً تنتقد فيه السنة الصحيحة بالعقل
وهذه امرأة لبنانية نشرت كتاباً، والله فوضى لا عمر لها! نحن نحتاج إلى رجل مثل عمر، من أجل أن يجلد هؤلاء المفترين على الله ورسوله، وعلى أئمة العلم، هؤلاء ينبغي أن يحجروا حفاظاً للديانة، وحجرهم أولى من حجر الذين يستحقون الحجر الصحي، حجر هؤلاء عن المسلمين ديانة ينبغي أن يكون واجباً في عنق أولياء الأمور.
امرأة كتبت كتاباً: هل النساء أكثر أهل النار؟ فمعترضة, تقول: لا.
ليس النساء أكثر أهل النار، هي تدافع عن حرية المرأة وحقوقها، فمن ضمن حقوق المرأة أنها تدخل الجنة حتماً.
من الذي صنع القنبلة الذرية في هيروشيما؟ ومن يصنع الأسلحة الفتاكة، وأسلحة الدمار الشامل، وصواريخ عابرات القارات، والذي يدمر الدنيا؟ ومن الذي أقام الحروب وحرق إلخ أليس الرجال؟ هم الذي ينبغي أن يكونوا أكثر أهل النار، لا اللاتي يقطعن الثوم والبصل، وهن مساكين ومكسورات الجناح، فلا يجتمع عليهن عذاب في الدنيا والآخرة! الذي يدخل النار هو الذي أفسد فقتل العباد وخرب البلاد.
يا امرأة! ماذا تفعلين بحديث البخاري؟ قالت لك: ابن الجوزي قال: صحة السند لا تستلزم صحة المتن، أنت أيضاً تقولين الكلام هذا؟! صحة السند لا تستلزم صحة المتن؟! سبحان الله! يعني: لو كان سهماً واحداً لاتقيته ولكنه سهم وثان وثالث(48/6)
العقل يحكمه الشرع
ثم تنقد الرواية فتقول لك: الرواية هذه لا يمكن للعقل أن يقبلها، والله عز وجل لم يشرع شيئاً يخالف العقل، أي شيء يرفضه العقل السوي المستوي فليس من الممكن أن ينزل في الشرع شيء يخالفه ويضاده.
نقول: نعم.
لكن عقلك أو عقل فلان أو عقل أبي إردان الذي نحن نرد عليه الآن.
لكن عندما تختلف كل هذه العقول أليس من اللازم وجود حاكم يرجعون إليه عند التنازع، أليس كذلك؟ ألا يكون هذا العقل الحاكم هو عقل الرسول عليه الصلاة والسلام؟! لو نحن تكلمنا بهذا المستوى، أليس هو الذي ينبغي أن نرجع إليه في التحاكم؟ هذا اختلف! وهذا اختلف! وهذا اختلف! وكقضبان القطار خطان متوازيان، إذاً ماذا نفعل؟ أليس يوجد عقل ثالث يحكم بينهم؟ حتى في القضاء والقوانين يقولون: السلطة القضائية للفصل بين السلطات، السلطة هذه اختلفت وهذه اختلفت وهذه اختلفت، يقول لك: القضاء لا يعرف لمن يحكم، لا بد أن يرجع إلى عقل في النهاية تجتمع عليه كل هذه العقول.
فهي تقول: هذا الحديث مخالف للعقل، طيب أين الخلاف فيه؟ تقول لك: إن حديث البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء في يوم عيد، فذكر النساء ووعظهن، وقال: (يا معشر النساء! تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقامت امرأة من سطة النساء، فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: إنكن تكثرن اللعن، وتكفرن، فقلن: نكفر بالله؟ قال: لا.
تكفرن العشير -أي الزوج- وتكفرن الإحسان، وإذا أحسن الرجل إليكن الدهر، لقلتن: ما رأينا منك خيراً قط).
ما هو المنافي للعقل هنا؟ تقول لك: الرسول عليه الصلاة والسلام صاحب الأخلاق، يأتي في يوم عيد بدلاً من أن يقول: (كل سنة وأنتم طيبون) يقول: أنتن في جهنم وبئس المصير! أهذا الكلام يعقل!! من صاحب الأخلاق.
رأيت العقل المستوي!! فتقول لك: لا.
وصحة السند لا تستلزم صحة المتن.
ليس أضر على العلوم من دخول غير أهلها فيها، روي أن خالد بن صفوان الخطيب البليغ المشهور، وهذا الرجل كان من أبلغ الناس، فدخل يوماً الحمام، وكانت الحمامات عامة، فجاء رجل من غبراء الناس بابنه إلى الحمام، فرأى ابن صفوان، فيريد أن يبين لـ ابن صفوان أنه ليس هو وحده البليغ، فأنا أيضاً بليغ أتكلم العربية بالسليقة، قال: (يا بني! ابدأ بيداك ورجلاك) الباء هذه تجر بلداً، لأنها حرف جر والأصل أن يقول: (يا بني! ابدأ بيديك ورجليك)؛ لكنه يريد يعرفه أنه ليس أنت لوحدك المتفرد بالبلاغة في الدنيا، أنا كذلك موجود: (يا بني! ابدأ بيداك ورجلاك)، ثم التفت إلى خالد كالمتباهي، وقال: يا ابن صفوان هذا كلام قد ذهب أهله، فقال له ابن صفوان: هذا كلام لم يخلق الله له أهلاً قط.
فعندما يدخل من هؤلاء على سيبويه يريد يتلاحن عليه، فأعظم ضرر على العلوم أن يدخل غير أهلها فيها.
شخص قابل رجلاً وكان لحاناً كلما ينطق جملة يقول له: يا أخي! هذا مرفوع، وهذا مكسور، وهذا منصوب، لا يستطيع التكلم معه، كلما تكلم عدله، فجاء الرجل العالم، وطرق عليه الباب وقال: أخوك هنا؟ قال له: لا، لي، لو! أنا لو قلت: لا، ستقول: لي، لو، خذ الثلاثة واختر أحدها.
لا لي لو! وقابل رجل لحان رجلاً آخر لحاناً فقال له: من أين أتيت؟ قال: أتيت من عند (أهلونا)، فقام اللحان الآخر فقال: قاتلك الله ما أفصحك! أنا أعلم من أين أخذتها: (شغلتنا أموالنا وأهلونا)، الرجل يتكلم بالقرآن.
فعندما يدخل هؤلاء في العربية كم من الفساد يحصل أو عندما يدخل هذا البيطري في علوم الدين والحديث والفقه والاستنباط وهو ضعيف الملكة، متخلف النظر فيها، كم يكون من الجناية إذا ترك أمثال هؤلاء؟!(48/7)
معنى قاعدة: صحة السند لا تستلزم صحة المتن
صحة السند لا تستلزم صحة المتن، قالها العلماء لطبقة معينة من علماء الحديث، وهم العلماء الذين تمرسوا على هذه الصناعة حتى اختلطت بشحمهم ولحمهم وصار لهم ملكة فيها، حتى إن العالم من هؤلاء إذا سمع متناً بغير سند يحكم عليه بالبطلان، ثم تكتشف أنه باطل بعد ذلك، كيف حكمت عليه بالبطلان بغير سند؟ بالدربة والممارسة, ولا زالت الممارسة شيئاً أكيداً يعترف الكل به في كل الصناعات والفنون، ليس في العلم الشرعي فقط.
مثلاً الطبيب الذي مر عليه أربعون سنة في المهنة يختلف عن الطبيب الذي معه أعلى دكتوراه في الدنيا ومر عليه عشر سنين فقط، لأن هذا ممارس وعنده من الخبرة أكثر من الذي معه دكتوراه، أحياناً الطبيب ينظر إلى رجل يقول هذا مريض بكذا، أأنت منجم؟ يقول لك: لا.
لكن من دربته وممارسته أن لون العين تغير! أن لون الوجه تغير! أن لون الجلد تغير! يقول: هذا عنده المرض الفلاني، ويسلمون له، يسلمون لكل واحد في فنه إلا للشيخ، إذا الشيخ تكلم في الطب يقولون: أنت ما لك والطب؟ وإذا هم دخلوا يهجمون على الشيخ قال: لماذا تهجمون عليّ؟ يقولون: هذا الدين ليس لك، الكهنوتية هذه ليست في الإسلام، الدين للكل.
نعم.
الدين للكل اعتقاداً، لكن العلم لطائفة معينة فقط, كما أنك تنكر أن يتكلم غير الأطباء في الطب، أيضاً لابد أن ننكر أن يتكلم غير العلماء في العلم، لكن جدار المشايخ قصير والكل يتسلق عليه ولا صريخ لهم.(48/8)
نماذج من الاعتراضات على السنة
نماذج من الاعتراضات التي أوردها وزعم أن علماء المسلمين جميعاً لم يفهموها وهو الذي فهمها.(48/9)
حديث طواف سليمان عليه السلام على مائة امرأة في ليلة
حديث آخر: الذي هو شتم الإمام البخاري فيه، واتهمه أنه جاهل بعلم الحديث مع أنه رجل طيب، وقال: هذه هي المصيبة في أمتنا، تنساق وراء الأسماء اللامعة، يعني: أول ما يقول له: رواه البخاري، يثق به لأنه رواه البخاري: ليس بعد البخاري للمرء مذهب قال لك: هذه هي المشكلة عند المسلمين، يلغي المسلم عقله عند الأسماء اللامعة، ما الحديث الذي كان سبباً في تطاول هذا الغلام على الإمام البخاري؟ حديث الرسول عليه الصلاة والسلام الذي رواه أبو هريرة، قال: (قال سليمان عليه السلام: لأطوفن الليلة على مائة امرأة -أو قال تسعة وتسعين امرأة- كلهن تلد غلاماً يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله، فلم يقلها، فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة، ولدت نصف إنسان، قال صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده لو قالها -يعني لو قال: إن شاء الله- لكان دركاً لحاجته، ولأخرج الله عز وجل من صلبه مائة فارس يجاهدون في سبيل الله جميعاً).
ما المشكلة إذاً في هذا الحديث؟! يقول لك: (انتبه!) ويضعها بين قوسين، -انتبه من الذي سيأتي- ليلة واحدة تكفي لمجامعة مائة امرأة، (وانتبه جيداً)، ووضعها لك بين قوسين، ثم: هل سليمان يقدر؟ انظر إلى هذا العنين، يظن أن الناس مثله كلهم، انظر الإسفاف في رد كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، ويتهم أبا هريرة أنه كذب على النبي صلى الله عليه وسلم (بحسن نية) بين قوسين، هذا رقم واحد.
رقم اثنين: يقول لك: وهل يليق بنبي أن يتحدث بمثل هذه المسائل المحرجة على الملأ، وهم كانوا أشد خلق الله حياءً؟! ثالثاً: هل يجوز أن يفتات على الله؟ يعرف أن النساء يخلفن ذكراناً وإناثاً، ويقول: يا ربنا سآتيهن بشرط أني أريد ذكوراً فقط، مائة ذكر يجاهدون، فهذا افتيات على الله، يعني: الأنبياء الذين أدبهم الله يعملون هذه العملية؟ ولا أريد أن أكثر.
يعني: يكفي أدلة على بطلان الحديث.
فأنتم ترون -أيها الإخوة الكرام- أن هذا الذي ذكره معترض لا يجوز أن يذكره رجل عاقل، ولا يجوز أكثر وأكثر أن يعد دليلاً في الاعتراض، ومعلوم عند العلماء أن الكلام إذا كان له مخرج ومحمل مقبول ينبغي حمله عليه، وإلا فإننا سنرد آيات القرآن الكريم بهذا المنطق، وبهذا الأسلوب، فهذا الاعتراض يرد على كلام الله عز وجل أيضاً، لا يرد على كلام النبي صلى الله عليه وسلم فقط، ولا على كلام أي أحد، لماذا تجتهدون إذاً في التوفيق ما بين الآيات التي ظاهرها التعارض، فهذا الحديث لا إشكال فيه، لكن أتي الرجل من سوء فهمه، وصدق المتنبي عندما قال: ومن يك ذا فم مر مريض يجد مراً به الماء الزلالا وللرد عليه نقول: أولاً: مسألة أن يأتي نبي مائة امرأة أو ألف امرأة في يوم واحد هذه قضية ما فيها أي إشكال، إذا سلمنا أن النبي معان من الله، وقد ثبت عن أنس رضي الله عنه أنه قال: (أوتي النبي صلى الله عليه وسلم قدرة أربعين رجلاً في الجماع)، ثم هل اليوم هو يومنا هذا، ولا زالت كما في الأحاديث الصحيحة الأيام تتناقص، والأحاديث المعروفة بينت أن السنة ستكون كيوم، فهل عنده دليل أن يوم سليمان عليه السلام كان بهذا القصر، ثم إن إتيان المرأة كم يأخذ من الوقت؟ دقيقة، دقيقتين، ثلاث دقائق، أنا أشعر بكثير من الحرج وأنا أتكلم بهذا الكلام؛ لكن اضطررت إلى قوله رفعاً لهذه المغالطة التي ما يكاد يتردى فيها إنسان عاقل، حتى يقول: (انتبه!) ويضعها بين قوسين، إنه هام؛ يقول هذا الكلام السخيف! لو أن رجلاً عنده القدرة فعلاً على إتيان ألف امرأة لاستطاع أن يأتي ألف امرأة في زماننا هذا، وما يكون عليه أي إشكال فيها.
ثانياً: هل في الحديث أن سليمان عليه السلام جمع الناس وذكر لهم تفاصيل العملية: وأنا سأفعل وسأفعل؟! ليس في الحديث شيء من ذلك، في الحديث أنه قال: (فقال له صاحبه)، فليس في المجلس إلا رجل واحد.
وقد ثبت في البخاري أيضاً أن هذا الصاحب كان ملكاً ولم يكن رجلاً من الإنس.
ثم لو قال لي قائل في هذا المسجد: يا فلان! لماذا تزوجت بامرأتين، وتنوي أن تتزوج الثالثة والرابعة؟ فأقول له: والله يا أخي نحن في حاجة إلى رجال، تزوجت لأنجب من كل امرأة مجموعة يدافعون عن دين الله، أكنت أنا مفتئتاً على الله متألياً عليه؟ لو قلت: أتمنى أن يخرج من صلبي مائة رجل؛ ولأن الدعوة تناط بالرجال، وما تناط الدعوة وجهاد الدعوة بالنساء: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] وهن النساء، المرأة في الجدل والمناظرة لا تستطيع أن تبين ولا تقيم حجة على أحد، ما يقيم الحجة إلا الرجال، لذلك كان منهم العلماء وكان منهم الرسل، وما نعلم أن الله عز وجل أرسل امرأة إلى أهل الأرض، إنما أرسل الرجال، لأنهم أقدر على ذلك، لذلك جعل الله للرجال على النساء درجة، بما فضل الله بعضهم على بعض، وكان هذا من جملة ما فضل الله به الرجال على النساء.
ولو قال لي رجل: لماذا تزوجت؟ قلت: والله أنا أتمنى أن يكون الصف الأول في المسجد أولادي، أأنا إذا قلت هذا أكون افتأت على الله وقلت: يا رب أنا لا أريد إناثاً، إما أن تعطيني رجالاً وإلا فلا، هل أنا قلت هذا الكلام؟ وهل يفهم ذلك من قولي؟ كان له نية صالحة طيبة، يريد مائة فارس يجاهدون في سبيل الله، فقام ذاك النبي الكريم بهذه النية وأتى النساء، وينبغي أن يكون لنا هذه النية في إتيان النساء، وقد روى ابن أبي الدنيا في كتاب العيال، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (إني لأكره نفسي على مجامعة النساء، رجاء أن يخرج الله نسمة توحده)، يعني: قد لا يكون له رغبة أن يأتي المرأة، لكن يأتيها بهذه النية، رجاء أن يخرج الله عز وجل من صلبها ومن صلبه نسمة توحد الله عز وجل، ألئن قال هذا النبي الكريم ما قال يقال له: أنت تفتات على الله؟ وأين الافتيات على الله عز وجل في هذا؟ نلعب بأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام بمثل هذا الهراء، وهذا السخف، إذا كنا سنتخذ هذا منهجاً علمياً فلن يسلم كتاب الله من ذلك، في كتاب الله آيات أشد إشكالاً من هذا الحديث.(48/10)
حديث: (أمرت أن أقاتل الناس)
حديث ابن عمر وأبي هريرة وأنس وابن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص، وهو حديث متواتر عند علماء الاختصاص وهم علماء الحديث، هذا الحديث أنتم كلكم تحفظونه: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني ودماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله).
يقول فض فوه: هذا الحديث مكذوب بلا شك، ولم يقله النبي صلى الله عليه وسلم أبداً، لأنه يعارض القرآن، وأتى بآيات: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] {لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد:31] {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48] {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22].
طالما أنك لست عليهم بمصيطر لماذا تقاتله؟ أيؤمن غصباً؟ طالما أنك لا تهدي من أحببت أتريد أن تدخله بالغصب؟! {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99] لماذا تقاتله؟! لو قدر الله عليه الهداية لاهتدى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، إذاً: (أمرت أن أقاتل الناس) حديث مكذوب، لماذا تقاتلهم وقد كفل الله حرية العقيدة للناس؟ هل أحد يجيب؟ السواد الأعظم يقف محتاراً يعانون من أمية علمية.
صدق عمر بن الخطاب المحدَّث الملهم قال: (إن القرآن حمال ذو وجوه، فخذوا أعداء الله بالسنن) لذلك أرادوا أن يلعبوا في هذا الصرح، لأن الحجة إنما تقوم عليهم بهذا الصرح، فإذا جاز له أن يلعب به ضاعت الحجة، القرآن حمال ذو وجوه، إنما السنة يصعب اللعب فيها.
رجل لم يتكلم إلا ثلاث أو أربع ورقات يقول لك: كما هو مقرر في الأصول! أنا أحس أنه ماسك أعصابه.
سأبين لكم الآن أنه لا يفقه شيئاً في الأصول، وهذا الإشكال هو شبه فقط، والشبه تزول بالبيان، لأنها لا يصح أن تكون دليلاً، إنما هي شبهة.
الناس: لفظ عام يدخل فيه كل الخلق، إن أسماء الجنس المحلاة بالألف واللام تفيد الاستغراق، والاستغراق يفيد العموم، كما لو قلت: حيوان، هذا اسم جنس، تدخل عليه الألف واللام فتكون (الحيوان)، فالألف واللام إما أن تفيد العهد أو تفيد الاستغراق، العهد الذي هو التخصيص، كما لو قلت: يا أيها الرجل قف، يبقى أنت قصدت رجلاً بعينه، فالألف واللام هنا رغم أنها دخلت على كلمة رجل وهي من أسماء الجنس إلا أنها تفيد العهد، لأنك قصدت رجلاً بعينه ولم تقصد كل الرجال.
يا أيها الرجال! هذا يفيد العهد بالنسبة للنساء؛ لأنه خرج منه النساء والحيوانات والأشجار والرمال فصار يفيد العهد على جنس الرجال فقط، ويفيد الاستغراق على جنس الرجال الذكور، الألف واللام إما تفيد العهد أو الاستغراق.
لكن كيف أعرف أنها تفيد العهد والاستغراق؟ قال: السياق من المقيدات، فلفظة الناس رغم أنها تفيد العموم إلا أنها مرة تفيد الخصوص ومرة تفيد العموم، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تجدون الناس كالإبل المائة، لا ترى فيها راحلة)، يعني أن الناس مثل مائة ناقة، لكن التي تستطيع أن تركبها واحدة فقط، فالناس كثير، لكن الذين تنتفع بهم من الناس أقل القليل، هذا معنى الحديث، فالناس هنا لفظ عام يراد به الخصوص.
كما قال الطحاوي في مشكل الآثار.
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] الناس هنا تفيد الخصوص أم العموم؟ تفيد الخصوص، لأن اليهود من الناس والآية لا تخاطبهم، والنصارى من الناس والآية لا تخاطبهم، المجوس بقية الخلق، الآية تخاطب المسلمين فقط، وليس كل المسلمين، فهي لا تخاطب الأطفال ولا المجانين، ولا تخاطب الذين لم يجب عليهم الحج، ومع ذلك فالآية لا تتناولهم: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج:27] فهذا الصبي الصغير ابن ثلاث سنوات لا يدخل في الآية مع أنه من الناس، إذاً: لفظ الناس وإن كان عاماً لكن يراد به الخصوص.
ما الذي أعلمنا أنه يراد به الخصوص؟ السياق، والسياق من المقيدات.
وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158] لفظ عام يفيد العموم أم يفيد الخصوص؟ يفيد العموم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى كل الخلق، ويدل على ذلك استخدام لفظة: (جميع) وهي من ألفاظ العموم، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158] مثل لفظة: كل، ومثل لفظة: معاشر, (إنا معاشر الأنبياء) وهذه تفيد العموم.
بعد هذا البيان نأتي إلى هذا الحديث: (أمرت أن أقاتل الناس) فيدخل فيه المسلمون دخولاً أولياً، لأن الأصل في الأدلة العموم -كما يقول الشاطبي - وليس الخصوص، والأصل في الأدلة الإطلاق وليس التقييد، والأصل في الأدلة عدم النسخ وليس النسخ، يبقى الأصل في الأدلة العموم، فنحن نتعامل مع لفظة (الناس) على أنها من العموم حتى نصل ونرى هذا الرجل كيف فهم هذا الحديث.
(أمرت أن أقاتل الناس) يدخل في الناس المسلمون، هل المسلمون مقصودون بالحديث أن الرسول سيقاتلهم؟ لا.
لأنهم مؤمنون، إذاً المسلمون خرجوا من الحديث، فالناس مؤمن وكافر، والمؤمن غير مراد من الحديث لأنه آمن، بل أنت تقاتل به، وهو من جنودك، إذاً ما بقي إلا الكافرون، الكافرون قسمان: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] كلمة (حتى) لفظ لانتهاء الغاية، يعني: سنقاتلكم حتى تدفعوا الجزية، فإذا دفعتم الجزية فلا نقاتلكم.
إذاً: الكافرون قسمان: قسم دفع الجزية وهو صاغر، إذاً هل هو داخل تحت الحديث؟ لا.
ليس داخلاً تحت الحديث؛ لأن ربنا سبحانه وتعالى قال: قاتلوا حتى فإذا دفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فلا يحل لنا قتالهم.
القسم الثاني: المناوئ للدعوة، الذي لا يريد أن يدفع الجزية والذي لا يريدك أن تنشر الإسلام، هذا هو المعني بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) وهذا الكلام ليس فيه غموض، ولا يوجد فيه أي إشكال.
ولو أتى الأمر من بابه! لكن علامة أهل البدع أن يحطم كل الرءوس أمامه حتى يبقى هو الوحيد الذي يرجع إليه، يعني: جماعة التكفير قبل أن يكسر الله عز وجل شوكتهم، أول أصل من أصولهم: هم رجال ونحن رجال، وثاني أصل قولهم: هذه طواغيت، أي: لا تحتج بـ الشافعي وعندك القرآن والسنة، ربنا سبحانه وتعالى قال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] يقول: يا أخي! أنا من أهل الذكر اسألني، لماذا حجرت أهل الذكر عليك أنت، وجعلت نفسك في موضع الحجة؟! لأني سأعارضه بأقوال الآخرين فيضيع بيانه، وتضيع حجته، فحتى لا أحتج بقول الآخرين فيضيعهم لك الكل، ويدمرهم جميعاً، حتى لا يبقى في الساحة إلا هو.
فأنت إذا أردت أن تحتج بقولهم يقول لك: لا.
اجعل من نفسك رجلاً يبحث عن الحق، أنت تعتقد شيئاً ناقشني يا أخي! رأساً برأس، فإن كنت أنا رجلاً عامياً، ما عندي أسلوب في إقامة الحجة، ولا درست.
والله عز وجل لما قال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] أعلمنا أن الناس عالم وجاهل، ولو كان كل الناس علماء فمن يسألون؟ فمعنى: (اسألوا أهل الذكر) أي: أيها الجهلاء اسألوا من هم أعلم منكم، فهذه الآية أثبتت أن هناك عالماً وجاهلاً، فأنا رجل جاهل، يقول لك: لا، لابد أن تستدل بالقرآن والسنة، وإلا فأنت على ضلال.
هذه أول درجة في سلم المبتدعة: أنه لا حجة لأحد، فهو عندما يأتي يناقش يضيع كل العلماء، نقول: العلماء جمعوا بين هذه الأحاديث، فهل من العقل أن هذه الشبهة مرت على علماء المسلمين، وهم كانوا يأتون بشبه لا تخطر على باله ويحلونها؛ خشية أن يتطاول على الناس زمان فتصير الشبهة دليلاً؟! كانوا يقترضون اقتراضات ويقوم العالم فيحل هذه الافتراضات ويرد عليها خشية أن يأتي زمان مع ضعف العلم فيتصورونها أدلة.
ما بقي من الناس إلا صنف واحد من المشركين، الناس إما مؤمن وكافر، فلا خلاف أن المؤمن لا يتناوله الحديث، فما بقي إلا الكافر.
الكافر قسمان: قسم يدفع الجزية وهو صاغر، إذاً هذا لا يحل لنا أن نقاتله بنص الآية، ما بقي إلا الصنف الثاني من الكفار، وهو الذي لا يريد أن يدفع الجزية، ثم هو يناوئني ولا يمكنني من نشر ديني في ربوع بلاده، هذا هو الذي عناه النبي عليه الصلاة والسلام بهذا الحديث.
ومما يدل على ذلك دلالة أكيدة قوية ما رواه النسائي رحمه الله وأحمد وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل المشركين حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله)، فلفظة (المشركين) دلتنا على أن لفظة (الناس) خرجت مخرج العموم لكن يراد بها الخصوص، وأفضل ما فسر به الحديث، الحديث نفسه، وأفضل ما فسر به القرآن، القرآن نفسه، وهذا معروف، وإذا لم تجمع ألفاظ الباب لم يظهر لك فقهه، وهذا معروف عند العلماء.
فأي غرابة حتى نعارض بين الآية والحديث: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29].
أنا أريد أن أقول له ش(48/11)
خط الدفاع الأول في تربية الأبناء
أين خط الدفاع الأول الذي أعده الغرباء لأمثال هؤلاء السفهاء؟ نحن قصرنا جداً، أين خط الدفاع الأول؟ دولة بلا جيش دولة مهزومة مهما كان رصيدها من المال، السعودية ليس عندها جيش قوي خائفة دائماً، الإمارات والكويت وكل البلاد التي ترفل في نعم الله عز وجل خائفة، يدها على قلبها، ليس عندها خط الدفاع الأول المتين الذي يحمي بيضة البلد.
طيب! أين خط الدفاع الأول الذي أنشأناه نحن معاشر الغرباء؟! أنا لا أطالب الذين يمشون في الشارع، أطالب الذين يحضرون المحاضرة معنا، كل رجل يخطط مستقبل أولاده قبل أن يتزوج، بعدما يتزوج وينجب يكون مستقبل الأولاد واقعاً، تدخل لتزور شخصاً تقول: تعال يا محمد! قل لعمك: تريد أن تكون ماذا عندما تكبر؟ قل: أريد أن أكون دكتوراً، فهذا الولد الصغير (ابن أربع سنوات) من أين عرف دكتوراً أو مهندساً؟ الوالد هو الذي نفث في روعه، إذ يقول له: ذاكر أريدك أن تكون دكتوراً، كلما تكلم قال: أريدك أن تكون دكتوراً، قبل أن يولد له أماني يتمناها، وقد لا ينجب، وقد لا يتزوج، وقد يموت، لكن على عادة ابن آدم أن أمله أكبر من أجله وأطول.
تراه يحلم حتى وليس عنده مؤهلات؛ وهذا ذكرني بصاحب جرة السمن المتعلقة، رجل فقير يريد أن يتزوج، فهو يحلم بالمال والغنى، فقال: غداً أذهب السوق وأبيع هذه الجرة، وأشتري فراخاً وبطاً وإوزاً، وبعد ذلك أغناماً، وبهائم وعجولاً، ثم أكون أكبر تاجر في البلد، والفلوس تكثر معي، أبني قصراً منيفاً الكل يتمنى يدخله، أي امرأة تتمناني، ثم أذهب وأتزوج أحسن امرأة، وبعد ذلك أنجب ولداً جميلاً، وأعلمه الأدب، ولا أرضى بالحال المائل، إذا عصاني أضرب هكذا، فأخذ العصا فضرب فكسر الجرة، فاق الرجل من حلمه على السمن الذي سقط عليه.
أو رجل يحلم يبني مستقبل نفسه ومستقبل أولاده من لا شيء!! كم رجل فينا قال: هذا الولد وقف لله، كما قالت امرأة عمران: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي} [آل عمران:35] وأنا أسأل هذا السؤال لخواص الإخوة الذين هم مصنفون على كل موائد العالم أنهم إرهابيون، وقضيتهم مطروحة من أقصى الأرض إلى أقصى الأرض، وغرباء مستضعفون يبحثون عن مكان لهم تحت الشمس، ولا يشعرون بهذا الاستضعاف ولا بهذه الغربة، هل خطر ببال أحدهم أن يقول: أنا سأعبد أولادي جميعاً لله، وأوقف واحداً أو اثنين للعلم؟ كم واحداً فينا فكر وعقد النية في إنجاب الولد هكذا، قد تفاجأ أن أقل من واحد في المائة هو الذي فكر، وربى أولاده وساعدته امرأته على الوصول إلى هذا الهدف النبيل.(48/12)
من آثار عدم التربية
شكاوى كثيرة تصلني كل يوم، من بيوت المفترض فيهم الالتزام، لم يعرفوا كيف يربوا الأولاد، الأولاد أخذوا ألفاظ الشارع، وصاروا يكذبون ويسرقون وتفلت منهم القرآن، ماذا تفعلين أيتها المرأة في البيت؟ طوال النهار تغسل وتنظف.
وأنت أيها الرجل؟ يقول لك: أخرج من الشغل الساعة الثانية، أدخل في شغل إلى آخر الساعة الثانية، لمن يا أخي الكريم؟ اشتغل إلى الساعة الثانية، وعلم أولادك الزهد، وقنع نفسك، ورب أولادك الذين هم رأس مالك، أكبر محن الأولاد وهو الشذوذ والفساد فهي مشكلة مؤجلة.
التقصير في تربية الولد مشكلتها أنها مؤجلة إلى أن يكبر الولد ويشتد عوده ولا تستطيع أن تفعل معه شيئاً، فهو مؤجل إلى ما بعد عشر سنين، عشرين سنة.
مشكلة معروضة عليّ من عدة أيام، امرأة ابنتها ذهبت وتزوجت ولداً وغداً عند المأذون، ماذا نعمل يا مأذون؟ قال لها: قولي له: وهبت نفسي لك، ووهبت نفسها وتزوجت، ثم الأم المغفلة والوالد المريض الذي لا يستطيع أن يفعل شيئاً يريدون أن يداروا المسألة، فقاموا وأخذوا غرفة نوم، واستأجروا شقة على حسابهم لهذا الوغد، فلما مرضت البنت وجاءها تسمم حمل، ذهبت أمها تزورها في المستشفى، قابلها الوغد بالسباب، قال: أتيت تأخذي امرأتي! دخلت على ابنتها تبكي عليها لأنها مريضة، تقوم البنت مكشرة في وجه أمها، لماذا؟ أشتمت محمداً؟ قالت: يا ابنتي لم أشتم أحداً.
ذهبت تزورها فقابلتها بهذا الوجه، وبعد ذلك تقوم من تسمم الحمل -ويا ليتها ماتت- فتبلغ الشرطة عن أمها أنها أخذت غرفة النوم منها بالقوة، من أجل تستلم غرفة النوم، تقوم الأم تأتي وتسأل: هل أعطيها غرفة النوم أم لا؟ أعني أن هذا شيء يفور الدم!! وتأتي أمام العمارة، والأسرة الوادعة التي ما كان أحد يسمع لها صوتاً في العمارة افتضحت، صراخ وعويل، ويأتي الناس كلهم لينظروا، ويغمى على الأم مرات عديدة، فهذه هي الخسارة المؤجلة، أنت تنفق على من؟ تشتغل اثنتي عشرة ساعة في اليوم لمن؟! ربّ أولادك فهم رأس المال.(48/13)
التربية في الصغر
أين الخط الدفاعي الأول الذي قصرنا جميعاً في إيجاده حتى الآن؟! حتى نرد على أمثال هؤلاء الذين يطعنون في ديننا ويريدون هدم هذا الصرح على رءوسنا جميعاً، وإذا هدم هذا الصرح فلا قيمة لنا في الحياة ولا نستحقها، التمكين -أيها الإخوة الكرام- يحتاج إلى جيل، وهذا الجيل يحتاج إلى تربية من وقت الرضاع، ولهذا السبب موسى عليه السلام من أكثر الأنبياء ذكراً في القرآن، ولم يذكر ميلاده إلا مرة واحدة في سورة واحدة، وهي سورة القصص، لماذا؟ انظر مطلع السورة، وهذه السورة سورة المستضعفين، أيها المستضعف! تريد أن يُمكن لك، اقرأ سورة القصص: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5 - 6] كيف يكون هذا المن يا رب: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7] يبقى التمكين يأتي من الرضاع، لا تترك الولد حتى يكبر وبعد ذلك تقول له: تعال نجعلك شيخاً، أو عالماً: إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ولا يلين إذا قومته الخشب سبحان الله العظيم! عامل ولدك معاملة الشجرة التي تغرسها أمام دارك، أحياناً تمشي أمام دارك، فترى الشجرة التي مازالت عوداً صغيراً مشدودة بحبل، لماذا شددتها بحبل؟ لكي تكبر معتدلة.
لماذا لا تتركها حتى تصير شجرة كبيرة قوية ثم تشدها بجنزير؟ لو أن رجلاً فعل هذا لاستحمقوه، فعامل ولدك معاملة هذه الشجرة، وعدله مادام صغيراً، لا يمكن له أبداً إلا إذا كان على النهج السديد، فهذه السورة أفادت أن الذي يبحث عن التمكين لابد أن يبحث عنه التمكين من وقت الرضاع.
بل أقول: إذا بحثت عن التمكين فابحث عن التمكين من وقت وضع النطفة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتى أحدكم أهله، فقال: باسم الله، اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتني، فإن كان بينهما ولد لم يضره الشيطان أبداً) إذاً: من التمكين للولد ألا يضره الشيطان أبداً، هذا هو الذي يمكن له، إذاًَ: نريد جيلاً يمكن له، فمن وقت وضع النطفة نسمي الله عز وجل.
الآن يا إخوة! المشكلة التي نبعت من محافظة الدقهلية ومن مدينة المنصورة، هذا هو التعاون مع اليهود، وهذا هو أول الغيث.
بنت تطلب رجلاً، هذا هو المطلوب، لماذا لا يكون العكس؟ أن الرجل يطلب امرأة؛ لأن طلب الرجل للمرأة مشكلة، لأن المرأة قد تفضحه، لكن إذا كانت المرأة هي الطالبة انتهت القصة، إذاً: لا فضيحة، وبعد ذلك الرجل ركب فيه الميل الغريزي إلى النساء بطبعه، فإذا وجد امرأة تطلبه انتهى الإشكال، ولذلك استدل العلماء بهذا على عفة يوسف عليه السلام، وعلى طهارة نفسه, عندما تعفف عن امرأة العزيز تحت المقولة القائلة: ظهر المقتضى كلما كان ذلك أرفع.
يوسف عليه السلام تقول له امرأة العزيز: (هيت لك).
إياك أن تتصور أن عفة يوسف عليه السلام كانت كعفة أحدنا، أو كانت كعفة الرجل الذي كان في أصحاب الغار عندما قال: اللهم إنك تعلم أنه كان لي ابنة عم، وكنت أحبها كأشد ما يحب الرجال من النساء، فراودتها عن نفسها فأبت، فأصابتها سنة إلى آخر الحديث، فقال: فلما قعدت منها مقعد الرجل من امرأته، قالت: يا عبد الله! اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه.
هذا الرجل الذي قام عن المرأة وكان يحبها كأشد ما يحب الرجال النساء، ووصل إلى بغيته وأمنيته، وبمجرد ما قيل له: اتق الله، قام واقفاً، هذا الرجل عملاق، ومع أنه عملاق فإنه يعتبر قزماً بالنسبة ليوسف عليه السلام؛ لأن الدواعي التي كانت حول فعل يوسف كانت أعظم بكثير من الداعي الذي كان عند الرجل، وأنت خذ الدواعي هذه كلها ثم قارن.
أولاً: يوسف عليه السلام كان شاباً، والشاب يجد من قوة الشبق ما لا يجده الكهل والشيخ، وهو شاب لم يتسر ولم يتزوج، هذا رقم واحد.
ثانياً: ثم هو عبد، والعبد ليس عنده من النخوة ما عند الحر، ثم هو مملوك، والمملوك حريص على إرضاء مالكه، ثم هو غريب، والغريب يفعل في دار الغربة ما لا يفعله الحر المقيم بين أهله وإخوانه، والمثل عندنا يقول: (البلد الذي ما تعرف فيها أحداً اعمل فيها ما بدا لك)؛ لأنه غريب لا أحد يعاتبه، ولا يرعى عين أحد، ثم المرأة جميلة، ثم هي الطالبة فقد أمن من الإحراج، وأمن من الخوف أنها تنزل به العقاب، ثم المرأة ذات سلطان وتهدده، فكان ربما يقول: أنا عملت الذي علي، وقد هددت بأنها ستدخلني السجن، وأنا أعمل ماذا إذاً؟ يقول: أنا تعديت مرحلة الاختيار إلى مرحلة الإكراه، فهي امرأة ذات سلطان وقادرة على إيقاع العقوبة، ولكنه مع ذلك يرفض.
ثم فوق ذلك غلقت الأبواب، وغاب الرقيب، مع كل هذه الدواعي المتوفرة على الفعل يقول: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23] فأين في الناس يوسف عليه السلام؟ فالرجل عنده من الغريزة للمرأة، ولذلك قال عليه السلام قال: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} [يوسف:33] أصبُ من الصبوة، أي: أكون صبياً، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر النساء، ما رأيت أذهب للب الرجل العاقل منكن) تلعب به وهو العاقل، الرزين الهادئ، الذي عقله يزن بلداً، لكن أمام المرأة صار صبياً، ولذلك تجد المرأة الماكرة تطلب طلباتها في وقت إقبال الرجل، وهو مقبل مرتاح تطلب الذي تريده، (أَصْبُ إِلَيْهِنَّ): أي يصير الرجل العاقل صبياً {وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33].
أين خط الدفاع؟ وهذا أول الغيث: (فتن كقطع الليل المظلم) كجسد بلا كرات دم بيضاء تدافع عنه، إذا كنا نحن في محنة من أعظم المحن، فكيف أيها الغرباء -أنتم على وجه الخصوص- لم تتخذوا للأمر عدته، ولم تتأهبوا لهذه المعارك الفاصلة التي ستأتي على كل الجبهات، أين الجنود الذين أعددتموهم لله عز وجل؟ إني أعيذ نفسي وإياكم من قول الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] في الجحود والنكران وإهمال الدين، وترك نصرته.(48/14)
عبر من غزوة تبوك
إن الله تبارك وتعالى أنزل آية أخرها ثماني سنوات: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40] هذه الآية تتحدث عن حادثة الهجرة، ونزلت في غزوة تبوك، لأن غزوة تبوك كانت غزوة في غاية الصعوبة، وسمي جيشها جيش العسرة.
أولاً: كانت في حر شديد، وقال المنافقون: {لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة:81]، فرد الله عليهم: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة:81].
ثم كانت الغزوة في وقت طابت فيه الثمار، فكل رجل ينتظر الحصاد، فالناس تريد المقام في زراعتها حتى تحصد.
ثم استقبل النبي صلى الله عليه وسلم سفراً بعيداً ومفازاً، سافر إحدى وعشرين يوماً مشياً على الأقدام في هذا الحر الشديد، فتخلف المنافقون، بل بعض فضلاء الصحابة تخلف، منهم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية الواقفي، ومرارة بن الربيع، وأبو خيثمة، لكن أبو خيثمة كان متزوجاً بامرأتين، كل امرأة تهيئ المقام لـ أبي خيثمة، مهيئة الخيمة ومبردة ماء ومحضرة طعام، فدخل أبو خيثمة ووجد النساء متهيئات، أول ما جلس تذكر الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: بخ بخٍ يا أبا خيثمة! يعاتب نفسه، أبو خيثمة بين امرأتين حسناوين! وظل ظليل! وماء بارد! ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح والريح والشمس، والله ما هذا بالنصر! وقام قال: والله لا أطعم طعام واحدة منكن ولا أشرب شراب واحدة منكن، وجهز نفسه ومشى.
وأبو ذر أبطأ عليه بعيره، ترك البعير ومضى، أخذ الخرج ومضى على رجله، لأن قلبه ممتلئ حماساً، مع أنه ربما كانت الدابة مع مشيتها البطيئة أسرع منه، لكن قلبه شاب.
فكانت الغزوة في غاية الصعوبة، وبدأ بعض المسلمين يتفلت، وتفلت كثير من المنافقين، فأنزل الله هذه الآية تثبيتاً له: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة:40] في هذه الغزوة هو لا يحتاج إليكم، لقد نصره بغير واحد منكم، ما احتاج لكم، كان هو وصاحبه فقط ونصره الله عز وجل، فلو تخليتم عنه في هذه الغزوة فلا عليكم أن تتخلفوا، إلا تنصروه في هذه الغزوة وتقفوا موقف الرجال فلا حاجة لله فيكم: {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة:40] فنصره الله عز وجل.
فلا نريد أن ندخل تحت هذه الآية ونتقاعس، لابد من دراسة جدول حياتنا، لماذا خلقنا؟ وهل الخط الذي نمشي فيه خط سديد؟ هل إذا قابلنا الله عز وجل وسألنا عن ديننا سندلي بحجة ونتخلص بعذر، أم سنقف بلا عذر ولا حجة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه.(48/15)
حديث القدرية
عقيدة أهل السنة هي أوسط العقائد فيما يتعلق بمسائل الخلاف؛ إذ إن أهل السنة يخالفون أهل البدع والضلال في مسائل الأصول، بينما يعدون مسائل الفروع مما يسع فيه الخلاف؛ لذلك كان موقف أهل السنة من القدرية من الصنف الأول الذي لا يسع فيه الخلاف، بل الأصل فيه المفارقة والمفاصلة، وهذا يظهر جلياً في منهج أهل السنة وتطبيقهم لهذا المفهوم في موقفهم من الرافضة، والتحذير من الدعوات المطروحة للتقارب الفكري معهم، والذي ليس لها نتيجة في النهاية إلا تذويب هوية أهل السنة، وصرفهم عن العقيدة الصحيحة.(49/1)
الاختلاف بين أهل السنة والقدرية اختلاف أصول
قال الإمام مسلم رحمه الله: حدثني أبو خيثمة زهير بن حرب حدثنا وكيع عن كهمس عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر.
وحدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري -وهذا حديثه- حدثنا أبي حدثنا كهمس عن ابن بريدة عن يحيى بن يعمر، قال: كان أول من قال في القدر في البصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحِميري حاجَّين أو معتمرَين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوُفِّق لنا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إليّ، فقلت: يا أبا عبد الرحمن! إنه قد ظهر قِبَلنا ناسٌ يقرءون القرآن ويتقفرون العلم -وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون أن لا قَدَر وأن الأمر أُنُف- قال: فإذا لقيتهم فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم بُرَآء مني، ثم يقول عبد الله بن عمر: لو أن لأحدهم مثل أحدٍ ذهباً فأنفقه ما قَبِل الله منه حتى يؤمن بالقدر، ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب ومعبد الجهني كان يقول: لا قَدَرَ، والأمرَ أُنُف.
الأمرُ أُنُف معناه: مستأنف، يعني: أن الله تبارك وتعالى لا يعلم بالشيء حتى يقع -تعالى الله عما يقول معبد ومتابعوه علواً كبيراً- فنفى علم الله السابق لأفعال المكلفين أو لأفعال العباد.
يقول: لا قدر، والأمر مستأنف بالنسبة لله.
هذا كافرٌ أم لا؟ هذا كافر، لا شك في ذلك؛ لذلك تبرأ منه عبد الله بن عمر؛ لأن البراءة من المسلم لا تجوز، وهذه المقالة كفر، وقائلها كافر؛ لذلك تبرأ منه عبد الله بن عمر.
فواعجباً لهؤلاء الجهلة، الذين يصرخون صباح مساء: قَرِّبوا بينكم وبين الشيعة.
نقول: لا تقارب بيننا وبينهم! لماذا؟ لأننا مختلفون معهم في الأصول، فلو كنا مختلفين في الفروع لكان الأمر قريباً.
فمثلاً: أنا حنبلي المذهب، وأنت شافعي المذهب، أو أنا مالكي، وأنت حنفي، ونحن مختلفون في مسائل الأحكام الشرعية العملية التكليفية، فالمذاهب مختلفة في بعض هذه المسائل، ومتفقة في بعضها، ومع ذلك لا يجوز لأحدٍ أن يتبرأ من الآخر في مثل هذه المسائل؛ لأنه يسع الخلاف فيها.
لأجل هذا أنكر العلماء العاملون الفاهمون بعض التطرف الذي حصل من بعض العلماء، مثل ما يقول أحد علماء الشافعية -وهذا موجود في كتاب كفاية الأخيار في الفقه الشافعي-: أنه لا تجوز الصلاة خلف حنفي.
لماذا؟ قال لك: لأن الحنفي يرى أن مس الذكر لا ينقض الوضوء، والشافعي يرى أنه ينقض الوضوء، فإذا توضأ حنفي ومس فرجه فيكون وضوءه قد انتقض، فإذا صلى إماماً بالناس فكأنما صلى بغير طهارة، فلا تجوز الصلاة خلف هذا الحنفي.
فالواجب أن يُنْكَر على قائل هذه المقالة أياً كان منصبه، وأياًَ كان مقدار علمه.
لماذا؟ لأن المسألة من مسائل الاجتهاد، وقول الأحناف فيها له وجه.
والذي توصل إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنه جمع ما بين القولين: الشافعية والمالكية والحنابلة، يقولون: من مس فرجه؛ رجلاً كان أو امرأة فوضوءه منتقض، ويلزمه إعادة الوضوء؛ لأن الحديث صريح، واللفظ صريح: (من مس ذكره فليتوضأ).
والأحناف يعتبرون بحديث طلق بن علي: (ما هو إلا بضعة منك)، فسواءً مسست أنفك أو مسست أذنك أو مسست رأسك أو مسست ذكرك، فكله شيء واحد، فشيخ الإسلام ابن تيمية جمع بين حديث طلق بن علي وحديث بسرة بنت صفوان، وكان نتيجة هذا الجمع أن الأمر في حديث بسرة ليس للوجوب، إنما جعله للاستحباب.
فيكون: (مَن مس ذكره فليتوضأ -استحباباً-؛ إذ ما هو إلا بضعةٌ منك).
فيكون بهذا قد جمع بين القولين.
وحتى لو قلنا: إنه لم يجمع بين القولين، فالأحناف لهم وجه في الدليل.
إذاً: لا يقال: إن هذا طهارته انتقضت، وأن هذا يصلي بلا وضوء إلى آخر هذه الإلزامات التي لا وجه قوي لها.
ومثل هذا القول ذكَّرنا بجرح بعض علماء الحديث لبعض رواة الحديث قديماً قبل أن يستقر علم الجرح والتعديل، حيث مَرَّ أحد أئمة الجرح -ولعله حماد بن زيد - على رجل يبول قائماً، فقال: لا أروي عنه أبداً.
- فقيل له: إن بول الرجل قائماً جائز لحديث حذيفة في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى سباطة قومٍ فبال قائماً).
سباطة قومٍ: مقلب الزبالة، والعلة المذكورة في بوله صلى الله عليه وسلم قائماً ضعيفة لجُرْحٍ برُكْبَتُه كما نُقل، فكان لا يستطيع أن يقعد، فبال قائماً لهذا، وهذا التعليل ضعيف الإسناد ولا يصح.
إنما (بال قائماً) هكذا بالإطلاق.
إذاً: هذا فيه دلالة على جواز البول قائماً؛ لكن يُخشى على الذي يبول قائماً أنه يستقبل الريح، فالريح ترجع رذاذ البول على ثوبه، إلى آخره؛ لكنه إذا جاء على مكان رطب كرمل أو تراب أو نحو ذلك وبال قائماً وأَمِن من رجوع رذاذ البول إليه فهذا لا بأس به.
فلما رأى الرجلَ يبول قائماً، قال: لا أروي عنه.
- فلما سئل عن ذلك قال: إنه يبول قائماً، فيرتد الرذاذ إليه، فيصلي وعلى ثوبه نجاسة فصلاته باطلة.
فالعلماء ردوا مثل هذا الجرح، وقالوا: هذا جرحٌ بالتأويل، أي: أنه يفترض أن الرجل حين يبول قائماً فإن الرذاذ سيرجع عليه، ويفترض أنه سيصلي بنفس الثياب وهو عالمٌ بالمسألة، فهذا جرحٌ بالتأويل وهو مردود، ولذلك لم يعتبروه، وروَوا عن هذا الراوي ولم يعتبروا بمسألة الجرح بالتأويل.
فلذلك رد العلماء مسألة الجرح بالتأويل؛ لأن فتح باب التأويل مشكلة.
فالأحكام الشرعية العملية التي يسوغ فيها الخلاف لا نبني على الاختلاف فيها، ما نبينه على الاختلاف في المسائل الأصولية.(49/2)
ظهور كفر الرافضة
إن قال لك أحدهم: إن القرآن الذي بين يديك ثلث القرآن الحقيقي، والقرآن الحقيقي عندهم (18000) آية، وهؤلاء هم الشيعة الإمامية أصحاب إيران ومسألة تحريف القرآن مسألة ثابتة في كتبهم، وبما أن القرآن عندهم قرابة (18000) آية، والقرآن المذكور عندنا في المصاحف حوالي (6000) آية ونيِّف، (3 × 6 =18) يعني أن الموجود عندنا هو ثلث القرآن فقط.
إذاً، فثلثا المصحف المزعوم على ماذا يحوي؟! قالوا: يحوي على مناقب علي بن أبي طالب والعترة، وإمامة علي، وخلافة علي بن أبي طالب، والبغاة الذين خرجوا عليه كل هذا، وأن هؤلاء الصحابة كلهم كتموا هذا من أجل أن يسلِّموا الخلافة لـ أبي بكر الصديق.
ومن أصولهم أيضاً: أن الصحابة جميعاً ماتوا على النفاق، ما عدا ستة منهم، وأظهرُ الملعونين عندهم: أبو بكر وعمر وعائشة وحفصة.(49/3)
ظهور كفر الخميني في كتاباته
والخميني الذي كان يهلل له جميع الشيعة وقالوا عنه: إن هذا الرجل هو المنقذ وهو المخلص، ألف كتباً وأورد فيها دعاء من تأليفه، وكان يعلمه لأتباعه، وكان يدعو في هذا الدعاء على أبي بكر وعمر فيقول: اللهم العن الطاغوتَين الكافرين أبا بكر وعمر والعن ابنتَيهما.
وفي كتابه أيضاً في كتاب الطهارة: في أحكام السلام: أنه لو سلم شيعي على سني فإنه يلزمه أن يغسل يده بالتراب، ويصرح في أكثر من موضع أن السني أنجس من الكلب.
وكتبه مطبوعة والذي يمتري في هذا نأتيه بهذه النصوص من الكتب.
وهذا الخميني الذي يعتبره أصحابه القائد المظفر صاحب الثورة المجيدة.
فلا عجب أن كفَّره الشيخ الألباني، والشيخ عبد العزيز بن باز، وجماعة من علماء المملكة، وصدر في تكفيره كتيب بعنوان: (لماذا كفر علماء المسلمين الخميني؟).
فهؤلاء الشيعة مختلفون معنا في الأصول.
فالذي يقول: نقرب المذهب بيننا وبين الشيعة فهذا رجل جاهل ليس عنده فَهم.
إنما يحصل تقارب بيننا وبين من اختلف معنا اختلافاً سائغاً يجوز الاختلاف فيه؛ لكن أن نختلف في الأصول ثم ندعو إلى التقارب، فهذا ما لا يجوز.
نحن بُرَآءُ منهم، وهم برآء منا، مع العلم أنهم يتبرءون منا جهاراً، وأهل السنة في إيران يعامَلون معاملة الأقليات المسلمة في بلاد الكفر، فأهل السنة في إيران مضطهدون غاية الاضطهاد، لو أنهم موجودون بين ظهراني اليهود والنصارى للَقَوا من الأمن ومن الحرية أكثر مما يجدونه في إيران.
فالأصل أن لا يحصل تقاربٌ بيننا وبينهم على الإطلاق، لكن قاتل الله السياسة، ولعن الله مادة (ساس) و (يسوس) وما انشق منها.
لأن من لوازم هذه (السياسية)، أننا لو اصطلحنا مع إيران غداً، ستُفتح مراكز ثقافية، ويدرَّس المذهب الشيعي رسمياً، ويحصل تبادل للبعثات الثقافية والعلمية بيننا وبينهم، والتشيع مثل الجرب، فمن يبتلى به فإنه يظل يحك طول عمره، ولذلك فكل مَن ابتلي ببدعة في بداية طلبه للعلم، فإنها تلازمه إلى أن يموت ولو بجزءٍ يسير.
انظر إلى أي واحد ممن كان في جماعة التكفير، أو في أي جماعة من الجماعات الدعوية المنحرفة، إذا وصل إلى الحق في نهاية المطاف يظل عنده رواسب وظلال تلقى عليه، وهذا بخلاف من بدأ عمره وحياته على دعوة الحق، فالفرق كبير جداً وشاسع.(49/4)
خطورة الدعوة إلى التقريب بيننا وبين الشيعة
فمسألة التقارب هذه مسألة خطيرة، وكأن المسألة قريبة، وأنها يُمَهَّد لها، فبدءوا ينشرون بعض مسائل المذهب الشيعي عندنا، مثل نكاح المتعة، فهم يتكلمون ليل نهار في الجرائد والمجلات عنه، مع أنه عند أهل السنة كما في الصحيحين محرم إلى يوم القيامة، ولم يُبَحْ نكاحُ المتعة إلا ثلاثة أيام فقط، ثم حرمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى يوم القيامة، الآن يستغلون الظروف الاقتصادية الضيقة والتي بسببها عجز الشباب عن أن يتزوج، واحتجوا بكل أسف بما صدر عن لجنة البحوث، حيث اعتبروا المذهب الشيعي أحد المذاهب المعتمدة، ولذلك وضعوه مذهباً في موسوعة الفقه الإسلامي التي كانت قديماً أول ما صدرت تسمى موسوعة جمال عبد الناصر للفقه الإسلامي، فلما مات حولوا الاسم مباشرة وجعلوه: موسوعة الفقه الإسلامي، وقد صدر منها خمسة وعشرون مجلداً، وتوقفت عن الصدور، وكل الخمسة والعشرين مجلداً السابقة لا زالت تتناول حرف الألف.(49/5)
دور العلمانيين في تقويض أصول الدين
حين ذكر أصحاب موسوعة الفقه أن المذهب الشيعي أحد المذاهب المعتمدة، احتج عليهم العلمانيون الذين يلعبون في بنياننا، حتى الصلاة صارت بالمزاد، {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] فتجد أن كل من يرشد إلى الصلاة يقال له: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256].
حتى يطلع الجيل الجديد فيرى كل ثوابتنا مهزوزة.
وحتى (لا إله إلا الله) ستهز، لا تظن أنها لن تُهَز أبداً! لحديث حذيفة: (يأتي على الناس زمان لا يعرفون صلاة ولا زكاة ولا يعرفون قليلاً ولا كثيراً من الدين، لكن يقولون: لا إله إلا الله -أولادهم يسألونهم: ما معنى لا إله إلا الله؟ فيقولون: والله -يا بني- لا أعرف، أنا جئتُ فوجدتُ أبي يقول: لا إله إلا الله، فأنا أقول هكذا- يدْرُسُ الإسلامُ كما يدْرُسُ وَشْيُ الثوب، والوشي هو الرسم والزينة التي تعمل على الثوب، فالإسلام يذوب مثل ذوبان هذه الرسوم التي تكون على الثياب- حتى لا يدرون ما صلاة، ولا زكاة، ولا حج، ولا يعرفون شيئاً) فيقولون لأولادهم: ورثنا هذه الكلمة عن آبائنا وهم لا يفهمون شيئاً عنها.
فيأتي على الناس زمانٌ لا يعرفون كلمة التوحيد.
فهؤلاء العلمانيون أتوا إلى كل شيء ثابت فهزوه.
كمسألة الختان بالنسبة للإناث مثلاً: جاء ناس بعد أربعة عشر قرناً من الزمان وقد تقرر عند جميع المسلمين أن الختان إما واجب أو مستحب، فهو على أي حالٍ مشروع ومتقرر عندنا خلال أربعة عشر قرناً، وفجأة ظهر أن الختان ليس من الدين في شيء! وأن هذه عادة جاهلية! فإذا ما كبر الولد الصغير -وطبعاً الولد جاهل، لا يعرف شيئاً عن دينه- يقول: أربعة عشر قرناً وهم يضحكون علينا، وقد أدخلوا في الدين ما ليس منه؟! ما المانع أن يكونوا قد ضحكوا علينا في حكم آخر وحكم ثان وثالث ورابع؟! إنهم يقولون: إن الختان غير مشروع، وصدر قرار رسمي وصُدِّق عليه: أن الختان جريمة، ومَن ارتكبه يعاقب بالسجن وغرامة ثلاثمائة جنيه، ومع ذلك لا زال يدرَّس في مناهج الأزهر! ماذا يعني هذا الكلام؟! أيعني أن الأمر مجرد لعبة؟! ثم يأتون إلى مناهج السنوات الأولى مثلما عملوا في كتب الدين الخاصة بالسنة الرابعة: في زمن الود والإخاء، الولد في المدرسة دعا زميله وأباه وأمه إلى بيته، وتظهر والدته في الصورة محتشمة، وكذلك والدة زميله، ثم قعدوا على المنضدة وأكلوا جميعاً، فقال أولئك العلمانيون: ما دمنا نحارب الحجاب، ونصدر قرارات بمنع الحجاب، إذاً: لماذا نضع صورة امرأة لابسة مثل هذا اللباس؟ كأنني وكأننا رسمياً نقول: إن تغطية الشعر من الدين، مع أن المفروض أن ندعو إلى خلاف ذلك، فلما جاءت كتب الدين بعد هذا في السنة التي تليها مباشرة ظهرت الأم متبرجة، والتي تزورها أيضاً متبرجة، والكل يأكل أيضاً على المنضدة، فتفطنوا لذلك من أجل ألا يبقى أي شيء للفضيلة على الإطلاق.
فما عليكم إلا أن تنتظروا وتصبروا على أنفسكم إلى أن تزيلوا الختان من مناهج الأزهر، وتضعوا المناهج الجديدة التي هي ليست من الدين، وتستخدموا الذين سيحاسبهم الله حساباً عسيراً في هذا الأمر ليكتبوا لكم فتوى شرعية: أن الختان ليس من الدين، فيكبر الولد وهو يدرس في الأزهر أن الختان ليس من الدين، وهذا سيحدث نوعاً من الصراع النفسي، فكتب الأزهر الرسمية تقول: إن الختان ليس من الدين؛ بينما كتب الفقه تثبت أنه من الدين.
وأكثر من ذلك؛ بل والشيء الذي يغيظ ويفجر المرارة: أن المذهب الشافعي عندنا هو المذهب السائد، والمذهب الشافعي هو المذهب الأول في الأزهر، والحكم الشرعي في المذهب الشافعي: أن الختان واجب، انظر العجيب في المسألة! يعني هو المذهب الأول الذي يدرس، والفتوى في المذهب الشافعي كما ذكر النووي في المجموع شرح المهذب: أن ختان النساء واجب، فلما يكبر الناشئ ويجد الثوابت تهتز، ولا شيء ثابت على الإطلاق، فما الذي يمكنه أن يعمله، فتهتز حينئذٍ العلاقة بين النشء وبين دينهم، ويسيئون الظن بالعلماء، ويظنون أنهم لعبوا في الدين وأدخلوا فيه ما ليس منه وأخرجوا منه ما هو فيه، فيحصل هذا.
فلما يأتي أصحاب هذه الفتاوى ويقولون: إن المذهب الشيعي مذهب معتبر، فإن العلمانيين سيطبلون ويزمرون ويقولون: يا إخواننا! إذا كنتم أنتم رسمياً تقولون في أبحاثكم العلمية: إن المذهب الشيعي مذهب معتبر، وأنه يجوز اتباع المذهب الشيعي في بعض المسائل فتعالوا للناقش هذه المسألة: الشباب غير مستطيع للزواج، وكذلك البنات، والمهور غالية، فلماذا لا نزوجهم بنكاح المتعة؟! أي شاب معه خمسة عشر جنيهاً فليتزوج ليوم أو يومين، والذي معه مائة جنيه يتزوج لمدة أسبوع أو أكثر، وهذا يجعله يجدد دائماًَ، فمتعته تكون مستمرة، وهذا الشيء جيدٌ وليس سيئاً، لماذا تريدون أن تحرموا الناس؟ لماذا أنتم مغتاظون من الناس؟ لماذا تربطون الرجل بامرأة واحدة طوال العمر؟! دعوه يجدد، فالمذهب الشيعي نحن نراه أنه مناسب للظروف الاقتصادية، وأنتم تقولون في أبحاثكم الرسمية أنه مذهب معتبر.
فيأتون لنا بهذا الكلام!(49/6)
عقيدة التقية عند الرافضة
لما تأتي -إن شاء الله- إيران وتشرفنا بمجيئها وتدخل علينا، سيكون رافضتها أعداء لكل شيء فمذهبهم الرسمي واعتقادهم البراءة من أهل السنة، فما بالكم إذا جاءونا بمذهب التقية الذي ينقلون بشأنه عن جعفر الصادق -وكذبوا على جعفر الصادق - قوله: التقية ديني ودين آبائي.
فالتقية: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران:28]، يكون الشخص منهم يكرهك ثم يقول لك: أنا أحبك جداً، ويكون مراده أن يضع لك السم ثم يقول لك: هاهو العسل، ويبادر في خدمتك! وهذا هو أيضاً حال النصارى عندما يكونون أقلية في بلد ما فتجد الواحد منهم عندما يعيش في ريف أو قرية، فإنك تجده أحسن شخص، فهو الذي يقرض الناس، وهو الذي يعامل الناس معاملة حسنة، وهو الذي يضحك في وجوه الناس، وهو الذي يقول لهم كثيراً ودائماً (صلوا على النبي) ودائماً يتعامل معهم بذوق وأخلاق، ونحن ليس عندنا ولاء ولا براء، فيقول القائل من أبناء المسلمين إن فلاناً النصراني أحسن بكثير من المسلمين! فهؤلاء أشر من النصارى.
وهناك رجل ألَّف كتاباً -وأنا أدعوكم إلى شرائه وقراءته وقد أعجبني، وهو كتاب مفيد جداً- كشف لنا فيه جوانب خفية عن مذهب الرافضة اسمه: (بذل المجهود في مشابهة الرافضة لليهود)، جاء بأول تشابه ما بين الرافضة وما بين اليهود، وهو اتصافهم بالكذب، والكتاب مطبوع في السعودية.
فهؤلاء عندهم مذهب التقية، فالرافضي سيدخل فيك مثل السرطان، لا تشعر به على الإطلاق، فيشعرك أنه على مذهبك السني، وثَمَّ رجل أحمق أخرج كتاباً اسمه: (رحلتي من السنة إلى الشيعة)! انظر إلى قلة الحياء!!! سبحان الله! نحن في زمان العجائب! ونَشْرَ كتابه، وهذا يعد أمراً طبيعياً، بداعي أن حرية الرأي وحرية الكفر -وليس الفكر- مكفولة للجميع! وأي شخص يريد أن يخرج أي شي يخرجه، فليس عندنا هيئة لكبار العلماء، ولا عندنا مراقبة للذين يكتبون، ولا عندنا أية مراجعة ولا أي شيء من هذا، مع أن كل هذه الأمور يمكن أن تطبق بجرة قلم، مثلما أغلقوا كل المساجد الغير التابعة للأوقاف، وكما أغلقوا الجمعيات الخيرية في صلاة الجمعة، بجرة قلم، فباستطاعتهم أيضاً بجرة قلم أن يقروا هيئة لكبار العلماء، وأن ينشئوا هيئة رقابة، وأن يحاربوا الخمر، وأن يطبقوا الحدود، كل هذا بجرة قلم، فيستطيعون بجرة قلم أن يعيدوا حكم الله إلى النفاذ، وأن يُعَبِّدوا الناس للهعزَّ وجلَّ، كل هذا بجرة قلم؛ لكن نحن ليس عندنا هذا النوع، إنما الموجود عندنا أن كل إنسان يستطيع أن يكفر بالله العظيم، وينشر كفره.
أحد الإخوة المصلين أعطاني منذ جمعتين تقريباً كتاباً اسمه: (الألوهية والجنس) بينما نحن كنا مستفظعين لطعن بعض الكتاب على الصحابة فأصدروا (علماء الإسلام والجنس)، و (الصحابة والجنس)، فاستفظعناها، وظللت ليالي عَدَداً لا أستطيع أن أنام -إلا غفوات- من الكمد، وذلك أول ما رأيت (علماء الإسلام والجنس)، كيف صدر هذا العنوان؟ لكن كلما مضى الزمان.
- أو كما يقول أنس -: (ما من يومٍ يأتي إلا والذي بعده شرٌ منه إلى يوم القيامة) سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الكتاب المسمى بـ (الألوهية والجنس) تمت مصادرته؛ لكنه خرج وبِيْعَ، مثل كتاب (أولاد حارتنا) لنجيب محفوظ مُصادَر وبِيْعَ على الأرصفة رغم أنف الأزهر، هذا الكتاب ممنوعٌ تداوُله وقد طبع في سنة 1958م، ومع ذلك بيع رغم أنوفهم؛ لأننا ليس عندنا هيئة لكبار العلماء، وحتى لو كان عندنا هيئة لكبار العلماء فإنها لن تحل ولن تربط، وإنما سيوكل إليها فتاوى في الصلاة والزواج، والمواريث، ونحوها؛ لكن أن توقف شخصاً علمانياً يكتب فلا.(49/7)
حكم المخالف في الأصول
فمسائل الأصول مسائل خطيرة (لا يستقيم الظل والعود أعوج).
مسألة أن يخالفك شخص في الأصول فيجوز لك أن تتبرأ منه؛ لكن إذا كان الخلافُ سائغاً فلا تقل: أنا بريءٌ منه وهو بريءٌ مني، ولذلك تبرأ عبد الله بن عمر من هؤلاء الذين كفروا بالله العظيم ونفَوا علمه القديم المتقدم على أفعال العباد، فقالوا: إن الأمر أنف -أي مُستأنَف- فقال عبد الله بن عمر: أنا بريء منهم وهم برآء مني.
ثم قال: (حدثني أبي) وكلما قرأت في الأسانيد (حدثني أبي) شعرتُ بمرارة، وشعرت بغصةٍ في حلقي وقلتُ: أين هؤلاء الآباء؟! رحم الله هؤلاء الآباء، كم واحداً في هذا المسجد يستطيع أن يقول: سألتُ أبي رحمه الله عن كذا فقال: كذا، فيما يتعلق بالشرع وبدين الله عز وجل؟! كم واحداً يستطيع أن يقول: سألتُ أبي رحمه الله عن المسألة الفلانية فأجابني بكذا؟! ضاع هذا النمط، والسبب أن الأجيال الماضية كلها عاشت في فترةٍ حالكة السواد بالنسبة لدين الله عز وجل، فترة كلها مؤامرات، فسخروا من هذه الأسانيد، وسموها (العنعنات) حتى مر على الناس زمان إذا وجدوا الإسناد فإنهم يتجاوزونه سريعاً ليصلوا إلى المتن، ما عندهم صبر على الإطلاق أن يقرءوا سنداً أو يقفوا على سند، ولذلك دخل علينا أعداؤنا وطعنوا في السنة بسبب جهلنا بهذا السند؛ لذلك رأيت أن أفشي هذا العلم وهذا الفضل في مثل هذا الجمع؛ أقرأ الإسناد، وأقف عليه، وأقف على بعض رجاله، وأظهر الصناعة الحديثية كلها أو بعضها حتى تعلموا هذا الجهد الهائل الذي بذله علماؤنا.
أنت الآن مستريح، معك صحيح مسلم، إلا أنك لا تعلم مدى الجهد الذي بذله مسلم رحمه الله حتى يجمع وينتقي، ولا تعلم التحري الذي بذله ليخرج لنا هذا الصحيح، فضلاً عن بقية العلماء الذين جمعوا ونقَّحوا للأمة المسلمة، ومع ذلك يا ضيعة جهود المحدثين عند من جاءوا بعدهم! فالعلماء الذين رووا لنا هذه الأسانيد يقولون: إن رواية الولد عن أبيه لها مزية، وعند الاختلاف يقدمون رواية الولد على غيره الولد فمثلاً سالم بن عبد الله بن عمر ونافع مولى ابن عمر: أحياناً ترى الأسانيد: مالك عن نافع عن ابن عمر، فـ نافع الذي يروي عن ابن عمر هو مولاه، فكان ملازماً له مثلاً بنسبة (90 %)؛ لكن سالماً يلازم أباه بنسبة (99 %)، أو (98 %) أو (97 %) المهم أنه أكثر ملازمة له من نافع، فإذا اختلف نافع وسالم في حديثٍ عن ابن عمر فإن العلماء كـ أحمد بن حنبل وغيره يرجحون سالماً في أبيه، يقولون: الولد أدرى بأبيه من غيره، وأضبط لحديثه من غيره، ومع ذلك فلم يختلف نافع وسالم إلا في أربعة أحاديث فقط، كان الصواب فيها كلها في قول سالم.
فأنت لما تقرأ: (حدثني أبي) تدركك الحرارة، وطبعاً: (حدثتني أمي) هذه لها متاهات، أتعرف (حدثتني أمي) هذه كانت مع من؟ مع الحسن البصري هو الذي يقول: (حدثتني أمي)، من النادر في الأسانيد أن يقول قائل: (حدثتني أمي)، هو موجودٌ نَعم؛ لكنه نادر، وهو موجود فيما يسمى بأسانيد النساء، فمثلاً عمرة بنت عبد الرحمن الراوية عن عائشة رضي الله عنها، ومعاذة العدوية أيضاً وحفصة بنت سيرين أيضاً، فهناك نساء كثيرات، ومن أراد أن يستزيد من أخبار النساء وروايتهن في الكتب الستة فعليه أن يطالع الجزء الخاص بهن في كتاب تهذيب الكمال للحافظ أبي الحجاج المزي، أو في مختصره الذي هو كتاب تهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر، أو في مختصره الذي هو كتاب تذهيب التهذيب، للحافظ أبي عبد الله الذهبي فقد ذكروا فيه جمعاً من النساء اللاتي لهن رواية في الكتب الستة.
وكانت النساء أيضاً مهتمات بالحديث، فنحن عندنا مثلاً: أمة الله الحنبلية، لها مسند ونُشِر حديثاً، وكذلك بيبي بنت عبد الصمد الهرثمية لها جزء عن ابن أبي شريح عن شيوخه، وهذا أيضاً مروي في الأسانيد.
وأيضاً فأصح روايات صحيح البخاري رواية كريمة بنت أحمد المروزية كانت تروي صحيح البخاري، وكان إسنادها عالياً.
وكان أكابرُ العلماء يأتون إليها ليسمعوا منها.
فالحافظ ابن عساكر رحمه الله، صاحب التاريخ المشهور بتاريخ دمشق والذي طبع منه ستون مجلداً حتى الآن وربما يطبع في نحو مائة مجلد، وقد سكن دمشق، هذا الحافظ روى عن ثمانين امرأة ذكرهن من شيوخه.
والحافظ أبو عبد الله الذهبي تجاوزت شيخاته المائة، وكان منهن قرابة العشرين ممن تسمى (زينباً).
فلما تسمع هذا الكلام -وأنت رجلٌ محب لدين الله، وأنت رجلٌ حي الضمير- ترجع فتطلب العلم من جديد حتى تنقله إلى ابنك، فيكبر ابنك، ويقول: حدثني أبي، وسألت أبي، مثل أولاد أحمد بن حنبل رحمه الله، عبد الله وصالح، ومثل عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، وفي السلف علماء كثيرون لهم أولاد، كانوا يأخذون عنهم العلم، وهم الذين أفشوا علمهم ونشروه.
فيقول عبد الله بن عمر لما سمع هذه المقالة: (حدثني أبي) ومن فطنة المحدث أن يستحضر الحديث أو الآية التي تدل على الواقعة، أول ما يسمع نازلة من النوازل فيقول هذا الكلام.(49/8)
الرد على من طعن في حديث الآحاد
وهنا مسألة مهمة، وهي: أن الصحابة ما كانوا يفشون الأحاديث إلا إذا وجد ما يقتضي، يعني: لا نتصور أن عبد الله بن عمر يجلس في مجلس ويسرد الأحاديث سرداً كما لو كان يقرأ من كتاب، ولكن لما ظهر له المقتضى وسُئل عن مسألة فرأى الحديث يدل عليها ذَكَره.
ونحن نذكر هذا الكلام هنا؛ لأن بعض الذين طعنوا على الأحاديث يقولون لك: وهل عمر بن الخطاب هو الذي سمع هذا الحديث لوحده، أين بقية الصحابة؟! لماذا لم يسمعوا كلهم الحديث؟! ويطعن على الحديث أن صحابياً واحداً هو الذي سمعه، فلابد أن يكون واحداً واثنين وثلاثة وأربعة.
لا، فهذا الرسول عليه الصلاة والسلام، إنما كان يتكلم بالكلمة غالباً إذا وجد ما يقتضي ذلك، يُسأل سؤالاً فيجيب، أو يستأنف الكلام من نفسه، إذا رأى ما يوجب ذلك.
على سبيل المثال: الحديث المشهور الذي تعرفونه جميعاً: (لما مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على جدي أسكٍ ميتٍ فوقف مع الصحابة وقال لهم: أيكم يشتري هذا بدرهم؟ -هو الذي ابتدأ الكلام- فقالوا: يا رسول الله! والله لو كان حياً ما اشتريناه لأنه أسك مقطوع الأذنين، قال: أترون هذه هينةً على أهلها؟! والله! للدنيا أهون على الله من هذا على أهله).
فكان يحضر مجلس النبي صلى الله عليه وسلم الواحد والاثنان والثلاثة من الصحابة، ويغيب الجمع الأعظم؛ لأنهم يكونون في مشاغلهم، وما حديث ابن عباس في الصحيحين منك ببعيد، لما سأل عمر بن الخطاب عن المرأتين اللتين قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]، قال عمر بن الخطاب: كنتُ أتناوب النزول إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنا وجار لي من الأنصار، فإذا نزلتُ أتيته بالوحي، وبما قاله النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك اليوم، وإذا نزل هو فعل مثل ذلك.
فهذا يدلك على أن عمر بن الخطاب أراد أن لا يفوته شيء من العلم فعمل مناوبةً مع جارٍ له من الأنصار، كل الصحابة لم يعملوا هكذا، أبو بكر الصديق لا نعلم أنه فعل مثل هذا، وأيضاً كثير من الصحابة الذين هم في أماكن بعيدة ما أنابوا عنهم أحداً.
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتكلم بالحديث فلا يحفظه إلا من كان حاضراً، وأغلب الصحابة كانوا غائبين، إنما كانوا يسمعون ممن سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبلغون ذلك العلم إلى غيرهم إذ لم يكن آنذاك كذب.
فالذي يقول: أنه لابد أن يروي الحديث الاثنان والثلاثة والأربعة والخمسة! نقول له: لا.
كذلك إذا قال: وهل يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحِميري هما -فقط- اللذان رويا عن ابن عمر؟ أين بقية الأصحاب؟ نقول: هذان هما اللذان سألا، فلأجل هذا السؤال روى عبد الله بن عمر هذه الحكاية.
فـ يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن الحِميري إنما خرجا من بلدهما ليسألا عبد الله بن عمر هذا السؤال.
فلما سمع ابن عمر هذا الكلام وتبرأ منهم قال: (حدثني أبي عمر بن الخطاب رضي الله عنه) ثم ساق الحديث.(49/9)
الأسئلة(49/10)
غربة الشاب الملتزم وسط مجتمعه
السؤال
إننا -وخاصة من يلتزم منا حديثاً- نكون بين أهلينا وأسرنا العوام كأننا غرباء، وكذلك في الجامعة نتعرض للاضطهاد المستمر، فنريد توجيه كلمة إلى كل أصحاب هذه الغربة؟
الجواب
أنا أذكر هذا السائل بحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء).
و (طوبى) شجرة في الجنة، يقول النبي عليه الصلاة والسلام في وصفها: (يمشي الجواد المضمر المسرع في ظلها مائة عام لا يقطعها، قال أبو هريرة رضي الله عنه: فاقرءوا إن شئتم: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:30])، فالجواد المضمر يجري في ظلها مائة عام كأعوامنا لا يقطع هذا الظل، فهذه الشجرة للغرباء، وإذا عدت بذاكرتك إلى الغرباء الأولين، وجدتَ أن ما أنت فيه لعب بالنسبةِ لما كانوا فيه، وتجد أن البلاء إنما اشتد عليك؛ لأنك ليس عندك من الإيمان ما كان عندهم، فالمصيبة أننا إنما أوتلينا من ضعف الإيمان، لا من قوة البلاء.
لا أحد يصبر على الإطلاق على الذي كان فيه الصحابة إلا إذا كان عنده مثل إيمانهم، والنبي عليه الصلاة والسلام لما قال: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً) فوصف الغربة شَرَف، مثل ما حصل عندما ظهرت اللحية منذ حوالى عشرين سنة كان مظهر الملتحي يعد غريباً، فكان المستهزئون إذا أرادوا الاستهزاء به يقولون له: يا سُني!! بمعنى أنها سبة، فكان أحياناً بعض الملتحين يحسون بنوع من الإهانة، وربما جرى أحدهم وراء المستهزئ به وضربه ودخل في عراك معه؛ لأنه قال له: يا سني! مع أنه لم يسبه أصلاً، ولو كان العلم منتشراً آنذاك لعرف أنه بهذا كأنه يقول له: يا ابن الأصول.
تلك شكاة ظاهرٌ عنك عارُها وفي قصة عبد الله بن الزبير لما أراد الحجاج أن تعييره؛ كأن يقول: ابن ذات النطاقين، بمعنى أنه يشتمه ويعيره بـ ذات النطاقين أمه أسماء بنت أبي بكر لما شقت نطاقها شطرين، وقد كانت حينها حاملاً! لله درك يا أسماء، ومن لنا بمثلها من بين مليون شخص من أشباه الرجال الآن.
انظر إلى الجد والاجتهاد! امرأة حامل في الشهر الأخير تصعد الجبل تحمل الطعام على كتفها، تربطه بنصف نطاقها وتربط بطنها بالنصف الآخر، وتأخذ المتاع وتصعد إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وإلى أبيها! وما حملها هذا إلا الفداء والتضحية والحب لهذا الدين؟! فلابد لك من أن تعمل شيئاً لهذا الدين، فنحن عندما نفتخر بنسائنا من الصحابيات والتابعيات، ما ذاك إلا لأن الواحدة منهن تساوي أمة من أشباه الرجال، فما بالك بالرجال الذين فضلهم الله عز وجل على النساء.
فيأتي يُعَيِّرُها ويَعِيْبُها ويقول في عبد الله بن الزبير له عنها: ابن ذات النطاقين.
تلك شكاة ظاهرٌ عنك عارُها أي: دعها أنت -يا ابن الزبير - فلا تكن أنت المُعَيَّر، فهو شَرَفٌ، وأيُ شَرَفٍ! فأنت حين تتصف بالغريب اسم الغريب، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال لك: (بدأ الإسلام غريباً)، ومعروف أن البداية كانت مشرفة، ثُلة من المتقين شرفوا جبين الزمان من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة، صدقوا الله عز وجل، لم تكن بينهم أحقاد، ولم تكن بينهم الخلافات التافهة الموجودة الآن بين أفضل الإخوة مع بعضهم بكل أسف، فتجد الرجل فاضلاً وعالماً وداعيةً، وبينه وبين غيره من الأحقاد ما يعجز عن وصفه اللسان.
فالصحابة جردوا العزم لله عز وجل، وكانت البداية لهذا الدين بتضحيتهم وإخلاصهم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.(49/11)
الجمع بين الأحاديث الواردة في استحلال دم المسلم
السؤال
كيفية الجمع بين حديث: (لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث) ومع غيره من الأحاديث التي في بعضها التصريح بقتل غير هؤلاء؟
الجواب
إن هذا الحديث: (لا يحل دم امرئٍ مسلمٍ إلا بإحدى ثلاث: زناً بعد إحصان، وكفرٍ بعد إيمان، والمفارق لدينه التارك للجماعة) فهذه هي الثلاث الكبار؛ مثل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما يقول: (الكبائر سبع) فهل في هذا الحديث حصرٌ للكبائر؟ ليس فيه حصر للكبائر؛ لكن هذه الكبائر التي لها علاماتها البارزة، مع أن أي رجل حلال الدم يمكن أن تضع ذنبه تحت واحد من هؤلاء الثلاث، يعني: هذا الحديث، ليس فيه: أنه لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بهؤلاء الثلاث مع وجود أسباب أخرى! يعني: مثلاً لما تقرأ حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)، هل المسألة محصورة في هؤلاء السبعة؟! وكما في صحيح مسلم من حديث أبي اليسر: (من أنظر معسراً) وانظر إلى جمال الحديث وإلى اسم الراوي الذي رواه (من أنظر معسراً كان في ظل العرش يوم القيامة، أو أظله الله بظله يوم لا ظل إلا ظله) فهذا شخص ثامن.
فالأصل في الأحاديث أننا نجمع بعضها إلى بعض، ولا نضرب بعضها ببعض.
والله أعلم.(49/12)
حالة ضعف المسلمين
يمر المسلمون هذه الأيام بمرحلة استضعاف رهيبة غير معهودة في سالف عصورهم، فقد تسلط عليهم الأعداء في جميع المجالات، ولم يعد لهم هيبة في أعين أعدائهم، وما ذلك إلا بسبب الذنوب والمعاصي التي طغت على المجتمعات الإسلامية فأورثتها المذلة أمام الأعداء، وعدم العمل بالشريعة الإسلامية وتحكيمها على مستوى الفرد والمجتمع.
وإن الهجرة إلى الله تعالى نجاة من الضعف، وقوة القلب خير معين على الصبر حال الضعف إلى أن يمكن الله تعالى لهذه الأمة في الأرض.(50/1)
الاستضعاف بين المحمود والمذموم
إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال الله عز وجل: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5].
أيها المسلمون! لا ينفك الإنسان عن حالة من الضعف تركبه، لكن ليس كل ضعف محموداً؛ بل هناك ضعف مذموم وضعف محمود، وكل خصلة سلب تكون في الله فهي محمودة.
وخصال السلب ضد الخصال الإيجابية، فلو قلت: رجل قوي، فسالبه ضعيف رجل غني، فسالبه فقير رجل عزيز، فسالبه ذليل وهكذا.
فكل خصلة سلب تكون في الله فهي محمودة، ألا ترون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن إضاعة المال، وعد ذلك من باب التلف لنعم الله عز وجل يؤاخذ العبد عليها، ومع ذلك فإذا أتلف العبد ماله في الله كان محموداً.
روى الإمام أبو داود في كتاب الزهد بسند صحيح: (أن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قابل راعي غنم، فقال: يا غلام! بعني شاة من الغنم.
فقال: ليست لي.
فقال: بعني شاة وقل: أكلها الذئب.
فقال الغلام: وأين الله؟! فبكى ابن عمر وجعل يردد: وأين الله؟! وأين الله؟! ثم قال: يا غلام! وافني وسيدك غداً في هذا الموضع، فلما كان من الغد جاء الرجل والغلام، فاشترى الغلام والغنم من مالكها، ثم أعتق الغلام ووهب له الغنم).
إن الذي جعله يفعل ذلك هي الكلمة التي كررها ابن عمر وبكى لأجلها: (أين الله؟! أين الله؟!) فاشترى الغلام والغنم، وأعتق الغلام وترك له الغنم.
وروى أبو داود أيضاً في نفس الكتاب عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (بينما أنا ذات ليلة إذ تفكرت في قول الله عز وجل: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]، فقلت: إن أحب ما أملكه هي رميتة -وهي جارية لـ ابن عمر، والجواري والعبيد آنذاك كانوا مالاً- قال: فلما رأيت أنه ليس عندي أغلى من رميتة قلت: هي في سبيل الله، ووالله لولا أني أكره أن أرجع في شيء وهبته لله عز وجل لأعتقتها وتزوجتها).
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل له أمة فأدبها وأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها)، فهذا يؤتى أجره مرتين، فكان عنده هذا الباب، يؤتى أجره مرتين ثم يحقق لنفسه ما يشتهي من محبة المرأة والقرب منها، ومع ذلك فضل الباب الآخر؛ لأنه انتصار على حظ النفس.
إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الشديد بالصرعة -أي: الذي يصرع الرجال- ولكن الشديد الذي يملك نفسه)، هذا هو الشديد، فمن ملك حظ نفسه فهو الشديد، لقد كان هؤلاء رجالاً يحبون معالي الأمور، قال ابن عمر: (فأنكحتها نافعاً)، ونافع هو مولى ابن عمر.
فإذا فعلت الشيء لله عز وجل وكان بالسلب عند الناس كنت به محموداً.
كذلك الاستضعاف المحمود: أن تخرج من بيتك ومالك لله، فلا تندم أبداً أنك تركت مالك أو دارك أو أهلك لله عز وجل، فإن البقاء في الدار لا يخلدك، وإن البقاء في مالك لا يطيل عمرك.
إن الله عز وجل قص لنا جانباً من الاستضعاف المذموم، فقال تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:97]، لقد كانوا مستضعفين في الأرض، لكنه استضعاف مذموم، لقد كان بإمكانه أن يخرج لكنه قصر في الخروج؛ بدليل أن الله عز وجل قال بعدها: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} [النساء:98] * {َأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء:99]، هؤلاء المستضعفون الذين لا يهتدون حيلة ولا يجدون سبيلاً استثناهم الله عز وجل.
إذاً: هذا يدلنا على أن الذين قالوا: (كنا مستضعفين في الأرض) كاذبون، لقد كان بإمكانهم أن يخرجوا فقصَّروا، فكذلك كل رجل كان بإمكانه أن يفعل ما أوجبه الله عليه ولم يفعل، أو أن ينتهي عما نهى الله عز وجل عنه ولم يفعل؛ هذا لا يقبل منه شيء، ولا تقبل منه حجة؛ لأنه كان بإمكانه أن يفعل، إنما يعفى عن العاجز الذي لا يستطيع حيلة ولا يهتدي إلى سبيل للخروج من مأزقه الذي وقع فيه.(50/2)
الهجرة في سبيل الله نجاة من الاستضعاف
إن المهاجر في الله عز وجل له أجر عظيم، لو تفطن له كثير من العباد لهانت عليهم دورهم وأموالهم في الله الهجرة هي علاج الاستضعاف، إذا كنت مستضعفاً فهاجر، استبدل بيئة غير البيئة التي حاربتك وأذلتك ووقفت ضد دعوتك؛ لعلك تجد أناساً آخرين أرفق بك وأرحم من الذين ولدت بينهم اترك دارك لله إن استطعت إذا كنت في بيئة يسب فيها الله ورسوله، أو يعصى فيها الله عز وجل، وتخشى على نفسك وعلى أولادك؛ فينبغي بل يتعين عليك أن تهاجر، وهذه هي الهجرة التي لا تنقطع إلى يوم القيامة.
روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال الهجرة ما قوتل الكفار)، فهذه هي الهجرة التي لا تنقطع، وهي علاج الاستضعاف.
روى النسائي وابن ماجة بسند حسن، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (شهد النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من أهل المدينة مات في المدينة -ولد في المدينة ومات بها- فقال عليه الصلاة والسلام: يا ليته مات في غير مولده -يعني: يا ليته مات غريباً- فقالوا: لِم يا رسول الله؟ قال: إن الرجل إذا مات في غير مولده قيس له من مولده إلى منقطع أثره في الجنة)، هذا يكون ملكه، رجل هاجر من مصر -مثلاً- إلى آخر الدنيا، فراراً بدينه من الفتن، ومات غريباً؛ فإنه يقاس له في الجنة من موضع مولده إلى موضع وفاته.
ولذلك نهي المهاجرون أن يرجعوا إلى مكة أو يسكنوا بها؛ حتى لا يرجعوا في شيء خرجوا منه لله عز وجل، ولم يرخص لمهاجري أن يبقى في مكة أكثر من ثلاثة أيام، وفي الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (مرضت في حجة الوداع مرضاً أشرفت فيه على الموت، فزارني رسول الله صلى الله عليه وسلم -وساق حديثاً طويلاً، وفي آخره- قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم امض لأصحابي هجرتهم، اللهم لا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خولة مات بمكة)، سعد بن خولة مات بمكة، فوصفه النبي عليه الصلاة والسلام: بـ (البائس)؛ لأنه فقد أجر الموت غريباً، وخسره؛ لأنه مات بمكة: (لكن البائس سعد بن خولة مات بمكة، يا ليته مات بالمدينة، يا ليته مات غريباً).
وفي صحيح مسلم في إحدى طرق هذا الحديث قال سعد: (وأخشى أن أموت فأكون كما كان سعد)، لقد كان يخشى على نفسه أن يموت بمكة، وهو في طاعة في زمن حجة الوداع؛ لأنه سوف يفقد أجر الموت غريباً، فإذا كانت الأرض لله عز وجل فما يضيرك أن تموت في أقصى الأرض؟ إن الله عز وجل يقول: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:56] * {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [العنكبوت:57]، مت في أي مكان لكن على التوحيد، مت مسلماً ومت في جوف سبعٍ أو في قعر بحر، أو في أي مكان، لا يضرك: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [العنكبوت:56]، فلا تتردد أن تخرج إلى الهجرة؛ لأن: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:57].
بعض الناس يوصي ألا يدفن ليلاً؛ لأنه يظن أن القبر كالدنيا فيه نهار وليل، يظن ذلك، ويظن أنه لو دفن ليلاً فسيشعر بالوحشة، لا والله ليس في المقابر ليل ولا نهار، كله ليل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذه القبور ملآنة ظلمة على أهلها، وإن الله عز وجل ينيرها لهم بصلاتي عليهم)، فكلها مظلمة، لكنه يظن كما يستوحش إذا أفرج إفراج الساري في الليلة الظلماء في الدنيا أنه يكون كذلك في القبر.
فالخوف من هذه الوحشة هو الذي جعل هؤلاء يبقون في دارهم ولا يهاجرون، ويلابسون أصحاب المعاصي حتى تأثرت قلوبهم، ثم وافوا الله عز وجل بقلوب مريضة أو ميتة، فقال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} [النساء:97]، فهذا الاستضعاف المذموم يكون مع القدرة على الخروج والهجرة.
أما العاجز فإن الله عز وجل قد وضع كل أمر أمر به أو نهي نهى عنه إذا خرج عن مقدور العبد، كما ثبت ذلك في القرآن والسنة، قال الله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وقال عز من قائل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، وقال عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به).
الاستضعاف المحمود: أن تنحاز إلى الله؛ لذلك قال الله عز وجل: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ} [القصص:5]، فلا يمن الله إلا على عبد انحاز إليه، ولذلك أراد ففعل، والله عز وجل إذا وعد فلا يخلف وعده، وإذا أوعد فهو بالخيار، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا وعد الله عبداً على عمل أجراً فهو منجز له ما وعد، وإذا أوعد عبداً فهو بالخيار)، إذا هدده فهو بالخيار: إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، وهذا من فعل الكرام: إذا وعد لا يخلف الميعاد؛ لأن هذا هو مقتضى الكرم والإحسان؛ لأن الرجوع في الإحسان نقص.(50/3)
هل للعباد حق على الله عز وجل؟
هناك إشكال قائم بين أهل السنة والمعتزلة في: هل للعباد حق على الله عز وجل أم لا؟ فالمعتزلة يقولون: يجب على الله عز وجل أن يفعل الأصلح لعباده، وهل لأحد على الله حق؟! لا والله، ما لهم عليه حق، أنشأهم من العدم ولم يكونوا شيئاً مذكوراً، ووافاهم بالنعم، فأين الحق الذي لهم عليه؟ لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معاذ! أتدري ما حق العباد على الله؟)، فأثبت للعباد حقاً هنا، فلربما قال قائل: فهذا إثبات لحق العباد على الله، فنقول: لا، إنه صار حقاً لهم لأنه وعدهم، وهو لا يخلف الميعاد؛ لا لأن لهم ما يستحقون به ذلك الحق من ذات أنفسهم، لكنه سبحانه إذا أوعد فتكرماً منه لا يخلف ميعاده للعبد، كما في حديث البطاقة وغيره الذي رواه الإمام الترمذي رحمه الله، وهو من أرجى أحاديث أهل السنة للعصاة، قال صلى الله عليه وسلم: (يصاح برجل على رءوس الأشهاد، وينشر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل مد البصر، وكلها ذنوب وخطايا، فيقول الله عز وجل له: عبدي! هل تنكر مما في كتابك شيئاً؟ يقول: لا يا رب.
فلما علم أنه داخل النار يقيناً، قال الله عز وجل: عبدي! إنه لا يظلم عندي اليوم أحد، إن لك عندنا بطاقة، ثم يخرج بطاقة مكتوب فيها (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فتوضع هذه البطاقة في الكفة الأخرى فتطيش هذه السجلات كلها، ولا يرجح باسم الله شيء).
فهذا العبد فعل ذنوباً، وقد توعد الله عز وجل العاصي بالنار، ومع ذلك أخلف الله ميعاده للعبد العاصي وأدخله الجنة، وقال صلى الله عليه وسلم: (بينما امرأة بغي -تتاجر بعرضها- تمشي فوجدت كلباً يلهث ويلعق الثرى من العطش، فنزعت موقها -أي: خفها- ونزلت في البئر فملأته ماء، فسقت الكلب، فشكر الله لها فغفر لها)، وهذه امرأة بغي؛ لأن إسقاط العقوبة تكرم يناسب الله عز وجل، فإذا كان يسقط العقوبة تكرماً أيرجع في الإحسان والهبة؟ والنبي صلى الله عليه وسلم أنكر على العبد أن يرجع في الهبة، فقال صلى الله عليه وسلم: (ليس لنا مثل السوء: العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه) فأنكر على العبد، وهو لا يملك شيئاً ذاتياً يفتخر به، لا موهبة ولا مالاً، أنكر عليه أن يرجع في الهبة، أيرجع فيها رب العالمين؟ لا والله.
لذلك قال الله عز وجل بعد هذه الآيات: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:100] هذا هو الانحياز المحمود {إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100]، وقال عز وجل: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ} [القصص:5] فمن، وقال عز وجل: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(50/4)
ابتلاء الله لعباده بالاستضعاف سبب لتعلقهم به
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
قد يقول القائل: أليس المستضعفون هم عباد الله وهم أولى الناس بالتمكين في الأرض؟ فلم يتركون في مهب الريح؟ ولم يدال عليهم ولا ينصرهم الله عز وجل بـ (كن) ويمضي أمره في الكون؟ فنقول: إن الله تبارك وتعالى جعل ذلك فتنه للعباد، فقال عز من قائل: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251]، دفع الله الناس بعضهم ببعض هذا محق وهذا مبطل، إنما جعل الاستضعاف من نصيب المؤمنين؛ لأن أعظم ثمرة للاستضعاف هي تعلق القلب بالله عز وجل، هذه أعظم ثمرة يحصلها المؤمن: أن يتعلق قلبه بالله؛ لأنه ضعيف، فيحتاج إلى من يقوي ضعفه، فلا يكون إلا الله، وحياة القلب لا تكون إلا في وسط العواصف والمحن، لذلك رفع الله عز وجل شأن عباده بهذا الاستضعاف.(50/5)
قوة القلب تعين على الصبر حال الاستضعاف
إن العبد يوزن عند الله بقلبه لا بجسمه، وقد صدق ابن القيم رحمه الله لما قال على حديث: (يأتي العبد السمين فيوضع في الميزان فلا يزن جناح بعوضة).
قال: فقيمة العبد في قلبه؛ لذلك كان نصيب القلب من البدن هو الملك، فالقلب ملك البدن، فهو مستقر الإخلاص والتوحيد للملك، والعبد الذي وهب قلبه لغير الله لا يعبأ الله به، ولا قيمة له عند الله عز وجل.
وقد ذكر الله عز وجل القلب كثيراً، مثل الصدع والران والختم والغلف، ولما ذكر الوحي وما يؤثر به في القلب ذكر الحيلولة، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24]، ولذلك فلا تأمن مكر الله عز وجل.
استضعافك المحمود أساسه قلب سليم، ولذلك جعل الاستضعاف من نصيب المؤمنين، كم من رجال كانوا إذا سمعوا بالسجن ارتعدوا خوفاً، لكن لما دخلوا وخرجوا عظمت قوة قلوبهم، فلم يعودوا يرهبون شيئاً، ضع الإنسان في وسط العاصفة واتركه، بخلاف الجوارح فإنه لا يستقيم حالها مع البلاء والمحن، فإن البلاء والمحن تضعف الجارحة لكنها تقوي القلب، وتدبروا قصص الأنبياء والصالحين وانظروا إلى قوة قلوبهم، فإن العضو يستقي قوته من القلب، ومن الشواهد على ذلك: ما حدث لـ جعفر بن أبي طالب في غزوة مؤتة، فقد قطعت يده اليمنى فحمل الراية باليسرى فقطعت، فحماها بعضده.
هذه هي قوة القلب وليست قوة العضو، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر)، فإذا اشتكت هذه اليد لا تستريح تلك، ولا تستريح الرجل ولا يستريح الدماغ؛ لأن هذه الأعضاء كلها تتداعى في المحن، إلا القلب فإنه ملك لا يكاد يشعر بالبلاء.
وهنا قصة عجيبة، ولولا أن سندها صحيح لما صدقها أحد، ذكرها الإمام ابن حبان رحمه الله في كتاب الثقات في ترجمة أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي رحمه الله، وقد كان أحد التابعين الفضلاء، روى عن أنس بن مالك وغيره، حكى هذه القصة رجل كان يمشي بين الجبال، قال: (فإذا أنا برجل قد قطعت يداه ورجلاه، وذهب بصره، وثقل سمعه، فلما ذهبت إليه واقتربت منه سمعته يقول: الحمد الله الذي فضلني على كثير مِمَن خلق تفضيلاً! قال: فقلت في نفسي: والله لآتين هذا الرجل، وأي نعيم هو فيه؟! لقد ذهبت يداه ورجلاه وبصره وثقل سمعه.
قال: فذهبت وسلمت عليه، وقلت: يا عبد الله! سمعتك تقول كذا وكذا، فأي نعمة أنت فيها وقد ذهبت يداك ورجلاك وبصرك وثقل سمعك؟! قال: يا عبد الله! والله لو أرسل الله عليَّ النار فأحرقتني، والبحر فأغرقني، ما ازددت إلا شكراً له على هذا اللسان الذاكر، ثم قال: يا عبد الله! إنك إذ وافيتني فلي عندك حاجة.
قلت: ما هي؟ قال: إن لي ولداً كان يطعمني ويسقيني ويحضر لي الوضوء، وقد فقدته منذ ثلاثة أيام، فهل لك أن تبحث لي عنه؟ قال: فقلت في نفسي: والله لا أسعى في حاجة عبد هو أفضل من هذا العبد.
قال: فمضيت أبحث عن ولده، فما مضيت بعيداً حتى وجدت عظم الشاب بين الرمال، وإذا سبع قد افترسه، فركبني الهم وقلت: كيف أرجع إلى الرجل وماذا أقول له؟ وجعلت أتذكر أخبار المبتلين، فحضرتني قصة أيوب عليه السلام.
فذهبت إليه وسلمت عليه، فقال: يا عبد الله! وجدت ولدي؟ قال: فقلت له: يا عبد الله! أتذكر أيوب؟ قال: نعم.
قلت: ماذا فعل الله به؟ قال: ابتلاه في نفسه وفي ماله.
قلت: كيف وجده؟ قال: وجده صابراً.
قال: يا عبد الله! قل ماذا تريد.
فقلت له: احتسب ولدك، فإني قد وجدت السبع افترسه.
قال: فشهق شهقة، وقال: الحمد الله الذي لم يخلق ذرية مني إلى النار ومات.
قال: فركبني الغم، ماذا أفعل وأنا وحدي؟ فإذا أنا بقطاع للطرق، فلما رأوني أغاروا عليَّ -بعدما سجى هذه الجثة وجلس يبكي، أغاروا عليه ليسرقوا الذي معه- فلما رأوه كذلك قالوا: ما يبكيك؟ فقال: مات صاحب لي ولا أملك له شيئاً.
فقالوا: اكشف عن وجهه، فلما كشفوا عن وجهه، فإذا هو أبو قلابة؛ فبكى اللصوص وقالوا: العبد الصالح! وصلوا عليه ودفنوه).
هذه هي قوة القلب: رجل فقد المنفعة، لا أطراف له، ولكنه لا يحس بعظمة المحنة التي ركبته بسبب قوة قلبه! إذا من الله عليك بقوة القلب فلا تأسى على ما فاتك من الجارحة، لذلك أعظم الناس أجراً عند الله عز وجل هم الصابرون، فإن الله تبارك وتعالى قال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، لا ينصب لهم ميزان، ولا ينشر لهم ديوان.(50/6)
أسباب ضعف المسلمين وتسلط الأعداء عليهم
نحن مستضعفون في الأرض، حتى إن أذل الخلق استطالوا علينا، يذلوننا ويمضون ما يريدون وهم خمسة عشر مليون يهودي في الأرض كلها، ونحن ألف مليون مسلم، لو بصق الواحد منا بصقة واحدة لأغرقناهم، فكيف استطالوا علينا؟! لقد ضعفت قلوبنا، ولا أقول: قويت قلوبهم؛ فهم أجبن من أن تقوى قلوبهم، لكنهم متمسكون بباطلهم، فهذا النتن الذي تولى الوزارة في إسرائيل، لما أراد أن يخطب خطبة الافتتاح في البرلمان لبس القبعة السوداء، والقبعة السوداء عندهم هي والتوراة شيء واحد، لأن لبس القبعة السوداء تعني أنه رجل متدين، لا يخرج عن حكم التوراة هكذا يعظمون التوراة.
أما نحن فقد ظهر عندنا من يقول: إن القرآن فيه أخطاء نحوية! وينشر هذا الكلام في الصحف -في صحيفة الأخبار-! وهو مستشار ومازال يحكم بين الناس، وكان ينبغي أن يقتل، يقول: إن القرآن فيه أخطاء نحوية، كقوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه:63] الجاهل الغبي يقول: (هذان) مرفوعة، و (إن) تنصب الاسم، وجهل هذا الغبي أن (إنْ) هنا ليست (أنَّ) ولا (إنَّ)، فلا عمل لها حتى تنصب الاسم، إن الأطفال الصغار الذين يتعلمون (إنَّ وأخواتها) يعلمون هذه الحقيقة، ثم يطفح بهذا الجاهل على صفحات الصحف ولا زال يُذكر إلى الساعة!! هذه أمة لا تقوم لها قائمة وكتاب الله عز وجل لا يعظم فيها.
وهناك رجل آخر ألف كتاباً ونشرته هيئة رسمية، وهي الهيئة العامة المصرية للكتاب، واسم هذا الكتاب: (آية جيم) وقد نشر وطبع طبعة أولى وثانية على رغم أنف الأزهر، يفتتحه مؤلفه بالشرك فيقول: باسم الشعب والسلطان الغشوم، وبعد ذلك يقول: إن القرآن غبن الجيم حقها، ولم يعطِ الجيم قدرها، وصاحبنا هو الذي أعطى الجيم قدرها! فألف هذا الكتاب وعمل فيه فقرات على وزان فقرات القرآن الكريم! ويريدون النصر على إسرائيل! لا والله، سنة الله لا تتخلف، والله لا يحابي أحداً من عباده، فإذا عظمنا الكتاب والسنة، وعظمنا الله عز وجل؛ رفعنا الله بغير كسب منا، إن الله عز وجل هزم الأحزاب وحده بغير كسب من المسلمين، وأرسل عليهم ريحاً وجنوداً لم يروها وهزمهم.
فإذا رجعنا عبيداً لله عز وجل مكن لنا في الأرض ولو كنا أضعف الناس، مكن لنا بغير قذيفة واحدة نطلقها، لذلك كانت الدروس عن الاستضعاف وكيفية الخروج من الاستضعاف في غاية الأهمية للغرباء، نحذو حذو هؤلاء الغرباء وهم في طريقهم إلى الله عز وجل.
اللهم قو ضعفنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، واغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير.(50/7)
الهجرة في سبيل الله تعالى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
قلنا: إن الهجرة علاج الاستضعاف، ولإن كانت الهجرة من البلد متعذرة، حتى وإن كان فيها عصاة، يظهرون خلاف الدين، لتعذر الخروج من مكان إلى مكان، فهناك الهجرة التي لا تنقطع، وهي الهجرة الواجبة التي يستطيع كل مسلم أن يحققها، وهي بوابة الهجرة الكبيرة، ألا وهي: الهجرة من المعصية إلى الطاعة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (المهاجر من هجر السوء)، وفي لفظ آخر: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه).
إن إيماننا ضعيف؛ بسبب هذه القرون المتطاولة التي ورَّث الآباء ضعفهم إلى أبنائهم كما يورثون المال، بخلاف الصحابة الأوائل، فقد كان الواحد منهم يقوى ولا يبكي أبداً، ولا يلتفت إذا ترك ماله وداره وولده؛ لقوة قلبه.(50/8)
منزلة الآباء والأمهات
وهنا لفتة: فلم يقل أحدهم: بابني أنت وأمي، أو بابني وأبي؛ وهذا يدل على أن الأب والأم أغلى من الولد.
ذات مرة أرسلت إلي امرأة رقعة تستحلفني فيها بالله عز وجل أن أجيب بصراحة: هل أمك أغلى أم أولادك؟ ففهمت أن لها أبناء عاقين، وكأنها تستحلفني بالله عز وجل حتى أتكلم وأوصي الأبناء بالأمهات، ومادام أنها قد استحلفتني بالله عز وجل، فوالله الذي لا إله غيره: لزوجتاي وأبنائي في شراك نعل أمي، لا أقول: إن زوجتي وأبنائي يساوون أمي أبداً، بل في شراك نعلها! ولو كان أحد ينوب عن أحد في المرض ويفتدى به لافتديت بكل أولادي لرفع المرض من جسد أمي! لقد كان الصحابة يقولون: (بأبي أنت وأمي) مباشرة! أي: يفدونه بالأغلى الذي لا غالٍ بعده، (بأبي أنت وأمي يا رسول الله!) والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه.
قالوا: خاب وخسر يا رسول الله! -فذكر أصنافاً من الناس ومنهم-: من أدرك أبويه أو أحدهما ولم يغفر له).
وروى البخاري في الأدب المفرد أن ابن عمر رأى رجلاً يحمل أمه في الطواف، وهو يقول: أنا لها بعيرها المذلل إن أذعرت ركابها لم أذعر ثم قال: يا ابن عمر! تراني وفيتها -أي: وفيت أمي جميلها لما حملتها على كتفي، وطفت بها في هذا الزحام الشديد-؟ فقال له عبد الله بن عمر: لا، ولا بزفرة، والزفرة: هي وجع المرأة في الولادة، أي: هذا الذي فعلته لا يساوي زفرة من زفرات الأم في حال الوضع.(50/9)
هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر إلى المدينة
تقول عائشة رضي الله عنها: (فلما رآه قال: بأبي هو وأمي! ما جاء الساعة إلا لأمر، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قال: أخرج من في الدار -يريد أن يقول له شيئاً هاماً- فقال: يا رسول الله! إنما هم بعض ولدك قال: فإن الله قد أذن لي في الهجرة.
قالت عائشة رضي الله عنها: فبكى أبو بكر، وما كنت أظن أن أحداً يبكي من الفرح.
فكان أبو بكر رضي الله عنه قد حبس راحلتين له وللنبي عليه الصلاة والسلام، ليركبا عليهما في الهجرة، فقال أبو بكر: يا رسول الله! هذه إحدى راحلتاي حبستها لك.
فقال صلى الله عليه وسلم: بالثمن)، أي: أدفع ثمنها.
وهنا لفتة: فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال كما في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد: (إن عبداً خيره الله عز وجل بين زهرة الحياة الدنيا وبين ما عنده، فأختار ما عنده، فبكى أبو بكر وقال: نفديك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: إن أمن الناس علي في صحبته وذات يده أبو بكر، ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، لكن صاحبكم خليل الله)، فمعلوم أن أبا بكر واسى النبي صلى الله عليه وسلم بماله، فكم أعطاه من ماله! فلماذا أبى أن يأخذ منه الراحلة هنا إلا بالثمن؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كره أن يدنس العمل الذي عمله لله بشيء من الدنيا، فلا تدنس إخلاصك بشيء من الدنيا، أخذ الراحلة ليركب عليها وأعطاه الثمن؛ ليكون ذلك كله لله عز وجل، وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم علاجاً للاستضعاف، وذهب فأبدله الله عز وجل بأناس آخرين غير الذين قاوموه وحاربوه وأخرجوه، واجتهدوا في أن يوصلوا إليه الأذى.(50/10)
همُّ أبي بكر رضي الله عنه بالهجرة إلى الحبشة
جاء في صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (لم أعقل أبويّ قط إلا يدينان الدين) أي: من ساعة ما ولدت لم يكن أبوها على غير دين الإسلام، وكذلك أمها أم رومان، قالت: (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتينا بكرة وعشياً)، كان يأتيهم في الصباح الباكر، ويأتيهم في آخر النهار، وهذا كل يوم، فلما ضاق الأمر على أبي بكر واشتد أذى المشركين خرج مهاجراً إلى الحبشة، وقد كان هاجر قبله إلى الحبشة مجموعة من المسلمين: أربعة عشر رجلاً وثلاث نسوة؛ خرجوا هروباً بدينهم من أذى قريش.
فخرج أبو بكر خلفهم إلى الحبشة، فقابله ابن الدغنة فقال: إلى أين يا أبا بكر؟ قال: أخرجني قومي، فأريد أن أخرج في الأرض -أو قال: أريد أن أسيح في الأرض- وأعبد ربي.
قال: يا أبا بكر! مثلك لا يخرُج ولا يُخرج، إنك تكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الحق ارجع وأنا جار لك-أي: أنت في حمايتي-.
فرجع ابن الدغنة فوافى كفار قريش قبيل المغرب، فجمعهم وقال: إن أبا بكر جار لي.
فقالوا له: مره فليصل في داخل الدار ولا يستعلن، فإنا نخشى أن يفتن أبناءنا ونساءنا.
فأخذ على أبي بكر ذلك، ثم بدا لـ أبي بكر أن يستعلن بعبادته -هذا أنموذج للرجال الأبطال! - فبدا لـ أبي بكر رضي الله عنه أن يخرج خارج الدار ويصلي، وكان لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فكان يقرأ ويبكي، فتتقذف عليه النساء والأولاد يتفرجون على هذا النمط الجديد الذي ما رأوا مثله قط.
فشكا كفار قريش إلى ابن الدغنة وقالوا: إننا نكره أن نخفر جوارك، ولا نرضى بالذي فعله أبو بكر، فإما أن يدخل وإما أن يرد عليك جوارك.
فقال له ابن الدغنة: يا أبا بكر! ما على هذا اتفقنا، فإما أن تدخل الدار وإما أن ترد عليَّ جواري، فإني أكره أن يتحدث العرب أني أخفرت جواري.
فقال له: بل أرد عليك جوارك، وأرضى بجوار الله عز وجل.
وظل أبو بكر رضي الله عنه هكذا والصحابة يهاجرون، حتى أراد أن يهاجر إلى المدينة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (تريث؛ فإني أرجو أن يؤذن لي.
فقال: أو ترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال: نعم).
وفي يوم من الأيام جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، وهذا وقت لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يأتي فيه إلى بيت أبي بكر، إنما كان يأتي بكرة وعشية، فلما رآه أبو بكر قال: (بأبي هو وأمي)، وهذه كانت كلمة معهودة عند الصحابة، يقول أحدهم للنبي صلى الله عليه وسلم: (بأبي أنت وأمي) أي: نفديك بآبائنا وأمهاتنا، فأنت عندنا أغلى من آبائنا وأمهاتنا.(50/11)
التحذير من اقتناء التلفاز في البيوت
إذاً: الهجرة علاج الاستضعاف، لكننا الآن في زماننا لا نستطيع أن نهاجر ونترك بيوتنا، فبقيت الهجرة التي لا تنقطع، وهي هجر معاصي الله تبارك وتعالى.
لماذا -أيها المسلم- تترك جهاز الرائي في بيتك؟ إن الذي لم يستطع أن يخرج هذا الجهاز من بيته لن يستطيع أن يترك داره وولده ليهاجر في سبيل الله.
مع أن هذا أقل تكلفة وجهداً، فليس عليه مضرة في أن يرفع جهاز التلفاز من البيت، ومع ذلك لا يفعل، ولا يقوى على أن يفعل؛ لأن هواه غلبه، وزوجته لا يستطيع أن يخالفها، وأولاده قد تعودوا على جهاز التلفاز، فتجده يقول: بدلاً من أن يذهب أولادي يتسكعون في بيوت الناس، فخير لهم أن يجلسوا في البيت وهذا منطق أعوج! فهل يليق بعاقل أن يقول: يا بني، اشرب الدخان عندي، ولا تدخن من خلفي، فإني لا أحب أن يضحك عليَّ أحد؟! هل ينفع هذا الكلام؟ وهل يجوز هذا في عقل عاقل؟ يقول: بدلاً من أن يتفرجوا عند الناس يتفرجون عندي! والله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، فإذاً كنت أباً مؤتمناً فعلاً على أولادك وتخاف عليهم من عذاب الله، فلا تعرضهم لعذاب الله عز وجل باقتنائك لهذا الجهاز المدمر للأخلاق وللدين وللشريعة! ألا تهاجر إلى الله عز وجل؟! ولن تندم، فإن البيت الذي ليس فيه تلفاز أنت فيه أبو ولدك، وأنت فيه القيم على ولدك، بخلاف البيت الذي فيه تلفاز، فإن تأثيره على الولد أقوى من تأثير الوالد، لاسيما إذا كان الوالد يقضي معظم نهاره في العمل.
وبعض الآباء ينتقد دائماً كل شيء، فحياته كلها انتقاد، وكأنه ليس هناك شيء جميل أبداً.
وستكون النتيجة أن حياته في البيت عبارة عن توجيهات: لا تفعل افعل، فمثل هذا المنطق وهذه الطريقة يستاء منها الأولاد وتستاء منها الزوجة، وهم يريدون أن يهربوا من هذا الهم، فيتفرجون على المسلسلات ويضيعون الوقت بكل أسف! ويا ليت هذا النظر يقتصر على مجرد التسلية وإملاء الفراغ؛ إنه يترك أسوأ الأثر في العقل الباطن للمتفرج، وأنا لا أنقل هذا الكلام من عندي، بل نشرته شركة ناشيونال اليابانية، وهذه الترجمة نقلتها مجلة البيان التي تصدر في لندن باللغة العربية.
فتقول: إن من خصائص الأشعة التي يرسلها التلفاز أنها تجعل العقل نصف نائم، تصيبه بعملية شلل في بعض خلايا العقل فلا يفكر، بل يكون مستسلماً، فتصور عندما يكون الإنسان عقله نصف نائم، ويتفرج على مثل هذه الأشياء؛ سوف تلقي تلك الأفكار في روعه، لاسيما التي تتكرر بصفة دائمة.
فهذه معصية من أعظم المعاصي! ولا يتذرع أحد بالدروس الخصوصية، والدروس التعليمية، فإن هذه حجة ليس لها أي قيمة، ولا تجري على قدم ولا خفٍ ولا حافر عند الله عز وجل أبداً، فإن دروس التلفاز لا تعطي شيئاً للطالب، ولو أعطته شيئاً فليس له قيمة في مقابل الشر المستطير.
فهذه معصية ألا تهاجر إلى الله عز وجل منها؛ حتى لا تدخل في آية الاستضعاف الممقوت؟! وهاجر إلى الله عز وجل ولن تندم أبداً.
وقد جربنا هذا في بيوتنا: أولادنا أكثر استقامة لنا؛ لأنهم لا يتلقون الأوامر إلا منا، والمرأة ضعيفة الخلقة، ضعيفة النفس، يمكن لأي إنسان أن يضحك عليها.
وقد حدث أن ضحك رجل على امرأة، وأخذها من زوجها بعد خمسة وعشرين عاماً من زواجهما، وجعل يمنيها بالسعادة الموهومة، مع أن أولادها في الجامعة، وزوجها في مركز مرموق جداً، ولا ينقصه أي شيء، وهي من سيدات الطبقة الأولى، ومع ذلك تعطي أذنها، وحولت بيت زوجها إلى نكد مستمر حتى طلقها، فلما أن انقضت العدة تزوجها ذلك الرجل أربعة أشهر ثم طلقها! وهكذا النساء كلهن على خليقة واحدة، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم: (إن المرأة لا تستقيم لك على طريقة)، ولذلك ينبغي أن يكون مذهبك في التعامل مع المرأة مذهباً مختلفاً لكل يوم، فلابد أن تكون عندك طرق متعددة في التعامل، فهي اليوم راضية، وغداً غاضبة، وأيضاً بعض النساء لا تعرف متى يغضب زوجها ولا متى يفرح، فالواجب أن تتعامل مع هذه النوعية بتعاملات شتى، والله عز وجل قد أباح التعدد للرجل وجعل في مقابل هذا التعدد أخلاقاً عنده كي يتعامل مع نسائه، لكن لا يستخدم هذه الأخلاق إلا الأذكياء.
فلو شاء الرجل لما نشزت عليه امرأته، والكلمة الطيبة تؤثر فيهن، والرجل يستطيع أن يتلافى كل هذه المشاكل بكلمة طيبة، فمرة يشتد ومرة يلين؛ لأن لديه صلاحية أن يتعامل مع أربع نساء، وبعد ذلك إذا قام الجهاد وأفاء الله عز وجل علينا، وأخذ كل واحد منا عشرين أو ثلاثين أمة، فلابد أن يتعامل معهن جميعاً، وليعلم أن المرأة لن تستقيم له على طريقة واحدة، فيعامل هذه بأسلوب وهذه بأسلوب آخر، وهذا ليس نفاقاً، بل إنه عمل مشروع.
فإذا كانت المرأة وهي سِلم لزوج واحد لا تكاد تستقيم له على طريقة واحدة، ثم هي أسيرة الكلام الناعم، وكل المسلسلات والأفلام كلامها ناعم، كلهم يبيعون كلاماً؛ فهم يأخذون عليه مالاً، الحلقة الواحدة بخمسة وأربعين ألف جنيه، وهذا هو بائع الكلام الوحيد الذي يكسب، هو هذا الإنسان.
إذاً: المرأة مع ضعفها أمام كلام المسلسلات، ومع وجود المشاكل بين الزوجين، مع أن ذلك الممثل بينه وبين امرأته مشاكل، فإذا كانت المرأة ضعيفة أمام هذا السحر، إذاً: أنت تعرضها لأن ترى رجلاً أجمل منك، وتسمع كلاماً أعذب من كلامك.
وبعد ذلك يشتكي الرجل ويقول: امرأتي ناشز عليَّ!! يا أخي! أزل أسباب الشكاية أولاً، روى الإمام مسلم أن أنجشة لما كان يحدو للإبل وقد كانت زوجات النبي صلى الله عليه وسلم يركبنها، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أنجشة! رويداً! رفقاً بالقوارير)، والظاهر من لفظ الحديث (رفقاً بالقوارير) أي: حتى لا تجري الجمال وتشتد سرعتها فتتعب أمهات المؤمنين اللواتي يركبن على ظهرها، هذا هو الظاهر من رواية مسلم.
لكن ورد في مستدرك الحاكم بسند جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك حتى لا يتأثر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بصوت أنجشة، قال: (رفقاً بالقوارير) فقد خشي أن يؤثر فيهن ذلك الصوت الجميل، مع أنهن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ويشهد لهذا المعنى قول الله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53]، وقوله لهن: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32]، سبحان الله! الذي في قلبه مرض سوف يطمع في ماذا؟ وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم هن أمهات المؤمنين، ولا يحل لأحد نكاحهن أبداً.
إذاً: معنى هذه الآيات يشهد لمعنى الحديث، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يخشى على أزواجه وعلى قلوبهن من الصوت الحسن؛ فكيف بالمرأة في هذه الأيام وهي تسمع آهات الرجل وهو يغني، وآهات المرأة وهي تشتكي بعد حبيبها؟! إنها مصيبة عظيمة، وأنت مسئول عنها أمام الله عز وجل! فإذا كنت لا ترجو نجاتهم فارج نجاتك أنت، لا تعرض نفس للتلف، وكن أنانياً محباً لنفسك.
فمن أراد أن يحقق الهجرة -وهذه بداية الهجرة الكبيرة- فليخرج من هذه المعصية إلى الطاعة، يخرج من جهاز التلفاز والمعاصي الموجودة في البيت إلى الطاعة، اخرج من ملابسة أهل العصيان اختياراً، فإن من لابس المعصية ولو بجهل فلا يلومن إلا نفسه، فلو أن رجلاً مثلاً عطش فوجد خمارة -حانة- فدخل وشرب ماء وخرج منها، فرآه الناس فقالوا: انظروا إلى هذا الرجل، لقد كان يشرب خمراً! وهم لم يعلموا ماذا كان يعمل في الداخل، كذلك لو دخل رجل بيت دعارة يبحث عن مسكن ثم خرج، فرآه الناس فقالوا: انظروا إلى هذا الرجل ماذا كان يعمل! واتهموه ووقعوا فيه، فلا يلومن إلا نفسه، مع أنه فعل هذا بغير قصد، فكيف إذا لابس أهل العصيان؟! نسأل الله تعالى أن يوفقنا لطاعته، وأن يجنبنا معاصيه، وأن ينفعنا بما سمعنا.
والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(50/12)
جانب من حياة الصحابة
المتأمل للصحابة رضي الله عنهم، ولإحاطتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم يجد شيئاً عظيماً جداً، فقد كانوا يحيطونه ويحرسونه ويفدونه بأرواحهم، بل كانوا ينقلون عنه كل صغيرة وكبيرة من أمور الآخرة والدين، بل كانوا يضيقون على كل من يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم حتى لو كان قريباً منهم، فقد كان رضا النبي صلى الله عليه وسلم هدفهم دون غيره.(51/1)
تلقي الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم الدين كاملاً
إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
روى الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لم أزل حريصاً على أن أسأل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المرأتين اللتين قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4] حتى حج فحججت، وعدل فعدلت فقضى حاجته، فصببت عليه من الإناء وهو يتوضأ.
فقلت: يا أمير المؤمنين من المرأتان اللتان قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ٌ) [التحريم:4] فقال: وا عجباً لك يا ابن عباس إنهما عائشة وحفصة، ثم استقبل عمر الحديث يسوقه قال: كنت أتناوب النزول إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنا وجارٌ لي من الأنصار، ينزل يوماً فيأتي بخبر الوحي، وما يكون من العلم فإذا نزلت أنا فعلت مثل ذلك، وكنا معشر قريشٍ قوم نغلب نساءنا، فلما قدمنا على إخواننا الأنصار إذا بالقوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار، فطفقت علي امرأتي ذات يوم فراجعتني، فأنكرت أن تراجعني.
قبل هذه الفقرة قال عمر رضي الله عنه: فأنكرتُ أن تراجعني، فقالت: ولم تنكر أن أراجعك وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم يهجرنه اليوم حتى الليل؛ فأفزعني ذلك ونزلت إلى حفصة فقلت: أي بنيتي أتغاضب إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم وتهجره اليوم إلى الليل، قالت: نعم، فقلت لها: ومن يؤمنك أن يغضب الله لغضب رسوله فتهلكي، لا تسأليه شيئاً ولا تستكثريه وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك أن كانت جارتك -يعني عائشة رضي الله عنها- أوضأ منك، وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لغزونا، فجاءني صاحبي عشاءً فطرق الباب طرقاً شديداً، وقال: أثمّ هو؟ قالوا: نعم، فخرجت أجر ردائي، قلت: مالك، أجاء غسان؟ قال: لا، بل ما هو أهول من ذلك وأعظم، طلق النبي صلى الله عليه وسلم نساءه، قال عمر: فنزلت إلى حفصة فوجدتها تبكي فقلت لها: لم تبكين؟ أو لم أكن حذرتك -وفي بعض الروايات خارج الصحيحين قال عمر: والله لولاي لطلقك، ثم صلى عمر الغداة ثم دخل المسجد فإذا رهط حول المنبر يبكي بعضهم، قال: فجئت مشربة -المشربة مثل الحجرة لها باب على المسجد- وغلام للنبي صلى الله عليه وسلم واقف على باب الحجرة يمنع أي أحد من الدخول، قال: فجئت فقلت للغلام.
استأذن لـ عمر، فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت، قال: فذهبت عند المنبر، فجلست لكن غلبني ما أجد، فقمت، فقلت للغلام: استأذن لـ عمر، فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت، فذهبت إلى المنبر فجلست فغلبني ما أجد، فقلت للغلام: استأذن لـ عمر، فدخل ثم خرج قال: ذكرتك له فصمت، قال: فانتظرت، فبينما أنا عند الباب إذ ناداني، فقال لي: قد أذن لك، فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير قد أثر الحصير في جنبه، فقلت: لا أجلس حتى يتبسم، أو قال: حتى أستأنس.
قال: فقلت: يا رسول الله، لو رأيتنا معاشر قريش قوم نغلب نساءنا، فلما قدمنا على إخواننا الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، قلت: يا رسول الله، لو رأيتني وأنا أقول لـ حفصة: لا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم منك، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى، فقال: فجلست، وجعل عمر رضي الله عنه يدير عينيه في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فلم أر شيئاً يرد البصر غير أهبة ثلاث -ثلاثة جلود- فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يوسع على أمتك، فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله، وكان متكئاً فجلس، وقال: أو في شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة، وكان قد أقسم أن لا يدخل عليهن شهراً من شدة موجدته عليهن، فلما دخل عليها، قالت: يا رسول الله، إنك حلفت ألا تدخل علينا شهراً، وقد مضى تسع وعشرون أعدُّها عداً، فقال عليه الصلاة والسلام: الشهر تسع وعشرون، -وفي رواية قالت عائشة: فكان ذلك الشهر تسعاً وعشرين.
هذا الحديث يبين لك جانباً من حياة الصحابة وحياة النبي عليه الصلاة والسلام، الصحابة ليس لهم نظير أبداً، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إن الله نظر في قلوب العالمين فاختار قلوب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم له).
لم يرزق نبي قط بأصحاب مثل نبينا، ولا جرم! فهو سيدهم، فالمناسب أن يرزقه أيضاً بأصحاب يناسب سيادته.
نحن نعرف كثيراً من الأنبياء، ونخص منهم أولي العزم: نوحاً، وإبراهيم، وموسى، وعيسى صلوات الله عليهم أجمعين، تعرفون شيئاً عنهم أكثر من رسالاتهم؟ لا تكاد تسمع عنهم شيئاً، بخلاف نبينا عليه الصلاة والسلام، نقلوا كل شيء حتى أدق المسائل.
كانوا ينظرون إليه مثل الكاميرات المسجلة، وباعث ذلك هو شدة الحب.
أحد الصحابة يقول: لأرقبن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم اليوم، يريد أن ينظر إليه وهو يصلي، ماذا يفعل؟ حتى الشيء اليسير في الصلاة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي فقرأ بسورة المؤمنين، فلما بلغ ذكر موسى وهارون أصابته سعلة فركع.
حتى مثل هذا ينقلونه، وكانوا يقولون: كنا نعرف قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر باضطراب لحيته، عندما كان يسجد، كانوا ينظرون إلى أصابع اليدين والرجلين.
فنقلوا عنه كل حركاته وسكناته، ولم ينقل عن بقية الأنبياء عشر معشار ما نقل عن نبينا عليه الصلاة والسلام، فهذا الحديث إطلال على حياة الصحابة مع النبي عليه الصلاة والسلام.(51/2)
الفرق بيننا وبين الصحابة في تحقيق الشهادتين
أيها الإخوة الكرام المؤذن يرفع الأذان كل يوم خمس مرات، وأنت تردد خلفه ومن جملة ما يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وسُنّ لنا أن نقول مثلما يقول المؤذن، فأنت أيضاً قلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.
الشهادة لم يحققها إلا الصحابة وأقل القليل من الذين جاءوا بعدهم.
ومعنى (أشهد) أي: أرى بعيني، فأنت عندما تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، كأنك تقول: أنا أرضى وأشهد شهادة حضور وهي ضد الغيب كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:73]، ثم إنه لا يجوز لك أن تشهد إلا بما استيقنته، كما قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86].
إذاً: ركنا الشهادة: العلم والفهم، وأنت عندما تقول: أشهد أن لا إله إلا الله كأنك تقول: أنا أراه وأشهده، فإذا كنت تعتقد أنك تراه أيقوم قلبك على شهود العصيان؟ لا يقوى قلبك على ذلك لو كنت تحقق كلمة (أشهد)، فإذا عجزت فعلاً أن تراه فاعلم أنه يراك وبذلك نزلت درجة، وهذا النزول من قمة الدين الذي هو الإحسان.
الدين: إسلام، وإيمان، وإحسان، وتعريف الإحسان كما عرفه النبي عليه الصلاة والسلام لجبريل عليه السلام قال: (أن تعبد الله كأنك تراه)، هذا معنى الإحسان (فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، فهل حققنا كلمة (أشهد) التي نحن نقولها خمس مرات في اليوم والليلة وعرفنا معناها؟.
الركن الثاني من الشهادة: أشهد أنّ محمداً رسول الله، أي: إذا بلغك عنه حديث فتوهَّم أنك تراه، نحن أحياناً نعرض الأحاديث على بعض الناس فيردونها، ولا يمتثلون لها، فأنا أقول لهذا الضرب من الناس: تخيل أنك لست واقفاً أمامي بل أمام النبي عليه الصلاة والسلام، وقال لك: افعل كذا، هل تستطيع أن تعارض؟ تقول: لا أفعل؟ أنا أجزم أن كل الجلوس ستكون إجاباتهم: لا نستطيع أن نعارض.
وقد اتفق العلماء على أن الرد إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، وإلى سنته بعد مماته؟(51/3)
الفرق بين وجود النبي صلى الله عليه وسلم وبين بلوغك كلامه من غيره
فما هو الفرق يا ترى بين وجوده عليه الصلاة والسلام، وبين بلوغ كلامه لك؟ الفرق: (أشهد).
(هذا هو الفرق) لو كنت تعتقد أنك تشهد أنّ محمداً رسول الله؛ ما عصيته أبداً، ولذلك تقي الدين السبكي -رحمه الله- طرح سؤالاً في جزء له اسمه: (بيان قول الإمام المطلبي إذا صح الحديث فهو مذهبي)، -والإمام المطلبي هو الإمام الشافعي رحمه الله-.
سئل الإمام تقي الدين السبكي عن رجل قرأ عليه حديثاً للنبي عليه الصلاة والسلام وهناك فتوى تخالفه من أي عالم، فقال: (وليتوهم أحدكم نفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه أمره بذلك، فهل يحل له أن يخالف؟) في هذا المجلس قد يكون من بعض الجلوس أحد ابتلي بلبس دبلة ذهب، أو خاتم من الذهب، وكل هذا لا يحل، ولا يجوز للرجال، فالآن هو لابس الدبلة وقد لا يكون عالماً بالحكم، فأنا لو قلت الآن: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك الذهب في يد والحرير في يد وقال: (هاذان حرام على ذكور أمتي).
أيها الأخ الذي يلبس الذهب ولا يعلم بالحكم! هل مجرد أن سمعت الحديث مباشرة الآن خلعت الذهب؟ هل امتثلت وخلعته فوراً، أم تباطأت حتى أُنهي الكلام، ثم تعود إلى البيت، وتعمل جلسة طارئة تحدث فيها نفسك وأنت متردد، هل أخلع الدبلة أم لا؟ هذا هو الفرق.
في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يلبس خاتم ذهب، فنزعه من يديه نزعاً شديداً وطرحه، فلما أراد الرجل أن يقوم وينصرف، تاركاً خاتمه، قال بعض الجلوس: خذ خاتمك وانتفع به، فقال لهم الصحابي: (ما كنت لآخذه وقد طرحه رسول الله) طالما رماه على الأرض، أنا فلن تمتد يدي إليه، هذا هو تصرف الصحابة.
والذين جاءوا من بعدهم، وامتثلوا لمثل هذا النداء العظيم، أشهدُ أن محمداً رسول الله، فحقق معنى الشهادة التي يكررها في اليوم خمس مرات، فالصحابة حققوا هذا أتم تحقيق، وضربوا المثل الأعلى لمن يأتي بعدهم للاتباع، وهذا الحديث شاهد صدق على ذلك.(51/4)
ابن عباس يقف مع قوله تعالى: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ) الآية
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (فلم أزل حريصاً على أن أسأل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المرأتين اللتين قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]، ونقل عنه أيضاً في كتاب التفسير قال: ظللت سنة أريد أن أسأل أمير المؤمنين عن المرأتين اللتين قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]، حتى حج وحججت معه.
و (عدل) أي: ترك الطريق ليقضي حاجته، وعدلت، فقضى حاجته ثم جاء.
ففي هذا دليل على استحباب أن يلتمس التلميذ خلوات العالم ليسأله.
وهذا أدب ينبغي أن يتحلى به طالب العلم، وليس كلما ظهر له سؤال جاء وسأله، فهذا ليس من الأدب، إنما ينبغي عليه أن ينظر إلى خلواته، فإذا رآه وحده، أو رآه منبسطاً، أقبل عليه وسأله، وهذا الذي فعله ابن عباس، لبث سنة كاملة يريد أن يتحين فرصة يختلي بـ عمر ليسأله هذا
السؤال
لأن الهجوم المستمر على الشيخ يضجِّره من التلميذ، فهذا الذي يظهر به التلميذ كثيراً، لماذا؟ لأن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها.
فلذلك ينبغي لطالب العلم أن يلتمس خلوات العالم، فيسأله، ولا مانع حتى يرقق قلبه عليه أن يخدمه بشيء يسير خدمة بين يدي السؤال، مثلما فعل ابن عباس حديث حمل الإبريق لـ عمر ومشى خلفه، وانتظر حتى قضى حاجته، ثم سأله السؤال، قال: يا أمير المؤمنين، إني أريد أن أسألك منذ سنة، فأمتنع تهيباً منك أن أسألك، قال: يا ابن أخي، إذا علمت عندي علماً فسلني، فمهابة العالم لا تصدك عن أن تسال سؤالك فإنه لا يتعلم اثنان، كما قال مجاهد فيما رواه أبو نعيم في كتاب الحلية عنه بسند ضعيف، وعلقه البخاري في صحيحه قال: (لا يتعلم اثنان)، يظلون جهلاء طوال عمرهم (مستح ومستكبر) المستحيي يمنعه الحياء والهيبة وما إلى ذلك أن يسأل السؤال.
ابن عباس سأله قال: لا، (إذا علمت أن عندي علماً فسلني) فقال ابن عباس من المرأتان اللتان قال الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]، فقال: (واعجباً لك يا بن عباس) (إنهما عائشة وحفصة، ثم استقبل عمر الحديث يسوقه) بدأ يحكي القصة، وسر عجب عمر من ابن عباس قد يكون لما عُهد من ابن عباس من معرفة التفسير والبحث عن ضوابطه، وهذا من التفسير فكيف خفي عليه، أو لعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه تعجب من فطنة ابن عباس وذكائه الوقاد أن يسأل هذا السؤال وتخفى عليه هذه الواقعة، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه له رأي حسن في ابن عباس وكان يحبه.
فروى البخاري ومسلم في صحيحيهما أن ابن عباس قال: (كان عمر يدخلني مع شيوخ بدر): وهم الثلة المضيئة في جبين المسلمين، فهم كل من شهد غزوة بدر، ولذلك ينسب إليها من شهدها لشرفها، ولا ينسب إلى أي غزوة أخرى، فيقال مثلاً: فلان البدري، ولا يقال: فلان الأُحدي ولا الخندقي ولا أي نسبة لغزوة أخرى، إنما ينسب إليها فقط، فينسب شاهدها إليها من باب الفضل.
فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أراد أن يستشير أو يعقد مجلساً، كان يحضر شيوخ بدر، ثم يستدعي ابن عباس فيدخله معهم، فغضب عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وقال لـ عمر: (تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله)، فأسرها عمر في نفسه، فلما جمعهم بادر عمر فطرح سؤالاً، قال: ما تقولون في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3]، قال أحدهم: إنه أمر من الله عز وجل أنه إذا دخل الناس في دين الله أفواجاً بأن يسبحوه ويستغفروه، وقال آخر: لا أعلم إلا ما قاله، ووافق الجميع على ذلك، فقال: وما تقول فيها يا ابن عباس؟ قال: أرى أنه أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى إليه.
فقال عمر: والله يا ابن أخي ما أعلم منها إلا ما تقول.
قال ابن عباس: (وكنت أرى أنه أراد أن يريهم ما عندي)، وفي هذا دلالة على استحباب اصطحاب الصغار إلى مجالس الكبار؛ ليتعلموا، فالولد الصغير عندما يصاحب الكبير يستفيد من خبرته وتتوسع مداركه، ولذلك كانت سنة الآباء قبل ذلك أنهم إذا حضروا مجالس العلم أن يصطحبوا الصغار.
كان سفيان بن عيينة -رحمه الله- يلقي درساً لأصحابه، فدخل صبي صغير ومعه ورق وقلم ومحبرة، فبمجرد أن دخل الصغير وكلهم طلبة كبار -تلاميذ سفيان بن عيينة - فمجرد أن ضحكوا فتلا سفيان: {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء:94]، ثم التفت إلى أحمد بن نضر راوي الحكاية عن أبيه قال: يا نضر لو رأيتني وطولي خمسة أشبار، ووجهي كالدينار، وأنا كشعلة نار، أكنافي قصار، وسيفي بمقدار، ونعلي كآذان الفأر، أختلف إلى علماء الأمصار، كـ الزهري وعمرو بن دينار، أجلس بينهم كالمسمار، محبرتي كالجوزة، ومقلمتي كاللوزة، فإذا دخلت قالوا: أوسعوا للشيخ الصغير.
وتبسم سفيان وضحك، وتبسم نضر وضحك، وتبسم أحمد راوي هذا عن نضر وضحك، وضللوا يضحكون حتى وصلوا إلى الحافظ راوي الحكاية، وكلهم يضحكون، وهذا من الأمانة في أداء الرواية، واسم هذا النوع من الرواية المسلسل بالضحك، وهناك أحاديث اسمها المسلسلات، وهي: أي أداء الحديث على وصف معين وهيئة معينة، والتشبيك قال: حدثني فلان وشبّك يده في يدي، قال: حدثني فلان وشبّك يده في يدي، قال: حدثني علان وشبك يده في يدي، والكل شبكوا في أيدي بعض، أو المسلسل بالأولية، وهو مشهور وهو حديث: (الراحمون يرحمهم الرحمن)، يقول: حدثني فلان وهو أول حديث سمعته منه، قال: حدثني فلان وهو أول حديث سمعته منه، قال: حدثني علان وهو أول حديث سمعته منه وهكذا.
كان الإمام جلال الدين السيوطي رحمه الله يأخذه أباه إلى مجالس الحافظ ابن حجر العسقلاني صاحب فتح الباري شرح صحيح البخاري، وهو ابن ثلاث سنين، وكان السيوطي يفتخر جداً بأن عمر ابنه كان ثلاث سنين، وجالس في مجلس الحافظ ابن حجر، فأدخل أولادك الصغار في مجالس الكبار، سيأخذون من عقولهم ومن تجربتهم، ابن عباس اكتسب خبرة من مجالسة أشياخ بدر، فكأن سيدنا عمر رضي الله عنه تعجب من خفاء تفسير قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} [التحريم:4] الآية، مع شهرة على ابن عباس وعلمه بالتفسير.
ثم استقبل عمر الحديث يسرده، فبدأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بجملة يريد أن يقول فيها: إن هذا الأمر هو سبب الإشكال كله، فقال: (كنا معشر قريش قومٌ نغلب نساءنا، فلما قدمنا على الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم) فلم يكن للمرأة قيمة في المجتمع القرشي، إنما هي للولادة والخدمة فقط، فلما هاجروا من مكة إلى المدينة، والمجتمع المدني مجتمع حضاري، كالفرق الآن ما بين القاهرة الكبرى وما بين أي ريف من الأرياف، فأي رجل من الأرياف يدخل متجراً لكي يشتري، يلقى الرجل من المدينة يشاور المرأة في شراء شيء معين، تقول له: لا تعجبني هذه، فيقول لها: أتعجبك هذه؟ فتقول له مثلاً: لنذهب إلى متجر آخر، فيرد عليها: حاضر حاضر أما هذا فاعتاد طوال عمره أنه لا رأي للمرأة، فهو صاحب الرأي الأول والأخير في الموضوع، إنما المدينة مختلفة، المرأة لها كلمة، والرجل يشاور، فلما خرجت النساء من مجتمع مكة، (أم القرى)، وذهبوا إلى المدينة رأين شيئاً جديداً، رأين الشيء الذي ذكرته الآن كمثال.(51/5)
أدب الصحابة فيما بينهم
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (كنا معشر قريش قوم نغلب نساءنا، فلما قدمنا على إخواننا) هذا هو الأدب، هو مُغضب من تصرف إخوانه في المدينة، حيث لم يعجبه، ومع ذلك قدم بكلمة (إخواننا) حتى لا تظنوا أنه يطعن أو يعيب أو يسب أو يعير، وذكر لفظ (الأخوة) فيه معنى جميل، فالأخ أغلى من الابن، فربنا سبحانه وتعالى في معْرِض الانتصار يقول: ((فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ)) [البقرة:178]، لم يقل: مِن قاتلِهِ، ولا ممن اعتدى عليه، فلما ذكر الحق ذكر الأخوة، لكي يعفو {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178].
قال الله عز وجل: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} [عبس:34]، فبدأ بذكر الأخ، كأنه برغم الآصرة القوية وأن الأخ يفتدي أخاه، إلا أنه في هذا الموضع يفر منه، وقدمه على سائر الأصحاب، حتى على أبيه وأمه، فـ عمر رضي الله عنه قدم بلفظة (إخواننا) حتى لا تستشعر أنه يسب أو يعير، قال: فلما قدمنا على إخواننا من الأنصار إذا بالقوم تغلبهم نساؤهم.
قال: (فصخبت على امرأتي ذات يوم فراجعتني)، وفي خارج الصحيحين: (قال: فتناولت قضيباً فضربتها)، وانظر إلى لفظ: (فصخبت) حيث اعتبر أن مجرد المراجعة صخب، (فتناولت قضيباً فضربتها)، قالت: (أو في هذا أنت يا بن الخطاب، ها هم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يهجرنه الليل حتى الصبح) أي: أنا لست أقل منهن، ولا أفضل منه، قال: فأفزعني ذلك، وقلت: أو تفعل حفصة ذلك، ما قال عائشة ولا صفية ولا زينب بل سأل عن ابنته قال: وتفعل حفصة ذلك، ونزل إلى حفصة مباشرة قال: أي بنيتي! أتراجع إحداكن النبي صلى الله عليه وسلم وتهجره اليوم حتى الليل، قالت: نعم، قال: (وما يؤمنك أن يغضب الله لغضب رسوله) أي: ما الذي أعطاك صكاً بالأمان، أنك تنشزي عليه فيغضب عليك لغضبه، فالله يغضب عليك؟ لماذا كان هذا الموقف من نسائه وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن من رحمة الله عز وجل أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يعاملنه كزوج، لا سيما عائشة رضي الله عنها كما ألمح عمر بن الخطاب، وذكر الحقيقة الشهيرة، التي كانوا يعرفونها جميعاً، وهي أن عائشة كانت أفضل أزواج النبي عليه الصلاة والسلام، وكانت أحبهن إليه عليه الصلاة والسلام.
فيقول لها: (لا يغرنك أن كانت جارتك) وهذا من حسن الكلام والتعبير، ولم يقل لها: لا يغرنك أن كانت ضرتك لماذا؟ لأن الألفاظ قوالب المعاني، وضرتُك مأخوذة من الضر، والنحاة العرب والصحابة كان لديهم ذوق عالٍ حيث لم يكونوا يستخدمون اللفظ الذي فيه إهانة لفظاً قبيحاً أو شاذاً.
قال: المأمون مرة لأحد علماء الدولة الكبار: ما الأمر من السواك؟ عندما تقول لشخص استخدم السواك ماذا تقول له؟ قال له: استك يا أمير المؤمنين، قال: بئس ما قلت.
مع أن كلامه صحيح، ثم قال لآخر: وأنت يا فلان ما تقول؟ قال: سك يا أمير المؤمنين، قال: أحسنت.
مع أن إجابة الأول صحيحة، والثاني خطأ، لكن كان عندهم ذوق، فـ عمر بن الخطاب تنكب لفظة ضرّتُك؛ لأنها مشتقة من الضُّر، هذا هو منهج الرسول عليه الصلاة والسلام حيث كان يغير الأسماء، على مقتضى المعاني الجميلة، مثال: لما قال لـ بريدة بن الحصيب: ما اسمك؟ قال: اسمي بريدة فالتفت إلى أبي بكر وقال: برد أمرنا وخمد، وقال لآخرين: الجماعة من أين؟ قالوا: من غِفار.
فقال: غفر الله لها، ثم قال: وأنتم؟ قالوا: من أسلم.
فقال: سالمها الله، فيأخذ المعنى من باب الاسم.
ولذلك أمر النبي عليه الصلاة والسلام بتغيير الأسماء، وجعلها على معنى جميل؛ لأجل هذا، حتى أن النبي عليه الصلاة والسلام لما نهى عن بعض الأسماء مثل: رباح ويسار ونجاح ونجيح وفلاح، قال: لا يسمين أحدكم غلامه رباحاً ولا نجاحاً ولا فلاحاً أو نجيحاً أو يساراً، لماذا؟ مع أن يسار خير من اليسر، ورباح خير من الربح ونجاح خير من النجاح، وفلاح من الفلاح أيضاً، فلماذا نهى عن هذه الأسماء الجميلة، قال: (حتى إذا قيل: أثم هو فيقال: لا)، مع أن المتكلم والسامع لا يخطر على باله هذا المعنى، فإذاً: العلة هي ما يقع في سمع السامع وأنه لا فلاح ولا نجاح ولا يسار لما يقول له: غير موجود، لا فلاح ولا نجاح وما إليه.
لذلك حين تختار اسماً، فاختر إما اسماً له دليل كمريم وفاطمة، وعائشة، وخديجة، أو اسماً له معنى جميل، مثل ميمون، فميمون من اليُمن، ولاحظ المصيبة، شخص أراد أن يسمي ابنه (ميمون)، فقالت أمه: نسميه على اسم القرد؟ من الذي قال: إن القرد اسمه ميمون، والقردة اسمها ميمونة؟ من قال هذا؟ أو مثل معاذ، أي: أن الله أعاذه، وأنس من الأنس، وهكذا.
فاختيار اللفظ مسألة مهمة: عمر بن الخطاب تنكب أن يقول: ضرّتك، ومحمد بن سيرين كان يسمع يقال من يقول عن المرأة الثانية أنها ضرّة، فكان يقول: إنها لا تضر ولا تنفع ولا تذهب برزق إلا بكتاب،، إنما يقال جارة من الجوار، والجار له حق على الجار، ليس فيه معنى قبيح.(51/6)
فضل عائشة رضي الله عنها على نساء النبي صلى الله عليه وسلم
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا يغرنكِ أن كانت جارتكِ أوضأ منك)، أي: أجمل وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكن أنت ليس لك تلك المكانة، فلماذا تقلدينها؟ وعائشة رضي الله عنها كان النبي عليه الصلاة والسلام فعلاً يحتمل منها ما لا يحتمل من غيرها.
وفي بعض الأحاديث أن صفية رضي الله عنها تقريباً غضب عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءت إلى عائشة ووهبت لها ليلتها نظير أن تتوسط وتصلح بينها وبين الرسول عليه الصلاة والسلام، قالت لها: وأعطيك الليلة الخاصة بي، بشرط أن تقومي بدور الوسيط وتجعليه يرضى عني، قالت عائشة: (فجئت إلى خماري فبللته ففاح عطره، وجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجلست بجانبه) ولم تكن ليلتها، كانت ليلة صفية، فقال: (إليك عني يا عائشة)، أي: ابتعدي عني، قالت: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) هذا رزق جاء من السماء لـ عائشة رضي الله عنها.
نقول هذا الكلام لإخواننا الذين يعيشون في المدينة بعقلية القرويين، صحيح أنهم من أهل المدينة لكنهم يتعاملون بالبداوة، فنقول له: تأسَّ بالنبي عليه الصلاة والسلام، وأرجوك عندما تكلم امرأتك هدأ نفسك، وحكم عقلك، واتق الله فيها، قد يكون كلامها صحيحاً، فأرضها وطيب خاطرها، طالما أنه ليس فيه معصية، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك.
كان يقول لـ عائشة رضي الله عنها: (إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت علي غضبى)، قالت عائشة: فقلت من أين تعرف ذلك؟ فقال: (أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى قلتِ: لا ورب إبراهيم)، هل يضره غضبها؟ لا.
لكن غضبه يضرها، ومع ذلك لاحظ التلطُّف، قالت: فقلتُ: (بأبي أنت وأمي يا رسول الله، والله ما أهجر إلا اسمك) فيحتمل هذا منها عليه الصلاة والسلام ولا يعاقبها، ولا يغضب عليها، فكان لـ عائشة حظوة أيما حظوة، فكان هذا معلوم للكل.
فـ عمر بن الخطاب يوصي ابنته ويقول لها: لا تقلدي عائشة؛ لأنه ليس لك من الحظوة ولا من الجمال ما لها.
وجاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألنه العدل في ابنة أبي قحافة، لأن الناس كانوا يتحرون في هداياهم ليلة عائشة، يتوددون إلى النبي في بيت أحب نسائه.
فالصحابة يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم يحب عائشة، ويريدون أن يتقربوا إليه، فعندما يأتي بهدية يحبسها عنده حتى ليلة عائشة ويرسل الهدية، فتجمع عند عائشة رضي الله عنها هدايا كثيرة، فأزواج النبي صلى الله عليه وسلم يرين هدايا من كل شكل ليس عندهم شيء منها، فيردن من الناس القسمة على جميع نسائه، فأرسلن فاطمة رضي الله عنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم تخبره عن نسائه أنهن يردن أن يقسموا، تقول عائشة رضي الله عنها: (فدخلت فاطمة لا تخطئ مشيتها مشية النبي صلى الله عليه وسلم)، تمشي مثله (والنبي صلى الله عليه وسلم مع عائشة في لحاف واحد، فقال: أهلاً بابنتي، فأجلسها، ثم قال لها: إن أزواجك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة -التي هي عائشة - قال: (أي بنية! ألست تحبين ما أحب؟ قالت: أجل قال: فأحبي هذه)، أي: أنهي الموضوع ولا تراجعيني، كان أزواج النبي مجتمعات في بيت إحداهن، بانتظار الرد.
فجاءت فاطمة فدخلت، فقالت: (والله لا أراجعه فيها أبداً)، فلم ييئسن وأرسلن زينب، أغلى واحدة من أزواجه بعد عائشة تقول: (إن زينب هي التي كانت تساميني في المنزلة عند النبي صلى الله عليه وسلم)، فجاءت زينب، فدخلت تقول: -وهو في لحافي- فتكلمت بكلام شديد وأضجعت، أي: قالت كلاماً شديداً، والنبي صلى الله عليه وسلم ساكت، قالت عائشة رضي الله عنها: (فنظرت إليه هل يكره أن أنتصر؟) انظر إلى وفاء الزوجة، ليست من ذلك النوع الذي إذا علمت أن زوجها يغضب من شيء، فتأتي ذلك الشيء، لماذا هكذا، تغضبيه وتتعبيه وتفعلي الشيء الذي يغضبه؟ هذا ليس من الوفاء.
فـ عائشة تستطيع أن ترد مباشرة، لكن نظرت في وجهه أولاً، هل أسارير وجهه تنطق بعدم الرضا لو تكلمت أو بالرضا؟ فهمت من العشرة أنه لا يكره أن ترد عليها، قالت: فقلت لها فأفحمتها، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنها ابنة أبي بكر، وضحك وتبسّم، وانتهى الموضوع.
فقال عمر بن الخطاب لابنته حفصة: (لا تسألي النبي صلى الله عليه وسلم ولا تستكثريه، وسليني ما بدا لك)، والإمام البخاري رحمه الله بوب في كتاب النكاح بهذه الجملة على الحديث كله، فقال: (باب موعظة الرجل ابنته لحال زوجها).
نحن نوصي الآباء بأن يحذوا حذو عمر، لا أن يقوم خصام بين ابنته وبين زوجها فيمسك زوجها ويخاصمه لماذا؟ يا أخي! حافظ على قوامة الرجل إذا أردت أن تعاتبه فاختل به، وقل له: يا فلان هذا لا يجوز، أنت أخذت ابنتي بكلمة الله، واستحللتها بأمانة الله، فلا يحل لك أن تفعل كذا وكذا وكذا؛ أما أن تأتي وتعاتب الرجل أمام المرأة فهذا ليس من الحكمة في شيء، لماذا؟ لأن هذا يضعف من قوامة الرجل على المرأة، فينبغي على الرجل أن يعين ابنته على البر بزوجها، وعلى طاعة زوجها.
كما فعل عمر رضي الله عنه قال: (يا بنيتي! لا تسأليه شيئاً، ولا تستكثريه، وسليني ما بدا لك)، قال عمر رضي الله عنه: (وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لغزونا) لاحظ الكناية الجميلة هذه، (تنعل الخيل)، تلبس الخيل حذاء، ومعناها: أنها تستعد، كما أن الشخص يلبس حذاءه ليمشي، (فتنعل الخيل لغزونا) أي: تعد الخيل لغزو المدينة، وكان ملك غسان هو آخر ملك من ملوك الروم يهدد المدينة، فكان الصحابة على أهبة الاستعداد.(51/7)
تناوب الصحابة في طلب العلم وطلب الرزق
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أول الكلام أنه كان وصاحب له يتناوبان النزول إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يستطيع أن يترك حياته ولا معيشته؛ لأن هناك نفقة واجبة عليه، لأن النفقة على الأولاد وعلى الزوجة واجبة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (كفى بالمرء إثماً أن يحبس عن من يملك قوته)، كما في صحيح مسلم، وكما في حديث بسند ضعيف (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت)، كفى إثماً به أن يضيع امرأته وعياله، فكان لا بد أن يعمل ليسقط هذا الواجب عنه، وفي نفس الوقت لا يريد أن يفوته علم ولا خير من النبي صلى الله عليه وسلم، فاتفق هو وجاره من الأنصار أن ينزل يوماً عند النبي عليه الصلاة والسلام وعمر يشتغل في تجارته أو زراعته، واليوم الثاني ينزل عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويذهب الأنصاري هذا اليوم إلى تجارته، وكل يوم في الليل الذي عليه الدور يذهب لصاحبه في البيت ويقول له: نزل من الوحي كذا وكذا، وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بكذا وتحدث بكذا، ويحكي له وقائع ذلك اليوم.
فـ عمر بن الخطاب يقول: (وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لغزونا، فجاءني صاحبي عشاءً، وطرق الباب طرقاً شديداً) أي: على غير العادة، (وقال: أثم هو) أي: أهو موجود؟ وفي الرواية الثانية: (أنائم هو؟) فسمع عمر بن الخطاب صوته (فخرج يجر رداءه، ثم قال له: ماذا جرى! أجاء غسان؟) أي: الملك هجم على المدينة، قال له: (لا، بل حدث ما هو أهول من ذلك وأعظم، طلّق النبي نساءه) لاحظ تعبير الصحابي، يعتبر أن تطليق النبي عليه الصلاة والسلام لزوجاته وتكدر خاطره أعظم من اجتياح العدو المدينة، وكانوا يراعون النبي عليه الصلاة والسلام، مراعاة ليس لها حدود، حتى أن عمر بن الخطاب لما دخل المسجد وجد حول المنبر رهطاً يبكي بعضهم، ليس لأجل النساء، حتى لو كانت ابنته أو أخته، بل لأجل النبي صلى الله عليه وسلم لأنه معتزل في المشربة، وقد تكدر خاطره، لأنهم كانوا يحبونه غاية الحب، ومن عرفه أحبّه ولم يخالفه أبداً، فالذي يعرف النبي صلى الله عليه وسلم، ويدمن النظر في سيرته، لا يستطيع أن يخالفه أبداً؛ فكيف بمن شاهده وسمع كلامه، ورأى حنوه عليهم، عليه الصلاة والسلام.
نريد أن نعلم الزوجات ترك الاعتراض على الزوج وتكدير خاطر الزوج؛ لأن نهاية هذه المعاملة دمار البيت.
نحن نتكلم كثيراً عن جيل التمكين، فإذا البيت يدمر فقد عندنا أي رصيد لجيل التمكين، فعلى الأم والأب أن يتعاونا معاً لأجل الوصول إلى هذه الغاية، قد تخفى الأم على الأب خبر أن الولد يشرب سجاير، لمصلحته كما تزعم، والأب ليس عنده أي علم بذلك، فهذه خيانة، لابد من عرض هذه المسألة على الأب.
فترك الاعتراض وعدم الاعتراض في حق الرجل يوجب الغضب على المرأة يقول عمر رضي الله عنه: (كنت أعلم أن ذلك يوشك أن يكون)، فكل هذا الذي يحدث ما هو؟ فنزل إلى حفصة فوجدها تبكي قال: (لم تبكين؟ أولم أكن حذرتك؟ أطلّقكن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قالت: ما أدري).(51/8)
من فوائد الحديث: جواز أن يتخذ الحاكم حاجباً
دخل المسجد ووجد رهطاً عند المنبر فجلس عندهم، ثم أتى غلام فقال: (استأذن لـ عمر)، وفي هذا دليل على جواز أن يتخذ الحاكم حاجباً أو بواباً، وأقول: جواز، وإلا لو رأى الحاكم أو الأمير أو الرجل الكبير، حتى ولو لم يكن له منصب رسمي، لكن له منصب في الناس، خاصة إذا رأى أنه لا يستقيم الحال إلا بحاجب حتى تضبط الأمور، ولا يقال له: أنت مفرط ولا مقصر، هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لـ أبي لؤلؤة عبد المغيرة بن شعبة، اصنع لي رحى، قال له: أنا سأعمل لك رحى، والله أعلم أن عمر بن الخطاب كأنه فهم كلامه يتحدث بها أهل المشرق والمغرب.
فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلق على هذه المقولة فقال: توعدني العبد، هذا أمير المؤمنين وهذا عبد، قال: توعدني العبد، يهددني ومع ذلك لم يتخذ قراراً إجرائياً، ولم يتخذ حاجباً، حيث ترك القضية هكذا برغم أنه قال: توعدني العبد، فلم لم تتخذ حاجباً طالماً توعدك؟ إذاً: اتخاذ الحاجب على الباب فيه دلالة على جوازه، فللأمير أو الحاكم أن يتخذ حاجباً أو بواباً إذا لزم الأمر، وإلا فله أن يترك ذلك.
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على امرأة وهي تبكي، فقال: (اتق الله واصبري) قالت: إليك عني إنك لم تصب بمصيبتي، ثم تولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُخبرت المرأة أنه رسول الله، فانطلقت تسأل عنه، فجاءت فلم تجد حاجباً ولا بواباً؛ فدخلت إليه، فقالت: إنها لم تعرفه، فقال لها: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى).
يقول العلماء: الأحمق يجزع في المصيبة ويرتكب المخالفات، وبعد شهر تقول له: عظم الله أجرك، يقول لك: الحمد لله، بعد شهر يرضى بقضاء الله، لذلك لا يقال للذي استسلم للمقادير بعد الاعتراض: إنه صابر، لأنه استوعب المصيبة وما معه إلى الرضا فليس بصابر، إنما الصابر حقاً من إذا قرعته المصيبة فصبر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى).
فقلت للغلام: (استأذن لـ عمر)، وفي هذا دليل على استحباب أن يسمي المرء اسمه عند الاستئذان، وفي صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه، قال: (جئت النبي صلى الله عليه وسلم فطرقت الباب، فقال: من هذا؟ قلت: أنا، قال: فسمعته من خلف الباب يقول: أنا أنا)، كأنما كرهها، فأنت حين تطرق الباب، فيقال: من؟ قل: فلان، لكن تقول: أنا أنا؟ ومن أنت؟ إن ابن الجوزي لما شرح هذا الحديث، أثبت فيه كراهة الحبيب صلى الله عليه وسلم لقول: أنا، قال: كأنه يقول: أنا الذي يُعرف نسبي، ولا أحتاج إلى ذكر اسمي، وتخيل كم في الدنيا من الناس لو قال كل واحد منهم: أنا، هل سيعرف من في الباب؟ كـ الفضل بن دكين رحمه الله، كان له طلبة وامتنع أن يحدث، لأنهم ضجّروه، فأحب أن يعاقبهم فامتنع عن تعليمهم فجاء شخص وطرق عليه الباب فقال: من؟ قال: رجل من بني آدم، ففتح الباب وأخذه بالأحضان، قال: ما كنت أظن أن هذا الجنس بقي منه أحد.
فـ (أنا) فيها نوع من الاعتزاز بالنفس، وأنت إذا نظرت إلى إبليس وجدت أنه دخل النار لما قال: أنا، وقارون أهلكه الله لما قال: أنا، وصاحب الجنتين لما قال: أنا أزال الله النعمة عنه، فاحفظ هذا يقول إبليس:: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف:12]، ويقول قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] المال هذا حصلت عليه بعبقريتي وذكائي وحساباتي الجيدة، والرجل الثالث قال: {أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف:34]، وهو يحقره بالكلمة هذه، حيث استخدم أنا وهو يريد الكبر والأنفة، فقال له الضعيف: {إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} [الكهف:39]، ولنا أن نقول: هناك فرق بين أنا التي جاءت على لسان الغني المتكبر، وأنا التي جاءت على لسان الآخر.
إن المؤمن حينما يقول: أنا، لا يقصد أن يتكبر بها ويفاخر، بخلاف غير المؤمن، والفرق: أن المؤمن قال: أنا، للمشاكلة فقط، لم يرد بها التفاخر كالآخر.
فيسن للمستأذن إذا سئل: مَن؟ أن يقول: فلان، ولذلك قال عمر رضي الله عنه: (قلت: استأذن لـ عمر)، (فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت)، والسكوت: علامة الرضا، فلماذا عمر لم يدخل؟! إذاً: المسألة فيها تفصيل، السكوت أحياناً يكون علامة عن الرضا، وأحياناً يكون علامة عن الغضب، فالسكوت علامة الرضا في الزواج مثلاً، وفي القعود؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما قال: (تُستأمر البكر، قالوا: يا رسول الله، إن البكر تستحيي، قال: إذنها سكوتها)، إذا سكتت فقد رضيت؛ فالسكوت علامة الرضا.
أما السكوت في هذا الحديث فليس علامة الرضا، وكيف عرف ذلك بالقرائن، والرسول عليه الصلاة والسلام مغضب وهجر نساءه، هذه قرائن، فالقرائن هنا تدل على أن السكوت ليس علامة الرضا، إذا نحن نعتبر القرائن في فهم الكلام من السياق، والعلماء يقولون: السياق من المقيدات.
عندما تقرأ قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49]، ستظن بأنه لا عزيز ولا كريم، أليس كذلك؟ لأن السياق يدل على الإهانة، والتنقص ليس في النار عزة، كما قال تعالى: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران:192]، فلا خزي أكثر من هذا، مع أن كلمة عزيز وكريم لو وضعتها في سياق آخر تؤدي نفس كلمة عزيز وكريم، لكن في هذه الآية أدّت العكس.
إذاً: السياق من المقيدات، وهذه مسألة مهمة جداً.
وبعض الذين احتجوا على نجاسة الدماء كلها، احتجوا بحديث أسماء، لمّا سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الدم قال: (واغسلي عنك الدم).
بينما هي لما سألته عن الدم، سألته عن الاستحاضة، وليس غيره، فلا يأتي شخص ويقول: الدم كله نجس، والدليل الحديث السابق، ولفظ (الدم) يفيد العموم، نقول له: لا، الكلام جاء في سياق الكلام عن دم الاستحاضة، والسياق من المقيدات، فلما جاءت لتسأله، إنما جاءت لتسأله عن دم الاستحاضة، لكن إن أردت دليلاً على نجاسة الدم مطلقاً فابحث عن حديث آخر يدل على نجاسة الدماء، أو أدلة أخرى، لكن لا تحتج بهذا الحديث على نجاسة الدماء؛ لأن اللفظ وإن خرج مخرج العموم إلا أنه خاص بدم الاستحاضة بدلالة السياق.
لما قال عمر: استأذن لي ثم استأذن له، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم وذهب إلى المنبر فجلس، قال (ثم غلبني ما أجد) أي: تعب، قال: فقمت، فقلت: استأذن لـ عمر، فدخل ثم خرج قال: ذكرتك له فصمت، فجلست عند المنبر، فغلبني ما أجد قلت: استأذن لـ عمر، فدخل ثم خرج، قال: ذكرتك له فصمت، فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فخرج من الباب، وهو عند الباب ناداه، وقال: قد أُذن لك.
(فدخل عمر بن الخطاب).
وحين تدخل على شخص حزين لا تقل له: ما الحكاية من أولها؟ فيبدأ يحكي لك الموضوع ويبكي وما إليه، أنت لابد أن تنسيه الموضوع أولاً ثم تسمع منه، ف عمر بن الخطاب أول ما دخل قال: (فأردت أن أستأنس) أي: أطلب الأنس، ليس هذا وقت إعادة الحكاية من أولها، صحيح أنك تريد أن تسمع القصة، ولكن لا تبدأ بالحزن، بل قدم بين يدي القصة ابتسامة أو استأنس، ونحن ننصح الزوجة بأن تكون عندها فطنة وذكاء، فإذا كان بينها وبين زوجها إشكال في موضوع معين، فلا تباشره من أول دخوله بقولها: تعال نكمل الموضوع.
لا، المفترض أنه عند وصول الرجل تحوِّل الموضوع كله، وتغيره بمقدمة، ثم لا بأس بإكمال الموضوع، هذا هو معنى قول عمر (استأنس).
فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (فأردت أن أستأنس، فقال: يا رسول الله، لو رأيتنا معشر قريش قوم نغلب نساءنا، فلما قدمنا على إخواننا من الأنصار إذا هم قوم تغلبهم نساؤهم) أليس هذا الذي حصل؟ فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، فقد فهم قصد عمر.
فقال عمر: (يا رسول الله لو رأيتني وأنا أقول لـ حفصة لا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم) فهو يهضم حق ابنته، ويقول لها: لا يغرنك أن كانت عائشة أجمل منك وأحسن، وأنت لست مثلها، فهو حط من قدر ابنته، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى عمر بن الخطاب أنه تبسم مرتين، شعر عمر أنه أدى ما عليه من الأنس، فجلس، فلما جلس نظر في البيت إلى الجدران.
(قال عمر: لم أر شيئاً يرد البصر) أي: يملأ العين، قال: (فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يوسع على أمتك، فإنه وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله) أنت رسول الله وأنت أحق من قيصر وكسرى، قال عمر: (وكان متكئاً فجلس) وهكذا الرسول صلى الله عليه وسلم حين يكون الأمر خطر والخطب عظيم، ويريد أن ينبه المستمع إلى أهمية ما سيقول فإنه يجلس، (وكان متكئاً فجلس).
دخل الكسائي على هارون الرشيد، فقال له هارون: اجلس، قال له: بل اقعد يا أمير المؤمنين.
وكان العلماء يؤدبون الخلفاء، وكان الخلفاء يقربون العلماء ليتعلموا منهم، لما يكون هناك ولي العهد، لا يذهب ليلعب ويركب الخيل، بل هذا إنسان سيقود أمة، فيها من هو أفضل منه بكثير، فلذلك لا بد له أن يعيش بين العلماء فيتعلم الحكمة والعلم.
أمير من أمراء بني أمية كان يعلم ابنه ليكون ولياً للعهد من بعده، فأظن أن معلمه كان الأصمعي أو غيره من العلماء، كان يتحدث إلى هذا العالم حتى يلقِّن أولاده العلم، وجعل على هذا العالم والأولاد جاسوساً، لكي ينقل هذا الجاسوس كل كبيرة وصغيرة تدور في المجلس لأمير المؤمنين، فقد يكون المعلم غير(51/9)
سعة الرزق ليست دليلاً على رضا الله عن العبد
نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن سعة العيش في الدنيا ليست دلالة على الرضا، فالذين ما زالوا يظنون بالله ظن الجاهلية؛ أن ربنا أنعم عليهم وأعطاهم مالاً وأولاداً ومناصب لأنه يحبهم، ولو كان يكرههم ما أعطاهم شيئاً، هذا من جنس ظن أهل الجاهلية بالله عز وجل {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ:35]، فربنا سبحانه وتعالى رد عليهم، قال: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ} [سبأ:37]، وربنا سبحانه وتعالى يقول: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا} [الفجر:15 - 17]، ليس الإعطاء دليل كرامة، ولا المنع دليل إهانة.
فنفى القضية كلها، وقال: {كَلَّا} [الفجر:17]، إذاً: السعة والبسط في العيش ليس دليل الرضا؛ لأن من الناس من يفعل مقارنات ما بين سعة الغرب والحضارة الموجودة، وبين تخلف المسلمين، ويعتقد أن تخلف المسلمين سببه أنهم متمسكون بدينهم حتى الآن، وأن هذا سبب تخلفهم، فنقول: هذا ليس صحيحاً، اليابانيون يعبدون الأصنام، وهم أول دولة صناعية في العالم.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا).
قالت عائشة رضي الله عنها: (فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا، فلما دخل وكان أقسم أن لا يدخل عليهن شهراً، فقلت: يا رسول الله، إنك دخلت علي من تسع وعشرين أعدها عداً، وقد أقسمت أن لا تدخل شهراً والشهر ثلاثون يوماً، فقال عليه الصلاة والسلام: (الشهر تسع وعشرون).
فهذا الإطلاق ظنه عبد الله بن عمر رضي الله عنه حكماً، وكان يقول: (الشهر تسع وعشرون)، فـ عائشة رضي الله عنها سمعته -كما في الحديث الصحيح- يقول ذلك، فقالت: (يرحم الله أبا عبد الرحمن إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الشهر قد يكون تسعاً وعشرين)، وقال صلى الله عليه وسلم: (الشهر هكذا وهكذا) أي: مرة كامل ومرة ناقص، قالت عائشة: (وكان ذلك الشهر تسعاً وعشرين).
فيؤخذ من هذا أنه يستحب أن يُذَكّر المرء إذا نذر أو حلف فخالف؛ لاحتمال أن يكون نسي، قال (ما أنا بداخل عليهن شهراً)، فـ عائشة تذكِّره أنت قلت: شهراً، ودخلت في تسع وعشرين يوماً، فإذا نذر الرجل نذراً أو حلف أن لا يدخل شهراً أو نحو ذلك، وخالف المعهود فلا بد أن يُذكَّر بذلك كما فعلت عائشة رضي الله عنها.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(51/10)
الأسئلة(51/11)
حكم حفظ القرآن عند أهل البدع
السؤال
هل يجوز أن أحفظ القرآن على رجل صوفي علماً بأن هذا الرجل من حفظة القرآن، والعارفين بأحكامه، وما الحكم لو حفظت منه بعض الشيء؟
الجواب
يمكن أن نصوغه بصورة مختلفة، والسؤال هو: هل يجوز أخذ العلم على يد المبتدع أياً كانت بدعته؟ علماء الحديث لما ردوا رواية المبتدع الغالي في البدعة، ردوها لأن هذا المبتدع لم ينفرد بأصل ليس عند أهل السنة، لذلك ردوا عليه حديثه، فلو أن مبتدعاً لم ينفرد بعلم تخصص فيه دون غيره من أهل السنة، فلا يجوز أخذ العلم عنه، إنما متى يرخّص في أخذ العلم على يد مبتدع؟ إذا كان متفرداً بهذا العلم، وكان المتلقي عالماً ببدعته، وهذا شرط، أما إذا كان لا يعرف شيئاً عن بدعته؛ فهذا لا يحل له أن يتعلم عليه؛ لاحتمال أن يلقنه البدعة.
أحد أئمة الحديث لقبه الجرجاني، كان الجرجاني رحمه الله -وهو من مشايخ النسائي - كان ناصبياً، إذا وقع بمتشيّع لا يبقي ولا يذر، فالنواصب الذين يبغضون علي بن أبي طالب، والشيعة: الذين غلوا في علي رضي الله عنه، فـ الجرجاني كان ناصبياً، والناصبي ضد الشيعي تماماً، فبمجرد أن يمر به راوٍ متشيع يقول: زائغ عن القصد، مائل عن الجادة، هالك، زائغ، وهكذا كل هذه عباراته في الشيعة.
قال: (ومنهم) يعني: من المبتدعة (من تفرد بسنة لا تُعلم إلا عندهم، فمصلحة حفظ السنة مقدمة على مصلحة العلم) لماذا العلماء قديماً لم يأخذوا العلم من المبتدعة؟ لأنه كان هناك ألف واحد أفضل منهم وعندهم نفس العلم الذي عندهم.
فيقول السائل: إن هذا الرجل مجوّد لأحكام القرآن، ورجل ضليع، فنحن نقول: الحمد لله يوجد في أهل السنة من هو أضلع منه.
فلذلك لا تأخذ العلم على مبتدع إلا إذا كان المبتدع متفرداً بهذا العلم، ثم أنت على علم كامل ببدعته، حتى لا يلبّس عليك.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم(51/12)
التكفير حكم مخرج من الملة فلابد من ضبط الأحكام الشرعية وعدم التعجل
السؤال
ما تقول في شخص كان ملتزماً ومطيعاً لله ومؤمناً، وفجأة انقلب حاله وأصبح مشركاً؟
الجواب
أنا لا أدري هذا السؤال من التوقف أو من التكفير أو من ماذا؟ لأنه يقول: (أصبح مشركاً) لماذا، ماذا فعل؟ السؤال هنا مجمل، ونحن نحتاج أن نعرف ما هو مظهر الشرك الذي أظهره هذا الرجل الذي كان ملتزماً مؤمناً، أنا أخشى أن يكون فيه تخليط في الأحكام الإيمانية، إنما كاتب السؤال يقول: إنه يتخبط في ظلمات الشرك والضلال، فماذا يفعل هذا الشخص إذا أراد أن يعود إلى الإيمان؟ الجواب: الكفر هو الخروج من الإيمان إلى الكفر، والحل أن يرجع إلى الله.
إذا كان السؤال ماذا يفعل؟ نقول: يرجع إلى الله عز وجل مسلماً كما كان أولاً، لكن في الحقيقة: أنا مرتاب من هذا السؤال وأشعر أن شيئاً من الشدة، كأنه مثلاً اشتغل في التجارة، فيقول له صاحبه: إنه عبد المال من دون الله، فيعتبر أن هذا مشرك، وهكذا، إذا كانت المسألة كذلك، فينبغي أن يعدّل السؤال ويكتب بصورة أفضل من هذا؟(51/13)
حكم جهاد الدفع والفرق بينه وبين جهاد الطلب
السؤال
أود أن أعرف ما الذي يجب على كل عربي في حالة قيام حرب مع إسرائيل حتى لا نصاب بالفزع حيالهم؟
الجواب
أيحتاج هذا السؤال إلى جواب؟ رجل داهمك، أليس هناك شيء اسمه جهاد الدفع؟ إذا عجزت عن جهاد الطلب أليس هناك شيء اسمه جهاد الدفع، فجهاد الطلب: أن تخرج من بيتك وتذهب إلى الكفرة في بلادهم، وتقول لهم شيئاً من اثنين: إما أن تدفعوا الجزية وأنتم صاغرون، وإما تتركونا ننشر الإسلام، وإذا منعنونا من الدخول نحاربهم، فهذا هو جهاد الطلب وهناك شيء اسمه جهاد الدفع: وهو أنك تكون جالساً في بيتك فتجد واحداً دخل عليك، فإذا دخل عليك أو هاجمك، هل هناك شخص يمكن أن يتوقف ويقول: هل يجوز لي أن أدفع هذا اليهودي أم لا؟(51/14)
صحة حديث: (الساكت عن الحق شيطان أخرس)
السؤال
يقول: الساكت عن الحق شيطان أخرس.
هل هذا حديث صحيح أم لا؟
الجواب
نقول: لا، هذا ليس بصحيح.(51/15)
حكم العمل في محلات الحلاقة
السؤال
ما حكم الكسب في محلات الحلاقة؟
الجواب
حلاقة اللحية حرام، فلذلك لا يجوز للحلاق أن يتكسب من مهنة حلاقة اللحية، وقد أجمع العلماء على حرمة شيئين: حلق اللحية وحلاقة القزع التي فيها تشبه بالكفار، والله نحن في زمن العجائب! فحلق اللحية حرام، لقول النبي صلى الله عليه وسلم (خالفوا المشركين، وفروا اللحى، وأحفوا الشوارب) وقال: (خالفوا اليهود والنصارى)،(51/16)
حكم استخدام وسائل منع الحمل
السؤال
هل وسائل منع الحمل ومنها الحبوب، حلال أم حرام، مع العلم أن الاستخدام بنية التنظيم لا بنية المنع؟
الجواب
كل وسيلة تؤدي إلى العزل، فهي جائزة ما لم يثبت ضررها، فمثلاً: حبوب منع الحمل، قال الأطباء فيها: إن هذه الحبوب لها آثار وخيمة على المرأة، أنها تشوه الأجنة، وتسبب سرطان عنق الرحم، ولها مشاكل وأضرار كثيرة تؤثر على المرأة التي تتعاطاها.
فشأن وسائل منع الحمل شأن العزل، إذا كانت الوسيلة ليس فيها ضرر فهي جائزة، والله أعلم.(51/17)
من كان عنده حق للناس لا بد من إيصاله بأي طريقة
السؤال
أنا كنت أشتغل في متجر، ثم أخذت منه مالاً من غير علم صاحب المحل، فماذا أفعل؟
الجواب
لابد من إرجاع المال إلى صاحب المتجر، وليس بالضرورة أن ترجع المال إلى صاحب المحل وتقول له: أنا اختلست هذا المال، لكن يمكن أنك تضع هذا المال في ظرف، وشخص يوصل هذا المال لصاحب المتجر، ويقول له: إن هناك رجلاً قال: إنه استدان منك ديناً، وبلّغني أن أعطيك هذا الدين، فيكون الدين وصل إلى الرجل من غير أن تفضح نفسك.
والله أعلم.(51/18)
كتاب عمر أمة الإسلام
السؤال
جاءتني أسئلة عن كتاب (عمر أمة الإسلام)، وأن هذا الكتاب عمل ضجة ونحو ذلك، ويظنون أن مؤلفه أتى بالأدلة على ذلك؟
الجواب
الحقيقة الكتاب تناولته منذ يومين فقط، ونظرت فيه نظرة عجلى، ولذلك لا أستطيع الحكم عليه إلا بعد أن أقرأه، لكن أقول كلاماً عاماً: هذا الكتاب من سلبياته أنه يوهم الدعاة كأنه يقول لهم: كفوا عن دعوتكم فلا فائدة من ذلك، لماذا تُرجعون الناس إلى الله وما بقي إلا سبعون أو عشرون سنة وانتهت الدنيا، ولا يوجد حديث صحيح مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والآثار فيها كلام كثير، وقد سبق السيوطي مؤلف الكتاب إلى مثل هذا الكلام، ومرت الأيام وقال برأي السيوطي، وكان هو يحدث الناس كم سنة على قيام القيامة ومضت الألف عام، وهذا شيء من الغيب، فنحن نرجو من المسلمين أن ينظروا إلى قضاياهم العظيمة، ولعلي أستطيع إن شاء الله أن أجيب عما ورد في هذا الكتاب، إن كان فيه حق أحققناه، وإن كان فيه من خطأ صوبناه بما عندنا من العلم، والله أعلم.(51/19)
حكم العقد على المرأة الحامل
السؤال
شاب زنا بفتاة وسافر، فعلم الأهل أنها حامل، فقام والد الشاب بالعقد على هذه الفتاة حتى يرجع ولده، وبعد رجوع الولد طلقها الأب وتزوجها الابن؟
الجواب
هذا لا يجوز، سبحان الله! هذا يعني أنهم في جاهلية جهلاء، أولاً: لا يجوز العقد على الحامل، ولا الدخول بها حتى تضع حملها، حتى لو كان من زنا فمن المشاكل الحادثة الآن ولد يزني بفتاة وتحمل منه، فيزوجونهم لبعضهم، لماذا؟! يقول ربنا سبحانه وتعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4]، فأولات الأحمال مطلقاً، ليس أُولات الأحمال من حلال فقط، فالكلام مطلق، ولذلك لا يحل هذا العقد أبداً، ولا يحل طبعاً الدخول بها، وهذه الصورة جائرة جداً، شاب زنى بفتاة وسافر فعلم الأهل أنها حامل فقام والد الشاب الزاني بالعقد عليها، فلما رجع الولد طلقها الأب وتزوجها الابن كأننا في جاهلية جهلاء، كله لا يجوز.(51/20)
الذكر يدمر الشيطان
إن عداوة الشيطان لبني الإنسان أمر لا ريب فيه ولا خفاء، فعداوته ظاهرة لا تحتاج إلى برهان؛ فمن العجب أن يعلم الإنسان عدوه ومع ذلك ينقاد له! وإن الشيطان ليبذل كل طاقته وجهده لإضلال الإنسان عن منهج خالقه سبحانه وتعالى ولكن هيهات هيهات فقد حذرنا سبحانه وتعالى من اتباعه وجعل لنا سلاحاً يصده ويحفظنا من وساوسه، وهو ذكره سبحانه وتعالى والتزام أمره، فمن داوم على ذكره سبحانه ولزم أمره حفظ عليه قلبه ودينه.(52/1)
عداوة الشيطان لبني الإنسان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
مِن أشهر القصص التي يعرفها الخواص والعوام: قصة العداء الأول بين آدم عليه السلام وبين إبليس عليه لعنة الله.
وهذه قصةٌ مشهورة، تفاصليها معروفة، فكان المرجو من المسلمين ألاَّ يغفلوا عن هذه القصة مع شهرتها.
هذا الشر الموجود في العالم الآن؛ أليس مصدره إبليس؟! كيف تكون جندياً لهذا الملعون المرجوم، وأنت تعلم أنه عدوك سلفاً؟! هذه من المواطن التي يتعجب منها اللبيب، عدوك! ليس أمرُه ملتبساً عليك، ولا تدري عداوته؛ لكنك تعلم كل ذلك، ومع هذا ينقاد له بعض الناس مع تنبيه الله تبارك وتعالى الناس بهذه العداوة، قال عز وجل: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف:5]، (مبين) أي: عداوته ظاهرة لا تحتاج إلى برهان.
وقال تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف:50]، أي: بئس البدل أن تستبدل الشيطان الرجيم بالله الرحيم.
ولعل البعض يظن أني أخطأت في العبارة، فيقول: الصحيح: أن تقول: بئس أن يستبدل الناس الله بالشيطان، كما تقول أنت: استبدلتُ الثوب القديم بثوب جديد، هذا هو الدارج على ألسنة العوام، مع أن هذا التركيب خطأ، فإن الباء (باء البدل) إنما تلتحق بالمتروك الذي تركته، فمن الخطأ أن تقول: استبدلت الثوب القديم بثوب جديد، إنما الصواب: استبدلت الثوب الجديد بثوبٍ قديم، و (الباء) هنا التحقت بالمتروك، بالشيء الذي تركته أنت، وهو الثوب القديم، وشاهد هذا في كتاب الله عز وجل، قال تعالى: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} [النساء:2]، فالباء هنا أُلحقت بالمتروك الذي تركه الناس وهو الطيب، وقال تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة:61]، تركوا المن والسلوى، وأرادوا البصل والثوم، فالذي هو خير: المن والسلوى ألحقت به الباء: {بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة:61].
فبئس للظالمين بدلاً أن يتولوا هذا الشيطان ويتركوا الله تبارك وتعالى.(52/2)
تفكيك الأسرة المسلمة مراد الشيطان
إن الشيطان الرجيم له كل يوم برنامج مع بني آدم، كما في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما: أن النبي عليه الصلاة والسلام، قال: (إن إبليس يضع عرشه على الماء كل يوم، ثم يأتيه كل من يعمل تحته من الشياطين -طاغوت-فيرسلهم إلى بني آدم يضلونهم ويفتنونهم، وفي نهاية اليوم يأتي كل شيطان بخط سيره، وماذا فعل في بني آدم،) محاكمة يومية يعقدها هذا الشيطان للذين يعملون تحته، لو أن بني آدم اتعظوا وأخذوا الدقة والحذر من فعل الشيطان ما استطاع هذا الشيطان أن يتغلب عليهم.
أما نحن بنو البشر يأمر الآمرُ بعمل ولا يتابعُه، يعيث فيه فساداً يكمله أو لا يكمله، لا أحد يسأل، إنما هذا الشيطان كل يوم لا بد أن يعلم هل استطاع أن يذل بني آدم أم لا.
ثم هو يقوم عمل الشيطان الصغير في الحال، يقول له: أنت أفلحت أم لم تفلح في الحال، ويعطي مكافأة للذي يفلح، والذي يظل من بني آدم أكثر من غيره، كما هو واضح من الحديث: (إن الشيطان يضع عرشه على الماء، ثم يرسل سراياه إلى بني آدم يضلونهم ويفتنونهم، وفي آخر اليوم -وهو قاعد على العرش- أي: على السرير، الكرسي العظيم- يأتونه واحداً واحداً: ماذا فعلت؟ يقول له: ما تركتُه حتى زنا، فيقول له إبليس: لم تصنع شيئاً، وأنت ماذا فعلت؟ يقول: ما تركته حتى سرق، يقول: لم تصنع شيئاً، وأنت ماذا فعلت؟ يقول: ما تركته حتى قتل؟ يقول: لم تصنع شيئاً، وأنت ماذا فعلت؟ يقول: ما تركته حتى فعل كذا، يقول: لم تصنع شيئاً.
فيأتي آخَر فيقول له: ماذا صنعت؟ يقول: ما تركته حتى فرقتُ بينه وبين أهله، فيقوم الشيطان من على العرش ويلتزمه -أي: يحتضنه- ويقول له: نِعْمَ أنتَ! أنْتَ أنْتَ!) أي: أنت أجودهم وأفضلهم وأحسنهم، ماذا فعل؟! ما ترك الرجل حتى طلق زوجته.
ولعل سائلاً يسأل ويقول: إن الطلاق مباح، والزنا محرم، والسرقة محرمة، وشرب الخمر محرم، والقتل محرم، فلِمَ لَمْ يفرح إبليس بوقوع هذه المعاصي المحرمة وفرح فرحاً عظيماً لهذا الشيء المباح الذي يرتكبه بنو آدم، ولا إثم عليهم؟
الجواب
إن كل معصيةٍ يمكن أن يتوب العبد منها، وقد جعل الله تبارك وتعالى له فيها فَرَجاً ومخرجاً، وجعل لها كفارة، إما بحدٍ أو باستغفار.
فالزاني إذا زنا وهو غير محصن فجلدٌ مائة وتغريب عام، فإذا زنى الرجل المحض؛ فإنه يحفر له حفرة في الأرض ويوضع فيها، ويُضْرَب رأسُه بالحجارة حتى يموت، وهذا هو المعروف في حد الرجم، فإذا رُجِمَ المسلم وجلد فكأنما لم يزنِ، ولم يرتكب الذنب وشاهد ذلك: (أن المرأة الغامدية التي زنت وهي متزوجة في زمان النبي عليه الصلاة والسلام، فرَجَمَها بالحجارة حتى ماتت، ثم لما أراد عليه الصلاة والسلام أن يصلي عليها ووقف أمامه عمر، وقال: أتصلي عليها وقد زنت؟ قال: خلِّ عني يا عمر: لقد تابت توبةً لو وُزِّعت على سبعين من أهل المدينة لَوَسِعَتْهُم) كيف وقد جادت بنفسها لله عز وجل؟! فهذه زنت؛ لكن بمجرد أن أقيم عليها الحد ذهب الفعل والجُرْم، ومعنى أن يذهب الجرم، أي: فشل الشيطان في كل فعله؛ لأنه أقسم بعزة الله تبارك وتعالى ليُغْوِيَنَّ الناس جميعاً إلا المخلَصين، و (المخلَصين) بفتح اللام، أي: الذين أخلصهم الله لنفسه؛ لذلك لا يستطيع إبليس أن يغوي رجلاً أخلصه الله لنفسه، ولذلك المخلَص أعلى درجة من المخلِص؛ لأن المخلَص: الله هو الذي أخلَصه لنفسه، أما المخلِص: فهو الذي أخلَص نفسه لربه، ولا شك أن الذي يخلصه الله بنفسه أعلى درجة وأقوى حرزاً ومَنَعَة من الذي يخلِصُ نفسه لربه تبارك وتعالى.
فمعنى أن يُتابَ على هذا العاصي، ذهاب جهدُ إبليس هدراً، وكذلك الذي يشرب الخمر، أو الذي يقتل مع فداحة هذه المعصية إلا أن إبليس لا يهتز لها، وإنما يهتز للطلاق! لماذا؟ لأن غاية مراد إبليس أن يرى العباد جميعاً في غوايةٍ وضلال، تصور! رجل طلق امرأته، فتزوجت المرأة، والزوج الجديد ليس على استعداد أن يربي أولاد غيره، فيأبى حضانةَ الأولاد، فتتركهم الأم، ويتزوج الرجل الزوجة الجديدة وليست على استعداد أن تربي أولاد غيرها؛ فيطرد الأولاد، وهم يريدون أن يأكلوا ويشربوا، فينحرفون وتسيطر عليهم عصابات الفساد.
وهذا مراد إبليس، أن يرى عتلاً زنيماً في الأرض، أن يرى جندياً مخلصاً له، لا يمكن أن يحصِّل جنوداً مخلِصين إلا بتفكيك الأسرة؛ لأن وجود الوالد وهو ضابط عظيم، ووجود الأم كل حركة يحاسب الولد عليها، إذا فعل الولد فعلاً شائناً يخشى العقوبة، إما أن يسترها، وإما أن لا يفعلها من الأصل، لأن هناك محاسباً.
أما إذا خرج الولد من هذا الضابط، ولا يحاسبه أحد على الفعل تم مراد إبليس.
لذلك يقول: (لم تصنع شيئاً)، إنما الذي قال: (ما تركتُه حتى فرقتُ بينه وبين أهله) قام له واحتضنه.
إبليس له مقام عظيم بالنسبة للشياطين الصغار، فمثلاً: لو أن شخصاً صافحه رئيس الجمهورية لكاد أن يمشي على السحاب من العُجْب، فما بالك بإبليس هذا يقوم له من على العرش، ولا يسلم عليه وإنما يحتضنه ويعانقه، ولا يكتفي بهذا، إنما يؤكد أنه من المَهَرَة: (نِعْمَ أَنْتَ! أَنْتَ أَنْتَ!) يعني: لا يوجد لك مثيل، قد فاز على بقية الشياطين الصغار، فهذا يفتح شهيته لمزيدٍ من الإضلال وتخريب البيوت المسلمة.
فإذا كان الشيطان يحمل سلاحه ويشهره في وجوه بني آدم جميعاً، أفيليق بك أيها العاقل أن ترى هذا الشيطان ممسكاً سلاحه، ثم تلقي سلاحك على الأرض؟! أهذا يعقل؟! عدوُّك معه سلاحه، وهو يتربص بك، وأنت تعلم أنه سيقتلك، ثم ترمي سلاحَك أمامه؟!(52/3)
ذكر الله سبحانه وتعالى أقوى سلاح يواجه به الشيطان
ما هو سلاحك الذي تستطيع أن تقاوم به هذا الشيطان الرجيم؟! إن أفتك سلاح يستخدمه الإنسان في محاربة الشيطان هو ذكر الله تبارك وتعالى، فهذا هو سلاحك الأعظم؛ أن تذكر الله، وأن يكون لسانك رطباً بذكره.
ولذلك شُرِعَت الأذكار، فكل سكنة وحركة لها ذكر، هلاَّ أدمنت على الذكر حتى ينجيك من الشيطان ومكائده؟! كل شيء له ذكر، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقصر في تعليمك، ولا في تبليغك، ولا في تأديبك، إنما أوتيتَ مِن قبل نفسك وتقصيرك.(52/4)
دعاء النوم
إذا أردت أن تنام جعل الله لك أدباً وذكراً وحمايةً من الشيطان.
وكم من المسلمين يعلمون أذكار النوم والاستيقاظ، وأذكار الصباح والمساء؟! والشيء العجيب أنك ترى بعضهم يستشكل حفظ الأذكار، مع أنه يحفظ الأغاني، ويحفظ شطراً كبيراً من المسرحيات والأفلام، وهناك فرقٌ بين الكلام الذي يقْطُر نوراً وبين الكلام الذي يقْطُر خسةً ونذالة، فالكلام الذي يقْطُر نوراً: كلام النبي عليه الصلاة والسلام.
فقد علمك أنك إذا أردت أن تنام أن -: (تتوضأ وضوءك للصلاة، ونم على جنبك الأيمن، وضَعْ يدك تحت رأسك، وقل: (باسمك اللهم أحيا، وباسمك أموت، باسمك اللهم وضعتُ جنبي وبك أرفعه، وجهتُ وجهي إليك، وألجأتُ ظهري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، آمنتُ بكتابك الذي أنزلتَ، وبنبيك الذي أرسلتَ)، ثم يقرأ آية الكرسي -التي تقال في دبر الصلوات-) أيشق عليك هذا؟! لا.
فلا مشقة.
وكل ذكر من هذه الأذكار يترتب عليه أجر عظيم وفائدة كبيرة، وإن بعض الناس يتعاملون معاملة التجار، فلا يفعل الشيء إلا بمقابل، وكل ذكرٍ له مقابل وفائدة، وأنت تتعامل معاملة التجار، وحُقَّ لك؛ فهذا ليس بعيب، فإننا نعمل الخير لأجل أن نحرز الجنة، وهذا غاية المراد؛ أما القول الذي ينسبونه إلى رابعة العدوية: (ما عبدتُك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، اللهم إن كنتُ عبدتك خوفاً من نارك فاحرقني بنارك، وإن كنتُ أعبدك طمعاً في جنتك فاحرمني من جنتك، وإن كنت أعبدك رجاء وجهك فلا تحرمني النظر إليك)، فهذا ينسبونه إلى رابعة العدوية، وسواءً نسبوه إليها أو إلى غيرها فهذا قولٌ خطأ! كيف والنبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ بالله من النار، ويسأل الله تبارك وتعالى الجنة، والله تعالى يقول: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185]، والله تعالى عَلَّم عباده أن يقولوا: {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
إذاً: عَمَلُك الخير خشيةَ أن تدخل النار، هذا غاية المراد من الفعل، كيف أقول: (إن كنتُ أعبدك خوفاً من نارك فاحرقني بنارك)! هذا ضلالٌ عظيم، وكل شيءٍ له فائدة.(52/5)
قراءة آية الكرسي قبل النوم
إذا أردت أن تنام وقلتَ هذا الذكر، وقرأتَ آية الكرسي، كان عليك من الله حارسٌ حتى تصبح.
ومصداق هذا في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استودعه على تمر الصدقة، فبينما أنا بالليل إذ جاء رجلٌ يحشو التمر في ثوبه، فأمسكتُه وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشكا حاجة عياله فرق له قلب أبي هريرة فتركه، فلما أصبح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما فعل صاحبُك البارحة يا أبا هريرة؟ قال: يا رسول الله، شكا لي حاجة عياله فتركتُه، قال: أما إنه سيعود، فلما كان من الغد رآه أبو هريرة يحشو التمر في حجره، فأمسكه، وقال: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشكا حاجة عياله وأقسم أنه لن يعود، فرق له قلب أبي هريرة وتركه، فلما أصبح قال له عليه الصلاة والسلام: ما فعل صاحبك البارحة يا أبا هريرة؟ قال: شكا لي حاجة عياله وأقسم أنه لا يعود، قال: كذبك وسيعود، فلما كان في اليوم الثالث رآه أبو هريرة يحشو التمر في حجره، فأمسكه وأصر أن لا يدعه، فقال له: أفلا أدلُّك على شيءٍ وتتركني -أي: من الخير-؟ إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، فإنك إن قرأتها لا يزال عليك من الله حارسٌ حتى تصبح، فاغتبط أبو هريرة بهذه الفائدة وتركه، فلما أصبح قال له عليه الصلاة والسلام: ما فعل صاحبك البارحة يا أبا هريرة؟ قال: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، فإنه لا يزال عليك من الله حارسٌ حتى تصبح، فقال صلى الله عليه وسلم لـ أبي هريرة: صَدَقَك وهو كذوب، أتدري من تكلم منذُ ثلاثٍ يا أبا هريرة؟ ذاك شيطان) شيطان في صورة آدمي، شيطان يعلم السلاح الذي لا يستطيع أن يدفعه، أن يقرأ آية الكرسي: (فإنك إن قرأتَها لا يزال عليك من الله حارسٌ حتى تصبح).
لذلك يقول عليه الصلاة والسلام لـ أبي هريرة: (صدقك) أي: في هذه الجزئية وهو كذوب طيلة عمره، أي: أن كل قولٍ يقوله كذب؛ لكنه في هذه الجزئية صَدَقك.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(52/6)
أهمية الذكر وفضله
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يَقُوْلُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِيْ السَّبِيْلَ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
ولعل سائلاً أن يقول: لماذا يجعل الله لمن قرأ آية الكرسي حارساً؟ فنقول: هناك قول يقول: (إن الجزاء من جنس العمل)، وحتى تعلم لطف الله تبارك وتعالى بك، فانظر في هذا الحديث وتأمل: لِمَ يجعل الله عليك حارساً؛ لأنك وأنت مستيقظ تلهج بذكر الله تعالى، فهذا جُنَّةٌ لك من الشيطان، فإن هجم عليك عدوك رددته بسلاحك القوي -الذكر-؛ لكن إن نمتَ فلا تستطيع أن تتنبه لعداوة معتدٍ، فمن رحمة الله أن ينصب عليك وأنت نائم حارساً؛ لأنك ما غفلت عنه وأنت مستيقظ، فيرحمك وأنت نائم، حتى لا ينزل الشيطان عليك، والذين ينامون يستيقظ أحدهم مثلاً وهو مشلول، أو أنه ينام صحيحاً معافىً فيستيقظ وبه علةٌ أو مس، ما ذاك إلا لأنه ترك سلاحَه ونام وعدوُّه لا ينام.
فالله تبارك وتعالى من لطفه بك أنك إن ذكرته وأنت مستيقظ ذَكَرَك وأنت نائم، ومَنَعَك من عدوَّك.
هذا فائدة الأذكار: أن يجعل عليك حارساً ما دمت معه وأنت مستيقظ.
وقصة الصحابي الجليل عاصم بن ثابت الأنصاري الذي قُتِل في موقعة القراء -ماء الرجيع- مشهورة، عندما رفض وضع السلاح ووضع يده في يد مشرك فقتلوه، وكان عاصم بن ثابت قَتَل عظيماً منهم في الجاهلية، وفي الحرب الدائرة بين الإسلام والكفر بمكة، فأرادوا أن يقطعوا رأسه ويسيرون به في القبائل، ليزيلوا المعرة التي حدثت بقتل عاصم بن ثابت لعظيمهم، فلما أرادوا أن يقطعوا رأسه أرسل الله عليه الدَّبْر -أي: ذكران النحل- فجأة وجدوا نحلاً عظيماً حول الجثة ولم يستطيعوا أن يصلوا إليه، قالوا: نقطع رأسه ليلاً، فإن النحل يرجع إلى بيوته ليلاً.
قال أحد الصحابة: فلما جاء الليل رأيت جثة عاصم ترتفع بين السماء والأرض.
وقد علق عمر بن الخطاب رضي الله عنه على هذه الواقعة، فقال: إن الله ليحفظ عبده المؤمن، عاصم بن ثابت أبى أن يمس مشركاً وهو حي، فيأبى الله أن يمسه مشركٌ وهو ميت.
إذا كان وهو حي أبى أن يمس مشركاً فجناب الله أقوى وحفظه لعبده أتم، فيأبى الله أن يمسه مشرك بعدما مات، والجزاء من جنس العمل.
فأدم ذكر الله عز وجل وأنت حي مستيقظ، يذكرك وأنت نائمٌ أو ميت.
وإذا كنا لا نذكر الله في حياتنا! فمتى سنتذكره؟! وأنت الآن خيرٌ من أهل القبور، فأهل القبور ماتوا، فمنهم من أُخِذ فجأة، ومنهم العاصي الذي ما استطاع أن يتدارك نفسه، ومنهم المسوِّف، الذي يقول: أتوب اليوم أو أتوب غداً، فأنت الآن حي، تستطيع أن ترجع وتذكر ربك في كل سكنةٍ ونفس وحركة، فتدارك ما فاتك.
فالتسويف شر ما يلقاه المسلم؛ أتوب اليوم، أتوب غداً، أو أفعل هذه وأتوب من أول الأسبوع، أو أصلي غداً، وما يدريك؟! لعلك غداً تكون من أهل القبور، كم من أناسٍ خططوا لأعوامٍ قادمة، وقد سقطت ورقتهم، وأذن الله عز وجل بقبض أرواحهم، وهم يخططون غداً نفعل كذا وكذا، وبعد غدٍ يأتينا مال من كذا، فنرفع البنيان، ونسكِّن لا.
اترك هذه العمارة؛ لأن اليوم القادم لا تدري ما يكون فيه، قد يقضي الله أنك ميت، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (موت الفجأة أخْذَةُ أسف) وبعض الناس يرى أن موت الفجأة من حسن الخاتمة، ويدعو الله أن يموت هذه الميتة! مع أن هذه الميتة شر، فالنبي يقول: (موت الفجأة أخْذَةُ أَسف) إذا كان له مال: لا يستطيع أن يقول: لي عند فلان مال، وإذا كان عليه دين لا يستطيع أن يقول: عليَّ دين، وإذا كان عاصٍ فليس عنده فرصة للرجوع، وإذا كان قد سرق أشياء، فليس عنده فرصة أن يردها إلى أصحابها، يموت ولا يعرف عنه أحدٌ شيئاً.
فالمرض نعمة من الله تبارك وتعالى؛ لأنها فرصة، ولا سيما الذي مرض مرضاً شديداً، وظن أنه سيموت في ذلك المرض، فيتوب ويرعوي، ويأتي بالذين ظلمهم فيستسمحهم، بخلاف الذي يموت فجأة.
فذكرك لله تبارك وتعالى واجب، وخيرٌ من إنفاق الذهب والفضة.
وفي الحديث الصحيح: (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، عن أرضى عملٍ يعمله قبل أن يموت، فقال له عليه الصلاة والسلام: أن تموت ولسانك رطبٌ بذكر الله عز وجل).
انظر إلى لفظ الحديث، فإن الألفاظ قوالب المعاني: أن تموت ولسانك رطبٌ، والرطوبة: ضد اليبوسة.
فكما أن الماء هو السبب في نماء كل شيء حي، فذكر الله تبارك وتعالى هو حياة القلوب، قال عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} [طه:124]، وهذا الضَّنْك تستشعره في اليبوسة التي هي ضد الرطوبة، فكل رجلٍ ذاكر لله عز وجل عنده من الصفاء القلبي ما عبر عنه بعض التابعين قديماً، فقال: لو عَلِم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالَدُونا عليها بالسيوف.
فأنت أسعد وأهنأ من ملوك الأرض، لأنه يمشي في حراسة، ولا يستطيع أن يمشي في الشارع آمناً على نفسه مستمتعاً كما تمشي أنت، إذاً: لتوارى وزال منصبه، وشعر بكآبة وتعاسة لا حد لها، هذا جزء من الضنك المفروض على هؤلاء؛ لأنهم من أبعد الناس عن ذكر الله عز وجل، ومن ترك هذا الذكر مآله الضَّنْك، هذا في الدنيا،: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124 - 126]، فالجزاء من جنس العمل: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67].
والله تعالى يقول: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152].
قَدِّم لنفسك: إن أردتَ أن تذكر عند الله عز وجل، فلا تنسَه، أما أن تنساه وتريد أن يذكرك فهيهات! هيهات! إذا عاملت الناس بالود عاملوك بالود، ولا تنتظر أن تجفوهم، فيودوك.
ومِن مثل هذا المعنى: نفهم لِمَ يتفلت القرآن؟ خذ هذا المعنى واربطه بهذا السؤال.
رجلٌ حفظ القرآن لكنه لا يداوم على مراجعته والعناية به، فينساه بطبيعة الحال؛ لأن القرآن عزيز، ولا يكون القرآن عند رجلٍ يهمله وينساه أبداً، وليس من إعجاز الكتاب أن تهمله وألاَّ تقرأه، ثم تطمع أن يظل في قلبك.
فاعلم: أن أرضى عمل تلقى به الله أن تموت ولسانك رطبٌ بذكره عز وجل، ولكن المسلمين اليوم غافلون عن الأذكار، مع سهولتها ويُسرها وسماحتها وجمالها.(52/7)
دعاء ركوب الدابة
فمثلاً: كم منا عنده سيارة؟! هل الذي ركب السيارة سواءٌ كان يملكها أو كان يركبها، تذكَّر دعاء ركوب الدابة، التي هي السيارة أو الطائرة أو الباخرة أو الحمار أو البغل أو الحصان؟! كان النبي -عليه الصلاة والسلام- إذا ركب دابةً قال: ({سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:13 - 14])، (مقرنين) أي: مُخْضِعِين، ما كنا نستطيع أن نُخْضِع هذا الحديد فنجعله آلةً تتحرك وترتفع في السماء لولا أن الله تبارك وتعالى هو الذي أخضعه لنا؛ لذلك وأنت تركبها تقول: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:13 - 14]، إذا تأملت في سياق الآيتين، من سورة (المؤمنون)، تقول: ما هي العلاقة بين ذكر الآخرة: {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:14] مع ذكر تسخير الله تبارك وتعالى للدواب، ما هي العلاقة بين الآيتين، وبينهما بُعْدٌ على الظاهر؟! فالمتأمل في هذه الآية يرى مَعْنىً في غاية الجمال، وهو أن الآية ذكرت سَفَرَين: - سفر الدنيا.
- وسفر الآخرة.
فسفر الدنيا: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف:13] فإن علمت أنك مسافرٌ هذا السفر القصير، تذكرت أنك مسافرٌ سفراً أكبر من هذا وأطول: {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:14].
فالجامع ما بين الآيتين هو السفر، فهذا يحملك على أن تتذكر أنك مسافرٌ إلى الآخرة، إلى ربك تبارك وتعالى، فيحملك أن تتقي الله عز وجل.
وإذا ركبتَ الدابة أيضاً، قل: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيءٍ قدير، رب اغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).
أتعلمون الفائدة من وراء هذا الذكر؟ ورد في الحديث الصحيح: أن علي بن أبي طالب ركب دابته وقال هذا الدعاء، ثم ضحك، فقال لأصحابه: (ألا تسألوني لِمَ ضحكت؟ قالوا: ومم ضحكتَ يا أمير المؤمنين، قال: ركب النبي صلى الله عليه وسلم دابته وقال هذا الدعاء وضحك، فقال لنا: ألا تسألوني ممَّ أضحك، قالوا: ممَّ تضحك يا رسول الله؟ قال: أضحك من ضَحِك رب العزة: يقول: علم عبدي أن له رباً يغفر فغفرت له).
فانظر إلى هذا الدعاء! (رب اغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فيضحك الله عز وجل، ويقول: علم عبدي أن له رباً يغفر، فغفرت له).
كيف تغفل عن هذا الذكر، وأنت تركب الدابة ذاهباً وآيباً طيلة النهار؟! لماذا تخسر هذا الأجر، وهو لا يكلفك شيئاً: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، رب اغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).(52/8)
دعاء دخول الخلاء
إذا أردت أن تدخل الخلاء، فللخلاء ذكر، حتى وأنت تدخل دورة المياه، فإن لها ذكراً.
تأمل في نفسك! كم أنت مقصِّر، فقد ظللت ردحاً من الزمان تفوت على نفسك الحسنات، وإذا كنت طيلة عمرك تجهل هذا الذكر، فستلقى الله بماذا وقد فعلت كل شيءٍ لم تؤمر به، وتركت الشيء الذي أُمِرْت به؟! إذاًَ: على الإنسان أن يتدارك نفسه! ولا يتهاون بالذكر فإن أجره عظيم.
يقول الله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152].
قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (مَن ذكرني في مَلَإٍ ذكرتُه في مَلَإٍ خيرٌ منه) لأن هذا الذكر مستوجب للمحبة، والشكر مستوجب لمزيد النعمة، فإن شكرتَ يزيدك، وإن ذكرتَ يحبك؛ لذلك فإن مرتبة الذكر أعلى من مرتبة الشكر.
قال -وهذا ينسب إلى موسى عليه السلام- (يا رب! كيف أشكرك ولك في كل شعرةٍ من بدني نعمتان: نعمة أن ليَّنت أصلها، وطمست رأسها) تصور لو أن الشعرة كانت مثل الشوكة هل تستطيع أن تنام أو تتحرك؟! لكن ليَّن لك أصلها.
(لك في كل شعرةٍ من بدني نعمتان: نعمة أن ليَّنت أصلها، وطمست رأسها، قال: يا موسى! أما قد عرفتك ذلك فقد شكرتني).
هذا الشكر يستوجب الذكر، وإن علمت أن الله تبارك وتعالى هو المتفضل عليك فلِمَ تغفل عنه، والمشاهَد في حياة الناس اليوم أن الواحد إن كان له طلب أو حاجة عند بعض الناس يذكره ليل نهار، ويخطط ويبحث عن أفضل السبل في استجلاب رضائه، فكيف لا تفعل هذا مع الله تبارك وتعالى وهو ملِك كل هذه الأملاك، ورب كل هذه الأرباب تبارك وتعالى.
فالمسلم إنما أُتِي مِن نفسه ومِن جهله.
وكما قلنا فإن لدخول الخلاء ذكراً فلا تغفل عن ما علمك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند دخول الخلاء، أن تقول: (باسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) أي: تقدم رجلك اليسرى وتقول الدعاء قبل أن تدخل دورة المياه؛ لأن ذكر الله محرم داخل هذه الأماكن.
قال العلماء: الخبث جمع خبيث وهو: ذكران الجن.
والخبائث: إناث الجن.
كأنك تقول: اللهم إني أعوذ بك من الجن ذكرِه وأنثاه؛ لأن العلماء ذكروا أن -دورة المياه- أحد الأماكن التي يستقر الجن فيها، فإن قلت هذا أمِنْت من مسهِ لك، فمن الممكن أن يحدث لك مس في دورة المياه، فإن قلت هذا الدعاء كأنك تشرفت بِجُنَّة، ولَبِسْتَ جُنَّة ووقاية، فعندما تقضي حاجتك تخرج برجلك اليمنى، ثم تقول: (غفرانك).
ما معنى غفرانك؟! أنت دخلت دورة المياه في دقيقة واحدة، فقضيت حاجتك، وخرجتَ، ولا توجد مشاكل، ولا أي شيء، وتبوَّلت في نصف دقيقة، فاذكر غيرك الذي ابتلاه الله -عز وجل- بالفَشَل الكِلَوِي، يذهب أسبوعياً إلى المستشفى لأجل عمل غسيل كِلَوِي بمائة جنيه، وغيرك يجمع البول من الدم عن طريق جهاز، يظل أسبوعاًَ معذباً! معنى أن البول ينتشر في الدم فهذا يسبب ضيقاًَ، ويؤثر على خلايا المخ، ويستشعر المرء أن حياته لا قيمة لها، يظل أسبوعاً كاملاً أو يومين أو ثلاثة أو أربعة يتألم حتى يأخذوه إلى هذا الجهاز، فيجمع هذا البول من الدم فيستريح يوماً واحداً، ثم يبدأ العذاب من جديد.
فإذا علمتَ أنك تخرج هذا البول في دقيقة أو في نصف دقيقة مع تقصيرك في حق الله عز وجل، وأنه لو أراد أن يعاملك بفعلك لانتقم منك، فتخرج بعدما قضيت هذه النعمة تقول: (غفرانك)، أي: رب اغفر لي؛ لأنك إن عاملتني بجنس تقصيري عذبتني وحبَسْتَ الأذى فيّ، وهذا معنى غفرانك، فإن استغفرت ربك عز وجل حفظ عليك تمام هذه النعمة.
أتعجز أن تقول: غفرانك أيها المسلم، وهي كلمة واحدة بعدما تقضي حاجتك؟! والإنسان إذا حبست فيه ريح فقط يكاد ينفجر، وهذه ريح، كما يقول بعض العلماء: بلغ من ضعف ابن آدم أن تؤذيه دقة، وأن تميته شرقة.
انظر إلى الإنسان الذي طلع إلى الفضاء والقمر، وصنع القنابل الذرية والصواريخ والطائرات يموت بشرقة ماء، فهذا منتهى العجز والهوان، وأنت لا تدري متى تموت، فلِمَ تقصِّر -إذَنْ- في ذكر الله؟! إنك لا تدري: إذا جن عليك ليلٌ هل تعيش إلى الفجرِ إن الموت يأتي بغتة! كما قال الشاعر: الموت يأتي بغتةً والقبرُ صندوقُ العملْ وهذه الأذكار لا تكلفك شيئاً، بل تأخذ مزيداً من رعاية الله بك، فلِمَ تُغْفِلُها إذَنْ؟! إذا نمتَ على الوصف المذكور، فجعل الله عليك مَلَكَاً فإنه لا يقترب منك شيطان إطلاقاً وأنت نائم، آمن.(52/9)
دعاء الاستيقاظ من النوم
إذا قمت من النوم فقل: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور).
أول ما تستيقظ تقول هذه الكلمة العذبة، ذكر فيه جمال؛ (الحمد لله الذي أحيانا) أنت نائم ميت، قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42]، أي أن الله يتوفى الأنفس على قسمين: - التي ماتت.
- والتي نامت.
فكلاهما ميت؛ لكن هذا موتٌ أكبر، وهذا موتٌ أصغر: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّىً} [الزمر:42].
فإذا نام -مثلاً- اثنان من الرجال، فأرواحهما تصعد إلى الله عز وجل، وكل إنسان ينام روحه تصعد، فإن كان أجله قد حان، لا ترجع إليه روحه، ويموت، وإن كان في العمر بقية يُرْسِل الله إليه روحه إلى أجلٍ مسمى.
وهذا هو معنى الآية: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:42].
وأيضاً يتوفى التي {لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42]: الأرواح جميعاً عنده تبارك وتعالى.
{فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [الزمر:42]: لا يرسلها إلى صاحبها، وتصير جثة.
{وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّىً} [الزمر:42]: فدل أنك عندما كنتَ نائماً كنتَ ميتاً.
ومثله أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (النوم أخو الموت، وأهل الجنة لا ينامون).
لماذا؟ لأن الله عز وجل قال: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:56]، فلو ناموا لذاقوا الموت.
فمِن كمال الاستمتاع في الجنة أن تكون مستيقظاً دائماً.
وقد يقول رجل: وهذا البدن يتعب أليس له حق؟ نقول: إن بدنك الموجود الآن ليس بدنك في الجنة، فإن الله عز وجل لما أذن بنزول الإنسان إلى الأرض أخذ روحه فركبها في هذا البدن الضعيف في الدنيا.
ثم يموت فيتحلل وتزول هذه الأجساد كلها، فإن كان من أهل الشقاء فهذه الروح تَرْكَب على بدنٍ يناسب الشقاء، وإن كان من أهل النعيم وأهل السعادة، فهذه الروح ترجع إلى البدن الأول الذي يناسب الخلود.
وفي الحديث الصحيح: (أن أهل الجنة على طول أبيهم آدم) وآدم عليه السلام لما خلقه الله عز وجل خلقه على ستين ذراعاً.
والحديث في الصحيح، يقول فيه النبي عليه الصلاة والسلام: (خلق آدم على ستين ذراعاً، ولا يزال الخلق يتناقص إلى يوم القيامة).
- فأهل الجنة لا ينامون: فأبدانهم مهيأة لهذا الخلود، ورَشْحُهم المسك: -العرق- ولا يتبولون ولا يتغوطون، أي: ليس هناك دورة مياه، ولا أي شيء من هذا.
- وثمر الجنة لا رجيع فيه؛ فإذا أكلت ثمر الجنة؛ فإن الجسم يأخذه كلَّه، ولا يَبْقَى منه شيء.
- لهم كل جمعة نظرٌ إلى وجه الله عز وجل: وهذا هو أجلُّ ما يتمتع به أهل الجنة.
- وفي الجنة سوق كل يوم جمعة يلتقي فيه جميع أهل الجنة: الذين في جنات عدنٍ، والذين في الفردوس الأعلى، والذين في الجنات التي هي دون هذه الجنات العالية؛ لأن أحد الصحابة قال للنبي عليه الصلاة والسلام: إذا أنا مت لا ألقاك: لأنك في الفردوس، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (المرء مع من أحب) فما فرح -الصحابة- بعد الإسلام بشيء كفرحهم بهذا الحديث، يلتقون جميعاً: الأنبياء، والرسل، والمؤمنون.
نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلِّمنا ما جهلنا، وأن يأخذ بأيدينا ونواصينا إلى الخير.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
رب آتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هَزْلَنا وجِدَّنا، وخطأَنا وعمدَنا، وكلُّ ذلك عندنا.(52/10)
الشفاعة
إن لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم مكانة عظيمة عند الله عز وجل، فقد خصه الله بالشفاعة العظمى يوم القيامة لأهل الموقف، حين يأتيه الناس طالبين إليه أن يشفع لهم عند الله في فصل القضاء، وهذه إحدى الفضائل التي ميز الله بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الخلق، وهذا الحديث دليل واضح على علو منزلة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه.
فالواجب علينا اتباع سنته، والتأسي به، ومحبته وتعظيمه، والدفاع عنه وعن سنته.(53/1)
اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بالشفاعة العظمى دون بقية الرسل
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أخرج الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أنه نهس نهسة من ذراع أعجبته، ثم رفع رأسه وقال: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، ثم استقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحديث وفي آخره قال: تدنو الشمس من رءوس العباد ويقفون في موقف عظيم، فيقول بعضهم لبعض: ألا ترون من يشفع لنا؟ ألا ترون ما نحن فيه؟ فيقول بعض الناس: اذهبوا إلى آدم.
فيذهبون إلى آدم فيقولون له: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه، فهل تشفع لنا عند ربك؟! فيقول آدم عليه السلام: إن الله غضب اليوم غضباً لم يغضبه قط، ولا يغضب بعده مثله قط، نفسي نفسي، وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم، لكن اذهبوا إلى نوح أول نبي أرسل.
فيذهبون إلى نوح فيقولون: أنت أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، ألا ترى ما نحن فيه -يعني من الشدة والكرب- فيقول لهم نوح عليه السلام: لقد كانت لي دعوة فدعوتها، إن الله غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله قط، ولا يغضب بعده مثله قط، نفسي نفسي.
ولكن اذهبوا إلى إبراهيم خليل الله عز وجل اصطفاه واجتباه إليه.
فيذهبون إليه فيقول لهم: إني كذبت ثلاث كذبات فأخشى أن أؤخذ بهن، إن الله غضب اليوم غضباً لم يغضب قبل مثله قط، ولا يغضب بعده مثله قط، نفسي نفسي، ولكن اذهبوا إلى موسى.
فيذهبون إلى موسى عليه السلام فيقول لهم: إن الله غضب اليوم غضباً لم يغضب قبل مثله قط، ولا يغضب بعده مثله قط، ثم يقول: إني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها، نفسي نفسي، ولكن اذهبوا إلى عيسى.
فيذهبون إلى عيسى عليه السلام فلا يذكر ذنباً، لكنه يقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فيأتي الناس جميعاً فيقولون: اشفع لنا، فأقول: أنا لها أنا لها، ثم أذهب عند قوائم العرش فأسجد وأدعو الله بدعوات يفتحها الله عز وجل عليَّ، وأحمد بمحامد لم يفتحها على نبي قبلي، فيقول الله عز وجل: يا محمد! ارفع رأسك، واشفع تشفع، وسل تعط، قال: فأشفع للناس لفصل القضاء).
جاء في حديث حذيفة في صحيح مسلم قال: (فمن أمتي من يمر على الصراط كالبرق، ومنهم من يجري على الصراط كالريح، ومنهم من يجري عليه كالطير، ومنهم من يجري عليه كسير الرجال -يعني الرجال الذين يقطعون المسافات بسرعة عالية- ومنهم من يمشي زحفاً، وعلى الصراط كلاليب -يعني: خطاطيف- تخطف من تؤمر بخطفه، فمخدوش ناجٍ، ومكردس في النار).
قال أبو هريرة رضي الله عنه: والذي نفس أبي هريرة بيده إن قعر جهنم لسبعون خريفاً.
هذا حديث الشفاعة العظيم، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث ابن عمر: (خيرت بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة؛ لأنها أعم وأكفى، أترونها للمؤمنين المتقين؟ لا.
بل هي للمسيئين الخاطئين المتلوثين، وإني لأشفع لأكثر من عدد رمل عالج) اعالج شاطئ عظيم جداً وطويل، لو عددت الرمل الذي على هذا الشاطئ لوجدته ألوفاً مؤلفة.
وقد اختص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الشفاعة دون بقية الرسل، لذلك قال في مطلع الحديث: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) ثم ساق بقية الحديث، فهذا يدل على أنه سيد ولد آدم، وأن الله لم يقبل شفاعة -يقصد الشفاعة الكبرى- إلا منه.
انظر إلى أولي العزم من الرسل؛ نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلوات الله عليهم جميعاً، أولئك أولو العزم، يعني: أفضل الرسل، وكل رسول أفضل من النبي؛ لأن كل رسول نبي وليس كل نبي يكون رسولاً.
كل رسول أرسله الله عز وجل برسالة إلى بعض الناس فهو نبي أولاً ثم رسول، أما النبي فلا يشترط أن يكون رسولاً؛ لأنه قد يعطى النبوة تشريفاً له، وعليه أن يؤمر بتبليغ شيء ما، كإدريس عليه السلام مثلاً، ويعقوب عليه السلام، وبقية الأنبياء الذين أعطاهم الله النبوة تشريفاً لهم، بغير أن تقترن هذه النبوة برسالة إلى الناس.
هناك رسل كثيرون، لكن أفضل الرسل هم أولو العزم، وهم خمسة، قال الله عز وجل: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253]، فالرسل بعضهم أفضل من بعض، وهؤلاء الخمسة أفضل الرسل، ونبينا صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الخمسة.
فإذا كان حال أولي العزم من الرسل يوم القيامة أن كل واحد منهم يقول: نفسي نفسي، فما حالي وحالك أنت؟ نرتع في المعاصي كأننا ضمنا الجنة، لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر إلى عظم من عصيت، لا تقل: إنه ذنب صغير، ولكن انظر إلى من عصيت وإلى عظمته وجلاله.(53/2)
مراقبة الله عز وجل وتعظيمه ينجي من الزلل
إن الله تعالى يلوم العبد الذي لم يعظمه حق التعظيم، بينما تراه عندما يهم بمعصية يجتهد في أن يتوارى عن أعين الناس، والله تعالى يقول: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4].
فانظر إليه كيف استعظم نظر العبد ولا يملك له شيئاً، حتى اجتهد في أن يتوارى عنه في حال المعصية، ومع ذلك لم يرع نظر الله تبارك وتعالى حين لا يراه المخلوقون.
قيل: إن شيخاً من المشايخ أراد أن يختبر طلابه، ومن بين الطلاب الإمام الشافعي فقال الشيخ: ليأخذ كل واحد منكم ديكاً فليذبحه في مكان لا يراه فيه أحد، فأخذوا جميعاً الديوك وذبحوها ورجعوا، كل واحد توارى خلف حائط، عدا الإمام الشافعي فإنه رجع بديكه حياً، فقال له شيخه: أي بني! أعجزت أن تدخل مكاناً لا يراك فيه أحد، وتفعل كما فعل أقرانك؟ قال: نعم أيها الشيخ! فإنني ما دخلت في مكان إلا رأيت الله يطلع عليَّ، وقد اشترطت علينا أن لا نذبحه إلا في مكان لا يرانا فيه أحد.
فكان هذا من فطنة الإمام الشافعي، فتنبأ له شيخه بمستقبل زاهر، فالإمام الشافعي جعل المراقبة العظمى هي المنوطة بهذا الأمر من الشيخ وليس مراقبة العبد.(53/3)
خوف آدم عليه السلام من ذنبه كما في حديث الشفاعة
آدم عليه السلام أكل من الشجرة، وقد غفر الله له ذنبه في حياته: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:37] فهو يعلم أن الله قد تاب عليه، وهو يعلم أن الله أكرم من أن يعاتب العبد بذنب قد غفره له قبل ذلك، ومع ذلك يستحضر هذا الذنب في حال الشفاعة، ويقول: (وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم، نفسي نفسي -خلوا بيني وبين معصيتي- إن الله غضب اليوم غضباً لم يغضبه قط).(53/4)
أهوال يوم القيامة وحال المتقين وحال الكافرين
يوم القيامة يأتي العباد إلى الله يطلبون منه الرحمة، وقد كان أكثرهم ينفي عن الله عز وجل صفات الألوهية والجبروت، ويأتي أولئك الصعاليك الذين كانوا يتعالون عليه في ملكه، لكن يوم الحساب لا تكون الرحمة إلا للمحسنين فقط: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56] كانت الرحمة في دار الدنيا أقرب إليك من شراك نعلك لو اتجهت إلى الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا لا تشرك بي شيئاً -ثم قلت: يا رب اغفر لي- أتيتك بقرابها مغفرة).
قراب الأرض: يعني: لو أتيت بملء الأرض خطايا، لكن لا تشرك به شيئاً؛ لأن الشرك داء ليس له دواء إلا أن تنزع عنه، وأن تفر إلى ربك.
الله عز وجل هو الوحيد الذي لا يكون الفرار منه إلا إليه، أنت تفر من العبد إلى عبد آخر، وتفر من الأرض إلى أرض أخرى، أما الله عز وجل فالفرار منه يكون إليه وحده؛ لأنه هو الذي ملك أقطار السماوات والأرض، ولا يستطيع أحد أن ينفذ إلا بسلطان منه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عندما ينام: (اللهم إني وجهت وجهي إليك، وألجأت ظهري إليك، لا منجى ولا ملجأ منك إلا إليك).
إذاً قد كانت رحمة الله قريبة منك وأنت في الدنيا، أما الآن فإن الله قد غضب اليوم غضباً لم يغضبه من قبل ولا من بعد ذلك قط، فهو في ذلك اليوم سينزل الناس منازلهم التي يستحقونها، وسينزل الكافرين في جهنم وهذا منتهى غضبه، فهو لا يغضب بعد ذلك، ينزل الكافرين في جهنم، وينزل المتقين في الجنة، وهو لا يسخط على المتقين، قال الله عز وجل: (.
اليوم أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً) هذا بالنسبة لأهل الجنة، أما بالنسبة لأهل النار فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ضرس الكافر في النار مثل أحد) الكافر تكون هيئته في النار عظيمة جداً، ليس هذا الجسد الهزيل النحيل، فضرسه كجبل أحد، فما بالك بفكه، وما بالك برأسه وبقية جسده؟! وفي الحديث الآخر قال صلى الله عليه وسلم: (غلظ جلد الكافر في النار مسيرة سبعين عاماً) سمك هذا الجلد مسافة أن يمشي رجل سبعين عاماً؛ لأن هذا أشد من جهة العذاب، فذلك الجلد الرقيق الذي إن أخذ لسعة من النار احترق، أصبح سمكه سبعون عاماً، حتى يشعر الكافر بحرق الجلد شيئاً فشيئاً، ويشعر بشدة النار.
فهذا آدم عليه السلام وهو أبو البشر وقد غفر له، ومع ذلك يخاف أن يأخذه الله بذنبه، فيريد أن ينجو بنفسه، المهم أن ينجو هو: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21] {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} [الحج:2] تذهل: أي تنسى.
تقابل الأم ولدها لا تعرف أن هذا ولدها، مع أنها حملته تسعة أشهر، وأرضعته سنتين، وخافت عليه حتى بلغ أشده لكن هناك تنساه وتذهل عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من نوقش الحساب عذب) لم يقل: من دخل النار، بل من نوقش فقط.
يقال: (إن رجلاً كان يعيش في جزيرة، فأنبت الله له شجرة رمان، وأخرج له عيناً من الماء، فكان يشرب الماء ويأكل من الرمان، وكان طيلة عمره يتفرغ للعبادة، ودعا الله عز وجل أن يقبضه إليه وهو ساجد، فلما جاء موعد أجله قبضته الملائكة وهو ساجد، فقال الله عز وجل: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، قال: أي ربي، بل بعملي، فقال الله عز وجل: إنه لا يظلم اليوم عندي أحد، ضعوا نعمة البصر في الميزان، وضعوا عبادة ستمائة سنة لهذا العبد مقابل البصر، فوضعوها في مقابل نعمة البصر فرجحت نعمة البصر عبادة ستمائة عام.
فقال: خذوا عبدي إلى النار، فجعل يتوسل إليه ويقول: أي ربي برحمتك! أي ربي برحمتك!).
والنبي صلى الله عليه وسلم وضح هذا جلياً في الحديث المتفق عليه حيث قال: (لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته).
فالله عز وجل يحاسب عباده بالفضل لا يحاسبهم بالعدل؛ لأنه إن حاسبهم بالعدل أهلكهم، قال الله عز وجل: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45] هذا هو مقتضى العدل، أنه لو حاسبك على ما اقترفت لأهلكك من أول ذنب.
فيوم القيامة يحاسب الله عز وجل الناس بعدله -أي الكافرين- لا يظلم مثقال ذرة.(53/5)
نوح عليه السلام وامتناعه عن الشفاعة
قال آدم: (ولكن اذهبوا إلى نوح فإنه أول نبي أرسل -لعل له كرامة على ربه تبارك وتعالى- فيقول نوح عليه السلام: إن الله غضب اليوم غضباً لم يغضبه قط، وقد كانت لي دعوة فدعوتها).
وهذا وضحه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح قال: (لكل نبي دعوة مستجابة وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي).
انظروا إلى رحمته صلى الله عليه وسلم بنا، كل شيء كان يفعله لصالح أمته، مع أن أغلبهم لا يقيمون لهذا القرآن وزناً، ولا يقيمون لسنته صلى الله عليه وسلم وزناً.
وخرجت نابتة من المسلمين يقول أحدهم: (والله لا يكون المسلم الهندي أقرب إليَّ من النصراني المصري)، يعني: النصراني المصري أقرب إليه من المسلم الهندي، ما الذي جناه المسلم الهندي؟ لا شيء، إلا لأنه هندي بعيد الدار، ويزعمون أن هذا هو فهمهم، ولا يكون الإسلام إلا كما يفهمون.
هذه القومية القبيحة التي جعلت الناس يعبدون التراب والأرض، ويغنون للتراب والأرض، ومن شعارهم: (أن الدين لله والوطن للجميع) الدين لله، بمعنى أن كل إنسان يعبد ما يشاء، حتى خرج علينا بعض من يتسمى بأسماء المسلمين، فينكر على الذي يجبر الناس على الصلاة، ويقول قال الله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] وهو جاهل لا يدري ما الدين في هذه الآية، إن الله عز وجل أنزل هذه الآية ليقولها النبي صلى الله عليه وسلم للذين يدينون بغير دين الإسلام، أما تارك الصلاة فلا إسلام له، وإلا كيف يكون مسلماً وقد تحلل من دينه شيئاً فشيئا حتى صار مضاداً له.
سبحان الله! عندما تنظر إلى صنيع النبي صلى الله عليه وسلم، وتنظر إلى صنيع الأمة فإنك تقول: إنهم لا يستحقون شيئاً مما فعله ومما سيفعله من أجلهم، وها هو الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إني آخذ بحجزكم من النار ولكنكم تغلبونني -آخذ بحجزكم: أي أحجزكم عن النار، ولكنكم تتفلتون مني وتتهافتون في النار- ما تركت شيئاً يقربكم إلى الله ويقربكم إلى الجنة، ويباعدكم عن النار إلا أمرتكم به)، فقد بلَّغ وأدى الذي عليه صلى الله عليه وسلم، ولم يبق إلا الذي علينا.
فنوح عليه السلام دعا دعوته المستجابة: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح:26]، وذلك حين قال هذه دعوة نوح عليه السلام، استجابها الله فوراً، ولم يعد لنوح دعوة مدخرة ليوم القيامة ليدعو الله ويشفع للناس، فيريد أن ينجو بنفسه فقال: (اذهبوا إلى إبراهيم) وإبراهيم كما قال الله عز وجل: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120] تصور عندما يكون أمة واحدة، كيف سيكون قدره عند الله عز وجل؟ وقال الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125].
عندما قالوا له: (اشفع لنا عند ربك، قال: إني كذبت ثلاث كذبات، نفسي نفسي) ثلاث كذبات كذبها إبراهيم عليه السلام ويخشاها، اثنتان منها في ذات الله عز وجل، كما في صحيح البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كذب إبراهيم ثلاث كذبات: في قومه لما قال المشركون: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:62 - 63]-هذه الكذبة الأولى.
الكذبة الثانية:- لما دعاه الناس إلى عيدهم فأراد أن لا يشارك المشركين في عيدهم، قال تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:88 - 89] وهذه الكذبة الثانية).
الكذبة الأولى: أنه عليه السلام حطم الأصنام ووضع الفأس على عنق الكبير، فلما رجعوا وجدوا الأصنام جذاذاً إلا كبيراً لهم لعلهم يرجعون، فجاء جمع وأخبروا أحد المحافظين وقالوا: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} [الأنبياء:60] يعني: يذكرهم بسوء، أي: يسب آلهتهم، {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60] فجاءوا به وقالوا: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:62] {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ} [الأنبياء:63]، هذه لا تعد كذبة إنما هي من المعاريض؛ لأن الأنبياء يستحيل عليهم الكذب، الكذب خاصة؛ لأنهم يبلغون كلام الله إلى الناس، وما آفة الأخبار إلا الكذب، فلا يجرب على نبي كذب أبداً.(53/6)
معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما كذب إبراهيم ثلاث كذبات)
إن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما كذب إبراهيم ثلاث كذبات) فيقال: الكذب في الأصل هو قول غير الحق، سواء كنت عامداً أو غير عامد، فإن كنت مخطئاً يقال عليك: إنك كاذب، من باب التغليب، أي: أنك قلت غير الحق، أما مسألة أن تتعمد أو لا، فهذا شيء خارج عن حقيقة تعريف الكذب.
لذلك لما جاء عبد الله بن محيريز إلى عبادة بن الصامت رضي الله عنه فقال: إن هاهنا رجل يقال له: أبو محمد يقول: إن الوتر واجب، فقال عبادة: كذب أبو محمد، أي: قال غير الحق، ولم يقصد أنه افترى.
وكذلك قول ابن عباس: كذب عدو الله، مع أن مولى زيد بن ثابت رجل مسلم، والمقصود بقوله: كذب، أي: أنه أخطأ، وقال غير الحق.(53/7)
بيان الكذبة الثالثة
أما الكذبة الثالثة: فهي أنه لما دخل مصر مع زوجته سارة، وكان حاكم مصر جباراً عنيداً، كان لا يرى امرأة جميلة إلا اصطفاها لنفسه واغتصبها، فقال إبراهيم لزوجته سارة: (إنه ليس على الأرض مؤمن غيري وغيرك، فإذا سألك فقولي: إنه أخي) يعني ليس زوجي.
ما الذي دفعه إلى هذا القول؟ الذي دفعه إلى هذا القول، هو أن هذا الجبار كان إذا رأى امرأة جميلة متزوجة برجل قام وقتل الزوج وأخذ المرأة، بخلاف الأخ لا تكون غيرة الرجل على امرأته كغيرته على أخته، غيرته على امرأته أشد من غيرته على أخته.
قال: فجيء بـ سارة وكانت من أجمل النساء، فأراد الجبار أن يقترب منها فدعت الله عز وجل فشلت يده، فقال: ادعي الله لي ولا أقربكِ، قالت: اللهم إنه إن مات قالوا: قتلتِه، فرد الله عز وجل له يمينه، فمد يده مرة أخرى فشلت يده بصورة أشد من الأولى، فقال: سلي الله أن يعافيني ولا أقربنك، فدعت الله فرفع عنه البلاء.
فنادى للجماعة الذين أتوا بـ سارة، فقال لهم: إنكم أتيتموني بشيطان وليس بإنسان، فلما رأى أنها جميلة وأنها تشبه الملكات أخدمها هاجر، أعطاها هاجر أم العرب لكي تخدمها؛ لأنه رآها ليست أهلاً أن تعمل بيدها، إنما رأى أن تخدمها هاجر، فخرجت سارة بـ هاجر وأتت بها إبراهيم عليه السلام.
هذه هي الكذبة الثالثة التي خشي إبراهيم عليه السلام أن يأخذه الله عز وجل بها.(53/8)
بيان الكذبة الأولى
فإبراهيم عليه السلام لم يقل الحق في هذا، بمعنى: أنه قال شيئاً عرض به: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63] هو يعلم أن الأصنام لا تنطق، وإنما أراد أن يلزمهم الحجة بذلك، وأن الأصنام لا تنطق ولا تنفع ولا تضر، وهذه في ذات الله عز وجل، هو يريد أن يثبت لهم أن أصنامهم لا تساوي شيئاً.
هذه هي الكذبة الأولى، ونستأنف ذلك بعد جلسة الاستراحة إن شاء الله تعالى.
أقول قولي هذا؛ وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(53/9)
بيان الكذبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
ذكرنا في الخطبة الأولى أن إبراهيم عليه السلام كذب ثلاث كذبات، وذكرنا الكذبة الأولى، والآن نذكر لكم الكذبة الثانية: وهي قوله عليه السلام: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] وكان كما قال أهل التفسير: إن قوم إبراهيم كانوا يخرجون في عيد لهم، ويلزمون الجميع بالخروج، وعندما أتوا إلى إبراهيم وطلبوا منه أن يخرج معهم في عيدهم، تظاهر بالمرض، وقال: (إني سقيم) يريد أنه سقيم القلب لكفرهم.
{فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} [الصافات:90] أي فروا منه خشية أن ينتقل المرض منه إليهم، وبذلك نجا من أن يحضر أعياد الكفرة؛ لأن المسلم لا يجوز له أن يحضر أعياد الذين يحادون الله ورسوله، وهذا بكل أسف يفعله المسلمون الآن، لا تراهم يحتفلون بعيد الفطر أو الأضحى مثلما يحتفلون بعيد رأس السنة الميلادية، وليس هذا فقط، بل يشربون الخمر، والمسلمون قد نهوا أن يحضروا أعياد المشركين الكافرين.
وتنظر إلى هذا الغثاء وقد خرج كله من بيتك، وفي الحدائق يأكلون النتن، ويشاركون اليهود في عيدهم، فتقيم الدولة احتفالاً رسمياً بهذه المناسبات، أنَّى لهؤلاء أن ينتصروا؟ أنَّى لهؤلاء أن ينزل الله نصره وقد حادوه، ولا يقيمون لشرعه وزناً؟ وصل النفاق إلى درجة عالية عند هؤلاء، حتى أصبح مخالفة الإسلام عندهم أمراً هيناً لا يؤبه له، بينما مخالفة أسيادهم من المشركين والكفار هذا أمر عظيم.
أحد الوزراء قال في مذكراته: إنه حضر مع رئيس سابق -ونشرت مجلة لبنانية نتفاً من مذكرات هذا الوزير- يقول: إنه ذهب مع الرئيس السابق الكنيسة، ثم إن الرئيس السابق أراد أن يكون كـ عمر، أذن الظهر، فقال ذلك الرئيس: يا جماعة تعالوا نصلي، وتقدم للإمامة.
وهذا المسكين -أي: الوزير- كان جنباً، وزير يمشي جنباً، قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: (إنها ستكون سنون خداعة، يخون فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، ويصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، وينطق فيها الرويبضة، قالوا: من الرويبضة يا رسول الله؟ قال: السفيه يتكلم في أمر العامة) السفيه يكون رأساً، فهو الذي يأمر، وهو الذي ينهى، وهو الذي يتحكم، ومع ذلك يمشي جنباً!! لو أن هذا الوزير عندما رأى المسلمين قاموا إلى الصلاة ولم يصل، فسيقف بالباب ينتظرهم حتى يتموا الصلاة، لكنه استحيا من هذا الموقف، ولشده حيائه صلى وهو جنب.
فانظروا إلى هذه الصورة وقيسوا عليها، وما خفي كان أعظم، والغريب أن تصل به الجرأة أن ينشر هذا الكلام على المسلمين.
وأنا قد رأيت أحد المحافظين في صلاة الجمعة وقد التقطت له صورة مع رئيس سابق، ووضعوها في جريدة الجمهورية في أول صفحة، وهو يصلي وواضع يده اليسرى على اليمنى في الصلاة! ابن أربع سنوات أو ثلاث سنوات يعلم أن اليمنى هي التي توضع على اليسرى في الصلاة، وهذا المحافظ لا يعرف!! ألا يخاف أولئك أن ينزل الله غضبه عليهم، إن هذا الضنك الذي يعاني العباد منه، إنما هو بما كسبت أيديهم ويعفو عن كثير، قال الله عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم:41] وليس يذيقهم كل الذي عملوا بل بعض الذي عملوا، ما العلة؟ {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] لعلهم يتوبون من قريب، لعلهم يرجعون إلى ربهم، فيذكرهم الله عز وجل ببعض ما كسبت أيديهم ليتوبوا.
لا يجوز للمسلم أن يشارك في أعياد الكافرين، ولا أن يكثِّر سوادهم، فإبراهيم عليه السلام لا ينبغي له أن يشارك قومه في أعيادهم؛ كيف يشاركهم وهو أمة وحده، وهو من يدعوهم إلى التوحيد: {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] لذلك كانت هذه الكذبة في ذات الله عز وجل.(53/10)
استحالة الكذب في حق الأنبياء عليهم السلام
أما بالنسبة للكذب: فإنه لا يجوز في حق الأنبياء؛ لأن الكذب إنما يخرج من فم بني آدم، فإذا جرب على إنسان كذب فلا يمكن أن يوثق بشيء يخرج من فيه، لذلك كما عند الترمذي وغيره: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان خلق أبغض إليه من الكذب).
وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر: (على كل شيء يُطبع المؤمن إلا الخيانة والكذب)، لا يكون المؤمن كذاباً.
وفي الحديث الصحيح في البخاري: (لا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً).
الكذب جناية عظيمة، وما حرفت الأديان إلا بالكذب، لم يقع شيء قط إلا وترى أن الكذب من أصوله، فالكذب جناية عظيمة ينزه عنه الأنبياء، حتى لا يتطرق ذلك إلى البلاغ الذي يحملونه من الله عز وجل إلى البشر، هذا بالنسبة للأنبياء.
أما بالنسبة لغيرهم: فإن الكذب كله حرام غير ثلاثة أنواع من الكذب، ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي وأحمد وغيرهما من حديث أسماء بنت يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من الكذب لا أعدهن كذباً -وفي رواية: لا أعباء بهن- كذب الرجل في الحرب، وكذب الرجل يصلح بين المتخاصمين، وكذب الرجل على امرأته).
هذه الأنواع الثلاثة هي التي يمكن لنا أن نسميها تجاوزاً (الكذب الأبيض) وإلا فالكذب كله أسود، وذلك لما يتحمله العبد من الويلات ومن الحساب بسبب الكذب.
إذاً: المعاريض تشبه الكذب ولكنها تختلف عنه في الحكم، ولذلك نحن قلنا: إن إبراهيم عليه السلام لم يكذب إنما عرض بالكلام.(53/11)
معنى التعريض والفرق بينه وبين الكذب
التعريض يسميه علماء البيان: التورية، والتورية: هي أن يكون للكلمة معنيان: معنىً قريب، ومعنىً بعيد، إذا قلت الكلمة خطر على بال السامع المعنى القريب، وأنت تقصد المعنى البعيد.
مثلاً لو قلت لي: تفضل كل، فقلت لك: إني صائم، كلمة صائم إذا سمعها أي إنسان ما الذي يخطر على باله؟ يخطر على باله أنني صائم عن الأكل والشرب، وقد أقصد أنني صائم عن اللغو، أو صائم عن الرفث، كما جاء على لسان مريم عليها السلام: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم:26] فعبر عن الكلام بالصوم، وكل شيء تنطق به يمكن أن تعبر عنه بالصوم؛ لأن الصوم في الأصل هو الإمساك.
وهذا حدث لـ أبي هريرة رضي الله عنه، أنه نزل مرة على جماعة وكان يكره طعامهم، فقالوا: اقعد يا أبا هريرة وكل معنا، فقال: إني صائم، فلما كان في عصر ذلك اليوم رأوه يأكل فقالوا: كيف يا أبا هريرة تأكل وقد قلت إنك صائم؟ قال: ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام ثلاثة أيام من كل شهر فكأنما صام الدهر كله).
فهو رضي الله عنه يصوم الثلاثة الأيام من كل شهر، فيعتبر صائماً كل الدهر.
فهو صائم باعتبار ذلك الفهم، لا أنه صائم عن الأكل كما فهم الناس، فلا يقال: إنه كذب، إنما يقال: إنه عرّض بالكلام.
الكلام له وجهان: وجه قريب، ووجه بعيد، إذا قيل الكلام فهم السامع منه الوجه القريب، وأنت إنما تقصد المعنى البعيد الذي لا يخطر على بال السامع.
ورد أن أحد الخلفاء أراد أن يقلد سفيان الثوري منصب القضاء، وسفيان الثوري أحد الأئمة الأعلام الذين حفظ الله عز وجل بهم هذا الدين- وكان يأنف القرب من المناصب، ويرفض القرب من هؤلاء الأمراء.
وكما قال أحد السلف: إنك ما أصبت من دنياهم شيئاً إلا أصابوا من دينك ما هو أعظم، فاقترب منهم قد تأخذ مالاً أو سيارة أو منصباً، وإذا أشرت بيدك قعد الناس وقاموا، لكنه مقابل هذا قد ترى الرئيس أو الأمير يظلم وأنت ساكت، ولا تستطيع أن تنكر؛ لأنه قد أعطاك أشياء كانت سبباً في سكوتك، بل قد يظلم وتكون عوناً له في هذا الظلم، وتفعل هذا من باب المجاملة، وكونه قد تفضل عليك بأشياء كثيرة.
فكلما أعطاك من هذه الدنيا الفانية التي لا قيمة لها، كلما أخذ في مقابله ما هو أعظم من هذا الذي أخذته منه، لذلك كان السلف يأنفون القرب من الحكام، مع أن أمراء ذلك الزمان كانوا هم حكام الدنيا والدين، وكانوا يدينون بالإسلام، ومع ذلك فعلماء السلف كانوا يكرهون أن يقتربوا منهم.
فأراد أمير المؤمنين أن يحمل سفيان الثوري على القضاء وهو لا يريده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين) لأن القاضي قد يخطئ، وقد يجامل، وقد يحكم على إنسان وهو غضبان، مع أنه لا يحل له أن يحكم وهو غضبان، ولأنه قد يعتريه ما يعتري البشر من الغضب والرضا، ومن الخطأ، ومن المجاملة، ومن قسوة القلب، وكل هذا يؤثر على قضائه وحكمه في القضايا.
فأنت مسئول أمام الله عز وجل عن هذا الذي ظلمته: فكان الواحد منهم يخاف على نفسه، لكن أمير المؤمنين أصر على أن يتولى سفيان الثوري القضاء، فهرب سفيان، فأرسل الشرطة وراءه فأحضروه، فلما أتي بـ سفيان الثوري ودخل على الخليفة تظاهر بالجنون، وتحسس السجاد تحسس المجنون، ويقول: بكم اشتريتم هذا؟ ليقول الخليفة: هذا رجل مجنون لا يصلح للقضاء.
لكن ما كان يغيب على أمير المؤمنين سمعة سفيان، وأنه إمام رباني، انتشر ذكره في الناس بكل خير، ففي مرة من المرات كان سفيان مع أمير المؤمنين، وجعل أمير المؤمنين يتحدث عن القضاء، فخاف سفيان أن يوليه القضاء، فاستأذن في الخروج لقضاء الحاجة، فقال الخليفة: إنك إن خرجت لا تأتينا يا سفيان، قال: والله لآتينك، فانطلق حافياً، ثم خرج ورجع سريعاً فقال: نسيت حذائي.
فلبس حذاءه وخرج ولم يرجع، فقال الخليفة: أين الرجل لقد أقسم أنه سيجيء؟ قالوا: نعم قد رجع فأخذ حذاءه وانصرف.
فهذا من المعاريض.
أراد أمير المؤمنين أنه بعد أن يرجع سفيان يقوم بتوليته القضاء، لكن سفيان كان فاهماً ما يريد منه الخليفة، ولأنه لم يأذن له بالخروج إلا بعد أن أقسم بأنه سوف يعود، فعمد سفيان إلى حيلة وهي أنه خرج بدون حذاء؛ ثم رجع وأخذ حذاءه وانصرف، حتى يبر بقسمه.
وهذا الإمام المروذي أحد أصحاب الإمام أحمد بن حنبل رحم الله الجميع، كان عليه دين لبعض الناس، فلما جاء صاحب الدين ليطالب المروذي قبل أن يصل خرج المروذي من بيته ودخل بيت الإمام أحمد، وقال للإمام أحمد: سيأتيني الرجل يطلب دينه وليس عندي مال، فقال: ادخل.
فجاء الرجل فطرق باب الإمام أحمد ثم قال له: المروذي هنا؟ فإن قال له: نعم إنه هنا لفائدة من هربه.
فقال الإمام أحمد وأشار إلى كفه ما يفعل المروذي هنا وأشار إلى كفه، فظن الرجل أنه يمكن أن يكون في البيت، فالإمام أحمد إنما أشار إلى كفه، والمروذي ليس في كفه، فهذا اسمه تعريض، وهو يشبه الكذب ولكنه يختلف عن الكذب في الحكم، فهذا التعريض إنما يكون في المباح.
أما أن تعرض لأجل أن تأكل حقوق الناس، فهذا كذب وليس بتعريض، ولذلك فالمسلم الذكي العاقل هو الذي يستفيد من هذه المعاريض في إصلاح بيته، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج الضلع أعلاه) والضلع: هو العظم الذي في رأسه ميل واعوجاج، فالمرأة خلقت معوجة في طباعها وأخلاقها، مثل المكان الذي خرجت منه وهو الضلع.
(إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاقبلوهن على عوج)، لو علم المسلم هذه الحقيقة، لعرف كيف يتعايش مع الزوجة بدون مشاكل، امرأة خلقها الله معوجة، فإن أردت أن تقيمها فلا تستطيع، وإنما تتعايش معها مع بقاء العوج فيها؛ لأنها مجبولة على ذلك، ويكون التعايش مع المرأة بالمداراة، وبالمعاريض، وبالصبر عليها، خاصة إذا كانت الأخطاء التي تصدر من المرأة لا تخالف الشرع، وإنما أخطاء لا تنفك عنها الحياة الزوجية.
ولا يستطيع الرجل أن يفعل أفعال المرأة أبداً، لماذا؟ لأن الرجل مجبول على شيء والمرأة مجبولة على شيء آخر، فلذلك الأئمة يقولون في هذا الحديث: إن فيه مداراة المرأة، بمعنى: أن على الرجل أن يقبل منها الشيء من غير تضجر، وله أن يكذب عليها -ليس الكذب المطلق- كما في حديث أسماء بنت يزيد: (ثلاث من الكذب لا أعدهن كذباً كذب الرجل على امرأته) قال الإمام النووي رحمه الله: أما كذبه عليها لأجل أن يأكل حقها فهذا حرام بالإجماع، كأن يأخذ الذهب الذي هو ملكها ويقول لها: عندي مشروع وأريد منك الذهب، وأول ربح أدفعه لكِ وهكذا، وهو ينوي في ضميره أن لا يرده إليها، فهذا حرام عليه أخذه منها؛ لأنه ملكها، وقد يكون صداقها الذي به استحل فرجها، والصداق هو أطيب مال المرأة، فيأخذه ولا ينوي إرجاعه، فهذا يعد كذباً محضاً، وهو حرام بالإجماع.
فهذا الذي فعله إبراهيم عليه السلام يعد من المعاريض ولا يعد من الكذب، لذلك قال الإمام القرطبي والإمام الحافظ ابن حجر: إن هذه ليست كذبة، إنما هي كذبة من باب اللغة فقط، يعني من باب التسمية اللغوية فقط، فبعد أن اعتذر إبراهيم عليه السلام عن أن يشفع لهؤلاء الناس قال: اذهبوا إلى موسى.(53/12)
موسى عليه السلام واعتذاره عن الشفاعة بسبب ذنبه
فلما ذهبوا إلى موسى عليه السلام وهو كليم الله، ومن أكثر الأنبياء ذكراً في القرآن؛ لأنه أرسل إلى جبار عنيد، ألا ترى أن موسى عليه السلام له حظ من الذكر في غير ما سورة من القرآن؟ ومع ذلك لم تأت سورة باسم موسى، كما سميت بعض السور باسم هود، ويونس -مثلاً- أو مريم.
أرسل الله موسى إلى فرعون ذلك الجبار الطاغية، ونافحه كثيراً جداً كما تعلمون من قصته، فقال لأولئك الذين أتوا إليه ليشفع لهم عند الله في فصل القضاء: (إني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها) كما ورد في سورة القصص، وهي: أن موسى عليه السلام رأى رجلاً من قومه يقاتل قبطياً، فوكزه موسى فقضى عليه، فهذا هو الذي عناه موسى، مع أن الله عز وجل غفر له حيث قال: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} [القصص:16] وقال: (إن الله غضب اليوم غضباً لم يغضبه قط -فخاف أن يعاقب بهذا الذنب، فقال لهم-: (اذهبوا إلى عيسى).(53/13)
عيسى عليه السلام واعتذاره عن الشفاعة
وعيسى عليه السلام لم يذكر ذنباً؛ لأنه لم يذنب، ظل على الأرض سنوات قليلة ثم رفعه الله عز وجل إليه، ولقد ورد كما في الأحاديث الصحيحة المتواترة في الصحيحين وغيرهما بأن عيسى عليه السلام سينزل في آخر الزمان ويحكم بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم، ويكون هذا ختام خروج الدجال.
من شرف هذه الأمة أن عيسى عليه السلام يصلي مأموماً خلف المهدي، قال بعض العلماء: حتى لا يتصور بعض الناس أن عيسى قادم بشرع جديد، بل هو من هذه الأمة، ويحكم بشرع هذه الأمة، ويصلي خلف أئمتها، وهذا ثابت في صحيح مسلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف أنتم وابن مريم منكم).
وفي الحلية لـ أبي نعيم الأصبهاني: أن المهدي رضي الله عنه -وهو من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم- سيكون هو قائد الطائفة المنصورة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك، قيل: أين هم يا رسول الله؟ قال: هم بالشام يومئذٍ).
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رءوف رحيم.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين(53/14)
العصبية للدين
العصبية للدين أمر ممدوح شرعاً، ودليل على مدى تمسك المسلم بعقيدته ودينه، وهي واجبة ضد أعداء الدين ومؤامراتهم، ولا يقبل فيها بما يسمى بالتسامح الديني والأخوة الإنسانية.
أما العصبية المذمومة فهي التي يكون أساسها الخلاف بين المسلمين في المسائل الفرعية التي تحدث التمزق والشقاق وتلغي المحبة والمودة بين المسلمين، وقد بينت السنة مواقف الصحابة في هذ الباب، واعتمادهم أدب الخلاف في المسائل التي يسعهم الخلاف فيها.(54/1)
العصبية للدين بين المدح والذم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد فقد جرت كلمة لها مشتقات ومترادفات على ألسنة الناس، سواء ممن يكنون العداء للإسلام والمسلمين، أو ممن يظهرون الولاء له، والله أعلم بنياتهم، إنما كل مدار كلامهم يدور على الذم لهذه الكلمة ولمشتقاتها، وهي كلمة: (العصبية)، فيقولون: ليس في الإسلام عصبية، ولا تعصب، ولا عصبة، وهذه مشتقات، وكلامهم هذا إن كان له وجه صحيح؛ فله وجوه كثيرة من الخطأ والباطل، والله أعلم بنيتهم: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص:69]، فلا نشق عن صدورهم ولا ننقب عما في قلوبهم، وندع ذلك لرب الأرباب، ولكن يجب أن نعيد الحق إلى نصابه بالدلائل النيرات، والحجج الدامغات: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الأنفال:42].
إنه لا يجوز أن نأتي على مصطلح إذا أطلقه الإنسان كان دليلاً على الانحراف فيجرف تحته أئمة من أئمة المسلمين كانوا يوماً ما يطلق عليهم هذا الاصطلاح كدليل على الصلاح والاستقامة على السنة، مثلاً: الصوفية نراهم يعدون الإمام أحمد بن حنبل والجنيد والثقفي في الصوفية.
وهؤلاء السادة كانوا من أتبع الناس للسنة، وإنما كان مصطلح الصوفية عندهم لا يتعدى أن يكون هو الزهد في ملذات الحياة فقط، والترفع عن الدنايا، لأن له أصل أصيل في السنة، فلما دار الزمان وصار مصطلح الصوفية علماً على الانحلال والانحراف عن السنة والقول بالاتحاد ووحدة الوجود إلى كل هذه الأشياء الكفرية، صار لا يجوز لنا في هذه الحال أن نقول: إن الإمام أحمد بن حنبل كان صوفياً، لما وقر في أذهان الناس أن الصوفي له علامات كذا وكذا.
وإن كانوا يطلقون عليهم قديماً لفظة صوفي بالتعريف القديم، لكن الصوفي الآن له تعريف آخر يختلف عن تعريف القدماء لمعنى الصوفية، فالحاصل أنه لا يجوز لنا أن نأتي على شيء حادث يدل على أشياء مشوهة فنأخذ به القدماء، لما يعمي ذلك عند الناس ويضيع الحق والحقيقة.
مصطلح العصبية يجب أن يتبدى واضحاً جلياً، كلنا ننكر التعصب والتنطع والعصبية في فروع الدين، يجب أن يكون في صدرك محل لخلاف أخيك، فرجل يرى هذا الرأي الفقهي وآخر يرى غيره، إننا نمقت العصبية، وهي أن يختلف أصحاب الدين الواحد في مسألة فرعية تؤدي بهم إلى الشقاق والتناحر، مثلما حدث منذ خمسين سنة فقط، وما زالت العلامة على هذا الحادث موجودة حتى الآن، فالذي يدخل الجامع الأزهر يجد أربعة محاريب -المحراب هو المقوس في القبلة- محراباً للشافعية، ومحراباً للحنفية، ومحراباً للمالكية، ومحراباً للحنابلة، لماذا يا قوم؟! أليس دينكم واحد وقبلتكم واحدة وربكم واحد ونبيكم واحد وقرآنكم واحد؟ ما معنى أن هذا شافعي وهذا مالكي وهذا حنبلي وهذا حنفي؟ وليس الأمر واقفاً على مجرد هذه التسميات، إنما كان له أثر في تفكك علاقة المسلمين، فكان الشافعية يرون أن الفجر يصلى بغلس، أي: يصلي الفجر في أول وقته وما زال الظلام يغطي الدنيا، فكان الشافعية يرون استناداً إلى حديث عائشة في الصحيح أنها قالت: (كنا نصلي الفجر مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم نخرج لا يرى بعضنا بعضاً من الغلس -أي: من الظلام-) فهذا يدل على أن الفجر يصلى في أول وقته، وكان الشافعية يبادرون إلى الصلاة في أول الوقت.
أما الحنفية فكانوا يرون أن الصلاة لا تكون إلا بعد إشراق النهار، ليس إشراق الشمس، ولكن بعد بزوغ النهار، وكانوا يستندون أيضاً إلى حديث صحيح رواه أصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه وآله سلم قال: (أسفروا بالفجر؛ فإنه أعظم للأجر)، فقالوا: إنه يجب أن نسفر، ومعنى الإسفار هو: بزوغ النور بعد رحيل الظلام، فقالوا: إنه أعظم للأجر، فيجب علينا أن نصلي الفجر بعد أن يبزغ النور.
فيقوم الشافعية يصلون في محرابهم، والحنفية قاعدون ينتظرون إمامهم، فإذا انتهى الشافعية من الصلاة؛ جاء الحنفية واستأنفوا صلاة الفجر.
إننا نكر أشد الإنكار هذا النوع من التعصب الذي كان من نتيجته أن صار المسلمون أحزاباً، ننكره ونجحده ونكفره ولا نقر به، فإن قال قائل: فما وجه الجمع بين ما رآه الشافعية والحنفية، وحديث عائشة رضي الله عنها يوضح أن الصلاة في أول الوقت، وحديث أبي رافع الذي احتج به الأحناف يوضح أن الصلاة تكون بعد أن يسفر الليل؟ فيقال: جمع ابن خزيمة والطحاوي وغيرهما من العلماء بين الحديثين، فقالوا: يبدأ في الصلاة على وقتها فما يخرج منها إلا بعد أن يسفر النور، فمعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أسفروا بالفجر؛ فإنه أعظم للأجر) حضٌ على إطالة الصلاة من أول وقتها في الغلس حتى يسفر الفجر، فنبدأ الدخول فيها بغلس ونخرج في النهاية بعد أن يسفر النور، ويدل عليه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه صلى بالمسلمين الفجر حتى أشرقت الشمس وهم يصلون، فقالوا: (يا خليفة رسول الله! طلعت علينا الشمس! فقال لهم: طلعت، فلم تجدنا غافلين).
يريدون أن يتراشق المسلمون بسهام الملام بعضهم مع بعض لمجرد الاختلاف في مسألة فقهية.
وننكر أيضاً أن يتكلم الرجل عن جهل، ولا يقدر هذا الدين قدره، إنما يتكلم فيه العلماء الذين ينطلقون من الأصول، أما الذي لا يُنْكر في معنى العصبية فهو أن تتعصب لدينك وألا تقدم عليه شيئاً، فالعصبية هنا واجبة، بل عدم وجود العصبية خلل في إيمانك، فالعصبية هنا شيء حقيقي وهو وقود الإيمان؛ لأن الإنسان إذا عرف أنه متعصب لشيء ما، فيعلم أنه شديد الاعتزاز به شديد الحب له؛ لذلك يقال: فلان متعصب جداً، ما الذي جعله يتعصب؟ اعتزازه بما يراه، وحبه الشديد له، فدينك يجب أن تتعصب له، ويجب ألا ترضى بالدنية فيه، وهذا ما أرادوا أن ينفوه من قلب المسلم لا تعصب! وخرجت علينا بدعة التسامح الديني، والتسامح الديني إنما في حق المسلمين فقط، ويجب على المسلمين أن يتسامحوا دينياً، أما غيرهم فهم في منتهى التعصب ولا يلومهم أحد، وهي منقبة لهم، لماذا تذكرون تسامح الإسلام ولا تذكرون عصاه وقوته؟ وهل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتسامح إلى ما لا نهاية.(54/2)
مصطلح (التسامح الديني) والهدف من نشره بين المسلمين
إن التسامح إلى ما لا نهاية هو الضعف بعينه.
رجل يتلقف الضرب يمنة ويسرة ثم يقول: سامحه الله! إلى متى يضرب فيسامح؟ يجب أن يكون هناك حد يعرف به الضارب المعتدي أن هذا التسامح لم يكن عن خور أو ضعف.
إن الشاعر عمرو بن أبي عزة لما شبب بالمسلمين وبنساء المسلمين وهجا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شعره، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من لي بـ عمرو بن أبي عزة؛ فإنه قد آذى الله ورسوله؟) فأخذوه وأتوا به، فاعتذر للنبي صلى الله عليه وسلم وشكى له أنه مشفق وحاجة عياله إليه، وقال له: كن خير آخذ! فسامحه على ألا يعود، فاستنفر المشركون الشاعر مرة أخرى، فهجا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشبب بنساء المسلمين وذكر عوراتهن، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من لي بـ عمرو بن أبي عزة؛ فإنه قد آذى الله ورسوله؟) فجاءوا به، فاعتذر وقال: تبت وأنبت ورجعت، وهذه آخر مرة، فتركه.
فلما مني المشركون بمقتل رؤسائهم في غزوة بدر، وصار أبو سفيان يعبئ المشركين واليهود لقتال النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد؛ استعانوا بلسان الشاعر عمرو بن أبي عزة؛ لأنه كان سليط اللسان، وقالوا: اهجه ونحن نحميك، فهجاه هذه المرة هجاءً لاذعاً، فقال عليه الصلاة والسلام: (من لي بـ عمرو بن أبي عزة؛ فإنه قد آذى الله ورسوله؟) فجاءوا به، فجعل يشكو: آخر مرة، ويطلب السماح والعفو، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، والله لا أدعك تمشي في طرقات مكة فتقول: ضحكت على محمد مرتين، لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) فصارت مثلاً، وأمر به، فقتل.
التسامح له نهاية، ليس هناك تسامح إلى ما لا نهاية، وليس هناك جهل وهجوم وجسارة إلى ما لا نهاية، كل شيء له حد: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50].
لماذا تقول دائماً: إن الله غفور رحيم، وتركن إلى هذه المغفرة وهذه الرحمة ولا تذكر عذابه؟! إنك لو ذكرت عذابه ما انتهكت حرماته، ولكن غرك حلمه، وأنه لا يأخذ العاصي بعصيانه في الحال، فتقول دائماً: إن الله غفور رحيم، رحمته واسعة ولو ذكرت عذابه لوقفت عند حدوده.
إن التسامح له نهاية، لماذا التسامح الديني في حق المسلمين فقط؟ فإن أظهر أحد المسلمين تعصباً لدينه يدينونه ويمقتونه ويقولون: الإسلام دين التسامح! الإسلام دين الرحمة! أين عصا الإسلام التي أدب بها شرار البشر، أين ذهبت أيها المسلمون؟ إن التسامح الديني بدعة ابتدعها المشركون ليقتلوا الحمية في قلوبكم لدينكم، يتمعر وجهك في المرة الأولى، وفي المرة الثانية يتمعر أقل، ثم أقل فأقل، حتى يموت ذلك الوقود الذي في قلبك، وحتى تموت النفس اللوامة التي يتميز المسلم بها عن سائر الناس في الأرض.
ألا ترى أن هذا حالك، خذ مثلاً: جهاز التلفزيون وأنت ترى امرأة عارية ترقص، فإن كنت حديث عهد بالنظر؛ وضعت عينيك في الأرض، أو تشاغلت بأي شيء حتى ينتهي ذلك المشهد، ثم لا تلبث أن تعود، وفي المرة الثانية راقب حالك وسترى أنك أقل ازوراراً لهذا المنكر، نظرت إليها دقيقة ثم ازوررت بعينيك حتى انتهى المشهد، فإذا تكرر المشهد مرة ثالثة تموت النفس اللوامة، ولو ماتت النفس اللوامة من المسلم؛ ارتكب كل فجور على وجه الأرض، إثباتاً لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت) أي: إذا ماتت نفسك اللوامة التي تحجبك عن المعاصي والخبائث فاصنع ما شئت.
إن بدعة التسامح الديني التي ابتدعها المشركون ووردوها لنا على ألسنة عملائهم من العلمانيين الذين ينددون بأي شيء، ووصل التنديد بالذين يقولون: (إن صلاة الجماعة في المساجد واجبة، بمعنى أن الذي يصلي في بيته وهو قادر على أن يصلي في الجماعة بغير عذر له أنه آثم يقولون: إن هذا تجني، إن ديننا فيه سعة والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الرجل في الجماعة تعدل صلاة الفذ بسبع وعشرين).
قوله: (صلاة الفذ) أي: صلاة الفرد.
تعدل درجة من سبع وعشرين درجة، مما يدل على صحة الصلاة، نحن لا نناقش أن صلاته باطلة، إنما نناقش هل هو آثم أم لا، لقد كان ابن مسعود كما روى مسلم في صحيحه يقول: (من سره أن يلقى الله غداً مسلماً، فليحافظ على هذه الصلوات حيث ينادى بهن، ولقد رأيتنا ما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد رأيت الرجل يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف) فالرجل الغير قادر على أن يقف على قدميه في الصف، يحمله اثنان لكي يستوي في الصف.
فيقولون: يجب أن يكون هناك تسامح ديني، نقول: نعم تسامح ديني في المسائل الفرعية، لكن أن تعتدي على عقيدتي وتريد أن أتسامح هيهات هيهات!! ذلك خدش وشرخ في إيمان المسلم، وقد يظهر في إيمانه كله.
ولعلكم تذكرون، وأقول: لعلكم؛ لأن المسلمين أصيبوا بداء النسيان، ألا تذكرون يوم ضربنا في (67) وهزمنا شر هزيمة، قال أحد جنرالات إسرائيل: (الآن أخذنا بثأر إخواننا في خيبر)، أين خيبر وأين أنت أيها الجنرال؟ خيبر على أيام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الآن في القرن العشرين لا ينسى ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بيهود خيبر، لا ينسون، ليت أن لنا ذاكرة كذاكرة اليهود فلا ننسى.
داؤنا النسيان، سرعان ما ننسى الإساءة حتى وإن كانت في عقر دارنا، أقول: لعلكم تذكرون مصرع الرئيس السابق لما أهلكه الله عز وجل وجاء الكفرة يشيعونه -وقبض على المسلمين وهذا أمر طبيعي- وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب قوماً حشر معهم) فجاء الرؤساء الكفرة الذين لا يغنون عنه من الله شيئاً، وصلاة الجنازة المقصود منها دعاء المسلمين للميت، فهؤلاء شفعاء للميت، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من صلى عليه أمة من الناس غفر له) وفي الحديث الآخر: (من صلى عليه أمة من الناس فيهم أربعون صالحاً غفر له) هذه نفعية صلاة الجنازة: الدعاء للميت، آخر ما يأخذه منكم في دنياه أن تدعوا له بالرحمة؛ لأنكم ستنسونه بعد ذلك.
لذلك من الظلم البين والعدوان على الميت أن يقف المشيعون في خارج المسجد ولا يصلى عليه إلا أربعة أو خمسة، لماذا يا قوم؟ إن الميت لا يستفيد من خطواتكم وراءه شيئاً، خطواتكم لا تشكل له شيئاً، إنما الذي يشكل له دعاؤكم له، فما بالكم ظلمتموه، آخر شيء يأخذه منكم ضننتم به عليه، المقصود من صلاة الجنازة دفعة من الرحمات يأخذها الميت قبل أن يلقى ربه.
فلما جاء الناس يشيعون الرئيس السابق وكان منهم صديقه رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، فالذي ذهب إلى القاهرة ونظر إلى المسافة بين المنصة التي دفن أمامها وبين الفندق الذي نزل فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي يجد أن المسافة نحو أربعة كيلو مترات أو أكثر، فهذا في أول شارع الطيران من هناك، والمنصة في شارع النصر، أربعة كيلو مترات أو خمسة.
وصادف أن يوم الدفن كان يوم سبت، والتوراة تحرم على اليهود في يوم السبت أن يركبوا الدواب أياً كانت؛ فماذا فعل رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق؟ أصر على أن يمشي من الفندق إلى المنصة، وهذا يكلف تكاليف أمنية رهيبة، فوزير العدو الإسرائيلي يمشي على قدميه في شوارع القاهرة، إذاً لابد له من حراسة في الأرض وفي السماء، أربعة كيلو مترات يمشيها ويصر عليها، لأن التوراة تحرم عليه أن يركب في يوم السبت شيئاً.
فأين المغفلون، هل وصفوا هذا الرجل بالتعصب؟ ما سمعنا أن هذا الرجل متعصب متزمت أو أنه زجر، أو أنه عيب عليه، بل قد كلف أجهزة الأمن تكلفة باهضة؛ لأنه مشى على قدميه أربعة كيلو مترات، وانظروا إلى حمايته، وما تكبدته الشرطة المصرية من حشود وجنود، وكانت البلد هرج مرج، لا يأمن أحد عاقبة شيء، فانطلق يثبت التوراة، في حين أن المسلمين يرمون القرآن وبعضهم يدوس عليه.
لكن وجدنا من المسلمين من إن لم يفعل هذا الفعل فعله معه من جهة أنه لا يعيره اهتماماً ولا يقيم لأحكامه وزناً، فيذهب الرجل من هؤلاء ويلبس الكوفية السوداء؛ حزناً على من مسخهم الله قردة وخنازير في يوم السبت؛ ولأن هذا من المراسم، ولا يرى أن هذا عاراً ولا شناراً ولا رجعية ولا تخلفاً، ولا يرى أن هذا تدنساً، ويرى أنه معتز بدينه، ويرفع أنفه شامخاً في وسط أشباه المسلمين الذين يتبرءون من دينهم.
العصبية هنا جزء لا يتجزء من الإيمان، والذي يتسامح في هذه العصبية نقول له: جدد إيمانك، وانظر إلى نفسك، إنما نفرق بين العصبية للدين وبين العصبية في فروع الدين، في فروع الدين: لا نتعصب ونطلب الحق على حسب الأصول المتفق عليها عند علماء المسلمين، أما العصبية للدين التي هي الحب له والانتقام له وأن يتمعر وجهك -على الأقل- له، فهذا جزء من الإيمان لا يتجزأ.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(54/3)
ظاهرة تحلل المسلمين من دينهم
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
ذكر أحد الوزراء في مذكراته أنه بينما كان على مأدبة عشاء أو غداء -وفيها الخمر بطبيعة الحال؛ لأنها كانت في بلاد أوروبا- فإذا به يمسك السكينة بيده الشمال ويمسك الشوكة بيده اليمين ويأكل، قال: فرأيت غضباً على وجوه بعض من كان على المائدة، يعني: الجهة التي استضافت هذا الوزير، قال: وكادت أن تحدث أزمة دبلوماسية بسبب أنه أكل بيده اليمنى، لولا أنه تدخل شخصياً وقال: إنها عادة! ونفى أن يكون فعلها لأنه نهي عن الأكل بالشمال.
هذا موقف عابر لعل المرء يقرؤه وهو غير عابئ به؛ لكنك إذا تأملت هذه الكلمات، واستحضرت عداوة عدوك ولم تنسها -على عادة المسلمين بعد ما ضعفت ذاكرتهم- وجدت أن هذا الموقف يمثل معانٍ كثيرة، ما الذي يغضب هذا الرجل أن يأكل المسلم بيمينه أو أن يأكل بشماله؟ ما الذي يضره؟ ولماذا كادت أن تحدث أزمة دبلوماسية حتى اعتذر الوزير شخصياً باسمه، ولعله اعتذر باسم الدولة عن هذا الفعل.
ما الذي يعني هؤلاء أن يأكل كل إنسان كيفما يشاء، وهم في حريتهم الشخصية يقولون: إن أراد أن يمشي عارياً فله أن يمشي عارياً؟ لماذا يا قوم لا تقولون: وإن أراد أن يأكل بيمينه أكل؟! هؤلاء الناس لا يخففون المنكرات، فرضوا علينا الرسميات التي تناقض ديننا أظهر مناقضة، فخرجت النساء كاسيات عاريات، ولا مانع أن يقبّلها الرئيس الآخر، وقد رأينا هذا على شاشات التلفزيون، فهذا لا مانع منه لأنه تحضر، ولو أننا تمسكنا بديننا نكون قد رضينا بالرجعية، ونحن نبرأ من الرجعية ومن أهلها، وهؤلاء تقدموا بغير دين، والذي أخرنا هو الدين، هذا هو فحوى ما يدعو إليه العلمانيون في الجرائد الرسمية: (الدين لله والوطن للجميع)، عبارة كافرة ابتدعها سعد زغلول المارق.
اقرءوا مذكرات سعد زغلول هذا البطل القومي الوطني، فقد كان يشرب المخدرات والخمر، ورغم ذلك يعتذر عنه عباس العقاد قائلاً: إن الأطباء كانوا ينصحونه أو يأمرونه بشرب الخمر لقرحة في المعدة، فقبل أن يذهب إلى النمسا كان شخصاً، وبعدما رجع قال: (الدين لله والوطن للجميع) أي: الدين هو عبارة عن شعائر وعلاقة بينك وبين ربك، لا مجال له في الواقع العملي، أما الوطن فهو للجميع وفيه غير المسلم.
هذه فحوى العلمانية، والقائم عليها حزب الوفد الذي أسسه سعد زغلول، ولما اندرج الإخوان المسلمون في حزب الوفد الجديد وصاروا يدعون إليه، وكسب الوفد ونجح، بدأ التخلص من الإخوان شيئاً فشيئاً، وعللوا ذلك بقولهم: إن الحزب يوم نشأ نشأ علمانياً، يعني أن الإخوان المسلمين يريدون أن يديروا العجلة إلى الدين، وهذا الحزب يوم نشأ نشأ علمانياً، وأخطأ الإخوان المسلمون في تأييدهم لهذا الحزب.
هذه الدعوة التي تفصم المسلم عن دينه، هي ما يريدونه في الخارج، وهم يربون أجنادهم عليه، فالأكل باليمين أو بالشمال لا يعني الغرب في شيء، لكن لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (نهى عن أن يأكل المسلم بشماله أو أن يشرب بشماله) تدبر أخي المسلم بأي يد تأكل وترفع الطعام إلى فمك، لا ترفعن طعاماً ولا شراباً إلى فمك بيدك الشمال أبداً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم علل النهي بقوله: (فإن الشيطان يأكل بشماله) من منكم يريد أن يتشبه بالشيطان؟ فالأكل باليمين يحدث أزمة، لكن خرتشوف في مباحثات هيئة الأمم المتحدة في الستينيات خلع نعله ووضعه على مائدة المفاوضات أمام المندوب الأمريكي وغيره من أعضاء الدول التي لها حق الفيتو، فما جرؤ أحد أن يتكلم، ولم ينبس أحد ببنت شفة، ثم رجعوا أحباباً.
إن دول المسلمين يجب أن تعود إلى دينها، إن العزة كل العزة في هذا الدين وفي العصبية له، إن العصبية لهذا الدين شرف بل هو محض الإيمان، وانظر إلى هذا الموقف في غزوة أحد، لما قتل من المسلمين نفر كثير بسبب مخالفة الرماة الذين تركوا مكانهم على الجبل، وكشفوا ظهر المسلمين، وخالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ورجع خالد فقتل من قتل، فقُتل سبعون من خيرة المسلمين منهم حمزة أسد الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم، وكسرت رباعية النبي صلى الله عليه وسلم، ودخلت حلقات المغفر الحديد في وجنته، وجالد عنه طلحة كأشد ما يكون الرجال، وجالدت نسيبة بنت كعب هذه المرأة التي تساوي أمة من أشباه الرجال، وناضلت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وترّس عليه أبو دجانة حتى كانت السهام تقع في ظهره ولا يتحرك حتى لا يصل سهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وبعدما انتهت الغزوة انحاز النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر ونفر وقعدوا في سفح الجبل، وعلا أبو سفيان على قمة الجبل ثم قال لهم: أفيكم محمد؟ وكان الشيطان قد صرخ بأعلى صوته: محمد مات؛ حتى حدث هرج ومرج في صفوف المسلمين -يطول الأمر بذكره- فوقع في نفوس المشركين أن النبي صلى الله عليه وسلم مات، فأراد أبو سفيان أن يتشفى بموت النبي صلى الله عليه وسلم فصعد على قمة الجبل وقال: أفيكم محمد؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تجيبونه؟ قال: أفيكم أبو بكر؟ قال: لا تجيبوه؟ قال: أفيكم عمر؟ قال: لا تجيبوه) فظن أبو سفيان ومنته نفسه أن هؤلاء قتلوا؛ فثارت حمية الجاهلية في قلبه ثم قال بأعلى صوته: اعل هبل!! وهو صنمهم، كأنه يقول: مات الذين كان الإسلام يقوم بهم، حينئذٍ: (اعل هبل وارجع إلى مكانتك)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وثارت الحمية في قلبه لدينه: (ألا تجيبونه؟) وهو الذي قال في المرة الأولى: لا تجيبوه! لكن لما جاء الأمر على استنقاص الدين قال: (ألا تجيبوه؟)، يعني: لا يجوز لكم أن تتأخروا في الرد عليه، (قالوا: فما نقول يا رسول الله؟! قال: قولوا: الله أعلى وأجل، فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا غرى لكم، قال: ألا تجيبونه؟! قالوا: بم نجيبه؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم، فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، فقال عمر: لا يا عدو الله، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار).
ففي المرة الأولى لما سأل عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر وعمر قال: (لا تجيبوه) لماذا؟ لأنه إنما ينطلق من الغل والحسد والتشفي، ومن الفطنة أنك إذا رأيت حسوداً أن تدعه يأكل بعضه؛ لإنك إن رددت على الحسود وجد له متنفساً ورد عليك، وروى غيظ قلبه في الرد عليك، لكن أن تدعه كالكلب ينبح لا تعيره اهتماماً، فإن هذا يزيد من وطأة الألم على نفسه، على حد قول الشاعر: اصبر على كيد الحسود فإن صبرك قاتله فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله فتركه النبي صلى الله عليه وسلم يموت بغيظه ولم يشف غيظه بالرد عليه، فكان ترك الجواب أفضل وأحسن، ولكن لما أراد أن يستعلي ويقول: اعل هبل، ويطعن في عقيدة التوحيد؛ أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه بعزة من عبده المسلمون وبسيادته على هذا الكون فقال: (ألا تجيبونه؟ فقالوا: وبم نجيبه؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل).
حمية الحب لهذا الدين لا يجوز لك أن تتخلف عن نصرته، بل عليك أن تنمي وتغذي هذه العصبية، وهذا الإيمان الحار في قلبك.
إننا نحتاج إلى العصبية في هذه الأيام أكثر من احتياجنا إليها في أي أيام مضت؛ لكثرة الدعوات الانحلالية والاباجية، ولكثرة جنود العلمانية، الذين ينشرون كفرهم في كل صحيفة رسمية وغير رسمية بدعوى حرية الرأي.
لماذا لا تعدلون؟ لماذا تكيلون بكيلين وتلعبون على الحبلين؟ فكما قلت لهذا: لك حرية الرأي ولك الجرائد الرسمية، أتيحوا لنا الجرائد الرسمية إذاً حتى نرد، ونبين للناس وهاء دعوى العلمانية.
إن شيخ الأزهر شخصياً يشكو أنه يرسل رده إلى الجرائد الرسمية ولا تنشره، وهذا أكبر علاّمة في البلد، فإن كان هذا هو التصرف مع أكبر علاّمة فرحمة الله علينا، فإذا كان شيخ الأزهر يشكو أنه يرسل الرد، ولكن لا ينشرونه له، ويأتي هؤلاء فيكتبون المذكرات وينشرون الكفر والإلحاد بدعوى حرية الرأي.
فإذا مشت المرأة (بالمايوه) قيل: اتركها عارية، لا يحل لك أن تكبت حرية المرأة ولا حرية الرجل، كل إنسان يفعل ما يريد، فإن لبست المرأة النقاب وأرادت أن تدخل الجامعة؛ قالوا: لا.
أين يا قوم الحرية المزعومة التي تزعمونها؟ أنا حر! أفعل ما أريد، لا.
أنت لست حراً، هو حرٌ وأنت لست حراً، هذا هو لسان الحال ودعك من المقال، دعك من الزيف المنشور، ولنكن في الواقع؛ لأنه سيد الأدلة، أنت لست حراً بل أنت مضطهد وهو حر، إن فعلت أي شيء من باب الحب لدينك، فأنت متعصب، ولماذا لا تنزل إلى الدركة الدنيا، وإذا أخذت بعوالي الأمور وعزائمها؛ قالوا: هذا تشدد وتنطع نهى الله عنه! فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال: (هلك المتنطعون)، مثل الذين قالوا: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4].
كما قال شاعرهم: ما قال ربك: ويل للأولى سكروا وإنما قال: ويل للمصلينا ما قال أن هناك ويل للذي سكر وسرق، إنما قال: ويلٌ للمصلين، يسمونها بغير اسمها، ويدلسون على الناس.
أيها المسلم! أنت الآن في مفترق الطرق، وحولك دعوات كثيرة تزين لك الانحلال، وتبين لك أن التمسك بدينك تعصب، ارفض هذه الدعوات، وامض في طريقك إلى ربك يلهمك رشدك.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدمنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في دي(54/4)
أدب الخلاف في المسائل الفرعية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أريد أن أبيّن المسألة الأولى بخصوص العصبية في المسائل الفرعية؛ لأن كثيراً من المسلمين يحتاجون إلى بث لهذا الفهم، ونراهم يشوهون على بعضهم أعظم تشويه، فإذا ما اختلف هذا مع ذاك في مسألة فرعية، تجد الكل يتعصب لرأيه كما لو كان هو على الحق ومخالفه على الباطل.
لذلك نريد أن نذكر أدب الخلاف على سبيل الاختصار، وإلا فالموضوع طويل ومهم جداً، ولعل الله عز وجل ييسر ذلك بعد.
وسوف نعرض لأدب الخلاف في الإسلام وكيف يعذر بعضنا بعضاً ومتى، وليس معنى هذا أن تعذر أخاك دائماً على طول الخط، كأن يأتي ببدعة أو يخالف الدين مخالفة صريحة وتقيم عليه الحجة ولا يدفع هذه الحجة بعلم من عنده، ومع ذلك يصر على ما هو عليه، فهذا مبتدع متلاعب، يجب أن يردع ويهجر بوسائل الهجر المعروفة المشروعة.
أقدم بين يدي هذا الحديث الذي أصله في صحيحي البخاري ومسلم، والشاهد الذي أريده خرجه أبو داود، فقد قيل لـ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وهو في الحج: (صليت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين) في الحج يصلون جمعاً وقصراً، فالصلاة الرباعية تكون ثنائية، ويقدمون العصر إلى وقت الظهر جمع تقديم، وكلامنا الآن ليس عن الجمع إنما هو على القصر، فقالوا لـ ابن مسعود: (صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين، وصليت مع أبي بكر ركعتين، وصليت مع عمر ركعتين، وصليت مع عثمان صدراً من خلافته ركعتين، فما حملك على أن تصلي أربعاً؟) والقصة بدأت بأن عثمان بن عفان رضي الله عنه في خلافته كان إذا حج بالمسلمين قصر الصلاة مثلما هو معروف، لكن في أخريات خلافته لم يقصر بل أتم، فصلى الصلاة الرباعية رباعية، والمسلمون يتابعونه على ذلك، فقيل لـ عثمان: لم فعلت؟ قال: (أنا أتيت بأهلي ومالي) فصار شأنه كشأن المقيم الذي معه أهله، فهو ليس بمسافر، فتأول عثمان أنه مقيم، فصلى أربعاً وصلى المسلمون معه أربعاً، فلما قيل لـ عبد الله بن مسعود أحد الذين صلوا ركعتين بداية ثم تابعوا عثمان على الصلاة أربعاً: لم صليت أربعاً مع عثمان ولم تصلِّ ركعتين؟ فأجاب إجابة الإمام الفقيه العالم قال: (الخلاف شر) وهذه الجملة هي التي لم يخرجها الشيخان وإنما خرجها أبو داود.
فما الذي تتصورونه لو جاء عبد الله بن مسعود وأخذ عصابة من المسلمين ونوى العصيان وقال: لا.
هذه عبادة ونحن غير مقتنعين بهذا كما اقتنعت به وسنصلي ركعتين، ثم افترق المسلمون أحزاباً في منسك الحج الأكبر، كيف يتأتى لهم نصر أو وحدة؟ فنظر عبد الله بن مسعود نظرة الثاقب، فقال: إنه لو أتم خلف عثمان -وهو متأول- أن هذا لن يصيب الأمة بضرر مثلما سيحصل لو أنه أخذ لنفسه وضعاً خاصاً وصلى ركعتين ومن ثم يتحزب ويشق عصا المسلمين.
يجب أن ننظر إلى خلافاتنا في المسائل الفرعية هذا النظر، ولا يجوز التكذيب أيها الناس! ما معنى أن يتكلم رجل فيقول: الطائفة الفلانية كذا، والطائفة العلانية كذا لماذا تذكرون الأسماء أيها الناس! مع أنها ليست فيها مصلحة؟ لماذا لا تسلكون مسلك النبي صلى الله عليه وسلم وهو التعريض: (ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا) بدون أن تصرح.
نعم تلجأ إلى التصريح إن كان فيه مصلحة راجحة، وإلا فدونك التعريض فإنه أدعى ألا يتفرق المسلمون أكثر من الفرقة الموجودة الآن، فإذا نظرنا إلى جيل الصحابة -هذا الجيل الكريم- كيف كانوا يختلفون في أشد مراحل الاختلاف، وانظر إلى المسلمين الآن إذا اختلف رجل مع آخر، لمزه بأنه من أهل البدع، ولا يصلي وراءه ولا يسلم عليه، وإن قابله في طريق أخذ طريقاً آخر، وقد رأينا مثل هذه النماذج.
مثلاً: أن يقنت دائماً في صلاة الفجر بالدعاء الذي يقال في صلاة الوتر: اللهم اهدنا فيمن هديت إلى آخره، ذلك بدعة، وبعض إخواننا من الشافعية يقولون بوجوب هذا الدعاء حتى إن بعضهم قال: لو نسيه فإنه يسجد للسهو؛ وعمدتهم في ذلك حديث ضعفه أهل المعرفة بالحديث وإليهم المرجع في هذا الأمر، وهو حديث أنس رضي الله عنه قال: (ما زال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقنت في صلاة الفجر حتى قبض) لو صح هذا الحديث لكنا أول الداعين إليه، وليس هذا الحديث بصحيح بل هو منكر كما قال الأئمة وإن صححه بعض الشافعية؛ خلافاً للمتعارف عليه من علم أصول الحديث، فهذا الحديث ضعيف، وهو عمدة الشافعية الوحيد في أن دعاء الفجر دائماً يقرأ.
لا.
بل هو بدعة، وقد روى الترمذي في سننه بسند حسن صحيح أن أبا مالك الأشجعي قال لأبيه وكان من الصحابة: (يا أبتي! صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وخلف عمر وخلف عثمان وخلف علي، فهل كانوا يقنتون في صلاة الفجر؟ قال أبوه له: أي بني محدثة) -يعني بدعة- وهذه صلاة ولا أظن هذا الصحابي يغفل؛ لأن هذا الأمر لو حدث لكان اشتهر بالأسانيد الصحيحة، ولم يتفرد به أبو جعفر الرازي هذا الراوي السيء الحفظ.
فهذا الدعاء وإن كنا نصر على أنه بدعة، لكن لا نسوغ أن يكون أُسّاً للخلاف بين المسلمين، فيذهب الرجل فيقول: هو بدعة في الدين، ولابد من مناوأة البدعة، إذاً: ماذا ستفعل بأخيك؟ لن أسلم عليه، وأهجره، وأزجره، ولا أساعده، ولا أزوره إذا مرض، ولا أمشي في جنازته إذا مات!! إن هناك بعض من غلا في قضية الخلاف بين المسلمين، وهذا الغلو الفاحش الذي لا يقره أحد شم ريح الإسلام وشم ريح الأدلة الصحيحة.
فلو أن رجلاً لا يرى القنوت في الفجر دخل مسجداً، فإن كنت ترى أن القنوت باستمرار بدعة في صلاة الفجر، فإن جعلوك إماماً فلا تقنت، وأما إن كنت مأموماً فاقنت كما قنت الإمام.
انظر إلى هذه المسألة وانظر إلى ما هو أعظم ألف مرة منها وكيف عالجها الصحابة الأكابر، ففي خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه جعل أبو بكر قيادة الجيوش ومحاربة المرتدين لـ خالد بن الوليد، وكان عمر وزير أبي بكر الصديق ونعم الوزير ونعمت البطانة، فذهب خالد بن الوليد إلى مالك بن نويرة التميمي، وكان مالك بن نويرة رجلاً تابع النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام ولكنه بعد أن مات النبي صلى الله عليه وسلم وظهر أمر مسيلمة الكذاب وارتدت أناس من العرب؛ انحاز مالك بن نويرة إلى سجاح المرأة المتنبئة الكاذبة التي كانت تزعم أن الوحي يأتيها، فانحاز إليها وتابع الذين يمنعون الزكاة.
فكان أبو بكر يقول لـ خالد: (إذا دخلت على مكان فسمعت فيه أذاناً، فكف يديك -مما يدل على أن الأذان علامة المسلمين- فإن لم تسمع أذاناً؛ فادعهم إلى الإسلام قبل أن تقاتلهم، فإن أبوا عليك فقاتلهم) منتهى الإنصاف! لا تهجم عليهم مباشرة، بل ادعهم، لعل فيهم مغرّرون، إذا سردت لهم من الأدلة ومن كلام النبي صلى الله عليه وسلم ومن كلام الوحي الشريف رجعوا أدراجهم إلى دينهم.
فذهب خالد بن الوليد وقاتل، فمن جملة ما حدث أنه دعا مالك بن نويرة وقال له: (أما علمت -وكان مالك مسلماً- أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض الزكاة كما فرض الصلاة) يعاتبه على أنه كيف انحاز إلى الذين منعوا الزكاة، فأجاب مالك خالداً: (كذا يقول صاحبكم، فقال له: ويلك أوليس بصاحبك؟ -يعني: هل هذا النبي صلى الله عليه وسلم صاحبي أنا وليس بصاحبك- أولا تعلم أنه قال كذا وكذا فقال مالك: كذا يقول صاحبكم، فثار الدم في دماغ خالد وقال: هذه بعد تلك، والله لأقتلنك) ثم أمر به فقتل.
إن الرجل يعبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: كذا قال صاحبكم!! إذاً: هذا ليس في قلبه شيء من الحب ولا التوقير ولا الاحترام للنبي عليه الصلاة والسلام، يعني: يقتل، فأمر به فقتل، لماذا؟ لأنه صار كافراً، فامرأته تصير من السبي، فاستبرأها خالد بحيضة؛ لأن الأمة ليست كالحرة، تستبرأ بحيضة حتى يأمن خلو رحمها من الحمل، ثم تزوجها خالد.
فصيّر الناس هذه القصة إلى أبي بكر الصديق على غير هذه الحقيقة، فقالوا: إن مالكاً رجل مسلم، وخالد تسرع فقتله ونزى على امرأته، وطبعاً لو كان الأمر كذلك؛ لكان الأمر مستبشعاً، إذ لو كان مالك بن نويرة مسلماً لما حل لك أن تأخذ امرأته، إنما يحل لك أن تأخذ امرأة في السبي، يعني: كانت تحت كافر، لا يحل لك أن تسبي المرأة المسلمة، لكن خالداً رأى أنه كفر، لأنه كرر المسألة مرتين، فقتله وسبى امرأته، واستبرأها بحيضة واحدة وتزوجها.
فلما وصل الأمر إلى أبي بكر الصديق وعمر قاعد عنده، انتفض عمر وقال: (عدو الله، قتل امرءاً مسلماً ونزى على امرأته؟!! القصاص، وأبو بكر يقول: لعل له عذراً! لعل له عذراً) حتى يسمع من خالد، فلما جاء وقص خالد القصة؛ عذره أبو بكر ولم يعذره عمر.
فهل تظن أن عمر قام وقال: لا.
أنا غير موافق على هذه المسألة، وانشق على أبي بكر مث(54/5)
الوصايا الخمس
جرت العادة عند عامة الناس أن الوصية هي من الأمور اللازم تنفيذها، والمتعين الإتيان ببنودها، فحين يأتي التوجيه بصيغة وصية، فإنما يدل ذلك على خطورة الموضوع الذي تتناوله الوصية، وأهمية استيعاب المتلقي لبنودها.
ومن أعظم الوصايا التي شهدها التاريخ وصايا الأنبياء لأتباعهم فيما يتعلق بتقرير الدين وعبادة رب العالمين.(55/1)
الأنبياء هم أول العاملين بوصاياهم
إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا *
الجواب
=6003603> يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أخرج الإمام أحمد والترمذي وصححه هو وابن حبان والحاكم من حديث الحارث الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات؛ ليعمل بهن ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وإن يحيى أبطأ فقال له عيسى عليه السلام: إن الله أمرك بخمس كلمات؛ لتعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم، فقال يحيى عليه السلام: إني أخشى إن أبطأت أن أُعَذَّبْ أو يخسف بي، فامتلأ المسجد -بيت المقدس- بالناس لما دعا يحيى عليه السلام إلى هذه الموعظة حتى قعد الناس في الشرفات فوعظهم قائلاً: إن الله أمرني بخمس كلمات، لأعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن: آمركم أن لا تشركوا به شيئاً، وإن مثل ذلك -أي: مثل من أشرك- كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله وقال له: هذه داري وهذا عملي فاعمل وأد إليَّ، فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده، فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك؟! وإن الله خلقكم ورزقكم فلا تشركوا به شيئاً، وأمركم بالصلاة، فإذا صليتم فلا تلتفتوا، وأمركم بالصيام، وإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة مسك، وهو في عصابة، فكلهم يعجبه أن يجد ريحها، وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وأمركم بالصدقة، وإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو وأوثقوا يده إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه، فقال: هل لي أن أفتدي منكم بمالي؟ فجعل يعطيهم القليل والكثير حتى فك نفسه، وآمركم بذكر الله، فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو في أثره سراعاً فدخل حصناً حصيناً فأحرز نفسه، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله).(55/2)
الأمثال في الكتاب والسنة
هذه الوصايا الخمس اشتملت على المثل، والأمثال إنما تضرب لتقرير الفتوى، فالأمثال تدخل في باب المبين، فمن ضرب له المثل فلم يفهمه فينبغي أن يبكي على نفسه، فالكلام إما أن يكون مجملاً وإما مبيناً، وإنما يقع الإشكال في المجمل، ولا يقع الإشكال في المبين، فمن لم يفهم المثل فحقه أن يبكي على نفسه، قال الله تبارك وتعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43].
روى ابن أبي حاتم في تفسيره عن عمرو بن مرة رحمه الله أنه كان يقول: (إذا قرأت المثل في كتاب الله عز وجل ولم أفهمه بكيت على نفسي، وذلك أن الله يقول: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] وقال تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21]).
وإنما يضرب العالم المثل للذي لا يعلم؛ لذلك أنزل ربنا تبارك وتعالى على الذين يضربون له الأمثال، قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ * فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:73 - 74].
فالعالم هو الذي يضرب المثل؛ لأنه يدري ما هو المجمل، ويدري كيف يبين هذا المجمل، إن الذين يضربون الأمثال لرب العالمين لم يؤمنوا حق الإيمان، فهناك أوامر أنت لا تفهمها فلا تعترض وسلِّم للذي يعلم.
جاء رجل من الذين يضربون الأمثال للناس -وهم كُثر- إلى إياس بن معاوية فقال له: (لم حرم الله الخمر، ومفرداتها مباحة؟).
فإن الخمر عبارة عن ماء وعنب، أو ماء وتمر، أو ماء وشعير، فإن الماء حلال! والعنب حلال! والتمر حلال! فإذا كانت مفردات الشيء مباحة لم يحرم في المجموع؟! فقال له: (أرأيت لو ضربتك بكف من ماء أكنت قاتلك؟ قال: لا، قال: ولو ضربتك بكف من تبن أكنت قاتلك؟ قال: لا، قال: ولو ضربتك بكف من تراب أكنت قاتلك؟ قال: لا، قال: فإذا جمعت التبن على الماء على التراب فصار طيناً فجففته وضربتك أكنت قاتلك؟ قال: نعم، قال: فكذلك الخمر) مفرداتها لا تقتل، لكن إذا جمعتها وضربت بها قتلت، فلا يضرب المثل إلا الله عز وجل.(55/3)
مثل الضال والمهتدي في سورة النحل
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} [النحل:76] وهذا المثل أوضح من الأول {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ} [النحل:76] هذا الطرف الأول للمثل، والأبكم هو الإنسان الذي لا يتكلم ولا يُحب، وإنما يحب المرء لمنطقه، والإنسان إذا تكلم أعرب عن حبه وشكره وامتنانه؛ فله مكانة في القلوب، لكن الأبكم الذي لا يصارحك، ولا ينادمك، ولا يسامرك كعمود من خشب، إذا جلس معك لا تأنس به ولا تشعر بوجوده.
أبكم لا يقدر على شيء! وهو عبد، فالمناسب أن يخدم العبد سيده، وليس سيده هو الذي يخدمه، فهذه مصيبة أخرى! وهو كّلٌّ على مولاه، يأكل ويشرب فقط فليته يشكر أو يعرب عن هذا الجميل لكنه أبكم، فأنت لا تشعر بأي مزية له بل إنك تخدمه وأنت متضرر، فالأصل أنه هو الذي جاء ليخدمك فإذا بك تخدمه، فإن بدا لك أن ترسله إلى جهة معينة فلابد أن يأتيك بمصيبة ولعل هذا معنى: (أينما يوجهه لا يأت بخير).
هل يستوي هذا مع الطرف الثاني من المثل وهو الذي يأمر بالعدل وهو على صراط المستقيم؟ يا للوضوح! هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل؟! ففي الطرف الأول من المثل أربع صفات: أبكم، لا يقدر على شيء، وهو كلٌّ على مولاه، أينما يوجه لا يأت بخير.
أما الطرف الثاني: ففيه من الصفات ما يقابل هذه الأربع وزيادة (هل يستوي هو ومن يأمر) فلا يكون آمراً إلا متكلماً، ولا يكون آمراً إلا إذا كان في جهة عليا وقادر على إمضاء أمره، فهو متكلم في مقابل أبكم لا يقدر على شيء، والآمر يقدر ولو لم يكن يقدر لما كان للأمر معنى، يأمر بالعدل، فلا يستطيع أن يأمر بالعدل إلا إذا كان عالماً بالفرق بين العدل والجور، {وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل:76] أي: ليس كهذا الذي أينما توجهه لا يأت بخير؛ لأنه على صراط مستقيم، فالمسألة في غاية الوضوح.(55/4)
مثال على عجز الكافرين
ثم ذكر الله مثلاً آخر: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73] وهذا المثل كله استهزاء بالذين يدعون من دون الله، فالذباب هو: هذا الذباب الذي نعرفه وإنما سمي ذباباً لأنه كلما ذُبَّ آب، فقيل ذباب؛ أي: كلما تذبه يرجع إليك، هذا الذباب الذي أنت تعرفه وتستنكف منه، لو سقط في طعامك لأرقت الطعام، فإذا وقف هذا الذباب على شفير إناء وأخذ رشفة من هذا الإناء فلن تستطيع أن تستنقذ منه شيئاً، مع ضعفه، فالذين تدعون من دون الله لا يملكون شيئاً من القوة كهذا الذباب {ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا} [الحج:73] وهذه الآية هي التي كفر بها بعض الكتبة حين قالوا: إن ميلاد الخلية المستنسخة أعظم من ميلاد المسيح، فيقولون: إن الإنسان استطاع أن يخلق الخلية، وهذا كذب، إنما يأخذون الخلية التي خلقها الله ويصورون عليها نسخاً، لكن أصل الخلق أن توجد الشيء من العدم من دون مثال سابق، وهذا مستحيل! بدلالة هذه الآية: {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73].
وهذا المثل الأخير أشد وأنكى، وكل هذه الأمثلة في باب التوحيد؛ ليبين رب العالمين قبح الشرك، وأن الإنسان العاقل إنما يلجأ إلى من يدفع الضر عنه {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} [الزمر:29] هذا الطرف الأول من المثل {وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} [الزمر:29] وهذا الطرف الثاني {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:29] فإن أكفر إنسان على وجه الأرض هو هذا الإنسان، رجل عبد خادم له عشرة من السادة وهم متشاكسون، وكل سيد يريد أن يمضي كلامه على الآخر؛ لتكون له الغلبة، فيقول الأول للعبد: اذهب يميناً، وتجد الثاني المعاند المشاكس يقول له: يا غلام اذهب يساراً، ويقول الثالث: اذهب جنوباً والرابع يقول: اذهب شمالاً وهو لا يستطيع أن ينفذ قول واحد منهم، فإذا لم ينفذ قول الآمر ضربه وجره واستخدمه إلى ما يريد، ولكنه لا يستطيع؛ لأن الآخر يجره إلى الجهة المعاكسة، ثم لأنه لا يستطيع أن ينفذ أمر واحد منهم فليس له جميل عند أحد، فإذا طلب شيئاً من أحدهم يقول له: وهل صنعت لي شيئاً؟! أمرتك ولم تفعل! فيول له: إن سيدي فلان أمرني بضد أمرك، وليس لي شأن! هل يستوي هذا العبد المعذب مع رجل آخر له سيد واحد إذا أمره بأمر ابتدر أمره، فإن فعل المأمور به حفظ له الجميل؟! فهل يستوي هذا مع ذاك؟! {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} [الزمر:29]؟! الحمد لله لأنه أعمى هؤلاء الضلال عن موضع الحجة مع وضوح المثل.
إن الأمثال تضرب في القرآن لتبيين الفكرة، وتجد المثل في غاية الوضوح، فكذلك ضرب يحيى عليه السلام في باب التوحيد مثلاً، لا أظن أحداً رزقه الله عز وجل شيئاً من العقل لا يميزه، (أمركم أن لا تشركوا به شيئاً، وإن مثل ذلك -مثل من يشرك بالله عز وجل- كمثل رجل) واجعل نفسك في مقام هذا الرجل: جاءك عامل فقلت له: يا غلام هذا محلي وهذه الأسعار بع وأتني بمحصول المبيعات آخر النهار، فكان الغلام يخرج بحصيلة اليوم ويذهب إلى غيرك ويعطيه الحصيلة، أفليس من الممكن أن يبقى معك يوماً واحداً؟!! فإذا كنت تأنف أن يكون عبدك يأخذ البيع ويعطيه لغيرك، فصرف العبادة لغير الله وهو الذي يرزقك أشد وأكبر، ولذلك تقدم في سورة النحل: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا} [النحل:73]؛ لأن قضية الرزق هي التي جعلت كثيراً من الناس يترك أمر الله، فكثير من الذين خالفوا الأوامر خالفوها بحجة الرزق والبحث عن الرزق وأكل الأولاد، فلذلك ضرب المثل ونص على الرزق نصاً.
فإذا كان الله عز وجل هو المتفرد بذلك فكيف خلطت ماله بغيره؟!! وأنت تستنكف أن يكون هذا من عبدك، وكلاكما عبد (وإن الله خلقكم ورزقكم فلا تشركوا به شيئاً).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(55/5)
بطلان القول بإيمان فرعون
إن الذي يجري على الساحة الآن من القول بإيمان فرعون، وأنه مات مؤمناً، وأننا نحن هنا في مصر أجدادنا فراعنة، ولا بد أن ندافع عن جدنا الأعلى، معاذ الله أن يكون لنا جداً، إنه عريق في الضلالة، إن رب العالمين ذم فرعون بقدر ما ذم إبليس، ثم يأتي آت بعد ذلك ليقول: إن فرعون مسلم، ليرد بذلك على رب العالمين! ولا يوجد أي هيئة رسمية تحمل شعار الإسلام ردت على هذا الكافر الأثيم حتى هذه اللحظة، إن كفر فرعون مثل الشمس في رابعة النهار، لا يمتري فيه أحد على الإطلاق، ثم يأتي رجل فيقول: إن فرعون مسلم، وإنه في الجنة!! وقد صنف كتاباً سماه: (كشف الأستار عن المقطوع لهم بالجنة والمقطوع لهم بالنار) فذكر فرعون في المقطوع لهم بالجنة مع وضوح القرآن في أمر فرعون: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود:98] وقال تعالى: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى} [النازعات:25]، وقال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4] وقال تعالى: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:91]، وقال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] وهذا يقول: إن (الآل) ليس المراد به الشخص! هذا كذب، (اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، كما صليت على آل إبراهيم) فإن آل إبراهيم هو إبراهيم نفسه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي موسى الأشعري: (لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود) وما ثمَّ إلا داود الذي كانت الجبال والشجر والأرض تردد ترتيله، فلم يكن من ذرية داود من كان حسن الصوت مثله.
يقول هذا الكاتب: إن آل فرعون سيدخلون كلهم النار، وأما فرعون فيدخل الجنة، كيف وهو قائدهم، وهو معلمهم، وهو رائدهم؟!! لكن الشاهد في المسألة: أن يخرج رجل فيتكلم على شيء مقطوع به عند الخاص والعام، وهذا الذي يسميه العلماء: المعلوم من الدين بالضرورة، أي: يستوي فيه علم الخاصة وعلم العامة، وهذا هو الذي يقول فيه العلماء: يكفر تاركه أو جاحده، إنما الذي لا يعلمه إلا أهل العلم لا يكفر المرء به حتى تقام عليه الحجة المثالية التي يكفر تاركها.
فإذا قال رجل: إن فرعون مسلم، فما بال بقية أركان الإسلام؟ وما بال بقية أحكام الإسلام إن جحدها جاحد؟! وأطم من ذلك الرجل الذي قال: (إن إبليس هو الذي وحد الله والملائكة أشركوا) وينشر هذا في كتاب فيقول: إن إبليس هو الذي وحد الله، لماذا؟ قال: لأنه أبى أن يسجد إلا لله، لكن الملائكة سجدوا لبشر، والسجود لغير الله شرك.
أرأيتم إلى هذا الكلام!! ينشر فينا هذا الكلام ولا يحاسب فاعله ولا يقتل ردةً!! هذه علة لم يذكرها أحد من العالمين، بل أظهر رب العالمين العلة في عدم سجود إبليس فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] لم يقل: أنا الذي وحدتك ولا أسجد إلا لك، وهذه علة مبتكرة، هذا الكفر الذي يظهر الآن ويصادم المعلوم من الدين بالضرورة لهو علامة ضعف! وكيف لا يتجرأ اليهود علينا وقد رأوا مثل هذا في ديارنا، ومن كتَّاب ينتمون إلى الإسلام؟! إن الذي فعله اليهود برسم النبي صلى الله عليه وسلم على الصورة المشينة التي حدثت قبل ذلك ناجم عن مثل هذا.
لو كنا في أيام الخلافة العثمانية -التي وصفوها بالرجل المريض، لكنها كانت تقض مضاجع الأعداء- ما تجرأ أحد أن يفعل هذا، فهذا كفر مجرد، إنما أغراهم بفعل ذلك أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يسب في ديار المسلمين، ورأوا رب العالمين يسبُّ في ديار المسلمين، ومع ذلك لا توجد عقوبة رادعة فأغراهم ذلك ففعلوا الذي فعلوا!! فضياع موضع الحجة على أمثال هؤلاء نعمة؛ لأنهم إذا علموا موضع الحجة حرفوها، فليسوا أمناء، فإذا حرفوها ضل من ورائهم جيل، فقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النحل:75] أي: الذي أعماهم عن موضع الحجة {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل:75].(55/6)
العبادة نوعان: معقول المعنى وغير معقول المعنى
العبادات على قسمين: قسم يسميه العلماء معقول المعنى، والقسم الآخر: غير معقول المعنى، ومعقول المعنى: هو ما ثبتت منه الحكمة من تشريعه، وغير معقول المعنى: هو ما لم يُعقل الحكمة من تشريعه.
وهذا النمط الثاني يبتلى به المؤمنون، فمن آمن سلم، كما روى مسلم في صحيحه عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: (أتانا بعض عمومتي فقال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء كان لنا نافعاً وهو -ابتغاء الأجر- وطاعة الله ورسوله أنفع) نهانا عن شراء الأرض، وقد كانت تجلب المال، لكن طاعة الله ورسوله أنفع، هذا هو التسليم الذي كان يتميز به دين الصحابة فلا إنكار ولا اعتراض؟ فهذا النمط الثاني الغير معقول المعنى، لا يسعك فيه إلا الاتباع؛ لأنه لم تظهر الحكمة منه، وهذا مثل الحديث الشهير وهو في الصحيح: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قبَّل الحجر الأسود قال: (والله إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولكن لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) فكأنما قال: أنا لا أفهم معنى لتقبيل الأحجار، وقد جاء هذا في ديننا، والعرب كانوا يصنعون الأصنام من الحجارة ثم يعبدونها، فكان المناسب أن لا يأتي الأمر بتعظيم أي حجر؛ سداً للذريعة، لكن قبَّل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحجر فنحن نتابعه وإن لم نفهم لهذا التقبيل معنى.
لا يفعل هذا إلا المؤمنون الذين إذا علموا وتيقنوا أن هذا من عند الله أو أن هذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم بادروا إلى العمل به، ولم يعترضوا على الله ورسوله، كأن يقولوا: يا رب! لم فعلت هذا، {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:74].
ثم ضرب رب العالمين مثلين، كأنما قيل: لا تضربوا لله الأمثال، فإنكم لا تعلمون حقيقة ضرب المثل، وإن أردتم أن تتعلموا فسأضرب لكم مثلين، ثم ذكر الله عز وجل مثلين بعد ذلك.(55/7)
مثل المؤمن والمشرك في سورة النحل
قال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل:75] هذا الطرف الأول للمثل، {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا} [النحل:75] هذا الطرف الثاني، والمثل في العادة لابد أن يكون له طرفان، ثم قال: {هَلْ يَسْتَوُونَ} [النحل:75] فالمثل واضح، ثم من الحكمة والبلاغة أن لا يُعيَّن الجواب {هَلْ يَسْتَوُونَ} [النحل:75]؟ فلا جواب؛ لأنه واضح، فالمثل في غاية الوضوح، عبد لا يملك من أمر نفسه شيئاً، وزاد الله عز وجل في بيان عجزه أن قال: {لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل:75] مع أننا نعلم أن العبد لا يقدر على شيء، حتى إن بعض العلماء لم يعتد بشهادة العبد، قالوا: لأن سيده يمكن أن يمنعه من أداء الشهادة، فلا يعتد بشهادته؛ لأنه لا يملك من أمر نفسه شيئاً، ومع ذلك فإن بعض العبيد قد يملك من الأمر ولو شيئاً جزئياً، إنما هذا العبد المضروب به المثل لا يملك شيئاً قط، رجل مكبل مقيد، هل يستوي هذا الرجل مع آخر آتيناه رزقاً حسناً وأعطيناه؟ فهذا يملك المال فهو ينفق منه سراً وجهراً، إذن عنده إرادة في النفقة، وإرادة النفقة يقابلها عجز ذلك العبد الآخر الذي لا يملك شيئاً على الإطلاق، حتى لو أراد.
(هل يستوون؟) لم يقل رب العالمين: لا يستوون؛ لأن ترك الجواب هنا أبلغ، والإبهام دليل الإعظام والفخامة، كما في قصة يوسف عليه السلام لما كاد له الله عز وجل ووضع صواع الملك في رحل أخيه ونادوا في الناس: إننا نفقد هذا الصواع {قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:71 - 72] فلما اتهمهم قال لهم: {فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنتُمْ كَاذِبِينَ} [يوسف:74] إن وجدنا الصواع في رحل أحدكم فما جزاؤه؟ فلأنهم كانوا متأكدين مائة بالمائة أنهم لم يسرقوا أبهموا الجزاء: {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف:75] ما تعملونه به فهو جائز لكم.
ولو علموا أن السارق منهم لعينوا العقوبة وقالوا: يجلد أو يضرب أو يسجن، لكنهم لثقتهم أن السارق ليس منهم أرادوا أن يفخموا العقوبة فأبهموها: {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف:75].
وكذلك الرجل الذي ذكر أهل التفسير حكايته: (أنه كان من المستضعفين، وكان رجلاً كبير السن، فلما تذكر إخوانه المهاجرين في المدينة واجتماعهم، ووجد أنه يفتقد الأخوة، ويعيش في وسط هؤلاء الكافرين، مع أن الله وضع الهجرة عن أمثاله، خرج -رغم شيخوخته وعجزه- مهاجراً من مكة إلى المدينة ماشياً فأدركه الموت في الطريق، فلما أحس بذلك ضرب كفاً بكف وقال: اللهم هذه بيعتي لك، اللهم هذه بيعتي لنبيك ومات، فأنزل الله عز وجل في شأنه: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100] لم يعين له جزاء إنما أبهم الجزاء للإعظام.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور المتفق عليه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله) ولم يعين جزاء، فمثل هذا السكوت والإبهام دليل الفخامة والإعظام.
(هل يستوون)؟ بعد ضرب المثل لا يستوون عند أي إنسان، فالجواب واحد عند كل من يسمع هذا المثل إن كان عاقلاً: (لا يستوون) فالحمد لله أن جعل من سنته وحكمته أن لا يستوي العبد العاجز مع الحرّ الصالح، فتنزه رب العالمين أن يساوي بين المسلمين والمجرمين، فكمال عدله يأبى ذلك، وهناك جواب آخر في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [النحل:75] أي: الذي ضيَّع موضع الحجة على المشركين فضيع لهم الفرق بين المثلين مع الوضوح، وهذا من منن الله عز وجل أن لا يرزق كافراً حجة حتى لا يلبس على الذين آمنوا، قال صلى الله عليه وسلم: (أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان، يجادل بالقرآن) وهذا النمط موجود لكن كانوا قديماً كالفئران لا يخرجون من الجحور، فلما قلّ عدد العلماء ظهر أمثال هؤلاء وكانوا يتوارون قبل ذلك.
إن وجود النفاق دلالة على قوة الإسلام، وإن وجود الكفر دلالة على ضعف المسلمين، فالكفر لا يظهر أبداً إلا مع الضعف، والنفاق لا يظهر إلا مع القوة.
في مكة لم يكن ثمة نفاق على الإطلاق، بل كان إيمان وكفر، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وصارت له دولة ظهر النفاق، فالمنافق كافر لكن يريد أن يحفظ دمه، ويريد أن يستفيد بذلك، ولا يستطيع مع هذه الشوكة أن يظهر عقيدته، فيبطن الكفر ويظهر الإسلام.(55/8)
عمل الجارحة دليل على عمل القلب
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
قال: (وأمركم بالصلاة فإذا صليتم فلا تلتفتوا)، وفي الحديث: (إن الله ينصب وجهه في وجه العبد ما لم يلتفت) يعني: فإذا التفت صرف الله وجهه عنه.
إن الجارحة تتبع القلب، ولا تلتفت الجارحة إلا بعد التفات القلب، فإذا التفت القلب التفتت العين والتفت الرأس؛ لأن القلب بمنزلة الملك، فلما قال: (لا تلتفتوا) دل ذلك على التفات القلب، والمسائل التي لا يعرفها الإنسان ولا يستطيع أن يحكم عليها تنصب لها علامة في الخارج يعلق الحكم بها، فإذا التفت إنسان برأسه في الصلاة نعلم يقيناً أن قلبه التفت، لكن بدون وجود هذه الأمارة وهي التفات الرأس لا نستطيع أن نقول للإنسان إن قلبك التفت.
لأن هذا لا يعلمه أحد، وكذلك الأحكام التي تجري في هذا المجرى لابد أن تنصب لها أمارة في الخارج يعرف الحكم بها، وذلك كقوله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار) فالسرور أمر قلبي لا يعلمه أحد، فنحن في هذه الحالة ننظر إلى أمارة في الخارج، فإذا وجدناها علقنا الحكم بها، فإذا قلنا للأستاذ: حين تدخل الفصل ويقوم لك الطلاب، ويتخلف أحد الطلاب عن القيام فهل تضربه؟ فإذا قال: نعم، نقول له: إنما ضربته لأنه ساءك وأغضبك، إذن فغضبك دلالة على أنك تسرس بأن يقوم لك، فكان الغضب أمارة خارجية نحن نعلمها ونراها فعلقنا الحكم على الباطن بها، ويسوغ لنا ويصح لنا أن نقول: إنك مسرور بأن يقوم لك التلاميذ في الصف، لأن فيك علامة دلت على ذلك.
في تاريخ بغداد للخطيب: أن المأمون نادى في تجار الذهب، وأراد أن يشتري ذهباً، فأقبل تجار الذهب الكبار لأمير المؤمنين لكي يشتري منهم، فأقبل بالحيتان والقطط السمان، ودخل في وسطهم علي بن الجعد الإمام العالم، ولم يكن عنده من الذهب ما يساوي عشر معشار هؤلاء التجار الكبار، فدخل المأمون، فقاموا له جميعاً ما عدا ابن الجعد، فلما رأى المأمون ذلك قال: (لمَ لم يقم الشيخ؟ قال: أجللت أمير المؤمنين أن يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وانظر الجواب، فلم يقل له: أنت بشر، أو أنت عبد، فلماذا أقوم لك؟ لا، إن الكبار يأنفون أن تقابلهم بهذا، فكبير المحل لا يقبل أن تخاطبه بهذا أبداً، إنما كن كما قال هذا الإمام العالم، وهذا هو الفرق بين العالم والجاهل، قال: (أجللت أمير المؤمنين أن يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له المأمون: وما ذاك؟ فقال: حدثني المبارك بن فضالة عن الحسن البصري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سره أن يتمثل الناس له قياماً فليتبوأ مقعده من النار) فحينئذٍ أطرق المأمون ساعة وقال: لا ينبغي لنا أن نشتري إلا من هذا الشيخ، وهذا من باب قول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3] فاشترى المأمون منه بثلاثين ألف دينار، فلم يغضب المأمون من قوله، فلما لم يغضب وخضع للحديث علمنا أنه لا يسر أن يقوم الناس له، وهذا ما يسميه العلماء علامة أو قرينة، ولاجرم أن يعلق الحكم عليها.
ومثله -بل أدق منه- في الفهم والاستنباط ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قام النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا فقاموا من بيننا واقتطع دوننا وخشينا أن يصاب بأذى، ففزع الناس وفيهم أبو بكر وعمر، وكنت أول من فزع، فجاء أبو هريرة حائطاً لبعض الأنصار فالتمس باباً ليدخل فلم يجد، لكنه وجد ربيعاً -والربيع: هو ممر لقناة ماء تمر من أسفل الجدار- حاول أن يدخل من ممر هذه القناة فلم يستطع، قال: فاحتفزت كما يحتفز الثعلب -أي: جمع أطرافه بعضها إلى بعض حتى يستطيع أن يدخل، وفي رواية أبي عوانة أو ابن حبان قال: فحفرت كما يحفر الثعلب -وذلك ليوسع لنفسه- ودخل، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مسنداً ظهره للحائط، قال: فلما رآني قال: أبو هريرة؟ قلت: نعم يا رسول الله! قال: مالك؟ قلت: يا رسول الله! قمت من بين أظهرنا واقتطعت دوننا وخشينا أن تصاب بأذى، ففزع الناس وفيهم أبو بكر وعمر، وكنت أول من فزع، قال: يا أبا هريرة! خذ نعليَّ هاتين -وهنا الشاهد- فمن لقيته خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة) فالمقصود أن يشهد مستيقناً بها قلبه ولا أحد على الإطلاق يعلم هذا إلا الله أو من أطلعه الله عز وجل على ذلك.
(من تلقاه خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه) وأنَّى لـ أبي هريرة أن يعلم ذلك؟ أستيقن أم لم يستيقن، فهذا من عمل القلوب (فبشره بالجنة، فخرج أبو هريرة كما دخل فأول من لقيه عمر فبشره بالجنة، فضربه عمر ضربة، قال أبو هريرة: فخررت لأستي، ثم رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأجهشت بكاءً، فلما رآني قال: ما يبكيك يا أبا هريرة؟ قلت: يا رسول الله! إن هذا عمر وركبني عمر -أي جاء بعده مباشرة- فقلت له الذي أمرتني، فضربني ضربة خررت لأستي فقال عمر: يا رسول الله! أأنت قلت لهذا كذا وكذا؟ قال: نعم، فقال عمر: يا رسول الله! خل الناس يعملون) يعني: حتى لا يتكلوا، فإنهم إذا سمعوا هذا الكلام: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) اتكلوا فكل من يقول: لا إله إلا الله، سيترك عمله، فالذي في القيام يقول: أنا أقول لا إله إلا الله فلماذا هذا العناء.
وعندئذ ستفتر همم العاملين، فكأنه قال: يا رسول الله! احجب هذه البشارة عن الناس حتى لا يتكلوا عليها.
الشاهد هنا، كيف لمثل أبي هريرة أن يعلم أن فلاناً هذا قلبه مستيقن بالإيمان؟ هذا كما قلنا أخفى من المثل الأول، وهذا يدل على أن الحديث -وإن خرج مخرج الغموض- لا يراد به إلا عمر؛ لأنه لم يلق إلا عمر، فكأن الكلام منزَّل عليه: (من لقيته خلف هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه) فلم يلق إلا عمر، فكان هذا خاص بـ عمر وهي بشارة له، وإن خرج الكلام مخرج العموم، وهذا الأمر ثابت عند جماهير العلماء: إن الكلام قد يكون عاماً في لفظه خاصاً في مراده، كقول الله تبارك وتعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] فالناس: لفظ عام يشمل الكل، كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158] لكن في قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج:27] المراد بالناس هنا هم المسلمون فقط، فلا يراد به غيرهم.
فيجوز إذا كان الأمر باطناً أن يبحث عن أمارة خارجية يعلق بها الحكم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.(55/9)
المرء تحت ظل صدقته
قال: (وأمركم بالصدقة، وإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فأوثق يده إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه، فقال: هل لي أن أفتدي منكم بمالي؟ -أن أعطيكم مالي وتتركوني- فقبلوا ذلك، فأعطاهم القليل والكثير) كأنما قال: لم يبق معه شيئاً ليستنقذ نفسه ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما المرء تحت ظل صدقته يوم القيامة) فلا تحقرن شيئاً من الصدقات، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقبل الصدقة بيمينه فيربيها للعبد كما يربي أحدكم فلوه) فيأتي الإنسان يوم القيامة وله جبال من الحسنات، وما هي إلا من صدقة قدمها، والنبي عليه الصلاة والسلام قال لزوجاته: (أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً) فاجتمعن نساؤه لينظرن أيهن أطول يداً.
ولم يعلمن وجه الحديث حتى ماتت زينب، وكانت أكثرهن تصدقاً.
فلما ماتت زينب رضي الله عنها علمن أن المقصود بطول اليد في الحديث هو طول اليد بالصدقة، وكانت زينب كثيرة الصدقة، ومرة أرسل لها عمر بن الخطاب بعطائها فقالت: (مالي ولهذا؟! لأفرقنه كله، ثم قالت: اللهم لا تدركني صدقة عمر)، فماتت رضي الله عنها.(55/10)
تنبيه مهم في إطلاق معنى اليد
لكن قبل أن أنهي هذا الكلام أحببت أن أنبه على مسألة أصولية، وهذه المسألة يعيِّرُ بها أهل السنة والجماعة كثير من الجهلة الذين يستخدمون عبارة: روح النص، فهو يقول لك: (نحن طلعنا روحه) والمفروض أن الألفاظ قوالب المعاني، وهو يقول: لا القالب روح النص، فيقول أهل العلم: إن الأصل في الألفاظ الحقيقة أي: الأصل في اللفظ ما وضع له أولاً، ولا ينقل إلى غير الحقيقة إلا بقرينة، فلو قلت لك: هذه يد فأول شيء يخطر في ذهنك هو هذه الجارحة، فإذا قلنا: فلان له عليَّ أياد، فلا يخطر في الذهن أنه واضع يديه على أكتافه، إذن فنحن نفهم بدلالة السياق أن الأيادي أو اليد في هذا السياق ليس المقصود بها الحقيقة؛ لأن السياق من المقيدات كما يقول أهل العلم، فبعض الناس يغفل عن هذه القاعدة وهي مهمة: (السياق من المقيدات) فمثلاً: كلمة (عزيز) ليست كلمة ذم، وكذلك كلمة (كريم) فإذا قرأت قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49] فكلمة عزيز وكريم في هذا السياق ذم.
وذلك من أجل السياق؛ لأنه هو الذي غير معنى الكلام، فالسياق من المقيدات، فمثلاً قوله تعالى: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} [النمل:19] فلماذا ذكر ضاحكاً، ولم يقل: تبسم فقط؟ قال: لأن الابتسام على نوعين: ابتسام المغضب، وابتسام المعجب، فابتسام المغضب كما في قصة كعب بن مالك في الحديث الذي في الصحيحين: (فلما أظل النبي صلى الله عليه وسلم قادماً من تبوك، وجاء الناس قال: وجئت فدخلت المسجد فلما رآني تبسم تبسم المغضب وقال: ما خلفك؟) وفي آخر الحديث لما نزلت توبة كعب بن مالك قال: (فلما دخلت المسجد فرآني رسول الله صلى الله عليه وسلم تبسم، وكان إذا سر استنار وجه كأنه قطعة قمر، وقال: أبشر بخير يوم طلعت عليك فيه الشمس منذ ولدتك أمك) أما قوله: (فتبسم ضاحكاً) فهمنا بكلمة (ضاحكاً) أنها ابتسامة المعجب؛ لأنه لم يغضب من قول النملة، بينما من الممكن أن أي ملك من الملوك تقول له كلمة حق يغضب منها وليس له حق في الغضب، فأراد ربنا تبارك وتعالى أن يبين لنا أن سليمان لم يغضب من قول النملة إنما تبسم من قولها، ولذلك أعقب الابتسامة بالشكر: {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} [النمل:19] ولا يتبسم بهذه الصفة إلا لأنه معجب بقول النملة وليس غاضباً، فقوله: (تبسم ضاحكاً) أدت المعنى (100%)، أما كلمة تبسم مجردة لا تدل دائماً على الضحك، إذاً فكلمة (الضحك) هنا جاءت من المقيدات ومن هذا الباب أيضاً قولهم: (إن السكوت علامة الرضا) فليس كل سكوت رضا، فهناك سكوت القهر، وسكوت الرضا، وسكوت الغضب.(55/11)
ذكر الله حرز للعبد من الشيطان
قال يحيى عليه السلام: (وآمركم بذكر الله، فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو في أثره سراعاً) إن الشيطان إذا رأى العبد ليس صاحب كبيرة أو صاحب صغيرة فإنه يحاول أن يدخل عليه من باب آخر فيشغله بالمفضول عن الفاضل فيقل أجره، فيصير مشغولاً بفضول المباحات فيضيع المستحبات، يعني مثلاً: يأتي هذا الرجل ويقول: والله أنا طوال السنة في عمل وأريد أن أتفسح وسأذهب إلى المصايف -والذهاب إلى المصيف ومخالطة أهل الفسق والعري لا يجوز شرعاً- فيأتيك من يقول: إن الناس يمشون بهذه الملابس العارية في الشوارع، فما الفرق؟ فنرد عليه بالقول أنت لا تستغني عن المشي في الشارع فمن الضروري أن تمشي فيه وترى مثل هذه المناظر، فأنت هنا لست مخيراً، لكن متى ما ذهبت إلى المصيف فأنت مختار لملابسة أهل العصيان، فيرد هذا الرجل قائلاً: أنا سوف أذهب إلى المصيف وأقصد أبعد مكان عند الحدود بحيث تفصلني عن هؤلاء مسافة طويلة، ولا أختلط بأهل العصيان.
يرى بفعله هذا أنه أتى مباحاً، فيذهب إلى هناك، ويقعد يلعب مع الأولاد ويسبح ويمضي وقته في اللهو، فنقول له: هذا المباح على حساب أعمال أهم، فكونك تجعل الذكر رياضتك، فإنك لن تحتاج إلى هذه المباحات التي يسعى الناس إليها، إذا أنست برب العالمين استغنيت عن الخلق.
إذاً ذهابك إلى هناك وإن كان مباحاً شغلك عن مستحب، وطالما أن المسألة كانت مسألة تحصيل للأجر، فينبغي على المرء أن يسعى إلى تحصيل أعلى الأجرين، فالشيطان عدو الإنسان يسعى وراءه.
قال يحيى عليه السلام: (وآمركم بذكر الله، فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو -والعدو هو الشيطان فلا يوجد غيره- في أثره سراعاً) أي: لا يدعه طرفة عين (فدخل حصناً حصيناً فأحرز نفسه، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله) فاذكر الله تبارك وتعالى؛ لأنك لو ذكرت ربك احتميت من شيطانك، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76] فالشيطان عدو مبين وخطير وله من الإمكانات أكثر مما لنا، لكنه كان ضعيفاً؛ لأنه في مقابل كيد الله.
وأخيراً: أود أن أنبه إلى أن بعض الناس يخطئون في الجمع بين قوله تعالى: {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف:28] وبين قول الله تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76] فيقول لك: إن كيد النساء أشد من كيد الشيطان، ونحن نقول: هذا خطأ، لأننا قلنا من قبل إن السياق من المقيدات، فهذه الآية لها سياق وتلك لها سياق آخر، {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف:28]؛ لأن كيد المرأة كان مقابلاً بكيد يوسف عليه السلام، فالنساء كيدهن عظيم إذا قوبل بكيد الرجال، لكن الشيطان كيده ضعيف؛ لأنه مقابل بكيد الله فلو وضعت كل كلام في سياقه يتبين لك المعنى.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يفقهنا وإياكم في ديننا، وأن يجعل ما سمعناه وما قلناه زاداً إلى حسن المصير إليه، وعتاداً إلى يوم القدوم عليه، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(55/12)
الصيام مدرسة الإخلاص
فالإنسان بالصيام يحقق مرتبة الإحسان، يقول الله تبارك وتعالى في الحديث الإلهي المتفق عليه: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) فقوله تعالى: (فإنه لي) دلالة على عظم الأجر؛ لأنه لم يحدد أجراً، قال: (فإنه لي) وأنا أكرم الأكرمين، لأن الصائم قد يكون أمامه الماء العذب والأكل الجيد ومع ذلك لا يستطيع أن يفطر، ومع أنه معلوم أن الصلاة أعظم من الصيام، إلا أن الله قال عن الصيام: (فإنه لي)؛ لأن العبد لا يستطيع أن يرائي بصيامه، فنحن الآن جالسون في المسجد وقد يكون بيننا صائم، فهل يستطيع أحد أن يعرف من هو الصائم في هذا الزحام؟ لا، لكن كلنا يقطع أن كل من في هذا المسجد صلى الجمعة، إذن فالصلاة مما يمكن أن يرائي العبد بها رغم عظمها فهي أعظم ركن عملي من أركان الإسلام، وثاني ركن بعد الشهادتين، لكن يمكن أن يرائي المرء فيها.
كذلك الزكاة قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] فيمكن للعبد أن يرائي بالصدقة، والحج كذلك فبعض الناس حج مرة وحج مرتين وحج ثلاث مرات فيقال له: الحاج فلان.
فيمكن للإنسان أن يرائي في كافة الأنساك إلا الصيام، لذلك قال الله عز وجل: (فإنه لي وأنا أجزي به) إنما جعل الأجر له لأن العبد يحقق به أعلى مراتب الدين وهو الإحسان.(55/13)
من خشع قلبه خشعت جوارحه
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
قال يحيى عليه السلام: (وأمركم بالصلاة، فإذا صليتم فلا تلتفتوا) قلنا: إن التفات الجارحة دلالة على التفات القلب قبلها، وفي بعض الأخبار الضعيفة: (إن العبد إذا حوَّل وجهه في الصلاة عن القبلة يقول الله له: إلى خير مني؟!) فالله عز وجل ينصب وجهه في وجه العبد، (ما لم يلتفت) أي: إذا التفت صرف عنه وجهه، فإذا التفت إلى شيء آخر يقال له: إلى خير من الله تبارك وتعالى؟! وفي هذا دلالة أكيدة على اهتمام الشرع بأمر القلب، فبعض الناس يظهر عمل القلب -مع أن القلب هو الملك- ويظن أن عمل القلب غير داخل، لا، بل عمل القلب أشرف من عمل الجوارح، ولذلك إذا انعقد القلب على الكفر وإن لم تنفعل له الجوارح عوقب به، ولا يُعارض هذا بحديث: (إذا همَّ العبد بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له سيئة) فيظن أن العمل مقصور على عمل الجوارح، لكن هذا خطأ، بل القلب عمله أشرف من عمل الجوارح، لأنه الملك، فإذا انعقد القلب على شيء من الكفر يؤاخذ المرء به؛ لأن عقد القلب عمل.
فالعبد إذا عمل حسنة جوزي بعشر أمثالها، فهل إذا عمل سيئة فانصرف عنها يأخذ حسنة؟ المناسب أن لا يأخذ شيئاً؛ لأنه إذا عمل سيئة استحق سيئة، فالطرف الأول: هو الذي عمل الحسنة وجوزي بعشر أمثالها، والطرف الثاني: هو الذي عمل السيئة فأخذ مثلها، وعلى هذا فيكون الوسط: أن لا يعمل شيئاً فلا يأخذ شيئاً، هذا هو المناسب.
وقد ورد التعليل في بعض الأحاديث الصحيحة: أن الله عز وجل قال: (لو همَّ عبدي بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة؛ إنه تركها لأجلي) فالذي جعله يتركها هو قلبه وخشية الله عز وجل، فلم تنفعل الجوارح لذلك، إنما الذي جعله يتركها هو خوف الله، ويفهم بمفهوم المخالفة: أنه إذا تركها لغير مخافة الله فلا يأخذ حسنة، هذا إن لم يكن قد دخل في منطقة الإثم، ومثال ذلك: رجل أراد أن يسرق بيتاً فلم يستطع لكنه لا يزال مُصراً على السرقة وعقد قلبه على أن يسرق هذا البيت ولم يمنعه خوف الله عز وجل، إنما لم يتمكن، فهذا انعقد قلبه على هذا الفعل فيؤاخذ به.
فهذا لم يترك هذا العمل لأن السرقة حرام، أو لأن الفاحشة التي كان يريد أن يفعلها حرام، لا، إنما تركها للعجز، وهذا دليل أن القلب هو الأصل، والجارحة إنما تنفعل له سلباً وإيجاباً، وقد قلت من قبل: إن القلب هو الذي يعطي صورة العظمة.
إذا كنت واقفاً في الصلاة لمدة طويلة وخاشعاً ولا تتمنى أن تجلس ولا تشعر بملل ولا ضجر؛ فإن قلبك مقبل، أما إذا لدغتك بعوضة فأخذت تتملل فإن قلبك غير مقبل، وغير منتبه؛ لأن القلب هو الذي يعطي العزم للجارحة، وإذا أبدل القلب عنها ذهبت قوتها، فالقلب إذا أقبل ظهرت القوة في العضلة، فإذا أبدل القلب سحبت قوة العضلة معه.
فلو جئت إلى أقوى الناس جسماً، وأخبرته بخبر خارت له عزائمه فوقع على الأرض، فنقول: أين العضلة التي كانت تحمله منذ قليل؟ لما انكشف قلبك انكشفت العضلة، ولهذا عروة بن الزبير رحمة الله عليه؛ تابعي جليل كبير الشأن، لما انتشرت الأكلة في رجله ونصحه الأطباء بقطعها، قالوا له: (اشرب الخمر لنقطعها، فقال: ما كنت لأستعين على دفع البلاء بمعصية الله، ولكن إذا دخلت في الصلاة فاقطعوها) وهذا خبر صحيح، وبعض الناس يكذب هذا الخبر؛ لأنه لم يتصور أن إقبال عروة على ربه في الصلاة كان إقبالاً كاملاً، لما دخل في الصلاة واستجمع قلبه سحب قوة العضلة وإحساسها، فلما قطعوا رجله بالمناشير لم يحس بها عروة.
فعمل القلب خطير، فنبي الله يحيى عليه السلام حين قال: (وأمركم بالصلاة، فإذا صليتم فلا تلتفتوا) قصد به التفات القلب ثم التفات الجارحة تبعاً لذلك.
قال: (وأمركم بالصيام، وإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة مسك وهو في عصابة) فهو يمشي مع رفقة ومعه صرة مسك والكل يشم المسك من على بعد، وكلهم يتمنى لو كان المسك معه، أو على الأقل يجد رائحة هذا المسك من الصرة.
(وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) فخلوف فم الصائم كريه الرائحة، ومعنى هذا أنه ليس كل شيء يكرهه العبد يكون كذلك عند الله، إن الله عز وجل لام وعاتب بعض الصحابة في حديث الإفك حين نقلوا الخبر وتناقلوه، فقال تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15] ألا تعلم أن آدم خرج من الجنة بذنب واحد، وأن إبليس دخل النار بذنب، فما يؤمنك؟ من الذي أعطاك صكاً بالأمان أن تمشي في هذه الدنيا وأنت غير خائف من سوء الخاتمة؟ سفيان الثوري رحمه الله لما هرب من الخليفة بسبب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبسبب آخر جوهري: هو أن سفيان كان يخشى أن يقربوه فيفتنوه فأمير المؤمنين في موسم الحج لما تذاكر هو وسفيان الثوري خلع خاتمه ورماه وقال: أعط هذا لـ أبي عبد الله وقل له ليحكم البلاد بالكتاب والسنة.
فجاء رجل إلى سفيان يقص عليه ما جرى فقال له: والله ما أخشى إهانته إنما أخشى إكرامه، فلا أرى سيئه سيئاً، ففر من الخليفة واختبأ منه عند يحيى بن سعيد القطان، تصور حين يجتمع في الزمن الواحد مئات العلماء من أمثال هؤلاء الكبار فعلاً، ما كان لمبتدع أن يرفع رأسه، أو أن يكتب مثل هذا الذي يكتب في الجرائد، وما كان لأحد أن يجرؤ على ذلك.
كان أحدهم يروي حديثاً موضوعاً فقال له الطلبة: (إن لم تتب لنبلغن عنك السلطان) فذهبوا إلى الأمير فوراً يشكونه لمجرد رواية حديث موضوع واحد، والأحاديث الموضوعة هي (زاد المستنقع) الكثير من الخطباء والوعاظ الذين يروون الأحاديث الموضوعة، حتى صارت مشتهرة ومعروفة عند الجماهير، ولو قلت لأي شخص: قل لي ما عندك من الأحاديث؟ تجد عنده (60%) من الأحاديث الموضوعة لم يقلها النبي صلى الله عليه وسلم قط، ولم ينطق بها أبداً، إنما هي افتراءات كاذب.
فـ سفيان كان هارباً عند يحيى بن سعيد القطان في البيت، وكان رأسه في حجر يحيى بن سعيد القطان ورجله في حجر عبد الرحمن بن مهدي، وكانا من تلاميذه، ونحن نعرف قدر الأستاذ من قدر التلاميذ، والتلاميذ هم رزق من الله كسائر النعم، فأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا رزقاً له، ولم يرزق نبي بأصحاب مثل أصحاب نبينا عليه الصلاة والسلام.
وابن حجر العسقلاني الحافظ رحمه الله يقول في كتاب الدرر الكامنة في ترجمة لكتاب ابن تيمية يقول للدلالة على إمامة هذا الإمام الكبير: (ولو لم يكن لهذا الإمام -أي من حسنة- إلا تلميذه ابن قيم الجوزية صاحب التصانيف السعيدة التي انتفع بها الموافق والمخالف لكان كافياً)، مع أن سائر أصحاب شيخ الإسلام كانوا أئمة، وكان من أصغرهم الحافظ ابن عبد الهادي صاحب: الصارم المنكي في الرد على السبكي، ومات شاباً دون الأربعين رحمه الله، فلما حضرت سفيان الوفاة كان عنده عبد الرحمن بن مهدي فأخذته رعدة ونوبة بكاء فقال له عبد الرحمن: (يا أبا عبد الله! أتخشى ذنوبك فتناول سفيان -ذلك العابد الزاهد الأواب، فيما نحسب والله حسيبه- حفنة من على الأرض وقال: والله لذنوبي أهون عليَّ من هذا، إنما أخشى سوء الخاتمة)؛ لأن الذنب قد يغفر لكن إذا ختم للإنسان بسوء ضاعت حسناته.
فما هذا الأمان الذي تتحرك به؟ كأنما كتب أنك من أصحاب الجنة فتمشي في الناس آمناً لا تخاف ذنباً؟ فتقبل على الذنوب وعلى أعمال قد تراها ليست من الذنوب، مثل حلق اللحية! وكثير من الناس يتساهلون في مسألة اللحية فإذا نبهته إلى ذلك قال: الإيمان في القلب، بينما الصحيح أن إطلاق اللحية واجب وحلقها حرام باتفاق العلماء، خالف في ذلك بعض المتأخرين، لكن الأئمة الأربعة وجماهير أصحاب الأئمة الأربعة يقولون: إن حلق اللحية حرام، فما يؤمنك أن يكون مثل هذا الذنب هو الذي يوردك؟! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليقول الكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ به ما بلغت، يهوي بها في النار سبعين خريفاً، ثم لا يلقي لها بالاً) ولا يظن المسلم أن ربنا سبحانه وتعالى يؤاخذه بها (وإن العبد ليقول الكلمة من رضوان الله يرفعه الله بها درجات) فأنت لا تدري قد يكون الشيء في الدنيا مذموماً وهو عند الله ممدوح، فليس مقياس المسائل عند الله على ميزان الناس، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) فانظر المباينة بين أحكام الخلق وبين حكم رب الخلق تبارك وتعالى، إذا فتحت الباب ووجدته تغلق الباب دونه، وتزدريه بنظرك لكنه عند الله غال.
كالحديث الذي رواه الترمذي في الشمائل وهو حديث ثابت، كان هناك صحابي اسمه زاهر، وكان جميل الوجه وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يوماً داخلاً السوق فرآه فأتاه من خلفه ووضع يديه على عينيه، وجعل ينادي في السوق: (من يشتري هذا العبد) فلما سمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم وعرف أن هذه اليد الناعمة -كما يقول أنس: ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم- المباركة على عينيه وعرف أنه النبي صلى الله عليه وسلم جعل لا يألو، أي: يجتهد في أن يلصق ظهره ببطن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (إذن يا رسول الله! تجدني كاسداً) -يعني: لو بعتني لما وجدت من يشتريني- قال له: (لا، ولكنك عند الله لست بكاسد) يا لها من بشا(55/14)
إنما الدنيا لأربعة نفر
أقسم النبي صلى الله عليه وسلم على عدة قضايا تأكيداً لها، وإزالة للشك الذي يحصل فيها، وذلك لأهميتها وعظمتها.
أولها: أنه ما نقص مال من صدقة بل هو زيادة وبركة.
ثانيها: أن من صبر على الظلم رفعه الله وأعزه.
ثالثها: أن من فتح على نفسه باب سؤال الناس أذله الله تعالى.
رابعها: أن الناس في الدنيا أربعة أصناف لا غير: عالم غني، أو عالم فقير، أو جاهل غني، أو جاهل فقير، والمؤمن يحرص على أن يكون من أهل المرتبتين الأولى والثانية.(56/1)
شرح حديث: (إنما الدنيا لأربعة نفر)
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله تعالى، وأحسنَ الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وكلَّ ضلالة في النار.
روى الإمام الترمذي وأحمد بسندٍ قوي عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ثلاث أُقْسِم عليهن: ما نَقَصَ مالٌ من صدقة، ولا صَبَرَ عبدٌ على مظلمةٍ إلا زاده الله بها عزاً، ولا فَتَحَ عبدٌ باب مسألةٍ إلا فتح الله عليه باب ذل، إنما الدنيا لأربعة نفر: رجلٍ آتاه الله مالاً وعلماً، فهو يتقي الله فيه، يصل به رَحِمَهُ، ويؤدي لله فيه حقَّه، فهذا بأفضل المنازل، ورجلٍ آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً، فيقول: لو أن لي كَفُلان لفعلت فِعْله، فهو ونيته، فهما في الأجر سواء، ورجلٍ آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو يخبط في ماله لا يتقي الله فيه، ولا يصل به رَحِمَهُ، ولا يؤدي حق الله فيه، فهذا بأخبث المنازل، ورجلٍ لم يؤته الله مالاً ولا علماً، يقول: لو أن لي كَفُلان، لفعلتُ فِعْلَه، فهو ونيته، فهما في الوزر سواء).
هذا حديث صحيح جميل! ما أحوجنا إلى معرفة فقهه! إذ ليس هناك أحد في الدنيا إلا وهو واحدٌ من هؤلاء الأربعة.
فانظر أين أنت منهم؟ - عالم غني.
- عالم فقير.
- غني جاهل.
- جاهل فقير.
لا يخرج الناس عن هؤلاء الأربعة.
فالسعيد العاقل: هو الذي يختار لنفسه أفضل المنازل، أو التي تليها.(56/2)
معنى: سؤال الناس ذل
قال: (ولا فتح عبدٌ باب مسألةٌ إلا فتح الله عليه باب ذل): وهذا -واللهِ- حق.
وانظر إلى أي شَحَّاذ الآن! قبل أن يمتهن هذه المهنة القبيحة الرديئة، هل كان يتخيل أنه يمكن أن يُقَبِّل نعلَك بعشرة قروش؟! ما كان يتخيل هذا لا في عشرة قروش ولا عشرة جنيهات بل ولا أكثر من ذلك، إذ ما قيمتها، وهو يظل يترجى برغم أنه ليس محتاجاً، وحتى وإن كان كذلك فقد أراق ماء وجهه، فيرده مَن هو أحقر منه، وهذا ذُلٌّ، يظل يسأل الناس فيردونه أو يعطونه، والذي يعطيه يكلِّح في وجهه ولا تكاد ترى رجلاً يعطي الشحاذ من أول مرة، بل يقول: الله يفتح عليك، ولا يعطيه إلا بعدما يكاد الشحاذ يمسك بتلابيبه ويقول: اعمل معروفاً، أريد أن آكل، أريد أن أشرب، فيعطيه المال وهو كاره، فهذا منتهى الذل.
ففَتَح هذا على نفسه باب مسألةٍ فأراق ماء وجهه على كل الأعتاب، حتى على عتبة اللئيم الذي لا يستحق التكريم، لذلك يجب أن يتعفف الإنسان.
الإمام الشافعي رحمه الله له أبيات رائعة في العفة، وفي صَوْن النفس عن المهانة، قال رحمه الله: لقَلْعُ ضِرْسٍ وضَرْبُ حبسٍ ونزْعُ نفسٍ ورَدُّ أمْسِ وقَرُّ بَرْدٍ وقَوْدُ فردٍ ودَبْغُ جلدٍ بغير شمْسِ ونفْخُ نارٍ وحَمْلُ عارٍ وَبيْعُ دارٍ برُبعِ فلْسِ كل هذا أهونُ مِن وقفةِ الحرِّ يرجو نوالاً ببابِ نحْسِ مع أن الأشياء التي ذكرها منها ما هو مستحيل، كأن ترجع الأمس! وأن تحمل عاراً، بأن يحمل الإنسان العار على أكتافه، ويبيع داره بربع فلس، فيبيعها بخسارة واضحة جداً، ودبغ جلدٍ بغير شمس، مع أن الجلد لا يدبغ بغير الشمس؛ لأنه يتعفن مباشرة، بل لا بد من الشمس، وإلا فلن تنتفع بالدباغ ويذهب عليك الجلد، فكل هذه الخسائر أهون من أن يقف الحر على باب لئيم، يطلب نوالاً، أي: يطلب عطاءً.(56/3)
معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ما صبر عبد على ظلم)
قال: (وما صبر عبدٌ على مظلمةٍ إلا زاده الله بها عزاً): يعطي له هيبةً في قلوب الخلق؛ لأن رد السيئة بالسيئة أسهل ما يكون، وأنت تجهل على من جهل عليك هذا أسهل؛ لكن أن تكتم غيظَك، وتحلُم على من أساء عليك، فهذا لا يستطيعه إلا الرجال.
معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بعدما حصل الخلاف الذي حصل واستتب له الأمر، قام يخطب في المسلمين، وكان المسلمون يريدون عبد الله بن عمر أميراً للمؤمنين، وعبد الله بن عمر رجلٌ من رجالات الآخرة، حتى قال ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وغير واحدٍ من الصحابة: (ما منا من واحدٍ إلا تقلبَت به الدنيا وتقلب بها إلا ابن عمر؛ إنه على العهد الأول) أيام كان الرسول موجوداً.
فهذا رجل من رجالات الآخرة أتته الخلافة تحت قدمه فأباها ورفضها، ولو أن عبد الله بن عمر رشَّح نفسه للخلافة لأخذها بإجماع، ليس لأن أباه عمر، بل لأنه عبد الله بن عمر نفسه، وبسبب عمله.
فـ معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لما استتبت له الخلافة، قال: (إننا أحق بهذا الأمر من فلان وأبيه)، يعرض بـ ابن عمر، فالكلمة أغاظت ابن عمر، وكان جالساً في الناس، قال: (فحملت قبوتي، وأردت أن أقوم، فأقول له: بل مَن جالَدَك وأباك على الإسلام أحق بها) قال: (ثم خشيتُ أن تكون فتنة، فذكرتُ ما عند الله، فجلستُ).
أي: ذكر الجنة، وذكر الصبر.
وهناك ناسٌ يستفيضون في أعراض الخلق، ولا يردعهم رادع من تقوى ولا سلطان، فمثل هذا إن أردت أن تحفظ عزتك وكرامتك لا ترد عليه، وقديماً قيل: (لا تجاري السفيه بسفهٍ مثله) فهذا يدل على أنك رضيت سلوكه فحذَوت مثالَه إذ لو كنت تنكر عليه سفاهته فلم تسافهتَ عليه؟! يقابلني السفيه بكل قبح فأكره أن أكون له مجيبا يزيد سفاهةً فأزيد حلماً كعودٍِ زاده الإحراق طيبا وهل تحس بحلاوة البخور إلا إذا أشعلت النار فيه؟! فما تشعر بقيمة الرجال إلا في الغضب، فالرجل نقي المعدن الذي لا يجتاله الغضب عن الحق ولو قليلاً، ولذلك يعرف الناس في هذه المواقف، فإذا رأيت رجلاً متحولاً متقلباً، إذا أغضبتَه انقلب عليك، فإذا أرضيتَه كان كالنعل في قدمك، اغسل يديك منه، لأنه لا خير فيه.
ولذلك مدح الله تبارك وتعالى هذا الصنف قال: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران:134] كلمة (الغيظ) فيها حرف الظاء وهو من حروف الاستعلاء والتفخيم، وشكل الحرف نفسُه يوحي لك بالمعنى، فتحس أنه قربة ملأى، أي: ممتلئ غيظاً؛ لأن الغيظ يملأ الإنسان، ودائماً حروف الاستعلاء تحس فيها بفخامة {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} ليس هذا فقط.
بل أيضاً: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134] لأنك لا بد أن تصرف الغيظ، ولا يكفي أن تكظم فقط؛ لأنك إن كظمت مرة بعد مرة ستنفجر، لذلك سن بعد الكظم العفو؛ لأنه لا بد من تصريف للغيظ {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134].
وهذا التصريف ليس سهلاً، وقليل من الناس هو الذي يصرِّف غيظ، ولهذا رغَّبك في التصرف فقال: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] كأن كظْمَك ثم صَرْفَك لهذا الغيظ بالعفو إحسان، والإحسان هو أعظم الدرجات كلِّها، فإن المراتب ثلاث: - إسلام.
- إيمان.
- إحسان.
وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان، فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وقليل من الخلق هم أصحاب هذه المرتبة؛ بل هم أندر من الكبريت الأحمر.
إذاً: الصبر على المظلمة عز بما يجعل الله لك من الهيبة في قلوب الخلق، ولذلك أُثِر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول: (إن الرجل ليكبُر في نظري حتى يتكلم) طالما أنه ساكت فهو كبير؛ لأنك لا تدري أهذا عاقل أم مجنون؟ كلامُه در أم بعر؟ فإذا تكلم الإنسان وَزَنَ نفسَه؛ لكن كلما كان الإنسان ساكتاً ظَلَّ كبيراً.
فلذلك الرسول عليه الصلاة والسلام تثبيتاً لأصحاب هذه المرتبة أقسم عليها، أي: ليس ردُّك وانتقامك من صاحبك دليل العز والغلبة، بل بما يضعه الله لك من الهيبة في قلوب الخلق.
(وما صبر عبدٌ على مظلمة إلا زاده الله بها عزاً).(56/4)
أسباب قسم الله ورسوله على أمر ما
بدأ النبي عليه الصلاة والسلام هذا الحديث بصيغة لم نعهدها منه، وهو أنه يُقْسِم على صدق الكلام، مع أنه مُصَدَّق بدون قسم، وقلَّ ما يُقْسِم على شيءٍ، فإذا أقسم على شيءٍ فاعلم أن المسألة فيها لبس، وتحتاج إلى تجلية، كما قال تبارك وتعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذاريات:22 - 23] فأقسم بذاته على هذه القضية؛ لأن كثيراً من العباد يخلط فيها، {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22]؛ فأكثر الناس لا يصدق هذه الحقيقة، مع أن رزقك ورزق الذي يهددك بقطع رزقك في السماء لا في الأرض، وهذا الذي يهددك بأن يَفصلَك من عملك ويُجوعَك ويُضيعَك هو لا يملك رزقَه، بل رزقُه في السماء، ولو أن الرزق كان في الأرض لأذل الناسُ بعضُهم بعضاً، كما قال تبارك وتعالى: {قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ} [الإسراء:100]، لو أن هذا الرزق بيد أحدٍ لاستكثره على الناس؛ لأنه بخيل ظالم جهول، وهذه صفة الإنسان، وأصله.
فلأن العباد لا يصدقون هذه المسألة، أقسم الله تبارك وتعالى أن هذا حق مع أننا نصدقه بغير قَسَم، وكان بعض سلفنا إذا قرأ هذه الآية بكى لها، ويقول: مَن أغضبَ الجليلَ حتى حَلَف؟! أي: نحن نصدقه بغير حَلِف، فحَلَف أن هذا حق، ثم ضرب لك مثلاً بدَهياً لا تشك أنت فيه قال: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات:23] إذا كنت تشك في أنك تتكلم فشُكَّ في هذه القضية، فإذا كان الشك لا يرقى أصلاً إلى مسألة الكلام هذه فكيف يرقى إلى مسألة الرزق، وأنه في السماء؟! فإذا رأيت الآية أو الحديث فيهما حَلِف فاعلم أن الأمر جليل.(56/5)
معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ما نقص مال من صدقة)
النبي صلى الله عليه وسلم حلف على هذه الثلاث: (ثلاثٌ أقسم عليهن: ما نقص مالٌ من صدقة)، العبد يظن أن الصدقة ضرراً، فإذا كان معه عشرة جنيهات فتصدق بجنيه يقول: أصبح معي تسعة، مع أنها لا تُحسَب هكذا، فحسابك أنت غير حساب الملك، والنبي عليه الصلاة والسلام رأى عائشة رضي الله عنها تعد تمراً في جراب لتعرف كم سيبقى هذا التمر، وكذلك كان الناس يفعلون، كما نعد البرتقال، حتى نعرف كل واحد كم يأخذ! وهذا العد يضيع البركة، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة وهي تعد وتحسب: (لا توكي فيوكي الله عليك) لا تحسبي فيحسب الله عليك، وهي لما رأت أن في الجراب تمراً، كل يوم تأخذ منه ولا ينفد، استغربت، وقالت: ما هذا التمر؟ هل هذا في جراب أم أنه تمر في مخزن؟! فبدا لها أن تعده، فعدته.
والصدقة إذا أخرجتها يتلقاها الله بيمينه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله ليأخذ الصدقة بيمينه، ثم يربيها لصاحبها، كما يُرَبِّي أحدكم فلوه) (الفلو) هو الفرس المولود، تربيه على عينك حتى يصير مُهراً كبيراً، فالله تبارك وتعالى يأخذ منك الصدقة قرشاً أو جنيهاً، فإذا بك عندما توافي ربك يوم القيامة تراها كأمثال الجبال، وهذا مما يُسْعِد العبد.
ألم تر أنك وقد وضعتَ في جيبك مبلغاً كبيراً من المال، ثم نسيتَه، وليكن في قميص شتوي، فإذا انتهى الشتاء خلعت القميص ووضعته في الدولاب، وأنت تسأل نفسك: أين ذهب هذا المال؛ لكن لا تعرف، حتى يأتي الشتاء القادم، فتلبس القميص، فتضع يدك في جيبك، فإذا بك تجد المال، فتكون فرحتك به كبيرة، بالرغم أنه مالك، وما أحدٌ أعطاك إياه، لكنك تسعد به؛ لأنه جاءك عن غير حساب.
ولذلك المصيبة عندما تأتي غير متوقعة يكون ألمها شديداً جداً؛ كذلك النعمة إذا جاءت غير متوقعة يكون فرحها شديداً جداً أيضاً.
فإذا تصدقت فلا تحسبها كما يحسب بقية الخلق؛ لأن المال لا ينقُص من صدقة أبداً، إنما الله تبارك وتعالى يربيها لك.
إذا أعطيت الدينار أو الدرهم فوقع في يد الكريم الملك الغني، فإنه يضاعفها لك، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وليست المسألة ستقف عند هذا الحد، بل الله يضاعف لمن يشاء.
فلأن العباد يحسبونها خطأً أقسم علي أنه لا ينقص أبداً (ما نقص مال من صدقة).(56/6)
أقسام الناس في الدنيا
بعدما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه القضايا الثلاث دلف إلى أنواع الناس، وهذا رباط قوي جداً بين أول الحديث وآخره.(56/7)
ليس الخبر كالمعاينة
قال: (إنما الدنيا لأربعة نفرٍ) ولم يقل: إنما الآخرة، فذكر منهم مَن هم من أهل الآخرة، بل هم أجلُّ أهل الآخرة، حتى يقول لك: إنك ستجني ثمرة الذي تفعله وأنت حيٌ قبل أن تموت، فتعاينه بأم رأسك، فإن الإنسان يحب العاجلة، وبعض الناس قد يدفعه أن يرى مكانه في العاجلة ليعمل للآخرة، فليس المُخْبَر كالمعايِن، وإذا رأيت الشيء بعينيك زاد إيمانك إذا كنت من أهل الإيمان، وتصوُّرك للمسألة هو الذي يرسخ الإيمان في صدرك، ورؤياك للقضية هو الذي يثبِّت اليقين.
ألم ترَ إلى موسى عليه السلام لما كان يناجي ربه في الطور، فأبلغه الله تعالى أن قومه عبدوا العجل، فعلم موسى عليه السلام أنهم عبدوا العجل، أخذ الألواح في يده وفيها هدىً ونور، لكنه أول ما ذهب ورأى العجل ألقى الألواح من الغضب، بينما لم يلقِ الألواح لما أخبره الله عز وجل أنهم عبدوا العجل لأنه لم يرَ بعينيه.
وبهذا البحث تفهم النكتة في قوله تبارك وتعالى: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} [البقرة:50]، فإن المظلوم لا يشفى إلا إذا رأى مصرع ظالمه، فإذا رأى ظالمَه وقد هلك فيشعر ويحس أن الغيظ ذهب، بخلاف ما لو كان يسمع أنه هلك ولا يراه.
لذلك قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (إنما الدنيا)، أي: إن مَن فَعَل هذه الأشياء سيكون له في الدنيا شأن، لكن شأن يختلف على حسب الصفات الموجودة في الإنسان.
هناك أشخاص حتى الآن يذكرون باللعنات: كفرعون، وقارون، وهامان، وأبي جهل، وأبي لهب؛ حتى دفع حب الذكر ذاك الرجل أن يبول في ماء زمزم أيام الحج، فلما قيل له: لِمَ؟ قال: أردتُ أن أُذْكَر ولو باللعنات!! فهناك كثير من الخلق يُذْكَرون؛ لكن إذا ذُكِروا لُعِِنوا.
لذلك المسلم لا يبحث عن الشهرة؛ فإن هناك مشهورين؛ لكن باللعنات، ولكن يبحث عما يشتهر به.
ومن عاقبة الإخلاص أن الله تبارك وتعالى يجعل لك لسان صدقٍ في الآخِرين، وهذا نوع من العز الذي أشار إليه الحديث: (إنما الدنيا)، فالأنبياء والأولياء الذين كانوا أخلص الناس لله، نحن الآن نذكرهم، بل إن بعض العباد كان يعبد الله بين أربعة جدر، وصل إلينا خبره، وكان يستتر بعبادته، فكيف وصل؟! هذه هي عاقبة الإخلاص.
فالله تبارك وتعالى يصير ذكرك حسناً، برغم أنك لم تسعَ إلى هذا الذكر؛ لكنه يصيره لك.
فالدنيا لهؤلاء الأربعة.(56/8)
نعمة العلم والمال
قال: (رجلِ آتاه الله علماً ومالاً، فهو يتقي الله فيه، يصل به رحِمَهُ، ويرعى لله فيه حقه، فهذا بأفضل المنازل).
انظر إلى هذا الرجل، وإلى الرجل الثالث، الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام: (ورجل آتاهُ الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو يخبط).
الفرق بين الرجل الثالث والرجل الأول هو العلم.(56/9)
الغرض العيني من العلم
فتعلم الفرض العيني هذا واجب عليك، وهو ما يحصل به من تصحيح عقيدتك، وتصحيح عبادتك، ومصيرك في الآخرة مرهون بتعلم هذا العلم، وكيف تلقى الله تبارك وتعالى وقد عرفت كل أنواع المعارف ولم تعرف كيف توحده؟ فتجد الرجل عارفاً لدقائق كل شيء، كالطبيب مثلاً من كثرة الممارسة أول ما يرى مريضاً يقول: هذا عنده كذا وهذا من خبرته، ولكن إذا سألته سؤالاً في الوضوء: إذا كنت متوضئاً وجاء كلب وتمسح بك، فلن تجد عنده حلاً، مع أن هذه المسألة تعلمها أيسر من تعلم الطب، لأن تعلم الشرع أيسر من تعلم أي صنعة؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر:17]، ولم يذكر صنعة ولا معاشاً؛ لأن الكل محجوج بالقرآن والسنة، والناس يتفاوتون في الفهم والعلم، فجاء القرآن في الوضوح على منزلة أقل واحد بحيث أن الكل يفهم، وقد قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، ولم يقل: (وما جعل عليكم في الدين حرجاً).
بل قال: (مِنْ)؛ لينفي أقل الحرج؛ لأنه إذا قال: (وما جعل عليكم في الدين حرجاً)، فهذا بدلالة المفهوم قد يثبت بعض أنواع الحرج، لكن لما قال: (مِن حرج)، نفى كل أنواع الحرج وإن دقت.
إذاً: الدين الذي هو العلم في متناول الكل.
فكيف تلقى الله تبارك وتعالى ولم تعرف شيئاً عن أسمائه وصفاته، وقد كنتَ تقف تتوجه لوجهه خمس مرات في اليوم؟ ونحن نعرف أن الإنسان إذا أحب آخر يعرف عنه كل شيء يعرف دقائق حياته وتفاصيلها، ويعرف أموره كلها من شدة الحب، فالذين آمنوا يعرفون عن الله تبارك وتعالى أسماءه الحسنى وصفاته العلى، قال تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]، ومن شدة حبه أن يأنف أن يراه الله تبارك وتعالى حيث نهاه، وأن يفتقده حيث أمره، لا يمكن أن تحقق هذا أبداً إلا بالعلم.(56/10)
الجهل يوقع صاحبه في الشبهات والوساوس والعلم يعصمه منها
من الأدلة على أن العلم يحرسك: أنك إذا جاءتك شبهة وعندك علم، لا تؤثر فيك، ولا تضيع مذهبك؛ لأنك عارف لجوابها، لكن إذا جاءت شبهة على رجلٍ آخر، تؤثر فيه وتربكه.
فإذاً: العلم حرسك، وحرس قلبك.
والآخر اجتالته الشبهات.
كنت مرةً في محطة الحافلات فجاءني رجلٌ، كأنه توسم فيّ أن يجد عندي حلاً، قال: كنت أخرج في سبيل الله، وفي يوم من الأيام هجم على قلبي خاطر سيئ في ذات الله، حاشا لله العلي الكبير، فجعل يدخل قلبي ويطرق بابه بشدة: مَن خَلَق الله؟! مَن كان قبل الله؟! هل الله يرى كل هؤلاء؟! يستطيع أن يعرف كل هذا؟! هل هذا كذا هل هذا كذا؟! إلخ.
فهذه الوساوس ما استطاع أن يتخلص منها ولم يجد لها حلاًّ، فقال في نفسه: هذا من كثرة العبادة، سأروِّح عن نفسي ساعة، (ساعةٌ وساعة)، أدخل في الدنيا أتاجر، ربما أنسى هذا الخاطر، قال: فخرجت، فما هي إلا أيام استرحتُ فيها ثم عاد علي أشد مما كان، فقلت له: أنت كالمستجير من الرمضاء بالنار، شخصٌ وجد الدنيا حارة فدخل فرناً، كما يقول أهل الشام: كنا تحت المطر صرنا تحت المضراب.
وهذا يذكرني بشخص كانت لحيتُه سابغة، قابلته ذات مرة وقد حلقها، فلم أعرفه، ولذلك لم أُلْقِ عليه السلام فناداني، فلما رأيته استعجبت، وقلت: ما هذا يا فلان؟ ما الذي جرى لك.
قال لي: أنا حلقت لحيتي.
فقلت له: لماذا؟ ما الذي حصل؟ احْكِ لي.
قال: دخلتُ مسجداً يوم جمعة، وكان الإمام قد غاب عن صلاة الجمعة، فأول ما دخلتُ قالوا: مولانا وصل، رجل ملتحٍ واللحية سابغة، فأول ما دخلتُ قالوا: الحمد لله، وجدنا الإمام، وسارعوا إلي: قم يا مولانا اخطب.
فقلت: أنا لست مستعداً.
فقالوا: لا بد أن تخطب، قل أي شيء، أو أي موعظة، أنصليها ظهراً؟! فحاول أن يعتذر ولكنهم غلبوه.
فصعد على المنبر ولم يستطع قول شيء، فقال كلمات مما عنده، ثم صلى وهو لا يحسن التجويد، وبعد هذا الموقف خرج، فهل قرر أن يتعلم ويسد النقص والفضيحة التي وقع فيها، وقال: أنا دوائي العلم، لابد أن أحفظ لي خطبة أو شيئاً من هذا؟ لا.
بل قرر أن يحلق لحيته! وهذا كحال الذين ذكرهم الله في كتابه: {قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال:32] ما قالوا: اهدنا إليه، بل قالوا: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً} [الأنفال:32]، مع أن كلام العقلاء أنه: {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال:32] فاهدنا إليه، هذا الكلام الذي يجب أن يقال، وليس {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً} [الأنفال:32].
فهذا بدل أن يتعلم ويقول: إن العلاج في العلم، قال: أحلقها، حتى أكون من غبراء الناس.
فعجباً لهذا الحل!! وهذا عندما رأى الوساوس تهجم على قلبه، قال: أنا استكثرت من العبادة، وهنا كان الواجب عليه أن يتجه إلى العلم؛ ولكنه اتجه إلى الدنيا، مع أن أهل الدنيا في حيرة، يعني: الذي في الدنيا تائه، فكان بإمكانه أن يتجه إلى العلم قليلاً، من أجل أن يخفف عن نفسه قليلاً من العبادة؛ لأنها سترهقه.
فهذا لأنه عابد، ما عنده علم، أول ما تصرف تصرف تصرفات ليس عليها نور.
فلو كان هذا الرجل يصاحب العلماء لعرف الحل مباشرة؛ لأن مثل هذا الذي وقع فيه هذا الإنسان حدث لأصحاب النبي -عليه الصلاة والسلام- كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاءوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقالوا: (يا رسول الله! إن الشيء ليخطر ببالنا في ذات الله لَأَن يخر أحدنا من السماء أحب إليه من أن يتكلم به، فقال عليه الصلاة والسلام: أوَقَد وجدتموه؟ ذاك صريح الإيمان).
هذا هو الإيمان المحض (والصريح) هو الخالص، يقال: صريح اللبن، أي: اللبن الخالص (ذاك صريح الإيمان) أي: هذا هو أس الإيمان وحقيقته، وليست حقيقة الإيمان هي الشك في ذات الله، بل المقصود من الحديث، (ذاك صريح الإيمان) أنه لولا الإيمان الذي حجزك لتكلمتَ.
فإذا خطر ببال الإنسان شيء من هذا فكتمه واستغفر الله منه فهذا هو الإيمان؛ لأنه لو لم يكن عنده إيمان لتكلم به، إنما الذي حجزه وربط لسانه هو الإيمان، فذاك صريح الإيمان، وفي لفظ آخر لهذا الحديث: قال عليه الصلاة والسلام: (الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة)، ما استطاع أن يأخذ أكثر من الوسوسة، والوسوسة معفوٌ عنها، فكأن الشيطان ما أخذ شيئاً.
إذاً: العلم نور.(56/11)
أهل العلم دنياهم في أيديهم لا في قلوبهم
لكن أهل العلم هذه المسألة لا تساوي عندهم شيئاً، فأهل العلم المال في أيديهم، وأهل الدنيا المال في قلوبهم، لذلك تجد الواحد من أهل الدنيا ميتاًَ على المال، وليس في يده فلس، وعنده أحلام وآلام كثيرة، وليس في يده قرش واحد، بينما أهل العلم إذا بذلوا المال وراح كله لا يتحسرون عليه، كما كان أبو الدرداء وخباب بن الأرت يفعلون.
قال خباب بن الأرت وأشار إلى صندوق.
قال: (هذا فيه ثمانون ألف درهم) وذكر مصعب بن عمير، فبكى له، قال: (لما قتل مصعب فكنا إذا غطينا رأسه ظهرت قدماه، وإذا غطينا قدميه ظهر رأسه، ولم يكن معه إلا بردة صغيرة) لأن مصعب بن عمير كان من أولاد الملوك، فلما هاجر في الله ترك الدنيا وراءه، وجعل يذكر المحن التي قابلتهم وأنهم كانوا يأكلون ورق الشجر، وأنهم لم يكونوا يجدون شيئاً، فعاش حتى امتلك ثمانين ألف درهم.
قال: ما رددتُ سائلاً -ها هو الصندوق مليء، ما سألني سائل فرددته-.
فهؤلاء هم أهل العلم، لذلك العلم يزين صاحبه.
فالرجل الذي عنده مال يُغْبَط على المال ليس لأجل المال وحده، بل لأنه سلطه على هلكته في الحق، فهو يُغْبَط من أجل هذا؛ أما المال في ذاته فلا يُغْبَط الإنسان عليه، لا في الدنيا ولا في الآخرة -وهذا عند العقلاء- لأن المال رزية، فالأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بنصف يوم، أي: بخمسمائة سنة، مع أن هناك أغنياء -أغنياء ممن تأخروا عن دخول الجنة- أفضل من فقراء سبقوهم، والغني هذا عندما يدخل الجنة بعد الحساب يكون في درجة أعلى من درجة الفقير الذي سبقه بالدخول.
لكن ما الذي أخره ماله.
والحساب في يوم القيامة حساب بالذرة وبمثقال الذرة، كما قال الله تبارك وتعالى: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6]؛ فالذي يرتكب المعصية ينسى تفاصيل كثيرة من المعاصي؛ لكن كلٌ {فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12] كله محصور.
قرأت أن بعض الصالحين وكان له أخٌ في الله يحبه، فمات أحدهما قبل صاحبه، فرأى الحيُّ الميتَ في المنام، فقال: ماذا فعل الله بك؟ قال: سألني عن مسألةٍ ما خَطَرَت لي على بال.
قال: وما هي؟ فقال: إنه كان يمشي في الحقول، فوجد سنبلة على الأرض فأخذها ورماها يميناً أو شمالاً، حتى لا يدوس عليها أحد، فسُئل: لم حذفتَها يميناً؟ وما أدراه فربما تكون للحقل الذي على اليسار، مع أنه فعلها بعفوية، أي: أنه ما قصد شيئاً، وما أخذ سنبلة وقطعها ورماها في الحقل الآخر، بل وجدها على الأرض.
فالعبد يُسأل عن كل شيء، ولهذا الملَكان اللذان يدونان كلام بني آدم، يسجلان عليه الضحكة والعطسة والكحة، وما هناك شيء يترك أبداً.
فإذا كانت هذه الأشياء المباحة تُدَوَّن على العبد، فكيف يمكن للعبد العاقل الذي سيلقى الله تبارك وتعالى غداً أن يمشي في الدنيا كما لو لم يأته رسول؟ فلذلك العلم يعصمك، والعلم يحرسك.(56/12)
العلم يحرس صاحبه والمال يستعبد صاحبه
العلم يحرسُك وأنت تحرس المال، فانظر عندما يجعل الشخص نفسه عبداً لما يجب ألا يكون له عبداً، وهذا المال أنت أصلاً ستدفع منه للحفاظ عليه، لكي تستخدمه في الحلال، ولكي تستعبده لا لتعبده، كما قيل: (المال عبدٌ جيد لكنه سيدٌ رديء) (عبد جيد): يحل لك مشاكلك ويقضي لك كل حاجاتك، كما لو كان لك عبد إذا قلت له: اعمل كذا، قال: نعم.
واعمل كذا قال: حاضر.
فهو عبد جيد، لكنه إذا تسلط على صاحبه صار سيداً رديئاً، إذ يصير صاحبه بخيلاً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن البخل: (أي داءٍ أدوى من البخل؟!) أي: أي داءٍ أقبح من أن يكون الإنسان بخيلاً؟! فالمال صاحبه هو الذي يحرسه، إن كان مضطجعاً تجده يَعُدّ، أو قائماً تجده يَعُدّ، يَعُدُّ النقود ألف مرة؛ ويريد أن يضع العشرة على العشرة، والعشرين على العشرين، ويرص الأرقام على الأرقام، ويحسب، حتى يتأكد أنها متسلسلة أم لا! ولا ينام من كثرة الحسابات.
يخشى أن تصرف أمواله، أو أنه سيُقْدِم على مشروع ويخاف أن يأخذه آخر، أو يخاف أن يخسر، فقلبه يتفطر من الحسرات، ولذلك تجد الإنسان من هؤلاء إذا أصيب في دنياه خسر الدنيا والآخرة، فتجد الواحد مثلاً إذا قيل له: المصنع احترق، تأتيه سكتة قلبية! وماذا لو أنه اشتعل؟! فأنت خرجت من بطن أمك لا تملك شيئاً ولا عندك دينار ولا درهم، فما مُتَّ حتى اغتنيتَ وصرتَ من أصحاب الملايين، فكما أعطاك الله المال يمكنه أن يعطيك ثانية، فما نفدت خزائنه.
فهذا يخسر دنياه وآخرته.
والآخر صاحب أزمة الكويت لما نزل الدينار من تسعة جنيهات إلى سبعة وتسعين قرشاً، مشى في الشارع وهو يكلم نفسه! لأنه عبدٌ لهذا المال.(56/13)
الجهل يوقع صاحبه في البدع
وهنا قَدَّم أولاً العلم (لا حسد إلا في اثنتين: رجلٌ آتاه الله علماً) ثم قال: (ورجل آتاه الله مالاً): فنستشعر من هذا: أن الرجل الذي آتاه الله المال عنده علم؛ إذ كيف يسلط الرجل ماله على هلكته في الحق وهو جاهل؟! وانظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام في الرجل صاحب المال: (سلطه على هلكته في الحق) (الهاء) في (هلكته) تعود على الرجل أم تعود على المال؟ تعود على الرجل؛ لأنه عمل فكسب، ومن فسد مِن عُبَّادنا ففيه شبه من النصارى؛ لأن العابد عندما يكون ليس على علمٍ فإنه يبتدع، ولذلك قال ربنا سبحانه وتعالى في النصارى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27].
وتجد دائماًَ العابدَ الذي ليس عنده علم من أكثر الناس وقوعاً في البدع، فنفسه تسول له أنه بعد كل صلاة يسجد سجدة شكر طويلة، ويرى أن هذه قربة، وأنها ليس فيها شيء، وإذا أنكر عليه يقول: وهل أنا شربتُ خمراً، أو زنيتُ أو قتلتُ؟! كذلك أي مبتدع يقول هكذا.
أخبرني بعض الإخوة أن ثَمَّ واحداً من بعض الطرق الصوفية يصلي على النبي بعد التراويح، وفي نصفها يقرأ قرآناً، ويريد أن ينقل مثل هذه البدع في المسجد، وأهل هذا المسجد يريدون أن يقيموه على السنة، فهمس في أذني بعد صلاة الفجر بأنه حصل كذا وكذا، ويجب أن أنبه على هذا الكلام.
فقلت: سأنبه، فتكلمت كلمة مختصرة لطيفة من أجل أن أدخل بها إلى الموضوع، أول ما بدأت الدخول في الموضوع قام فالتقط المكبر، فقال لي: مع احترامي لك -وطبعاً عندما تسمع أحداً يقول: مع احترامي لك، اعلم أن الكلام الذي سيأتي ليس فيه احترام، وأنه سيقل أدبه مباشرة، وهكذا- أنا أقرأ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ما المشكلة فيها؟ هذا قرآن يا أخي، وقراءة القرآن واجبة، وأصلي على النبي -عليه الصلاة والسلام-، ماذا بكم؟ ألا تريدون أن تصلوا عليه؟! ثم ما هو الذنب الذي أنا ارتكبته؟ أقرأ قرآناً ويكون عليَّ وزر، أصلي على النبي ويكون عليَّ وزر، ما هذا الكلام الذي أنتم تقولونه؟! فأول ما تكلم الرجل بهذا الكلام عرفت أنه لا يستطيع تعريف معنى البدعة، ولم يخطر بباله شيء اسمه: بدعة؛ لأن أي شخص يقول هاتين الكلمتين اعرف أنه ليس لديه خلفية عن البدعة.
فالبدعة: هي طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، طريقةٌ يفعلها الإنسان ليتقرب بها إلى الله، نزَّلها هذا الرجل منزلة الشرع فصارت تضاهي الطريقة الشرعية.
وهذه البدعة يفعلها للتقرب إلى الله عز وجل، وليس عليها دليل، هذه هي البدعة.
فقلتُ له: إذا عطس رجل وقال: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ما رأيك في الصلاة على النبي بعد العطاس؟ فقال لي: قل أنت.
قلت له: أنا أسألك لأتحقق هل تعرف معنى البدعة أم لا! فالصلاة على النبي ماذا فيها؟ أنت لِتَوِّك تقول: إن الصلاة على النبي ليس فيها شيء.
قال: نعم.
قلت: إذاً ما رأيك في شخص عطس، وبعد كل عطاس يصلي على النبي؟ فسكت.
وأنا إنما أستدرجه لأننا عندنا في هذا أثر، فلو تكلم أصكه به مباشرة، وهو ما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجلاً عطس عنده، فقال: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، فقال ابن عمر: (وأنا أقول: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ ولكن ما هكذا علَّمنا رسول الله).
فلكي لا يقول الرجل: هؤلاء ينكرون الصلاة على النبي.
قال له: أنا أيضاً أصلي على النبي صلى الله عليه وسلم مثلك؛ لكن ما هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرن الصلاة عليه مع العطاس.
فقال لي: صحيح، لا يصلي بعد العطاس.
قلت له: إذاً: فأين الدليل على أنه يصلي بعد التراويح؟! وأين الدليل على أنه يقرأ قرآناً بين الأربع ركعات؟! فالمبتدعة خُلُوٌّ من العلم، فالذي يفسد مِن عُبَّادنا يكون فيه شبه بالنصارى الذين ابتدعوا، إذ ليس عندهم علم؛ ولذلك تجد أكثر الناس وقوعاً في الوسوسة والشبهات العُبَّاد؛ أما العلماء فلا.
لأن العالم عارفٌ بالحدود، يعرف كيف يفرق بين الحرام والحلال والشبهة، وليس عنده مشكلة؛ لكن العابد يحصل عنده إشكالات؛ لكثرة عبادته، وليس عنده علمٌ يقع في هذه الشبهات.(56/14)
لا حسد إلا في اثنتين
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين- أنه قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجلٌ آتاه الله علماً، فهو يعلِّمه الناس).
لهذا الكلام تفسيران معروفان عند العلماء: التفسير الأول: راجح وهو التفسير الأول، أي: لا غبطة، فالحسد هنا: ليس الحسد المذموم، إنما هو الغبطة، والفرق بين الحسد والغبطة: أن الحسد: هو تمني زوال النعمة عن المحسود، أن تتمنى أن يكون عندك ما عند فلان، بشرط ألا يكون عند فلان شيءٌ من هذا، فتتفرد أنت بهذا النعيم.
إنما الغبطة: أن يكون عندك مثل ما عند فلان بدون أن يزول النعيم عن فلان، يعني: أن تكون أنت مشاركاً له أو مساوياً له فقط، كرجل غني أتمنى أن يكون عندي مثل ما عنده، فنصبح نحن الاثنان أقراناً في هذه المسألة.
فالمقصود بالحسد هنا: الغبطة، أي: ليس هناك أحدٌ يستحق أن يُغْبَط، وأن نقول: ليت لنا مثله، إلا أحد رجلين: رجل عالم يعلِّم الناس، ورجل غني؛ لكن مالَه مقيدٌ بالعلم.
التفسير الثاني: (لا حسد) أي: ما حَسَدَ، نفيٌ لوجود الحسد، فإن كان حسدٌ فهو في اثنتين، فكأن هذا الكلام فيه حذف.
ولكن التفسير الأول هو التفسير الصحيح، لثبوت الحسد، كما قال تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5].
فالحسد موجود.
إذاً: يتعين التفسير الأول.(56/15)
فضل القرب من العلماء
فهذا يدل على شرف العلم؛ لذلك كان الملتصقون بالعلماء أشرف من الملتصقين بالأغنياء، وإن كانت الدنيا تحت ركاب الأغنياء.
فحتى لا يقول رجل: أنا أريد الدنيا، والعاجلة ولا تكون إلا بالمال، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الدنيا) وبدأ بالعلم، ليكون لأهل العلم الدنيا أيضاً؛ لكن شتان بين دنيا أهل العلم، ودنيا أهل المال، أهل العلم يموتون على الحمد والثناء الحسن، ولذلك كان الرسل يقولون للناس: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان:57]، ما نريد أجراً، فالذي يقدم لك الإحسان ولا يأخذ نظيره محمود بخلاف الرجل الذي يقدم الإحسان وينتظر، مثل مسألة النقطة في يوم الزفاف، بأن يذهب من أجل أن يعطي العريس مالاً لغرض أن يأخذه فيما بعد، لذلك الرجل العريس مباشرة يدون هذا المال في دفتر؛ لأنه عارف أنه ليس هبة بل هو دين، وأنا أعرف بعض الناس اشتكى بعضَ الناس الآخرين بأنه لم يرد له النقطة.
فمثل هذا الرجل ليس محموداً؛ لأنه كما أعطى يُعْطَي.
وبهذا الكلام اللطيف نفهم تفسير قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من إذا انقطع رحمه وصلها)، أي: ليس الجميل أنك ترد الزيارة بزيارة؛ لكن الجميل أن من قطعك تصله، وإذا كانت هذه الزيارة في مقابل زيارة! فأين فضلك إذاً؟! فليس الواصل الذي يكافئك بزيارةٍ كما زرته واصلاً، بل الواصل من إذا انقطعت رحمه وصلها، هذا هو الإحسان.
تجد الذين يلتصقون بأهل العلم، عندهم من الخير والشرف والترفع عن الدنايا ما ليس عند الملتصقين بأهل المال، فأهل المال أذلاء؛ لأنهم على استعداد أن يفعلوا أي شيء في سبيل زيادة رأس المال، لكن أهل العلم يراقبون الله تبارك وتعالى ويتحرون مواضع أقدامهم قبل أن ينقلوها، فمن أين يأتيهم الشر؟ ولهم الشرف أيضاً، كما قال القائل لولده وهو يعظه، قال: (يا بني! من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم، ومن أرادهما معاً فعليه بالعلم).
كذلك الإمام البخاري رحمه الله كان أبوه من كبار التجار، ترك لابنه يوم مات ألف ألف درهم -أي: مليون- فلما حضرته الوفاة قال لابنه: (يا بني! أنا لا أعلم درهماً فيه شبهة في هذا المال) فماله ليس حراماً، بل بينه وبين الحرام مفاوز.
فاستطاع مثل هذا الرجل الصالح أن يتجنب الحرام، والأصل أنك لا تستطيع أن تتجنب الحرام، إلا إذا عرفت الحرام، كما قال القائل: عرفتُ الشر لا للشر ولكن لتوقيه ومن لا يعرف الخير من الشر يقع فيه فكيف عرف الحرام؟ لأنه كان مخالطاً لأهل العلم.
ولهذا ابنه الإمام البخاري لما أراد أن يذكر له منقبة، وكل واحد عندما يذكر أباه يأتي له بأفضل شيء، فيقول مثلاً: كان رجلاً صواماً قواماً، أو كان يمشي على الماء، أو كان يطير في الهواء، أو أي شيء من هذا مما يراه مدحاً، فالإمام البخاري لما أراد أن يذكر منقبة لوالده ذكر أفضل شيءٍ يعلمه عن والده، فقال: (وسلم على فلان بكلتا يديه) هذه هي المنقبة الجميلة، أنه صافح أحد العلماء بكلتا يديه، ووجه الفخر في هذا أن يده مست يد هذا العالم الجليل ولعله عبد الله بن المبارك.
فهذا الرجل الصالح لما خالط أهل العلم كان دائم
السؤال
أأفعل هذا؟ أهذا فيه شبهة؟ أهذا فيه حرام؟ فيفتوه، فاستقامت له دنياه بمصاحبة أهل العلم، بخلاف الآخر الذي ليس عنده شيء من العلم إنما يريد أن يزيد رصيده، وسنضرب الأمثال على سوء هذا النمط الثاني، وأن صورته مظلمة، وأنه لا يخرج أبداً بحمد.(56/16)
فضل العلم
إذاً: العلم زَين صاحبه، فالعالِم لا يضره أن يكون فقيراً، والغني الجاهل يضره ماله، لأنه لا يدري: أهذا الذي أنفق فيه المال مشروعٌ أو غير مشروع، ويمكنه أن يمسك المال فيغضب الله تبارك وتعالى، كما فعل رجلٌ جاهل خُلوٌ من العلم، لما هبت ريح عاصف، والناس جأروا إلى الله، قالوا: (لئن أنجيتنا لنصدقن)، وهذا النوع من النذر المشروط فيه سوء أدب مع الله، أن تقول: إن الله تبارك وتعالى شفاني أو عافاني أو رزقني أو سهل لي مهمتي سأتصدق، فإذا لم يفعل فماذا تفعل؟ سيقول: لا أتصدق، والله تبارك وتعالى لا يعامَل هذه المعاملة أبداً؛ لذلك كان هذا النذر المشروط فيه سوء أدب مع الله عز وجل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن النذر لا يقدم شيئاً ولا يؤخره؛ لكن يستخرج به من البخيل) فالنذر لا يقدم شيئاً.
وإذا أردت أن تنذر فانذر نذراً مطلقاً، قل: لله علي كذا، سواءٌ جاءت أو لم تجيء، هذا هو الأدب.
لكن مع ذلك النذر المشروط مع سوء الأدب يلغي هذا النذر.
ويلزم الناذر أن يوفِّي بنذره؛ ولكن شتان بين رجلٍ يوفي بنذره وقد أساء الأدب مع ربه، وبين رجلٍ آخر يوفِّي بنذره وهو متأدب مع الله تبارك وتعالى، فلذلك يجب أن ننتبه لمسألة النذر.
فهذا الرجل عندما هبت ريح عاصف على السفينة، وكل واحد قال: (لئن أنجانا الله لنصدقن)، وأنجاهم الله تبارك وتعالى، وكل واحد أخرج ما تيسر، إلا رجلٌ واحدٌ جاهلٌ، قال: رب! ليس عندي ما أتصدق به، ولكن امرأتي طالقٌ لوجهك ثلاثاً، ولا يجوز أن يُتَقَرَّب إلى الله بمثل ذلك؛ لكنه جاهل، والجاهل عدوٌ نفسه، والجهل معرَّة؛ لذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من ليس من أهله، وكفى بالجهل عاراً أن يتبرأ منه من هو فيه).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
الرجل الأول: الذي آتاه الله علماً ومالاً، والرجل الثالث الذي آتاه الله مالاً، استحضِرْ موقف هذين الرجلين مع الخصلة الأولى والثالثة التي شرحناها الآن: (ما نقص مالٌ من صدقة): لا يعرف هذه الحقيقة إلا العالِم؛ لأن الجاهل كيف يعرف؟! (وما صبر عبدٌ على مظلمةٌ إلا زادهُ الله بها عزاً): لا يعرفها إلا العالِم.
(ولا فتح عبدٌ باب مسألةٌ إلا فتح الله عليه باب ذل): هذا أيضاً لا يعرفه إلا العالِم.
ونقيض هذه الأشياء تراها في الجهلة الذين ليس عندهم علم.
لذلك كان شرف الأول والثاني: العلم، وكانا بأفضل المنازل: (رجل آتاه الله علماً ومالاً).
والرجل الثاني: (آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً).
فهذان بأفضل المنازل.
وإفراد العلم بالرجل الثاني هو الذي جعلنا نقطع أن العلم هو الذي شرف الأول.
والرجل الثالث: (آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً) قال الرسول -عليه الصلاة والسلام-: (فهو يخبط) خبط عشواء، خالٍ من العلم.
الرجل الرابع: لا هذا ولا ذاك، لكن أسوته كانت الرجل الثالث، الشرير، الخُلْوُّ من العلم، قال عليه الصلاة والسلام في الرجل الغني الجاهل: (فهذا بأسوأ المنازل، أو بأخبث المنازل) وقال في الثاني: (فهما في الوزر سواء).(56/17)
نعمة العلم بلا مال
قال عليه الصلاة والسلام: (ورجلٌ آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً، يقول: لو أن لي كفلان لفعلت فعله فهو ونيته).
وقوله: (فهو ونيته) يفهم منه أن هذا العبد عاجز عن تحقيق الفعل، فلم يملك إلا النية، كقوله عليه الصلاة والسلام: (من لم يغزُ ولم يحدث نفسه بالغزو)، وهذه هي النية هنا.
قال عليه الصلاة والسلام: (فهما في الأجر سواء)، كلمة (سواء) هي بدلالة أحاديث أخر لا تقتضي التسوية من كل وجه؛ بل من بعض الوجوه.
فإنك لو قلت مثلاً: محمد والأسد سواء، لا تقصد التسوية بينهما في كل شيء بل تقصد التسوية في خصلة واحدة إما الشجاعة وإما عدم الرحمة إلخ، فكلمة (سواء) ليس المقصود بها أن يُشبه بهذا الحيوان في كل شيء، وهكذا في الحديث؛ لأن مَن تعدى خيره بخصلتين، أفضل ممن تعدى خيره بخصلة واحدة، فرجل آتاه الله علماً ومالاً؛ لا شك أنه أفضل ممن آتاه الله المال فقط؛ لأن هذا الرجل مع تعليمه الناس يفرج الكربات، فهذا أفضل من الذي يعلم الناس فقط.
فالرجل الأول: خيره تعدى بخصلتين.
والثاني: خيره تعدى بخصلةٍ واحدة وهي العلم.
أضف إلى ذلك: أن العلم قد ينتفع المرء به وحده، أما المال فينتفع المرء به وينفع غيره.
هذا وجه.
الوجه الثاني: أن يكون معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (هما في الأجر سواء) أي: وإن لم يكن الثاني كالأول؛ لكن يكمل الله له الأجر بنيته، فصار الثاني مساوياً للأول تكرماً من الله عليه، فيكونان في الأجر سواء من هذه الحيثية.(56/18)
وجود المال مع فقد العلم
الرجل الثالث: (رجل آتاه الله مالاً، ولم يؤته علماً، فهذا بأخبث المنازل) كقارون لما وعظوه، وقالوا له: اتق الله ولا يجوز لك أن تنفق المال في هذا، ارعَ حق الله تبارك وتعالى إلى آخر الوصايا الغالية التي قالها له قومه: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77].
ولأنه (جاهل غني) رد عليهم، وقال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] أي: إني أنا كنت عارفاً أنني سأكون غنياً؛ لأنني حسبتها حساباً صحيحاً، القرش عندي يأتي بعشرة، أو ((قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} أي: لولا أني أستحق الخير ما أعطاني الله، ولو كنت رجلاً سيئاً لحرمني، فأنا لا أستحق هذا إلا لأنني مقربٌ عند الله، وهذا الجواب ينمُّ عن جهلٍ فاضح.
فقارون خرج على قومه في زينته، قال تبارك وتعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص:79] فهؤلاء ليس معهم شيء؛ لكنهم قعدوا يتمنون، هذا هو الصنف الرابع، لا معه مال ولا علم، ويقول هؤلاء الذين حالهم كحال الذي يخبط خبط عشواء ويركب الظلماء {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79]، هذا الرجل الذي يقولون: إنه لذو حظ عظيم، لما خسف ربنا سبحانه وتعالى بقارون وداره الأرض قالوا: {لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} [القصص:82]، مع أنهم كانوا يتمنون أن يكونوا كقارون.(56/19)
حال الإنسان الخالي من العلم والمال
يوجد صنف من الناس قال الله تبارك وتعالى فيهم: {فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:88] لا يأتي طواعية، بل هو مثل المسمار، لا يدخل في الخشب إلا إذا ضُرِب على رأسه، وهؤلاء هم الصنف الأخير، لا يثبت على مبدأ، وليس عنده مبدأ، بل مبدؤه هو هواه، وما أُشْرِب من هواه، ويتقلب على حسب المصالح، فاليوم إذا كان المدح يأتي له بنتيجة يمدح، وغداً إذا كان الشتم يأتي له بنتيجة يشتم.(56/20)
فائدة صحبة العلماء
المسلم إما أن يكون غنياً أو فقيراً، فإذا كنت غنياً من أصحاب الدرجة الثالثة فاقفز إلى الدرجة الأولى، وإذا قلت: أنا رجل ما عندي همة لطلب العلم، ولكل مقامٍ مقال، وأنا عقلي لا يستوعب هذا العلم.
فماذا أفعل؟! فأقول لك: كن عالماً أو متعلماً، ولا تكن الثالثة فتهلك، فإما أن تكون عالماً أو متعلماً؛ لأن بعد هذين الاثنين لا يوجد غير الجهل.
وإذا لم تكن متعلماً، فلا أقل من أن تصحب أهل العلم، كما ذكرنا عن والد الإمام البخاري رحمه الله، عندما قال لابنه: (ما أعلم درهماً من هذا المال فيه شبهة)، فهو ما استطاع أن يتجنب الشبهات فضلاً عن المحرمات، إلا لأنه صاحب أهل العلم، فكان كلما يأتي له نوع من أنواع المبايعات يسأل أهل العلم: أهذا حرام أم لا؟ فيقال له: لا؛ ليس حراماً؛ لكن فيه شبهة، فيترك الصفقة كلها، وإذا كان حراماً يتركها قولاً واحداً.
فأنت تسعد بصحبة أهل العلم.
ولذلك قال بعض طلاب العلم بعد أن سأله رجل: أوصني.
قال له: حيثما كنت فكن بقرب فقيه.
ثم قال له: أفلا أدلك لِمَ أنا أوصيك هذه الوصية؟ قال له: كنتُ رجلاً مجوسياً، فأسلمت، فأتيت الأوزاعي وهو من طبقة الإمام مالك وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة، وكان إمام أهل الشام، كان مالك رحمه الله يقول: أهل الشام بخيرٍ ما بقي فيهم الأوزاعي وسفيان الثوري، كان إماماً فحلاً جبلاً، لما ذهب الأوزاعي ليحج أمسك سفيان الثوري بلجام ناقة الأوزاعي يقودها في الازدحام، ويقول: أفسحوا لناقة الشيخ، فكان جليلاً، جاء رجل إلى سفيان الثوري وقال: إني رأيت في منامي أن ريحانةً قلعت من ديار الشام، فقال: ويحك إن صَدَقَت رؤياك فقد مات الأوزاعي، فجاء نعيٌ الأوزاعي في مساء نفس اليوم.
هذه شذرات عن الأوزاعي، ومن سوء حظنا أننا لا نعرف هؤلاء، ونعرف من لا يساوون قلامة ظفر الأوزاعي - قال هذا: كنت رجلاً مجوسياً فأسلمت فلازمتُ الأوزاعي رحمه الله، فقال لي: من أي البلاد أنت؟ قلت: من بلد كذا.
قال: ألك والد؟ قلت: نعم تركتُه مجوسياً.
قال: ارجع إليه فلعل الله أن يهديه بك.
قال: فرجعتُ فوجدتُه في النزع الأخير.
فجعل يرغبه في الجنة ويرغبه في الإسلام.
قال: يا بني اعرض علي دينك.
فعرض دينه، فاستحسنه، فأسلم، ومات.
فلولا أن الأوزاعي أمره أن يرجع إلى والده لمات والده على المجوسية والله أعلم.
فانظر إلى وصية العلماء، خيرٌ مُتَعَدٍّ مباشرة، لا سيما أنه لا يسألك أجراً، والإنسان دائماً عندما يُسأل -وبالذات المال- يحس بثقل.
الله يغضب إن تركت سؤاله وبُنَيَّ آدمَ حين يسألُ يغضبُ وعندما يقول لك شخص دائماًَ: هات، هات، هات، أول ما تراه يكلح وجهك؛ لأنك عارف أنه سيقول: هات.
فأنت آمن (100 %) من هذه الجهة وأنت بقرب العلماء؛ لأن العالم يكون له الفضل عليك دائماً؛ لأنه لا يسألك شيئاً وأنت تسأله، فالفضل دائماً لليد العليا.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله أجمعين.(56/21)
أصحاب الصنف الرابع أكثر الناس تقلباً
فأصحاب الدنيا هم الصنف الرابع، حيثما وجدوا مصلحتهم يذهبون، لذلك تجد الواحد منهم على استعداد بأن يغير موقفه مع تَغَيُّر المصلحة.
قالوا: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص:79]، ولما خسف الله بقارون الأرض قالوا: الحمد لله أننا لم نكن كقارون: {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} [القصص:82] وكأن المسألة عندهم شك فيها، أي: ليس أكيد أن الله ربنا سبحانه وتعالى يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر، لا.
بل كأن الله، والذي يقول: (كأن) يكون غير متأكد من الموضوع، مثل بلقيس {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} [النمل:41] فلما دخلت: {قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} [النمل:42]، أي: أنه يشبهه؛ لكنها ليست متأكدة، أهذا هو العرش حقاً أم لا؟ بل {قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} [النمل:42].
وهم طبعاً لأنهم عوام -والعامي مشتق من العماء، ليس عنده تصور عن أي شيء- قالوا: كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر، كأنه لا يفلح الكافرون، أي: أنه ليس متأكداً أن الظالم نهايته سيئة؛ لأنه من العوام.(56/22)
المفاضلة بين العالم الغني والعالم الفقير
فلذلك المسلم العاقل الذي يعرف أن الآخرة خيرٌ وأبقى يجتهد على أن يكون من الصنف الأول أو الثاني فقط.
فإما أن يكون رجلاً غنياً فيجتهد في أن يكون دائماًَ من الصنف الأول بأن يتعلم، ولا يرضى لنفسه بأن يكون بأخبث المنازل، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.
وإما أن يكون رجلاً عنده علم لكنه فقير، فلا يتحسر على نفسه لأنه الثاني مباشرة في الترتيب، ثم هو وصاحب الدرجة الأولى سواء، بل هو في ذات نفسه أفضل من الأول، فالأول أنفع للناس، والثاني أنفع لنفسه.
فالغني يتأخر؛ لأن هناك حسابات، فلو كان هناك عالم غني وعالِِم فقير، الذي يدخل الجنة أولاً هو الفقير.
فإذاً: الفقير نفع نفسه وأما الغني فنفع غيره؛ لذلك كان الأول أفضل بالنسبة لله، والثاني كان أفضل بالنسبة لنفسه.
ولذلك قال الله تبارك وتعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271]، وهناك فرق بين من يتصدق علانيةً ومن يتصدق في السر.
الذي يتصدق في السر، الخير عائد عليه هو؛ لأنه حفظ نفسه من الرياء، لذلك قال ربنا سبحانه وتعالى: {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] وليس لهم؛ لأن (لهم) فالأول أحسن.
وفي المقابل قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة:271]، أي: نعم ما فعلتم؛ لأنه قد يغار شخص فيقول: وهل فلان أحسن مني؟ لماذا يتصدق وأنا لا أتصدق؟ فيتصدق.
فيكون هذا أصلح للفقراء؟ لذلك كان الذي يظهر الصدقة خيره يتعدى؛ لذلك قال الله: نعم ما فعل.
لكن الثاني الذي تصدق في السر، ضمن إخلاصه وحصَّن نفسه من الرياء، فكان خيراً له مثل الفقير.(56/23)
من أخبار الشعراء المتقلبين حسب المصالح
هذا مثل الشعراء، فمثلاً: المتنبي يعد مِن أشعر الشعراء، إذا قرأت شعرَه أحسست بجزالة ورشاقة، وشعره جميل جداً، ومع ذلك كان شاعراً مثل الشعراء الذين قال الله فيهم: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء:224 - 225]، والكلام أسهل شيء على الإنسان، فهذا أبو العلاء المعري يقول: إني وإن كنتُ الأخير زمانه لآت بما لم تستطعه الأوائل فقيل له: فهاتِ لنا حرفاً زائداً عن حروف الهجاء، هي ثمانية وعشرون حرفاً.
فعجز؛ لأنه مجرد كلام، وأسهل شيء الكلام.
فهذا المتنبي لما جاء مصر ودخل على كافور الإخشيدي حاكم مصر أخذ يمدح فيه وكاد أن يوصله إلى درجة الألوهية.
فلما انصرف عنه وذهب إلى أمير آخر وصفه بأوصاف قذرة جداً جداً، حتى وصفه بأنه لا يستطيع مباضعة النساء.
فهذا الكلام بحسب المصلحة، إذا كانت مصلحته يميناً ذهب يميناً أو يساراً ذهب يساراً، بل ربما يقتل نفسه إذا كانت مصلحته في ذلك، كما فعل أبو دلامة الشاعر: كان المهدي وعلي بن سليمان رئيس وزراء المهدي، يصطادان، وأبو دلامة كان شكله قبيحاً، وكان كل شعرٍ يقوله يأخذ عليه نقوداً، ومرةً خرج أبو دلامة مع المهدي وعلي بن سليمان في رحلة صيد، فرمى المهدي ظبياً، ومرَّ كلب فأصابه سهم علي بن سليمان.
فقال المهدي لـ أبي دلامة: قل لنا شعراً في هذ! الموضوع.
فقال: قد رمى المهدي ضبياً شك بالسهم فؤادَه وعلي بن سليمان رمى كلباً فصاده فهنيئاً لهما كلُّ امرئ يأكل زاده فأعطى له المهدي ثلاثين ألف درهم، كل بيت بعشرة آلاف درهم.
فعندما كانوا جميعاً -هؤلاء الثلاثة- قال له المهدي: يا أبا دلامة اهجُ أحدَنا.
فهل عنده جرأة ليهجو المهدي، أو يهجو رئيس الوزراء؟! إذا فعل سيقع في مصيبة.
فوجد أن أخف الضررين أن يهجو نفسه، فقد قال له: لا بد أن تهجو أحدنا، أحد الثلاثة.
فقال: ألا أبلغ لديك أبا دلامة فليس من الكرام ولا كرامة إذا لبس العمامة كان قرداً وخنزيراً إذا وضع العمامة فأعطاه عشرة آلاف درهم.
ومرةً مرَّ جماعةٌ من الشعراء، وكان لهم لبس معين عندما يكونون ذاهبين إلى الخليفة في عيد لأجل أن يمدحوه.
فرآهم واحد من الذين يحبون الأكل، فقال: هؤلاء ذاهبون إلى وليمة، فتبعهم ودخل، فلما دخل، جاء فدخل أمير المؤمنين، وبدءوا من اليمين، فأخرج الأول عريضة وأخذ يقول شعراً، والطفيلي هذا في الأخير، فأحس بالورطة التي وقع فيها؛ لأنه جاء ليأكل، وكان يظنها وليمة، وإذا بها ورطة أمام الخليفة، فكل منهم قال شعراً حتى وصل الدور إلى الطفيلي.
فقال الخليفة: ماذا يا فلان؟ أنشدنا من أبياتك.
فقال: ليس عندي شيء.
فقال: إذاً: ما الذي أدخلك؟ وكيف جئت؟ النقع والسيف! -النقع هو الجلد-.
فقال: مهلاً يا أمير المؤمنين! ألم يقل الله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:224]؟ فأنا غاوٍ! كنتُ ماشياً وراءهم.(56/24)
الاستسلام لله
إن الله خلق الخلق بقدرته، وقدر أقدار الخلائق قبل خلقها، وعلى الإنسان أن يسلم لقضاء الله تعالى وقدره، وذلك بأن يعمل بما أمره الله، وينتهي عما نهى الله عنه، ثم يسلم لما حكم الله به وقدره عليه.
والذي ينظر إلى القرآن الكريم والسنة المطهرة، يلحظ طرفاًَ من حكمة الله تعالى في القضاء والقدر، مما يدفعه إلى التسليم والخضوع لله.(57/1)
من أحكام اللقطة
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال الله عز وجل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ * وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص:7 - 9].
أيها المسترشد! لا تنظر تحت قدميك، فإن تحت قدميك سوءَ الحال؛ ولكن بالصبر واليقين.
وإذا نظرتَ أمامَك سوف ترى بعينيك جميلَ المآل، فالإنسان في حياته يمر بهذين الطورين ولا بد، ولو معكوساً، إما أن يمر بسوء الحال ثم يجني حسن المآل، وإما العكس، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يجمع الله على عبدٍ أمنين ولا خوفين، إن أمَّنه في الدنيا أخافه في الآخرة، وإن أخافه في الدنيا أمَّنه في الآخرة).
ولو نظرت إلى سيرة الأفاضل الأماثل بدءاً من الرسل، لرأيت أنهم يمرون في حياتهم بسوء الحال، لكن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كذلك نحن معاشر الأنبياء نُبتلى، ثم تكون العاقبة لنا): (نُبتلى): هذا سوء الحال.
(ثم تكون العاقبة لنا): وهذا جميل المآل، أي: ما يئول إليه الأمر.
وقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ} [القصص:8] يوجد باب في الفقه اسمه باب اللُّقَطَة، أي: مَن وجد شيئاً على الأرض، ليس مِلْكاً له فالتقطه، فلا يظن أنه صار ملكاً له، بل هذا الشيء له أحكام.
سُئِل النبي صلى الله عليه وسلم عن لُقَطة الغنم، ماذا نفعل فيه؟ قال: (هي لك أو لأخيك أو للذئب) أي: إما أن تأخذها، وإما أن يأخذها أخوك؛ صاحبها، وإما أن يأكلها الذئب، فيكون هذا فيه حظ لك أن تأخذها؛ لأن أخاك الذي هي ملكه تاهت عنه، فما بقي إلا أنت أو الذئب، والأصل: إصلاح المال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال، فلو تَرَكْت خروفاً لذئبٍ افترسه فخذه أنت.
وسُئل عن ضالة الإبل فغضب، وقال: (معها حذاؤها وسقاؤها) أي: ما لك وما لها، كأنما قال له: خذ ضالة الغنم ولا تأخذ ضالة الإبل.
لماذا؟ لأن الجمل معه حذاؤه -خُفُّه- وهو سريع، يستطيع أن يفر من الذئب والسبع، ثم هو صبور معه سقاؤه، يمكنه أن يظل يومين أو ثلاثة أو أربعة أو عشرة أيام بغير ماء، ثم يعثر عليه صاحبه.
إذاً: نفهم من هذا أن أموال الناس الأصل فيها العصمة والحرمة، إذ لو تساوت ضالة الإبل مع الغنم لسوى بينهما في الحكم؛ لكن لما افترقت الضالتان من حيث القدرة على الامتناع فكأنما قال لك في ضالة الإبل: اتركها لعل صاحبها أن يجدها؛ ولكن لما كان الغالب على ضالة الغنم أن يفترسها الذئب فحفاظاً على المال قال: (خذه).
ثم لا يحل لك ما أخذته مما ليس من مالك إلا بعد أن تعرِّفه سنة، فمثلاً: وجدت ضالة الغنم، عليك أن تعرفها سنة بأي وسيلةٍ من وسائل التعريف التي يحصل بها الإعلان، وليس كما يفعل بعض الناس يكذب وهو لم يعرفه إلا ساعة في العمارة التي وجده عندها، يقول: أضاع الجدي، وأين صاحب الجدي؟! ولماذا سيصعد العمارة؟! فإنه لا يكون إعلاناً إلا إذا تم المراد منه، فهو إما أن يستأجر سيارة، أو ينشر لافتات في الميادين العامة التي تعتبر مظنة ورود أكبر عدد من الناس، أو يلصق على أبواب المساجد من الخارج، أيضاًَ هذا مظنة وجود أكبر عدد من الناس.
ثم إذا جاء الرجل يدَّعي أن له حقاً؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (اعرف عفاصها ووكاءها) العفاص: أنت تعرف أنك عندما يكون معك محفظة، فشكل المحفظة الخارجي اسمه العفاص.
والوكاء: مثل الخيط الذي يُشَد به فم القربة، هذا هو الوكاء.
فإذا جاء رجلٌ يدعي أن له حقاً، قل له: صفه لي؟ فإذا أتى بالأوصاف على وجهها، أعطيته، وإذا ضل في الوصف فلا تعطه.
وإنما شدد النبي صلى الله عليه وسلم علينا في الضالة واللقطة؛ لأن النفس تفرح إذا جاءها الرزق بغير جهد، وكم من إنسان وقع في أزمةٍ مالية، وهو يحلم أن يكون لديه محفظة، أو يجد مثلاً مبلغاً من الفلوس هكذا في الشارع؛ لأن النفس إذا جاءها الرزق بغير جهدٍ فإنها تسعد وتفرح.(57/2)
من أسرار القدر وحكمة الله فيه(57/3)
فرح فرعون بما هو سبب لزواله
نفهم من قوله تبارك وتعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} [القصص:8] مدى الفرحة الطاغية التي أصيب بها آل فرعون لما وجدوا الصندوق، فالتقطوه، فكانت فرحتهم بهذا الصندوق كفرحة المفلس إذا وجد مالاً في الطريق.
{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاًً وَحَزَناً} [القصص:8] وفي القراءة الأخرى المتواترة: {لِيَكُوْنَ لَهُمْ عَدُوَّاً وَحُزْنَاً} [القصص:8].
السؤال
هل آل فرعون التقطوا موسى ليكون لهم عدواً وحزناً؟ لا.
إنما (اللام) في قوله تعالى: {لِيَكُونَ لَهُمْ} [القصص:8] (لام المآل) و (لام الصيرورة)، أي: أنه يصير لهم في نهاية الأمر كذلك؛ لكنهم يوم التقطوه إنما التقطوه ليكون قرةَ عين: {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ} [القصص:9].
فلو أردنا أن نرتب الآيات بحسب المعاني كان الأمر كذلك: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم قرة عين وهم لا يشعرون أنه يكون لهم عدواً وحزناً.
كما لو قلت: تزوج فلانٌ ليشقى.
وهل تزوج ليشقى؟ إنما تزوج ليسعد، فبنى بامرأة سوءٍ أشقته.
أو مثلاً كقول الشاعر: لِدُوا للموت وابْنُوا للخراب لِدُوا للموت؟! فهل الأم التي تعاني آلام الحمل، وآلام المخاض، وآلام الرضاع، وآلام التربية، لو وقر في صدرها أن ابنها يموت عندما ينزل من بطنها ما حملت، إنما حملت وشقيت لتنتظر حياة الولد، ولو كانت تعلم يقيناً أنه يموت عندما ينزل من بطنها ما حملت.
فاللام (لام المآل)، أي: ما يئول إليه الحال.
وهكذا: اعلم أن أهلك سيدورن في هذا الفلك، فينبغي أن تُسَلِّم لله عز وجل فيما قضى واختار لك: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68].
انظر إلى الترفع في الآية: (ما كان لهم الخيرة) لأنهم لا يعلمون شيئاً، كم من والدٍ تمنى الولد، فلما رزق الولد وعَقَّه تمنى موته، ولو كان يعلم أن أمره يئول إلى ذلك ما ربَّى ولا تعب ولا أنفق.(57/4)
طفل رضيع أنطقه الله بما لا تعلم أمه
رب إنسان تمنى تَلَفَه وهو لا يدري: إن طفلاً رضيعاً بصَّره الله عز وجل فعلَّمنا الحال والمآل، كما روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (لم يتلكم في المهد إلا ثلاثة: عيسى، وصاحب جريج -وساق قصة جريج - ثم قال عليه الصلاة والسلام: وبينما امرأةٌ تُرْضِع ولدها إذ مر رجلٌ على دابة فارهة وله شارةٌ حسنة)، (دابة فارهة): قوية، نشبهها الآن بأفخم السيارات، وشارة حسنة: -أُبَّهة وعز، رجلٌ في موكب، وابنها يرضع، فعلى عادة الآباء والأمهات يتمنون لأولادهم أفضل مما هم فيه، كل والد يتمنى لابنه أفضل مما هو فيه، وكذلك الأم- فقالت الأم -التي تنظر بنظرة أهل الدنيا- (فقالت: اللهم اجعل ابني مثله، فترك الولد الرضيع ثدي أمه، وقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على ثدي أمه يمصه، قال: أبو هريرة: ولَكَأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وضع إصبعه في فمه يمصها) وهو يقلد فعل الولد، وهذا فن من فنون الدعوة؛ أن يكون عندك القدرة أن تستحضرَ المشهد وتُجَسدَه للمستمع، حتى ولو عن طريق السؤال والجواب، أو سرد حكاية كنوع من ضرب المثل، المهم أن تتفنن في إيصال المعلومة، وكان هذا دأباً للنبي عليه الصلاة والسلام وهو سيد الدعاة إلى الله عز وجل.
ومن بعض ما ذَكَرَ لنا تعلمنا أنه مَرَّ هو وأصحابه على جدي أسَكٍ ميت: فوقف وقال لأصحابه: (أيكم يشتري هذا بدرهم؟ قالوا: يا رسول الله! والله لو كان حياً ما اشتريناه -لأنه أسَك مقطوع الأذنين- فقال: أترون هذه هينةً على أهلها؟ -يعني الجيفة- قالوا: أجل، قال: والله للدنيا أهون عند الله من هذا على أهله).
فلما سأل وقال: (أيكم يشتري هذا بدرهم؟) كان يعلمُ سلفاً أنه لا أحد يشتريه، إنما يريد أن يستحضر حقارة الدنيا؛ ويقيم الحجة عليهم بألسنتهم، فقد قالوا: (والله لو كان حياً ما اشتريناه) أي: نحن زاهدون فيه حياً وميتاً، فيكون الجواب بعد ذلك: فلِمَ تقتلُ أخاك على الدنيا إذا كانت بهذه الحقارة؟ نور الاستحضار للمشهد! ولذلك ضرب الله الأمثال في القرآن لنا: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21].
اربط ما بين المثل وما بين الواقع.
فالنبي عليه الصلاة والسلام أقبل على إصبعه يمصها، مع أن الصحابة يعلمون كيف يمص الصبي ثدي أمه؛ لكنها مبالغة واستحضار للمشهد، كما قرأ صلى الله عليه وسلم قوله تبارك وتعالى لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، فجعل يشير إلى عينه وأذنه، تأكيداً للمعنى، وليس تفهيماً بطبيعة الحال.
قال: (ثم مروا بفتاةٍ يضربونها ويقولون لها: زنيتِ، سرقتِ، وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل، فقالت: الأم: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فترك ثدي أمه، وقال: اللهم اجعلني مثلها.
قالت له: حلقاء!) دعت عليه، (حلقاء) أي: أُصِبْتَ بوجعٍ في حلقك، يعني: لماذا تخالفني؟ وما هذا الذي تقول؟ (فقال لها: فأما الرجل الذي يركب دابةً فارهةً، وله شارة حسنة، فإنه جبار من الجبابرة؛ وأما التي يقولون لها: زنيتِ؛ ولم تزنِ، سرقتِ؛ ولم تسرق، فإنها مظلومة).
مَن الذي علم هذا الولد الرضيع هذا السر الذي خفي على أمه: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40]، أن تبصرَ بالحال والمآل وتستقيمَ، هذا لا يبصرك به إلا الله.(57/5)
التسليم لقضاء الله وقدره
لا بد عليك أن ترضى بالقضاء، هذا هو حلك الوحيد، ليس لك حلاً غيره، وأن تُسَلِّم لله عز وجل فيما اختار، ولا تعترض على ربك فيما فعل، فإن الله عز وجل لا يفعل الفعل إلا لحكمة جلت عن أفهام العباد.
وصدق إبراهيم الحربي رحمه الله حين قال: من لم يؤمن بالقدر لم يتهنَّ بعيشه.
أي: فهو ساخط وكاره بصفة متسمرة.
ذكر يحيى بن عاصم الغرناطي في كتاب (جنة الرضا في التسليم لما قدر الله وقضى) عن بعض الكتب الإسرائيلية: أن نبياً من أنبياء بني إسرائيل كان يجلس على قمة جبل، فرأى فارساً وبيده صُرة مال، وأتى على بئرٍ فوضع الصرة على حافة البئر ونزل فشرب، ثم نسي المال وانصرف، فجاء راعي غنم يسقي غنمه فوجد المال فالتقطه، وسقى الغنم وانصرف، ثم جاء رجلٌ شيخٌ كبير، فجاء البئر بعد انصراف الراعي فشرب وجلس، وتذكر الفارس مالَه فرجع، فوجد ذلك الرجلَ يجلس على حافة البئر، قال: أين المال؟ قال: ما أعرف شيئاً، قال: المال معك.
ولم يشك الفارس أنه التقط المال، فلما أنكر الرجلُ أخرج الفارسُ رمحاً وقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أيُقْتَل البريء ويفر الآخذ؟ فقال الله عز وجل له: إن لي حكمةً جَلَّت؛ أما هذا المال فكان مِلْكاً لوالد الراعي أعطاهُ والدَ الفارس، ولا يدري الراعي ولا الفارس، وأما هذا الذي قُتِل؛ فإنه قتل أبا الفارس، فسلطت ولي الدم عليه، فأخذ بثأر أبيه، فبَكى ذلك النبي وقال: لا أعود! مجرد
السؤال
يا رب ما هذا؟ إن لم تسلم بأن الله عز وجل فعال لما يريد، ولا يظلم مثقال ذرة، تسلل إليك الشيطان من هذا الباب.
والذين ضلوا في باب القضاء والقدر هم القدرية والجبرية، فِرَق فيها عباقرة، وفيها أناس من أذكياء العالم، لماذا ضلوا؟ لأنهم ولجوا هذا الباب، وهذا الباب بضاعته التسليم والرضا، وليست بضاعته العقل، ولذلك كان هناك فرق واضح بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبين الأجيال التي خلفت بعد ذلك.
ففي الصحيحين من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دَفَنَ جنازةً في بقيع الغرقد، وكان بيده مسطرة، فجعل ينقش بها في الأرض، فقال: ما من نفسٍ منفوسةٍ إلا وكتب مقعدها من الجنة ومقعدها من النار، فقال سراقة بن مالك: يا رسول الله! أهذا أمرٌ مضى وجفَّ به القلم أم مستأنَف؟ قال: بل جف القلم بما أنت لاق، وفي بعض الروايات قال سراقة: فلا أجدني أشد حرصاً مني على العمل مثل الآن) ولم يفهم هذا الفهم المعكوس الذي تسرب إلى جماهير المسلمين فسألوا السؤال المنكوس: إذا قدر الله عليَّ المعصيةَ فلِمَ يعذبني؟! وهذا اتهامٌ لله عز وجل، والصحابة لم يكونوا كذلك، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (بل جف القلم بما أنت لاقٍ) أي: انتهى وكُتِب عند الله عز وجل: أنك من أهل الشقاوة، أو من أهل السعادة.(57/6)
قصة الخضر وموسى عليهما السلام
إذاً: سَلِّم لربك، فله العلم المطلق، وهو الذي يعرف الخواتيم، ولا حيلة إلا إذا علَّمك الله، واعتبر بحديث موسى عليه السلام، فهو نبي من أولي العزم ومرسلٌ إليه، ومع ذلك اعترض على الخضر.
الخضر علمه الله هذه الآيات، وموسى أفضل من الخضر بالاتفاق، ومع ذلك غاب عن موسى ما لم يعلمه ربه، وكانت رحلة موسى إلى الخضر بسبب كلمة واحدة قالها موسى عليه السلام، فأراد الله عز وجل أن يؤدبه وأن يعلمه؛ ذلك أن موسى عليه السلام كما في الصحيحين: (خطب بني إسرائيل خطبةً ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، ورقت لها الجلود، فقال رجل من بني إسرائيل: يا نبي الله! أحدٌ في الأرض أعلم منك؟ قال له: لا.
فعَتَب الله عليه إذ لم يرجع العلم إليه) أي: لماذا لم يقل: الله أعلم (فقال الله له: إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى: أي ربِّ! كيف لي به؟ قال: خذ حوتاً) إلى آخر القصة المعروفة.
فالله عز وجل هو الذي علَّم الخضر هذه القضايا وحجبها عن موسى؛ ولذلك بادر موسى إلى الاعتراض بما عنده من العلم، فالغلام الذي قتله الخضر اعترض موسى عليه السلام، وقال له: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} [الكهف:74]، أي: فعلتَ شيئاً منكراً! لأن في شريعة الأنبياء أن مَن قتل نفساً يُقتل بها، فقتلَ {نَفْساً زَكِيَّةً} [الكهف:74] وفي القراءة الأخرى المتواترة: {زَاكِيَةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} [الكهف:74] بغير أن يرتكب الطفل جرماً فيُقتل بمقابل المقتول.
فأعلمه الخضر أن هذا الولد له أبوان مؤمنان شيخان كبيران، والله عز وجل خَلَقَه كافراً، وسيعيش كافراً، ويشب ويشيخ ويموت كافراً، فما ظنك بأبوين شيخين مؤمنين ضعيفين في بيتٍ فيه كافر متمرد! ماذا نفعل فيهما: {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانَاً وَكُفْراً} [الكهف:80].
من الذي يعلم هذه العواقب؟ الله عز وجل، ومَن علَّمه الله عز وجل.
وإذ قد انقطع الوحي بعد نبينا صلى الله عليه وسلم، فلا يبقى إلا التسليم المطلق لأحكام الله عز وجل والرضا بما يقدره على العبد.
ومن أصول الإيمان: الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره، حلوه ومره.
أقول قولي هذا.
وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(57/7)
العمل بالأسباب والتسليم للقدر
يوم يقول سراقة بن مالك صاحب الفكر المستقيم والعقيدة المستقيمة: (لا أجدني أشد حرصاً مني على العمل مثل الآن) فعلم هذا الموفق: أن العبد منه السبب، والسبب يكون على وفْق ما أراد الله عز وجل، فلا تعارض بين السبب والقدر؛ لأن السبب جزءٌ من القدر.
لا تقل كما قال البعض: {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران:156] أبداً، لا تقل: لولا أنه خرج من بيته ما مات، كان لا بد أن يخرج ليموت؛ لأن خروجه جزءٌ من القدر، وليس القدر منفصلاً عن السبب: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى [الليل:5 - 6].
هكذا قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآيات بعد كلام سراقة: ((فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى)) يوجد ثَمَّ إعطاء من العبد، {أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل:5 - 6].
إذاً: أعطى، واتقى، وصدق، كل هذا كسبُ العبد وشغلُه: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:7]: هذا هو القَدَر.
إذاً: لا يمكن أن يُيَسر لليُسرى إلا إذا أعطى، واتقى، وصدق، فالذين يقولون: إنه كتب علينا النار وأدخلنا النار، وما لنا حيلة، أين هذا؟! هذا مضاد لكلام الله عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى * إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} [الليل:8 - 12].
إذاً: بيَّن لنا ربنا عز وجل أنه يوجد سبب ممدود منه، وهذا السبب يكون على وَفْق النهاية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة، حتى إذا كان بينه وبين الموت قيد ذراع -أو قيد شبرٍ- عَمِل بعمل أهل النار فدخل النار، وإن العبد ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار، حتى إذا كان بينه وبين الموت قيد ذراع -أو قال: قيد شبرٍ- عمل بعمل أهل الجنة فدخل الجنة).
فهذا أيضاً حال ومآل؛ لكنه معكوس لتتم حكمة الله عز وجل، {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الروم:19]، يعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة، وقَبْل أن يموت بشبرٍ يعمل بعمل أهل النار فيدخل النار، فيَتُوْه العباد، ويسألون: كيف ذلك؟ وأين ذهب هذا العمل في الزمن الطويل؟ أما نفعه هذا الزمن الطويل، ودخل النار في شبر.
هنا يُمْتَحَن الذين آمنوا، والذين رق دينهم هم الذين يعترضون على ربهم.
ورجلٌ يعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار، حتى إذا كان بينه وبين الموت قيد ذراعٍ أو قال: قيد شبر، -يعني: مسافة بسيطة وزمناً يسيراً- عمل بعمل أهل الجنة ودخل الجنة، فأين ذهب عنه السوء؟ فيقال له: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالخواتيم)، رجلٌ صلى صلاةً طويلة، قرأ فيها بالقرآن كله، وقبل أن يسلم أخرج ريحاً، فما حكم صلاته؟ باطلة! ورجلٌ صام في يومٍ طويلٍ شديد الحر، حتى إذا كان قبل المغرب أفطر، فما حال صيامه؟ باطل! وأين شقاء اليوم كله؟ ذهب هذا هو توضيح الحديث.
وهناك زيادةٌ وَرَدَت في صحيح مسلم تكشف هذا اللَّبس، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة فيما يظهر للناس).
إذاً: نفهم أن العمل الحسن لم يكن مخلصاً فيه، وكان يرائي الناسَ: (فيما يظهر للناس)، ولذلك خُتِم له بالشقاء؛ لأن الله عز وجل قال: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف:30] أي: أحسن عملاً بالإخلاص ومتابعة الرسول عليه الصلاة والسلام، هذا هو الإحسان في العمل، فإذا لم يخلص يُخْتَم له بذلك، وإن كان عند الناس محسناً.
وكذلك الذي عمل بعمل أهل النار مثل الرجل الذي قتل مائة نفسٍ وخرج إلى الأرض التي أرشده الراهب إليها ليتوب، فما خرج غير بعيدٍ حتى قُبِض، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله إلى الأرضَ من تحته، فأوحى لهذه أن تقرَّبي، وهذه أن تباعدي، فقاسوا المسافةَ ووجدوه أقرب إلى أرض المغفرة بشبرٍ واحد.
ماذا فعل؟ قتل مائة نفسٍ، وتوجه إلى أرضِ التوبة، هذا كل الذي فعل، هذا الشبر.(57/8)
فوائد الذكر
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناءُ الجميل.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
نبينا صلى الله عليه وسلم علَّمنا أن نلجأ إلى ربنا عز وجل ونحن في قمة العجز، وذكرنا أن نتلو هذه الكلمات يومياً عدة مرات.
كان يعلِّمنا فيقول: (إذا أوى أحدُكم إلى فراشه فليَنَمْ على شقه الأيمن، وليضع يده اليمنى تحت خده الأيمن، وليقل: اللهم ألجأت ظهري إليك، ووجهت وجهي إليك، رغبةً ورهبةً إليك، آمنتُ بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت.
قال صلى الله عليه وسلم: فإن مات من ليلته، مات على الفطرة).
الأذكار المفرقة: - أذكار الصباح.
- أذكار المساء.
- دخول الخلاء.
- الخروج من البيت.
- رؤية الرعد.
- رؤية البرق.
- رؤية المطر.
- رؤية المبتلى.
- رؤية الشمس.
- رؤية الريح.
- رؤية الماء.
- النظر في المرآة.
- إذا عطست.
- وأنت تمشي.
كل هذه لها أذكار، كل شيءٍ في الكون تنظر إليه بعينك له ذكر، فحيثما وجهتَ وجهك ذكرتَ، هذه وظيفة الأذكار، وفائدتها أنها سلاحك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم يعلمك: (اللهم ألجأت ظهري إليك) لما جاء قوم لوط يُهْرَعون إلى أضيافه، ماذا قال لوط؟ {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوّ َةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]، أي: لو أن هناك واحداً يحميه! فقال النبي صلى الله عليه وسلم معقباً: (يرحم الله لوطاً قد كان يأوي إلى ركن شديد).
فهذا هو الركن، وهو ربنا عز وجل، قد كان يأوي إلى ركنٍ شديد.(57/9)
الأذكار حصن للنائم سلاح لليقظان
وأنت مستيقظ تتكلم ذاكراً لربك، فلا يغلبك شيطانك أبداً، مع أنه أقوى منك جسدياً، وعنده مواهب وإمكانات أعطاه الله عز وجل إياها، ولم يعطِكها، ومع ذلك أنت أقوى منه بالله.
كذلك وأنت مستيقظ، إذا كنتَ تقول الأذكار لا يتمكن منك الشيطان.
فإذا نمتَ وكَلَّ وتوقف لسانك عن الذكر فكأنك ألقيت سلاحك، وعدوُّك شاهرٌ سلاحَه أبداً، لا يَمَل ولا يَكِل في طلبك وفي اصطيادك، ودَّ الشيطانُ وأعوانُه {لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ} [النساء:102] الأذكار! {فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً} [النساء:102].
وأنا مستقيظ لا يقدر علي، فإذا نمت، والنوم أخو الموت، وقد ألقيت سلاحي؟! سن لك النبي صلى الله عليه وسلم أن تذكر ربك قبل منامك فيتولى هو حفظُك؛ ولذلك جاء في الحديث: (ألجأتُ ظهري إليك)؛ فإن الإنسان لا يُغتال إلا مِن قِبَل ظهره؛ ولذلك طعنات الغدر لا تأتي إلا مِن قِبَل الظهر، لا تأتي مِن الوجه، تأتي غيلةً وخيانةً وغدراً، وأنا أحتاج إلى أن يُحْمَى هذا الظهر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألجأتُ ظهري إليك)، فأنت في حال المنام آمَنُ منك في حال اليقظة.
ولذلك قال بعض العلماء: إن الذي يُبْتَلى بالمس عادةً يُبْتَلى وهو نائمٌ، أغلب حالات المس التي يصاب الإنسان بها يُبْتَلى بها وهو نائم، كشخص مغفل يرمي سلاحه، وعدوه جاهز، ما المُتَصَوَّر؟ أن يغتاله عدوه، فأغلب حالات المس تصيب الإنسان وهو نائم.
فكل مرة تنام فيها تقول هذا الدعاء: (ألجأت ظهري إليك، ووجهت وجهي إليك)، (وجهت وجهي): الوجه هنا أو الجهة معناها: يا ربِّ ألجأت ظهري إليك، فاحمني من عدوي في حال حياتي؛ فإذا قضيتَ منامي فوجهي إليك، هذا معنى (وجهت وجهي إليك) وجهي إليك إذا متُّ؛ ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام في آخر الدعاء: (من مات في ليلته، مات على الفطرة)؛ لأن الشخص يقول: يا رب! وجهي إليك إذا مُت.
فهذا الذكر أنت مطالبٌ أن تقوله كل يومٌ، فإذا كنت تقوله كل يوم فمتى تغفل؟! فخلعت حولك وقوتك عندما قلت: (ألجأتُ ظهري إليك فاحمِني)، وخلعت حولك وقوتك وعلمت أنك راجعٌ إلى ربكَ رغم أنفك فقلت طواعيةً: (وجهتُ وجهي إليك).
فإذا أذن الله لك في عمرٍ باقٍ فاستيقظت في صباح غدٍ، فأول شيءٍ يلهج به لسانك ذكر من تحب: (الحمد لله، أصبحنا وأصبح الملك لله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله).
عندما يكون الإنسان بهذا العجز وهذا النقص، فعلمه ناقص، وقدرته ناقصة، وتفكيره ناقص، وقوته ناقصة، وكل صفاته ناقصة، فما باله يدعي كمال العلم، فيعترض على ربه في باب القضاء والقدر؟!(57/10)
التسليم لنصوص الشرع
آل فرعون التقطوا موسى ليكون لهم قرة عين؛ لكن الله عز وجل قدر أن يكون عدواً وحزناً، وهم لا يشعرون أنه يكون كذلك، إذ لو شعروا ما فعلوا.
وكذلك باب القضاء والقدر، كله يأتي غفلة.
ثم ذكر الله عز وجل العلة في هذه العقوبة، والعلماء يقولون: إن النصوص قسمان: - معقول المعنى.
- غير معقول المعنى.
كل النصوص إما أن تكون معقولة المعنى لك، تفهم الحكمة منها والحكمة من تشريعها، وتعرف لماذا أراد ربك لك ذلك، ولماذا فرض النبي صلى الله عليه وسلم عليك ذلك أو استحبه لك.
وهناك نوعٌ آخر لا تعلم الحكمة منه؛ إنما ابتلاك الله به ليرى أتسمع وتطيع أم لا! حركات الصلاة، والحج، والسعي، والطواف، كله توقيفي لم يظهر لنا وجه الحكمة من تشريعه: - تضع اليمنى على اليسرى في الصلاة؛ لماذا؟ لا ندري.
- ترفع يديك هكذا تجاه القبلة؛ لماذا؟ ليس عندنا علم.
- تضع جبهتك في الأرض بالطريقة الفلانية؛ في السجود مرتين، وفي الركوع مرة؟ لماذا؟ - ما الفرق بين التورك والافتراش؟ ولماذا التفريق بينهما؟ - ولِمَ الإقعاع بين السجدتين؟ ولماذا لا نقعي في غير ذلك؟ كل هذا نقول فيه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وهو صلى كما علمه جبريل، وجبريل صلى كما علمه الله عز وجل.
إذاً: هناك نصوص لا ندري لماذا شرعت، إلا التسليم والإذعان والانقياد.
ونصوصٌ أخرى فيها العلة.
الفرق بين النص الذي أتى بالعلة والذي لم يأتِ بالعلة: أن النص الذي فيه العلة يريح قلبك، وكل الآيات التي فيها عبر وعظات ذكر فيها العلة، حتى تعتبر، فإنه لو لم يذكر لك العلة لم توجد العبرة.
لماذا عاقب الله عز وجل فرعون بموسى؟ {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8]، هذه هي علة العقوبة، لأن هناك من الناس مَن يقول: أنا عبد المأمور، نقول: هذا التعبير غلط، كيف جعلتَ نفسك عبداً لعبد؛ ولكن إذا كنت لا بد قائلاً، وإذا كنت لا بد أن تستخدم هذه العبارة، فقل: أنا عبدٌ مأمور، ولا تقل: أنا عبد المأمور، فأنت والمأمور عبدان لله، إلا العبودية الخاصة أو العبودية العامة، عبدٌ رغم أنفه، حتى لو تمرد فإنه في النهاية عبد.
فلو قال لك قائل: اقتل هذا البريء وإلا قُتِلتَ، فلو قَتَلْتَه استحققت القتل، وهذا معنى قول الله عز وجل: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا} [القصص:8]؛ لأن قائلاً يقول: الجندي معذور، لأنه مأمور، فهذه الآية نصٌ في هذا الأمر، والعلماء لهم في هذه المسألة تفصيل، (الشيء الذي يعذر به والشيء الذي لا يعذر به).
فهذا إن شاء الله نقف عليه بعد ذلك.
أقول قولي هذا.
وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.(57/11)
الأمر بالمعروف
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل أصيل في دين الإسلام، وسبب من أسباب حفظ الأمة من العقاب العام، يجب على المسلمين أن يعرفوه بشروطه وآدابه، ويمتنع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا جر ذلك إلى مفاسد أشد مما هو موجود؛ فعلى المسلم أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيما علم، إذا كان مستطيعاً لذلك، قادراً على التمييز بين المصالح والمفاسد المترتبة على أمره ونهيه.(58/1)
المقصودون بقوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس)
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إن المتأمل في سيرة سلفنا رضوان الله تبارك وتعالى عليهم يستشعر معنى هذه الآية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:110].
((كنتم خير أمة أخرجت للناس)) هناك جماهير من المفسرين يقصرون هذه الآية على جيل الصحابة فقط؛ لأنهم هم الجيل الفريد الذي حل هذه الأرض، فلا يوجد جيل مثلهم، وفتشوا إن أردتم أو إن استطعتم عن جيل له هذه الخصائص والمميزات التي كانت لجيل الصحابة رضي الله عنهم.
انظروا إلى أصحاب أي نبي آخر، ثم انظروا إلى أصحاب نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وقارنوا؛ فلن تروا نسبة أبداً بين أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم وبين أصحاب غيره من إخوانه من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
لذلك مدحهم الله عز وجل، ومن مدحه الله فهو ممدوح على الحقيقة، بخلاف مدح بني آدم، فقد يمدح الرجل وهو منافق؛ لأنك لم تسلط على قلبه، ولا تعرف خباياه ولا حنايا صدره.
أما الله تبارك وتعالى فإذا مدح رجلاً فهو الممدوح على الحقيقة، وإذا ذم رجلاً فهو المذموم على الحقيقة، {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
فهو يصف هذا الجيل الفريد بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، و (الناس) هنا لفظ عام، يشمل الناس جميعاً، فيقال: كانوا خير أمة أخرجت من لدن آدم حتى قيام الساعة.
والناظر في تصرفات الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم يرى أنهم خير أمة فعلاً.
وأنا أسوق مثلاً واحداً، وقد أتبعه بمثال آخر أو أكثر على حسب الحاجة؛ لنتبين حال أولئك الأخيار.(58/2)
قصة الثلاثة الذين خلفوا ودلالتها على خيرية الصحابة وتميزهم
تخلف كعب بن مالك عن غزوة تبوك، وكعب هذا كان رجلاً أميراً في الجاهلية، فلما أسلم صار من عوام البشر، وعانى الفقر أيضاً برغم أنه كان أميراً لقد خرج من ماله ومن داره، وأرجو أن تتصور: خرج من ماله! على حد قول بني إسرائيل لبعض أنبيائهم {أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة:246]، والمتأمل يعلم أن كلمة (أبنائنا) معطوفة على (ديارنا) مكسورة، فكأنه أخرج من داره وأخرج من ولده، وكيف يخرج من ولده؟ أي: ينسلخ.
وهذا يبين عظم المصيبة التي يعانونها أُخرج من داره ومن ولده، كأنما اختطف ولده منه فأخرج منه، لقد كانا كالشيء الواحد فانفصما، فـ كعب بن مالك مثال لواحد من الصحابة الذين خرجوا من ديارهم وأموالمه، وقد تخلف عن غزوة تبوك، ولم يتخلف لكونه يستهين بالغزو، إنما تخلف لشيء عرض في نفسه، وظن أنه يدرك الغزو، ففشل في ذلك.
لقد كان له بستان أو حائط، وقد أجمع النبي صلى الله عليه وسلم على الغزو، فكان يذهب إلى البستان وينظر هل أينعت ثمرته فيقطفها قبل أن يغزو أم لا، فما زال يروح ويجيء، وكان قد جهز راحلتين قبل الغزو، وهذا مما يبين أنه جاد في أن يغزو، لكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه خرجوا إلى الغزو وهو يقول: غداً أقطف الثمر، فيذهب غداً فيقول: بعد غد حتى يطيب، ثم يقول: أنا قادر على اللحاق بهم إن أردت؛ لأن معه راحلة قوية، فما زال يمني نفسه أنه سيدركهم، حتى تفارط الغزو، وأيقن أنه لن يدركهم.
فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم تبوك، قال: (ما فعل كعب بن مالك؟)، فقال رجل: يا رسول الله! حبسه برداه والنظر في عطفيه -لأنه كان رجلاً أميراً، فإذا لبس شملة أو بردة تكبر فيها واختال ونظر إلى أكتافه من العجب- فقام معاذ بن جبل وقال له: بئس ما قلت! والله ما نعلم إلا خيراً.
فلما رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الغزو، جاء المعذرون من الأعراب يعتذرون، ويبدون أعذاراً واهية: إن بيوتنا عورة أنا ضعيف أنا رجل إذا رأيت نساء بني الأصفر افتتنت إلى غير ذلك من الأعذار الواهية، ويحلفون على ذلك، فقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم علانيتهم، ووكل سرائرهم إلى الله عز وجل.
فجاء كعب بن مالك واثنان آخران معه ممن صدقوا واعترفوا أنه لا عذر لهم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية الواقفي، ومرارة بن الربيع، وكان هلال بن أمية ومرارة شيخين كبيرين، بخلاف كعب بن مالك فكان أشد منهما سمعا الحكم من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه غضب عليهما، لأنهما لم يعتذرا بشيء.
حتى جاء كعب، قال: (فدخلت المسجد، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم لي تبسم المغضب، وقال: ما خلفك؟ ألم تعد راحلتين؟! فقلت: يا رسول الله! والله لو كنت عند غيرك من أهل الدنيا، لرجوت أن أخرج من سخطه بعذر، لقد أوتيت جدلاً -رجل جدِل يستطيع بحلاوة لسانه أن يقلب الحق باطلاً- وأوشك إن حدثتك بحديث كذب ترضى به اليوم عني؛ أن يسخطك الله تبارك وتعالى علي، فوالله ما كان لي من عذر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق).
يقول العلماء: لهذه العبارة مفهوم آخر وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (أما هذا فقد صدق)، فكأنه يشير إلى أن المنافقين الذين قبل علانيتهم لم يصدقوا، وإلا فما معنى تخصيص كعب بن مالك بالصدق دون كل أولئك؟ فمفهوم المخالفة منه: (وأما الآخرون فقد كذبوا).
لكنه صلى الله عليه وسلم يعلِّم الأمة أنه لا يجوز لأحد أن يستطيل على قلب أحد، ولا أن يحكم على الذي فيه، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان أحد يعلم الغيب لكان هو أولى الناس بأن يعلم الغيب، فهذا تشريع، والنبي عليه الصلاة والسلام يسُن لمن يأتي بعده فيحكم على منواله.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (قم حتى يقضي الله فيك)، هذه قضية واحدة من مئات من القضايا التي تحدث كل يوم.
فانظر إلى جيل الصحابة فقد منعهم النبي صلى الله عليه وسلم من كلام أولئك الثلاثة، وليس عليهم رقيب إلا الله تبارك وتعالى، قال كعب: (فكنت أمشي في الأسواق فلا يكلمني أحد، فألقي السلام فلا يرد أحد).
ولعل قائلاً يقول: إلقاء السلام واجب، فكان المفروض أن يؤدى هذا الواجب إلى كعب.
فيقال: إنهم أخذوا النهي على إطلاقه: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامنا)، فيشمل كل كلام، بما فيه إلقاء السلام، وهذا هو الفهم الحق: أنك إذا نهيت عن شيء فتنتهي عن كل مفرداته، إلا أن يأتيك دليل خاص يخرج هذه الجزئية من النهي العام.
ولماذا هذه القاعدة غير مفهومة لنا؟ لأننا بالنسبة لديننا أعاجم، بالنسبة للغة العربية أعاجم؛ فترى المرء منا يسمع كلاماً ولا يعقل معناه، برغم أنه بلسان عربي مبين! أعرف كثيراً من الناس حفظوا قوله تبارك وتعالى: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق:3] يحفظها وهو ابن سنتين أو ابن ثلاث، ويموت وهو لم يعرف ما هو الغاسق وما معنى (وقب)، حفظها ومات ولم يعرف معناها.
لذلك فسوء الفهم بالنسبة للغتنا العربية ينجر على جميع النصوص؛ إذ هي بالعربية أيضاً.
(نهى عن كلامنا أيها الثلاثة) فينتهي المسلمون جميعاً حتى عن رد السلام الواجب، (فكنت أمشي في الأسواق فلا يكلمني أحد، وألقي السلام فلا يرد أحد).
وأبلغ من ذلك: أن كعباً يقول: (فكنت أدخل المسجد فألقي السلام، فأتساءل: هل النبي صلى الله عليه وسلم حرك شفتيه برد السلام أم لا؟) عقوبة.
قال كعب: فلما ضاقت علي الحال، وكنت كما وصف الله عز وجل: {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} [التوبة:118]، لما ضاقت عليه الحال ذهب إلى بيت ابن عمه وأحب الناس إليه، وهو أبو قتادة الأنصاري، وكان في بستان، قال كعب: فتسورت الحائط -أي: تسلقته- فنظرت فإذا أبو قتادة مسند ظهره إلى الحائط، وليس إلا أنا وهو، فقلت له: السلام عليك يا أبا قتادة! فوالله ما رد علي السلام أين هذا الجيل؟! أين هؤلاء الناس؟! مع أن كعباً يقول: وليس إلا أنا وهو، حتى لا يقال: إنه مرائي، أو إنه يخاف من أحد أن يبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا رد عليه، قال: فقلت له: نشدتك الله يا أبا قتادة! أما تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت، فلم يرد عليه، فكررها عليه ثلاث مرار: نشدتك الله! أما تعلم أني أحب الله ورسوله؟! ذنب واحد فقط ارتكبه كعب بن مالك.
فقال له أبو قتادة: الله أعلم! قال كعب: ففاضت عيناي.
ونزل مكسور القلب، فبلغه أمر آخر وهو أن يعتزل امرأته يعتزل امرأته!! هل كفر؟! لأنه لا تطلق المرأة إلا بيمين طلاق أو إذا كفرت أو إذا كفر الرجل! فاعتزلها.
وظل خمسين ليلة يعدها عداً حتى جاء الفرج، ونزلت توبة الله تبارك وتعالى عليهم، فجاء رجل يركب فرساً بعد صلاة الفجر، وكان كعب يصلي الفجر على سقف البيت، قال: بينما أنا أصلي إذ سمعت صوتاً يقول: أبشر يا كعب بن مالك! فسجدت.
لم يكن يعلم من أين الصوت ولا من قائله، فقد كان رجلاً يركب فرساً، وكان الصوت أسرع من الفرس، يقول: أبشر يا كعب بن مالك بتوبة الله عليك! قال: فلما جاءني الرجل خلعت عليه ثوبي، ووالله ما أملك غيرهما -من الفرح- واستعرت ثوباً، وذهبت به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فما إن دخلت المسجد حتى قام إلي طلحة بن عبيد الله فالتزمني، وهنأني بتوبة الله علي، فوالله لم يقم غير طلحة، ولست أنساها لـ طلحة، وأقبلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان إذا سر استنار وجهه كأنه قطعة قمر، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أبشر يا كعب بن مالك بخير يوم طلعت عليك فيه شمسه).
فقال كعب: إن من تمام توبتي أن أنخلع من مالي صدقة لله عز وجل قال كعب: فما أعلم أحداً ابتلي بصدق الحديث ما ابتليت أنا، ووالله ما كذبت قط منذ هذه.
لماذا لم يكذب؟ لأنه لما صدق برأه الله عز وجل، رأى العاقبة، ثم في المقابل رأى عاقبة المنافقين الذين ذمهم الله عز وجل برغم قبول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلانيتهم.
قال: وإني لأرجو أن يحفظني الله عز وجل فيما بقي من عمري.
انظروا في هذه القصة! موقف واحد يؤمر المسلمون فيه بأمر فينصاعون جميعاً، حتى وإن كانوا كارهين.
كعب بن مالك ابن عم أبي قتادة، وأبو قتادة أحب الناس إليه، كان يمكن أن يقول له: لا تقنط من رحمة الله، لا تيئس، سيجعل الله لك فرجاً، ويبشره، وهناك نصوص كثيرة عامة في التبشير، مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (بشروا ولا تنفروا)، لكنه أبى، وامتثل للأمر مع كونه لا يحب ذلك.
وهذه هي طبيعة المسلم: أن يكون كالجمل الأنف، حيثما قيد إلى الخير وإلى البر انقاد، وأن يضع حظ نفسه على الأرض فيدوسه؛ لأن حظ النفس مخلوط بكبر وعجب واعتداد بالرأي، فحظ نفسك ضعه تحت قدمك وكن كالجمل الأُنف.
ولو نظرت إلى مفردات معاملات الصحابة لوجدتهم فعلاً كانوا خير أمة أخرجت للناس.
انظر إلى المسلمين اليوم، أهؤلاء هم خير أمة أخرجت للناس؟! أهؤلاء خير أمة؟! معاملاتهم رديئة المنكر موجود الحرام موجود، وكل امرئ يخشى، يريد أن يقبع في الجحر.(58/3)
المواصفات المؤهلة للخيرية
لقد ذكر الله تبارك وتعالى عقب قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] المواصفات التي جعلت هؤلاء الناس خير أمة، فقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
فذكر تعالى هذا الأصل الأصيل الرصين، الذي يجب على المسلمين أن يعرفوه بقيوده وحدوده، وهو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(58/4)
أصالة المعروف وطروء المنكر
(تأمرون بالمعروف) لأن هذا هو الأصل، (وتنهون عن المنكر)؛ لأنه طارئ على الأصل، إذ الأصل في الناس العدالة، والأصل في الناس هو الإيمان والإسلام، والشرك والكفر أمر طارئ على الأصل؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).
والفطرة هي الإسلام، فمعنى الحديث: أن المولود يولد على الإسلام، يولد وقد أخذ الله عز وجل عليه الميثاق، {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} ميثاق الفطرة {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف:172 - 173]، فهذا ميثاق الفطرة، ولذلك يولد المرء على فطرة الإسلام.
فحينما يشهد الرجل على نفسه أن الله تبارك وتعالى هو باريه -هو خالقه- ثم يأتي بعد ذلك يشرك، فإن هذا دليل على أن الشرك طارئ على هذا الأصل إذا قُدم الأمر بالمعروف على النهي عن المنكر لسببين: السبب الأول: أن الأصل هو الأمر بالمعروف، والمنكر طارئ.
السبب الثاني: أنه لا يمكن أن يكون هناك إنكار إلا بخروج عن معروف، أي: بخروج عن الأصل.
والأصل هو المعروف، كما قلنا: إن الأصل هو الإسلام أو الإيمان، والشرك طارئ، كذلك المسلمون عدول كما يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خطابه إلى أبي موسى الأشعري: (المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلوداً في حد، أو مجرباً عليه شهادة زور)، فالأصل هو الأمر بالمعروف؛ لأنه طريق الجنة، والنهي عن المنكر إنما يكون بعد أن يخرج الإنسان من ربقة فعل معروف إلى فعل منكر.(58/5)
ذم أهل الكتاب لتفريطهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
لقد ذم الله عز وجل بني إسرائيل فقال: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79]، لا ينهى بعضهم بعضاً عن منكر اقترفه بعضهم، (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)، ولذلك يقول تعالى في تمام الآية التي نحن بصددها: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [آل عمران:110]، (لو آمن أهل الكتاب) أي: لو فعلوا مفردات الإيمان -وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:110]، فلم يقل: (وأكثرهم الكافرون)؛ لأن الذي يترك النهي عن المنكر مع القدرة على إنكاره لا يكون كافراً، إنما يكون فاسقاً.(58/6)
حالات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أربع درجات: أن تنهى عن منكر فيحصل ضده فهذا مشروع.
أن تنهى عن منكر فيقل فهذا مشروع، وإن لم يزل بالكلية.
أن تنهى عن منكر فيحصل لك القدر الذي تنهى عنه فهذا محل اجتهاد.
أن تنهى عن المنكر فيحدث أشد منه فهذا محرم).
وهذه الدرجات مهمة جداً في الأمر بالمعروف وإنكار المنكر.
فالدرجة الأولى مشروعة، وقد تكون واجبة، وهي إذا أنكرت المنكر فحصل ضده، أي: المعروف، كقصة البئر التي حكاها أبو شامة رحمه الله قال: كان بعض العلماء من السابقين يمر ببعض الطريق، فإذا أناس كثيرون حول بئر، ومعهم أطفالهم، فسأل: ما بال هؤلاء الناس؟! وما بال البئر؟! فقالوا: إن في هذا البئر بركة، والناس كلما مرض أحدهم جاء إلى ماء هذا البئر فانغمس فيه، فسكت العالم، ثم جاء من الليل ومعه أصحابه وردموه، ولما انتهوا من ردمه أُذن للفجر، فأذن على هذا البئر وأقام الصلاة، وقال: اللهم إني ردمتها لك، فلا ترفع لها رأساً، فلم يرتفع لها رأس.
فقد كان هؤلاء الناس يشركون بالبئر؛ فهذا منكر تستطيع أن تغيره بضده، فهذا مشروع.
وهناك نوع من المنكر لا تستطيع أن تزيله بالكلية، لكنك إن حاولت في إنكاره خف المنكر، وهذا أيضاً مشروع.
وهناك نوع من المنكر إذا أنكرته حصل من المفسدة ما يساوي هذا المنكر الذي أنكرته، فهذا محل اجتهاد، فالعالم يوازن بين المصالح والمفاسد في هذا الأمر، فإذا استوى طرفاه احتجنا إلى مرجح.
فهل ننكره أم لا ننكره؟ هو محل اجتهاد، فكل واقعة من هذا الضرب تحتاج إلى فتوى مستقلة؛ حتى نعرف كل الملابسات والظروف التي تحيط بهذا المنكر.
والنوع الرابع الذي أفتى ابن القيم رحمه الله بتحريمه: هو النوع الذي لا يستوي طرفاه، وهو الذي إذا أنكر المنكر وقع في منكر أشد منه، لأن الشريعة أتت بدفع المضار والمفاسد، والشرع يقول: إن كان هناك أمران لا بد أن تختار أحدهما، وكانا مضرين، فاختر أقلهما ضرراً؛ فإن اختيار أخف الضررين عند نزول البلاء هو الأصل في الشريعة.
وحكى ابن القيم رحمه الله حكاية ابن تيمية المشهورة في هذا الأمر فقال: سمعت شيخ الإسلام -قدس الله روحه ونور ضريحه- يقول: (بينما أمشي أنا وبعض أصحابي في زمان التتار، إذ وجدناهم يشربون الخمر -سكروا- فأنكر بعض أصحابي عليهم، فقلت له: إن إنكارك منكر؛ لأن الله تبارك وتعالى نهى عن الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء الخمر تصدهم عن سبي الذراري وقتل النفوس).
فانظر إليه ما أفقهه رحمه الله تعالى! ولم يغب عن باله أبداً أن الخمر حرام، لكنه نظر بعقل الرجل الفاقه لدينه، العالم بنصوصه، العليم بمقاصده.
شرب رجل خمراً فسكر، هذا الرجل إن كان الخمر يصده عن ذكر الله وعن الصلاة، فهذا هو المنكر في الأمر، ويجب أن ينكر عليه، فإن كان في مثل حال الذين مر عليهم شيخ الإسلام: رجل عدو، إن أفاق قتل وسبى النساء وقتل الذرية؛ فشرب الخمر أهون؛ لأنه لا يتعداه إلى غيره، إنما القتل يتعدى إلى الغير، إلى إزهاق النفس.
فهذه الدرجات الأربع يجب على المسلم أن يضعها نصب عينيه.(58/7)
الشروط المطلوبة في من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر
يجب على المسلم أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إذا توفر فيه شرطان: الشرط الأول: أن يكون قادراً على إنكار المنكر.
الشرط الثاني: أن يكون عالماً بالفرق بين المعروف والمنكر.
وهذا شرط مهم جداً، فلقد رأينا أناساً ينهون عن الواجب وعن المعروف وليس عن المنكر لماذا؟ لأنهم يظنونه منكراً.
رجل جاهل، لا يعلم أن هذا من الواجب أو من المستحب، أو على الأقل من المباح، فقد رأينا أناساً ينهون عن الصلاة قبل صلاة المغرب -أي: بعد الأذان- ويغلظون ويشددون جداً في هذا الأمر، ويقولون: المغرب غريب.
ونحن أسعد الناس بالدليل، فقد قال النبي صلى الله عليه وآله سلم (صلوا قبل المغرب ركعتين)، ثم قال: (صلوا قبل المغرب ركعتين)، ثم قال في الثالثة: (صلوا قبل المغرب لمن شاء)، فلولا هذه الجملة الأخيرة لكانت الصلاة قبل المغرب واجبة.
وترى أحدهم ينكر عليك أشد الإنكار أن تطيل شعرك، مع أن إطلاق الشعر مباح، وبعضهم يجعله مستحباً بشرط أن يعتني به، ولقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (من كان له شعر فليكرمه)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب شعره إلى منكبه، فهذا مباح أو من سنن العادة على أقل تقدير، فيقع هذا المسكين في إنكار ما هو معروف، في حين أنه يرى الذين يطوفون حول القباب والقبور، فيزعم أن هذا ليس من الشرك.
فلا بد أن يكون الرجل عليماً بالفرق بين المعروف والمنكر.
ولذلك فإن كافة العلماء متفقون على أن الجاهل لا يجوز له أن ينكر المنكر؛ لأنه بجهله قد يقع في منكر أشد منه.(58/8)
مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وليس بعد ذلك مثقال حبة من خردل من إيمان).
فإذا رأيت المنكر فغيره بيدك، فإن عجزت عن تغييره بيدك فانزل إلى الدرجة الثانية، فإن عجزت فانزل إلى الإنكار بالقلب الذي ليس لأحد سلطان عليه، ولا يظهر إنكار القلب، فإن لم ينكر المسلم والحالة هذه، فاعلم أنه كافر أو فاسق والعياذ بالله! وهذا واضح من قوله صلى الله عليه وسلم: (وليس بعد ذلك مثقال حبة من خردل من إيمان)، أي: أنه إذا رأى المنكر فلم ينكره بقلبه؛ كان ذلك دليلاً على أنه يعرف المنكر ويستمرئه ويحبه، وهذا -والعياذ بالله- قد يفضي به إلى الكفر.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.(58/9)
منزلة العلم وكيفية الحصول عليه
طلب العلم من أسمى الغايات، ومن أنبل الأهداف التي تصرف في سبيلها الأعمار، فالعلم هو ميراث النبوة، ولكن لا ينال العلم بطّال ولا كسول، إنما يناله رجال هممهم جاوزت قمم الرواسي ولامست السحاب، فألزموا أنفسهم الصبر الجميل في هذا المسلك الطويل، وحملوا عصا الترحال ليبلغوا العلم في مكامنه، وقصدوا من سبقهم في هذا المضمار فوقروه، وعرفوا له ولعلمه قدره فرفعوه.(59/1)
العلم هو ميراث الأنبياء
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
ليس هناك خلاف بين أحد في أن أشرف موروث هو العلم؛ ذلك لأنه ميراث الأنبياء، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)، ذلك أن للعلم حُسناً ذاتياً، فهذا هو ميراثهم.
كما روى الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بسند قال فيه الحافظ المنذري إنه حسن إن أبا هريرة رضي الله عنه ذهب إلى السوق فقال للتجار هناك: ما أعجزكم يا أهل السوق! أنتم هنا والناس يقتسمون ميراث النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، فتركوا تجارتهم وهرعوا إلى المسجد، فدخلوا فوجدوا الناس بين مصل وبين ذاكر وبين متفقه، فوقف ينتظرهم، فلما رجعوا قالوا له: ما وجدنا شيئاً يقسم في المسجد.
فقال لهم: وما وجدتم؟ قالوا: وجدنا الناس ما بين مصل وذاكر ومتفقه.
قال: ذلك ميراث النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فهذا هو الميراث الذي يجب أن يحرص عليه الناس ليورثوه أبناءهم؛ إن الشيء الوحيد الذي ينبغي أن يغبط المرء إذا حصّله هو العلم، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله علماً فهو يعلمه الناس، ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق).(59/2)
معنى حديث (لا حسد إلا في اثنتين)
ليس هناك شيء يحسد المرء لأجله إلا هذين فقط: العلم والمال، لكن المال لا يحسد لأجل ذاته أبداً، ما حسد صاحب المال إلا لأنه سلطه على هلكته في الحق، وإلا فصاحب المال المتعالي عن العلم مذموم، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد من حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما الدنيا لأربعة نفر: رجل آتاه الله علماً ومالاً، فهو يتقي الله فيه، يصل به رحمه، ويعرف لله فيه حقه، فهذا بأفضل المنازل.
ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً، فهو يقول: لو أن لي كفلان لعملت بعمله، فهو ونيته، فهما في الأجر سواء.
ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو يخبط في ماله لا يتقي الله فيه، ولا يصل به رحمه، ولا يعرف لله فيه حقه، فهذا بأخبث المنازل.
ورجل لم يؤته الله مالاً ولا علماً، فهو يقول: لو أن لي كفلان لعملت بعمله، فهو ونيته، فهما في الوزر سواء).
فأنت ترى الرجل الأول آتاه الله علماً ومالاً، والرجل الثالث آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فقال عليه الصلاة والسلام في الرجل الأول: (فذلك بأفضل المنازل)، وقال في الرجل الثالث: (فذلك بأخبث المنازل)، فما الذي رفع الأول ووضع الثالث؟ لا شك أنه العلم؛ لأن الأول عنده علم ومال، والثالث عنده مال فقط، فعندما تأخذ القاسم المشترك بينهما تجد الأول متفرد بالعلم، فالذي رفع هذا إلى أفضل المنازل وحط ذاك إلى أخبث المنازل هو العلم.
فلذلك صاحب المال الذي يُحسد ليس هو صاحب المال المحض فقط، ما حسد هذا الرجل إلا لأنه سلطه على هلكته في الحق، ولا يستطيع الرجل أن يسلطه على هلكته في الحق إلا إذا كان عالماً، أو طالب علم، أو يصاحب عالماً، هذا لابد منه، إما أن يكون عالماً كالرجل الأول، وإما أن يكون طالب علم، أقل شيء أن يعرف البيوع المنهي عنها والتي يجوز أن يتبايع بها.(59/3)
متى يكون العلم واجباً عينياً؟
معرفة فقه البيوع فرض عين على التجار، لا يعذرون بجهلهم في هذا الباب، طالما أنه دخل في التجارة لا بد أن يدرس فقه البيوع دراسة جيدة، وهو ليس فرضاً عينياً علي مثلاً، فإن فرائض الأعيان بعد المتفق عليه، بعد معرفة التوحيد ومعرفة تصحيح العبادات وهذه الأشياء، هناك أشياء تتفاوت، ممكن تكون فرضاً عينياً على إنسان، وفرضاً كفائياً على رجل آخر.
فالرجل صاحب المال إما عالماً وإما طالب علم، وإما أن يكون ملاصقاً لعالم يستفتيه ويستشيره، فهذا الإمام البخاري كان والده تاجراً، وقد بارك الله تعالى له في تجارته، فقال لابنه -الإمام البخاري - أثناء الموت: يا بني! تركت لك ألف ألف درهم، ما أعلم درهماً فيه شبهة، لم يقل: ما أعلم درهماً حراماً، لا، الرجل بعيد، لأن المناطق ثلاث: منطقة الحلال المحض، ثم منطقة الشبهة، ثم منطقة الحرام، فما بين الحلال والحرام منطقة واسعة جداً، وهي منطقة الشبهة، إذا قفزت السور من باب الحلال ودخلت في الشبهة فأنت تقترب شيئاً فشيئاً من الحرام، لكن الرجل لو اتقى الشبهة يظل في منطقة الحلال المحض، بينه وبين الحرام مفاوز بعيدة.
والد الإمام البخاري ليست له رواية، ولو كانت له رواية لكان ابنه الإمام البخاري روى عنه وأثبت له رواية، فما الذي أوصله لهذه المرتبة؟ ليس عنده درهم فيه شبهة فضلاً عن الحرام؛ لأنه كان ملاصقاً للعلماء، دائماً يمشي مع العلماء، ولقد كان يصاحب سفيان بن عيينة، وسفيان الثوري، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وعبد الله بن المبارك، والواحد من هؤلاء يزن بلداً، فهو حين يلتقي بهؤلاء جميعاً كلما عنَّ له شيء فيه شبهة يسأل العالم: أفعل أم لا أفعل؟ أو هل فيه شبهة أم لا؟ فيقول له، فانتفع بصحبة العلماء إذ لم يكن مؤهلاً لأن يكون عالماً.
فلأن حسن العلم ذاتي، وأن العلم هو الحكمة، كما فسرته الرواية الأخرى: (ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها) وفي الرواية الأخرى: (رجل آتاه الله العلم) فالعلم هو الحكمة، والحكمة حسنها ذاتي، ولذلك عندما تقرأ قوله تبارك وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، انظر الترتيب الجميل، لم يقل: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة الحسنة)، لأن الحكمة حسنة في ذاتها فلا توصف بها أصلاً، لكن الموعظة يمكن أن تكون جافة، فمثلاً قد يخرج عليك رجل غليظ الرقبة يتهجم ويشتم وهو يعظ، وحين يخوّف بالنار ينسى أنه من البشر أيضاً، ويندد بالمعاصي التي قد يكون هو مقيماً على بعضها، فلذلك لما ذكر الله عز وجل الموعظة وصفها بالحسنى، ولأن الرجل قد يعظ بدون شد وجذب، فوصفها بالحسن، وفي أثناء الجدال أمرك بالأحسن، لا بالحسن فقط، لأن الجدال فيه أخذ ورد، وفيه حظوظ للنفس، فالإنسان حين يذهب ليناظر إنساناً، فإنه يكون حريصاً جداً أن يغلبه ويسحقه ويقيم عليه الحجة، وهذا مما هو مركوز عند الإنسان، أعني حب الظهور، ولذلك عندما تغالب نفسك تؤجر؛ لأنك تجاهد ما هو مغروز فيك، والنبي عليه الصلاة والسلام لما قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) دل هذا الحديث على أن المركوز هو ألا تحب لغيرك ما تحب لنفسك، لذلك كلما غالبت وتعبت ارتقيت، فالمركوز في النفس هو محبة العلو، لاسيما بسلطان العلم، فحروف العلم وسلطانه أشد من سلطان المال والجاه، العلم سلطانه شديد جداً، لذلك الذي يُحرم الأدب والإخلاص في العلم يكون وبالاً عليه.
لقد أخبر الله تبارك وتعالى عن أقوام فقال: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23] فتستعجب من هذا الرجل! المفروض أن العلم يضيء لصاحبه، فكيف إذاً ضل؟! نقول: إن عماه حصل من داخله، وإلا فالمصباح موجود، فمثلاً: أنت لو رأيت رجلاً معه مصباح، وهو (يمشي) وكلما واجه حفرة وقع فيها، بل لو فاتته حفرة يرجع حتى يقع فيها مرة أخرى، إذاً فالرجل لا يمكن أن يكون مستفيداً بنور الكشاف الذي معه، لأن عماه داخلي.
فسلطان غرور العلم شديد جداً، لذلك العلماء وضعوا آداباً لطالب العلم، فهو إذا لم يتق الله عز وجل، ولم يخلص النية لله كان وبالاً عليه، فـ ابن العميد كان صاحب الوزارتين، أي: كرئيس الوزراء في أيامنا، يقول: شهدت مرة مناظرة بين الطبراني وأبي بكر الجعابي، فكان أبو بكر يغلبه بدهائه والطبراني يغلبه بحفظه، فهما طرفا رهان، فهم متساويان، لم يغلب أياً منهما الآخر في المناظرة، فـ أبو بكر الجعابي قال له: عندي حديث ليس في الدنيا لأحد غيري.
قال له: وما هو؟ قال: حدثني أبو خليفة، قال: حدثني سليمان بن أحمد، قال: حدثني فلان عن فلان وساق حديثاً.
فقال له الطبراني: أنا سليمان بن أحمد، سمعه مني أبو خليفة فخذه مني عالياً.
قال: فاستحى الجعابي وفرح الطبراني، فتمنيت أن لم تكن الوزارة لي وفرحت كفرح الطبراني.
لما قال له: أنا سليمان بن أحمد، يعني الحديث عند الطبراني، وهو أخذه بواسطة عن الطبراني أيضاً: أبو خليفة عن الطبراني، قال له: لا، خذه مني مباشرةً عالياً، فالعلم حسنه ذاتي، كذلك يكون الغروبة شديد ولذلك قال علي بن أبي طالب (كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من ليس بأهله، وكفى بالجهل عاراً أن يتبرأ منه من هو فيه).
تجد بعض الناس يدعي من العلم ما ليس له، في أي منحى من مناحي الحياة، ولو عيرته بالجهل لغضب، لكن لو وصفته بأي نعت آخر لا يهتز، لو قلت له: يا فقير، يقول لك: الأنبياء أغلبهم فقراء، ولازال الفضل موجوداً في الفقراء، والفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة سنة، ويظل يعدد فضائل الزهد والفقر فيغلبك.
ولو قلت له مثلاً: أنت لست ملكاً.
يقول لك: كم من أهل الأرض كان ملكاً، الأنبياء لم يكونوا ملوكاً، خُيِّر النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يكون ملكاً رسولاً أو عبداً رسولاً قال: لا عبداً رسولاً، فترك الملك، إذاً: وجود الملك ليس من العلم.
فقد يستطيع الرجل أن ينصب أدلة على أن عدم وجود هذه الصفة فيه أفضل، إلا ما يختص بالاتصاف بالعلم.(59/4)
الشروط اللازمة لطلب العلم
إذاً: طالب العلم كيف يصل؟ نحن الآن بعدما سمعنا هذه المقدمة تحمسنا ونريد أن نكون طلاب علم، هل هناك آداب وشروط لطالب العلم ينبغي أن يسلكها حتى يصل؟ أقول: نعم، هذه الشروط نظمها إمام الحرمين أبو المعالي الجويني في بيتين من الشعر، فقال: أخي لن تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان ذكاء وحرص وافتقار وغربة وتلقين أستاذ وطول زمان هذه هي الصفات الست التي ينبغي أن يتحلى بها طالب العلم ليصل.
وبعض الطلاب يطلب العلم منذ سنوات، ومع ذلك لم يقتنع بالقدر الذي حصله! لأن الخلل في هذه الشروط يورث خللاً في التحصيل، لذلك إذا التزم الإنسان بهذه الشروط ونفذها تنفيذاً حسناً، فإن تحصيله يكون حسناً.
أخي لن تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان ذكاء وحرص وافتقار وغربة وتلقين أستاذ وطول زمان(59/5)
الصبر على طول زمان الطلب
إن العلم بحر واسع جداً، وإتقان الباب الواحد من العلم يحتاج إلى عمر، فلا يستوي في العلم من أمضى نصف قرن مع من أمضى خمس سنوات، لاسيما أن هناك شيئاً يذكره العلماء اسمه الذوق والملكة، والذوق هذا غير ذوق الصوفية، ولا تحصل من الكتب، وإنما تحصل من الدربة والممارسة، ولذلك الإنسان يتعجب حين يرى بعض الصغار يتكلمون في المسائل الكبيرة التي يتهيب الكبار عن الكلام فيها! يدخل على مسألة عويصة جداً تحتاج إلى عمر! يا أخي! إذا شككت في مسألة فضع علامة استفهام وابحث، وعندك عمر طويل، لماذا تتعجل بوضع العنوان للكتاب قبل أن تكتب حرفاً فيه؟! لاسيما إذا كان هذا الإنسان لم يسبق إليه بل هو مجرد فهم فهمه، فهذا ينبغي أن يشفق على نفسه، وينبغي أن يعرف أنه لم يريّش بعد فكيف يطير؟! فالذي له باع في الاستقراء يكون أقرب إلى إصابة الحق من الأقل، فمثلاً الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله، وهو كان من أئمة الدنيا في علم الحديث، شهد له بذلك المخالف والموافق، منهم الغماريون الذين هم المغاربة، وهؤلاء معروف أنهم مبتدعة، وأهل طريقة صوفية، ولديهم خبط كثير في العقيدة وفي السلوك والمنهج.
أحمد أبو الخير -الذي توفي، وكان من أقران الشيخ أحمد شاكر - لمّا ذكر الألباني -وكان الألباني آنذاك ابن أربعين سنة- ومعروف أن أحمد الغماري كان يرى أن الألباني مبتدع ووهابي، وكان يقول هذا في الخطاب الذي أرسله إلى صاحب له هنا في القاهرة، بشأن الألباني وما كان بينه وبين الحبشي هذا الضال المضل، الذي هو في لبنان الآن، ولعله قارب المائة، وكان هناك نقاش علمي بين الشيخ الألباني والحبشي في ذلك الوقت، فـ أبو الخير أحمد الصديق الغماري يكتب رسالة لصاحبه في مصر عن هذين الرجلين: عن الحبشي وعن الألباني قال له: أما الحبشي فينقل كما ينقل الناس، وأما الألباني فمن الأفراد في معرفة الفن، لكنه وهابي خبيث.
فبرغم أنه مخالف له ووصفه بأنه وهابي خبيث، إلا أنه لما جاء في ذكر علم الحديث قال: إنه من الأفراد، وكان ابن أربعين سنة أو يزيد قليلاً، فكيف بما حصله الشيخ من العلم في أربعين سنة أخرى.
نحن نقول: إن الشيخ الألباني ليس بمعصوم، وله أخطاء هو يعرفها ويعرفها الناس، والله تبارك وتعالى لم يعط أحداً أماناً من الغلط فنستنكف له منه، بل وصف عباده بالعجز وقرنهم بالحاجة، فقال تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76].
لكن نقول: إنه من جهة التفصيل فقد يكون الحق مع الصغير، لا ننكر هذا، فقد يكون الشيخ قد صحح حديثاً أو ضعّف حديثاً أو حسّن حديثاً، فيأتي من هو أقل منه -وقد يكون من تلاميذ تلاميذه- يتعقبه، ومن الممكن أن يصيب ويكون الحق معه؛ لكني الآن أريد أن أتكلم في الجواب المجمل، أما الجواب المفصل فأمره يطول، الجواب المجمل: إذا كان هناك مسائل مختلف فيها، كأن يتكلم في حديث مثلاً: هل هو حسن أو ضعيف؟ أنت تعرف أن الحديث الحسن -بالذات الحسن لغيره- هذا شأنه مثل اللبن {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} [النحل:66]، على حسب عمر ومهارة وذكاء ودربة المحسّن، إذا كان ماهراً جداً سيستخلص هذا الحديث من هذه الطرق كما يستخلص اللبن من بين فرث ودم، لا فيه من لون الدم، ولا فيه من رائحة الفرث، فإذاً بقدر تمكن هذا العالم بقدر إصابته في هذا الباب.
ولذلك الإمام الذهبي رحمه الله قال في كتاب "الموقظة في علم الحديث": أنا على إياس من وجود حدٍ للحديث الحسن، ليس له قاعدة حتى تستطيع أن تطبقها على كل حديث، أبداً.
فإذا كان هناك رجل عالم متمرس متمكن، أمضى أكثر من ستين عاماً في هذا الفن، فخالفه رجل مثلي في حديث ما، وأنت تعرف قدر الشيخ ناصر الدين الألباني، وقد تعرف قدري وقد لا تعرف، لكن إجمالاً أنت تعرف أن الشيخ أعلى كعباً، وأنت تريد أن تقلد واحداً منا، لا شك عند جميع العلماء أن الأولى والأصوب هو تقليد الأعلم والأكبر والأدين، وهذا ما يقولونه في باب الفقه، فيقولون: إن الإنسان يقلد في الحكم الشرعي الأعلم والأدين والأورع والأطول عمراً إلخ لماذا؟ لأنه أولى بإصابة الحق.(59/6)
ملازمة العلماء ومخالطة النجباء
ذكاء وحرص وافتقار وغربة وتلقين أستاذ (تلقين الأستاذ): هو أخذ العلم مباشرة عن الشيوخ، وأنا أوصي هنا بقراءة فصل نافع جداً في كتاب الموافقات للشاطبي في الجزء الرابع، لما تكلم عن التلقي تكلم كلاماً نافعاً جداً في هذا الباب.
وتلقين الأستاذ مهم جداً، وكما قال العلماء: يستفاد من ملازمة الأستاذ ثلاث فوائد، أعظم هذه الفوائد: الأدب، أن يتأدب المرء، وابحث عن أي رجل سيء الأدب في باب العلم فلن ترى له شيوخاً؛ لأنه أخذ العلم من الكتب، وظن أنه إذا حصَّل علم الكتاب صار كصاحب الكتاب، مثلاً لو افترضنا أنه حفظ كتاب الرسالة للشافعي عن ظهر قلب، فهو يتصور أنه صار كـ الشافعي في هذا الباب وهيهات! ليس من قلد كمن ابتكر، من السهل عليك أن تأخذ هذا عن الشافعي وتحفظه، لكن هل تستطيع أن تصوغه كما صاغه الشافعي من بنات أفكاره؟ أبداً، لذلك رأينا العلماء يحضون على ترك الأخذ من الذين لا شيوخ لهم، فكانوا يقولون: (لا تأخذوا العلم من صحفي، ولا القرآن من مصحفي) لا تأخذوا العلم من صحفي -أي: رجل يأخذ من الصحف- ولا تأخذوا القرآن من مصحفي -أي: يقرأ من المصحف مباشرة- لماذا؟ لأن أقل شيء يقع فيه هذا الإنسان هو التصحيف.
وقديماً كان الإملاء لا يكون فيه إعجاماً، فالإعجام هذا متأخر قليلاً؛ لأن أول من نقط المصاحف هو يحيى بن يعمر بأمر الحجاج بن يوسف الثقفي، وكانت الحروف قبل ذلك مكتوبة ليس عليها نقط، فكيف تُقرأ؟ لأن الكلمة في هذه الحالة تحتمل أكثر من وجه، فصار وضع النقط يحدد معنى الكلمة، ولذلك كان المتقدمون يحرصون جداً على الضبط، وعلماء الحديث لهم كتب في ذكر تصحيفات المحدثين والفقهاء والأدباء وأصحاب القراءات، وضبطوها وحصروها، ووضعوا قيوداً وقوانين يضبطون بها العلم، ولولا ذلك لضاع العلم.
مرة كان هناك حطاب -وهو: الذي يجمع الحطب- دخل المسجد فوجد شخصاً يتكلم ويقول: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يشققون الحطب) قال: يا قوم! ماذا نفعل والحاجة ماسة؟ وهي على اللفظ الصحيح: (الذين يشققون الخطب) يشققون: أي يتكلمون بالألفاظ التي لها وقع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان، يجادل بالقرآن) ألفاظه رنانة، فالحديث وقع على أصحاب الخطب، فهذا قال: (الحطب)، فالمشكلة أن الرجل الحطاب كان موجوداً، فقال: يا قوم! ماذا نفعل والحاجة ماسة؟! وأرسل أحد الأمراء إلى خليفة المسلمين يقول له: إن المخنثين أفسدوا البلاد عندنا.
فأرسل إليه بأن يعدهم حتى يوضعوا في مكان لوحدهم فقال له: (احص من عندك من المخنثين).
فالقلم قطر نقطة فوق الحرف، فصارت (اخص من عندك من المخنثين) فدعاهم فخصاهم، انظر! خصى كل المخنثين بسبب نقطة واحدة وضعت على الحاء.
فالتصحيف حين تقرأ ما جاء في أخباره -خاصة في كتاب التصحيف للعسكري، والذي يقع في ثلاثة مجلدات- تعلم أن أخذ العلم من الكتب جناية كبيرة جداً على العلم، ولذلك تجد أن كثيراً منا الآن يغلط في ضبط أسماء الرواة؛ لأن أسماء الرواة لا يدخل فيها القياس، لكن تؤخذ بالسماع، فمثلاً عبد الله بن لهيعة، أو لَهِيْعة؟ لا يوجد قانون يحدد (لُهَيْعة) أو (لَهِيْعة)، هذا لا يدخل فيه القياس، إنما يؤخذ بالسماع، فلذلك نحن نتلقى ضبط هذه الأسماء سماعاً؛ لأنها لا تدخل في القياس كما قلت، فكيف يقرؤها الإنسان، لاسيما إذا كان الكتاب الآن لا يشكل، وقد يكون الذي حقق الكتاب ليس لديه علم بكيفية الضبط لهذه الأسماء؟! فحين تأخذ العلم من الكتب فإن أقل جناية تقع فيها هي التصحيف، ومن أعظم الجنايات التي يقع فيها الإنسان: أنه يفتقد الأدب، لاسيما -كما قلت- إذا بدأ حياته بكتاب المحلى لـ ابن حزم، وكتاب المحلى لـ ابن حزم مع قوة هذا الكتاب من جهة الفقه، وأن الرجل قرر مسائل فقهية لم يسبق إليها، وأقام عليها الدليل، وكان قوله فيها راجحاً، إلا أنه وهو يقرر مثل هذا اللون من الفقه لم يستوقفه حرمة عالم، وكلامه عن أبي حنيفة في غاية الشدة، بينما كلامه عن أحمد بن حنبل والشافعي أقل شدة.
سيف الحجاج ولسان ابن حزم شقيقان، الحجاج كان سيفه طائشاً لا يميز، كذلك لسان ابن حزم، ولذلك قلت في مطلع الكلام: تكون جناية على طالب العلم أن يبدأ بقراءة المحلى، بل ينبغي أن يبدأ بقراءة الكتب المختصرة.
وتلقين الأستاذ له فوائد منها: أن يتعلم الطالب منه الأدب، وأن يفهم المسائل فهماً صحيحاً.(59/7)
الاغتراب والرحلة في طلب العلم
الغربة نوعان: النوع الأول: الغربة عن الناس.
النوع الثاني: الغربة عن الوطن.
وكلاهما مقصود، أما الغربة عن الناس فهي تعني: أن طالب العلم ينبغي ألا يشغله شيء مما يشغل الناس؛ لأنه إذا لم ينصرف إلى العلم بكليته فلن يحصل ما أوهم نفسه أنه تفرغ له، وهي ما يسميها بعض العلماء: (العزلة الشعورية) بأن تكون في وسط الناس لكن تزايلهم بعملك، فطالب العلم ينبغي ألا ينخرط في سلك الناس؛ لأن اهتمامات الناس لا تعينه بشيء، إنما يقبل بكليته على العلم، فلا يرى من الدنيا إلا العلم.
أما النوع الثاني، وهو النوع الأعظم والأكبر والأشهر: وهو ما يسمى بالرحلة في طلب العلم، فيغترب الإنسان عن الوطن لتحصيل العلم، وهذا هو أشهر المعنيين بالنسبة للغربة، لكن هذا النوع يحتاج إلى همة أكبر من النوع الأول، ولذلك تجد من جلد هؤلاء العلماء في الرحلة، والصبر على الجوع والبرد، والصبر على المهانة والذل ما تقف أمامه مستعجباً مستغرباً!! فهذا الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله لما نفدت نفقته باليمن حين ذهب هو ويحيى بن معين وأحمد بن منصور الرمادي وجماعة من المحدثين إلى عبد الرزاق بن همام، وكان عبد الرزاق آنذاك هو عالم اليمن ومحدثها الكبير، فلما رحلوا إليه نفدت نفقة الإمام أحمد في اليمن، فقدَّم بعض أصحابه مواساة له، فأبى أن يأخذها -والمواساة أن يعطيه نفقة ونوعاً من المعونة- فقال له: خذها على سبيل العارية، وردها إذا رجعت إلى بغداد؛ فرفض أيضاً، فماذا فعل؟ أكرى نفسه عند بعض القوافل حتى لا يأخذ مواساة من أحد! وكان لا يأخذ الدقيق إلا من رجل واحد فقط، وكان إذا ذهب اقترض الدقيق يرده سريعاً، فذات مرة بعدما رجع من رحلة من هذه الرحلات، والإنسان حين يرجع من الرحلة يكون منهك القوى ومتعباً جداً، فذهب البيت فلم يجد دقيقاً، فذهب إلى صاحبه هذا فجاء بدقيق وأعطاه امرأته، فبعد وقت قريب جاءت بالخبز ساخناً، فاستغرب من ذلك وسألها؟! فقالت: وجدنا تنور صالح موقداً فخبزنا فيه، فأبى الإمام أحمد أن يأكل.
صالح هذا ابنه، فلماذا يأبى أن يأكل؟! لأن صالحاً قبل جائزة الخليفة المتوكل، عندما أرسل للإمام أحمد صرة فيها مال فردها، فلما أرسلها إلى ابنه صالح قبلها، فأغلق الإمام أحمد الباب بينه وبين ولده، وكان بينهما باب فأغلقه، مع أن قبول جوائز الأمراء لا شيء فيها، ومن الصحابة من كان يقبل ذلك، ومنهم الصحابي الورع العابد التقي عبد الله بن عمر، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم الرجل عبد الله!)، وقال عليه الصلاة والسلام: (عبد الله رجل صالح)، وكان إذا أتاه المال من الحجاج أخذه، فسُئل عن ذلك، فقال: (لست أطلب منهم شيئاً، ولا أرد ما رزقني الله عز وجل) وهذا إنما أخذه من قول النبي عليه الصلاة والسلام لأبيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ما أتاك من هذا المال وأنت غير مستشرف له فخذه)، والمقصود أن لا تطمع، لكن لو جاءك المال من غير مسألة ولا استشراف فخذه.
فالجوائز قبلها الأئمة الكبار، كـ مالك، والشافعي وعلي بن المديني وابن معين، وقبلها أئمة كثيرون، ورفضها أئمة كثيرون أيضاً، فهذه مسألة فيها نزاع بين السلف: والحق في المسألة أن القبول والرد لا بد أن تحتف به قرائن للقبول أو الرد، بمعنى إذا علمت أنك إذا أخذت جائزة الأمير طمع فيك وكسر عينيك فلا تأخذها؛ لأنه إنما يعطيك ليأخذ، والإنسان في مقابل الإحسان يذل، كما قال الحكيم الترمذي: (ليس هناك حمل أثقل من البر، من برك فقد أوثقك، ومن جفاك فقد أطلقك) فإذا أردت أن تسترق إنساناً فأحسن إليه؛ لأن الله سبحانه وتعالى فطر الناس على محبة الإحسان، كما قال تبارك وتعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، ومعنى الآية: لا ينبغي أن يكون جزاء الإحسان إلا من جنسه.
فالإمام أحمد لما نهى ولده عن الأخذ؛ لأن الفتنة التي خرج منها الإمام أحمد كانت مدلهمة؛ فأبى أن يأخذ جائزة المتوكل، فلما أخذها ابنه صالح أغلق الباب بينهما، وأبى أن يأكل الإمام أحمد الخبز، فمن يحمل نفسه على هذا الورع؟ ومن يتحمل مثل هذا؟! فينبغي للطالب أن يتجلد في الرحلة لطلب العلم ويصبر؛ لأن الرحلة فيها ذل كبير، وأعظمها ذل الحاجة، لاسيما إذا نفدت النفقة، لكن صاحب الهمة العالية تجبر همتُه هذا الذل والحاجة.
ومن العلماء أصحاب الهمة العالية أحد النحويين وهو أبو نصر هارون بن موسى بن جندل النحوي، يقول: كنت أختلف إلى مجالس أبي علي القالي، وكان يملي في مسجد الزهراء بقرطبة -وكتابه اسمه النوادر- قال: فبينما أنا ذاهب إليه يوماً -وكنا في الربيع- أصابتني سحابة فأغرقت ملابسي وكتبي، فوافيت المجلس وحول الشيخ أعيان قرطبة فاستحييت، فلما رآني، قال: مهلاً يا أبا نصر ادنُ.
قال: فدنوت.
قال: لا عليك، خطبك سهل، إنما هي ثياب تبدلها بغيرها، أما أنا ففي جسمي ندوب تدخل معي القبر، وبعدها بدأ يقص عليه قصته حتى يهون عليه الذي حصل له، قال: كنت أختلف إلى مجلس ابن مجاهد رحمه الله الإمام المقرئ الشهير صاحب كتاب (السبع في القراءات) - قال: فبكرت إليه يوماً فإذا باب الدار مغلق، وصعب علي فتحه، فقلت: سبحان الله! أبكر هذا البكور وأُغلب على القرب منه! قال: فنظرت فإذا سرب بجانب الدار -أي: ممر صغير جداً، كان الممر كبيراً ثم ضاق من الوسط- قال: فمضيت فيه، فلما وصلت إلى منتصفه لم أستطع الخروج ولا النهوض، فجمعت قوتي ومضيت، فتمزقت ثيابي وتمزق لحمي وانكشف العظم، ثم لقيت الشيخ، وكان قادماً، فكنت أول الحاضرين، ثم أنشأت أقول: دببت للمجد والساعون قد بلغوا جهد النفوس وألقوا دونه الأزرا وكابدوا المجد حتى مل أكثرهم وعانق المجد من أوفى ومن صبرا لا تحسب المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا والصبر: هو المر، قال: فكتبنا هذه الفائدة من النوادر قبل أوانها، ولازمته رحمه الله إلى أن مات.
ما الذي يجعله يندفع حتى ينكشف عظمه، ويتمزق لحمه؟ لأنه رجل أراد أن يكون قريباً من الشيخ؛ لأن القرب من الشيخ فيه ميزة، وقديماً لم يكن هناك مكبرات صوت، فكان الرجل الذي يجلس بجوار الشيخ مباشرة يسمع لفظه بوضوح بخلاف البعيد، فقديماً كان هناك رجل اسمه (المستملي) يقوم مقام مكبرات الصوت، فالمستملي هذا يكون في منتصف الجمع فيسمع ويبلغ، ولعل المستملي لم يسمع جيداً فيبلغ خطأ، فيحصل الخطأ، فينقله الذين من بعده، فكان الطلبة يحرصون جداً على أن يكونوا قريبين من الشيخ تحاشياً من تصحيف الأحاديث.
فالرحلة في طلب العلم تحتاج إلى همة عالية، ولا نعلم أحداً من العلماء الذين دارت عليهم الفتيا، وكان لهم منصب في العلم لم تكن لهم رحلة إلى الآفاق، والرحلة في طلب العلم سنة؛ لأن ضمام بن ثعلبة رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتثبت مما قاله له رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن رسولك يزعم أنك تزعم أن الله أرسلك، فبالذي نصب الجبال ورفع السماء ودحا الأرض آلله أرسلك؟ قال: نعم) إلى آخر الحديث.
فـ ضمام بن ثعلبة أراد العلو؛ لأنه لو كان مكذباً لذلك الرسول -وهو رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم- لكفر؛ لأن مكذب رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يكفر، لو أن أهل اليمن كذبوا معاذ بن جبل -لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ليبلغ التوحيد- لكانوا في حكم الكافرين،، فهو ما جاء لأن الرسول كاذب، كما قال العلماء؛ لكنه أراد أن يسمع مباشرة من النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة رضوان الله عليهم أيضاً كانوا كذلك، روى الإمام البخاري في صحيحه معلقاً، ووصله أحمد، وهو أيضاً -كما أظن- في كتاب الأدب المفرد للإمام البخاري بسند حسن، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: (بلغني أن رجلاًً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده حديث في القصاص -القصاص يوم القيامة- قال: فابتعت بعيراً وركبته شهراً، فلما ذهبت إليه فإذا هو عبد الله بن أنيس الصحابي، فقلت: حديثاً بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الناس يوم القيامة -أو قال العباد- عراة غرلاً بهماً، قال: قلنا: وما بهماً؟ قال: ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمه من قرب: أنا الملك أنا الديان، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه حتى اللطمة قال: قلنا: كيف وإنا إنما نأتي الله عز وجل عراة غرلاً بهماً؟ قال: بالحسنات والسيئات) وكذلك التابعون أخذوا نفس هذا المنهج، فهي سنة متوارثة، كسنة القراءة مثلاً، فالرحلة في طلب الحديث سنة متوارثة يحرص عليها كل فحل؛ لكن العلماء قالوا: ينبغي له أن يأخذ علم أهل بلده أولاً، ثم يرحل إلى العلماء الآخرين، ولا ينبغي له أن يرحل إلا بإذن الوالدين، ولابد؛ لأن الرحلة فرض كفاية، وطاعة الوالدين في المعروف فرض عين.
وهناك قصة طريفة للإمام الذهبي رحمه الله، فإنه بدأ أول حياته بالقراءة، أعني بجمع قراءات المصحف، القراءات السبع أو العشر أو الأربع عشرة أو الواحدة والعشرين، وبرع فيها جداً،(59/8)
الافتقار والتواضع
وقوله: (وافتقار) الافتقار في هذه الأيام، التواضع، بأن تكون في زي الفقير، لا تتعالى على غيرك، ليس عندك من العلم ما تتعالى به، فحين تشعر دائماً أنك فقير إلى هذا العلم تزداد منه، كالمؤمن الذي يخشى الله تبارك وتعالى ويعبده بالخوف والرجاء؛ فإنه دائماً في ازدياد؛ لأنه كلما عمل عملاً يقول: ربما لا يتقبله الله؟ إذاً: الحل أن أحسن العمل فإذا لم تستحضر النية، لم تركع وتسجد كما ينبغي، كنت مرائياً، إذاً: أنا سأحسن العمل أكثر، فترجع النفس اللوامة تقول له: ما صنعتَ شيئاً، فماذا أفعل؟ حسِّن العمل أكثر، فلا يزال يحسن عمله أكثر فيلقى الله تبارك وتعالى في ازدياد دائم، فطالب العلم ينبغي أن يكون هكذا فقيراً مفتقراً متواضعاً، لا يعلو على أقرانه.
كان بعض العلماء يقول: ما رأيت أفضل من أحمد بن حنبل، كان والله يجمع ألواناً من العلم وما افتخر علينا قط، والذي يقول هذه المقالة هو أحد أقرانه الكبار.
يقول: أبو زرعة الرازي (ما افتخر أحمد علينا)، برغم ما كان عنده من العلم؛ بل كان الإمام أحمد متواضعاً دائماً، وكان معدوداً في أئمة الجرح والتعديل الكبار، ومع ذلك كان إذا ذُكر أحد الرواة يقول: ليس هنا أبو زكريا -أي: يحيى بن معين، فقال له رجل: وما تصنع به؟ قال له: ويلك! إنه يحسن هذا الشأن، مع أن الإمام أحمد قد تكلم في هذا الراوي الذي احتاج فيه لـ يحيى بن معين، لكنه يقول: ليس هنا فلان؛ لأنه يحسن هذا الأمر، لكن هذا هو التواضع والافتقار!.
قال سفيان الثوري رحمه الله: (لا ينبل الرجل حتى يكتب عمن فوقه وعمن مثله وعمن دونه).
لأن منا من يستنكف أن يكتب عن تلميذه، يقول: أنا شيخه، فلا أكتب عنه، فهذا من حظ النفس وليس من النبل.
وهذا الإمام البخاري فقد روى عن الترمذي مع أن الترمذي تلميذ الإمام البخاري، وكان الترمذي يرى أن رواية البخاري عنه مدعاة فخر، فكان إذا حدث بهذا الحديث يقول: ورواه عني محمد بن إسماعيل البخاري، كلما يروي هذا الحديث يقول هذا التنبيه.
وابن خزيمة أيضاً من طبقة تلاميذ البخاري، ومع ذلك روى عنه البخاري.
ومسلم بن الحجاج -رحمه الله- أيضاً روى عنه الإمام البخاري، والإمام البخاري شيخ مسلم كما هو معروف.
فعندما تنبل فإنك لا ترى استنكافاً، أن تأخذ من تلميذك، فالافتقار نحتاج إليه، وكذلك التواضع! مهما أخذت من العلم، فاعلم أن الذي لم تحصله أكثر وأكثر، فهذا يحملك على ألا تجعل لنفسك مقاماً أعلى من مقامها، لاسيما إذا كنت في بدء الطلب.(59/9)
الحرص على الأوقات
ثم قال: (وحرصٌ) وأعظم الحرص إنما يكون على رأس المال، ورأس مال الإنسان في الدنيا هو الوقت؛ لأن العمر هو الوقت، فإذا ضيع الإنسان رأس ماله، فسيغبن هناك، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ).
أصل (الغبن): شراء الشيء بسعر عالٍ، وبيعه بسعر أقل، فهذا خسر في كلا مرتين: خسر في المرة الأولى عندما اشترى بأكثر من الثمن، وخسر في المرة الثانية عندما باع بأقل من الثمن، فهذا هو أصل الغبن، (فنعمتان مغبون فيهما كثير من الناس) دل على أن المغتنمين لهما لهاتين قليل (الصحة والفراغ) والعلم لا يتأتى إلا بهما، فلا بد من فراغ ولا بد من صحة تعينك على الطلب.
وإذا ضيع طالب العلم وقته -لاسيما في بدء الطلب- في الجدال وعمل الحلقات فلن يصل أبداً، وعليه أن يطالع سير العلماء السالفين ليعلم كيف كانوا يستثمرون أوقاتهم؛ لأن كثيراً من الناس يضيع وقت طالب العلم بدعاوى كثيرة: دعوى الشوق، ودعوى السؤال، ودعوى الرؤية أي دعوى، فلا ينبغي لطالب العلم أن يوافق الناس على أهوائهم في بداية الطلب، وإلا سيخسر خسراناً كبيراً؛ لأنه سيضحي برأس ماله والعائد عليه قليل.
ما الفائدة في جلوس جماعة من الغلمان -الذين هم حديثو عهد بطلب العلم- جلسة إلى الفجر يقررون فيها مسألة خلافية، وكل واحد إنما ينقل قول من قلده فقط؟ ليلة كاملة ذهبت على طالب العلم لم يستفد منها، بل قد توغر الصدور؛ لأنه دخل في الخلاف قبل أن يتأدب، لذلك من الممكن أن تتقطع الأواصر، وهذا هو الواقع الآن! طالب العلم المفلح هو الذي يضرب على نفسه حصاراً في أول الطلب، ولذلك كانوا يقولون: (أول العلم الصمت، ثم التعلم، ثم العمل، ثم الدعوة)، وأنت طالما أنك لم تتضلع ولم تصبح رجل دعوة فلا تنشغل بها، فالدعوة ليست فرضاً عينياً عليك، فأنت في سعة من الوقت، والعلماء المتقدمون كانوا يحرصون جداً على الوقت؛ لأنه رأس المال.
ذكر الإمام النسائي في جزء له لطيف أملاه على بعض أصحابه أن إبراهيم النخعي ورجلاً آخر كانوا بعد صلاة العشاء يتذاكرون في العلم، فلا يفرق بينهم إلا مؤذن الفجر.
وفي مقدمة الجرح والتعديل لـ ابن أبي حاتم كان الإمام أحمد بن حنبل والإمام علي بن المديني والإمام يحيى بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة وآخرون بعدما يصلون العشاء يتدارسون في علل الأحاديث، فلا يفرق بينهم إلا مؤذن الفجر.
فطالب العلم لا بد أن يكون حريصاً على وقته في بداية الطلب، وإذا أهدر رأس ماله كيف يصل؟ وأنى له أن يصل؟! والليل والنهار يتجددان بصفة دائمة، لاسيما وأن معظمنا بدأ يطلب العلم بعد سن متأخرة، وعندما جاء يطلب العلم لم يجد من المشايخ من يجلس معهم ويطلب العلم على أيديهم، فهو يعاني من مصيبتين معاً: الأولى: طلاب العلم في سن متأخرة، والثانية: أنه لا يجد الشيوخ الذين يدرس عليهم هذا العلم، ومصيبة ثالثة وهي: عدم وجود المعين على الطلب، فقد يتوفر لك شيخ، وقد تتوفر لك همة؛ ولكن لا يتوفر لك ظروف مناسبة: إما أنك مسئول عن أسرة، وإما أن أباك يريدك مثلاً في جهة أخرى.
وإما أن الجو العام سيعرقل في سبيل الطلب؛ لأن المتقدمين لم يكن يشغلهم شيء إطلاقاً، كان الآباء والأمهات عوامل مساعدة للطلبة، فأم سفيان الثوري كانت تقول: يا بني، اذهب فاطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي، انظر إلى أم يصل بها فقه النفس إلى هذا الحد، تغزل النسيج وتبيعه وتكفي ولدها.
وكانت أم الإمام الشافعي تهيئه وهو ذاهب إلى مالك، وكانت توصيه وتضع له أرغفة، فكان يحاول بقدر المستطاع ألا يكون أكولاً حتى لا تأخذه هذه الأرغفة أطول وقت.
عبد الله بن أبي داود عندما ذهب يسمع من أبي سعيد الأشج -وهو أكبر شيخ له ومن أجل شيوخه رحمه الله- قال: دخلت إلى أبي سعيد الأشج لأسمع منه، فاشتريت ثلاثين مداً باقلاء، فكنت كل يوم آكل عدداً من حبات الفول، ونحن الواحد منا اليوم يضع نصف كيلو في (السندويتش) انظر الفرق! - قال: فما نفد الفول إلا وكنت قد كتبت عن أبي سعيد ثلاثين ألف حديث.
ثلاثون كيلو فول يعادل ثلاثين ألف حديث كتبها عن شيخ واحد فقط! وابن أبي داود له مشايخ كثيرون جداً، وعلماء المسلمين الأوائل لم يكونوا أيتاماً في الشيوخ، بل كان أقل واحد فيهم له مائتان وخمسون وثلاثمائة شيخ وهو يبكي على نفسه يقول: لم أقابل أحداً، وهذا الإمام الطبراني له ألف ومائة وتسعون شيخاً.
وحتى لا يكون هناك يأس ننزل إلى المتأخرين قليلاً، فهذا الإمام الذهبي صاحب سير أعلام النبلاء، وتلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية، فقد بلغ معجم شيوخه حدود ألف ومائة ونيف، لما ذكر حرف (الزاي) وجدت سبعة عشر شيخة له اسمها (زينب) فقط، من النساء اللاتي تلقى عليهن العلم، وقد تجاوزن المائة والعشرين.
فكيف كان العلم عندهم؟ كم من العلم كان عند هؤلاء؟! نحن كمتأخرين ينبغي للإنسان أن يخجل إذا ذكر عند المتقدمين، إذ لم يبق معنا من العلم إذا ذكر الأول إلا فضل بزاق، والإمام أحمد بن حنبل لو وزع علمه علينا لأصبح كل واحد منا يصبح عالماً فحلاً، فكيف إذا نشر علمه ووزعه؟! إذاً: الشخص حين يأتي يناقش علوم المتقدمين فلا يغتر بنفسه، لا يلبس ثياب غيره، حتى إنه إذا تعقب أحداً يقول: المتقدم أخطأ، ولابد أن تتعامل معه بلطف، ولابد أن تعرف قدره ومقداره، وتعرف قدرك ومقدارك، فالعلماء المتقدمون كانوا يسابقون الزمن، كان ابن أبي حاتم الرازي يقول: كنت أقرأ على أبي وهو يأكل، وهو يشرب، وهو يمشي، وهو في الخلاء.
أي: يدخل الخلاء وهو جالس في الخارج يقرأ عليه! بل وصلت الهمة أن الإمام الدارقطني كان يُقرأ عليه وهو يصلي النافلة! والخطيب البغدادي -كما ذكر ذلك ابن الجوزي في المنتظم في ترجمته- قال: كان يمشي في الطريق وهو يطالع جزءاً.
فهؤلاء العلماء كانوا حريصين جداً على الوقت.
وما أجمل ما يحدثنا به أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي، وهذا الرجل له مصنف اسمه (الفنون) في ثمانمائة مجلد، وهو خلاصة ما كان يخطر له، نشر منه مجلدان هي كالأحاجي والألغاز، حين تقرأ في المجلدين تشعر أنك لا تفهم كلمة، فحين يكون نائماً ويخطر على باله خاطرة يقوم يكتبها وينام مرة أخرى، وكتاب (الفنون) جاء بالتتابع هكذا، وابن عقيل ليس له كتاب واحد فقط، بل له كتب عدة، وقد كان رجلاً له أولاد وزوجة وله مشاكل، والعوام كانوا يأتون إليه، فكيف صنف مثل هذه الكتب؟ يقول عن نفسه: إنني أقصر بجهدي أوقات أكلي، حتى إنني أختار دق الكعك وتحسيه بالماء على الخبز؛ لأجل ما بينهما من التفاوت في المضغ.
فهو يقول: بدلاً من أن أمضغ خمس دقائق وأجعلها دقيقاً، وأبلها بالماء، وأسكت شدة الجوع وأنتهي؛ لأن المطلوب من الأكل: أنك لا تشعر بوقع الجوع.
وكان يقول: إنه لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا كلَّ لساني عن مناظرة، وبصري عن مطالعة، فإذا استطرحت فأعمل فكري حال استطراحتي، فلا أقوم إلا وقد خطر لي ما أسطره.
وابن الجوزي استفاد من صحبة ابن عقيل، فقال: إن كثيراً من العوام يطالبك بالزيارة لأنه يدعي الشوق، وأنت لو رددتهم صارت بينك وبينهم نفرة، ولو وافقتهم ضاع عمرك فماذا أفعل؟ قال: فصرت أهيئ للقائهم حزم الدفاتر، وبري الأقلام، وقطع الورق، فإن هذا شيء لابد منه ولا يحتاج إلى فقه، فأنا لدي كتب مبعثرة، فأول ما يأتي أحد لزيارتي أبدأ بترتيبها وتحزيمها وتنظيف التراب وغير ذلك، ويمكن أن أقول له: شارك بيدك معي؛ لأن هذه أشياء ضرورية، فأنا لو تركت مثل هذه الأشياء واستجبت لهؤلاء العوام ضاع عمري لذلك فهؤلاء العلماء صنفوا كتباً كثيرة جداً، وأنت تندهش أن ابن الجوزي له ستمائة مصنف، منها ماقد يصل إلى عشرين مجلداً، ومنها خمسة مجلدات وعشرة مجلدات، وهذا إنما حصلوه بالحرص على العمر(59/10)
الذكاء
أما الذكاء فهو أول درجات السلم، إن العلم لا يسلم زمامه لغبي ولا بليد، لابد أن يكون طالب العلم ذكياً جداً، نحن ابتلينا بأناس تصدروا للفتيا ليس عندهم ذكاء، لأن الذكاء يورث ما يسمى عند الفقهاء: بفقه النفس، وفقه النفس: هو مراعاة مقتضى حال المخاطب.
جاء رجل وطلب منك فتوى، فأنت لابد أن تتفرس في الرجل وتزنه، وهذه الفراسة كانت موجودة عند أسلافنا بكثرة، لكنها أصبحت الآن أندر من الكبريت الأحمر.
وقد صح عن ابن عباس أنه كان يجلس مع بعض أصحابه كـ سعيد بن جبير وعكرمة وطاوس، فجاءه رجل فقال له: (ألقاتل المؤمن توبة؟ قال له: لا.
فلما مضى الرجل قال له أصحابه الجلوس: أولم تفتنا قبل ذلك أن لقاتل المؤمن توبة؟ قال: بلى، ولكني رأيت في عينيه الشر).
فالسائل يريد أن يقتل، وجاء مسعوراً، ويريد أن يأخذ فتوى بأن قاتل المؤمن له توبة فيقول: إذاً سنقتل ونتوب إن شاء الله، أما إذا لم يكن له توبة فلا، فـ ابن عباس لاحظ هذه المسألة، فقال له: ليس لقاتل المؤمن توبة.
وهنا مسألة يتكلم العلماء فيها، وهي: أنه يجوز للمفتي أن يفتي بأشد الوجهين، إذا كان له وجه في الدليل، مراعاة لحال المستفتي، إذا كان الدليل يحتمل وجهين، فمراعاة لحال المستفتي يفتيه بالأشد.
والشيخ محمد الصالح العثيمين رحمه الله استخدم هذا الأصل في فتوى تحريم نقاب البرقع، لأن بعض الناس طار بها طيراناً، على أساس أن الشيخ ابن عثيمين يقول: النقاب حرام وليس كذلك، فالشيخ محمد صالح رحمه الله ممن يوجب ستر المرأة وجهها، فكيف يقول: إن النقاب حرام؟ فالنقاب الذي فيه إدلاء، وهو أن تضرب المرأة بالثوب الواحد من شعر رأسها لأخمص قدميها قطعة واحدة، فهذا هو الذي يوجبه الشيخ ويقول به.
ويبقى النقاب الآخر وهو نقاب البرقع الذي اشتهر في مصر والشام، وهو عبارة عن قطعتين: قطعة غطاء رأس، وقطعة تضرب على الوجه، فالزائر إلى مكة يلاحظ النساء اللواتي يرتدين لباس البرقع، بدأن يتوسعن فيه، ترفع الغطاء الأعلى قليلاً، وتنزل غطاء الوجه قليلاً، فإذا بنصف وجهها يظهر، أي من منتصف الجبهة إلى أول الأنف، فلما بدأن يتوسعن في ذلك قال: لا، لا يجوز، وإن كان نقاب البرقع موجوداً في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا نراه الآن؛ لأن النساء توسعن في ذلك.
والعلماء يقولون في هذه أيضاً: إن المفتي إذا أفتى في مسألة بشروط جواز فلم يلتزم الناس الشروط، فله ألا يذكر الشرط، أي: إذا قال مثلاً: يجوز أن تلبسي نقاب البرقع، لكن إياك أن تفعلي كذا وكذا، وهو يعرف أنها لن تلتزم بهذا الشرط؛ فحينئذ له أن يطلق المنع بغير ذكر الشرط؛ لأن الشرط لا قيمة له، بل هذا الشرط يمكن أن يستخدمه بعض الناس في الفوضى، فيقولون: من الأفضل أن نغلق هذا الباب، وهذا من ذكاء المفتي، لابد أن يراعي المفتي حال المستفتي.
فطالب العلم في بداية الطلب لا بد أن يتمتع بهذا الذكاء، وإلا فسيخسر كثيراً، إما في التحصيل، أو إذا ابتلى الله العباد به مفتياً بعد ذلك.
فأول درجات الذكاء: أن طالب العلم يبدأ بالأهم فالمهم.
أول واجبات طالب العلم: والإنسان يعجب من الطلبة الذين يريدون دراسة علم مصطلح الحديث، ولم يجودوا القرآن بعد، هو لا يستطيع أن يقرأ القرآن ويريد أن يدرس المصطلح، فطالب العلم إذا كانت بدايته هكذا فلن يفلح، وقد تجد أيضاً طالب العلم أول ما يبدأ في الفقه يبدأ يقرأ في المحلى لـ ابن حزم، وهذا من علامات الخسران: أن يكون أول ما يقرأ من الفنون وأول ما يبتدئ، وأول درجة في الفقه أن يقرأ المحلى لـ ابن حزم أو نيل الأوطار، أو الكتب التي تعنى بذكر الأدلة والمناقشة.
لنفرض أنني رجل ليس عندي فهم، أي: ميزان أعرف به الحق من غيره، فإذا أنا دخلت في الكتب التي تعنى بذكر الخلاف، واحد في الشرق والثاني في الغرب، الثاني يحضر دليلاً وهذا يحضر مقابله دليلاً، فأنت في النهاية ماذا تصنع؟ لا يمكن إلا واحدة من ثلاث: 1 - إما أن يختار بهواه القول المناسب له.
2 - وإما أن يسوء ظنه بالعلماء جملة، فيقول: لو كانوا على حق ما اختلفوا والدليل واحد، فواحد مشرق والآخر مغرب وما ذلك إلا لأن مدارك الفهم متسعة، فهذا أفتى بمنطوق الدليل، والثاني أفتى بمفهوم الدليل، والمفهوم غاب على هذا الرجل فلم يتفطن هذا كيف أخذ هذه الفتوى.
وإما أن يعرض عن العلم جملة، طالما أنه لم يجتهد.
فالصواب: أن نبدأ بصغار العلم قبل كباره، كما ذكره الإمام البخاري في تبويب له على تفسير معنى الرباني، في قوله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79]، قال: الذي يبدأ بصغار العلم قبل كباره، وكما قال القائل: غذاء الكبار سم الصغار.
أي: لو أحضرت ولداً وهو لا يزال يرضع وأعطيته قطعة لحم فإنه يموت بها؛ لأن معدته لم تتعود على هذا الهضم، فلذلك الإنسان أول ما يبدأ لا بد أن يعمل ذكاءه، ما الذي ينبغي أن يبدأ به، لكن أول ما يدخل مباشرة يدخل في سلك الأئمة المجتهدين، هذا يضر الطالب أشد الضرر.
هذا الذكاء ينفعه فيما بعد في استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية، وبعض الناس يظن أن الكتاب والسنة كافيان وافيان لكل ما يستجد للبشر، لدرجة أنهم قالوا: إن تسعة أعشار الأحكام الشرعية تؤخذ من القياس، وهذا من الخطأ، فالأحكام الشرعية بكاملها وكل الأدلة كافية، لكن المشكلة في الذي يستنبط الأحكام؟ فهذا الإمام البخاري إمام أهل الحديث والفقه في زمانه كان من العلماء الذين يستنبطون الفقه من الأدلة، ففي كتاب المواقيت قال: (باب من أدرك ركعة من العصر) أي: قبل أن تغرب الشمس، ذكر في هذا الباب ثلاثة أحاديث، فالحديث الأول مناسب للتبويب، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (إذا أدرك أحدكم سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك، وإذا أدرك أحدكم سجدة من الصبح قبل أن تشرق الشمس فقد أدرك).
والتبويب كأنه مأخوذ من نص الحديث، ولكن المهم في الحديثين الباقيين، أما الحديث الثاني بعد حديث أبي هريرة فهو حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة فعملوا بها حتى انتصف النهار، ثم عجزوا، فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به حتى صليت العصر ثم عجزوا فأعطوا قيراطاً قيراطاً، ثم أوتيتم القرآن فعملتم به حتى غربت الشمس، فأعطيتم قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتاب: هؤلاء أقل منا عملاً وأكثر أجراً، قال الله: هل ظلمتكم من أجوركم شيئاً؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء).
وأردف حديث أبي موسى الأشعري عقب حديث ابن عمر قال: (مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوماً يعملون له عملاً إلى الليل، فعملوا إلى نصف النهار، فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك فاستأجر آخرين، فقال: أكملوا بقية يومكم ولكم الذي شرطت، فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر، قالوا لك: لا حاجة لنا إلى أجرك، فاستأجر قوماً فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين).
أولاً: ما علاقة هذين الحديثين بحديث: (من أدرك سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس) هذا الجواب الإمام البخاري يريد أن يقول: إن العمل لا يقبل إلا إذا استوفى شرائطه، والله تبارك وتعالى قال: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]، فإذا أدرك رجل سجدة أو ركعة واحدة قبل أن تغرب الشمس، بمعنى أنه أنهى الركعة ودخل وقت المغرب، فهل وقع أغلب صلاته في غير الوقت أم لا؟ ثلاث ركعات وقعت في غير وقت العصر، فالجزء القليل من الصلاة هو الذي وقع في الوقت، ومع ذلك عاملك الله تبارك وتعالى بالفضل، فوهب الأكثر للأقل، واعتبر أنك أدركت الصلاة.
ولو أنه حاسبك بالعدل لقال: لك ركعة واحدة فقط، وثلاث ركعات لا قيمة لها؛ لكنه عاملك بالفضل، فوهب لك الأكثر الذي وقع على غير شرطه.
كذلك عامل هذه الأمة بالفضل، فكانت أقل أعماراً وأكثر أجراً، ولو أنه عاملها بالعدل لعاملها أقل، فيعطيها من الأجر أقل ما يعطي للأطول عمراً، هذا هو وجه الربط، فالإمام البخاري يريد أن يقول: إن هذا تفضل من الله عز وجل أن يقبل منك صلاتك وقد وقع أغلبها في غير الوقت، مع قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103]، أي: لها وقت أول ولها وقت آخر، فعاملك هنا بالفضل، كما عامل الأمة جملة بالفضل لما أعطاها الأجر الجزيل مع العمر القصير، وهذا واضح جداً في أشياء كثيرة، منها ومن أجلّها قوله تبارك وتعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3]، فأطول عمر نحن نعلمه هو عمر نوح عليه السلام {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت:14]، وتلفت نظرك هذه العبارة، لماذا لم يقل: (تسعمائة وخمسين)؟ إذا كان ألف سنة إلا خمسين عاماً هي تسعمائة وخمسين، فهل هناك فرق بينهما؟ هناك فرق كبير، فقد جرت عادة الناس أن تلغي الكسر في العد، مثاله: كم الساعة الآن؟ فتقول مثلاً: السادسة وثلاث عشرة دقيقة تقول له السادسة والربع أو السادسة وعشر دقائق، هكذا، فتلغي الكسر، فجرت عادتهم، إلغاء الكسر دائماً في العد.
فلو قال: (تسعمائة وخمسين عاماً)، لقلنا: يحتمل أن تكون تسعمائة وثلاثة وخمسين، أو أربعة وخمسين، أو خمسة وخمسين، فلما قال: {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت:14] لا يحتمل أن يكون هناك كسر إطلاقاً.
فأطول عمر نحن نعرفه عمر نوح عليه السلام: (تسعمائة وخمسين عاماً)، وقد ذكر(59/11)
أدب الخلاف بين الطالب والعالم
عندما أختلف مع أي عالم كان، فلابد أن أراعي الفرق بيني وبينه، وقد أكون أنا لم أهتد إلى هذا العلم إلا على يد هذا الرجل، فكيف أعامل هذا الشيخ -أياً كان هذا الشيخ- مثل هذه المعاملة؟! إن هذا يعد من العقوق.
ألا ترى موسى عليه السلام لما ذهب إلى الخضر عليه السلام، وطلب منه أن يعلمه، ماذا قال له؟ {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66]، انظر جمال السؤال! حاجته صاغها في سؤال حتى يتيح الفرصة للشيخ ليقول: نعم أو لا، فهو لم يفرض نفسه فرضاً، وكذلك انظر إلى كلامه (هل أتبعك) فجعل نفسه تابعاً، ولا شك أن التابع أقل من المتبوع، وموسى كليم الله، وهو عند جميع أهل السنة أفضل من الخضر، لا شك في ذلك، بل لعله عند جميع أهل الأرض أفضل من الخضر عليه السلام؛ لأنه من أولي العزم، والخضرفي نبوته خلاف، لكن موسى عليه السلام ليس في نبوته ولا رسالته خلاف، يقول: (هل أتبعك) -فخفض نفسه ورفع الخضر؛ لأنه أستاذه في هذه المسألة- (على أن تعلمن) -فنسب نفسه للجهل ونسب شيخه للعلم؛ لأن الرجل يريد أن يتعلم، (على أن تعلمن مما)، (من): تبعيضية، أي: بعضاً مما عندك، فأشار إلى كثرة علم شيخه، (من ما) و (ما) هذه من صيغ العموم، فيدل على أن شيخه شمل جملة العلوم، وهذه تؤيد البعضية التي ذكرناها (من ما عُلمت) كلمة (علمت) مبنية للمجهول، يرقق قلب الشيخ عليه، كأنه قال له: كما علِّمت رُدَّ الإحسان وعلمني (مما علمت رشداً)، واشترط عليه أن يأخذ منه الرشد دون الغي، وهذا هو الأصل في تلقي العلم، وأنت لو حاولت أن تتأمل في هذه الآية وتتبحر فيها ربما تجد أيضاً آداباً أخرى.
فانظر إلى لطافة السؤال، وأنت حين تدخل على الشيخ بهذا الأسلوب فإنه يرق قلبه لك، وهذه من الآداب، قال ابن جريج: لقد استخرجت ما عند عطاء من العلم بالرفق.
ابن جريج لازم عطاء بن أبي رباح عشرين سنة، واستخرج علم عطاء بالرفق، وقال الزهري: لقد خسر أبو سلمة بن عبد الرحمن علماً كثيراً بمماراته ابن عباس؛ لأنه كان كلما جلس مع ابن عباس يماريه ويجادله، فأنا لو أعلم أن أحداً كلما جلست معه يماريني فلن أتكلم لماذا؟ أريد أن أريح دماغي.
لكن أوليس المقصود من الجدل عموماً تقرير الحق؟ فإذا كان الطرف الآخر إنما يجادل لغرض الجدل، فالصواب ألا أتكلم، فـ أبو سلمة بن عبد الرحمن من كثرة ما كان يماري ابن عباس خسر ما عنده من العلم.
فالإنسان إذا تلطف حصّل مراده، ولذلك قال الشاطبي في الموافقات: (ترك الاعتراض على الكبراء محمود)، وساق تحت هذا العنوان، أو تحت هذه الكلمة فصلاً نافعاً جداً في أدب الطلب، ترك الاعتراض على الكبراء محمود لاسيما إذا كانوا من أهل العلم النافع والعمل الصالح، وإذا كانوا مبرزين في العلم والتقوى؛ لأن الإنسان قد يعترض على ما لم يدركه علمه.
وذكر الشاطبي رحمه الله اعتراض عمر بن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، وقصة أبي جندل بن سهيل بن عمرو لما جاء يرسف في أغلاله وقد عذب في الله عذاباً أليماً، فكان سهيل بن عمرو مازال يتفق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على بنود الاتفاق، فكان منها أنه إذا أتاك رجل مسلم فاراً بدينه ترجعه إلينا، وإذا فر رجل من عندك كافراً لا نرجعه، فقال المسلمون: سبحان الله نرجعه وقد جاء مسلماً! وهم في حال تحدثهم جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في أغلاله، فرمى نفسه بين ظهراني المسلمين وقال: يا معشر المسلمين! ألا ترون ما أصابني؟! وأبو جندل هو ابن سهيل بن عمرو الذي يكتب الاتفاق مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد! هذا أول ما أطالبك به أرجعِه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لم يقض الكتاب بعد، قال: أبداً.
فقال: فأجزه لي.
أي: سنكتب الكتاب كما تريد، ولكن هذا نستثنيه.
قال له: لا.
قال: بل أجزه لي.
قال له: لا.
فكان الموقف في نظر عمر بن الخطاب وسائر المسلمين موقفاً في منتهى الذل، فما الذي يجبرنا على هذا؟ نحن نستطيع أن ندخل عليهم فنأكلهم أكلاً، لماذا نعطي الدنية في ديننا؟ لذلك لم يتحمل عمر واعترض، وقام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ألستَ رسول الله حقاً؟ قال له: بلى.
قال: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى.
قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري.
قال: أولم تقل لنا أنا نطوف بالبيت؟ قال: قلت لك نطوف به العام؟ فقال له: لا.
قال: فإنك آتيه ومطوف به)، لكن الكلام لم يقنع عمر، لأنه ثائر فلم يتحمل هذا الذل، فقام إلى أبي بكر الصديق، فقال: أليس رسول الله حقاً؟ قال: بلى.
قال: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى.
قال: فلم نعط الدنية في ديننا؟ قال: هو رسول الله وليس يعصيه، وهو ناصره فاستمسك بغرزه.
العجيب في المسألة توافق الكلمات بين أبي بكر الصديق وبين النبي عليه الصلاة والسلام! نفس الكلام الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم بالحرف قاله أبو بكر الصديق، لكنه زاد عليه (استمسك بغرزه)! قال عمر بن الخطاب: فعملت لذلك أعمالاً أي: تصدق وصام وما إلى ذلك؛ ليكفر عن هذا الاعتراض.
فـ الشاطبي تحت هذا العنوان الجميل ذكر هذه القصة، قال: (ترك الاعتراض على الكبراء محمود) لاسيما -كما قلت- إذا كان هذا الكبير ضليعاً بعلم الكتاب والسنة؛ لأن عنده من المدارك ما ليس عندك فتسلم له، لاسيما إذا لم يكن في يدك دليل واضح على رد قول هذا العالم.
فليس من الأدب ولا من الإنصاف أن لا يعترف الإنسان لهؤلاء بالفضل.
ابن جرير الطبري رحمه الله -وهو أحد العلماء الكبار جداً- كان له مذهب اسمه (المذهب الجريري) لكن هذا المذهب اندثر في جملة ما اندثر من المذاهب، كمذهب سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد؛ لأن تلاميذه لم يقوموا به، قال لأصحابه يوماً: تنشطون لكتابة التفسير -وكان يملي من حفظه- قالوا: في كم ورقة يكون؟ قال: في ثلاثين ألف ورقة.
فقالوا: هذا مما تفنى دونه الأعمار.
قال: إنا لله! ماتت الهمم، فأملاه في ثلاثة آلاف ورقة مختصراً، وهو الآن في ثلاثين مجلداً، مطبوعة بالأحرف الصغيرة، والشيخ أحمد شاكر رحمه الله وأخوه الشيخ محمود شاكر حفظه الله كانوا قد بدءوا يحققون تفسير الطبري، فوصلوا في ستة عشر مجلداً إلى سورة الرعد، ولو أكملوا لكانوا وصلوا إلى المجلد الثمانين.
فقال لهم: تنشطون لكتابة التاريخ! قالوا: في كم ورقة يكون؟ قال: نحواً من التفسير، قالوا: هذا مما تفنى دونه الأعمار فقال: إنا لله! ماتت الهمم، فأملاه أيضاً في نحو مما أملي فيه التفسير.
هذا الإمام الكبير لما دخل عليه بعض عواده وهو في مرض الموت تناقشوا في مسألة من مسائل المواريث، فدعا ابن جرير بقرطاس ودواة ليكتب له هذه المسألة لأنه أول مرة يسمعها، فقيل له: أفي هذه الحال -أي: وأنت تموت-؟! قال: أترك الدنيا وأنا بها عالم خير من أن أتركها وأنا بها جاهل.
وإن كان لا يترتب عليها عمل عنده؛ لأن الاستكثار من العلم جيد، وليست فيه مضرة.
إن العلم يحتاج إلى عمر، نحن نوصي أنفسنا وإخواننا في الله تبارك وتعالى ألا يستعجلوا، قال الإمام الشافعي: (فكلما ازددت علماً ازددت معرفة بجهلي)، ولا شك أن الذي نجهله أكثر من الذي علمناه.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يؤدبنا وإياكم بأدب النبوة أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم(59/12)
الأسئلة
.(59/13)
خطأ طالب العلم في الاعتماد على كتب الفروع وإعراضه عن كتب الأصول
السؤال
يعمد بعض طلاب العلم إلى دراسة كتب الفروع والإكثار منها، دون إرفاقه ذلك بدراسة الأصول، فهل ينتفع طالب العلم من هذا المنهج؟
الجواب
( من حرم الأصول حرم الوصول) لماذا الإنسان يتأرجح ما بين الأقوال المختلفة؟ لأنه ليس عنده أصل ثابت يرجع إليه، والرجل إذا حفظ كل كتب الفروع، مثلاً: حفظ المغني لـ ابن قدامة، حفظ المجموع للنووي، حفظ المحلى لـ ابن حزم حفظ كل هذه الكتب، فلن يصير فقيهاً ولا يستطيع أن يثبت في تقرير الحق؛ لأنك لو كنت درست الأصول تستطيع أن تهدم له الحكم الذي وصل إليه من كتب الفروع، وسيكتشف أنه في النهاية ما هو إلا مقلد، رجل حفظ شيئاً فقاله ولم يتحققه، المشكلة أننا أهملنا الأصول.
لابد في العلم من أصلين مهمين جداً: علم الحديث وعلم أصول الفقه، فعلم الحديث يثبت لك الدليل، وعلم أصول الفقه يثبت لك الحجة، الفهم عن الدليل؛ لأنك إذا تضلعت في علم واحد فقط كنت كالطائر بجناح واحد فقط، فلو كنت محدثاً صرفاً فلن تتمكن من الأصول.
ومع ذلك فليس من العيب الاقتصار على باب من أبواب العلم، إنما العيب أن تتخطى إلى ما لا تتقن، لكن لو وقفت على ما تحسن فلن تعاب، كن محدثاً ولا تتكلم في الفقه، كان الدارقطني رحمه الله محدثاً صرفاً، وليس له كتاب فقهي، لكنه في الحديث إمام يوضع في جبين المحدثين، أملى كتاب العلل من حفظه، وكتاب علل الحديث للدارقطني يعد معجزة باهرة! قال الذهبي: لو كان هذا الإمام أملى هذا الكتاب من حفظه فلا أعلم له في الدنيا نظيراً.
وأنا قبل خمسة عشر عاماً لما ذهبت أنقل من كتاب العلل من دار الكتب المصرية كان أول حديث هو حديث (شيبتني هود وأخواتها) هذا الحديث أنا نسخت فيه حوالي خمس عشرة ورقة كلها في الاختلافات بين الرواة، والله! كان دماغي يلف وأنا أنقل الطرق التي يذكرها الإمام على البديهة، وأنا ناقل فقط، فهي ليست في ذهني، والذي طالع علل الدارقطني يعلم أن الإمام أعظم مما وصفت، ومع ذلك لم يُذكر في باب الفقهاء انتهى.
(آفة المرء أن يتكلم فيما لا يحسن)، فمثلاً جاءت امرأة إلى محدث صرف فقالت له: كان عندي دجاجة وسقطت في بئر ماء فغرقت وماتت، فما حال الماء -يعني: أنتوضأ به-؟ قال: ويحك! لِمَ لم تغط البئر؟ أهذا هو الموضوع؟! قضاء الله نفذ، أنا أريد حكماً على الحالة الواقعة، قال لها: لم لم تغط البئر؟ لأنه ليس عنده جواب على هذه المسألة الفقهية.
لكن الإنسان إذا ضم لعلم الحديث علم أصول الفقه فقد جمع بين الخيرين.
أحياناً يكون المرء فقيهاً، لكنه ضعيف في علم الحديث، وإنما عنده مشاركة، مثلاً يقول: صححه ابن حجر صححه الذهبي، فهو رجل ينقل ومهتم بنقل تصحيح علماء الحديث للحديث، فحين يأتي مبتدع ماكر فيقول له: إن دليلك الذي تتكلم عنه ضعيف فسقط الحكم بسقوط الدليل فيقول له: كيف؟ هذا صححه ابن حجر؟! يقول له: دعنا من باب التقليد، فأنت حينما تقرر الحق تصير مجتهداً، أثبت صحة الحديث، فأنا بإمكاني أن أقول لك: فلان ضعفه، ولن نصل، كما أنني أقرر الحق بدليله هنا وهناك، فقرر أو أثبت لي أنه صحيح.
فيعجز، ولا يستطيع إلا أن ينقل أنه صحيح عن فلان أو علان، حينئذ لو كان ورعاً يتوقف، ويقول: طالما أن المسألة هكذا فدعني أبحث.
فالمبتدع بإمكانه أن ينقض الحكم كله لأنه قد ضيع الدليل، فإذا ضاع دليل الحكم لا يثبت الحكم، إذ لا يتصور فناء الأصل مع وجود الفرع، لكن لو أنه متضلع يستطيع أن يفعل في المبتدعة ما لا تفعله الجيوش الجرارة، مثل شيخ الإسلام ابن تيمية.
فإن شيخ الإسلام ابن تيمية فعل في المبتدعة ما لم تفعله الجيوش الجرارة في الكفار، والإمام الذهبي كان محدثاً من شعر رأسه لأخمص قدمه، وبالرغم من ذلك فقد كان رحمه الله يقول: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث؛ من سعة حفظه، وكنت تتعجب من حفظه وسرده للأسانيد وتخريجه من الكتب، مع أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حين نصنفه في كتب الطبقات نصنفه في طائفة الفقهاء، ليس في طائفة المحدثين، كان أن الخطيب البغدادي ترجم لـ أحمد بن حنبل فصنفه في طائفة المحدثين، وقد ترجم للشافعي فجعله في طائفة الفقهاء، فغضب عليه الشافعية والحنابلة، لأنه لما قال في الشافعي تاج الفقهاء، قالوا: لم تذكره في الحديث فسلبته الحسن كله، ولما جاء يترجم لـ أحمد قال: سيد المحدثين، قالوا: لم تذكره بالفقه، فأي معنى للحديث بغير فقه؟! لا، الإمام الشافعي كان محدثاً كبيراً، والإمام أحمد كان فقيهاً كبيراً، لكن غلب على هذا الفقه فاشتهر به، وغلب على هذا الحديث فاشتهر به.
فالعالم كلما كان متضلعاً -بالذات بعلم الأصول- يستطيع أن يمضي في الأدلة مضي السهم، لذلك نحن نقول لإخواننا المتأرجحين بين التيارات الموجودة أو الفتاوى الموجودة: لن تعدوَ أن تكون رجلاً من اثنين: إما أن تكون طالب علم جيداً، فإذا عرفت الطريق فاسلك طريق الأصول والدراسة، وإما أن لا يكون لك وقت وليس عندك صبر ولا جلد، ولا تطمع حتى أن تدرس الأصول، فحينئذ انظر إلى العالم أو إلى طالب العلم الجيد الذي تعتقد أنه الأدين والأعلم والأورع فالزم فتواه، لكن إذا جعلت دينك عرضة للخصومات أكثرت التنقل، إذا كنت رجلاً من العوام ما الذي يحملك على أن تنتقل بين الأقوال؟ لماذا تعطي أذنك لكل ناعق؟ إذا عرفت أن هذا هو الحق فالزمه، واصحب من تعتقد أنه الأعلم والأدين والأورع، فليس هناك سبيل إلا هذا.(59/14)
عدم جواز القدح في الأئمة الأعلام في المسائل العلمية الخلافية
السؤال
حين ذكرت ابن حزم فإنك لم تترحم عليه، فما السبب؟
الجواب
يقول: إنني لم أترحم على ابن حزم فأقول: ابن حزم رحمه الله وابن الجوزي رحمه الله رغم أنف أصحاب التكفير؛ لأن هناك من يقول: لا يجوز الترحم على ابن حجر العسقلاني، ولا يجوز الترحم على ابن حزم، ولا يجوز الترحم على ابن الجوزي، ولا يجوز الترحم على كل من له بدعة في العقيدة.
أنا أحيل على الجزء رقم عشرين من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية وهو يقول: لا يجوز التبديع في المسائل العلمية إذا كان لها وجه.
فيقول: لا يجوز تضليل الذي يقول: إن الله تبارك وتعالى لا يرى في الآخرة، لاسيما إذا كان متأولاً كـ مجاهد بن جبر الذي يقول بأن الله لا يُرى في الآخرة، اعتماداً على قوله تبارك وتعالى: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143].
فلو أن رجلاً أخطأ متأولاً، فإنه لا يخرج بذلك من جملة المسلمين، فإذا كان لم يخرج من جملة المسلمين فأي معنى لأن تقول: (لا يرحمه الله)، وكذا من قال: إن الاستواء معناه الاستيلاء (لا رحمه الله).
! هلا تأدب هذا القائل مثلما تأدب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وهما يكسران أصنام الجهمية، وهما من أفضل وأقوى الذين ردوا على هؤلاء الجهمية، ما سمعنا (لا رحمه الله) أو (يذهب إلى سقر)، أو هذه الأشياء منهم، بل هذا مسلم أخطأ، لا نقره على خطئه ونرجو له المغفرة.
فأنا إذا كنت لم أقل (ابن حزم رحمه الله) فلا أقصد ترك الترحم عليه، بل أقول: ابن حزم رحمه الله وابن الجوزي رحمه الله، ونسأل الله أن يغفر لنا ولهم.(59/15)
مفهوم العزلة والحصار للتفرغ لطلب العلم
السؤال
هل المقصود بالعزلة والحصار وعدم الاختلاط بالناس من أجل التفرغ لطلب العلم؟ وهل يلزم طالب العلم عدم الوعظ حتى يكون متمكناً في أبواب العلم؟
الجواب
ليس معنى كلامي أن يعيش المرء أخرس، المتأمل في جملة الكلام يرى أن بعضه يكمل بعضاً، لما قلت: إن طالب العلم ينبغي أن يضرب على نفسه حصاراً ذكرت من الأمثلة أنه يضيع الليلة في الجدل، هذا هو الحصار الذي أقصده، لكن رجل يرى شيئاً من المنكرات وبإمكانه أن ينكر فلا يقال له: انتظر حتى تتضلع من العلوم ولا تنكر لا، لأن المسألة واضحة، رجل لسانه طلق وبإمكانه أن يقول كلمة يذكر بها غافلاً، فهذا يجب عليه أن لا يتأخر؛ لأن هذه ليست فتوى ولا يترتب عليها شيء.
نحن في باب الفتوى نقول: لا؛ الإنسان لابد أن يتضلع من العلم، على الأقل في المسألة التي يفتي بها؛ لأن العلم يتجزأ، فإذا تصدى لموضوع ما يتقنه، فله أن يتكلم فيه، لكن ليس له أن يتكلم مطلق التكلم إلا إذا تضلع بالعلم جملة، فلا يفهم من كلامي أنني أقول: إنه لا يحل لأحد أن يتكلم ولا يعظ ولا ينكر ولا هذه الأشياء لا، أرجو أن يكون هذا واضحاً، أعني خذ كلامي جملة واحدة، فلربما صاحب السؤال كتبه قبل أن أتم كلامي.(59/16)
ضرورة حضور طالب العلم حلقات العلم وعدم الاكتفاء بالقراءة المنفردة لكتب العلم
السؤال
كثير من الإخوة يريدون أن يطلبوا العلم، وفي سبيل ذلك فإنهم يعتزلون الناس ويتفرغون لقراءة الكتب، حتى إنهم يمتنعون عن نصح الجاهل وإرشاده إلى ما يجب عليه من أمور دينه بحجة أنهم لم يتعلموا بعد، ومن جانب آخر يسأل بعض الشباب عن كيفية البدء في طلب العلم، وكيف يبدأ في دروس الفقه والحديث والعقيدة، إلى غير ذلك، فالسائل يريد أن يضع قدمه على أول الطريق في طلب العلم أرشدنا جزاك الله خيراً؟
الجواب
قلت سابقاً: إن هذه الحلقات لابد منها، ولكن لا تجد أحداً قط حصّل قدراً كبيراً من العلم اعتمد فقط على مثل هذه الحلقات، بل لا بد من البحث الشخصي، ولابد من التعب، فإن التدريس في الحلقات يفتح لك الباب، فتتوفر لك الفرصة لتصحح ما تقرأ، أما أن يأتي الرجل ليسمع فقط لا غير، لا يقرأ ولا يجهد نفسه ولا يلخص هذا لا يمكن أن يحصل على علم كثير، فهذه الحلقات هي المفتاح لاسيما في هذا العصر.
سمعت شخصاً يقول: الشيخ بخمسة ريالات، فأقول له: ماذا تعني بقولك: الشيخ بخمسة ريالات؟ فيقول: أي شيخ ممكن يكون عندك في بيتك بخمسة ريالات -يعني الشريط- وترجعه كما تريد، وتأخذ آخر، وتسمع كما تريد، وقد لا تستطيع أن تستوضح مسألة من الشيخ في الجلسة لكن في الشريط ممكن تسمع الدرس أكثر من مرة، فالشريط هذا كأنه نصف شيخ.
طبعاً في مسألة الملازمة والأدب الشريط لا يعلِّم؛ لأن الشريط شأنه شأن الكتاب، فلزوم حلقات أهل العلم يستفيد الإنسان بها الأدب الذي هو زين العلم، فهناك بعض المشايخ شرحوا كتباً كبيرة، بإمكان الإنسان أن يأتي بالكتاب ويسمع الشريط، هذا إذا تعذر عليه أن يوافق شيخاً على عقيدته، أو يجد شيخاً متضلعاً بالكتاب والسنة، فهذه الحلقات لابد منها.
ولأن العزلة وهذا شيء أنا جربته وبلوته- غير محمودة، ومسألة الانكباب على الكتاب وعدم الذهاب حتى لإخوانك من طلاب العلم، فتكلمهم وتناظرهم، وتأخذ ما عندهم من الفوائد، فطالب العلم الذي يعمد إلى هذا السلوك يخسر كثيراً جداً.
بعض إخواننا يقول: كثيراً ما قرأت ونسيت، فكيف أحفظ؟ فلماذا نسي؟ لأنه وهو يقرأ ليس له هدف، فلو أن الكلام الذي سيقرؤه يريد أن ينفع به بعد ذلك لن ينساه، إنما إذا قرأ لمجرد القراءة قد يفهم، لكن إذا ترك القراءة ثلاثة أيام ينسى الذي قرأه، فمعظم الذين ينسون ما يقرءون ليس لهم هدف تعليمي، وما المانع يا أخي! أن تطمع في فضل الله عز وجل، وأن تدعو الله عز وجل أن يجعلك للمتقين إماماً؟! فما عرفنا أحداً من العلماء كان يظن أنه سيصل في نهاية حياته إلى مرتبة الإمامة، فلِمَ تحتقر نفسك؟ فالإمام أحمد أو الإمام يحيى بن معين أو الإمام البخاري لم يرد عن أحد منهم أنه كان يظن أنه سيصل إلى هذه المرتبة، ولذلك تجد في تراجم هؤلاء العلماء أن تاريخ ميلادهم قد يكون مجهولاً، لكن تاريخ وفاتهم معلوم عندنا بالساعة والثانية، ويرجع ذلك إلى أن الواحد منهم يوم ولد ولد كآلاف المواليد، لا أحد يعرف يومها هل سيكون نجيباً؟ هل سيكون إماماً؟ هل سيكون صالحاً؟ هل سيكون فاسقاً؟ لا أحد يعرف، لذلك لم يهتم أحد بتدوين تاريخ ميلاده، حتى صار إماماً فعرف تاريخ وفاته، فكل واحد لما وصل للإمامة في آخر حياته ما كان يظن قط أنه سيصل.
لذلك لا تحتقر نفسك، وسل الله تبارك وتعالى أن يجعلك للمتقين إماماً، أول ما تجعل هذا الهدف أمامك كل علم ستستفيد منه، ولن تقرأ شيئاً في باب من أبواب العلم إلا وتستفيد منه، فكن غواصاً في المعاني، فالغوص في المعاني يحتاج إلى تهيئة سابقة.
الإمام الشافعي رحمه الله قال: حديث ذي اليدين فيه سبعون باباً من العلم.
وحديث ذي اليدين هو الذي جاء فيه قوله للرسول صلى الله عليه وسلم: (أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: لم تقصر ولم أنس.
ثم التفت إلى الناس، قالوا: صدق ذو اليدين؟ قالوا: نعم، فصلى ركعتين وسجد للسهو) فهذان السطران كتب فيهما الحافظ صلاح الدين العلائي مجلداً ضخماً، اسمه "نظم الفرائد لما في حديث ذي اليدين من الفوائد" استخرج منه جملة من العلوم والفوائد، فكيف يحصل الإنسان هذا؟ يمكنه ذلك بالغوص في المعاني، وحضور دروس المشايخ، الاختلاط بإخوانه من طلاب العلم.
كان الزهري رحمه الله أول ما يسمع من سعيد بن المسيب أو من أبي سلمة بن عبد الرحمن أو غيره من المشايخ يأتي الدار في الليل فيوقظ جاريته، ويجلسها، ثم يقول: حدثني سعيد بن المسيب قال: حدثني أبو هريرة ويسوق الأحاديث، فتقول: يا سيدي! ما لي وما لـ سعيد؟! فيقول لها: آفة العلم النسيان وحياته المذاكرة، وأخشى أن أنسى.
أيقظها من أجل أن يسمعها الأحاديث؛ لأنه يخشى أن ينسى إذا لم يجد من يذاكره، لذلك تجد المنغلق على نفسه أكثر الناس نسياناً لماذا؟ بسبب عدم وجود من يذاكرهم.(59/17)
تأملات في سورة ق
القبر أول منازل الآخرة، فإن كان يسيراً فما بعده أيسر منه، وإن كان عسيراً فما بعده أعسر منه، والمقصود بما بعده هنا: البعث والوقوف بين يدي الله، والحساب والجزاء، وقد جاءت هذه الملامح مفصلة في سورة (ق)، حيث صورت الأحداث والمشاهد كأنها ماثلة أمام الناظر، فبينت صفات أهل الجنة، والأسباب التي بها يدخلون الجنة، وكذلك بينت صفات أهل النار وما ساقهم إليها من أسباب.(60/1)
معالم القرآن المكي
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
روى الإمام مسلم في صحيحه عن أم هشام بنت حارثة أنها قالت: ما حفظت سورة (ق) إلا من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يقرؤها على المنبر.
وهذه الحفاوة من النبي عليه الصلاة والسلام لهذه السورة لها مغزى، وسورة (ق) من القرآن المكي، والمعاني الرئيسية التي يدور عليها القرآن المكي هي: إثبات التوحيد لله عز وجل، وإثبات صفاته تبارك وتعالى، وذكر القيامة والبعث والجزاء والجنة والنار، وذكر أصناف الناس، ثم ذكر العلة في دخول الداخل النار وفي دخول الداخل الجنة، هذه هي أهم المعاني التي يدور عليها القرآن المكي.
لذلك إذا قرأت القرآن فافتح أذنيك وقلبك؛ لأن الله عز وجل أمرنا بذلك في سورة (ق) أيضاً فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] فتأمل في قوله: (ألقى السمع).
(ألقى) فيها معنى الاستسلام، فلو قلت لك: ألق أذنك، أي: لا تخف، إنما سيلقى عليك حق، لأن هذه الأذن ينبغي أن تغربل ما يلقى إليها، فقد يلقى إليها الكذب، فينبغي أن يميز المرءُ، فلا يقال: ألق السمع، إلا والكلام حق، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق:37] فإذا أصغى المرء بقلبه، انتفع بالقرآن، كما ذكره البخاري في صحيحه عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: (دخلت المدينة في فداء أسرى بدر -وكان كافراً إذ ذاك- فوافى المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي المغرب بالناس، فسمع بعض آياتٍ من سورة الطور: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍأَمْ هُمُ الْخَالِقُون * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُون} [الطور:35 - 37] قال: فكاد قلبي أن يطير) وهذا رجل كافر، دخل المدينة كافراً، فلما سمع هذه الآيات قال: (فكاد قلبي أن يطير) أن يطير من موضعه؛ لأن ما جاء في هذه الآيات من الأسئلة لا يستطيع منصف على الإطلاق أن يجد لها جواباً على نحو جواب المشركين، {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} [الطور:35]؟ فلا بد لكل صنعةٍ من صانع.
جماعة من الملاحدة أتوا أبا حنيفة رحمه الله يجادلونه في الله تبارك وتعالى: أهو حي؟ أهو موجود؟ فقال لهم: دعوني أتفكر فإني مشغول، قالوا: بم؟ قال: قيل لي: إن سفينةً تمشي في البحر بغير قائد، وتأتي فترسوا على الشاطئ بغير قائد، وتحمل نفسها بالبضائع، وتفرغ البضائع أيضاً بنفسها، فقالوا له: هذا مستحيل!! فقال لهم: (يا نوكى)! -الأنوك: هو الأحمق- إذا كان هذا في سفينة، وأنتم تنكرون أنها تحمل نفسها، وتفرغ نفسها، وتمشي على البحر بغير قائد وترسو بغير قائد، أهذا الكون على ما فيه من الترتيب منذ خلق، ليس له صانع؟!! فهذا المشرك لما يقال له: قول الله عز وجل: (أم خلقوا)؟ انظر إلى كلمة (أم) هذه، وخزة في هذا الضمير الوثني، تكررت لفظة (أم) هذه أربع عشرة مرة، كلها وراء بعضها، أربع عشرة مرة، تخز في هذا الضمير الوثني، الذي لو وقف وتدبر لحظة لأجاب، ولذلك يقول جبير بن مطعم: (كاد قلبي أن يطير) من وقع الآيات.(60/2)
الغفلة عن ذكر الموت
فانظر إلى هذه السنوات المعدودة، وقارنها بما بعدها من سفر طويل، يبدأ بخروج الروح؛ وهذه القيامة الصغرى التي ذكرها ربنا تبارك وتعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19]، الموت حق لا يمتري فيه أحد، ولكن كما قال علي بن أبي طالب قال: (الموت يقينٌ لا شك فيه، وشكٌ لا يقين فيه، قالوا: كيف يا أبا الحسن؟ قال: يقينٌ لا شك فيه؛ فكل الناس تعرف أنها ستموت، ولكنهم يعملون عمل الذي لا يموت)، فواقعهم يقول: إن الموت لا يأتي، مع أنه آتٍ لا ريب فيه، فجملة عملهم يقول: إن الإنسان يشك في موته شكاً لا يقين فيه، مع أن الموت في حقيقة أمره يقينٌ لا شك فيه، فقال تبارك وتعالى: {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] كل المشاكل التي يجنيها المرء بعد ذلك سببها عدم ذكر الموت؛ ولذلك بدأ تبارك وتعالى بذكر أهل النار: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [ق:23] أي: بما أنك جعلتني رقيباً عليه وعلى تصرفاته، فقد جئتك بكل ما يعمل، فهذا معنى عتيد.
فلما جيء بهذا العبد الذي كان يحيد عن الموت، ولا يظن يوماً أنه سيموت، قال: {((أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيد} [ق:24] فأورد هنا ست صفات لمن يدخل النار ((كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [ق:24 - 26] وهذه الست الصفات للإنسان الذي يهرب من الموت، وهذا متمثل في الكافرين، الذين يستمتعون بزهرة الحياة الدنيا، فبدأت الأوصاف بالكفر وختمت بالشرك، فكان مبدؤها الكفر وكان خاتمتها الشرك فأطبق عليه.
وذكر أيضاً صفات أربع لأهل الجنة: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:31 - 33].
فعدم ذكر الموت هو سبب كل المشاكل، وقد ترتب على هذا الإهمال إهمال آخر: قال صلى الله عليه وسلم: (ما حق امرئٍ مسلم يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبةٌ عنده)، فكم شخص منا كتب وصيته؟ إن كثيراً منا لم يكتب الوصية، ولم يخطر بباله أن يكتب هذه الوصية، ما هذا الأمان الذي نعيش؟! الموت يأتي بغتةً والقبر صندوق العمل المرء يؤمل استمرار الحياة، مع أنه كم من رجلٍ خرج من بيته ولم يعد إليه، وقد كان يؤمل العودة، حوادث كثيرة نقرؤها في الجرائد، فهذه امرأة أوصلت الإفطار للأولاد، فذهبت لتعبر الشارع وإذا بها تدهسها سيارة فتقتلها، والطعام ما زال ساخناً، والأولاد ينتظرون الأم لتأكل معهم.
فما هذا الأمان الذي يجعل المرء لا يكتب وصيته؟! ما فرط في الوصية إلا لأنه لا يذكر الموت (ما حق امرئ مسلم يبيت ليلةً -فقط- إلا ووصيته مكتوبةٌ عنده).
فأول ما يتوجب عليك -أيها المسلم- عند رجوعك إلى أهلك أن تكتب الوصية، فاكتبها وقل: هذه وصيتي، ومرهم بتقوى الله عز وجل، وأن لا يغتروا بالدنيا، وأن يعملوا الصالحات، وأن يتبعوا النبي عليه الصلاة والسلام فيما أمر، وإذا كان الموصي عليه ديون أو له مال في الخارج فليكتبها، فمن علامة ذكر الموت: ألا يفرط في الوصية.
قال تبارك وتعالى أيضاً: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:26 - 29]، هذا أيضاً من آثار الحيد عن ذكر الموت.
{وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:29] إذا مات المرء لا تلتف ساقه على الحقيقة، إنما هذا إشارة إلى تعسير السير إلى الله عز وجل، تخيل أن رجلاً يمشي في الشارع فالتفت ساقاه، ماذا سيحدث له؟ سيسقط على الأرض.
فمعنى: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:29] أنه عاجز عن السير إلى الله كالذي التفت ساقاه فلا يستطيع أن يسير، ولذلك قال عز وجل: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:31 - 32]، وفي هذا بيان للسبب الذي جعله متعسر السير، كما قال عليه الصلاة والسلام عن الجنازة حين تحمل على أعناق الرجال إذا كان المحمول فاجراً يقول ويصرخ بصوت يسمعه كل مخلوق ما عدا الإنس والجن: (ويلها! أين تذهبون بها؟!) بعدما عاين وراءه، يقول: (ويلها! أين تذهبون بها؟!) {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} هذا من آثار قلة ذكر الموت.
إذاًَ فالوصية الأولى في هذه السورة المباركة: هي كثرة ذكر الموت، قال صلى الله عليه وسلم: (أكثروا من ذكر هاذم اللذات) فتخيل أي لذة أنت فيها لو ذكرت الموت لتعكرت عليك، فلو تخيلت حين تكون وسط أولادك ووسط الناس الذين يهنئوك بالعيد، وفاجأك الموت من بين هؤلاء، وبقيت رهين عملك، ولا أحد يزورك، ولا أحد يدعو لك، ولا أحد يتصدق عنك، لو تدبرت هذا المعنى لعكر عليك هذه اللذة.
(أكثروا من ذكر هاذم اللذات) فذكر الموت أكبر علاج لما عليه الناس الآن من البحث عن فضول الدنيا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(60/3)
وحشة القبر
لو أن الله عز وجل امتحنك ببلاء: مرض أو فقر، أو أي مصيبة من المصائب، وذكرت وحدتك عند دفنك، وأنك غريب، ولا أحد يشعر بك، ولا يتوجع لك، أعني: أن أهلك لا يعلمون أنك تتألم فيتصدقون عنك، ليتهم يعلمون أنك في كرب فيدعون لك؛ لكن شُغل الأولاد بالدنيا، فقليل من الأبناء الذين يترحمون على آبائهم، لاسيما إذا طال بهم العهد فجاوز ثلاثين سنة أو أربعين سنة أو خمسين سنة، فإنهم لا يلبثون أن ينسوهم، فليت أن مصاب الميت يصل إلى الأحياء حتى يترحموا عليه ويدعوا له.
ذات مرة في سنة واحد وثمانين حين كنا في السجن، كان معنا سجين من أسوان، والمسافة ما بين أسوان وما بين القاهرة ثماني عشرة ساعة بالقطار، وكان كل خمسة عشر يوماً في وقت الزيارة يأتي أهلنا إلينا بالطعام والشراب، فنطمئن عليهم ونراهم، ونأكل ونشرب معهم، أما هذا فطول مدة سجنه لم يأته أحد، فقلنا: إن هذا الرجل يعيش في كرب، أليس له أحد يسأل عنه؟ فتشعر حينها بغربة الرجل، ففي كل زيارة تنظر إليه فتراه مكتئباً، ويظل يومه ذاك في هذا الاكتئاب؛ لأنه لا أحد يتوجع لمصابه، ولا أحد يسأل عنه، ولا أحد يهتم به، فخطر لي هذا المعنى في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:15]، كحال من يؤتى به يوم القيامة فيدخل الجنة، بينما يقاد ابنه إلى النار ولا يستطيع أن يفعل له شيئاً.
في مذابح البوسنة التي ارتكبها أهل الصليب ضد المسلمين، كانوا يأخذون الولد أمام أبيه، والولد يصرخ: يا أبي! أنقذني، يريدون أن يذبحوه، ولا يستطيع الوالد أن يفعل شيئاً، قلبه يتمزق وهو يرى الولد يستغيث به ولا يستطيع أن يفعل شيئاً، بينما في الآخرة فلن يذبح الولد وإنما سيساق إلى النار، ولا يستطيع الوالد أن يفعل لابنه شيئاً، إذا خرج من رحمة أرحم الراحمين فمن يرحمه؟!! قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق الرحمة مائة جزءاً، فأنزل على الأرض جزءً واحداً -من لدن آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة، كل الخلائق من إنس وجن، وحشرات وطيور، كل المخلوقات تتراحم بجزء واحد- حتى إن الدابة -أي: العجماء التي لا تعقل- لترفع حافرها عن وليدها خشية أن تصيبه كل ذلك بجزء واحد من الرحمة، وادخر تسعةً وتسعين جزءاً لعباده الصالحين في القيامة) فإذا حرم المرء من تسعة وتسعين رحمة فيا له من شقي! يا له من شقي، هذا الذي لم تشمله رحمة الله تبارك وتعالى!.
الزهد في الدنيا: القصد به زهد القلب، لو كانت الدنيا في يديك وزهد فيها قلبك لتركتها في لحظة، وإذا سلبت منك فلن تبكي عليها، وإنما ستفعل كما كان الصحابة رضي الله عنهم يفعلون.
طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أحد العشرة المبشرين بالجنة، نام في فراشه يوماً مسهد الطرف، لا يستطيع أن ينام، جفاه النوم، وامرأته إلى جانبه، فقالت: (ما لك؟ هل رابك منا شيء فنعتبك -تعني: هل ظهر منا ما يغضبك فنعتذر لك-؟ فقال لها: ِنعمَ حليلة المرء المسلم أنت -يعني: أنت نعم الزوجة، لا أشتكي منك- ولكن جاءني مال، ولا أدري ماذا أفعل به -لا يقول هذا إلا رجل خرجت الدنيا من قلبه إلى يده- فقالت: ادع أرحامك ففرقه فيهم.
قال: نعم الرأي.
فدعا أرحامه ففرَّق فيهم ثلاثمائة ألف درهم) (ثلث مليون) درهم، ولم تؤثر على الرجل أبداً، لماذا؟ لأنها ليست في قلبه، بل هي في يده، فالذي أعطاه ثلاثمائة ألف درهم سيخلف عليه أضعافاً مضاعفة، وعنده اعتقاد بهذا، وعنده قناعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثٌ أقسم عليهن: ما نقص مالٌ من صدقة)، فالإنسان حين يعطي أرحامه يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره؛ فليصل رحمه).
فهان عليه ثلاثمائة ألف درهم، هذا هو الزهد الذي عناه النبي عليه الصلاة والسلام وربى أصحابه عليه.
كل أحاديث الزهد الموجودة في كتب السنن وكتب الصحاح، المقصود بها زهد القلب في الدنيا، فإذن لا تعارض، لكن إذا وجدنا الناس تكالبوا على الدنيا فمن العبث ومن الخطر ومن الخطأ أن نجر إليهم الزاد ونقول لهم: انطلقوا في الدنيا نحن نحتاج إلى الكادر المسلم هذا الرجل الذي تشجعه على الدنيا لا يخرج زكاة ماله، فكيف تقول: نريد التاجر المسلم، وهو لا يخرج ماله؟! هذا الإنسان ما أسلم بعد الإسلام المنجي.
كذلك الكلام عن الموت يرقق القلب، وكتب الرقائق وكتب الزهد كلها إنما تجر إلى هذا، وما زهد الزاهدون في الدنيا إلا لقصر عمرها وعظيم خطرها، قال صلى الله عليه وسلم: (ضرب الله عز وجل طعام ابن آدم مثلاً للدنيا، وإن قزحه وملحه فانظر إلام يصير!) كيف يأكل الطعام الشهي، ثم انظر كيف يخرج هذا الطعام؟ كذلك الدنيا إذا كست أوكست، وإذا حلت أوحلت، وإذا أينعت نعت، إذا أدبرت عن المرء سلبته محاسن نفسه، وإذا أقبلت عليه خلعت عليه محاسن غيره.
ويظهر هذا في حال كثير من الطغاة، نظرت في كتاب -أيام أن كان بيننا وبين العراق وفاق- وكان الكتاب يوزع مجاناً في معرض الكتاب الدولي بالقاهرة، وكان عبارة عن صور للرئيس العراقي، وظهر في إحداها وهو يمسك يمسك المصحف ومكتوب تحتها: الرئيس المؤمن، وصورة له وهو يضع يده على الفرس مكتوب تحتها: فارس العرب وهكذا، فالكتاب كله صور، فهل هو فارس؟ هل هو مؤمن؟ هل هو بطل؟ هل هو مغوار؟ قد يكون فيه بعض ما في هذا الكتاب من الأوصاف، لكن ليس كلها، فلما أقبلت الدنيا عليه خلعوا عليه محاسن غيره، كل ما عرف من فضائل الناس جعلوها فيه وهي ليست كذلك، فلما خلعت منه الرئاسة وأصبح فأراً وصار مثل بقية خلق الله، ينظر إلى نفسه فلا يجد الصفات التي كانت تسبغ عليه، أقبلت عليه الدنيا فكانت فيه كل الصفات، فلما أدبرت عنه الدنيا فقد كل تلك الصفات، حتى الصفات الأصلية التي كانت فيه فقدها فلم يعد يوصف بها.
هكذا الدنيا: إذا أقبلت على إنسان خلعت عليه محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه، فعندما يعلم المرء أن هذه الحياة في القبر طويلة، مقارنة بالحياة التي سيقف أمام الله بها، والتي لا تتجاوز ثلاثين سنة، كما أن الذي يحكم عليه بالمؤبد -وهو ما يعادل خمسة وعشرين سنة- في السجن يفرج عنه بعد مضي هذه المدة، بينما من يسجن في هذا السجن الانفرادي -الذي هو القبر- لا يخرج منه إلا مع النفخ في الصور، ولا يعود إلى ملاعب صباه مرةً أخرى، ولا يلتقي بأولاده مرةً أخرى، ولا يعرف عن أحدٍ شيئاً قط، فإذا فصل الله عز وجل بين الناس فإنه لا يتعرَّف على أولاده إلا في الجنة إذا دخل الجنة، فهي رحلة طويلة جداً، هذه الرحلة الطويلة قبلها إعداد لمدة ثلاثين سنة فقط.
فلو قدرنا أن الإنسان يعيش ستين سنة، فإنه لا يؤاخذ عن الستين عاماً كلها، إنما يؤاخذ عن نصفها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن النائم حتى يستيقظ) والإنسان في العادة هو ينام ست أو سبع ساعات في اليوم في ستين سنة، فيكون بذلك قد نام عشرين سنة، فهذه عشرون عاماً لا يؤاخذ فيها لأنه نائم، ثم لا يؤاخذ حتى يبلغ (وعن الصغير حتى يحتلم) فهذه عشر سنوات على الأقل تضاف إلى العشرين عاماً، فيبلغ مجموعها ثلاثين سنة، إذن ما بقي من الستين عاماً إلا نصفها -أي: ثلاثون عاماً- وهي التي يحاسب عليها المرء أمام الله عز وجل.(60/4)
ذكر القيامتين، الصغرى والكبرى
فسورة (ق) من جملة القرآن المكي الذي يخاطب القلب، ذكر ربنا تبارك وتعالى فيه القيامتين: القيامة الصغرى، والقيامة الكبرى، {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] هذه هي القيامة الصغرى، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [ق:20] وهذه هي القيامة الكبرى، فذكر القيامتين معاً، لكنه تبارك وتعالى نبهنا على داءٍ عظيم، يقع فيه أكثر الناس: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]، يقال: هذا فلان حاد عن الطريق.
أي: تركها وسلك بنيات الطريق، أي: ترك الطريق العمومي الواضح وسلك الطرق الفرعية، فيقال له: حاد، أو من ترك سبيل الحجة وكابر وجادل يقال: حاد، أي: انحرف، فربنا عز وجل ينبهنا إلى هذا الداء العظيم؛ وهو عدم ذكر الموت.
هذا الموت الذي كنت منه تحيد، وكنت طول حياتك تهرب منه، ولا تريد أن تذكره، ولا تريد أن تعمل لما بعده، ولو قدر وذكرت الموت في بيتك فإن كل من فيه سيشورون عليك قائلين: اترك الكلام في هذا الموضوع، لماذا نترك الكلام فيه؟ كل المصائب -بلا مبالغة- سببها عدم ذكر الموت.(60/5)
حقيقة الزهد
جاء من آثار نشر المذهب الإرجائي في الأمة، أن خطباء المساجد يتلقون توصيات شفوياً في الاجتماعات فيقال للخطيب: لا تكثر من ذكر الموت ولا النار حتى لا ترهق نفسية الناس، ولكن اذكر رحمة الله تبارك وتعالى، واذكر الجنة وما فيها من النعيم، فإن هذا الرجل إذا عرف الجنة كان من الصابرين موقناً أنه سوف يدخل الجنة، وأنه إذا لم يحرز الدنيا فسيحرز الآخرة، وهذا خطأ في وضع العلاج، ويأتي في مقابلهم الذين رفضوا أحاديث الزهد في الدنيا، وقالوا: كيف نقول للمسلمين وهم يعيشون على هامش الحياة: ازهدوا في الدنيا؟ وكيف يملك الكفار الدنيا ونحن نقول للمسلمين: ازهدوا في الدنيا؟ وكأننا نطلق الدنيا ويتزوجها الكافر، لابد أن تكون الدنيا بأيدينا، ويحضون الناس على الدنيا وعلى التجارة وعلى الزراعة وعلى استثمار الأموال، وهذا أيضاً يحتاج إلى تخصيص.
إن النبي صلى الله عليه وسلم لما زهَّد الناس في الدنيا زهَّدهم في فضولها، ولم يزهدهم فيما يجب على المسلم أن يحصل، فمثلاً: لم يزهدهم في الإنفاق على الأولاد.
حيث قال: (كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوتاً)، وفي اللفظ الآخر لـ أبي داود: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت).
استرعاك الله عز وجل رعية: زوجة وأولاداً وأباً وأماً، فيجب عليك أن تنفق عليهم، فإذا قصر الرجل في النفقة على أهله وعلى أولاده فإنه يؤاخذ عند الله يوم القيامة، فعليه أن يجتهد، حتى لو كان العائد قليلاً، وهذا المفهوم لا يتطابق مع ما جاء في نهي النبي عليه الصلاة والسلام عن التكالب على فضول الدنيا، وأكثر الناس لا يسعون في الواجبات، بل يسعون في الفضول، فيريد أن يحصل أموالاً أكثر، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يدعو ويقول: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً) يعني: إذا وجدوا الغداء لا يكون عندهم العشاء، وإذا كان عندهم العشاء لا يكون عندهم الإفطار، هذا هو القوت.
وإنما كان يقول ذلك حتى يعتمد بقلبه على الله، فالذي ليس عنده العشاء يقول: يا رب!، لكن كثيراً من الناس الذين معهم أموال لا يقولون: يا رب؛ استغناء عن دعائه تعالى، (فالشيك) في جيبه، والفلوس في (البنك)، متى احتاج المال ذهب إلى (البنك) ليصرفه، بخلاف الفقير، الذي يذكر الله عز وجل عن حاجة، فهذا هو الذي نهى النبي عليه الصلاة والسلام عنه؛ أن تكون الدنيا في قلبك، وقال عليه الصلاة والسلام: (والله ما الفقر أخشى عليكم، إنما أخشى أن تبسط الدنيا فتنافسوها، فتهلككم كما أهلكت من سبقكم).
وأنت تجد الفقراء متحابين ليس بينهم خصومات؛ لا في الأموال، ولا في أعراض الدنيا، ففيهم راحة القلب، فكلما استراح القلب فقه عن الله عز وجل كلامه، فالذي يعين المرء على التخلص من الدنيا ذكر الموت، قال علي بن أبي طالب: (ما كان الموت في ضيق إلا وسعه، ولا في واسع إلا ضيقه).(60/6)
فتنة الدجال هي أخطر فتنة تتعرض لها أمة محمد
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
(ما كان الموت في ضيقٍ إلا وسعه، ولا في واسعٍ إلا ضيقه).
الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فتنة القبر كثيرة: منها: حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أوحي إليّ أنكم تفتنون في قبوركم كفتنة الدجال أو قريب من فتنة الدجال) فلما سمع الصحابة بذلك أجهشوا بالبكاء، حتى إن أسماء لم تسمع الحديث.
فتنة الدجال قال صلى الله عليه وسلم عنها: (ليست هناك فتنةٌ من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة أعظم من فتنة الدجال).
ففتنةُ الدجال سر خطورتها أنها تكون في زمن قلة العلم وقلة العلماء، والدجال كما قال عليه الصلاة والسلام: (يأتي بالرجل يمزقه، ويقطعه قطعاً قطعاً صغيرة، ثم يقول له: قم، فيقوم متهللاً ضاحكاً) فتخيل أن أمامك واحد قطع إنساناً قطعاً، ثم قال له: قم، فاستوى بشراً، أي فتنة أعظم من هذه؟!! وإذا مر على أرضٍ خربة فيها ذهب يقول للكنوز التي في الأرض: اتبعيني، فتخرج الكنوز من الأرض تتبعه كيعاسيب النحل، وعنده جنةٌ ونار، فهذه فتنةٌ عظيمة! وأعظم ما فيها غياب العلماء، كل يوم يمر على الناس والعلم يتناقص، وسر تناقص العلم موت العلماء، فعالمٌ ملأ الأرض علماً لما دفناهُ دفناه بعلمه، فمن الذي يخلفه على نفس كفاءته، وعلى نفس إحاطته بالعلوم، وفي ورعه وزهده؟!! قليل، وهكذا دواليك إلى أن تقوم الساعة، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنه يسرى على القرآن في ليلة، فلا يبقى على الأرض منه آية) ينزع القرآن من صدور الناس، كما قال عليه الصلاة والسلام في الأمانة: (ينام الرجل في فراشه فتنزع الأمانة من صدره).
فأعظم فتنةٍ تشهدها البشرية إطلاقاً فتنةُ الدجال، والنبي صلى الله عليه وسلم أكثر من ذكر فتنة الدجال، حتى إنه ذات مرة كان يخطب فجعل يرفع فيه ويخفض قال الصحابة: (حتى ظنناه في طائفة النخل) أي: أكثر من الكلام عليه، ظننا أنه جالس بين النخل، وكان يقول لهم: (إن خرج الدجال وأنا فيكم، فأنا حجيجه -أنا الذي سأناقشه، وأقيم الحجة عليه- وإلا فكل امرئٍ حجيج نفسه).
ثم وصفه النبي صلى الله عليه وسلم لهم فقال: (إنه أعور العين اليمنى وربكم ليس بأعور) لأنه سيقول: أنا ربكم، وسيتبعه أناسٌ كثيرون؛ بسبب قلة العلم، وقلة العلماء الذين ينبهون الناس أن هذا كافر، وأن هذا ليس بإله.(60/7)
مشابهة فتنة القبر لفتنة الدجال في خطرها على العبد
فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (أوحي إليَّ أنكم تفتنون في قبوركم كفتنة الدجال أو قريباً من فتنة الدجال) فلما كان الصحابة عندهم علم بفتنة الدجال وخطورتها، وعرفوا أن فتنة القبر كذلك أجهشوا بالبكاء.
آخر فتنة يتعرض المرء لها هي فتنةُ القبر؛ لأن الملكين يشككانه في جوابه حين يسألانه: (من ربك؟ ما دينك؟ ما تقول في الرجل المبعوث فيكم؟ فيجيب: ربي الله، فينهرانه بشدة ويعيدان عليه
السؤال
من ربك؟) وأصواتهما كالرعد القاصف، وعيونهما كالبرق الخاطف، فيصرخان فيه: من ربك؟ فيظن أنه قد أخطأ، وإلا لماذا يراجعانه، فيزل هذه المرة ويجيب بإجابة غير الأولى، لذلك بكى الصحابة، فأنزل الله عز وجل قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم:27] عن الحجة وعن الجواب الصحيح، {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]، لا يستطيع رجلٌ أن يثبت على هذا الجواب إلا إذا كان في الدنيا حين يقول: لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، فإنه يعتقدها في الدنيا ويعمل بها، وتكون منهج حياة له، فقبل أن يقدم على عمل ما يسأل أهل العلم: أهذا أحله الله لي؟ أهذا أجازه الله لي؟ أهذا شرعه النبي صلى الله عليه وسلم لي؟ حياته كلها على مقتضى لا إله إلا الله، فمثل هذا يثبته الله عز وجل: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [إبراهيم:27] مع الفتن الموجودة، ومع الضغط المرهق الذي يعانيه، إلا أنه لم يتخل عن الكلمة ولم يتخل عن الالتزام، فبعض الناس إذا شيك بشوكة أول شيء يفرط فيه التزامه، بينما لا يتردد في إتلاف نفسه من أجل الدفاع عن مكاسبه الدنيوية.
فالإنسان يبذل في الدنيا جهداً كبيراً في تحصيل المال؛ فيتغرب في البلاد، ويشتغل عند الناس في أعمال وضيعة لا يرضى أن يعملها في بلده، مع أن الغربة اسمها يدل عليها، ومع ذلك يتحمل بعده عن أولاده وعن أهله وعن أبيه وعن أمه في سبيل المال، فلماذا يتنازل عن دينه لمجرد أنه اعتقل لمدة يومين أو تعرض لنوع من الأذى؟! فينبغي على المرء أن يكون عالماً بـ (لا إله إلا الله) في الدنيا، ملتزماً بها؛ ليثبته الله عز وجل في الآخرة: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [إبراهيم:27] فيثبت على هذا في الدنيا، ويصبر على اللأواء، وقد يخرج من بلده ويترك ماله وراءه كما فعل الصحابة، وما ندموا أبداً على هذا، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص للصحابة الذين هاجروا أن يقيموا في مكة أكثر من ثلاثة أيام لماذا؟ لأنهم لما خرجوا من مكة خرجوا منها لله وهجرة في سبيله، فلا يجوز لهم أن يرجعوا في هذا العقد مرةً أخرى، فإذا جاء أحدهم إلى مكة لحج أو عمرة لا يمكث بعد انقضاء النسك أكثر من ثلاثة أيام؛ حتى لا يتعكر احتسابه وبذله، قد يؤدي بك التمسك بـ (لا إله إلا الله) إلى أن تضحي بعنقك، فإذا ثبتَّ على هذا المر في الدنيا ثبتك الله عز وجل في الآخرة، والجزاء من جنس العمل.
وللحديث بقية إن شاء الله.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.(60/8)
أسباب دخول النار
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.(60/9)
السبب الثاني من أسباب دخول النار
{مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} [ق:25] ومناع صيغة مبالغة {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ} [ق:25] معتد: لحدود الله تبارك وتعالى، مريب: مشكك، فإنه يشكك في كل شيء، ما يأتيه من آية ولا حديث إلا وهو يشكك فيها، فكل هذه بوابات تؤدي إلى الكفر والعياذ بالله {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} [ق:26].(60/10)
كفران النعمة ورد البراهين من أسباب دخول النار
ذكر ربنا تبارك وتعالى في هذه السورة الفاجر والمؤمن، وذكر جزاء كل واحدٍ منهما، وعللّ ربنا تبارك وتعالى هذا الجزاء.
وقد بين الله تعالى سبب دخول العبد النار، وأنه بسبب إتيانه لست جرائم؛ فأول جريمة: أنه كفَّار، والعلماء قالوا: (الكفَّار) هنا المقصود به من يكفر النعمة، وهذا من أوسع الأبواب التي تؤدي إلى الكفر بالله، فإبليس اللعين لما عصى رب العالمين تبارك وتعالى، حين أمره بالسجود لآدم فأبى، وطالب الإمهال، فوعده الله عز وجل بذلك، فقال: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17] لا يشكر أبداً.
وأنا أقول: إن أكثر الناس مبتلى بهذا الأمر، فمن الناس من ابتلي بزوجةٍ لا ترضى، فهي لا تعرف كيف يأتي الرجل لها بالمال، ولا يهمها ذلك، ولو بذل في سبيل ذلك فوق طاقته فإن هذه المرأة تترك للرجل مرارة في الحلق لا يشعر بها إلا المبتلى، وهذا من كُفر النعمة، وقد يؤدي هذا الفعل إلى الكفر بالله تبارك وتعالى؛ لأن من الوفاء الشكر، وكثير من الناس -وأنا أعرف بعضهم- لا يشكرون الله عز وجل على عطائه، ولذلك لا يأبه بالنعمة ولا يعظمها، فمثلاً حين يكسب التاجر عشرة بالمائة زيادة على رأس المال، فيحلف بالله العظيم أنه خسران، لأنه كان مقدراً في نفسه أن يكسب عشرين بالمائة، فلما كسب عشرة بالمائة اعتبر نفسه أنه قد خسر عشرة بالمائة، ويحلف بالله العظيم أنه خسران، مثل هذا لا يرعى لله نعمة، كثير الشكوى والاعتراض على الله تبارك وتعالى، وهذه الصفة يتبعها صفات أخرى، {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق:24] فهذا الكفر يورث العناد للرسل، وتجد أكثر هذه الطبقة -طبقة المعاندين- من أهل الدنيا الذين أعطاهم الله تبارك وتعالى المال، فمن المعلوم أن أعداء الرسل هم المفرطون، وأعداء الدعاة هم المفرطون أيضاً، يظن الواحد منهم أنه يفعل ما يريد، وبعد ذلك يطهر ماله بعمرة أو بحج أو يعمل موائد الرحمن في رمضان، ففي القاهرة يعملون موائد الرحمن.
واحدة من أشهر الراقصات كانت تقيم موائد رمضانية في بيتها، فتأتي باللحوم والأكل من أفخر المطاعم، وتنصب موائد الرحمن، ثم تذهب لتؤدي (عمرة رمضان)، وبعد ذلك ترجع إلى العمل وهكذا، وتراها تقول لك: نحن لا نرقص في رمضان احتراماً للشهر الكريم! ولكن أين احترام رب العالمين {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13].
ومن الممثلين من يقول لك: أنا رجل ملتزم، ولا أمثل في رمضان، وهذا إقرار منه على نفسه أن الذي يعمله في غير رمضان غير جائز، وأنه لا يحل له.
فهؤلاء يظنون أنه بمجرد أن يفعل ذلك فإنه يعود طاهراً من الذنوب، وإذا به يعود للمعصية مرة أخرى، ونحن لا نتألا على رب العالمين، ولا نقول: إن الله لن يغفر لها، ولا نقول: إن الله يقبل سعيها؛ لأنه لا يحل لأحد أبداً أن يتجرأ على إطلاق هذه الأحكام حتى لو كان المقصود فاجراً، فالخواتيم لا نعرفها، لكن نقول: إن من وقع في المعصية ولم يقلع عنها فلا يظن أنه إذا تصدق أو فعل شيئاً من البر أنه قريب من ربه، كان الصحابة المتقون الأخيار رضي الله عنهم، كلما ازداد إيمان أحدهم كلما اشتدت خشيته لله تبارك وتعالى، وأنت كلما أحببت خفت، فالمحب قد يذل لكنه لا يغتر، فهؤلاء أعداء الرسل وأعداء الدعاة إلى الله عز وجل؛ لأنهم يتصورون أن الدعاة أو الرسل أتوا ليأخذوا الدنيا منهم؛ فلذلك يعادونهم.
ونحن نقول لكل داعية إلى الله: إذا دعوت رجلاً غنياً فكن حذراً في دعوتك، فالإنسان الغني له طريقته في الدعوة، بخلاف الإنسان الفقير، والحكمة أن تنزل الكلمة في موضعها، فحين تذهب إلى إنسان غني مترف، محاط بكل متع الدنيا، وتقول له: اخرج من مالك واتركه، ولأن هذا لا يغني عنك من الله شيئاً، فهذا لا يستطيع أن يتبعك، نعم بعض الناس قد يتبعك، لكن أغلب الناس لا يستطيعون ذلك، يستوحشون هذه الوصية، كما قال قوم قارون له: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] أي: نحن ما جئنا لنأخذ مالك، ولا لنقول لك: لا تتمتع، فإن كنت تريد أن تأكل السمك، أو تريد أن تأكل اللحم أو تذهب إلى استراليا وترجع، نحن لا نحرج عليك، لكن نقول: احمد الله الذي سخر لك هذا، ولولا الله ما كنت لتستطيع أن تربح مثل هذا، لا بذكائك ولا بعبقريتك، لولا أن الله سخر لك هذا، فالله تبارك وتعالى يقول: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ} [النحل:79] مثلاً حرب الخليج كان هناك طائرات عملاقة، وهي حاملات الدبابات، وهذه الطائرات تطير بأكثر من مائة دبابة، فسبحان ممسك هذا (الأسطول) في جو السماوات.
فإذا كنت في الطائرة فتذكر أن تكبر ربك سبحانه وتعالى وتحمده، وحين تهبط أن تحمد الله أنك هبطت، وتذكر حين تدخل مطعماً أن تسمي الله تبارك وتعالى؛ لأنه هو الذي رزقك بمثل هذا وهكذا دواليك.
اسكن في أفخم القصور واعمر جنباته بذكر الله تبارك وتعالى، إذا كنت قادراً على ذلك؛ وأقل الناس هو الذي يقدر على هذا، وانتبه إلى قول قوم قارون لما نصحوه وهم يعلمون محبته للمال، لم يقولوا له: اخرج من مالك وتصدق بمالك كله، فالمرء لا يقوى على ذلك، لكن قالوا له: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} [القصص:77] واعمل لنفسك، وفي نفس الوقت: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77] أي: لم يكن معك مال ولم تكن لك نباهة ولا ذكر، وربنا سبحانه وتعالى قال: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} [القصص:76] أي: كان واحداً من قوم موسى لا نباهة له ولا ذكر له ولا شأن له، فلما آتاه الله عز وجل المال بغى عليهم، هكذا تكون بداية الكفر والبطر على النعم، وكثير من الناس هكذا، إن الإنسان الغني الذي ورث الغنى لا يستوي مع الذي طرأ عليه الغنى، فالذي يرث الغنى كابراً عن كابر لما ولد وجد أباه ثرياً أخذ نفس الصفة من أبيه، بخلاف الذي طرأ عليه الغنى، فإنه يلقن ابنه: يا بني كن ذئباً حتى لا تأكلك الذئاب؛ لأن الحياة عنده عبارة عن معركة، تراه يعمل عمل الذئب، فيغمض عيناً ويفتح الأخرى، فهو يقضان هاجع كما يقول الشاعر، فهو يعلم ابنه ليكون مثله، فالأب في العادة يكون مثالاً يحتذيه الابن، حتى لو كانت مماثلة الابن لأبيه في خلق ذميم، كما يروى في بعض الكتب قصة ذلك الرجل البخيل الذي أتى بعظمة فأراد أن يختبر بنيه أيهم يحسن استغلالها، وأعطاها في النهاية لمن أحسن وصفه لكيفية الاستفادة منها، وأثنى عليه.
فنقول: إن من تعلق بالدنيا مهما ذكرته أو قلت له: التمس في ما آتاك الله الدار الآخرة فلن ينفع، لكن ينبغي عليك أن تسلك معه السبل الصحيحة، أولاً: أن تذكره بقول تعالى: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77].
وثانياً: أن ترقق قلبه بأن تذكره بحاله، وأن الله أحسن إليه، فمن هذا الباب عليه أن يعامل الناس بنفس الوفاء، أحسن الله إليه فيحسن إلى الناس، {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} [القصص:77] فإن لم ينفع ذلك انتقل إلى التهديد، فتأمل درجات الدعوة: أولاً تقول له: أد حق الله وتمتع، {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77] ثم بعد ذلك تهدده: {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ} [القصص:77] فإن الإنسان قد يرعوي إذا هدد.
ونضرب هنا مثلاً الحديث الذي رواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان في بني إسرائيل ثلاثة: أبرص، وأقرع، وأعمى، فأراد الله عز وجل أن يبتليهم، فأرسل إليهم ملكاً في صورة رجل، فذهب إلى الأقرع، فقال: ماذا تشتهي؟ قال: أشتهي شعراً حسناً، وأن يذهب عني ذلك الذي قذرني الناس من أجله، قال له: أي المال تحب أن تُرزق؟ قال: البقر.
فأعطاه بقرة حاملة، قال: بارك الله لك فيها.
ثم ذهب إلى الأبرص فقال له مثل الأول.
فقال: أن يعطيني الله جلداً حسناً وأن يذهب عني ذلك الذي قذرني الناس من أجله، قال: أي المال تحب؟ قال: الغنم.
فأعطاه غنمةً وليدها، وقال: بارك الله لك فيها، ثم ذهب إلى الأعمى، وقال: ما تشتهي؟ قال: أن يرد الله علي بصري وأن يذهب عني ذلك الذي قذرني الناس من أجله، وقال فأي المال تحب؟ قال: الإبل، فأعطاه ناقة حامل، فلما دعا لهم الملك دعا لهم فبارك الله عز وجل للأول في الأغنام والثاني في الأبقار والثالث في الإبل، حتى صار لكل واحد منهم وادياً من الإبل ومن البقر ومن الغنم، ثم بعد حول جاء الملك للأبرص في صورة رجل أبرص وقال له: عابر سبيل انقطعت بي السبل، ولا حيلة لي إلا بالله ثم بك، فهل تعطيني غنمة أتبلغ بها في سفري؟ فقال له: الحقوق كثيرة) أي: أنا رجل مديون، ولو أعطيتك وأعطيت هذا وهذا فسينتهي ما معي (فقال له الملك: كأني أعرفك ألم تكن أبرص فأعطاك الله جلداً حسناً ولوناً حسناً؟ ألم تكن فقيراً فأغناك الله؟ قال: إني ورثت هذا المال كابراً عن كابر، أباً عن جد، ولم أذق الفقر أبداً في حياتي) فانظر إلى كفران النعمة كيف يؤدي إلى الكذب! فكل العناد مبني على الكذب، والعناد: أن تدفع بصدرك في نحر الحجة، هذا هو العناد، وحين تقرأ سير المكذبين في القرآن ترى كيف كذبوا قومهم، فإن العناد هذا كله مبني على قاعدة الكذب، وأول يجحد المرء الوفاء يكذب.
(قال له: إني ورثت هذا المال كابراً عن كابر، قال: إن كنت كاذباً صيرك الله كما كنت، فرجع كما كان) فالله عز وجل لا يتعاظمه أحد، وإن ذلك على الله يسير، فاحذر إذا آتاك الله عز وجل المال من هذا الجحود، أو أن يردك الله عز وجل(60/11)
أسباب دخول الجنة(60/12)
حفظ حدود الله من أسباب دخول الجنة
إذاً فأول صفات أهل الجنة الذين وصفهم الله عز وجل بالمتقين: هي (أواب).
وثاني صفة هي: (حفيظ) بمعنى حافظ لحدود الله عز وجل لا يتجاوزها، فهو أواب حفيظ، ومن حفظ العبد لحدود الله تبارك وتعالى أنه إذا ذُكّرَ بالله ذكر واتعظ، فإذا قيل له: اتق الله في أموالك -أي: خف ربك تبارك وتعالى-.
فإنه يستجيب في الحال.
فإذا وقف عند أمر الله فهو حفيظ، إذا كره الرجل المرأة عليه ألا يذرها كالمعلقة، إنما يطلقها؛ فإنه إذا علَّقها فقد تجاوز حدود الله ولم يحفظها، الرجل إذا كان وحده وليس عليه رقيب إلا الله ينبغي عليه أن لا يتجاوز حدود الله؛ لأنه حفيظ أمين، ولذلك ذكر الله عز وجل بعدها: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ} [فاطر:18] وهذه أميز صفة يتميز بها المسلمون عن بني إسرائيل، عن الأمم السابقة أنهم يخشون ربهم بالغيب، لم ير ربه تبارك وتعالى ولكن يخشاه ويخافه.
الشرطة العسكرية في الجيش منذ زمن تعلم أفرادها شيئاً وهو: إذا دخلت الغرفة ولقيت (بدلة) الضابط معلقة فعليه إلقاء التحية.
فإذا رأيت بدلته فكأنه موجود، فهم يعلمونهم هذا الأمر، ومن لا يلتزم يعاقب، ويقال له: إن مغيبك مشهدك.
نحن نقول: إن وجود رب العالمين في قلب كل مسلم إن كان عامراً بذكر الله تبارك وتعالى، فإذا خلوت فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب.
فإذا وقفت عند حدود الله عز وجل، خاصة وأنت لوحدك، فأنت بذلك تكون حفيظاً، ولا يكون المرء حفيظاً إلا إذا خشي الله بالغيب، وبنو إسرائيل إنما عذبهم الله العذاب الأليم؛ لأنهم رأوا الآيات البينات وجحدوا بها، وجعل الله عز وجل المثوبة لهذه الأمة؛ لأنها آمنت بالله ولم تره، وآمنت بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم تره، وقد ذكرت هذه الصفة في أول صفات المؤمنين في أول سورة البقرة.(60/13)
الرجوع والتوبة إلى الله من أسباب دخول الجنة
ذكر ربنا سبحانه وتعالى أسباب دخول النار.
فما هي أدلة دخول الجنة؟ قال تبارك وتعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} [ق:31 - 32] فأول صفة: (أواب)، كثير من الناس يرجعون إلى الله في أول رمضان، ورمضان شهر فاضل، وكثير من العصاة يبدأ رحلة التوبة في رمضان، فنحن نقول لكل رجل رجع إلى الله عز وجل في رمضان: ينبغي عليه أنه يجدد هذه التوبة ويقويها، وعليه أن يتذكر مرارة العصيان والبعد عن الله تبارك وتعالى.
والأواب: الرجَّاع.
إذا أذنب سرعان ما يحدث توبة، انظر في الحديث القدسي، قال الله تبارك وتعالى: (أذنب عبدي ذنباً فقال: رب إني أذنبت ذنباً فاغفر لي، فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي، ثم أذنب ذنباً فقال: رب إني أذنبت ذنباً فاغفر لي، فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، غفرت لعبدي، ثم أذنب ذنباً فقال: رب إني أذنبت ذنباً فاغفر لي، فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، غفرتُ لعبدي، فليفعل عبدي ما شاء).
نفهم من هذا الحديث أن أول درجات الأوبة الاعتراف بالذنب؛ لأن عدم الاعتراف بالذنب فيه اتهام لله، فإذا جاء رجل فقال: يا رب إني ما ظلمت ولا تعديت حدودك، ولكن كتبت عليّ سيئات، فإن هذا اتهام لرب العالمين بالظلم؛ لأنه إذا لم يعترف فقد اتهم الطرف الآخر، فلذلك لا يقبل من العبد توبة إلا إذا اعترف، لابد أن يعترف الأول أنه مذنب وأنه مخطئ، بعد هذا الاعتراف يقبل الله عز وجل منه توبته؛ ولذلك لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة في حديث الإفك: (يا عائشة! إن كنت أذنبت ذنباً فاستغفري الله، فإن العبد إذا اعتراف بذنبه وتاب؛ تاب الله عليه) ولذلك حين أذنب العبد بذنب قال: (رب إني أذنبت) فهذا إذاً، ولذا قال: (علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به).
إن عدم الاعتراف فيه مكابرة، كما في الحديث الصحيح: (يجيء العبد يوم القيامة فيقرره الله بذنوبه) فيقول العبد لربه: لم يحصل مثل هذا ولا هذا، (فقال العبد: رب ألم تجرني من الظلم؟ قال: بلى، قال: فإني لا أجيز عليَّ إلا شاهداً مني) لأنه يعلم أنه أقفل على نفسه الغرفة وعمل المعصية، فهو يظن أنه لن يكون هناك من يشهد عليه فيقول: (ألم تجرني من الظلم؟ قال: بلى.
قال: لا أجيز علي إلا شاهداً من نفسي، حينئذٍ يختم الله عز وجل على فيه وتنطق جوارحه) تنطق جوارحه بما كان يفعل، فيقول لهن: (سحقاً لكن، فعنكن كنت أناضل) بخلاف العبد الآخر، كما في حديث النجوى: (المؤمن عبد يقربه الله عز وجل من كنفه ويقرره بذنوبه بينه وبينه، يقول له: فعلت كذا وكذا يوم كذا وكذا، فيقول: أتذكر ذنب كذا؟ فلا يزال يقرره بذنوبه حتى يتساقط وجهه حياءً من الله، فيقول الله له: سترتها عليك في الدنيا فأنا أغفرها لك اليوم).
فالأواب: أي الرجَّاع، والإنسان الأواب له بشارة، وهي أنه يعد مهاجراً إلى الله، وحقيقة الهجرة كما قال صلى الله عليه وسلم حين سئل: عن المهاجر من هو؟ قال: (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه) فأنت كل يومٍ مهاجر إلى الله، كلما تركت ذنباً وأحدثت طاعة فقد خرجت من الذنب إلى الطاعة، إذاً فهذه هي الهجرة، (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه) وأنا أطلب من إخواننا الجلوس أن كل واحد منهم أو ما يفعله حين يدخل البيت أن يخرج (التلفزيون) من البيت، هذه وصية غالية ونفيسة، يخرج هذا الملعون من البيت.
هل يرضى أحدنا أن يترك رجلاً أجنبياً مع امرأته في غرفة النوم؟! هل يقبل أحد بهذه العملية؟! والله العظيم إن (التلفزيون) ألعن من رجل الخنا والفجور، ولا سيما بعد انتشار القنوات الفضائية، وبعد أن أصبح الإرسال الجنسي يغزو (التلفزيونات) عندنا، والأولاد -بعد الساعة الثانية والنصف من الليل- يعودون ليبحثوا في القنوات كلها من أجل أن يأتوا بالقنوات التي تبث عن طريق البحرين أو من إسرائيل أو غيرها من القنوات الكفرية، هل تظن أن امرأتك مريم بنت عمران؟ لا تفكر أبداً! تنظر رجلاً مع امرأة في (الفيلم) فيخطر ببالها مثل ما يخطر ببالك، فأنت حين تترك رجلاً أجنبياً مع المرأة في البيت فإن هذه جريمة كبيرة، فكذلك التلفزيون.
شهر رمضان من أكثر الشهور التي يلهو الناس فيها، وهناك بدعة صريحة عندنا في القاهرة والمدن الكبرى، خيمة رمضان، ومن المفروض أن تقام ليلاً، لكنها بدلاً من أن تكون خيمة صارت خيمة خيبة، يقول لك: خيمة رمضان، وفيها أحدث المطربين وفيها (النرجيلة) وفيها (المخدرات) و (الحشيش) وكمل ما تشتهيه نفسك.
فيأخذ أحدهم امرأته ويذهب إلى تلك الخيمة، فيعصون الله عز وجل في رمضان الذي هو شهر العبادة والتقرب إلى الله.
فتراهم في (التلفزيون) يعملون أحد عشر شهراً من أجل الاستعداد لبرامج رمضان من مسلسلات وأفلام، فهذا الجهاز ملعون، فأنت لو أخرجت هذا الجهاز من بيتك فقد حققت هذه الهجرة، (المهاجر من هجر ما نهى الله عنه) فهذا الكلام ينطبق على الأواب، والأواب: أي الرجاع، الذي يحدث توبةً دائمة، فما من توبة يحدثها إلا وهو مهاجر وهو أواب.(60/14)
فوائد أخرى من سورة (ق)
إذا رجعنا إلى سورة (ق) سنجد فيها إثباتاً للأسماء والصفات، كقوله تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29] أي: أنا إذا وعدت الثواب على الطاعة فإنه وعد لا تفريط فيه.
لكن إذا هدد بشيءٍ قد يتجاوز فيه تبارك وتعالى، وهذا من تمام كرمه كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا وعد الله عبداً على عمل فهو منجز له ما وعد، وإذا أوعد -أي: هدد - فهو بالخيار: إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له) ومعناه: قد يسقط عنه العقوبة، لكنه إذا وعد وعداً أنجزه، وفي السورة أيضاً إثبات للنبوات، وإثبات لخلق السماوات والأرض، وإثبات لسنته تبارك وتعالى الكونية في إهلاك الأمم الباغية الظالمة، وإثبات للخيانة وضعف الأرواح والأبدان، إلى آخر هذه المعاني، فهذه السورة حين تتدبرها تجد أنها جمعت الدين كله، ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يقرأها في كل جمعة.
فنسأل الله عز وجل أن يرزقنا فهم كتابه، وأن يجعل حبه أحب إلينا من الماء البارد على العطش.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(60/15)
شروط العمل الصالح
إن المستقرئ لنصوص الكتاب والسنة يجد أن الأدلة قد استفاضت بذكر أركان وشروط العمل الصالح، وأن رفعه إلى الله وقبوله مرهون بتحقيق هذه الشروط والأركان، وبقدر الإخلال في تحقيقها يكون حساب العبد ومنزلته، فإن حقق هذه الشروط والأركان سعد ونجا، وإن أخل بها هلك وحبط عمله.(61/1)
شروط وأركان العمل الصالح
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا لله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
قال الله تبارك وتعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] فمفهوم هذه الآية: أن الله تبارك وتعالى لا يرفع إليه إلا العمل الصالح؛ فما هو العمل الصالح الذي يرفع ولا يرفع سواه؟ إن حاجتنا ماسة لمعرفة شروط العمل الصالح وأركانه، فكل عمل في هذه الدنيا مرهون بتحقيق ركني العمل الصالح وشرطيه، فهو أولى من البحث عن لقمة الخبز، وأولى من البحث عن طبيب يزيل العلة.
إن العبد العاصي إذا وقف على شفير النار يوم القيامة يقول: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24] فهذه هي الحياة حقاً: أن ينجو من النار، وأن يدخل الجنة.
فدخول الجنة والنجاة من النار مرهونة بتحقيق ركني العمل الصالح وشرطيه، وبقدر الخلل في تحقيق الركنين والشرطين يكون حساب العبد وتكون منزلته.
والمستقرئ لأدلة الكتاب والسنة يجد أن النصوص قد استفاضت بذكر ركنين للعمل الصالح وشرطين، فأما الركنان: فالأول منهما: هو توحيد الله تبارك وتعالى، وعدم الإشراك به شيئاً.
الركن الثاني: المتابعة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك العمل.
أما الشرطان: فالشرط الأول: هو تمام الذل.
والشرط الثاني: هو كمال الحب.
فإذا حقق العبد الركنين والشرطين فهو السعيد حقاً.
وإن الناظر إلى حياة الصحابة رضوان الله عليهم يجد أنهم حققوا الشرطين والركنين أتم تحقيق، وامتد هذا الأثر الحميد إلى حياة التابعين، وهناك قصة صحيحة عن عروة بن الزبير بن العوام -رحمه الله ورضي عن أبيه أن الآكلة دبت في رجله -الآكلة: داء الغرغرينا عافانا الله وإياكم، إذا دب في القدم تبتر- فقال الطبيب: تقطع.
فقال له: وكيف نقطعها؟ قال: تعاطى الخمر، فإذا سكرت قطعناها.
قال: ما كنت لأستعين على دفع بلاء الله بمعصية الله، ولكن دعوني أصلي، فإذا دخلت في الصلاة فاقطعوها.
فلما دخل في الصلاة نشروا اللحم، فلما وصلوا إلى العظم أغمي عليه، فما شعر بشيء) فبقدر خشوعك في الصلاة والإخبات فيها يكون تحقيق الركن والشرط.
فنحن الآن نضع رءوس أقلام على كل عنصر من هذه العناصر، إذ الكلام فيها متسع جداً، لكن نضع نتفاً، والسعيد من وعظ بغيره، ومن لا يشفيه القليل لا يفيده الكثير.(61/2)
أركان العمل الصالح(61/3)
الركن الثاني: المتابعة
مفهوم المتابعة: ألا تفعل شيئاً إلا إذا أُذن لك فيه من قبل الله عز وجل أو من قبل رسوله صلى الله عليه وآله وسلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1] أي: لا تقولوا حتى يقول، ولا تفعلوا حتى يأمركم، والله تبارك وتعالى جعل المتابعة ثمرة المحبة، قال تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، وقد جمع الله عز وجل ركني العمل الصالح في نصف آية من القرآن: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110] (عملاً صالحاً) أي: موافقاً للسنة، (ولا يشرك بعبادة ربه أحداً): هذا هو التوحيد الخالص.(61/4)
الركن الأول: توحيد الله عز وجل
إن توحيد الله عز وجل الذي جاءت به الرسل هو توحيد الألوهية؛ لأن توحيد الربوبية فطر الله الخلق عليه.
توحيد الألوهية: أنه لا يجوز صرف شيء لله لغير الله عز وجل من العبادة والنسك وغير ذلك، كما قال تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ} [الأنعام:162] هذا هو توحيد الألوهية.
وتوحيد الربوبية فطر الله الناس عليه، ولذلك المشركون لما جوبهوا بهذه الأسئلة أجابوا الإجابة الصحيحة التي تتناسب مع اعتقادهم أن الله عز وجل هو الرب الذي خلق السماوات والأرض، وهو الذي يرزق الناس، وهو الذي يخلق الناس، وهو الذي يميت ويحيي: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87] فلماذا كفرهم؟ {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9] لماذا كفرهم؟ {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون:84 - 85] إلى آخر الآيات، لماذا كفرهم إذاً؟ لأنهم كفروا بتوحيد الألوهية، أي: بإفراد الله عز وجل في العبادة، فقال بعضهم لبعض: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] وما هو العجاب؟ لقد تفرد بالخلق، وتفرد بالرزق، وتفرد بالإحياء والإماتة، أفلا يتفرد بالعبادة؟ أليس هذا مناسباً أن يتفرد بالعبادة وقد تفرد بكل شيء؟! ولذلك فإن القرآن الكريم يثبت توحيد الألوهية عن طريق توحيد الربوبية، فيذكر آلاء الله ونعمه على الخلق، ثم يقول لهم: إذا كان الخلق، والإحياء، والإماتة، والرزق بيد الله عز وجل؛ أفلا يستحق فعلاً أن يكون هو المعبود دون سواه؟! وبعض الناس يلتبس عليهم الأمر ولا يفرقون بين النوعين، فمثلاً: أفتى بعضهم يوماً أن الطواف بقبور الصالحين والأولياء كـ الحسين رضي الله عنه، وكالسيدة زينب رضي الله عنها، وسائر عباد الله الأخيار الذين بنوا على قبورهم قباباً، يقول: إن الطواف بقبور هؤلاء ليس شركاً ثم يبسط قوله فيقول: لأنك لو سألت رجلاً ممن يطوف: هل هناك رازق غير الله؟ يقول: لا، هل هناك محي غير الله؟ فيقول: لا.
هل هناك مميت غير الله؟ فيقول: لا.
إذاً: هذا الرجل موحد -حسب زعمه-.
فنقول: لا.
هذا الرجل لم يعرف من التوحيد إلا ما عرفه المشركون الأوائل، وهو توحيد الربوبية، لكن هذا الرجل شد رحله من بلده لطلب حاجة، أو دفع ضر، أو جلب نفع والتوحيد حقاً، أن نعتقد أنه لا يقدر على دفع الضر إلا الله، ولا يقدر على جلب النفع للعبد إلا الله: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وأن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لا يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، جفت الأقلام ورفعت الصحف).
فعندما تشد الرحل من أقصى البلاد لتقول: يا حسين! ادفع عني الضر؟! فما صنعة الله في الكون؟! {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14].
فالمقصود من توحيد الألوهية: أن لا تصرف شيئاً من العبادة إلا لله، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5] (الحنيف): يعني: المائل عن العقائد الزائغة، {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر:14].
ولتعلم أن العمل الصالح قاعدته: التوحيد، وإلا فقد جاء أقوام إلى الله عز وجل بأعمال كثيرة؛ فقال عنهم: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] لأن القاعدة متهالكة، وفي الحديث الآتي بيان لذلك، وهذا الحديث في الصحيحين وغيرهما، وهو نِذارة خطيرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أول ما يدخل الجنة شهيد وقارئ وعالم -وفي رواية للنسائي: (ورجل جواد) أي: غني- فيؤتى بالشهيد، فيعرفه الله نعمه عليه، ثم يقول له: ماذا فعلت؟ يقول: يا رب قاتلت فيك حتى قتلت.
فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، بل قاتلت ليقال: جريء، وقد قيل، ثم يسحب به إلى النار.
فيؤتى بقارئ القرآن: ماذا فعلت بالقرآن؟ يقول: يا رب! قرأته فيك آناء الليل وأطراف النهار.
فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة له: كذبت، بل قرأت ليقال: قارئ، وقد قيل؛ فيسحب به.
ثم يؤتى بالعالم: ماذا فعلت بالعلم؟ يقول: يا رب! علمت الناس آناء الليل وأطراف النهار.
فيقول الله عز وجل: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، بل علمتهم ليقال: عالم، وقد قيل، وكذلك الأمر في الرجل الجواد: ماذا فعلت بالمال؟ يقول: يا رب! أنفقته فيك.
فيقول الله له: كذبت.
وتقول الملائكة: كذبت، بل أنفقت ليقال: جواد -يعني: سخي- وقد قيل).
هذه الأعمال الأربعة من أجل القربات إلى الله: فالشهادة فضلها معلوم، ويكفي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشهيد يرى مقعده من الجنة مع أول دفقة من دمه) فكيف يحشر إلى النار، ويكون أول الداخلين؟ وكذا قارئ القرآن، قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، وقال: (يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: اقرأ وارق، فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها) وفي الحديث الآخر: (لا أقول: (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)، قارئ القرآن يقول: (بسم الله الرحمن الرحيم) فتكتب مائة وتسعين حسنة، والذي يقرأ القرآن الكريم كل شهر تكون لديه جبال من الحسنات، فكيف يدخل النار ويكون أول الداخلين مع هذه القربة؟! وكذلك العالم: (كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من ليس بأهله، وكفى بالجهل عاراً أن يتبرأ منه من هو فيه) فالكل يدعي العلم لشرف العلم، قال الله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] وقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] وقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] وقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا) [آل عمران:18]، فمنزلة العلماء رفيعة معروفة، فكيف يسحب هذا إلى النار ويكون أول الداخلين؟ لماذا هذا الجزاء؟! لأنهم أشركوا في أصل العمل، فأرداهم، ولا ينفع مع الشرك طاعة، فبرغم فضل عمل هؤلاء إلا أنهم لما أشركوا بالله عز وجل بطل عملهم وصار وبالاً عليهم.
وهناك حديث يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة فيما يظهر للناس، حتى إذا كان بينه وبين الموت قيد ذراع -أو قال: قيد شبر- فيعمل بعمل أهل النار؛ فيدخل النار.
وإن العبد ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار، حتى إذا كان بينه وبين الموت قيد شبر -أو قال: قيد ذراع- عمل بعمل أهل الجنة؛ فدخل الجنة) فالمشكل هنا: كيف أن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة زماناً طويلاً ثم يحشر إلى النار، والرجل يعمل بعمل أهل النار زماناً طويلاً، ثم يحشر إلى الجنة؟! نقول: يزيل هذا الأشكال وجود زيادة في نفس الحديث، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة فيما يظهر للناس) وبهذا انتهى الإشكال، أي: يعمل الزمن الطويل مرائياً، لذلك ناسب أن تكون خاتمته على غير ما كان يعمل، إذ لو كان يعمل لله؛ فإن الله لا يضيع أجره، والعبد يعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار، لكنه لما أقبل على الله كان صادق الطلب، وليس عن أذهانكم ببعيد حديث: (الرجل الذي قتل مائة نفس، فسأل راهباً عابداً: ألي توبة؟ قال: لا.
فقتله فأتم به المائة، ثم سأل رجلاً راهباً عالماً قال: قتلت مائة نفس، ألي توبة؟ قال: نعم.
ومن يحجب عنك باب التوبة؟! اخرج إلى أرض كذا وكذا، فإن فيها قوماً يعملون الصالحات فاعمل معهم.
فخرج الرجل وقد ناء بصدره -أي: قدم صدره، كناية عن المبادرة والإسراع- إلى الأرض التي أمره العالم بالتوجه إليها، فما خرج غير بعيد حتى قبض، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأرسل الله عز وجل إليهم حكماً أن قيسوا المسافة بين الأرضين، فإلى أيتها كان أقرب فهو من أهلها، وأمر الله الأرض -لأن الرجل ما كاد يخرج حتى مات، يعني: هو يقيناً أقرب إلى أرض العذاب، لكنه لما كان صادق الطلب أمر الله الأرض أن تطوى من تحته- فقال لهذه: أن تقاربي، ولهذه: أن تباعدي، فلما قاسوا المسافة بين الأرضين وجدوه أقرب إلى أرض المغفرة بشبر واحد؛ فغفر له فدخل الجنة).
إن الله عز وجل لا يتعاظمه ذنب، فذنبك مهما عظم شيء، ورحمة الله وسعت كل شيء، ولذلك قال الله تعالى: {لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]؛ لأنك مهما فعلت من الذنوب لا يمكن أن تأتي على رحمة الله كلها، بل هي تشملك وتشمل كل عاص، فهي أوسع مما تتصور، وهذا يناسب كمال صفاته تبارك وتعالى.
إذاً: قوله عليه الصلاة والسلام: (يعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة، يعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار) فيما يظهر للناس.
فلذلك كل عمل راقب العبدُ فيه العبدَ فهو على شفى هلكة، والعلماء لهم هنا بحث فرعي، يقولون مثلاً: لو جاء رجل إلى المسجد ليصلي الصلاة، فبينما هو يصلي إذ رمق شخصاً يلتمس عنده الوجاهة؛ فأطال الصلاة، فأطال الركوع والسجود فما حال صلاته؟ قال العلماء: ما زاده مردود، أما أصل عمله فمقبول؛ لأنه لما خرج إلى المسجد ما خرج رئاء الناس، وإنما خرج ليصلي.
ولو أنه خرج من داره ل(61/5)
صور من اتباع الصحابة رضوان الله عليهم
كان الصحابة رضوان الله عليهم من أشد الناس مبادرة إلى تنفيذ أمر الله ورسوله، ونحن في حاجة ماسة إلى الاطلاع على حياة الصحابة، كيف كانوا يتبعون القول بالعمل، ويفسرون الأقوال بالأعمال والمبادرة إلى تنفيذ الأمر.
وقد ضرب الصحابة أروع الأمثلة باتباعهم وحبهم للنبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه في صلح الحديبية، قال: (فجيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بوضوء فتوضأ، فوالله ما سقطت قطرة ماء على الأرض إلا كادوا يقتتلون على وضوئه عليه الصلاة والسلام، وما تنخم نخامة إلا استبقوا عليها، فما تقع في يد رجل إلا دلك بها وجه وجلده، ولا يحدون النظر إليه تعظيماً له، ولا يرفعون أصواتهم عنده، ويبتدرون أمره) لذلك ثبتت لهم البشارة فقال الله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة:8].
وليست الأولى بأفضل من الثانية، بل الشرف لهم أن يرضوا عن الله، ليس الشرف أن يرضى الله عنهم فحسب، إذ لو سخط الخلق جميعاً على الله لا يضره ذلك، لكن الشرف لهم أن يقول الله لهم: (أنتم رضيتم عني) فهذا هو الشرف، وما نالوا هذا الشرف ولا حازوا هذا السبق إلا بالمبادرة إلى تنفيذ أمره ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يفتدونه بكل غال ونفيس، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم مر يوماً على أجمة -مكان فيه أشجار كثيرة- وكان يقبع في هذه الأشجار عبد الله بن أبي بن سلول رأس النفاق، فلما مر النبي عليه الصلاة والسلام قال عبد الله بن أبي بن سلول: لقد غبر علينا ابن أبي كبشة، يقصد الرسول عليه الصلاة والسلام، وأبو كبشة: جد الرسول عليه الصلاة والسلام لأمه، جد غامض غير معروف، وقد كانت العرب إذا أرادت أن تنتقص رجلاً نسبته إلى جد غامض، حيث أن الجد المشهور يكون الانتساب إليه شرف، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرتجز وهو يقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) فالنسبة لـ عبد المطلب تعتبر شرفاً؛ لأنه رجل معروف ومشهور وله مكانة في الناس، لكن أبا كبشة لا يعرف في الناس.
فهو يريد أن يحتقر الرسول عليه الصلاة والسلام ويشتمه، فسمع هذه الكلمة من عبد الله بن أبي بن سلول ابنه عبد الله، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (والذي أكرمك، والذي أنزل عليك الكتاب لأن أمرتني لآتينك بعنقه -الولاء للرسول عليه الصلاة والسلام قبل الولاء للآباء والأبناء- فقال له: لا.
ولكن بر أباك وأحسن صحبته).
وعندما قامت معركة بدر بين المسلمين والكافرين، كان هناك ابن لـ أبي بكر لم يكن أسلم آنذاك، وكان في صفوف الكافرين، وكان يرى أباه أبا بكر رضي الله عنه فينخلس بعيداً عنه، فلما أسلم الولد قال لأبيه: لقد كنت أراك يوم بدر، فكنت أخشى أن يسبق سيفي إليك، فقال أبو بكر: والله لو رأيتك لقتلتك.
وهذا هو الفارق الجوهري ما بيننا وبين الجيل الأول.
فالمتابعة: ألا تحرك ساكناً، ولا تسكن متحركاً إلا بإذن، ولله در سفيان الثوري لما قال: إن استطعت أن لا تحك رأسك إلا بأثر فافعل.
نحن مبتلون بأننا نفعل الفعل، فإذا وقعنا في ورطة طلبنا الحكم الشرع وسألنا عنه، والأصل أن يسأل قبل أن يفعل: أهو جائز أم لا، مشروع أم لا.
لقد كان اتباع الجيل الأول: لكلام الرسول عليه الصلاة والسلام في غاية الروعة.
من ذلك ما جاء في حديث جرير بن عبد الله أنه قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة والنصح لكل مسلم)، فطبق جرير هذا الحديث على تصرفه الشخصي -لا تحفظ النص ثم لا تعمل به فيكون حجة عليك، فالجهل به خير من معرفته ومخالفته، وليست هذه دعوة إلى الجهل، لكن الرجل الذي يعلم ويخالف شر من الذي لا يعلم، فالذي لا يعلم قد يكون له عذر مقبول، أما الذي يعلم ثم يخالف ليس له عذر- (فأرسل جرير رضي الله عنه غلامه ليشتري له فرساً، فوجد الغلام الفرس بثلاثمائة درهم، وجاء الغلام بصاحب الفرس ومعه الفرس إلى جرير ليقبضه الثمن، فلما رأى جرير الفرس وجده يستحق أكثر من ثلاثمائة، فقال: يا فلان! فرسك يستحق أربعمائة.
قال: قبلت.
قال: خمسمائة.
قال: قبلت.
قال: ستمائة.
قال: قبلت حتى وصل به إلى ثمانمائة فقال الرجل: قبلت.
فأعطاه الثمانمائة فتعجب الغلام، إذ التجارة شطارة، وكلما أخذت البضاعة بسعر أقل اعتبر الناس من المكسب العاجل، والحلال المباح؛ وقال لـ جرير: ما هذا الذي فعلت؟ قال له: إني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم.
أي: لا أستطيع الغش، وهذه هي كمال المتابعة.
أن تتابع بالفعل.
(جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يلبس خاتم ذهب، فلما رآه أخذه منه ونزعه نزعاً شديداً، ورماه في الأرض وقال: يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيضعها في يده! فلما قام الرجل ينصرف وقد ترك الخاتم على الأرض، قيل له: خذه فبعه وانتفع بثمنه.
قال: كيف آخذه وقد طرحه رسول الله؟!) وترك الخاتم.
وذهب بعض الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: (يا رسول الله! عظنا وأوصنا.
قال: لا تسألوا الناس شيئاً) فكان الواحد منهم يكون راكباً على فرسه فيسقط سوطه، فلا يقول: يا فلان! ناولني السوط.
فامتثلوا؛ ولذلك عز وسادوا.
ولكن إذا نظرت إلى الأجيال الخالفة كما في وقتنا تجد بينهم وبين المتابعة بوناً شاسعاً، بل لا يتورعون عن فعل المحرمات.
وقد جمعني مجلس برجل يدخن، فقلت له: يا فلان! إن التدخين حرام.
فأخذ نفساً عميقاً، ثم قال لي: يعني: ليس مكروهاً؟! فهب أنه مكروه، ألا يكفي فيه أن الله ورسوله يكرهان هذا الشيء؟! فكيف طابت نفسك بعدما سمعت حكم الحرمة أن تأخذ هذا النفس العميق؟ هلا استثنيت؟ هلا كففت حتى إذا تناقشنا ولم تقتنع بالحرمة شربت؟ فكيف تسمع لفظ الحرمة فتستمر على هذا الفعل؟ وهذا تحد، واستكبار على أمر الله.
وإذا سلمنا أنها مكروهة -وهي قطعاً حرام- فالبوابة إلى المحرمات المكروهات، وإذا كان الشيء مكروهاً فتعودت على فعله دخلت إلى الحرمات وسهل عليك فعلها.
لماذا حرم الله النظر إلى النساء؟ أليس لكف الرجل عن الزنا؟ فأين النظر وأين الزنا؟ لكن هذا من باب سد الذريعة، فإذا كان هذا الباب يوصلك إلى الحرام فأغلقه، فهذا أنجى لك.
والعلماء يقولون: الإكثار من المباح يوقع في المحرمات.
وذكروا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه) وأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام في النهي عن الشبع، مع أن الشبع جائز، لكن العلماء قالوا: (الإكثار من الأكل حتى الشبع يرخي النفس، ويقعد الأعضاء عن العبادة)؛ لذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصوم وقال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم) لأن الصوم يكسر من حدة الشهوة في الدم والنفس.
وأكثر الناس وأشدهم شهوة الذين يملئون بطونهم، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما قيل له: ألا نأتيك بجوارش -الجوارش.
يعني: دواء يذيب الأكل في المعدة، علاج هضم-؟ فقال: وما جوارش؟! قالوا: للمعدة.
قال: أنا لم أشبع منذ أربعة أشهر، لا أحتاج لجوارش.
والمعدة الخالية يكون صاحبها أقوى قلباً، وإذا نظرنا إلى الخيل في مضمار السباق؛ فإن الفرس الذي له كرش لا يستطيع أن يعدو، وإنما الذي يسبق الفرس المضمر الذي لا بطن له، وأصابته المخمصة.
ومن أكبر الأدلة على مسارعة الصحابة إلى تنفيذ أمر الله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، وعدم الاعتراض عليه ما ورد في حديث الأنصار بعد قسمة غنائم غزوة حنين، عندما جمع النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار وقال: لا يكن مع الأنصار أحد في هذه الخيمة، إذاً: الأنصار شعروا أن هناك خصوصية لهم، هذا أول ما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم قال لهم: يا معشر الأنصار! ما مقالة بلغتني عنكم! (قالوا: يا رسول الله! قد قالها حدثاء الأسنان منا -أي: أما حكماؤنا فما قالوها- قال: يا معشر الأنصار! ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي؟ ألم تكونوا عالة فأغناكم الله بي؟ ألم تكونوا متفرقين فجمعكم الله بي؟ والأنصار يقولون: الله ورسوله أمْنّ، ثم قال لهم: لو شئتم لقلتم: كنت طريداً فآويناك، وكنت، وهم يقولون: الله ورسوله أمَنَّ، قال: لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، ولو سلك الناس وادياً لسلكت وادي الأنصار وشعبهم، الأنصار شعار -الشعار: هو الثوب الملاصق للبدن مباشرة، وتحرص في هذا الثوب أن يكون ناعم الملمس، فيريد أن يقول: أنتم قريبون مني مثل الشعار من الرجل والناس دثار -أي: الملابس التي لا تلامس الجسد- ألا ترضون أن يرجع الناس إلى بيوتهم بالدينار والدرهم، وترجعون أنتم برسول الله إلى رحالكم؟ فبكوا وقالوا: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً ونصيباً).
فانظر إلى هذه النماذج المضيئة من الصحابة الكرام وتمام متابعتهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم، يقولون: (أما حكماؤنا فما قالوها) الناس العقلاء.
والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (إني لأدع الرجل وهو أحب إليَّ)، وكان يعطي العطاء من يتألفه على الإسلام.
يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل فأعطاه النبي عليه الصلاة والسلام عطاءً كبيراً، فجاء رجل آخر فأعطاه عطاءً أقل منه، فقال: يا رسول الله! أجزلت لفلان ولم تعط فلاناً، وإني لأراه مؤمناً.
قال: أو مسلماً.
فأعاد عليه سعد بن أبي وقاص هذه المقالة: إني لأراه مؤمناً.
ورسول الله يقول: أو مسلماً، ثم قال: إني لأدع الرجل وأعطي العطاء من هو أقل منه؛ أكلهم لإيمانهم) لأن المؤمن إذا لم يعط لا يتضجر، بخلاف الرجل الذي(61/6)
الفرق بين الشرط والركن
هناك فرق بين الشرط والركن، فالركن: جزء من الشيء.
ولنمثل مثلاً بالصلاة: فالركوع جزء من الصلاة، والسجود جزء من الصلاة، والقيام جزء من الصلاة، فهذه الأجزاء سميتها أركان: الركوع ركن، والسجود ركن، والقيام ركن، وتكبيرة الإحرام ركن؛ لأنها جزء من الشيء الذي هو: الصلاة.
أما الشرط: فهو جزء مستقل عن الشيء، لكن لا يقبل العمل إلا به، مثل: الوضوء للصلاة، فنقول: الوضوء شرط لصحة الصلاة، ولا نقول: الوضوء ركن؛ لأن الوضوء شيء والصلاة شيء آخر، ولكن لا تقبل الصلاة إلا بهذا الوضوء الذي هو شرط.
إذاً: الركن والشرط كلاهما ضروري في قبول العمل، لكن الركن جزء من العمل، والشرط ليس جزءاً من العمل، لكن لا يقبل العمل إلا بهما.
ويشترط في العمل الصالح شرطان هما: 1 - تمام الذل لله سبحانه وتعالى.
2 - كمال الحب.
وأما المتابعة فهي ركن من أركان العمل الصالح.(61/7)
نماذج واقعية من الطعن في نصوص الكتاب والسنة
وترجع أهمية الحديث عن المتابعة إلى ما نلاحظه في زماننا هذا من محاولة التخلص من النصوص والتهكم بها، واختراع شيء جديد سموه: (روح النص)، (روح النص) له تعبير آخر في الأصول، وهو الدلالات الخفية، كدلالة الإيماء وغيره، لكنهم قصدوا بروح النص شيئاً آخر غير الذي يقصده علماء الأصول.(61/8)
وضع قواعد وأصول فاسدة لرد النصوص وتجهيل العاملين بها
نحن أمام مدرسة لتجهيل النص، وتجهيل العاملين به، ومحاولة الخلاص من النص، حتى النص الصريح يبتكرون له قواعد ينسفونه بها، وهي قواعد أهل البدع قديماً، فأهل البدع لما وجدوا ضربات أهل السنة قوية أرادوا أن يتترسوا فماذا فعلوا؟ جعلوا قواعد، والقواعد هذا مثل متاريس الحرب، فأول ما يأتي أهل السنة يردون عليهم يختبئون فيها، والقواعد هذه ألفوها من عند أنفسهم، كلما تقول له حديثاً يقول لك: هذا الحديث آحاد ماذا يعني (آحاد)؟ لماذا ترده؟ يقول لك: أصله آحاد، والآحاد معناه: ما رواه الواحد والاثنين والثلاثة، والواحد من الممكن أن يغلط.
مثلاً: أبو بكر الصديق معصوم؟ -لا.
ليس بمعصوم.
يمكن أن يخطئ؟ نعم.
يمكن أن يخطئ.
إذاً: ما الذي يدلك على أنه لم يخطئ في هذا الحديث؟ فيخاف الإنسان قليل العلم، ويحس أن المسألة عويصة، لكن رد عليه بنفس أسلوبه فقل له: حسناً: ما الدليل على أنه أخطأ؟ لو أننا مشينا بهذه الصورة التي هم يمشون بها سنغلق أبواب الشهادات، الرجل الذي يأتي يشهد أمام القاضي: قل (والله العظيم أقول الحق)، فيقول: والله العظيم أقول الحق.
لمن هذا المال؟ يقول: لفلان.
إذاً: خذه يا فلان.
فأعطى المال بحلف الرجل لفلان.
ولو أن الرجل الآخر أتى بشاهد مثله فسوف يقول له نفس الكلام، وبهذا تضيع الحقوق! إذاً: هناك فرق ما بين الشيء هل وقع حقاً أم هل يجوز أن يقع عقلاً؟ هناك فرق بين المسألتين، مثلاً: هل: الله عز وجل قادر على أن يخلق رجل بمائة ألف رأس أو غير قادر؟ قادر، ويخلق في كل رأس مائة ألف فم؟ قادر، ويخلق في كل فم مائة ألف لسان؟ قادر، ويخلق لكل لسان مائة ألف لغة؟ قادر، لكن هل وقع؟ لا.
إذاً: هناك فرق بين الجواز العقلي والوقوع الفعلي، ولا نخلط بينهما، فالعقل من الممكن أن يذهب إلى أبعد ما تتخيله مما ليس له ظل على الواقع.
فنحن نقول: الأصل أن هذا الرجل -طالما أن العالم ثَبْتٌ وجليل- فإنه لا يخطئ، إلا إذا أقمت الدليل على أنه أخطأ، والأصل أن الرجل -الذي وقف أمام القاضي ليشهد على قضية- أنه عدل إلى أن يأتي رجل يجرحه، ويقول: هذا الرجل مجروح؛ لأنه يشرب الخمر، أو لأنه ساقط المروءة، أو أنه عاق لوالديه أو نحو ذلك.
فإذا لم يأتنا جارح فالأصل فيه العدالة، وهذا ما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كتاب القضاء الذي أرسله إلى أبي موسى الأشعري فقال: (والمسلمون بعضهم عدول على بعض إلا مجلود في حد، أو مجرب عليه شهادة زور).
إذاً: الأصل في المسلمين العدالة بالنسبة للشهادة.
إذاً: أنت تمضي شهادته، مع احتمال أن يخطئ.
كيف وهذا يجوز على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاء رجلان يختصمان على حق، كل يدعي أن الحق له، فقال: (إنما أنا بشر، وأقضي بينكم على نحو ما أسمع) يعني: قد يكون أحدكم له لسان قوي يقنعني أنه صاحب الحق، وصاحب الحق سفيه أو ضعيف، أو لا يستطيع أن يفصح، فحقه يذهب، ومع ذلك أنا عندما أعطي الحق لغير صاحبه؛ فأنا لم أخطئ، قال: (إنما أنا بشر -وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم- أقضي بينكم على نحو ما أسمع، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من الآخر، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار.
فبكى الرجلان، وقال كلاهما: حقي لأخي يا رسول الله).
فأنت لما ترى أن الرسول عليه الصلاة والسلام من الممكن أن يقضي للمبطل لأنه ألحن بحجته؛ إذاً: نحن أولى وأولى، ولم يقل له الرسول عليه الصلاة والسلام: إن لسانك فصيح فمن المحتمل أن تكذب، ولذلك أنا لا أعطيك الحق؛ لأنه سيقول نفس الكلمة للرجل الآخر.
وضاعت الحقوق.
إذاً: هناك فرق ما بين الجواز العقلي وبين الوقوع الفعلي، ونحن الآن نناقش الوقوع الفعلي.
وأنت تقول: إن الصحابي يمكن أن يغلط، ف
السؤال
هل عندك دليل أنه أخطأ، إذا لم يكن عندك دليل أنه أخطأ فلابد من إمضاء قوله؛ لأن هذا الكلام يسري على واضع هذه القاعدة نفسه، كلما يقول شيئاً؛ أقول له: أليس من الجائز أنك أخطأت في وضع القاعدة؟ إذاً: أنت معصوم؟ فيقول: لا.
فأقول: أليس من الجائز أنك أخطأت في وضع القاعدة؟ فيقول: من الجائز أن أخطئ.
أقول: وما الذي يؤمنني أنك لم تخطئ في وضع هذه القاعدة؟ إذاً: نحن استخدمنا هذه القاعدة ولم يبق قول لقائل في الدنيا.
فأهل البدع يقومون يوضع قواعد من عند أنفسهم يتقون بها ضربات وهجوم أهل السنة.
فيأتي -مثلاً- يقول لك: أحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في العقيدة.
لماذا؟! يقول لك: لأن العقيدة لابد من اليقين فيها.
الله عز وجل لا يعبد بشك أو باحتمال.
إذاً: لابد أن نقبل إما نص قرآني وإما حديث متواتر عن الرسول عليه الصلاة والسلام.
حسناً نحن جئناكم بالقرآن الذي هو قطعي الثبوت ولم يسلم من تأويلكم، وقد نقله الكافة عن الكافة، دعونا من السنة الآن وننظر في القرآن المنزل، ماذا فعلتم بالقرآن؟ أولتم القرآن، ما يؤمنني أنني إذا جئتك بحديث متواتر فعلت فيه مثل ما فعلت في القرآن، وأولت اللفظ بذاك التأويل الباطل: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] يقول لك: لا.
ربنا سبحانه وتعالى ليس له يد؛ إذ لو كان له يد إذن: يشبه المخلوقين، وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وما خطر ببالك فالله على خلاف ذلك.
حسناً قول الله تعالى:: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] يقول لك: لا.
الله ليس له عين؛ إذ لو كان له عين إذن شبهناه بخلقه.
كذلك حديث النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام: (يضع الجبار قدمه في النار) أو (إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) يقول لك: لا.
ليس له إصبع وليس له قدم لماذا؟ يقول لك: لأننا لو أثبتنا له القدم لشبهناه بالخلق.
نقول: لماذا تقيسون الشاهد على الغائب؟ قياس الشاهد على الغائب من أبطل الباطل؛ لأنه يشترط في القياس التماثل، ولابد أن يكون هناك نظير ينطبق على نظير، لكن الضد على الضد لا يكون قياساً، كقياس الليل على النهار قياس باطل، وقياس النار على الماء قياس باطل، كذلك أنتم تقيسون الشاهد على الغائب لماذا؟! حسناً: خذوا هذه الرمية: الله عز وجل حيِّ؟ يقولون لك: نعم.
وأنا حيِّ؟ يقولون لك: نعم: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، هذه حياة الله عز وجل، {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30] هذه حياتنا نحن كلنا.
إذاً: أنت حيِّ والله حيِّ فكيف؟! يقولون لك: لا.
حياته غير حياتنا؛ لأنه لا يقدر أن يقول: إن الله ليس بحيِّ.
أليست هذه مثل تلك؟ له يد كما يليق بجلاله كما أن له حياة تليق بجلاله، حياة كاملة، ونحن حياتنا تليق بقدرنا، كذلك أيدينا تليق بقدرنا، كذلك سمعه سبحانه يليق بقدره، كذلك سمعنا يليق بقدرنا وهكذا خذ جميع الصفات، فإذا قرأت قوله تبارك وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، هذا نفي، {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] إثبات، فنفى المثلية وأثبت لنفسه السمع والبصر.
إذاً: نفهم من الآية: أن كل الصفات الثابتة لله عز وجل تحت قوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى:11]، فله يد {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] وله إصبع {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] وهكذا.
فأصحاب البدع إذا أرادوا أن يبتدعوا بدعة؛ وضعوا لها قواعد وأصولاً ليتقون بها أدلة أهل السنة.(61/9)
شاعر يتهم الله بالنوم
نشر أحد الشعراء ديوان شعر ما رأيناه، لكن عرفناه عن طريق أحد الحمقى، فقد اختار بعض نماذج شعرية من هذا الديون لينشرها بين المسلمين، ويبشرهم برجل صاحب خيال شعري جديد، فكان مما ذكره في المختارات المنتقاة؛ هذه العبارة البتراء الشوهاء، التي قال فيها ذلك المارق: (الله في مدينتي ينام على الرصيف).
فأنكر عليه! فقال: لا.
الله هنا كناية عن الفضيلة، أنا أقصد أن العدالة والنزاهة والفضائل نائمة على الرصيف، بينما الرذائل تسكن الفنادق خمسة نجوم.
فنقول حسناً: لفظ الجلالة.
لو فتحنا أي قاموس لغوي فهل من مفرداته ما ذكره الرجل؟ الألفاظ قوالب المعاني، فإذا جاز لك أن تخترم اللفظ ذهب المعنى، وإن اخترمت المعنى لم يدل عليه اللفظ، إذاً: هذا لعب، وهذا اللعب يمكن أن يمتد إلى الدنيا كلها، كرجل -مثلاً- يسب رجلاً، ويأتي أمام القاضي: فيقول: لا.
بالعكس أنا مدحته، أنا قلت له: يا ابن السوداء، والسواد نصف الجمال، فأنا ما قصدت أن أذمه بل أمدحه.
فبهذا تضيع الدنيا، ولا يعرف الفرق بين المدح والذم ولا بين السب، وغير السب إذا جاز اللعب بالمعاني والألفاظ بهذه الطريقة.
ولفظ الجلالة لا يجوز استخدامه بهذه الصيغة إطلاقاً، لأنه علم على الذات الإلهية: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] فلفظ الجلالة له خاصية، وهي: أنه الكلمة الوحيدة التي إن رفعت منها حرفاً لم يتغير معناها: (الله) ارفع الألف تكون (لله)، ارفع اللام تكون (له)، ترفع اللام تكون (هو)! وبالإضافة إلى ذلك هو اسم علم غير مشتق، وهذا هو أوجه الأقوال، وقول كثير من العلماء أنه مشتق من (أله) فهو (إله)، لكن هو اسم جامد على الذات الإلهية، والعلماء الذين ذهبوا هذا المذهب يقولون: (إن الذين قالوا بالاشتقاق قالوا: إن لفظ الجلالة الأصل (له أو لاه)، ثم أضيفت الألف واللام للتعظيم فصارت (الله).
فرد عليهم العلماء الآخرون وقالوا: لا.
الألف واللام في لفظ الجلالة أصلية، ولم تدخل للتعظيم.
ونحن إذا أردنا أن نفرق ما بين الألف واللام وهل هي أصلية أو غير أصلية ندخل عليها ياء النداء؛ فمثلاً: (الرحمن) هل تريد أن تعرف الألف واللام في الرحمن أصلية أو غير أصلية؟ تدخل عليها ياء النداء، إذاً: تكون (يا رحمن) ولابد أن تحذف الألف واللام، وهذا يدلنا على أن الألف واللام غير أصلية في الكلمة، وإنما دخلت للتعظيم.
وكذلك (الرحيم): يا رحيم، (الرجل): يا رجل وهكذا، فكل اسم محلى بالألف واللام وتريد أن تعرف الألف واللام أصلية في أصل الكلمة أو دخيلة للتعظيم أو للعلمية أو نحو ذلك، أدخل عليها ياء النداء، فإذا أدخلت ياء النداء على لفظ الجلالة تصير (يا الله)، لم تحذف الألف واللام، وهذا يدل على أن الألف واللام في لفظ الجلالة أصلية، وهذا يرجح قول من يقولون: إنه اسم جامد علم على الذات الإلهية وليس مشتقاً.
فلما يأتي رجل ويقول: (الله في مدينتي ينام على الرصيف) ثم يأتي يقول لك: أن قصدي الكناية والاستعارة إلخ.
وهذا وهذا تجهيل للنص ورفع لدلالته، وفيه خرق متسع جداً في مسألة الاتباع، ونحن ينبغي أن نحول بين هؤلاء وبين ما يريدون.(61/10)
المطالبة بتولية المرأة الخلافة وإبطال نصوص المنع
أحدهم كتب مقالاً يتكلم عن الخلافة العظمى ورئاسة الجمهورية، وأن المرأة يجوز لها أن تتولى رئاسة الجمهورية، وهو يعلم حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (لن يفلح قوماً ولوا أمرهم امرأة) فيأتي ويضع هذا الحديث جانباً أو يزعم أنه مكذوب.
ووالله إن الإنسان ليتعجب عندما يسمع عن امرأة لبنانية، عنست وهي عازبة، تكتب في "جريدة الحياة" حصل نقاش في المجلة في باب (أنت تسأل والمفتي يجيب)، وكان المفتي أحد الباحثين المهتمين بالعلم، فوصلت إليه رسالة من قارئة تقول: هل صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن النساء أكثر أهل النار؟ فقال: نعم.
هذا صح في البخاري ومسلم، وجاء الرجل بالأحاديث.
وفي الأسبوع التالي أرسلت المرأة مقالاً تستنكر فيه هذا الكلام.
فتقول: كيف يكنَّ النساء أكثر أهل النار؟ من الذي صنع القنبلة الذرية غير الرجال؟ ومن الذي صنع الصواريخ والدبابات غير الرجال؟ من هم الذين أضاعوا الكون غير الرجال؟ والحروب التي قامت بين العراق وإيران، من سببها إلا الرجال إلخ ما ذكرت.
وتقول: والنساء ماذا فعلن؟! المفروض أن الرجال هم أكثر أهل النار؛ لأنهم هم الذي ضيعوا الدنيا، والنساء ما فعلن شيئاً، وأضف إلى ذلك أن هذا الكلام ليس مقنعاً لماذا؟ لأن الشيخ ذكر الحديث فقال: (إن الرسول صلى الله عليه وسلم في العيد وعظ النساء، وقال للنساء: تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فجعلت المرأة تلقي القرط من أذنها والمرأة تلقي بالخاتم، فقالت امرأة: لم يا رسول الله -لماذا النساء أكثر أهل النار؟ - قال: لأنهن يكثرن اللعن، ويكفرن العشير، إذا أحسن إليها الدهر، ثم رأت سوءاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط).
فتقول المرأة اللبنانية: فهل يعقل أن الرسول -أبو الذوق كله- في يوم العيد، بدل أن يقول لهن: كل سنة وأنتن طيبات، يقول لهن: أنتن من أهل جهنم وبئس المصير هل يدخل العقل أن الرسول أحسن الناس خلقاً يوم العيد يضجر عليهن ويقول لهن: رأيتكن أكثر أهل النار، بدل أن يقول لهن: كل سنة وأنتن طيبات، ومن العائدين إن شاء الله.
فتقول: هذا الكلام ليس مقبولاً، والرسول صلى الله عليه وسلم كان رجل ذوق، وظلت تدندن في هذه المسألة.
فانظر كيف تعترض لتنتصر لأبناء جنسها؛ لأنها امرأة؛ فعظم عليها أن يكون أكثر أهل النار من النساء، وكأن هذه حقوق مثل الحقوق التي يريدون أن يأخذوها في الدنيا: أن المرأة لها مثل حقوق الرجل.
فاليوم نحن أمام حملة للتجهيل، فهذا الرجل جاء ليزيل العقبات أمام تولي المرأة للحكم، فأي نص يراه يحيل بين تولي المرأة لرئاسة الجمهورية والخلافة العظمى لابد أن يرد عليه، إما أن ينسفه، وإما ينفي دلالته، وإما أن يقول: موضوع، ولابد أن ينفيه.
فقال هذا الرجل: وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) فإنه لم يحدث بهذا الحديث إلا أبو بكرة الثقفي، وحدث به بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام بنيف وثلاثين سنة.
حسناً: إلى ماذا يريد أن يصل بهذا الكلام؟ يريد أن يقول: إن أبا بكرة الثقفي افتراه وألفه؟ أو أنه يريد أن يقول: من شرط قبول الحديث أن الرجل عند موت الرسول يحدث بكل ما سمعه.
فنقول له: إن الكلام يخرج لمقتضى، ولابد من حادثة حتى يخرج الحديث عليها، ويناسبها.
وأبو بكرة الثقفي رضي الله عنه قال هذا الحديث بسبب: ما حصل من الخلاف بين الصحابة بين علي ومعاوية رضي الله عنهما.
فعندما التقى الجمعان وأوشكت الحرب أن تبدأ؛ خطر لـ طلحة والزبير بن العوام -رضي الله عنهما وهما من العشرة المبشرين بالجنة- أن يأخذا عائشة رضي الله عنها، وتقوم أمام الناس؛ لأنهم يبجلونها ويوقرونها فهي أمهم؛ هكذا ظنوا، فذهبوا إلى عائشة، وقالوا: أنت لو خرجتي سيكون هناك خير كثير، وستحقن دماء المسلمين، فرفضت عائشة كل ذلك، وهي تقرأ: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] لكنهم في الأخير غلبوها على أمرها.
وأي رجل فينا لا يسعه أن يفعل إلا ما فعلت عائشة، تصور أنك جالس في المسجد، وجاء إليك شخص يقول: هناك اثنان يتقاتلان بالسكاكين، وهما عند يرونك سوف يكفان عن القتال.
فهل ستخرج أم تقعد؟ تخرج مباشرةً، فهذا هو الذي حصل لـ عائشة رضي الله عنها، ظنت بإقناع طلحة والزبير أنها عندما تخرج ويراها المسلمون ستضع الحرب أوزارها، فخرجت معهم واستمروا بالسفر، فمروا على ماء، فإذا بكلاب تنبح، فقالت: أي ماء هذا؟ قالوا: هذا ماء الحوأب -بئر اسمها الحوأب-.
فقالت عائشة: ما أظنني إلا راجعة لماذا؟ قالت: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لنا: (أيتكن صاحبة الجمل الأدبب تنبح عليها كلاب الحوأب) والجمل الأدبب هو جمل عائشة، والذي بسببه سميت موقعة الجمل، والأدبب أي: كثير الشعر.
فقالت: (ما أظنني إلا راجعة).
فلا زال طلحة والزبير يرغبانها في حقن دماء المسلمين، فغلباها على أمرها ومضت عائشة، وكان أمر الله قدراً مقدوراً، ومضت عائشة رضي الله عنها وذهبت إلى هناك وقامت الحرب.
فعندما رأى بعض الصحابة والتابعين عائشة في صف معاوية انحازوا لصف عائشة، وكما توقع طلحة والزبير أن كثيراً من المسلمين يبجلونها ويوقرونها فسينحازون إليها، فقام عمار بن ياسر يخطب، وقد كان يقاتل في صف علي بن أبي طالب -رضي الله عن الجميع- فخطب خطبة وقال: (والله إني لأعلم أنها زوجة رسوله في الجنة، ولكن الله أراد أن يبتليكم أتطيعونه أم تطيعونها؟) وهنا أبو بكرة روى الحديث وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوماً ولوا أمرهم امرأة).
مع أن عائشة رضي الله عنها عقلها يزن بلداً، ولو حكمت دولة الآن لصارت هذه الدولة في السماء بالنسبة للموجودين، فعقلها عقل كبير، وعائشة رضي الله عنها المعلمة، لما تقرأ كلامها في الأدب أو الشعر أو في الطب تقلب كفيك عجباً! منذ أن كانت في التاسعة إلى الثامنة عشر، -تسع سنوات- في بيت النبوة تنهل من العلم، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحبها ويقربها، فحظيت منه بعلم ما لم تحظ زوجاته الأخرى، وتوفي الرسول عليه الصلاة والسلام وعمرها ثماني عشرة سنة، وعاشت بعده أربعين سنة تبث العلم، ومع ذلك قام أبو بكرة الثقفي وقال هذا الحديث لأن مناسبته أتت.
مثلاً أخرج مروان بن الحكم المنبر إلى المصلى في صلاة العيد، والمفروض أن الخطيب يخطب في مصلى العيد وهو واقف بدون منبر، وكذلك قدم الخطبة قبل الصلاة، والسنة أنه يصلي ثم يخطب، فـ مراون عكس الأمر -وهذا الحديث في صحيح مسلم- فقام رجل يقول: ما هذا الذي تفعله يا مروان؟ خالفت الرسول عليه الصلاة والسلام وخالفت أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، فقال له: (ذهب ما هنالك).
فلما سمع أبو سعيد الخدري قول الرجل؛ قال: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وليس وراء ذلك مثقال حبة من خردل من إيمان).
هل يمكن أن نقول: أن أبا سعيد الخدري ظل يكتم الحديث هذا في قلبه إلى أن أتى هذا الموضوع؟ لا.
لكن ليس له مقتضى، كل كلام يخرج له مقتضى، والرسول عليه الصلاة والسلام نفسه كان ينبه إذا وجد مقتضى التنبيه.
فمثلاً: نحن ما كنا نعلم أن خاتم الذهب لبسه حرام للرجال، وأنه جمرة من نار إلا لما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس ذهباً.
فهل يمكن أن يأتي رجل لا يلبس ذهباً ويقول له: (يعمد أحدكم إلى الذهب فيضعه في يده) فيقول له: أين هو يا رسول الله؟! فلابد أن يكون هناك موقف، والرسول عليه الصلاة والسلام ما قال هذا الحديث إلا لما ظهر لهذا الكلام مقتضى حتى يقع الكلام موقعه.
وإذا لم يكن للكلام مقتضى فيوجد له مقتضى حتى يقوله.
كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي هو وبعض الصحابة فوجد جدياً ميتاً أسك، -أي: مقطوع الأذنين- ملقى على قارعة الطريق، فقال لهم: (أيكم يشتري هذا بدرهم -والرسول عليه الصلاة والسلام يسأل وهو يعلم أنه لا يستحق حتى فلساً- قالوا: يا رسول الله! والله لو كان حياً ما اشتريناه -لماذا؟ لأنه أسك مقطوع الأذنين- قال: أترون هذه الشاة هينة على أهلها؟ -يعني: لو كانت غالية عليهم ما رموها على قارعة الطريق- قالوا: نعم يا رسول الله.
قال: والله للدنيا أهون على الله من هذه على صاحبها) فأوجد رسول الله للكلام مقتضى.
فخلاصة البحث: أن كل كلام لابد أن يكون له مقتضى.
أفيعاب أبا بكرة الثقفي أن قال هذا الحديث في هذه المناسبة؟ لا.
لو لم تأتِ هذه المناسبة أو مثلها ما قال أبو بكرة هذا الحديث -والله أعلم- إلا أن يسأله سائل مثلاً، والسؤال مقتضى.(61/11)
ثبوت اختلاف الصحابة في الفرعيات
الصحابة رضوان الله عليهم كثيراً ما اختلفوا في الفقهيات، مثلاً حديث: (الوضوء مما مسته النار)، كان في أول الإسلام الذي يأكل أو يشرب شيئاً مسته النار لابد أن يتوضأ، ويعتبر من نواقض الوضوء، وبعد ذلك نسخ هذا الحكم.
كان ابن عباس ليس عنده دليلاً، ولم يسمع الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (لا تتوضئوا مما مست النار)، لكن ابن عباس عنده جدل عقلي، فجرت هذه المناقشة بينه وبين أبي هريرة كما في سنن الترمذي: قال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (توضئوا مما مست النار).
-فقال ابن عباس: يا أبا هريرة! أتوضأ من طعام أجده في كتاب الله حلالاً.
هل سآكل اللحمة نية؟ لابد أن نطبخها، وأيضاً هذا حلال.
-يا أبا هريرة: أفلا نتوضأ من الحميم؟ افترضوا أننا الآن في برد قارس، ونريد أن نتوضأ بماء دافئ؛ لأننا لا نحتمل البرد، ونقوم بعد الماء الدافئ نتوضأ بماء بارد؟! إذاً: ما الذي فعلناه؟! قال ابن عباس: -أفلا نتوضأ من الحميم؟ وجعل يورد على أبي هريرة هذه الإيرادات، فقبض أبو هريرة ملء كفه حصى، وقال: أشهد بعدد هذا الحصى أنني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (توضئوا مما مست النار) يا ابن أخي! إذا حدثتك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فلا تضرب له الأمثال.
انظر إلى الاتباع: (لا تضرب له الأمثال).
كذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا استيقظ أحدكم من منامه؛ فلا يغمس يده في وضوئه حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده) هذا الحديث رواه البخاري ومسلم، لكن لم يذكر البخاري العدد، كلمة (ثلاثاً) (فليغسلها ثلاثاً) هذه خلت منها رواية البخاري وثبتت في رواية مسلم، فيسن للرجل القائم من النوم إلا يحط يده في وعاء ماء مباشرة، ولكن يأخذ ماء ويغسلها -خارجاً- ثلاث مرات ثم يضعها في الماء.
(إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في وضوئه حتى يغسلها ثلاثاً، فإنه لا يدري أين باتت يده) فلو قال إنسان: أين باتت يدي؟! باتت بجانبي.
فنقول له: إياك أن تقول هذا؛ لأنه ثبت -كما ذكر النووي في بستان العارفين بسند صحيح- أن رجلاً تلي عليه هذا الحديث فقال ضاحكاً: أين باتت يدي؟! باتت إلى جانبي، فأصبح ويده محشورة في دبره! وهناك سند صحيح آخر ذكره النووي في بستان العارفين: (أن هناك رجل سمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع) فلبس نعلاً خشبياً -مثل القبقاب- وجعله له مسامير من تحت، فقالوا له: ما هذا يا فلان؟ قال: أخرق أجنحة الملائكة.
قال: فيبس -شل-).
وهذه القصة إسنادها صحيح كالشمس، وهذه عاقبة الذي يضرب لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الأمثال لماذا؟ لأنه قد يكون الحكم تعبدياً لا علة له، يعني: أنت لما تأتي تقول لي مثلاً: (فإنه لا يدري أين باتت يده) طيب ما هي العلة؟ أقول لك: يا أخي! إذا لم تجد له علة؛ فهذا تعبد تعبدك الله به ليبتليك، فأنت عبد تسمع وتطيع، وليس كل شيء لابد أن نفهمه، فهناك أشياء يبتليك الله بها ولا تفهم لها معنى لينظر التسليم، كما في الحجر الأسود، فقد جاء عن عمر بن الخطاب الملهم المعلم أنه قال: (إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك) فـ عمر بن الخطاب لم يفهم أي علة لتقبيل الحجر إلا المتابعة.
كذلك السعي بين الصفا والمروة، لماذا نسعى بين الصفا والمروة؟ أم إسماعيل عليها السلام سعت؛ لأنها كانت تبحث عن ماء، فلماذا نحن نسعى وإذا كانت هي تسعى في وسط جبل فالمسعى الآن صار من رخام، وأصبح هناك تكييف مركزي فلماذا نسعى؟ ما العلة في السعي؟ نقول: أنت مأمور بهذا، وهذا شيء تعبدي لابد أن تفعله وإن لم تفهم له معنى.
فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (فلا يغمسها في وضوئه حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإنه لا يدري أين باتت يده).
فأحدهم يقول لـ أبي هريرة: يا أبا هريرة! ماذا نفعل بالمهراق.
أي: هذا في الوعاء والإداوة، فلو كان هناك بئر كبير.
أي: أنه لا يضع يده في مثل هذا الماء القليل لأنه يتنجس، فقال له: افرض أن الماء كثير كأن يكون هناك بئر عظيمة.
فماذا نفعل بالمهراق يا أبا هريرة؟ فحصده أبو هريرة وقال: أعوذ بالله من شرك.
هل أبو هريرة لم يفهم الكلام؟ لا.
لكنه كان يؤدب: (يا ابن أخي! إذا حدثتك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فلا تضرب له الأمثال).
أبو هريرة رد على ابن عباس المقالة لأنه ليس معه دليل، كان معه جدل عقلي، وهذا لا ينفع، فالنص لابد أن تأتي بنص في مقابله، فروى ابن عباس بعد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعرق عرقاً -كان يأكل لحمة- فجاءه رجل، فآذنه بالصلاة، فصلى ولم يتوضأ) وطبعاً هذه اللحمة مطبوخة قد مستها النار، فنفهم من هذا: أن آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار كما في حديث جابر وغيره.
واختلافهم في القضايا الفقهية كثير جداً، لكن لن نجد لهم اختلافاً في العقيدة، فمثلاً: أبو سعيد الخدري روى حديث (يوم يكشف الجبار عن ساقه) كما في صحيح البخاري ومسلم، ولا نعلم أن أحداً قال: ما معنى ساقه يا أبا سعيد؟ الله لا يشبه بخلقه.
ولا رد عليه الحديث في العقيدة إطلاقاً، ردوا على بعض في الأحكام الشرعية، ولم يرد بعضهم على بعض في العقائد إذاً: هذا أدل دليل على قبول خبر الواحد الذي لم يعلم عنه إنه غلط في النقل.
فأهل البدع وضعوا كل هذه الأصول؛ ليحولوا بين الناس وبين اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا أول قدح في الاتباع، فنحن ينبغي علينا أن ننتبه، فلا تأخذ دينك من الجرائد ولا المجلات، ولا تأخذ الفتاوى من الجرائد والمجلات والإذاعات، ولا تأخذها إلا من عالم ثقة، تثق في دينه وعلمه؛ لكثرة الخبث والجهل.
والحمد لله! فنحن نرى رجوعاً حميداً إلى دين الله عز وجل، فكل يوم ينظم ركبان جدد إلى ركب الإيمان والمؤمنين، فهذه الصحوة المباركة ينبغي أن يصاحبها نهضة علمية وأخلاقية؛ حتى لا يحصل خلل في وسط هذه الجماهير.
فاتباع الرسول عليه الصلاة والسلام فرض؛ لقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
والحمد لله رب العالمين.(61/12)
الأسئلة(61/13)
حكم لبس النقاب
السؤال
هل النقاب فرض أم سنة مؤكدة، وإذا كان فرضاً فنرجو أن تذكر بعض الأدلة؟ ولماذا اختلف العلماء فيه مع أن الفرض لا يختلف فيه؟ وإذا كان سنة مؤكدة فهل علي إثم إذا ارتديته ثم خلعته؟
الجواب
بالنسبة للنقاب للعلماء فيه قولان: القول الأول: باستحباب النقاب، وهذا القول معناه: جواز كشف الوجه.
والقول الآخر: بوجوب ستر الوجه، وهذا معناه: وجوب النقاب.
وأنا لا أريد أن أقف طويلاً على هذين القولين، لكن أقف على ما هو أهم، وهو ما ورد في سؤال السائل: إذا كان فرضاً لماذا اختلفوا فيه؟ فنقول: إن الأدلة إما أن تأتي بالأمر المباشر المجرد، ولا يكون هناك صارف، فهذا لا خلاف بين جماهير العلماء على أنه يفيد الوجوب.
والخطاب من فوق إلى تحت: فيه الأمر الذي يفيد الحتم والإلزام.
والخطاب: من تحت إلى فوق: طبيعته التوسل.
والخطاب من الند إلى الند: مطلق الطلب.
مثلاً: إذا قال الرئيس لأحد مرءوسيه: لا تخرج من هذا الباب واخرج من ذاك، أو قال له: اخرج من هنا.
فهذا فعل أمر، فإذا خالف المرءوس وقال: أنا فهمت من كلامك أن أخرج من أي باب أحب.
إذاً: ضيع الأمر.
ولو قلت لابنك: ذاكر! فقال لك: (ذاكر) هذه أنا أفهمها ذاكر أو العب أنت حر إذاً: ضيع الأمر.
فطبيعة الأمر من فوق إلى تحت أنه يفيد الحتم والإلزام؛ لأنه فوق، وهناك هيمنة وسلطة.
وطبيعة الأمر من تحت إلى فوق تفيد التوسل، فأنت مثلاً إذا دعوت الله عز وجل فقلت: (رب اغفر لي).
(اغفر) فعل أمر، هل أنت تأمره أن يغفر لك أم تتوسل إليه؟! هذا توسل، فلما تقول: (رب اغفر لي، رب ارزقني، رب اجبرني، رب عافني) كل هذه أفعال أمر لكنها تفيد التوسل.
وإذا كان لك نظير وند فطلبت منه شيئاً؛ فيكون هذا على سبيل الطلب، كما قال علي بن أبي طالب في الأقسام الثلاثة هذه: (أحسن إلى من شئت تكن أميره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره).
إذاً أحسن إلى من شئت، ويد المحسن هي العليا.
إذاً: طبيعة الأوامر من الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم تقتضي الإلزام، وأنه لا خيار لك في ترك الفعل، هذا النوع الأول من الأوامر.
والعلماء متفقون على أن هذا النوع يفيد الوجوب ولا خيار لك، لكن إذا جاءك أمر من فوق ألا تفعل، وجاءك أمر من فوق افعل، فثبت الأمران من فوق، يقول العلماء: إن هذا يدل على جواز الفعل أو الترك، فالرسول عليه الصلاة والسلام مثلاً قال لـ عمر: (يا عمر! لا تبل قائماً) إذاً: هذا يدل على النهي عن البول قائماً، ورغم ذلك رآه حذيفة بن اليمان يبول قائماً، فكيف ينهى عن الشيء ويفعل عكسه؟! العلماء قالوا: الفعل هذا يدل على أن النهي لا يفيد التحريم، إنما -ينزل تحت- يفيد الكراهة، إذاً: الجواز لا ينافي الكراهة، إذاً: فعل النبي صلى الله عليه وسلم يدل على الجواز إذا أمن العبد الرذاذ -رذاذ البول- واستدبر الريح واحتاط لنفسه، ولا تبُل قائماً إذا كان المكان صلباً أو الريح تأتي عليه فيخشى أن يأتي عليه الرذاذ إذاً: كل حديث له ظروف وملابسات.
فنحن نقول في مسألة النقاب: وآية الأحزاب ظاهرة في مسألة النقاب: أن المرأة يجب عليها أن تغطي وجهها، لكن وردت أحاديث أخرى فيها ما يدل على أن المرأة كانت كاشفة لوجهها.
فالعلماء الذين قالوا باستحباب تغطية الوجه -يعني: بجواز كشف الوجه واستحباب النقاب- ما قالوها تشهياً من عندهم، إنما صرفوا الوجوب عندهم بدليل، مثل حديث جابر بن عبد الله لما قال: (جاء النبي صلى الله عليه وسلم في يوم العيد وقال: يا معشر النساء! تصدقن؛ فإني رأيتكن أكثر أهل النار.
فقامت امرأة سفعاء الخدين وقالت: لم يا رسول الله؟) إلى آخر الحديث، فقوله: (سفعاء الخدين) يدل على أن خدها كان مكشوفاً، وإلا ما عرف جابر أهي شوهاء أم حسناء.
وكذلك حديث أن الفضل بن العباس كان خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءت امرأة عند المنحر تسأله، وكان المرأة وضيئة وكان الفضل كذلك، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فيلوي النبي صلى الله عليه وسلم عنق الفضل، فيرجع فينظر، فيلوي عنقه، فيرجع فينظر، فيلوي عنقه، فقال العباس: يا رسول الله! لويت عنق ابن عمك.
قال: (رأيت شاباً وشابة، فلم آمن الشيطان عليهما) إلى آخر هذه الأحاديث.
فالخلاف في هذه المسألة خلاف معتبر، لكن طائفة من العلماء الذين قالوا باستحباب النقاب قالوا: إذا كان الزمان زمن فتنة فيجب عليهما أن تستر وجهها.
إذاً: نحن -نسأل الله عز وجل العافية- في زمان كله فتن، ونتجاوز مثل هذا الأمر ونقول للمرأة: إذا كان هذا يدنيك من الله عز وجل شبراً واحداً فلا ينبغي للمرأة العاقلة أن تقصر فيه، رب حسنة واحدة يحتاج إليها العبد، ويقرع سنه ندماً أنه ما تبسم في وجه أخيه لكان حصل على الحسنة هذه، أو كان أفضى من دلوه في دلو أخيه كان حصل على هذه الحسنة، فنحن في سباق إلى الله تبارك وتعالى، والعاقل هو الذي لا يركن إلى قولهم: مستحب؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يبتدرون الأمر.
والله أعلم.(61/14)
حكم وضح الخطوط في المساجد لتسوية الصفوف
س
السؤال
ذكرتم في شريط بعنوان (الأخذ بالأسباب) أن وجود الخط في المساجد لتسوية الصفوف من البدع؟
الجواب
نعم.
أنا قلت هذا، وما أدري هل الأخ السائل سمع الشريط بإتقان، أنا بسطت الحجة في هذا الشريط، والحجة باختصار: أن هناك قاعدة عند العلماء تقول: (إذا كان للشيء مقتضى على زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفعله فلا يجوز لنا فعله، أما إذا كان الشيء ليس له مقتضى على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هناك نهي خاص به، وفيه مصلحة للمسلمين؛ فيجوز لنا فعله).
القاعدة مبهمة -طبعاً- ومغلقة بهذا السرد، لكن أنا أوضحها بمثالين: وضع الخيط لماذا وضعناه؟ لتسوية الصف.
حسناً تسوية الصف هذه مهمة من؟ مهمة الإمام، ما شددنا الخط على الأرض إلا بعد أن أهمل الإمام مهمته، تجده يقول: استووا.
وقفاه للمصليين، والسنة: أنه لا يقيم الصلاة إلا إذا مر على الصفوف، ويرسل أحداً يكمل، حتى إذا قال له: استوت الصفوف؛ يصلي.
وهذا الحكم ورد في صحيح البخاري في حديث عمرو بن ميمون الأودي وهو يروي قصة مقتل عمر بن الخطاب، وهذا الحديث تجدونه في الجزء السابع من فتح الباري في مناقب عمر بن الخطاب، قال: (وحتى قال عمر: (استووا، وأرسل من يسوي الصف، حتى إذا قالوا له: استوى الصف، كبر، فما هو إلا إن قرأ حتى قال: طعنني الكلب، أو قال كلمة نحوها) فهذا تلقاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الرسول عليه الصلاة والسلام.
فالإمام هو الذي ينبغي أن يساوي الصف، فلما أهمل الإمام مهمته، ولم يقم بما أوجبه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من تسوية الصف وغير ذلك؛ بدأنا نفكر في ضبط الصف بأن نشد خطاً على الأرض.
حسناً: أليس كان بمقدرة الرسول عليه الصلاة والسلام أن يشد حبلاً أو يخط خطاً على الأرض؟ كان بمقدرته أن يفعل ذلك.
حسناً: هل كان مقتضى الخط موجوداً؟ نعم.
وهو تسوية الصف؛ لأن شد الخط للتسوية، فالتسوية هي مقتضى شد الخط أو شد الخيط، إذاً: كان له مقتضى، وكان مقدوراً له أن يفعله ومع ذلك لم يفعله، فدل ذلك على أنه لا يجوز لنا أن نفعله، إذ لو كان جائزاً لفعله من قبلنا.
أما إذا كان لم يكن للشيء مقتضى على عهد النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يكن هناك نهي خاص عنه، ولنا فيه مصلحة، فهذا جائز لنا فعله، مثل: إشارة المرور، فإشارة المرور هذه كان لها مقتضى على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ لا؛ لأنه لم يكن هناك سيارات، ولم يكن هناك طرق معبدة ولا مرصوفة، إذاً: فإشارة المرور لم يكن لها مقتضى، فهل ورد تحريم أو نهي عنها؟ لا.
لم يرد نهي عنها.
فهل تسبب لنا مصلحة؟ نعم.
إذاً: يجوز فعلها، وهذا هو الفرق بين البدع وبين المصالح المرسلة والله أعلم.(61/15)
حكم مرتكب المعصية المصر عليها
السؤال
بعض أهل العلم يقولون بكفر فاعل المعصية المصر عليها، وأن التوبة شرط لكي يعود مسلماً من جديد؟
الجواب
أما الرجل المصر على المعصية، وهو يعلم أنها معصية فهذا مستحل، وهذا كفره ظاهر، كأن يقول: الربا أنا أعلم أنه حرام لكنني سآكله، والزنا حرام لكنني سأفعله هذا واضح الاستحلال فيه، فلا شك في كفر مثل هذا الرجل.
أما مسألة المعصية غير المصر عليها فلا يكفر بها بطبيعة الحال، وهو مسلم حتى وإن عصى، فكلمة يرجع للإسلام من جديد إذا كان قيد الكلام بالاستحلال فهذا لا شك فيه، رجل استحل المعصية وهو يعلم أنها معصية وفعلها واستحلها هذا يكفر ويخرج من الملة؛ حتى يرجع إلى الإسلام ولابد أن يتوب ويغتسل وينطق بالشهادتين، ويرجع إلى الإسلام من جديد والله أعلم.(61/16)
إذا ضيعت الأمانة
الأمة الإسلامية اليوم تعيش في بعد عن دينها، وتخلف بسبب الجهل المخيم على كثير من أبنائها، وما تلاه من نشوء فكر العلمانية في عقول كثير من بني جلدتنا، مما زاد الأمة بلاءً فوق بلاء الجهل والابتداع، لذلك نحن بحاجة إلى شباب وجيل مؤمن يحطم وثن العلمانية بكل ما أوتي من قوة، ويمحو ظلام الجهل بنور العلم والبصيرة.(62/1)
نظام البورصة في تدمير الاقتصاد
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
فإنه ينبغي أن أكون أنا على قناعةٍ بصحة ما أفتي به العامي، فالعامي يعطيك المسألة وأنت تبحث وتسأل، وتعطيها له وتتحمل تبعاتها، من الذي يشعر بعظم المسألة؟! أناسٌ كثيرون جداً، جاء علي شهر كامل أجد الهاتف كله منشغلاً، كل الناس يسألون عن البورصة، وأنا لم يكن لدي فكرة أن هناك في الدنيا شيء اسمه (البورصة)، وعندما سألت وجدت البلاء المستطير {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ} [غافر:44].
البلاء المستطير الموجود هو بسبب البورصة، وأنت عندما تسأل أي إنسان هذه الأيام، يقول لك: هناك حالة ركود في البلد، سلع كثيرة جداً نزلت السوق، السيارات والأجهزة المعمرة والمواد الغذائية كله موجود لكنها خسارات فادحة؛ لأن البورصة نظام يهودي، شركة جديدة في مصر عرضت السهم بستة وخمسين جنيهاً، وبعد ستة أشهر فقط ارتفع ثمن السهم إلى خمسمائة وستة وخمسين جنيهاً، أي: لو أن رجلاً وضع مائة ألف جنيه في البورصة لأصبح معه خمسمائة ألف جنيه في ستة أشهر، فلا أحد سيبني بيتاً أو يعمل شيئاً؛ بسبب إغراء هذا الربح.
فلماذا لا أضع مائة ألف جنيه ثم بعد ستة أشهر آخذ أرباحها خمسمائة ألف، المائة ألف التي كنت سأتصرف بها آخذها من رأس المال وأجعل أرباح المال تمشي وهكذا.
الناس يعتقدون أن الدولة مشرفة على البورصة فلن تفلس لا، الذي يقبض المال هم اليهود، وهذا بنك الاعتماد والتجارة! ما كان يخطر على البال أن هذا البنك سيفلس يوماً ما، هذا بنك شيوخ الخليج! الذي لو الدنيا افتقرت كلها لاعتمدوا عليه، وعجزوا حتى الآن أن يرفعوا البنك أو يعيدوا البنك مرة أخرى.
اليهود أكلوا ونهبوا وانتهى الأمر، هم أباطرة المال في الدنيا! وكل مخزون الناس من المال يبتدئ يظهر في البورصة، وفي الأخير أنت لا تعلم كيف تمشي الأمور! هذه الأموال انتهت كلها، وبالتالي اقتصاد البلد كله يدمر؛ لأن كل الأموال الموجودة مع الخلق خرجت تشتغل.
قضية البورصة -مثلاً- بحاجة إلى كثير من العلماء لكي يجيبوا على أسئلة الخلق، لا بد أن يفهموا أولاً عمل البورصة، ويصير عندهم فقه في أعمال البورصة، لكي تكون الفتوى صحيحة، فلو أتاك رجل من الناس وماله بيده، وإذا به واقف على الباب: يا شيخ! أرجوك أن تفتني.
لا بد أن يسأله: هذه البورصة كيف تشغل هذا المال؟ كيفية العقد في الأرباح؟ أنا لا أريد عالماً جاهلاً، هناك عالم جاهل ببعض المسائل، لكنه يقول: هذه المسائل ليست موجودة عندي اسأل غيري فالمسألة تحتاج إلى كثير من العلماء في كل بلد.
إن اليهود يريدون أن يشغلوا الناس حتى يأتي الرجل إلى المسجد فلا يجد من يقول له: من أنت؟ ومن أين جئت؟ هو عنده حرارة، وإخبات، وعنده فكرة عظيمة رائعة لكل الناس الذين يرتادون المساجد.
حتى أن شخصاً منهم يقول لي: الناس الملتحين هؤلاء كالملائكة، يدخل المسجد ويأتي بهذه العاطفة، يظل سنة أو سنتين أو شهراً أو شهرين ثم يهرب، ولم يكلف بشيء، ولم يقل له أ؛ د: اعمل كذا أو اترك كذا وبعدما يهرب يبدأ يرى بعض المشاكل الموجودة بين المسلمين، والأصولات البذيئة الموجودة بين المسلمين، يبدأ يهرب ويسوء ظنه، فيصعب جداً إصلاحه بعد ذلك.
فالمقبلون على الله عز وجل بهذا المال الحرام كثير أين الدعاة إلى الله عز وجل؟ هم الذين يصلحون أمثال هؤلاء، ويقيمونهم على طريق الله عز وجل، فهي محنةٌ من أعظم المحن.
فهذه مدينة حلوان، كم مليون فيها؟ مليوني نسمة، كم فيها من الدعاة؟ انظر المحنة! لا جواب، هل ينفع هذا الكلام؟ أربعة أو خمسة لمليوني شخص؟! حلوان كم فيها أطباء؟ مئات، أليس كذلك؟ ومع ذلك المئات لا تكفي لعد سكانهم.(62/2)
أهمية تربية الشباب على الدعوة والشعور بالمسئولية
وكيف لو شعرت الجماهير بحقيقة المحنة ولم يسأل رجلٌ نفسه هذا
السؤال
حتى يقول لابنه: يا بني! أنت وقفٌ لله، أوقفتك كما أوقف مصحفاً أو أوقف سبيل ماء، أوقف هذا الولد الذي أنفقته لله هو الوحيد الذي في رصيدك، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ثم ذكر: وولدٌ صالح يدعو له).
قال العلماء: قيد ذكر الولد بالصلاح للدلالة على أن غير الصالح لا يلحق بأبيه، فالولد غير الصالح ليس من نسلك: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] فكل ولدٍ فاسد لا ينسب إليك ولا تستفيد منه، فالله عز وجل إنما ذكر ميلاد موسى وكيف ربى موسى لفرعون لنتعلم هذا، والله عز وجل كان قادراً على أخذ فرعون أخذ عزيز مقتدر لكنه يعلمنا كيفية الصبر، يربيه ويتدرج موسى عليه السلام ثم يخرج إلى مدين ثم يرجع إلى فرعون نبياً.(62/3)
شبهات العلمانيين لا يدفعها إلا الدعاة
من الذي يرد على الشبهات الموجودة الآن في الساحة؟ شخص الآن يتكلم على حد الرجم، ولله در عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كأنما كان ببصيرته يخترق حجب الغيب، قال -كما في صحيح البخاري- (لقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجم أبو بكر، ورجمتُ، فأخشى أن يطول بالناس زمان، فيقول أحدهم: لا نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله).
وذكر أنهم كانوا يقرءون فيما كانوا يقرءون من القرآن آية الرجم، وأنها رفعت، فعندما يتكلم إنسان على حد الرجم في الصحف ويقول: إن حد الرجم هذا غير صحيح، وأنه جاء في أخبار آحاد، وأخبار الآحاد لا يعمل بها؛ والعجيب أن المعتزلة لا يقبلونها في العقيدة دون الفقه، هذا شيء في آخر الظلم.
يقول: هذه أخبار آحاد، وكيف نريق الدماء بهذه الصورة البشعة، والإسلام لا يدعو أبداً إلى ذلك، المعروف أنه إنما يرجم الزاني المحصن والرجل المتزوج إذا زنى يرجم بأن تحفر له حفرة في الأرض، ثم يرجم، ويبقى وسطه في الأعلى بحيث يكون ظاهراً على الأرض، ثم يرجم بالحجارة في رأسه إلى أن يموت، هذا هو حكم الله عز وجل في الزاني المحصن.
فيقول هذا: الإسلام يدعو إلى الرأفة والرحمة حتى بالحيوان، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتل أحدكم فليحسن القتلة، وإذا ذبح فليحسن الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته)؟ يقول لك: انظر إلى رأفة الإسلام! إن الحيوان الأعجم الأبكم لا تحد هذه السكينة أمامه؛ لأن هذا خلاف الرحمة، حد الشفرة واذبح مباشرةً؛ لأن تعذيب الحيوان ليس من الإحسان، قال: هذا وهو حيوان، وهذا مسلم موحد، فكيف تأتي بحجر وتضربه وربما يظل يموت ساعة! والله أعلم الذي يضربه هل يضرب بضربة تؤلمه أم لا؟ يظل يرمي خمسين مرة ويأتي بحجرة أخرى ويرمي، والآخر يتعذب ما هذا؟ وهل هذا شرع؟! وهذا لا يعقل، فهل الحيوان يرحم ويقول: (وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) ويجعل المسلم الموحد يقتل رمياً بالحجارة؟! لا يمكن الفعل هذا! الشبهة هذه جميلة! وعندما يكون الإنسان لا علم عنده ينطلي عليه مثل هذا الكلام، لكن عندما يوجد كوادر من أهل العلم تردع مثل هذا؛ الجماهير تكون في مأمن وعندها أمان، لأنه أول ما تظهر شبهة كلهم يتكلمون، ويغطون هذه الشبهة، وهي شبهة من أسقم الشبه وأتفهها؛ لأن الله تبارك وتعالى لا يشرع الشيء إلا لحكمة، وكل أوامره حكمة.
الحيوان الأبكم الأعجم ما المصلحة في تعذيبه؟! لا مصلحة على الإطلاق، لذلك قال:: (وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته).
لكن هذا المجرم الآثم الذي اعتدى على عرض أخيه هو لم يقدر المصيبة التي وقعت في المجني عليها، يعني: المسألة كلها ليست عليه، هو في استمرار في منهج الانحراف، والمجني عليه والمعتدى عليها هذه.(62/4)
طريق الدعوة والتربية طويل
نحن نفهم من هذا أن طريق الدعوة طويل ويحتاج إلى صبر، وكل المصائب التي وقعنا فيها منذ القديم سببها العجلة، فالمسألة تحتاج إلى صبر خمسين سنة، الجيل المفرط الخائن يموت أو يحال إلى التقاعد، والجيل الواعد يملك، المسالة مسألة إحلال وإزالة، يكفي أن هذه الصحوة ليست من نتاجهم، فما أخذت الالتزام لا من البيت ولا من المدرسة ولا من الشارع، نحن أمة وجودنا على الأرض أحياء آية من آيات الله إذ ليس عندنا جهاز مناعة، ومعروف أن جسم الإنسان إذا أصيب الجهاز المناعي عنده يموت بأقل مرض، وهو مرض الإيدز، هذه الأمة جهازها المناعي ضعيف جداً جداً، ومع ذلك انظر الأمراض والضربات في كل لحظة ومع ذلك لا زالت حية.
إذاً: هذه الصحوة ليست من نتاجهم، إنما أرادها الله عز وجل للتمكين، وهو المتفضل على هذه الأمة بهذا الجيل، وإن كان هذا الجيل ليس أهلاً أن يمكن؛ لأنه تربية الجيل الذي فرط، فيه خبث! ما زال نقلوا وورثوا الضعف إليه مثل ما ورثوا الماء، لكن ولدك سيكون خيراً منك إن شاء الله؛ لأنك أبوه.
إذاً: المسألة مسألة وقت، فأنت مثلاً عندما تكون بجانب جرعة ماء، وهذه الجرعة ليس فيها قطرة ماء، ما الذي يحصل؟ ترى القش والريش والحطب ينزل، وإذا بالجيف تمر عليك، ما الذي يحصل؟ جيف تصير بجانبك من الأرق، صحيح أنت عطشان الآن لكن اصبر؛ لأن معنى أن الجيف تمشي أي: أن الماء وصل، وهو الذي دفعها، فاصبر قليلاً، حتى تمر الجيف كلها فيأتي الماء الصحيح، فهي مسألة وقت فقط لا غير، والوقت يحتاج إلى صبر، لأن العجلة خسرتنا كثيراً، الذي ينظر إلى الصعيد يبكي، الرحلة في الصعيد تبكي، النقاب في الصعيد لا يوجد، الصعيد الرجال، الذين كنا لما نقول: النقاب يعني المفروض أن الالتزام بالنقاب، الالتزام واللحى خاص بالصعيد.
اذهب مصر تنظر إلى المحنة وحجم المحنة، كل هذا سببه العجلة.
فمعنى أن المسألة تحتاج إلى وقت أي تحتاج إلى صبر، وإعداد الكوادر العلمية لسد هذا النقص يحتاج إلى صبر، لكن لابد أن يكون هناك جدية في العمل، وطريق إعداد الكوادر العلمية طريق طويل، لكن ينبغي أن تتنبه الجماهير إلى هذا النقص والعجز الموجود في الكوادر العلمية.
هناك عالم اسمه بدر الدين الزركشي، رأت فيه أسرةٌ تتمذهب بالمذهب الشافعي مخايل النجابة والذكاء، فعرضت عليه أن تزوجه وتبني له داراً، وتعطيه راتباً بشرط أن يتفرغ لنصرة مذهب الإمام الشافعي وتصنيفه، وقد كان رحمه الله! أفلا نكون لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذه الأسرة الناصرة للمذهب الشافعي؟ أنت إذا كان لك مال، اذهب إلى عالم أو رجل موثوق فيه ببلدك أو بحيك، وقل له: رشح لي طالباً أو اثنين أو ثلاثة من طلاب العلم أنفق عليهم، ويجلسون في البيت، وأوفر له المراجع الأساسية، فما من رجل يهتدي على يديه إلا وأنت قسيمه في الأجر، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (الدال على الخير كفاعله) هذه وظيفتك! أنت رجل تاجر صحيح، لكن وظفت مالك لدين الله عز وجل، لأن تنفق على الفقير أحياناً، وأنت لا تراقبه، فقد يستعين بمالك على معصية الله عز وجل، فأنت عندما تعطيه المال ولا تراقبه، ولا ترى مخالفات، لا تستثمر مالك في الناحية الدعوية المفروضة، أنا رجل أعطي أي رجل مالاً فيجب علي أن أتعاهده، إذا وجدته لا يصلي أقل له: يا أخي صل.
أولادي لا يصلون آمرهم بالصلاة، إذا كان هذا الرجل محتاجاً سيستجيب لك، وبهذا تكون أنت استفدت مرتين.
وفي شرح أصول السنة لللالكائي أن بعض العلماء -ولعله ربيعة الرأي - دخل عليه وهو يبكي: قالوا: ما يبكيك؟ قال: استفتي من لا علم عنده، وهذا أول الخلاص كما ذكرت؛ فأصبح الآن إيجاد طلاب العلم ضرورة.(62/5)
الأسئلة(62/6)
نقد كتاب: العذر بالجهل تحت المجهر الشرعي
السؤال
ما رأيكم في كتاب "العذر بالجهل تحت المجهر الشرعي"؟
الجواب
هذا الكتاب يخالف ما عليه أهل السنة والجماعة.
والحقيقة يؤسفني كثيراً أن الكاتب لم يكن أميناً في النقل، أحياناً يأتي بعبارة يقتصها من سياق الكلام، ولا تؤدي المعنى الذي لو وضعه في السياق لتغير المعنى.
وهو ليس من الكتب الموثقة التي يرفع المرء لها رأياً والله أعلم.
والمسألة فيها اجتهاد، وتحتاج إلى يقرأ الإنسان الكتاب ويتمهل.(62/7)
حكم تقديم الهداية بمناسبة مرور سنة من العمر
السؤال
هل يجوز تقديم الهدايا بمناسبة مرور سنة من العمر بدون أي احتفالات؟
الجواب
طيب، أنا سأقول لكاتب هذا السؤال: رجل دنا من أجله سنة يبكي أم يفرح؟! إنا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يومٍ يدنينا من الأجل كلٌ يوم يمر أنت تقترب من أجلك، فينبغي أن تحزن وتحذر، سأل الفضيل بن عياض رجلاً، قال: كم مضى من عمرك؟ قال: مضى ستون عاماً.
قال له: أنت منذُ ستين سنة وأنت سائرٌ إلى الله.
فانتعش الرجل وقال: إنا لله! وما العمل؟! لأنه ما عنده خبر أنه راحل إلى الله عز وجل، قال: وما العمل؟ قال: أحسن فيما بقي يغفر الله لك ما قد مضى، لأن الأعمال بالخواتيم.
فالرجل عندما تمر عليه سنة ينبغي أن يحاسب نفسه: ماذا فعلتُ لله تبارك وتعالى؟ هل أنا فعلاً أعددت لهذا الموت؟ سيجد النتيجة -بكل أسف! - أنه غافل، فهذا ينبغي له أن يبكي، لا أن يحتفل، وبأي شيء يحتفل؟! المفروض أن يبكي ندماً على ما فرط من عمره.
وأنا أقول لك: اعمل لله ومت حيث شئت، كن عاملاً لله عز وجل وانتظر الموت.
نسأل الله عز وجل أن يحسن خاتمتنا وإياكم أجمعين.(62/8)
الأصل في المسلم الإسلام ما لم يأت بناقض
السؤال
رجل يرى أن يتوقف في الحكم على رجل يصلي بالكفر أو بالإسلام مع أنه يصلي تنفلاً نرجو أن توضحوا هذه المسألة؟
الجواب
الأصل في الناس الإسلام، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مولودٌ يولد على الفطرة) ولقول الله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172] ولقول الله تعالى في الحديث القدسي: (إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين).
فالأصل في الناس الإسلام، فلا يجوز أن ينقل رجل عن هذا الأصل إلا بناقل، والناقل: أي كفر ناقض للتوحيد ينقل، وهذا الناقل عن التوحيد قد يكون صريحاً جداً وقد يحتاج إلى تأويل، فإذا وجدت رجلاً لا أعرفه، جاء فدخل المسجد فصلى، فهذا لا يجوز ألبتة أن تتوقف في الحكم له بالإسلام، إذا كان الأصل هو الإسلام، ثم أتى بما يدل على أنه مسلم، فكيف تتوقف في الحكم له بالإسلام؟! بل لو رأيته يفعل أفعال الكفر فلا تكفره حتى تعلم لماذا فعل، كأن تكون رأيت رجلاً يسجد لصنم، الفعل كفر بلا شك، والسجود لغير الله كفر، لكن ليس بلازم أن يكفر الفاعل؛ لاحتمال أن يكون جاهلاً بالقضية، ولاسيما إذا كنا في زمان ليس فيه علماء السنة، الجهل رايته ترفرف خفاقة في كل مكان، فمظنة وجود العلم صحيح فحينئذٍ نسأل، هناك بعض الناس يقول: هل هذه القضية تحتاج إلى بيان؟ أقول لك: نعم، لأن هناك ما هو أطم من ذلك.
رجل عمره ستون سنة، وهو يصلي منذ خمسين سنة، لكنه يعتقد أن الاستنجاء لا يكون إلا من الغائط أما إذا تبول فليس ضرورياً أن يستنجي! فكان يبول ولا يستنجي، ويدخل يتوضأ ويصلي، أظن أن هذه المسألة من الذي يتردى فيها؟ إنك لتتألم أن ترى المفارقات العجيبة في بيئة الجهل وفي زمان الجهل.
قد يسجد رجل لرجل، ويرى أن هذا من باب الإكرام، جاهل! بعض علماء السوء من أصحاب الطرق الصوفية، قالوا: إن هذا لا إشكال فيه، أن يقبل الأرض، ولذلك يقولون: (قف أدبا قف أدبا وقبل الأرض إن الشكر قد وجباً)! هم يقولون هكذا، إذا زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم، من الذي يقول هذا الكلام؟! من الذي سن للمسلم أن يذهب فيقبل الأرض عند الرسول عليه الصلاة والسلام؟! هذا شخص قد نظمها شعراً، ونظر أن هذا من الأدب، وهم يقولون: هذا من المريدين الجهلة، الذين لا يعرفون أبجديات التوحيد، فشخص من هؤلاء يعتقد أن هذا هو دين الله عز وجل، وأن العلماء الربانيين هم العلماء له، فهو ما فعل ذلك لا كفراً ولا رضاً بالكفر، لكن يظنه بنظرة الجاهل أن هذا هو الحق.
فنحن عندما نرى رجلاً يفعل هذا، نقول له: أنت ما حملك على أن فعلت ذلك؟ يقول: أنا فعلته أدباً واحتراماً.
قل له: يا أخي! لا تفعل، لأن السجود لا يكون إلا لله.
لكن إذا قال لي: أنا أعبدك، أجعلك إلهاً.
نقول: هذا كفر، وأنت كافر فاخرج من هذا!.
الرسول عليه الصلاة والسلام لما جاء معاذ بن جبل من الشام، ووجد الناس يسجدون لأساقفتهم، قال: ماذا تعملون في الرجال؟ قالوا: نوقرهم ونحترمهم، قال: هؤلاء أهل النار تحترمونهم، والرسول صلى الله عليه وسلم لا نحترمه، فهو أولى أن نحترمه، فجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فأول ما رآه خر ساجداً! قال: (ما هذا يا معاذ؟! قال: يا رسول الله! إن أهل الكتاب يسجدون لأساقفتهم، فأنت أولى أن أسجد لك، قال: يا معاذ! إن السجود لا يكون إلا لله، ولو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها).
فانظر الرسول عليه الصلاة والسلام عندما يرى مثل هذا الفعل -وهو فعل كفري بلا شك- فيستفسر منه لماذا فعلت؟ إذاً: الرجل إذا لم يأت بناقض للإسلام، بل أتى بما يعضد إسلامه -والأصل أنه مسلم- فلا بد أنك تتوقف في الحكم عليه، هذه هي بوابة التكفير، وخالف أهل السنة والجماعة في هذه المسألة.(62/9)
حكم لبس القميص والبنطلون
السؤال
هل لبس القميص والبنطال حرام؟ إن كان حراماً فأت لي بالدليل؟
الجواب
بالنسبة للبس البنطلون الشيخ الألباني رحمه الله يقول: إن لبسه حرام؛ لأنه ليس من أزياء المسلمين، إنما جاءنا من الكافرين، أضف إلى ذلك أن البنطال يجسم العورة، ولذلك أفتوا -حتى الذين يقولون بعدم حرمة البنطال- بكراهة الصلاة في هذا البنطلون لهذه العلة: أنه يجسم العورة.
الشيخ ابن باز بلغني عنه أنه قال: إن هذا جائز لماذا؟ لأن هذا مما عمت به البلوى في ديار المسلمين، فهذا جائز لكن تكره الصلاة به للعلة السابقة.
فأنت إذا اضطررت إلى لبس البنطال لتذهب الجامعة أو إلى العمل -ولا يسمحون لك إلا بذلك- فلا جناح عليك أن تذهب به، لكن إذا رجعت إلى بيتك فاخلعه والبس قميصاً، فالعلماء الذين يقولون: (الضرورة تبيح المحظورات)، يضيفون قاعدة فقهية أيضاً إلى جنب هذه، فيقولون: (الضرورة تقدر بقدرها).
يعني: الضرورة تبيح المحظورات ليست على إطلاقها، رجل عطشان سيموت من العطش وبينه وبين الماء كيلو متر مثلاً، فأمامه خمر، فالعلماء يقولون: لا يجوز له أن يشرب الخمر كله ويملأ بطنه ولكن يشرب من الخمر بقدر ما يوصله إلى الماء، وكذلك إذا أكل الحرام يأكل بقدر ما يوصله إلى الطعام الحلال؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات ليس على إطلاقها، إنما تقدر هذه القاعدة بقدر الضرورة وحجمها وزمانها والله أعلم.(62/10)
معنى قوله سبحانه: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ)
السؤال
ما معنى قول الله عز وجل: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49]؟
الجواب
إذا قرأ سياق الآيات يعرف مباشرة أن هذه إهانة: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49] أي: يا من كنت تدعي العزة والكرامة -وكانت لك في الدنيا- ذق، فهل لك من عزة أو كرامة الآن؟! والعلماء يقولون: إن هذا أحد أدلة التعريض والغمز، نحن نعلم أن الترخيم يدل على اللطف، عندما أقول لك مثلاً: أسامة، فأناديك: يا أسيم، وعائشة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يناديها: يا عائش.
الترخيم: هو حذف جزء من الكلمة، والمقصود به التلطف، لكن لو وجد في السياق إهانة فنحن نقول: إنه ليس على سبيل الكرامة بدليل السياق، يعني: قول الله عز وجل في الحديث القدسي الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يسأل رجل يوم القيامة، فيقول الله عز وجل له: أي فل! ألم أذرك ترأس وتربع، وأزوجك النساء وأكسبك الخيل؟ فأين شكرك؟ قال: أي رب! نسيت، فقال: فاليوم أنساك).
فقول الله عز وجل: (أي فل) اختصار لـ (فلان) وهو ترخيم، فالسياق هو الذي يوضح المعنى، إذا كان المقصود به إكرام أو المقصود به إهانة.
وهذا مثل نضربه في هذا البحث: كان هناك شخص ذكي جداً بعث لأهله علبة كبريت أيام اختراع الكبريت، وقال لهم: هذا اختراع حديث وجميل، بدلاً من أن تضربوا حجرين ببعض لتخرج شرارة لأجل أن تشعلوا بها فلا تستدركونها، هذا عود كبريت وبأقل احتكاك ينتج حرارة لا بأس بها، فالناس التفوا حول علبة الكبريت وظلوا يشعلون أعواد الكبريت عوداً عوداً، فلم يشتعل شيء، فأبلغوه أنه لم يشتعل أياً من هذه الأعواد، فاستغرب وقال: كيف يحدث هذا، أنا جربتها عوداً عوداً!! (إذاً: هذا ذكي جداً) فهل أنا قصدت ذكي جداً أو قصدت غبي جداً؟ فالذي عرفني أنه غبي جداً القصة التي أوردتها، فإذاً: هذا اسمه: (باب التعريض والغمز).
أنت عندما تسمع كلمة ظاهرها الكرامة وتنظر إلى سياقها، تعرف إذا كان السياق يخدم ظاهر الألفاظ أو كان العكس، والله أعلم.(62/11)
حكم تنظيم النسل
السؤال
ما حكم اتخاذ وسيلة لتنظيم النسل بعد السنتين؟
الجواب
هذا جائز؛ لأن هذا قائم مقام العزل، والعزل جائز بلا شك.(62/12)
حكم إزالة الشعر من وجه المرأة
السؤال
إزالة الشعر من لحية المرأة وشاربها هل يدخل في النمص المنهي عنه؟
الجواب
المسألة فيها ثلاثة مذاهب، وأرجح أقوال العلماء هو: أنه يجوز للمرأة أن تأخذ شعر وجهها إذا كان لها لحية أو كان لها ما يشبه ذلك، وخص أكثر العلماء النهي بما في الحاجبين وما بينهما، أما إزالة الشعر سائر جسمها ووجهها فهذا على رأي أكثر العلماء جائز، والله أعلم.(62/13)
حكم مس الجنب والحائض والنفساء للمصحف
السؤال
ما حكم مس المصحف من الجنب أو الحائض والنفساء؟
الجواب
الذي عليه جماهير العلماء منع مس هؤلاء للمصحف، لكن يجوز للجنب والحائض والنفساء أن يقرءوا القرآن وأن يجري على ألسنتهم، هذا لا شيء فيه لكن بدون مس.(62/14)
نصيحة للنساء اللاتي منعن من النقاب في المدارس والجامعات
السؤال
ورد أكثر من سؤال عن النقاب وأن المنتقبات منعن دخول المدارس والجامعات، وما هي النصيحة التي ننصحها للمنتقبات في مثل هذا؟
الجواب
نحن نقول للأخوات المنتقبات: أنتن على ثغرٍ من ثغور الإسلام، والحرب دائرة على كل الجبهات، حتى النساء دخلت أيضاً في المعارك، فلا ينبغي للمرأة المسلمة أن تخذل إخوانها من المسلمين لاسيما إذا كان الأمر منوطاً بها.
نحن نقول للفتاة المسلمة: لا تتردد على الإطلاق في ترك الجامعة إذا خيرت بين نقابها وترك الجامعة، لا تتردد على الإطلاق في ترك الوظيفة إذا خيرت بين الوظيفة والنقاب، وكذلك المدارس، ولا تتردد البنت على الإطلاق لماذا؟ لأن النقاب ليس مجرد ستر الوجه، النقاب أصبح علامة، فنحن نناشد الأخوات بالله تبارك وتعالى أن لا يشمتن بنا الأعداء، وليقبلن هذا التحدي.
وآخر الأسئلة التي عرضت علي هذا الأسبوع أن رجلاً وامرأته ضربوا ابنتهم المنتقبة حتى سببوا لها آلاماً شديدة ولياً في الذراع، وقالوا لها تهديداً: لن تذهبي إلى الجامعة.
فقالت: أنا أرضى ألا أذهب إلى الجامعة.
فلما قالت هذا الكلام انهالوا عليها ضرباً أيضاً لماذا؟ لأنها أصبحت في السنة الثالثة في الجامعة أو السنة الثانية، وهي مصرة على ألا تخلع نقابها! نحن نقول للآباء: لماذا تفعلون ذلك؟! لهم حجة واهية، وهي: أنه لا تلبس النقاب حتى تتزوج لماذا؟ لأنها إذا انتقبت فلن يتقدم لها خطاب.
والحقيقة أن النقاب أسرع وسيلة للزواج الآن، الذي يريد أن يزوج ابنته مثلاً وما أتى إليه أحد ينقبها؛ لأن الخمار لم يعد علامة الالتزام الآن، تجد المرأة المختمرة يتقدم لها الإنسان المدخن، والإنسان الذي لا يصلي؛ لأن الخمار لم يعد علامة الالتزام، إنما الذي يذهب إلى المنتقبة صنفٌ واحد فقط.
أنا لا أتصور في عقلي ولا أتصوره أيضاً في عقولكم أن يذهب رجل لا يصلي ويتزوج منتقبة، إذاً: المرأة المنتقبة تحفظ نفسها وتختار زوجها من خلال النقاب، لأن الذي سيتقدم لها إنسان يتقي الله تبارك وتعالى، إنسان وجهته معروفة، وهي بذلك تحصن نفسها، لأن النقاب وسيلة لتحصين النفس، وهذه نصيحة للمرأة.
أما هؤلاء الآباء الذين يجبرون بناتهم على خلع النقاب لأجل هذه العلة فنقول لهم: إن الزمان استدار، وأضرب لكم مثلاً: شخص ترك الوظيفة وذهب ليعمل في عمل استثماري، قال: إن مرتبه وصل إلى ألف وسبعمائة جنيه، في حين أن الوظيفة كان راتبه فيها ستة وسبعين جنيهاً، فترك الوظيفة بلا تردد -وهذه الواقعة أعلمها- فبكت أمه وقالت: يا ابني! هل يوجد أحد يترك مرتب الحكومة؟! يعني: أنت لو أنك الآن وأحببت أن تسافر، فهؤلاء الناس لن ينفعوك، لأن هذه القصة وهذا الكلام كان في الستينيات، يجد أن العاملات تتغير، صح النوم! والدنيا تغيرت، المعاش والكلام هذا الذي فات لم يصبح له قيمة على الإطلاق أبداً، يعني: هو سيأخذ من راتب شهرين أو ثلاثة أشهر رواتب سنتين في الحكومة، تجد بعض الناس يفكر بهذه العقلية، ولا زالوا أيضاً يفكرون بالنسبة للبنات بالعقلية القديمة، أنه على الدرجة الخامسة أو السادسة أو السابعة، ومعروف أن كل هذه الدركات لا قيمة لها، كانت في الماضي درجات أما الآن فهي دركات.
فلذلك نحن نقول: إذا كنتم تطمعون في الدنيا فهاهي، الدنيا لهم وللمنتقبات أيضاً، إذاً: لا داعٍ لهذا الضغط، المرأة العفيفة التي استترت وحجبت نفسها رغبة إلى الله ورسوله لا ينبغي للأب أن يكون حجر عثرة.
فأنا أقول للآباء: لو أنك في الآخرة من الصالحين، وأنت ستدخل الجنة مباشرةً، ربما تدخل النار بسبب ابنتك، لأنها أمانة في عنقك، أليست الزوجة أمانة في عنقك، أليس الأولاد في عنقك؟ فمن عجب رجل أن يصر رجل على دخول النار، وأن يعرض نفسه للمساءلة، فالاعتناء بالبنت يرفع عنك المساءلة، ويخفف عنك الحساب، فهي ابنة بارة بك ينبغي أن تقدرها.
لا زلنا نقول: حربنا مع العلمانيين حرب ضروس، والحمد لله رب العالمين كسبنا كل الجوانب، ما خسرنا ولا جولة حتى الآن، وهذا الكم الهائل الذي نراه في المحاضرات ليس جهد الدعاة، جهد الدعاة لا يمكن أن يسفر عن هذا العدد أبداً، إنما هو الله عز وجل، هو الذي يرد الناس إلى دينهم رداً جميلاً، وإلا فالدعاة جهدهم أضعف مائة مرة من أن يكونوا هم السبب في رجوع كل هذه الجماهير.
فالحمد لله! الانتصارات على كل الجبهات وعلى كل المحاور، لكن من طبيعة العلماني أنه يهضم انتصارك، ويبين أنك لم تعمل شيئاً، وأنك دائماً في تقهقر، ويصطنع انتصارات موهومة على جبهات أخرى، مثل عام (67م)، يقول لك: وأسقطنا للعدو مائة طائرة، وهم قد أخذوا العلقة المحترمة على الأرض! فلا يحتاجون أن يطيروا ولا يعملوا شيئاً لماذا؟ يقول لك: هذا لابد منه لرفع الروح المعنوية.
بيانات الحرب كلها كاذبة، المصائب والكوارث والزلازل والبراكين والسيول إلخ، كل الإحصائيات كاذبة وليس صحيحاً؛ لأنه لا يمكن أن يتطوع بذكر الرقم الحقيقي للمصائب، يقول لك: (النجاح له ألف أب، والفشل يتيم) الفشل يتيم لماذا؟ لأنه لا أحد يتبناه ويقول: هذا لي، أبداً، لكن النجاح له ألف أب، كل إنسان يقول: أنا الذي صنعته، فكذلك المصائب، كلها لا والد لها، يتيمة.
فهم يصطنعون الانتصارات على جبهات موهومة، فيقوم أهل الحرب الذين ليسوا متحققين من المسألة أول ما تقع هذه الانتصارات الموهومة التي يذيعونها، وهم يملكون الإعلام مقروءاً ومسموعاً ومكتوباً، وعندهم القدرة على نشر كل الانتصارات على كل المحاور، قد يظنون أن هذا يفت في عضد أهل الحق، ويظنون أنهم خسروا جولات كثيرة.
نقول لهم: لا، لو تقاتل بقوتك أنا أقول لك: أنت ستهزم، نحن متأكدون من النصر؛ لأننا نحارب إلى جنب الله عز وجل، هذا يجعلنا متأكدين (100%) أننا منصورون، قد لا نرى النصر بأعيننا، وهذا ليس مطلوباً منا أن نرى النصر في حياتنا، إنما المطلوب أن تسلم الراية خفاقة لا تسقط، هذا هو المطلوب منك فقط، طريق الدعوة طويل جداً، وهلكت فيه أمم في طريق الدعوة إلى الله، ولا زال في الطريق بقية إلى الله عز وجل، والكل مات.
فالمطلوب أن تسلم الراية بأمان كما عظمتها من أول وهلة، لا تكن خائناً وتنفر، لكن اعط الراية إلى الذي يأتي بعدك.
فنحن نقول للأخوات المنتقبات: هي فتنة، ومن نصر الله عز وجل ورسوله في زمان الغربة ليس كمن نصره إذا جاء نصر الله والفتح.(62/15)
حكم من علق اليمين بالحرام على زوجته إن دخلت منزله
السؤال
ما حكم من أقسم على زوجته أثناء مشكلة في منزل العائلة، أنها لو دخلت المنزل تكون محرمةً عليه، ولكنه مع الضغط عليه من أقاربه وأقاربها دخلت المنزل مرة ثانية، وكان يريد أن ينفصل هو وهي عن الزواج فما حكم هذا؟
الجواب
صاحب القصة لا بد أن يسأل عن هذا السؤال؛ لأنه عندما أقول: أنت محرمة عليّ، فهذا كلامٌ يفتقر إلى نية، فنحن لا ندري أقصد الظهار أم قصد الطلاق، فالظهار حكمه معروف، والطلاق حكمه معروف.
وهذه من الألفاظ التي تحتاج إلى الاستفصال من المتكلم فيها ماذا قصد؟ وماذا عنى؟ إذا كان قصد الظهار فحكم الظهار معروف، أما إذا كان قصد الطلاق فيقع الطلاق بمجرد دخول المرأة إلى البيت.(62/16)
حكم تعري الزوجين عند المباشرة
السؤال
ما رأيكم في تعري الزوجين عند المباشرة؟
الجواب
هذا جائز، وقد ورد في النهي عن ذلك أحاديث موضوعة: (لا يتجرد أحدكم مع زوجته تجرد العير -أو تجرد العيرين- فإن الله يمقت على ذلك) وهذا حديث مكذوب.
وأقول هذا جائز لما جاء في الصحيحين أن عائشة رضي الله عنها وهو في الصحيحين أن عائشة قالت: (كنت أغتسل مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن جنبان تختلف أيدينا في الإناء أقول له: دع لي، دع لي) والمعروف أن الرجل والمرأة لا يغتسلان بالملابس ونحو ذلك، وحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (احفظ عورتك إلا من زوجك أو ما ملكت يمينك) فهذا جائز لا شك فيه.(62/17)
المسافة الموجبة للقصر
السؤال
ما هي المسافة التي توجب القصر؟
الجواب
القول المشهور عند العلماء هو ما زاد عن (80 كم)، ومسافة القصر تحتاج إلى دليل، لأن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهُ الله أدخل مسألة القصر في العرف، وقال: ما كان في العرف سفراً فإنه يقصر، فلابد من ضبط العرف، ما هو العرف الذي تخصص به الأدلة الشرعية.(62/18)
لا تبحث الأحكام والحدود إلا ببينة
السؤال
ما هي شروط اتهام أي شخص بالسرقة أو خلافه؟ هل لا بد من وجود البينة أم لا؟ وهل هذه البينة تكون بورق أم بشهادة أشخاص؟ وما رأيكم في من يتهم الناس بغير بينة، وإنا لله وإنا إليه راجعون؟
الجواب
لا يجوز لأحد أن يتهم أحداً إلا ببينة: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) وهذه قاعدةٌ فقهية متفق عليها بين العلماء، فكل التهم لا تكون إلا ببينة، والدعاوى ما لم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء إذاً: الدعوة إذا لم تقم عليها البينة يكون صاحبها دعياً لا يقبل قوله، لا عند القاضي ولا عند أي واحد ممن دونه أو ممن كان في منزلة القاضي أو كان في مكانه، وهذا شيء متفق عليه بين المسلمين، ولا نعلم أن قاضٍ من القضاة أنزل حكماً برجل إلا بعد أن يقيم الرجل المدعي البينة عليه.(62/19)
التحلية من أصول التربية
إن الغلو مفتاح كل شر، وأساس الشرك بالله سبحانه وتعالى، وسبب في الابتعاد عن الطريق المستقيم وهدي سيد المرسلين؛ لذلك فقد حذر الله سبحانه وتعالى في كتابه، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من الغلو، فلم يترك سبيلاً إليه إلا سده وحذر منه، وإن من أخطر الغلو: الغلو في الأفاضل والمشايخ؛ لأنه ذريعة إلى الإشراك بالله سبحانه وتعالى كما حصل من قوم نوح عليه السلام، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحذر أصحابه من الغلو فيه حتى في العبارات والألفاظ.(63/1)
أصول التربية
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
فالتحلية من أصول التربية، قصدت بها أن أجمع ما تفرق في كتب العلماء عن أصول التربية، وللعلماء كلمة مشهورة يذكرونها في باب الأدب، يقولون: (علم بلا أدب كنار بلا حطب) (ونار بلا حطب.
أي: لا نار؛ لأن النار لا تكون إلا بوقود.
فقولهم: (بلا حطب): يعني: لا نار، وهذا يعني أن المرء إذا كان خلواً من الأدب فلا ينتفع في نفسه بعلمه، ولا ينفع غيره.
وقد حرصت على نظم هذه الأصول في عبارات لطيفة خفيفة يسهل حفظها، فأذكر عشرة أصول، ولا أقول: إنني استوعبت أصول التربية بذلك، لكن هي من أصول التربية كما يبدو من العنوان، بل هي أصول من أصول التربية.
الأصل الأول: من أوسع أودية الباطل الغلو في الأفاضل.
الأصل الثاني: دع ما يسبق إلى القلوب إنكاره، وإن كان عندك اعتذاره.
الأصل الثالث: ترك الاعتراض على الأكابر محمود، وكثرة المراء يورث الصدود.
الأصل الرابع: من لم يصبر على جفاء أستاذه؛ تجرع الخسران بتصدع ملاذه.
الأصل الخامس: تنكب في الخصومة حظ نفسك، واقهر هواك بإنصاف خصمك.
الأصل السادس: من لم يخلع عنه رداء الكبر؛ ضل جاهلاً من مهده إلى القبر.
الأصل السابع: وطالب العلم بلا وقار كمبتغ في الماء جذوة نار.
الأصل الثامن: حسن العهد من الإيمان، والوفاء والود له ركنان.
الأصل التاسع: من لزم التواضع والانكسار؛ فتح له بذاك وطار كل مطار.
الأصل العاشر: ليس حمل أثقل من البر، من برك فقد أوثقك، ومن جفاك فقد أطلقك.
فهذه أصول من أصول التربية، أحوج الناس إليها هم الذين يتصدرون في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى.(63/2)
من أوسع أودية الباطل الغلو في الأفاضل
فاعلم أيها المسترشد، طالب النجاة: أن الغلو هو مفتاح كل شر، ورأس كل ضر، وهو أحد أركان الكفر، وحسبك أن تعلم أن أول كفر وضع في الدنيا كان بسبب الغلو، كما رواه البخاري رحمه الله في صحيحه من حديث ابن عباس في ذكر الكفر الذي وقع في قوم نوح عليه السلام: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23]، فهذه خمسة أسماء لرجال صالحين من قوم نوح، فجاء الشيطان قوم نوح، فأمرهم أن يصوروا صور هؤلاء حتى لا ينسوهم، فلما مات الآباء وكانوا يعلمون حقيقة الأمر، وجاءت خلوف بعدهم -وهم الأبناء- لا يعرفون لماذا صور الآباء هؤلاء الناس، فقالوا: ما صور آباؤنا هؤلاء إلا ليعبدوهم، ومن هنا بدأ الغلو، فغلوا في هؤلاء الرجال حتى عبدوهم من دون الله تبارك وتعالى، فهي أول أصنام وضعت على الأرض.
ونحن نقرأ في سورة الفاتحة كل يوم مرات كثيرة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7]، فطلبت من ربك صراطاً مستقيماً، واستعذت به من صراطين.
وما من أمر يأمر الله عز وجل به ورسوله صلى الله عليه وسلم إلا وللشيطان فيه نزغتان: النزغة الأولى: إفراط، والنزغة الثانية: تفريط.
فالنصارى: هم الضالون، واليهود: هم المغضوب عليهم، النصارى أكثر الناس غلواً في الرجال، ولذلك عبدوا المسيح؛ بسبب الغلو، ولم يذكر لفظة غلا أو النهي عن الغلو في القرآن غير مرتين، والخطاب موجه في المرتين إلى النصارى: في المرة الأولى: في سورة النساء، قال الله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء:171]، هذا هو الموضع الأول.
الموضع الثاني: في سورة المائدة، قال الله عز وجل: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77]، قبل هذه الآية بآية؛ لتعلم أن الخطاب إنما وجه إلى النصارى، قال الله عز وجل: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة:75]، فالخطاب موجه إلى النصارى لماذا؟ لأنهم هم أكثر الناس غلواً؛ لذلك عبدوا المسيح عليه السلام.(63/3)
نماذج من حياة علماء السلف في ترك الغلو في المشايخ
هناك نماذج كثيرة جداً من العلماء والفقهاء، منها مثلاً أحد العلماء اسمه: موسى بن إسماعيل التبوذكي أبو سلمة، أحد المحدثين الكبار، وهو من مشايخ أحمد وابن معين، وأدركه الإمام البخاري، وهو من كبار شيوخ البخاري.
موسى بن إسماعيل التبوذكي وقد كان إمام الجرح والتعديل أبو زكريا يحيى بن معين رحمه الله يجله غاية الإجلال، ويقول: ما هبت أحداً هيبتي للتبوذكي.
وابن معين لم يكن يخاف من أحد، ومع ذلك يقول: ما هبت أحداً هيبتي للتبوذكي - موسى بن إسماعيل التبوذكي -.
فقال له يحيى بن معين: يا أبا سلمة! حديثك عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن أبا بكر -وساق حديثاً في قصة الغار- هل سمعته من حماد؟ احلف لي على ذلك؟ - قال له: احلف لي على أنك سمعته من حماد -تقريباً القصة هكذا- فإن أصحاب حماد يخالفونك.
- فقال له التبوذكي: كم سمعت مني؟ - قال له: سمعت منك ثلاثين ألف حديث.
- فقال له أبو سلمة: صدقتني في ثلاثين ألف حديث وتكذبني في حديث، أشهد لسمعته من حماد، ولله علي لا كلمتك بعد ذلك أبداً.
وأبى أن يكلمه، ولكنه حلف له أنه سمع.
وكذلك أبو النعمان عارم محمد بن الفضل، عارم أخطأ في حديثين فرد عليه يحيى بن معين، فقال له عارم: لا.
بل هو كما قلت أنا.
فقال ابن معين: لا والله، بل كما قلت أنا.
فقال له يحيى: قم هات الأصل.
فدخل أبو النعمان وجاء بالكتاب فوجده كما يقول يحيى، وكان عارم محمد بن الفضل في حفظه زيف، فخرج من بيته ومعه الكتاب وهو يقول: من الذي ينكر أن يحيى بن معين سيد المحدثين؟! -أي: يعتذر عن هذه الملاحاة- من الذي ينكر أن يحيى بن معين سيد المحدثين؟! فلما يحصل نوع من الاعتراض على الشيخ -لاسيما إذا كان الشيخ مخطئاً ويرجع- يكسر حدة الغلو فيه، وإذا كان ناقصاً ويخطئ، ومن هو أدنى منه يسدده ويبين له أخطاءه؛ فهذا يكسر حدة الغلو فيه لأن الغلو مدعاة الكمال، وما غلا إنسان في إنسان إلا وهو يعتقد أنه فوق مستوى الناس، وهذا معنى شائك للغاية؛ لأن لدينا نماذج في علماء المسلمين شبيهة بهذا التعظيم، تجد مثلاً قول أحدهم: (والله ما جرأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إلي؛ هيبة له) وما ثبت عن بعض التابعين أنه كان يأخذ النعل ويعطيه لشيخه، يضعه تحت قدم شيخه فهذا أيضاً مدعاة للغلو، وأيضاً نماذج أخرى مثلما يحكيه ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد أن الإمام أحمد كان يجلس تحت قدمي عبد الرزاق بن همام الصنعاني، وكان عبد الرزاق شيخ أحمد يقول له: اجلس بجانبي، فكان يقول: لا، هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا.
فهذا أيضاً مدعاة للغلو، فنحن وسط لا إفراط ولا تفريط ما بين الغلو المبتدع والتشريف والتبجيل إلا أن نقول: الغلو ممنوع؛ لأنه ليس في الغلو خير.
إن الصوفية حازوا قصب السبق في الغلو في الشيوخ، ويتلوهم أيضاً الذين غلوا في الأئمة الكبار وقلدوهم حتى في الغلط، وما نشأت العصبية المذهبية في المسلمين إلا بالغلو في الشيوخ، وأعظم وأخطر سلاح يستخدمه الغالي أن يرمي المعتدل ببغض هذا الشيخ.
فإذا قلنا: يا أخي! الإمام الشافعي ليس بمعصوم.
يقول: أنت بهذا تطعن على الشافعي، أنت تكره الشافعي!! وإذا قلنا: الدسوقي رجل فاضل في ذاته، لكن ما يُفعل حول قبره لا يجوز، وهذا شرك بالله.
يقولون: أنت بهذا لا يعجبك أولياء الله، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون! وإذا قلنا: إن هذا شرك لا يجوز، يقولون لك: (أنت تطعن في الأولياء)! إذاً: الغالي ليس معه إلا هذا السلاح: أن يرميك ببغض هذا الشيخ.
وهناك كتاب اسمه (توشيح الديباج) في الفقه المالكي -جزء صغير- لـ بدر الدين القرافي، وبدر الدين القرافي غير شهاب الدين القرافي، فـ الشهاب القرافي هو صاحب كتاب الفروق وهو متقدم، وأما بدر الدين القرافي فمتأخر.
من تشابه الأسماء: الزركشي، فهناك عالمان أحدهما حنبلي والآخر شافعي، فـ بدر الدين الزركشي شافعي، وشمس الدين الزركشي حنبلي، وهو شارح مختصر الخرقي في الفقه الحنبلي الذي شرحه ابن قدامة في المغني، وشرح شمس الدين الزركشي على مختصر الخرقي في سبعة مجلدات، وبدر الدين الزركشي شافعي، وهو صاحب كتاب: البرهان في علوم القرآن، وصاحب كتاب: البحر المحيط في أصول الفقه، وصاحب كتاب: المعتبر في تخريج أحاديث المختصر، الذي خرج فيه أحاديث مختصر ابن الحاجب.
وبدر الدين القرافي -وليس شهاب الدين - يقول في كتاب: توشيح الديباج: نحن خليليون وأشهر مختصر للفقه المالكي هو لـ خليل بن إسحاق، ثم مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، والمختصر هذا في المذهب المالكي مثل مختصر الخرقي في المذهب الحنبلي.
فـ بدر الدين القرافي يقول في توشيح الديباج: (نحن خليليون، ولو ضل خليل لضللنا).
أي لو أن خليل بن إسحاق ضل فإنا لن ندعه أبداً.
إذ لو علم أنه ضل لا أظن أنه يضل، فهو هذا الظن بالعلماء، حتى لو صدرت منهم عبارة نابية أو نشاز فلا تقبل، لكن ينبغي أن يحمل كلامهم على ما يناسب علمهم، إذ لو علم أنه ضل بيقين ما أظنه أبداً يتبعه وهناك من العلماء من يرى أن الحق في مذهبه مثل الجويني في (مغيث الخلق ببيان القول الحق) ألف هذا الكتاب لنصرة المذهب الشافعي، فرد عليه سبط ابن الجوزي بكتاب، وكذلك الخطيب البغدادي لما أورد في ترجمة أبي حنيفة ما يعاب به أبو حنيفة، مع أن الخطيب لم يقصد عيب أبي حنيفة، لكنه كمؤرخ يذكر كل ما قيل في صاحب الترجمة من حق أو باطل، هذه هي طريقة المؤرخ، وهي أن يورد كل ما يقع تحت يده مما يخص صاحب الترجمة، سواء كان بحق أو بباطل.
فيرد عليه سبط ابن الجوزي بكتاب سماه (السهم المصيب لكذب الخطيب) ويرد عليه رداً شديداً جداً ومقذعاً للغاية مع أن الخطيب له أوسع الكتب في المسألة، والخطيب أورد في تراجم العلماء في تاريخ بغداد مثالب للعلماء، لا نقول: إن الخطيب كان يعتقد هذه المثالب، لكن هو كمؤرخ يورد بالسند الذي عنده كل ما يقع تحت يده مما يخص صاحب الترجمة.(63/4)
الغلو في المشايخ سبب تفرق الأمة وتمزيقها
وكذلك وجد في الأمة من عبد غير النبي صلى الله عليه وسلم وهو ليس في كماله وشمائله وفضله، فالرسول عليه الصلاة والسلام إنما نهى عن الغلو فيه حتى لا يعبدوه، فامتثل الصحابة لأمر النبي عليه الصلاة والسلام، ومضت خلوف وتوالت القرون، حتى رأينا الغلو في الرجال حائلاً دون وصول الحق إلى الناس، فغلت الصوفية أشد الغلو في مشايخهم، والشيخ عند الصوفية شبه إله، بل يكون إلهاً عند بعضهم! وقد قال لي رجل برهاني، ولم يأتِ ببرهان على ما يقول: أنا شيخي في السودان، وهو يراني الآن ويرى ماذا أفعل.
ويتكلم بعقيدة، وقد حدث بيني وبينه مشادة، وإنما حدثت المشادة لما أظهرت له عوار شيوخهم، وهذه الطريقة سديدة: فإذا رأيت الرجل يكابر فافعل معه مثلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم الرجل يتعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه) و (الهن): هو الذكر، (أعضوه بهن أبيه) والنبي عليه الصلاة والسلام هو الذي علم الناس الأخلاق، وعلمهم مكارم وشمائل الصفات والنعوت، هو الذي يقول لنا ذلك.
وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق -في حديث المسور بن مخرمة يقول لـ عروة بن مسعود الثقفي لما قال: ما أرى حولك إلا أوباشاً خليقاً أن يفروا ويدعوك- فقال له أبو بكر: أنحن نفر وندعه؟! أمصص ببظر اللات.
ومع ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أبي بكر رضي الله عنه.
وهذا يدل على أنه يجوز استعمال الغلظة لكن في موضعها.
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى يعني: المكان الذي يستحق أن تضع فيه الكلمة الشديدة ضعها فإنها حكمة ورحمة، والرسول عليه الصلاة والسلام مرة قال لـ معاذ (ثكلتك أمك)، وهذا دعاء عليه، (ثكلتك أمك يا معاذ).
فيجوز أن نستخدم الشدة مع المكابر الذي علمت -بعد إقامة الحجة عليه، والرفق به- أنه لا يرجع، فإذا غلب على ظنك بهذه الضوابط أنه لا يرجع، اكشف له المغطى.
وأنا عندما تناقشت مع هذا الرجل كشفت له بعض الفضائح والمخازي التي ذكرها رجل من أعيان الصوفية، ولم أحك هذا عن أئمة السلف من العلماء، حتى لا يقال: كيف تروي مذمتي من عدوي؟ وإنما رويتها عن رجل من أشد المتعصبين للصوفية، وقد صنف هذا الكتاب -طبقات الشعراني- لإظهار كرامات الصوفية، فيذكر -مثلاً- في ترجمة واحد منهم يقول: (وكان رضي الله عنه لا يمشي إلا عارياً) والذي يغيظني قوله: (رضي الله عنه).
كإنسان كان يقرأ في كتاب ويتعقب صاحب الكتاب، فقرأ عبارة فقال: أخطأ رحمه الله، وقرأ عبارة أخرى فقال: أخطأ رحمه الله، وجاء على عبارة لا تحتمل فقال: كفر رحمه الله فما لازم (رحمه الله)؟! وقد حكم عليه بالكفر؟! فيذكر صاحب الطبقات مصيبة من المصائب ويقول لك: (وكان رضي الله عنه لا يمشي إلا عارياً، وكان رضي الله عنه يأتي البهائم) كل كبدة ومخ ضاني واقرأ الفاتحة للشعراني ولا يجوز عندهم مخالفة الشيخ ألبتة، وأعظم أبواب الحرمان -عندهم- أن تخالف الشيخ.
الاعتراض عند الصوفية هو الداء العضال الذي يلي الكفر بالله مباشرة، مع أن مخالفة الشيخ ليست من السبع الموبقات التي ذكرها لنا الرسول عليه الصلاة والسلام، لكنه الداء العضال عند الصوفية الذي لا تقال منه العثرة، ولا تقبل منه التوبة.
فمن أصولهم: أنك إذا رأيت الشيخ يفعل الشيء الحرام عندك -على ظاهر النصوص- فلا تعترض؟ لأن لديه مخارج.
فباب سد الذريعة عند الصوفية ليس له أي اعتبار على الإطلاق.
فوصل غلو هؤلاء في المشايخ إلى درجة أنهم جعلوا من أصول التربية عندهم: ترك الاعتراض على الشيخ حتى لو كان يفعل الحرام لاحتمال أن يكون له تأويل وأنت لا تدريه، حتى قرأت في كتبهم، قال: فلو رأيته يزاني بحليلة جاره فقل: لعله عقد عليها فهل يصح هذا الكلام؟! وعندهم لا يجوز اتهام الشيخ.
وذكروا قصة عجيبة: أن بعض المريدين تردد في صدره قذف للشيخ، فقال: فنظر الشيخ إليه، وقال له: قم فاغتسل واذكر الله.
اغتسل غسل ماذا؟ أي: أنه كفر، فيغتسل غسل الإسلام ويدخل في الإسلام.
قال: فاغتسل ورجع فقبل يديه، وقال: تبت ولا أعود.
فتصور المريد أن الشيخ يعلم الغيب وهذا يذكرني بأيام ما دخلنا الجيش، فكنا في معسكر المشاة، والمعسكر هذا لما ذهبنا إليه كانوا يقولون: المعسكر هذا وإسرائيل واحد؛ من شدته وشدة الضباط الذين يعلمون فيه، وكان هناك ضابط له كلمة معروفة، وبينما نقف في الطابور يقول: أنت الذي تحرك أصابعك في البيادة! ونحن خمسمائة واحد وقد يحرك أحدنا أصابعه داخل البيادة؟! فتصور الذي يحرك أصبعه في البيادة أن الضابط يعرف كل شيء.
وهذا ما يفعله الشيخ الصوفي مع المريد ومن أصول أهل السنة والجماعة: ألا نحكم على معين بجنة ولا نار؛ لأننا لا ندري بالخواتيم، وإذا قال رجل لرجل: لست مخلصاً؛ فقد أخطأ وارتكب جرماً لأن أعمال القلوب لا يعرفها إلا الله، والإخلاص محله القلب، فلا يحل لأحد أن يحكم على ما في القلب، وهي جريمة تقدح في التوحيد! والشيخ عند الصوفية شبه إله، بل إله عند بعضهم، وهو إنسان لكن ما الذي رفعه إلى هذه المرتبة؟ إنه الغلو.
وسأترك مجالاً لذكر العجائب عند شيوخ الصوفية في الأصل الذي يقول: (ترك الاعتراض على الأكابر محمود، وكثرة المراء يورث الصدود) لأن الاعتراض يجب أحياناً، ويستحب أحياناً، ويباح أحياناً، ويكره ويحرم أحياناً، أي: أن الاعتراض تجري عليه الأحكام الشرعية الخمسة التي هي: الوجوب، والاستحباب، والإباحة، والحرمة، والكراهة.(63/5)
غلو الصوفية في مشايخهم ومنع الاعتراض عليهم
الصوفية ينكرون الاعتراض على الشيخ، ومن هنا سهل عليهم تأليهه، لكن لو رُد عليه وقيل له: أنت أخطأت.
فقال: نعم أخطأت، فيعلم المستمع أنه ليس بمعصوم، وأن الله نشر الفضل في الناس، فالفضل لم يودع لإنسان واحد ولا لاثنين ولا لأربعة، بل جعل الله الفضل مشتركاً مقسوماً بين عباده، فهذا فاضل في كذا وناقص في كذا، وذاك فاضل في كذا وناقص في كذا وهكذا.
لكن لأنهم منعوا الاعتراض سهل عليهم تأليه الشيوخ، وكيف والنبي صلى الله عليه وسلم كان يعترض عليه أصحابه، لا اعتراض جحود ولا إنكار للعمل، بل اعتراض استفهام وتعجب وليس اعتراض مكابرة حاشا لله! ما كان فيهم أحد أبداً يفعل ذلك ولا يجرؤ على فعل ذلك، لكن كان اعتراض تعجب، مثل اعتراض عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يصلي النبي عليه الصلاة والسلام على عبد الله بن أبي ابن سلول، ويقف بينه وبين الجنازة، ويقول: كيف تصلي عليه؟ ألم يفعل كذا وكذا وجعل يذكره، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (تنح عني يا عمر) وعمر لا يتنحى: كيف تفعل كذا وكذا؟ ألم يقل كذا وكذا يوم كذا وكذا؟ وقال يا عمر: (إني خيرت فاخترت)، حتى نزل القرآن موافقاً لكلام عمر.
وكذلك كان عمر يعترض على أن تخرج زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بغير حجاب أو يجالسهن الرجال بغير حجاب، فكان يكثر أن يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! احجب نساءك.
حتى نزل القرآن موافقاً لـ عمر.
وأيضاً اعتراض سعد بن عبادة سيد الخزرج لما جاء هلال بن أمية الواقفي وقد رأى رجلاً مع امرأته، فجاء يرميها بالزنا، ولم يكن نزل حد الملاعنة بين الرجل وامرأته، إنما نزل حد الرجم بالزنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أربعة شهداء أو حد في ظهرك فقام سعد بن عبادة وقال: أدع لكاعاً يتفقدها ثم ألتمس له أربعة شهداء!! والله ما أعطيه إلا السيف غير مصفح) غير مصفح: أي: لأضربنه بحد السيف، لأن السيف له حد وصفح، الحد: هو الشفرة، والصفح: هو الجانبان، فهو يقول: (لا أضربه بصفح السيف هكذا، بل أضربه هكذا بحده) يريد: أنه سيقتله، فقال صلى الله عليه وسلم: (انظروا ما يقول سيدكم!) مع أنه يعارض آية في كتاب الله عز وجل، ويعارض حكماً ثابتاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (انظروا ما يقول سيدكم!).
وهذا فيه دلالة على أن التكفير باللفظ المحتمل لا يكون إلا بعد ثبوت القرينة؛ لأنه لو جاء رجل فاعترض على الحكم اعتراضاً، وقال: أنا لا أؤمن بهذا الحكم؛ كفر، مع أن سعد بن عبادة رد الحكم، هذا رد وهذا رد، لكن هذا ما رد كفراً ولا جحوداً، وإنما رد تعجباً، مثلما حدث في الصحيح أن الربيع بنت النضر ضربت امرأة من قبيلة أخرى فكسرت ثنيتها -الثنية: هي مقدم الأسنان- فذهب الناس وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (القصاص -والقصاص: أن يكسروا أسنانها- وكان أنس بن النضر -أخوها- يحبها غاية الحب، فقال: تكسر ثنية الربيع! لا والله أبداً، لا يكون.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أنس! حكم الله القصاص.
قال: لا والله، لا والذي بعثك بالحق، لا يكون.
والناس يأبون أن يأخذوا الدية، والنبي صلى الله عليه وسلم كلما يقول له: حكم الله القصاص.
يقول له: لا والذي بعثك بالحق لا يكون.
حتى قبل الناس الدية، فقال صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) أي: أن أنس حلف بالله لا يكون، فأبر الله قسمه، ولم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم: كيف تعترض؟ قد كفرت، قم واغتسل لا، لأن هناك قرائن، ولذلك لما ترى رجلاً قال كلمة كفر فلا تسارع إلى تكفيره، فقد يقول الرجل كلمة الكفر لا يكفر بها.
وشيخ الإسلام ابن تيمية ناظر رجلاً من المعتزلة حتى الصباح، فقيل له: أكفر؟ قال: لقد قال كلام الكفر.
قال شيخ الإسلام: (وقلت لهم مرة: أنا لو تابعتكم على ما تقولون لكفرت، ولكنني لا أكفركم؛ لأنكم جهال) لماذا لأنه لو تابعهم على ما يقولون لتابعهم بعد معرفة الحجة، قال: (لكنني لا أكفركم لأنكم جهال).
فـ سعد بن عبادة يعترض، ويقول: (والله ما أعطيه إلا السيف غير مصفح)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (انظروا ما يقول سيدكم فقالوا: يا رسول الله! اعذره؛ فوالله ما تزوج امرأة قط إلا بكراً، وما طلق امرأة فجرؤ أحدنا أن يتزوجها بعده) أي: المرأة التي يطلقها سعد بن عبادة نقضي عليها بالإعدام، فلا تتزوج بعد سعد أبداً من شدة غيرته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتعجبون من غيرة سعد، إنني أغير من سعد والله أغير مني)، ولذلك فإن من غيرة الله عز وجل على أن تنتهك حرماته حرم الفواحش.
فأنت تنظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام وتنظر إلى مسلك أصحابه، كانوا يعترضون اعتراض تعجب، ولا أزال أقول: اعتراض تعجب، يستغرب من هذا الحكم، فقد يسأل ويستغرب من هذا الحكم ويرد المسألة والنبي عليه الصلاة والسلام يحلم عليه ويبين له حتى يستيقن ويُسلِّم.
فإذا نظرت إلى الناس وهم يسددون الشيخ ويقولون له: أخطأت، أو هذا غلط، وهو يرجع إلى مقالهم؛ علمت أن هذا الرجل ليس فاضلاً من كل جانب.(63/6)
نهيه صلى الله عليه وسلم عن إطرائه والغلو فيه
في مسند الإمام أحمد، وفي مسند عبد بن حميد بسند على شرط مسلم من حديث أنس رضي الله عنه قال: (أن رجلاً قال: يا محمد! يا خيرنا وابن خيرنا، يا سيدنا وابن سيدنا، فقال عليه الصلاة والسلام: قولوا بقولكم ولا يستجرينكم الشيطان، أنا محمد بن عبد الله ورسوله ولا أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلنيها الله عز وجل، قولوا: عبد الله ورسوله).
وهو سيدهم عليه الصلاة والسلام، وهو خيرهم عليه الصلاة والسلام، لكن هذا وإن كان حقاً لكنه مدعاة إلى الغلو.(63/7)
غلو الصوفية في النبي صلى الله عليه وسلم
لقد وجدنا من بعض المسلمين المبتدعة من صنف كتاباً سماه (تشنيف الآذان باستحباب ذكر الزيادة عليه الصلاة والسلام في التشهد والإقامة والأذان).
يعني: أن تقول: أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله، أو تقول: اللهم صل على سيدنا محمد.
وجمعني مجلس ببعض من ينتحل هذه البدعة، فقلت له: إن هذا لا يجوز، والأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشرة كلمة.
فواحد من الجلوس قال: يا أخي! الرسول يقول: (لا تسيدوني في الصلاة) يعني: يعاضدني وينصرني عليه، فقال له: هو قال هذا تواضعاً ونحن سنسيده، هل أنت تريده أن يقول: سيدوني وهو سيد المتواضعين؟ لا.
فانظر سوء الأدب! مع أن الحديث لا يصح ولا أصل له (لا تسيدوني) واللفظ السليم: (لا تسودوني) من السؤدد، والحديث لا يصح، لكن انظر إلى سوء أدب هذا المبتدع، حتى لو صح الحديث لا تسودوني في الصلاة، فكيف يقول: لا، سنسودك؟! وبصراحة هو يحتاج إلى تسويد، لأنه هو المتكلم بها، محتاج إلى سلطان شرعي يسودها عليه، كيف خالف النبي صلى الله عليه وسلم في تعليمه، يقول: لا تفعلوا، يقولون: بل سنفعل وهذا من سوء الأدب! وهو بداية الغلو، أليسوا هم الذين يقولون: يا نور عرش الله! يا بحر جاري في علوم الله! وهم الذين يقولون: حضرة النبي، وبنوا هذا الكلام على قصة تافهة لا قيمة لها، فقد زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر بجسده مجالس الصوفية، ولذلك سموا الجلسة (حضرة) لأنه صلى الله عليه وسلم يحضر، وهي إشارة إلى أنه يحضر بجسده صلى الله عليه وسلم.
فهناك طوائف ينتمون إلى المسلمين كفروا بالله ورسوله بسبب الغلو في النبي عليه الصلاة والسلام، أليست بردة البوصيري التي كادوا أن يجعلوها قرآناً يقول فيها: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم من علومك!! و (من) هذه تفيد التبعيض، يعني: جزء مما عندك من العلم علم اللوح والقلم! حسناً: الذي هو جزء من علومه علم اللوح والقلم لا يعرف متى تقوم الساعة!! لا يعرف متى ينزل الغيث ولا ما في الأرحام! وهذه مسائل النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يعلمها حتى أوحي إليه فكيف نقول: إن عنده علم اللوح والقلم.
ومما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب حديث صفوان بن أمية لما قال لـ عمر بن الخطاب: أريد أن أرى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوحى إليه، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في الحج، في خيمة، فجاءه رجل متضمخ بالطيب، فسأل عن ذلك؟ فسكت، وأخذه ما يأخذه عند نزول الوحي -العرق الشديد واحمرار الوجه والغطيط، فنادى عمر بن الخطاب صفوان بن أمية وقال له: انظر- وبعد أن سري عنه قال: انزع جبتك واغتسل.
فكيف نقول: إن عنده علم اللوح والقلم وهو في هذه المسألة سكت حتى نزل عليه الوحي؟ وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: (خرجت سودة بعدما ضرب الحجاب لحاجتها وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها فرآها عمر بن الخطاب؛ فقال: يا سودة! أما والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين.
قالت فانكفأت راجعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وإنه ليتعشى وفي يده عرق؛ فدخلت فقالت: يا رسول الله! إني خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمر كذا وكذا.
قالت: فأوحى الله إليه ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه؛ فقال إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن).
فهناك مسائل لم يكن الرسول عليه الصلاة والسلام يعلمها، ولا يجيب عنها حتى ينزل الوحي، وكثيراً ما سئل، ولم يجب حتى ينزل الوحي: مثلاً {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإسراء:85]، نزل الوحي، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ} [الأنفال:1]، نزل الوحي وهكذا، كان يُسأل السؤال وينزل الوحي يسألونه عن الساعة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} [الأعراف:187]، فكان ينزل الوحي، ولم يكن عنده جواب ذلك حتى يعلمه الله تبارك وتعالى.
فلما يأتي رجل يريد أن يمدح النبي عليه الصلاة والسلام ويقول: (ومن علومك علم اللوح والقلم) هذا غلو مرفوض، والنبي عليه الصلاة والسلام نهى أصحابه عن أقل من ذلك، فنهاهم أن يقوموا له؛ لأن القيام مظنة التعظيم، وقد صح عن أنس رضي الله عنه أنه كان يقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وما على الأرض شخص أحب إلينا منه فما نقوم له لما نعلم من كراهيته لذلك) لأن القيام تعظيم، ولذلك من سوء التربية في المدارس؛ أنهم يأمرون الطلبة بالقيام للأستاذ، وهذا ليس من التربية، إذ لو كان خيراً ما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، فالطالب إذا لم يقم للأستاذ يغضب عليه ويعاقبه وقد يفصله من المدرسة؛ لأن هذا -عندهم- من الأدب والتعظيم والنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن القيام له، كل هذا مع أنه معظم عندهم، وهو سيدنا في الدنيا والآخرة، بل وسمح لهم أن يفعلوا في بعض المواقف ما هو أعظم ألف مرة من القيام، مثلما حدث في حديث المسور بن مخرمة (لما صدت قريش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت، وأرسلوا عروة بن مسعود الثقفي فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم توضأ عليه الصلاة والسلام وهو حاضر يرى ويسمع، فقال: فما نزلت قطرة ماء على الأرض، وما تنخم نخامة، إلا تلقفوها جميعاً، فما تقع في يد رجل حتى يدلك بها وجهه وجلده، ولا يحدون النظر إليه تعظيماً له، ولا يرفعون الصوت عنده) وهذا أعظم من القيام، ومع ذلك تركهم النبي صلى الله عليه وسلم يفعلون ذلك، وهذا من أعظم الغلو، ولكنه تركهم؛ لأن الموقف كان يستدعي ذلك.
جاء عروة بن مسعود مرسلاً من قريش يهدد النبي عليه الصلاة والسلام أنه إذا قامت بينه وبين قريش حرب أنه لا يثبت؛ لأنه ليس عنده رجال يثبتون لحرب قريش، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يقول له: هؤلاء الرجال الذين وصفهم عروة بن مسعود بالأوباش، وفي رواية البخاري (أوشاب)، قال: (ما أرى حولك إلا أوباشاً خليقاً أن يفروا ويدعوك) وفي الرواية الأخرى: (ما أرى حولك إلا أوشاباً خليقاً أن يفروا ويدعوك).
أي: إذا قامت حرب لا يصمدون أمام قريش، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول له: إن هؤلاء لا يخلون بيني وبين قريش أبداً، وتركهم يفعلون ذلك، فلذلك أول ما رأى عروة بن مسعود الثقفي هذا المنظر رجع إلى قريش وقدم هذا التقرير: قال لهم: (يا قوم! لقد وفدت على الملوك، وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي، والله ما رأيت أصحاب ملك يعظمون ملكهم كتعظيم أصحاب محمد محمداً، ووالله ما توضأ فسقطت قطرة ماء على الأرض، ولا تنخم نخامة فوقعت في يد رجل إلا دلك بها وجهه وجلده، ولا يحدون النظر إليه تعظيماً له، ولا يرفعون الصوت عنده، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها) اقبلوها؛ لأنه لا قبل لكم بهؤلاء، فالمنظر الذي رأيته أنا لا قبل لكم بهؤلاء، لأن العرب كانوا لا يملكون مع فارس ولا الروم لا يداً ولا لساناً، فهم ينهزمون دائماً أمام فارس والروم، فهو يمهد لهم بهذه المقالة.
قال: (ما رأيت أصحاب ملك يعظمون ملكهم كتعظيم أصحاب محمد محمداً، لقد وفدت على الملوك: كسرى وقيصر والنجاشي) الذين يغلبونكم دئماً، ومع ذلك ما رأيت ناساً يعظمون ملكهم أو سيدهم كتعظيم هؤلاء لمحمد صلى الله عليه وسلم! ولذلك قبلت قريش الخطة مباشرة.
فكان هذا الترك مناسباً جداً؛ حتى يبلغ هذه الرسالة لقريش.
إذاً: فهمنا أن هذا له علة، فإذا خلت المسألة من العلة رجعنا إلى الأصل، وعملنا بسد الذريعة.
فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يحول بينهم وبين تعظيمه الذي يؤدي إلى تأليهه يوماً ما، وقد ظهر في المسلمين من أله غير النبي عليه الصلاة والسلام، لقد ألهوا علي بن أبي طالب كما في صحيح البخاري (أن جماعة قالوا: علي هو الله.
فطلبهم علي بن أبي طالب وحرقهم بالنار، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت مكانه ما حرقتهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يعذب بالنار إلا رب النار).
لكن ما سيفعل ابن عباس بهم؟ قال: (لقتلتهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من بدل دينه فاقتلوه) فبلغت مقالة ابن عباس علي بن أبي طالب فقال: (يا ويح أمه!).
وإنما توجع علي بن أبي طالب لأحد أمرين: إما أنه توجع لأنه لم يكن عنده علم بالنهي وخالف النبي صلى الله عليه وسلم من حيث لا يدري؛ فتوجع أن كان قضاؤه وحكمه على خلاف السنة.
أو أنه توجع أن ابن عباس حمل الأمر على التحريم وهو يراه على الكراهة فقط.(63/8)
النهي عن قول: (ما شاء الله وشئت)
وكما قلت: الغلو أحد أركان الكفر، وهو رأس كل شر؛ ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام كان يحول بين الصحابة وبين الغلو فيه، ولم يترك سبيلاً إلا سده، حتى في العبارة، وإن لم يكن المتكلم يقصد غلواً.
روى الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح عن طفيل بن سخبرة أخي عائشة لأمها: (أنه رأى فيما يرى النائم كأنه مر برهط من اليهود؛ فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن اليهود.
قال: إنكم أنتم القوم لولا أنكم تزعمون أن عزيراً ابن الله، فقالت اليهود: وأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد، ثم مر برهط من النصارى؛ فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن النصارى.
فقال: إنكم أنتم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله.
قالوا: وإنكم أنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وما شاء محمد.
فلما أصبح أخبر بها من أخبر ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: هل أخبرت بها أحداً.
قال: عفان.
قال: نعم.
فلما صلوا خطبهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن طفيلاً رأى رؤيا فأخبر بها من أخبر منكم وإنكم كنتم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم أن أنهاكم عنها.
قال: لا تقولوا ما شاء الله وما شاء محمد).
فانظر جعل اليهود والنصارى الكلمة عدلاً لقولهم: عزير ابن الله.
المسيح ابن الله.
يعني: لو قال ما شاء الله وشاء محمد كأنما قال محمد ابن الله، وهكذا قاسوها، وجعلوها من الشرك، وكأنهم قالوا له: لا تعيرنا، نحن وأنتم سواء، نحن قلنا: المسيح ابن الله، وأنتم تقولون: ما شاء الله ومحمد.
فكأنهم نزلوا العبارتين على معنى واحد.
فالرسول عليه الصلاة والسلام خطب الناس ونهى أن يقول المسلم: ما شاء الله ومحمد؛ لأنه إذا قال ما شاء الله ومحمد، فهذا تشريك في المشيئة.
وفي الحديث الصحيح -الصحيحين- (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله نداً؟! قل: ما شاء الله ثم شئت)، فقوله: (أجعلتني لله نداً؟!) يعني: لو قال ما شاء الله ومحمد كأنما جعل محمداً إلهاً -صلى الله عليه وسلم- لذلك قال: (أجعلتني لله نداً) نداً: عدلاً، وفي اللفظ الآخر (عدلاً)، برغم أن المتكلم لا يقصد حقيقة المعنى.
ووصل الأمر في سد الذرائع إلى هذا الحد: أن العبارة لو كانت موهمة عدلها، حتى وإن لم تقصدها، فأنت لا تدري السامع كيف يؤولها وكيف يفهمها، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام لما نهى عن بعض الأسماء التي فيها إيهام بمعنى قبيح، نهانا عن التسمية بها، فقال (لا تسمين غلامك يساراً، ولا رباحاً، ولا نجاحاً، ولا فلاحاً -وفي رواية نجيحاً- حتى إذا قيل: أثمَّ هو؟ قال: لا) مع أن المتكلم ما قصد ولا سبق إلى ذهنه هذا المعنى، لا في حال الكلام ولا في حال الاستماع، (إذا قيل: أثمَّ هو.
قال: لا): يعني: مثلاً أن تقول: نجاح موجود؟ فيقولون: لا نجاح.
يسار موجود؟ لا يسار، كأنما نفى النجاح واليسار عن البيت، برغم أن المتكلم لا يقصد نفي اليسار ولا النجاح ولا الفلاح، ولكن المسألة ليست في المتكلم فحسب، بل ينبغي أن يراعي المستمع، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم في باب الأيمان قال -كما في الحديث الذي رواه مسلم -: (يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك) يعني: في التورية قد تتكلم بكلام لا يسبق إلى ذهن المستمع، وأنت تتخلص من الكذب بهذه التورية.
مثلاً: رجل دعاك إلى طعام، وأنت تعرف أن طعامه حرام أو فيه شبهة، كرجل -مثلاً- يعمل في بنك ربوي وليس له أي وظيفة إلا العمل في البنك الربوي، وأنت لا تريد أن تأكل عنده؛ لأن ماله حرام؛ لحرمة العمل في البنك.
فقال لك: تقدم فكل.
فقلت له: إني صائم، ومعنى صائم الذي يخطر على بال المستمع: أي: أنك صائم الصيام الشرعي الذي فيه امتناع عن الطعام، لكنك لست صائماً، وإنما قصدت أنك صائم عن طعامه، أي: أنا صائم عن الحرام، أو أنا صائم عن الكلام الفاحش، وهذه المعاني أنت قصدتها لكنها لم تخطر على بال المستمع.
وفي باب الأيمان -في الحلف- الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك) فلو حلفت على التورية صارت كذباً، يعني: قلت: أنا صائم، لست بكذاب، إذا قلت أنا صائم وقصدت الصيام الخاص عن طعام هذا الإنسان، لكن إذا قال لك: احلف أنك صائم، فلو حلفت وقعت في الكذب؛ لأن اليمين على ما سبق إلى ذهن صاحبك وليس على ما قصدته أنت، إذاً: أنت في حل ما لم تحلف، فإذا حلفت على المعاريض انقلبت كذباً، ففي بعض المواقف يراعى فيها حال المستمع.
فالرسول عليه الصلاة والسلام نهى أن يسمي المرء غلامه نجاحاً أو فلاحاً أو يساراً؛ لأن هناك طرفاً آخر -المستمع- ربما سبقت الكلمة إلى ذهنه وفهمها على غير ما قصدتها.
والمستمع قد يسبق إلى ذهنه بدلالة العبارة معنى لم يخطر على بال المتكلم، فينبغي أن يراعى المستمع، ومن هذه الأسماء إسلام مثلاً، مع أنه اسم ذكر، إلا أن فيه نفس العلة التي من أجلها نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن التسمي بيسار ونجاح ورباح.
يقال: إسلام موجود؟ لا يوجد إسلام.
لا يوجد إسلام.
يعني: نفي الإسلام عن البيت، وما قصد المتكلم ذلك لكن كانت كلمة مستبشعة عند المستمع.
فهو لما يقول: ما شاء الله وشئت، ما خطر على بال المتكلم، لكن وقعت في ذهن المستمع، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أجعلتني لله نداً -أو عدلاً-؟! قل: ما شاء الله ثم شئت) و (ثم) تفيد التراخي، وجود مسافة بين المشيئتين، فلا تسوي بين مشيئة الله عز وجل وبين مشيئة النبي صلى الله عليه وسلم.
هناك قصة مشهورة يذكرها العلماء حدثت بين الكسائي وبين أبي يوسف صاحب أبي حنيفة رحمه الله، فكان الكسائي يقول: - من علم اللغة صار فقيهاً.
- فأنكر عليه أبو يوسف هذه المقالة، وقال: إن الفقه له قوانين وضوابط وأصول.
- فقال: فناظرني في مسألة.
- فقال له أبو يوسف: هات - فقال الكسائي: ما تقول في رجل قال لامرأته: أنت طالق طالق طالق، ورجل قال لامرأته: أنت طالق وطالق وطالق، ورجل قال لامرأته: أنت طالق ثم طالق ثم طالق أيّ هذه تكون طلقة بائنة؟ فقال أبو يوسف: كلها.
ومذهب الأئمة الأربعة وجماهير أصحابهم: أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثاً في مجلس واحد تقع ثلاث طلقات، فلو قال لها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق؛ تصير طالقاً ألبتة، لا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره، وخالفهم في هذا شيخ الإسلام ابن تيمية وقليل من العلماء ممن سبقه وأتى بعده، وهم الذين قالوا: لا يقع الطلاق إلا في مجالس منفصلة، وصارت عليه الفتوى من بعد شيخ الإسلام إلى الآن في المحاكم الشرعية.
- فقال أبو يوسف: كلها.
مع أن الأظهر على أصول الأئمة أن يقع تكرار الطلاق، يعني: لو قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً، فالأصل أنها تحسب واحدة، لكن متى يقع الطلاق ثلاثاً في مجلس واحد؟ إذا كرر لأن العدد لا يفهم إلا مع التكرار، فلو قال لها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ثلاث مرات، وهو في مجلس واحد في جلسة واحدة، فعند الأئمة يقع ثلاثاً، لكن لو قال لها: أنت طالق ثلاثاً، بمفهوم العدد لا يقع إلا واحدة، لأن العدد لا يفهم إلا مكرراً.
فلو قال مثلاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وكبر ثلاثاً وثلاثين، وحمد ثلاثاً وثلاثين -وفي رواية وكبر أربعاً وثلاثين بدل ثلاث وثلاثين- فتلك مائة؛ غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر) فلو قال رجل: سبحان الله ثلاثاً وثلاثين، الحمد لله ثلاثاً وثلاثين، الله أكبر ثلاثة وثلاثين فهذه كم مرة؟ هل قالها مائة أو قالها ثلاث مرات فقط؟ ثلاث مرات؛ لأن العدد لا يفهم إلا مكرراً، أن أقول: سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله أظل أعد ثلاثاً وثلاثين مرة، لكن لو قلت: الحمد لله ثلاثاً وثلاثين، لا تقع إلا مرة واحدة.
فإذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق بالثلاث فلا تقع إلا واحدة، إنما لو قال لها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق في مجلس واحد ومتكررة وراء بعضها، فعند الأئمة وعند جماهير الأصحاب تقع ثلاث مرات.
لذلك قال أبو يوسف رحمه الله: كلها تقع لماذا؟ لأن المرة الأولى قال لها: طالق طالق طالق، فكانت ثلاث طلقات، والثانية قال: طالق، وطالق، وطالق، والثالثة: طالق ثم طالق ثم طالق.
فاعترض الإمام علي بن حمزة الكسائي -صاحب القراءة المتواترة المشهورة، وهو أحد القراء السبعة- فقال: بل لا تقع ثلاثاً إلا الثالثة، التي هي: أنت طالق ثم طالق ثم طالق، إنما: قوله: أنت طالق طالق طالق، خرج مخرج التأكيد اللفظي، كما لو قال رجل لرجل: أنت الكريم الكريم الكريم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن يوسف عليه السلام: (هو الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم)، كل هذا تأكيد للفظ الكريم، فلما تؤكد صفة تأكيداً لفظياً وتكرره فهي نفس الصفة ولم تتغير.
وفي المثال الثاني قال: أنت طالق وطالق وطالق، والواو لمطلق الجمع، وتفيد العطف أيضاً، والمعطوف الثاني هو عين المعطوف الأول، والمعطوف الثالث هو عين المعطوف الثاني وهو عين المعطوف الأول، فلم يبق في هذه الصيغ ما يقال: أنه منفصل -كل طلقة منفصلة عن أختها- إلا (ثم) التي تفيد التراخي، أي: كأنه قال: أنت طالق ثم فصل المجلس، ثم جاء فقال: أنت طالق ثم فصل المجلس، يعني: هناك تراخٍ بين الطلقة الأولى والطلقة الثانية، وبين الطلقة الثانية والطلقة الثالثة.
فالنبي عليه الصلاة والسلام نهى أصحابه أن يقول أحدهم: ما شاء الله وشاء محمد، وقال: (إنكم كنتم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم أن أنهاكم عنها) فيمكن أن يستشكل إنسان هنا، ويقول: وهل يعمل النبي صلى الله عليه وسلم بالحياء في مسائل التوحيد؟(63/9)
وجوب التعصب للنبي صلى الله عليه وسلم مطلقاً بلا قيد ولا شرط
كل هذا كان داعيته الغلو، لذلك تنبه العلماء رضي الله عنهم إلى مثل هذا الغلو، فكفوا أتباعهم عنه، وبينوا أن الوحيد الذي يجب له التعصب مطلقاً بلا قيد ولا شرط هو النبي صلى الله عليه وسلم، فتواترت هذه الكلمة على ألسنتهم جميعاً: (إذا صح الحديث فهو مذهبي).
وتراشق المقلدون من أصحاب المذاهب في البلاد بسهام الملام، وبدأت العصبية المذهبية تعمل عملها، فبدءوا يجعلون مدارس في كل بلد خاصة بتدريس كل مذهب، فالمدرسة النظامية التي بناها نظام الملك -مثلاً- في بغداد كانت لتدريس المذهب الشافعي فروعاً، والأشعري عقيدة، وصارت هناك المدارس التي تدرس المذهب الحنبلي والمذهب الشافعي والمذهب الحنفي والمذهب المالكي.
وأيضاً صارت العصبية في الوظائف، مثلاً: إذا استطاع عالم من العلماء أن يقنع رأس الدولة أن يكون حنفياً؛ فقضاة الدولة يكونون من الأحناف، وفقهاء الدولة من الأحناف، وأصحاب الوظائف من الأحناف، ويبدأ هذا الرجل الإمام الكبير الذي هو الرأس يبني المدارس لنشر المذهب الذي يعتقده صواباً، فإذا كانت الوظائف لا تقبل إلا من حنفي، فأنا أحتاج أن أدخل المدرسة الحنفية حتى أصير قاضياً؛ فصارت دراسة المذهب سلماً للوظيفة، وصار الرجل الكبير حتى وإن بلغ درجة الاجتهاد في المذهب لا يستطيع أن يخالف أقوال المذهب وإلا عزلوه، مع أنه بلغ مرتبة الاجتهاد، مثل تقي الدين السبكي وتقي الدين السبكي قرين ابن تيمية وصاحب الحرب الضروس عليه، وحامل لوائها وكذا ابن الزملكاني وابن تقي الدين السبكي تاج الدين عبد الوهاب -صاحب طبقات الشافعية- كان أشد من أبيه ألف مرة في التعصب، كان متعصباً للمذهب الأشعري بطريقة شديدة حتى أن الأشعري نفسه قد لا يتعصب لمذهبه مثل تعصب عبد الوهاب السبكي له، وقد ذبح شيخه الذهبي بسكين باردة، والإمام الذهبي صاحب كتاب: ميزان الإعتدال، وسير أعلام النبلاء، وابن السبكي عالة على شيخه الذهبي في التراجم؛ لأن الذهبي إمام التراجم كلها، فكل كتبه في التراجم، وقد تميز بذلك فقد كان يأخذ الترجمة بنصها، ومع ذلك كان شديد العقوق لشيخه الذهبي، ولم يتق الله فيه، ولم يرع أستاذيته، وكل هذا بسبب التعصب البغيض للمذهب الأشعري، ولأن الذهبي كان شافعياً في الفروع حنبلياً في العقيدة، ونحن نعرف أن أئمة العقيدة السلفية على مدار العصور هم الحنابلة، فهم الطائفة الوحيدة التي نجت من الابتداع، وقلما تجد فيها مبتدعاً في العقيدة، بخلاف الطوائف الأخرى.
فتجد ابن الجوزي -مثلاً- مبتدع في بعض مسائل العقيدة، وكذا ابن عقيل ليس على العقيدة السلفية، ولكن علماء الحنابلة كلهم هم حاملو لواء العقيدة السلفية.
أي: المذاهب الثلاثة أكثر علمائها يدورون ما بين الأشعرية، والماتريدية، والاعتزال، فحصل بينهم حروب شديدة بسبب التعصب للمذهب.
وتقي الدين السبكي كان رأس الشافعية في زمانه، وبلغ مرتبة الاجتهاد بحيث يسوغ له أن يخالف قول الشافعي بالدليل، فجرت محاورة بين ولي الدين العراقي ابن الحافظ زين الدين العراقي المحدث المشهور صاحب الألفية، وبين سراج الدين البلقيني، فقال ولي الدين للبلقيني: لم تمذهب تقي الدين بـ الشافعي وقد بلغ رتبة الاجتهاد؟ فسكت البلقيني.
فقال ولي الدين: أظن ذلك للأعطيات.
وقد كان هو قاضي القضاة، وإذا عُزل كان سيحرم عطاءه، قال: فتبسم البلقيني وكأنما أقره على ذلك.
فالعصبية من أجل المذاهب الفقهية في الفروع أدت إلى انشطار الأمة إلى طوائف وأحزاب كل حزب بما لديهم فرحون، ووصل الأمر أن هناك بعض الكتب الفقهية يبطلون صلاة الشافعي خلف الحنفي؛ لأن الحنفي -مثلاً- لا يوجب الوضوء من مس الذكر، ويفرضون الصورة الآتية: (حنفي مس ذكره، وتقدم للإمامة هل يصح لشافعي أن يصلي خلفه؟ الجواب لا لماذا؟ قال: لأن عند الشافعي مس الذكر ينقض الوضوء، فهذا الإمام بعدما مس ذكره في حكم غير المتوضئ، إذاً: صلى بغير وضوء، وعليه لا يجوز لشافعي أن يصلي خلف حنفي).
وأيضاً: لا يجوز لحنفي أن يصلي خلف شافعي؛ لأن الشافعية يجيزون الاستثناء في الإيمان، والإيمان عند الحنفية هو التصديق، والتصديق لا يتصور فيه النقص، يعني: -مثلاً- أنه لا يكون مصدقاً (100%)، فيقول: إما مصدق وإما مكذب، والإيمان تصديق، فإما كامل الإيمان وإما مسلوب الإيمان، والشافعية يجيزون أن يقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله، يقول: (إن شاء الله) استثناء في الإيمان فيكون شك، والشاك في إيمانه كافر، وعليه فلو أن رجلاً شافعياً كان إماماً ويشك في إيمانه فلا يجوز لحنفي أن يصلي خلفه.
وتفرع على ذلك
السؤال
هل يجوز لحنفي أن يتزوج شافعية؟ فأفتى مفتيهم بأنه لا يجوز! حتى أكرم الله عز وجل الأمة بمفتي الثقلين -كان اسمه هكذا لأنه كان يفتي حتى الجن- فقال: أنزلوها بمنزلة أهل الكتاب.
أي: كأنها يهودية أو نصرانية، ودعوا الحنفي يتزوجها.
فانظر لو أنهم جميعاً قضوا من معين واحد ولم يعظموا الرجال؛ ما اتسع الخرق إلى هذا الحد، فلماذا تتعصب لـ أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد؟ يتعصب لأنه يظن أن شيخه هو أفضل الشيوخ جميعاً وعلم ما جهلوه جميعاً أليس هذا غلو؟ هذا غلو إذا اعتقدت أن شيخك أفضل الشيوخ، لكن هناك من هو أفضل منه في بعض الجزئيات، أو أن الجزئيات التي لا تتناهى ويمكن أن يُتَعقب شيخك فيها؛ كان مدعاة لعدم الغلو، إذا قلت: أخطأ شيخك في هذا قبلت، لكن هم يعتقدون أن الشيخ هو مجمع الفضائل ولا يخطئ، فكان في ذلك إعراض عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وعن الحنيفية السمحة.
لدرجة أنه سئل رجل عالم سؤالاً: إذا أفتى أحد العلماء المعتبرين بفتوى، وكان حديث النبي صلى الله عليه وسلم على خلاف الفتوى من نتبع؟ قال: اتبع فتوى العالم!! أهذا يقوله مسلم قرأ قول الله عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]؟! هل هناك رجل يقول مثل هذا الكلام؟! طبعاً يعتقد في نفسه أن العالم يجمع الأحاديث الواردة في الباب، فيمكن أن العالم هذا يكون وقف على حديث خصص الحديث الذي تحتج أنت به أو قيده، أو يمكن أن الحديث الذي تحتج أنت به في مقابل الفتوى منسوخ مثلاً، فالعالم قبل أن يقول يجوز أو لا يجوز يسمع الأدلة كلها ويجمع الأدلة بعضها على بعض، ويبين الخاص من العام، والمقيد من المطلق، ويفهم الناسخ من المنسوخ، ويفهم المجمل على ضوء المبيّن مثلاً، العالم هذا عمله فيمكن أن العالم قد جمع بين الأحاديث وعلم ناسخها ومنسوخها، ثم قال لك: لا يجوز، فأنت إذا أخذت بقول النبي صلى الله عليه وسلم ربما أخذت بحديث منسوخ أو بعام خُصص، أو بمطلقٍ قُيد، أو بمجملٍ بُيِّن، فيقول لك: الأحوط والأسدّ أن تتبع قول العالم.
ونحن نرد على هذا الكلام ونقول: ألا يجوز على العالم أن يخطئ؟ أم يجب أن يكون مصيباً؟ قد يخطئ، فإذا كان العالم بعد هذا الجهد يمكن له أن يخطئ، فلا شك أن اتباع الذي لا يخطئ أولى من اتباع الذي يجوز عليه الخطأ، فلو لم يكن عندي إلا قول النبي عليه الصلاة والسلام، وفي مقابله فتوى عالم يمكن له أن يخطئ، فلا شك أن اتباع المعصوم الذي لا يخطئ أولى من اتباع الذي يخطئ.
ثم إن فيه تعظيماً للنبي عليه الصلاة والسلام، فلو عودنا الناس على رد حديث النبي عليه الصلاة والسلام بقول كل عالم لضاعت السنة كلها؛ بل لضاع الدين كله، فأين الآيات التي فيها تعظيم النبي عليه الصلاة والسلام وأنه لا يجوز لأحد أن يقدم قول أحد على قوله كائناً من كان؟! أين هذه الأدلة القطعية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟! إذاً: في حالة عدم وجود من يرجح ويبين سبب مخالفة الفتوى للنص بسبب النسخ أو حمل المطلق على المقيد وغير ذلك؛ يجب وجوباً أن نتبع الحديث ولا نتبع قول العالم لأن هذا هو الأسدّ، وهذا هو الواجب عليك تبعاً للنصوص القطعية في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.(63/10)
الأسئلة(63/11)
حكم الموسيقى
السؤال
ما حكم الموسيقى؟
الجواب
الموسيقى حرام كلها حتى الدُّف، إلا في ما يتعلق بالضرب عليه للجواري في الأفراح؛ لأن الدفَّ من المعازف، والرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول كما في الحديث الذي رواه البخاري معلقاً، ورواه البيهقي وغيره موصولاً: (ليكوننَّ من أمتي أقوامٌ يستحلُّون الحِرَ -الذي هو الفرج، بمعنى الزنا-، والحرير، والخمر، والمعازف).
فالمعازف معطوفة على بقية المحرمات، وكلمة (يستحلُّون): إشارة إلى أنها كانت حراماً، فاستحلوها، وجعلوها حلالاً.
ولهذا الحديث وغيره من الأحاديث الصحيحة اتفق العلماء على تحريم الغناء.
وشيخُنا أبو عبد الرحمن الألباني حفظه الله له كتاب لطيف نُشِر هذا العام اسمه: تحريم آلات الطرب.
هذا الكتاب كتبه قبل قرابة أربعين سنة، وكان رداً على مقال نُشر في جريدة بعض الأحزاب الإسلامية آنذاك، وكتب فيه نفس المقال، وأنا لما قرأت المقال تعجبتُ؛ لأنني كنتُ كتبتُ كتاباً ضليعاً للكتاب، في الرد على الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، اسمه شمس اللآلي في الرد على الشيخ محمد الغزالي، وأنا أتكلم على مسألة الغناء، فقلت: إنه ثمة بعض أناس يقولون: نريد المسلم في كل مناحي الحياة، حتى إذا قامت دولة الإسلام تجد المسلمين في كل مجال! يا أخي! حتى تأتي دولة الإسلام نكون غير موجودين أصلاً؛ لأننا سنكون قد انتهينا.
فلو دخل أحدنا في السياحة والفنادق على أمل أن يأتي الإسلام ويحكم، فهل سيعيش إلى ذلك الوقت؟ فإذاً: يا إخوة! هو كان يريد من هذا الكلام -حسب زعمه- تخصصاً ملتزماً.
فهم عندهم هكذا، يقولون: نريد الطبيب المسلم، والمهندس المسلم، والمزارع المسلم، والفلاح المسلم، والنجار المسلم.
ونحن نقول: من قال: إننا لا نريد هؤلاء؟ نحن أيضاً نقول: نريد الطبيب المسلم، والمهندس المسلم، ونريد المسلم المتخصص في كل شيء، ولكن بالضوابط الشرعية.
فأنا قلت: ولربما قال: والموسيقي المسلم، والطبَّال المسلم، والزمَّار المسلم.
فبعض الناس لامني، وقال: إن كلمة الموسيقي المسلم، والطبال المسلم، فيها استفزاز وتجاوز.
فلما وقفتُ على كتاب شيخنا الألباني حفظه الله ووجدتُ المقال الذي ألّف الشيخ ناصر لأجله هذا الكتاب، عرفت أنني من أصحاب الجرح مع أنني لستُ بدكتور، لكني أفتي من غير أن تكون معي شهادة.
هذا المقال ماذا يقول؟ يقول نص المقال في هذه المجلة: إننا نحتاج المسلم في كل شيء، الغرب لديهم معزوفة هادئة تسمى السيمفونية، ونحن ليس عندنا، مع أن الأمة مليئة بالعباقرة، لِمَ لَمْ يعمل لنا شخصٌ موسيقى إسلامية هادئة؟ فأنا -في الحقيقة- استغربت وضحكت! أنا أريد أن أعرف كيف تكون موسيقى إسلامية؟! أيكون الوتر مقلوباً إلى اليمين مثلاً؟! أو مثلاً يعزف بلسانه مثلاً أو يعزف برءوس أنامله؟! في الموسيقى الغربية يكون المغني يتنطط -كما في موسيقى الجاز وغيرها- مثل الجربان، ونحن نغني بوقار فنركِّب لحيةً، ونلبس الطاقية، ونعدل الطربوش، ونعزف؟! أنا أريد أن أعرف هذا الكلام؟ ما معنى موسيقى إسلامية؟! وأيضاً صاحب المقال في المجلة زعلان! لأن المسلمين ليس فيهم حتى الآن عبقري واحد يقف أمام بيتهوفن، ويعمل شيئاً يشرفنا ويطيل رقابنا عند الغرب! انظر المسألة كيف وصلت إلى هذا الحد! هذه الأمة لن تنتصر أبداً، إذا كانت همها الموسيقى والأغاني، والمشكلة أن الشباب يحتجون بعلمائها، فعندما يسمع عالماً كبيراً يُشار إليه بالبنان يظل نحواً من خمسين عاماً يحل الأغاني -ونحن لا ننكر أن الله فتح قلوباً به وفتح آذاناً صماً بكلامه- ولكن لِمَ يقول هذا الكلام؟! فكل الذين يسمعون الأغاني يسمعون لفتاوى هؤلاء.
الحقيقة: أنا لا أعلم أحداً من العلماء الذين تدور عليهم الفتوى قال: إن الغناء حلال، أو إن الموسيقى حلال، بل إن الموسيقى كلها حرام، ومنها الدُّف إلا في المناسبات للنساء.
أما الذين ينشدون في الأعراس ويقولون: إنهم فرقة إسلامية ويضربون الدف، وتجدهم كلهم قد لبسوا ملابس موحدة.
ذهبت مرة لأصلي في المسجد التابع للمعهد الديني الأزهري، وللمرة الأولى أرى دفوفاً وفرقة على الباب، فاستغربت جداً، وقلت: ما هذا؟ فقيل: هذه فرقة، جاءت للإنشاد.
قلت: ما هذا الكلام؟ قيل: هذه فرقة إسلامية.
ماذا تعني (إسلامية)؟ قيل: لأننا نعمل بديلاً للفرق صاحبة (الكابريهات) وما شابهها.
فهذه أيضاً هي نفس فكرة الموسيقى الإسلامية الهادئة الهادفة.
ألا فليعلم هؤلاء جميعاً أن هذا لا يجوز ولا يحل، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، والذي يُستغل كلامُه على حلق اللحية، ويقال: شيخ الإسلام أفتى بجواز حلق اللحى لضرورة التخفي في دار الحرب.
أقول: لهم: خذوا كلام شيخ الإسلام كله، ولا تأخذوا كلام شيخ الإسلام في موضع، وتتركوه في موضع آخر، بل خذوه كله.
سئل شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى، عن حكم ضرب الدف للرجال، فقال هذه العبارة: لا يفعله إلا الفساق.
وقد نقل عن مالك والشافعي التشديد على هؤلاء، وأنه لا يحل للرجل أن يضرب بالدُّف.
إذاً: فضرب الدُّف لا يجوز للرجال، إنما يجوز للنساء في المناسبات.
فلعل بعض الناس يقول: كلمة (المناسبات) واسعة، فماذا تعني بها؟ أعني بها: الأفراح مثلاً، وما جرى مجرى الفرح، لما ثبت أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا رسول الله! إنني نذرتُ إن أرجعكَ الله سالماً أن أضرب على رأسك بالدُّفِّ، فقال لها: أوفي بنذركِ).
فلا شك أن رجوعه سالماً صلى الله عليه وآله وسلم أجل من العيد، بالإضافة إلى جواز ضرب الدف للنساء فقط، فهو شيءٌ مباحٌ في حقها، وقد نَذَرته، وفي يوم عيد وهو رجوعه -عليه الصلاة والسلام- سالماً، فقال لها صلى الله عليه وسلم: (أوفي بنذركِ).
والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
والحمد لله رب العالمين.(63/12)
الأصول العشرة في التربية
السؤال
نرجو من الشيخ إعادة ذكر الأصول العشرة في التربية.
الجواب
بعضُ الإخوة يريد أن أتلو مرةً أخرى الأصول العشرة حتى يتمكن من كتابتها! الأصل الأول: (مِن أوسع أودية الباطل الغلوُّ في الأفاضل).
الأصل الثاني: (دَعْ ما يسبق إلى القلوب إنكارُه، وإن كان عندك اعتذارُه).
الأصل الثالث: (ترك الاعتراض على الأكابر محمود، وكثرةُ المِراء يورث الصدود).
الأصل الرابع: (مَن لم يصبر على جفاء أستاذِه؛ تجرَّع الخسران بتصدُّع ملاذِه) الأصل الخامس: (تنكَّب في الخصومة حظَّ نفسِك، واقهرْ هواكَ بإنصاف خصمِك).
الأصل السادس: (مَن لم يخلع عنه رداء الكبر؛ ظلَّ جاهلاً من مهده إلى القبر).
الأصل السابع: (وطالب العلم بلا وقار كمبتغ في الماء جذوةَ نار).
الأصل الثامن: (حسنُ العهد من الإيمان، والوفاءُ والودُّ له ركنان).
الأصل التاسع: (مَن لَزِم التواضعَ والانكسار؛ فُتِح له بذاك وطار كلَّ مطار).
الأصل العاشر: (ليس حمل أثقل من البِر، مَن بَرَّك فقد أوثقك، ومن جفاك فقد أطلقك).(63/13)
حكم الترضي والترحم على العلماء
السؤال
هل يجوز أن نقول عن العلماء إذا ذكرناهم: رضي الله عنهم، أو نقول: رحمهم الله؟
الجواب
أما قول: رضي الله عنهم فجائز؛ لكن هناك اصطلاح معمول به عند العلماء حيث جعلوا الصلاة على الأنبياء، والترضِّي على الصحابة، والترحُّم على سائر العلماء، بدءاً من التابعين إلى عصرنا.
وقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (لا يُصَلَّى -أو قال: لا يُسَلَّم- إلا على نبي).
لماذا؟ لأن من شعار بعض أهل البدع الصلاة أو التسليم على غير الأنبياء، مثل: الشيعة.
فالشيعة إذا ذكروا علياً وسائر أهل البيت يقولون: علي عليه السلام، ولا يسلمون على نساء النبي صلى الله عليه وسلم، والآية التي في الأحزاب نزلت فيهن، ومع ذلك لا يسلمون عليهن، بل يفسرون قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] فيقولون: إنها عائشة.
وبُغضُهم هو لسائر نساء النبي عليه الصلاة والسلام فيما عدا مَن روت أحاديث في فضائل آل البيت مثل أم سلمة، ويقولون: إن جميع الصحابة ماتُوا على النفاق ما عدا البعض.
فشعار أهل البدع كالشيعة أنهم يخصون السلام على أهل البيت: علي بن أبي طالب وفاطمة وأولادها: الحسن والحسين، فلذلك صح عن ابن عباس أنه قال: (لا يُصَلَّى إلا على نبي، أو لا يُسَلَّم إلا على نبي).
إذاً: المسألة مسألة اصطلاحية، فيجوز أن تقول: محمدٌ عزَّ وجلَّ من باب أنه عزيزٌ وجليل، ومع هذا فسائر العلماء لا يذكرون هذه الصيغة إلا مع الله تبارك وتعالى.
كذلك إذا قلت: أبو بكر صلى الله عليه، فهذا سائغٌ؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- صلى على بعض أصحابه، كما في الحديث الصحيح: (أنه دخل يزور جابر بن عبد الله الأنصاري، فجلس عنده -وكان جابر قد أمر زوجته أن لا تطلب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً- فقبل أن يخرج النبي عليه الصلاة والسلام تبعته امرأة جابر وقالت: يا رسول الله! صلِّ عليَّ وعلى زوجي، فقال: صلى الله عليكِ وعلى زوجك).
فالصلاة هنا بمعنى: الدعاء والرحمة.
وكذلك في الحديث الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم صلِ على آل أبي أوفى).
ومع أن هذا سائغ فالعلماء يخصون الصلاة بالأنبياء دفعاً للإيهام، كذلك إذا قلتَ: (عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه فالجماهير قد تتصور أنه صحابي.
فلا مُشاحَّة في الاصطلاح إذا قيل في العالِم: رضي الله عنه، جاز ذلك.
والله أعلم.(63/14)
حكم الأغاني
السؤال
لماذا الأغاني حرام؟
الجواب
الأغنية مركَّبة من: مغنٍّ -أعني: صوتاً-.
وكلمات.
وألحان.
فإذا كان المغني امرأة؛ فقد اتفق العلماء جميعاً على حرمته، لا سيما إذا كانت تواجه الجماهير، فالمسألة هنا تكون أعظم، وإذا أضيفت إليها المزامير فالمسألة أطم.
إنما الرجل إذا أنشد شيئاً من الشِّعْر بصوتٍ جميل، جاز له ذلك بشرط ألاَّ يكون في الشعر كلام منافٍ للعقائد أو للآداب أو للنصوص أو لغيرها؛ لأن الشعر حَسَنُه حَسَنٌ، وقبيحُه قبيح.
يقول حسان بن ثابت: هجوتَ محمداً فأجبتُ عنه وعند الله في ذاك الجزاءُ هجوتَ محمداً براً تقياً رسولَ الله شيمتُه الوفاء أتهجوهُ ولستَ له بكُفءٍ فشرُّكما لخيرِكما الفداءُ فإن أبي ووالدَه وعرضي لِعرضِ محمدٍ منكم وقاءُ هذه أبيات جميلة، فإن قام شخص -مثلاً- وذَكَرها، وحسَّن صوتَه بها فهذا جائز.
إذاً: المسألة لها ثلاثة أركان: - المرأة لا يحل لها ذلك، لا بموسيقى، ولا بغير موسيقى.
- يبقى الكلام حَسَنُه حسنٌ، وقبيحُه قبيح.
- فإذا انضافت الموسيقى إلى المغنِّي؛ رجلاً كان أو امرأةً، فإنه يحرم باتفاق علماء المسلمين جميعاً، ولم يشذ عن علماء المسلمين المعتبَرين أحدٌ أذكرُه إلا ابن حزم، وإذا كان معه ابن طاهر -مثلاً-، وهذا الشذوذ قد رد عليه العلماء كلهم.
وتجد في هذا الباب شيئاً غريباً، وهو أن الذين يتكلمون عن الغناء اليوم، يزعمون كذباً أن هذا هو مذهب الكافة من العلماء! والعلماء الأربعة وجماهير أصحابهم على تحريم الغناء قاطبة، ولم يشذ إلا ابن حزم، والواحد يتعجب من ابن حزم في هذه القضية مع شدته على المخالف في الفروع، إلا أنه متسامح جداً في هذا الباب.
ولعل نشأة ابن حزم كانت قد أثرت عليه في ذلك، فـ ابن حزم نشأ في الأندلس، واللواتي ربَّين ابن حزم نساء كلهن، وأنا أستغرب كيف أن هذا الغضنفر خرج من بين هذه الأيادي الناعمة، فأنا أتصور أن الذي تربيه النساء يخرج متساهلاً، يقال: هذا تربية امرأة، ليس بتربية رجل.
فكيف خرج هذا الأسد والغضنفر والقسورة من بين أيدي النساء؟! إن كتابه ما ألف مثله أحد، وألفاظه قوية جداً، حتى قيل: سيف الحجاج ولسان ابن حزم صديقان؛ لأن سيف الحجاج ما كان يفرق بين رقاب الناس، وكذلك هو لا يفرق بين دماء المسلمين ودماء العلماء، إذا وجد عالماً خالف فمباشرة يرد.
فشذَّ ابن حزم في هذا، وولع المتأخرون بفتوى ابن حزم تحت ضغط الجماهير، وضغط الواقع المخالف، حتى تجد العالم منهم يفتي بفتوى عجيبة الشكل، مثلاً أكبر رأس دينية عندنا سئل في ميلاد المغني الشهير العندليب، سئل سؤالاً: أهذا الرجل في الجنة أم في النار؟ فقال لهم: وهل أنا مَن لديه المفتاح؟ بالله عليكم أهذه إجابة؟! وآخر قيل له: أهو في الجنة أم في النار؟ فقال: طبعاً في النار.
لماذا؟ قال: لأنه مات مسيحياً.
فهذا رجل صريح، ويفتي على أصول، ولا خافَ وحدةً وطنية ولا غيرها.
أما هذا الجواب الذي أجاب به الأول: (وهل أنا مَن لديه المفتاح) فنعم.
صحيحٌ، نحن نعرف أن المفتاح ليس معك ولا مع غيرك؛ لكن كان ينبغي أن تأتي بفتوى واضحة، فصحيحٌ أنه لا يُفتى لمعين بجنة ولا نار؛ لكن نقول: إن هذا الذي فعله فسق، ونحن لا نحكم على الفاسقين أنهم في النار، ولا على العصاة أنهم في النار، لعل لهم حسنات ماحيات، أو لعل لهم أشياء لا نعرفها، أو يتغمدهم الله برحمته ابتداءً مثلاً، أو لعل الله عز وجل رزقه توبة بين يدي موته، فنحن لا نحكم لمعين بجنةٍ ولا نار، إلا إذا كان عندنا نصٌ من المعصوم، مثل: فلان في النار.
وهذا معنى قول العلماء: مَن لم يكفِّر الكافر فهو كافر، أي مَن لم يكفِّر مَن كفره الله ورسوله، بدليلٍ قطعيٍ لا يتطرق إليه الشك من جهة الثبوت فهو كافر؛ لأنه يردُّ على الله ورسوله، إنما أي واحد ليس عندنا دليل قطعي في تكفيره، لا يحل لنا أن نُقْدِم على تكفيره لوجود الاحتمال.
فصحيح أن المفتاح ليس معه؛ لكن يندد بما كان يفعل.
فيقول مثلاً: كان يغني بالحرام، ففي بعض كلماته: القَدَر الأحمقُ الخُطى سَحَقَتْ هامتي خُطاه أو أنه كان يحلف بعيني محبوبته أو بمخها، أو بعقلها، أو بأي شيء، وهذا كله شرك ولا يجوز، فضلاً عن الموسيقى والتأوهات والكلام الفارغ الذي كان يقوله، فهذا كله حرام؛ لأن هذا كله فتح لباب الفسق على مصراعيه.
فما كان ينبغي أن تمر هذه الفتوى بدون هذه الإدانة؛ لكنه خائف من (الدستور) و (روز اليوسف)؛ فهذه بعض كلاب مسعورة تنهش أي شخص، فإذا قال بكلام مثل هذا قالوا: هذا هو الإرهاب الذي يريد أن يلغي المتعة؛ لأن أعصاب الناس متعَبة، والاقتصاد منهار، والغلاء فاحش، فهم يريدون أن يسمعوا كلمتين غنائيتين لينسوا واقعهم المر.
فيهجمون عليه.
إن عندنا طابوراً خامساً عمله أن يأكل في الخارج، ويتغوط عندنا.
وعندما أصدر شخص كتاباً عن الفنانات التائبات، وأراد أن يعمل إعلاناً مدفوع الأجر عن الكتاب في التلفاز، فقال: أنا أدفع المال، وأريد أن أعمل إعلاناً عن فنانات تائبات، فالعباقرة رفضوا نشر الإعلان؛ قالوا: لأن معنى تائبات أن اللاتي لم يتبن يكن عاصيات، أي: أننا نحارب قطاع الفن ونهدم شغلنا بأيدينا، ولكن غير العنوان وسننشر لك الإعلان.
ينبغي للعالِم ألا يهاب أحداً، فإذا تعلق قلب العالِم بنصر العوام إياه، هُزم في أول جولةٍ من أضعف عدو، لكن العالِم يتعلق قلبه بالله فقط.
0 لا يوجد عالِم من المتأخرين أخذ شهرة الإمام أحمد حتى قيل: إذا رأيت الرجل يبغضُ أحمد، فعادِه على الإسلام، جعلوا أحمد رمز الإسلام، وما نال أحمد رحمه الله هذا إلا بعد الفتنة التي رفعت مناره.
فالإمام أحمد العدل الثقة الثبت الرضا، لما أُبتلي بمحنة خلق القرآن، وكان يحضر مجلسه مائة ألف محبرة، دخل أحمد وجلد، ماذا فعلت المحابر؟ هل نصروه؟ هل فعلوا له شيئاً؟ ما فعلوا شيئاً، في حين أن كتب التاريخ تذكر أن المأمون سمع همهمةً ودمدمةً خارج قصره: أيها العرب! ماذا تريدون؟ قالوا: نريد لحماً.
فأرسل إلى بلاد أخرى وأتى لهم باللحم.
إذاً: العوام يهمهمون، ولا يخافون من الأمن المركزي، ولا شيئاً من هذا، لقد ذهبوا إلى أمام قصر الخليفة، وقالوا بصوت عالٍ: نريد أن نأكل لحماً.
فقال: أعطوهم لحماً.
فالعوام لا يتحركون إلا لهذا الهدف فقط.
فالعالِم إذا مضى في طريقه وهو ينتظر من العامة أن ينتصروا له، أو يثأروا له، أو أن يخرجوا مظاهرات من أجله أو شيئاً من هذا؛ فهذا مغلوب قال تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب:39] هذا هو مذهب العالِم.
فأنا لما أرد على هذه الفتوى أقول: أنا لا أحكم بجنةٍ ولا نارٍ؛ لأن مذهب أهل السنة كذا وكذا وكذا؛ لكن ما فعله هذا الرجل، كان فسقاً وفجوراً، وكان كذا وكذا، وهو ميت، لا أترك الفتوى مبتورة، هذا هو واجب العالِم؛ لأن العالِم ناصح، وتَرْكُ إسناد الفتوى بهذه الصورة خيانة لأمانة العلم والرسالة.
فالغناء اتفق العلماء على حرمته، ومن العَجيب أن هناك ممن يُشار إليه بالبنان يكتب وهو يتكلم عن حل الغناء فيقول: لا أرى في الغناء بأساً، وأنا أحب أن أسمع أغنية: أخي جاوز الظالمون المدى فحق الجهاد وحق الفدا وكذلك: وُلِد الهدى فالكائنات ضياءُ وفمُ الزمان تبسمٌ وثناءُ كلامٌ جميل.
وفيروز كذلك لها أغانٍ جميلة أيضاً في آخر الليل، تُحَب.
لاحظ الكلام! آخر الليل؟! عند قيام الركَّع السجود، وتجلي الله تبارك وتعالى للخلق، ونزولِه للسماء الدنيا: (هل من تائبٍ فأتوب عليه؟) وقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن سئل عن أفضل الصلاة بعد الفريضة: (في ثلث الليل الآخر) في هذا الوقت أقعد أنا أسمع لـ فيروز؟! والذي يقولها رجلٌ يشار إليه بالبنان؟! رحمه الله، وسامحه، وتجاوز عنه.
ويحتجون به علينا، ويَصْدُرُ هذا الكلام في كتاب، وينشر ويُطبع في ثلاث عشرة صفحة.
ورجلٌ آخر ممن يشار إليه بالبنان يقول: لا زال العلماء الكبار يقولون بذلك، وقد قال حسن العطار شيخ الجامع الأزهر: مَن لم يصغِ إلى حنين الأوتار فطبعه أجلف من طبع الحمار.
هذا هو الدليل الذي جاء به.
فأنزلوا كلام حسن العطار منزلة كلام المعصوم.
لا يعرفون ما معنى الدليل، لو تسأل أحدهم وتقول له: ما هي الأدلة في أصول الفقه؟ تجده لا يعرف شيئاً، وهذا يذكرني بالرجل الآخر الذي قيل له: يا مولانا قيل: إن الصلاة في المساجد التي فيها قبور حرام.
فقال: يكفي أنني أصلي في المسجد، فجعل فعله دليلاً، أي: بما أنه يصلي في الجامع الذي فيه القبور فكيف يكون حراماً وهو يصلي فيه؟! فهؤلاء لا يعرفون معنى الأدلة، ولا يعرفون إقامة الفتوى بدليلها.
من أراد أن يتبع العلماء، ويستمع إلى الفتوى الصحيحة التي ما قال بها أحد إلا احتج به؛ فليتبع فتاوى الأئمة الأربعة الذين صرحوا بتحريم الغناء، بل إن بعض العلماء -وهذا يدل على أنه كان مشهوراً عندهم- مثل الإمام أبو بسطام شعبة بن الحجاج رحمه الله، الذي كان شامة في جبين المحدثين، رفع اسم البصرة إلى السماء، ترك الرواية عن أحد شيوخه الثقات واسمه: المنهال بن عمرو وكان من رجال البخاري؛ لأنه وهو مار بجانب الدار سمع صوت مزمارٍ أو عود ينبعث من دار المنهال، فترك الرواية عنه وأسقط بذلك روايته؛ لأنه بهذه الصورة صار فاسقاً.
وقال الشافعي رحمه الله: إذا اشترى رجلٌ جارية فوجدها تغني؛ ردَّها بالعيب.
الإمام أحمد بن حنبل رد كلام شعبة، وقال: لعله كان يعزف على العود وهو لا يدري، أ(63/15)
الحاجة إلى العلماء الربانيين
حاجة الناس إلى العلماء كبيرة جداً؛ فهم بمثابة المنارات التي تضيء للناس الطريق خلال سيرهم إلى الله عز وجل، ولولا هذه المنارات لانحرف الناس عن الطريق الصحيح، وصار كل أحد يجتهد ويأخذ برأيه، مما يؤدي إلى تفرق المسلمين واختلافهم فيما بينهم.(64/1)
مساواة الإسلام بين الشريف والوضيع
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
من السالف المعروف أن العرب في الجاهلية الأولى كانوا شذر مذر، لا تربطهم عاطفة، ولا يجمعهم جامع، وليس بينهم قاسم مشترك، إنما هي العصبية للدم والعرض، فالقبيلة القوية هي التي تسود، والضعيفة تحت الأقدام هذا هو موقف الجاهلية الأولى.
لذلك لما أراد بعض الناس أن ينقل هذا المنطق إلى الإسلام رفضه النبي صلى الله عليه وسلم رفضاً قاطعاً، فإنه لما سرقت المرأة المخزومية التي كانت تستعير المتاع فتجحده، فثبت أنها جحدت -سرقت- فرفع الأمر إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فخرج حكمه بقطع يدها، فاستشاط بنو مخزوم، فقالوا: يا للعار! امرأة من بني مخزوم التي حازت الشرف، ولها موقع عالٍ في وسط العرب تعير بأن امرأة منهم سرقت! وقطعت يدها! لا، فذهب الرجال بعضهم خلف بعض يشفعون، وقالوا: ندفع أي فدية، نفعل أي شيء.
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أبى إلا أن يقطع يدها، فأرسلوا إليه الحب بن الحب أسامة بن زيد بن حارثة، ظناً منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يمكن أن يداهن في حدود الله بحبه لرجل، فلما ذهب إليه أسامة، وهو الحب بن الحب، قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أتشفع يا أسامة في حدٍ من حدود الله؟! والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمدٌ يدها).
تنفيذ الحد حق الله تبارك وتعالى، ليس حق بشر، فإذا رفعت الحدود فلا شفاعة فيها، وليس للنبي صلى الله عليه وسلم الحق في إسقاط الحد بعد أن يرفع إليه، وفي السنن أن صفوان بن أمية رضي الله عنه قال: (جاء رجلٌ فاستل بردتي من تحت رأسي، فأمسكته، فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت البردة تساوي ثلاثين درهماً، فأمر بقطع يده.
فقلت: يا رسول الله! تقطع يده في ثلاثين درهماً! وهبتها له، لا أريدها، فقال عليه الصلاة والسلام: هلا قبل ذلك -هلا عفوت عنه قبل أن ترفع الحد إليّ- ثم أمر بقطع يده).
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعقب على هذا الخُلق: (إنما أهلك الذين كانوا من قبلكم: أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد) فهل دم الضعيف أرخص من دم الشريف؟ لماذا تقيسون الرجال بالشرف والمال؟ وحين جاء النبي صلى الله عليه قلب المفاهيم التي كانت في الجاهلية، وأقامها على الجادة، وأصبح الرجال يوزنون عند الله بقلوبهم لا بأجسامهم، حتى أنك ترى الرجل العظيم لا يساوي عند الله جناح بعوضة، جاء في الصحيح: (أن رجلاً مر، له شارةٌ حسنة، وعليه سمت حسن.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: ما تقولون في هذا؟ قالوا: هذا حري إذا تكلم أن يسمع له، وإذا تزوج أن ينكح، فسكت فمر رجلٌ فقير، عضه الفقر بنابه، قال لهم: ما تقولون في هذا؟ قالوا: هذا حري إن تكلم ألا يسمع له، وإن تزوج ألا ينكح؟ فقال عليه الصلاة والسلام: هذا خيرٌ من ملء الأرض مثل هذا) ولك أن تتخيل سعة الأرض.
فالله تبارك وتعالى يزن الناس بالقلوب؛ قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:89] فألغى مظاهر التفريق، وأرجع المسلمين كلهم إلى رجلٍ واحد، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنما المؤمنون كرجلٍ واحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى) هذا لفظ مسلم، وفي الصحيحين: (مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد).
ظل الأوس والخزرج يقتتلون أربعين عاماً، فلما جاء الإسلام أعطى بعضهم ماله -بل وزوجته- لأخيه الذي هاجر، وهذا النوع من الأخلاق لم يكن من أخلاق العرب، فقد كان العرب عندهم غيرة شديدة على النساء، ومن ذلك ما حكي عن سعد بن عبادة أنه لم يكن يسمح لرجلٍ أن يتزوج امرأته إذا طلقها؛ لأن سعداً يغار، فكان الرجل منهم بعد أن مس الإسلام قلبه يتنازل عن امرأته لأخيه، حتى أنهم صاروا جسداً واحداً فعلاً.
لما اختصم رجل من المهاجرين مع رجلٍ من الأنصار قال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فخرج النبي صلى الله عليه وسلم مغضباً؛ كأنما فقئ حب الرمان في وجهه من حمرته، يقول: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! دعوها فإنها منتنة، دعوها فإنها منتنة).(64/2)
حرص الإسلام على تقوية روابط الأخوة بين المسلمين
حرص الإسلام على أن يجعل شعائر جماعية للمسلمين حتى تذكرهم بهذه الآصرة القوية برحم الإسلام، فجعل شعيرة يومية: وهي الصلوات الخمس، وأسبوعية: وهي صلاة الجمعة، وسنوية وهي الحج؛ لأن الإنسان ينسى، وقد قال ابن عباس: (إنما سمي الإنسان إنساناً لكثرة نسيانه)، وكما قال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه:115]، فهل استفاد المسلمون من هذه الشعائر في تقوية روابط الأخوة فيما بينهم؟ أم أنهم ينسون بعد كل اجتماع فيحتاجون إلى تذكير آخر؟ فلذلك جعل الله شعائر الاجتماع على فترات، فبعد الصلوات الخمس تأتي شعيرة الجمعة، وبعد الجمعة تأتي شعيرة الحج.
لماذا تفرق المسلمون اليوم؟ ولماذا صار المسلمون وحدهم هم الذين يطعنون ويضربون؟ لماذا أصبح دمهم أرخص دمٍ في العالم؟ أدمهم أرخص من دم عباد البقر ومن دم أولاد القردة والخنازير؟ أدمهم أرخص من دم عابد الحجر؟ لماذا رخص دمهم؟! لأنهم ليس لهم كيان، وليست لهم دولة على وجه الأرض هذه هي الحقيقة وإن كانت مرة.
أذل شيء على الإنسان -إذا كان حراً- أن يكون ضعيفاً، هذا هو الذي يذل الحر ويكسر نفسه.
في البوسنة والهرسك قتل منهم ثلاثة عشر ألف رجل مسلم بيد النصارى، ومجلس الأمن يفكر في عقد اجتماع، بينما أحداث الخليج لم تستغرق أكثر من أسبوع حتى حسمت القضية.
هل يجهلون هؤلاء الألوف الذين يقتلون؟ وبعض الناس يغضب من ظاهرة عدم وجود المسلمين، فأقول له: حنانيك بعض الشر أهون من بعضه، أليس من عدة أشهر سب رسول الإسلام على صفحات الصحف العربية ووصف بأنه أحمق! ولم يتحرك أحد؟! ليست هناك دولة تتبنى هذا الرسول؟! يسب، ويكتب صاحب المقال اسمه، ومقر الصحيفة معروف، ومع ذلك ما فعل أحدٌ شيئاً، والرجل آمن في داره، والصحيفة ما زالت تصدر حتى الآن بم يفسر هذا؟! إن بعض الناس الآن إذا أراد أن يتكلم على رئيس دولةٍ عظمى لا يكتب اسمه؛ لأنه لا يأمن غوائله، هذا يدل على ضعف شديد جداً، المسلمون لا ينطقون على ساحة العالم، ماذا استفادوا من الاجتماعات الأسبوعية واليومية والسنوية؟ قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] (حتى يغيروا ما) وليس (حتى يغيروا أنفسهم) لأن الله تبارك وتعالى يوم خلق الناس خلقهم على الفطرة، فالفطرة هي الإسلام، لكن إذا طال به العهد اجتالته الشياطين عن هذه الفطرة، فهذا هو الذي عناه ربنا تبارك وتعالى بقوله: (حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)، أي: حتى يغيروا الذي علق بأنفسهم.
المؤمنون كرجلٍ واحد فهل شعرت بعضو من بجسدك ينضح عليك بالألم، وأنت تسمع أن ثلاثة عشر ألف مسلم يقتلون في عدة أشهر؟ هل المؤمنون الآن كرجلٍ واحد؟ لا.
إن عمورية فتحت لأن رجلاً يهودياً فعل شيئاً لا يساوي ذرة على الشمال مما فعله اليهود بالمسلمين الآن، فالذي حدث في عمورية هو أن امرأة مسلمة كانت في السوق تشتري، فعصب أحد اليهود طرف إزارها من خلف حتى إذا قامت انكشفت سوءتها، فصاحت المرأة وهي في السوق: وامعتصماه! فكيف علم المعتصم بأمرها؟ سمعها مسلم عنده عزة الإسلام، فقال: والله لأبلغنها المعتصم! ورحل الرجل يركب الأيام والليالي حتى وصل إلى المعتصم، وقال له الذي سمع، فتحركت النخوة في دم المعتصم، لفتح عمورية، وساق إليها الجيوش الجرارة لامرأة ظهرت سوءتها.
ولقد أظهر اليهود اليوم عورات نساء المسلمين؛ لأنهم ملوك الموضة، وهل الذي نراه في شوارع المسلمين إلا من غرس أيديهم؟! فإنك عندما تنزل بلاد المسلمين، ثم تنزل بلاد الكافرين لا ترى فرقاً بينها، أين عزة الإسلام؟ إن المسلمين لم يستثمروا هذه الاجتماعات؛ فإنك تجد المسلم يصلي بجانب أخيه خمس سنوات وهو لا يعرف اسمه ولا نسبه ولا داره، ولا يزوره، وهو يراه في كل صلاة، فلماذا شُرعت إذاً الصلوات الخمس في جماعة؟ ألمجرد أن نقف بجانب بعض فقط؟ لا.
كان أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم -وقد استفادوا هذا الخلق من النبي عليه الصلاة والسلام- يعرف بعضهم بعضاً، بحيث لو وطئت قدم رجلٍ غريب المدينة، فإنهم يعلمون به وهذا ظاهر في أحاديث كثيرة؛ من أشهرها حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي انفرد به مسلم، قال: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذ جاءه رجلٌ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يعرفه منا أحد).
كانوا يحفظون المدينة كلها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتفقد أصحابه، ففي إحدى المرات نظر في وجوه أصحابه فلم ير ثابت بن قيس، فأرسل إليه أنس بن مالك، فوجده معتكفاً في داره يبكي، فقال له: (إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسأل عنك ما حجبك؟ فقال: أنا من أهل النار، حبط عملي، لأنني كنت أرفع صوتي على صوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وكان ثابت جهوري الصوت.
فذهب أنس بن مالك رضي الله عنه يحمل هذا الكلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: بل أخبره أنه من أهل الجنة.
قال أنس: فكان يمشي بيننا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة).(64/3)
فوائد الشعائر التي فيها اجتماع المسلمين
من أعظم ثمرات الصلوات الخمس: أن يعرف المسلمون بعضهم بعضاً، ويؤاسي بعضهم بعضاً، ويشتركون في المسرات والمضرات، فإن العبد إذا رأى غيره يشاركه خف عليه إذا كان متألماً، أو زادت سعادته إذا كان سعيداً، كما قالت عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك: (فظللت يومي وليلتي أبكي، حتى ظننت أن البكاء فالق كبدي، فاستأذنت عليّ امرأةٌ من الأنصار فجلست تبكي معي) لما ترى غيرها يشاركها في البكاء يخف عليها الألم، حتى أشارت الخنساء إلى ذلك في بعض قولها في أخيها كليب لما قتل، فقالت: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي فالعبد إذا رأى غيره يشاركه خف عليه الألم وتزداد سعادته.
لماذا فقدنا حلاوة الصلوات الخمس؟ لأننا لا نستقيم كما أمرنا الله، كما في حديث النعمان بن بشير عند البخاري ومسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (لتسوون بين صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم) فعدم تسوية الصف ينتج عنه أن الله تبارك وتعالى يفرق بين الوجوه.
وفي رواية أبي داود لهذا الحديث: (أو ليفرقن الله بين قلوبكم)، ويمكن الجمع بين اللفظين: بأن استواء الباطن معناه استواء الظاهر، فإذا اختلفت الفروض تغيرت الوجوه.
إذاً: قلبك لا يكون مع قلب أخيك؛ لأنك لا تسوي الصف، فالذين يستهينون بتسوية الصفوف، ويقولون: إن هذه مسألة جزئية، فكيف تهتمون بتسوية الصفوف وتقيمون الدنيا عليها، بينما المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يذبحون ويقتلون، وهذا قول خطأ؛ لأننا نكون بذلك قد تركنا سنة من السنن ولم نجد حلاً لمشاكل المسلمين.
وعندما تذهب إلى موسم الحج الأكبر ترى المسلمين متنافرين في عبادتهم، فيتعجب الإنسان قائلاً: هل هؤلاء يجمعهم دين واحد؟! وفي الطواف يأتون بأذكار غير مشروعة، مثل: أذكار الشوط الأول، أذكار الشوط الثاني، وأذكار الشوط الرابع، من أين لهم هذا؟ هل النبي صلى الله عليه وآله وسلم شرع لهم ذلك؟ فيأتون بأشياء لم يأذن بها الله ورسوله، فأنى يستجاب لهم؟ وفي صفوف الحجاج لا تجد بينهم الرحمة، فإذا سقط أحدهم فقد حكم عليه بالموت، فإذا لم تكن فتياً فلا تستطيع أن تطوف؛ لجهل المسلمين، هل المسلمون يعجزون أن ينظموا في الحج؟ لو أرادوا أن يفعلوا لفعلوا، لكن الدولة هناك لا تتبنى تنظيم الحج، إنما تتبنى تنظيم السفر إلى الحج، وتوفير الأكل والشرب.
ولا نقول: إنهم لا يولون الحج اهتماماً كلياً، وإنما اهتمام ضعيف، فالبدع العلنية تفعل عند الكعبة، ومكة والمدينة مليئتان بالروافض، وهم الذين يسكنونها، حتى أن الدولة لما أرادت أن تُصلح أجهزة التكييف على الغرفة النبوية هاج الروافض في المدينة، وقالوا: يريدون أن ينبشوا القبر؛ فتوقفت الدولة خوفاً من الروافض، وخافت أن يثور الروافض في العالم.
وقد كان أحد هؤلاء الروافض يجلس في المسجد الحرام، وكان الناس يأتونه ويقبلون يده ورجله، فلما اشتدت النكارة عليه ذهب إلى المدينة.
التنظيم قد يكون صعباً لكن ليس مستحيلاً، فالذين يأتون من ديارهم قد يكون بينهم من لا يفقه شيئاً عن الحج، يعرف كل شيء إلا الحج، يعرف قيمة تذاكر الباخرات، والحافلات، والطائرات، ويظل سنة كاملة يحسب لها، وما فكر أن يسأل عالماً ماذا يفعل في الحج! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (الحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة) ما معنى المبرور؟ أي: الحج على السنة، فمعظم الذين يذهبون إلى الحج لا يعلمون شيئاً عنه، فإنك عندما تذهب إلى الجمرات ترى العجب، فترى البعض منهم يرجمون الشيطان بالنعال، ورأيت رجلاً أتى بدف يريد أن يرجم به الشيطان! حنانيك أيها الراجم للشيطان! إن شيطاناً يعشش في داخلك ويجري منك مجرى الدم في العروق، فهل رجمته يوماً؟ ماذا استفاد المسلمون من مناسك الحج وليس عندهم الرحمة ولا الود؟ هل إذا رأوا رجلاً ضعيفاً أخذوا بيده؟ لو وقع رجلٌ ولم يستطع النهوض يموت.
وكم مات أناس تحت أقدام الحجاج، ولو كان المسلمون كالبدن الواحد لوجد هذا الذي سقط من يأخذ بيده.
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (مثل الصلوات الخمس، كمثل نهرٍ جارٍ على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه -أي: وسخه- شيء.
قال: ذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا).
وعلى مستوى الجمعة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الجمعة إلى الجمعة كفارةٌ لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر).
وعلى مستوى الحج: (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)، و (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه).
فإذا كان العبد تشمله عناية الله يومياً وأسبوعياً وسنوياً، فمن أين يدركه الشقاء؟ لماذا شقي إذاً ولم تدركه العناية؟ لأنه لم يقم بالفرض كما أمر.
إذاً: نرجع أدراجنا فننظر في صلاتنا: الصلوات الخمس، والجمعة، وننظر في الحج، فإذا استطاع المسلم أن يجبر الكسر الذي أحدثه في هذه الشعائر الجماعية حينئذ تدركه عناية الله.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(64/4)
دواؤنا في وجود العالم الرباني
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (تداووا عباد الله، فإن الله تبارك وتعالى ما جعل داءً إلا وجعل له دواءً).
فدواؤنا في وجود العالم الرباني، إذ لا يمكن أن يستقيم حال المسلمين بغير وجود العلماء، نريد العالم الرباني الذي نتعلم من سمته كما نتعلم من علمه، نريد العالم الرباني الذي يصدع بالحق ويستقيم عليه، نريد العالم الرباني الذي إذا رأيناه ذكرنا الله أين هؤلاء العلماء؟ ولا يستقيم حال الدنيا إلا بوجودهم، فكيف أغفل المسلمون البحث عنهم؟ في بلدنا كم طيباً يكفيهم؟ وكم مهندساً يكفيهم؟ وكم موظفاً في الجهة الفلانية يكفيهم؟ لا شك أنها ألوف مؤلفة، وإلا تعطلت مصالح الناس، كم عالماً يكفيهم؟ ألف ألفان ثلاثة آلاف عشرة آلاف؟ قليل، كم موجود منهم الآن؟ تستطيع أن تعدهم بأصابع اليدين، بل لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة عند العالمين وغير العالمين.
لو تصورنا أن الناس أضربوا عن دخول كليات الطب، فسوف نرى على صفحات الصحف والمجلات الكل يتكلم، ويقولون: المسلمون آثمون؛ لأنهم قصروا في فرض الكفاية، ومعلوم أن فرض الكفاية: أن يقوم جماعةٌ بشيء فيسقط عن الآخرين، فإذا قصروا جميعاً عن القيام بالفرض الكفائي صار فرضاً عينياً عليهم جميعاً حتى يقوم فيهم من يفعله، فيسقط حينئذٍ عن الباقين، فلو تمالأ أهل قرية على ترك الأذان، ونحن نعلم أن رفع الأذان فرض كفاية، إذا قام به فرد سقط الفرض عن باقي المسلمين.
ولو تمالئوا جميعاً على ترك شعيرة الأذان أثم جميع الموجودين حتى يقوم رجل فيرفع الأذان؛ فيسقط الإثم عن الباقين، هذا هو الفرض الكفائي.
لماذا لا نرى أيضاً الذين يقولون: يأثم المسلمون جميعاً بعدم وجود العلماء الربانيين؟ لأن المسلم لا يستطيع أن يبلغ يسير في طريقه إلى الله تبارك وتعالى بسلام إلا إذا وجد هذا العالم.
من الذي يعرفهم السنة من البدعة؟ من الذي يعرفهم الحق من الضلال إلا العالم الرباني، لاسيما إذا غابت أنوار النبوة اشتدت الحاجة إلى هذا العالم أشد من الطعام والشراب.(64/5)
تعرض العلماء للأذى من قبل أعدائهم
إن حاجة الناس إلى العالم الرباني أهم من حاجتهم إلى الأكل والشرب، بدلاً من أولئك الذين يضللون الناس قصداً أو جهلاً عن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ويقفون في وجه العلماء الربانيين يحاربونهم وينبذونهم بأقذع الألفاظ والنعوت.
وقديماً دافع الشافعي عن آل البيت وأظهر حبهم؛ فنبذوه، وقالوا: رافضي.
الروافض هم شر أناس في الشيعة، مثل روافض شيعة إيران الآن؛ فإن إيران أغلبهم روافض.
ما هو الفرق بين الشيعي والرافضي؟ الشيعي: هو الذي يفضل علياً على عثمان، لكنه يقر للشيخين أبي بكر وعمر بالتقدم، وأنه لا يوجد أحد يتقدم عليهما.
أما الرافضي: فهو الذي يقدم علياً على الكل، ويزري بـ أبي بكر وعمر.
وعلى رأس الروافض الموجودين: الخميني، فالذين يقرءون كتب الخميني الموجودة الآن يقطعون بكفره، ولذلك كفره جماهير علماء أهل السنة، وله دعاء يلعن فيه أبا بكر وعمر يقول: (اللهم العن الطاغوتين: أبي بكر وعمر، اللذين حكما في دين الله بأهوائهما، والعن ابنتيهما) والذي لا يصدق أن هذا الكلام صدر منه فليقرأ كتابه (تحرير الوسيلة).
ويقول إمامهم صاحب كتاب الكافي الذي يساوي صحيح البخاري عندنا، يصرح ويقول: (إذا صافحت رجلاً من أهل السنة فاغسل يديك سبع مرات).
فوصف أولئك الشافعي بأنه رافضي، فأنشد أبياتاً يدافع عن نفسه، وكان منها: إن كان رفضاً حب آل محمدٍ فليشهد الثقلان إني رافضي إذا كان حب آل محمد رفضاً فأنا أول الرافضين، كما قال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81]، وقديماً قالها أيضاً شاعر السنة -أو عالم السنة- لما نبذوه بأنه وهابي، لما رأوه على السنة، فقال: إن كان ناصر دين محمدٍ متوهباً فأنا المقر بأنني وهابي إذاً: هؤلاء العلماء هم منارات على الطرق، لا يبصر العباد طريق الله إلا بوجود هذه المنارات.
فنسأل الله تبارك وتعالى أن يأخذ بأيدي المسلمين أخذاً جميلاً، ويردهم إلى دينهم رداً حميداً.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.(64/6)
بيان أن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم
روى الإمام الترمذي في سننه بسندٍ صحيح عن زر بن حبيش رحمه الله تعالى قال: (أتيت صفوان بن عسال المرادي أسأله عن المسح على الخفين، فقال: ما جاء بك يا زر؟ قلت: ابتغاء العلم.
قال: إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، فقال: قد حز في صدري شيء من المسح على الخفين بعد الغائط والبول، فكنت امرأً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هل سمعت منه فيه شيئاً؟ فقال: نعم، رخص لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمرنا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيامٍ بلياليهن إذا كنا سفراً -أو قال: مسافرين- إلا من جنابة، لكن من غائط وبول ونوم.
فقلت له: هل سمعت منه في الهوى شيئاً؟ قال: نعم، كنا معه في سفرٍ، فطفق أعرابي ينادي بصوت له جهوري: يا محمد! فأجابه النبي محمد صلى الله عليه وسلم بأحسن من صوته هاءٌ -وفي رواية أخرى قال له: يا لبيك- فقلت للرجل: اغضض من صوتك، أو لم تنه عن هذا؟ فقال الأعرابي: والله لا أغضض من صوتي.
فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن المرء يحب القوم ولما يلحق بهم، فقال عليه الصلاة والسلام: المرء مع من أحب).
هذا الحديث فيه جمل من العلم.
أول هذه الجمل: على المسلم إذا حز في صدره شيء أن يطلبه بدليله، فإن زر بن حبيش لما حز في صدره شيء ليس من المسح، إنما في جزئية في المسح سأل.
الخف هو: حذاء من جلد لكن لا نعل له، كالجورب -الشراب- بحيث أنك تستطيع أن تمشي به.
فروى أكثر من أربعين صحابي عن النبي صلى عليه وسلم أنه كان يمسح على الخفين، ويُشترط في المسح على الخفين: أن تلبسهما على طهارة؛ تتوضأ وضوءك للصلاة، ثم تلبس الخف على طهارة.
لما قال صفوان لـ زر بن حبيش -وهو أحد الصحابة-: ما جاء بك يا زر؟ قال ابتغاء العلم.
فقال له: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع).
هذا الكلام وإن كان من قول صفوان، لكن ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله في غير ما حديث، وحتى لو لم نجد هذا الكلام معزواً إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فالقاعدة عند العلماء تقول: إذا قال الصحابي شيئاً من الغيب الذي لا يعرف فيحمل على أنه سمعه من الرسول عليه الصلاة والسلام.
فإذا قرأت -مثلاً- قولاً لصحابي: (إن في الجنة شجرة من ذهب) هل الصحابي دخل الجنة ورآها ثم أتى فوصفها؟ لا؛ لأن الجنة غيب، فهو إذاً من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، وهو ما يسميه العلماء: (مرفوعٌ حكماً) أي: أنه ينسب إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
فقول صفوان: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع)، إنما هو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
ذكر الإمام النووي في كتابه المعروف (بستان العارفين)، والسند كل رواته أئمة: أن بعض أهل الحديث رأى رجلاً ماجناً يلبس قبقاباً -الخشب المعروف- ولكنه وضع فيه بعض المسامير، فقالوا له: لم هذه المسامير؟ قال: حتى أخرق أجنحة الملائكة.
فيبس.
-أي: شُل- لأنه يستهزئ بكلام الرسول عليه الصلاة والسلام، فهذا جزاء من لا يوقر الحديث، ولا يوقر كلام النبي عليه الصلاة والسلام.
وقد حدثت حادثة شبيهة بهذه الحادثة في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يأكل بشماله، فقال له: (كل بيمينك.
قال: لا أستطيع.
قال: لا استطعت؛ فشلت يده، قال عليه الصلاة والسلام: ما منعه إلا الكبر) لذلك شلت يده؛ لأنه لا يتصور أن رجلاً يستطيع أن يستخدم يمينه فيأكل بشماله؛ لأن هذا داخل تحت النهي (لا يأكل الرجل بشماله)، لكن إذا كانت بيمينه علة، ولا يستطيع أن يستخدم يمينه في الطعام، هل يقال له: لا بد أن تستخدم يمينك على رغم أنفك؟ لا، معروف أن الشرع جاء لرفع الحرج، فالنبي عليه الصلاة والسلام علل لماذا شلت يد هذا بقوله: (ما منعه إلا الكبر) يرفض أن ينصاع لكلام الرسول عليه الصلاة والسلام.
فهذه عقوبة الذي يتكبر أو يستهزئ بكلام الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يطلب)، قالها صفوان بن عسال المرادي حتى يهون على زر ما وجده من تعبٍ في رحلته لأجل هذا السؤال، ولا يزال العبد يطمع في المزيد إن علم أنه يؤجر، وهذه طبيعة العبد، فالله تبارك وتعالى جعل عمله الصالح بمقابله الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).
يقول بعض الناس: لا تعبد الله رجاء الجنة؛ ويقولون: نحن نعبد الله لذاته! وينسبون مقالة إلى رابعة العدوية، ولا نعرف هذه المقالة عن رابعة حتى نعتبرها صحيحة، حتى وإن قالتها رابعة فإنه يرد عليها قولها.
يقولون: إنها كانت تقول: (اللهم إن كنت عبدتك خوفاً من نارك؛ فأحرقني بها، وإن كنت عبدتك طمعاً في جنتك؛ فاحرمني من جنتك، وإن كنت عبدتك لذاتك؛ فلا تحرمني من لقاء وجهك) ما هذا الكلام؟ أين نذهب بعشرات الأحاديث التي جاءت عن الرسول عليه الصلاة والسلام يستعيذ فيها من النار؟! وأين نذهب بقوله تبارك وتعالى: {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201]، وقوله: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185]، وقوله تبارك وتعالى: {لِمِثْلِ هَذَا} [الصافات:61] لمثل دخول الجنة وتجنب النار (فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61].
كيف يقال هذا الكلام؟ وهل هناك أحد يعبد ربنا لذاته هكذا؟! الذين يقولون بهذا القول هم من يقولون بمسألة الفناء، وهذا القول لا يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعرفه أحد من أصحابه أو التابعين ولا الأئمة المتبوعين، ولا أحد ممن تبعهم بإحسان.
ويقولون بوحدة الوجود وهو: أن كل ما تراه بعينك فهو الله؛ لأنه حل في كل شيء، تعالى الله عن قول الظالمين علواً كبيراً.(64/7)
أهمية وجود الحافز في عمل الإنسان
معروف أن الإنسان لا يعمل العمل إلا إذا كان فيه حافز، وهذا شيء مفطور عليه الإنسان، ومهما أراد أن يكسره فإنه لا يفلح أبداً، لذلك فنظام الحوافز في الدنيا مشتق من النصوص، فعندما تجد الرجل يعمل ليل نهار؛ فإنما يعمل ذلك للحافز، فإذا علم العبد أنه لا يؤجر على فعله قل عمله وجهده.
ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها) لأن العبد متعود أن يجني الثمرة من الفعل، فالعبد إذا أراد أن يغرس الفسيلة -التي هي النخلة، والنخلة تمكث عدة سنوات حتى تعطي الثمار- وعلم أن الساعة ستقوم يقول: من الذي يستفيد منها؟ فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول له: اغرسها، وإن كنت لا تستفيد منها لأنه يعلم العبد أن لا يفعل الشيء إلا إذا كان هناك مقابل.
وهناك حكاية لرجل طيب مشهور، لكنه لم يرزق بالولد، وكان متزوجاً بابنة خاله، وكان يحبها ويرجو الولد منها، فطاف على الأرض شرقاً وغرباً، وأنفق ألوفاً من الأموال ابتغاء ولدٍ واحد، ولكنه رجع بخفي حنين.
وكان هذا الرجل في أول شبابه عنده طموح؛ لأنه كان يظن أنه إذا لم يرزق بولد هذا العام فسيرزق العام القادم يحدوه أمل، لاسيما وهو طبيب، والنتائج كلها تقول: لا توجد فيه علة.
بعض الدكاترة المشهورين ذهب إليه أحد هؤلاء وله أكثر من عشرة أعوام لا ينجب، وبعدما كشف عليه الطبيب لم يجد به علة، وقال له: إن لم أجعلك تنجب لأعتزلن الطب، عباد لا يعرفون قدر أنفسهم، فالله إذا لم يأذن فلا يستطيع أحد أن يعمل شيئاً.
فذلك الرجل لم تكن به علة ولا امرأته، لذلك كان يحدوه أمل، فكان يذهب إلى أي مكان يأمره الطبيب، مرة يقول له: انتظرني في إيرلندا، ومرة يقول له: انتظرني في هولندا، وبعد فترة قال له: انتظرني في أستراليا، والرجل دائخ وراءه ابتغاء ولد! وكان قد اشترى عمارة ومصنعاً، وفتح عيادة وعنده أموال كثيرة، فلما بلغ الخمسين من عمره يئس تماماً، فبدأ يبيع ويصفي كل ممتلكاته، فسئل عن السبب فقال: لمن أتركها؟ إذاً: هذا الرجل كان يعمل لكي يترك لأولاده ثروة، هذا هو السبب الذي جعله يعمل ليل نهار، وهو الذي جعله يقلص أوقات راحته حتى يستطيع أن يدخر هذه الأشياء لأولاده، فلما يئس وعلم أنه لا سبيل للانتفاع بكل ما جمع، بدأ يبدد هذا الذي جمعه.
إذا لم يكن هناك حافز للإنسان على العمل فإن همته تضعف، وكأنه لذلك لما جاءت امرأةٌ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسأله، ومعها صبي صغير، قالت: (يا رسول الله! ألهذا حجٌ؟ قال: نعم.
ولك أجر) مع أن المرأة لم تسأل: هل أنا أؤجر على المسألة هذه أم لا؟ لكنه قال لها: (ولكِ أجر) حتى يحفز المسلمين أن يصحبوا أولادهم من الصبيان إلى شهود مناسك الحج.
ولذلك أنت عندما تعلم أنك ستؤجر، فهذا حافز لك أن تصطحب ابنك.(64/8)
الحث على سؤال أهل العلم عند الجهل بمسألة ما
قال زر بن حبيش لـ صفوان يشرح له سبب مجيئه: (إنه حز في صدري شيء) وهذا دليل على أن المسلم إذا حز في صدره شيء في الحكم الشرعي أن يسأل عنه.
قال: (حز في صدري شيء في المسح على الخفين بعد الغائط والبول -وانظر إلى السؤال! وكما قيل: حسن السؤال نصف العلم- هل سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيئاً -لم يقل له: ما رأيك في الموضوع؟ بل نسب الكلام لصاحب الشرع، نريد أن نسمع حكم صاحب الشرع- هل سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً؟ قال: نعم، أمرنا ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام بلياليهن إذا كنا سفراً -أو قال: مسافرين- إلا من جنابة؛ لكن من بول أو غائط أو نوم) أي: لا ننزع خفافنا إلا من الجنابة، لكن في الغائط والنوم والبول لا ننزع خفافنا.
إذاً: أنت إذا أصابتك جنابة تخلع الخف؛ لأنك ستغتسل، فإذا اغتسلت ابتل الخف، فإذا ابتل الخف فما الحكمة في مسحه إذاً؟ أنت تمسح حتى لا يصل الماء إلى قدميك، وقد وصل، ولا بد من غسل القدمين في حال الغسل؛ إذاً: يلزمك نزع الخف.
لكن إذا تغوط المرء أو تبول أو نام -وكل هذا ينقض الوضوء- فلا يلزمه أن ينزع الخف.
وطالب العلم عندما يجلس إلى من هو أعلم منه فإنه لا يكتفي بسؤال، قال زر:، فقلت له: (هل سمعت في الهوى شيئاً؟) أي من الرسول عليه الصلاة والسلام، (الهوى) أي: الميل، يسأل عن الهوى حتى يجعل ميله وهواه على وفق ما يريد الله ورسوله، لكن انظر إلى الذي يقول لك: الهوى هواي! أرأيت عبداً أضل من هذا؟! كالذي قال الله فيه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23]، أي: جعل هواه إلهه الذي يعبده.
وهناك من الناس من يسأل عن الهوى حتى يجعله نيله وهواه على وفق ما يريد الله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود:112]، لا يستقيم كما أمر إلا إذا جعل هواه تبعاً لما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، وهو ميل القلب، وهذه من أعلى درجات الإيمان: أن تجعل ميل قلبك لما يحبه الله ورسوله، وإن كانت مصلحة في غير ذلك، وأوصى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً، فقال له: (إذا أشكل عليك أمران -لا تعرف الصواب من الخطأ- فانظر أقربهما إلى نفسك فخالفه، فإن النفس تحب الهوى) انظر إلى ما تحبه من الأمرين واتركه لماذا؟ لأن النفس تحب الهوى، هذا نوع من أنواع التربية، والإنسان يذل هذه النفس؛ حتى يقيمها على أمر الله تبارك وتعالى.
وكان أبو مسلم الخولاني رحمه الله يصلي من الليل حتى تعجز قدماه عن حمل جسمه، فإذا شعر بالإعياء أخذ العصا وضرب بها قدميه، ويقول: (والله أنتما أحق بالضرب من دابتي، أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنهم لم يخلفوا بعدهم رجالاً، والله لأزاحمنهم على الحوض) وما يستطيع المرء على أمر الله إلا إذا ملك نفسه.
ولذلك قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه) لأنه إذا ملك نفسه ملك غيره، فإن عجز عن ملك نفسه فهو أعجز عن غيره من باب أولى (ليس الشديد بالصرعة -أي: الذي يصرع الناس- ولكن الشديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب).
فهذا التابعي الجليل يسأل عن الهوى: هل سمعت في الهوى شيئاً-؟ قال: نعم.
كنا في سفر فصاح أعرابي -وأنتم تعرفون أن الأعراب فيهم غلظة وجفاء، والأعرابي صوته عالٍ، خليقة؛ لأن الإنسان يتكيف بالبيئة، تجد مثلاً الذي يسكن في البراري -المسافات الواسعة جداً- فيحتاج أن ينادي بصوت عالٍ فيكون صوته جهورياً، أما أهل الحضر فبين الجار وجاره نصف طوبة، فتجدهم يتهامسون همساً.
لذلك الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يشدد عليهم في ذلك، مع أن رفع الصوت على الرسول عليه الصلاة والسلام منهي عنه، وجعل غض الصوت عنه من علامات الإيمان: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات:3]، وذم أقواماً آخرين، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4] فقد كانوا يصرخون من وراء الحجرات: يا محمد! اخرج لنا.
فذم أقواماً برفع الصوت، ومدح أقواماً بخفض الصوت، ومع ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يشدد على مثل هذه الأمور التي قد تبدو جبلية، كما في حديث صفوان بن المعطل السلمي لما شكته امرأته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: (يا رسول الله! إن صفوان يضربني إذا صليت، ويفطرني إذا صمت، ولا يصلي الصبح إلا بعد شروق الشمس.
وكان صفوان جالساً، فقال: يا رسول الله! لا تعجل علي، أما قولها: (فيضربني إذا صليت) فإنها تصلي بعد الفاتحة بسورتين، وقد نهيتها.
فقال: أطيعي زوجك، وأما قولها: (يفطرني إذا صمت) فأنا رجل شاب، وهي تتعمد الصوم -أي بدون إذني، فكان يقع عليها فيفسد عليها صومها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تصوم امرأةٌ تؤمن بالله واليوم الآخر وزوجها شاهد إلا بإذنه)، غير رمضان.
وأما قولها: (ولا يصلي الصبح إلا بعد شروق الشمس) -وهذا محل الشاهد- قال: إنا أهل بيتٍ عرف عنا ذلك، أي: أن نومه ثقيل، وهذا معروف عن أسلافه، وهو شيء جبلي، وقد جاءت الشريعة برفع الحرج، فماذا قال له عليه الصلاة والسلام؟ قال له: (إذا استيقظت فصل) طالما أنه عمل بالأسباب الشرعية حتى يستيقظ في الفجر، فلا يسهر أحد حتى الساعة الواحدة أو الساعة الثانية أمام مسلسل وبعد ذلك قبل الفجر بساعة ينام، فكيف سيستيقظ؟ وأدهى من هذا أنه يصحو الساعة السابعة أو الساعة الثامنة ولا يريد أن يستيقظ! فالصحابي اتخذ الأسباب الشرعية، ونام مبكراً من بعد العشاء، ومع ذلك نام حتى ذهب وقت الفجر، قال: (إذا استيقظت فصل) هذه المسائل الجبلية كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يشدد فيها؛ ابتغاء رفع الحرج.(64/9)
وجوب خفض الصوت والتأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
استنكر بعض الصحابة منهم صفوان بن عسال على الأعرابي الذي رفع صوته ونادى: يا محمد.
وقد ارتكب هذا الأعرابي خطأين: الخطأ الأول: أنه رفع صوته.
الخطأ الثاني: أن لم يتأدب في النداء قال: يا محمد! والله تبارك وتعالى أدب أقواماً فقال لهم: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور:63]؛ لأن الله تبارك وتعالى ما دعاه باسمه في حال المناداة أبداً، وإنما قال: (يا أيها النبي) (يا أيها الرسول)، وذكر جميع الأنبياء بأسمائهم، {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:46]، إلا النبي عليه الصلاة والسلام، فإنه لما ناداه ناداه بالرسالة والنبوة تشريفاً له، وما ذكره باسمه إلا بمعرض الذكر المجرد، كقوله تبارك وتعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29]، أو كقوله تبارك وتعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب:40]، وهذا ليس فيه نداء، أعرابي أخطأ مرتين: مرة في رفع الصوت، والمرة الأخرى بأنه نادى النبي عليه الصلاة والسلام باسمه.
كان في عصر الصحابة رجل من المسلمين يكنى بأبي القاسم، فناداه أحدهم قال: (يا أبا القاسم! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا لبيك -انظر الأدب! - قال له: لم أعنك -أي: لم أقصدك- فقال عليه الصلاة والسلام -تعقيباً على هذا الموضع-: تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي) فمنعهم أن يكنوا بأبي القاسم تأدباً مع النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: (فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بنحو صوته -أي: رفع صوته- وقال له: هاؤم.
-أي: أقبل، أو ماذا تريد؟ وفي الرواية الأخرى قال له: يا لبيك -قال صفوان: فقلت له: اغضض من صوتك، أو لم تنه عن ذلك -أي: عن رفع الصوت-؟! فقال له: والله لا أغضض من صوتي).
فالرسول عليه الصلاة والسلام لما جاءه الأعرابي لم يؤاخذه؛ لأنه أعرابي، وكان يتسامح معهم، وكانوا أحياناً يقومون بأشياء قد يكفر قائلها لولا أنه قد عذرهم، مثل الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي وغيره بإسنادٍ قوي، عن قتيبة بن زيد الأنصاري قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فابتاع جملاً من أعرابي، -أي: اشترى- وكنا في سفر، فقال: نأخذ إذا رجعنا -أي: إلى المدينة- فجاء أقوام يشترون الجمل، وهم لا يعلمون أن النبي عليه الصلاة والسلام اشتراه، فقال لهم الأعرابي: بكم؟ -لم يخبرهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم اشترى الجمل، كان له أن يقول: لا، هذا الجمل بيع- فأعطوه أكثر من الثمن الذي كان الرسول عليه الصلاة والسلام قرضه، فعلم الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك، فقال: أولم تبعني الجمل؟ قال: ما بعتك شيئاً؟ قال: كلا، بل بعتني الجمل.
فقال: كلا، ما بعتك شيئاً.
هذا تكذيب للرسول عليه الصلاة والسلام، فقال الأعرابي: هلم شهيداً -أي: ائتني بشهيد يشهد معك أنني بعتك الجمل، فأحجم الصحابة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام على ما يبدو من ظاهر الرواية أنه اشترى الجمل من الأعرابي دون أن يُشهد أحداً والصحابة لم يحضر أحد منهم البيعة، فلم يشهد أحد، لكن خزيمة بن ثابت الأنصاري انبرى، وقال: أنا أشهد أنك بعته -مع أنه لم يحضر- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: بم تشهد يا خزيمة؟ قال: بتصديقك.
فجعل شهادته بشهادة رجلين).
وفي الصحيح: (أن رجلاً من الأعراب دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم أحداً معنا) كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الرحمة مائة جزء، أنزل الله إلى الأرض جزءاً واحداً، تتراحم به الخلائق) من والإنس والجن، من لدن آدم عليه السلام إلى أن تقوم الساعة، حتى أن الدابة لترفع حافرها عن وليدها خشية أن تدوسه.
أحياناً من كثرة الشفقة على إنسان يمكن قلبك أن ينفطر، فتكاد أن تموت من الرحمة على هذا الشخص، كما قال الله تبارك وتعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، (لعلك باخع) أي: قاتل نفسك أسفاً عليهم أنهم لا يؤمنون.
فيأتي الأعرابي ويقول: (اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم أحداً معنا، فقال عليه الصلاة والسلام: لقد حجرت واسعاً -أي: ضيقت ما وسعه الله- فلم يلبث أن بال في المسجد، فهم الصحابة به أن يأذوه -فقال عليه الصلاة والسلام: لا تزرموه- لا تزعجوه، لا تفزعوه- إنما بعثتم ميسرين، ألقوا على بوله ذنوباً من ماء) وإذا كانت المسألة لها حل فلماذا تشدد؟ فإذا ارتكب إنسان خطأً وهو جاهل به فارفق به، ولا تعامله كأنه معاند وتشدد عليه في الكلام.
عند الخرائطي في مكارم الأخلاق، وقد روى هذا الحديث، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حملك على أن بلت في مسجدنا، أو لست برجل مسلم؟ فقال: والذي بعثك بالحق! ما ظننته إلا كمثل هذه الصعدات) أنا ظننت أن هنا مثل الخارج، وماذا يعني لو وضعتم عليه جدران؟ هل أصبح أحسن من الخارج؟ ظننت أن هنا كهناك، كلها أرض الله، وكما أتبول في أي مكان تبولت في المسجد.
هذا جاهل أم لا؟ جاهل ما عنده علم، فلذلك تلطف الرسول عليه الصلاة والسلام معه.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا.(64/10)
الصبر
اعلم أن الشيطان لا يريد من الإنسان إلا قلبه، الذي هو محل إخلاصه، وذلك ليفسده عليه، وثمة أمور كثيرة تفسد القلوب، ولقد ذكر العلماء من هذه المفسدات خمساً، تعد جماع فساد القلب وهلاكه، وهي: تعلق القلب بغير الله، وكثرة الاختلاط بالناس، والأماني، وكثرة الأكل، وكثرة النوم، فمن أراد السلامة لقلبه فليجتنبها، وليكن على حذر منها.(65/1)
أهمية الصبر
إن الحمد لله تعالى نحمده، ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إن الله تبارك وتعالى امتن على بني إسرائيل، وبين كثيراً من النعم التي خصهم بها وكانت سبب التمكين لهم، وذكر أنه اصطفى منهم أنبياءه وهداة أتقياء وأئمة هدى، وبيّن سبحانه سبب نيلهم ذلك، فقال عز من قائل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].
فبين أن الصبر هو أول ما نال به أئمة الهدى تلك الدرجة العالية الرفيعة، ولذا فإن الصبر لازم للعبد -وليس للمؤمن فقط، بل لا يستغني عنه الكافر، ولا الحيوان البهيم- فهو مطية المؤمن لا يضل راكبها أبداً ولا يشقى.
والصبر مر كاسمه.
وما أحوجنا إلى الصبر، ونحن في مفترق الطرق، وأمام قوانين وضعية تُشرِّع لنا من القوانين مالم يأذن به الله، بدلاً عن الشريعة الإسلامية، ويسمع الحر ذلك فيتمزق قلبه لما يراه ويسمعه، ويتعجب من سكوت العلماء، فكيف لا يهبون ويدافعون عما يعتقدون؟! يسمع الحر هذا فيتفتت كبده من هذا السكوت! ولكنها مسألة تحتاج إلى صبر في هذه الآونة أكثر من أية آونة مضت.
ولكن ما هي الأسباب المعينة على الصبر؟! وعليك أن تصبر بغير ذل؛ لأن هناك فرقاً بين الذل والمسكنة وبين الصبر: فالصبر: أن تسكت وتعمل، أما الذل والاستكانة: فهي أن تسكت ولا تعمل، فالصابر يصبر ويعمل بمقتضى ما أمر به، وإذا نظر الله عز وجل إلى قلوب عباده فرآهم عادوا إلى دينهم وراجعوا معنى العبودية؛ مكن لهم كما مكن لبني إسرائيل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، يقين مضاف إلى الصبر.
ويعرف الصبر بأنه: (ثبات باعث الدين إذا اعترته بواعث الشهوات).
مثل: رجل مصاب بعلة يصف له الطبيب شيئين: دواء يخفف العلة، والدواء الآخر يقويه.
فإذا كان الصبر هو ثبات باعث الدين؛ فما هو المعين على هذا الثبات في مقابل باعث الشهوات؟! وما هو المضعف لهذا الباعث الآخر؟ اعلم أن الشيطان لا يريد إلا قلبك: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82 - 83] ومحل الإخلاص: القلب، فلا يريد الشيطان إلا قلبك.(65/2)
مفسدات القلوب
ومفسدات القلب خمسة: تعلق القلب بغير الله، ثم كثرة الاختلاط بالناس، ثم الأماني، ثم كثرة الأكل، ثم كثرة النوم.
وهذه خمسة أشياء تفسد القلب:(65/3)
المفسد الأول: تعلق القلب بغير الله
أعظمها وأهولها: تعلق القلب بغير الله، قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم:81 - 82]، إن الذي يعبد شيئاً إنما يعبده ليحميه، وليأخذ العز منه، فعبدوا من دون الله آلهة لتكون لهم عزاً، فتعلق القلب بغير الله أصل الشرك.(65/4)
المفسد الثاني: كثرة الاختلاط بالناس
المفسد الآخر: كثرة الاختلاط بالناس، فكثرة الاختلاط بالناس تورثك الهم والغم، وتشتت عزم قلبك، فقد ترى رجلاً غنياً فتسأله عن غناه، يقول لك: أنا أعمل كذا وكذا، وعندي خطط، ودراسات جدوى، وأعمل عشرين ساعة، أنا لست كسولاً، والحياة صراع فـ (كن ذئباً وإلا أكلتك الذئاب) فيدخل على قلبك الغم، فتفكر في سبيل الغنى اقتداء به، وتريد أن تكون كهذا الرجل، ورجل آخر يخوفك من الدعوة إلى الله، قائلاً: لا تسلك هذا الطريق، لا تصدع بكلمة الحق، لا تنكر منكراً، كن آمناً، كن في حالك، لا تتكلم! وأنت تريد أن تتقرب إلى الله؛ فيدخل على قلبك الغم والخوف الذي بثه وهكذا.
الاختلاط بالناس لابد أن يكون بقدر حاجتك، واختلط معهم فيما يفيد: في الجمعة والجماعات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، اعتزلهم في فضول المباحات فضلاً عن المعاصي والمحرمات.(65/5)
المفسد الثالث: الأماني
الأماني، وهذا بحر لا ساحل له ولا شاطئ، يركبه مفاليس العالم، فالأماني رءوس أموال المفاليس، وما ضيع أكثر العباد إلا الأماني، فاليهود والنصارى ضيعتهم الأماني، والمفرطون من هذه الأمة ضيعتهم الأماني، وهذا شرَك عظيم وخطير، فأمانيك تستغرق عمرك وعمر أولادك وأحفادك، وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا كما في صحيح البخاري أن النبي عليه الصلاة والسلام: رسم لأصحابه على الأرض مربعاً -أربعة أضلاع- ثم قال: هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به لا يفر ولا يخرج منه، ثم رسم خطاً مستقيماً بدءاً من الضلع الأخير من المربع وخرج خارج المربع، ثم رسم خطوطاً قصاراً حول هذا الخط المستقيم داخل المربع، فقال: (هذا الإنسان وهذا أجله، والخط الطويل أمله) -أمله خرج من أجله، تلك الآمال تستغرق عمره وعمر أولاده وأحفاده- وهذه الخطوط القصار التي هي داخل المربع حول الخط الطويل قال فيها: (هذه الأعراض والابتلاءات والأمراض، إذا نجا من عرض نهشه الآخر) -أي: لابد أن يبتلى، لا ينجوا أبداً-.
ونفهم من هذا: إن الأمل الطويل والرغبة في الحياة هي التي تمكن الشيطان من قلب العبد، فيقول: أنا سأفعل غداً وبعد غد، والعام القادم سأفعل وأفعل، وهو ميت هذه الليلة.
أعرف رجلاً رحمه الله سلمت عليه في محله بعد صلاة الظهر، ووجدت بجانبه بطانية فقالت: ما هذا؟ قال: بطانية أسبانية، وفرشها طولاً، وقال: على الإنسان أن يتغطى، فالجو بارد وأنا سأتغطى بها الليلة، ولكنه بات في قبره، مات بعدما تركته بساعة، ودفنوه بعد العصر، وما استمتع بها.
ولذلك قال من قال من السلف: (ما ذُكر الموت في واسع إلا ضيقه، ولا في ضيقٍ إلا وسعه).
وأنت جالس مع أولادك وكلهم بعافية، وأنت رجل موسر تأكل وتشرب وتضحك، لو ذكرت الموت تتعكر عليك هذه اللذة، ولو ذُهِلْتَ عنهم خمس دقائق فقط وفكرت أنك ستنزع من بين هؤلاء الأولاد، وتسأل نفسك: هؤلاء الصغار كيف يكون حالهم من بعدي لو مت؟ أترى أنهم يسلمون تقلب الزمان ونوائب الدهر؟ سيصير، أترى هناك من يحنو عليهم بعدي؟! فتضيع عليك اللذة الحاضرة ولا تستمتع بها.
فكنت في سعة فضيقها عليك.
وكذلك أنك رجل مبتلى بالمصائب من كل جانب، وتذكرت الموت والبلاء، وأن ظالمك لن يخلد بعدك، وأن هناك قصاصاً، وأنك ستقتص من ظالمك، فأول ما تفكر في هذه المعاني يتسع عليك الأمر وتصبر.
وهذا مصداق قولهم: (فما ذكر الموت في واسع إلا ضيقه، ولا في ضيق إلا وسعه)، والأماني أخطر شيء يعكر صفو القلب بعد تعلق القلب بغير الله.(65/6)
المفسد الرابع: كثرة الطعام
قال لقمان لابنه: (يا بني! إن المعدة إذا امتلأت نامت الفكرة، وكفت الأعضاء عن العبادة)، إن كبير البطن لا يحرز شيئاً في السبق -لو تسابق الناس لا يحرز شيئاً- واعتبر بحال الجياد، إن الجواد الذي تركبه لتفوز بالسبق فيه لابد أن يكون مضمر البطن لا عظيمها).(65/7)
المفسد الخامس: كثرة النوم
واعلم أن كثرة الطعام مجلبة للنوم، وكثرة النوم مظنة الفساد، وفوات المصالح وقد سئل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن جده في نهاره وقيامه في ليله، وأن في هذا إرهاقاً وأي إرهاق، يقول: (إنني لو نمت في نهاري ضيعت رعيتي، ولو نمت في ليلي ضيعت نفسي، فكيف الخلاص منهما؟!).
وكان أبو حصين رضي الله عنه كثير قيام الليل، وكان يضع عصاه بجانب مصلاه، فإذا أحس أن رجليه لا تقويان على رفعه ولا على حمل بدنه، كان يضرب رجليه بالعصا، ويقول لهما: (أنتما أحق بالضرب من دابتي، أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنهم لم يخلفوا بعدهم رجالاً؟ والله لأزاحمنهم على الحوض ويقوم)، وهذه لا يفعلها رجل ممتلئ البطن، وهذا ما يدل عليه قول لقمان الحكيم فيما يروى عنه: (إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وكفت الأعضاء عن العبادة.
وكذلك إذا امتلأت المعدة ازداد الشبق، وعظمت الشهوة، وبدأ الشيطان يلعب بصاحبها ويفكر؛ كيف يصرف هذه الشهوة، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) -يعني: وقاية يتترس بها من عدوه-.
فإذا كان الصيام -الجوع- وقاية من حدة الشهوة؛ فإن كثرة الطعام مجلبة لهذه الشهوة؛ ولذلك أكثر الناس عصياناً أصحاب الترف، الذين يأكلون ما شاءوا ويشربون مالذ لهم ويملئون بطونهم، وعندهم من المال ما يستطيعون به تنفيذ أهوائهم.(65/8)
أمور تساعد على تقوية باعث الدين
فهذه مفسدات القلب، والشيطان لا يريد إلا قلبك، فإذا عجزت عن قتله بالكلية فَقَوِّ باعث الدين؛ فإنه يقتل البقية الباقية في بواعث الشهوات، واستعن على تقوية باعث الدين بأمور منها:(65/9)
أن تعلم أن الجزاء من جنس العمل
الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن، والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
من جملة شهود غضبه وانتقامه تبارك وتعالى، وأجارنا الله وإياكم من غضبه ومن ناره أن تعلم أن الجزاء من جنس العمل، فإذا علمت ذلك وخشيت أن الله تبارك وتعالى إذا غضب عليك لا يرحمك أحد؛ كان ذلك باعثاً على زيادة دينك وهادماً لشهواتك.
واعتبر بالحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول لأصحابه: هل رأى أحد منكم رؤيا؟ فقال لنا مرة: أتاني آتيان بعد صلاة الغداة -أو قال: ذات غداة- فانطلاقا بي، فإذا رجل مضطجع ورجل آخر قائم بصخرة عظيمة يهوي بها على رأسه، فيثلغ بها رأسه، فيتدهده الحجر، فيذهب ليأتي به، فيرجع بهذه الصخرة ويضربه مرة أخرى.
قلت: سبحان الله! ما هذان؟ فقالا لي: انطلق انطلق.
قال: فجئت فإذا رجل مضطجع على قفاه، وآخر معه كلوب من حديد -الكلوب: خطاف- فيشرشر شدقه إلى قفاه -ينزعه من شدقه إلى قفاه- ومن منخره إلى قفاه، ومن عينه إلى قفاه، ثم يذهب إلى الشق الآخر فيشرشره إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، فما أن يشرشر هذه الناحية حتى تعود الأخرى صحيحة فيرجع عليها وهكذا.
قلت: سبحان الله! ما هذان؟! قال لي: انطلق انطلق.
قال: فجئت رجلاً يسبح في بحر من دم، وعلى شاطئ البحر رجل عنده صخر كثير، يسبح ويجيء، فيلقمه الواقف على الشاطئ حجراً فيلتقمه ويدور ثم يجيء، فيرميه بحجر يلتقمه وهكذا.
قلت: سبحان الله! ما هذان؟! قال لي: انطلق انطلق.
قال: وجئت فرأيت تنوراً -فرن من الأفران العظيمة- وفيه رجال ونساء عراة، ولهب يأتيهم من أسلف، فإذا وصل إليهم اللهب ضوضوا -صرخوا- فقلت: ما هؤلاء؟! قالا لي: انطلق انطلق)، وساق بقية الحديث.
ما أريده هو هذا الجزء من الحديث: الرجل الأول فسره الملكان للرسول عليه الصلاة والسلام (رجل مضطجع، وآخر معه صخرة عظيمة يضربه بها، فيثلغ رأسه، ويتدهده الحجر) هل تعرف ما معنى يتدهده؟ يعني يصير رملاً، هذا الصخر العظيم من هول الضربة يصير رملاً، فقالا له: هذا هو الذي ينام عن الصلوات المكتوبات، والجزاء من جنس العمل، ثقل رأسه فلم يجب المنادي، لم يجب داعي الله، فكان هذا هو الجزاء، ولقد أخذ بعض الجزاء في الدنيا، قال صلى الله عليه وسلم: (ما من رجل ينام ليله كله إلا بال الشيطان في أذنه) وإذا نام الإنسان يعقد الشيطان على قفاه ويقول: (نم، عليك ليل طويل).
فأما الرجل الثاني المضطجع على قفاه، وآخر قائم بالكلوب يشرشر شدقه، فقالا له: هذا الرجل يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق.
أما الرجل الثالث -الذي يسبح في بحر من الدم، والآخر يلقمه حجراً- فذلك آكل الربا، الذي مص دماء الناس وأموالهم، وهو يسبح فيها الآن في البرزخ، هذا الذي يسبح فيه دماء الخلق التي مصها، ثم هو لم يخرج بشيء من دنياه إلا الحجر: {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ} [البقرة:264] صفوان عليه تراب يغرك منظره، تراب كنت تظنه أرضاً صالحة، يأتيه الوابل -الذي هو المطر الغزير- فيدعه صلداً، وتكتشف أن هذا مجرد حجر لا يصلح للزراعة، والحجر لا ينفع، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر) يعني: الولد لا ينسب إلا إلى فراش الزوجية الذي أتى بعقد صحيح، مثلاً رجل تزوج امرأة بعقد صحيح.
فأولدها، فهذا الولد الذي جاء على فراش الزوجية بالعقد الصحيح ينسب إلى أبيه، ولو أن رجلاً زانياً فجر بالمرأة على فراش زوجها وأولدها ولداً، فإن الولد لا ينسب إلى الزاني، باتفاق العلماء، وينسب إلى أمه وليس إلى أبيه، فهذا ينزل بمنزلة الأنعام.
حسناً: (الولد للفراش) والعاهر الذي فجر بالمرأة ما هو جزاؤه؟ أو ما هي الفائدة التي حصلها؟ قال صلى الله عليه وسلم (وللعاهر الحجر) أي: الذي لا قيمة له، يعني أخذ الخيبة والخسران.
فهذا هو حال آكل الربا وهذا هو مآله -والعياذ بالله- فاحذروا البنوك وفوائد البنوك، فإنها ربا، ولا تسمعوا للمفتي، ولا لشيخ الأزهر ففوائد البنوك ربا! حرام! ومن وضع ماله في بنك فليخرجه، وليتقِ الله عز وجل لا يأكل حراماً، هكذا أفتى كل العلماء الذين تعقد عليهم الخناصر، وهذه هي الفتوى الرسمية للأزهر، وأيضاً هي الفتوى الرسمية لمجمع الفقه في مكة، وفي دبي، وفي المغرب، وقد اتفقوا على ذلك.
وأما التنور الذي فيه رجال عراة ونساء عرايا، قال صلى الله عليه وسلم: (هم الزناة والزواني) عادت نار الشهوة -التي كان يشعر بها في قلبه- تنوراً يحرقه، آه لو صبر وفعل ما أمر به -كالصيام مثلاً- لكسر حدة شهوته وفاز ونجا من ذلك الهول العظيم.
فليستحضر العبد العاقل مثل هذه المشاهد، فإن ذلك فيه تقوية على باعث الدين، وفيه هدم -أيضاً- لباعث الشهوات.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.(65/10)
استحضار مشهد غضبه وانتقامه
إذا لم تؤثر فيك محبته ولا إحسانه وإنعامه؛ استحضر مشهد غضبه وانتقامه، والله عز وجل إذا غضب على أحد لا يقوم لغضبه شيء، فضلاً عن هذا العبد الضعيف.
واعتبر بحال الجبل الذي تجلى الله له، ما غضب عليه، وإنما تجلى فقط فجعله دكاً، فلا يقوم شيء لغضبه أبداً فضلاً عن هذا العبد الضعيف.
واعلم أن العقوبة من جنس الفعل، فإذا علمت ذلك خفت من الله عز وجل، فإن قوماً لا يؤثر فيهم القرآن يؤثر فيهم السلطان؛ كما قال عثمان رضي الله عنه: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) مات أناس أصحاء أقوياء ما مرضوا قط، وصاروا تراباً وأكلتهم الأرض، وإذا شعرت بهذه القسوة فلابد أن تتدارك الخطر الداهم على هذا القلب، كيف لا تذهب إلى رجل وتقول له: قلبي قسا، ما علاجه؟ إن ميمون بن مهران -رحمه الله، وكان كاتباً لـ عمر بن عبد العزيز رحمه الله ورضي عنه- قال لابنه عمرو: (يا بني! خذ بيدي -وكان قد كف بصره- واذهب بي إلى الحسن البصري.
قال: فانطلقت به أقوده، فاعترضنا جدول ماء - (جدول ماء) يعني: قناة ماء، والرجل لا يستطيع أن يمر- قال: ففرشت نفسي على القناة فعبر عليَّ الشيخ، وانطلقت أقوده حتى ذهبنا واستأذنا على الحسن، فخرجت جارية الحسن فقالت: من؟ فقال لها: عمرو بن ميمون.
قالت: كاتب عمر بن عبد العزيز؟ قال: نعم.
قالت: يا شيخ السوء ما أبقاك إلى هذا الزمان السوء؟! فبكى عمرو وعلا نحيبه؛ فخرج الحسن على بكائه فاعتنقا، فقال عمرو: يا أبا سعيد! شعرت بغلظة في قلبي فجئتك، هل أصوم لها -يستشيره هذه الغلظة التي وجدتها في قلبي علاجها أن أصوم لها-؟ يا أبا سعيد، قل لي شيئاً، فقال الحسن: بسم الله الرحمن الرحيم، {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205 - 207] فخر ميمون بن مهران مغشياً عليه، فجعل الحسن يفحص رجله كما تفحص رجل الشاة المذبوحة، وأفاق بعد مدة، فخرج ميمون مع ابنه عمرو، فقال ابنه له: يا أبتي! أهذا الحسن -يعني: هذا الرجل الضخم الذي أنت تصفه لي-؟ قال: نعم يا بني.
قال: ظننته أكبر من ذلك.
قال عمرو: فوكزني أبي في صدري، وقال: يا بني! لقد تلا آية لو تدبرتها لألفيت لها كلوماً في قلبك -لألفيت لها جراحاً في قلبك-).
وتأمل! ميمون الثقة الثبت، الإمام الكبير العلم، يذهب إلى الحسن يقول له: (آنست في قلبي غلظة)، قلبك لا يموت فجأة، فكيف قصرت في الدفاع عن هذا القلب الذي حياتك الأبدية متعلقة بسلامته من سهام الشيطان التي لا تكف عنك طرفة عين، تركته غرضاً للسهام ثم تبغي النجاة! أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(65/11)
استحضار عظمة الله سبحانه وتعالى والحياء منه
الأول: أن تستحضر جلال الله عز وجل، وأنه يراك حين تعصيه، فإن القلب إذا قام في هذا المقام لا يقوى على معصية الله أبداً: والنبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فقال: (عظني.
قال: استحي من الله كما تستحيي من رجل من صالحي قومك)، أي: فإنك لا تجرؤ على أن تعصي الله وتأتي بالقبائح أمام الصالحين، فليكن جلال الله في قلبك أفضل وأقوى من إجلالك لهذا الرجل الذي تستتر وراء الجدار وتغلق الباب حتى لا يراك؛ حياءً منه، فالذي لا يغفل عنك طرفة عين ولا ما دونها أولى بالحياء.
وروى عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد بسند صحيح عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: (سمعت أبا بكر يخطب على المنبر فيقول: يا أيها الناس! استحيوا من الله، فوالله إنني لأتقنع -يعني: يتلثم بعمامته- إذا خرجت إلى الخلاء؛ حياءً من الله عز وجل) وهو يقضي حاجته حياءً من الله تبارك وتعالى فهكذا فليكن الحياء.(65/12)
محبته سبحانه وتعالى
ثانياً: استحضر مشهد محبته تبارك وتعالى، وأن المحب لا يعصي من يحبه، وأن الطاعة أسهل ما تكون على المحبين، وأن خدمة المحب متعة، يصلي ويستمتع، يخرج من حر ماله ويستمتع، يناله ما يناله من الأذى وهو مستمتع! (دخل بعض السلف على أخيه وهو مريض فسمعه يئن، فقال له: ليس بمحب من لم يصبر على ضرب حبيبه.
فقال له الرجل: صدقت، بل ليس بمحب من لم يلتذ بضرب حبيبه!)، فنقلها إلى نقلة أعلى وأفضل، وليكن لسان حالك: (لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك) إذا كنت محباً استعن بهذا الحب على تقوية باعث الدين ودحر باعث الشهوات.(65/13)
استحضار إحسانه سبحانه وتعالى
ثالثاً: استحضر إحسان الله إليك، وأنه المبتدئ عليك بنعمه قبل أن تستحقها، وليس من شيمة الكريم أن يرد الإحسان وأن يعقبه بالإساءة، فاستحضر إحسانه عليك: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34] لا تستطيع أن تعدها في بدنك فضلاً عن السماوات والأرض، {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57]، استحضر أسماءه وصفاته وآثارها في الكون، لا تعصه طرفة عين، هو لا يستحق منك ذلك، وهو المتفضل عليك.
واعتبر بحياة الناس: إذا لم تعلم صفات الرجل ما الذي يغضبه، وما الذي يحبه؛ فلا تستطيع أن تمد جسور الود بينك وبينه، كما أنك لا تستطيع أن تستلب قلوب الناس إلا إذا علمت ما يحبون فتفعله، وما يكرهون فلا تفعله، وقد ذكر العلماء في ترجمة شريح القاضي رحمه الله أنه جالس الشعبي عامر بن شراحيل، وكلاهما من التابعين الكبار، فقال له الشعبي: (يا شريح! كيف حالك مع أهلك -مع زوجتك-؟ قال: والله -يا شعبي - تزوجتها منذ عشرين عاماً فما رأيت منها سوءاً قط.
قال له: وكيف ذلك؟ قال: في الليلة التي دخلت بها رأيت جمالاً نادراً وحسناً فتاناً أخاذاً، فقلت: لأتطهرن وأصلين لله تبارك وتعالى شكراً، فقمت فتطهرت وصليت، فلما سلمت وجدتها صلت بصلاتي وسلمت بسلامي، فمددت يدي نحوها، فقالت: على رسلك يا أبا أمية -ويستحب للزوجة إذا نادت زوجها أن تناديه بكنيته، كما قالت امرأة إبراهيم عليه السلام: {أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود:72] (بعلي): والبعل هو السيد، وكانت امرأة أبي الدرداء إذا نادته تقول له: يا سيدي- قالت: على رسلك يا أبا أمية، فإنني امرأة غريبة، وابتدأت الخطبة، فقالت: إن الحمد لله نحمده، ونستعين به ونستغفره، وأصلي وأسلم على محمد وآله.
أما بعد: فأنت رجل غريب عني وأنا غريبة عنك، ولا علم لي بأخلاقك، فقل لي ما تكرهه فأجتنبه، وما تحبه فأفعله، وقد ملكت فافعل كما أمرك الله عز وجل: {إمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229]، واعلم أنه في قومك من كانت كفئاً لك وتستحقك، وكان في قومي من كان كفئاً لي ويستحقني، ولكن إذا أراد الله شيئاً فعل أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
قال شريح: فأحوجتني والله يا شعبي إلى الخطبة -أي: أنها خطبَتْ خطبة عصماء! فهو سيخطب في مقابلها خطبة أخرى- فقال: إن الحمد لله نحمده، ونستعين به ونستغفره، وأصلي وأسلم على محمد وآله.
أما بعد: فقد قلتِ قولاً لو ثبتِ عليه نفعكِ، وإن كنتِ تدعينه كان حجة عليك، أحب كذا وأكره كذا.
فقالت له: وكيف صلتك بأهلي -أي: الزيارات لأهلها-؟ قال: لا أحب أن يملني أصهاري -يعني: نجعل الزيارات متباعدة-.
قالت: وجيرانك؟ قال: بنو فلان قوم صالحون، وبنو فلان قوم سوء، قال: وبت معها بأنعم ليلة، وعشت معها عشرين عاماً ما اختصمت معها إلا في مرة واحدة، وكنت ظالماً لها).
لماذا عِشرة عشرين سنة بلا مشاكل؟ لأنها تعرفت على صفاته، يكره كذا ويحب كذا، كذلك الله -وله المثل الأعلى- يكره كذا ويحب كذا، فلا يراك حيث نهاك، ولا يفتقدك حيث أمرك، وهذا في الناس مثل ضربته، ولله المثل الأعلى، قال لك: افعل كذا وكذا، فكيف لا تفعل؟ ونهاك أن تفعل كذا وكذا، فكيف تجرأت على الفعل؟(65/14)
لا يستوي الطائع والعاصي عند الله
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آله محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
سابعاً: إن شهود أسماء الله عز وجل وصفاته في الكون من أعظم البواعث على تقوية باعث الدين، وعلمك أن الله عز وجل لا يسوي بين الطائع والعاصي، وأن الله تبارك وتعالى منتقم وشكور، ولا يظلم مثقال ذرة، لما تجمع هؤلاء الثلاثة؛ هذا يكون حافزاً لك على الإحسان، قال عز وجل: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21] هكذا قرأ حمزة والكسائي وخلف وحفص عن عاصم، وقرأ بقية السبعة كـ نافع وابن كثير وأبي عمرو بن العلاء - (سواءٌ محياهم ومماتهم) وهناك فرق عظيم بين القراءتين: أما (سَوَاءً): فهي داخلة مسبوكة في معنى الآية (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا) اجترحوا: يعني اكتسبوا، ومنها الجوارح، (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ): فيقول: هم يتصورون ممات الكافرين كممات المؤمنين، وحياة الكافرين كحياة المؤمنين! إذاً المعنى جاء مسبوكاً في بقية الآية أولها، وآخرها (ساء ما يحكمون) طبعاً لا يمكن.
وعلى قراءة: (سواءٌ) بالرفع، تقرأ هكذا {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية:21] وتقف {سَوَاءٌ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} [الجاثية:21] فـ (سواء) خبر مقدم، أي: أن حياة الكافرين ومماتهم واحد، هو ميت قبل أن يموت، هذا الجسم الذي تراه عبارة عن قبر متحرك لقلب ميت، {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ} [النمل:80 - 81] قرأ حمزة وغيره ((وما أنت تهدي العمي عن ضلالتهم)) إذاً هؤلاء هم المقصودون بقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80]، {سَوَاءٌ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21].
فإذا كنت على معرفة جازمة أن الله عز وجل لا يسوي أبداً بين الطائع والعاصي، ثم كما هو تبارك وتعالى من لطفه أن نصب لك الأدلة ونصب لك الثواب والعقاب؛ حتى لا تقول: يا رب! أخذت على حين غرة.
قال تبارك وتعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ} [القلم:44 - 45] (أملي لهم): يمد لهم حبال الأماني، وقال تعالى: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ:35] هذا استدراج، يزين له المعصية ويقيم الدلائل عليها، لو كان ربنا يكرهنا لحرمنا من الأولاد والمال، ولكنه أعطانا الأولاد حتى نتقوى، والأموال لنفعل ما لذ وطاب، إذاً أكيد هو يحبنا {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104] كلمة (يحسبون) أي: يقيمون الشبهة دليلاً ويتكئون عليها.
وكما قالت اليهود والنصارى: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] فرد الله سبحانه وتعالى عليهم الرد الدامغ الذي لا يخطئه أبداً ذو عقل: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة:18] أي: أن الحبيب يتجاوز عن الذنب -هذا معنى الآية- فإن كنتم أبناء الله وأحباؤه فعلاً يعذبكم بذنوبكم؟ فالأصل أن يتجاوز، ولا يؤاخذ ولا يعاقب كما ذكر الله عن يوسف وإخوته: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} [يوسف:91 - 92] (الحبيب لا يرى ذنباً، والبغيض لا يرى حسناً).
وهذا ترجمة المثل العامي: (حبيبك يبلع لك الزلط، وعدوك يتمنى لك الغلط) الزلط -الحصى- الذي لا يُبلع -أصلاً- صديقك يبلعه؛ لأنه حبيب.
فالله تبارك وتعالى نصب الأدلة، وبين لك منذ البدء أنه بينك وبين هذا الشيطان عداوة قديمة، وأن الله تبارك وتعالى مكنك من الشيطان بكلمة واحدة فقط: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، فأنت أقدر على شيطان الجن منك على شيطان الإنس، شيطان الجن بمجرد أن تستعيذ بالله منه يولي الأدبار، أما شيطان الإنس فلو جلست وقرأت عليه القرآن كله؛ يقول لك: الآية هذه معناها كذا وهذه معناها كذا، والعلماء قالوا كذا، والعالم الفلاني قال كذا يشوش عليك، وإذا قلت له: أعوذ بالله من شرك؛ يقول لك: {إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] وبرغم أن شيطان الجن أقوى، ولديه إمكانات وصلاحيات أن يصير كالجبل العظيم أو كالذر يجري في الدم! ومع ذلك أول ما تقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) يولي الأدبار، ويضعف كيده وبأسه.
إذاً: الله تبارك وتعالى مكنك منه، ثم أبان لك عداوته، والرسول عليه الصلاة والسلام ترجم هذه العداوة في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه في الصحيحين، قال صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود يولد إلا وينخسه الشيطان؛ لذلك يستهل صارخاً) يصرخ؛ لأن الشيطان ينخسه، وما زال أبيض الصفحة، لم يفعل شيئاً، كأن الشيطان بهذه النخسة يقول له: أنا إنما نصبت لك، ولن تفلت مني.
يذكره به، يقول له: هذه نخسة لكي أذكرك.
فما من مولود يولد إلا يستهل صارخاً بسبب نخسة الشيطان، إلا مريم وابنها، واقرءوا إن شئتم: {إِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران:36].
هذه العداوة بينها ربنا سبحانه وتعالى في القرآن -على أنها عداوة ظاهرة- ولا تخفى أبداً إلا على أعمى القلب.
ثم يقول الله تبارك وتعالى بعد ما بين العداوة: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50]