الأحاديث التي تخبر عما سيكون من أمر الدجال
جاءت أحاديث تخبر عما سيكون من أمر الدجال، هذه الأحاديث تدل في مجملها على التالي: مكان خروجه، والجمع بين الروايات يدل على أنه يخرج أولاً في خراسان، ثم يخرج من طريق بين الشام والعراق، وأما لبثه في الأرض، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنه يمكث في الأرض أربعين يوماً، يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كأسبوع، وسائر أيامه كأيامنا هذه، لا يبقي أرض إلا يطؤها إلا مكة والمدينة) ومن هنا قال العلماء: إن من أسباب العصمة من فتنة الدجال سكنى مكة والمدينة.
(وأنه يمكث في الأرض سرعته في التنقل كالغيث استدبرته الريح) كما قال صلى الله عليه وسلم.
قلنا من قبل أنه وجد أفراد ادعوا الألوهية كفرعون والنمرود، لكن فرعون والنمرود لم يأتوا بدلائل تدل على أنهم يملكون شيئاً من الربوبية، أما هذا فهو قطعاً لا يملك شيئاً من الربوبية، لكنه يملك فتناً تلبس على الناس، ولهذا وصفت فتنته بأنها أعظم فتنة، قال صلى الله عليه وسلم: (أو الدجال فشر غائب ينتظر) يمر على القرية الخربة فيدعو أهلها إلى الإيمان به فيستجيبون، فلا يكلف نفسه أن يبحث عن كنوزها، وإنما يخرج منها فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل -كذكور النحل- تخرج لوحدها، ويأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت، فيعود ذلك بالنفع على أهل تلك القرية وعلى أهل تلك البلدة، ويمر على القرية فيدعو أهلها فلا يجيبون فيتركهم مرملين مجدبين لم يبق عندهم شيء، وفي هذا فتنة.
ومعه نهران: نهر ماء أبيض رأي العين، ونهر نار تتأجج رأي العين، فقال صلى الله عليه وسلم: (فإن أدركن أحدكم ذلك -أي: ذلك اليوم، وذلك النهرين- فليأت الماء الذي يرى أنه نار تتأجج فإنه ماء) ثم انظر إلى شفقته صلى الله عليه وسلم بأمته، قال يوصي الذي يدرك هذا اليوم، قال: (وليغمض عينيه)؛ لأنه إذا فتح عينيه سيراها ناراً عياناً، ولا يمكن عندها أن يقدم، وسيحجم على أن يأتيها، فحتى يأتي الحق أمره صلى الله عليه وسلم ونصحه بأن يغمض عينيه، كما تسقي ابنك الدواء أحياناً فإنك تعطيه إياه بطريقة يغلب على ظنك أنك لو أعطيته إياه بصورة واضحة لما قبله، فتعطيه إياه بصورة يقبلها فيها.
والمقصود من الحالين من ضرب المثال ومن الحال الأول قضية الوصول إلى النفع، قال صلى الله عليه وسلم: (فليغمض عينيه فإنه ماء أبيض) أي ما يراه الناس نار تأجج.
على هذا من أعظم فتنته استجابة الجمادات له كما بينا، وهو مكتوب بين عينيه كفر، وإحدى عينيه كأنها عنبة طافية، أي: أنه أعور العين اليمنى، وهنا أنخ أيها المبارك! مطاياك لتعلم أن الله جل وعلا يرى في كل مخلوق نقصاً، فالكمال المطلق له جل وعلا وحده، فهذا الرجل يزعم أنه إله، ويأمر السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، والكنوز أن تخرج فتخرج، ويطوف على الأرض كلها في أربعين يوماً، ومع ذلك يعجز أن يمسح ما هو مكتوب على جبهته، بل يعجز أن يمسح أثر العور عن عينيه، حتى يظهر النقص فيه، وقد قلنا مراراً: إن الإنسان إذا أراد أن يعرف عظمة الله فلينظر النقص الذي في المخلوقين، فالنقص الذي في المخلوقين أياً كانوا من أهل الحق أم من أهل الباطل، يريك عظمة الخلاق جل جلاله، فقد خُسِفَ القمر ليرى الناس عظمة ربهم تبارك وتعالى، ويشج رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكسر رباعيته، ويدخل المغفر في وجنتيه لعلم الناس كمال وجه الله تبارك وتعالى، وعلى هذا قس ما تراه من حوادث يدلك على عظمة الخالق تبارك وتعالى.
فهذا المخلوق على ما فيه من جبروت وعلى ما أعطي من خوارق إلا أنه يعجز أن يمسح أثر الكفر من على جبهته، وأثر الأذى والعور من عينه، قال صلى الله عليه وسلم: (مكتوب بين عينيه: كفر، يقرؤها كل مؤمن ويغيب عن قراءتها كل كافر ومنافق).
يأتي المدينة فينزل في سباخها، فإذا نزل في سباخها يخرج له رجل شاب من أهل المدينة جمع بين العلم والإيمان، فيسأل الذين يحيطون بالدجال ممن آمنوا به من السذج عن هذا الرجل الدجال فيقولون له: إنه ربنا، فيكفر به، فيريدون أن يقتلوه، ثم يرون عليه ما يرغبهم أن يقدموا به على ربهم الذي يزعمون، ويريدون أن يستأذنوه فيقبل الدجال أن يدخل عليه؛ لأن الدجال يهمه أن يؤمن مثل هذا به، فيخرج هذا الرجل وقد جمع علماً وإيماناً، ولا يمكن أن تواجه الفتن إلا بهذين: بالعلم والإيمان.
فعندما يقدم إليه يقول له الدجال إنه الإله، فيقول له: بل أنت الدجال الذي أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فيقتله الدجال ويجعله قطعتين، بينهما رمية الغرض، هكذا قال صلى الله عليه وسلم، ورمية الغرض هي المسافة التي يجعلها الإنسان بينه وبين الهدف الذي يتخذه لسهمه، فمن أراد أن يتعلم الرماية يتخذ غرضاً يصيبه ثم يبتعد عنه حتى يرميه، فهذا الدجال يقسم ذلك الفتى ثم يفرق قسميه مقدار رمية الغرض، والناس ينظرون، وهذا من أعظم الفتن، ثم يحييه فيقوم حياً، فيقول الدجال: ما تقول في؟ فيقول: ما ازددت بك إلا كفراً، أنت الدجال الذي أخبرنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
فيريد أن يقتله قتلاً حقيقياً فلا يسلط عليه، ويرى على ترقوته -على رقبته- نحاساً، فيقيده ويرميه في نهر يعتقد أنه نار، والحق أنه رماه في نهر يؤدي به إلى الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (هذا -أي: الشاب- أعظم الناس شهادة عند رب العالمين)؛ لأنه لا يوجد شيء ندعو إليه أعظم من التوحيد، وشهادة هذا الرجل أجلت للناس أمر التوحيد وبينت لهم كذب هذا الرجل -أي: الدجال- وبينت لهم أن الله جل وعلا منزه عن العيب والنقائص، وأنه لا يمكن لمؤمن أن يرى ربه قبل أن يموت، وبهذه الشهادة التي قام بها هذا الشاب قال صلى الله عليه وسلم: (هذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين).(29/5)
نزول المسيح عيسى وقتله الدجال
ويحاول الدجال أن يدخل المدينة أو مكة، فتمنعه الملائكة، ثم يعود إلى أرض فلسطين، ينزل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، وعيسى بن مريم أحد أنبياء بني إسرائيل، أو بتعبير أوضح آخر أنبياء بني إسرائيل، ينزل واضعاً يديه على أجنحة ملك، ولا يحل لكافر إذا رآه إلا أن يموت، فيراه الدجال فيميع عدو الله كما يميع الملح في الماء، ومع عيسى عليه الصلاة والسلام حربة فيقتله بها حتى يثبت للناس ويجلو ما في القلوب من الأثر الباقي من رهبة الدجال، فيموت الدجال ويهلك على يد المسيح عيسى بن مريم صلوات الله وسلامه عليه.(29/6)
طرق النجاة من فتنة المسيح الدجال
فكما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم مكان خروج الفتنة هذه، ولبثها في الأرض، علمنا صلوات الله وسلامه عليه كيفية النجاة منها، من أعظم طرائق النجاة منها: كثرة ذكره والتحذير منه في المنابر، وهذه سنة الأنبياء من قبل سنها نوح، وتبعه الأنبياء من بعده يحذرون أممهم من هذا الكذاب الدجال.
الأمر الثاني: الاستعاذة بالله منه، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وأوصى أمته أن يستعيذوا بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المسيح الدجال، ومن فتنة المحيا والممات.
الأمر الثالث: قراءة فواتح وخواتيم سورة الكهف، فقد قال العلماء: إن المناسبة ما بين قراءة فواتح سورة الكهف وما بين التخلص من فتنة الدجال أن في فواتح سورة الكهف أخبر الله جل وعلا قصة أصحاب الكهف الذين نجاهم الله جل وعلا من ذلك الملك الظالم، فينجي الله جل وعلا من أدرك الدجال من فتنته بقراءة أخبار أولئك الأخيار الأبرار الذين حكاهم الله في القرآن، وأخبر الله جل وعلا أنهم استعاذوا بربهم ولجئوا إليه، فنجاهم الله جل وعلا من تلك الفتنة: {فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف:10].
كما أخبر صلى الله عليه وسلم بأن الإنسان ينبغي عليه ألا يعمد إلى الخروج إليه، خوفاً من أن يقع فيه، ومن هنا قاس العلماء أن الإنسان ينبغي عليه أن يفر من الفتن كلها، وألا يقربها حتى يتمكن من البقاء على دينه، وأن يعصم نفسه، فلا ينبغي لعاقل أن يقتحم أبواب الفتن، ظناً منه أن ينجو.
من الطرائق كذلك كما حررنا: سكنى مكة والمدينة؛ لأن الله جل وعلا حرم على الدجال تحريم منع وشرع أن يدخل المدينة، فسكناها في الغالب يقي من الدجال، ومن كتب الله عليه الضلالة فلو سكنها فوقع في قلبه المرض فإنه سيخرج إليه كما أخبر صلى الله عليه وسلم أن المدينة ترجف بأهلها وقت خروج الدجال، فيخرج منها كل كافر ومنافق يتبع ذلك المسيح الدجال.
هذا ما يتعلق بفتنة المسيح الدجال على وجه الإجمال، ويسوقنا الأمر بعد ذلك إلى أحاديث عدة نحررها فيما يلي: الغيب لا يعلمه إلا الله، والله جل وعلا أخفى عنا الساعة، والقيامة تطلق علمياً على ثلاثة: على موت الإنسان، وهذه دل عليها قوله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الأثر: (من مات فقد قامت قيامته)، والأمر الثاني: هي التي يكون فيها فناء الدنيا، وهذا هو المقصود بالساعة إذا صرفت وأطلقت، قال الله جل وعلا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:187].
وتطلق القيامة على الأمر الثالث وهو: بعث الأجساد ووقوف العباد بين يدي ربهم جل وعلا، هذا الموطن الثالث الذي تصرف إليه كلمة القيامة في القرآن والسنة، وهذا الغيب أخفاه الله جل وعلا عن كل أحد، لكنه جعل له أشراطاً وعلامات، قال الله جل وعلا: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد:18] ومن أعظم أشراطها خروج المسيح الدجال كما أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم.
ولا يخرج الدجال إلا وقد حصل المسلمون قبل خروجه على نصر عظيم، يكون أكثر الأرض قد وطد، وعلا شأن الإسلام، وفتحت القسطنطينية، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم في قوله: (هل سمعتم بمدينة نصفها في البر ونصفها في البحر؟ قالوا: نعم يا رسول الله، فأخبر أنه سيفتحها سبعون ألفاً من بني إسحاق) أي: من الروم، وهذا يدل على أن أكثر الروم قبل الدجال يدخلون في الإسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه بعد فتحها -أي: هذه المدينة- يخرج الدجال في الناس، فهذا يدل على أنه يخرج بعد انتشار الإسلام.
واليهود لهم دور كبير في خروجه، قال صلى الله عليه وسلم: (يتبعه سبعون ألفاً -أي: الدجال- من يهود أصبهان).(29/7)
خروج الدجال أثناء ظهور المهدي
وخروجه يزامن خروج المهدي، والمهدي رجل من عترة النبي صلى الله عليه وسلم من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوافق اسمه اسم النبي صلى الله عليه وسلم، أجلى الجبهة أقنى الأنف، يخرج في آخر الزمان يملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً، يحارب الدجال.
وبينما هو يريد أن يصلي بالناس بصلاة العصر ينزل المسيح عيسى على ظاهر الروايات، فيتأخر المهدي فيأبى عيسى إلا أن يقدمه، لا لأنه أفضل من عيسى، فعيسى عليه الصلاة والسلام نبي، ولا يمكن أن يقارن بأحد من أتباع الأنبياء ولو عظم، لكن يقدم لسببين: تكرمة لله جل وعلا لهذه الأمة، قال صلى الله عليه وسلم: (أما وإن منكم من يصلي عيسى بن مريم خلفه)، والأمر الثاني: أن هذا الرجل يحفظ القرآن، وعيسى إنما أنزل بالإنجيل، والقرآن مقدم على الإنجيل، لكن لا يعني ذلك أن عيسى لا يعلم القرآن، فيتقدم المهدي بعد أن يكون عيسى عليه السلام قد قتل المسيح الدجال كما بينا.(29/8)
ما يستفاد من ذلك
من هذه الأخبار التي أخبر عنها صلى الله عليه وسلم تتضح أمور، أعظمها أن الهداية بيد الرب تبارك وتعالى، وهذا أكثرنا القول فيه لخطر أمره، ولاشتداد الحاجة إليه، وينبغي أن يعمد الناس إلى الاستغاثة بربهم والاستعانة به، وسؤال الله جل وعلا الثبات في الفتن، والصبر على المحن، وحسن الوفادة عليه جل وعلا، فتلك من أعظم المطالب، وأسمى الغايات التي يرجوها العبد من ربه.
الأمر الثاني: أن يعلم العبد أن الناس منهم أئمة في الخير ومنهم أئمة في الشر، وكلمة إمام لوحدها لا تعني مدحاً ولا تعني ذماً، قال الله جل وعلا عن فرعون وآله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} [القصص:41]، وقال الله جل وعلا عن الصالحين من خلقه: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]، فكما أن المسيح الدجال داعية لفتنة عظيمة فإن عيسى بن مريم داعية هدى ورشد، وداعية إلى الخير صلوات الله وسلامه عليه، والإنسان يتأمل نفسه وينظر صنيعه، ويحاسب ذاته في أقواله وينظر هل هو ممن يدعون إلى الخير ورأس هدى في البر، أو هو ممن تنكر الطريق وسلك طريق الأشرار، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
الكذب أيها المؤمنون مطية سوء، ولهذا المسيح الدجال عرف بالكذب وهو أعظم ما عرف به، وأعظم الكذب الكذب على الرب جل وعلا، وادعاء الألوهية، وهذا الكذب المحض الذي يرقى إليه شيء، وهو داخل في قول الله جل وعلا: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:169].
والإنسان مهما علا سلطانه وعظم بنيانه، وفخر بأي شيء آتاه الله جل وعلا إليه فإن مصير الخلق كلهم إلى زوال، ثم تبقى الأمور واحدة من ثلاثة: ما لا يكون بالله لا يكون، وما يكون لغير الله يضمحل ويفنى ولا يبقى له أثر، وما يكون بالله ولله هو الذي يبقى نفعه وإن ذهب أثره ينفع الله جل وعلا به من يشاء من عباده.
هذا ما أعان الله جل وعلا على قوله حول فتنة المسيح الدجال.(29/9)
وقفات مع بدايات سورة الزخرف
ننتقل إلى آيات أخرى نفسرها لسبب واحد، وهو أن فتنة الدجال محدودة الكلم، والناس ينتفعون بها مقدار واحد، لكن إذا كانت مثل هذه اللقاءات واجتمع الناس يخرج الإنسان ويتوسع في الحديث، رغبة في نفع نفسه ونفع غيره من المؤمنين، فنقف الآن على بعض آيات في كلام الله جل وعلا نفسرها نفعاً لمن حضر.
قال الرب تبارك وتعالى في سورة الزخرف: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:1 - 3] في هذه الآية فائدة علمية، وقد تمسك بها المعتزلة في أن القرآن مخلوق، إذ قالوا: إن (جعل) بمعنى: خلق، واحتجوا بأن الله جل وعلا قال: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1]، والمعنى خلق الظلمات والنور، وهذا القول الذي ذهبوا به باطل من وجوه: وهو أنه قبل أن شرع في بيانها نأخذ نظير لها، ثم نطبق هذا النظير على هذه الآيات التي بيننا.
ثمة أفعال لا يتضح معناها إلا من سياقها، فمثلاً قال الله جل وعلا: {انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} [الأنعام:99]، فأخبر جل وعلا بمثل هذا، والمقصود به النظر بالعين الباصرة، لأن الفعل (نظر) هنا تعدى بحرف الجر (إلى)، قال الله جل وعلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] فالفعل نظر إذا تعدى بحرف الجر إلى يكون المعنى: النظر بالعين الباصرة، وإذا تعدى بحرف الجر (في) فإن المقصود به: التدبر والتأمل، يقول أحدكم: نظرت في أمري، يعني: تفكرت فيه، ولو كان لا يرى بالعين في المعنويات.
وقال الله جل وعلا عن أهل النفاق إنهم يقولون يوم القيامة: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] فلم يتعدى الفعل هنا لا بـ (إلى) ولا بـ (في)، فيصبح معناه أي: أمهلونا، من هنا نفهم أن أمهات الأفعال لا تعرف إلا في سياقها وما تعدت به، وكذلك الفعل (جعل) جاء في القرآن على أضرب عدة، فقد جاء بمعنى: سمى، قال الله جل وعلا: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف:19] أي: سموا الملائكة إناثاً، ويدل عليه قول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى} [النجم:27].
ويأتي بمعنى صير، ومنه قول الله جل وعلا حكاية عن القرشيين في سورة (ص): {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5] فجاء الربط هنا بالفعل جعل، ومعلوم أن القرشيين لا يقصدون بقولهم عن نبينا صلى الله عليه وسلم: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5] أنه خلقها، وإنما قصدوا أنه صيرها إلهاً واحداً.
وجاء جعل في القرآن بمعنى: خلق، قال الله جل وعلا: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:189].
يتحرر من هذا وفق قواعد العرب أن الفعل جعل إذا تعدى إلى مفعولين يكون بمعنى التصيير، وإذا تعدى إلى مفعول واحد يكون بمعنى الخلق، فقول الله جل وعلا: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:3] تعدى إلى مفعولين، فلا يكون بمعنى الخلق، فلا يصبح هناك حجة لمن زعم أن القرآن مخلوق، هذا إذا استصحبنا كذلك الأصل العظيم، وهو أن الله جل وعلا أخبر في قرآنه في آيات عديدة أن هذا القرآن منزل من عند الله تبارك وتعالى.
الفائدة الثانية: قال الله جل وعلا في الإسراء: {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ} [الإسراء:105] ثم قال: {وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الإسراء:105]، والفرق بين المعنيين: {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء:105] بالحق أنزلناه أي: أنزلنا هذا القرآن متضمناً للحق، فالقرآن صادق في أخباره، عدل في أوامره ونواهيه، قال الله جل وعلا: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115].
أما قول ربنا جل وعلا: (وبالحق نزل) فهذا مثل من تبعثه برسالة تريد منها أن يوصلها إلى غيره، فحتى تصل رسالتك إلى غيره على النحو الأتم والوجه الأكمل لابد من توفر أمرين: الأمر الأول: أن يكون هذا الرسول أمين، لا يزيد ولا ينقص في الرسالة، والأمر الثاني: أن يكون قوياً، لا يضعف أمام أحد فيغير في الرسالة، والقرآن نزل به من عند الله جبريل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فقول الله جل وعلا: (وبالحق نزل) تدل عليها آي التكوير، قال الله جل وعلا في الثناء على جبريل: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ} [التكوير:19 - 20] أي: لا يقدر أحد أن يجبر جبريل على أن يغير القرآن الذي معه وهو ينزل به على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن لجبريل أن يغيره من تلقاء نفسه؛ لأن الله قال بعدها: {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:21]، فجبريل قوي وأمين في آن واحد، فأمانته تنفي الخيانة، فلا يمكن لجبريل لما اتصف به من الأمانة بشهادة رب العالمين أن يغير في القرآن، ولا يمكن لأحد أن يستغل ضعفاً في جبريل فيغير القرآن؛ لأن الله جل وعلا بشهادته لجبريل وصفه بأنه قوي، قال الله جل وعلا: {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم:6] أي: ذو قوة، وقال جل وعلا: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير:19 - 20] فوصفه كذلك هنا بالقوة، وهنا يتحرر معنى قول الله جل وعلا: {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الإسراء:105].(29/10)
وقفات مع قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يبغون عنها حولا)
الآية الثالثة: قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف:107 - 108] الجنة دار أعدها الله جل وعلا للمتقين الأبرار، ذكراناً كانوا أو إناثاً، من دخلها ينعم فلا يبأس، ويخلد فلا يموت، لا يفنى شبابهم ولا تبلى ثيابهم، وهي قرة عين كل مؤمن، كما أن الدنيا لا تطيب إلا بذكر الله، فإن الآخرة لا تطيب إلا بعفو الله، والجنة لا تطيب إلا برؤية وجه الله.
يحبس أهلها على قنطرة، فيخلص ما في قلوبهم من غل، قال الله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا} [الحجر:47]، ومر علي رضي الله عنه على طلحة والزبير وقد قتلا، فقال: أما إني وعثمان وطلحة والزبير ممن قال الله فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} [الأعراف:43].
فيأتون أبواب الجنة وهم يملأ قلوبهم الشوق إلى وعد الله، فيجدونها قد أغلقت، فيأتون أباهم آدم: يا أبانا! استفتح لنا الجنة، فيقول: هل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم؟ فيأتون نبينا صلى الله عليه وسلم فيقرع باب الجنة، فيقول له الخازن: من أنت؟ فيقول: أنا محمد! فيقول الخازن: أمرت ألا أفتح لأحد قبلك، فيدخلها صلى الله عليه وسلم، ثم يدخلها الأنبياء ثم الصالحون.
ولا ينبغي لمؤمن يعرف الله أن يزاحم في شيء، ولا ينافس على أمر أعظم من أن يكون واحداً ممن يزاحمون على دخول باب الجنة، فكل ما قربك من هذه المزاحمة حري أن تصنعه، وكل ما نأى بك على أن تنأى بنفسك عن هذه المزاحمة حري بك أن تذره، وإنه سفاه منا أن يخبرنا الله عن جنة عرضها السماوات والأرض ثم لا يجد أحدنا له فيها موضع قدم.
وهذا والله! حقيقة الغبن أن يخبر الله عن جنة عرضها السماوات والأرض ثم لا يجد أحدنا فيها موضع قدم، على أن هناك حقائق يجب أن نعلمها، والدرس وإن أخذ جانب الوعظ، لكن هذا الذي به أرسل الرسل، وأنزلت من أجله الكتب، فنحن لا ينبغي أن نتعلم العلم لننبز به الأقران، وننافس به غيرنا، ونختار من الألفاظ ما هو غريب، أو نأتي بالأشعار ما يقرب الناس منا أو يدلهم على فصاحتنا، فهذه كلها أمور إن جاءت تبعاً فحسن، وإن لم تأت فلا أتى الله بها، لكن ينبغي أن يوطن الإنسان قلبه على أمر عظيم، وهو أن يفوز ويظفر بدخول جنة عدن؛ لأنه إن لم تكن جنة كانت نار، ولا يوجد خزي أعظم ولا أكبر من النار، قال الله جل وعلا عن الصالحين من خلقه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران:190 - 192].
فلا يوجد خزي يفر منه المرء أعظم من النار، ولا يوجد فوز ومطلب وبغية وغاية هي أعظم من الجنة، قال الله: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} [النبأ:31]، وهي الوعد الأعظم والبشارة الكبرى التي جاء بها الأنبياء وكتبها الله جل وعلا وعداً عليه مفعولاً، يسأله عباده منذ أن خلق الله آدم إلى أن يرفع الإسلام ولا سؤال للصالحين أعظم من أن يسألوا ربهم دخول جنته، قال الله جل وعلا عنها: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا} [الفرقان:16] أي: وعداً يسأله عباده إياه.
فإذا دخلوا الجنة أعطوا زيادة كبد الحوت، ثم ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها، ثم يمتعون فيها قليلاً حتى يجدوا لذتها، ثم يسمعون منادياً ينادي: يا أهل الجنة! فينظرون من شرفاتها خوفاً من أن يقال لهم: اخرجوا منها وقد ذاقوا لذتها، والمنادي نفسه ينادي أهل النار: يا أهل النار! وقد ذاقوا حرها ووهج شررها، فينظرون على الضد، لعلهم أن يقال لهم: اخرجوا منها.
ويؤتى بالموت على صورة كبش فيقال: يا أهل الجنة! هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، ويقال: يا أهل النار! هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، فيذبح وينادي مناد: أن يا أهل الجنة! خلود بلا موت، ويا أهل النار! خلود بلا موت، فينقطع عن أهل النار -عياذاً بالله- الأمل في أن يخرجوا، وينقطع عن أهل الجنة الخوف من أن يخرجوا، قال الله: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:39 - 40].
ولا يكادون ينتهون من هذا النداء حتى يأتيهم نداء آخر فينادي مناد: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو، ألم يثقل موازيننا، ألم يبيض وجوهنا؟ فيكشف الحجاب، فيرون وجه ربهم تبارك وتعالى، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم هو أعظم ولا أجل من رؤية وجه الله، وحتى يرزق المؤمن هذا الأمر ينبغي أن يكون في قلبه اليقين أولاً بأنه لا وجه أكرم من وجه الله، فإذا استقر في قلب أي أحد يقيناً أنه لا وجه أحد أكرم من وجه الله، ولا وجه أجل منه، قال الله عن ذاته العلية: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
وقال: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88]، فإذا استقر في قلب أي أحد أنه لا أعظم من الله، ولا أحد أكرم منه، لا أحد أعظم منه اسماً، ولا أحد أكرم منه وجهاً، وأنه جل وعلا بيده مقاليد كل شيء، وأنه تبارك وتعالى وحده من له الفضل والمنة عليك، ووقع في قلبك واستقر الشوق إلى لقائه جل وعلا، فإذا وقع هذا فإنه يرث الإنسان بعدها برحمة الله عملاً بتوفيق الله يعينه على أن يدخل الجنة.
فإذا كتب الله له الجنة من الله عليه بعد ذلك بالعطية الجزلى، والبغية العظمى وهي رؤية وجه الله جل وعلا، قال الله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، وقال جل وعلا: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].(29/11)
مما ينبغي على المؤمن
والمبتغون الطالبون لهذه الغاية يعرفون بأعمالهم، على ما يظهر للناس منهم، أما السرائر فأمرها إلى الله، فالعاقل لا يشهد إلا بما رأى، ولا يقطع، لأنه لا يقطع لأحد بإخلاص النية وتمام العمل وحسنه وقبوله إلا من شهد الله له أو شهد له رسوله صلى الله عليه وسلم لكن ينبغي للمؤمن أن يحرص على أمور أجمعها فيما يلي: كثرة ذكره جل جلاله، فذكر الله جل وعلا أنس السرائر، وحياة الضمائر، وأقوى الذخائر، ولما أراد الله أن يمن على زكريا بالولد، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} [مريم:10] أي: أنت سوي الخلقة لكنك تعجز أن تكلم الناس، فتعامل معهم بالإشارة، ومع أنها ثلاثة أيام منقطعة، وهي آية له وبرهان وبشارة من الله، لكن الله جل وعلا أمره مع هذا الصمت أن يكثر من ذكر الله، فإذا ذكر الله تحركت شفتاه، وإذا كلم الناس عجز، فيكلمهم بالإشارة، فلم يعف الله نبيه زكريا عن ذكره حتى وهو في آية وبرهان من الله، قال الله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [آل عمران:41].
بل إن أهل الجنة -جعلني الله وإياكم منهم- وقد انقطع عنهم التكليف يلهمون التسبيح كما يلهم أحدنا في الدنيا النفس، فهم في جنة عدن يمتعون ومع ذلك لا يفترون من ذكر الرب تبارك وتعالى.
وحملة العرش قريبون من ربهم تبارك وتعالى، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر:7] فأثبت الله لهم التسبيح، وهو أحد أنواع عبادته وهو ذكره.
والمقصود أن مما يقربك من الله كثرة ذكره، قال الله لنبيه: {وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205].
الأمر الثاني: بعدك عن الضرر بالناس؛ لأن الذي يعرف الله يعرف أن الله مقتدر، ومن يعرف أن الله مقتدر لا يتعرض لظلم العباد؛ لأنه على يقين أن الله جل وعلا قادر عليه، فليس من فراره من ظلم الناس خوفه من الناس، وإنما خوفه من ربه، وقد كان هابيل أشد قوة من قابيل، لكن الذي منعه أن ينتقم لنفسه خوفه من الله، قال تعالى: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [المائدة:28 - 29].
والمقصود أن البعد عن الضرر بالناس من أعظم الأدلة على خوف العبد من ربه.
والأمر الثالث: لابد أن يكون لطالب الجنة شيء من الليل يقوم فيه بين يدي ربه، يخلو فيه بين نفسه وبين مولاه، يبث إلى الله، ويشكو إلى الله بلواه، ويسأل الله جنته، ويتلو كتابه، ويقرأ آياته، ويتضرع لخالقه، ويتذلل بين يديه، قال الله عن الصالحين من خلقه: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18].
ورابعها وبه أختم: لابد أن يكون في قلوبنا شفقة على والدينا عملاً بوصية الله لنا، فإن القيام بحق الوالدة على الوجه الأول ثم حق الوالد من أعظم أسباب التوفيق في الدنيا والآخرة.
أيها المؤمنون! هذه أشتات من علم، يسر الله قولها في هذا اللقاء المبارك، عل الله أن يتقبل منا ومنكم.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(29/12)
البحث عن السعادة
أكرم الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم وصحبه بالعيش السعيد، فعاشوا في مجتمع مسلم يحيا الإيمان من جميع جوانبه، وإنما حظي الصحابة الكرام بذلك بعد تحصيل أسبابه، كالخوف من الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمودة والرحمة وغير ذلك، وقد جعل الله تعالى ذلك العيش أمراً يمكن أن يجده من يأتي من بعدهم إذا حققوا جملة من الوسائل الموصلة إلى طريقهم وسعادتهم.(30/1)
أسباب السعادة في حياة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، آخر الأنبياء في الدنيا عصراً وأرفعهم وأجلهم يوم القيامة شأناً وذكراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فإن المؤمنين متفقون على أن النبي صلى الله عليه وسلم ربى أكمل جيل وأمثل رعيل, كانوا شامة في جبين الأيام وتاجاً في مفرق الأعوام, حتى قال عنهم الشاعر العربي: الله يعلم ما قلبت سيرتهم يوماً وأخطأ دمع العين مجراه فأصحاب محمد صلوات الله وسلامه عليه بهم نصر الله جل وعلا الدين وأعز الملة, نشئوا في مدرسة محمد صلوات الله وسلامه عليه, فهم المطعمون المنفقون الشاكرون في السراء, وهم الثابتون الصابرون في الضراء والبأساء {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22].
أن من ينشد الحياة السعيدة لن يجدها ظاهرة بينة واضحة كما يجدها في حياة محمد صلوات الله وسلامه عليه وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين, والحديث عن تلك القمم الشامخة حديث يطول, ولكننا نحاول أن نقف على بعض أجزاء منه, إن تعذر علينا أن نقف عليه كله.
إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وذلك الجيل الأمثل والرعيل الأكمل كانت فيهم صفات عدة, ومن عظمة السيرة وما حفلت به أنه يمكن أن يتدارسها الناس من عدة طرائق؛ لأنك لا تدرس فيها شيئاً خفياً لتظهره, وإنما هي ظاهرة بينة واضحة كالشمس المشرقة, وإنما ينهل منها الواردون, ويستقي منها الطالبون, وكل يوفقه الله جل وعلا ولو إلى حيز -بحسب دوره في المجتمع- من سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم.(30/2)
الخوف من الله
الخوف من الله أعظم مقاصد الشرع, وأعظم ما يثيب الله جل وعلا عليه، قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، فالخوف من الله تبارك وتعالى سبيل لكل غاية, وإذا أراد الله بعبد خيراً وطَّن قلبه على أن يخشى ربه جل وعلا ويخاف منه، قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15].
وقد كان هابيل أشد قوة من قابيل , فلما هم قابيل بقتل هابيل ما منع هابيل ضعف في بدنه، وإنما منع هابيل أن يقتل أخاه خوفه من الله، فقال: {لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة:28]، فالخصيصة الجلى التي كان عليها أنبياء الله من قبل، ورسولنا صلى الله عليه وسلم من بعد, وعلمها صلى الله عليه وسلم أصحابه في حياته هي الخوف من رب العالمين جل جلاله؛ لأن العبد إذا خاف الله اجتنب الذنوب والمعاصي أن يقتحمها.
وإن لم يرزق في قلبه خوفاً من الله -والعياذ بالله- تجرأ على المعاصي وتجرأ على الذنوب, ومثل هذا أين يرجى أن يؤتى كمالاً أو يعطى منالاً من ربه تبارك وتعالى.
فأنشأ محمد صلى الله عليه وسلم ذلك الجيل على الخوف من ربهم تبارك وتعالى, وأورثهم ذلك الخوف البعد عن المحرمات, والمسارعة والمسابقة في الخيرات, وإلا فإنه لا يعقل أن أحداً يتجرأ على معصية إلا إذا قل الخوف فيه من الله, وقد لا ينعدم منه بالكلية, ولكن يقل، ولا يمكن أن يأتي أحد إلى طاعة إلا مع حسن ظنه بالله أن يثيبه، قال الله جل وعلا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، وليس العلماء من حفظوا المتون وأملوا الدروس, فكل من خشي الله فهو عالم بمقدار خشيته, وكل من عصى الله فهو جاهل بمقدار معصيته.
قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: إنما العلم الخشية.
أي: الخوف من الرب تبارك وتعالى.
فهذه الخصلة أولى وأعظم ما ربى النبي صلى الله عليه وسلم عليه أمته، وهي المفتاح الحق للحياة السعيدة.(30/3)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الأمر الثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال الله جل وعلا: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [التوبة:71]، وقال جل وعلا {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104].
والفساد في الأرض أعظم ما نهى الله جل وعلا عنه، قال تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف:56]، ولما أثنى الله جل وعلا على رجال قد خلو وأمم قد سبقت قال: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود:116]، و (لولا) هنا في مقام الحض والحث، والذي يعنينا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعيرة عظمى, حملها النبي صلى الله عليه وسلم وحملها أصحابه من بعده وفي حياته صلوات الله وسلامه عليه.
وتوحيد الله جل وعلا وإفراده تبارك وتعالى بالعبادة أعظم المعروف، والشرك بالرب تبارك وتعالى أعظم المنكر, ففي الحديث: (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك)، وأعظم المعروف توحيد الرب تبارك وتعالى، ولهذا بدأ الرسل جميعاً بلا استثناء دعوتهم لأممهم بالدعوة إلى عبادة الله وحده وإفراد العبادة له جل وعلا دون سواه, مع التحذير والنهي عن الشرك، وقال الله حكاية عن العبد الصالح: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
ثم إن من أعظم المعروف الذي أمر به جل وعلا إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأداء بقية الأركان، أما المنكرات فإن من أعظمها بعد الشرك اثنان: القتل، والزنا.
فهذه الثلاثة -الشرك بالله- والقتل والزنا -حرمها الله في جميع الشرائع- قال الله جل وعلا في سورة الفرقان: وهي مكية: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان:68].
فهذه الآيات نزلت في العهد المكي, قبل أن تفصل الشرائع كما وقع في المجتمع المدني.
فأما القتل فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه: (لأن تهدم الكعبة حجراً حجراً أهون عند الله من قتل مسلم) ذلك أن الكعبة إذا هدمت فإنما هي بنيان، فيأتي الصالحون فيعيدون بناءها, أما المسلم إذا قتل وأزهقت روحه فلا سبيل أبداً إلى عودة روحه, ومن هنا كان قتل المسلم معظماً جداً عند ربنا تبارك وتعالى، إلا بالحق كما قيد ربنا جل وعلا، والله جل وعلا ذكر في القرآن خبر قابيل وهابيل , وأن قابيل تجرأ على هابيل فقتله, فلما حار في أخيه كيف يصنع به، وأراد الله أن يعلمه عامله الله جل وعلا بمثل صنيعه, فكل شيء مما فيه روح قابل لأن يبعثه الله ليعلم قابيل , ولكن الله اختار الغراب وهو من أعظم الفواسق, حتى يقول لـ قابيل: هذا من جنسك أنت، قال الله جل وعلا: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ} [المائدة:31]، فاعترف بأن الغراب أفضل منه, والسبب في ذلك أنه تجرأ على دم حرام لم يبحه الله جل وعلا.
والمسلم الذي يعلم ما هو المعروف وما هو المنكر, لا يتجرأ على الدماء بيده، ولا يتجرأ على الدماء بلسانه فيريق دماً مسلماً معصوماً بفتوى أو بغيرها يريد بذلك عرضاً من الدنيا, وإنما دماء المسلمين حرام، فقبل أن يتكلم المرء فيها يجب عليه أن يتقي الله جل وعلا تقوى عظيمة.
ويروى أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى في أيامه ظهرت في مكان كان يسكنه شوكة الخوارج الذين يرون كفر مرتكب الكبيرة الذي يموت دون توبة, فجاءه ذات يوم رجلان منهم وهو في المسجد فرفعا سيفين عليه, وقالا: جنازتان في الباب -أي: بباب المسجد-: الأولى لرجل شرب الخمر فغص بها فمات, والأخرى امرأة حبلى من الزنا ماتت قبل أن تتوب، فما تقول فيهما؟ وكان يريد أن يقول: إنهما كافران، فاحتال عليهما فقال: هل هما يهوديان؟ فقالا: لا.
فقال: هل هما من النصارى؟ فقالا: لا.
فقال: هل هما من المجوس؟ فقالا: لا.
فقال: ممن هما؟ فقالا من غير أن يشعرا: هما مسلمان.
فقال: أنتما حكمتما بأنهما مسلمان, وأنا لم أقل شيئاً.
فقالا: دعنا من ألاعيبك, قل لنا: هما في الجنة أم في النار؟ فقال -رحمه الله تعالى-: أقول فيهما ما قاله خير مني فيمن هو شر منهما, أقول فيهما ما قاله عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]، وأقول فيهما ما قال خليل الله إبراهيم: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36].
كل ذلك ورعاً أن يحصل سفك للدماء بسبب كلمة أو فتوى يقولها.
والمقصود من هذا أن الله جل وعلا حرم الدماء بطرائق شرعية معروفة, فلا يجوز لمؤمن أن يسفك دم مسلم، وفي الحديث (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً).
والمنكر الثالث بعد الشرك والقتل الزنا عياذاً بالله، قال الله جل وعلا: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32] وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأنه رأى رجالاً ونساءاً في تنور ضيق من أدناه واسع من أعلاه يتضاغون فيه, قال: (قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الزناة والزواني) عياذاً بالله.
وينبغي على المجتمع المسلم أن يتعاضد أفراده وآحاده على إيقاف الرذائل مهما كانت, وعلى نشر الفضائل وحراستها, وعلى إشاعة فضيلة الحياء في الناس, حتى يبتعد الناس بقدر الإمكان عن ذلك المنكر الذي حرمه الله, وحرمه رسوله صلى الله عليه وسلم, بل قد قال العلماء: جاءت الشرائع كلها بتحريمه، وعلى أن العاقل -إذا أراد أن يأمر بمعروف أو ينكر منكراً- أن يكون حكيماً عاقلاً لبيباً عالماً, لئلا يؤدي إنكاره إلى مفسدة أكبر منها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ليس الطبيب الحاذق من يهدم مصراً -أي: مباني عديدة, ودياراً كاملة- ليبني قصراً.
أي: ليبني قصراً واحداً, وإنما ينظر من تصدر للقرار وللكلام وللحديث وللفتوى وللتدريس ينظر إلى المجتمع, وقد يمكن السكوت على منكر خوفاً مما هو أعظم منه في بيئة, ولا يمكن السكوت عنه في بيئة أخرى.
وهذه أمور يدركها كل من تأمل الشريعة حق التأمل, ونشأ مؤصلاً نفسه علمياً على سنن صالح الأسلاف رحمة الله تعالى عليهم.(30/4)
المودة والرحمة
الخصيصة الثالثة في المجتمع المحمدي: التواد والتراحم.
أخرج الإمام البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم, فيلقي أبا بكر وعمر في ساعة لم يكونا يخرجان فيها, فقال: (ما الذي أخرجكما في هذه الساعة؟ فقالا: أخرجنا الجوع, فقال صلى الله عليه وسلم: وأنا -والذي نفسي بيده- ما أخرجني إلا الجوع)، فهذا النبي الأمي لم يكن غنياً ولم يكن فقيراً, تمر عليه أيام يجد فيها ما يأكله, وتمر عليه أيام لا يجد فيها ما يطعمه، وبهذه النظرة الكاملة يعرف حاله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:6 - 8].
فخرج عليه الصلاة والسلام ومعه أبو بكر وعمر رضوان الله تعالى عليهما قد أخرجهما الجوع, فقال: (وأنا والذي نفسي بيده ما أخرجني إلا الجوع)، ومن هنا تعلم أن بعض الفضلاء من الناس إذا قال كلمة (أنا) تعوذ, وقال: أعوذ بالله من كلمة (أنا) , ولا يوجد تثريب شرعي في أن يقولها الإنسان, وإنما نقمها الله على فرعون وعلى إبليس لما بعدها لا للفظة نفسها؛ لأن إبليس قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، وفرعون -عياذاً بالله- قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24].
ولكنها تكره إذا كان طرق الإنسان باباً فسئل من أنت؟ فقال: أنا، ففي مثل هذه الحالة لا تفيد معنىً، ولا تؤدي جواباً، ولا يعرف من أنت ما لم تسم نفسك, فمن أجل ذلك كرهها نبينا صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع المقيد.
فخرج عليه الصلاة والسلام ومعه أبو بكر وعمر، فأتوا بيت أبا الهيثم بن التيهان رضي الله عنه وأرضاه، ولم يكن في الدار، بل كانت زوجته, فلما رأتهم فرحت, ولخوفها من أن يذهبوا قالت: مرحباً وأهلاً, وأدخلتهم الدار, فجاء أبو الهيثم، فلما رآهم قال: ما أحد اليوم أكرم أضيافاً مني.
وصدق رضي الله عنه وأرضاه, فلم يكن يومها على وجه الأرض أحد أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فبادر إلى عذق في النخلة فأخرجه بسراً وتمراً ورطباً, وقدمه لهم وقال: تخيروا.
ثم عمد إلى المدية -وهي السكين- فرآها النبي صلى الله عليه وسلم في يده؛ فتأمل -أيها المبارك- كيف يربي النبي عليه الصلاة والسلام الأمة، فقال: (إياك والحلو)، أي: لا حرج، ولكن لا تذبح شاة حلوباً يستفيد منها أهل الدار، فلو منع النبي صلى الله عليه وسلم أبا الهيثم من أن يذبح لمنعه من إكرام ضيفه، وهذا لا يعقل أن يفعله عليه الصلاة والسلام, وفي نفس الوقت كان يخشى على أهل البيت الضرر، فقال: (إياك والحلوب) وهكذا العاقل في تعامله مع من حوله في القضايا التي تلج عليه مع الناس، فلا يمكن أن يسلب الناس ما يفخرون به ويفرحون به, وفي نفس الوقت لا يطلق العنان حتى تصبح المسألة مسألة ضرر، فتنقلب من إكرام ضيف إلى ضرر بالأهل, فقال صلى الله عليه وسلم: (إياك والحلوب).
ونظير هذا في السنة أنه في يوم أحد كثر القتلى من المسلمين حتى بلغوا سبعين, فحملت الأنصار قتلاها تريد أن تدفنهم في المدينة, فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يدفنوا الشهداء في أماكنهم, والعدد سبعون, والصحابة الذين نجوا كانوا مرهقين جداً، حتى إنهم صلوا الظهر قعوداً وراء النبي صلى الله عليه وسلم, فعاد عليه الصلاة والسلام إلى أسلوبه الأمثل, فلم يوافق على أن ينقلوا القتلى إلى المدينة, حتى تشهد أرض أحد لهم, وفي نفس الوقت لا يريد أن يكلف هؤلاء المثخنين بالجراح بأن يحفروا سبعين قبراً, فقال: (اجعلوا الرجل والرجلين والثلاثة في قبر واحد)، فإذا جعلنا ثلاثة من قتلى المسلمين وشهدائهم في قبر واحد قل عدد القبور, فلجأ صلى الله عليه وسلم إلى طريقة مثلى تجمع بين عدم إرهاق الصحابة ودفن الشهداء عند جبل أحد في أرض المعركة.
وهنا قال صلى الله عليه وسلم: (إياك والحلوب)، فذبح لهم رضي الله عنه وأرضاه, فقال صلى الله عليه وسلم بعدها لصاحبيه: (لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة)، ثم إنه صلى الله عليه وسلم بما يحمله في قلبه من مودة ورحمة مع علو كعب في الفهم -كأنه عرف أن أبا الهيثم ليس له خادم, فلما فرغ من ضيافته قال له: (ائتنا إذا جاءنا سبي) فلما قدم بسبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه أبو الهيثم وقد كان السبي غلامين, فقال صلى الله عليه وسلم: (اختر أيهما شئت) فقال: يا رسول الله! اختر لي: فقال عليه الصلاة والسلام كلمته التي سارت بها الركبان وضربت مضرب المثل: (المستشار مؤتمن) يعلم الأمة أن من استشارك فقد قلدك أمانة في عنقك, فاتق الله جل وعلا فيمن استشارك لتكون بطانة خير له, فتخبره بما ينفعه, وتدله على الصواب, ولا يقع في مثل هذه الأحوال غيبة، فقال صلى الله عليه وسلم ليبين للأمة الطريق المثلى في الحكم على الناس: (اختر هذا فإني رأيته يصلي) فلما كان صلى الله عليه وسلم يعلم أثر الصلاة على النفس قال لهذا الصحابي الجليل: (اختر هذا فإني رأيته يصلي)، ثم قال صلى الله عليه وسلم له: (واستوص به معروفاً) شفقة على هذا الرقيق, فرجع أبو الهيثم مع الرقيق الذي أعطاه نبينا صلى الله عليه وسلم إياه من السبي, فدخل على زوجته يظهر الفرح على أسارير وجهه, فأخبرها الخبر, ثم قال لها: وإن نبي الله قال لي: (واستوص به خيراً أو معروفاً) فقالت المرأة الحاذقة: يا أبا الهيثم! أعتقه؛ فبهذا تتحقق وصية نبينا صلى الله عليه وسلم, ولم يكن مراد رسول الله -فيما نعلم- أن يعتقه, ولكن المرأة أرادت أن تبلغ الكمال في حمل حديث نبي رب العزة والجلال صلوات الله وسلامه عليه, فأعتقه, فبلغ خبر عتقه النبي صلى الله عليه وسلم, فأخبر صلوات الله وسلامه عليه بأن المرء لا بد له من بطانة، إما بطانة خير، وإما بطانة سوء, وقصده أن هذه المرأة وهذه الزوجة كانت بطانة خير لزوجها بما أشارت به عليه وقد سقنا الحديث لنبين التواد والتراحم في المجتمع المدني آنذاك, والنماذج على هذه كثيرة، ولكننا حدثنا ببعضها.(30/5)
القيام بحقوق البيوت
الخصيصة الرابعة التي كان عليها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مما رباهم عليه نبي الله صلوات الله وسلامه عليه: القيام بواجب المسلم نحو أسرته.
فالله جل وعلا ذكر لهم حقوقاً, فقدم الوالدين في الذكر وقال بعد ذلك: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء:26] وبين حق الجار، والعاقل ينتقل من دائرة ضيقه إلى دائرة أوسع, فلا يقدم من أخره الله, ولا يؤخر من قدمه الله.
وقد كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يعرفون حق أسرهم عليهم، ألا ترى أن أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ألصق الناس به؟! فـ خديجة زوجته، وأبو بكر صاحبه، وزيد غلامه، وعلي ربيبه؛ فهؤلاء أول الناس إسلاماً؛ لأنهم كانوا قريبين جداً من رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون عطفه ورحمته وشفقته فتأثروا, فلما دعاهم إلى الإسلام بادروا.
وينبغي للمؤمن أن يدرك واجبه نحو أسرته, فـ جابر بن عبد الله بن حرام الأنصاري رضي الله عنهما استدعاه أبوه ليلة أحد, ثم قال له: يا بني! قد حضر ما ترى -أي: القتل والحرب والمعركة- وإني لا أراني إلا أول من يقتل غداً, فإذا أنا مت فاقض ديني واستوص بأخواتك خيراً, وكان جابر رجلاً ذكراً واحداً بين أخوات، فحضرت المعركة وكان عبد الله بن حرام والد جابر صادقاً مع ربه, فكان من أوائل من قتل في المعركة, يقول جابر: فدفنت والدي مع غيره, وجاء في رواية -أظنها في الموطأ من مراسيل مالك - أنه دفن مع عمرو بن الجموح , يقول: لم تطب نفسي بعد ستة أشهر أن يدفن رجل مع أبي, فحفرت فوجدته كيوم دفنته إلا شيئاً يسيراً في أذنه.
ثم إن جابراً أخذ بوصية أبيه في العناية بأخواته فتزوج على الطريقة المحمدية في تعليم الناس, بحيث لا تترك الأشياء بالكلية, ولا تؤخذ بالكلية, وإنما كان يلجأ صلى الله عليه وسلم إلى الوسطية في التعامل مع الأشياء، فـ جابر أوصاه أبوه بأخواته, وهو في نفس الوقت شاب لنفسه عليه حق أن يتزوج, فكان أمامه طريقان: إما أن يترك الزواج ويعتني بأخواته، وإما أن يقول: سينشأن على رعاية الله، وسأتزوج بكراً وأنظر لنفسي، ولكن جابراً التلميذ في المدرسة المحمدية لم يصنع هذا ولا هذا, بل تزوج امرأة ثيباً, فلما تزوج الثيب أسقط شيئاً من حق نفسه حيث لم يتزوج بكراً, ولكنه لم يسقط الزواج بالكلية, وفي نفس الوقت أسقط شيئاً يسيراً من حق أخواته, فلم يتفرغ لهن بالكلية, ولكنه تزوج ثيباً حتى تقوم على أخواته، فلما قال له النبي صلى الله عليه وسلم وقد علم أنه تزوج: (هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك) ذكّره بوصية أبيه, فقال: يا نبي الله! إن أبي ترك أخوات، والأمر كذا وكذا, فأقره صلى الله عليه وسلم على قوله ذلك بسكوته، ولم يعنفه ولم يثرب عليه صلوات الله وسلامه عليه.
إن من حولنا من أبوين وزوجة وبنات وبنين أحوج الناس إلينا, ولا خير فينا إن كان الإنسان منا يحاول أن يعطي الأبعد ويترك الأقرب, ولكن يقدِّم من قدمه الله؛ لأن من يعطي الأبعد ويترك الأقرب نقول له: إن كنت تريد ما عند الله فليس هذا الطريق الذي رسمه الله جل وعلا لنا, وإن كنت تريد ما عند الناس فإن الناس لا يملكون قلوبهم حتى يهبوها لك, فكيف تطلب منهم شيئاً لا يملكونه ولا يطيقونه؟! وإنما يعرف الرجل الرباني بسيره على منهاج الله وبوقوفه عند كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال المؤرخون: إن عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه مر ذات ليلة على فتية من الأنصار يحتسون الخمر في حائط: أي: في بستان, فاعتلى السور ودخل عليهم، فقالوا: يا أمير المؤمنين! جئنا بواحدة وجئتنا بثلاث، قال الله: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12] وأنت تجسست، وقال الله: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة:189] وأنت أتيتنا من أعلى السور، وقال الله: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:27] أي: تستأذنوا، وأنت لم تستأذن، وكان عمر يملك الرد على هذا, ولكنهم لما أتوا عن طريق الآيات أطرق رضي الله عنه وأرضاه رأسه لهم, وهذا هو حقيقة الوقوف عند آيات الله.
قال حافظ رحمه الله: وفتية أولعوا بالراح فانتبذوا لهم مكاناً وجدوا في تعاطيها ظهرت حائطهم لما علمت بهم والليل معتكر الأرجاء ساجيها قالوا مكانك قد جئنا بواحدة وجئتنا بثلاث لا تباليها فأت البيوت من الأبواب يا عمر فقد يُزنُّ من الحيطان آتيها ولا تجسس فهذي الآي قد نزلت بالنهي عنه فلم تذكر نواهيها فعدت عنهم وقد أكبرت حجتهم لما رأيت كتاب الله يمليها وما أنفت وإن كانوا على حرج من أن يحجك بالآيات عاصيها وهذا هو الشاهد من القصيدة كلها، فعندما تقبل قول أحد لأنه استدل عليك بالقرآن, تقبله للدليل لا لذاته, وهذه تربية عظيمة يربي المرء عليها نفسه, ولكنها تحتاج إلى نوع من المكابدة والاستمرار والأخذ والعطاء ما أمكن إلى ذلك سبيلاً.
ويندرج في هذا الأمر كذلك حب الإنسان للصغار من أهل بيته، فأعظم الوشائج بين الأبناء والبنات وبين أبويهم تلك التي تورث في الصغر، والتي يكون فيها الإنسان وافر العطاء من الحنان والشفقة والمودة لمن يحب، فقد قطع نبينا صلى الله عليه وسلم خطبة له وهو يرى الحسن والحسين يمشيان فيعثران، فلما رآهما يمشيان ويعثران قطع الخطبة وحملهما ووضعهما بين يديه ورقى أعواد منبره، ثم قال: (صدق الله ورسوله: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15] لقد نظرت إلى ابني هاذين يمشيان فيعثران فلم أصبر حتى نزلت وحملتهما)، وقام من الليل -كما في المسند بسند صحيح- يسقي الحسن والحسين صلوات الله وسلامه عليه.(30/6)
العفو عند المقدرة
ومن خصائص المجتمع المدني الذي من الله جل وعلا عليه بالحياة السعيدة آنذاك العفو عند المقدرة، والعفو شيم من شيم الكرام كانت العرب تتغنى به في الجاهلية، فلما بعث صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق ربى أمته على هذه الخصلة، وجاء القرآن من قبل بها فقال تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237]، {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40]، فكلها رغائب ذكرها جل وعلا في كتابه تحث المؤمنين على العفو، ونبينا صلى الله عليه وسلم خير من ملك ثم عفا من البشر، يقول بعض أهل السير: إن أبا سفيان بن الحارث -وهو أحد خمسة يشبهون النبي صلى الله عليه وسلم، وهم: الحسن والحسين وقثم والفضل وأبو سفيان بن الحارث رضي الله تعالى عنهم جميعاً- يقولون: إن هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه كان قبل إسلامه يقرض الشعر ويهجو النبي عليه الصلاة والسلام حتى أهدر دمه، فلما من الله عليه بالهداية استحيا من دخوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقال: إن إحدى أمهات المؤمنين أشارت عليه بأن: قل له كما قال إخوة يوسف ليوسف: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91] فإن نبي الله لا يحب أن يكون أحد خيراً منه.
أي أنه ينافس في الطاعات ويسابق في الخيرات صلوات الله وسلامه عليه، فلما قالها قبل النبي صلى الله عليه وسلم خطابه وعفا عنه.
وأعظم ما يدفع إلى مثل هذا انتظار الفضل من الله؛ لأن الله أبهم -أي: لم يبين مقدار الجزاء لمن عفا الله عنك- فقال جل وعلا: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40]، وما أبهمه الله جل وعلا في هذا الموقف فإن سياق القرآن يدل على أنه شيء عظيم تشرئب إليه الأعناق، وينشده الأفاضل من الرجال والنساء، ولا ريب في أن من أعظم ما يمكن أن نتعلمه من الدين أن كل من أوقفه الله جل وعلا ضعيفاً بين يديك وأردت أن تعامله فعامله بمثل ما تحب أن يعاملك الله به إذا وقفت بين يديه.(30/7)
سبل التحلي بخصائص المجتمع المحمدي
وأما السبل التي تعين المؤمن على أن يتحلى بنشر هذه الخصائص -وما لم نذكره من خصائص المجتمع المحمدي- فأولها بلا شك: العلم بالله جل وعلا، فالعلم بالرب تبارك وتعالى مفتاح كل خير، ولا يتصور أن أحداً يعبد الله على منهج بين وطريق واضح وخشية في القلب وهو لا يعلم الله، فأعظم العلم معرفة الله، ومعرفة أسمائه وصفاته، وحتى يكون الحديث أوضح فإن إجلال الله جل وعلا في القلب مما ذكره الله جل وعلا في كتابه المبين يعين المؤمن على أن يعرف ربه، ولله المثل الأعلى، فأي شيء تريد أن تعرف كينونته لتصل إليه فلن تصل إليه إلا بإحدى ثلاث طرائق: إما أن تراه، وإما أن يراه غيرك فيصفه لك، وإما أن تقيسه على مثله، ولكي تزداد عظمة الله في قلبك فاعلم أن هذه الثلاثة منتفية في حق الله، فنحن لم نر ربنا، ولم يره أحد فيصفه لنا، وليس لله ند ولا مثيل ولا شبيه حتى نقيسه عليه، فسبحانك وبحمدك، ما عبدناك حق عبادتك.
فالعلم بالله جل وعلا مفتاح كل خير، وهو السبيل الأعظم للوصول إلى تلك الخصائص.(30/8)
دراسة السيرة النبوية
ثم بعد ذلك تأتي دراسة السيرة العطرة والأيام النضرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن تكون تلك القبسات مما فيه شمولية كاملة يعرف به المنهج الحق؛ لأن من أخطائنا المعاصرة أن يأتي أحدنا إلى مجتمع مسلم، ثم يريد أن يقيم دعوة سرية في مجتمع مسلم، فإذا ناقشته قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم اجتمع هو وفلان وفلان، وعد خيار الأكابر من الصحابة في دار الأرقم ابن أبي الأرقم.
فيقال له: ألا تعلم أن الدعوة مرت بمرحلة سرية وجهرية ومرحلة هجرة؟ وهذا أمر فيه ذهول عن حقيقة السنة والسيرة بحق، فهذا الأمر صنعه النبي صلى الله عليه وسلم في مجتمع كافر من صناديد قريش لا يؤمن بالله ولا برسوله، وأما أنت فتحيا في مجتمع يؤمن بالله ورسوله، فلا سبيل أبداً إلى تطبيق مثل هذا الأمر، وإنما دعوة الأنبياء واضحة ظاهرة تقال في الملأ كما تقال في الخلاء، قال الله جل وعلا حكاية عن كليمه موسى: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} [طه:59] أي: ائت بالناس، فأنا لا أملك شيئاً أخفيه فتعال في ضحى النهار، أو في رابعة النهار، وادع من شئت، ابعث البعوث لتدعو الناس؛ لأنني لا يوجد شيء عندي أخفيه، فأنا أبلغ.
فهذا هو لسان حال موسى ومقاله؛ فالمقصود من هذا أنه يجب أن نقرأ السيرة النبوية قراءة صحيحة في قضية الاستشهاد بها حتى نكون على بينة من أمرنا.(30/9)
ذكر اليوم الآخر وأهواله
الأمر الثالث من الوسائل: أن يذكر الإنسان معاده، وأنه صائر إلى ربه لا محالة {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] فالناس يخرجون من القبور أول الأمر مضطربين، يحوم بعضهم حول بعض لا يدرون أين يذهبون، كما قال الله: {كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة:4] فيسمعون صوت إسرافيل يدعوهم إلى أرض المحشر، فينتظم سلكهم، قال الله جل وعلا: {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ} [القمر:7] ولا يوجد بعث قبل هذا ولا يوجد بعث بعده، قال الله: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} [طه:108]، فيحشر الناس حفاة عراة أحوج ما يكونون إلى الكسوة، ويحشر الناس عطاشاً أحوج ما يكونون إلى الماء، وتدنو منهم الشمس فيكونون أحوج ما يكونون إلى الظل، والموفق من جمع الله جل وعلا له هذه الثلاث، فكساه يوم الحشر، وسقاه من حوض محمد صلى الله عليه وسلم، وأظله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجمعها لي ولكم أجمعين.
فهذه الثلاث يتذكرها المؤمن في غدوه ورواحه، فهي من أعظم ما يعينه على تحقيق المراد، والوصول إلى الغايات العظمى؛ لأن الغاية العظمى أن يقدم الإنسان لحياته الحقيقة، فقد أخبر الله تبارك وتعالى عن أهل الضلال بأنهم يتعذر عليهم ذلك فيقول كل منهم: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر:24].(30/10)
المعنى البلاغي في (لو) و (لولا)
ليتذكر المرء أن هناك (لو) وهناك (لولا)، و (لو) عند النحويين حرف امتناع لامتناع، و (لولا) حرف امتناع لوجود، فلو أن أحد الإخوة لم يستطع الحضور إلى مكان ما فإنه يقول: لو كان زيد موجوداً لأتيت، فانتفى إتيانه لانتفاء وجود زيد، وأما (لولا) فتكون حرف امتناع لوجود.
وللفظتين تطبيق في القرآن، فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يُري الله أهل الجنة مقاعدهم في النار التي نجاهم منها، ويُري أهل النار مقاعدهم في الجنة التي حُرموا منها بسبب كفرهم، فيقول أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] أي: لولا وجود رحمة الله لكنا من أهل النار، وأما أهل الضلالة فيقول كل منهم كما قال الله: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:57] فامتنعت عنهم الهداية، فامتنع أن يكونوا من أهل التقوى، وامتنعت رحمة الله عنهم فامتنع أن يكونوا من أهل الجنة في تلك المقاعد التي يرونها.
وإذا كان المؤمن موفقاً مسدداً فإنه يجعل هذه الأمور بين يديه يؤمل أن يصل إلى حياة أسعد، على أن خاتمة المطاف أن يقال: إنه لا يعمر القلب شيء أعظم من ذكر الله جل وعلا، قال الله جل وعلا: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] ومن استأنس بالله استوحش من خلقه، واللبيب العاقل من يجعل له خلوات -إما سجدات في فلق الأسحار أو غيرها- يذكر ربه تبارك وتعالى فيها، سواء أكان في ملأ من الناس أم كان في خلوة لوحده؛ فإن ذكر الله حياة الضمائر وأنس السرائر وأقوى الذخائر، أمر الله به نبيه وحث الله جل وعلا عليه عباده، من وفق له وفق لخير عظيم.
هذا ما تيسر إيراده وأعان الله على قوله، سائلين الله جل وعلا أن يعفو عن الزلل، وأن يجبر الكسر والخلل، إن ربي لسميع الدعاء، وصلى الله على محمد، وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(30/11)
وقفات مع سورة الزخرف
سورة الزخرف هي إحدى السور المكية، وهي من السور التي تسمى بالحواميم، وسميت بسورة الزخرف لورود كلمة الزخرف فيها.
وتسمى سورة الزخرف مع بقية الحواميم: بديباج القرآن؛ وذلك لأنها لا تتضمن أحكاماً، وهي سورة مسوقة لبيان حقارة الدنيا وتفاهتها.(31/1)
التعريف بالسورة وسبب تسميتها بسورة الزخرف
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
حياكم الله في هذا الدرس العلمي الذي عنوانه: (وقفات علمية مع سورة الزخرف).
الملقي: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فهذه وقفات علمية مع بعض الآيات من سورة الزخرف، المقصود منها: الإثراء العلمي من هذه الآيات المباركات.
الوقفة الأولى: وتعنى بالتعريف بالسورة الكريمة، وسبب تسميتها بـ (سورة الزخرف)؟ الشيخ: الحمد لله.
سورة الزخرف سورة مكية، وهي ضمن سياق سبع سور متتابعات تسمى هذه السور المتتابعات بسور (آل حم)، كما تسمى بديباج القرآن، وتبدأ بغافر وتنتهي بالأحقاف، وكلهن مبدوءات بقول الله جل وعلا: (حم)، وسميت (ديباج القرآن)؛ لأنها لم تتضمن أحكاماً، وكلهن سور مكية.
وبعض أهل الفضل يسميها: الحواميم، والأفضل أن يقال: سور (آل حم).
وسميت بسورة (الزخرف)؛ لورود كلمة الزخرف فيها، وكلمة (الزخرف) وردت في هذه السورة لبيان حقارة الدنيا، وقد ردت كلمة الزخرف في القرآن قبل سورة الزخرف ثلاث مرات في ثلاثة مواضع: قال الله جل وعلا في سورة الأنعام: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112]، وقال تباركت أسماؤه وجل ثناؤه في سورة يونس: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ} [يونس:24]، وقال تبارك وتعالى في الإسراء: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ} [الإسراء:93] فوردت كلمة (زخرف) في الإسراء وفي يونس وفي الأنعام، ووردت في هذه السورة المباركة، وبها سميت سورة الزخرف.
ومعنى الزخرف في اللغة: كمال الزينة مع الحسن، وإذا قيل (شيء مزخرف) أي: شيء مزين.(31/2)
وقفة مع قوله تعالى: (إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون)(31/3)
الرد على المعتزلة في زعمهم أن القرآن مخلوق
الوقفة الثانية: مع قول الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:3].
وسيتم التفصيل حول معنى الفعل (جعل) في القرآن؟ وأنتم تسمعون بالمعتزلة، وهي فرقة تنسب إلى الإسلام، وتقوم على بنود خمسة، وهي معتقدات خمسة عندهم.
ولا ينفع يا بني أن تقول: المعتزلة ضلال، المعتزلة بعيدون، فأقول: نعم؛ المعتزلة ضلال بعيدون، لكن لن تستطيع أن تدافع عن رأي حتى تتصف بصفتين: تقتنع به، وتفهمه، فلا بد أن تفهم ما تدافع عنه، ولا بد أن تكون مقتنعاً به، فليس كل ما فهمته اقتنعت به، فقد تفهم السورة جيداً لكنك لا تقتنع بها، وقد تفهم المثال جيداً لكنه غير مقنع، فحتى تكون مقتنعاً في دفاعك عن أهل السنة سلك الله بنا وبك في سبيلهم، والرد على المعتزلة لابد من أمرين: اقتناعك بمذهبك وبطريقة أهل السنة، مع فهمك لأقوالهم، وفهمك لأقوال معارضيهم حتى تتمكن.
فالمعتزلة فرقة تقوم على خمسة أشياء بالأكثر: على التوحيد، وهم يسمونه التوحيد، والعدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمنزلة بين المنزلتين، ومن ضمن ما قالته المعتزلة: إن القرآن مخلوق، وهذا من أعظم خلافهم مع أهل السنة فقد زعموا أن القرآن مخلوق، ولهم أدلة منها: أن الله قال في الزخرف: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:1 - 3]، فقالوا: أنتم تكابرون، فالله يقول: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1]، ومعنى ذلك: خلق الظلمات والنور.
والله جل وعلا يقول: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1]، ويقول في آية أخرى: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:189]، أي: خلق منها زوجها، فيقولون في مخاطبتهم لنا: علامَ الكبر؟ الله يقول: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:3]، (وجعل) بمعنى: خلق، فلماذا تكابرون وتقولون: إن القرآن غير مخلوق؟ فهذا هو الإشكال.
وقبل أن نتكلم عن الفعل (جعل) نأتي بنظائر حتى لا تصبح المسألة مسألة عاطفة.
فهناك أفعال وكلمات في اللغة لا يظهر معناها إلا من سياق الجملة، بمعنى: أنها في كل سياق لها معنى، ومثال ذلك: أنك أنت قد تكون واقفاً وزميلك يستعجل بك ويقول: هيا نذهب، هيا الموعد فات، فأنت تقول له: أنظرني؟ ومعنى أنظرني: أمهلني، فقد جاء ذكرها في القرآن: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13]، أي: أمهلونا، وانتظرونا، حتى نصل إليكم فنأخذ منكم نوراً.
وقد يأتيك رجل وأنت عندك ابنة فيقول لك: أريد أن أخطب ابنتك منك، فقلت له: سأنظر في الأمر، أي: أفكر فيه، إذاً: (نظر) الأولى غير (نظر) الثانية، مع أن الفعل واحد وهو: نظر، لكن قولك: نظرت في الأمر عندما تعدت بحرف جر غير (نظر) بمعنى من غير تعدٍ (لازم)، فأصبحت بمعنى: أمهلني، وهنا أصبحت بمعنى: أتفكر وأتدبر، قال الله جل وعلا: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:185] يعني: يتدبرون.
نأخذ مثالاً آخر: تقول للرجل: إلامَ تنظر؟ فيقول لك: أنظر إلى تلك الكتابة المعلقة، فهو يقصد النظر بالعين الباصرة الحقيقية، وتقول: نظرت إليك، أي: أبصرتك، والفعل هو نفسه.
والله جل وعلا يقول: {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف:13]، ومعنى (استويتم عليه) أي: ركبتم وعلوتم، ويقول وهو أصدق القائلين في القرآن: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص:14]، هل في أحد عاقل يقول: ولما بلغ أشده وركب، فمعنى استوى: كَمُل ونضج.
ويقول جل وعلا: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} [البقرة:29]، وهنا ليست بمعنى: علا، وليست بمعنى كمل، وإنما بمعنى: انصرف إلى وقصد، فتعددت المعاني والفعل واحد وهو: استوى، لكن من السياق عرفنا أن له عدة معانٍ.(31/4)
استخدامات الفعل (جعل) في القرآن
والآن نعود إلى الفعل (جعل) وننظر استخدامه في القرآن حتى نحكم عليه.
فنقول: إذا تأملنا الفعل (جعل) في القرآن وجدنا له أحوالاً ثلاثة تقريباً، فيأتي بمعنى: خلق، وهذا إذا تعدى الفعل (جعل) إلى مفعول به واحد، قال ربنا: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف:189] والمفعول: (زوج)، وقال جل وعلا: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1] المفعول: الظلمات، فإذا جاء الفعل (جعل) متعدياً إلى مفعول به واحد يصبح بمعنى: خلق.
وقد يتعدى إلى أكثر من مفعول، فإذا تعدى إلى أكثر من مفعول لا يلزم أن يصبح (جعل) بمعنى خلق، وإنما يصبح بمعنى يدل عليه السياق، قال الله جل وعلا: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف:19]، أي: أن المشركين زعموا أن الملائكة إناثاً، ثم قالوا: إنهم بنات الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
فمن المستحيل أن يفهم أحد المعنى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف:19] أن معناها: أن القرشيين خلقوا الملائكة، ولا القرشيون أرادوا هذا، لكن معنى (جعلوا) هنا: سموا، والدليل: أن القرآن يفسر بعضه بعضاً، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى} [النجم:27]، وهو قولهم: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف:19].
والله جل وعلا يقول على لسان أهل الإشراك في ردهم على نبينا صلى الله عليه وسلم لما جاء بالتوحيد، قالوا كما قال الله في سورة ص: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5]، فلا يمكن أن يفهم أن معنى قول قريش كما حكى الله في كتابه: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5] أن قريش تقول: إن محمداً صلى الله عليه وسلم خلق الآية وخلق ربه، فهذا لا يقول به أحد، وإنما (جعل) هنا: ليس بمعنى خلق، وإنما بمعنى: صير واتخذ.
نعود الآن نطبق على الآية التي بين أيدينا: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:3]، (عربياً) صفة تابعة، والتابع يأخذ حكم المتبوع، فلا علاقة لنا بها، {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا} [الزخرف:3] فالضمير (الهاء) مفعول أول، وقرآناً مفعول ثانٍ، أي: صيرناه قرآناً عربياً، فهنا ليس بمعنى خلق، إنما بمعنى: صير، وكونه مصير لا يعني أنه مخلوق، هذا بحسب حاله من قبل، فنرجع إلى بقية القرآن، فقد قال عن القرآن: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1]، وقال: {تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:2]، وقال: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:192].
ففهمنا: أن القرآن منزل غير مخلوق، فبهذا يرد على قول المعتزلة: إن (جعل) بمعنى: خلق، فكلمة (جعل) إذا تعدت إلى مفعول واحد صارت بمعنى: خلق، وإذا تعدت إلى مفعولين ننظر في السياق، فأحياناً تكون بمعنى سمى، وأحياناً تكون بمعنى: صير واتخذ، ثم يكون ذلك المصير والمتخذ، بحسب حاله من قبل، ومحكم القرآن يثبت: أن القرآن منزل غير مخلوق.
ومن الأدلة الأخرى أن الله جل وعلا من صفاته: أنه يتكلم متى شاء بما شاء إذا شاء، والكلام صفة من صفاته، والكلام في الذات كالكلام في الصفات، والكلام في الصفات كالكلام في الذات، فكما أن لله ذاتاً ليست كذات غيره، فله جل وعلا صفات تليق بجلاله وعظمته ليست كصفات غيره، وهو جل وعلا يتكلم بما شاء، فالكلام صفة من صفاته، والقرآن من كلامه، قال جل وعلا: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، الله يقول: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، فسمى القرآن كلامه، ولا محيد عن كلام ربنا، وأهل الأصول يقولون: والاجتهاد في محل النص كتارك العين لأجل القص(31/5)
قصة في الصبر على طلب العلم وثمرة ذلك
والعلم سهل، فلا يصيبك شيء من اليأس، فإن العلم يحتاج إلى صبر، أعطيك فائدة في قضية الصبر: أنتم تعرفون أبا حنيفة رحمة الله تعالى عليه إمام عظيم، وقد كان أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة يتيماً، واسمه يعقوب: وأمه كانت تقول له: يا أبا يوسف! فالظاهر أنه مكنى وهو صغير، وقد كان يتيماً تذهب به أمه عند حائك، أي: خياط ثياب، تريد أن يتعلم منه، فيعطيه دانقاً، والدانق لا يذكر في ذلك الزمان هو مثل القروش الآن، فكان يعطى دانقاً في اليوم، وكأنه جلس عند أبي حنيفة مرة أو مرتين فتوسم فيه الذكاء، فصار يأخذه من الحائك ويضعه في الحلقة، فحدث خصام بين أم أبي يوسف وبين أبي حنيفة، فجاءت أمام الناس تقول: أنت من ضيع ولدي وسبته، فقال أبو حنيفة -ومن مثل أبي حنيفة في الفراسة-: اذهبي عني يا رعناء! إن ابنك سيأكل الفالوذج بدهن الفستق، والفالوذج نوع من الحلوى، وهو في ذلك الزمن لا يوجد إلا عند الأثرياء، وأما الفالوذج بدهن الفستق فلا يوجد إلا في بيوت الخليفة مرتين أو ثلاثاً أو أربعاً بالسنة فهو لا يوجد ولا أحد يراه، فقالت: والله إنك شيخ خرف، فهي لا ترى أمامه إلا ولداً ضعيفاً يتيماً، فمات أبو حنيفة وماتت الأم، وصار أبو يوسف قاضي القضاة، فقال يحكي ذلك: والله! لقد جلست مع الرشيد أمير المؤمنين على مائدته، فجيء بطعام لا أعرفه، فقربه الرشيد مني وقال: يا أبا يوسف كل، قلت: ما هذا يا أمير المؤمنين؟! قال: هذا لا يصنع عندنا إلا قليلاً كل منه، هذا فالوذج بدهن الفستق، قال: فضحكت، فتعجب الخليفة وقال: ما يضحكك؟ قال: خيراً يا أمير المؤمنين! وأخبره بالقصة.
فقال هارون الرشيد رحمة الله تعالى عليه: لقد كان أبو حنيفة يرى بعيني عقله ما لا يراه غيره بعيني رأسه.
فكل مجد تريده لابد فيه مع التقوى إلى الصبر، والله أعلم.
الملقي: الوقفة الثالثة: مع قول الله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف:4]، وستعنى هذه الوقفة بالمعنى اللغوي لكلمة (أم) مع بيان الآية إجمالاً.
الشيخ: الله يقول: (وإنه) الضمير عائد على القرآن، {فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف:4]، أم الكتاب: هو اللوح المحفوظ، وفيه أقدار بيد الملائكة، مكتوبة بيد الملائكة، وبعض أهل العلم يقول: إن ما في أم الكتاب لا يقبل التبديل، وهذا حق، فالذي في أم الكتاب (اللوح المحفوظ) لا يقبل التبديل، وأما المكتوب بيد الملائكة فربما أصابه بعض التبديل، وهذا له شواهد، قال الله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]، {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [الرعد:39] فيما بين يدي الملائكة، {وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] أي: اللوح المحفوظ.(31/6)
معاني لفظة (أم) في اللغة والقرآن
معنى قول الله: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف:4] نبدأ باللغويات: (الأم) في اللغة: إزاء الأب، وتطلق في حقيقتها على الوالدة التي ولدت، ثم انتقل إلى إطلاقها على أكثر من ذلك، فتطلق على الوالدة القريبة وهي أمك مباشرة، وعلى الوالدة البعيدة مثل الجدات، ولهذا يقال عن حواء: أمنا؛ لأنها ولدتنا أجمعين، وإن كانت ولادة غير مباشرة.
وبعض اللغويين كـ الخليل بن أحمد يقول: إن الأم كل شيء ضم إليه ما حوله، هذا من الناحية اللغوية.
وأما كلمة (أم) في القرآن: فوردت على معانٍ عدة، نذكر بعضاً منها: وردت بمعنى (الأم) التي ولدتك، ومنه قول الله تعالى: {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ} [طه:40]، ولا ريب أن أم موسى هي التي ولدته.
وورد في القرآن لفظ (الأم) بمعنى أصل الشيء، قال الله تبارك وتعالى: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران:7] أي: أصل الكتاب.
وجاءت بمعنى (المآل)، قال الله تعالى: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:9] أي: منقلبه إلى الهاوية.
وجاءت بمعنى (الظئر)، وهي المرضعة، قال الله جل وعلا: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء:23] فليست أمك التي ولدتك، وإنما هي المرضعة.
وجاءت الأم مقصود بها مكة، قال الله جل وعلا: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} [الشورى:7].
وأم الكتاب هي الفاتحة.
وأطلق كذلك في القرآن على أمهات المؤمنين اللاتي هن أزواج نبينا صلى الله عليه وسلم.
هذا معنى كلمة (أم) في اللغة على وجه التوسع؟ قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف:4]، وللعلماء رحمهم الله قولان في معنى الآية: قول يقول: معنى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف:4] أي: أن هذا القرآن منسوخ في اللوح المحفوظ، أي: مكتوب في اللوح المحفوظ، ويدل عليه قول الله جل وعلا: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:75 - 79].
وقوله جل وعلا: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس:15 - 16]، هذه شواهد.
وقال آخرون: ليس المقصود: أنه منسوخ في اللوح المحفوظ، وإنما المقصود: أن ذكره في اللوح المحفوظ ذكر عليّ وجليل، والمعنى الأول -والعلم عند الله- أقرب إلى الصواب.(31/7)
وقفة مع قوله: (أفنضرب عنكم الذكر صفحاً)
الملقي: الوقفة الرابعة: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف:5]، وسيبين فيها معاني الضرب في القرآن.
الشيخ: كلمة الضرب في اللغة تأتي بمعنى النوع والصنف، وتأتي في اللغة بمعنى الرجل الخفيف القليل اللحم، قال طرفة: أنا الرجل الضرب الذي تعرفونني خشاش كرأس الحية المتوقد وعلمياً: يجوز الاستشهاد بقول طرفة؛ لأنه من العصر الجاهلي، وأما المتنبي: أو أحمد شوقي فلا يجوز الاستشهاد بهما؛ لأنهما بعد زمن الاحتجاج، والاحتجاج تقريباً إلى سنة مائة وعشرين هجرية، فالجاهليون أقوى حجة في شعرهم، فإذا احتجنا إلى شيء نستشهد به فإننا نرجع إلى شعر الجاهلية.(31/8)
معاني لفظة (ضرب) في القرآن
نعود فنقول: هذا في اللغة، وأما في القرآن فقد ورد الضرب على معانٍ منها: السير في الأرض، قال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [النساء:101]، وقال: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ} [المزمل:20]، وقال: {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ} [البقرة:273] أي: سيراً في الأرض.
ويأتي الضرب بمعنى (الإيذاء)، ويكون في القرآن على نوعين: ضرب بالسيف، كما في قوله تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} [الأنفال:12]، ويكون بالسوط أو بالشيء اليسير أو باليد، ومنه قوله تعالى في تهذيب النساء: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34].
وتأتي (ضرب) في القرآن بمعنى الالتصاق واللزوم، قال الله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} [البقرة:61]، وقال الله جل ذكره: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف:11].
وأما هنا: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} [الزخرف:5] أي: أفنعرض، والمقصود من الآية: أن القرشيين أسرفوا على أنفسهم في الذنوب وردوا كلام الله وكلام رسوله، فالله جل وعلا يقول لهم: إن إعراضكم ليس مسوغاً في أن نترك إنذاركم.
{أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} [الزخرف:5]، هذه صفحة العنق، والإنسان إذا أعطى صفحة عنقه لأحد فكأنه أعرض عنه، وإعطاؤك صفحة العنق للناس يكون لأحد سببين: إما كبراً، وهو الأغلب، وإما تغافلاً، وهو الأقل، لكنه يقع، يعني: يكون الشيء موجوداً وأنت تتغافل عنه، لكن العلماء اختلفوا في معنى الذكر هنا على قولين: قال بعضهم: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} [الزخرف:5] أي: القرآن والمواعظ والذكر، ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: إن الذكر هنا هو ذكر العذاب، أي: أفنترك عذابكم لكونكم كنتم قوماً مسرفين، وأياً كان المقصود، فإن المعنى من الآية إجمالاً يقارب قول الله جل وعلا: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة:36].(31/9)
وقفة مع قوله تعالى: (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم)
الملقي: الوقفة الخامسة: مع قول الله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:31 - 32].
الشيخ: الآن تتعلم من الآية -أعاننا الله وإياك- كيفية الرد على المخالف، فالقرية إذا وردت في القرآن فهي بمعنى: المدينة، والله يقول هنا: (وقالوا) أي: القرشيون، {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، فهم يقولون: إن محمداً نشأ يتيماً فالأولى ألا ينزل القرآن على يتيم، وكانوا يزعمون أنه كان ينبغي أن ينزل القرآن على رجل عظيم من القريتين، وقصدوا بالقريتين مكة والطائف.
وقيل: إنهم قصدوا بالرجلين: عروة بن مسعود والوليد بن المغيرة، وأياً كان المقصود من الرجال فهم يقولون: إن محمداً لا يستحق أن يعطى النبوة والرسالة ويختم به الأنبياء، فالله جل وعلا رد عليهم فقال: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف:31 - 32]، فهذا استفهام إنكاري، ثم قال بعدها: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:32]، فالآن هؤلاء القائلون بهذا القول يعترفون بأن الذي يوزع الأرزاق ويقسمها هو الله، فالقرشيون مؤمنون: أن الذي قسم الأرزاق وجعل هذا غنياً وهذا فقيراً، وهذا حراً وهذا عبداً، وهذا خادماً وهذا مخدوماً، وهذا سيداً وهذا تابعاً، مؤمنون أن الذي يفعل هذا هو الله، ويؤمنون أن الأرزاق من الله، فالله يقول لهم: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:32].
فإذا كان الله جل وعلا في مسائل الرزق العادي لم يكلها إليكم، فكيف يكل إليكم تقسيم النبوة! فإعطاء النبوة أعظم من إعطاء الأرزاق، وقسمة النبوة بين الخلق أعظم من قسمة المعيشة، فالله يقول لهم: أنتم مقرون أن الأرزاق إنما قسمها بينكم الله، فكيف يعقل أن تطالبوا بشيء لا يمكن أن تنالوه، فإذا كان الله لم يكل إلى أحد من خلقه أن يقسم أرزاق الناس طعاماً وشراباً وإيواءً وسكنى، فكيف يكل الله إلى غيره أن يقسم النبوة، والنبوة أعظم من أرزاق الناس.
{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف:32] كما هو ظاهر اختلاف الناس، {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف:32] (سُخرياً) هنا بمعنى: الخدمة، مبرأة من الاستهزاء، فالمقصود: أن الله جل وعلا جعل الناس بعضهم لبعض خدماً؛ حتى تقوم الحياة، فكما تحسنه أنت لا يحسنه غيرك، وما يحسنه غيرك لا تحسنه أنت، لكن تأمل قول الله: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:32] نبه بالأدنى على الأعلى، ((لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا))، ثم قال الله: {وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32].
واختلف العلماء في معنى الرحمة هنا، والذي أراه -والعلم عند الله- أن المقصود بها: الجنة؛ لأنه لا يظهر الفرق بين رحمة الله وبين ما يجمعون إلا إذا كان شيئاً خالداً وشيئاً غير خالد، والجنة نعيمها خالد بخلاف متاع الدنيا فإنه مهما عظم فهو غير خالد، فيكون معنى قول الله: {وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32] يعود على الجنة في أظهر أقوال العلماء.(31/10)
وقفة مع قوله تعالى: (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب)
الوقفة السادسة: مع قول الله تعالى: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39]، حيث تعنى الوقفة ببيان أحوال النار -أعاذنا الله منها-.
الشيخ: النار هي الخزي الأعظم، وما فر هارب من شيء مثل النار، وكل بلاء دون النار فهو عافية، لأن الخزي الأكبر في النار.
فهنا الله جل وعلا ينكل بأهل النار قائلاً: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:36 - 38] ثم قال الله: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39].
فالمقصود من الآية: أن أهل النار عياذاً بالله محرومون حتى من التأسي.
والتأسي والتسلي أن يرى الإنسان مصيبة غيره فيتعزى بها عن مصيبته، وهذا من أعظم ما يهون مصائب الدنيا، وأي أحد في الدنيا لديه مصيبة لو أراد أن يرى أحداً أعظم منه لوجد، أو أحداً نظيراً له في مصيبته لوجد، تقول الخنساء وقد فقدت أخاها صخراً: يذكرني طلوع الشمس صخراً وأذكره لكل مغيب شمس ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي فمن أعظم ما يخفف المصائب: التأسي، وذلك أن الإنسان يتذكر أن مثل هذه المصيبة تقع في غيره، لكن الله جل وعلا يحرم أهل النار عياذاً بالله من هذا، فلا يجدون تأسية، قال الله: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39]، مع أن الاشتراك في المصيبة ينفع في الدنيا، لكن عذاب الآخرة -عياذاً بالله- لو اشترك فيه أهل الأرض جميعاً فلا ينفع ذلك فيه، إذاً فالمعنى المقصود من الآية نفي وجود التأسي في أهل النار.(31/11)
وقفة مع قوله تعالى: (ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك)
الملقي: الوقفة الأخيرة: وهي مع قوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:57]، حيث تعنى الوقفة بما يلي: أولاً: بيان ضارب المثل.
ثانياً: الجمع بين الإفراد والجمع في الآية التي بعدها.
ثالثاً: إظهار المعنى الأرجح لقوله سبحانه: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف:61].
الشيخ: هذه الآيات نختم بها، وهي هامة جداً في أن تتصورها علمياً، ولا يمكن فهم القرآن بغير السنة، وسورة الزخرف قلنا: إنها سورة مكية، ومن السور المكية سورة مريم، وسورة مريم فيها ثناء على عيسى، وإخبار أن النصارى عبدت عيسى.
ومن السور المكية سورة الأنبياء، قال الله في الأنبياء: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98]، وقد كان هناك صراع بين النبي صلى الله عليه وسلم والملأ من قريش، فذات مرة كان هناك رجل قرشي اسمه عبد الله بن الزبعرى، وعبد الله هذا أسلم بعد ذلك حتى لا أحد يقع فيه، لكنه قبل إسلامه كان بليغاً فصيحاً ورجلاً ذا جدل، فجلس مع المكيين، فالمكيون يقولون: إن محمداً صلى الله عليه وسلم يقول: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98]، فقال لقريش: للوليد وأبي جهل: فسكتم؟ قالوا: سكتنا، قال: أما تعرفون كيف تردون؟ قالوا: كيف نرد؟! قال: ألم يثن محمد على عيسى؟ قالوا: نعم، فقال: إن محمداً يقول: إن الآلهة ومن يعبدها في النار، ونحن نرضى أن نكون مع آلهتنا في النار إذا كان عيسى مع من يعبده في النار، فيكفينا فخراً أن نكون نحن وآلهتنا والنصارى وعيسى في النار، وكلام محمد متناقض؛ لأنه يقول لكم: إن عيسى نبي ومرسل ومصدق، ويقول في نفس الوقت: إن عيسى في النار.
ففرح القرشيون بكلامه وضجوا.
والآية فيها قراءتان: قال الله تبارك وتعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:57] (يصِدون) -بالكسر- و (يصُدون) بالضم، معناه: يضجون بالحديث، فإذا قلنا: إن الآية في قراءة (يصدون) أصبحت منه، أي: بسببه، وإذا قلنا: يصدون بالكسر، تصبح منه هنا: أي عنه، أي: يعرضون عنه.
فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وفرح القرشيون، أنزل الله جل وعلا قوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101]، مع أنه ليس لـ عبد الله بن الزبعرى حجة فيما قال؛ لأن الآية تتكلم عن غير العاقل: (إنكم وما تعبدون).
يقول الله: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} [الزخرف:57] الذي ضرب المثل هو عبد الله بن الزبعرى السهمي، وضرب المثل بعيسى، قال الله: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:57] أي: يعرضون عنك، وقالوا في مثلهم: {أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} [الزخرف:58] يعني: نقبل أن تكون آلهتنا مثل عيسى في الحال، قال الله: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58]؛ لأن أمرهم هذا لا يقوم على حجة؛ لأن (ما) في قول الله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء:98] تدل على غير العاقل.(31/12)
إشكال وجوابه
لكن يبقى إشكال وهو: أن الله قال: (ما ضربوه) بواو الجماعة، ونحن قلنا: إن الذي ضرب المثال رجل واحد وهو عبد الله بن الزبعرى، والجمع أن يقال: هناك أمران: الأمر الأول: أن العرب جرى في كلامها أنها تطلق الفرد وتريد الجماعة، وتطلق الجماعة وتريد الفرد، قال قائلهم: فسيف بني عبس وقد ضربوا به نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد ومعنى البيت: أنه كان هناك رجل اسمه ورقاء بن جهير، فجاء رجل اسمه خالد فقتل: جهيراً والد ورقاء، فغضبت قبيلته بنو عبس، فجاء ورقاء ينتقم لأبيه، وأخذ السيف وهو رجل واحد، وأراد أن يضرب خالداً لكن السيف نبا، أي: أخطأ ولم يصب، والعرب تقول: لكل سيف نبوة، ولكل عالم هفوة، ولكل صديق جفوة، ولكل جواد كبوة.
فالجواد إذا عثر يقال: كبا، والصديق إذا بعد يقال: جفا، والسيف إذا لم يصب يقال: نبا، والعالم إذا أخطأ يقال: هفا، ولا يسلم أحد من ذلك.
الشاهد: أن الشاعر يريد أن يسخر من بني عبس، فجمع ما بين الأمرين اللذين نريد إثباتهما في القصة، فقال: فسيف بني عبس وقد ضربوا به فتكلم عن الجماعة ثم أفرد فقال: بيدي ورقاء، وورقاء رجل واحد.
فهذا من الأدلة على أن العرب تذكر الجمع وتريد به الإفراد.
والأمر الثاني: أن الإنسان إذا أيد قولاً فإنه يصبح كالمشارك فيه، فالجاهليون فرحوا بقول عبد الله بن الزبعرى فكانوا شركاء معه، قال الله جل وعلا: {إِذْ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} [الشمس:12]، وقال: (فعقروها) فذكر فرداً، وذكر جماعة؛ لأنهم كانوا راضين عن صنيع من عقر الناقة، فالذي ضرب المثل هو عبد الله بن الزبعرى.
قال الله: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:57 - 58]، ثم قال الله بعد هذه بآيتين: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف:61]، وفي قراءة: (وإنه لَعَلَم للساعة).
والأولى هي المشهورة عندنا.
{وَإِنَّهُ} [الزخرف:61] الضمير في (إنه) يعود على عيسى، هذا أرجح الأقوال، ولا ينبغي أن يقال غيره، وإن كان بعض العلماء قد قال بغيره لكنه بعيد جداً، فسنبقيه على عيسى.
{وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف:61] يحتمل معنيين: الجمهور على أن معناه: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف:61] أي: وإنه أمارة وعلامة من علامات الساعة، أي: نزول عيسى علامة من علامات الساعة، وهذا تؤيده السنة.
وقال آخرون -وهو منسوب لـ مجاهد فيما أظن وغيره لكنه بعيد-: إن المعنى: إن قدرة عيسى على إحياء الموتى دلالة على قدرة الله على إحياء الناس؛ لأن الذي أعطى عيسى القدرة هو الله، لكن هذا القول بعيد، والصواب: أنه أمارة من أمارات الساعة.(31/13)
الأسئلة(31/14)
نصيحة في طلب العلم
السؤال
هذا أحد الإخوة يقول: ما نصيحتكم لي في الطلب؟
الجواب
الطلب يحتاج إلى شيء من التعب، لكن إذا كان هناك في الدرس أناس جادون في طلب التفسير فمن هذا اليوم يقتنون كتباً، فيقرءونها كثيراً بشغف، ويحررون منها المسائل، وهي: البرهان في علوم القرآن للزركشي، والمحرر الوجير لـ ابن عطية هذا تفسير، وشرح المعلقات السبع للزوزني، وقدر الإمكان يقرأ في كتاب الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه (أضواء البيان)، وأخمس: بتفسير ابن كثير.
فنبدأ بهذه الخمسة لمدة ستة أشهر، وبعد الستة أشهر نتكلم عن مرحلة ثانية في الطلب إن شاء الله تعالى.(31/15)
تفسير قوله تعالى (ليس لك من الأمر شيء)
السؤال
أحسن الله إليك يقول: ما تفسير قول الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128]؟
الجواب
أي أن الأمر كله لله إلا ما أعطاه الله لنبيه، وليس لأحد من الأمر إلا ما أعطاه الله إياه.(31/16)
نصيحة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
السؤال
يا شيخ كما تعلم أنه سيقام ملتقى بعنوان: (سفينة النجاة) في نهاية هذا الأسبوع يوم الجمعة، ويحتاج الإنسان المستقيم مثل هذه المواضيع، فهل من كلمة توجهوها للشباب في أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمشاهد في هذا الزمان؟
الجواب
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يخفى عليكم أنه شعيرة عظيمة بها قوام الدين، ويحتاج إلى أمور: أولها: القناعة بحاجة الناس إلى هذا.
ثانيها: الطريقة المثلى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالحماس وحده لا يكفي، فلابد أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مصحوباً بالعلم.
والذي فهمته من الشيخ يوسف وفقه الله: أن هناك علماء أفاضل سيشاركون في هذا، فستجدون عندهم إن شاء الله الخير العميم.(31/17)
صور من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم
لقد كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم حياة عظيمة، ومليئة بالحكم والعبر والأحداث فقد أفناها داعياً إلى ربه، وقطع مشوار حياته وهو يوجه الناس إلى الخير وينهاهم عن الشر، فما من خير إلا ودلهم عليه، وما من شر إلا وحذرهم منه.
فحري بالعبد المسلم أن يدرس سيرة نبيه؛ حتى يجعل من مراحل حياته صلى الله عليه وسلم نبراساً يضيء له طريق الخير في ظلمات الفتن، وينجيه من عظيم شر المحن.(32/1)
ذكر بعض من أخذ القرآن من فم النبي من أصحابه
{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5]، فهو عليه الصلاة والسلام أول ما أنزل عليه الوحي كان يسابق جبريل في أن يأخذ القرآن عنه؛ خوفاً من أن يتفلت القرآن منه، فأنزل الله جل وعلا قوله: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:16 - 19] فأصبح صلى الله عليه وسلم لا يعالج في القضية مع جبريل.(32/2)
مذاهب الشيعة في المهدي
والشيعة ينقسمون إلى أقسام: فالشيعة الإمامية الاثني عشرية يقولون: إن الإمام المهدي المنتظر هو محمد بن الحسن العسكري، وهو عندهم قد دخل في سرداب في مدينة سر من رأى، وهو الإمام الثاني عشر في مذهبهم، وأما الإسماعيلية فيقولون بأنه غير ذلك؛ لأنهم يفترقون عند إسماعيل هذا.
والكيسانية فرقة من فرق الشيعة ظهرت في أيام الأمويين، وكانوا يزعمون أن المهدي هو محمد ابن الحنفية أخو الحسن والحسين غير الشقيق، يقول شاعرهم: ألا إن الأئمة من قريش حماة الدين أربعة سواء علي والثلاثة من بنيه هم الأسباط ليس بهم خفاء فسبط سبط إيمان وبر وسبط غيبته كربلاء وسبط لا يذوق الموت حتى يقود الخيل يقدمها اللواء(32/3)
مذهب أهل السنة في المهدي
والذي عليه أهل السنة أن المهدي رجل من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه يكون في آخر الزمان، ويملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً.
وظاهر النصوص والعلم عند الله يدل على أن الأقصى يحرر قبل خروج المهدي، ثم بعد ذلك تتكالب الأمم على هذه الأمة وقت خروج المهدي، فيصلي المهدي بالناس في المسجد الأقصى، وتقام صلاة العصر، وفي الوقت الذي تقام فيه صلاة العصر قبل أن يتقدم المهدي للإمامة ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام، فإذا طأطأ رأسه يظن من يراه أنه يقطر، وهو لم يخرج من ديماس، والديماس هو المكان الذي يتوضأ فيه، أي: ليس متوضئاً، قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع، يميل إلى الحمرة، يظهر كأن به بلل وإن لم يكن متوضئاً).
وعندما ينزل عيسى يتأخر المهدي، فيمتنع عيسى عن التقدم، ويتقدم المهدي ليصلي، وقد قيل في تعليلها والعلم عند الله: أن عيسى في قلبه الإنجيل، وأما المهدي ففي قلبه القرآن، والقرآن مقدم على الإنجيل، ومن هنا تعلم يا حافظ القرآن كله أو بعضه أي علم موجود في صدرك.
فيتقدم المهدي فيصلي بالناس، ومع عيسى ابن مريم حربة يقتل بها الدجال، والدجال قد خرج في أيام المهدي، لكن الله جل وعلا يقتله على يد عيسى ابن مريم.(32/4)
من مواقف عبد الله بن مسعود
من مواقفه رضي الله عنه وأرضاه أنه كان في ركب فقابلوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال لهم: أفيكم عبد الله بن مسعود؟ قالوا: نعم، فأخذ الناس يسألونه ليعلموا هل هو ابن مسعود أم لا، قيل له: أي آية في كتاب الله أرجى؟ قال: قول الله جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53].
قيل له: أي آية في كتاب الله أعدل؟ قال: قول الله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:7 - 8].
قيل له: أي آية في كتاب الله أحكم؟ قال: قول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:90]، وما زالوا يسألونه وهو يجيب رضي الله عنه وأرضاه.
فهذا واحد ممن قال صلى الله عليه وسلم فيهم: (خذ القرآن من أربعة).
ثانيهم: أبي بن كعب سيد القراء، أي مؤمن على الجبلة يفرح بما يشعر أنه رحمة من الله، الله يقول: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] قال صلى الله عليه وسلم لـ أبي بن كعب: (إن الله جل وعلا أمرني أن أقرأ عليك سورة البينة، قال: يا رسول الله! أوقد سماني الله لك؟ قال: نعم)، فانظر يا أخي أي فخر أرفع، وأي مقام أشرف من مثل هذا، أن الله جل وعلا يوصي نبيه ويسمي أبياً باسمه، ويأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقرأ سورة البينة على هذا الصحابي الجليل، ما نالها إلا لما كان القرآن محتوي على قلبه، ولهذا يعد عند أهل العلم سيد القراء رضي الله عنه وأرضاه.(32/5)
من خبر معاذ بن جبل
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (خذوا القرآن من معاذ بن جبل)، ومعاذ هذا أدرك النبي صلى الله عليه وسلم شاباً وكان كريماً، فاضطر أن يستدين حتى يقضي دينه، حتى حجر عليه، فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن هادياً يعلم الناس وجابياً للزكاة حتى يستزيد منها رضي الله عنه وأرضاه، وودعه النبي صلى الله عليه وسلم وهو غاد إلى اليمن وقال له: (يا معاذ! لعلك أن تأتي مسجدي وقبري)، وقوله عليه الصلاة والسلام هذا إشارة إلى أن معاذاً لن يدرك موت النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة.
وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذ رضي الله عنه وأرضاه في اليمن، ثم قدم معاذ المدينة بعد وفاة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فأتى القبر وسلم وبكى كما أخبر رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
ثم خرج مجاهداً إلى الشام، فأصاب الشام طاعون عمواس، أي: نسبة إلى مدينة اسمها عمواس التي أصابها طاعون، فعرف هذا الطاعون باسم تلك المدينة، وأضيف إليها، وقد مات فيه أبو عبيدة بن الجراح، ثم مات معاذ رضي الله عنه وأرضاه بعد أن ذكر خطبة يبين فيها صبره على البلاء، وثقته برحمة رب الأرض والسماء، وهو قد تجاوز الثلاثين بقليل رضي الله عنه وأرضاه.(32/6)
من خبر سالم مولى أبي حذيفة
وآخر أولئك المباركون سالم مولى أبي حذيفة، وسالم من المهاجرين الأولين، وكان يصلي بالناس في المدينة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان من أحفظ الصحابة للقرآن، ومات رضي الله عنه وأرضاه شهيداً في اليمامة وقد قطعت يداه، فتلا قول الله جل وعلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:144]، وقول الله تبارك وتعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146]، ثم قال: ما فعل أبو حذيفة وما فعل فلان وسمى رجلاً آخر؟ قيل له: استشهد! قال رضي الله عنه وأرضاه: فادفنوني بينهما، فدفن بين صحابيين رضي الله عنه وأرضاه.
هذا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال صلوات الله وسلامه عليه: (المهدي مني يوافق اسمه اسمي، يحكم سبع سنين، يملأ الأرض عدلاً كما ملأت جوراً)، فـ المهدي أحد الرجال المنتظرون تاريخياً، وقد أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عنه: (أقنى الأنف، أجنى الجبهة)، وأجنى الجبهة أي أن شعر الرأس منحسر عن اليمين وعن الشمال، وهذا الرجل يكون في آخر الزمان، واسمه محمد بن عبد الله الحسني عند أهل السنة، وهو من ذرية الحسن بن علي رضي الله عنه وأرضاه، وهو يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، ويكتب له الإمامة، فيبايع ما بين الركن والمقام.(32/7)
من خبر ابن مسعود وفضله
وفي هذا الخبر النبوي أن هناك أربعة امتازوا أكثر من غيرهم في أخذهم القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، والناظر في هؤلاء الأربعة يعرف شيئاً من الهدي والسمت الذي أخذوه عن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، قال عليه الصلاة والسلام: (خذوا القرآن من ابن أم عبد)، وهو عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
وهذا الصحابي الجليل من هذيل، وقد مات أبوه في الجاهلية وأصبح ينسب إلى أمه، وهو وأمه دخلا في الإسلام، يقول أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه وهو قادم من اليمن: ما كنا نظن عبد الله بن مسعود وأمه إلا من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكثرة ما يدخلان عليه رضوان الله تعالى عليهما.
وعبد الله كان دقيق الساقين، وقد ارتقى ذات يوم شجرة فضحك الصحابة متعجبين من دقة ساقيه، قال صلوات الله وسلامه عليه: (أتعجبون من دقة ساقيه! لهما في الميزان أثقل من جبل أحد)، والميزان أيها المبارك ينصب يوم القيامة، وله كفتان، قال الله جل وعلا: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] ما الذي يوزن؟ وقد اختلف العلماء في الذي سيوزن اختلافاً كثيراً، لكن أرجح الأقوال أنه يوزن العمل، وصاحب العمل، والصحف التي يدون فيها العمل، وكل نشهد له أدلة وقرائن من أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا الصحابي الجليل يقول: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار في منى، ومنى هي الجبال المعروفة التي يتعبد الله فيها في أيام الحج، فكان النبي في غار معه أصحابه، يقول ابن مسعود: فبينما نأخذ القرآن رطباً من فيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ابتدرتنا حية، فقطع صلى الله عليه وسلم قراءته وقال: (اقتلوها، ففرت إلى جحرها، فقال عليه السلام: سلمت منكم وسلمتم منها)، ثم أكمل قراءته، وكانت السورة سورة {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} [المرسلات:1]، إن هذا الموقف أيها المبارك يدلك على شيء عظيم، فتجاوز مسألة الحية ومسألة عبد الله بن مسعود ومسألة جحر الحية، إن النبي عاش ومات ولا يعرف التكلف في حياته، وهذه هي العظمة في حياة العظماء الربانيين حقاً، فلا يتصنعون لأحد، وإنما فطرت قلوبهم للواحد الأحد، فهذا النبي يقرأ القرآن وهو أعظم مخلوق، وحوله أصحابه، فلما رأى عدواً قد خرج وهو الحية قطع تلاوته؛ حتى ينفك وينتهي من عدوه، ولم يغير هذا في هيبته ولا وقاره ولا سكونه ولا خشيته صلوات الله وسلامه عليه، لأنه عليه الصلاة والسلام عبد لله بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
إن أعظم ما نبتلى فيه أننا نتزين للخلق، لكن الرسل العظام والأنبياء الكرام صلوات الله وسلامه عليهم كانت قلوبهم لله، فيخرج العمل منهم من غير كلفة، لأنهم يتعبدون الله وحده دون سواه، وتلك منزلة عظيمة ومرتبة جليلة لا يوفق لها إلا الصالحون، جعلني الله وإياكم منهم.
هاجر عبد الله بن مسعود إلى المدينة، وفي غزوة بدر ضرب رجلان فتيان من الأنصار أبا جهل فسقط صريعاً دون أن يموت، فجاء عبد الله بن مسعود ليجتز رأس أبي جهل، فقال هذا الطاغية وعبد الله بن مسعود على رأسه: لقد ارتقيت مرتقاً صعباً يا رويعي الغنم.
وهنا تفقه أيها المبارك أن بعض الناس عياذاً بالله يقع في قلبه الكبر والطغيان، فحتى أقرب الأشياء لديه لا يراها؛ من كثرة ما جثم على قلبه من الكفر والطغيان، ففرعون وهو فرعون لما رأى الموت قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90]، وأما أبو جهل فقد رأى الموت ومع ذلك لم يستعطف عبد الله بن مسعود، ولم يقل كلمة يستجر بها الرحمة، وإنما قال يعنف عبد الله: لقد ارتقيت مرتقاً صعباً يا رويعي الغنم! وكل نفس بشرية قد أودعت فجوراً وأودعت تقوىً، يقول الله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:7 - 8]، فكل نفس قابلة لأن تتقي وقابلة لأن تفجر، والفضل من الرب تبارك وتعالى وحده، فإذا أراد الله بعبد خيراً هيأه لباب التقوى كما هيأ المؤمنين، جعلني الله وإياكم منهم.(32/8)
الذين ادعوا الألوهية(32/9)
ادعاء الدجال للألوهية
فكل من سبق أيها المبارك ممن ظهروا كانوا يدعون النبوة، وأما الألوهية فادعاها قليل، ادعاها النمرود، وادعاها فرعون، لكن الذين كانوا يعبدون النمرود أو يعبدون فرعون لم يعبدونه قناعة، وإنما عبدوه خوفاً؛ لأنه لا فرعون ولا النمرود معهما قرائن أو أدلة على ذلك، وأما الدجال فالله جل وعلا يعطيه قرائن، فيمر على القرية الخربة -فأي قرية الآن تسكن فيها كنوز من قديم السنين- فإذا آمنت به القرية أمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض فتنبت، ويدعو كنوزها، فتخرج تتبعه كنوزها كيعاسب النحل، ويمر على القوم في رغد من العيش فيدعوهم فلا يتبعونه، فيتركهم ممحلين ليس معهم شيء، فهذه إحدى أموره.
ثم إنه يقول للرجل من الأعراب: أرأيت لو أحييت لك أباك أو أمك أكنت متبعني؟ فيقول: نعم، فيستعين بالشياطين فتتمثل الشياطين في صورة أبي الرجل وفي صورة أمه، ثم يقول: هذا أبوك وهذه أمك، فربما اتبعه الرجل.
ومعه ماء ونار، يقول صلى الله عليه وسلم: (فما ترونه ماء إنما هو نار تلظى، وما ترونه ناراً إنما هو ماء بارد، ثم قال صلوات الله وسلامه عليه: فمن أدرك شيئاً من هذا فليغمض عينيه ثم ليقتحم ما يراه ناراً؛ فإنه ماء بارد).
فأيها المبارك أنخ مطاياك عند قوله صلى الله عليه وسلم: (اغمض عينيك)، فالإنسان إذا أراد أن يواجه الحقائق بقوه لا يثبت، لكن ثمة أنواع من العواصف يحتاج أن نطأطئ الرأس حتى نعبر ونمر، وهذا أمر يرزقه العقلاء في كيفية التعامل مع الحوادث والفتن، فهذا نبي الأمة يوصي ويقول: فليغمض عينيه؛ لأنه لو فتح عينيه سيرى ناراً، وإذا رأى ناراً لن يستطيع أن يدخلها حتى ولو كان يملك يقيناً، لكن الحل هنا أن يغمض عينيه ولا يرى الناس فيقتحمها، فإذا اقتحمها سقي ماء بارداً.
لكن تنبه أيها المبارك! إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (مكتوب بين عينيه كفر)، فالله جل وعلا يظهر النقص على كل مخلوق من غير استثناء، فهذا قتادة بن دعامة السدوسي رحمة الله عليه كان يحدث ذات يوم في مجلس، فصار يسرد الأحاديث، ففتن به الطلاب، فقال له أحد الطلاب: يا إمام! أراك حافظاً، قال: والله ما حفظت شيئاً أبداً وضيعته، وهذه كلمة لا تليق لا من قتادة ولا من غيره، لكن الله يظهر النقص على عباده، فقام رحمه الله من مجلسه وإذا به يضيع المكان الذي وضع فيه حذاءه، فأظهر الله جل وعلا عليه النقص في الحين الذي امتدح فيه.
فالدجال يأمر السماء فتمطر، ويأمر الأرض فتنبت، ومعه ماء ونار، وتتبعه الكنوز كيعاسيب النحل، ومكتوب بين عينه كفر يقرؤها كل مؤمن، وإحدى عينيه كأنها عنبه طافية، فرغم كل تلك القدرات الخارقة لا يستطيع أن يذهب الأذى الذي في عينيه، ولا أن يمسح الكتابة التي في جبهته، وهذا سر يبين الله فيه نقص هذا الرجل حتى يعرف المؤمنين أن ربهم كامل، يقول صلى الله عليه وسلم: (إن ربكم ليس بأعور)، وقال: (ما من نبي إلا وحذره قومه، وأنتم آخر الأمم وأنا آخر النبيين، وإنه خارج فيكم لا محالة).
ثم يأتي عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام فيقتل الدجال، ثم إن عيسى كذلك يعيش ما كتب الله له أن يعيش، ثم يخرج يأجوج ومأجوج، وهذا كله من أخبار الساعة، ثم بعد ذلك تمر أحداث وأحداث حتى يخرج الخلق، ويكون قيام الخلق لرب العالمين جل جلاله.(32/10)
رحلة الجسد(32/11)
ذكر من يغسل من الموتى ومن لا يغسل
نأخذ خبراً آخر من أخباره صلى الله عليه وسلم، عليه الصلاة والسلام: ففي أُحد أمر ألا يغسل الشهداء، وقال: (ادفنوهم بدمائهم، ثم قال: أنا شهيد على هؤلاء)؛ لأنهم رضي الله عنهم وأرضاهم نصروه، وسنذكر فوائد عن هذا الحدث: أولاً: المنازل عند الله تختلف، يقول الله: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69].
فالميت الأصل أنه يكرم جسداً وروحاً إذا كان مؤمناً، ولا يكرم لا جسداً ولا روحاً إذا كان كافراً، والجسد له رحلة، والروح لها رحلة، فأما رحلة الجسد فإن أول ما يصنع بالميت أن تغمض عيناه؛ حتى لا تتبع بصره، وهذا الجسد أمر الناس كفاية بأن يغسلوه، واستثنى الله الشهيد كما سيأتي.
من يغسل الميت؟ يغسل الميت في المقام الأول وصيه، وهو من وصى الميت أن يغسله، والميت إما أن يكون ذكراً أو يكون أنثى، فإذا كان رجلاً فلا يجوز للنساء أن يغسلوه، وإذا كان أنثى فلا يجوز للرجال أن يغسلوها، إلا حالتين تستثنى من هذا: الحالة الأولى: إذا كان الميت أحد الزوجين، فإن الرجل يجوز له أن يغسل امرأته، والزوجة يجوز لها أن تغسل زوجها.
وأبو بكر رضي الله عنه وأرضاه أوصى أن تغسله أسماء بنت عميس زوجته، وأسماء بنت عميس امرأة صالحة صوامة قوامة، وقد وصى الصديق رضي الله عنه أن تغسله، وأبو بكر رضي الله عنه في سبب موته روايتان لا تعارض بينهما، فرواية تقول: إنه اغتسل في يوم بارد فأصابته الحمى، فمكث خمسة عشر يوماً ثم مات، وكان ذلك يوم الإثنين ليلة الثلاثاء بين المغرب والعشاء لثمان بقين من جماد الأولى.
والرواية الثانية: أنه قبل عام من موته أكل طعام برفقه الحارث بن كلدة، الحارث بن كلدة هذا هو طبيب العرب، فقال الحارث لـ أبي بكر بعد أن أكلا الطعام: لقد أكلنا أنا وأنت سم سنة كاملة، فمات الحارث وأبو بكر في يوم واحد على الحول تماماً من اليوم الذي أكلا فيها الطعام، وغسلته أسماء بنت عميس.
موضع الشاهد: أن أسماء وصى أبو بكر أن تغسله فغسلته.
وأنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه أوصى أن يغسله محمد بن سيرين، ومحمد بن سيرين معبر رؤى، وهو أحد التابعين الكبار، فقد جاءه رجل قبل أن يغسل أنس بمدة طويلة فقال له: أيها الإمام! إنني رأيت رؤيا، قال: اقصص علي رؤياك، قال: رأيت فيما يرى النائم أن رجلاً -ولم يسمه- رأى أن ساقه مكشوفة، ونبت شعر على تلك الساق، فما تأويلها؟ فقال محمد بن سيرين على البداهة: هذا رجل يركبه دين، ثم يسجن بسبب الدين، ثم يموت وهو مسجون، قال: انتهيت؟ قال: نعم، قال السائل: رأيتها فيك، أي: في محمد بن سيرين، فركب محمد بن سيرين دين وسجن، وفي الفترة التي كان فيها مسجوناً مات أنس رضي الله عنه وأرضاه وأوصى أن يغسله محمد بن سيرين، فأخرج من السجن وغسل أنساً، ثم عاد إلى السجن ومات وهو في السجن كما وقعت الرؤيا، فصدق الله ذلك الرائي ما رأى.
موضع الشاهد من هذا هو إنفاذ الوصية في الغسل، قلنا: رحلة الجسد، ثم بعد ذلك يكفن، ثم يوضع الجسد في قبره، والقبور مساكن الموتى، وهي أول ديار الآخرة، وتراها وهي ظاهرة شيئاً واحداً وبينها في الداخل فرق لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، يقول الله: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100].
فهذه أيها المبارك رحلة الجسد، فتحل أربطة الكفن، ويقرب الميت وجهه من الجدار الأمامي للحد المتجه للقبلة، فالنبي عليه الصلاة والسلام ذكر الكبائر ثم قال: (واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً) أي: قبلتكم أحياء في الصلاة والدعاء، وقبلتكم أمواتاً في الاحتضار والدفن، فيقرب الميت من جدار القبر الأمامي، ويوضع تراب خلف ظهره؛ حتى لا يسقط.
وبعد أن تحل عنه أربطة الكفن توضع لبن؛ حتى لا يأتي التراب عليه مباشرة، فالنبي عليه الصلاة والسلام وضع على لحده تسع لبنات، ثم بعد ذلك يحثى التراب.
فهذه رحلة الجسد علمياً.(32/12)
رحلة الروح
وأما الروح عندما تخرج فتصعد إلى السماء، وهذه السماء لها أبواب، فتفتح لأقوام وتصد عن أقوام، فكل سماء تتحرج أن تمر عليها روح الكافر، وكل سماء يتمنى أهلها أن تمر عليهم روح المؤمن، ويشيع روح المؤمن من كل سماء مقربوها، وتنادى بأحسن الأسماء حتى تصل إلى العرش، فيقول أحكم الحاكمين: أرجعوها إلى الأرض فإني قد وعدتهم: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55]، فتعود الروح إلى البدن، فروح المؤمن تعود إليه بلطف، وروح الكافر تطرح إليه طرحاً، قال الله جل وعلا: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]، ثم تلتصق الروح بالبدن لتكون مستعدة لسؤال الملكين وما يعقب ذلك من أمور.
ونعود لقضية الشهداء، فالشهداء في هذا الخضم أرفع الناس مقاماً، إن إنساناً يرى الموت عياناً ثم لا يتأخر من أجل إعلاء كلمة الله فإنه لا يحتاج إلى أن يشفع له أحد، فالشهيد شافع وليس مشفوعاً فيه، وقد وقاه الله جل وعلا فتنة القبر، قال صلى الله عليه وسلم: (كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة)، فإذا أدخل القبر فإنه لا يسأل ولا يختبر ولا يفتتن، ولا حاجة أن يصلى عليه فيدع الناس له؛ لأنه شافع غير مشفوع فيه، ولا يمنع ذلك من الدعاء له، لكن أن يكون هذا لزاماً كما يكون في حق غيره فلا.
فالنبي صلى الله عليه وسلم وقف على سبعين قد ضرجوا بمائهم منهم عمه حمزة رضي الله عنه وأرضاه، فلما رأى حمزة مضرجاً بدمائه قد مثل به بكى صلوات الله وسلامه عليه، وكان عليه الصلاة والسلام يحب عمه حمزة حباً جماً، وكنية حمزة أبو عمارة رضي الله عنه وأرضاه.
هؤلاء الأخيار وقف عليهم نبينا صلى الله عليه وسلم وقال: (أنا شهيد على هؤلاء)، ثم إنه صلوات الله وسلامه عليه عاد إليهم مرة أخرى يوم أن شعر بدنو أجله وقرب وفاته، فدعا لهم واستغفر صلوات الله وسلامه عليه كالمودع لهم.(32/13)
اختلاف العلماء في تحديد ليلة القدر
الوقفة الرابعة: مع ما جاء في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد: ثم لما كان صبيحة يوم عشرين خرج صلى الله عليه وسلم إلى الناس وقال: (إنني كنت قد اعتكفت العشرة الوسطى أتحرى ليلة القدر، وإنني قد أخبرت بأنها في العشر الأواخر، فمن كان معتكفاً فليبقى معي، وإنني أريت أنني أسجد في صبيحتها في ماء وطين)، قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: فأمطرت السماء تلك الليلة فوكف المسجد، وكان سقفه من جريد النخل، فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الصبح، ثم رأيته ينصرف من صلاة الصبح وأثر الماء والطين في وجهه صلوات الله وسلامه عليه، وكانت تلك الليلة ليلة إحدى وعشرين.
ومن هنا أخذ من قال من العلماء إنها ليلة إحدى وعشرين، وبسط القول فقهياً لا وعظياً في ليلة القدر على النحو التالي: قال بعض العلماء: إنها ليلة النصف من شعبان، وهذا ينسب إلى عكرمة، وهو مرجوح جداً؛ لأن القرآن يعارضه، قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1]، وقال جل وعلا: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185].
وينسب إلى زيد بن أرقم وعبد الله بن مسعود أن ليلة القدر هي ليلة السابع عشر من رمضان، ودليلهم آية الأنفال: {إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال:41]، فقال الله جل وعلا: (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ)، ويوم بدر كان يوم السابع عشر من رمضان، فقالوا: إن هذا دليل على أنها ليلة السابع عشر من رمضان.
وأكثر علماء الأمة الباقون على أنها في العشر الأواخر، وهو الذي تدل عليه الأحاديث الصحيحة الصريحة.
ثم إن الذين قالوا: إنها في العشر الأواخر -وهذا هو الحق- انقسموا إلى قسمين في أصل القضية فقهياً: ففريق قال: إنها تتنقل، والدافع إلى القول بأنها تتنقل عدم إمكانية الجمع بين الأحاديث، فقد ورد في صحيح البخاري أنها ليلة إحدى وعشرين، وورد في صحيح البخاري أنها ليلة ثلاث وعشرين، وأقسم أبي أنها ليلة سبع وعشرين، وفي المسند من حديث ابن عمر أنها ليلة أربع وعشرين، فقالوا: لا يمكن الجمع ما بين هذه الأحاديث إلا أن نقول: إن ليلة القدر تتنقل في كل عام، إلا أنها في ليال الوتر أرجى منها في ليال الشفع، ولا يلزم أن تكون في ليالي الوتر فقط، لكنها أرجى في ليالي الوتر من ليالي الشفع.
الفريق الآخر قالوا: لا تتنقل، بل هي ليلة أنزل فيها القرآن، فهذه الليلة من كل عام تكون ليلة القدر، وهؤلاء اختلفوا في تحديدها، فمذهب الشافعي -فيما أظن الساعة- أنها ليلة أربع وعشرين، ومذهب أبي بن كعب وعليه أكثر العلماء أنها ليلة سبع وعشرين، وكان أبي رضي الله عنه يقسم كما رواه مسلم في الصحيح من طريق زر بن حبيش.
وبعض العلماء يرى أنها ليلة إحدى وعشرين، وآخرون يرون أنها ليلة تسع وعشرين.
وجملة القول أن يقال: إن من قام رمضان كله وافق ليلة القدر، ثم نقول: من قام العشر الأواخر كلها بإذن الله ورحمته يكون قد وافق ليلة القدر.(32/14)
قيام ليلة القدر وطلب رحمة الله فيها
لكن نقف هنا ونقول: يبدأ الإنسان فقهياً بالأوليات، فأول ما يبدأ في طلب ليلة القدر أن تصلي العشاء والفجر في جماعة، فلا تطلب نافلة وقد ضيعت فريضة، {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:5].
ثم يحرص الإنسان على قيام ليلها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً)، فالمرغوب المطلوب الأول فيها قيامها، على أنه ينبغي أن يعلم أن عائشة تقول: (ما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلة بأكملها) والمعنى أنه يصلي بعض الليل ويقرأ في بعضه، ويدعو في بعضه، ويذكر الله في بعضه، ولو استراح في بعضه فلا حرج، لكن أفضل أن يستريح في مقام عبادته في مسجده أو في بيته أو في عمله، والناس يختلفون، ورب الجميع واحد، والله يطلع على القلوب لا على الأبدان، {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء:147].
وقبل هذه الليلة من الليل قبل أن تدخل العشر لابد أن يستشعر الإنسان أن الله رحيم، وأن الإنسان له ذنوب يرجو من الله أن يغفرها، وله عيوب يرجو من الله أن يسترها، وله آمال يرجو من الله أن يحققها، وله مخاوف يرجو من الله أن يجيره منها، وهناك جنة يرغب أن يدخلها، وهناك نار يخشى أن يمسه لهيبها، وهناك أمور وأمور لا يقدر عليها إلا الله، فيزدلف الإنسان بقلبه في المقام الأول برغبة صادقة من القلب أن الله جل وعلا يوفقه لقيام ليلة القدر.
ووالله لن تنال المطلوب، ولن تدفع المرهوب إلا برحمة من الله وفضل، فلا تتكلنّ على شيء من قوتك أبداً، وقل: اللهم إني أبرأ إليك من كل حول وطول وقوة إلا حولك وقوتك، اللهم أقمني في مكان ترضى فيه عني، كان الشافعي يقول: أهمني أمر فرأيت في المنام أن طارقاً يطرقني فيقول: يا أبا عبد الله! قل في دعائك: اللهم إنني لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، ولن أستطيع أن آخذ إلا ما أعطيتني، ولن أتقي إلا ما وقيتني، ووفقني اللهم لما تحب وترضى من القول والعمل، قال الشافعي: فقلتها ففرج الله عني.
والمقصود من هذا أن تزدلف إلى الله في سجودك في النهار أن يوفقك الله جل وعلا لقيام الليل، فوالله إن من تحرر من الذنوب نهاراً رزق منّة العطاء والوقوف بين يدي الله ليلاً، ومن أثقلته ذنوبه في النهار صعب عليه أن يرزق الوقوف ليلاً بين يدي الواحد القهار.
ففي النهار تعامل مع الله جل وعلا تعامل المسكين، وتعامل معه تعامل عبد له عند ربه حاجة تكون في الليل، فيحاول في النهار أن يستجر بمسكنته رحمة العظيم؛ حتى يمن الله جل وعلا عليه بالتوفيق في ليلة القدر، وادخل على والدتك وبرها وأنت ترجو ببرها رحمة الله، وقل في سجودك: اللهم وفقني لقيام ليلة القدر، وأحسن فيها مقامي بين يديك، وتوخ مسكيناً أو سائلاً أو أرملة أو يتيماً فأحسن إليه؛ عل الله جل وعلا أن يكرمك بالقيام بين يديه، وتوخ أحداً من قرنائك أو جيرانك أو أصحابك بينك وبينهم شحناء فاعف عنه، وتنازل عن حقك؛ طمعاً في أن الله جل وعلا يوفقك في القيام بين يديه.
فهذا بعض ما يمكن صنيعه وإلا باب استدرار رحمة الله جل وعلا مفتوح، فاصنعه فإذا جاء الليل لا يكن همك إلا ذنبك، ولا يكون رغبتك إلا في ربك تبارك وتعالى، فقف بين يديه اسأله وارجوه والله جل وعلا لا أحد أحب إليه المدح منه، فأكثر من الثناء عن الله، واعترف بذنبك، قال الله يعلم الأبوين آدم وحواء: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
وأثن على الله جل وعلا بما هو أهله، ثم صل ولو كنت في سجودك على نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم اسأل الله من خيري الدنيا والآخرة، وابدأ بالعظائم، وأعظم الأمور أن يرزقك الله الجنة، وأعظم الأمور أن يجيرك الله من النار، ثم اسأل الله كما قالت عائشة لما قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيت إن علمت أي ليلة هي ليلة القدر ماذا أقول فيها؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)، فيحاول المؤمن قدر الإمكان أن يردد هذا الدعاء المأثور عن رسولنا صلوات الله وسلامه عليه.
هذا كل ما يمكن أن يقال فقهياً عن ليلة القدر.(32/15)
بعض البراهين والقرائن الدالة على أن العبد يعظم ربه
نختم أيها المؤمنون بأن أعظم ما نعت الله به أنبياءه، وما كان عليه رسولنا صلى الله عليه وسلم هو تعظمه لله جل وعلا التعظيم اللائق، وقرب العبد من ربه بمقدار تعظيمه لله، والله يقول: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام:91].
هذه بعض القرائن والبراهين على أن المؤمن يعظم الله:(32/16)
استشعاره وفرحه بحديث مثل الحديث عن الله تعالى
أولها: ألا يستبشر ولا يفرح بالحديث عن أحد كفرحه واستبشاره وانشراح صدره للحديث عن رب العالمين جل جلاله؛ لأن ذلك المؤمن ليس في قلبه أحد أعظم من الله، فلا يمكن أن يطمئن قلبه، ويشرح صدره، وتفرح ذاته إلا إذا كان يتحدث عن الله.
وعلى النقيض من ذلك أهل الفجور والكفر والفسوق عياذاً بالله، فإنهم لا يجدون فرحاً ولا استبشاراً إذا حدثوا عن الله، قال الله جل وعلا عنهم: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45]، وقال جل وعلا في سورة أخرى وهي الإسراء: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} [الإسراء:46]، فما الذي ينبغي أن تسمعه أيها المبارك؟! أن تحاول قدر الإمكان أن تجد في نفسك طمأنينة وسكينة، وأنت تتكلم عن الله أو تتلو كلام الله، أو تسمع شيئاً عن الله، أو تصنع صنيعاً من أجل الله، أو تترك شيئاً من أجل الله، فهذا من أعظم العلامات على أن العبد يعظم ربه التعظيم اللائق به.
ووالله كل نعيم وعده الله جل وعلا عباده إنما هو مرهون بقدر تعظيمهم لله تبارك وتعالى، ومن احتفى الله به في الملأ الأعلى إنما احتفى الله به لما في تعظيمه لله تبارك وتعالى وهو على الأرض، قال الخليل إبراهيم عليه السلام -وكان أعظم العباد تعظيماً لله بعد رسولنا صلى الله عليه وسلم- قال يخاطب أباه: {سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47]، فاحتفى الله جل وعلا بهذا النبي الكريم أبي الأنبياء لما كان في قلب إبراهيم من تعظيم الرب تبارك وتعالى.
ومن قرائن هذا التعظيم أن الإنسان يؤمر بالنهي عن شيء، فيطلب منه الشيء من أجل أبيه وأمه وجيرانه وعلاقاته فيأبى، فإذا طلب منه شيء من أجل الله تركه تعظيماً لربه تبارك وتعالى، وهذه تربية يصنعها الإنسان لنفسه مع مر الأيام وتوالي الأعوام، فيجدّ الإنسان إذا كان لديه رغبة كيف يربي نفسه على أنه يعظم ربه جل وعلا التعظيم اللائق به، فلا يخوف ولا يذكر بأحد بعد الله.
هذا أمر.
الأمر الثاني: السعي إلى الطاعات، فالذين يعظمون الله لا تكاد تجف بشرتهم من الوضوء؛ يريدون ما عند الله تكفيراً للذنوب، وطلباً لرحمة علام الغيوب، وتتسابق خطواتهم إلى بيوته جل وعلا، يرجون ما عند الله جل وعلا من المغفرة، يجدون راحة قلب وانشراح صدر وجباههم على الأرض؛ رغبة فيما عند الله جل وعلا من النعيم.
ومن قرائن هذا أنهم يفرون عن المعاصي، {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف:33]، {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء:10]، {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا} [آل عمران:130] إلى غير ذلك مما نهى الله عنه، فكلما زين له باب معصية تذكر عظمة الله جل جلاله فتركها وبعد عنها؛ خوفا ًوفرقاً من أن يلقى الله جل وعلا وقد عصاه.(32/17)
الشوق إلى لقاء الله تعالى
خاتمة القرائن في تعظيم الرب تبارك وتعالى ما يقع في القلب من شوق إلى لقاء الله جل وعلا، والمؤمنون الصالحون لا يرجون يوماً يوفون فيه النعيم فيكافئون فيه بأعظم الجزاء وأكمله، ويستريحون فيه من نصب الدنيا وتعبها إلا اليوم الذي يلقون فيه الله، قال الإمام أحمد رحمة الله تعالى عليه: لا راحة للمؤمن دون لقاء الله، فإذا لقي العبد الصادق ربه استراح؛ لأن الله جل وعلا وعده إذا لقيه أن يوفيه أجره كما أخبر ربنا في كتابه.
اللهم لك الحمد أنت الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد، الفرد الصمد، الحي القيوم، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، في السماء عرشك، وفي كل مكان رحمتك وسلطانك، أنت الله لا إله إلا أنت تعطي وتمنع، وتخفض وترفع، وتقبض وتبسط، وأنت الله لا إله إلا أنت الأعز الأكرم، أنت ربنا خالقنا من العدم، ربيتنا بالنعم، نشهد ونحاج أن وجهك أكرم الوجوه، واسمك اللهم أعظم الأسماء، وعطيتك يا ربنا هي العطية الجزلى، فاللهم صل على محمد وعلى آله، واغفر لنا في ملتقانا هذا أجمعين، اللهم اغفر لنا في ملتقانا هذا أجمعين.
اللهم وفقنا لقيام ليلة القدر، اللهم وفقنا لقيام ليلة القدر.
وصل اللهم على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(32/18)
الأسئلة(32/19)
حكم إمامة من لا ينطق حرف الراء
السؤال
هناك شاب لا ينطق حرف الراء، وهذا الشاب يؤم المصلين، علماً بأنه لا يوجد من يؤم المصلين غيره فما حكم ذلك؟
الجواب
إذا كان لا يوجد أحد يؤم المصلين غيره فليؤم ولو لم ينطق حرف الراء، وإن كان يوجد من يحسن القرآن مثله فليصل بهم.
هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(32/20)
كيفية نصرة نبينا صلى الله عليه وسلم
السؤال
كيف ننصر نبينا؟
الجواب
إن قريشاً عندما كتبت الصلح بينها وبين رسول الله قالوا: اكتب اسمك واسم أبيك، فكتب صلى الله عليه وسلم: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، ثم قال كلمة يجب أن يفهمها العلوج الذين في الدينمارك، قال عليه الصلاة والسلام: (إني رسول الله وإن كذبتموني)، والله لو اجتمع الدينماركيون وغيرهم على أن ينالوا شعرة من مقامه صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة لما استطاعوا، فالله قال له وهو أصدق القائلين: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:31]، وقال له: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر:95].
وأما نصرته صلى الله عليه وسلم فهي على ثلاثة أوجه: الأول: نصرة سياسية، وهذه تقع على الحكام بمقاطعة ذلك البلد.
الثاني: نصرة اقتصادية، وذلك بأن يمتنع الإنسان من أن يتعامل اقتصادياً معهم.
الثالث: نصرة عملية، وهي أن الإنسان يزداد اتباعاً لهديه صلى الله عليه وسلم، فذلك أغيظ لقلوبهم، حتى يعلموا أنهم مهما صنعوا ليشوهوا مقامه عندنا فلن فما قاله الأفاكون باطل كله، فقد وصفوه بالعنف والله يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، ووصفوه بالضلال والله يقول: (إنا أرسلناك هاديا)، ووصفوه بالكذب والله يقول: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3]، ولا ينتظر ممن كفر بالله أن ينصف رسوله صلى الله عليه وسلم.
نسأل الله أن ينتقم لرسوله قريباً عاجلاً غير آجل.(32/21)
لا يعلن ويتلفظ بالنية إلا في الحج والعمرة وعند ذبح الأضاحي فقط
السؤال
هل يجوز في الاعتكاف أني أتكلم فيه بالنية أم أنويه في قلبي؟ الشيخ: لا، لا يصرح به، لا يعلن النية إلا في موضعين في الإسلام: عن الحج والعمرة، وعند ذبح الأضاحي، وأما غير ذلك فتبقى النية محلها القلب، فإذا نويت الخروج صباحاً فتنوي الخروج من الاعتكاف، نسأل الله أن يتقبل منا ومنك.(32/22)
تفسير قوله تعالى (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه)
السؤال
قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24]، ما تفسير هذه الآية؟
الجواب
هذا تخويف من أن الإنسان يعرض عليه الأمر فلا يقبله مرة بعد مرة فيطبع الله على قلبه، فلو أراده بعد ذلك لا يمكِّنه الله جل وعلا منه؛ لأن هذه الآية تفسرها آية الأنعام: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110].(32/23)
كل الرسل من الإنس وليس في الجن رسل
السؤال
قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130] هل الرسل جميعهم مرسلون للإنس والجن، أم أن للجن رسلاً؟
الجواب
اختلف العلماء فيها، والأظهر كما قال العلماء أن الكاف في: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130] عائدة للمجموع لا للجميع، والمعنى: أنها عائدة باعتبار مجموعيهما أي: إلى الإنس لا لجميعهما، أي: ليس هناك رسل من الجن، لأن الله قال: {إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [يوسف:109]، فقوله تبارك وتعالى: (إِلَّا رِجَالًا) دل على أنهم ليسوا من الجن.
والمشهور عند العلماء أن جميع الرسل من الإنس إلا النبي صلى الله عليه وسلم فقد بعث للجن والإنس كافة في زمانه، وقول الله جل وعلا: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف:30] يدل على أن الجن مخاطبين ببعض ما كلف الله به الرسل كإيمان هؤلاء برسالة عيسى عليه السلام، والمسألة فيها خلاف شهير بين العلماء، لكن كما قلت: الراجح أنه ليس هناك مرسلون من الجن، لكن يخاطب الجن ببعثة بعض الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وهذه مسألة غيبية لا يمكن لنا أن نجزم فيها بأكثر من هذا.(32/24)
الحديث عن عظمة القرآن
السؤال
حدثنا يا شيخ عن عظمة القرآن؟
الجواب
أقول: أول نقطة تحاول تربي نفسك عليها: ألا تعلق نفسك بأن تتأثر بأحد بعينه، ولا بقارئ بعينه، لكن كل من قرأ عليك القرآن حاول أن تتأثر به، وكل من ذكرك بالله حاول أن تتأثر به، فالله جل وعلا دينه وعظمته أجل وأكبر من أن يضعها في شخص هو وحده ينفع الناس وغيره لا ينفعون، فيجب أن يعلم الإنسان أن الله عظيم، وأن له آيات تدل عليه تبارك وتعالى، ومن ذلك أن يفقه الإنسان كيف يتعامل مع ربه جل وعلا، والتعامل مع سبحانه وتعالى يحتاج إلى قلب منكسر، وقلب شارد تماماً عن المخلوقين مهما رأى فيهم من عظمة، ومهما رأى فيهم من خشوع، ومهما رأى فيهم من جمال الصوت في القرآن، فيحبهم بقدر، وليعلم أنهم ليسوا هم وحدهم يذكر بالله، وأن كل شيء أصلاً حولنا يذكر بالله، فالله يقول: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم:50].
ولا يوجد شيء ممكن أن يذكر المؤمن بعظمة الله أكثر من أن يقرأ المؤمن القرآن، فاختاروا آيات من القرآن فيها إخبار من الله جل وعلا عن عظمته، ثم رددها بصوت تسمع فيه نفسك في مكان يغلب على ظنك ألا يراك فيه أحد، وأنت تقرؤها تدبر كيف يخبر الله جل وعلا عن ذاته العلية.
أتريد أن تعرف صفاته؟ لن يدلك عليها أحد أعلم ولا أعظم منه، لا أحد أعلم بالله من الله، فاختر آيات أثنى الله جل وعلا فيها على نفسه، وأخبر فيها تبارك وتعالى عن عظيم خلقه، ومدح الله جل وعلا فيها نفسه، اقرأها وأنت تسمع فيها نفسك، فإذا ما خشعت في المرة الأولى حاول أن تكررها لعلك تخشع في الركعة الثانية، وإذا ما خشعت في الركعة الثانية حاول أن تكررها مع آيات أخر حتى لا تبتدع في الدين حتى تصل إلى بغيتك، فيبدأ القلب يألف أنه لا يتعظ ولا يستجيب لشيء أكثر من كلام الله، لكن إنسان عود نفسه على أغاني، أو عود نفسه على أناشيد، أو عود نفسه على شيخ معين وما أشبه ذلك هذا قد يتضرر، لكن حاول أنت أن يكون تذكيرك من نفسك في نفسك، {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ * إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران:1 - 7]، فهذه وأمثالها اقرأها لينير الله جل وعلا قلبك.(32/25)
تحديد وقت ليلة القدر
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله، ذكر بعض من يكتب في الجرائد أن ليلة القدر معروفة إلى يوم القيامة، وحددها هذا الرجل، فلعلك لو سمحت تلقي الضوء على هذا؟
الجواب
ليلة القدر جهلها العلماء الأبرار، والمتقون الأخيار، وما زاد النبي صلى الله عليه وسلم على أن قال: (أرى رؤياكم تواطأت على العشر الأواخر، فالتمسوها في العشر الأواخر)، وقد مكث صلى الله عليه وسلم -وعنه يؤخذ الدين- يتحراها دون أن يحدد وقتها، فلا يقبل بعد ذلك أن يأتي أحد ويجزم بتحديدها إلى يوم القيامة، فهذا محال أن يقع بتاتاً، أسأل الله لنا ولهذا الشخص غفران الذنوب.(32/26)
علامات ليلة القدر
السؤال
ما هي علامات ليلة القدر؟
الجواب
قال بعض العلماء بوجود علامات في ليلها، منها: أن الشمس صبيحتها لا يكون لها أشعة، لكني لا أجزم بشيء من هذا، وإنما نقول: هي في العشر الأواخر وترها وشفعها، والإنسان عليه أن يجتهد فيها، وقد يعطى بعض الناس دليلاً على أنه رآها كما دل عليه حديث عائشة، لكن لا يلزم من ذلك القبول، ولا يلزم من عدم رؤيا الدليل عدم القبول، وقد كان ابن مسعود إذا سئل يقول: من قام العام كله أدرك ليلة القدر.(32/27)
أقل مدة الاعتكاف
السؤال
أقل اعتكاف كم هو؟
الجواب
اختلفوا في هذا، فقال بعض العلماء: يكون ولو لحظة، وهذا قول بعيد، والذي أميل إليه والعلم عند الله أنه يكون ليلة بكاملها، فيعتكف الإنسان من غروب الشمس إلى طلوع الفجر؛ لأن مظنة القيام مكانه الليل، فيكون الاعتكاف من غروب الشمس إلى الفجر، هذا أقل الاعتكاف فيما نعتقده، والعلم عند الله.(32/28)
حكم تحديد ليلة القدر عن طريق الرؤى المنامية
السؤال
في كل عام تنتشر عبر رسائل الجوال بعض قصص الرؤى التي تحدد ليلة القدر، فما تعليقكم يا شيخ على هذا؟
الجواب
لا أرى هذا حسناً، فهذا يثبط الهمم، فلو جاء إنسان وقال: أنا رأيتها في إحدى وعشرين فربما يكون صادقاً وتكون الرؤيا غير صادقة، لكن ذلك يثبط الناس في بقية الشهر، لكن العاقل يبقى متحرياً لها حتى آخر ليلة؛ لأنه لا يدري أين هي، ولا يحسن بالفضلاء نشر مثل هذه الرسائل وإذاعتها بين الناس، بل يترك الناس للعمل والتحري والبحث، عل الله جل وعلا أن يتقبل من الجميع.(32/29)
شذرات التفاسير
في هذه المادة تجد تفسيراً لبعض الآيات بأسلوب علمي رصين، يجمع بين التأصيل العلمي المعرفي وبين التربية السلوكية الإيمانية، فتجده يأخذ بالقلوب والأفئدة، وينير لك درب المعرفة بأسلوب سهل أخاذ شيق.(33/1)
حال الأمم يوم القيامة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة قامت عليها السماوات والأرض، ولأجلها كان الحساب والعرض، هي عماد الإسلام، ومفتاح دار السلام، وهي أساس الفرض والسنة، ومن كان آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله دخل الجنة.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله بلغ عن الله رسالاته، ونصح له في برياته، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، فجزاه الله بأفضل ما جزى به نبيناً عن أمته، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله! فإن تدبر القرآن من أعظم البراهين وأجل القرائن عن البعد عن قسوة القلوب، قال الله تباركت أسماؤه وجل ثناؤه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، ومن أراد الله به سعادة الحياتين والفوز في الدارين منّ عليه جل وعلا بأن يتدبر كتابه على الوجه الذي أراد جل وعلا، وعلى الوجه الذي بين رسولنا صلوات الله وسلامه عليه.
وفي هذا اللقاء المبارك في هذا الجامع المبارك نقف وإياكم مع بعض آيات الكتاب المبين، وهي وقفات علمية ووعظية ما أمكن إلى ذلك سبيلاً، مستصحبين أمراً عظيماً وهو أن التوفيق بيد الله جل وعلا وحده، فما كان لمتحدث أن يتحدث، ولا لمحاضر أن يحاضر، ولا لمتلق أن يعي ويسمع إلا إذا أذن الله، فمن أسلم قلبه لله، وعلم أن الفضل كله بيد الله كان قريباً من رحمة ربه؛ لحسن ظنه بمولاه وجل اعتماده ويقين توكله على خالقه سبحانه وتعالى.
ولا نشترط في الآيات التي نتدبرها ونتأملها الليلة أن تكون مرتبة وفق ترتيب المصحف، فقد يكون لترتيبها بعض الحكم التي قد تظهر أو قد تخفى.
قال الله جل وعلا وهو أصدق القائلين في سورة الجاثية: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:28 - 29]، الجثو في اللغة: هو البقاء على الركب، وإن لامست أطراف الأصابع الأربع فلا حرج، وهي من أعظم دلالات الخضوع.
وفي هذه الآية الكريمة يخبر جل وعلا عن حال الأمم يوم القيامة، فيقول مخاطباً نبيه: (وترى) أي بعين البصيرة؛ لأن ترى تأتي قلبية فتتعدى لمفعولين، وتأتي بصرية فتتعدى لمفعول واحد، قال الله جل وعلا هنا: (وترى) أي: يا نبينا! أيها المخاطب بالقرآن سائر الناس، (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً) أي: على ركبها.
ثم قال الله: (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا) قال بعض العلماء كما نقله الحافظ ابن كثير رحمة الله عليه: إن جهنم يومئذٍ تزفر زفرة فتجثو الأمم على ركبها، حتى إن خليل الله إبراهيم عليه السلام على رفيع درجته وعلو منزلته يقول: نفسي نفسي، لا أسألك اليوم إلا نفسي.
بل ورد أن عيسى ابن مريم عليه السلام يومئذٍ يقول: نفسي نفسي لا أسألك مريم التي ولدتني، فإذا كان هذا حال أنبياء الله فما عسى أن يكون حال من دونهم، وكلنا دونهم، نسأل الله لنا ولكم العافية والستر.
قال الله جل وعلا يخاطب نبيه: (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ) والكلام ابتداء ولذلك رفعت، (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا) اختلف العلماء في معنى كتابها هنا: هل هو الكتاب الشرعي الذي أنزل على رسل تلك الأمم كالتوراة على موسى والإنجيل على عيسى، والقرآن على محمد عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام، أو هو الكتاب الذي دوَّن فيه الملكان ما عمله بنو آدم؟ بكل قال العلماء، ويرجح الأول الإفراد في الآية، فقول الله جل وعلا: (هَذَا كِتَابُنَا)، والإضافة هنا إلى رب العزة، لأنه هو الذي أمر الملائكة أن يكتبوه.
وإذا قلنا: هو كل أحد بعينه فيؤيده ما بعده، فإن الله قال بعدها: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29]، فكلا القولين متوجه، ولو رجحنا أحدهما فإنه لا يلغي الآخر، بمعنى أن كلا الأمرين ثابت بآيات أخر، وإنما الخلاف بين العلماء لأيهما تشهد هذه الآية، مع الاتفاق على أن الأمم تسأل عن كتبها، قال الله جل وعلا عن كتابه العظيم: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44]، مع الاتفاق أن كل أحد يعرض عليه كتابه، ويسأل عن عمله، كما قال الله جل وعلا: {وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ} [الكهف:47 - 49] إلخ الآيات هذه وغيرها الدالة على أن الإنسان تعرض عليه صحائف عمله.
قال الله جل وعلا: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:28 - 29]، وبراهين اللغة تقول: إن الاستنساخ معناه النقل عن الأصل، ولهذا اختلف العلماء رحمة الله عليهم في معنى هذه الآية: فمنهم من قال: إن الأصل هو اللوح المحفوظ، فيصبح معنى الآية أن الملائكة الذين في السماء يكتبون عن اللوح المحفوظ أعمال بني آدم، والملائكة الموكلون ببني آدم يكتبون أعمالهم ثم يطابقون هذا على هذا، وهذا وإن كانت اللغة تعضده إلا أنني -والعلم عند الله- أراه بعيداً، فنبقي على أصل اللغة وهو أن الاستنساخ أخذ من الأصل، فيصبح المعنى أن الاستنساخ هنا بمعنى أن الملائكة تكتب عن الواقع الحق البين وهو عمل بني آدم، فالملك الذي على اليمين أو الملك الذي على الشمال كلاهما يكتبون واقعاً مشهوداً وحاضراً مشاهداً يدوناه، فهذا يمكن اعتبار أنه أخذ عن الأصل.
وهذه الآيات برمتها تبين لكل أحد يتدبر القرآن أنه مسئول كل المسئولية عن عمله، قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ * كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:6 - 12]، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في حق عثمان: (ألا أستحي من رجل تستحيي منه الملائكة)، فالملائكة رأت في عثمان رضي الله عنه وأرضاه حياء جماً، فهو في السر كما هو في العلانية، يستحي من الله في الملأ ويستحي من الله في الخلاء، ويعلم رضي الله عنه وأرضاه أن معه ملكين يدونان ما يكتب، فنستغفر الله مما يكتب الملكان من الخطايا.
لكن الإنسان إذا رزق قلباً موقناً بلقاء الله، مستحياً من ربه جل وعلا، يعظم الله ويعظم أمره ونهيه استحيى من -باب حيائه من الله- من الملائكة الذين معه، فكان حاله في السراء كحاله في العلانية، وتلك منزلة عظيمة جليلة.
ومن أقسى ما قاله المفسرون، أن قال بعضهم في قول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل:90] قالوا في العدل: أن تستوي السرية والعلانية، وقال بعضهم: والإحسان أن تكون سرية الإنسان أفضل من علانيته، وهذه كما قلنا منزلة عالية قد لا يدركها إلا ثلة قليلة من الخلق، سلك الله بي وبكم سبيلهم.(33/2)
يوم القيامة ميقات الناس أجمعين
قال الله جل وعلا في سورة أخرى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ * يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الدخان:40 - 42]، هذه الآيات جاءت بعد قول الله جل وعلا في نفس سورة الدخان: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الدخان:38 - 39]، ثم قال الله: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ} [الدخان:40] ولم يأت بواو العطف، قال بعض المعنيين بالبلاغة واللغة: إن هذا معناه أن هذه الآيات كالنتيجة لما قبلها.
ثم تأمل أيها المبارك قول الله: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) فهذا أحد أسماء يوم القيامة، وسمي بهذا لأن الله جل وعلا يحكم فيه بين خلقه ويفصل بين عباده.
(مِيقَاتُهُمْ) والميقات اثنان: ميقات زماني لا يعلمه إلا الله، وميقات مكاني على أرض بيضاء نقيه لم يعص الله جل وعلا فيها طرفة عين.
والأصل أنه ميقات لكل مؤمن وكافر، وبر وفاجر، وإنس وجني، بل هو ميقات للخلائق أجمعين، لكن الله جل وعلا أضاف الميقات إلى أهل الكفر لأنهم المخاطبون الأولون بالوعيد، فقال جل وعلا: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الدخان:40]، وكلمة (أجمعين) هنا وردت للتوكيد، وهي توكيد معنوي، وليس خافٍ عليك أن التوكيد ينقسم إلى قسمين: توكيد معنوي وتوكيد لفظي، ولفظ (أجمعين) في هذه الآية من ألفاظ التوكيد المعنوي، وهو يؤتى به للتأكيد، لكن قد يتكرر بعض ألفاظ التوكيد المعنوي فلا ينتقل إلى كونه توكيداً لفظياً، بل يبقى على حاله توكيداً معنوياً، لكن له أغراضاً بلاغية.
قال الله جل وعلا مثلاً في سورة (ص): {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [ص:73] فواحدة منها تكفي: فسجد الملائكة كلهم، أو يقول الله: فسجد الملائكة أجمعون، لكن تكرار، والتوكيد هنا أراد الله به أنه لم يبق منهم أحد لم يسجد، وأراد الله بقوله: (أَجْمَعُونَ) أي: أنهم في وقت واحد، فيصبر تكرار التوكيد هنا أفاد فائدة زائدة، وهي أن الملائكة سجدوا جميعاً من غير استثناء، وسجدوا جميعاً في وقت واحد.
قال الله جل وعلا هنا: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الدخان:40]، ثم قال جل وعلا: {يَوْمَ لا يُغْنِي} [الدخان:41] أي: لا ينفع ولا يفيد، {مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا} [الدخان:41] وكلمة (مولى) كلمة فضفاضة في اللغة، لكن معناها هنا: الحليف القريب الناصر المحب، أي: من يحب أن يؤازرك، قال الله جل وعلا: {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا} [الدخان:41]، وكلمة شيئاً في القرآن إذا نكرت تدل على القلة، قال الله جل وعلا: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ:16].
{يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا} [الدخان:41] من غنى، ثم قال الله: {وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [الدخان:41]، والنصرة أعظم الغنى.
ثم قال الله جل وعلا: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ} [الدخان:42] و (إلا) هنا هل هي استثناء متصل أو استثناء منقطع؟ وفق قواعد اللغة والنحو تحتمل الآية الأمرين، فإن قلنا: إن الاستثناء متصل يصبح المعنى: يوم لا يغني مولىً عن مولىً شيئاً إلا من رحم الله، بمعنى: إلا من رحم الله من الموالي، فأولئك ينفع أحدهم أخاه، وتكون صورة ذلك بأن يأذن الله للشافع ويرضى عن المشفوع له، فيكون هذا استثناء من الآية، هذا على القول أن الاستثناء متصل.
وإذا قلنا: إن الاستثناء منقطع فيصبح معنى الآية: يوم لا يغني مولىً عن مولىً شيئاً ولا هم ينصرون إلا من رحم الله، فتصبح (إلا) بمعنى لكن، فيكون المعنى: يوم لا يغني مولىً عن مولىً شيئاً لكن من رحم الله لا يحتاج إلى نصرة؛ لأن الله جل وعلا رحمه وآواه.
وإذا تدبر المؤمن هذه الآيات أغفل ما قاله النحاة وتكلم عنهم البلاغيون؛ لأن هذا ليس مقصوداً في الأصل، إنما المقصود في الأصل أن يتدبر الإنسان القرآن فينظر ما هي أسباب رحمة الله، فالناس والعوام منهم على وجه الخصوص ليسوا في حاجة إلى أن يبين لهم الاستثناء المنقطع من الاستثناء المتصل، لكنا جميعاً بحاجة إلى أن يفقه الإنسان ما أسباب رحمة الله، لعل الله جل وعلا أن يرحمه، يقول الله: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الدخان:42].(33/3)
أسباب رحمة الله تعالى(33/4)
الاستغفار من أسباب رحمة الله
وهنا سنقف على بعض أسباب الرحمة، وأولها وأعظمها وأجلها: استغفار الله جل وعلا، فالاستغفار من أعظم موجبات رحمة العزيز الغفار، قال الله جل وعلا: {لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل:46]، وقد جاء في الأثر: أن الله لما خلق آدم ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وامتنع إبليس عن السجود، قال إبليس بعد حوار: وعزتك وجلالك لأغوينهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال رب العزة ذو الرحمة والجلال: وعزتي وجلالي لأغفرن لهم ما استغفروا.
فالاستغفار من أعظم موجبات رحمة الله؛ لأن فيه قرائن وبراهين على انكسار القلب بين يدي رب العالمين جل جلاله.(33/5)
الرحمة بالناس من أسباب رحمة الله لنا
ومن أسباب رحمة الله: رحمتنا بمن حولنا، قال صلى الله عليه وسلم: (من لا يرحم لا يرحم)، وقال: (ارحموا من الأرض يرحمكم من في السماء)، ومن تأمل بعض الأحاديث النبوية لا في جانب الأمر بل في جانب النهي؛ تبين له كيف أن الإسلام على لسان نبيه عظم مسألة الرحمة، فقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن ضرب الوجه)، وحتى الدواب نهى صلى الله عليه وسلم أن توسم في وجهها، وكذلك نهى صلى الله عليه وسلم أن يضرب أحد من الخلق في وجهه.
وشرع الإسلام لنا أن نؤدب زوجاتنا إن لم ينفع معهن الوعظ ولا هجر المضاجع، فقال الله: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34]، واتفقت كلمة الفقهاء على أنه ضرب غير مبرح، ولا يمكن أن يصيب الوجه أبداً، وأولئك الذين يبحثون عن قوام الشخصية في ضرب نسائهم خاصة أولئك الذي يضرب أحدهم زوجته أمام أبنائها وبناتها، فيريد أن يقيم بيتاً وهو في الحقيقة إنما يزرع في قلوب أبنائه وبناته غلاً وحقداً.
إن ابناً رأى منظراً كهذا من أبيه قد يصعب عليه -إلا من رحم الله- أن يترحم على أبيه بعد مماته، لكن المؤمن العاقل الذي يعرف عناية الإسلام بجانب الرحمة يعرف أنه لا يمكن أن يقع منه أن يهين أحداً أمام من له في أعينهم نظر ومكانة، وإنما إذا ابتليت بشخص بين من يحبونه ويجلونه فأجله وأحبه، لا يكن في قلبه أن تتشفى بمسلم وأن تريد أن تذله وتهينه على مرأى من الناس.
نعود فنقول: إن من أعظم أسباب موجبات رحمة الله رحمتنا بمن حولنا: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).(33/6)
من موجبات رحمة الله تدارس القرآن
كما أن من موجبات رحمة الله ما أنتم فيه تقبل الله منا ومنكم، قال صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا غشيتهم الرحمة، وأنزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله جل وعلا فيمن عنده)، فتدارس القرآن من أعظم موجبات رحمة الرحيم الرحمن جل جلاله.
فهذه نتف من أسباب رحمة الله جل وعلا التي قال الله جل وعلا عنها جملة: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ} [الدخان:42]، على أن أهل العلم من المفسرين يقولون: إن السبب إلى وقوع رحمة الله ناجم عن مرضات الله جل وعلا عن العبد، ولا يمكن أن ينال الإنسان نوالاً ولا يعطى شيئاً أعظم من حصوله على رضوان رب العزة والجلال جل جلاله.
قال الله بعدها: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الدخان:42] في عرف أهل التفسير: (إنه هو العزيز الرحيم) تسمى فاصلة، والفاصلة لها أربعة أغراض: فإما أن تأتي للتمكين، فيكون ما قبلها من الآيات ممهداً لها، قال الله جل وعلا: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب:25]، فقول الله جل وعلا: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب:25] كل ذلك ممهد، فجاءت آية أو فاصلة {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب:25]، قال أهل البلاغة هنا: يراد بها التمكين.
وقد تأتي أحياناً فتسمى التصدير، وتكون مستقاة من نفس الآية، قال جل وعلا على لسان نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح:10]، وقد تأتي بالمعنى لا باللفظ كما نحن فيه: {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الدخان:42] بعد قول الله جل وعلا: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ} [الدخان:42]، وخاتمتها تأتي للإيغال وهي الزيادة في المعنى، فتحقق الفاصلة معنىً زائداً لم يتحقق بصدر الأولى، قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء:88] إلى هنا انتهى معنى الآية، فجاء قول الله جل وعلا: {وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]، ويسمى في عرف المعنيين بعلم التفسير يسمى إيغالاً، أي أن الفاصلة زادت معنىً لم لكن موجوداً في أصل الآية.(33/7)
الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك
ومن الآيات التي سنشرع في بيانها قول الله جل وعلا: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا * وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:22 - 24].
صدر الله الآيات بالنهي عن الشرك، فقال الله يخاطب نبيه: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء:22]، والقعود شعور بالعجز، قال الله: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} [النور:60]، وقال: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} [النساء:95]، فعبر عمن قعد عن الجهاد بأنهم قاعدون، وكلها تشعر بالعجز، فالله يقول لنبيه: إن الشرك من أعظم أسباب الخسران في الدنيا والآخرة، {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} [الإسراء:22].
ولما نهى العلي الكبير نبيه عن الشرك أمره بالتوحيد فقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23] أي: حكم ديناً وشرعاً وتعبداً لعباده، وهذا من أعظم مطالب الله جل وعلا من خلقه، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
وقوله: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أسلوب حصر، فإن العبادة لا يجوز في حال أبداً صرفها لغير الله تبارك وتعالى.(33/8)
عظم حق الوالدين على الأولاد
ثم قرن جل وعلا حقه العظيم بأن ذكر بعده حق الوالدين، فقال جل ذكره: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23]، ثم فصل وهذا يسمى في عرف البلاغيين استقصاء، {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا} [الإسراء:23]، فكلما عظمت حاجتهما إلى الغير ازداد حق البر لهما.
{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23] فيختار المرء أطيب العبارات وأحسن الألفاظ وهو يخاطب والديه.
{وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:23 - 24]، فالطائر إذا أراد أن يقع ويتخلى قليلاً عن كبرياء الطيران خفض جناحيه، وكذلك حال الولد البار ذكراً كان أو أنثى أمام أمه وأبيه.
{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24] قال العلماء: كل من أسدى إليك تربية تحقق عليك أن تبره من حيث الإجمال، فالوالدان الأصل أن لهما حق البر بمجرد أنهما والدان، ويزداد حقهما تعظيماً إذا قدر لهما -وهو الأصل- أن يتوليا تربيتك، فإن تولى تربيتك أحد غيرهما أو كان لأحد غيرهما شيء من التربية عليك توجهت وتقوت مسألة برك له قليلاً كان أو كثيراً، قال الله جل وعلا: {وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24].
لكن الإنسان ضعيف، فأحياناً يكون للوالد أو للوالدة مطالب تعلم أنت أنك لو حققتها لهما لكان ذلك سبباً في الضرر بهما، فيبقى في نفسك أمور وأمور تتداول، فتبقى على المنعطف الصحيح وتغلب عقلك على عاطفتك، كالأم مثلاً قد تصاب بالوسوسة فتظن أن بها مساً، وقد تحقق عندك أنه لا مس بها، لكنها تجبرك ما بين الحين والآخر على أن تذهب بها إلى من يقرأ عليها، وقد غلب على ظنك أنك لو ذهبت بها إلى زيد وعمرو من القراء لازدادت تعباً وعظمت الوساوس في قلبها، واشتد الأمر عليها، فتأنف وترفض أن تذهب بها وأنت بهذا تخالف أمرها، لكنك لا تريد إلا الخير لها.(33/9)
غرض الدين هو إصلاح القلوب
فهنا في هذا وأمثاله يقول الله: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} [الإسراء:25]، ثم قال الله: {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء:25]، فكل الدين مرده على إصلاح القلب، (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، وفي الحديث: (إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولكن الله ينظر إلى قلوبكم).
وفي دعاء إبراهيم: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:87 - 89].
من هذا السياق القرآني يتبين للمرء أنه ما سعى في شأن أعظم من إصلاح قلبه، وصلاح القلوب له طرائق عدة: أعظمه تدبر القرآن، وهو ما نحن فيه، مع تلاوة القرآن، والتأمل في هدي نبينا صلى الله عليه وسلم، والبعد عن حسد الناس وحمل الحقد والبغضاء لهم، والإكثار من ذكر الله جل وعلا فإن ذكر الله حياة الضمائر وأنس السرائر، وغيرها مما لا يخفى، والمقصود الإشارة من حيث الجملة، وبصلاح القلوب يفوز الإنسان برضوان ربه ورحمته، ويكون قريباً من دخول جنته.
وقال الله جل وعلا في سورة أخرى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38]، وكون أنبياء الله ورسله من نفس جنس الناس هذا يجعلهم أدعى لأن يقبل منهم، وأنبياء الله ورسله ما كانوا يعيشون في منأى بعيد عن الناس، وإنما كانوا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، وهذا مما اعترضت به الأمم عليهم.(33/10)
أولاد الأنبياء
ومن كمال بشريتهم أن الله جل وعلا جعل لأولئك الرسل أزواجاً وجعل لهم ذرية، وأزواج جمع زوج، أي: زوجة، وجعل لهم ذرية.
وأنبياء الله ورسله جمع غفير، فأما نوح فالمشهور أن له أربعة من الأبناء: حام وسام وكنعان ويافث، والمؤرخون يقولون: إن كنعان هو الذي غرق في الطوفان، والثلاثة الباقون نجوا، ويقولون: إن يأجوج ومأجوج من نسل يافث بن نوح.
وإبراهيم عليه الصلاة والسلام المشهور عند المؤرخين أنه لم يرزق بنات، وإنما رزق ذكوراً، ولوط عليه الصلاة والسلام المشهور عند العلماء أنه لم يرزق ذكوراً وإنما رزق إناثاً، والمشهور المحفوظ أن عيسى عليه السلام لم يتزوج، وأن نبينا صلى الله عليه وسلم رزقه الله ذكراناً وإناثاً: ستة من خديجة، وإبراهيم من مارية، وهؤلاء السبعة كلهم ماتوا في حياته صلى الله عليه وسلم إلا فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، فمات القاسم وعبد الله وزينب ورقية وأم كلثوم وإبراهيم جميعاً في حياته صلوات الله وسلامه عليه، وماتت ابنته فاطمة رضوان الله تعالى عليها بعد وفاته صلى الله عليه وسلم بستة أشهر، وكانت قد دخلت عليه في يوم وفاته فقال لها: (إنك سيدة نساء أهل الجنة، وإنك أول أهلي لحوقاً بي)، وكانت عظيمة القدر عنده صلى الله عليه وسلم، فقال صلوات الله وسلامه عليه: (إنما فاطمة بضعة مني) صلوات الله وسلامه عليه.(33/11)
اتباع هدي الأنبياء
والمقصود من هذا: إذا عرف الإنسان البشرية التي عليها أنبياء الله ورسله شرع له بعد ذلك أن يهتدي بهديهم ويقتفي آثارهم، ويعلم أن الخير كله في اتباع ملتهم، ونهج سننهم وهديهم عليهم الصلاة والسلام.
وحكى الله عن إسماعيل أنه كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة، وكان صادق الوعد، فأخبر الله عن سلوكه مع ربه وسلوكه مع الخلق، فلما حافظ على الصلاة سهل عليه بعد ذلك أن يحافظ على وعوده مع الخلق.
وذكر الله أيوب وأخبر أنه ابتلاه، وأنه بقي يحسن الظن بربه، وكان يلجأ إلى مولاه حتى أنبع الله تحت قدميه عيناً {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} [ص:42].
وحكى الله جل وعلا عن لوط أن قومه تآمروا عليه فقال عَجِلاً: {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]، ولقد كان يأوي إلى ركن شديد عليه الصلاة والسلام، فطمأنته الملائكة: {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود:81].
وحكى الله عن داود أنه كان يقوم الليل، ويكثر من الصيام كما أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم.
فتنوع هديهم، وتغير حالهم والأعراف التي نشئوا عليها، فاستعصموا واستمسكوا جميعاً بتوحيد الله، فيعبدوا رباً واحداً لا إله إلا هو، قال الله عنهم بعد أن ذكرهم جملة: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]، ثم ختم الله النبوات وأتم الرسالات برسالة صفوة الخلق محمد صلوات الله وسلامه عليه.(33/12)
فضل وعظم قيام الليل بين يدي الله تعالى
ومن الآيات التي يحسن تدبرها في مقام كهذا أن الله جل وعلا قال وهو أصدق القائلين: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، والمقام المحمود منزلة في عرف أهل الرياضيات لا تقبل القسمة على اثنين، قال صلى الله عليه وسلم عن الوسيلة: (إنها منزلة لا تكون إلا لعبد صالح، وأرجو أن أكون أنا هو)، فلما وعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم أعظم المطالب وأسمى الغايات، أخبره بالطريق الأمثل والسبيل الأقوم للحصول عليها، فدل جل وعلا على قيام الليل، فقال جل ذكره وتباركت أسماؤه: (وَمِنَ اللَّيْلِ)، و (من) هنا إما أن تكون بيانية وهو قول فريق من العلماء، وإما أن تكون بعضية وهو الأغلب.
(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ) أي: بالقرآن، زيادة لك في الخير، (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا)، قال العلماء: إن من أنجع الطرائق لتحقيق الغايات والوصول إلى الأماني أن يقوم الإنسان بين يدي ربه يتهجد بين يديه، ويسأل الله جل وعلا ويستعين به ويرجوه؛ لأن الله جل وعلا قال: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ)، والبعث يطلق على الحياة بعد الموت، فكأن تلك المنزلة التي وعدك الله بها أيها النبي الكريم لن تنالها بما لديك من مزايا، وإنما هي هبة ربانية، ومنحة إلهية لك، وكان أعظم سبب هيأه الله لك كي تنالها أن منّ عليك بأنك تحسن القيام بين يديه.
تقول أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها عائشة أنها فقدت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فوجدته في المسجد قد انتصبت قدماه، ويقول في سجوده: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك).
قال الله جل وعلا عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، فهذا وصف عام لخلق نبينا صلى الله عليه وسلم، وأنه عليه الصلاة والسلام جبل على الرأفة والرحمة بالخلق أجمعين، ولهذا نعته ربه بقوله: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).
وقوله جل وعلا: (مِنْ أَنفُسِكُمْ) يشعر الناس بقرب هذا النبي حساً ومعنىً منهم، وهذا النبي الخاتم صلوات الله وسلامه عليه ترك هدياً عظيماً كما بينا آنفاً، والعبرة كل العبرة في قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فانتهوا).
والتكاليف الشرعية أيه المبارك تنقسم إلى قسمين: أوامر ونواهٍ، فالحظ من الأوامر والنيل منها إنما يكون بقدر الاستطاعة، فلا واجب مع العجز، وأما ما حرمه الله أو حرمه رسوله صلى الله عليه وسلم فليس لنا إلا الكف والانتهاء عنه أمراً واحداً، ولا يدخل حيز المراتب كما تدخله حيز الأوامر اللهم إلا في مسائل الضرورات، فهذه قد بينها أهل الفقه ولها أحكامها، لكن ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم به فقد يقدر عليه زيد ولا يقدر عليه عمرو، فيندرج تحت قول الله جل وعلا: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، وأما ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه فيكف الإنسان وينتهي عنه قولاً واحداً إلا -كما قلت- في حال الضرورات.(33/13)
الأمور التي تعين الإنسان حتى يبني نفسه على هدي النبي صلى الله عليه وسلم
والإنسان حتى يبني نفسه على هدي محمد صلى الله عليه وسلم لابد له أن يستصحب أموراً عامة من أهمها: أن يكون حسن الظن بربه جل وعلا، وهذا فصلنا فيه في أكثر من موقف.
والأمر الثاني: أن يكون الإنسان ذا حكمة وروية فيما يقول ويفعل، فلا يقدم يمناه حتى يجد موطناً ليسراه، ويعلم أن الكلمة قد تصلح اليوم ولا تصلح غداً، وأن الإنسان العاقل يقتبس من سنا هدي نبيه صلى الله عليه وسلم كيف مضى صلى الله عليه وسلم في أيامه النضرة وسيرته العطرة، في سبيل طرائق ذات حكمة تدل على ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من حلم وعلم قبل ذلك، وأدب جم مع ربه ومع الناس صلوات الله وسلامه عليه.
كما أن الإنسان وهو يبني نفسه لابد أن يكون هناك باعث في النفس، ومن هنا يعلم المرء أن المسئولية مسئولية فردية يوم القيامة، وأنه: ما حك جلدك مثل ظفرك فتول أنت جميع أمرك ويذكرون أن الإمام ابن حزم رحمة الله تعالى عليه دخل المسجد قبل أن يطلب العلم، دخل المسجد ليصلي على جنازة فجلس حتى تحضر الجنازة، فقال له أحد الحاضرين مؤنباً: ما لك تجلس! قم فصل ركعتين تحية المسجد، فقام فصلى، ثم إنه علم أن هناك جنازة في صلاة المغرب فتوجه إلى المسجد في وقت النهي، فدخل وصلى، فرآه أحد الناس فنهاه عن الصلاة في هذا الوقت، فلما وجد التأنيب من رجلين هذا يأمره وهذا ينهاه وجد أنه مضطر لطلب العلم، كي يرفع الجهل عن نفسه، فطلب العلم حتى عد إماماً عظيماً من أئمة الإسلام، قال العز بن عبد السلام رحمة الله عليه: كتابان من حواهما وقرأهما وكان على منزلة عظيمة في الذكاء حق له أن يفتي: المغني لـ ابن قدامة، والمحلى لـ ابن حزم، قال الإمام الذهبي رحمة الله عليه في الأعلام وهو يزيد عليهما قال: وأنا أقول: فإذا جمع الإنسان معهما التمهيد لـ ابن عبد البر والسنن الكبرى للبيهقي رحمة الله على الجميع، وكان الرجل ذكياً، وأدمن -هذا لفظه- المطالعة في هذه الكتب الأربعة أضحى عالماً فذاً من علماء المسلمين.
موضوع الشاهد: أن الإنسان ينظر في الآمال التي يبتغيها، والمنازل التي يريد أن يصل إليها، فيحسن الظن بربه، فيصدق في توكله على خالقه ومولاه، ثم مع ذلك يأخذ بالأسباب، فهذا هو الهدي الأقوم والطريق الأمثل الذي بينه صلى الله عليه وسلم لأمته، ويندرج في قول الله جل وعلا: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
فإذا قدر للإنسان أن يبتلى بحساد يحاولون أن يمنعوه من الوصول إلى غايته، أو مثبطون لا يريدون له خيراً، أو ضعفاء شخصية يخافون الخوض في اللجج فهؤلاء يجب أن يتنهى الإنسان على أن يسمع لهم: إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر.
ومن أعظم ما تنافس فيه الناس وبلغوا فيه أعظم الغايات الوصول إلى أرفع الدرجات في العلم؛ لأن الله جل وعلا جعل العلماء شهوداً على أعظم مشهود، قال الله جل وعلا: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18].
في غمرة هذا وبحث الإنسان عن الشرف والمجد -كما يكون هناك فئة تثبطك أو تحسدك أو تهون عزيمتك- قد تأتي فئة تحاول أن تسلك بك طريقاً آخر، فتقول لك: إن طرائق المجد في أن تشهر السيف على المسلمين، أو أن تخرج على ولاة أمرك، أو أن تتبنى طرائق التكفير، أو أضراب ذلك من دلائل الباطل وبراهين الضلالة التي لا يشك مؤمن حصيف متدبر للقرآن فيها، ودين الله بين الغالي فيه والمجافي عنه، ومن أراد الوصول إلى غاية شرعية فلابد أن تكون المطية للوصول مطية شرعية، فأي غاية شرعية تكون صادقاً مع ربك في الوصول إليها لابد أن تكون المطية مطية شرعية وإلا فلا، فلا يمكن الوصول إلى غايات إلا بما أراد الله وأرد رسوله صلى الله عليه وسلم.
وإن من أعظم دلائل الحق: أن يطبق الإنسان كلام ربه، وأن يستقي العلم الحق من القرآن لا من الأناشيد، وأن يؤخذ الدين من هدي محمد صلى الله عليه وسلم لا من طرائق غيره، وهذه منزلة تحتاج إلى إنسان أسلم قلبه حقاً لله، ولم يضرره الهوى، ولم تضلله الأماني، ولم يسمع لكل ناعق، فمن وطن نفسه على السمع والطاعة لما أمر الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم ألبس ثوب الهداية، وهدي إلى صراط مستقيم، وكان يرى بنور الله، كما في الحديث القدسي عن أولياء الله جل وعلا: (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره التي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها).
فيرزق التوفيق أولياء الله، وهم المتشبثون بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا أطلت الفتن وظهرت هنا وهناك لجئوا إلى كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وتمسكوا بما عليه جماعة المسلمين كما أمر نبينا صلى الله عليه وسلم.
فقد أحاطت بالمؤمنين في المدينة الدوائر، وحاصرهم جيش مسلم بن عقبة المري، وأرادوا بهم خزياً وعاراً، فجمع الصحابي الجليل عبد الله بن عمر الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وسمع القرآن وهو ينزل عليه، واغترف من هديه وأخذ من مشكاته، جمع بنيه وقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من خرج عن الإمام قيد شبر مات ميتة جاهلية)، فنقل إلى أبنائه وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ودين الله جل وعلا أجل وأعظم من أن يطبق في أمور ويترك في أمور، ومن أن نجعله هوىً نقبله حيناً ونتركه أحياناً، لكن المؤمن الحق الذي يريد ما عند الله يعلم أنه لا مطية توصل إلى دخول الجنة إلا ما أمر الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله جل وعلا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، وقال صلوات الله وسلامه عليه: (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)، وقال وهو الصادق المصدوق المبلغ عن ربه: (واسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبد)، إلى غير ذلك من النصوص التي لا يمكن إزالتها عن مواطنها، ولا أن تخرج عن موضعها، ولا أن يقبل بشيء يصادمها، فإذا جاء سيل الله بطل سيل معقل، كما هو مقرر في الكتاب والسنة، وما أجمع عليه سلف الأمة من قبل.
بقي أيها المؤمنون! أن نأخذ آية نختم بها هذا اللقاء المبارك، نعظ بها أنفسنا قبل غيرنا، قال الله جل وعلا: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:13 - 19].
قيل: إن أبا حازم سأله أحد خلفاء بني أمية عن حاله، فقال: يا أمير المؤمنين! اعرض نفسك على القرآن، قال: وأين أجد هذا؟ قال: في قول الله: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:13 - 14].
ويقول عمر: الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت.
ويقول: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، فاليوم عمل بلا حساب، وغداً حساب ولا عمل.(33/14)
بعض الوصايا التي تعين في السير إلى الله
والسير إلى الله سير كادح ذو مشقة، قال الله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]، وقال وهو أصدق القائلين: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6]، والوقوف بين يدي الله أمر حتم لازم لا محيد عنه، والسير على طريق الله يحتاج في أول الأمر ومنتهاه إلى توفيق من الرب تبارك وتعالى، وهذه بعض الوصايا فيما يعينك على أن تصل إلى ربك جل وعلا على النحو الذي أراد، والوجه الذي أتم.(33/15)
تعظيم الله تعالى في السر والعلن
وحتى تكون هناك أعمال سرائر في الخلاء لا بد أن يكون في القلب تعظيم لرب العزة والجلال، لابد أن يكون هناك علم بالله جل وعلا، وهذا ينجم عن تدبر القرآن وتلاوة آياته، فالله يقول: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ * مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} [فصلت:42 - 43]، فكلما تذكر الإنسان سعة رحمة الله ازداد أملاً في دخول جنته، وكلما تذكر الإنسان عظيم قدرة الله وأنه له مواطن سخط وغضب خاف من ناره، فإذا تذكر ما لله من صفات الجلال والجمال والكمال زاد حباً لربه تبارك وتعالى، ومن جمع هذه الثلاث: حب الله، والخوف منه، والرجاء فيما عنده وفق إلى صراط مستقيم.
هذه أيها المؤمنون! شذرات من تأملات، ومتفرقات من مواعظ، قلتها على عجل، والله وحده المسئول أن ينفع بها.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، إن ربي لسميع الدعاء، وصلى الله على محمد وعلى آله.(33/16)
الأسئلة(33/17)
حكم قراءة الإمام للآيات التي تجلب الخشوع بصورة دائمة
السؤال
أنا أصلي بالناس فأختار آيات تجلب الخشوع؛ ليخشع المصلي ويحصل على هذا الأجر، فهل هذا من الرياء؟
الجواب
مسألة أنه من الرياء أرجو الله ألا يكون رياء، وأنت أبصر بنفسك، لكن لا تستدم اختياراً معيناً، وحاول أن تنهج منهج النبي صلى الله علهي وسلم، فالقرآن كله ذو مواعظ ورقائق، فلا بأس أن تجمع بين هذا وهذا، لكن حاول أن تأتي على القرآن كله، والموفق الله.(33/18)
بطلان ما يحكيه بعض المفسرين في قصة داود مع بعض جنوده
السؤال
هل صحيح ما ذكره بعض المفسرين من قصة توبة داود عليه السلام في قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص:21]؟
الجواب
ما ذكر باطل من كل وجه، فما ذكروه من أنه بعث أحد أمراء جنوده وحصل ما حصل مع زوجته، هذا ينزه عنه آحاد الناس فكيف يرمى به أنبياء الله! فداود عليه السلام منزه عن هذا صلى الله عليه وسلم، فالخبر مكذوب، وما ذكره بعض المفسرين مجازفة منهم رحمة الله تعالى عليهم.(33/19)
كيفية تحديد الثلث الأخير من الليل
السؤال
كيف يحدد الثلث الأخير من الليل؟
الجواب
يقسم الليل من غروب الشمس إلى طلوع أذان الفجر ثلاثة أثلاث، وهذا يختلف صيفاً وشتاء، فيكون الثالث الأخير منها أمر واضح بعد ذلك، فلو فرضنا أن المغرب يؤذن الساعة السادسة، والفجر يؤذن الساعة السادسة فهذه اثنا عشر ساعة، فتكون الأربع ساعات الأخيرة من الليل هي ثلث الليل الآخر.
لكن لا يحسن جعلها -أي: الصلاة- إلى السحر جداً، أي: لا تكون متصلة بصلاة الفجر، فمن حيث الجواز يجوز، لكن الأفضل أن يكون هناك انفكاك وانفصال ما بين الوتر وما بين أذان صلاة الفجر، ولو كانت هناك ضجعة أو نومة فهذا أفضل، لقوله صلى الله عليه وسلم عن نبي الله داود: (كان ينام نصفه -أي الليل- ويقوم ثلثه، وينام سدسه).
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(33/20)
لمسة وفاء
جعل الله تعالى الدنيا دار بلاء وامتحان، ففيها يبتلي عباده بالغنى والفقر، والصحة والمرض، والعطاء والمنع؛ ليعلم صدق إيمان المؤمنين، ولا زينة يتزين بها أهل البلاء كزينة الصبر وانتظار فرج الله، وسؤاله والتوسل إليه بإظهار الحاجة في كشف الكربات.(34/1)
الدنيا دار بلاء
الحمد لله يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو على كل شيء شهيد، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وهو الولي الحميد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خيرته من خلقه وصفوته من رسله، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة حتى تركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله وملائكته والصالحون من خلقه عليه وعلى آله وأصحابه ومن اقتفى أثرهم واتبع نهجهم وسلك مسلكهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم -أيها المؤمنون- ونفسي بتقوى الله في السر والعلن؛ فإن تقوى الله أزين ما أظهرتم، وأكرم ما ادخرتم وأفضل ما أسررتم.
يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
ثم اعلموا عباد الله أن من سنن الله الماضيه وحكمته البالغة ومشيئته النافذة أنه جعل الدار الآخرة دار محاسبة وجزاء، وجعل هذه الدار دار عمل واختبار وبلاء يبتلي فيها عباده ويختبر فيها خلقه.(34/2)
فضيلة التزين بالصبر
ألا وإن الصبر أزين ما تزين به المؤمنون فهو الذي أمر الله به خير خلقه وصفوة رسله فقال: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35].
وأخبر الله تبارك وتعالى أنه يجزي علية جزاء لا منتهى له فقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] ولما كانت هذه الدار دار ابتلاء كان لابد للمؤمن من أن يتجمل برداء الصبر، وإن رداء الصبر وانتظار فرج رب الأرض والسماء لهو رداء عظيم طال ما تزين به الأنبياء واكتسى به الأصفياء والأولياء على مر الدهور وكر العصور.
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم كما أخرج الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أنه قال: (قلت: يارسول الله! أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلباً اشتد عليه بلاؤه، وإن كان في دينه رقه ابتلي على حسب دينه)، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وما يزال البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة).
إن طرق البلاء تتباين، وأنواعه تختلف من شخص إلى آخر، وهي على كل حال تظهر مدى صبر العبد ومدى يقينه بفرج رب الأرض والسماء، ومدى إيمانه بقضاء الله وقدرة خيره وشره، فلا إله إلا الله، وسبحان الله وبحمده.(34/3)
التوسل إلى الله وانتظار فرجه
كم من زوجين كريمين صالحين مرت عليهما سنين عديدة في الزواج وهما يطمعان في ولد تقر به الأعين، وتزال به الوحشة، فلطالما اشتريا دواء بعد داواء، ولطالما طرقا أبواب الأطباء، ومع ذلك لم ينالا شيئاً ولا حظاً.
أيها الزوجان الكريمان: إن انتظار فرج رب الأرباب جل جلاله والصبر على البلاء مما أمركما الله به، وإن لكما في نبي الله زكريا عليه الصلاة والسلام أسوة حسنه بعد أن بلغ من الكبر عتياً، فلما رأى آيات الله القاهرة، وأعطياته المجزلة على مريم بنت عمران طمع ذلك النبي والعبد الصالح في فرج أرحم الراحمين جل جلاله، فدعا الله بقلب نقي وصوت خفي في مكان خلي: رب {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم:5 - 6] فتوسل إلى الله بضعفه وعجزه وقد خط الشيب في رأسه، وتبرأ من حوله وقوته، ولجأ إلى حول وقوة رب العالمين جل جلاله {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم:4]، توسل إلى الله الذي أنعم عليه سابقا بأن ينعم عليه لاحقا.
أيها المؤمنون! إن التوسل إلى الله بإظهار العبد لفقره وتبرئه من حوله وقوته وطوله، واستناده إلى حول وقوة جبار السموات والأرض جل جلاله، لهو من أعظم الوسائل عند الله جلا وعلا، فإن ذلك مما يرزق الله به العباد ويفرج الله تبارك وتعالى به الشدائد.
واعلموا أن ما يدفع الله أعظم وأن ما عند الله من خير هو أبر وأتقى وأكرم، فسبحان الله وبحمده، كم من أب رزق مولوداً قرت به عينه، حتى إذا زالت به الوحشة واطمأنت إليه النفس، وتمنى عليه الأماني، وازدادت فيه الرغبات فجع بموته وأخبر بفقده.(34/4)
عزاء المبتلين بفقد الولد
أيها المؤمن: تعز بهذا البشارة العظيمة عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج الإمام الحاكم في مستدركه بسند صحيح من حديث معاوية بن قرة عن أبيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل ذات يوم ومعه ابن له، فقال عليه الصلاة والسلام لذلك الرجل أتحبه؟ فقال الرجل: يا رسول الله! أحبك الله كما أحبه) يبين شدة حبه لولده.
ثم فقده صلى الله عليه وسلم أياماً فسأل أصحابه قال: ما فعل فلان؟ قالوا: يا رسول الله! مات ابنه، فلما وجده صلى الله عليه وسلم قال له: (أما يسرك ألا تأتي باباً من أبواب الجنة إلا وجدته أمامك؟! فقال الصحابة: يا رسول الله! أله خاصة أم لنا كلنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم -وهو المخبر عن ربه-: بل لكم كلكم).
إن في هذا أعظم العزاء لمن ابتلي بفقد الولد، وإن لله جل وعلا ما أعطى ولله ما أخذ، فالله الله في الصبر وانتظار فرج رب الأرض والسماء.(34/5)
عزاء المبتلين بالكرب والأسقام
كم من مؤمن قعيد فراشه، أسير بيته، قد يئس منه الأطباء وأقعده المرض، وأشفق عليه الأحبة، وإن له في قول رسول الله صلى عليه وسلم: (إن الرجل لتكتب له عند الله المنزلة فلا يبلغها بعمله، فما يزال الله يبتليه حتى يبلغ به منتهاه) وله في أيوب عليه الصلاة والسلام وما فرج الله عنه، وما حكى الله عنه في كتابه أجزل القدوة وأعظم الأسوة، وله في أبي بكر رضي الله تعالى عنه يوم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! كيف الصلاح في الأمة وقد أنزل الله جل وعلا قوله: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر! ألست تحزن؟! ألست تمرض؟! ألست يصيبك اللأواء؟! فذلك ما تجزون به).
إن في هذا تفريجاً كبيراً لمن ابتلي بكرب أو مرض من المؤمنين، على أنه ينبغي للعبد أن لا يقنط من رحمة الله وأن لا ييأس من عفوه وفرجه، فليسأل كاشف الغم وفارج الهم، ومجيب دعوة المضطرين أن يرحمه، فإن الله أرحم من سئل وأكرم من أعطى.(34/6)
عزاء المبتلين بالفقر
كم من مؤمن كثير العيال، قليل المال، رقيق الحال، تحتبس الدمعة في عينه إذا رأى منظر أولاده مع أولاد الجبران لما يرى من فرق بينهم، ولكنه لا يملك حول ولا قوة.
أيها المؤمن! إن الله بنى هذه الدنيا على غنى وفقر، وعلى شدة ورخاء، وعلى عسر ويسر، واعلم أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بأريعين عاماً.
ولك -أيها المؤمن- في سلوة قوله صلى الله عليه وسلم لما ذكر أهل الجنة: (أهل الجنة ثلاثة)، وقال في آخرهم: (وعفيف متعفف ذو عيال).(34/7)
منزلة الإيمان بالقدر ومراتبه
أيها المؤمنون! إن الصبر على المكاره، وانتظار فرج الله تبارك وتعالى منقبة عظيمة، وخصلة حميدة، واعلموا أنه لا يتم إيمان عبد بقضاء الله وقدره خيره وشره حتى يتم له الإيمان بأصول أربعة: أولها: الإيمان بعلم الله جل وعلا للمعدوم والموجود، وعلم الله للممكن والمستحيل، وأن الله علم ما كان وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12].
وثانيها: الإيمان بأن الله كتب كل شي قبل أن يخلق الخلائق، كما أخرج مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنه) فما من مصيبة تقع إلا وقد كتبها الله أزلاً في اللوح المحفوظ.
وثالث ذلك: الإيمان بمشيئة الله الشاملة، وقدرته النافذة، قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29].
أما رابعها فهو الإيمان بأن الله خالق كل شيء، أوجده وكونه وصيره على هيئته، قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر:62].
وصفوة القول أن الصبر رداء جميل، فتزينوا به في العسر واليسر، وتزينوا به في السراء والضراء، جعلني الله وإياكم ممن إذا أنعم عليه شكر، وإذا ابتلي صبر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر:32].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(34/8)
فاجعة فقد الصالحين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اقتفى أثرهم واتبع سنتهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المؤمنين! فإن أعظم ما يمكن أن تصاب به الأمة أن تفقد خيار رجالاتها، وأهل العلم والمروءة الكاملة فيها، ولقد فجع الأمة عامة وأهل مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة بفقد رجل طال ما وقف في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوا إلى الله على بصيرة، كذلك نحسبه ولا نزكي على الله أحداً، فجعت أمة المسلمين بوفاة شيخنا الشيخ: عبد العزيز بن صالح رحمه الله تعالى.
وإن في الموت لعبرة لمن يعتبر، ذلك أن الشيخ طالما وقف في المحراب يصلي على أموات المسلمين، ويدعو لهم بالمعفرة والرحمة، وقبل أيام معدودة يقدمه الناس فيصلون عليه، ويدعون له بالمغفرة والرحمة، إنها سنة الله الماضية في الخلق، فسبحان الحي الذي لا يموت، سبحان من يفنى خلقه ويبقى وجهه.
رحل ذلك الشيخ بعد أن ترك مآثر خالدة، وترك معالم بينة، بعد أن طوف في محراب رسول الله عليه وسلم أكثر من أربعين عاماً، يتلو كتاب الله جل وعلا.
بلد الرسول قباؤه وعقيقه قبر أبر على عظامك حاني يبكيك فيه شيوخه ورجاله عند الصلاة وحين كل أذان يبكيك فيه منائر وأهلة والمنبر الشرقي ذو الأركان أنا لست أبكي فيك شخصا غائبا بل أبكي فيك معاقل الإيمان أبكي الإمامة والخطابة والتقى أبكي القضاء ونبرة القرآن في ذمة الله الكريم وحفظه وظلال خلد وارف وأمان ألا وصلوا وسلموا على أعظم من أصبتم بفقده، على نبي الهدى ورسول الرحمة، فقد أمركم الله بذلك في كتابه {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على صفيك من خلقك، وخليك من عبادك، اللهم ارض عن أصحاب نبيك أجمعين بلا استثناء، وخص -اللهم- منهم الأربعة الخلفاء، والأئمة الحنفاء: أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، اللهم ارض عن هذا الجمع المبارك معهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين، اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعف عنا، اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعف عنا، اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، اللهم اغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم خص شيخنا بمزيد من الرحمة يا حي يا قيوم، اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك الصالحين، وأبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.
عباد الله {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90] فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(34/9)
وقفات مع سورة الأعراف
سورة الأعراف من أعظم السور التي ضمت بين جوانحها كثيراً من الآيات العظيمة، والعبر الكريمة، والمواعظ الرحيمة، وقد تنوعت آياتها في المواضع التي تطرقت لها وتحدثت عنها، لكنها تشابهت في عظمتها وكريم معانيها.(35/1)
بين يدي سورة الأعراف
الحمد لله الذي ليس كمثله شيء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الحي حين لا حي، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، آخر الأنبياء في الدنيا عصراً، وأرفعهم وأجلهم يوم القيامة شأناً وذكراً.
صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن القرآن العظيم هو أعظم ما أعطيه نبينا صلى الله عليه وسلم، الذي حوى صوراً عظيمة تتضمن عظات بالغة، وآيات محكمة.
وفي هذا اللقاء المبارك وقفات مع سورة الأعراف أو مع بعض آياتها، نسأل الله جل وعلا أن يرزقنا فيها وإياكم العلم النافع والعمل الصالح.(35/2)
ذكر الميزان في سورة الأعراف
سورة الأعراف مكية.
ومما جاء في آياتها قول ربنا جل وعلا: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:8]، هذا الوزن الذي أخبر الله جل وعلا عنه يكون يوم القيامة، يوم يقوم الأشهاد ويحشر العباد، وقد دل الكتاب والسنة إجمالاً على أن للميزان كفتين، كما قال صلى الله عليه وسلم: (فطاشت السجلات ورجحت البطاقة)، لكن اختلف العلماء، في ما الذي يوزن: فقال بعضهم: الذي يوزن صاحب العمل، واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حق عبد الله بن مسعود: (أتعجبون من دقة ساقيه؟ لهما أثقل في الميزان من جبل أحد)، وقال آخرون: إن الذي يوزن هو العمل نفسه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (والحمد لله تملأ الميزان)، وقال آخرون: إنما تجعل الأعمال في صحائف وتوزن الصحائف، واحتج أصحاب هذا القول بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فوضعت السجلات في كفة والبطاقة في كفة فرجحت البطاقة وطاشت السجلات)، والذي يظهر والعلم عند الله أن كل هذا صحيح، فيوزن العمل وصاحبه، وتوزن صحائف العمل، ثم يكون بعد ذلك أو قبله أخْذ الناس لكتبهم بأيمانهم أو بشمائلهم.(35/3)
بيان أن التكذيب بالله ورسوله سبب كل نقمة وبلاء
قال الله جل وعلا في هذه السورة المباركة: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف:40].
القلوب أوعية، والتصديق بكلام الرب تبارك وتعالى هو مفتاح الدخول إلى رحمته، كما أن التكذيب بالله جل وعلا وبما جاء عن الله والتكذيب برسول صلى الله عليه وسلم وبما جاء عنه هو سبب كل نقمة وبلاء، قال الله جل وعلا: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:8 - 10]، فالتكذيب بكلام الله جل وعلا سبب لكل بلاء وهو عنوان الكفر، والتصديق بما جاء عن الله والعمل به هو عنوان الإيمان، والله هنا يقول: ((إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا))، فهم لم يصدقوا بها أصلاً، وأعرضوا عنها إعراضاً، قال الله بعدها: ((لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ))، والسماء خلق من خلق الله، وهي طباق يركِّب بعضها بعضاً، خلقها الله جل وعلا وجعلها سقفاً محفوظاً، تمر عليها أعمال بني آدم، فكم من عبد صالح على فراشه يرفع من العمل ما تفتح له أبواب السماء، وكم من عبد لم يعرف الله طرفة عين لا يرفع له عمل ولا تقبل له دعوة حتى إذا مات هذا وهذا بكت السماء والأرض على من فقدت الطريق إلى عمله، فإن العمل الصالح يرفع حتى يصبح له باب معين في السماء يغدو من خلاله عمل ابن آدم، فإذا عرف العبد عند أهل السماء بالعمل الصالح والطاعة فمات وفقد ذلك الموضع من السماء عمله فيبكي عليه، ولهذا قال الله عن أهل الوبال والخسران والكفران: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:29]، وهنا يقول الله: ((إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ))، ثم علق الله ذلك بالمحال في لفظ تعرفه العرب، إذ أن من صنعتها أساليب الكلام قال الله جل وعلا: ((حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ))، وكل من أعطي عقلاً ولو مسكة منه، أدرك أنه لا يمكن للجمل أن يدخل في سم الخياط.(35/4)
ذكر حوار أهل الجنة وأهل النار وأصحاب الأعراف في السورة
ثم ذكر الله تبارك وتعالى جملة من النداءات تكون يوم القيامة، قصها الله جل وعلا سرداً؛ يتذكر بها المؤمن ويتعظ بها التقي، ويعرف كل من أراد وجه الله مآله، إن طبق ما جاء فيها من عمل، قال الله وهو أصدق القائلين يخبر عن أمر لم يكن بعد: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف:44]، قال العلماء: دخل طاوس بن كيسان على هشام بن عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين! اذكر يوم الأذان، قال: وما يوم الأذان، فتلا عليه هذه الآية: فصعق هشام، فقال طاوس رحمه الله: هذا ذل الخبر، فكيف إذاً بذل المعاينة؟! وقد أنزل الله على ألسنة رسله أمراً ووعداً على الإيمان بالله ورسله، والوعد على الإيمان هو الجنة، وأنزل نهياً حذر منه، وجعل على من تجاوزه وعيداً هو النار، فإذا آل أهل الجنة إلى الجنة -جعلني الله وإياكم منها- وآل أهل النار إلى النار -أعاذنا الله وإياكم منها- تحقق الوعد والوعيد لكلا الفريقين، فينادي أهل الجنة أصحاب النار كما حكى الله: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ} [الأعراف:44 - 45].
من أعظم ما يمكن أن يتحلى به عبد من السفال والوبال أن يكون ممن يصد عن سبيل الله جل وعلا.
ثم ذكر الله نداء آخر، قال الله جل وعلا قبلها: {وَبَيْنَهُمَا} [الأعراف:46] أي: بين أهل الجنة والنار: {حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ} [الأعراف:46]، ظاهر القرآن أنها أماكن مرتفعة؛ لأن العرف في لغة العرب هو: ما علا وارتفع.
{وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا} [الأعراف:46] أي: أصحاب الأعراف: {أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف:46]، هذا إخبار بحال أهل الأعراف.
والمقصود من هذا: أن الإنسان إما إلى خير وإما إلى شر، وإن عجز فعلى الأقل أن ينتسب إلى أهل الخير أو أن يحاول أن يبتعد عن أهل الشر، فالله جل وعلا يبين هنا أن أصحاب الأعراف باختيارهم وإرادتهم ينظرون إلى أصحاب الجنة، فإذا نظروا إليهم وقد استقروا في الجنة نادوهم، قال الله: {وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا} [الأعراف:46] أي: أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة بعد، {وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف:46] أي: يطمعون في دخولها؛ لأنهم أعطوا نوراً وذلك النور لم يطفأ بعد، فبقاء النور في أيديهم يجعل الطمع في قلوبهم يعظم في أنهم سيدخلون الجنة.
ثم قال الله: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ} [الأعراف:47] أسندها الله -كما يقول النحويون- إلى ما لم يسم فاعله، لم يقل الله: إن أبصارهم تصرف بإرادتهم، وإنما قال: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ}، هؤلاء الأخيار الذين على الأعراف لا يريدون أن يروا حتى أهل النار فضلاً على أن ينتسبوا إليهم.
{وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:47] أنخ مطاياك هنا أيها المبارك وتأمل! فهؤلاء قوم النور في أيديهم، والجنة على مرأى من أعينهم ومع ذلك يبقى لديهم خوف أن يدخلوا النار، ولا يمكن لأحد مهما استقام قلبه، وحسن عمله، وصلحت سريرته أن يأمن مكر الله، قال تعالى: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]، فهؤلاء من أصحاب الأعراف هم على تلال مشرفة من الجنة، والله يذكر عنهم خيراً ويثني عليهم، ومع ذلك يعلمون أن النجاة أبداً لا تكون إلا بيد الله وبالالتجاء إلى الله.
قال الله: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ} [الأعراف:47] يصيبهم في قلوبهم الفزع والخوف، ويرون على أصحاب النار الذل والهوان، وليست الآخرة دار عمل، ولا يمكنهم أن يعملوا طاعة حينها، فلا مفر من غير الالتجاء إلى الله: {قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:47]، فإن رأيت أحداً ممن ابتلاه الله بمعصية فاحذر من شيء وتمسك بشيء؛ احذر من أن تشمت به، فإنك لا تدري لعل الله يهديه ويضلك، فهذا ما تحذر منه، وتمسك بأن تسأل الله العافية من مثل هذا الصنيع، قال الله على لسان أصحاب الأعراف: ((رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)).
ذكر قال الله نداء لأهل النار: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50]، الماء في الدنيا كما أنه أعز مفقود فإنه أذل موجود، ومع ذلك لا يتمنى أهل النار شيئاً أعظم من تمنيهم للماء، قال الله عنهم: ((وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ))، فيكون
الجواب
(( قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا)) أي: الماء والطعام: ((إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ)).
ثم جاء الوصف لأصحاب النار: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف:51].(35/5)
ذكر إقامة الحجة على العباد في السورة
ثم بين الله أنه أقام الحجة على عباده، والحجة أقيمت بإرسال الرسل وإنزال الكتب، والأمة المحمدية ما أقيمت عليها حجة أعظم من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن هذا القرآن الذي بين أيدينا، قال الله جل وعلا: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} [الأعراف:52 - 53] وتأويله في الآية ليست بمعنى تفسيره، وإنما تأويله أي: يقع ما أخبر الله عنه من وعد ووعيد، وما كان يوماً ما في طيات الغيب يراه الناس عياناً.
قال الله جل وعلا: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [الأعراف:53]، أي: يقع ما أخبر الله عنه، وهذا لا يكون بكماله وتمامه إلا في عرصات يوم القيامة، قال جل وعلا: {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأعراف:53].(35/6)
ذكر عظم الله وكمال قدرته في السورة
فلما أراهم الله عاقبة أعمالهم وكان الله بعباده غفوراً رحيماً، عرفهم الله جل وعلا بنفسه، وبين لهم جل وعلا أن مقاليد كل شيء بيديه، وأن الخلق خلقه والرزق بيده؛ حتى تنكسر قلوبهم وتذرف عيونهم وتقشعر جلودهم، فقال بعدها جل وعلا: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف:54] كلمة رب تشعر الإنسان أنه في حفظ أحد عظيم، ولا أحد يحفظ ويكلأ مثل الله، فكلمة رب في معناها وفيما تضيفه على سامعها غير كلمة إله، فكلمة إله تضفي على السامع أنه يجب أن يعبد، أما كلمة رب فتضيف على السامع أنه في حفظ وكلأ، ولهذا قال الله جل وعلا لموسى: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [طه:12] حتى يشعره بالأمن والطمأنينة، ثم بعد أن أعطاه الرسالة قال له: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14]، فطالبه بالعبودية بعد أن قال له: ((إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ))، وهنا يقول الله: ((إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ))، وهو قادر جل شأنه على أن يخلقها في أقل من ذلك لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولكن قال العلماء: أراد الله جل وعلا أن يبين ويعلم عباده التؤدة والسكينة في الأمر: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]، العرش سقف المخلوقات، وهو سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، والملائكة الذين يحملونه إما ثمانية صفوف وإما ثمانية أفراد، قال الله: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17]، واستواء الله جل وعلا على عرشه نثبته من غير بيان كيفيته، فالاستواء معلوم والكيف مجهول، لكن نقول كما قال الأخيار من قبلنا: استواء يليق بجلاله وعظمته، لكن يجب أن يستصحب ذلك أن تعلم أن ربك غني عن العرش وغني عن حملة العرش، بل إن العرش ومن يحمله من الملائكة ومن يطوف حوله وسائر الخلق كلهم فقراء إليه جل وعلا.
{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [الأعراف:54] يقول العلماء: إن الله خلق الليل قبل النهار، قال سبحانه: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس:37]، ومعنى: ((يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ))، أي: يغطيه بظلامه.
ثم قال جل وعلا: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} [الأعراف:54] وهذه الأشياء خلق من خلقه، يقول صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر وقد نظر إلى الشمس: (أتدري أين تذهب؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تأتي عند العرش فتسجد، ثم تستأذن ربها فيأذن لها، حتى يأتي يوم فتستأذن فلا يؤذن لها، فتطلع على الناس من المغرب، هنالك تؤمن كل نفس لم تكن آمنت من قبل)، كما قال الله جل وعلا: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام:158].
فربنا هنا يقول: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54] ففرق الله ما بين الخلق والأمر، وهذه أحد أدلة أهل السنة على أن القرآن منزل غير مخلوق، ففرق الله جل وعلا ما بين خلقه وبين أمره، فبعض الأشياء خلقها الله خلقاً، وبعض الأشياء كانت أمراً، والقرآن من أمره جل وعلا؛ لأنه كلامه تبارك وتعالى وصفة من صفاته، كما أن ذات الله لا يشبهها شيء، فكذلك صفات الله لا يشبهها شيء، قال الله جل وعلا: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54] أي: تقدس وتعاظم وتعالى، واللفظ (تبارك) لا يخاطب به أحد غير الله، لا يقال لغير الله: تبارك، كائناً من كان، فلا تقال لمحمد عليه الصلاة والسلام ولا لجبريل ولا لإخوانه من النبيين، ولا لإخوان جبريل من الملائكة عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام.
والقرآن منزل من عند الله لا يمكن أن يرقى أحد إلى أسلوبه وبيانه، فلما عرَّف الله بذاته العلية دعا الله جل وعلا عباده إلى أن يدعوه.
قال الله جل وعلا: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * ادْعُوا رَبَّكُمْ} [الأعراف:54 - 55] أي: ربكم الذي عرفكم بنفسه قبل قليل: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف:55]، فأما قوله جل وعلا: ((تَضَرُّعًا))، هذا حال من قلب الداعي؛ أن يدعو الإنسان يدعو وهو منكسر ذو وجل، وهو يرغب من الله جل وعلا أن يجيبه، ويطمع في رحمة ربه، يعرف أن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأن مقاليد كل شيء بيديه، ويقول جل وعلا: ((ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً))، وهذا حال الداعي، وكلما كان الداعي يدعو في مكان مستتر كما دعا زكريا عليه الصلاة والسلام في مكان خلي بقلب نقي وصوت خفي: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم:3]، كان أجدر في أن يجيبه الله.
{إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55] ومن الاعتداء في الدعاء: أن يسأل العبدُ الله شيئاً أخبر الله أنه لا يكون، فمثلاً الله جل وعلا أخبر أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، فلا يأتي أحد يطلب من الله النبوة، مع أننا نعلم جميعاً أن الله قادر على أن يجعلنا أنبياء، لكن الله جل وعلا ختم النبوات برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن الاعتداء في الدعاء أن يطلب الإنسان هذا وأمثاله، ((إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)).(35/7)
ذكر خلق الناس من نفس واحدة وبيان حالة التضرع لله في حال الضراء
قال الله جل وعلا بعدها في آيات أخر من هذا السورة المباركة: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف:189]، النفس المذكورة هي: نفس آدم، وآدم عليه السلام نبي مكلم كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في الحديث: (قيل: يا نبي الله! أكان آدم نبياً؟ قال: نعم، نبي مكلم)، فالله يقول: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ))، والخطاب للناس، ((مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ)) هي نفس آدم عليه الصلاة والسلام، ((وَجَعَلَ مِنْهَا)) أي: من نفس آدم: ((زَوْجَهَا))، وكلمة زوج في الآية المقصود بها.
أمنا حواء، خلقها الله جل وعلا من أحد أضلاع آدم، قال الله معللاً: ((لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا))، فالبيوت ينبغي أن تبنى على الطمأنينة والسكينة، ثم ينتهي الخطاب القرآني هنا عن آدم وزوجه، ويأتي الخطاب عن جنس البشر لا عن آدم ولا عن زوجته، قال الله: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا))، ثم قال: ((فَلَمَّا تَغَشَّاهَا))، وهذا انتقال في الخطاب لا يمكن أن يطبق على آدم؛ لأن ما سيأتي بعده داخل في منظومة الشرك، وأنبياء الله منزهون عن الشرك، فقال الله تبارك وتعالى: ((فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ)) أي: الزوجة: ((حَمْلًا خَفِيفًا))، وهذه أولى درجات الحمل.
ثم قال ربنا وهو الخالق: ((فَلَمَّا أَثْقَلَتْ)) أي: ازداد الحمل وهناً على وهن، وأصبح الذين كانوا بالأمس يستبشرون بالحمل يخافون اليوم من آلام الولادة، يخافون أن يفقدوا الزوجة، فيصبح في الناس شدة خوف، فيقول الله جل وعلا: ((فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا)) أي: تضرعا إلى الله بسلامة المولود وصلاحه وهما: الأب والأم، ((لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)).
قال الله: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف:190].
قوله: (فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) يبينها الحديث القدسي: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيء)، فالله يقول: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، ولما ذكر الله القرآن، قال لمن كذب القرآن قال: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا} [الإسراء:107]، فإيمان الناس بالقرآن لا يزيد القرآن كمالاً، وكفر الناس بالقرآن لا يورث القرآن نقصاً؛ فالقرآن من عند الله آمن به من آمن وكفر به من كفر، والله جل وعلا غني عن الشركاء غني عن الطاعة لا تضره المعاصي، فقال الله جل وعلا: ((فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا))، وهذا كما قلت: لا يمكن أن ينزل على آدم.
{أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف:191].
إن من أعظم ما بينه القرآن: أن قضية الخلق فيصل، فالله جل وعلا وحده تفرد بالخلق والرزق، وبما أنه جل وعلا وحده تفرد بالخلق والرزق فلزاماً أنه لا ينبغي أن تفرد العبادة إلا له تبارك وتعالى، ولهذا لما أراد الله أن يقيم الحجة على خلقه قال: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف:190 - 191]، كيف يشرك ويساوى ما بين مخلوق لا يخلق مع الخلاق العظيم جل جلاله؟! ومن جملة ما دلت عليه الآية: أن الإنسان جُبِل على التضرع إلى ربه في الضراء، حتى أهل الكفر، قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء:67]، والضراء في الغالب لا تميز المؤمن من الكافر، لكن يميز الكافر من المؤمن إذا انتهى الضر ورفعت البلوى بقدر الله، قال الله جل وعلا: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس:12]، وأولياء الله والعارفون به والمؤمنون به؛ يعبدونه جل وعلا، ويتضرعون إليه في السراء والضراء، كما قال ابن قدامة: ما الذي على لوح ترفعه أمواج البحر وتضعه بأفقر إلى الله جل وعلا منك وأنت في مكانك هذا.
فحاجة أي أحد إلى الله جل وعلا سواء، فالإنسان لو دخل قصور الملوك، وبيوت الأثرياء، ودهاليز أهل الثراء هو فقير إلى الله كفقر من هو في البحر على لوح لا يمكن أن يستغنى عن الله طرفة عين، وعندما يعرف العبد أنه في أعظم حاجة إلى ربه، فهو الذي عرف ربه حقاً؛ لأن معرفة العبد بفقره إلى الله يورثه انكساراً، والانكسار يورثه عبادة، لعله بعبادته لربه يستجلب رحمته ويستدفع نقمته، فإذا رفعت البلوى والضر تميز من كان يعبد الله على بصيرة ممن كان يعبده لعارض، تقول العرب: صلى المصلي لأمر كان يطلبه فلما انقضى الأمر لا صلى ولا قامَ(35/8)
ذكر لقاء موسى ربه في السورة
قال الله جل وعلا في هذه السورة المباركة: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف:143]، موسى هو كليم الله وصفيه، وهو ابن عمران، بعثه الله جل وعلا إلى فرعون وإلى الملأ من قومه من بني إسرائيل، وهذا الإخبار الذي قاله الله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا} كان في صحراء التيه، وموسى عليه الصلاة والسلام والملأ الذين معه خرجوا إلى صحراء التيه بعد خروجهم من أرض مصر، قال الله: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} [الأعراف:138] وموسى عليه الصلاة والسلام كان يسكن في مصر؛ لأن بني إسرائيل استوطنوا مصر بعد أن جاء يعقوب بدعوة من ابنه يوسف، ثم تناسلوا، فأمر الله موسى بقوله: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الدخان:23]، فسرى بعباد الله المؤمنين ليلاً، وجاوز البحر، فأتبعه فرعون بجنوده بغياً وعدواً فأغرقه الله، فلما مكثوا في أرض التيه، أمرهم نبيهم: أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لهم، فقالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] وامتنعوا عن الجهاد، قال الله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:25 - 26].
في تلك الحقبة الزمنية قبل أن يموت موسى وبعد أن نجا من البحر، أعطاه الله جل وعلا موعداً قال الله: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً} [الأعراف:142] فصامها عليه الصلاة والسلام كما يقول أهل التفسير، وكانت شهر ذي القعدة، ثم إنه استحيا أن يلقى الله وعليه خلوف فم الصائم فطعم، فلما طعم عاقبه ربه وليس عقاباً الذنب، لكن لخلاف الأولى، فزادها الله عشراً، فصام عشراً، فكان الميقات مكانياً وزمانياً، أما الميقات الزماني فلم يذكره القرآن، لكن أهل التفسير يقولون: إن موسى كلم ربه في اليوم العاشر من ذي الحجة، وأما الميقات المكاني فإن الله ذكره في القرآن: {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ} [طه:80]، فإن الله جل وعلا كلم موسى عند جانب الطور الأيمن التكليم الثاني؛ التكليم الأول كان وقت البعثة، والتكليم الثاني كان بعد النجاة من البحر، قال الله: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف:142 - 143] لميقات زماني ومكاني ضربه الله له.
قال الله: {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143]، فالله جل وعلا كلم موسى تكليماً يليق بجلاله وعظمته وقد سمعه موسى ووعاه.
أعطي موسى منزلة أحب أن يرتقي إلى أعلى منها، قال الله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، ثم من باب التعزية والتسلية له قال له ربه: {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} [الأعراف:143] إذا بالجبل تسيح هضباته وتدك صخراته، فلما رأى موسى ما حل بالجبل قال كما حكى الله عنه: {قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} [الأعراف:143]، وصعق بمعنى: أغمي عليه: {فَلَمَّا أَفَاقَ} [الأعراف:143] أي: من صعقته، {قَالَ سُبْحَانَكَ} [الأعراف:143] تنزيهاً لله عما لا يليق به: {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143] أي: وأنا أول من يؤمن أنك لن ترى في الدنيا، أو ((وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)) من بني إسرائيل، تحمل على عدة محامل.
رؤية الله جل وعلا في الدنيا جائزة عقلاً ممتنعة شرعاً، وفي الآخرة جائزة وواقعة عقلاً وشرعاً، ومعنى هذا: أن الله قادر في الدنيا على أن يعطينا قدرة نراه فيها، فهي من حيث العقل يمكن أن نقول: إن الله قادر على أن يعطينا قدرة أن نراه فيها هذا معنى الجواز العقلي، ممتنعة شرعاً؛ لأن الله قال: ((لَنْ تَرَانِي))، فدل الشرع على أنها لن تقع، وهذا الأمة كلها متفقة عليه، وبقيت الرؤية في الآخرة وقد ذكر القرآن: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته)، فهي جائزة عقلاً؛ لأنها إذا كانت في الدنيا جائزة عقلاً فمن باب أولى أن تكون في الآخرة جائزة عقلاً، لكنها في الآخرة زيادة واقعة قدراً وشرعاً؛ لأن الله جل وعلا أخبر أن عباده المؤمنين سيرون ربهم تبارك وتعالى.
{قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143] فذكر الله منته على هذا الكريم.
{قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ} [الأعراف:144] أي: اجتبيتك واخترتك، {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} [الأعراف:144] وهذا من ألفاظ العموم التي يراد بها الخاص؛ لأن موسى عليه الصلاة والسلام ليس أفضل الخلق كلهم، وإنما المراد بكلمة الناس هنا: أهل زمانه.
{إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف:144] والشكر من أعظم مناقب أولياء الله الصالحين.(35/9)
قواعد في شكر الله
وللشكر قواعد نجملها فيما يلي: أولها: أن يستقر في القلب أن النعمة من الله.
والثاني: أن يلهج اللسان بذكر الله لها وأن يعرَّف العبد بها غيره: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11].
وألا تستعمل في معصية الله، وأن تستعمل في طاعة، فهذه من حيث الإجمال قواعد الشكر.
قال الله جل وعلا بعد أن من على آل داود: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء:81] إلى أن قال جل وعلا: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]، فالله جل وعلا يفيء على عباده النعم ويطالبهم بالشكر، مع علمه تبارك وتعالى ومع علمنا أن الله جل وعلا غني عن شكر الشاكرين كما حررناه سابقاً، لكن شكر العبد يعود عليه، كما قال الله: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [لقمان:12].
قال الله: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف:144].(35/10)
وقفة مع قوله تعالى: (واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخفية)
قال الله جل وعلا في آيات بعدها: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف:205].
هذه وصية من رب العالمين لنبينا صلى الله عليه وسلم في المقام الأول بأن يكثر من ذكر الله، وذكر الله جل وعلا: حياة الضمائر، وأنس السرائر، وأقوى الذخائر؛ أمر الله به عباده على كل حال، وقال العلماء لو كان ذكر الله يستثنى منه أحد لاستثنى الله منه زكريا يوم أن قال له ربه: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا} [آل عمران:41]، ثم قال له: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [آل عمران:41]، ومن أحب الله حقاً أكثر من ذكره: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152]، قال صلى الله عليه وسلم: (سبق المفردون! قالوا: ومن المفردون يا رسول الله؟! قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات).
وختم الله هذه الوصية بقوله: ((وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ))، والغفلة أن يكون في الإنسان ميل وجنوح عن ذكر ربه أو عن عبادة ربه إجمالاً، وللغفلة أسباب قد تكون علمية محضة لا تصلح في موعظة.(35/11)
وقفة مع قوله تعالى: (إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته)
ثم لما بين الله جل وعلا لنبيه وأرشده إلى أن يكثر من ذكر الله ذكر له أنموذجاً من عباده الصالحين الذين يذكرون ربهم، قال الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:206] هذه آخر آية في سورة الأعراف وأول آية فيها سجدة في القرآن نقف عندها كثيراً.
قال الله: ((إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ)) (عند) مكانية، والملائكة الأصل أن أمكنتهم -أي: مساكنهم- السماء، كما جاء في الحديث: (أطت السماء وحق لها أن تئط، والله! ما من موضع أربعة أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى)، والملكوت الأعلى ملكوت إيماني تعمره الملائكة؛ العرش تحمله الملائكة، وحول العرش طائفة أخرى تطوف، ثم لكل سماء خزنتها، والملائكة لهم آداب عامة: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} [مريم:64]، فهم يستحيون عظيم الحياء من ربهم، يقول صلى الله عليه وسلم، كما في حديث النواس بن سمعان: (إن الله إذا أراد أن يتكلم بالوحي، أخذت السماوات منه رجفة شديدة، فإذا سمع بذلك أهل السماوات صعقوا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فإذا رفع رأسه أوحى الله إليه بما شاء من الأمر، ثم يمضي على كل سماء، كلما مر على سماء سأله ملائكته: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: قال الحق وهو العلي الكبير).
والملائكة منهم أعلام معروفة كجبريل وإسرافيل وملك الموت وميكال ومالك وهو أحد خزنة النار، وهاروت وماروت وهذان ابتلى الله جل وعلا بهما أهل بابل، وغيرهم ممن نعلم ما وكل إليهم وما أسند إليهم، لكننا لا نعلم أسماءهم؛ ولكن نقول بالجملة: إن الملائكة يتفقون مع الجن في أننا لا نراهم، ويتفق الجن معنا أن كلينا مكلفان، والملائكة والجن كلاهما عقلاء مثلنا، فنتفق الثلاثة في أننا جميعاً عقلاء: الإنس والجن والملائكة، ونختلف في أن الجن والإنس يتفقان أنهما مكلفون والملائكة غير مكلفين.
والجن تحكمهم الصورة، والملائكة لا تحكمهم الصورة، والمعنى: لو أن جنياً تشكل في هيئة مخلوق، ثم قتل ذلك المخلوق فإنه يموت الجني في الهيئة التي تشكل بها، وأهل العلم يقولون: لو أن ملكاً تشكل في هيئة كمثل جبريل لما تشكل في صورة رجل تام الخلقة لـ مريم، لو قدر جدلاً أن أحداً طعنه فإنه لا يموت، فالصورة لا تحكمه كما تحكم الجني، وأحد التابعين دخل على أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه وأرضاه في بيته في المدينة وهو يصلي، فمكث ينتظر أبا سعيد أن يفرغ من صلاته، فنظر في عراجين البيت فإذا حية فهمَّ الرجل الذي ينتظر أبا سعيد أن يقتلها، فأشار إليه أبو سعيد أن مكانك، فلما فرغ من صلاته أخذ بيده وأخرجه من الدار وأشار إلى بيت غير بعيد، قال: انظر إلى تلك الدار، قال: نعم، قال: إنها كان يسكنها رجل منا معشر الأنصار، فلما كان يوم الأحزاب كان هذا الرجل حديث عهد بعرس، فكان يجاهد مع النبي صلى الله عليه وسلم عند الخندق ويستأذنه إذا أمسى، فيأذن النبي له؛ لأنه حديث عهد بعرس، فذات يوم قال له صلى الله عليه وسلم: (خذ معك -أو عليك- سلاحك فإني أخاف عليك بني قريظة -أخاف عليك غدر اليهود- فأخذ الرجل سلاحه ومضى إلى بيته، فلما أتى الدار إذا بزوجته خارج الدار، فأصابته الحمية والغيرة وسل سيفه، فقالت: لا تعجل -أي علي- وأشارت إليه أن ادخل الدار، فدخل فإذا حية قد التفت على فراشه، فأخرج سيفه فضربها، قال أبو سعيد رضي الله عنه وهو يحكي الخبر عن هذا الرجل، قال: فلا يدرى أيهما أسبق موتاً، أي: الرجل الأنصاري الضارب أو الحية فكلاهما مات في آن واحد، فلما علم صلى الله عليه وسلم بهذا قال: إن لكم إخواناً من الجن يعمرونها -أي البيوت- فإذا رأيتم مثل هذا فلا تقتلوه حتى تحرجوا عليه ثلاثاً)، هذا شاهد على قول من يقول: إن الجني تحكمه الصورة، لكنني لا أعلم دليلاً على قول من يقول: إن الملك لا تحكمه الصورة، لكنه من ناحية العقل قريب جداً، أما في النقل فلا أعلم له دليلاً كما قلت.
والملائكة تعرف معنى البشارة فيفرحون بحمل البشارات إلى الناس؛ فنبينا صلى الله عليه وسلم رزق من زوجته خديجة ستة أولاد؛ أربعة إناث واثنان ذكران: عبد الله والقاسم وكلاهما مات قبل البعثة، وهما صغيران، فبقيت البنات الأربع، والبنات الأربع ثلاث منهن توفين في حياته صلى الله عليه وسلم، فلم يبق له أحد من ظهره الشريف إلا فاطمة فزوجها علياً، وإن كان تزويجها لـ علي قبل وفاة أخواتها وقد زوجها بعد انصرافه من بدر لـ علي، فأنجبت الحسن والحسين من علي رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فلما أنجبت تعلق صلى الله عليه وسلم بـ الحسن والحسين كونهما كانا ابناه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ليس له أولاد يدرجون في بيته الطاهر، فكان يحبهما ويضع كل أحد منهما على فخذ ويقول: (اللهم إني أحبهما فأحبهما)، ويخرج لهما لسانه ويداعبهما بإخراج لسانه لهما، وينزل من المنبر ليحملهما، فهذا يصل خبره إلى الملكوت الأعلى، فتنافس الملائكة في أن تنقل البشارة لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فيقول صلى الله عليه وسلم لـ حذيفة: (أرأيت العارض الذي عرض لي قبيل؟ ملك نزل الليلة من السماء لم ينزل قبل، استأذن ربه في أن ينزل من السماء ليسلم علي ويبشرني أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)، فهذه من علاقة الملائكة عليهم السلام مع رسولنا صلى الله عليه وسلم، لكن أعظم الملائكة علاقة معه جبريل، وجبريل شخصية في منتهى العظمة بقدر الله، فإن جبريل يحمي النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث: (أن أبا جهل قال: لئن رأيت محمداً يعفر وجهه بين أيديكم لأفعلن وأفعلن، فلما سجد صلى الله عليه وسلم جاءه أبو جهل ثم تراجع، قال عليه الصلاة والسلام: لو أقدم علي لاختطفته الملائكة عضواً عضواً)، وفي بعض الروايات ما يؤكد أن جبريل هو الذي دفع أبا جهل، وفي ساحة القتال في يوم بدر كان جبريل يقود الملائكة، وكما أن جبريل ولي لرسول الله في الجانب العسكري فإنه ولي له في الجانب العلمي، يقول صلى الله عليه وسلم يسأله الصحابة: (ما أحب الأماكن إلى الله؟ قال: المساجد.
قالوا: وما أبغضها إلى الله؟ فسأل جبريل، فقال له جبريل: الأسواق)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (إن الدين أخبرني به جبريل آنفاً)، فهو شخصية عسكرية وشخصية علمية، وفي نفس الوقت شخصية عبادية، (لما مرض صلى الله عليه وسلم كان جبريل يرقيه ويقول: باسم الله أرقيك من كل شر يؤذيك)، فيبقى يرقيه عليه السلام، وهو في المقام الأول ينزل بالوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يحب جبريل حباً عظيماً.
وهو الذي كان معه رفيقاً في هجرته، وجبريل كان يعلم الصحابة مادة الدين؛ ويعلمهم الطريقة التي ينقلون بها الدين، سيأتي حديث عمر: (بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ دخل علينا رجل شديد سواد الشعر شديد بياض الثياب لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد)، وهذا لا يجتمع في وصف أحد؛ لأن أهل المدينة من الصحابة آنذاك يعرف بعضهم بعضاً، فالذي قدم من قريب من بيته من داره مترجلاً شعره ليس عليه أثر سفر، بياض ثيابه شديد هذا يدل على أنه قادم من أهل المدينة، أما الأعراف الذين يأتون من خارج المدينة لابد أن يرى عليهم أثر السفر، لكن هذا الجالس شديد سواد الشعر شديد بياض الثياب وفي نفس الوقت لا يعرفه منا أحد، (ثم أسند يديه إلى ركبتيه، قال: أخبرني عن الإيمان) عن الإسلام عن الساعة، وجبريل هو الذي نزل بهذا على رسولنا صلى الله عليه وسلم، لكنه أسلوب في التعليم.
وأوكل الله جل وعلا إلى ميكال النزول بالقطر من السماء، وإسرافيل أوكل الله جل وعلا إليه النفخ في الصور، وملك الموت أوكله الله جل وعلا بقبض الأرواح، وهؤلاء المباركون كلهم يجتمعون في أنهم كما قال الله: {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:206]، والسجود لله جل وعلا أعظم منقبة ولهذا حرم الله جل وعلا على النار أن تأكل من ابن آدم أعضاء السجود.
هذا وعظ على وجه الإجمال حول سورة الأعراف نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى.
هذا ما تيسر إيراده وأعان الله على قوله.
وصلى الله على محمد وعلى آله.
والحمد لله رب العالمين.(35/12)
نصرة خاتم الأنبياء
لقد أساءت الصحافة الدنماركية إلى خير الخلق ورسول الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم بنشر الصور المسيئة إليه، ومن واجب المسلم أن ينصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطريقة الشرعية وفي المجال الذي يحسنه.(36/1)
كيفية نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم(36/2)
كيف تنصر الأم رسول الله صلى الله عليه وسلم
المقدم: الأم في بيتها لها مسئوليتها كعضو من أعضاء الأسرة المسلمة، فماذا ينبغي عليها تجاه الأبناء في تغذيتهم بحب المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ الشيخ: لا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم رسول للإنس والجن، رسول للرجال والنساء، رسول للكبار والصغار، رسول للأغنياء والفقراء، رسول العرب والعجم والفرس والروم وغيرهم من الأمم في الأرض، فهو رسول للناس كافة صلى الله عليه وسلم، فهذا يقتضي أن على المرأة أن تقتدي به صلى الله عليه وسلم وأن تدعو بنات جنسها لحبه صلى الله عليه وسلم، وأن تكون هي مقتدية برسولنا صلى الله عليه وسلم في عباداته وأخلاقه وصفاته.
أتت امرأة إليه الله عليه وسلم فقالت: اجعل لنا يوماً من نفسك يا رسول الله، فأعطاهن صلى الله عليه وسلم يوماً، حتى إنه صلى الله عليه وسلم علم المرأة شئونها الخاصة من مسائل الطهارة ومسائل الحيض والغسل من الجنابة، المسائل التي تتعلق بالأخلاق مثل تبرج المرأة وكالنكاح وأموره والطلاق والحضانة وغير ذلك.
فالرسول صلى الله عليه وسلم أعطى المرأة من حياته وقتاً طويلاً، واحتفى صلى الله عليه وسلم واهتم بالمرأة، وهو الذي نادى بحقوقها عليه الصلاة والسلام، وهو الذي أثبت لها الحق الكامل صلى الله عليه وسلم.(36/3)
نصرة رسول الله بتربية الطلاب على سنته
المقدم: ما الذي يمكن أن يفعله المربي والمعلم من خلال مسيرته التعليمية ومسيرته التربوية، فإننا نفتقد مسألة التوعية بالمصطفى صلى الله عليه وسلم التعريف به والتعريف بسيرته وبالتالي إسقاطها على تصرفاتنا وأفعالنا! الشيخ: ببساطة ويسر أقول للمربي: إذا لم تحبب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى طلابك فاعلم أنك فاشل في أداء هذه المهمة الملقاة عليك، فإذا كنت تدرس هذه المواد فأول ما يجب عليك أن تحببهم في الإمام القدوة عليه الصلاة والسلام، وإذا لم تستطع أن تقول كلاماً فعليك أن تتمثل بصفات رسول الله صلى الله عليه وسلم مع طلابك من الصبر والحكمة والتواضع وحسن الخلق؛ لأنك إذا فعلت ذلك نصرت الرسول عليه الصلاة والسلام بكيانك وشخصك.
أيضاً: أنا أتساءل: إلى أي وقت يدخر الكتاب والصحفيون ورجال الإعلام أقلامهم وبلاغتهم وأدبياتهم؟ إذا لم يبهرهم محمد صلى الله عليه وسلم ويستول على قلوبهم، وإذا لم يحز على حبهم، فمن هو الشخص البديل؟ سيد الخلق عليه الصلاة والسلام نبي خاتم ومعصوم ورسول من عند الله، ثم هو سبب نجاتك الآن.
في صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل على الغلام اليهودي فأسلم اليهودي قال: (الحمد لله الذي أنقذه الله بي من النار)، فدل هذا على أن الرسول صلى الله عليه وسلم سبب في إخراجنا من الظلمات إلى النور، وفي إنقاذنا من النار ودخولنا الجنة، فهذا السبب الأعظم، فاجعل بينك وبينه علاقة بأن تعلم سيرته وسنته وأن تكثر من الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم.
اقرأ كيف كان يصلي وحاول أن تقتدي بكيفية صلاته صلى الله عليه وسلم، حقق أخلاقه، وحدث إخوانك وزملاءك وطلابك عن هذا الإمام الأعظم صلى الله عليه وسلم.(36/4)
نصرة رسول الله بالدعوة إلى دينه
المقدم: أليس من الانتصار للرسول صلى الله عليه وسلم أن ندعو إلى هذا الدين وإلى ما جاء به عليه الصلاة والسلام بالطرق السليمة والوسائل التي أمرنا بها ربنا جل وعلا فقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125].
أقرأ هنا نصاً قصيراً للأديب الإنجليزي برنارد شو في كتابه (محمد)، هذا الكتاب الذي أحرقته السلطة البريطانية؛ يقول: إن العالم أحوج ما يكون إلى رجل في تفكير محمد.
وهنا أيضاً عدد من المقولات لبعض المنصفين.
ألا ينبغي أن نكون أكثر حكمة وأكثر هدوءاً في دعوتنا حتى نستهدف بها هؤلاء المنصفين كي نستميلهم إلى ديننا.
الشيخ: بلا شك أن مثل هذه الأقوال تثبت للعالم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أصبح -حتى عند من يخالفه عليه الصلاة والسلام أو يعاديه- هو رجل الإنسانية وهو الإمام الأفضل عليه الصلاة والسلام وهو القدوة، حتى أن مايكل هارت الذي ألف كتاب العظماء المائة جعل العظيم الأول محمداً صلى الله عليه وسلم، وقال: إني أعرف وأعلم أن الأمريكان سوف يغضبهم هذا، لكن ماذا أفعل؟ هي الحقيقة تفرض نفسها.
وغيره كثير ممن اعترفوا بهذا كـ غوستاف لوبون وكـ كريسي ميرسون وغيرهم.
ولكن ماذا فعلنا نحن أمام هذا الميراث الخالد الذي ورثه لنا عليه الصلاة والسلام، فإنه أعطانا أمانة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فقال: (بلغوا عني ولو آية)، وقال: (وبشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا)، وقال: (إنما بعثتم ميسرين)، فدل على أنا بعثنا بمبعثه صلى الله عليه وسلم، يعني: نحن تكلفنا حمل هذه الرسالة ولنا الشرف، فماذا فعلنا في هذا الميراث يجب أن الذي ننشره للناس.
الآن اليهودي يدعو لليهودية مع العلم أنها محرفة وملغاة ومنسوخة برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، والنصراني يدعو للنصرانية مع العلم أنها منسوخة ومحرفة وملغاة برسالة الرسول عليه الصلاة والسلام، وكذلك البوذي، فكيف بالمسلم الذي هو على الحق والدين الخاتم والدين الوسط، حتى يقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].(36/5)
نصرة رسول الله بالصلاة عليه وتعلم سنته والعمل بها
المقدم: إذا عرفنا وسمعنا ما حصل من هذه الصحف التي صدر منها هذه الأفعال المشينة، فأنا كمسلم عادي عامي كيف يمكن أن أنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ الشيخ: كلنا يقاطع فيما يستطيع وفيما يقدر عليه وما وهبه الله سبحانه وتعالى، الإنسان العادي من حق رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه أن يقوم بحقوقه الشرعية، من كثرة الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم، واتباعه صلى الله عليه وسلم، والاقتداء به صلى الله عليه وسلم في الصلاة وفي العبادة، وفي الخلق الكريم وصلة الرحم وحقوق الجار، وذكر فضائله في المجالس على حسب القدرة والطاقة، وإدخال حبه في البيت على الزوجة والأبناء، وتعليم سيرته وسنته صلى الله عليه وسلم، وذكر قصصه.
مجالسنا لابد أن يكون فيها الشيء الكثير من حياته صلى الله عليه وسلم، ولا نتشاغل بحياة غيره أكثر من حياته صلى الله عليه وسلم؛ لأنه إمام؛ ولأن دخولنا الجنة مرهون باتباع هذا النبي العظيم عليه الصلاة والسلام، ثم أقول لأهل المواهب: اتقوا الله، فموهبة لا ينصر بها الحق لا بارك الله فيها! صاحب الأدب ينصر محمداً صلى الله عليه وسلم بمقالة أو بمقامة أو قصيدة، الصحفي المثقف الذي يصبح فيقول: رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً رسولاً، يجب عليه أن ينصر هاديه.
ثم نتساءل: ما هو سر فخرنا وسؤددنا وعزتنا وعظمتنا إلا هذا النبي العظيم عليه الصلاة والسلام، نحن قبل رسالته صلى الله عليه وسلم كنا أعراباً ليس لنا تاريخ ولا مجد كما يقوله الأئمة.
بعض القوميون الغلاة يقولون: مجدنا قديم نشأ قبل الرسالة.
والصحيح أن مجدنا بدأ من محمد صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] فحق الرسول صلى الله عليه وسلم علينا أن نعترف، بهذه الحقية بالدفاع عنه والذب عن عرضه عليه الصلاة والسلام ونشر سيرته وفضائله في الناس، وأن نعلن غضبتنا.
إذا لم نغضب للرسول صلى الله عليه وسلم فلا خير فينا، بل تصير هذه الأمة جثة محنطة، ونعترف أنها أمة مهزومة إذا لم تنتصر لرسولها العظيم صلى الله عليه وسلم.(36/6)
نصرة الرسول بالمقاطعة للدنمارك
المقدم: لقد أثير في عدد من مواقع الإنترنت أن بعض الشركات قاطعت المنتجات الدنماركية ونحن حاولنا البارحة أن نتصل ببعض هذه المؤسسات وهذه الجهات لكي نتأكد من الخبر ونوثقه قبل أن نعلنه ويصبح دعاية إعلامية دون أن يكون هناك تطبيق عملي، فنريد أن تعلقوا على مسألة التفعيل الإعلامي وعلى كل أصولها؟ الشيخ: أولاً أشكر صاحب السمو الأمير نايف بن ممدوح وهو داعية قبل أن يكون (مسئولاً)، وأشكره على جهوده وعلى طرحه وعلى محاضراته وندواته التي يقوم بها، وفكرته في القناة فكرة رائدة، وأنا أريد أن تضم جهود هذه القنوات مع بعضها مثل المجد وغيرها، وإذا خرجت لنا القنوات الإسلامية تحمل هذا المفهوم وهذه الفكرة الرائدة في إصدار الصوت الإسلامي المعتدل الصحيح للناس فهو خير إلى خير.
وأيضاً أنا أضم صوتي لأنني لست مع العواطف السلبية التي قد تثمر ردات فعل لا يحمد عقباها؛ لأن الله سبحانه يقول: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] كل حركات طائشة وعابثة غير مسئولة لا تنصر الإسلام، إنما ينصره العقل في محله والقوة في مكانها، وينصره الموقف المشرف، وأن تتخذ الإجراءات المناسبة.
ثانياً: أشكر رجل الأعمال الأخ حسن المهدي على مواقفه، وليست بأول مواقف أبي محمد، فله سابقة في الإنترنت والمواقع، وقاد حملة ضد أهل الإلحاد والزندقة والذين يقدحون الثوابت، ونشكره على موقفه هذا في مسألة الدفاع عن حبيبه وحبيب الكل سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.
وأحب أن أشكر رجال الأعمال الذين قاموا بمبادرات المقاطعة، فاليوم كلمت بعد الظهر رجل الأعمال عبد الله العثيم وشكرته؛ لأنه قاطع وأكد ذلك، فلله الحمد والشكر.
وفي الطريق أناس وعدوا، وقد كلمهم بعض المشايخ والعلماء فوعدوا أن تكون منهم مقاطعة، وأنا أتمنى أن تكون المقاطعة رسمية وشعبية.(36/7)
تحفيز الهمم لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم
المقدم: فضيلة الشيخ! نتيجة لهذه الحادثة التي حصلت، وهذا الاستهزاء الحاصل، هبت كثير من الجهات الدعوية والخيرية لنصرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، أود منكم شيئاً من الحفز والدعم لهؤلاء القائمين على بعض المؤسسات الدعوية وغيرها في استنهاض همم كوادرها، وأيضاً في استحضار الطرائق الجديدة والجميلة التي يمكن أن تنتج أعمالاً راقية للدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الشيخ: من هذا المنبر الرائد في إصدار الفكرة الإسلامية والدعوة أقول: ينبغي أن نقوم بأعمال.
في النصرة، أنا أطلب من إخواني أئمة وخطباء المساجد في مساجد المملكة أن يخصصوا الخطبة غداً للدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يعذر أحد، هل يحدثنا الخطيب غداً عن حق الجار أو آداب المشي إلى الصلاة، أو عن مسألة من المسائل الاجتماعية، أو عن ظاهرة الطلاق، ورسولنا صلى الله عليه وسلم يتعرض للاستهزاء أمام العالم والسخرية ولا يغضب، غداً سوف تكون الخطبة عنه صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: أرى أنه يجب على كل كاتب مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويجيب الأذان إذا أذن، أن يخصص مقالة للدفاع عنه صلى الله عليه وسلم.
وأرى أن على القنوات أن تخصص أوقاتاً لاستثارة الهمم.
وأرى أن على رجال الأعمال والغرفة التجارية أن يكون لها قرار، وقبل ذلك هيئة كبار العلماء يكون لهم قرار مسموع ومقروء من الاستنكار وينشر في الناس.
أرى أيضاً أن تكون هناك مراسلة إلى سفارات هذه البلدان، والكتابة عبر الإنترنت والإبراق والاتصال بالمسئولين، وإخبارهم بمشاعر الناس وغضب الناس واستياء الناس بما حصل، حتى يجتمع الجهد الدبلوماسي الرسمي من الدولة مع الجهود الشعبية.
أنا أدعو رجال الأعمال والتجار الذين يخافون أن يغضب عليهم سبحانه وتعالى إذا رآهم يتعاملون مع هذه الأمة التي أهانت رسولهم واستهزأت بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ أدعوهم أن يعلنوا المقاطعة وسوف يغنيهم الله من فضله.
أحد المقاطعين يقول: الآن المقاطعة تبلغ ما يقارب المليار في المنتجات الدنماركية، فأقول للبقية: وأنتم ماذا تنتظرون، أفبعد أن أهين الرسول صلى الله عليه وسلم ويستهزأ به يفرح بمال ويفرح بثروة! لا بارك الله في ثروة تأتي بذلة عن طريق الاستهزاء به صلى الله عليه وسلم وعدم الغضب لسيرته وسنته وشخصه الكريم صلى الله عليه وسلم.(36/8)
محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم
نود منكم أن تسبحوا بنا في بحر من الإيمان وفي بحر من العلاقة مع الله سبحانه وتعالى والحب للمصطفى صلى الله عليه وسلم، فتفضلوا بارك الله فيكم.
إن الإنسان إذا أدرك يقيناً أنه عبد لربه تبارك وتعالى وابن عبد وابن أمة، انتصب لما أمره الله جل وعلا به وأذعن لما بلغه الله جل وعلا إياه على ألسنة رسله.
وإن مما أفاءه الله علينا -معشر المسلمين- أن جعلنا حظاً لهذا النبي عليه الصلاة والسلام من الأمم، كما جعله صلوات الله وسلامه عليه حظنا من النبيين، وهو عليه الصلاة والسلام بشارة أخيه عيسى، ودعوة أبيه إبراهيم من قبل، ورؤيا أمه التي رأت حين وضعته أن نوراً خرج منها أضاءت له بصرى من أرض الشام، فصلوات الله وسلامه عليه.
والحديث عنه ليس كالحديث عن كل أحد من الخلق وإن كان صلى الله عليه وسلم من جملة الخلق، كما قال: (إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله)، فلا نتعدى به ما وضعه الله جل وعلا فيه من المقام الرفيع والمنزلة الجليلة، إلا من رحمة الله جل وعلا بنا أن جعلنا من أمته، نسأل الله الثبات على ذلك حتى الممات، وأن يحشرنا الله جل وعلا يوم القيامة في زمرته.
نسمع المؤذن كثيراً يقول: (أشهد أن محمداً رسول الله) فتتعلق قلوبنا وتهفو أفئدتنا إلى ذلك المعنى الجليل الذي ينطوي تحت هذه الشهادة المباركة، وإن أعظم ما يفيء إلينا أن الإنسان يتمنى لو قدر له أن رأى النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن هذا أمر قد مضى بقدر الله جل وعلا، ونحن دائماً وأبداً مذعنون لقضاء الله جل وعلا وقدره، فقد فاتنا شرف الصحبة وبقي لنا شرف الاتباع.
أقول: إن قول المؤذن: (أشهد أن محمداً رسول الله) يضع المؤمن أمام تاريخ مجيد وشخصية فريدة، وعبد أثنى الله جل وعلا عليه في الملأ الأعلى، بل جعله الله جل وعلا أمنة لأهل الأرض من العذاب، قال الله جل وعلا عن طغاة الأرض يومئذ وهم كفار قريش: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33] صلوات الله وسلامه عليه، مع أن تعذيب الأمم السابقة سنة ماضية لم تتغير إلا بعد مبعثه صلوات الله وسلامه عليه.
كما أنه عليه الصلاة والسلام عرج به ربه بواسطة جبريل إلى الملأ الأعلى والمحل الأسمى، وتجاوز مقاماً يسمع فيه صريف الأقلام، كل ذلك من احتفاء الله وإظهار كرامة هذا النبي عند ربه جل وعلا، ولقد قال الله على لسان الخليل إبراهيم أنه قال لأبيه: {سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47] فكيف الاحتفاء بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإن كان خليل الله إبراهيم لا يبعد كثيراً عن منزلة نبينا صلوات الله وسلامه عليه؟(36/9)
وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم
ننقل ما وصفه به أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم الذين من الله عليهم برؤية هذا النبي الحبيب الشفيع صلوات الله وسلامه عليه، وجملة ما قالوه: أنه كان عليه الصلاة والسلام سبط الشعر بمعنى: أن شعره لم يكن مسترسلاً ولم يكن ناعماً.
كما أنه كان صلى الله عليه وسلم أقنى الأنف أجلى الأجبهة، في جبينه صلى الله عليه وسلم عرق يدره الغضب، فإذا غضب في ذات الله امتلأ هذا العرق دماً.
وكان أزج الحواجب في غير قرن، أشم الأنف، طويل أشفار العينين، ضليع الفم -أي: كبير الفم- مهذب الأسنان، كث اللحية، الشيب فيه ندرة صلوات الله وسلامه عليه، وأكثر شيبه في صدغيه الأيمن والأيسر، وأكثر شيبه أسفل شفته السفلى في عنفقته هنا صلوات الله وسلامه عليه.
وكان عريض المنكبين كأن عنقه إبريق فضة، من وهدة نحره عليه الصلاة والسلام إلى أسفل سرته شعر ممتد ليس في بطنه ولا صدره شعر غيره.
إذا أشار أشار بيده كلها، وإذا تعجب من شيء قلب كفيه وقال: سبحان الله، وعند البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح أنه كان إذا تعجب من شيء عض على شفتيه صلوات الله وسلامه عليه! من رآه من بعيد هابه، ومن رآه من قريب أحبه، يقول علي رضي الله عنه: لم أر قبله ولا بعده أفضل منه صلوات الله وسلامه عليه.
ونحن على ما قال علي من المصدقين المؤملين.
فما حملت من ناقة فوق رحلها أبر وأوفى ذمة من محمد ضخم الكراديس -أي: عظام المفاصل- إذا مشى يتكفأ تكفؤاً كأنه يتكئ على أمشاط قدميه أكثر مما يتكئ على كعبيه.
عاش عليه الصلاة والسلام ثلاثة وستين عاماً، أربعون عاماً منها قبل أن ينبأ، ثم نبئ بإقرأ، وأرسل بالمدثر، وتوفي على رأس ثلاث وستين سنة من عمره الشريف الطاهر صلوات الله وسلامه عليه، عاش منها ثلاثة عشر عاماً نبياً ورسولاً في مكة يدعو إلى الله ويجاهد في الله حق جهاده، وضع على ظهره عليه الصلاة والسلام وهو ساجد سلا الجزور وهو أفضل الخلق عند الله جل وعلا، ومع ذلك بقي ساجداً حتى علمت فاطمة وحملت سلا الجزور عن أبيها.
وهو عند الله في المنزلة العالية والدرجة الرفيعة والمقام الجليل صلوات الله وسلامه عليه.
أنزل الله عليه القرآن منجماً في ثلاثة وعشرين عاماً، لم يخاطبه الله جل وعلا في القرآن كله باسمه الصريح، فليس في القرآن (يا محمد) إنما في القرآن: يا أيها النبي، يا أيها الرسول، كل ذلك من دلائل عظيم مقامه وجليل شرفه وعلو منزلته عند ربه تبارك وتعالى.
عرج به كما بينا إلى سدرة المنتهى ثم عاد في نفس الليلة، ثم بعد ثلاث سنين أو أكثر أو أقل هاجر إلى المدينة، فمكن الله له هناك وأقام دولة الإسلام.
مكث صلى الله عليه وسلم في المدينة عشر سنين جاهد في الله تبارك وتعالى حق جهاده، شج رأسه يوم أحد وسال الدم على وجهه وكسرت رباعيته وهو ينظر إلى قريش ويقول: (كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم وهو يدعوهم إلى الله)!.
في العام العاشر أذن في الناس أنه عليه الصلاة والسلام عازم على الحج، فأم المدينة خلق كثير كلهم يريد أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته، فأنزل الله عليه في يوم عرفة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] فعلم أن الأجل قد قاربه فأخذ يودع الناس ويقول: (لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا).
ثم رجع إلى المدينة بعد أن أكمل نسكه وأتم حجه، وفي أوائل شهر ربيع من ذلك العام أصيب صلى الله عليه وسلم بصداع ودخل على عائشة وهي تقول: وارأساه، فقال: (بل أنا وارأساه!)، ثم أخذ يشكو المرض حتى حانت ساعة الوفاة في يوم الإثنين من شهر ربيع الأول.
دخل عليه أسامة بن زيد يسأله أن يدعو له فرفع يديه يدعو دون أن يظهر صوتاً وهو سيد الفصحاء وإمام البلغاء، ثم دخل عليه عبد الرحمن بن أبي بكر في الساعات الأخيرة وفي يد عبد الرحمن سواك فأخذ يحدق النظر في السواك كأنه يريده، ففهمت عائشة الصديقة بنت الصديق مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت السواك وقضمته وطيبته وأعطته لنبي الله عليه الصلاة والسلام، فاستاك في الساعات الأخيرة قبل أن تفيض روحه إلى ربه تبارك وتعالى.
ثم جاءه الملك يخيره فسمعته عائشة وهو يقول: ({وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى! قالها ثلاثاً)، ثم مالت يده وفاضت روحه إلى أعلى عليين في المحل الأسنى والملكوت الأعلى صلوات الله وسلامه عليه.
هذه على وجه الإجمال سيرة نبيكم صلى الله عليه وسلم ونبذة عن وصفه ممن علق الله جل وعلا قلوبنا بحبه بعد حب الله تبارك وتعالى، فنحن نحبه لأن الله اختاره واصطفاه واجتباه، والله جل وعلا يقول: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68].
فهو عليه الصلاة والسلام رسول رب العالمين، ونبي الأميين، وأفضل أهل الأرض وأهل السماء، صلوات الله وسلامه عليه، قال شوقي ونعم ما قال: ريم على القاع بين البان والعلم أحل سفك دمي في الأشهر الحرم رمى القضاء بعيني جؤذر أسداً يا ساكن القاع أدرك ساكن الأجم لما رنا حدثتني النفس قائلة يا ويح جنبك بالسهم المصيب رمي جحدتها وكتمت السهم في كبدي جرح الأحبة عندي غير ذي ألم يا لائمي في هواه والهوى قدر لو شفك الوجد لم تعذل ولم تلم إلى أن قال: يا أفصح الناطقين الضاد قاطبة حديثك الشهد عند الذائق الفهم إن قلت في الأمر لا أو قلت فيه نعم فخيرة الله في لا منك أو نعم الله قسم بين الخلق رزقهم وأنت خيرت في الأرزاق والقسم أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيال من الرمم(36/10)
وصف الرسول الكريم
لقد خص الله تعالى نبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه بجمال الخلقة والخُلق، فمنحه منهما أعلى نصيب وأوفر حظ، ولذا كانت أخلاقه مفتاحاً لقلوب الناس للدخول في دين الله، حيث صبر على الأذى والعنت وتحلى بالرحمة حتى بلغ الأمر إلى حيث أراد الله، فنسأل الله تعالى أن يجزيه عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، وأن يرزقنا الاستمساك بشريعته، وأن يحشرنا في زمرته.(37/1)
بلوغ النبي صلى الله عليه وسلم الكمال في الخلق والأخلاق
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن لنبينا صلى الله عليه وسلم في الصفات الَخلْقية والخُلُقية أعظم نصيب وأحظه، وهو الإمام فيها، وصدق القائل: فإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هما الرحماء وإذا ملكت النفس قمت ببرها ولو أن ما ملكت يداك الشاء وإذا أخذت العهد أو أعطيته فجميع عهدك ذمة ووفاء وإذا قضيت فلا ارتياب كأنما جاء الخصوم من السماء قضاء وإذا بنيت فخير زوج عشرة وإذا ابتنيت فدونك الآباء وإذا حميت الماء لم يورد ولو أن القياصر والملوك ظماء أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى فالكل في دين الإله سواء فلو إن إنسانا تخير ملة ما اختار إلا دينك الفقراء يا أيها المسرى به شرفاً إلى ما لا تنال الشمس والجوزاء يتساءلون وأنت أطهر هيكل بالروح أم بالهيكل الإسراء بهما سموت مطهرين كلاهما روح وريحانية وبهاء تغشى الغيوب من العوالم كلما طويت سماء قلدتك سماء أنت الذي نظم البرية دينه ماذا يقول وينظم الشعراء والمصلحون أصابع جمعت يدا هي أنت بل أنت اليد البيضاء صلى عليك الله ما صحب الدجى حاد وحنت بالفلا وجناء واستقبل الرضوان في غرفاتهم بجنان عدن آلك السمحاء(37/2)
ذكر صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم الخَلْقية
أما الصفة الخلقية فإن نبينا صلى الله عليه وسلم لم تكتحل أعيننا وأعينكم برؤيته، ولكنه عليه الصلاة والسلام كما قالت الربيع بنت معوذ رضي الله عنها لما سألها محمد بن عمار بن ياسر فقال: يا أمه! صفي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقالت: يا بني! لو رأيته لرأيت الشمس طالعة.
وقيل للبراء بن عازب رضي الله عنه وأرضاه: أكان وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل السيف؟ فقال: لا، بل مثل القمر.
وقال جابر بن سمرة رضي الله عنه -كما عند مسلم في الصحيح- قال: (خرجت في ليلة أضحيان -أي: القمر فيها مكتمل- فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم عليه حلة حمراء، فجعلت أنظر إلى القمر وأنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلهو عندي أجمل من القمر).
فنبينا عليه الصلاة والسلام كان سبط الشعر، أي: أن شعره ليس مسترسلاً ناعماً ولا ملتوياً، وفي جبهته عليه الصلاة والسلام عرق يدره الغضب، إذا غضب في ذات الله يمتلئ هذا العرق دماً، وكان صلى الله عليه وسلم أزج في غير قرن، ومعنى (أزج): دقيق شعر الحواجب، (في غير قرن) أي: لم يكن حاجباه، ملتصقين أشكل العينين، أشم الأنف، ضليع الفم، مهذب الأسنان، كث اللحية، الشيب في شعره ندرة، أي أنه متفرق، ففي رأسه منه قليل، وفي صدغه الأيمن والأيسر، وأكثر شيبه في عنفقته أسفل شفته السفلى، وجميع شيبه لا يكاد يتجاوز عشرين شعرة، وكان أبيض مشرباً بحمرة، وبياض اليدين وأسفل الساقين كأنه يميل إلى السمرة؛ لتعرضه للهواء، وداخل الإزار أبيض ناصع البياض، قال أنس: (كأني أرى بياض فخذي النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر) كأن عنقه إبريق فضة، بعيد ما بين المنكبين، ما بين كتفيه من الخلف إلى جهة الشمال شعيرات سود اجتمعن بعضهن إلى بعض ناتئات عن الجسد قليلاً، كأنهن بيضة حمامة عرفت بخاتم النبوة، ومن الوهدة -وهي الثغرة التي في النحر- إلى أسفل سرته خيط ممتد، أي: شعر على هيئة خيط ممتد، يعبر عنه عند الرواة بأنه دقيق المسربة، ليس في صدره ولا بطنه شعر غيره، سواء البطن والصدر، ضخم الكراديس، أي: عظام المفاصل، إذا مشى يتكفأ تكفؤاً، كأنما ينحدر من مكان عال، بمعنى أنه يتكئ على أمشاط قدميه أكثر مما يتكئ على كعبيه، وإذا أشار أشار بيده كلها، وإذا ناداه أحد التفت ببدنه الشريف كله، ولا يلتفت برقبته فقط، وإذا تعجب من شيء قلب كفيه، وقال: سبحان الله! وعند البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح أنه (كان إذا تعجب من شيء عض على شفتيه) صلوات الله وسلامه عليه، من رآه من بعيد هابه، ومن رآه من قريب أحبه، عمر ثلاثةًً وستين عاماً، ولد وأبوه متوفى في أظهر أقوال العلماء، وأمه آمنة بنت وهب من بني زهرة الذين منهم سعد بن أبي وقاص، فكان نبينا عليه السلام إذا رأى سعداً يقول: هذا خالي، فليرني امرؤ خاله.
وعاش في كنف أمه ست سنين، أربع منها كان فيها مع مرضعته حليمة في بادية بني سعد، ثم أرجع إلى أمه، وكانت شفيقة رفيقة به، فلما مر على قبرها بالأبواء وقف على قبرها وبكى، فسأله الصحابة: ما يبكيك؟ فقال: (هذا قبر أمي آمنة، فقد سألت الله أن أستغفر لها فلم يأذن لي، وسألته أن أزور قبرها فأذن لي، فلما زرت قبرها تذكرت رقتها علي)، فبكى صلوات الله وسلامه عليه، وبكى الصحابة معه تبعاً لبكاء نبيهم رضي الله عنهم وأرضاهم.(37/3)
دعوة رسول الله الناس إلى الدين وصبره على الأذى
فلما دنا من الأربعين كان لا يرى الرؤيا إلا وتقع مثل فلق الصبح، ثم نبئ (إقرأ) على رأس الأربعين، ثم أرسل بالمدثر بعد ذلك، قال الله له: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:1 - 4]، فأخذ يدعو الناس إلى دين الله بعد أن نبأه الله وبعثه وأرسله، فمكث في مكة ثلاثة عشر عاماً، فوضع على رقبته وهو ساجد وهو خير الخلق عند الله سلا الجزور، ولم يقدر أحد ممن آمن به آنذاك على أن ينصره، فقد كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه آنذاك مؤمناً يرى الأمر ولا يقدر على النصرة، حتى جاءت ابنته فاطمة رضي الله عنها وأرضاها وحملت سلا الجزور عن أبيها وأبوها عند الله سيد الخلق، ولكنها سنة الابتلاء الماضية، فلما رفع رأسه عليه السلام نظر في القرشيين، فدعا عليهم، قال عبد الله بن مسعود: والله لقد رأيت من دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى يوم بدر في قليب بدر.
فاستجاب الله دعوة نبيه، فلما اشتد عليه أذى القرشيين خرج إلى الطائف فصده أهلها، حتى قال قائلهم: ألم يجد الله أحداً يبعثه غيرك؟! فرجع صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فأوبه الله جل وعلا في طريقه من الطائف إلى مكة، وفي الطريق أخذ يدعو الله، فلما قست قلوب الإنس عن أن تقبل كلامه ألان الله لنبيه قلوب الجن، فلما سمعوا القرآن وهو أطيب كلام من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أطيب فم مخلوق رقوا ودخل الإيمان في قلوبهم، قال الله تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19]، أي: لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن كانت الجن يركب بعضها بعضاً من عظمة ما يسمعون، وقال الله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف:29 - 31]، اللهم اجعلنا من المجيبين لدعوته.(37/4)
إذا وقعت الواقعة
لقد احتوت سورة الواقعة على معانٍ عظيمة، وأخبار هادفة، في روائع بلاغية، وسياقات بديعة، كما هو حال كلام القيوم العليم والقرآن العظيم، ولقد أخبر الله عز وجل فيها عن أهوال يوم القيامة، وأخبار أصحاب النعيم وأصحاب الجحيم، وتحدث الله كذلك فيها عن قدرته وخلقه، وعن قيمة هذا القرآن العظيم، وعن آخر لحظات عمر الإنسان وتفاصيلها، في عبارات جزلة موجزة، لا تمل ولا تكل منها القلوب والألسنة، فهل من متعظ مدكر؟!(38/1)
تفسير قوله تعالى: (إذا وقعت الواقعة)
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين، ونقول كما قالت الملائكة بين يدي ربها: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32]، ونقول كما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، ونقول كما قال ربنا: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].
أما بعد: فإن من أعظم نعم الله جل وعلا على عباده أن يصرفهم إلى تدبر كتابه الكريم؛ فإن كلام الله جل وعلا كلام لا يعدله كلام، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:192 - 195].
وفي هذا اللقاء سنعرِّج معكم -أيها المباركون- على سورة الواقعة، نقف فيها مع مواعظ ما أشد أثرها، ومع لطائف يحسن أن ندونها، ومع أقوال لأهل هذا الشأن جميل أن نحفظها، وسورة الواقعة -أيها المؤمنون- سورة مكية.
قال الله جل وعلا في أولها وهو أصدق القائلين: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة:1 - 3]، ثم قال جل شأنه: {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا * وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} [الواقعة:4 - 7].(38/2)
تفسير قوله تعالى: (إذا وقعت الواقعة إلى قوله: فكانت هباء منبثاً)
أما قول الله جل وعلا: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الواقعة:1]، فالواقعة: اسم من أسماء يوم القيامة، كما دلت الآيات على ذلك، وكذلك قول الله جل وعلا: {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الحاقة:14 - 15].
وقول ربنا جل وعلا: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة:1 - 2] اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في معنى (كاذبة) في هذه الآية: فقال فريق منهم: إن كاذبة: مصدر جاء على هيئة اسم الفاعل، كقول العرب: عافية، بمعنى: مُعَافَاة، وقولهم: عاقبة، بمعنى: عُقْبَى؛ وعلى هذا التحرير يصبح المعنى: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة:2]، أي: ليس لوقعتها كذب، أي: أن وقوعها حق لا مرية فيه، وهذا القول من قول أئمة أهل الشأن يؤيده قول الله جل وعلا: ? {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} [النساء:87]، ويؤيده قوله الله جل وعلا حكاية عن الصالحين من خلقه: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} [آل عمران:9].
القول الثاني: هو أن قول الله جل وعلا: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة:2] أن كاذبة هنا: صفة لموصوف محذوف، والتقدير: إذا كان يوم الواقعة، إذا كان يوم القيامة فلن تكون هناك نفس كاذبة لما ترى، أي لا توجد نفس تكذب ما ترى، ويؤيده قول الله جل وعلا: {فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:88]، لكن الأول أظهر، والعلم عند الله.
قال سبحانه: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة:3]، اتفق العلماء على أن قوله: (خافضة رافعة) يعود على يوم القيامة؛ إذ أنها خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هي خافضة رافعة، لكن الإشكال وقع في ماهية الذي يُخفض والذي يُرفع؟ والجواب عن هذا: أن لأهل العلم رحمة الله تعالى عليهم في هذا ثلاثة أقوال: القول الأول: إنها تخفض أهل الكفر إلى النار، ويؤيده قول الله جل وعلا: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145]، وترفع أهل الطاعات إلى أعالي الجنان، ويؤيده قول الله جل وعلا: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى} [طه:75].
والقول الآخر: إنها تخفض من كان مرتفعاً بطغيانه في الدنيا، وهو قريب من القول الأول، وترفع من كان الناس يحتقرونه في الدنيا لإيمانه، وأصحاب هذا القول يؤيدهم قول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:29 - 36].
القول الثالث -وهو أرجحها عندي والعلم عند الله- أن المعنى: أن هناك أجراماً تكون خافضة فيرفعها الله، وأجراماً تكون مرتفعة فيخفضها الله لشدة أهوال يوم القيامة، قال الله جل وعلا: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ} [التكوير:1 - 2]، وقال ربنا: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل:88].
فهذه أقوال أئمة أهل الشأن في هذه الآية، وأرجحها -كما قلنا والعلم عند الله-: أنها تتعلق بالأجرام الكونية، وكيف أن يوم القيامة يوم عظيم ينجم عنه ما ذكرناه وذكره الله جل وعلا من قبل في كتابه فقال: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة:3]، ثم ذكر الله جل وعلا بعض أهوالها فقال: {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} [الواقعة:4 - 5]، ومن الممكن أن يكون البَسُّ هنا بمعنى: سُيِّرت، وقد جاء القرآن بهذا المعنى، قال الله جل وعلا: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير:3].
وجمهور أهل العلم من المفسرين على أن معنى قول الله جل وعلا: {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} [الواقعة:4 - 5]: على أن البَسَّ هنا: أنها تصبح كالعهن المنفوش، وقد ذكره الله جل وعلا في سورة القارعة.
فإذا أردنا أن ننيخ المطايا هنا عند الجبال، فالجبال خلق من خلق الله، يتعجب منها رائيها، وقد صح في الخبر الصحيح: (أن الله لما خلق الأرض جعلت تميد، ثم جعل الله جل وعلا الجبال عليها رواسي فتعجبت الملائكة من ذلك فقالت: أي رب! أفي خلقك شيء أعظم من الجبال؟ قال الله: نعم، الحديد، فقالت الملائكة: أي رب! أفي خلقك شيء أعظم من الحديد؟ قال الله تبارك وتعالى: نعم، النار، قالت الملائكة: أي رب! أفي خلقك شي أعظم من النار؟ قال ربنا تبارك وتعالى: نعم، الماء، فقالت الملائكة: أي رب! أفي خلقك شيء أعظم من الماء؟ قال الله جل وعلا: نعم، الريح -لأن الريح تحمل الماء- قالت الملائكة: أي رب! أفي خلقك شي أعظم من الريح؟ قال الله جل وعلا: ابن آدم يتصدق بصدقة فيخفيها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه).
ولما كانت الجبال تُرى كان بدهياً أن يسأل عنها الناس، قال الله جل وعلا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:105 - 107]، لكن نسفها آخر المطاف، وإنما تمر بأحوال وأطوار قبل أن تنسف، قال الله جل وعلا كما مر معنا: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} [النمل:88]، وقال: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير:3]، فتمر بمراحل وأطوار حتى تصل إلى أن تذهب بالكلية، لكن الله جل وعلا أرشد إلى أن الجبال لها وضع آخر؛ كونها من أعظم مخلوقاته، فإن النصارى -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- نسبت إلى الله الولد فرية وبهتاناً وكفراً، وما عرفوا قدر ربهم جل وعلا، فأخبر الله جل وعلا أن الجبال على عظيم خلقتها تستنكر هذا الأمر وتستعظمه، ولا يمكن أن تقر به، قال الله جل وعلا: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:89 - 93]، ولما أراد الله جل وعلا أن يبين لكليمه موسى ضعفه وعجزه في الدنيا عن أن يرى الله قال الله جل وعلا: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143]، وذكر الله جل وعلا نبيه وعبده الصالح داود عليه السلام، وذكر ربنا أنه آتاه صوتاً رخيماً، ثم لما كان يتلو الزبور ويذكر الله جل وعلا كانت الجبال على عظيم خلقتها تتجاوب معه، قال ربنا جل شأنه: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10]، وقال الله جل وعلا في سورة أخرى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص:18 - 19]، ولا أعلم حديثاً ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم الجبال في الجنة إلا حديثا واحداً، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أطفال المسلمين في جبل في الجنة في كفالة إبراهيم وسارة يَرُدُّوهم يوم القيامة إلى آبائهم)، هذا الذي أستحضره الساعة من السنة في ذكر الجبال في جنات عدن، رزقنا الله وإياكم إياها.
قال الله جل وعلا: {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا * وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} [الواقعة:4 - 7]، ثم ذكر الله جل وعلا أولئك الأزواج، وكلمة زوج في اللغة: هو كل فرد انضم إلى غيره، فهذا يسمى: زوجاً ولو كان فرداً.(38/3)
تفسير قوله تعالى: (وكنتم أزواجاً ثلاثة إلى قوله: إلا قيلاً سلاماً سلاماً)
قال الله جل وعلا: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً} [الواقعة:7] ثم فصَّل، فقال: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:8 - 11]، فبدأ جل وعلا بأصحاب الميمنة حتى يَرغب فيهم الراغب، ثم قال: ? {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} [الواقعة:9]، حتى يَرهب الناس أن يكونوا مثلهم، ثم قال جل شأنه: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة:10]، حتى يطمع أصحاب الميمنة إلى أن يرتقوا بأنفسهم إلى درجة السابقين.
قال الله جل وعلا: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10 - 11]، وتأمل -أيها المبارك- لطف الله جل وعلا بعباده، وفضله وإحسانه جل ذكره على خلقه، قال تبارك وتعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10 - 11]، ولم يقل: المتقربون، حتى يفهم أن ما هم فيه فضل من الله تبارك وتعالى، وليس شيئاً حَصَلوا عليه بأنفسهم، وإن كان عملهم الصالح وإيمانهم إنما هو في أول الأمر وآخره فضل من الرب تبارك وتعالى.
قال ربنا: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} [الواقعة:10 - 16]، ثم ذكر بعض نعيمهم، ونعيمهم جاء مفرقاً في آيات أخر، لكن مما يعنينا هنا أن الله قال: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِيْن} [الواقعة:10 - 18]، فجمع جل وعلا الأكواب والأباريق وأفرد الكأس؛ لأن العرب كان في سننها وأعرافها: أنها إذا شربت الخمر تشربه على ثلاثة أحوال: إما أن تضعه في أكواب، وهي: ما لا عروة له ولا خرطوم، فجمعه الله جل وعلا؛ لأنهم كانوا يضعون فيها الخمرة.
ثم قال جل وعلا: {وَأَبَارِيقَ} [الواقعة:18] وهو: ما له عروة وخرطوم، فهذا يسمى: إبريقاً ويجمع على أباريق، وقد كانوا يضعون فيه الخمر.
ثم قال جل وعلا: {وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة:18] فأفرد الكأس؛ لأن العرب كانت تشرب في كأس واحد يتناولها الأول والآخر بعده، هكذا في مجلسهم ومجلس شرابهم، لكن شتان ما بين مجالس أهل الدنيا ومجالس أهل الآخرة، فخمر الدنيا ينغصها أمران: الأول: أنها تنفد وتنتهي.
والأمر الثاني -وهو أجل- مما ينغصها: أنها تذهب العقل، فإذا ذهب العقل حدث من الإنسان الافتراء والتطاول على ربه والتضييع لدينه؛ ولذلك سماها النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا: (أم الخبائث)، لكن خمر الآخرة يقول الله جل وعلا فيه: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:19]، أي: أنها لا تنفد، وهذا معنى قوله: {وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:19]، ولا يسكرون منها، وهذا معنى قوله جل شأنه: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ} [الواقعة:19].
ثم قال تباركت أسماؤه وجل ثناؤه: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} [الواقعة:20]، وأردف قائلاً: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:21]، وهنا قدّم الفاكهة على اللحم، ومعروف أن سنن الناس في طعامها: أنهم يقدمون اللحم على الفاكهة، لكن الفرق بين الحالين أن أهل الدنيا إنما يأكلون في الأصل لسدِّ الجوع، أما يوم القيامة في جنات النعيم؛ فإن أهل الجنة لا يأكلون لسد الجوع بل للتلذذ؛ لأن الجنة لا جوع فيها، فلا يأكلون لسد الجوع، وإنما يأكلون للتفكه والتلذذ، فلما كان أكلهم الأصل فيه أنه للتلذذ والتفكه جعل الله جل وعلا الفاكهة مقدمة على عين الطعام، قال تباركت أسماؤه وجل ثناؤه: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:20 - 21]، وهنا خصَّ ربنا لحم الطير دون غيره؛ لأن الناس جرت أعرافهم وتقاليدهم على أنهم يأكلون من بهيمة الأنعام، ولحم الطير عزيز لا يناله كل أحد، فإنما يحصل للملوك غالباً إذا نفروا أو ذهبوا للصيد، فأخبر الله جل وعلا أن ذلك الشيء الممتنع في الدنيا عند البعض، إنما هو متاح للكل لمن دخل الجنة، رزقني الله وإياكم الجنة.
قال الله جل وعلا: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة:20 - 24].
حور: جمع حوراء، وهي المرأة البيضاء جسداً، وعين: جمع عيناء، وهي المرأة الواسعة العينين مع سواد فيها، {وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة:22 - 24].
ثم قال جل وعلا -بما يسميه البلاغيون: تأكيد المدح بما يشبه الذم- قال جل شأنه: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:25 - 26].(38/4)
تفسير قوله تعالى: (وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين إلى قوله: (وثلة من الآخرين)
ثم أردف جل وعلا في ذكر أصحاب اليمين فقال: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:27 - 30] وهي آيات ظاهرات المعنى، فالسدر في جنات النعيم لا شوك فيه، والطلح المنضود هو: شجر الموز، وذكر الله جل وعلا بعض النعم التي ينعم بها جل شأنه على أهل طاعته من أهل اليمين إلى أن قال الله جل وعلا: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة:34] ثم قال: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:35 - 38] لا خلاف بين العلماء أن قول الرب جل شأنه: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} [الواقعة:35]، عائد على النساء، لكن
السؤال
هل هذا المذكور يعود إلى شي قد ذكر من قبل أو لم يذكر؟ على قولين لأهل العلم: من حمل قول الله جل وعلا: {وَفُرُشٍ} أنها بمعنى: النساء، أصبح المعنى عنده: أن قول الله جل وعلا: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ} [الواقعة:35] يعود على النساء المذكورين في قوله جل شأنه: {وَفُرُشٍ} فيصبح معنى قوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة:34]، أي: مرفوعة قدرًا، مرفوعة مكانةً، مرفوعة منزلةً، على أن الفرش هنا بمعنى: النساء، وهذا معروف في لغة العرب وسنن كلامها.
وقال آخرون: إنه لا يعود إلى مذكور، لكن القرائن والمقام يدل عليه، فإن الفرش إنما توضع ليتفكه بها المرء مع زوجته، ويتكئ عليها معها، فقول الله جل وعلا: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً} [الواقعة:35] قالوا: لا يعود إلى مذكور، لكن هناك قرينة تدل على أنه يعود على النساء، وهو قول الله جل وعلا: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة:34]، لأن الفراش يطلق على فراش الزوجية في الغالب.
ثم قال جل وعلا: {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ} [الواقعة:35 - 36] والأصل أن الفعل (جعل) هنا بمعنى: صيّر، فإذا قلنا: إنه بمعنى صيّر خلافاً للمعتزلة {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} [الواقعة:36] فلا يمكن أن يُطلق على الحور العين المخلوقات في الجنة؛ لأن المرأة على أصل خلقتها تكون بكراً، فلا يصح معنى: أن يقول الله جل وعلا فصيّرناهن أبكاراً، وهن أصلاً أبكار، لكن قول الله جل وعلا: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} [الواقعة:36]، يعود على النساء المؤمنات اللواتي دخلن الجنة وهن ثيبات، فقول الله جل وعلا: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} [الواقعة:36] أي: صيّرناهن ونقلناهن من حالة كون إحداهن ثيباً إلى كونها بكراً.
ثم قال عز وجل: {عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة:37]، فعرباً أي: محببات إلى أزواجهن، وأتراباً: جمع ترب، والمعنى: أنهن نداد في الأسنان، يعني: كلهن على سن واحدة.
قال جمهور العلماء ويؤيده بعض الآثار: إن المعنى أنهن في سن ثلاث وثلاثين والعلم عند الله، وهذا المعنى القرآني هو الذي سلّه جرير في قوله: أتصحو أم فؤادك غير صاح عشية هم صحبك بالرواح تقول العاذلات علاك شيب أهذا الشيب يمنعني مراحي؟ يكلفني فؤادي مَن هواه ظعائن يجتزعن على رماح عراباً لم يدن مع النصارى ولم يأكلن من سمك القراح فقول الله جل وعلا: {عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة:37]، هذا وصف لما أعده الله جل وعلا لأهل طاعته، والنبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد الخلق دخل على إحدى عشر امرأة، لم يكن منهن بكر إلا عائشة، والباقيات رضوان الله تعالى عليهن كانت كل واحدة منهن ثيباً، ومات صلى الله عليه وسلم عن تسع، فقد ماتت اثنتان من زوجاته صلى الله عليه وسلم في حياته: خديجة بنت خويلد ولم يكن قد تزوج عليها امرأة، وزينب الهلالية رضي الله عنها وأرضاها ماتت بعد زواج النبي صلى الله عليه وسلم منها بثمانية أشهر، فبقين هؤلاء التسع هن اللواتي نزلت في حقهن آية التخيير، وهن اللائي مات النبي صلى الله عليه وسلم عنهن، وآية التخيير ذكرها الله جل وعلا في سورة الأحزاب فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:28 - 29]، فبدأ صلى الله عليه وسلم بـ عائشة وكانت أحب نسائه إليه وقال: (يا عائشة! إنني سأخبرك بأمر فلا تستعجلي حتى تستأمري أبويكي) فقالت: يا رسول الله! أفيك أستأمر أبوي؟ ثم تلا عليها صلى الله عليه وسلم آية التخيير، فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة، لكنها طمعاً في أن تنفرد به صلوات الله وسلامه عليه، ولا تثريب عليها قالت: لا تخبر أحداً من زوجاتك بما أجبتك به، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله بعثني معلماً ميسراً، ولم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً، لا تسألني إحداهن عن جوابكِ إلا أخبرتها)، فأخبرهن صلى الله عليه وسلم واخترن جميعاً رضوان الله تعالى عليهن النبي صلى الله عليه وسلم والله من قبل والدار الآخرة كما جاء نص القرآن، وهؤلاء التسع منهن خمس قرشيات، وأربع غير قرشيات تزوجهن النبي صلى الله عليه وسلم، من أشهرهن عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر، وجويرية بنت الحارث وهذه من بني المصطلق ليست من قريش، وصفية بنت حيي بن أخطب من بني النضير من ذرية هارون بن عمران عليه الصلاة والسلام، وغيرهن كـ أم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة رضوان الله تعالى عليهن أجمعين.(38/5)
تفسير قوله تعالى: (وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال)
ثم قال الله جل وعلا ذاكراً الصنف الثالث: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة:41 - 45].
أما قول ربنا: {لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} [الواقعة:44] فإن العرب -كما ذكر الطبري في تفسيره- في جريان كلامها تأتي في النفي بلفظ (كريم)، فتقول: هذه الدار لا واسعة ولا كريمة، ويقولون: هذا اللحم لا سمين ولا كريم، فكلما نفوا صفة معينة متعلقة بالموصوف أردفوها بقولهم: كريم، فجاء القرآن على سَنَنِهم ونسقهم في الكلام، قال الله جل وعلا: {لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} [الواقعة:44]، ثم قال ربنا: {إِنَّهُمْ} أي: أصحاب الشمال {كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا} [الواقعة:45 - 47]، وطالب العلم إذا تأمل هذه الآيات مقارنة بالصنفين الأولين يجد فرقاً واضحاً: وهو أن الله جل وعلا لم يذكر أسباب تكريم السابقين، ولم يذكر أسباب تقريب أهل اليمين، ولكنه لما ذكر أصحاب الشمال ذكر أسباب تعذيبهم! أي: أنه لما ذكر أصحاب اليمين ذكر النُعمى عليهم، ولم يذكر لأي سبب أنعم عليهم، ولما ذكر قبلهم السابقين ذكر النُعمى والفضل عليهم، ولم يذكر أسباب حصولهم على ذلك النعيم، لكنه عندما تكلم -جل شأنه وتبارك اسمه- عن أصحاب الشمال عدد الأسباب فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الواقعة:45 - 47].
والجواب عن هذا أن يقال: لقد جرت سنة القرآن أن يذكر الله أسباب العقاب ولا يذكر أسباب الثواب؛ لأن الثواب فضل لا يمكن أن يتوهم القدح في المتفضل به، وأما العقاب فمقام عدل لابد أن تُوْضَحَ فيه الأسباب حتى لا يُظن بالحاكم والقائم على الأمر ظلم.
وأظن أن المعنى قد تحرر بهذا.
قال جل وعلا: {إِنَّهُمْ كَانُوا} [الواقعة:45] أي: أصحاب الشمال ? {قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة:45] وليس هذا سبب رئيس في تعذيبهم؛ لأن الترف لوحده قد لا يصل إلى حد الكفر، لكن الله قال بعدها: {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة:46] وهو الشرك، ثم قال الله: {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الواقعة:47]، وما أجمله الله هنا بيّنه الله في مقام أوسع في سورة الإسراء، فإن أهل الإشراك كانوا يستبعدون البعث والنشور ويجعلونه أمراً لا يمكن أن يقع بحال، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:77 - 79]، لكن هذا كله يدور حول التراب، وقد أخبر الله جل وعلا عنهم في سورة الإسراء: أنهم استبعدوا البعث بعد أن يكونوا عظاماً أو تراباً، ومعلوم أن بني آدم مخلوقون من تراب، فليس لهم شأن أن يستبعدوا أن الله جل وعلا يعيدهم من التراب الذي خلقهم منه، لكن الله جل وعلا ليُظهر لهم كمال قدرته، وجليل عظمته، ومنتهى حكمته قال لهم: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا * يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:50 - 52]، فلو كنتم حجارة أو حديداً أو أي خلق يمكن أن يخطر لكم على بال لأحياكم الله جل وعلا منه، فكيف وأنتم تعودون إلى تراب، أي إلى عين ما خلقكم الله جل وعلا منه؟ والأمر كله على الله جل وعلا هيّن.
قال الله جل وعلا: {أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ} [الواقعة:48] قال الله مجيباً لهم: {قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} [الواقعة:49 - 52]، وهذه الشجرة في النار، ومعلوم نقلاً وعقلاً أن النار لا يمكن أن ينبت فيها شجر؛ لأن الأصل أن النار تحرق الشجر، لكن الله جل وعلا قال في الصافات: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ} [الصافات:64] أي: الزقوم {تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات:64]، وأخبر الله جل وعلا أنه أراد بذلك اختبار العباد في مدى يقينهم وإيمانهم بقدرة الله، أو عدم إيمانهم ويقينهم بقدرة ربهم، قال الله جل وعلا: {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} [الصافات:63] فهي شجرة تخرج في أصل الجحيم، فمن علم عظيم جلال الله وكمال قدرته يعلم أن الله قادر على أن يمنع النار من أن تصل إلى الشجرة، والتحريم -أيها المبارك- في القرآن على نوعين: تحريم شرع، وتحريم منع.
فالثواب والعقاب يتعلق بتحريم الشرع كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23]، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ} [المائدة:3]، {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:119] هذا الذي يتدخل فيه الثواب والعقاب.
أما تحريم المنع فلا ثواب ولا عقاب عليه؛ لأنه أمر كوني قدري ليس أمراً شرعياً، قال الله جل وعلا: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص:12] أي: منعنا شفتيه من أن تقبل أثداء النساء، فالمعنى هنا: تحريم منع، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما قالوا له: يا نبي الله! كيف نصلي عليك وقد أرمت؟ قال: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) أي: منع الأرض من أن تأكل أجساد الأنبياء، وليس معنى حرم هنا بمعنى: شَرَّع؛ لأن الأرض غير مكلفة بالاتفاق، لكن المقصود: أن الله جل وعلا منعها أن تصل إلى أجساد الأنبياء، ومنه أيضاً: أن الله جل وعلا حرم على النار أن تأكل من ابن آدم مواضع السجود، رغم أنها تتسلط على بدنه كله، لكن النار تتسلط على بدنه كله بقدر الله، وتمتنع عن أعضاء السجود بقدر الله؛ لأن النار كلها مخلوقة من مخلوقات الله لا يمكن لها ولا لغيرها من المخلوقات أن يخرج عن مشيئته وقدرته جل وعلا طرفة عين ولا أقل من ذلك.
ثم قال الله جل وعلا: {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة:52 - 55].
أما قول الله جل وعلا: {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ} [الواقعة:54] هذا إجمال فصله قول الله جل وعلا: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة:55].
والهيم: تطلق ويراد بها أحد أمرين: إما أن يكون المراد: الأرض الرملية التي مهما سُقيت لا يظهر عليها أثر، وقال بهذا القول: ابن كيسان والأخفش من العلماء.
وجمهور أهل العلم من المفسرين على أن المعنى: أن الهُيَام داء يصيب الإبل فتعطش، فإذا عطشت واشتد عِطَاشُها لجأت إلى الماء لترتوي، فمهما سُقيت لتشرب فلا يمكن لها أن ترتوي، فتمكث على هذا الحال حتى تَسْقَم سُقماً شديداً أو تهلك.
هذا الذي عليه أكثر المفسرين.
والهيام: داء معروف في الإبل كما بينا، وقد كانت العرب تنقله حتى إلى الرجال، وينقلون عن قيس بن الملوح الذي فتن بـ ليلى أنه قال: وقد خبروني أن تيماء منزل لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا فهذي شهور الصيف عنا قد انقضت فما للنوى ترمي بليلى المراميا إلى أن قال وهو موضع الشاهد: يقال به داء الهيام أصابه وقد علمت نفسي مكان شفائيا فقول قيس: يقولون به داء الهيام أصابه هو موضع الشاهد، وقد نقلته العرب من إصابة الإبل إلى إصابة أفراد الرجال.
قال الله جل وعلا: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا} [الواقعة:55 - 56] الذي ذكرناه وبيناه وحررناه {نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} [الواقعة:56]، والنزل: أول ما يستقبل به الضيف، قال بعض العلماء رحمة الله تعالى عليهم من أهل هذا الشأن: إذا كان هذا هو نزلهم، فماذا سيكون حالهم عياذاً بالله بعد أن يستقر بهم القرار في النار؟ لا ريب أنه أنكى وأشد وأعظم، عافانا الله وإياكم من ذلك كله.(38/6)
تفسير قوله تعالى: (أفرأيتم ما تمنون إلى قوله: ومتاعاً للمقوين)
ثم أخبر الله جل وعلا في آيات متعاقبات عن عظيم قدرته {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} [الواقعة:58 - 60] أي: لا يفوتنا فائت ولا يعجزنا شيء، {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} [الواقعة:61] أي: هيئات أخر غير التي أنتم عليها، ثم ذكر الله جل وعلا الزرع والماء وما أعده الله جل وعلا للمسافرين، ثم قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:71 - 73] أي: للمسافرين، فذكر الله جل وعلا الزرع وإنباته، والمطر وإنزاله، وذكر جل وعلا النار وإيقادها، وأخبر أن ذلك كله لا يتم إلا بعظيم قدرته وجلال حكمته، وليس هذا المقام مقاماً مناسباً للتفصيل فيها.(38/7)
تفسير قوله تعالى: (فلا أقسم بمواقع النجوم إلى قوله: تنزيل من رب العالمين)
ثم قال ربنا تبارك وتعالى في خاتمة السورة: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة:75 - 77]، لأهل العلم قولان في معنى: مواقع النجوم: قول يقول: إن مواقع النجوم: مطالعها ومساقطها، وأكثر من يتوجه للتفسير والإعجاز العلمي في عصرنا يذهب إلى هذا، لكن هذا القول لا يعضده قول الله جل وعلا بعدها: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة:76]؛ لعلمنا أن كل ما أقسم الله جل وعلا به أو عليه فهو عظيم، فلا بد أن يكون في قول الله جل وعلا: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة:76] كبير فائدة لم توجد في ما أقسم الله به قبل من مخلوقاته.
فيكون قول الله جل وعلا على القول الثاني: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] ليس قسماً بالمخلوق؛ لأن القرآن غير مخلوق، وإنما قسم {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] أي: أن القرآن نزل منجماً، فلما نزل القرآن منجماً أقسم الله جل وعلا بمواقع نزوله، فيصبح القسم هنا عند طائفة من أهل العلم، ويروى هذا عن ابن عباس رضوان الله تعالى عليهما، ومال إليه الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه في أول تفسير سورة النجم إلى القول: بأن القرآن نزل منجماً، وهو المعني بقول الله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1]، وما قاله الإمام الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه قوي إلا أنا لا نحفظ في اللغة أن كلمة: هوى تأتي بمعنى: أنزل، وإنما تأتي بمعنى: سقط، لكن نعود إلى آية الواقعة، قال الله جل وعلا: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75]، حجة هؤلاء أن الله قال: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة:76] وجواب القسم {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة:77] فيصبح المعنى: أن الله ذكر أن هذا القسم عظيم؛ لأن الله أقسم بالقرآن على القرآن، وهذا مرتقى صعب في الفهم، ليس في فهمه وإدراكه، لكن في أن يستنبطه الإنسان أولاً، وقد قال به القفال رحمة الله تعالى عليه أحد علماء الشافعية، وهو أن معنى الآية: أن الله أقسم بالقرآن على القرآن، فلما أقسم الله بالقرآن على القرآن كان حرياً أن يقال بينهما: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة:76 - 77].
أما اللطيفة في معنى قول الله جل وعلا: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة:77]: فإن أي كلام يكرر ويردد يذهب رونقه، ومن علم الأدب في مخاطبة الملوك يستحي أن يجعل كلامه عند الملوك مكرراً، ويبحث لهم في كل يوم عن فائدة جديدة، لكن كلام الله يتلى في المحاريب من أربعة عشر قرناً، ومع ذلك لم يذهب من رونقه شيء؛ لأنه كلام الله، ولو كان هذا الذي يتلى في المحاريب منذ أربعة عشر قرناً يسمعه الناس ويرددونه كلام بشر لملته الأنفس، ولسئمته الآذان، لكن لما كان هذا الكلام كلام رب العالمين جل جلاله؛ لم يكن لمؤمن أبداً أن يسئم ويمل من كلام ربه تبارك وتعالى، وهذا معنى قول الله جل وعلا: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة:77] أي: باق على ما هو فيه من صون، ورونق، وعظمة، وبهاء، وهداية، وإجلال؛ لأنه كلام رب العالمين جل جلاله، قال الله: {تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة:80].
ثم أخبر الله جل وعلا في آية خبرية لا إنشائية فقال: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79]، هذه الآية مسوقة في سياق الخبر لا في سياق الإنشاء، يعني: لا يأتي أحد ويقول: لا يجوز لك أن تمس القرآن إلا وأنت طاهر؛ لأن الله يقول: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79]، لكن يجوز لنا أن نقول -وهذا قول جمهور العلماء- لا يجوز لك أن تمس القرآن إلا وأنت طاهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث عمرو بن حزم: (وألا يمس القرآن إلا طاهر)، فالاستدلال يكون بالحديث لا بالآية، فإن (لا) في قول الله جل وعلا: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] نافية وليست ناهية، ولا الناهية هي التي يراد بها الإنشاء والتكليف والطلب، أما لا النافية فهي تسوق خبراً؛ لكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنما يفهم من الإشارة لا من التصريح؛ أنه ما دام أهل السماء لا يمس القرآن منهم إلا طاهر وكلهم مطهرون، فينبغي على أهل الأرض ألا يمسوا القرآن إلا وهم طاهرون، وهذا قول جمهور العلماء.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يجوز أن يمس المصحف من لم يكن متوضئاً؛ لأنهم لا يرون صحة حديث عمرو بن حزم، لكن كما قلت: ذهب مالك وجمهور العلماء معه على أنه لا يجوز أن يمس القرآن أحد إلا أن يكون طاهراً من الحدثين الأصغر والأكبر، قال الله جل وعلا: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79].(38/8)
تفسير قوله تعالى: (أفبهذا الحديث أنتم مدهنون إلى قوله: ترجعونها إن كنتم صادقين)
ثم قال تبارك وتعالى: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:81 - 82]، قوله: ((رِزْقَكُمْ)) يحتمل معنيين: المعنى الأول: أن تكون بمعنى: الشكر، وهذا وارد في كلام العرب، فيصبح المعنى: وتجعلون شكركم لِمَا أفاء الله عليكم من نعم أنكم تكذبون بهذا القرآن، وهذا قول جيد في السياق، لكن الأحاديث وردت بخلافه.
والقول الثاني: وهو الذي تؤيده الأحاديث -كما عند مسلم في الصحيح- أن المعنى: وتجعلون رزقكم أي: ما ينزل عليكم من السماء من مطر، ويؤيده حديث مسلم: مطرنا بنوء كذا، وآخرون قالوا: مطرنا بفضل الله ورحمته فقال صلى الله عليه وسلم: (يقول الله جل وعلا: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فمن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فهو مؤمن بي كافر بالكواكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فهو كافر بي مؤمن بالكواكب)، على هذا حمل أكثر المفسرين معنى الآية والعلم عند الله.
ثم قال ربنا: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:83 - 85]، لم يرد ذكر النفس هنا، فقول الله جل وعلا: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:83]، لم يذكر الفاعل للفعل (بلغ)، لكن العلماء متفقون على النفس، وهذا فصل في لغة العرب أنها تأتي بالكلم ولو لم يكن له ذكر من قبل، قال حاتم طي: أماوي إن المال غاد ورائح ويبقى من المال الأحاديث والذكر أماوي إني لا أقول لسائل إذا جاء يوماً حل في مالنا نزر إلى أن قال وهو موضع الشاهد: لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت نفس وضاق بها الصدر والنفس لم يكن لها كلام ولا قول في قصيدة حاتم، وإنما ردهم إلى شيء غير مذكور، وهناك شواهد أخر، وقد عقد له ابن خالويه رحمة الله تعالى عليه في كتابة: (فقه اللغة وسر العربية) فصلاً كاملاً.
والذي يعنينا هنا أن قول الله جل وعلا: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة:83]، أنه يعود على الروح بإجماع العلماء.
قال تعالى: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ} [الواقعة:83 - 84] أي: من حول الميت {حِينَئِذٍ} [الواقعة:84]، أي: حين تبلغ الروح الحلقوم {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} [الواقعة:84]، أي: إلى الميت، {وَنَحْنُ} [الواقعة:85] هذا قرب الله بملائكته {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} [الواقعة:85] أي إلى الميت {وَلَكِنْ} [الواقعة:85] حرف استدراك {وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85] أي: من حول الميت لا يبصر الملائكة وهي تنزع الروح من الميت، {وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} [الواقعة:85 - 86] أي: لا تدانون ولا تملكون ولا تستعبدون كما تزعمون، ولا لأحد سلطان عليكم كما تقولون {فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} [الواقعة:86]، هذا هو قول الجمهور، وقول آخر: وهو أنكم غير مجازين أياً كان السياق، {فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا} [الواقعة:86 - 87] أي: الروح {إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:87] والروح إذا اتصلت بالبدن يقال لها: نفس، قال الله جل وعلا: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس:7]، وإذا خرجت من البدن يقال لها: روح، قال صلى الله عليه وسلم في حديث عثمان بن مظعون: (إن الروح إذا فرجت تبعها البصر)، فقال ربنا هنا: {فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:86 - 87]، ولا يستطيع أحد أن يعيد إلى ميت حياة، قال الله جل وعلا: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:61 - 62].(38/9)
تفسير قوله تعالى: (فأما إن كان من المقربين إلى آخر السورة
ثم بعد أن بين الله جل وعلا هذا كله ذكر مآل الجميع بعد أن قسمهم إلى ثلاثة أصناف، قال ربنا: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الواقعة:88]، والمقصود بالمقربين هنا -والعلم عند الله- فيما يظهر: أنهم من يدخلون الجنة بغير حساب، وهؤلاء هم المنادون أولاً بقول الله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء:101 - 102].
قال: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ} [الواقعة:88 - 89] أي: يستريحون من عناء الدنيا، والله جل وعلا خلق الدنيا مطبوعة على الكدر كما قال سبحانه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]، فهذا نبي الأمة ورسول الملة صلى الله عليه وسلم يُرزق بسبع بنين وبنات، يموت منهم ستة أمام عينيه صلى الله عليه وسلم، ولا يبقى أحد يحيا بعده إلا فاطمة رضوان الله تعالى على أبناء وبنات رسولنا صلى الله عليه وسلم أجمعين، فرأى صلى الله عليه وسلم أبناءه وبناته يمتن ويموتون وهو حي يُرزق، ولم يبق له إلا فاطمة التي ماتت بعده بستة أشهر، وشج رأسه يوم أحد، وكسرت رباعيته، ولما أتم الله له الدين وأظهر له النعمة، وقال له: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3] جاءته الآيات تخبر بقرب أجله ودنو رحيله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3]، فإذا لقي المؤمن ربه جل وعلا وجد الراحة الكبرى، قال الإمام أحمد رحمه الله: لا راحة للمؤمن دون لقاء الله.
ومن يرجو راحة قبل لقاء الله فإنما يبحث عن شيء غير موجود، اللهم إلا أن تكون راحته -وهذا الذي ينبغي- في أنه يرضى بقدر الله قال ربنا: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] والحياة الطيبة: أن يرضى الإنسان بقدر الله.
قال: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:89 - 90] وأجمل ربنا هنا فقال: {فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:91]؛ لأنهم يحيون في دار سلام، فبدهي أن ينطقوا بالسلام.
ثم ذكر جل وعلا العصاة المتمردين على ربهم، والخارجين عن طاعته فقال جل شأنه: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة:92 - 94] وحتى لا يرتاب مرتاب، ولا يشك شاك قال أصدق القائلين جل جلاله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة:95]، ثم ختم الله جل وعلا هذه الآيات بالوصية العظيمة: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:74]، والمعنى: نزِّه ربك جل وعلا عمّا لا يليق به، وغاية ما قاله أئمة أهل الشأن في هذا الباب أن يقال: إن الله غني عن طاعة كل أحد، فإذا نزّهت ربك عمّا لا يليق به فتشعر بالطهر والنقاء والصفاء، وإلا فربنا جل جلاله لا تنفعه طاعة طائع، ولا تضره معصية عاص.
هذا مجمل ما دلت عليه هذه السورة المباركة؛ سورة الواقعة، وقفنا معها وقفة إجمالية، حاولنا أن نصل بها معكم إلى ما يمكن أن يعيننا على طاعة الله جل وعلا.(38/10)
عرض مجمل للمراحل التي يمر بها الإنسان إلى أن يستقر في الجنة أو في النار
وهنا نجمل -أيها المباركون- من قول الله جل وعلا: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} [الواقعة:83 - 84] تصعد الروح، فإما أن تنادى بأحسن الأسماء أو تنادى بأقبح الأسماء، تعود إلى صاحبها، تدب الروح في البدن، فيسمع صوت النعال، ثم يُقعد فيُسأل عن ربه ونبيه ودينه، يوفِّق الله من يشاء من عباده للإجابة، ويخذل من عباد الله من شاء عن الإجابة، ثم يمكث الإنسان في قبره حياة البرزخ، قال ربنا: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100]، وهل تنفصل الروح أو تبقى متصلة؟ العلم عند الله، لكن غالب الظن: أنها تنفصل حيناً، وتتصل أحياناً في حياة لا نعلم كنهها، قال الله عنها: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22]، ثم يأمر الله ملكاً يقال له: إسرافيل، أن ينفخ فينفخ، فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم يمكث الناس أربعين، ثم يأمر الله الملك نفسه أن ينفخ فينفخ، فتخرج أرواح المؤمنين من عليين إلى أجساد الناس، لا تخطيء روح جسداً خرجت منه، وأرواح أهل الكفر من سجين، لا تخطيء روح جسداً خرجت منه، تدب الحياة في الأجساد، فيخرج الناس كأنما يقومون من نومهم، قال الله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:51 - 52]، يحشر الناس على أرض بيضاء نقية، يعطى كل أحد نوراً فينقسمون إلى ثلاثة أقسام: منهم أقوام يطفأ نورهم من حين أن يستلموه وهم أهل الكفر، وتبقى طائفتان يبقى معهم نورهم حتى إذا جاءوا على الصراط أُطفئت أنوار أهل النفاق، قال الله جل وعلا عنهم أنهم ينادون أهل الإيمان: ((انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ)) وهم يجيبونهم {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد:13]، ويمضي أهل الإيمان يجتازون بنورهم على قدر أعمالهم الصراط، ثم ينقسمون إلى قسمين: قسم يؤذن لهم بدخول الجنة، وقسم يحبسون على الأعراف، فإذا حبسوا على الأعراف رأوا أهل الجنة وهم يدخلونها، قال الله جل وعلا: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف:46]، وإذا صرفت أبصارهم من غير سبب منهم إلى أهل النار: {قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف:47]، ثم ظاهر القرآن -والعلم عند الله- أنهم يؤذن لهم بالجنة، ثم ينادي مناد بعد أن يؤتى بالموت على صورة كبش أملح فيقال: يا أهل الجنة! هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت، ويقال: يا أهل النار! هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم هذا الموت، فيذبح بين الجنة والنار، ويقال: يا أهل الجنة خلود لا موت! ويا أهل النار خلود لا موت! قال الله جل وعلا: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:39 - 40].
هذا ما تيسر إيراده، وتهيأ إعداده، وأعان العلي الكبير على قوله، وما لم نجمله، أو لم نَقُلْه، أو لم نبينه في قولنا هذا، فلعل الله جل وعلا أن يكتب لنا أن نبينه في الإجابة على أسئلتكم، هذا والعلم عند الله، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(38/11)
طبت حياً وميتاً
لقد رفع الله قدر نبينا صلى الله عليه وسلم، وأنزله منزلة عظيمة لم تكن ولا تنبغي لأحد من خلقه سواه، وجعل حياته سيرة عطرة ضمَّنها كل إشراقة في جوانب الحياة، ثم جعله أسوة حسنة لمتبعيه يتأسون به في خصال الخير كلها، ومن جملتها تفريغ القلوب لمحبة الله تعالى، والشفقة والرحمة بالمؤمنين، ودعوة الناس إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وبيان عظمة الوقوف بين يدي الله تعالى، وزينه تعالى بكل حميد من الأعمال والأقوال والصفات الخلقية والخُلقية، فطاب صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً.(39/1)
عظيم منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ربه
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاءً أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن مما صح خبره من السيرة العطرة والأيام النضرة ممن طابت حياته ومماته صلوات الله وسلامه عليه حديث أنس رضي الله تعالى عنه أنه قال: (إن زاهراً كان رجلاً من البادية، وكان يهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم من البادية هدية، وكان عليه الصلاة والسلام يعطيه قبل أن يذهب إلى البادية ويقول: إن زاهراً باديتنا ونحن حاضروه، وكان زاهر رجلاً دميماً، وكان صلى الله عليه وسلم يحبه، فأتاه ذات يوم وهو يبيع متاعه في السوق، فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره، فقال: من هذا؟ أرسلني، فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل زاهر لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلوات الله وسلامه عليه: من يشتري هذا العبد؟ فقال: يا رسول الله! إذاً -والله- تجدني كاسداً -أي: لا يشتريني أحد- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكنك عند الله لست بكاسد، أو قال: أنت عند الله غال).
إن هذه منزلة رجل من بادية أمة محمد، فكيف بمنزلة محمد صلى الله عليه وسلم عند ربه؟ يقول الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29] جعلني الله وإياكم ممن يقتدي بهديه.(39/2)
قبسات مضيئة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم
هذه قبسات وجوانب مضيئة، وكل حياته صلى الله عليه وسلم مضيئة، ولكن من عظمة سيرته صلوات الله وسلامه عليه أنه يمكن أن تتناول بمختلف الطرق، فيمكن أن تلقى كأخبار، ويمكن أن تدرس باستنباط لما في طيات السنن من عظيم الآثار، ويمكن أن تدرس وتتناول بغير ذلك، وهذا كله يدل على عظيم تلك الحياة التي عاشها نبينا صلى الله عليه وسلم.
وخير ما يقدمه طالب العلم للناس أن يقدم إليهم محاولة جديدة في فهم سيرة نبيهم صلى الله عليه وسلم على غير ما يألفونه، وإن كان لا يستطيع أن يحلق بعيداً عما ذكره الأخيار وصدره الأبرار من العلماء والمشايخ وطلبة العلم في الماضي والحاضر نفع الله بنا وبهم الإسلام والمسلمين.(39/3)
القلوب محل حب الله وتعظيمه وإجلاله
أولى القبسات هي أن القلوب هي الأوعية التي يحب فيها الله ويعظم ويجل، ومن خلال عظيم محبة الله جل وعلا في قلب أي عبد ينجم العمل والقرب من الطاعات والازدلاف إلى الله بالحسنات، وينجم عن ذلك البعد عن المعاصي والفرار من الذنوب والإحجام عن الموبقات.
وقد جعل الله قلب نبينا صلى الله عليه وسلم له تبارك وتعالى، فولد عليه الصلاة والسلام دون أن تكتحل عيناه برؤية أبيه، فنشأ يتيم الأب منذ ولادته، فتعلق بقلب أمه وحنانها وشفقتها ورقتها عليه، فما أن أتم ست سنوات حتى حجبت عنه رحمة الأم فماتت أمه.
فأخذ -صلوات الله وسلامه عليه- يوم ذاك يدب نحو جده ويتشبث به، فما هي إلا سنتان ويموت ذلك الجد، فيصبح ذلك النبي المنتظر الذي سيختم الله به النبوات ويتم به الرسالات لا أب ولا أم ولا جد له؛ لأن الله جل وعلا وحده تكفل به كما قال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:6 - 8].
ولما بعث صلوات الله وسلامه عليه جعل الله له نصيرين: عمه أبا طالب وزوجته خديجة، فلما تفاقمت عليه مصائب أعدائه ورموه عن قوس واحدة توفي العم وتوفيت الزوجة في شهر واحد؛ ليطمئن صلى الله عليه وسلم بأن الله وحده هو الذي سينجيه ويظهره ويعلي شأنه صلوات الله وسلامه عليه.
ثم يهاجر عليه الصلاة والسلام إلى المدينة وكان قد مات ولداه القاسم وعبد الله قبل أن ينبأ، فما بقي له إلا البنات، فتعلق بهن صلوات الله وسلامه عليه كأي أب، ثم ما إن تعلق بـ عائشة وأحبها حتى رميت في عرضها رضي الله عنها وأرضاها.
ثم بشر صلى الله عليه وسلم بقدوم جعفر، فقال: (والله لا أدري بأيهما أسر، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟!) وما هي إلا شهور معدودات ويموت جعفر ويبقى صلى الله عليه وسلم من غير حبيبه جعفر.
ثم آنس الله وحشته فيرزق صلى الله عليه وسلم بابنه إبراهيم، فما إن يظهر الود في قلبه عليه الصلاة والسلام ويتردد إلى عوالي المدينة كي يرى إبراهيم كل يوم فيقبله ويرفعه ويشمه ثمانية عشر شهراً فقط حتى يموت إبراهيم، لئلا يبقى في قلبه صلى الله عليه وسلم أحد إلا الله.
ولهذا ما قضى صلى الله عليه وسلم عمره إلا فيما قضاه الأنبياء من قبله، ألا وهو التعريف بربهم جل وعلا، وإن أعظم نصرة له -صلوات الله وسلامه عليه- أن يؤخذ عنه الدين وأن يؤخذ عنه في المقام الأول عظيم توحيده لربه تبارك وتعالى، فإن القلوب لا يستحق أن يتربع على عرشها أحد تحبه وتوالي وتبغض فيه إلا الرب تبارك وتعالى.
ولهذا كانت أعظم آيات القرآن تترى في أمكنة متعددة وأزمنة متباينة كلها تبين هذا المنهج العظيم الذي بعث الله من أجله الرسل وأنزل الله جل وعلا من أجله الكتب.
جاءه العاص بن وائل وهو بمكة صلوات الله وسلامه عليه، وفي يد العاص عظام قد أرمت، فنفخ فيها وقال: يا محمد! أتزعم أن ربك يحيي هذه بعد موتها؟! فأنزل الله جل وعلا: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس:77 - 80].
والخضرة لا تكون إلا من ماء، والماء لا يتفق مع النار، فهما خصمان، ومع ذلك يجعل الله جل وعلا من الشجر الأخضر ناراً، ولا يقدر على هذا إلا الله.
والمقصود أن قلبه صلى الله عليه وسلم ملئ محبة وتوحيداً وإجلالاً لله، فنشأت دعوته كلها على هذا المبدأ العظيم الذي من أجله بعثت الرسل وأنزلت الكتب، وهذا أعظم ما يمكن أن ينصر به العبد نبيه صلى الله عليه وسلم.(39/4)
عظيم شفقة رسول الله ورحمته بأمته في الدنيا
ومن القبسات المضيئة في حياته صلى الله عليه وسلم: عظيم شفقته ورحمته بأمته، ولهذا حق على كل مسلم أن يعرف لهذا النبي قدره وعظيم حقه لعظيم ما كان صلى الله عليه وسلم يحمله من المحبة والشفقة والرأفة بأمته.
ففي رحلة الإسراء والمعراج فرض الله عليه في السماوات السبع الصلوات الخمس خمسين صلاة في اليوم والليلة، فلما عاد صلى الله عليه وسلم لقي أخاه موسى، فقال له موسى: (ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف؛ فإني قد بلوت الناس قبلك، وإن أمتك لن تطيق ذلك) ومن هنا أخذ العلماء أن العلم ينقسم إلى قسمين: علم عاد عن التجربة، وعلم مقرون بالتجربة.
والعلم المقرون بالتجربة مقدم على العلم العاري عنها، فإن موسى عليه السلام ليس أفضل من نبينا صلى الله عليه وسلم، ولكن التجربة علمته أن الأمم لا تطيق مثل هذا، فرجع صلى الله عليه وسلم إلى ربه يسأله التخفيف، وما زال يتردد صلوات الله وسلامه عليه حتى عاد إلى موسى وأخبره أن الله جعلها خمس صلوات، فقال له موسى كذلك: (ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف) فقال صلى الله عليه وسلم يعتذر إلى موسى: (قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه).
فلما حفظ صلى الله عليه وسلم مقام الله حفظ الله له جل وعلا مقام أمته التي وكل إليه أن ينافح عنها، فسمع منادياً يقول: (إنني قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي) فأبقاها الله جل وعلا خمس صلوات بأجر خمسين صلاة في اليوم والليلة.
ومن هنا أخذ العلماء فائدة، وهي أن من قدم حق الله على حق غيره أكرمه الله وأكرم غيره، فإن نبينا صلى الله عليه وسلم في المرة الأخيرة ازدحم عنده أمران: حق أمته وحق الله، وهو أدبه مع ربه، فاختار أن يعتذر إلى موسى ويقدم حق الله تأدباً مع ربه، فلما تأدب مع ربه صلوات الله وسلامه عليه أكرمه الله بأن جعلها خمس صلوات وجعلها تجري على هذه الأمة بأجر خمسين صلاة، والحسنة بعشرة أمثالها.
وهذا من مقامه الرفيع صلوات الله وسلامه عليه في أدبه مع ربه تبارك وتعالى، والمقصود منه الإخبار بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من أدب تام وحرص عظيم على الشفقة والرحمة بأمته في آن واحد.
ومن شفقته بأمته صلى الله عليه وسلم في الدنيا أنه ضحى بكبشين أملحين أقرنين، فسمى الله وكبر وقال في الأول: (اللهم هذا عن محمد وآل محمد)، ثم قال في الآخر: (اللهم هذا عمن لم يضح من أمة محمد) شفقة بمن يأتي بعده صلوات الله وسلامه عليه.
ومن شفقته بأمته -أمة الإجابة عليه الصلاة والسلام- أنه زار المقبرة فقال: (وددت لو أني رأيت إخواني، فقالوا: يا رسول الله! ألسنا إخوانك؟ قال: بل أنتم أصحابي، ولكن إخواني لم يأتوا بعد، وأنا سابقهم إلى الحوض، فقالوا: يا رسول الله! وكيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ قال: أرأيت لو لأن لأحدكم خيلاً غراً محجلة في خيل بهم أكان يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: فإن إخواني يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض) جعلني الله وإياكم منهم.
وكان يقوم الليل عليه الصلاة والسلام وما قام الليل أحد أكرم على الله منه، فلما تأسى به الناس وصلوا بصلاته في رمضان -وهي قربة إلى الله ورفع للدرجات وتكفير للخطايا- اعتزلها وتركها وقال: (لقد علمت الذي صنعتم، ولكن خشيت أن تفرض عليكم).
فخوفه على الأمة أن يفرض عليها ما لا تطيق له حملاً جعله صلى الله عليه وسلم يمتنع عن القيام جهرة في تلك الليالي، وإلا فمن عظيم قرباته وجليل مناقبه عند ربه عظم قيامه بالليل بين يدي الله جل وعلا.
ومن أعظم أسباب التوفيق وأجل العطايا وأعظم المنح أن يختار الله عبداً من عباده يقف بين يديه في ظلمات الأسحار يسأل الله ويرجوه ويدعوه ويناجيه.
لما أتتك قم الليل استجبت لها تنام عينك أما القلب لم ينم الليل تسهره بالوحي تعمره وشيبتك بهود آية استقم صلوات الله وسلامه عليه.
وفي ليلة تفقده عائشة فتقول: (ظننت أنه ذهب إلى بعض نسائه، فوجدته في المسجد قد انتصبت قدماه يقول في سجوده: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك).
وهذه النماذج من دلائل شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته في الدنيا.(39/5)
عظيم شفقة رسول الله ورحمته بأمته في الآخرة
ومن شفقته على أمته في الآخرة أن الناس يحشرون عراة أحوج ما يكونون إلى الكسوة، ويحشرون عطشى أحوج ما يكونون إلى الماء، ويحشرون تحرقهم الشمس أحوج ما يكونون إلى الظل، وهناك يموج الخلق بعضهم في بعض، فيأتون أباهم آدم فيعتذر ويقول: نفسي نفسي، إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله.
ثم يأتون إلى نوح فيثنون عليه رجاءً يستجيب لهم، فيقولون: أنت أول رسل الله إلى أهل الأرض، سماك الله في القرآن عبداً شكوراً، فيقول: نفسي نفسي، ويحيلهم إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم فيقول: نفسي نفسي، ثم يأتون موسى فيثنون عليه فيقول: نفسي نفسي، ثم يأتون إلى عيسى -ولا يذكر ذنباً- فيقول: نفسي نفسي، فإذا أتوا إليه صلوات الله وسلامه عليه قال: أمتي أمتي.
جعلني الله وإياكم ممن ينتفع بشفاعته يوم العرض الأكبر.
فهذه نماذج من رحمته صلى الله عليه وسلم وشفقته على أمته، أفليس من هذه صفاته ومحبته لنا وشفقته علينا ورحمته بنا جديراً بأن يحب، وأن نتقرب إلى الله جل وعلا بحبه واتباع هديه واقتفاء أثره صلوات الله وسلامه عليه؟!(39/6)
الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة
ومن الجوانب العطرة والنضرة في سيرته صلى الله عليه وسلم: ما أكرمه الله جل وعلا به من الدعوة إلى الله جل وعلا بالأسلوب الأمثل وكمال الحسن والرفق في الخطاب حتى يبين دين الله جل وعلا على الوجه الأمثل والطريق الأقوم، فلا تبقى لأحد حجة على الله بعد بعثته صلوات الله وسلامه عليه.
وضع على ظهره سلا الجزور وهو يوم ذاك -وما زال صلى الله عليه وسلم- أعظم الخلق كرامة عند الله.
والدرس العلمي المأخوذ من هذه الحادثة أن تعلم أن مقام العبد لا يعرف بحاله عند الناس، فالناس لا يرون منك إلا الظاهر، لكن الأمر العظيم هو مقامك عند ربك جل وعلا.
فالنبي صلى الله عليه وسلم ساجد عند الكعبة وسلا الجزور على كتفيه، وزعماء قريش ينظرون إليه ويتضاحكون، وهو صلى الله عليه وسلم عند ربه في أعلى المقامات وأرفع الدرجات.
والدنيا لم يجعلها الله جل وعلا دار مكافأة، ومن أعظم ما يدلك على حقارة الدنيا أن الله جل وعلا أذن قدراً أن يعصى فيها، ولو كانت للدنيا كرامة عند الله لما أذن الله قدراً لأحد أن يعصيه فيها.
وهذا أمر ينبغي لكل من يحيا في هذه الحياة الدنيا أن يستصحبه في كل شأن؛ لأن الإنسان إذا كان ينتظر من الناس مدحاً أو ثناءً أو رفيع قدر فسيتعب تعباً كبيراً، وأول طرائق العظمة أن تبدأ بنفسك، ولن تكون عظيماً حتى تكون عظيم العبودية لله جل وعلا.
واعلم -يا أخي- أن لله جل وعلا صفات، كلما ازدت عنها بعداً كنت من الله أقرب، ولله جل وعلا صفات كلما التصقت بها كنت من الله أقرب، وهذه الصفات لا تعرف بضابط أو قاعدة، وإنما تعرف بحيثيات الشرع.
فلا يوجد حال ذلة يكون فيه ابن آدم أعظم من أن يضع جبهته على الأرض، فهذا موضع ذلة بلا شك، ولما كان هذا أعظم حال ذلة يفعله بنو آدم وجب ألا يصرف إلا للرب تبارك وتعالى.
قال الله لنبيه: {كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19] فلما سجد صلى الله عليه وسلم حيث أمره الله كان أقرب إلى ربه جل وعلا، فكلما ازدت عبودية للرب تبارك وتعالى وانكساراً بين يديه كنت إلى الله جل وعلا أقرب، فإن العظمة من شأنه وحده جل وعلا لا ينازعه فيها أحد.
والأمر الآخر: الكبر، فإن العظمة والكبرياء رداءان للحق تبارك وتعالى، فكلما تلبس الإنسان - عياذاً بالله - برداء الكبر كان من الله جل وعلا أبعد؛ لأنه ينازع الرب تبارك وتعالى في ما هو من صفاته وخصائصه التي لا ينبغي أن ينازعه فيها أحد جل جلاله.
ومن صفات الله جل وعلا الرحمة، فمن كان رحيماً بالخلق طمعاً في أن يرحمه الله كان قريباً من رحمة الله جل وعلا، قال الله جل وعلا: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56].
وقال صلوات الله وسلامه عليه لأحد الصحابة: (والشاة إن رحمتها يرحمك الله)، وقال: (من لا يرحم لا يرحم).
وكلما كان الإنسان عفواً غفوراً عمن حوله ممن يخطئون عليه كان أدنى إلى عفو الله جل وعلا ورحمته وغفرانه، وهذا الذي ينبغي أن تحكم فيه آيات الكتاب المبين وأخبار سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.(39/7)
العبرة بمقام العبد عند ربه
وعظمة القدر كلما جحدها الناس بينها الله جل وعلا بجلاء من حيث لا يشعرون، فنبينا صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية جرى الصلح بينه وبين القرشيين، فأخذ المبعوثون يترددون بينه وبين قريش، وفي كل مرة تبعث قريش رجلاً منها، حتى بعثت سهيل بن عمرو، فقال صلى الله عليه وسلم: (لقد سهل أمركم، لقد أراد القوم صلحاً منذ أن بعثوا هذا الرجل).
فلما وضع الكتاب ليكتب واتفق الطرفان على الصلح وكان علي رضي الله عنه كاتب نبينا صلى الله عليه وسلم قال له صلى الله عليه وسلم: (اكتب بسم الله الرحمن الرحيم) فاعترض سهيل وقال: لا نعرف الرحمن ولا الرحيم، اكتب كما كنا نكتب في الجاهلية: باسمك اللهم.
فرضي صلى الله عليه وسلم وكتب: (باسمك اللهم)، ثم قال لـ علي: (اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو)، فقال له سهيل: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فرفض علي رضي الله عنه أن يمحو ما قد كتب، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن موضع الكتابة؛ لأنه لا يقرأ لا يكتب، وعلم الله به الجن والإنس.
فبين له علي موضعها فمحاها صلى الله عليه وسلم بيده، ثم أمر علياً أن يكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو.
فالذي جحد الرسالة هنا هو سهيل بن عمرو، فأنزل الله جل وعلا خاتمة سورة الفتح: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29] ثم قال: {وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:29] ولهذا فإن الحاذق من القراء الذي يريد أن يربط في تدبره القرآن بين الآيات يقرأ: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29] ثم يقف، ثم يأتي بالواو استئنافية ويقرأ: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح:29] لأن في قول الله جل وعلا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29] رد على من أنكر رسالته وبعثته صلوات الله وسلامه عليه.
وفيما بعده إخبار بأنصاره في الرسالة والمؤمنين الذين آووه ونصروه وجاهدوا ومعه وهاجروا من المهاجرين والأنصار وثناء الله جل وعلا عليهم من قبل في التوراة والإنجيل.
والغاية من هذا كله أن تعلم أن الله جل وعلا لا يضيع عنده عمل عامل كائناً من كان، وأن العبرة بمقامك عند الله جل وعلا، وأنت ترى في طيات حياة نبيك صلى الله عليه وسلم ما يدلك على أن العبرة التامة لرفيع مقامك عند الله، ألا ترى أن الخضر وموسى عليهما السلام استطعما أهل قرية فقال الله: {فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} [الكهف:77] فامتنع أهل القرية عن إطعام عبدين صالحين من عباد الله، ولكن هذين العبدين لم يغير ذلك من منزلتهما عند ربهم تبارك وتعالى شيئاً.
وكيف تعرف قربك من ربك وعلو منزلتك عنده؟ اعرض نفسك على كتاب الله، يقول الله: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:13 - 14] وكل امرئ حسيب نفسه.(39/8)
طيب خلق رسول الله وخُلُقه
ومن القبسات المضيئة في حياته صلى الله عليه وسلم ما أجمله الصديق رضي الله عنه في خبر الوفاة، فإن الأمة لم تفجع بأعظم من فجيعتها بوفاة نبيها صلوات الله وسلامه عليه.
وكان أبو بكر في السنح، وهو عوالي المدينة، والذي دفع أبا بكر أن يخرج إلى السنح - رغم أن النبي كان شديد المرض - أن النبي عليه الصلاة والسلام أطل عليهم في ذلك اليوم، فلما أطل عليهم استبشر الناس خيراً، فعمد أبو بكر إلى فذهب إلى أهله بالسنح، فلما توفي عليه الصلاة والسلام وقبض وشاع ذلك في الناس ما بين مصدق ومكذب قدم أبو بكر من بيته بالسنح فدخل بيت عائشة ابنته، ولا يحتاج إلى إذن، فلما دخل حجرة عائشة إذا برسول الله صلى الله عليه وسلم مسجىً على فراشه، فلما كشف الفراش عرف أنه ميت فقبله بين عينيه واغرورقت عيناه بالدموع رضي الله عنه وأرضاه، وقال كلمة تختصر الكثير من العبارات، قال: طبت حياً وميتاً يا رسول الله.
فهو عليه الصلاة والسلام قد طابت حياته وطاب مماته؛ لأن حياته وصلاته ونسكه ومماته كل ذلك كان لله رب العالمين، كما أمره الله جل وعلا فقال: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163] صلوات الله وسلامه عليه.
أما طيب حياته عليه الصلاة والسلام فقد طاب خلقاً وطاب خلقاً، فطاب خَلْقاً لأن الله جل وعلا جعله في أتم هيئة خَلقية، فكان عليه الصلاة والسلام سبط الشعر لا بالمسترسل ولا بالجعد، في جبهته عرق يجره الغضب إذا غضب لله، أزج الحواجب -أي: دقيق الحواجب- في غير قرن، أي: حاجباه غير مقترنين، أشم الأنف، طويل أهداب العينين، أبيض مشرباً بحمرة، كث اللحية، الشيب فيه ندرة ومتفرق، وأكثر شيبه في عنفقته أسفل شفته السفلى، وجملة ما فيه من الشيب لا تكاد تتجاوز عشرين شعرة.
كأن عنقه إبريق فضة، في صدره خيط شعر ممتد شعر على هيئة خيط دقيق، وعبر عنه الرواة بأنه دقيق المشربة، بين كتفيه من الخلف شعيرات سود اجتمع بعضهن إلى بعض قد ارتفعن عن الجسد قليلاً كأنهن بيضة حمامة، عريض ما بين المنكبين، سواء الصدر والبطن، إذا أشار أشار بيده كلها، وإذا تعجب من شيء قال: سبحان الله، وعند البخاري في الأدب المفرد أنه كان إذا تعجب من شيء عض على شفتيه صلوات الله وسلامه عليه.
إذا مشى فكأنما ينحدر من مكان عال، من رآه من بعيد أهابه، ومن رآه من قريب أحبه، يقول جابر بن سمرة: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاته الأولى - أي صلاة الظهر - فطفق ولدان أهل المدينة يسلمون عليه، فصافحته فوجدت لكفه برداً أو ريحاً كأنما أخرجها من جؤنة عطار) صلوات الله وسلامه عليه.
وقال محمد بن عمار والربيع بنت معوذ: يا أماه! صفي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا بني! لو رأيته لرأيت الشمس طالعة.
وقال جابر بن سمرة: (خرجت في ليلة أضحيان -أي: ليلة البدر فيها مكتمل- فرأيت القمر ورأيت النبي صلى الله عليه وسلم عليه حلة حمراء، فجعلت أنظر إلى القمر وأنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلهو عندي أجمل من القمر) صلوات الله وسلامه عليه.
وطيبه عليه الصلاة والسلام الخُلُقي كان مقروناً بطيبه الخَلْقي، فلم يكن لعاناً ولا فحاشاً ولا متفحشاً ولا سباباً، قال الله جل وعلا يزكي لسانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3]، وزكى الله بصره فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]، وزكى الله جل وعلا قلبه فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]، وزكاه الله جل وعلا جملة فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
ومن الله جل عليه بأن جعله خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، وأخذ الله جل وعلا العهد والميثاق على الأنبياء من قبله أنه إذا بعث فيهم وهم أحياء أن يتبعوه، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81].(39/9)
طيب مماته صلى الله عليه وسلم
وكما طابت حياته وطاب خَلْقه وطاب خُلُقه طاب مماته صلى الله عليه وسلم، فكان آخر عهده بالدنيا أن استاك فتطيب فاه قبل أن يلقى ربه جل وعلا.
وبقدر الله يدخل عبد الرحمن بن أبي بكر إلى بيت عائشة، وبقدر الله ينظر صلى الله عليه وسلم إلى السواك ولا يستطيع -وهو نبي الأمة ورسول الأمة وسيد الفصحاء- أن يقول: أعطوني السواك.
ثم تأخذ عائشة السواك من أخيها فتقضمه وتطيبه فيتطيب به عليه الصلاة والسلام.
وقد جرى عليه ما جرى على الأنبياء من قبله، وجميع الأنبياء تجري عليهم خمسة أحكام: الأول: أنهم يرعون الغنم.
الثاني: أنهم يخيرون عند الموت.
الثالث: أنهم يدفنون في الموضع الذي ماتوا فيه.
الرابع: أن الأرض لا تأكل أجسادهم.
الخامس: تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم.
فجرى عليه في تلك اللحظات الثالثة من هذه الأمور، وهي أن الملك أخذ يخيره بين الخلد في الدنيا ثم الجنة وبين لقاء الله ثم الجنة، وقلب كقلب محمد صلى الله عليه وسلم لا يشتاق إلى شيء أعظم من شوقه إلى لقاء الله، فلما خيره الملك سمعته عائشة وهو يقول: ({مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] اللهم اغفر لي، بل الرفيق الأعلى) قالها ثلاثاً، ومالت يده وفاضت روحه صلى الله عليه وسلم إلى أعلى عليين في المحل الأسمى والملكوت الأعلى.
وتوفي صلى الله عليه وسلم ضحى يوم الإثنين، ودفن ليلة الأربعاء بعد مغرب يوم الثلاثاء، ومع ذلك لم يزدد صلى الله عليه وسلم بعد موته إلا طيباً.
لقد نظر إلى أصحابه قبيل وفاته في يوم مرضه فتهلل وجهه كأنه ورقة مصحف، وهذا ما عناه أبو بكر بقوله: طبت حياً وميتاً يا رسول الله.
ثم غسلوه صلى الله عليه وسلم، ومراعاة لحرمته عليه الصلاة والسلام لم ينزعوا عنه ثيابه، ولم تكشف له عورة، وإنما باشروا الغسل من فوق الثياب، فعليه الصلاة والسلام.
ثم لعظيم حرمته عند الله ولطيب مماته عليه الصلاة والسلام هدى الله أولئك الأخيار إلى ألا يقدموا إماماً يصلي بهم على نبيهم، فلكي تصل صلاة كل أحد إليه، ولكي يشعر كل فرد بأنه باشر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم صلوا عليه أرسالاً، حتى لا يقول أحدهم: صليت خلف أبي بكر على رسول الله، وإنما يقول: صليت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة.
ثم يكرمه الله بأن يدفن - وهذا من خصائص الأنبياء - في الموضع الذي مات فيه، فدفن صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة في الجهة الجنوبية الغربية من الحجرة مكان فراشه صلوات الله وسلامه عليه، وفي تلك الحجرة كان يناجي ربه، وفي تلك الحجرة كان يقوم الليل، وفي تلك الحجرة كان يتنزل عليه الوحي، وفي تلك الحجرة كان يجيب السائلين، وفي تلك الحجرة كان يطعم الأضياف، وفي تلك الحجرة أسلم الروح، وفي تلك الحجرة دفن، ومن تلك الحجرة يبعث صلوات الله وسلامه عليه.
وبقدر الله ترى عائشة قبل مماته أن ثلاثة أقمار سقطت في حجرتها، فتذهب إلى أبيها -وهو من المعبرين- فتخبره بالرؤيا، وكان الصديق أعلم الناس بنبينا صلى الله عليه وسلم وأكملهم أدباً، فاستحيا أن يعبرها حتى لا يخبرها بقرب موت نبينا صلى الله عليه وسلم مع أن الموت حق، فلما وقع ما وقع ومات رسول الله ودفن في الحجرة جاء الصديق رضي الله عنه إلى ابنته وقال: يا بنية! هذا أول أقماركِ.
والاثنان الآخران كانا الصديق رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه وأرضاه.
وفي يوم موت عمر رضي الله عنه وأرضاه كانت عائشة رضي الله عنها أحق الناس بالحجرة؛ لأنها حجرتها، وكان الناس يعلمون أنه لم يبق إلا موضع قبر واحد، فلما طعن عمر رضي الله عنه وأرضاه كان لا يهمه إلا أمران، فقال لـ ابن عباس: اذهب فانظر من طعنني.
فذهب ابن عباس أو ابنه عبد الله فعرف أن الطاعن هو أبو لؤلؤة المجوسي، فقال: يا أمير المؤمنين! أبشر بالذي يسرك، الطاعن أبو لؤلؤة المجوسي.
فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه: الحمد لله الذي لم يجعل منيتي على رجل سجد لله سجدة.
فالمؤمن الذي يخشى الله حقاً لا يحب أن يأثم أحد بسببه، ولو كان ذلك الآثم قد فعل ذلك عدواناً وظلماً، كما فعل عثمان رضي الله عنه لما منع الناس أن يحموه حتى لا يراق دم بسببه.
فعمر رضي الله عنه استبشر وفرح بأن من طعنه لم يكن مؤمناً، ثم قال لابنه عبد الله: اذهب إلى عائشة فقل لها: أمير المؤمنين يستأذن أن يدفن مع صاحبيه.
فذهب عبد الله واستأذن على عائشة فقالت وهي تبكي: والله لقد كنت أدخره لنفسي - أي المكان - ولأوثرنه اليوم على نفسي.
فذهب عبد الله فدخل على أبيه قائلاً: يا أبتاه! أبشر بالذي يسرك.
فخاف عمر أن تكون عائشة قد فعلت ذلك حياءً لأنه حي، فأوصى ابنه قائلاً: يا بني، إذا أنا مت وغسلتني وكفنتني فاحملني وقل: عمر بن الخطاب يستأذن أن يدفن مع صاحبيه؛ ولا تقل: أمير المؤمنين يستأذن أن يدفن مع صاحبيه؛ فإني يوم ذاك لست للناس بأمير.
فإذا أرادت عائشة أن تعتذر فإنها ستعتذر ليكون فعلها عن طيب نفس منها.
فحمل بعد غسله وتكفينه على أعناق الرجال، ثم نودي أن عمر بن الخطاب يستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فأذنت ودفن.
يقول بعض الرواة -والعلم عند الله-: إن عائشة رضي الله عنها وأرضاها بعد أن دفن عمر في حجرتها بنت جداراً بينها وبين القبور حياءً من عمر وهو ميت، وقالت: لم يكن إلا زوجي ووالدي، أما الآن فزوجي ووالدي ورجل آخر.
تقصد عمر رضي الله عنه وأرضاه.
فإن صحت هذه الرواية -وليس ببعيد أن تصح- فإن المرأة لا ترزق شيئاً أعظم من أن ترزق الحياء مع غيرها من الرجال.
قال الله جل وعلا عن إحدى ابنتي العبد الصالح: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25].
والمقصود من هذا الأخبار كلها -رغم تشعب الحديث- بيان كيف طاب مماته صلى الله عليه وسلم.
ومن هذه الحجرة يخرج صلى الله عليه وسلم، وهو أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة، فيجد أخاه موسى آخذاً بقوائم العرش، وانظر لعظيم تمسكه صلى الله عليه وسلم بالقرآن، فالله يقول له: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36] فيطبقها عملياً، يقول عليه الصلاة والسلام: (فإذا بموسى آخذاً بقوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟).
فهو صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بالله وبدين الله وبالأخبار الشرعية كلها، ويقول: (لا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور) صلوات الله وسلامه عليه.(39/10)
دعوته إلى التراحم
ومما يمكن أن يدرس في سيرته العطرة وأيامه النضرة صلوات الله وسلامه عليه: أنه بين لأمته بلسان حاله ومقاله أن يكون التراحم بينهم، وهذا أمر قرره القرآن في الثناء على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بقوله جل وعلا: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] والتراحم بين المؤمنين من أعظم الغايات وأجل المطالب والمقاصد الشرعية التي جاء بها الدين ونزل بها القرآن ونطق بها رسولنا صلى الله عليه وسلم.
وهذا المبدأ العظيم كان صلى الله عليه وسلم يحرص على أن يغرسه في أمته بطرائق متعددة، حيث يدخل علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه في مجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمجلس ممتلئ بمن فيه، فيتنحى الصديق رضي الله عنه قليلاً وينادي علياً ويقول: هاهنا يا أبا الحسن.
فيجلسه بجواره، فيقول عليه الصلاة والسلام يقرر مبدأ التراحم ومعرفة منازل الناس بينهم: (إنما يعرف الفضل لأولي الفضل أولوا الفضل)، فهو ثناء على الصديق وثناء على علي وتعليم للأمة.
وهذه الرحمة تكون فيك -أيها المحب لمحمد صلى الله عليه وسلم- إن علمت قواعد شرعية، أعظمها: أن الله جل وعلا يحب من عباده الرحماء.
والأمر الثاني: أن تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الأنبياء قبله، ثم قال: (وإني لأرجو الله أن أكون أكثرهم تابعاً) فهو عليه الصلاة والسلام يحب أن يكثر سواد أمته، ولكي يكثر سواد أمته ينبغي أن نحرص على الدعوة إلى دينه صلوات الله وسلامه عليه، وهذا الأمر من أعظم أسسه وأجل مقوماته أن نتراحم فيما بيننا، فالإنسان إذا كان شفيقاً رحيماً بزوجته وأولاده وأبويه في المقام الأول وسائر المؤمنين كان قريباً من الله محققاً ما أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمته، ولما نشره فيها من الفضائل، ولما دعاهم إليه صلوات الله وسلامه عليه من كريم الطباع وجميل الأخلاق.(39/11)
حرصه صلى الله عليه وسلم على بيان عظمة الموقف بين يدي الله
ومن الجوانب التي نحاول أن نتأملها في هذا الدرس المبارك: أن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم حرص على أن يبين لأمته عظيم الموقف بين يدي الله جل وعلا.
ومن أعظم ما يعين على الطاعة أن يستحضر العبد وقوفه بين يدي الله، قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6]، وقد ذكر صلى الله عليه وسلم ذات يوم الميزان، وأنه لا يكون مثقال حبة من خردل إلا توزن، فجاءه رجل فقال: يا نبي الله! إن لي أجراء يظلموني وأظلمهم، فقال صلى الله عليه وسلم يبين له أن الأمر يوم القيامة قصاص: (يؤخذ ما عليك ويعطى ما لك) وبعد أن قرر الرجل أن يتخلص من هؤلاء الأجراء تلا صلى الله عليه وسلم قول الله جل وعلا: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47].
وبين صلوات الله وسلامه عليه أن الأمر يوم القيامة عظيم جليل الخطب يحتاج كل امرئ إلى أن يتقي الله جل وعلا فيه.
فهذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده.(39/12)
الأسئلة(39/13)
كيفية معرفة تعلق القلب بغير الله
السؤال
كيف يعرف الإنسان أن قلبه لم يتعلق بغير الله؟
الجواب
كل ما صرفك عن طاعة الله فقد تعلق قلبك به، ولكن يختلف الأمر في مقدار ذلك بحسب التعلق.(39/14)
مصير أبوي رسول الله صلى الله عليه وسلم
السؤال
لقد سمعت أنكم رجحتم أن أبوي الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل الفترة، فأرجو من فضيلتكم بيان ذلك؟
الجواب
هذه مسألة خلافية مشهورة جداً، ونحن إلى الآن نقول: إن الأقرب أن أبوي الرسول صلى الله عليه وسلم - والعلم عند الله - من أهل الفترة، وبيان ذلك علمياً من وجوه: أولها: أن الله جل وعلا قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15].
وقال جل وعلا عن أهل النار: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [الملك:8 - 9].
ومن قواعد العلم أن نصوص القرآن حاكمة وتفهم عن طريق السنة، فهنا إخبار من العلي الكبير أن أهل النار يلقون فيها فوجاً فوجاً، وأنهم يقررون عند إلقائهم فيها ويقال لهم: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك:8] فيقرون ويقولون: {بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ} [الملك:9] يقول الله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15].
ويبقى السؤال هنا: هل والد الرسول صلى الله عليه وسلم جاءه نبي أم لا؟ فإن قلنا: جاءه نبي فلا حجة له، وإن قلنا: لم يأته نبي فلا يدخل في أهل النار بحسب الآية؛ لأن الله قال عن أهل النار وهم يقرون: {بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ} [الملك:9]، ولا ريب في أن والد النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه آنذاك من قبل البعثة لم يأتهم نذير بنص القرآن، حيث قال الله جل وعلا: {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} [القصص:46]، وقال جل وعلا: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} [سبأ:44]، فالله جل وعلا في آية محكمة يقول: إنه لم يأتهم نذير.
وأما الحديث الذي في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: (إن أبي وأباك في النار) فإنه من حيث القاعدة العلمية يقول فيه بعض العلماء: إنه مخصص لعموم ما قاله الله جل وعلا في كتابه.
ولكن يبعد أن يخبر الله جل وعلا نبيه بأن أهل الفترة كلهم تحت المشيئة، ويكون أبوه وحده في النار.
وقد جاء في صحيح مسلم أن الله جل وعلا خلق السماوات والأرض في سبعة أيام، والعلماء لم يقبلوا هذا الحديث؛ لأنه معلوم قطعاً بنص القرآن أن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام.
والمقصود أن هذه مسألة لا يحسن نشرها بين الناس بكثرة، حتى الذين يقولون: إن والد الرسول في النار بناءً على حديث مسلم يقولون: لا يحسن نشر ذلك بين الناس.
وأنا أقول -والعلم عند الله-: إن التوقف أفضل من القطع بأن والد الرسول صلى الله عليه وسلم في النار؛ لأن نصوص القرآن لا توحي بهذا.(39/15)
بيان درجة الكافر والمسلم المتهاون في إيذاء رسول الله
السؤال
أيهما أكثر إيذاءً لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتباعه المتهاونون بسنته أم الكفار والمنافقون الذين يسخرون من ذلك؟
الجواب
هم الكفار والمنافقون لا يمكن أن يكونوا في درجة من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبه وإن عصاه، ولا شك في ذلك.
ولكن ينبغي للمؤمن أن يعلم أن من دلائل محبته لنبينا صلى الله عليه وسلم أن يحرص على اتباع سنته وألا يتهاون فيها، وأن يقيم الدين جملة، وأن يتقرب إلى الله بحب رسوله صلى الله عليه وسلم والسير على هديه، ولا يقارن كافر منافق مع مسلم وإن كان متهاوناً.(39/16)
عاقبة المستهزئ برسول الله في الدنيا
السؤال
هل في تاريخ هذه الأمة أن أحداً استهزأ بنبينا صلى الله عليه وسلم فعجل الله له عقوبة في الدنيا قبل الآخرة؟
الجواب
قد يوجد هذا وإن كنت لا أحفظه، ولكن الذي ينبغي أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم -كما هو معلوم- في المقام الأعلى، فهو عليه الصلاة والسلام كفاه ربه فقال: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر:95].(39/17)
الطريق إلى خشية الله
السؤال
ما هو الطريق إلى خشية الله تعالى؟
الجواب
هذا أمر طويل جداً، ولكن نقول من حيث الجملة: إن الله جل وعلا غني كل الغنى عن طاعة أحد، وإن من أعظم طرائق الوصول إلى خشية الله أن يستقر في قلبك أن الله جل وعلا غني كل الغنى عن طاعتك، وأنك في ذات الوقت مفتقر كل الفقر من جميع وجوهه إلى ربك تبارك وتعالى.
فإذا رزق الإنسان قناعة ويقيناً تاماً بهذا الأمر -نسأل الله لي ولكم التوفيق- فإنه يرجى بعد ذلك أن يعرف الطريق إلى خشية الله جل وعلا، فلابد من أن يكون هناك يقين بأن الله جل وعلا خالق وما سواه مخلوق، وأن الله جل وعلا رب وما سواه مربوب، وأن الله جل وعلا وحده رازق وما سواه مرزوق، وأن الخلق مهما عظمت منازلهم وكثر مالهم وساد جاههم وجل ملكهم هم خلق من خلق الله لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً فضلاً على أن يملكوه لغيرهم، وأن الله جل وعلا لا تضره معصية أحد كائناً من كان، ولا يبلغ مدحه قول مادح كائناً من كان، ولا تنفعه طاعة أحد كائناً من كان.
فإذا عرفت أن ربك جل وعلا عظيم جليل رزقت بعد ذلك الخشية منه جل جلاله.
ومن جملة ما نقوله ونكرره دائماً أن تحاول أن تعظم الله عند خلقه حين يمن الله عليك بالمنبر تصعده، أو بكلمة تلقيها في جامع، أو تلقيها لزوجتك وأولادك، أو لطلاب في المدرسة، أو بملعب كرة تلعب فيه مع زملائك، أو بمجلس احتفال مع زملائك.
فادخل مثل هذه الأمكنة ولا يكون لك إلا هم واحد، وهو أن يحب الناس ربك ويعظموه، أياً كان نوع المجلس، حتى لو كان في ملعب كرة، فإن ابتليت بحب الكرة وكان حولك اثنان أو ثلاثة أو أربعة فإن أي فرصة تعرف فيها أنك تغرس عظمة الله جل وعلا فيها فيمن حولك عليك أن تنتهزها.
فليكن همك أن يخرج من حولك معظمين لله، وقد ذكرت الملعب كحد أدنى، وقس عليه الأماكن الفاضلة كالمساجد، فأي مكان تدخل ينبغي أن يكون همك الأول أن يعظم الله جل وعلا وأن يحب، فتذكر فضل الله جل وعلا على خلقه ومنته عليهم، وتجعل من حولك يحبون الرب تبارك وتعالى، حتى لو غلب على ظنك أن الناس سيظنون بك الرياء، فثق بأن الله جل وعلا يعاملك على ما في قلبك لا على نظرة الناس إليك.
وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة، فالله جل وعلا لا يحاسبنا على نظرة الناس إلينا، فهم يحكمون على ما يرون، والله جل وعلا وحده يتولى السرائر، ولكن محال أن يحاسب الله أحداً على نظرة خلقه إليه، بل يحاسب عبده على ما علمه منه، قال الله جل وعلا: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق:9].
فلو أن الناس اجتمعوا على ذم أحد وهو عند الله عظيم فإن الله جل وعلا يقبله، ولو أن الناس اجتمعوا على حب أحد وهو عند الله حقير فإن الله جل وعلا لا يقبله أبداً؛ لأن العبرة بما انطوى عليه القلب من محبة الله وإجلاله وإعظامه.
وغاية الأمر أن تعلم أنه لا يوجد منزلة أعظم ولا أجل من أن تجلس مجلساً تعظم الرب تبارك وتعالى فيه، فإن فعلت فثق بأن الله جل وعلا سيجعل لك حظاً ونصيباً كبيراً من أمور شتى لا يحسن التفصيل فيها، نسأل الله لنا ولكم من فضله العظيم.(39/18)
حكم التقصير في طاعة رسول الله مع ثبوت محبته في القلب
السؤال
إن من علامات محبة الرسول صلى الله عليه وسلم اتباع أمره واجتناب نهيه، ولكننا نقصر كثيراً في طاعته ونقع في المعاصي، ويعلم الله أننا نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما توجيهكم؟
الجواب
أصل المحبة لا ينافيها مثل هذه المعاصي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لشارب الخمر بأنه يحب الله ورسوله، ولكن اتباع هديه عليه الصلاة والسلام والبعد عن المعاصي من دلائل كمال محبة العبد لنبيه صلى الله عليه وسلم.
وعلى الإنسان أن يكون من الله على وجل، فلا يدري أي الذنوب يكون بسببها حرمانه من الشفاعة، فلذلك يجتنب المعاصي والذنوب كلها، فإذا وقع منه الذنب توجه إلى الله جل وعلا واستغفر وتاب إليه وأناب.(39/19)
أفضل الكتب في أسماء الله وصفاته وزيادة محبته
السؤال
ما هي أفضل الكتب التي تتحدث عن أسماء الله وصفاته وتزيد من حبه جل وعلا؟
الجواب
لا ينبغي أن يتردد أحد في الجواب، بأن أعظم كتاب يعرف بالله هو القرآن، فلا أحد أعلم بالله من الله، والله جل وعلا قد عرف بذاته العلية في كتابه المبين، فمن رزق تدبر القرآن تدبراً حقيقياً ومعرفة المواطن التي أثنى الله جل وعلا فيها على نفسه عرف ما لله جل وعلا من كمال الأسماء وجليل الصفات، ووالله ثم والله إن الإنسان ليقرأ في كتب أخيار وأئمة أجلاء في أسماء الله وصفاته فيزداد من الله قرباً ويعرف شيئاً، ثم إذا طواها وقرأ القرآن بتمعن وما أخبر الله به عن نفسه شعر أنه يرتقي درجات لا يبلغ أن يرقاها بتلك الكتب من الفهم والعلم بالله جل وعلا؛ لأنه لا أحد أعلم بالله من الله.
فيثنى على الله جل وعلا بما أثنى الله به على نفسه وبما سمى به نفسه وبما وصف به نفسه، لقد كان جبريل يتردد على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له عليه الصلاة والسلام: (ما منعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا، فأنزل الله جل وعلا قوله: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} [مريم:64 - 65] ثم ختم الله الآية بقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]).
ومنذ أن مرت عشرة قرون على آدم من زمن بعثة نوح إلى أن تقوم الساعة يوجد كفار يحاربون الله جهاراً عياناً، ولا يوجد طاغوت ولا كافر تسمى باسم الله، ولهذا قال الله لنبيه: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65].
ويقولون: إن سيبويه مؤلف (الكتاب) النحوي المشهور قسم المعرفة إلى ستة أقسام: العلم، واسم الإشارة، والاسم الموصول، والضمائر، والمعرف بأل، والمعرف بالإضافة، وبدأ بالعلم، ثم جعل لفظ الجلالة أعرف المعارف.
فيقولون: إنه لما مات ورئي في المنام قيل له: ما فعل بك ربك؟ فقال: قد غفر لي لأني جعلت اسمه أعرف المعارف.
فلا ريب في أن اسم الله جل وعلا أعظم علم على الإطلاق، بل كما قال ربنا: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65].(39/20)
لا نهاية لصفات الله
السؤال
ما تفسير قول الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27] وهل ذكرت السبعة على وجه المبالغة؟
الجواب
هذه الآية من خواتيم سورة لقمان، ونظيرها في القرآن قول الله جل وعلا في آخر الكهف: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:109].
وتفسير هاتين الآيتين مرتبط بعضه ببعض، وجملة معناهما أن كلمات الله جل وعلا صفة من صفاته، وأما البحر والأقلام فخلق من خلقه، والمعنى: أن كلمات الله جل وعلا وصفة من صفاته تبارك وتعالى لا يمكن أن تكون محدودة بالقلم والحبر؛ لأن القلم والحبر مخلوقان، فلا يمكن أن ينتهي كلام الله بنهايتهما، ولكن المخلوق له نفاد.
فالبحر المقصود في الآية اسم جنس، وأما قول الله جل وعلا: {سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} [لقمان:27] في آية لقمان فالمقصود به منتهى العدد، فالعرب كانت تجعل السبعة نموذجاً لنهاية العدد، والمقصود من الآيتين: أن كلام الله جل وعلا لا نهاية له، وأن الله جل وعلا لم يزل يتكلم بما شاء إذا شاء.
وأما البحر فهو مخلوق سينتهي يوماً، والأقلام المقصودة التي تؤخذ من الأشجار ستنتهي يوماً، ولو كانت تلك الأشجار عديدة أو كان ذلك البحر مديداً، والعلم عند الله.(39/21)
نصيحة للمتعرض للفتن
السؤال
أنا شاب ملتزم منذ سنتين تقريباً، وفي الفترة الأخيرة تعرضت لفتن وضعف فيَّ الإيمان، فأرجو أن تدعو الله لي، وأن تنصحني وأمثالي؟
الجواب
الأفضل أن يدعو الإنسان لنفسه، وأن يتقرب إلى الله جل وعلا بعمل صالح وبدعاء خير من أن يطلب من الناس أن يدعوا له.
وأما النصيحة فإنه -يا أخي- لا يوجد لذة أعظم من لذة الإيمان والقرب من الله والاستقامة على هديه، ومن وجد هذه اللذة فلا يحسن له أن يبدلها بما هو أدنى منها، فتفقد نفسك وابحث عن السبب الذي جعلك تحرم من هذه اللذة، ومن كان له والدان فليعلم أن من أعظم ما يعينه على الثبات بره بوالديه.(39/22)
دور المرأة في نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم
السؤال
ما دورنا النساء في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
إن حضور النساء المحاضرات وترددهن على بيوت الله من المناقب الحميدة في عصرنا، رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاتها في بيتها خير لها) لأنه يكثر في هذا الزمان تردد كثير من النساء على مواطن الفتن كالأسواق، خاصة عندما لا تكون لها حاجة، أو ترددها على بعض الأماكن غير المحمودة، كالأماكن التي يختلط فيها الرجال والنساء.
فإذا وجد نساء من أمهاتنا وأخواتنا وخالاتنا وعماتنا وغيرهن يترددن على المساجد فإنه يحسن بنا أن نأخذ بأيديهن إلى الخير، وأن نسأل لهن الله التوفيق والسداد.
وأما دور المرأة في النصرة فهو أن تغرس حب النبي صلى الله عليه وسلم في قلوب أبنائها، وأن تربط تصرفاتها بتصرفات النبي عليه الصلاة والسلام فيما تقتدي به المرأة بنبيها، وتخبر بأن هذا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فتضع المرأة يدها على رأس ابنها أو ابنتها وهي خارجة إلى المدرسة تعوذها قائلة: أعيذك بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة.
وتخبر الأم ابنتها بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضع يده على رأس الحسن والحسين ويقول هذه الكلمات، وأمثال ذلك من غرس الهدي النبوي القويم في صدور الأبناء والبنات.(39/23)
الأسباب المعينة على قيام الليل
السؤال
ما الأسباب المعينة على قيام الليل؟ فإني أحاول كثيراً أن أقوم الليل قبل الفجر فأقوم أحياناً ولا أقوم كثيراً؟
الجواب
كلنا يشكو إلى الله جل وعلا هذا الأمر، والله المستعان، إلا أن مما يعين على قيام الليل أن الإنسان إذا أصبح ولم يكن قد قام تلك الليلة يستحيي من ربه جل وعلا أن يغدو ويروح وهو في ليلته كلها التي فاتت لم يقم فيها لخالقه ومولاه، والله جل وعلا قد قال لنبيه: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6] ثم قال له: {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} [المزمل:7] فليس لك عذر، فإن كان لديك مشاغل ومهمات وطلب معيشة ففي النهار، وأما الليل فاجعله لربك.
والإنسان في الدنيا في النهار يكد لنفسه ولذويه، وأما الليل فحق لرب الأرباب جل جلاله، فتصلي فيه ولو ثلاث ركعات تقف فيها بين يدي الله تسأله وترجوه وتحمده وتثني عليه وتدعوه، إنا لله وإنا إليه راجعون.(39/24)
حكم التضحية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
السؤال
ذكرت أن من شفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته أنه ضحى عمن لم يضح عن أمته، فهل يؤخذ من ذلك أنه يشرع لنا أن نضحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأننا نحبه؟
الجواب
لم يقل بهذا أحد من أهل العلم، فليس من الفقه أن يأتي الإنسان إلى مسألة أجمع الناس عليها ثم يحاول أن يخرم ذلك الإجماع.
والكمال كل الكمال في اتباع ما كان عليه سلف الأمة، فلا نعلم أنه نقل عن أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي أو عن غيرهم من الأجلاء من الصحابة أنهم ضحوا عن رسولهم صلى الله عليه وسلم مع قدرتهم على ذلك وهم أحب له منا وأعظم اتباعاً منا.(39/25)
نظرة في شارات نصرة رسول الله رداً على الدنمركيين
السؤال
بعض الناس يضع على سيارته الملصقات التي تحمل العبارات الآتية: (إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم)، (فداك أبي وأمي) وغيرها من العبارات التي انتشرت في هذه الأيام؛ فهل في هذا الأمر توجيه؟
الجواب
هذا أمر محمود لا بأس به، ولكنني أعترض على عبارة: (إلا رسول الله)، كما قلت في قناة المجد، فالعبارة غير صحيحة، فأنت عندما تقول: (لا إله إلا الله) يفهم منها أنه لا يعبد أحد إلا الله، وهذا حق، فأي معبود غير الله باطل، لكن عندما تقول: (إلا رسول الله)، فإنه يصبح المعنى أنه يجوز لهؤلاء الدنمركيين أن يتعرضوا لفلان ويتعرضوا لفلان ويتعرضوا لأي شيء غير رسول الله، وهذا غير مقبول.
نعم هي من حيث اللغة العامية سائغة، حيث يقال في العامية: إلا فلان، ولكن في اللغة الفصحى لا ينبغي أن يقال: (إلا رسول الله)، وإنما يدافع عنه صلى الله عليه وسلم بعبارات أخرى، وهي مشكلة منتشرة في بعض القنوات وبعض المواقع في الإنترنت.(39/26)
حمق الدنمركيين في استهزائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم
السؤال
ما هو دور الشاب الملتزم وغير الملتزم في الحملة الشرسة ضد الإسلام ونبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، سواء مع نفسه أو مع أهله أو مع أقاربه؟
الجواب
الله يقول: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19] وقال: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11] فهؤلاء أشباه بقر، فلم يضر رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء مما قالوه، ومن ناحية دنيوية محضة يدل هذا التصرف -بصرف النظر عن كونه حراماً- على أنه ليس عندهم عقول؛ لأنهم بفعلهم هذا جمعوا أعداءهم الذين هم المسلمون، وانظر إلى اليهود، فإننا نحاربهم منذ عام (1948م) وإلى اليوم ما تعرض اليهود لشخص النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يدركون أبعاد السياسة.
فهؤلاء حمقى، فكل أموالهم وتجارتهم في أرضنا، وليس بيننا وبينهم حرب، فتركوا هذا كله وأتوا لنبينا صلى الله عليه وسلم وتعرضوا له، وكان بإمكان حكومتهم من أول الأمر أن تعتذر اعتذاراً رسمياً فينتهي الموضوع، ولكن لأمر قدره الله اجتمعت الأمة كلها، فيخرج في جاكرتا وفي إندونيسيا وفي تركيا قوم ليسوا عرباً، ولا يجمعهم بالنبي صلى الله عليه وسلم نسب، ويرفعون الشعارات التي تعادي من يعادي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يعلم الناس أنه لا يوجد رابطة ولا سبب أعظم من رابطة العقيدة.
فأنت حين تصلي على طفل ميت تقول في دعائك: وألحقه بكفالة أبيه إبراهيم في الصالحين، فكل طفل مسلم يموت دون البلوغ إلى قيام الساعة في كفالة إبراهيم عليه السلام، مع أن إبراهيم ليس جده ولا أباه، ووالد إبراهيم -وهو آزر - لا ينتفع بأي شيء من إبراهيم، فما الذي ربط بين إبراهيم وهؤلاء الأبناء وفصل بين إبراهيم وأبيه؟ إنه الإيمان، فالعلاقة بين إبراهيم وأبناء المسلمين علاقة أخوة في الدين، ولا توجد علاقة بين إبراهيم وأبيه آزر.
فهذه الحملة التي فعلها هؤلاء الدنمركيون بينت للناس عموماً أنه لا يوجد رابطة أعظم من رابطة العقيدة، والذي يتأمل بوجه إنصاف سيجد أن الأمة قلما اجتمعت على شيء من مائة سنة كاجتماعها على نصرة نبيها صلى الله عليه وسلم في هذا الموطن، نسأل الله أن ينصر دينه وكتابه وعباده الصالحين.(39/27)
كان خلقه القرآن
في القرآن الكريم عظات وعبر بثها الله تعالى في آياته وسوره، ومن ذلك ما فرقه تعالى في سورة غافر بذكر بعض صفاته تعالى في فاتحتها، وذكر حال حملة العرش في تسبيحهم لربهم واستغفارهم للمؤمنين، وذكر حال الكافرين يوم القيامة، وذكر خبر مؤمن آل فرعون في وسطها.
ومن ذلك ما ذكره تعالى في سورة الأعراف من الدعوة إلى العفو والصفح والإعراض عن الجاهلين، والبعد عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
ومنه أيضاً ما ذكره تعالى في سورة طه من الأمر بسؤال الزيادة من العلم، وكل ذلك فيه زاد للمؤمنين.(40/1)
ذكر أوصاف خَلْق رسول الله صلى الله عليه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى، وقدر فهدى وأخرج المرعى، فجعله غثاءً أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فما عسى أن يقول عبد مثلي عن رسول الله وقد شرح الله له صدره ورفع له ذكره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره.
أيها المسلم! نخاطبك في هذه الكلمات ونحن نحاول أن نعرج فيها على مفهوم بعض الآيات من كتاب الله الكريم الذي جعله الله جل وعلا حجةً على المعاندين، ورحمةً للعالمين، وهدى ونوراً لمن سلك الصراط المستقيم، أنزله الله جل وعلا على خير خلقه محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا حديث عن النبي وحديث عن القرآن الذي أنزل على هذا النبي، حديث عن رسول الهدى ونبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه.
أما هيئته الخلقية فقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم ربعةً من القوم، لا بالطويل البائن ولا بالقصير الممتهن، كما كان عليه الصلاة والسلام سبط الشعر، ليس شعره بالمسترسل ولا بالملتوي، في جبهته عرق يجره الغضب، فإذا غضب صلى الله عليه وسلم في ذات الله امتلأ هذا العرق دماً.
أزج الحواجب في غير قرن، طويل أشفار العينين، أشم الأنف، كث اللحية، والشيب فيه ندرة، إلا في صدغيه الأيمن والأيسر، وأكثر شيبه في عنفقته أسفل شفته السفلى صلوات الله وسلامه عليه.
كأن عنقه أبريق فضة، بعيد ما بين المنكبين، ومن بين كتفيه من الخلف شعيرات سود اجتمعن بعضهن إلى بعض فعرفن بخاتم النبوة كأنه بيضة حمامة.
ومن وهبة صدره إلى أسفل سرته خيط ممتد، ليس في صدره ولا في بطنه شعر غيره؛ ولهذا عبر عنه أهل السير بأنه دقيق المشربة، سواء الصدر والبطن، إذا أشار أشار بيده كلها، وإذا تعجب من شيء قلب كفيه، وإذا تعجب -كما عند البخاري في الأدب المفرد- عض على شفتيه صلوات الله وسلامه عليه.(40/2)
من الميلاد إلى البعثة
ولد عليه الصلاة والسلام بعد أن مات أبوه وهو حمل في بطن أمه، فتعلق بأمه، فما أن تعلق بتلك الأم وبلغ من العمر ست سنين حتى توفيت تلك الأم؛ ليتعلق صلى الله عليه وسلم -شأنه شأن أي يتيم الأبوين- بجده، لكن ذلك الجد لم يمكث راعياً إلا سنتين أخريين، فمات فكفله عمه أبو طالب، ثم من الله جل وعلا عليه على رأس الأربعين بأن ختم به النبوات، وأتم به الرسالات، فقال له جل وعلا: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5].
ولم يكلفه ببعثة ولا برسالة، ثم أنزل عليه بعد أن رجع إلى دار خديجة متزملاً في ثيابه يقول: (دثروني دثروني) أنزل الله عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2] وقال له: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] فأنذر عشيرته الأقربين، ثم توالى التكليف: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى:7] فأنذر أم القرى ومن حولها، فزاد التكليف: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ:28] صلوات الله وسلامه عليه.
الحديث عنه يجول ويحول وإن كان مكرراً، فيؤثر في النفوس وإن كان معروفاً، وليس المتحدث عنه يستطيع أن يقول شيئاً جديداً، ولكنه يستطيع أن يحيي قلوباً ميتة بسيرته العطرة وأيامه النضرة صلوات الله وسلامه عليه.
والقرآن أعظم ما من الله به على نبينا صلى الله عليه وسلم.
جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيم غير منصرم آياته كلما طال المدى جدد يزينهن جلال العتق والقدم أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم صلوات الله وسلامه عليه.(40/3)
تأملات قرآنية في سورة غافر(40/4)
تدبر في فاتحة سورة غافر
ولذلك نرى أن تدبر القرآن هو أعظم شيء، على معنى قول عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (كان خلقه القرآن) صلوات الله وسلامه عليه.
وما عمل أحد بالقرآن ولا فقه القرآن مثل نبينا صلوات الله وسلامه عليه، ولما تمثل القرآن عليه الصلاة والسلام كان أشجع الناس قائداً وأفضلهم زوجاً وأكرمهم أباً ووالداً، كما كان صلى الله عليه وسلم أصدق الناس وفاءً وأحسنهم جيرة، وهو مع ذلك كله كان أحسن من يقف في المحراب بين يدي الله، وأفضل من يقف في فلق الأسحار يستغفر ربه ويدعوه ويرجوه، ويسأله جل وعلا، ويقف بين يدي ربه، يقيم الليل ويحييه بما أنزل الله عليه من القرآن.
وهذه وقفات وعظات بما أنزل الله تبارك وتعالى على نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فقد قال الله جل وعلا له في صدر سورة غافر -وهي أولى الحواميم، والحواميم سبع سور في القرآن متتابعات تبدأ بغافر وتنتهي بالأحقاف- قال الله له في تلك السورة الكريمة: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:1 - 3].
فالقرآن أعظم ما أنزله الله، والنزول في القرآن ورد مطلقاً وورد مقيداً، فورد مطلقاً فلا يذكر الله جل وعلا المصدر الذي أنزل منه، وأحياناً يرد مقيداً بأن الله يذكر المصدر الذي أنزل منه، ولم يورد الله نزولاً في القرآن منسوباً إلى ذاته العلية إلا كلامه، حيث قال تعالى: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:1 - 2] {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:192 - 193]، {تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:2].
وليس في القرآن شيء أخبر الله عنه أنه منزل من عنده ونسبه إلى ذاته العلية إلا القرآن، أما غير ذلك فقد أنزل الله الماء من السماء والملائكة من السماء، وقال جل ذكره: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [البقرة:59]، أما القرآن فقد نزل به جبريل من عند الرب تبارك وتعالى على قلب محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول تعالى: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:1 - 2]، ثم توالت الآيات تبين بعض صفات رب العزة والجلال سبحانه وتعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر:3].
قوله: (ذِي الطَّوْلِ) أي: ذي المنة و (غَافِرِ الذَّنْبِ) أي: يغفر الذنوب، وهاتان صفتا رحمة توسطتهما صفة شدة وانتقام للرب تبارك وتعالى، حيث قال سبحانه: (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ).
بهذه الآيات يخوف الله جل وعلا عباده، ويحيي تبارك وتعالى قلوب وأنفس المؤمنين، وقد فقه صلى الله عليه وسلم كل ذلك، فلما أنزل الله عليه جل وعلا قوله: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1 - 2] كان صلى الله عليه وسلم في حجرات أمهات المؤمنين الملاصقة لشرقي المسجد فيهن أنس يغدو ويروح بحوائجه، وفيهن أمهات المؤمنين، كل واحدة منهن لها حجرة، تخل تلك الحجرات من موضع سجود له عليه الصلاة والسلام، فشهدت بسجوده وقيامه بين يدي ربه تبارك وتعالى.
لما أتتك قم الليل استجبت لها تنام عينك أما القلب لم ينمِ الليل تسهره بالوحي تعمره وشيبتك بهود آية استقمِ يا ليتني كنت فرداً من صحابته أو خادماً عنده من أصغر الخدمِ(40/5)
تدبر في إخباره تعالى عن تسبيح حملة العرش ومن حوله واستغفارهم للمؤمنين
قال الله جل وعلا في سورة غافر: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7].
العرش سقف المخلوقات، والله جل وعلا مستو عليه استواءً يليق بجلاله وعظمته، ومع استواء الله جل وعلا على العرش فإن للعرش حملة يحملونه، قال سبحانه: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) فهذه طائفة، ثم قال: (وَمَنْ حَوْلَهُ) الواو للعطف، والعطف يقتضي المغايرة، أي أن من حول العرش غير حملة العرش، فحملة العرش يحملون العرش، ومن حول العرش يطوفون حول العرش، وكلهم مخلوقون عبيد مقهورون لرب العالمين جل جلاله يسبحون بحمده ويكثرون من ذكره، قال الله عنهم: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) عظم علمهم بالله فعظم فرقهم من الرب تبارك وتعالى، وعظم إجلالهم له جل وعلا، عرفوا ربهم فخافوا منه.
والعبد كلما كان بالله أعرف كان له أتقى ومنه أخوف، قال صلى الله عليه وسلم: (مررت ليلة أسري بي وجبريل كالحلس البالي من خشية الله) وهو -صلى الله عليه وسلم- يقول: (أما إني أعلمكم بالله وأشدكم لله خشية) فما دام عليه الصلاة والسلام أعلم الخلق بالله فهو -صلوات الله وسلامه عليه- أشد الخلق لله خشية.
يقول سبحانه: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ).
نقول كما قال الله: إن الله تعالى مستغن عن حملة العرش ومن حول العرش والعرش، وحملة العرش وسائر الخلق فقراء كل الفقر إلى الرب تبارك وتعالى، والله جل وعلا وحده له الكبرياء، فكتب على عباده أن يسجدوا له، والسجود أعظم ذلة من حيث الموطن والموقع، وكلما ذل الإنسان لربه وعرف أنه ما من نعمة إلا والله وليها، ولا من نقمة إلا والله قادر على أن يرفعها، كلما علم أن الله وحده، وأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، وكلما تيقن أن الله يخلق ويرزق ويعطي ويمنع ويخفض ويرفع، وأنه لا يستحق أن يعبد أحد بحق إلا هو سبحانه، وأن الله جل وعلا وحده له رداء العزة والكبرياء، وأنه لا يطلب شيء إلا بالله، ولا تدفع نقمة إلا بالله، ولا ينال مرغوب إلا به سبحانه وتعالى، كلما تيقن بذلك دل ذلك على علمه بربه تبارك وتعالى.
وهو الذي فيه وعليه قضى أنبياء الله حياتهم صلوات وسلامه عليهم أجمعين، قال نوح: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح:13 - 14]، وقال الله تعالى لآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15]، {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].(40/6)
الملائكة وأعمالهم
ثم بين جل وعلا في هذه الآية أن هؤلاء الملائكة يحملون العرش، وما حملة العرش إلا طائفة من الملائكة، والملائكة خلق من خلق الله، خلقهم الله جل وعلا من نور، ليسوا شركاء لله ولا أنداداً، ولا بنات لله ولا أولاداً، إنما هم عبيد من عباده وخلق من خلقه، يأتمرون بأمره ويقفون عند نهيه، {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
فمنهم من أوكل الله جل وعلا إليه إنزال الوحي، وهو جبريل، ومنهم من أوكل الله جل وعلا إليه جريان السحاب وتقسيم الأمطار على الأقطار، وهو ميكال، ومنهم من أوكل الله إليه النفخ في الصور، وهو إسرافيل، ومنهم من أوكل الله إليه قبض الأرواح، وهو ملك الموت، وغيرهم آخرون كثر، قال الله جل وعلا عنهم: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31].
ومنازلهم الأولى هي السماء، وعبادتهم التي لا يفترون عنها أنهم يقولون: سبحان وبحمده سبحان العظيم، وجاء في بعض الآثار أن منهم من هو ساجد لله منذ أن خلقه الله، ومنهم من هو راكع لله منذ أن خلقه الله، فإذا كان يوم القيامة يقبضون على هذه الهيئة ويحيون على هذه الهيئة، فإذا رفعوا رءوسهم رأوا وجه ربهم تبارك وتعالى فيقولون عند رؤية وجه العلي الأعلى: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك.(40/7)
فضل الإيمان والفرق بينه وبين الكفر
قال سبحانه يبين لنا فضل الإيمان: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7]، فإذا كنت في بيت من بيوت الله؛ فقد أردت ما عند الله من الأجر، وعقدت أناملك بالتسبيح، ولهج لسانك بذكر الله، ودخل الإيمان في قلبك، وكل ذلك بفضل الله، فتستغفر لك ملائكة السماء، ويستغفر لك حملة العرش، فالإيمان جمع بينك وبين سكان السماوات العلى، والكفر يفرق بينك وبين أقرب الناس إليك، قال الله جل وعلا عن نوح في شأن ابنه: {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود:45 - 46].
وقد كان الخليل على كرامة عظيمة من الله، فقال لأبيه: {سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47] فالخليل إبراهيم له المنزلة العالية والاحتفاء العظيم في الملكوت الأعلى، ومع ذلك لما كان أبوه كافراً لم تنشأ علاقة نفع بينهما، بينما ينتفع صغار المسلمين الموتى إلى قيام الساعة بكفالة إبراهيم لهم، فنقول في دعائنا للأموات الصغار: اللهم ألحقهم بكفالة أبيهم إبراهيم في الصالحين، فينتفع هؤلاء الصغار بكفالة أبيهم إبراهيم ولا ينتفع به أبوه.
فالإيمان جمع بيننا ونحن في الأرض مع ملائكة السماء وهم في السماوات العلى.
والكفر -عياذاً بالله- يفرق بين المرء وأي كافر آخر، حتى يعلم أنه لا وشائج ولا صلة تربط بين الناس أعظم من رابطة الإيمان.(40/8)
ثقل الذنوب وفضل الاستغفار
قال سبحانه: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} [غافر:7].
إن الإنسان لا يحمل فوق ظهره شيئاً أنكأ ولا أعظم من حمل الذنوب، قال الله جل وعلا: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} [نوح:25] وقال جل وعلا: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت:38]، {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40].
فما تقرب أحد إلى الله بشيء بعد توحيده أعظم من استغفاره جل وعلا، وملائكة السماء وحملة العرش على وجه الخصوص ومن حول العرش يستغفرون لكل مؤمن ومؤمنة، فأسأل الله جل وعلا أن نكون ممن تنالهم بركة ذلكم الاستغفار.(40/9)
تمام فرحة المؤمن وقراره وبهجته في الجنة
قال تعالى: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [غافر:7 - 8].
إن عين المؤمن تقر إذا أمسى ثاوياً إلى أهله والتف حوله والداه وزوجته وبنوه وبناته، وحق له أن تقر عينه بهذا، ولهذا يجد المغتربون من الناس كمداً في صدروهم إذا أووا إلى منازلهم ولم يلتقوا بأهليهم، ويسألون الله أن يطوي عنهم أيام الغربة، ولكن القرار الحق، والفرح الكامل، والبهجة التامة يوم أن يلتقي المؤمن بوالديه وزوجته وأبنائه وبناته في جنات النعيم، قال الله تعالى عن الملائكة: {وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [غافر:8] ولن يقدم أحدنا لوالديه أو لولده من بعده شيئاً ذخراً أعظم من العمل الصالح؛ فإن العبد إذا كان صالحاً نفع الله بصلاحه والديه وذريته من بعده، وربما جعله الله جل وعلا ممن يشفعون في عرصات يوم القيامة.
وهذا أمر مستقل شرعاً له أدلته الظاهرة في الكتاب الله والسنة، وإنما نذكره هنا إيماناً، فنسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم من أهل ذلك النعيم.(40/10)
تدبر في حال أهل النار
ثم قال الله جل وعلا في هذه السورة المباركة يحدث عن أهل النار، وهي الخزي الأعظم والخسران الأكبر: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ * ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:11 - 12].
قول أهل النار: (رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ) أي: موتة ونحن أجنة في بطون أمهاتنا، فنفخت فينا الروح، والموتة الثانية يوم قبض الأرواح، وهي الموتة المكتوبة على كل أحد.
(وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) الحياة الأولى عندما نفخت فينا الروح في بطون أمهاتنا، وهي حياة الدنيا، والحياة الأخرى: يوم بعثهم الله جل وعلا من مرقدهم، كما قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس:51 - 52] فإذا اعترفوا بهذا يقولون: (فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) أي: خروج من النار وعودة إلى الدنيا علهم يتقون.
قال الله جل وعلا: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28] فإذا قالوا ذلك ذكرهم الله جل وعلا بأعظم معصية لهم، ألا وهي الإشراك بالله، وأن نفوسهم -والعياذ بالله- كانت تبتهج وتفرح إذا ذكر مع الله غيره، وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة، فمن أراد أن يعرف قربه من الله فلير كيف حاله إذا ذكر الله جل وعلا وحده، اللهم إنا نجأر إليك أن تعيذنا من أن تقر أعيننا أو تطمئن قلوبنا إلى أحد غيرك.
قال الله: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر:12].(40/11)
تدبر في بعض آيات الله الدالة على صفات كبريائه
ثم بين الله جل وعلا بعضاً من آياته الدالة على ما له جل وعلا من صفات الكبرياء، فقال سبحانه: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ * هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ * فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} [غافر:12 - 15].(40/12)
تدبر في قصة مؤمن آل فرعون وحياة يوسف عليه السلام
وفي هذه السورة ذكر الله جل وعلا قول مؤمن آل فرعون، ومن ذلك: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} [غافر:34].
فالحديث هنا عن مؤمن آل فرعون، وهو رجل من آل فرعون كما نص الله، وذهب بعض العلماء إلى أنه من بني إسرائيل، وهذا بعيد؛ لأنه مخالف لظاهر الآية.
ولئن كانت الوقفتان السابقتان وقفتين إيمانيتين، فإن هذه وقفة تاريخية، فالله جل وعلا يخلق ما يشاء ويختار، ويحكم ويفعل في عباده ما يريد.
فيوسف عليه الصلاة والسلام نشأ أخاً لأحد عشر أخاً غيره من أبناء يعقوب بن إسحاق بن الخليل إبراهيم.
وحظي يوسف عليه الصلاة والسلام بالقرب من أبيه، فتآمر عليه إخوته، وأقنعوا أباهم بأن يذهبوا به ليلعب معهم ويرتع، ثم ألقي يوسف في غيابة الجب، فأوحى الله جل وعلا إليه: {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [يوسف:15].
وعاد الأبناء إلى أبيهم يقولون: {إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17]، فأخذ الأب المكلوم ينظر في القميص فلم ير فيه تغيراً، فيقول: أي ذئب عاقل هذا أكل ابني وترك قميصه؟! لكن الله جل وعلا ألهم يعقوب الصبر فقال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18].
ثم أخرج يوسف وبيع بدراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين، فآواه عزيز مصر، وأدخله داره، وقال لزوجته: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [يوسف:21].
وأراد الله بهذا التمكين ليوسف خلاف الذي أرداه له إخوته، فقد أراد له إخوته أن يعيش مشرداً ضائعاً في غيابة الجب، فأراد الله جل وعلا أن يحيا يوسف في القصور، ففتنت به امرأة العزيز، ولكن يوسف عليه السلام كان خائفاً من ربه، وفياً مع سيده زوج المرأة، قال الله جل وعلا: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف:25] أي: الزوج، فبادرت تقول: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:25] فدافع عن نفسه، فأُغلقت القضية بقوله: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} [يوسف:29].
فوضع يوسف في السجن، وتغيرت الأحداث، وتغير الأشخاص الذين ظهروا على مطلع الحياة آنذاك، ولكن الذي لم يتغير هو اعتقاد يوسف بربه جل وعلا، فصلاح يوسف لم يتغير، وإنما ازداد إيمانه، فيوسف التقي عند أبيه هو التقي في غيابة الجب، ويوسف التقي في غيابة الجب هو التقي في القصر، ويوسف التقي في القصر هو التقي في السجن.
قال الله جل وعلا عن فتيين مبيناً تأثير هذا النبي الكريم على من حوله بخلقه وكريم صفاته: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36] فهو نبي ابن نبي ابن نبي ابن خليل الله، ولا يعرف الأنبياء شيئاً أعظم من توحيد الله، فأخذ يقرر عليهم التوحيد ويمليه عليهم، فقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:39 - 40].
ويقدر الله أن يرى الملك الرؤيا، وتمر أحداث ليس هذا مقام تفصيلها، ويصير يوسف عزيز مصر يمكن في الأرض ويجعل على خزائن الأرض.
وفي أرض كنعان أرض فلسطين يشعر يعقوب وأبناؤه بحاجة إلى القوت، ويسمعون عن ملك بأرض مصر، فيبعثون له العطايا، ويخرج الإخوة فيلتقون بيوسف، فيعرفهم ولا يعرفونه، ويعرض عليهم أن يأتوا إليه بأخ لهم من أبيهم، فتارة يرغبهم فيقول: {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} [يوسف:59] وتارة يرهبهم: {فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلا تَقْرَبُونِ} [يوسف:60].
ثم ينتج عن ذلك أن يأخذ أخاه، ويبقى الأخ الأكبر، ويرجع بقية الإخوة إلى أبيهم يخبرونه الخبر: بالأمس فجعناك بيوسف واليوم نفجعك بأخيه بنيامين، فيقول ذلك النبي الصالح والعبد المكلوم يقول كما علمه الله: {إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:86] والأخذ والتوكل على الملك الغلاب لا ينافي الأخذ بالأسباب، فقال: {يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} [يوسف:87]، وفي آخر الأمر يدخل يعقوب أرض مصر ومعه أبناؤه، فيخرون سجداً ليوسف سجود تحية لا سجود عبادة.
فهذا الذي أراده مؤمن آل فرعون عندما قال: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر:34]، فدل هذا على أن يوسف كان رسولاً نبياً بنص القرآن إلى فرعون الذي كان يحكم آنذاك في أيام حياة يوسف عليه الصلاة والسلام في أرض مصر.
وقد دخل يعقوب عليه السلام بأهله أرض مصر وما كان يتجاوز عددهم أربعة عشر رجلاً وامرأة، فبارك الله في هذه الذرية، فلما خرج موسى ببني إسرائيل من أرض مصر كان عددهم يزيد على ستمائة ألف، وكلهم مما وضعه الله جل وعلا من البركة لنبي الله جل وعلا يعقوب.
فهذا المؤمن يخوف آل فرعون بقوله: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} [غافر:34].
أثنى الله جل وعلا على هذا المؤمن بأنه ذكر الله جل وعلا في مجلس كله كفر، والعبد يعظم عند الله إذا كان يسعى إلى أن يحبب الله جل وعلا عند خلقه، ولم يأت الأنبياء برسالة أعظم من أن يعرفوا العباد بربهم تبارك وتعالى.
فاحرص -يا أخي- على أن يكون أعظم همك أن تبين للناس ما لربهم جل وعلا من صفات الجلال ونعوت الكمال، وأنه وحده المستحق للعبادة الكبير المتعال.
وهذا الأمر يتفاوت بحسب قدرة الخطيب على منبره، والإمام في محرابه، والمعلم في مدرسته، والمرأة في بيتها، والإداري في وظيفته، وكل بحسبه، ولكن علينا أن يكون همنا أن يعرف الله جل وعلا، وأن يعظم وأن يعبد تبارك وتعالى وحده، والطرائق في هذا تختلف؛ لأن الناس يختلفون من بيئة إلى بيئة ومن جيل إلى جيل، ومن مقام إلى مقام، والمقصود الأسمى من هذا كله أن يكون همنا الأعظم الدعوة إلى الرب تبارك وتعالى كما حكى الله عن هذا المؤمن الصالح.(40/13)
تدبر في قوله تعالى: (هو الحي لا إله إلا هو فادعوه)
قال الله جل وعلا في هذه السورة المباركة أيضاً: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر:65].
الحياة صفة ذاتية لربنا جل وعلا، والحي اسم من أسمائه الحسنى، وهنا يقال: إن صفة الحياة لأي مخلوق يسبقها عدم ويلحقها زوال، أما ربنا تبارك وتعالى فلم يسبق حياته عدم ولا يلحقها زوال.
وعلم أي أحد علم يسبقه جهل ويلحقه نسيان، وأما علم الرب تبارك وتعال فعلم لم يسبقه جهل ولا يلحقه نسيان، كما قال تعالى: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:51 - 52] أي: لا يجهل ربي ولا ينسى.
وهذا الثناء على الله جل وعلا بأنه الحي الذي لا إله إلا هو يجعل المؤمن يتوكل على الله جل وعلا حق التوكل؛ لأن كل من ألقيت متاعك أو رحلك عنده رجاء أن يعينك رجاءً تاماً كاملاً لا تخرمه فإنه قد يموت دون أن يقضي أمرك، أما الله جل وعلا فإنه حي لا يموت، ولهذا لا يصدق التوكل الحقيقي إلا على الرب تبارك وتعالى.
ولكن ينبغي أن يفهم من القرآن أن الله جل وعلا كما أمرنا بأن نتوكل عليه وحده أمرنا جل وعلا بأن نأخذ بالأسباب، كما حكى الله جل وعلا عن نبيه يعقوب أنه قال لبنيه: {اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} [يوسف:87].
وأوضح منها برهاناً أن الله جل وعلا ذكر قصة خبر أم موسى، وأن الله جل وعلا أوحى إليها: {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7] فهذا وعد من الله لها يوم أن ألقت ابنها في اليم.
كأم موسى على اسم الله تحمله وباسمه أخذت في النيل تلقينا نقول: مع ذلك أخذت هذه المرأة الصالحة أم موسى بالأسباب، قال الله عنها: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [القصص:11]، فبعثت أخت موسى تسأل عن موسى وتقتص أخباره حتى وصل بها الأمر إلى أن عرفت موضعه، فكانت سبباً بعون الله في أنه آب ورجع إلى أمه؛ ليتحقق بذلك وعد الله جل وعلا، وإذا أراد الله جل وعلا شيئاً هيأ أسبابه.(40/14)
تدبر في آية الأمر بأخذ العفو والإعراض عن الجاهلين
ومن آيات القرآن الكريم قول الله جل وعلا: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199].
إن من أعظم أخلاق المؤمنين التي تمثلها نبينا صلى الله عليه وسلم أخذه صلوات الله وسلامه عليه بالعفو امتثالاً لأمر ربه، والعفو -أيها المؤمن- من صفة الكرام، كما أن الظلم -عياذاً بالله- من أعظم ما يسبب للعبد سوء الخاتمة، والعفو عن الناس من أعظم ما يقرب به العبد إلى ربه جل وعلا.
فقد ورد أن أبا سفيان بن الحارث الذي كان ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد خمسة يشبهون النبي عليه الصلاة والسلام، وهم: الحسن والحسين وقثم والفضل وأبو سفيان بن الحارث ابن عمه وأخوه من الرضاعة -ورد عنه أنه كان يباري فيقذع في هجاءه للنبي عليه الصلاة والسلام، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، وهو الذي رد عليه حسان بقوله: فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء وورد أن أبا سفيان لما أراد أن يدخل في الدين وقد أهدر النبي دمه خشي أن لا يعفو عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى إحدى أمهات المؤمنين يستشيرها، فقالت له: ائته وقل له: تالله لقد آثرك الله علي وإن كنت لمن الخاطئين، كما قال إخوة يوسف ليوسف؛ فإن نبي الله لا يحب أن يكون أحد أحسن منه بالخير، فجاء أبو سفيان فقالها، فقال صلى الله عليه وسلم: (يغفر الله لي وله فهو أرحم الراحمين) وعفا عنه، ثم أسلم وحسن إسلامه، وكان له بلاء عظيم في يوم حنين كما دونته كتب السيرة مما هو معروف في موضعه.
والذي يعنينا من ذلك عفوه صلى الله عليه وسلم عن هذا، وعفوه عن قريش من قبل يوم أن قال لهم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) ولم ينتقم صلى الله عليه وسلم لنفسه قط، وعلى النقيض من ذلك أخبر صلى الله عليه وسلم بأن الله جل وعلا حرم الظلم على نفسه، وجعله بين العباد محرماً.(40/15)
ذكر بعض أسباب قسوة القلوب
ومن أعظم أسباب قسوة القلوب: ظلم المؤمن لأخيه المؤمن، كظلمه لزوجته، وظلمه لأولاده، وظلمه لأبويه -وهذا من أعظم الظلم- وظلمه لجيرانه، وظلمه لعامة المؤمنين، وظلمه للولاة، وظلمه للعلماء وقدحه فيهم وتنقيصهم، وكل ذلك ما لم يأذن الله جل وعلا به.
وأعظم من ذلك: أن يتسلط أحد على أحد بعينه يريد أن يسفك دمه، أو يهتك عرضه، أو يأخذ ماله، فإن هذا من أعظم أسباب سوء الخاتمة.
روى البخاري في التاريخ الكبير بسنده إلى محمد بن سيرين أن محمداً رحمه الله قال: كنت عند الكعبة فرأيت رجلاً يدعو يقول: اللهم اغفر لي وإن كنت أظن أنك لن تغفر لي.
فقال له محمد: يا هذا! ما سمعت أحداً يدعو بمثل دعاءك! فقال: يا ابن سيرين! إنك لا تدري ما خبري، إنني كنت قد أعطيت الله عهداً أنني إذا لقيت عثمان بن عفان أن ألطم وجهه ولحيته، فلما قتل عثمان فوضع على سريره ليصلي الناس عليه في بيته دخلت عليه فيمن دخل كأني أريد الصلاة عليه حتى وجدت خلوة، فلما وجدت خلوة رفعت عن كفنه وغطائه فلطمته على وجهه ولحيته وهو ميت، فما رفعت يدي إلا وهي يابسة كالعود، قال ابن سيرين رحمه الله: فأنا -والله- نظرت إلى يده شلة يابسة كالخشبة.
فهذا قال الله عنه: {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:9].
وكذلك ظلم العباد وغشهم، وعدم الورع في أموالهم أو أعراضهم، سواء أكان أجيراً أم عاملاً أم موظفاً، أم زوجة أوكل الله جل وعلا إليك رعايتها، أم أبناء وبنات، أم أيتاماً وضعوا في حجرك، أم طلاباً بين يديك، فكل من جعلك الله جل وعلا بقدرته راعياً عليهم ينبغي عليك ألا تظلمهم، بل ينبغي عليك أن تهتدي بخلق نبينا صلى الله عليه وسلم الذي أنزله الله جل وعلا على نبيه فقال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199].
وثمة قاعدة مريحة في هذا الأمر، وهي أنك إذا أردت أن تسأل نفسك: ماذا أصنع بمن أوقفه الله ذليلاً بين يدي؟ فاصنع به ما تحب أن يصنعه الله معك إذا وقفت ذليلاً بين يديه، فاصنع به ما تحب أن يعاملك الله به إذا وقفت ذليلاً بين يديه، وما الدنيا إلا مزرعة للآخرة، والله يقول: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21].(40/16)
البعد عن الفحشاء وأثره على العبد
ومن الخلق الذي علمه الله جل وعلا نبينا صلى الله عليه وسلم ودل عليه القرآن، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم به المؤمنين: البعد عن الفحشاء والفواحش كلها ما ظهر منها وما بطن، فقد قال الله لنبيه: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32]، وقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف:33] إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي تمثلها النبي صلى الله عليه وسلم.
كسفت الشمس في اليوم الذي مات فيه إبراهيم، فخرج صلى الله عليه وسلم يجر رداءه، ثم صلى بالناس صلاة أطال فيها، ثم وقف في الناس خطيباً يحذرهم ويقول: (لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو أن تزني أمته).
فحرم الله جل وعلا الفواحش كلها ما ظهر منها وما بطن، وحرم الطريق الموصل إليها بقوله سبحانه: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32].
وأعظم من ذلك: إتيان الذكران من العالمين، وهذه كلها فواحش حرمها الله جل وعلا في كتابه، وحكم على من صنعها -إلا أن يتوب- بالخسة والدناءة والبعد عن الرب تبارك وتعالى، قال الله: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32] في شأن الزنا، فإذا أراد الإنسان أن يقرب من الله فليغض بصره، وليحصن فرجه، وليكثر من ذكر الله، وليبتعد عن الطرائق الموصلة إلى مثل هذا المحرم، وليحذر الله في أعراض المؤمنات الغافلات، وليعلم أن قدرة الله عليه أقرب وأعظم من قدرته على من جعلهم الله جل وعلا تحت يديه.
وقد تقف من مؤمنة على خطأ أو زلة، أو أمر وقعت فيه، فإن جعلته تهديداً لها تقارفها به وتصل إلى مرادك من خلاله فإن الله جل وعلا عليك أعظم وأقدر، وبينك وبينها الموعد، وهو الوقوف بين يدي الرب عز وجل.
ولا بد لكل أحد من أن يوضع في قبره وأن تحل عنه أربطة الكفن، وأن يخلا بينه وبين ملائكة العذاب أو ملائكة الرحمة، وسيسأل في ذلك المكان، ولن يجد أحداً يغيثه إلا الله، فإن كان عمله خيراً فخيراً، وإن كان شراً فشراً، ثم الوقوف بين يدي الرب تبارك وتعالى ليعرض عليه الكتاب الذي: {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49].
وجماع الأمر كله معرفة الله والخوف منه، فإذا كان العبد عارفاً بربه معظماً لخالقه فإنه لا يمكن أن يجرؤ على مثل هذه الأمور، وإن كان ليس هناك في القلب علم بالله ولا توحيد له، ولا معرفة بحق الله جل وعلا؛ كانت هناك من العبد جرأة على المعاصي وانتهاك للحرمات وإتيان لها، غير مبال بحساب ولا عقاب، وهذا مرده بعد ذلك إلى الوبال والخسران، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.(40/17)
تدبر في أمر الله ورسوله بالازدياد من العلم
ومما قاله الله جل وعلا في كتابه، وعلم به نبينا صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114] والعلم حياة للقلوب المؤمنة بالله، فبه يستدلون على معرفة ربهم، وبه يدعون إلى ربهم جل وعلا، وبه يعلمون الخلق، وبه تنار لهم الطرائق، وبالعلم تهدى -بإذن الله- الخلائق، فمن من الله عليه بالعلم فإن نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع).
وقد أمر الله تعالى نبيه بأن يسأله الازدياد من العلم، وكان الواسطة بينه وبين ربه جبريل، ثم نشأ العلماء فأخذ الصحابة عن نبيهم، وأخذ التابعون عن الصحابة، ثم ما زال الجيل الآخر يأخذ عن الجيل الأول إلى يومنا هذا، وسيبقى إلى أن يأذن الله بقيام الساعة.
والمقصود من هذا كله أن طلب العلم والسعي فيه وثني الركب بين يدي العلماء من أخلاق نبينا صلوات الله وسلامه عليه التي دل عليها أمته وعلمها ذلك الجيل الذي نعت بأنه أمثل رعيل وأكمل جيل في مدرسة محمد صلوات الله وسلامه عليه.
هذا ما تيسر قوله، وأعان الله جل وعلا على إيراده.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(40/18)
الأسئلة(40/19)
بيان معنى قوله تعالى: (وإخوان لوط)
السؤال
قال الله تعالى في سورة (ق): {وَإِخْوَانُ لُوطٍ} [ق:13] فكيف يكونون إخوان لوط وهم كفرة ومكذبون بلوط عليه الصلاة والسلام؟
الجواب
كلمة (أخ) في اللغة تطلق أحياناً ويراد بها الأخوة في النسب، وأحياناً تطلق ويراد بها الأخوة في الأرض، وأحياناً تطلق ويراد بها الأخوة في الملة، وأحياناً تطلق ويراد بها الشبه، وبكل ورد القرآن، قال الله جل وعلا: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [الأعراف:85] والمقصود: أخاهم أرضاً.
وقال جل وعلا: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف:73] والمقصود: أخاهم نسباً.
وقال الله جل وعلا: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} [القصص:34] والمقصود: أخي نسباً.
وقال الله جل وعلا: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ} [مريم:28] والمقصود: أخته شبهاً في التقى والعبادة.
فقول الله جل وعلا: (إخوان لوط) محمول على أنه كان أخاً لهم في نفس الأرض التي كانوا يسكنونها؛ لأن لوط إنما بعث إلى قوم ليسوا من عشيرته وهذا وجه.
والوجه الآخر: أن كلمة (أخ) مثل كلمة (صاحب)، فلا يراد بالإضافة أن يقصد بها التشريك، وإنما المقصود التعريف، ومثاله في القرآن قول الله جل وعلا عن نبينا صلى الله عليه وسلم وهو يخاطب قريشاً: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22] فسمى الله نبيه صاحباً لهم، وليس المقصود الصحبة المعروفة، وإنما المقصود أنه كلمهم وله علاقة معرفية بهم.
فهذا المقصود من قول الله جل وعلا: {وَإِخْوَانُ لُوطٍ} [ق:13].(40/20)
العادة النبوية وشرط حصول الأجر في اتباعها
السؤال
ما الفرق بين سنة النبي صلى الله عليه وسلم وعادته، وما المطلوب اتباعه؟
الجواب
السنة تطلق ويراد بها معان عديدة، فتطلق أحياناً ويقصد بها الموافقة للكتاب، وحين يقول: (كتاب الله وسنتي) فهذه السنة يمكن أن يندرج فيها العادة، أما إذا أطلقت وأريد بها السنة التعبدية التي أمرنا باتباعه فيها فبعض أهل العلم يخرج مسألة العادة منها، فلا يلزم الإنسان بها، ولكن إذا فعلها المرء تعبداً لله فإنه يؤجر عليها.
مثال ذلك: حب النبي صلى الله عليه وسلم طعام الدباء، فهذا أمر جبلي، فكان أنس رضي الله عنه وأرضاه يأمر أهله إذا صنعوا طعاماً أن يضعوا فيه الدباء، ويقول: فما زلت أحبه -أي: الدباء- منذ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكله، فهذا طوع نفسه الجبلية بأن تأخذ بالعادة النبوية، فهذا يندرج في الثواب الذي يؤجر عليه المرء، والعلم عند الله.(40/21)
خطوات الإلمام بعلم التفسير
السؤال
أريد المنهج الصحيح لطالب العلم المبتدئ في التفسير من البداية إلى النهاية؟
الجواب
النهاية أمرها واسع، ولا سبيل إلى إليها، فقد قال تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]، والبداية هي المقصود الأسمى، ولا أستطيع أن أقدم جواباً عاماً، فمن الصعب أن يقول الإنسان جواباً عاماً؛ لأن طلاب العلم يختلفون في الهمة، ويختلفون في التأصيل السابق، ويختلفون في ما يُعرف من اللغة وفي ما يُحفظ من الأشعار.
فليس التفسير كتباً تقرأ، وإنما ثمة عدة آلات تدخل فيه: أولها: أن يكون هناك تآلف بينه وبين هذا العلم، فيبدأ بثلاثة كتب أو أربعة كتب لمدة سنة أو سنتين يقرأ فيها ولو من غير تركيز، فيقف على أسانيد العلماء، ويعرف مظان المعرفة التفسيرية، ويصبح بينه وبين كلام الله جل وعلا ألفة.
الثانية: يقرأ كثيراً في كلام العرب وشعرهم القديم حتى يعرف أساليبهم، ويقرأ في التاريخ، ويقرأ في أصول الفقه، فهذه كلها تعين المفسر.
ثم بعد سنتين أو ثلاث يوسع الدائرة في التفسير، فيأخذ كتباً أكثر، ولو أقام درساً يسيراً فإنه مع مرور الأيام يزداد علمه، والعلم ضرورة فيه أن يكون فيه طول زمان، فلا بد من مرحلة زمنية، قال الشافعي رحمه الله: (وطول زمان)، وهو يذكر ما يعين طالب العلم على أن يصل إلى مراده ومبتغاه، فلا بد من طول زمان.
وقال ابن شهاب الزهري رحمه الله تعالى: إنما العلم يبنى يوماً بعد يوم مع طول الأيام والليالي، والعجلة لا تنبت شيئاً، والإنسان لا يطير قبل أن يريش.
فبناء الخطوات تدريجياً يعين -بإذن الله- على أن يفقه الإنسان كلام ربه جل وعلا.(40/22)
حكم لبس خاتم في يد وآخر في الأخرى
السؤال
ما حكم لبس خاتم في اليمين وآخر في اليسار؟
الجواب
هذا من عادات الناس، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس خاتماً، فلا يتعلق بهذا أجر ولا عقاب، وإنما هو من جنس المباحات، فإذا وقف على حديث بعينه وأراد أن يطبقه عملاً بالسنة فهذا الذي يؤجر عليه.(40/23)
درجة خبر ما يذكر به حملة العرش ربهم
السؤال
ذكر بعض المفسرين أن حملة العرش أربعة منهم يقولون: سبحان حلمك بعد علمك، وأربعة آخرون يقولون: سبحان عفوك بعد قدرتك، فهل هذا سنده صحيح؟
الجواب
ذكر بعض أهل التفسير أن حملة العرش ثمانية؛ لنص الآية: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17]، ولكنهم اختلفوا: هل هم ثمانية صفوف أو ثمانية أفراد؟ ولا أعلم في هذا سنداً صحيحاً، وأظنه مأخوذاً من مسلمة أهل الكتاب، أي أن أربعة يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك، وأربعة آخرون يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك.(40/24)
بيان معنى قوله تعالى: (فضحكت)
السؤال
في قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} [هود:71] يقال: إن (ضحكت) بمعنى: حاضت، فعلام استند قائل هذا التفسير؟
الجواب
القائل بهذا هو الشافعي رحمه الله، وهو حجة في اللغة؛ لأنه سكن في هذيل وأخذ عنهم علم اللغة عشر سنين، والشافعي رحمه الله تعالى إمام عظيم، ومن أجل علماء المسلمين، ولكن قوله هذا لا يقبل؛ لأنه لا يوجد تناسب تؤيده الآية.
فالله تعالى يقول: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71] وإذا قلنا: (حاضت) فما العلاقة بين الملائكة وبين امرأة واقفة على رءوسهم تحيض؟ والمرأة كانت مستترة خارج الدار واقفة.
فمقصود الآية -والعلم عند الله-: أن هؤلاء الملائكة مروا على إبراهيم وهم في طريقهم إلى قوم لوط، وقد اتفق المفسرون على أنهم مروا على إبراهيم عليه السلام، وعندما مروا على إبراهيم ذبح لهم عجلاً دون أن يعرفهم؛ لأن إبراهيم لو عرف أنهم ملائكة لما ذبحه لهم، فإبراهيم عليه السلام يعلم أن الملائكة لا تأكل ولا تشرب، ولما كان خائفاً وجلاً منهم قال: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الحجر:62]، فأخبروه أنهم ملائكة، وأنه لا داعي للخوف ولا داعي للوجل، فأدخل ذلك الانشراح في قلب الزوجة التي كانت خائفة على زوجها؛ لأنها واقفة معه تعينه على إطعامهم وتنظر في شأن هؤلاء الضيفان الذين ارتاب فيهم زوجها، فلما أخبرته الملائكة وقالوا: (لا تخف ولا توجل) تبسمت وضحكت؛ لأن الغم الذي كان قد أتاها انتهى، فضحكت.
فلما ضحكت كان فرحها بأنهم ملائكة مقدمة لأن يعطيها الله عطية، وهذا أصل من دقائق العلم، وهو أن الله لا يعطي إلا بعد أن يتبين أن المعطى استجدى.
فلما ضحكت واستبشرت قال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71].
ومثال هذه القصة في القرآن قصة السحرة، فالله جل وعلا يقول: {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الشعراء:38 - 40].
قال الله جل وعلا: {فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى} [طه:60] فالسحرة والناس ينظرون لم يصبهم كبر بقدر الله، بل احترموا موسى فقالوا: {يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ} [الأعراف:115] وفي سورة أخرى: {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} [طه:65] فاستأذنوه بأدب، فقال لهم موسى: {بَلْ أَلْقُوا} [طه:66] فألقوا حبالهم وعصيهم فرآها {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66] ثم لما ألقى موسى قال الله: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:70] فالذي آمن هم السحرة، وأما الجمهور الناظرون فلم يؤمن منهم أحد؛ لأن السحرة كانوا قد قدموا شيئاً بين يدي الله دون أن يشعروا، وهو أنهم تأدبوا مع كليم الله، فكافأهم الله منة منه، وهذه سنة الله جل وعلا في خلقه، فهو يوفق العبد للطاعة ثم يثيبه عليها.
فهذه المرأة فرحت بأنهم ملائكة فضحكت، قال الله: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71].
هذا ما ندين الله به في الآية، ولكن ينبغي أن يعلم أن آراء العلماء تبقى محترمة على الرأس والعين، وقولنا أو قول أي أحد صواب يحتمل الخطأ، وغير قولنا إذا رددناه نراه خطأً يحتمل الصواب، وإن رأينا الحق رجعنا إليه.
وقد قال عمر في وصيته لـ أبي موسى: لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق؛ فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.(40/25)
توجيه لمشاهدي القنوات الفضائية
السؤال
تساهلت بعض الأسر في البيوت المحافظة في إدخال الدشات والقنوات إلى البيت، فهل لكم توجيه في ذلك؟
الجواب
كلما نشأ الناس على الصلاح، وغض البصر، وتحصين الفرج كان ذلك أتقى لهم عند ربهم، ولا ريب في أن هذا أمر ملحوظ تساهل فيه كثير من الناس، خاصة من يترك تلك القنوات عائمة يبث فيها ما يبث، وقد يكون في البيت كثير من المراهقين والمراهقات، فإن هذا -والعياذ بالله- وراءه الشر المستطير، وينبغي على الذين ينفقون أموالهم في تأسيس قنوات مثل هذه أن يتقوا الله، فهؤلاء -والعياذ بالله- على شفا إثم عظيم، أولئك الذين يسعون في هدم بيوت المؤمنين ونشر الباطل، فينبغي للمؤمنين أن يتجنبوا هذه الطرائق الموصلة -والعياذ بالله- إلى غضب الله وسخطه.(40/26)
حد الساحر وحكم توبته
السؤال
هل للساحر من توبة قبل أن يقدر عليه، وما هو حده إذا قدر عليه؟
الجواب
حد الساحر قتله، وقد يقبض عليه ويحكم عليه بالقتل ويتوب، وهذا لا يمنع قتله، ويتوب بينه وبين ربه، فالتوبة شيء بين العبد وبين ربه، فلو جاء رجل قد قتل نفساً وحكم عليه بالقصاص فإن إقامة الحد عليه ليس لها علاقة بالتوبة، فأي قاتل يتعلق بخطئه ثلاثة حقوق: حق لله، وحق لأولياء الدم، وحق للميت، فأولياء الدم مخيرون بين ثلاثة: بين العفو والقصاص والدية، وحق الله إن شاء غفر وإن شاء عذب، ولكنه يسقط بالتوبة.
وحق الميت لا يسقط، ففي يوم القيامة يأتي الميت يطالب بحقه، فإن صدقت التوبة أعان الله القاتل يوم القيامة على أن تبرأ ذمته من المقتول.
فالساحر لو تاب تاب الله عليه على حسب توبته، ولكن إقامة الحدود مسألة أخرى بحسب ما يراه ولي الأمر والقضاة.(40/27)
سبل معرفة الله تعالى
السؤال
ما هي السبل والوسائل التي تجعل العبد أكثر معرفة لله سبحانه؟
الجواب
لا أحد أعلم بالله من الله، وتدبر ما في القرآن من ثناء الله على نفسه هو المعين الأعظم على معرفة الإنسان لربه تبارك وتعالى، ثم يقرأ ما سطره الأئمة الأخيار في كتب الرقائق، كما في صحيح البخاري، وما أشار إليه النووي في رياض الصالحين، وما ذكرته بعض كتب العقائد المبنية على منهج أهل السنة.(40/28)
قطوف من حياة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
السؤال
نود تذكيرنا ببعض المواقف المؤثرة في حياة شيخكم الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله؟
الجواب
الشيخ محمد قد تكلمنا عنه كثيراً رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وفي الجملة أقول: أصله من بلاد شنقيط من موريتانيا، فكتب الله له الهجرة إلى هذه البلاد المباركة فحج، وكان في خيمة بالقرب من أحد الأمراء، وكانت هناك مسألة علمية تُناقش فشارك فيها، ومن خلالها عرف بالملك عبد العزيز رحمه الله تعالى، ثم لما وصل إلى المدينة أكرمه الملك عبد العزيز بأن منحه الجنسية له ولأهل بيته، فمكث بعد ذلك يدرس في الحرم النبوي الشريف، وكان منذ صغره في موريتانيا يطلب العلم.
وكان له خال يعنى به وهو صغير دون البلوغ، وفي ذات يوم مرض خاله هذا، يقول رحمه الله: كنت أمر عليه وأقول: ليته يموت حتى أستريح من الطلب ومن الدراسة، ولا يدري أن خاله سيكون سبباً في تعليمه، وأن هذا العلم سيجعله الله سبباً في رفعة شأنه.
ولم آخذ منه مباشرة مع أنه كان جارنا رحمة الله تعالى عليه، ولكن مات وأنا في الثالثة عشرة تقريباً، وكان له مواقف عظيمة، ومن أشهرها: أنه عندما حج عام (1393) من الهجرة كان معه سائق، فرأى السائق في المنام أن نبياً يموت، فلما دنا منه لم ير وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح أخبر الشيخ بها، فتغير وجهه، فلما تغير وجهه ندم السائق على أنه أخبره، فقال له: يا شيخ! لعلها أضغاث أحلام.
فقال رحمه الله: ليست أضغاث أحلام، بل هي رؤيا، ولكن يكتب الله الذي فيه الخير، وبعدها بأربعة أيام توفي الشيخ.
وإنما أخذ تفسيرها من كون العلماء ورثة الأنبياء، والسائق لم ير نبياً بعينه، فما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولا صفاته، ولكنه أوهم أن هذا نبي في الرؤيا، ففسرت على أنه موت عالم، وكان -رحمه الله- آنذاك منارة من منارات العلم رحمه الله ورحم أموات المسلمين جمعياً.(40/29)
بيان المراد بقول الله تعالى تعبيراً عن نفسه وحده (نحن)
السؤال
في سورة (ق) قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} [ق:43] فلماذا قال الله عز وجل: (نحن) وهو عز وجل واحد؟
الجواب
هذا أسلوب عربي في الكلام يسمى أسلوب التعظيم، تستخدمه العرب في كلامها، وهو أنهم إذا أرادوا التعظيم يقولون: (نحن) ولذلك مواضع يقال فيها، فيأتي أحياناً للاختصاص، ويأتي أحياناً للتعظيم، ويأتي لغير ذلك، لكن هذا السياق سياق تعظيم، وليس سياق جمع عددي.
ونحن نسمع الملك عبد الله -وفقه الله- في الأوامر الملكية يقول: نحن عبد الله بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية.
فهو شخص واحد، ولكن هذا أسلوب عربي في لغة العرب، وجائز قوله في حق الله وفي حق غيره، ولكن يختلف فيه حق الله عن حق غيره، كما تقول: فلان رحيم، والله جل وعلا قال عن نبيه: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] وتقول عن الله جل وعلا: إن ربنا غفور رحيم.
إلا ما يتصف به الله غير ما يتصف به الناس.(40/30)
حكم المسابقات المجراة في الصحف والمجلات
السؤال
كثرت في الجرائد والصحف المسابقات التي يكون عليها جوائز عظيمة، كسيارات ونحوها، فهل تجوز مثل هذه المسابقات؟
الجواب
إذا كانت الجوائز تأخذ من الناس -كما هو حال أكثر المسابقات- ثم بعد ذلك بحيث توضع المسابقة وتكون الكلفة فيها سبعة ريالات للدقيقة الواحدة، فإن كان عدد المشتركين مليوناً وكانت الدقيقة بسبعة ريالات كان الناتج سبعة ملايين، فمجموعة منها ستعطى لشركة الاتصالات، ومجموعة للجريدة التي نشرت الإعلان، ومجموعة يأخذها الراعي للمسابقة، ومجموعة تعطى للناس، إذا كانت كذلك فهي محرمة قطعاً ولا تجوز.
وهناك نوع آخر من المسابقات لا تؤخذ فيه أموال الناس، إلا أن فيه شبهة يسيرة، وهي قضية الكوبون، فهذه المسابقة صورتها: أن الجريدة تنشر المسابقة وثمة راع للمسابقة قد يكون عنده شركة سيارات، فيأتي بثلاثة ملايين ويتفق مع الجريدة على نشر المسابقة، فنشر المسابقة فيه دعاية للسيارات، والناس لا يدفعون مقابل ذلك شيئاً؛ لأن قيمة الجريدة لم تتغير، وإنما يستفيد أصحاب الجريدة من كون أكبر شريحة من المجتمع تشتريها، فهذه الأموال التي اشتريت بها الجريدة لم تدخل في الجائزة، إذ الجائزة مصدرها آخر، وهو الشركة أو نحوها، وليس مصدرها أموال الناس، فهذه فيها شبهة، ولكنها إلى الجواز أقرب -والعلم عند الله- خاصة في حق من اعتاد أن يشتري الجرائد.
وبعض الأوروبيين يبيعون سياراتهم بطريقة محرمة، حيث يأتي الواحد بسيارة إلى بعض الموظفين، ويؤتى بمن لهم خبرة بالسيارات فيقومونها، فيقال: هذه السيارة تساوي ثلاثين ألف مثلاً، فيقوم ثلاثون موظفاً يريدونها، فيقولون لكل موظف: ادفع ألفاً، فيدفع ثلاثون ألفاً قيمة السيارة، ثم يقرعون فيأخذها واحد ممن دفع ألفاً، ومن المعلوم أن كل إنسان يشترك يقول: إما أن أخسر الألف أو أكسب السيارة، فتهون الألف، وله أمل في أن يكسب.
فكلهم يشتركون، ثم تجرى بينهم قرعة، فيأخذ السيارة أحدهم، وصاحب السيارة يأخذ المال ويذهب، وهذا هو الميسر الذي حرمه الله جل وعلا.(40/31)
حكم المنقول عن بني إسرائيل
السؤال
ما هو الضابط في النقل عن بني إسرائيل، وخاصة إذا كانت تلك الأخبار قد ذكرها بعض أهل العلم مثل الحافظ ابن كثير؟
الجواب
المنقول عن مسلمة أهل الكتاب عن علماء بني إسرائيل جاء فيه حديث: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) والأصل فيه أنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: ما كان منه معارضاً لما عندنا، فيرد.
الثاني: ما كان منه موافقاً، فيقبل.
الثالث: ما كان غير موافق ولا معارض، فيقبل، ولكنه يعتبر من مليح القول لا من متين العلم.(40/32)
نصيحة لمغتاب العلماء وطلبة العلم
السؤال
هل من نصيحة لمن يغتاب العلماء والمشايخ وبعض طلبة العلم، ويقضي مجالسه في نقد فلان وعلان؟
الجواب
الغيبة -والعياذ بالله- أول طرائق البقاء والانتكاس، وأعني بالبقاء أن الإنسان لا يتقدم، فالإنسان إذا أراد أن يطلب علماً، وأراد أن يهيئ نفسه لمكان ينفع به عباد الله فليجتنب الخوض في أعراض الناس، وقد قيل: لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن وعينك إن أبدت إليك مساوئاً فصنها وقل يا عين للناس أعين فكلنا عورات ومعايب، ولكن الله جل وعلا يستر علينا وعليكم المعايب والعورات إذا لم نخض في عورات الناس ومعايبهم، فإذا خضنا في معايب الناس وعوراتهم سلط الله علينا من يخوض في عوراتنا ومعايبنا، فنسأل الله لنا ولكم السلامة.
وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(40/33)
الحديث عن الجنة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا رب غيره ولا إله سواه، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى، خلق خلقه أطواراً، وصرفهم كيفما شاء عزة واقتداراً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وأمينه على وحيه، أكرم به عبداً وسيداً، وأعظم به حبيباً مؤيداً، فما أزكاه أصلاً ومبتدا، وما أطهره مضجعاً ومولداً، صلى الله عليه على آله وأصحابه صلاة خالدة وسلاماً مؤبداً.
أما بعد: فإن من الدروس ما يحتاج قائلها إلى انتقاء في الألفاظ، وصياغة في العبارات، وبحث في المعاجم؛ حتى يسد بذلك خللاً في المعاني، وقصوراً في الغايات، وما يصاحب ذلك من المطالب التي تقصدها تلك المحاضرات.
إلا أن الحديث عن محبة النبي محمد صلى الله عليه وسلم حديث تزهو به العبارات، وتجمل به الصياغة، فإذا كان قد ثبت أن النوق -وهن نوق- تسابقن إلى يديه الشريفتين صلى الله عليه وسلم أيهن يبدأ بها لتنحر فإن الكلمات تتسابق أيضاً إلى أفواه قائليها إذا كان الحديث عن محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه.
سلوا قلبي غداة سلا وثابا لعل على الجمال له عتابا ويسأل في الحوادث ذو صواب فهل ترك الجمال له صوابا ولي بين الضلوع دم ولحم هما الواهي الذي ثكل الشبابا وكل بساط عيش سوف يطوى وإن طال الزمان به وطابا فمن يغتر بالدنيا فإني لبست بها فأبليت الثيابا لها ضحك القيان إلى غبي ولي ضحك اللبيب إذا تغابى جنيت بروضها ورداً وشوكاً وذقت بكأسها شهداً وصابا فلم أر مثل حكم الله حكماً ولم أر دون باب الله بابا أبا الزهراء! قد جاوزتُ قدري بمدحك بيد أن لي انتسابا فما عرف البلاغة ذو بيان إلا لم يتخذك له كتابا مدحت المالكين فزدت قدرا فلما مدحتك اقتدت السحابا فصلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه.(41/1)
العبر من وفاة الخلفاء الراشدين [1]
لقد اصطفى الله محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً على الأمة، واصطفى له أصحاباً نبلاء هم أكرم أهل الأرض بعد الأنبياء، وأعظم هؤلاء الصحابة الخلفاء الراشدون الأربعة، وإن الإنسان عندما يستعرض المواقف المتعلقة بوفاتهم يجد فيها كثيراً من العبر والعظات(42/1)
العبر المأخوذة من وفاة الصديق رضي الله عنه
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مقاليد كل شيء بيديه، ورزق كل أحد عليه، ومصير كل عبد إليه.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أفضل من صلى وصام وأفطر، الشافع المشفع في عرصات يوم المحشر، صلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه ما تلاحمت الغيوم وما تلألأت النجوم، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فالله أكبر ما أعظمهم من أربعه مهديين وخلفاء راشدين، جعلهم الله جل وعلا قدوة وأسوة يوم تأسوا واهتدوا بهدي محمد صلى الله عليه وسلم، حبهم دين وملة، وموالاتهم ونصرتهم قربة وطاعة، والترضي عليهم من أعظم الدعاء، فاللهم ارضَ عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
أيها المؤمنون! إن الحديث عن هؤلاء الراشدين أمر مشتهر معروف؛ لكن تكراره محبب إلى النفوس مألوف، وسيقتصر حديثنا عن أيامهم الأخيرة، وأخبار موتهم وما في ذلك من دلائل العظات وجلائل العبر، في قوم كانت حياتهم زاخرة بالمعاني العظيمة، فلا غرو ولا عجب أن يكون موتهم حافلاً بالأحداث الجليلة.
أما الصديق رضي الله عنه وأرضاه فلا خلاف بين المؤمنين أنه توفي رضي الله عنه في جمادي الآخرة، لكن اختلف في عله موته، والأظهر أنه اغتسل في يوم بارد فحَم فكان ذلك سبباً في وفاته، وقد جعل الله جل وعلا لموت كل أحد سبباً.
مات الصديق رضي الله عنه وأرضاه بعد أن استشار الناس في أمر الخلافة من بعده، وأخذ يبذل جهده وسعيه في الولاية من بعده، فأجمع أمره رضي الله عنه وأرضاه على تولية عمر بعد أن شاور كبار الصحابة، وكتب كتاباً بعد ذلك يجمع الناس فيه على عمر خوفاً على الأمة أن تتفرق بعده، وأن يتشتت شملها.
وفي ذلك دلائل جليلة، من أعظمها أن النصح للمسلمين وحب الخير لهم من أعظم دلالات سلامة القلوب، وأن المؤمن المتحلي بهذه الصفة قد وقر الإيمان في قلبه؛ لأن من كمال الإيمان كمال النصح لله ولرسوله لكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم.
جعلها الصديق رضي الله عنه في الفاروق من بعده؛ لأنه أدرك مع استشارته لخير الأصحاب أن عمر أقدر على سياسة الأمة من بعده، ولم يجعلها في أحد من بنيه أو أحد من (بني تيم) تلك القبيلة التي ينتسب إليها، فرضي الله عنه وأرضاه، وما أطيبه حياً وميتاً رضي الله عنه وأرضاه.
أيها المؤمنون! وقف الصديق يحتضر وعند رأسه ابنته عائشة، فلما رأت ما أصاب أباها أخذت تتمثل ببيت حاتم: لعمرك ما يغنيى الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر فكشف الصديق وهو في سكرات الموت عن غطائه وأخذ يقول: يا بنيه! لا تقولي هذا، ولكن قولي كما قال الله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19].
إن رباطة الجأش في مثل هذا الموضع لمن أعظم الدلائل على معرفه الله تبارك وتعالى، ومثل هذا لا يكون إلا إذا كان من قبل إيمان ويقين راسخ وأعمال صالحة تعين على الثبات في تلك المواطن، وإلا فسكرة الموت حق لابد منه لكل أحد؛ لكن المراد والمقصود من الحديث: أن الصديق رضي الله عنه وأرضاه تمثل بالقرآن عند موته كما كان يعمل بالقرآن في أيام حياته، وما حياة الإنسان في آخرها إلا إجمال لما كان عليه قبل ذلك، فإذا منّ الله جل وعلا عليه بتوبة قبل الموت محت تلك التوبة برحمه الله ما كان من سالف الخطايا والعثرات.
أيها المؤمنون! أوصى الصديق رضي الله عنه أن تتولى غسله زوجته أسماء بنت عميس رضي الله عنها وأرضاها، فغسلته وهي يومئذ صائمة في يوم شاتٍ بارد، فلما فرغت من غسله خرجت إلى فقهاء المهاجرين تسألهم: هل عليها من غسل لأنها لامست ميتاً، فأفتوها رضي الله عنهم وأرضاهم أن لا غسل عليها.
فما أعظمها من زوجة وما أكرمها من مؤمنة! عرفت حق زوجها ولم تضيع وأبقت على حق ربها، وقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أن قال: (فاظفر بذات الدين تربت يداك)! فالزوجة المؤمنة التقية من أعظم ما يعين على طاعة الله، ومن أعظم ما يساعد على القرب منه، كما كانت أسماء رضي الله عنها عوناً للصديق في حياته، وتولت غسله بوصيته بعد مماته.
دفن الصديق رضي الله عنه وأرضاه في حجرة عائشة بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانا جارين في الغار وهما حيان، ثم أضحيا جارين في قبرهما وهما ميتان، فما أكرمهما عند الله جل وعلا من صاحبين وما أعظم منّة الله جل وعلا وفضله عليهما! تولى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه الأمر بعده، وأخذ الأمناء الثقات من الصحابة وفتحوا بيت المال ليروا ما فيه، فلم يجدوا في بيت المال ديناراً ولا درهماً، كان الصديق رضي الله عنه وأرضاه يقوم بالأمانة على وجهها، ويتقي الله جل وعلا في أموال المسلمين.
والمال أيها المؤمنون فتنه، يدفع صاحبه إلى الغش لتروج بضاعته، ويدفع صاحبه لأن يقبل الرشوة ويضاعف من دخله، ويدفع إلى السرقة والخيانة، ويدفع أحياناً إلى الكذب والمماطلة في سداد الدين، لكن من عرف ذلة الوقوف بين يدي الله جل وعلا؛ تحرر من مظالم الناس وخشي على نفسه أن يلقى الله وللناس عليه مطالب، ويومئذ يقتص للمظالم بالحسنات والسيئات، لا بالدينار والدرهم، ألا ترى أن الله جل وعلا يقول وهو أصدق القائلين: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36].
إن المرء في يوم القيامة لا يفر عمن لا يعرفهم؛ لأن من لا يعرفهم في الغالب لا حقوق لهم عليه فلا يطالبونه بشيء، فلا يخشى في عرصات يوم القيامة أن يقابلهم.
أما من كانوا حوله من إخوة وأم وأب وزوجة وأبناء وجيران وأصدقاء، فإنه يفر منهم خوفاً من أن يكون قد ظلمهم في الدنيا فيطالبونه بحقهم في الآخرة، ولا دينار ولا درهم يومئذٍ إنما هي الحسنات والسيئات، عافانا الله وإياكم من مظالم العباد كلها! عباد الله! هذا ما كان من شأن موت الصديق رضي الله عنه وأرضاه.(42/2)
العبر من وفاة عمر بن الخطاب رضي الله عنه
أما عمر رضي الله عنه وأرضاه فقد مات مطعوناً في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالناس صلاة الفجر، قتله أبو لؤلؤه المجوسي الذي كان يعمل حداداً للمغيرة بن شعبه ولم يسجد لله جل وعلا قط! وأعظم العبر في موت الفاروق رضي الله عنه ما كان مستقراً عند الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم من عظيم قدر الصلاة، فإنه لما طعن قال له الناس: ألا نحملك إلى بيتك يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، لاحظ في الإسلام لم ترك الصلاة.
وقف رضي الله عنه وأرضاه في الصف وجرحه يثعب دماً، ومع ذلك بقي يصلي، وصلى عبد الرحمن بن عوف بالمؤمنين ركعتين خفيفتين مراعاة للموقف! فما أعظم حسرة عبد عافاه الله في بدنه ثم ينام عمداً عن صلاه الفجر! يسمع المؤذن يقول: (حي على الصلاة، حي على الفلاح) ويؤثر الفراش الوثير على دعوة ربه العلي الكبير، فلينظر وليتأسَ بما كان عليه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من الغدو والرواح إلى جماعة المسلمين، والمحافظة على الصلاة جماعة في مساجد الإسلام.
طُعن عمر وحمل إلى بيته فوقف ابن عباس رضي الله عنهما يثني عليه، ويقول له: يا أمير المؤمنين أبشر؛ فلقد كان أسلامك فتحاً، وهجرتك نصراً وأخذ يعدد مناقبه، فقال له رضي الله عنه وأرضاه: والله لو كان لي ملء الأرض ذهباً لافتديت به من هول المطلع! فما أقض مضاجع الصالحين شيء أعظم من خوفهم من الوقوف بين يدي ربهم جل وعلا.
ذكر الله الساعة واستعجال الكافرين لها، ثم قال جل جلاله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا} [الشورى:18]، مع ما يرجونه من رحمة الله إلا أنهم يشفقون من الخوف، ويعلمون عظمة الوقوف بين يدي الله في يوم يعرض فيه الكتاب: {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49].
بعث عمر رضي الله عنه في ساعة احتضاره وسأل الطبيب، فقال له الطبيب: استخلف يا أمير المؤمنين فإنك ميت، وكان الطبيب من بني معاوية من الأنصار فقال له عمر: صدقتني يا طبيب بني معاوية، ولو قلت لي غير ذلك لكذبتك! فبعث ابنه عبد الله بن عمر يستأذن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها يستأذنها في أن يدفن مع صاحبيه، وقال له: قل لها إن عمر بن الخطاب يستأذن أن يدفن مع صاحبيه، ولا تقل لها أمير المؤمنين فإنني لست اليوم للمؤمنين بأمير.
فلما جاءه الخبر بموافقة عائشة فرح رضي الله عنه وأرضاه فرحاً عظيماً وقال: لقد زال عني همٌ عظيم كنت أحمله.
ثم قال: إذا مت وأدرجتموني في كفني فاستأذن مرة أخرى، وقل: إن عمر بن الخطاب يستأذن أن يدفن مع صاحبيه.
فدفن رضي الله عنه وأرضاه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر رضي الله عنهما في موضع واحد في الجهة الجنوبية الغربية من حجرة عائشة كلهم الثلاثة قد ألحد لهم، فهذا القبر يضم أشرف الأجساد: جسد نبينا صلى الله عليه وسلم خير الأنبياء، وجسد الصديق والفاروق خير أصحاب الأنبياء والمرسلين.
أيها المؤمنون! صدق في موت عمر قول نبينا صلى الله عليه وسلم: (اثبت أحد! فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان)، وكل ما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم فهو حق.
واستجاب الله جل وعلا دعوة عمر يوم قال: اللهم إني أسالك شهادة في سبيلك وموتاً في بلد رسولك! فجمع الله له مناه، فمات رضي الله عنه وأرضاه شهيداً في بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه البلدة المباركة يعظم حق الجوار فيها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن منّ الله عليه بسكناها أو جعل الله جل وعلا لأحد منكم رزقه فيها، سواء كان من أهلها أو من غير أهلها، فإن هذا من أعظم الفضل وأجزل العطاء، ويجب أن تقابل نعم الله بشكر، فلا يرينك الله تغش في طعام أو متاع أو تظلم أحداً منهم، أو يراك الله في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم تتعرض لأعراض المؤمنين، تؤذي هذا، وتلمز هذا، وتؤذي أهل بيت هذا أو تغمز أو يكون منك من المعاصي غير ذلك.
وأعظم الجرم أن يكون إحداث فيها بسفك دم أو قول أو فعل قال صلى الله عليه وسلم: (المدينة حرم من عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثاً أو آوى فيها محدثاً فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً).
وفقني الله تعالى وإياكم لهدي كتابه، وجعلني الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(42/3)
اتباع السنة هو عماد المجد والسؤدد
الحمد لله وكفى، وسلام على نبيه المصطفى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
فالله الله أيها المؤمنون في تقوى ربكم سراً وإعلاناً، وخشيته تبارك وتعالى غيب وشهادة، فإن تقوى الله أزين ما أظهرتم، وأقوم ما أسررتم، وأعظم ما ادخرتم.
عباد الله! إن أبقى الله في الأجل وأنسأ في العمر، سنأتي إن شاء الله إلى الحديث عن موت الشيخين الجليلين عثمان وعلي رضي الله عنهما وأرضاهما.
لكنه ينبغي أن يُعلم أن هؤلاء الأربعة الراشدين وغيرهم من أفذاذ الأمة ورجالها وساداتها عبر الدهور لم يسودوا إلا باتباعهم لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان للأمة شأن ولا ذكر لولا اتباعها لنبيها صلى الله عليه وسلم، فلقد بعث الله نبيه بالتوحيد وجعله رحمة للخلائق، وهداية للطرائق، وسؤدد الإنسان في أمر دنياه بحسب قربه أو بعده عن هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
فمن أبو بكر قبل الوحي من عمر ومن علي ومن عثمان ذو الرحم من خالد من صلاح الدين قبلك من أنت الإمام لأهل الفضل كلهم لما أتتك قم الليل استجبت لها تنام عينك أما القلب لم ينم الليل تسهره بالوحي تعمره وشيبتك بهود آية استقم يا ليتني كنت فرداً من صحابته أو خادماً عنده من أصغر الخدم فصلوا وسلموا وباركوا عليه كما أمركم الله جل وعلا في كتابه: فاللهم صلّ على محمد ما ذكره الذاكرون الأبرار، وصلّ على محمد ما تعاقب الليل والنهار، وارضَ اللهم عن أصحاب محمد من المهاجرين والأنصار، اللهم وارحمنا معهم بمنك ورحمتك وكرمك يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين، اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين.
اللهم وفق ولي أمرنا بتوفيقك وأيده بتأييدك، اللهم وفقه لهداك واجعل عمله في رضاك، اللهم احفظ بلادنا من كل سوء ومكروه، ومن أراد بها سوءاً فرد اللهم كيده في نحره يا قوي يا عزيز، اللهم واحفظ أهل الإسلام في كل مكان يا رب العالمين يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ارحم موتى المسلمين، اللهم آنس في تلك البقاع وحشتهم، وارحم اللهم تحت الثرى غربتهم، وارحمنا اللهم إذا صرنا إلى ما صاروا إليه.
عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تتذكرون.
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون!(42/4)
العبر من وفاة الخلفاء الراشدين [2]
لقد خسرت الأمة خسارة عظيمة وفادحة يوم أن قام بعض الأشرار ممن ينتسبون للأمة ويتسمون باسم الملة ظلماً وعدواناً بقتل اثنين من الخلفاء الراشدين المهديين عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، وقد انفتح بمقتلهما كل شر وبلاء على الأمة.
وقد حرم الله تعالى سفك دم المسلم وعظم ذلك أيما تعظيم، وتوعد فاعل ذلك بالوعيد الأكيد والعذاب الشديد في الدنيا والآخرة.(43/1)
العبر من مقتل عثمان وعلي رضي الله عنهما(43/2)
كيف قتل الصحابيان علي وعثمان
الحمد لله الذي بنعمه تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب الأرض والسماوات، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، الرحمن على العرش استوي.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، بعثه ربه على حين فترة من الرسل ودروس من الكتب، فهدى به الخلائق وأبان به الطرائق، وأوضح المحجة وأقام الحجة، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اتبع بإحسان منهجه.
أما بعد: عباد الله! فأوصيكم ونفسي بتقوى الله وخشيته، والتقرب إليه جل وعلا بمحبته وطاعته، قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]، فلا يرينك الله يا أخيّ حيث نهاك، ولا يفقدنك الله جل وعلا حيث أمرك، وإن من أراد حفظاً من الله فليحفظ الله في أمره ونهيه تبارك وتعالى.
عباد الله! قد مضى الحديث فيما سبق عن الخلفاء الراشدين والأربعة المهديين رضي الله عنهم وأرضاهم، ذكرنا نتفاً وعظات، وعبراً ودلائل وآيات من موت أبي بكر واستشهاد عمر رضوان الله تعالى عليهما.
ونحن في هذا اليوم نستأنف الحديث عن مقتل ذي النورين عثمان رضي الله عنه وأبي السبطين علي رضي الله عنه وأرضاه.
أيها المؤمنون! ليس المقام مقام سرد للمرويات وذكر للأخبار والأقاصيص، وتبين الصحيح من السقيم، فهذا موطنه ومحله الطوال من المؤلفات والدراسات الأكاديمية في أروقة الجامعات، وإنما الحديث جملة عن خبر مقتلهما رضوان الله تعالى عليهما وما يمكن أن ينجم عن ذلك من عبر وعظات ننتفع بها في حياتنا ومعادنا، وحسبنا أن نقف على ثلاث منها، تذكيراً للعباد, وإقامة للحجة على الحاضر والباد.
أيها المؤمنون! قتل عثمان رضي الله عنه وأرضاه في يوم عُرف تاريخياً بيوم الدار، على يد ثلة من الخوارج وشقوا عصا الطاعة وخرجوا عن طاعته، حاصروا بيته زهاء أربعين يوماً، ثم أضرموا النيران من الخلف، ثم تمكنوا من دخول صحن الدار وهو يومئذ شيخٌ قد جاوز الثمانين فقتلوه رضي الله عنه وأرضاه.
قيل: إن أول قطرة من دمه نزلت على قول الله جل وعلا والمصحف بين يديه: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:137].
قتل رضي الله عنه ظلماً بإجماع أهل السنة، فهو عند أهل السنة جميعاً، أمير البررة وقتيل الفجرة رضي الله عنه وأرضاه.
وقد دفن في مكان يقال له: (حش كوكب) كان مجاوراً لبقيع الغرقد، فلما كانت ولاية أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه وأرضاه أدخل ذلك الحش في البقيع، وأمر الناس أن يدفنوا بجواره موتاهم حتى يصبح قبر عثمان داخل البقيع، وقد تم الأمر على ما هو مشاهد عياناً اليوم.
أما أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وأرضاه فقد قتل وهو غادٍ إلى صلاة الفجر صبيحة السابع عشر من شهر رمضان على يد خارجي آخر، يقال له عبد الرحمن بن ملجم المرادي، قتل علياً بسيف قد أعده وشحذه لهذه المهمة قبل أكثر من أربعين يوماً.
فقتل علي رضي الله عنه وأرضاه وهو غادٍ إلى صلاة الفجر يدعو الناس إليها، هذا على وجهه الإجمال خبر مقتلهما.(43/3)
خطورة الفكر الخارجي على الأمة
أما ما في ذلك من العظات: فإن الجامع في مقتل هذين الصحابيين هو ذلك التفكير الضال الهالك، الذي يعتقد القائمون عليه أنه الصواب وأنه المخرج للأمة، فإن قتلة عثمان كانوا يزعمون أنهم يريدون بذلك صلاح المسلمين، فمكنوه من الصلاة بالناس ثلاثين يوماً بعد أن حاصروه، ثم منعوه من الصلاة وقدموا أحدهم ليصلي بالناس زاعمين أن عثمان المشهود له بالجنة لا يصلح إماماً، ثم أضرموا عليه الدار من الخلف نيراناً كما بينا، ثم قتلوه وهو شيخ كبير قد جاوز الثمانين وكان صائماً يوم ذاك، وكان بين يديه القرآن يتلوه، لكن غلب عليهم المتشابه في عقولهم، وردوا النصوص المحكمة الظاهرة البينة في حرمة الخروج على ولاة الأمر وشق عصا الطاعة، وعلى حرمة عثمان نفسه رضي الله عنه وأرضاه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حقه: (عثمان في الجنة) رضي الله عنه وأرضاه! وكذلك الأمر مع علي رضي الله عنه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال - كما في المسند بسند صحيح - يخاطب ابنته فاطمة: (إني وأنتِ وهذا الراقد - ويشير إلى علي - والحسن والحسين لفي مكان واحد يوم القيامة)، وجلله النبي صلى الله عليه وسلم بكساء ومعه فاطمة والحسن والحسين وقال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي فصلّ على محمدٍ وعلى آله).
والأخبار في خصائصه أكثر من أن تعد، وأكبر من أن تحصى، وكل ما ورد في فضل الشيخين الجليلين عثمان وعلي ضرب به الخوارج عرض الحائط؛ لأمور متشابهة نبتت في عقولهم، يقولون في سبب قتل عثمان إنه قرب القرابة، واستأثر بهم كولاة على المسلمين، وقتلوا علياً زاعمين أنه قبل التحكيم، والله جل وعلا يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57].
أمام هذين الأمرين المتشابهين اللذين لا يقومان على ساق ولا يثبتان عند حجة، قتلوا رجلين من أفضل العباد في هذه الأمة بعد الصديق والفاروق رضي الله عن أصحاب محمد أجمعين بلا استثناء.
عباد الله! إن أعظم ما يمكن أن يتسلح به المؤمن في أيام الشبهات العلم الشرعي البين من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والأخذ بمنهاج سلف الأمة الصالح والاعتضاد بما تركه النبي صلى الله عليه وسلم من سنة ظاهرة وآيات محكمة، ومعالم بينة ذكرها صلى الله عليه وسلم حفظاً للأمة وخوفاً عليها من الافتراق، وصيانة لدمائها، وجمعاً لكلمتها، ولمّاً لشملها، وإغاضة لعدوها.
كل ذلك ما مات صلى الله عليه وسلم إلا وقد بينه أجمل البيان وأكمله، وإن من يدعو اليوم إلى شق عصا الطاعة، أو يسفك دماء المسلمين أو يرفع السيف عليهم، إنما يخالف بذلك أول الأمر هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وما بعثه الله جل وعلا به من الهدى والرحمة لهذه الأمة، يقول صلوات الله وسلامة عليه: (فاسمعوا وأطيعوا وإن كان عبداً مجدع الأطراف)، أي: مقصوص الأطراف لا يستطيع أن يقضي حاجة نفسه، فإذا كتب الله له الولاية وجب السمع والطاعة، لا إكراماً لهذا المجدع ولكن حفظاً للأمة وصيانة عليها ولمّاً لشعثها، لأن الأمر كما يقول الله: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43].(43/4)
تحريم الظلم وسفك الدماء
ثانية العظات في خبر مقتل هذين الصحابيين: أن الظلم حرمه الله على نفسه وجعله بين عباده محرماً، ففي الحديث القدسي الصحيح: (يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، وقد دلت آيات كثر وأحاديث صريحة صحيحة عن المعصوم صلى الله عليه وسلم على تحريم الظلم.
وأعظم الظلم سفك الدماء، أو التعرض لأعراض المؤمنين أو الخوض فيما لا داعي له مما ينجم عنه ضرر كبير على المؤمن أياً كان.
كل ذلك حذر منه صلوات الله وسلامة عليه، وبعث معاذاً إلى اليمن وهو يوصيه، وهم يومئذٍ أهل كتاب: (واتقِ دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب).
وأكثر ما يظهر هذا الأمر في قتل علي وعثمان: ما رواه البخاري في تاريخه بسنده عن محمد بن سيرين رحمه الله قال: (كنت عند الكعبة: فسمعت رجلاً يدعو: اللهم اغفر لي وإن كنت أظن أنك لن تغفر لي، فقلت: يا هذا! ما سمعت أحداً يدعو بمثل دعائك، فقال الرجل: إنك لا تدري إنني قد كنت أعطيت الله عهداً أنني إذا رأيت عثمان أن ألطم وجهه، فقتل عثمان قبل أن ألطمه، فلما وضع عثمان على سريره في بيته، ودخل الناس يصلون عليه دخلت عليه فيمن دخل كأنني أريد الصلاة عليه، فلما وجدت في الأمر خلوة كشفت عن كفنه ثم لطمته على وجهه ولحيته وهو ميت، قال: فما رفعت يدي إلا وهي يابسة، قد شلت كأنها عود، قال ابن سيرين رحمه الله: فأنا نظرت إلى يده قد شلت كأنها عود! {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:127].
عباد الله! حرم الله الظلم لأن الظالم إنما يظلم لقدرته الوظيفية، لأمرته، لسلطانه، لجنديته، لكونه زوجاً متسلطاً أو ولياً على أيتام، فإن الظالم عندما يظلم كأنه يتناسى أن الله جل وعلا مطلع عليه، وأن الله جل وعلا عزيز ذو انتقام، وأن الله جل وعلا أقدر منه على هذا الذي ظلمه واستضعفه وسفك دمه أو سلبه ماله أو غير ذلك من صور الظلم التي وقعت! فاتقوا الله أيها المؤمنون! فيما تقولون وتفعلون، ولا تدفعنك قدرتك على ظلم أحد أن تظلمه، واعلم أن الله جل وعلا أقدر عليك من كل أحد أنت قادر عليه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24].
فمن عظم الله جل وعلا في قلبه، فإنه يتذكر جلال الله وذلة الوقوف بين يدي رب العزة والجلال قبل أن يظلم، سواء كان بين يديه أجير أو خادمة أو خادم أو سائق أو موظف أو جندي أو غيره.
وإذا خفت الله فيه فإنك من الآمنين يوم القيامة، أما إذا تجرأت على محارم الله وحدوده فقلت بلسانك أو فعلت بيدك أو بسلطانك أو بتوقيعك أو بأي شيء تقدر عليه، ما تظلم به العباد، كنت خائفاً وجلاً بين يدي الله جل وعلا، فلا يجادل الله عنك أحد يوم القيامة، يقول جل شأنه: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36].
وقد ذكرنا مراراً أن المرء يفر يوم القيامة من قرابته وممن يحيطون به في الدنيا؛ لأنه يخاف أن تكون عليه مظلمة لهم فيتسببون في هلاكه بأخذهم لحسناته، أما البعداء من الناس الذين لم يرهم ولم يروه، فإن الإنسان لا يفر منهم يوم القيامة غالباً؛ لأنه لا يرى أنه قد ظلمهم ذات يوم، أو تعرض لهم بأخذ دينار ولا نقص درهم.
فمن اتقى الله جل وعلا ساد وأفلح، ومن عصى الله جل وعلا وتجرأ على محارمه كان الله جل وعلا له بالمرصاد، إلا أن تتداركه رحمة الله فيتوب ويئوب إلى رب العزة والجلال، وقانا الله وإياكم الشر كله أوله وآخره.
عباد الله! هذا ما تيسر قوله وتهيأ إيراده والله المستعان، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(43/5)
أهمية الجانب التعبدي في حياة الإنسان
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد: عباد الله! فإن ثالث الفوائد في خبر مقتل هذين الصحابيين الجليلين وآخرها: أنه ينبغي على المرء أن يكون ثمة جانب تعبدي عظيم في حياته، فإن عثمان قتل وهو صائم، وقتل وهو يقرأ القرآن، وعلي رضي الله عنه قتل وهو غادٍ إلى صلاه الفجر، والغدو إلى صلاه الفجر والصيام وقراءة القرآن كل ذلك من أجل العبادات.
فيجب أن يفرق الإنسان بين دوره الاجتماع، وحياته الوظيفية وبين أمره التعبدي، فإن الناس لا بد أن يتفاوتوا في حياتهم الاجتماعية ودورهم الوظيفي، ومسألة الغنى والفقر والجاه وغيره، هذه سنه الله جل وعلا في خلقه لكن ذلك بمنأى عن أن يعزل الإنسان ذلك عن جانبه التعبدي.
والمعنى: أنه ينبغي أن يكون للإنسان نصيب من العبادة والقرب من الله جل وعلا بصرف النظر عن موطنه، ويقع هذا على الأئمة والخطباء والعلماء والدعاة بصورة أكبر: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44].
والمقصود أيها المؤمنون! أنه كلما كان بين العبد وربه جانب تعبدي - من خلوات بالليل وحزب من القرآن يقرؤه وإكثار من النوافل والصيام وغير ذلك من الطاعات - كان حرياً بأن يكرم عند الله جل وعلا، وقد أثنى نبيكم صلى الله عليه وسلم على نبي الله داود وقد جمع الله له الملك والنبوة فقال صلوات الله وسلامه عليه: (كان داود أعبد الناس، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً)، وذكر من صلاته في الليل ما ذكر.
والمقصود أنه ينبغي على المؤمن أن يكون له حظ من العبادة تكفر به الخطايا، وترفع به الدرجات، وتقال به العثرات، وتحل به العقد، وتدفع به الكوارث، وكل ذلك لا يكون إلا إذا كان العبد قريباً من الله جل وعلا.
ألا واعلموا أنكم في يوم الجمعة سيد الأيام، فصلوا فيه وسلموا على سيد الأنام: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم وارضَ عن أصحاب نبيك أجمعين، وخص منهم الأربعة الراشدين، واغفر لنا معهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين، اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين، اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين.
اللهم إنا نسألك الإيمان، والعفو عما مضى وسلف من الذنوب والآثام والعصيان.
اللهم وفق إمامنا بتوفيقك وأيده بتأييدك، اللهم وفقه لهداك واجعل عمله في رضاك.
اللهم ارزقنا توبة نصوحاً نفيء بها إليك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وانصر أمة محمد صلى الله عليه وسلم في كل مكان، اللهم اقهر عدوها واخذله يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اقهر عدو هذه الأمة واخذله أينما حل وحيثما كان يا ذا الجلال والإكرام.
عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون.
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(43/6)
دنت بشائره [1]
شهر رمضان هو شهر الطاعات، وهو شهر القربات، وشهر القرآن الكريم، وفيه تفتح الجنان، وتغلق النيران، وتصفد الجان.
هو شهر العفو والغفران، وشهر التوبة من العصيان، وهو محطة يتزود منها العبد إلى الدار الآخرة، ونقطة انطلاق في الإصلاح والتغيير.(44/1)
فرض صيام شهر رمضان
الحمد لله الذي خلق خلقه أطواراً، وصرفهم كيفما شاء عزة واقتداراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أراد ما العباد فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعاً لأطاعوه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، خير من صلى وصام وأفطر، الشافع المشفع في عرصات يوم المحشر، صلى الله وملائكته والصالحون من خلقه عليه، كما وحد الله وعرفه به ودعا إليه، اللهم وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله! فأوصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلن، وخشيته تبارك وتعالى في الغيب والشهادة، فإن تقوى الله أزين ما أظهرتم، وأكرم ما أسررتم، وأعظم ما ادخرتم، {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131].
عباد الله! الله أكبر وقد دنت بشائره، وارتفعت منائره، يترقب الليلة أو ما بعدها المسلمون في جميع الأرض هلاله، يفزعون فيه إلى جل وعلا بما شرع من الطاعات، وبما حكم من العبادات؛ تعرضاً لنفحاته، واستجابة لأمره، وطلباً للغفران، وستراً للعيوب.
أيها المؤمنون! إن ربكم يخلق ما يشاء ويختار، وقد جعل الله جل وعلا بحكمته ورحمته وعزته شهر رمضان موئلاً للصيام الذي تعبد الله به عباده، كما تعبد الله به الأمم من قبلنا.
أيها المؤمنون! شهر رمضان شهر مبارك، فرض الله جل وعلا صيامه على خير خلقه وسيدهم صلوات الله وسلامه عليه في السنة الثانية من هجرته، ثم ما زال صلى الله عليه وسلم يصومه حتى وفاته، ثم صامه المسلمون من بعده، فأعظم ما يقع في شهر رمضان من العبادات هو صيام ذلكم الشهر عطفاً على الصلاة المقررة في الحياة كلها.
أيها المؤمنون! نادى الله جل وعلا عباده نداء كرامة لا نداء علامة، فقال تبارك اسمه وجل ثناؤه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، ثم حدد الله زمانه فقال جل ذكره وعلا شأنه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185].
فصيام هذا الشهر المبارك أحد أركان الإسلام العظام، ولا يتصور أبداً أن مسلماً يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم يعمد إلى فطر يوم من أيام هذا الشهر المبارك من غير عذر سفر ولا مرض.
قال الإمام الذهبي رحمه الله: وعند المسلمين مقرر أن من أفطر يوماً من رمضان عمداً من غير عذر فهو شر من الزاني وشر من مدمن الخمر، بل يظنون به الزندقة والانحلال، نعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلالة بعد الهدى.
أيها المؤمنون! إنكم بصيامكم لشهر رمضان تؤدون ركناً من أركان دينكم، وهدياً من هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم، وأنتم بذلك في المقام الأول تستجيبون لأمر ربكم جل وعلا، واستجابة المؤمن لأمر ربه هي عنوان الفلاح، وطريق النجاح، وأساس السعادة، وبها يفوز المؤمن في دينه وبرزخه وأخراه، قال الله جل وعلا: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:72].(44/2)
تفسير قوله تعالى: (إلا الصوم فهو لي)
عباد الله! إن الصوم عبادة وأي عبادة، جاء في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)، وقد اختلفت عبارات أهل العلم في تحديد معنى هذا اللفظ القدسي، وأظهرها -والعلم عند الله- أن الصوم أحد الأركان الأربعة العملية من أركان الإسلام، فالثلاثة غير الصوم وقعت لغير الله إما جهلاً وإما كرهاً وإما طوعاً، فكم من طواغيت عبر التاريخ كله أمروا الناس أن يركعوا ويسجدوا لهم ويعظموهم تعظيماً لا يليق إلا بالله، فوقع ما يشابه الصلاة لغير الله، وإن كان فاعلها لا يعد مسلماً.
وأما الزكاة فالأصل فيها أخذ المال، فوقعت لغير الله، فكم من طواغيت وسلاطين متجبرين جمعوا الأتاوات، وأخذوا الأموال طوعاً أو كرهاً أو جهلاً من الناس.
وأما الحج فالأصل فيه الطواف حول البيت العتيق، وكم من الطواغيت والسلاطين عبر التاريخ الذين أمروا الناس أن يطوفوا حول عروشهم ويعظموهم، ووقع ذلك كذلك من بعض من ينتسب إلى الإسلام ممن يطوف حول الأضرحة والمشاهد والقبور، ويظن أن أصحابها ينفعون شيئاً.
لكن التاريخ كله لم يشهد ولم يقع فيه أن أحداً صام لغير الله؛ لأنه لا يوجد أحد ممن يزعم أنه مستحق للعبادة طلب من الناس أن يعبدوه صياماً؛ لأن ذلك يكلفه أكثر مما يطيق، ولهذا يظهر والعلم عند الله أن المعنى الحقيقي لقوله: (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) أنه عبادة لا يمكن أن تقع لغير الله، ولهذا اختصها الله جل وعلا لنفسه، وأضافها تبارك وتعالى لذاته العلية إضافة تشريف.(44/3)
هدي النبي في صيام رمضان
أيها المؤمن! إنك لن تصوم أكمل من هدي محمد صلوات الله وسلامه عليه، فإذا تأمل المؤمن في سنة أحمد صلوات الله وسلامه عليه عرف الطريق الأقوام والسبيل الأمثل إلى صيامه، فتسحر نبيكم صلى الله عليه وسلم قريباً جداً من صلاة الفجر، وقال: (تسحروا فإن في السحور بركة)، رواه البخاري رحمه الله من حديث أنس، فيتسحر المؤمن حتى يتقوى على طاعة الله، وهو لا يمتنع عن الطعام امتثالاً لأمر طبيب، ولا تقرباً لحبيب، وإنما يصوم رغبة فيما عند الله من الأجر، وامتثالاً لما كان من الله من الأمر.
وأفطر نبيكم صلى الله عليه وسلم على رطبات، فإن لم يجد فتمرات، فإن لم يجد حسى حسوات من ماء، ثم يفزع صلى الله عليه وسلم ويقوم إلى الصلاة، وأخبر في الحديث القدسي أن الله يقول: (أحب عبادي إلي أعجلهم فطراً).
إن المؤمن يمتنع عن الأكل والشرب وما أباحه الله له من الجماع وهو يقدر على ذلك كله؛ رغبة فيما عند الله من الأجر، وامتثالاً لأمر ربه، فإذا انقضى وقت الأمر الإلهي، وانتهت المدة التي حددها الله فزع المؤمن إلى الطعام والشراب؛ يظهر إلى الله جل وعلا فقره، ويقول لربه بلسان الحال: ما أحوجني إلى الطعام والشراب وإلى فضلك، وإنما امتنعت عنه لما أمرتني، فلما أبحت لي أن آكل أكلت، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي صلوات الله وسلامه عليه، والخير كل الخير في هديه واتباع سنته، وامتثال أمره ولزوم هديه.(44/4)
فضل الصدقة في رمضان
عباد الله! إن المؤمن يجمع إلى تلك العبادة العظيمة بعضاً من العبادات وأفعال الخير التي ثبتت عن رسولنا صلى الله عليه وسلم، فقد أكثر نبيكم عليه الصلاة والسلام من الصدقة في رمضان، خاصة إذا لقيه جبريل فإنه يكون أجود من الريح المرسلة، وقد جاء رجل إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأله الصدقة فقال: يا عمر الخير جزيت الجنة اكس بنياتي وأمهنه وكن لنا من الزمان جنة أقسمت بالله لتفعلنه قال عمر: وإن لم أفعل يكون ماذا؟ قال: إذاً أبا حفص لأمضينه قال عمر: وإن مضيت يكون ماذا؟ قال: إذاً أبا حفص لتسألنه يوم تكون الأعطيات هنه وموقف المسئول بينهنه إما إلى نار وإما جنة جعلني الله وإياكم من أهل جنته.
إن إعطاء الفقراء، ومواساة ذوي القربى، وإجابة السائلين رغبة فيما عند الله من الخير من أعظم ما يدل على حسن الظن برب العالمين جل جلاله، فما تعطيه بيدك يخلفه الله جل وعلا عليك، والله تبارك وتعالى خير الرازقين.(44/5)
فضل العمرة في رمضان
إن العمرة في رمضان أيها المؤمنون! مرغب فيها شرعاً، قال صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: (عمرة في رمضان تعدل حجة)، وفي رواية لـ مسلم: (عمرة في رمضان تعدل حجة معي) صلوات الله وسلامه عليه، فالإتيان بها في رمضان قربة وأي قربة، لكن لا يكلف الإنسان نفسه ما لا يطيق، ولا يتعرض لأذى الناس إذا أدى العمرة، وإنما يؤديها طلباً للمغفرة من الله، وسعياً إلى نيل رحمة أرحم الراحمين جل جلاله.(44/6)
مدارسة القرآن في رمضان
قرأ نبيكم صلى الله عليه وسلم في رمضان القرآن، وكان جبريل يدارسه القرآن في كل عام مرة، فلما كان العام الذي توفي فيه صلوات الله وسلامه عليه دارسه جبريل في ذلك العام كالمودع، دارسه القرآن مرتين.
القرآن أيها المؤمنون! كتاب الله، أنزله الله بواسطة خير ملك على خير نبي في خير ليلة من خير شهر، فيتعبد المؤمن ربه جل وعلا بتلاوته وتدبره، والعمل بما فيه، والإيمان بمتشابهه، والعمل بمحكمه، ويفزع إلى أمر القرآن فينفذه، ويرى نهي القرآن فيعرض عنه، كل ذلك خوفاً من الله وفرقاً وامتثالاً لأمره، وطلباً لما عند الله جل وعلا من الأجر والثواب.
يقرأه المؤمن في صلاته، وفي غير صلاته، ويتدبره ويعرف معانيه، حتى يكون إلى الله أقرب، ومن الله أدنى، إذ لا نسب بين الله وبين أحد من خلقه، ولكنه العمل الصالح، ومن أعظم العمل الصالح تدبر القرآن، قال الله جل وعلا: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [المائدة:83 - 85]، كتب الله لي ولكم هذا المقام الرفيع.(44/7)
فضل القيام في شهر رمضان
عباد الله! وكما أن رمضان شهر القرآن، فرمضان أيضاً شهر القيام، قال صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، وصلاة الليل كنز الأبرار، وموئل المتقين الأخيار، يتعبدون الله بها العام كله، فإذا كان رمضان عظم اجتهادهم، وكثرت طاعتهم، وزادت صلواتهم.
وقد شرع لكم نبيكم صلى الله عليه وسلم صلاة التراويح، ابتدأ سنيتها ثلاثة ليال أو أربع، وكان في حياته مازال الوحي ينزل، فخوفاً وشفقة على الأمة أن تفرض عليهم هذه الصلاة امتنع صلى الله عليه وسلم عن الخروج، لكن الناس كانوا يصلونها أرسالاً، وفعلوا كذلك في أيام أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وصدراً من خلافة أمير المؤمنين عمر، فدخل عمر المسجد ذات يوم كما روى البخاري في الصحيح من حديث عبد الرحمن بن عبد القاري أن عمر دخل المسجد فوجد الناس يصلون التراويح أرسالاً، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال رضي الله عنه وأرضاه -وهو المحدث الملهم، المتبع لسنة محمد صلى الله عليه وسلم- قال: لو جمعت الناس على قارئ واحد لكان أكمل.
فجمع الناس على أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه.
ثم دخل المسجد فإذا الناس يصلون بقارئ واحد فقال رضي الله عنه وأرضاه: نعمة البدعة هي، والتي ينامون عنها خير من التي يقومون لها.
أي: لو كانت هذه الصلاة في آخر الليل لكان أكمل، وربما فعلها عمر في أول الليل؛ شفقة على الضعفاء وكبار السن، ومراعاة لأحوال المسلمين.(44/8)
عدد ركعات القيام في رمضان
وأما تحديد عددها فالأمر فيه واسع، قال الشافعي رحمه الله -وهو يمثل أنموذجاً لصالح الأسلاف رضي الله عنهم وأرضاهم- قال: أدركت الناس في المدينة يصلون تسعة وثلاثين، وأدركت الناس في مكة يصلون ثلاثة وعشرين، وليس في ذلك كله من الأمر ضيق، فالأمر فيه واسع.
وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ما زاد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة، لكن السلف معاذ الله أن يتركوا سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، والأمر في هذا واسع، فمن صلى إحدى عشرة ركعة، أو صلى تسعة وثلاثين، أو صلى ثلاثاً وعشرين، أو زاد على ذلك أو نقص فكل ذلك جائز، والمقصود الأسمى والغاية العظمى أن يقوم الإنسان لرب العالمين جل وعلا في الليل، ومن ائتم بإمام فالأفضل والأكمل ألا ينصرف حتى ينصرف إمامه.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال، وجعلنا الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(44/9)
أعمال يجب الإكثار منها في رمضان(44/10)
الاهتمام بالطاعات في شهر رمضان
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد: عباد الله! فلنتذكر ونحن نستقبل شهراً مباركاً أن الله جل وعلا أفسح لنا في الأجل، ومد لنا في العمل، وكم من عبد مرهون في قبره لا يستطيع الخروج منه ليقدم أو يؤخر، فاحمد الله أيها المؤمن! أن الله جل وعلا أكرمك بأن بلغك شهراً مباركاً هو شهر رمضان، فازدد من الطاعات، وسابق في الخيرات قبل حلول الأجل، وقبل فوات الأمل، فالدنيا كلها زهرة حائلة ونعمة زائلة، ولابد من ملاقاة الله.
عباد الله! إن من الغفلة كل الغفلة أن يجعل الإنسان من أيام رمضان ولياليه كأيام العام كلها وليالي العام كلها، فلا يغير من حياته شيئاً، ولا يتقرب إلى الله بتوبة، ولا يعزم أبداً على قراءة القرآن، ولا يُرى في المساجد لا في صلاة تراويح ولا في غيرها، كل هذا والعياذ بالله من الغفلة والران على العبد، نسأل الله لنا ولكم العافية.
فلابد من إخلاص النية، وعقد العزم، وإقامة العمل، والصبر والمصابرة في ذات الرب تبارك وتعالى؛ طلباً للأجر، ودفعاً للوزر، وإرضاء للرب جل جلاله.
عباد الله! ولئن كان ذلك من الغفلة فإن من الجرءة العظيمة على الله أن يعمد الإنسان في شهر مبارك كهذا إلى العلاقات المحرمة، والخلوات الآثمة، وإلى الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فيحارب الله جل وعلا بها بكرة وعشياً، فيستره ربه وهو يمشي في معاصيه غير نادم على ما كان منه، ولا يعرف لله قدراً، ولا من الناس حياءً، ولا للشهر حرماً، فمثل هذا تعظم في القبر هلكته، وتزداد في يوم القيامة حسرته، قال الله جل وعلا: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة:6].
فليبادر كل امرئ منا بالتوبة إلى الله جل وعلا، وليعلم أنه ما حمل أحد على ظهره وكاهله شيئاً أعظم من الذنوب، قال الله جل وعلا: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} [نوح:25]، وقد جعل الله من شهر رمضان فرصة عظيمة للتوبة، قال صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه)، وقال عليه الصلاة والسلام: (الصلوات الخمس، والعمرة إلى العمرة، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن من الذنوب)، فاجعلوا من أيام هذا الشهر المبارك فرصة سانحة لتقوى الله جل وعلا؛ حتى تغفر ذنوبكم، وتستر عيوبكم، وكلنا جميعاً ذو ذنب وعيب، نسأل الله الغفران وستر العيوب كلها.(44/11)
الإكثار من الدعاء في هذا الشهر المبارك
عباد الله! أكثروا من الدعاء في شهركم هذا، فإن الله جل وعلا ذكر الصيام وفضله، ثم ختم الله تلك الآيات الغرر بقوله جل وعلا: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، والدعاء هو العبادة في رمضان وفي غيره، لكن الأماكن الفاضلة والأزمنة التي اختارها الله لها نوع معين من قبول الدعاء، فأكثروا من الدعاء والإلحاح على الله في رمضان وفي غيره أن الله يقبل صالح أعمالكم، ويغفر لنا ولكم السيئات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ * وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} [فصلت:46 - 48].
ألا وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ سيدنا ونبينا محمد بن عبد الله، {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك اللهم على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن أصحاب نبيك أجمعين، وخص اللهم منهم الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلياً، وارض عنا معهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين، اللهم اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين.
اللهم بلغنا رمضان وارزقنا صيامه وقيامه على الوجه الذي يرضيك عنا، اللهم بلغنا رمضان وارزقنا صيامه وقيامه على الوجه الذي يرضيك عنا، اللهم إنا نعوذ بك من فجأة نقمتك، وزوال نعمتك، ومن تحول عافيتك، ومن جميع سخطك.
اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى من الجنة، ونعوذ بك ربنا من النار.
اللهم وفق ولي أمرنا بتوفيقك وأيده بتأييدك، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، واجزه عن الإسلام وأهله خير الجزاء.
اللهم عم بالخير جميع ديار المسلمين، وارفع عنهم الضر واللأواء والبأساء يا حي يا قيوم.
اللهم واجعلنا من عبادك الصالحين الذين يقولون الحق وبه يعدلون.
عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(44/12)
دنت بشائره [2]
إن المؤمن الدارس للسيرة النبوية يدرك من خلال حدثين مهمين وهما: غزوة بدر، وفتح مكة؛ يدرك فوائد جمة وعبر كثيرة تنير له طريقه إلى الله، وتبصره بحقائق فذة، لذا ينبغي للمؤمن أن يتدارس تلك السيرة العطرة، ويستخلص منها المعاني العظيمة، والدلالات السامية، ثم يجعل ذلك نبراساً يضيء له الدرب إلى الله تعالى.(45/1)
وقعة بدر وفتح مكة وما فيهما من الفوائد والعبر
الحمد لله الذي خلق خلقه أطواراً، وصرفهم كيفما شاء عزة واقتداراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فسوى، وقدر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ عن الله رسالاته، ونصح له في برياته، فجزاه الله بأفضل ما جزى به نبيناً عن أمته.
اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه، وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله! فإن تقوى الله أعظم الوصايا وأجل العطايا، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2].
عباد الله! لقد اقترن شهر رمضان بحدثين كريمين مباركين وقعا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هما يوم بدر يوم الفرقان، ويوم فتح مكة يوم علو الشأن.
أيها المؤمنون! لقد تجلت في هاتين المعركتين أو في هذين الحدثين الجليلين معان عظيمة، ودلائل سامية، وعظات بالغة لمن ألقى السمع وهو شهيد.
عباد الله! لعل من أعظم ذلك وأجله يقين المؤمن بعد أن يتدارس السنة والسيرة العطرة والأيام النضرة، وهذين الحدثين على وجه الخصوص: أن يعلم أن الأمور إنما تدبر في الملكوت الأعلى، وأن الله جل وعلا وحده الفعال لما يريد، فلا يقع في الكون إلا ما أراده الله، خفي ذلك عن البعض أو ظهر، فذلك أمر الله جل وعلا وحده.
فقد ذكر الله جل وعلا مسيرة الركب، -أي: قافلة أبي سفيان - وذكر الرب تبارك وتعالى خروج خير الخلق صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وذكر تبارك وتعالى خروج قريش تستنصر لقافلتها، كل ذلك وكل منهم كان يحسب أمراً ووقع آخر، قال الله جل وعلا: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال:42].
وخرج صلى الله عليه وسلم يوم بدر يطلب العير، وخرجت قريش تنتصر لقافلتها، ونجا أبو سفيان بالقافلة، لكن الله جل وعلا أخر وقدم في إخبار كل أحد بما وقع؛ حتى يلتقي الفريقان، ويلتحم الجيشان، ثم يكون يوم الفرقان كما أراد ربنا تبارك وتعالى؛ نصرة لنبيه، وإظهاراً لدينه، وإعلاء لشأن كلمة التوحيد التي بعث الله بها الرسل، وأنزل الله جل وعلا من أجلها الكتب.(45/2)
جعل الله الكعبة مثابة للناس وأمناً
أيها المؤمنون! لقد جعل الله جل وعلا البيت الحرام قياماً للناس، وجعله الله جل وعلا مثابة للناس وأمناً، فحقه أن يعظم ويبجل شرعاً، فيعظم مادياً بتطهيره وإعداده للطائفين والعاكفين والركع السجود، ويعظم معنوياً بأن يذكر الله جل وعلا عنده، وأن يطاف حوله، وقد دخل صلى الله عليه وسلم الكعبة وطهرها من الأصنام، وصلى في البيت ركعتين، وطاف حول البيت، وأمر بلالاً أن يرقى على سطح الكعبة وأن يؤذن، وبقيت الكعبة إلى اليوم وستبقى إلى أن يهدمها ذو السويقتين منارة سامية، وقمة شامخة رمز الخلود وكعبة الإسلام كم في الورى لك من جلال سام وجعل الله جل وعلا البيت الحرام لنا قبلة، يقول صلى الله عليه وسلم: (قبلتكم أحياء وأمواتاً)، فنوجه إليها موتانا، ونتوجه إليه في صلاتنا، ولا نريد البيت وحجارته، لكننا نمتثل لأمر الله جل وعلا وشرعته، ونحن على كل حال عبيد أذلاء للكبير المتعال.
جعلني الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(45/3)
تجلي ما كان عليه النبي من رحمة وخلق حسن في هاتين المعركتين
وتجلى في هاتين المعركتين ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من خلق جم وقلب رحيم، وقد بعثه الله رحمة للعالمين، فلما فدت قريش أسراها بعثت زينب ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلادة كانت أمها خديجة قد أعطتها إياها يوم فرحها؛ لتفدي بها زوجها العاص بن الربيع، فلما رأى صلى الله عليه وسلم القلادة تذكر خديجة ورق لابنته زينب ودمعت عيناه صلوات الله وسلامه عليه.
ولما وقف في مكة بعد أن من الله عليه بالفتح الأعظم والمقام الأكرم قال: (يا معشر قريش! ما ترون أني فاعل بكم؟! قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال صلى الله عليه وسلم: اذهبوا فأنتم الطلقاء).
أيها المؤمنون! عفو رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قدرته على من آذاه دليل على منزلته العظيمة التي تبوأها صلوات الله وسلامه عليه من الخلق الجم، والسلوك القيوم، ولا ريب أن الله جل وعلا قد تعاهده ورباه، قال عليه الصلاة والسلام: (إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمجندل في طينته).(45/4)
ما تجلى في هاتين الوقعتين من محبة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
عباد الله! لقد تجلى في هاتين المعركتين العظيمتين محبة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لنبيهم صلوات الله وسلامه عليه، فآمنوا بأن الله واحد لا شريك له، وهو الذي بعثه، فأحبوا نبيهم ونصروه وعزروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، أناجيلهم في صدورهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
الله يعلم ما قلبت سيرتهم يوماً وأخطأ دمع العين مجراه في تلك الغزوة وفي غيرها في كل محفل وموطن أثبتوا محبتهم ونصرتهم لرسول الله، وقد تجلى ذلك فيهم أفراداً وجماعات، فعلى مستوى الجماعة هو ظاهر في كل غزوة وموطن وسرية، وعلى مستوى الأفراد في يوم بدر وقف صلى الله عليه وسلم يقوّم صفوف الجيش قبل المعركة، فإذا بـ سواد بن غزية رضي الله عنه وأرضاه بارز عن الصف، فطعنه صلى الله عليه وسلم بقدح كان معه في بطنه، وقال له: (استو يا سواد!) أي: ارجع إلى الصف، (قال: يا رسول الله! أوجعتني، وقد بعثك الله بالعدل والحق فأقدني، فكشف صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال له: استقد -أي: خذ حقك- فأقبل سواد على بطن رسول الله يعانقه ويقبله، فتعجب صلى الله عليه وسلم وقال: ما حملك على هذا يا سواد؟! قال: يا رسول الله! قد حضر ما ترى -أي: من قرب الموت ودنو الأجل، فهذه ساحة معارك- فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك)، إنه أنموذج لتلك المحبة التي كانت في قلوبهم رضي الله عنهم وأرضاهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولقد تجلت في الأنصار على وجه الخصوص الذين قال الله جل وعلا عنهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9].
وكان الصديق رضي الله عنه إذا ذكر الأنصار ومواقفهم ومناقبهم يقول: لا أجد بيننا وبين هذا الحي من الأنصار إلا كما قال الأول: أبوا أن يملوا ولو أن أمنا تلاقي الذي يلقون منا لملتِ فرضي الله عنهم وأرضاهم، وجمعنا بهم في جنات النعيم مع رسولنا صلى الله عليه وسلم.
عباد الله! إن وعد الله حق لا محالة، وما الدنيا إلا زهرة حائلة ونعمة زائلة، وكانت قريش عندما بعث نبينا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق يحذرهم يوم المعاد، ويوم البعث والنشور وحشر العباد، وهم يهزءون به ويسخرون منه، قال له العاص بن وائل وقد حمل رفات عظم: أتزعم يا محمد أن ربك يحيي هذا بعد موته؟ قال صلى الله عليه وسلم: (نعم ويدخلك النار).
ثم كان ما كان من قتلى بدر، فوضعهم صلى الله عليه وسلم -أي: قتلى المشركين- في بئر مهجورة تعرف بالقليب، ثم وقف صلى الله عليه وسلم يناديهم: (يا أبا الحكم بن هشام يا شيبة بن ربيعة يا عتبة -يناديهم بأسمائهم- هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً، فقال له عمر رضي الله عنه: يا نبي الله! أتخاطب أقواماً قد جيفوا؟! قال: يا عمر! ما أنت بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون جواباً).
فيتذكر المؤمن هذا الموقف في الدنيا، ويعلم أن هناك في الآخرة يوماً يقال له عياذاً بالله يوم اللعنة، يفصل فيه بين أهل الإيمان وأهل الكفر، ويفصل فيه بين أهل الجنة وأهل النار، ويفصل فيه ما بين من يعملون الصالحات ويعملون السيئات، قال الله جل وعلا: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف:44].
اللهم اجعلنا ممن يحيى يرتقب وعدك الحق(45/5)
إكرام الله لرسوله في هاتين الوقعتين
أيها المؤمنون! لقد تجلى في هذين الحدثين العظيمين إكرام الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، فالصبر مطية وأي مطية أعطاها الله جل وعلا أنبياءه ورسله، ولهذا قال الله مخاطباً خير خلقه، {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35].
ولما سجد نبيكم صلى الله عليه وسلم أيام البعثة الأولى عند الكعبة انتدبت قريش رجلا ًمنها يضع على ظهره الشريف -وهو أكرم الخلق على الله- سلى الجزور، فمكث سلى الجزور على ظهره الشريف ما شاء الله له أن يمكث، وعبد الله بن مسعود مسلم حاضر لا يستطيع أن ينتصر لنبيه، فبعث رجل رسولاً إلى فاطمة ابنته، فجاءت فاطمة وحملت سلى الجزور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نظر صلى الله عليه وسلم إلى أولئك الذين ائتمروا عليه وتهكموا به، فدعا عليهم وهو عند الله نبي وأي نبي، وكريم وأي كريم.
قال ابن مسعود وقد شهد الواقعة الأولى: فلقد رأيت من دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى يوم بدر في القليب -قليب بدر- فانظر أيها المؤمن ما هي إلا سنوات ثم انتقم رب الأرض والسماوات لخير من ختم الله به الرسل، وأتم الله به النبوات.
وفي أيام البعثة الأولى هم صلى الله عليه وسلم أن يدخل الكعبة فمنعه عثمان بن أبي طلحة سادن الكعبة يومئذ من دخول البيت، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا عثمان! كيف بك إذا كان المفتاح بيدي أضعه بيد من أشاء، فقال عثمان: لقد ذلت قريش يومئذ وهانت)، ثم مضت السنون ومرت الأعوام والله جل وعلا يحفظ نبيه وينصره ويكلأه، حتى دخل صلى الله عليه وسلم الكعبة يوم الفتح عزيزاً وما كان ذليلاً قط، وكان منيعاً محفوظاً بحفظ الله جل وعلا له، فكبر في نواحيها، وصلى بالبيت ركعتين، ولما هم بالخروج أنزل الله جل وعلا عليه وهو عليه السلام عند عضدتي باب الكعبة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]، فقال صلى الله عليه وسلم بعدما خرج: (أين عثمان بن طلحة؟ قال: أنا هنا يا رسول الله! فأعطاه النبي مفتاح الكعبة كما أخبر به في الأول، وقال: خذوها يا بني شيبة خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم)، فهي إلى اليوم فيهم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وقد صدق الله وهو أصدق القائلين: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]، وصدق الله وهو أصدق القائلين: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110].
أبعد هذا يتوكل على غير الله؟! أبعد هذا يلجأ إلى غير الله؟! أبعد هذا يؤمل أحد أن ينصره أحد غير الله؟! قال العز بن عبد السلام رحمة الله تعالى عليه: والله لن يصلوا إلى شيء بغير الله، فكيف يوصلوا إلى الله بغير الله؟! اللهم اجعلنا ممن توكل عليك فكفيته.(45/6)
ليلة القدر وفضائل الاعتكاف وآدابه(45/7)
الاعتكاف في رمضان
والاعتكاف أيها المؤمنون سنة من سنن نبيكم صلى الله عليه وسلم، فمن رام أن يعتكف العشر كلها فليدخل معتكفة صبيحة يوم عشرين، وإن دخل المعتكف قبل غروب يوم عشرين أدرك اعتكاف العشر كلها إن لم يخرج من اعتكافه إلا بعد ثبوت العيد إما برؤية الهلال، وإما بإتمام رمضان ثلاثين يوماً.(45/8)
آداب الاعتكاف
ويحسن بالمعتكف أن يبقى في معتكفه في وقت العبادة من الذكر وقراءة القرآن والتسبيح والتهليل، وألا ينشغل بالخلائق عن الخالق، وأما وقت الصلاة فالأكمل في حقه أن يتقدم حتى يكون قريباً من إمامه.
والاعتكاف أيها المؤمنون إنما يراد به الانقطاع إلى رحمة رب العالمين جل جلاله، فيكون فيه ذكر الله وقراءة القرآن والتسبيح والتهليل، ولو نام شيئاً من نهاره حتى يستعين بذلك على العبادة بالليل كان أكمل وأعظم وأوفر؛ لأن ليلة القدر ليلاً لا نهاراً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:1 - 5].
فاجتهدوا فيها بالدعاء والعبادة، وقد يوفق بعض الناس في أن يرى علامات على أنها ليلة القدر، لما روى الترمذي بسند صحيح من حديث عائشة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن علمت أي ليلة هي ليلة القدر ماذا أقول فيها؟ قال العلماء: فقولها رضي الله عنها وعن أبويها: (أرأيت إن علمت) دل على أنها قد تعلم، فقد يضع الله جل وعلا بعض العلم لبعض خلقه من علاماتها وأماراتها، لكن لا يلزم من كون الإنسان لم ير علامة عليها على أنه لم يقمها ولم يحيها، فليس هناك تلازم ما بين العبادة والقبول وبين وجود أمارة وعلامة على أنها ليلة القدر.
فاجتهدوا في الأوتار، واجتهدوا في الشفع من كل الليالي، واعلموا عباد الله! أننا جميعاً لنا ذنوب نحب من الله أن يغفرها، ولنا عيوب نحب من الله أن يسترها، ولنا آمال نحب من الله أن يحققها، ولنا ديون نحب من الله أن يقضيها، ولنا مخاوف نحب من الله أن يؤمننا منها، وكل ذلك لا يعطيه ولا يدفعه إلا الرب تبارك وتعالى، فعلقوا بالله أنفسكم، واحمدوا الله كثيراً، وابدءوا الدعاء بكثرة الثناء عليه؛ فإنه لا أحد أحب إليه المدح من الله، ولذلك مدح نفسه، ثم صلوا بعد حمدكم لله والثناء عليه على نبيكم، ثم تقربوا إلى الله بصالح الدعاء ملحين موقنين بالإجابة؛ لعل الله أن يجعلنا وإياكم من عتقائه من النار.
ألا وصلوا وسلموا على خير من قام ليلة القدر، الشافع المشفع في عرصات يوم المحشر، {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك اللهم على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وارض اللهم عن أصحاب نبيك أجمعين، وارحمنا معهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين! اللهم وفق ولي أمرنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، واجزه اللهم عن الإسلام وأهله خير الجزاء.
اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد أنت الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد، الفرد الصمد، الحي القيوم، الذي لم يلد ولم يولد، في السماء عرشك، وفي كل مكان رحمتك وسلطانك، تعطي وتمنع، وتخفض وترفع، وأنت الله لا إله إلا أنت الأعز الأكرم، أرجعت موسى إلى أمه، ورددت يوسف إلى أبيه، وجمعت بيعقوب بنيه، وجعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم، أنت الله لا إله أنت بيدك مقاليد كل شيء، أنت الله لا إله إلا أنت الحي حين لا حي، وجهك أكرم الوجوه، وعطيتك أحسن العطايا، واسمكم الأعظم أحسن الأسماء، أنت الله لا إله إلا أنت لا رب غيرك، ولا شريك معك، نسألك اللهم بمحامدك كلها يا ذا الجلال والإكرام! أن تصلي على محمد وعلى آله، وأن تعتقنا من النار، وأن ترزقنا يا الله قيام ليلة القدر على الوجه الذي يرضيك عنا، اللهم ارزقنا قيامها على الوجه الذي يرضيك عنا، اللهم ارزقنا قيامها على الوجه الذي يرضيك عنا.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.(45/9)
التماس ليلة القدر
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
أيها المؤمنون! برحمة من الله وفضل تتبوءون في هذه الأيام العشر الوسطى من شهركم المبارك أتم الله علي وعليكم فيه النعمة، ونبيكم صلى الله عليه وسلم -وهو الأكمل هدياً- كان يجتهد في العشر الوسطى ما لا يجتهده في العشر الأول، واعتكف صلى الله عليه وسلم في أول أمره في العشر الوسطى يلتمس ليلة القدر، حتى كانت صبيحة يوم عشرين خرج صلى الله عليه وسلم في صبيحتها على الناس وقال: (من كان معتكفاً فليبق على اعتكافه، فإنني كنت ألتمسها في العشر الوسطى، ثم إنني أخبرت أنها في العشر الأواخر، فمن كان معتكفاً فليعتكف معي، وإنني أريت أنني أسجد في صبيحتها في ماء وطين)، قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه راوي الحديث: فأمطرت السماء في تلك الليلة فوكف المسجد وكان سقفه من عريش، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وقد انصرف من صلاة الصبح وعلى وجهه أثر الماء والطين.
لما أتتك قم الليل استجبت لها تنام عينك أما القلب لم ينم الليل تسهره بالوحي تعمره وشيبتك بهود آية استقم صلوات الله وسلامه عليه.(45/10)
اختلاف العلماء في تعيين ليلة القدر
من هذا الحديث ذهب بعض العلماء إلى أن ليلة القدر هي ليلة إحدى وعشرين؛ لظاهر الحديث الصحيح الصريح هذا، وذهب بعضهم إلى أنها ليلة ثلاث وعشرين لحديث آخر مشابه له، وذهب أبي بن كعب سيد القراء رضي الله عنه وأرضاه وكان يقسم على أنها ليلة سبع وعشرين، كما أخرجه مسلم في الصحيح من طريق زر بن حبيش.
وذهب بعض العلماء إلى أنها تتنقل؛ جمعاً بين الروايات، أي: أن ليلة القدر تكون في كل عام في ليلة غير التي سبقت، ولا يلزم أن تكون في سائر الليالي والأعوام في ليلة معينة، وهؤلاء القائلون بالتنقل ذهبوا إلى هذا جمعاً بين الروايات الصحيحة.
وأياً كان الأمر فإن ليلة القدر في رمضان قطعاً، ومن قام العشر الأواخر كلها إيماناً واحتساباً متأسياً بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يوافقها، وقد كان إذا دخلت العشر أيقظ أهله وأحيا ليله، وشد المئزر، وهذه كناية عن السعي والجد في الطاعة والعبادة، إلا أنه لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم قام ليلة بأكملها، وإنما يصلي بعض الليل، ويذكر بعضه، ويسبح في بعضه، ويقرأ القرآن في بعضه، فهذه العشر المباركات معين لا ينضب، قال الله جل وعلا: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3] أي: أن العبادة فيها تزن وتساوي عند الله عبادة ألف شهر ليس فيهن ليلة القدر، ولا ريب أن المؤمن الحصيف العاقل المتبع لهدي محمد صلى الله عليه وسلم لا يمكن له بحال أن يفرط في هذه الليالي المباركات.(45/11)
مع سورة (ق)
سورة (ق) من أعظم السور التي تؤثر في القلب، وتنقل الإنسان إلى معايشة أحداث الآخرة مما يدفعه إلى المسارعة في الصالحات، والمبادرة إلى عمل الخيرات، والإقلاع عن المنكرات(46/1)
القرآن العظيم يرد على المشركين ويوبخهم
الحمد لله الذي تقدست عن الأشباه ذاته، ودلت على وجوده آياته ومخلوقاته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خالق الخلق بما فيه، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، نبي شرح الله له صدره ورفع الله له ذكره، ووضع الله عنه وزره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن سورة (ق) سورة مكية النزول، وطالما قرأها وتلاها وبين أسرارها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة جمعته على منبره حتى حفظ بعض الصحابة هذه السورة من فيه الرطب صلوات الله وسلامه عليه.
ولما كان لا هدي أكمل من هديه ولا طريق أقوم من طريقه، فإنه حري بكل من رغب في اتباع السنة والتماس الهدي النبوي أن يشرع بين الحين والآخر في ذكر ما في هذه السورة من عظيم الآيات وجلائل العظات وبالغ التخويف من رب العالمين جل جلاله لعباده.
أيها المؤمنون! لا أحد أعلم بالله من الله تبارك وتعالى، ولا أحد أدل على الطريق الموصل إلى جنانه والمبعد عن نيرانه منه تبارك وتعالى، ولهذا أقسم الله جل وعلا في هذه السورة بالقرآن وختم هذه السورة بقوله جل شأنه: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45].
وإن المؤمن إذا كان على الفطرة قويماً، وعلى منهاج محمد صلى الله عليه وسلم مستقيماً، لا يتأثر بشيء أعظم من تأثره بالقرآن.
فبالقرآن يجاهد المؤمن، قال الله جل وعلا: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52].
وبالقرآن يقوم المؤمن بين يدي ربه: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79].
وبالقرآن يخوف من عصى الله: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45].
جعله الله جل وعلا شرفاً لهذه الأمة في الدنيا والآخرة: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44].
والذكر هنا بمعنى الشرف العالي والمقام العظيم الذي آتاه الله نبيه صلى الله عليه وسلم بما أوحى إليه من هذا القرآن العظيم.
ثم أخبر تبارك وتعالى أن أعظم العجب الذي انتاب كفار قريش أنهم استكبروا أن يبعث رسول من بين أظهرهم يعرفهم ويعرفونه، فقالوا مستكبرين كما قال الله جل وعلا: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} [ق:2].
وهذه العلة في الرد هي العلة التي ذكرتها الأمم من قبل، فأكثر الأمم التي بعث إليها الرسل كان أكبر حجتهم في الرد على رسلهم أنهم اعترضوا أن يبعث الله جل وعلا بشراً رسولاً.
فأخبر الله تبارك وتعالى أنه لو قدر أن ينزل الله جل وعلا ملكاً لكان هذا الملك بشراً رسولاً يحمل أوصافهم ولبقي الأمر ملتبساً عليهم.
ورسولنا صلى الله عليه وسلم كانت قريش تعرفه قبل أن يبعث بأمانته وعفافه وطهره صلوات الله وسلامه عليه، تعرف منشأه ومدخله ومخرجه، فليس لهم حجة في اعتراضهم عليه صلوات الله وسلامه عليه، بل الأمر رحمة محضة يضعها الله جل وعلا حيث يشاء، قال جل ذكره: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] فقال تبارك وتعالى مجيباً لهم: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف:32].
فاقتضت رحمة الله جل وعلا وحكمته ومشيئته أن يكون محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه خاتم الأنبياء وسيد الأولياء وأفضل الخلق أجمعين، ولله جل وعلا الحكمة البالغة والمشيئة النافذة.
{بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} [ق:2] وكما اعترضوا على الرسول اعترضوا على الرسالة، وأعظم ما اعترضوا به إنكارهم للبعث والنشور، وأن العظام إذا بليت والأجساد إذا تقطعت كيف سيكون لها بعد ذلك مبعث ونشور، فقالوا: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:3].
فقال الحق جل جلاله وعظم سلطانه: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق:4].
قال صلوات الله وسلامه عليه: (كل جسد ابن آدم يبلى في قبره إلا عجب الذنب، منه خلق وفيه يركب).
أجساد الشهداء، وأجساد حفاظ القرآن، وأجساد الصالحين، وأجساد غيرهم من الخلق أجمعين كلها تبلى إلا أجساد الأنبياء، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا كانت ليلة الجمعة أو يومها فأكثروا من الصلاة علي، قالوا: يا رسول الله، كيف نصلي عليك وقد أرمت؟ قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء).
فخرجت أجساد الأنبياء بهذا الحديث الصحيح، وبقي غيرها من الأجساد عرضة للبلاء والذهاب كما أخبر الله تبارك وتعالى ظاهراً في كتابه، وكما بينته السنة الصحيحة الصريحة عن رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه.
{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق:4] ذلكم هو اللوح المحفوظ.
فقوله: (حَفِيظٌ) أي: محفوظ لا يتغير ولا يتبدل، فهو حفيظ لا يشذ عنه شيء، حفيظ كتبته الملائكة بأمر من الرب تبارك وتعالى، فما فيه لا يتغير ولا يتبدل إلى أن يقوم الخلق ويحضر الأشهاد بين يدي رب العباد تبارك وتعالى.(46/2)
جليل صنائع الله وعظيم خلقه
ثم ذكر جل شأنه بعضاً من عظيم خلقه وجلائل صنائعه، فذكر السماء والأرض وإنزال المطر وإنبات الزرع وأن ذلك كله لا يخلقه إلا الله تبارك وتعالى.
ومن تأمل في عظيم المخلوقات دلته بصيرته وبصره إلى رب البريات جل جلاله، فما أجمل أن تكون الأشياء من حولنا تدلنا على ربنا تبارك وتعالى.
قال الله جل وعلا عن القانتين من خلقه والمتقين من عباده: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191].
فما عظمة المخلوق إلا دلالة على عظمة الخالق، وما جلالة المصنوع إلا دلالة على جلالة البارئ جل شأنه، وما من مخلوق إلا والله جل وعلا خالقه ومدبره، وذلك المخلوق فقير كل الفقر إلى الله والله جل وعلا غني كل الغنى عن كل مخلوق، خلق العرش وهو مستغن عن العرش، خلق حملة العرش وهو مستغن عن حملة العرش، خلق جبريل وميكال وإسرافيل وملك الموت وغيرهم من الملائكة وهو جل وعلا مستغن كل الغنى عنهم، وهم أجمعون فقراء كل الفقر إلى ربهم تبارك وتعالى.
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:2]، فحياته جل شأنه حياة كاملة لم يسبقها عدم ولا يلحقها زوال، وقوله جل وعلا: (الْقَيُّومُ) أي: قيوم السماوات والأرض، احتاج كل أحد إليه واستغنى جل وعلا عن كل أحد، لا إله إلا هو رب العرش العظيم.(46/3)
إثبات قدرة الله على البعث بعد الموت
ثم ذكر جل وعلا بعد ذلك الخصومة التي كانت بين نبيه صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش، فإنهم اعترفوا أول الأمر بأن الله هو خالقهم ثم قالوا: إن الله غير قادر عن أن يبعثنا، فقال الله جل وعلا: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق:15] وهم موافقون على أننا قد خلقناهم أول مرة، لكن اللبس الذي في قلوبهم والشك الذي في صدورهم إنما هو ناجم عن إعادة البعث والنشور.
قال الله جل علا مجيباً العاص بن وائل لما أخذ عظاماً بالية ووضعها في كفه ثم نفثها في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: أتزعم يا محمد أن ربك يعيد هذا بعد خلقه؟ قال الله مجيباً له: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس:78 - 81] آمنا بالله الذي لا إله إلا هو.(46/4)
قرب الله جل وعلا من عباده
ثم قال جل وعلا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16].
وهذا قرب الله جل وعلا من عباده بملائكته، بذلكم الرقيبين اللذين يحصيان الكلمات ويعدان الأفعال، الذي عن اليمين يكتب الحسنات ويشهد على الآخر، والذي عن الشمال يكتب السيئات ويشهد على الآخر، ثم يلتقيان بين يدي الله الذي لا تخفى عليه خافية، فطوبى لعبد كانت سريرته خيراً من علانيته.
قال الله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} [ق:16 - 17] وهذا بيان للأول، أي: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد) حين يتلقى المتلقيان.
{إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:17 - 18] تمضي على ذلك أيامه وأعوامه وما كتب الله له من الحياة حتى يواجه سكرة الموت، وكلما تلفظ به مسطور مكتوب لا يغيب.(46/5)
سكرات الموت
قال الله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] أي: تفر، فلا يوجد أحد يلقي بنفسه إلى المهالك.
وقف الصديق رضي الله عنه يواجه سكرة الموت وهو مضطجع في بيته، فكانت ابنته عائشة رضي الله عنها تردد قولاً قديماً لـ حاتم طي: لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر فكشف الصديق وهو في سكرة الموت عن غطائه وقال: يا بنية، لا تقولي هذا، ولكن قولي كما قال الله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19].
وسكرة الموت غرغرة الروح قبل أن تخرج من الجسد، فإذا خرجت سميت روحاً، وإذا بقيت ما زالت نفساً، وهي لحظات يواجهها كل أحد، ولو بدا لك بين عينيك أن الميت لا يواجه شيئاً من هذا، فكم من أمر مخفي لا يعلمه إلا الله! ويشتد الموت على الأنبياء؛ لأن الموت مصيبة، والمصيبة أعظم ما تكون على الصالحين وأولياء الله المتقين، وإن لم يبد ذلك ظاهراً للعيان لمن كان محيطاً بالميت؛ لكن الميت حال نزع الروح يواجه من الأمور العظام ما الله به عليم، ثم يخففه الله جل وعلا فتنزع روحه آخر الأمر نزعاً رفيقاً خفيفاً لعناية الرب تبارك وتعالى بأوليائه بعد أن تثبتهم الملائكة، كما قال الله جل وعلا في فصلت: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30].
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [ق:20] أي: مرت على الناس أهلة وأهلة وهم في قبورهم، ثم انتهى الأمر إلى الفناء العام فنفخ في الصور النفخة الأخرى فقام الناس بين يدي ربهم.
{وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:21 - 22] فليست حياة البرزخ ولا حياة الآخرة كحياة الدنيا، فإن في الدنيا من الغيبيات ما الله به عليم، وفي حياة البرزخ ينكشف الكثير من تلك الغيبيات، وفي حياة الآخرة يصبح الأمر كله عين اليقين، يرى الإنسان ما كان يسمعه ويتلوه من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم, وما أخبر به من الغيبيات ماثلاً بين عينيه، قال الحق جل شأنه: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22].(46/6)
جزاء المجرمين وجزاء المتقين
وهنا يقول قرينه الذي وكل إليه من الشياطين: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [ق:23] فيكون الخطاب الرباني: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} [ق:24 - 26].
أيها المؤمنون! لا ذنب يلقى الله جل وعلا به أعظم من الشرك، فإنه ذنب لا يغفره الله أبداً.
أما المؤمنون فإن أول عمل ينظر فيه ما كان بينهم وبين الله وهو الصلاة، فمن حافظ عليها فقد حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع.
وأول ما ينظر إليه مما بين الناس مسألة الدماء، فأول ما يقضى به بين الخلائق الدماء.
ثم قال الله جل وعلا: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} [ق:31 - 32] المؤمن في طريقه إلى الله جل وعلا يقول الله عنه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] ينتابه الحزن والسرور والصحة والمرض والشباب والشيخوخة وتنتابه أمور كثيرة ومطالب عظام، يدلف حيناً إلى الطاعات، ويقع أحياناً في المعاصي، ويستغفر ما بين هذا وذاك، يفقد أمواله، يفقد أولاده، إلى غير ذلك مما يشترك فيه أكثر الناس، فيبقى الحزن في قلبه حتى يقف بين يدي الله جل وعلا وييمم كتابه ويرى الجنة قد قربت وأزلفت، فإذا دخلها نسي كل بؤس وحزن قد مر عليه قبل ذلك، جعلني الله وإياكم من أهل ذلك النعيم.
قال الله: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا} [ق:32] أي: الذي ترونه، {مَا تُوعَدُونَ} [ق:31 - 32] أي: ما كنتم توعدونه في الدنيا.
{لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} [ق:32] أواب: دائم التوبة والإنابة والاستغفار لله جل وعلا، (حفيظ) لجوارحه أن تقع في الفواحش التي حرم الله من ما ظهر منها أو بطن.
{هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ} [ق:32] وذكر الله جل وعلا النار قبل ذلك وأنها يلقى فيها حتى تقول: قط قط، أي: يكفي يكفي، قال الله جل وعلا قبل ذلك: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30].
وقوله: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:31 - 33] ما القول الذي يقال لهم؟ يقول لهم العلي الأعلى: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} [ق:34].
والموت أعظم ما يخوف به الناس في الدنيا، ولأجل ذلك يذهب عنهم يوم القيامة.
قال الله جل وعلا: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] وأعظم ما فسر به المزيد رؤية وجه الله تبارك وتعالى.
اللهم إنا نسألك في مقامنا هذا لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(46/7)
رد الله على اليهود
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
ثم قال جل ذكره: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:36 - 37] وإن من دلائل الاتعاظ والإيمان أن ينظر الإنسان في الأمم الغابرة والأيام الخالية، فينظر إلى صنيع الله جل وعلا في من عصاه، ورحمته تبارك وتعالى بمن أطاعه واتبع هداه.
زعمت اليهود أن الله بدأ الخلق يوم الأحد وانتهى يوم الجمعة واستراح يوم السبت، تعالى الله عما يقولون الظالمون علواً كبيراً، فقال جل ذكره ممجداً نفسه ومادحاً ذاته العلية: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38].
ثم أمر نبيه بالصبر على ما يقوله أعداؤه: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ق:39] ولا بد للصبر من مطية، ألا وأعظم المطايا ذكر الله تبارك وتعالى، والوقوف بين يديه مناجاة ودعاء، قال الله جل وعلا: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق:39].
فدعا نبيه إلى كثرة الصلاة والذكر - على القول بأن التسبيح هنا الصلاة - وقيل إنه الذكر المطلق والمقيد وهو أظهر والعلم عند الله.
ثم قال: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [ق:41] هذا نداء لكل من يقرأ القرآن، والمنادي هو إسرافيل عليه السلام، والمكان القريب بيت المقدس، سمي قريباً لأنه قريب من مكة، وهذه السورة نزلت في مكة، وليس بيت المقدس عن مكة ببعيد.
{وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} [ق:41 - 42] ينادي: أيتها العظام البالية، أيتها الأوصال المتقطعة، إن الله يدعوكن لفصل القضاء! فتجتمع الأجساد وتدب فيها الأرواح بعد أن تخرج من مستقرها ويخرج الناس لرب العالمين.
{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} [ق:43 - 45] سواء جهروا به أو لم يجهروا، فالقلوب له مفضية والسر عنده علانية، وليس عليك أيها النبي إلا البلاغ، فقال الله جل وعلا له: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45] عوداً على بدأ، فكما أقسم الله بقرآنه العظيم في بدابة السورة، ختم السورة به كما بيناه في أول خطبتنا، وذلك أن القرآن جعله الله جل وعلا هدى ونوراً لهذه الأمة.
جاء النبيون بالآيات فانصرمت وجئتنا بحكيم غير منصرم آياته كلما طال المدى جدد يزينهن جلال العتق والقدم فصلوا وسلموا على من أنزل إليه هذا القرآن، إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن أصحاب نبيك أجمعين بلا استثناء، وخص اللهم منهم الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء، وارحمنا اللهم برحمتك معهم يا ذا الجلال والإكرام، واغفر اللهم لنا في جمعتنا هذه أجمعين.
اللهم وفق ولي أمرنا بتوفيقك وأيده بتأييدك، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، اللهم وأصلح أحوال أمة محمد صلى الله عليه وسلم في كل مكان، اللهم إنا نسألك الإيمان والعفو عما مضى وسلف وكان من الذنوب والآثام والعصيان.
اللهم من روع أهل مدينة رسولك صلى الله عليه وسلم فمكن منه واخذله يا رب العالمين، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، والفوز بالجنة والنجاة من النار، اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى من الجنة، اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى من الجنة، اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى من الجنة.
عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(46/8)
إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا يؤمن المرء حتى يحب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من محبته لنفسه وماله وولده، وقد صدر من بعض الصحفيين في الدنمارك استهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم مما أثار غيرة المسلمين، وقد كان للعلماء تجاه هذا الحدث مواقف تدل على مكانتهم الدينية.(47/1)
سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بصورة مجملة
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد: فإن الإنسان إذا أدرك يقيناً أنه عبد لربه تبارك وتعالى، وابن عبد وابن أمة، انتصب لما أمره الله جلّ وعلا به, وأذعن لما بلغه الله جل وعلا إياه على ألسنة رسله.
وإن مما أفائه الله علينا -معشر المسلمين- أن جعلنا الله جل وعلا حظاً لهذا النبي عليه الصلاة والسلام من الأمم، كما جعله حظنا من النبيين.
وهو عليه الصلاة والسلام بشارة أخيه عيسى، ودعوة أبيه إبراهيم من قبل، ورؤيا أمه التي رأت قبل أن تضعه أن نوراً خرج منها أضاءت له بصرى من أرض الشام، صلوات الله وسلامه عليه.
والحديث عنه ليس كالحديث عن كل أحد من الخلق، وإن كان صلى الله عليه وسلم من جملة الخلق: (إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله).
فلا نتعدى به ما وضعه الله جل وعلا فيه من المقام الرفيع والمنزلة الجليلة, إلا أن من رحمة الله جل وعلا بنا، وفيئه علينا تبارك وتعالى أن جعلنا من أمته، نسأل الله الثبات على ذلك حتى الممات، وأن يحشرنا جل وعلا يوم القيامة في زمرته.
نسمع المؤذن كثيراً يقول: أشهد أن محمداً رسول الله, فتتعلق قلوبنا وتهفو أفئدتنا إلى ذلك المعنى الجميل الذي ينطوي تحت هذه الشهادة المباركة، وإن أعظم ما يفيء إلينا أن الإنسان يتمنى لو قدر له لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم.
ومعلوم أن هذا أمر قد مضى قدراً بقدر الله جل وعلا ورحمته، ونحن دائماً وأبداً مؤمنون مذعنون لقضاء الله جل وعلا وقدره, فإن كان قد فاتنا شرف الصحبة فقد بقي لنا شرف الإتباع.
أقول: إن قول المؤذن: (أشهد أن محمداً رسول الله) يضع المؤمن أمام تاريخ مجيد، وشخصية فريدة، وعبد وأي عبد أثنى الله عليه في الملأ الأعلى، بل جعله الله جل وعلا أمنة لأهل الأرض من العذاب, قال الله جل وعلا عن طغاة الأرض يومئذ وهم كفار قريش: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33] صلوات الله وسلامه عليه, مع أن تعذيب الأمم السابقة سنة ماضية لم تتغير إلا بعد مبعثه صلوات الله وسلامه عليه.
كما أنه عليه الصلاة والسلام عرج به ربه بواسطة جبريل إلى الملأ الأعلى والمحل الأسنى, وتجاوز مقاماً يسمع فيه صريف الأقلام, كل ذلك من احتفاء الله وإظهاره كرامة هذا النبي.
ولقد قال الله تعالى على لسان الخليل إبراهيم مثنياً على مقامه عند الله: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47].
فكيف الاحتفاء بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإن كان خليل الله إبراهيم لا يبعد كثيراً عن منزلة نبينا صلوات الله وسلامه عليه! الذي دفعنا إلى هذا القول: أن هذه الواقعة التي وقعت التي سنتحدث عنها تفصيلاً بعد تجاوز المسألة الإيمانية، أقول: قد يشتاق كل مؤمن لو نال شرف الصحبة.
ولهذا أستأذنكم وأستأذن من يرانا ويسمعنا في نقل ما وصفه به أصحابه -رضي الله عنهم وأرضاهم- الذين منَّ الله عليهم برؤية هذا النبي الحبيب الشفيع صلوات الله وسلامه عليه, وجملة ما قالوه: أنه كان عليه الصلاة والسلام سبط الشعر، بمعنى: أن شعره لم يكن مسترسلاً ولم يكن ناعماً, كما أنه صلى الله عليه وسلم كان أقنى الأنف أجلى الجبهة, في جبينه أو في جبهته صلى الله عليه وسلم عرق يدره الغضب, إذا غضب في ذات الله امتلأ هذا العرق دماً.
وكان أزج الحواجب في غير قرن, أشم الأنف, طويل أشفار العينين, ضليع الفم أي: كبير الفم, مهذب الأسنان, كث اللحية, الشيب فيه ندرة صلوات الله وسلامه عليه، وأكثر شيبه في صدغيه الأيمن والأيسر، وأكثر شيبه أسفل شفته السفلى في عنفقته صلوات الله وسلامه عليه, عريض المنكبين كأن عنقه إبريق فضة, من وهدة نحره عليه الصلاة والسلام إلى أسفل سرته شعر ممتد، ليس في بطنه ولا صدره شعر غيره.
جاء الرواة بنعته بقولهم: دقيق المسربة، إذا أشار أشار بيده كلها, وإذا تعجب من شيء قلب كفيه وقال: سبحان الله.
وعند البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح: (أنه كان إذا تعجب من شيء عض على شفتيه) صلوات الله وسلامه عليه, من رآه من بعيد هابه، ومن رآه من قريب أحبه, يقول علي رضي الله عنه: لم أر قبله ولا بعده أفضل منه صلوات الله وسلامه عليه.
ونحن على ما قال علي رضي الله عنه من المصدقين المؤمنين.
فما حملت من ناقة فوق رحلها أبر وأوفى ذمة من محمد.
ضخم الكراديس -أي: عظام المفاصل- إذا مشى يمشي يتكفأ تكفؤاً كأنه يتكئ على أمشاط قدميه أكثر مما يتكئ على كعبيه.
عاش عليه الصلاة والسلام ثلاثة وستين عاماً، أربعون عاماً منها قبل أن ينبأ, ثم نبئ بـ {اقْرَأْ} [العلق:1] وأرسل بالمدثر, وتوفي على رأس ثلاث وستين سنة من عمره الشريف الطاهر صلوات الله وسلامه عليه.
عاش منها ثلاثة عشر عاماً نبياً ورسولاً في مكة, يدعو إلى الله ويجاهد في الله حق جهاده.
وضع على ظهره عليه الصلاة والسلام وهو ساجد سلا الجزور، ومع ذلك بقي ساجداً حتى علمت فاطمة فحملت سلا الجزور عن أبيها، وهو عند الله في المنزلة العالية، والدرجة الرفيعة، والمقام الجليل صلوات الله وسلامه عليه.
أنزل الله عليه القرآن منجماً في ثلاثة وعشرين عاماً.
لم يخاطبه الله جل وعلا في القرآن كله باسمه الصريح.
فليس في القرآن: يا محمد، ولكن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الأنفال:64] , {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} [المائدة:41] كل ذلك من دلائل مقامه وجلال شرفه وعلو منزلته عند ربه تبارك وتعالى.
عرج به كما بينا إلى سدرة المنتهى، ثم عاد صلوات الله وسلامه عليه في نفس الليلة، ثم هاجر إلى المدينة فمكن الله له هناك وأقام دولة الإسلام.
مكث في المدينة عشر سنين جاهد في الله تبارك وتعالى حق جهاده.
شج رأسه يوم أحد وسال الدم على وجهه, وكسرت رباعيته وينظر إلى قريش ويقول: (كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم وهو يدعوهم إلى الله).
في العام العاشر أذن في الناس أنه عليه الصلاة والسلام عازم على الحج، فأم المدينة خلق كثير كلهم يريد أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته.
فأنزل الله عليه في يوم عرفة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] فعلم أن الأجل قد قاربه, فأخذ يودع الناس ويقول: (لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا).
ثم رجع إلى المدينة بعد أن أكمل نسكه وأتم حجه.
وفي أوائل شهر ربيع الأول من ذلك العام أصيب صلى الله عليه وسلم بصداع ودخل على عائشة رضي الله عنها وهي تقول: (وارأساه! فقال: بل أنا وارأساه).
ثم أخذ يشكو المرض حتى حانت ساعة الوفاة في يوم الإثنين من شهر ربيع.
دخل عليه أسامة بن زيد يسأله أن يدعو له، فرفع يديه يدعو دون أن يظهر صوتاً، وهو سيد الفصحاء وإمام البلغاء.
ثم دخل عليه عبد الرحمن بن أبي بكر في الساعات الأخيرة وفي يد عبد الرحمن سواك فأخذ يحدق النظر في السواك كأنه يريده، ففهمت عائشة الصديقة بنت الصديق مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذت السواك وقضمته وطيبته وأعطته نبي الله عليه الصلاة والسلام، فاستاك في الساعات الأخيرة قبل أن تفيض روحه إلى ربه تبارك وتعالى، ثم جاءه الملك يخيره فسمعته عائشة رضي الله عنها وهو يقول: (بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى) قالها ثلاثاً.
ثم مالت يده وفاضت روحه إلى أعلى عليين في المحل الأسنى والملكوت الأعلى صلوات الله وسلامه عليه.
هذه على وجه الإجمال -أيها الإخوة والأخوات المباركون- سيرة نبيكم صلى الله عليه وسلم، ونبذة عن نفسه مما علق قلوبنا بحبه بعد حب الله تبارك وتعالى.
فنحن نحبه لأن الله اختاره واصطفاه واجتباه، والله جل وعلا يقول: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:68].
فهو عليه الصلاة والسلام رسول رب العالمين ونبي الأميين، وأفضل أهل الأرض وأفضل أهل السماء.
قال شوقي ونعم ما قال: ريم على القاع بين البان والعلم أحل سفك دمي في الأشهر الحرم رَمى القَضاءُ بِعَينَي جُؤذَرٍ أَسَدًا يا ساكِنَ القاعِ أَدرِك ساكِنَ الأَجَمِ لَمّا رَنا حَدَّثَتني النَفسُ قائِلَةً يا وَيحَ جَنبِكَ بِالسَهمِ المُصيبِ رُمي جَحَدتُها وَكَتَمتُ السَهمَ في كَبِدي جُرحُ الأَحِبَّةِ عِندي غَيرُ ذي أَلَمِ يا لائِمي في هَواهُ وَالهَوى قَدَرٌ لَو شَفَّكَ الوَجدُ لَم تَعذِل وَلَم تَلُمِ إلى أن قال: يا أَفصَحَ الناطِقينَ الضادَ قاطِبَةً حَديثُكَ الشَهدُ عِندَ الذائِقِ الفَهِمِ اللهُ قَسَّمَ بَينَ الخلق رِزقَهُمُ وَأَنتَ خُيِّرتَ في الأَرزاقِ وَالقِسَمِ إِن قُلتَ في الأَمرِ لا أَو قُلتَ فيهِ نَعَم فَخيرَةُ اللهِ في لا مِنكَ أَو نَعَمِ أَخوكَ عيسى دَعا مَيتًا فَقامَ لَهُ وَأَنتَ أَحيَيتَ أَجيالاً مِنَ الرمم جاءَ النبِيّونَ بِالآياتِ فَاِنصَرَمَتْ وَجِئتَنا بِحَكيمٍ غَيرِ مُنصَرِمِ آياتُهُ كُلَّما طالَ المَدى جُدُدٌ يَزينُهُنَّ جَلالُ العِتقِ وَالقِدَمِ أَسرى بِكَ اللَهُ لَيلاً إِذ مَلائِكُهُ وَالرُسلُ في المَسجِدِ الأَقصى عَلى قَدَمِ لَمّا رأوك بِهِ اِلتَفّوا بِسَيِّدِهِمْ كَالشُهبِ بِالبَدرِ أَو كَالجُندِ بِالعَلَمِ صَلّى وَراءَكَ مِنهُمْ كُلُّ ذي خَطَرٍ وَمَن يَفُز بِحَبيبِ اللهِ يَأتَمِمِ جُبتَ السَماواتِ أَو ما فَوقَهُنَّ بِهِمْ دجى عَلى مُنَوَّرَةٍ دُرِّيَّةِ اللُجُمِ رَكوبَةً لَكَ مِن عِزٍّ وَمِن شَرَفٍ لا في الجِيادِ وَلا في الأَينُقِ الرُسُمِ حَتّى بَلَغتَ سَماءً لا يُطارُ لَها عَلى جَناحٍ وَلا يُسعى عَلى قَدَمِ مَشيئَةُ الخالِقِ الباري(47/2)
التحرير العلمي لمسألة الجهاد والسيف في الإسلام
المقدم: عندما جهل كثير من المسلمين هذه المعاني التي تطرقتم إليها, كان ذلك سبباً في عدم قيامنا بواجبنا تجاه رسولنا صلى الله عليه وسلم، وبالتالي كان ما كان من هذا الاستهزاء الذي حصل من أولئك القوم.
هنا وقد ألمحتم في بداية حديثكم إلى أننا نود تحرير مسألة الاستهزاء تحريراً علمياً.
الشيخ: استهزاء أهل الرذيلة بأهل الفضيلة سنة ماضية، قال الله تعالى عن أول رسله نوح: {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر:9].
وقال تعالى في آية أشمل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:31].
فهذه سنة ماضية لله تبارك وتعالى في خلقه، ونبينا صلى الله عليه وسلم في الذروة من أهل الفضل، وما وقع أخيراً من الصحافة الدنماركية على وجه التحديد وغيرها من الصحف حتى في النرويج من سخرية واستهزاء بنبينا صلى الله عليه وسلم إنما هم في الحقيقة ينبئون عما في قلوبهم.
ولكن تحرير المسألة علمياً: الأصل في هذه المسألة أن هذا الأمر ينطلق من أصلين: الأصل الأول: فردي، وهذا يختلف الناس فيه، وهو قضية الحقد على النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحقد قد يوجد في يهودي، يوجد في نصراني، يوجد في من لا دين له، وقد لا توجد عداوة فردية شخصية, حتى نقل أن بعض اليهود الدنمارك أنكروا على الصحيفة سخريتها بالنبي صلى الله عليه وسلم, والله تعالى يقول: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران:75] فالإنصاف قد يوجد عند غير المسلمين.
الأصل الثاني وهو موضوع الكلام هنا: أنهم ربما التبس عليهم القتل وسفك الدماء الذي يحصل أحياناً ونسبته إلى الإسلام، أو بتعبير أصح: عدم فقه الغربيين لمفهوم الجهاد والقتال في الإسلام.
وهذه القضية قديمة جداً، حتى إن بعض الكتاب كـ توماس أورليد أو غيره كانوا يقارنون بين ما في القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من ربه من أوامر بالقتال، وما في الإنجيل الذي أنزل على عيسى, ويقولون: انظروا إلى الفارق بين من يدعو إلى سفك الدماء ومن يأمر الناس بالرحمة، يقصدون عيسى؟! وهذا أصل القضية قديماً، لكنها أخذت حيزاً أكبر في عصرنا.
تحرير المسألة أن يقال: إن الله عز وجل بعث نبيه بأمرين: بعثه بالسيف والعدل.
من سنن الله التي لا تتبدل أنه ليس كل أحد يمكن أن يأتي بلين القول، ولا يجادل في هذا عاقل, فحتى هؤلاء الذين يسخرون من نبينا صلى الله عليه وسلم ويتهمونه بأنه جاء بالقتال لو أتى شخص ليداهم منازلهم الخاصة فلا بد أن يردوه بشيء من القوة, فالقوة في الشرع الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إنما شرعت لحفظ المسألة الكبرى وهي مسألة التوحيد التي بعث الله بها نبيه رحمة للعالمين.
فمن رحمة الله جل وعلا بخلقه أن الأنبياء جاءوا بتوحيد الله جل وعلا, وهذا أعظم رحمة لهم؛ لأن ضد ذلك أن يشرك بالله، وهذا أعظم الظلم وأعظم طرائق الخسران والوبال.
هذه قضية السيف، فالسيف في الإسلام ليس منفكاً عن العدل: واترك رعمسيس إن الملك مظهره في نهضة العدل لا في نهضة الهرم فالمقصود في الإسلام هو العدل، بمعنى: أن هذا السيف يرفع على من وقف في طريق تبليغ الدعوة إلى لله بضوابطه الشرعية المفصلة فقهياً في مظانها على أيدي فقهاء الإسلام الوارثين العلم عن رسول الله وأصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم.
لكن لا يمكن الحديث عن السيف دون الحديث عن العدل، أو الحديث عن العدل دون أن يحمى بالسيف، لا تقوم حضارة صحيحة منصفة قوية إلا أن تقوم على حق وهو أس الحضارة, ثم هذه الحضارة تحمى بأمرين: تحمى بالعدل وتحمى بالسيف، وعلى فرض ما قال النصارى وزعموه أن عيسى عليه السلام صلب, نقول: على فرض هذه الجدلية الكاذبة فإن عيسى هذا الذي تدعون أنه قتل قتلاً لو وجد من ينصره لما قتل.
والشر إن تلقه بالخير ضقت به ذرعاً وإن تلقه بالشر ينحسم.
يترتب على هذه القضية في تحرير المسألة علمياً، أنه لابد أن يفرق عند الحكم على أحد عن حالته الخاصة وحالته العامة, وهذا أصل في الحكم على الملوك والسلاطين وذوي القدر والجاه، فلا يكون الحكم على الشخص في حالته العامة كالحكم عليه في حالته الخاصة.
وسآتي بمثال قريب جداً قبل أن أنتقل للنبي صلى الله عليه وسلم: لو فرضنا أن أحد الناس له ابن صدمته سيارة، فجاء أهل الجاني بعد أن مات الغلام شفعاء ووجهاء وجيران حي إلى ولي الدم يقولون له: تنازل عن الدية فإن من صدم ابنك لم يتعمد، ثم إنه فقير أو غير ذي مال كثير.
هنا الرجل ينظر إلى حالة خاصة فيقول: تنازلت وعفوت! فنقول: هذا شيء مقبول محمود مثني عليه في الكتاب والسنة وفي أعراف الناس.
لكن لو قدر أن نفس الرجل صدم أخوه وقد ترك ذرية، وكانت هذه الذرية دون الخامسة عشرة وتسمى في حكم الشرع والاصطلاح أيتاماً، فلهم حق, فلو جاء هؤلاء الشفعاء وطلبوا منه أن يتنازل عن دية أخيه لم يكن له أن يتنازل، لأنه لو تنازل أضاع حقوق اليتامى، فليس له أن يتنازل عن دية أخيه، وإنما يطالب بها بقوة حتى يحفظ لليتامى حقهم.
فالكلام بالشيء العام والولاية غير الكلام بالشيء الخاص.
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يرحم الشاة ويقول لأصحابه: (والشاة إن رحمتها يرحمك الله).
فهو عليه الصلاة والسلام لا يغضب إلا في ذات الله، وهو عليه الصلاة والسلام الذي يقبل أعرابي يشده فيعفو عنه, وتأخذ الجارية من أهل المدينة بيده فتذهب به حيث شاءت صلوات الله وسلامه عليه.
لكن عندما تريد أن تؤسس دولة وتقيم عقيدة وترمي إلى نشرها في الأرض، ينبغي أن تنظر إلى المصالح والمفاسد، وتنظر أين المصلحة العليا لهذا الدين الذي جئت به، فتعفو عندما يكون العفو له مردود إيجابي، ولا تعفو حينما لا يكون للعفو مردود إيجابي، وهذا عين شرعه الذي طبقه صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من ربه في قضية السيف الموازي للعدل الحافظان كلاهما لقضية العدل.
فهؤلاء الدنماركيون أو غيرهم ممن يقرأ قضية الجهاد في سبيل الله قراءة خاطئة ويتهم النبي صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا مما لا نستسيغ أن نقوله حتى على سبيل ضرب المثال؛ كل ذلك لأن الأمر لديهم ملتبس أو لأنهم لم يحرروا علمياً النظرة الحقيقية له صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن أي شيء إنما يترك إذا كانت هناك مفسدة أكبر منه، ولا توجد مفسدة أعظم من الشرك بالله جل وعلا.
وهو صلى الله عليه وسلم ما رفع السيف على قريش إلا عندما حالت بينه وبين أن يبلغ دعوة الله، ومنعته حتى أن يقيم دينه في المدينة، فرفع السيف عليهم، وإلا فقد جاء الإسلام بالجزية كما هو معلوم، وهذا تحرير المسألة علمياً.
فهؤلاء وأشياعهم أو من آمن بفكرهم من صحفيين أو غيرهم لم تحرر لديهم مسألة السيف في دين الرب تبارك وتعالى تحريراً علمياً.
فرمي الإسلام بقضية السيف، ورميت هذه البلاد بأن شعارها السيف، لكن تحرير المسألة علمياً ينتج أنها قضية حق يراد أن يقام له حافظان: السيف والعدل.(47/3)
كيف نخاطب المستهزئين بالجناب النبوي
المقدم: فضيلة الشيخ ذكرتم هذه المسألة وهذه الإشكالية وحررتموها حقيقة، لكن لا زال هناك عدد من المشكلات العالقة، والقضايا غير الواضحة لدى هؤلاء الغربيين.
السؤال
هل أنت مع من يقول بأنه لابد أن نفتح مع هؤلاء قنوات للحوار وقنوات للتواصل، ونعقد مناظرات وندوات نظهر لهم من خلالها رحابة هذا الدين وجماله ويسره، وعظمة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ الشيخ: هذا حق مقيد، من استهزأ بنبينا صلى الله عليه وسلم أو رفع السيف على هذه الأمة فيرد عليه بالطريقة نفسها، أما من بقي محايداً فهذا هو الذي يستقطب بأن يبين له السيرة العطرة والأيام النضرة وسماحة نبينا صلى الله عليه وسلم وسماحة الإسلام، ولكن كما قلت والبيت لـ شوقي: والشر إن تلقه بالخير ضقت به ذرعاً وإن تلقه بالشر ينحسم المقصود من هذا أن هؤلاء الذي وقع منهم السخرية والاستهزاء لا كرامة لهم, وإنما ينبغي أن نجلب عليهم بخيلنا ونفيرنا في سبيل نصرة نبينا صلى الله عليه وسلم.
وليس هذا مجال تبيين المسألة الحق, لكن القوم المحايدين في الغرب الذين خوطبوا بهذا الإعلام المنكر، هؤلاء يجب أن يحرر لهم الخطاب وأن تبين لهم الصورة الحقيقية.
ولا أريد أن أقول: ينبغي أن نلمع صورته! فهو صلى الله عليه وسلم لا يحتاج إلى مثل هذا أبداً, نحن علينا فقط أن ننقل الصورة الحقيقية له صلوات الله وسلامه عليه، فإذا نقلنا الصورة الحقيقية له صلوات الله وسلامه عليه فإن المتلقي لن يخرج أن يكون أحد اثنين: إما أن يكون منصفاً فلا يأبى الإيمان بهذا.
وإن كان غير منصف، فإن من ارتضاه الله أن يكون أهلاً لجهنم لا ينبغي أن نتأسف أو نتحسر عليه.
ويجب على من يقدم الإسلام أن يقدمه بصورته الشرعية، قال الله جل وعلا على لسان أحد أنبيائه: {وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} [الأعراف:93] وهم قومه وأهله! ونحن لسنا أرحم بالخلق من ربهم، فمن رضي الله أن يكون من أهل جهنم فلن نكون نحن أرحم به من الله، فنحن نقول: نقدم الصورة الحقيقية المثلى للإسلام.
لكن ينبغي على من يقدم الصورة الحقيقية للإسلام أو من يتحدث باسم الإسلام أن يعرف أين موقعه من الإسلام, بمعنى ألا يكون في تقدم أو تأخر على بعضنا البعض.
فإن الله جل وعلا جعلنا مواهب, مشارب, مراتب, منازل.
وهناك أمور من اختصاص ولي الأمر, وأمور من اختصاص عسكر المسلمين, وأمور من اختصاص العلماء, وأمور من اختصاص العامة, وثمة أمور يشترك فيها الناس جميعاً، لكن عندما يكون الاستياء على الأدوار ومحاولة جعل هذه الحادثة كسبب للوصول للأشياء فهذا لا ينبغي، لكن كل إنسان له موقعه العام.
ثمة مؤسسات إسلامية ومواقع إسلامية في الإنترنت معروفة محترمة معتبرة, يشرف عليها علماء ربانيون، هذه طريقة خطابها لا تكون كخطاب رجل عامي, والذي يخاطب الناس في منبر الجمعة غداً -كما دعا الشيخ عائض وغيره من الفضلاء إلى هذا- ينبغي أن يعرف أنه يخاطب مسلمين، فلا يحملهم خطيئة غيرهم فلا يجلدهم جلد ذات كأنهم هم الذين شتموا النبي صلى الله عليه وسلم.
وإنما يجعل من هذه الحادثة سبيلاً إلى إيقاظ محبة النبي صلى الله عليه وسلم في القلوب, وبالتالي العمل بسنته صلوات الله وسلامه عليه، فهذا أمر مهم جداً.
أما الذين في المؤسسات الإسلامية، أو في المواقع الإسلامية على الإنترنت، أو في المراكز الإسلامية في الغرب، فهؤلاء يطالبون بنمط خطاب غير المطالب به من كان يعيش بين المسلمين, فهؤلاء لهم مطلب سياسي معتبر، فينبغي أن يفقهوا المسألة جيداً وأن يحرروا خطابهم بما يتناسب مع حالهم ووضعهم ونوعية من يخاطبون، إن كان سلطة, أو كان عامة، أو كان مستهزئاً، فتحرير المسألة في كل وقعة مهم جداً.
نحن نتفق على وجوب نصرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أظن مؤمناً يخالف في هذا، لكن كذلك يجب أن نتفق على أن الأدوار تختلف والمهام تتباين ولا أقول: تتفاوت؛ {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك:3] فهي كلمة خاطئة بنسبتها إلى الله.
فأعيد وأقول: هذا تحرير الخطاب في نصرته صلوات الله وسلامه عليه.(47/4)
محبة المسلمين لرسولهم صلى الله عليه وسلم
المقدم: المواقف كما ذكرت تتباين, وأيضاً تتباين وجهات النظر والتعاطي والتفاعل مع هذه القضية وغيرها من القضايا، مثل تدنيس القرآن في أماكن عدة في السجون الغربية أو الصهيونية، فيختلف النظر أو الزاوية التي ينظر من خلالها لهذه الإساءات للإسلام.
و
السؤال
برأيكم الشخصي -يا شيخ صالح - ما هو موقع الإسلام في نفوسنا, وما هو موقع المصطفى صلى الله عليه وسلم من ذواتنا ومن صدورنا, حتى وصل بعض من المسلمين إلى درجة أن يستهزأ بالرسول صلى الله عليه وسلم، ويستهزأ بشرائع الدين، ويساء إلى هذا الدين, فلا نجد حقيقة من يقول: إلا رسول الله, أو: إلا كتاب الله، أو غيره؟ الشيخ: عندما نقول: (إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم) كعنوان لهذه الحلقة المباركة إنما هو من باب التعامل مع الواقعة, ولا يوجد تثريب شرعي على العنوان, لكن ليس المقصود به هنا حقيقة الحصر، فلا يفهم أنه يجوز مع غير النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أركان الدين, ولا الله, ولا الدين كله, ولا مزدلفة ولا منى ولا عرفة, ولا أي شيء من شعائر الإسلام، فلا يجوز السخرية والاستهزاء به, هذه مسألة.
أما موقع الإسلام في نفوسنا, أو النبي صلى الله عليه وسلم في قلوبنا: فنحن نؤمن يقيناً أن أي مسلم مهما بلغت معصيته, ما دام راضياً بالإسلام فلابد أن يكون في قلبه ولو مثقال حبة من خردل من إيمان من محبة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أظن أحداً يجادل في هذا.
وقصة شارب الخمر (ما علمته إلا محباً لله ولرسوله) أصل في المسألة.
وقد ذكرت سابقاً أنه كان في فرنسا مقهى فرنسي، وكان يرتاده مسلمان من الجزائر ولهما صديق فرنسي يتعاطون معه الخمر ويسكرون, فإذا سكروا أخذ بعضهم يتقول على أعراض بعض، وجرت العادة على هذا سنين كما ذكر النادل -العامل- الذي يقدم لهما المشروب.
وذات يوم كان من هذا الفرنسي أن سب نبينا صلى الله عليه وسلم، فوقع السب من الجزائريين موقعاً جعلهما يفيقان من سكرهما فضرباه ضرباً غير الذي اعتادا عليه, فلما حضرت الشرطة وذهب بهما إلى التحقيق وجيء بالنادل كشاهد إثبات, قال متعجباً: إن هذا الرجل يقدح أحياناً في زوجاتهم وأخواتهم وأمهاتهم ولا يتكلمون, فقالا: فليقل في زوجاتنا وأخواتنا ما شاء ولا يتكلم في رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما جعل هذا النادل يقرأ كثيراً عن سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم فكانت الحادثة سبباً في إسلامه.
والغاية من هذه القصة ما ذكرته من وجود أصل محبة النبي في قلب كل مسلم.
وقد حرر الشيخان, الشيخ محمد العريفي حفظه الله, والشيخ عائض القرني هذا قبلي في هذه الحملة المباركة, لكن تأكيداً لهذه المسألة أنه لا يتصور أصلاً ممن يؤمن بالله واليوم الآخر ويرجو جنة ويخشى ناراً ألا يكون في قلبه شيء من المحبة لنبينا صلى الله عليه وسلم، بل هو صلى الله عليه وسلم أحب إلينا من كل شيء بعد ربنا تبارك وتعالى.
المقدم: ما هي متطلبات هذه المحبة, وهل يكفي أن أقول: إني أحب الرسول صلى الله عليه وسلم؟ الشيخ: الناس في هذا بين فريقين: فريق يرى أن المحبة مقصورة على الاتباع ولا يكون في قلبه شيء عاطفي متأجج.
وآخرون يرون الاكتفاء بالمحبة ولا يرون الاتباع.
وكلاهما أبعد النجعة، وإن كان الثاني أكثر بعداً.(47/5)
كيفية تحويل حادثة الاستهزاء إلى فرصة لخدمة الدين والنبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
كيف يمكن أن نحول هذه الأزمة إلى فرصة؟ كيف يمكن هذا التحويل؟ الشيخ: نبدأ بقضية السبق الوقتي, قال الشيخ سلمان العودة: تحويل الأزمة إلى فرصة, طبعاً هذا كلام رجل مفكر، تحويل الأزمة إلى فرصة: هو الرد الحقيقي على تلك الأزمة, عندما تأتي الضربة لأي خصم مقصود بالضرب تجعله ذا شتات, معنى ذلك أن خصمه تمكن منه, لكن إذا كانت تلك الضربة قد لمت على شعثه وجعلته يبدأ خطوة أقوى, فإن تلك الضربة أصبحت نافعة، قال الله: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11].
وهذا ينطبق كثيراً على هذه الحال, وقد ذكر الشيخ سلمان نموذجين واقعيين: وهي قضية قراءة السيرة وقضية طباعة بعض الكتب عن النبي بكل لغات العالم, وذكر أنموذجاً مقترحاً وهو إيجاد قناة فضائية تعنى بالسيرة النبوية لنبينا صلى الله عليه وسلم, كما وجدت الآن قنوات للقرآن؟ قناة الفجر، وقناة المجد للقرآن الكريم, وإذاعة القرآن الكريم.
فينبغي أن تزاد قناة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم, وقد لا يكون بعض التجار الآن متواصلاً معنا لانشغالهم بأعمالهم أو بأي شيء آخر, لكن ينبغي أن تتبنى المؤسسات العلمية الدعوية هذه الفكرة التي طرحها الشيخ سلمان وهي قضية إيجاد قناة تعنى بالسنة.
بلغني من مصادر صحفية مثلاً في المدينة عندنا مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف, وهو عمل عظيم جليل ظهر نفعه على الناس, والذي أعلمه أنا ولا أجزم به -لكن سمعته من مصادري الخاصة- أنه سيكون هناك مجمع للسنة, يسمى مجمع الملك عبد الله, لسد الثغرة في السنة كما تسد الثغرة في القرآن.
وكذلك نفس الفكرة التي طرحها الشيخ سلمان، وهي قضية إيجاد قناة تعنى بالسيرة النبوية, وهذا سيكون نافعاً، وربما تتبناه هذه القناة المباركة -قناة المجد- فتكون إحدى باقات قناة المجد، وقد تتبناه غيرها, المهم أن ينتفع المسلمون من أي مصدر إسلامي.
والشيخ سعيد بن مسفر وفقه الله تعالى ورعاه صاحب خبرة دعوية شهيرة، وقد قال: لا بد من الانضباط.
وهذا كلام الراسخين المتأنين في قضية التعامل مع الخصم، حتى لا يأتينا إنسان يزايد على محبة النبي صلى الله عليه وسلم, وكأنه يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من غيره وأكثر منا, فيزعم أن هذا ليس بحل, وإنما الحل في تفجير أو في انتقام أو في اغتيال, فهذا شيء مرفوض تماماً ولا يخدم المسلمين ولا يؤذن به شرعاً, وما دام ليس مأذوناً به شرعاً فلا يحق لأحد أن يتبناه.
وقد قلت في مقدمة الحديث: إن الأدوار يجب أن تكون منضبطة في الرد، وأن لكل أحد طريقاً ومقاماً وسبيلاً وموقعاً يتحرك منه, فليست القضية قضية مزايدة حتى يظهر زيد أو عمرو في الصورة, إنما القضية التي نجتمع عليها هي نصرة نبينا صلوات الله وسلامه عليه.(47/6)
آلية التعامل مع المنصفين من غير المسلمين
المقدم: هناك عدد من المنصفين في البلدان الغربية وغيرها من غير المسلمين الذين ينظرون للإسلام نظرة حسنة وهم أقرب ما يكونون إلى أهل الإسلام, فما هي آلية التعامل معهم؟ الشيخ: هذه القضية في ظني هي قضية نستصحبها في كثير من قضايا المسلمين, قضايا المسلمين يكتفون أحياناً بالتحييد, وهذه طرحت في أكثر من قضية, مثل القضية الفلسطينية.
قضية التحييد أقصد بها: أن اليهود مثلاً هم الذين احتلوا فلسطين وأسموها دولة إسرائيل؛ فهم خصمنا الأول واقعياً، ومع ذلك فبعض القائمين على العمل الإسلامي إنما يعنون بتحييد النصارى، وهذا مطلب طيب, لكن هناك مطلب أعظم وهو أن تجذب النصارى إليك, يعني: لا يكتفى فقط بتحييد النصارى, فاليهود والنصارى أصلاً بينهم نزاع {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة:113].
فهناك مطلب أكبر تحييد النصارى سياسياً وهو استقطاب النصارى, فلا يكفي أن نحيد النصارى في القضية.
ومثلها الآن هؤلاء الذين تعرضوا لنبينا صلى الله عليه وسلم، فهناك قوم محايدون، هؤلاء المحايدون لا نكتفي فقط بتحييدهم، إنما نحاول قدر الإمكان استثمارهم في أن يكونوا نصراء معنا على من هاجم نبينا صلى الله عليه وسلم.
وهذا لا يفهم أحد أنه يقدح في ولاء أو براء أو في غير ذلك, فهذا شيء مشروع دل عليه فعل النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر من موطن, أعني: عدم تحييد هؤلاء الناس, بل نحاول قدر الإمكان التأثير عليهم حتى يدخلوا في دين الله، وهذا أعظم المطالب, أو على الأقل أن يصبحوا شوكة في نحور أولئك الذين يحاربون النبي صلى الله عليه وسلم.
طبعاً أنت عندما يكون المطلب عالياً فإن تحقيق بعضه إنجاز, لكن لو جعلت المطلب هابطاً فلن تحقق شيئاً في طريق مغالبتك لخصومك(47/7)
سحب السفير السعودي من الدنمارك بعد حادثة الاستهزاء
المقدم: ما قامت به عدد من وسائل الإعلام في المملكة العربية السعودية المباركة بإذن الله تبارك وتعالى التي لا نقول فيها أكثر من حقها ولا أقل من حقها, ولكن وصلني الآن من الزملاء أن هنالك خبراً يسعد ويثلج الصدر، وهو ما تناقلته وكالة الأنباء السعودية وبعض وكالات الأنباء بأن السفير السعودي في الدنمارك قد سحب هذا اليوم في إشارة سياسية إلى الغضبة الحاصلة حقيقة عند الجهات المسئولة والجهات السياسية, ونحمد الله على هذا, وهو أيضاً ما عهدناه وتعودناه من هذه الدولة المباركة.
وبهذا نقول: إن رقابنا حقيقة وأجسادنا وكل حياتنا فداء لهذا الدين ثم فداء لأوطاننا المسلمة، أوطاننا الصادقة مع الله سبحانه وتعالى, والصادقة مع شعوبها في أن تعيش معهم، وقد وعدنا مليكنا عندما تولى الحكم وبايعناه أن يسمع منا وأن يكون دستوره القرآن وشرعه شرع محمد صلى الله عليه وسلم، فأحسن الله إليهم, وأسأل الله أن تكون هذه الخطوة بادرة لبقية المسلمين في كل مكان أن يعبروا عن موقفهم الداعم لرسولهم صلى الله عليه وسلم الذي لا نعتبره دعماً حقيقة, لأنهم يدعمون أنفسهم ويدعمون مشاعر شعوبهم التي تأثرت عقب هذه الفعلة الشنيعة، فما تعليقكم على قضية سحب السفير؟ الشيخ: إننا دائماً نقول: تحرير المسائل يعين على فهمها, فنحرر قضية سحب السفير فنقول: أهل الإنصاف والعقل والروية والحكمة عندما يضعون ثقتهم في عاقل رشيد مسلم لا يزايدون على إسلامه، فعندما يتأخر التصرف أو لا يأتي ذلك التصرف, أو يأتي مخالفاً لما توقعوه, فإنهم على ثقة أن هذا الذي وضعوا فيه ثقتهم وأمانتهم يحمل الهم الذي يحملونه، لكنه رأى رأياً غير الرأي الذي رأوه.
هذا الأمر مهم جداً في فهم الأمور, فنحن ثقتنا في ولي أمرنا قبل سحب السفير إذا ثبتت, وبعد سحب السفير واحدة, لأن القرار يختلف من شخص إلى شخص, والمسائل العامة يكفينا فيها أن نضع الثقة في الموطن الصحيح, فإن وضعنا الثقة في الموطن الصحيح فلا نتصرف عنه, إذا تصرفنا نحن نيابة عنه إذاً فلا حاجة لوضعه.
لكن نترك لكل صاحب مقام الطريقة التي يتعامل بها مع الحدث, فتأخير سحب السفير إلى هذا اليوم يمكن تأويله بأنه قضية انقطاع آخر الطرق الدبلوماسية، لأنه ثمة مساع هددت بسحب السفير لم يتوقع المسئولون الدنماركيون سحب السفير, وقد تأتي خطوة أخرى, إلى أشياء عديدة.
لكن الذي يهمني في قضيتي أنني كأي فرد مسلم أحمل الحب للنبي صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن أعلم أن علماء المسلمين ودعاة المسلمين وولاة المسلمين الناصحين المعروفين يحملون نفس الهم, فإن كنت أرى رأياً يجب تنفيذه اليوم, فقد يرى غيري أن المصلحة عدم تنفيذه اليوم.
فتكون هناك نظرة إنصاف لبعضنا البعض, فمع ذلك بعض الفضلاء يأتي ويقول: الشيخ فلان ما تكلم, والمؤسسة الإسلامية إلى الآن لم تحدد موقفها، ومجلس كذا لم ينعقد, وسماحة المفتي أو ولي الأمر ما أصدر بياناً, وغير هذا! وهو لا مزايدة على إسلام هؤلاء, ولا ينبغي أن نتكلم كلاماً نشعر فيه الناس بأننا وحدنا الغيورون على الدين, وغيرنا غير غيور، أو أنا وحدنا نحمل هم الذب عن الدين وغيرنا لا يهتم.
فنحن نعلم أننا لسنا إلا جزءاً من الأمة وأن المسلمين في جميع أنحاء الأرض محبون لنبيهم صلى الله عليه وسلم، ولا يوجد مسلم اليوم في جميع أصقاع الدنيا راض عن سب نبيه صلى الله عليه وسلم.
ولكن القدرات والأماكن والمواطن تختلف، فمن الناس من ينطقه مكانه, ومن الناس من يكون كلامه له عواقب غير كلام غيره.
وبعد صلح الحديبية كان أبو بصير يفعل ويصنع لأنه كان غير مرتبط بعقد مع أهل الإشراك, أما النبي صلى الله عليه وسلم فكان يأتيه الرجل مسلماً فيرده لأن نصوص الحديبية تحكمه بوصفه زعيماً للأمة.
فكل إنسان عنده مساحات للحديث مساحات للدفاع وقيود تختلف من شخص إلى آخر, فالقيود التي عندك ليست عندي, والمساحات التي تملكها لا أملكها أنا, لكن المهم أنه لا ينبغي لأحد أن يعتقد في نفسه أنه الأوحد في الغيرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأن الناس مقصرون، فلا نخاطبهم بهذه المنطقية, لكننا نحسن الظن, ونتمنى أن ينصر الله جل وعلا دينه, ونحن على ثقة كما قال الشيخ صالح بن حميد، يقول الله لنبيه: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر:95] وقال: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:3].
وأنا هنا أذكر مقالاً في جريدة الوطن للدكتور علي سعد الموسى , له زواية اسمها ضمير المتصل, ذكر في عنوانها: اطردوا سفراء الزبدة, على أساس أن الدنمارك دولة معروفة بالزبدة.
وأقول: المقال كان قوياً جداً ينم عن محبة عظيمة للنبي صلى الله عليه وسلم، ويطرح المقال رؤية جيدة في التعامل مع الحدث, لكنها تبقى مقالة رجل أكاديمي, أي: رجل يؤدي ما عليه من موقعه الإعلامي, لكن لا نستطيع أن نعمم كل مطلب على كل أحد, فهذا مهم جداً في فهم القضية.(47/8)
كيفية التعامل مع الكتاب المسلمين الذين يخطئون في الكلام عن الدين
المقدم: لقد مثلتم بهذا الكاتب نسأل الله أن يوفقنا وإياه لكل خير، وفي كلامكم دلالة على أن نظن الخير بكل المسلمين والدكتور الموسى كان في عدد سابق قد كتب مقالاً وجد عليه لوماً شديداً من كثير من المسلمين, لكنه بهذا المقال الذي ذكرتموه قد جاءت كثير من الردود تشيد به وتدل على ما ذكرتموه, وأن هناك خطاً أحمر، فقد نخطئ وقد نختلف فيما بيننا, ولكن عندما يحصل ذلك فلا بد من إحسان الظن بإخواننا، فما تعليقكم؟ الشيخ: أمور الدنيا الناس شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنوم.
لكن في أمور الدين نحن شركاء في العقيدة؛ لأنه إن لم نكن شركاء في أمور العقيدة صار واحد مؤمناً وواحد كافراً.
فعندما نختلف مع أي مسلم في رؤية فقهية منهجية ودعوية أو ما أشبه ذلك ليس لنا حق في أن نخرجه من الملة, وليس لنا حق في أن نرميه بتهمة كائناً من كان, وليس لنا حق أن نصنفه, هذا جزء من الخطأ الذي كنت أحذر منه في المقولة التي قبل, وأول طرائق الهلاك أن يعتقد الإنسان أنه وحده المصيب, وأنه وحده الذي تنحصر الطائفة الناجية فيه! لكن نقول: نحن من آمن بالله رباً وبمحمد عليه الصلاة والسلام رسولاً وبالإسلام ديناً فهو أخونا, فإذا صدرت منه أخطاء فإننا ننصحه ونرشده وندله على الخير ونحذره من مغبة ما يقول, ونخشى عليه أن يكون مزلقاً لأحد, نخشى عليه أن يتلبس بأفكار غير سليمة، ونخشى عليه أن يكون سهماً لأعدائنا.
نقول: نخشى عليه ونخاف عليه، ولكن لا نقول إنه عميل وضعه الأعداء لنا؛ لأن دون إثبات ذلك أموراً خطيرة، والأصل في المسلم براءة الذمة.
المقدم: ولعل هذا فيه أيضاً رسالة إلى كتاب صحفنا سواء هنا في السعودية أو في غيرها, فكم حصل من الدعاء لمثل هذا الذي ذب عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكم للأسف الشديد دعي على غيرهم؟ الشيخ: هنا كغير ممن يقع منه أحياناً الهمز واللمز في السنة تحت أي طريق كان, فمثلاً الدنماركيون أصلاً كفار، لكن أحياناً قد يقع الكفر من شخص إما بسذاجة أو بعمد، وهو لا يدري أن هذه تسيء، فيلمز أو يسخر من سنته صلى الله عليه وسلم.
فهو لا يتعرض لشخصه صلى الله عليه وسلم؛ لكن قد يتعرض لما اشتهر وتواطأ من سنته, فيلمزها أو يسبها عبر أي عمل كان، كعمل تمثيلي أو مقال صحفي، أو كلمات في مجلس أو غير ذلك، فهذا كله محرمات وعظائم لا ينبغي الوصول إليها بأي طريق كان, وقد نبه شيخنا الشيخ سعيد بن مسفر قبل قليل على أمر الله جل وعلا للصحابة بالتأدب في مجمل الخطاب مع نبيهم صلى الله عليه وسلم.(47/9)
توظيف شبكة المعلومات في خدمة الإسلام
المقدم: الإنترنت أو شبكة المعلومات, ذكرها الدكتور سلمان وقال: لا بد من استثمارها والإفادة منها، فبدلاً من أن نواجه الهجوم بدفاع، نهاجم نحن عن طريق التبيين والإيضاح
و
السؤال
كيف يمكن لهذه المواقع, وكيف يمكن أيضاً لمراكز الأبحاث والدراسات أن تقوم بدور هجومي سلمي في التعريف بالمصطفى صلى الله عليه وسلم؟ الشيخ: هذا لا يخلو من طرائق ووسائل عدة بحسب الشخص المخاطب، وقد بين الشيخ صالح ذلك من قبل، ومعلوم جداً أنه إذا حددنا من هو المخاطب, حددنا نوعية الحديث.
لكن أقول: إن المراكز والشبكات الإسلامية الإلكترونية ينبغي أن يكون لها دور كبير، وأكثرها قائمة بهذا الجهد, لكن أنا أضع أصولاً عامة ولا أستطيع أن أحدد ماذا يكتبون وماذا يقولون, ولكن أقول: هو يختار الهدف, فإذا اختار الهدف المخاطب تحدد بعد ذلك نوعية الحديث، ما يكتب للسفارات الدنماركية في العالم، أو ما يكتب لوزارة الخارجية الدنماركية باعتبارها مسئولة عن نظرة الناس إلى الدنمارك خارجياً, ما يكتب للصحيفة نفسها، ما يكتب لعامة الشعب الدنماركي, ما ينبغي أن تحمله الجاليات الإسلامية الموجودة في الدنمارك.
فأنا أقول مثلاً: الآن الجاليات الإسلامية في الدنمارك لو تمسكت بشيء من سننه صلى الله عليه وسلم التي تثبت عكس ما يزعم هذا المستهزئ، فإن ثباتهم عليها سيغير طريق التعاطي مع العمليات, لأن طرائق تفنيد قول خصمك فيك أن تثبت للمحايدين خلاف الذي يقول, وليس ذلك بالرد عليه ولكن بتطبيق ذلك.
أذكر أن أحد الناس ممن ليس على المذهب العام لأهل السنة, كان يعمل معنا في حقل التعليم قبل عشرين عاماً، فمرض فامتنع الجميع عن زيارته، فأنا ذهبت إليه وسط معارضة ممن كان معي، وأذكر أنه ذهب معي شيخ آخر.
فلما ذهبت فوجئ أهل بيته بزيارتي, لأنه كان آخر شيء يتوقعونه, فسلمت على الصغار عند الباب وسألتهم عن أبيهم، فدخلت عليه في بيته وسلمت عليه وقابلت إخوته وتمنيت له الشفاء ودعوت له, ثم خرجت، ثم كررت المصافحة لأبنائه وبناته الصغار، ثم رجعت.
أنا كنت أرمي إلى شيء الاقتداء بالمصطفى، هذا شيء, لكن الشيء الآخر: من يقول عنا معشر أهل السنة شيئاً لن تستطيع أن تنزعه من الأتباع إلا بطريقة مثل هذه, فإذا قيل لهؤلاء الصغار الذين تحت قلم التكليف شيئاً عن أهل السنة وأنهم عدوانيون وغير ذلك, فإن المقولة ستصطدم بذلك الأثر من الزيارة, بمعنى أن الطفل سيتذكر زيارة فلان ورفقه به وسلامه وغدوه وسؤاله عن أبيه، فلا تجد لها موقعاً في القلب.
أعني أن الكلمات العدوانية المؤسسة للعداء لن تجد لها موقعاً؛ لأن هناك ما يصدها, أو على الأقل ما يشكك فيها.
فالشعب الدنماركي الآن في أحوج ما يكون أن يبين لهم الصورة الحقيقية للنبي صلى الله عليه وسلم حتى يبقى ذلك التصور الذي رسمه الكاتب الصحفي هباء منثوراً يصطدم مع شيء يشاهده الناس واقعاً وأنه خلاف الذي يزعم, كما كانت قريش تقول: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت:26] ويحدثون عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث غير موجودة فيه, فعندما يواجهه الحجاج والعمار قبل الهجرة ويتخاطبون معه يذهب كل ما قالته قريش هباء منثوراً، لأنه يصطدم بالصورة الحقيقة له صلوات الله وسلامه عليه, فيكون سبباً في إسلامهم أو على الأقل في عدم قبول قول قريش فيه صلوات الله وسلامه عليه.(47/10)
اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والعمل بسنته
المقدم: هل لكم كلمة توجهونها في ختام لقائنا هذا؟ الشيخ: من المعلوم أن الله جل وعلا قال في كتابه العزيز: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28].
من أحسن ما قيل في تفسير هذه الآية: أن هؤلاء القوم يسألون الله جل وعلا في صباحهم التوفيق, ويسألونه جل وعلا في مسائهم الاستغفار عما كان منهم.
ونسأل الله جل وعلا أن يجعل خروجنا من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدومنا إلى هذا المكان مما يراد به وجهه تبارك وتعالى والذب عن نبيه صلوات الله وسلامه عليه.
وكل من شارك أو شاهد أو لم يقدر له أن يشاهد لكنه علم بما يقع لنبي الأمة صلى الله عليه وسلم أو وقع في حقه, فأصابه ما أصابه من الغيظ والكمد، نصرة لنبيه صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك من أعظم دلائل التوفيق التي يعطيها الله جل وعلا عباده.
فإن محبته صلى الله عليه وسلم دين وملة وقربة يتقرب بها إلى الله تبارك وتعالى؛ لأن العبد أينما غدا أو راح مكلف، ومما كلفه الله جل وعلا به محبة ونصرة هذا النبي صلوات الله وسلامه عليه, وهو ما حررناه في أول الأمر.
وأستثمر ما قاله الإخوة الفضلاء المشايخ في قضية أن يكون شأننا دائماً العمل بسنته وهديه صلوات الله وسلامه عليه.
كان ثابت البناني إذا لقي أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل يده, ويقول: يد مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقول جابر بن سمرة رضي الله عنه وأرضاه: خرجت في ليلة أضحيان -أي: ليلة القمر فيها مكتمل- فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم عليه حلة حمراء, فجعلت أنظر إلى القمر وأنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فهو عندي أبهى من القمر ووقف الصديق رضي الله عنه وأرضاه بعد عام من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث ثم غلبته العبرة, فقطع حديثه ثلاث مرات، لا يستطيع أن يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا.
وهذه نماذج من محبة أولئك الأخيار لنبيهم صلى الله عليه وسلم.
خاتمة الوصايا أن نقول: إن الله قال وهو أصدق القائلين: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:100].
فلا نحن من السابقين الأولين من المهاجرين, ولا نحن من السابقين الأولين من الأنصار, فما بقي أيها الأخ والأخت الكريمة إلا طريق واحد قاله الله: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:100].
فإن أعظم ما يمكن أن نستثمر فيه ما بقي من أعمارنا أن نكون متبعين لسنة محمد صلوات الله وسلامه عليه.
نعمل بشرعه، ونحبه صلى الله عليه وسلم أعظم الحب في قلوبنا، ونقتفي أثره, ونتبع سنته وفق منهج تطبيقي حقيقي، نريد به وجه الله والدار الآخرة.
فنفعل الفعل لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله, ونترك ما نترك لأن النبي صلى الله عليه وسلم تركه.
دخل عليه الصلاة والسلام ذات مرة من المسجد فرأى ازدحاماً من النساء, فقال: (لو تركنا هذا الباب للنساء) فسمعه عبد الله بن عمر وهو يومئذ قد ناهز العشرين من عمره, فعمر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بعد ذلك ستين عاماً في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يدخل من ذلك الباب قط، إجلالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: لو تركنا هذا الباب للنساء.
والمطلوب استثمار هذه الواقعة في أن نزداد حباً قلبياً لنبينا صلى الله عليه وسلم, ونعمل بسنته الطاهرة صلوات الله وسلامه عليه.(47/11)
وقفات إيمانية
إن المتأمل في الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية حري به أن يقف قلبه على كل آية وعند كل حديث؛ وذلك لما تحتويه من الفرائد والفوائد، والعبر والروحانيات التي ترفع من معدل إيمان العبد في القلب.(48/1)
وقفة مع قوله تعالى: (ألم غلبت الروم وهم عن الآخرة هم غافلون)
الحمد لله الذي تقدست عن الأشباه ذاته، ودلت على وجوده آياته ومخلوقاته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا رب غيره ولا إله سواه، وسع الخلائق خيره، ولم يسع الناس غيره.
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله نبي الأميين ورسول رب العالمين، بعثه الله بين يدي الساعة هادياً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فأدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، فجزاه الله بأفضل ما جزى به نبياً عن أمته.
اللهم صل وسلم وبارك وأنعم عليه، وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذه محاضرة عنوانها: وقفات إيمانية، من خلالها بإذن الله جل وعلا سنقف مع بعض آي القرآن نستظل بظلالها الرحب، ونفيئ إلى موردها العذب، ونرجو الله جل وعلا أن يذكرنا بها ما يصلح آخرتنا ودنيانا ويعيننا على أن نحقق المبتغى من سعادة الحياتين وحياة السعادتين.
قال الله جل وعلا في فاتحة سورة الروم: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:1 - 7].
فهذه الآيات هي الوقفة الأولى في لقاء هذه الليلة، وهذه السورة مكية بإجماع العلماء، واختلفوا في آية واحدة منها إن كانت مكية أو مدنية، أما سائر السورة فالإجماع منعقد على أنها مكية، وفواتح السورة تنصب على ما يلي:(48/2)
سبب نزول الآيات
قبل الهجرة بينما كان المؤمنون مختلطين بالمجتمع المكي كان يحصل بين الفريقين نوع من المناوشات الكلامية، فكل فريق يريد أن يثبت أحقيته بالصواب، ولا ريب أن الحق مع أهل الإيمان لكننا نتكلم عن توصيف ظاهري للمجتمع المكي آنذاك، وقد كان يحيط بجزيرة العرب فارس والروم، وكانتا يومئذ دولتين متنازعتين فتغلب فارس حيناً وتغلب الروم حيناً آخر، والروم نصارى أهل كتاب، أما الفرس فهم وثنيون لا كتاب لهم، فكانت عاطفة المشركين القرشيين مع الفرس وعاطفة المؤمنين مع الروم؛ لأنهم نصارى، وهذا يسمى مصاحبة ولا يسمى موالاة، والمصاحبة تجوز مع الكافر وغير الكافر والموالاة لا تجوز إلا للمؤمن، ودليل جواز المصاحبة مع الكافر قول الله جل وعلا: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، فأمر الله بمصاحبتهما بالمعروف رغم أنهما كافران، أي: الوالدان.
فذات مرة في إحدى الصراعات بين فارس والروم غلبت فارس الروم فشق ذلك على المسلمين؛ لأن المشركين من جزيرة العرب -قريش وأتباعها- أخذوا يقولون للمؤمنين: إن الوثنيين الذين لا كتاب لهم غلبوا وهذا مبشر؛ لأننا سنغلبكم ودليل على أن الأمم التي لها كتاب لا خير فيها، فلما ذهب أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأخبره الخبر نزل القرآن: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ} [الروم:1 - 3]، والروم قلنا: إنهم قوم نصارى وهم الأوروبيون الحاليون والروم نسباً هم من ذرية العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام فنبي الله إبراهيم أنجب إسماعيل وإسحاق، من إسماعيل العرب المستعربة والذين منهم نبينا صلى الله عليه وسلم، ومن إسحاق جاء ولدان يعقوب والعيص، من يعقوب جاء بنو إسرائيل ومن العيص جاء الروم الذين هم كما قلت الأوربيون حالياً.
المقصود من هذا أنه لما أخبر أبو بكر النبي صلى الله عليه وسلم بالحدث نزلت الآية: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:1 - 4].
فرب العزة وهو عالم الغيب والشهادة والذي بيده مقاليد الأمور أخبر نبيه والمؤمنين عن طريق جبريل أن الروم ستغلب.
(في أدنى الأرض) ومعنى ذلك على أقوال عدة لكن نأخذ الظاهر أن معناها: الأقرب إلى جزيرة العرب، فـ (أدنى) بمعنى: أقرب، والعلم عند الله.
لما جاء القرآن بخبر النصر وثق المؤمنون أن الروم ستغلب فذهب أبو بكر إلى منتدى من منتديات قريش يخبرهم بالخبر فقامره وراهنه أبي بن سلام الجمحي على أن الفرس ستغلب وأن الروم لن تغلب أبداً، وأبو بكر يتمسك بالقرآن وبوعد الله، وأن الله قال: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:3]، فتراهنا على عشر قلائص يعني: إبل محملة، ثم اتفقوا على أمد، فأخذ أبو بكر رضي الله عنه الآية: ((فِي بِضْعِ سِنِينَ)) والبضع من ثلاث إلى تسع، فقال الصديق رضي الله عنه: إن الروم ستغلب بعد ست سنين، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا قال له: (هلا جعلتها أكثر فإنني ألم أخبرك أنها تسع)، الله قال: ((فِي بِضْعِ سِنِينَ))، والبضع إلى التسع، فعاد أبو بكر إلى أبي بن سلام الجمحي وزاد في الخطر ومد في الأجل، معنى زاد في الخطر أي: جعل بدل العشر من الإبل مائة، ومد في الأجل بمعنى أنه مد المدة من ست سنين إلى تسع سنين، فوافق أبي بن سلام الجمحي، وفي معركة بدر في المدينة في أظهر قولي العلماء انتصرت الروم على فارس كما أخبر الله جل وعلا، قال الله جل وعلا: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم:3 - 4] ومعنى الآية: لله الأمر من قبل أن تغلب الروم ومن بعد أن غلبت من قبل ومن بعد {وَيَوْمَئِذٍ} [الروم:4] يعني: يوم يقع النصر {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم:4 - 5] فلا يقع في ملكه جل جلاله وعظم شأنه إلا ما يريد.
ثم قال الله: {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:6].(48/3)
أقسام وعد الله
نقول علمياً: وعد الله جل وعلا ينقسم إلى ثلاثة أقسام: وعد الله للمتقين أنهم يدخلون الجنة، وهذا لا يخلف أبداً وعليه يحمل قول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:9].
الثاني: وعد الله ويسمى وعيد، وهو وعيد الله جل وعلا للكفار بأن يدخلون النار وهذا واقع لا محالة وعليه يحمل قول الله جل وعلا: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29].
الحالة الثالثة: وعد الله ووعيده لعصاة المؤمنين قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10].
وقال الله تبارك وتعالى: {لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [الأحزاب:57]، إلى غير ذلك من آيات الوعيد الواردة في عصاة المؤمنين، وهذا القسم يقع تحت المشيئة، إن شاء الله أمضاها، وإن شاء الله لم يمضها وعليها يحمل قول الله جل وعلا: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، قال الله هنا: {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:6 - 7]، وهذا شيء تراه عياناً.
فالغرب اليوم لا يكاد يسبق في التقدم العلمي لكنه باطل في مذهبه، باطل في دينه، باطل في معتقده؛ لأن الله يقول: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85].
قال الحسن البصري رحمه الله وهو يتكلم عن أهل زمانه: إن من الناس من يكون عالماً بالحياة الدنيا حتى إنه لو نقر الدينار أو الدرهم بظفره لأخبرك بوزنه دون أن يزنه، فإذا قام إلى الصلاة فإنه لا يحسن أن يصلي عياذاً بالله.
فكم تستضيف القنوات والفضائيات وغيرها من الصحف والمجلات أقواماً يتكلمون بعدة لغات ومع ذلك لا يحسن أحدهم أن يصلي ركعتين لله الواحد القهار قال الله: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7]، هذه الآيات الأولى في هذه الوقفات وهي من باب الاستفتاح بما هو خير.(48/4)
وقفة مع قوله تعالى: (وإنك لعلى خلق عظيم)
الوقفة الثانية: مع قول الله جل وعلا: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، هذه الآية في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، ونبينا صلوات الله وسلامه عليه حظنا من النبيين كما نحن حظه من الأمم وهو آخر الأنبياء عصراً وأرفعهم يوم القيامة شأناً وذكراً، زكى الله في القرآن لسانه فقال جل ذكره: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3]، وزكى الله قلبه: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]، وزكى الله عينيه: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]، وزكاه جملة فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، ولنبينا صلى الله عليه وسلم جملة هيئة خُلُقية وهيئة خَلْقية: أما الهيئة الخُلُقية: فلا مناص ولا مفر من أنه صلى الله عليه وسلم كان أكمل الناس، فكل شيء ذي بال فله فيه صلى الله عليه وسلم قصب السبق والقدح المعلى والحظ الأوفر، فهو عليه الصلاة والسلام سيد العظماء، إمام الكرماء، سيد الشجعان كل فضيلة له فيها صلى الله عليه وسلم أعظم نصيب وأحظه وهو الإمام فيها.
فإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هما الرحماء وإذا ملكت النفس قمت ببرها ولو أن ما ملكت يداك الشاء وإذا أخذت العهد أو أعطيته فجميع عهدك ذمة ووفاء وإذا قضيت فلا ارتياب كأنما جاء الخصوم من السماء قضاء وإذا بنيت فخير زوج عشرة وإذا ابتنيت فدونك الآباء وإذا حميت الماء لم يورد ولو أن القياصر والملوك ظماء أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى فالكل في دين الإله سواء فلو أن إنساناً تخير ملة ما اختار إلا دينك الفقراء يا أيها المسرى به شرفاً إلى ما لا تنال الشمس والجوزاء يتساءلون وأنت أطهر هيكلٍ بالروح أم بالهيكل الإسراء بهما سموت مطهرين كلاهما روح وريحانية وبهاء تغشى الغيوب من العوالم كلما طويت سماء قلدتك سماء أنت الذي نظم البرية دينه ماذا يقول وينظم الشعراء والمصلحون أصابع جمعت يدا هي أنت بل أنت اليد البيضاء صلى عليك الله ما صحب الدجى حاد وحنت بالفلا وجناء واستقبل الرضوان في غرفاتهم بجنان عدن آلك السمحاء(48/5)
صفات الرسول الكريم الخَلْقية إجمالاً
أما الصفات الخَلْقية: فإن نبيكم صلى الله عليه وسلم لم تكتحل أعيننا وأعينكم برؤيته لكنه عليه الصلاة والسلام كما قالت الرُّبيِّع بنت معوض رضي الله عنها لما سألها محمد بن عمار بن ياسر قال: يا أماه! صفي لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: يا بني! لو رأيته لرأيت الشمس طالعة.
وقيل للبراء بن عازب رضي الله عنه وأرضاه: أكان وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل السيف، قال: لا، بل مثل القمر.
وقال جابر بن سمرة رضي الله عنه كما عند مسلم في الصحيح قال: خرجت في ليلة أضحيان -أي: ليلة القمر مكتمل- فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم عليه حلة حمراء فجعلت أنظر إلى القمر وأنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلهو عندي أجمل من القمر.
نبينا عليه الصلاة والسلام كان سبط الشعر، أي: أن شعره ليس مسترسلاً، ناعماً في لغة العامة اليوم، ولا ملتوياً.
في جبهته عليه الصلاة والسلام عرق يدره الغضب إذا غضب في ذات الله يمتلئ هذا العرق دماً فيظهر ناتئاً عن الجسد، أزج في غير قرن، أزج: بمعنى دقيق شعر الحواجب، في غير قرن أي: لم يكونا ملتصقتين، طويل أشفار العينين، أشم الأنف، كبير الفم، مهذب الأسنان، كث اللحية، الشيب في شعره ندرة بمعنى: متفرق في رأسه قليل في صدغيه الأيمن والأيسر وأكثر شيبه في عنفقته أسفل شفته السفلى، وجميع شيبه لا يكاد يتجاوز العشرين شعرة، أبيض مشرباً بحمرة، وبياض اليدين وأسفل الساقين كأنه يميل إلى السمرة؛ لأنهما متعرضتان للهواء وداخل الإزار أبيض ناصع البياضن قال أنس: كأني أرى بياض فخذي النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر كأن عنقه إبريق فضة.
بعيد ما بين المنكبين، ما بين كتفيه من الخلف إلى جهة الشمال شعيرات سود اجتمعن بعضهن إلى بعض ناتئة عن الجسد قليلاً كأنها بيضة حمامة عرفت بخاتم النبوة من هذه الوهدة الثغرة التي في النحر إلى أسفل سرته خيط ممتد شعر على هيئة خيط ممتد يعبر عنه عند الرواة بأنه دقيق المسربة، ليس في صدره ولا بطنه شعر غيره صلوات الله وسلامه عليه، سواء البطن والصدر، ضخم الكراديس أي: عظام المفاصل، إذا مشى فإنه يتكفأ تكفأ كأنما ينحدر من مكان عال بمعنى: أنه يتكئ على أمشاط قدميه أكثر مما يتكأ على كعبيه، إذا أشار أشار بيده كلها، وإذا ناداه أحد التفت ببدنه الشريف كله ولا يلتفت برقبته فقط، وإذا تعجب من شيء قلَّب كفيه وقال: سبحان الله، وعن البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح أنه كان إذا تعجب من شيء عظ على شفتيه صلوات الله وسلامه عليه.
من رآه من بعيد هابه، ومن رآه من قريب أحبه.(48/6)
ذكر مسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوية إجمالاً
عُمِّر 63 عاماً، ولد وأبوه متوفى في أظهر أقوال العلماء لأمه آمنة بنت وهب من بني زهرة الذين منهم سعد بن أبي وقاص فكان إذا رأى نبينا عليه السلام سعداً يقول: هذا خالي فليرني امرؤ خاله، عاش في كنف أمه ست سنين أربع منها كان مع مرضعته حليمة في بادية بني سعد ثم أرجع إلى أمه، وكانت شفيقة رفيقة به، (فلما مر على قبرها بالأبواء عليه الصلاة والسلام وقف على قبرها وبكى فسأله الصحابة: ما يبكيك؟ قال: هذا قبر أمي آمنة، وقد سألت الله أن أستغفر لها فلم يأذن لي وسألته أن أزور قبرها فأذن لي، فلما زرت قبرها تذكرت رقتها علي فبكى صلوات الله وسلامه عليه وبكى الصحابة معه) تبعاً لبكاء نبيهم رضي الله عنهم وأرضاهم، حتى إذا دنا من الأربعين كان لا يرى الرؤيا إلا وتقع مثل فلق الصبح، ثم نبئ بإقرأ على رأس الأربعين، ثم أرسل بالمدثر بعد ذلك قال الله له: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:1 - 4].
فأخذ يدعو الناس إلى دين الله بعد أن نبأه الله وبعثه وأرسله، ومكث في مكة 13 عاماً وضع على رقبته وهو ساجد -وهو خير الخلق عند الله- سلا الجزور ولم يقدر أحد ممن آمن به آنذاك أن ينصره، وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه آنذاك مؤمن يرى الأمر ولا يقدر على النصرة؛ حتى جاءت ابنته فاطمة رضي الله عنها وأرضاها وحملت سلا الجزور عن أبيها، وأبوها سيد الخلق عند الله لكنها سنة الابتلاء الماضية، فلما رفع رأسه عليه السلام نظر فيهم -أي في القرشيين- فدعا عليهم قال عبد الله بن مسعود: والله! لقد رأيت من دعا عليهم رسول الله صرعى يوم بدر في قريب بدر، استجاب الله دعوة نبيه.
فلما اشتد عليه أذى القرشيين خرج إلى الطائف فصده أهلها حتى قال قائلهم: ألم يجد الله أحداً يبعثه غيرك، فرجع صلى الله عليه وسلم إلى مكة، وفي طريقه من الطائف إلى مكة أخذ يدعو الله، فلما قست قلوب الإنس على أن تقبل كلامه ألان الله لنبيه قلوب الجن فلما سمعت القرآن وهو أطيب كلام من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفمه أطيب فم مخلوق رقوا وحنوا ودخل الإيمان في قلوبهم قال الله: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19] أي: لما قام رسول الله يقرأ القرآن كادت الجن يركب بعضها بعضاً من عظمة ما يسمعون، قال الله في الأحقاف: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف:29 - 31]، اللهم اجعلنا ممن يجيب دعوته.
فسمعوا منه القرآن ثم دخل مكة ثم عرج الله به -بعد أن أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى- إلى سدرة المنتهى، إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام ثم عاد صلى الله عليه وسلم ومكث بعدها في مكة على الأظهر ثلاث سنين، ثم أذن الله له بالهجرة إلى المدينة فهاجر عليه الصلاة والسلام، وخرج من مكة يوم الإثنين وكان قد نبأ يوم الإثنين كما قال ابن عباس ومكث في الطريق أسبوعين دخل المدينة يوم الإثنين من بطن وادي ريم في جهة الجنوب ثم أتى على قباء فاستقبله أهلها فمكث في قباء الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وتوجه صبيح الجمعة قبل الزوال إلى المدينة بعد أن بعث إلى أخواله من بني النجار فأدركته صلاة الجمعة في بطن الوادي فصلى صلى الله عليه وسلم على مراحل غير بعيدة من قباء وهو على ناقته، بعد ذلك راكباً أتى المدينة وهو يقول: (خلوا سبيلها فإنها مأمورة)، فبركت الناقة في موضع المنبر اليوم فلم ينزل ثم قامت وجالت جولة ثم بركت في موضعها الأول، فبادر أبو أيوب الأنصاري إلى رحل رسول الله وأدخله داره فقال عليه الصلاة والسلام: (المرء مع رحله)، فمكث في المدينة عشر سنين جاهد في الله حق جهاده في بدر وأحد والخندق وغيرها وكان عليه السلام يضحي كل عام بكبشين أملحين يقول: (في الأول باسم الله الله أكبر اللهم هذا عن محمد وآل محمد ثم يتذكر أمته ومن يأتي بعده فيقول: واللهم هذا عمن لم يضح من أمة محمد)، فانظر رحمة نبيك بك فقد خشي عليك الفقر ألا تضحي فقد ضحى عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مكث في المدينة على هذا الأمر حتى أتم ثمان سنوات، ثم فتح الله له مكة فطاف بالبيت الذي حرم منه ثمانية أعوام، وبيده محجل يشير إلى الأصنام وهي تتساقط وهو يتلو: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، ثم دخل البيت بعد أن طهر مما فيه من الصور والأزلام فكبر في نواحيه وصلى فيه ركعتين، ثم خرج، ثم بعد ذلك عاد إلى المدينة بعد حنين والطائف، ثم في العام العاشر أذن في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عازم على الحج فأم المدينة خلق كثير، ثم إنه -صلى الله عليه وسلم- حج حجة الوداع فأنزل الله جل وعلا عليه قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3]، فعلم أنه ميت فأخذ يودع الناس ويقول: (لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا)، حتى رجع إلى المدينة عليه الصلاة والسلام في شهر ربيع الأول من ذلك العام في أول يوم دخل على عائشة وهي عاصبة رأسها تقول: وارأساه! قال: (بل أنا وارأساه!)، فبدأ المرض يشتد عليه فخرج إلى أحد استغفر لهم ودعهم -أي الشهداء هناك- خرج إلى البقيع يقول: (ليهنكم ما أنتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها)، ثم رجع وهو يقول لـ أبي مويهبة: (إن الله خيرني ما بين الخلد في الدنيا ثم الجنة، وما بين لقاء الله ثم الجنة، والنبيون أعظم الخلق شوقاً إلى لقاء الله فقاطعه أبو مويهبة قال: يا نبي الله! بأبي أنت وأمي اختر الخلد في الدنيا ثم الجنة، قال: لا، يا أبا مويهبة! إنني اخترت لقاء الله ثم الجنة) شوقاً إلى ربه، فلما داهمه المرض وحانت ساعة الوفاة يوم الإثنين سمعته عائشة وهو يقول بعد أن خيره الملك يقول: (مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، ثم قال: بل الرفيق الأعلى)، كررها ثلاثاً ثم مالت يده ففاضت روحه إلى أعلى عليين في المحل الأسمى والملكوت الأعلى صلوات الله وسلامه عليه، ثم غسله أهل بيته غسله العباس وقثم والفضل ابنا العباس يقلبان الجسد الشريف، وشقران وأسامة يسكبان الماء، وعلي رضي الله عنه يباشر بيده غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كُفِّن بثلاثة أثواب من قرية من اليمن، ثم إنه صلى الله عليه وسلم حفر له في الجهة الجنوبية الغربية من حجرة عائشة رضي الله عنها وأرضاها ودفن ثم نزل في قبره قثم والفضل وأسامة وشقران وعلي ووضعوه في لحده عليه الصلاة والسلام وبنوا عليه تسع لبنات بعد أن صلى عليه المؤمنون أرسالاً أي فرادى كل شخص يصلي لوحده ثم دفن وحثي التراب على قبره صلوات الله وسلامه عليه.
هذا على وجه الإجمال خبر نبيكم صلى الله عليه وسلم.
الله قسم بين الخلق رزقهم وأنت خيرت في الأرزاق والقسم إن قلت في الأمر لا أو قلت فيه نعم فخيرة الله في لا منك أو نعم يا أفصح الناطقين الضاد قاطبة حديثك الشهد عند الذائق الفهم أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه والرسل في المسجد الأقصى على قدم لما رأوك به التفوا بسيدهم كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم صلى وراءك منهم كل ذي خطر ومن يفز بحبيب الله يأتمم ركوبة لك من عز ومن شرف لا في الجياد ولا في الأينق الرسم مشيئة الخالق الباري وصنعته وقدرة الله فوق الشك والتهم ثم اعلم أيها الأخ المبارك! إن الناس يوم القيامة يحشرون وهم أحوج ما يكونون إلى ثلاثة أشياء، يحشرون عراة أحوج ما يكونون إلى الكسوة، ويحشرون عطشا أحوج ما يكونون إلى الماء، ويحشرون تدنو منهم الشمس أحوج ما يكونون إلى ظل العرش، والموفق من رحمه الله وأكرمه وكساه يوم القيامة وسُقِي من يدي نبينا صلى الله عليه وسلم، وأظله الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
جمع الله لي ولكم ولوالدينا هذه الثلاثة كلها.
ومن أعظم أسباب الحصول على ذلك: محبة نبينا صلى الله عليه وسلم واتباع أمره واجتناب نهيه والتماس سنته وتصديقه، بل الدين كله مندرج في اتباعه عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
هذه الوقفة الثانية في هذا المساء المبارك وكانت خاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم.(48/7)
وقفة مع قوله تعالى: (وشاهد ومشهود)
الوقفة الثالثة علمية في قول الله جل وعلا: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج:3]، هذه الآية في سورة البروج وسورة البروج سورة مكية باتفاق العلماء صدرها الله جل وعلا بقوله: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج:1 - 3].
فإن جعلنا الواو عاطفة فهي معطوف على مقسوم، وإن جعلناها مستقلة فهي في ذاتها واو قسم ولذلك جرت في الحالتين.(48/8)
اختلاف العلماء في معنى الشاهد والمشهود
اختلف العلماء على ما هو الشاهد وما هو المشهود؟ على أقوال وكلها يؤيدها القرآن.
قال بعض العلماء: الشاهد هو النبي صلى الله عليه وسلم والمشهود عليه هذه الأمة والدليل أن الله قال: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41].
قال آخرون: لا الشاهد هو هذه الأمة والمشهود عليها الأمم كما ورد في الحديث الصحيح.
وقال آخرون: إن الشاهد هو الحجر الأسود والمشهود عليه من يلتبس الحجر، ودليلهم من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذا الحجر الأسود يأتي يوم القيامة وله عينان يبصران وله لسان يتكلم به يشهد لمن استلمه بصدق).
وقال آخرون: إن الشاهد هو عيسى عليه السلام والمشهود عليه أمته ودليلهم من القرآن قول الله جل وعلا في خاتمة المائدة على لسان عيسى: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة:117].
وقال آخرون: إن الشاهد هو النجم، والمشهود الناس والدليل عندهم من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حتى يغيب الشاهد)، أي: حتى يغيب النجم.
وقال آخرون بغير هذا لكن هذا جملة ما قاله العلماء على أنه ينبغي لك أن تعلم أن أعظم الشاهدين هو الله جل جلاله قال الله جل وعلا: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء:79]، وقال الله على لسان عيسى: {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة:117]، ولقمان لما أراد أن يؤدب ابنه ويعلمه ويعظه قال: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16].
فالله جل وعلا من تكلم عنده كمن أسر، ومن ظهر كمن اختفى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وطوبى لعبد خاف الله واتقاه، وعلم أن الله هو خير الشاهدين، فما أقفل على نفسه باباً إلا وتذكر عظمة الجبار جل جلاله وأن الله جل وعلا مطلع عليه لا تخفى عليه من عباده خافية.
فجعل من عمره صلوات وذكر يتقرب بها إلى الله جل وعلا، ألا ترى إلى يونس بن متى لما ابتلاه الحوت وغاص به الحوت في قاع البحار حرك عليه السلام يديه؛ ليشعر أنه حي أو ميت فتجاوبت معه أطرافه فأسمعه الله جل وعلا تسبيح الحصى في باطن الثرى فخر ساجداً في ذلك المكان المظلم يتوسل إلى الله بهذا السجود قائلاً: اللهم إنني اتخذت لك مسجداً في مكان ما ظننت أن أحداً عبدك فيه، قال الله جل وعلا: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143 - 144]، فألهمه الله جل وعلا أن يسبح وأن يذكر الله وأن يتقيه في مكان يغلب على الظن أن الله لم يُذكر فيه، فكان ذلك سبباً في رحمة الله جل وعلا به فكل ما بوأك الله مكاناً فأرِ الله جل وعلا ما يأمله منك، وإذا رزقك الله جل وعلا نعمة مما تحب فأرِ الله جل وعلا فيها ما يحب، وقد كان بعض الصالحين إذا دعا الله يقول: اللهم واجعل ما أعطيتنا مما نحب عوناً لنا على ما تحب، وهؤلاء طبقة ربانية وأئمة مهديون.
سلك الله بي وبكم سبيلهم.(48/9)
وقفة مع قصة جريج العابد(48/10)
ابتلاءات الرسول صلى الله عليه وسلم
لقد ابتلي النبي صلى الله عليه وسلم الابتلاءات العظيمة الكبيرة فصبر، وفوض أمره إلى الله، واستمر في الدعوة إلى هذا الدين العظيم، فأقام الله به الدين وأظهره على الدين كله.
وصور ابتلائه صلى الله عليه وسلم كثيرة، فحري بمن اقتدى به أن يصبر على الابتلاءات، فما هذه الدنيا إلا دار ابتلاء وامتحان، فالصبر مفتاح الفرج.(49/1)
تعظيم النبي عليه الصلاة والسلام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله، وإن كان يقل مع حق جلاله حمد الحامدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين وإله الآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن من الأعمال الصالحة التي يتقرب بها إلى الله جل وعلا: أن يعظم قدر نبيه صلى الله عليه وسلم، على أنه ينبغي أن يعلم أن قدره صلى الله عليه وسلم عظيم قدراً وشرعاً، وأما من لم يعرف لنبي الله صلوات الله وسلامه عليه قدراً فهو في حقيقة الأمر لم يعرف قدر نفسه؛ لأن نبينا صلى الله عليه وسلم كتب الله له أرفع المقامات، وأجل العطايا، وأسنى المطالب قدراً وشرعاً كما بينا آنفاً، فهو عليه الصلاة والسلام يقول عن نفسه: (إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمجندل في طينته).
وقال ربنا وهو أصدق القائلين: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81].(49/2)
رضاعته صلى الله عليه وسلم
سوف نحاول أن نقف وقفات مختصرة في هذا اللقاء المبارك، فنجعل من بعض الأحداث، أو الأحاديث في سيرته مطية للحديث عن هديه وما يمكن أن ننتفع به من سيرته صلوات الله وسلامه عليه، وإلا فهو عليه الصلاة والسلام قدوة للعاملين، وحجة على المعاندين، ورحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الوقفة الأولى: مع رضاعته عليه الصلاة والسلام، فالأم في القرآن يطلق على معان عدة، فيطلق على الأم نسباً وتسمى والدة، ويطلق على الأم إذا أرضعت، ولا تسمى والدة؛ لأنها ليست أماً نسباً، قال الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء:23].
وقال في صدر الآية: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23] أي: نسباً، ونبينا صلى الله عليه وسلم زهري أماً، هاشمي أباً، فأبوه من بني هاشم، وأمه من بني زهرة، ولما ولدته أمه هي التي أرضعته، فأول ثدي التقمه عليه الصلاة والسلام كان ثدي أمه، ثم ثدي ثويبة مولاة أبي لهب، واختلف في إسلامها هل أسلمت أو لا؟ والعلم عند الله، وليس بين يدينا نص صريح صحيح إثباتاً أو نفياً.
وثويبة كانت جارية لـ أبي لهب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقها أبو لهب لما بشرته بمولد نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم كان ما كان بعد ذلك من كفر أبي لهب بعد البعثة.
فـ ثويبة ثاني المرضعات، وثالث المرضعات: حليمة السعدية في بادية بني سعد على عادة العرب آنذاك، وشرف بأن رضع معه صلى الله عليه وسلم رجال ونساء، فلم يرضع معه من أمه أحد، لكن رضع معه من ثويبة أبو سلمة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فهو أخوه من الرضاعة، ثم مات أبو سلمة عن زوجته فتزوجها نبينا صلى الله عليه وسلم، وكأن هذا إرهاصاً لما سيكون بعد، ثم أرضعته حليمة السعدية رضي الله عنها وأرضاها.
وكذلك أرضعت معه ثويبة حمزة رضي الله عنه وأرضاه، فـ حمزة عمه نسباً، وأخوه رضاعة، ويقدر الله لوشائج القربى أن تعظم ما بين حمزة ورسول الله صلى الله عليه وسلم، فـ حمزة كما أنه رضع معه من ثويبة فقد رضع معه من حليمة، فـ حمزة رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم نسباً، ورضع مع النبي عليه الصلاة والسلام من ثويبة ورضع معه من حليمة، فهو أخوه من الرضاعة من جهتين: من جهة ثويبة، ومن جهة حليمة السعدية.
وأرضعت معه حليمة أبا سفيان بن الحارث ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد الخمسة الذين يشبهونه عليه الصلاة والسلام، وقد مر معنا في دروس مضت أن هناك خمسة شديدي الشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم: الحسن، والفضل، وقثم بن العباس، وأبو سفيان بن الحارث، وجعفر بن أبي طالب، فهؤلاء الخمسة أشد الناس شبهاً برسول الله صلى الله عليه وسلم في هيئته الخَلْقية، ويتفاوتون في شبههم بهيئته الخلقية بعضهم عن بعض تفاوتاً بيناً كما هو معلوم.
فهؤلاء هم إخوة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، وهذه الرضاعة عموماً تنوعها يري كل من يفقه عناية الله جل وعلا برسوله صلى الله عليه وسلم، ولابد لمن يدرس السيرة أن يربط جزماً ما بين القرآن والسنة، فالله جل وعلا قال وهو أصدق القائلين في نبيه موسى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، فإذا كان قيل في كليم الله موسى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] فما عسى أن يقال في سيد الخلق وأشرفهم صلوات الله وسلامه عليه، فأنبياء الله جل وعلا أعدهم الله جل وعلا لأمر عظيم، وشأن جليل، وفي مقدمتهم رسولنا صلى الله عليه وسلم، فهو عليه الصلاة والسلام في عناية ربه منذ أن حملت به أمه، وإلى أن أودع القبر عليه الصلاة والسلام، بل إن الله بعد ذلك: (حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)، وهو عليه الصلاة والسلام خيرة الأنبياء من الخلق، وهو عليه الصلاة والسلام محل احتفاء ربه جل وعلا، فحتى عائشة يراها في رؤيا في كفه قبل أن يتزوجها، والمدينة هذه المباركة التي هاجر إليها يرى أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل، ثم يهاجر بعد ذلك بقدر الله وشرعه إلى هذه المدينة المباركة، فهو لم يختر الأرض التي يهاجر إليها، ولم يختر التربة التي مات فيها، ولم يختر البقعة التي دفن فيها، ولم يختر أزواجه، كان صلى الله عليه وسلم في كل قول يقوله، أو فعل يفعله، أو خطوة يخطوها، يكون ذلك بخيرة من الله وقدره، وهذا هو المعنى الحرفي في قول شوقي: الله قسم بين الخلق رزقهم وأنت خيرت في الأرزاق والقسمِ إن قلت في الأمر لا أو قلت فيه نعم فخيرة الله في لا منك أو نعمِ أخوك عيسى دعا ميتاً فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم صلوات الله وسلامه عليه.
فيبين هذا منزلته عند ربه، فبالله ما سينال أعداؤه منه إلا الوبال والخسران، {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:31].
فهو عليه الصلاة والسلام كفاه الله جل وعلا شر كل أحد: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:95 - 96]، فإذا كان القرشيون القريبون منه جسداً وداراً ومقاماً وموطناً عجزوا عن أن يصل أذاهم إليه، فكيف بمن يريد أن يؤذيه اليوم وقد وسد الترب صلوات الله وسلامه عليه: والله لن يصلوا إليك ولا إلى ذرات رمل من تراب خطاكا هم كالخشاش على الثرى ومقامكم مثل السماء فمن يطول سماكا صلوات الله وسلامه عليه.(49/3)
وقفة مع تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة
الوقفة الثانية: مع حدث وقع بعد بعثته، وأضربت الذكر صفحاً عن ذكر الهجرة والبعثة؛ لأنني تكلمت عنهما كثيراً، وهذا الحدث هو تحويل القبلة، وقد كان صلى الله عليه وسلم في مكة يجعل مكة بينه وبين بيت المقدس إذا صلى في الحرم، فيصلي ما بين الركنين، ويستقبل الشام، وأما إذا صلى خارج الحرم، فإنه يستقبل بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة مكث ستة عشر شهراً يستقبل بيت المقدس، ثم قال لجبريل: (وددت لو أن الله جعل مكة أو الكعبة قبلتي، فقال له جبريل: إنما أنا عبد فادع الله واسأله، فأخذ صلى الله وعليه وسلم يدعو ربه ويسأله، ويرجو أن يحقق له مقصوده، ويقلب وجهه في السماء، فأنزل الله جل وعلا قوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:144])، وهذا من إكرام الله لنبيه، فولى صلى الله عليه وسلم وجهه تجاه الكعبة، فانقسم الناس إلى أربعة فرق: فقال أهل الإيمان من الصحابة الأخيار: سمعنا وأطعنا كل من عند ربنا، فزكاهم الله بقوله: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة:143].
وقال اليهود: لقد ترك قبلة الأنبياء، ولو كان نبياً لما ترك قبلتهم.
وقال القرشيون في مكة: يوشك محمد أن يرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا، وإن هذا من أمارات أننا على الحق.
وقال أهل النفاق وهم يومئذ قليل؛ لأن شوكة المنافقين لم تظهر إلا بعد بدر، وأما قبل بدر فكان النفاق في المدينة قليلاً، فقال بعض ضعفاء الإيمان والمنافقون آنذاك: إن محمداً لا يدري أين يتوجه، فإن كان أولاً على الحق فقد ترك الحق، وإن كان في توجهه إلى مكة اليوم على الحق فقد كان محمد على الباطل، فتركوا الدين، فهذه أربع طوائف.(49/4)
كيفية تعامل المؤمن مع الأحداث من حوله
ويمكن أن يأتي العاقل اليوم فيستقى منها كيف يتعامل مع الأحداث من حوله: أولها: أن المؤمن عبد مأمور يستسلم لأمر ربه وإن رأى أنه مخالف لهواه، لكنه يطوع هواه لأن يكون تبعاً لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم عن ربه، فالدين في مجمله: استسلام وانقياد لأوامر الله، وفق شرع محمد صلى الله عليه وسلم.
هو دين رب العالمين وشرعه وهو القديم وسيد الأديانِ هو دين آدم والملائك قبله هو دين نوح صاحب الطوفان هو دين إبراهيم وابنيه معاً وبه نجا من لفحة النيران وبه فدى الله الذبيح من البلا لما فداه بأعظم القربان هو دين يحيى مع أبيه وأمه نعم الصبي وحبذا الشيخان هذا هو التوحيد، ثم جاء بعدها: وكمال دين الله شرع محمد صلى عليه منزل القرآن فالإنسان يأخذ ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم عن ربه، ويأتمر به، وينقاد إليه، وأما أن يأتي الإنسان لمصالحه ورغباته وأهوائه، فيريد أن يطوعها كما يشاء، فهذا لا ننفي عنه الإيمان بالكلية، لكن لا يمكن أن يرقى إلى أهل الإيمان المؤتمنين على دين الله جل وعلا في نشره، ولن يستطيع أحد أن يحمل الدين ويقوم به على الوجه الأكمل، والنحو الأتم، ويبلغه الناس؛ حتى يؤمن به أولاً، وحتى يكون روحاً وجسداً طوعاً لأوامر الله، فإذا كان هوى النفس ورغباتها تبعاً لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم عن ربه أصبح هذا الرجل حقاً صادق الإيمان، وهذا هو الذي يستطيع أن يحمل الراية، لكن الإنسان قد يأتي آخر الناس في المسجد، ويريد أن يكون أول الصفوف في القتال، أو يعكس الوضع، يكون أول الناس في المسجد، ويريد أن يكون آخر الصفوف في ساحات القتال الشرعي، أو غير ذلك، لكن المرء يكون هواه حقاً تبعاً لما جاء به محمد صلى الله وعليه وسلم عن ربه جل وعلا.
ومن هذه القضية يؤخذ: أنه يسهل على النفس أن تجد أعذاراً فيما لا تريد، كما فعل المنافقون والقرشيون واليهود، فقد وجدوا أعذاراً في تحويل القبلة، والأمة تبتلى وتختبر على مر الدهور وكر العصور، في كل آن وحين كما قال الله: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة:143].
والله يقول: {يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة:126].
فابتلاء الناس واختبارهم بالأحداث العظام يتكرر في التاريخ كله، فإذا أقبلت الفتنة عميت على الناس، ولا يعرفها إلا من رزقه الله جل وعلا رسوخاً في العلم، فإذا أدبرت وانتهت أضحت بجلاء لكثير من الناس، وأما أن يبقى فئام في إقبال الفتنة أو في إدبارها وهم سواء، فلا يريدون أن يروا إلا ما يريدون أن يروه، وإذا كان الإنسان لا يحب أن يسمع إلا كلاماً يحبه، ولا يحب أن يرى إلا واقعاً يريده، فهذا لن يبصر ولن يسمع، لكن العاقل يرى الأشياء على ما هي عليه، ثم ينظر كيف يتعامل معها وفق شرع الرب تبارك وتعالى.
ويسهل على الشاب الذي تتثاقل قدمه عن الصلاة أن يقول: إن الإمام حيناً يتأخر في الإقامة ويطيل في الصلاة، أو يقول العكس فيظهر أنه رجل تقي بار فيقول: هذا الإمام لا يطيل الصلاة ولا أجد نفسي أخشع وراءه، فلو ذهب إلى المسجد النبوي أو غيره لقلنا: إنه صادق، لكن يبقى في البيت، ويتخذ من خطأ الإمام عذراً، فهذا حاله ليس مثل الأولين الذين ذكرناهم في مثال القبلة تماماً، بل هناك وجه شبه لا انفكاك منه عن حالة المنافقين، فالمنافقون قالوا: إما أن يكون محمد على الحق فترك الحق، وإما أن يكون محمد يزعم أن الحال الثاني على الحق فقد كان محمد على الباطل.
والمقصود: أن طرائق التأويل سهلة جداً لمن يريد أن يتبع الغواية ويخرج عن منهاج هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.(49/5)
وقفة مع حياته صلى الله عليه وسلم في بيوته
الوقفة الثالثة: يقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم:1 - 2].
ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم في أرفع المقامات، لكنه مع ذلك هو بشر، وتبقى تلك البيوت التي كانت في جوار المسجد في شرقيه على الأكثر لو رفعت يدك للمست سقفها، ولو مددت قدمك وأنت نائم للمست حائطها، وكانت تأوي أمهات المؤمنين رضوان الله تعالى عليهن وبينهن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، تبقى بيوتاً بشرية؛ لأنها بيوت هدى، فلو لم تكن بيوتاً بشرياً لانتفت القدوة والأسوة؛ لأننا أصبحنا مطالبين بأقوام أو بعوالم ليست مثلنا، فلنا العذر ألا نقتدي، لكنها كانت بيوتاً كبيوتنا، يعمرها أقوام مثلنا في خلقهم، إلا أن الله اختصهم وأعطاهم ما لم يعط غيرهم.(49/6)
سبب نزول قوله تعالى (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك)
فاختلف في سبب نزول الآية على قولين شهيرين يتبعها أقوال بعيدة: منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أصاب جارية من جواريه وهي مارية القبطية على فراش إحدى زوجاته، ويقال: إنها حفصة، فعظم هذا عليها، فأرضاها النبي صلى الله عليه وسلم أن يحرم جاريته على نفسه.
وقول آخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث عند إحدى أمهات المؤمنين طويلاً بعد العصر، وأطعمته عسلاً، وكان يحب الحلوى، فغارت بعض أمهات المؤمنين، فتظاهرن عليه أن يقلن: إننا وجدنا منك ريحة كذا وكذا، وقد سأل ابن عباس حبر هذه الأمة سأل عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وعمر كان ذا هيبة، وابن عباس كان طالب علم، ولا يجتمع طلب علم مع الحياء من السؤال، فلابد أن يكون في طالب العلم نوع من الإقدام عندما يسأل، لكن يسأل بأدب، فكان ابن عباس يريد أن يعرف من المرأتان اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمنعه هيبة عمر من أن يسأله، فلما حج يوماً مع عمر وأراد عمر أن يتوضأ وأبعد، وقضى حاجته، فلما عاد قدم إليه ابن عباس بإداوة وسكب عليه الماء، وعمر يغسل يديه فقال له: يا أمير المؤمنين! من المرأتان اللتان ظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال رضي الله عنه وأرضاه: واعجباً لك يا ابن عباس! أي: تعجباً من جرأته على طلب العلم، قال العلماء: كره أن يجيبه، ولم يستطع أن يكتم العلم، ثم قال: هما حفصة وعائشة رضوان الله تعالى عليهما، حفصة ابنته وعائشة بنت أبي بكر رضوان الله تعالى على الجميع، ففهمنا من هذا الحديث أن اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم هما حفصة وعائشة.
والمقصود: أن هذا حصل في بيوت النبوة فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يحل النزاع ويقضي على الأمر، فحرم على نفسه ذلك الطيب الحلال المباح سواءً كان وطئ الجارية، أو أكل الحلوى؛ حتى يرضي زوجته وينهي المسألة، ولا يشغب على نفسه أكثر من ذلك، فعاتبه ربه عتاباً رقيقاً: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [التحريم:1] وهو خطاب إجلال لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي} [التحريم:1] بتحريمك، {مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم:1].
وتذييل الآية بقول الله جل وعلا: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم:1] تطييب له صلوات الله وسلامه عليه، ثم بين الله منهاجاً شرعياً عظيماً: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم:2].
ثم أخبر الله جل وعلا عن شيء يقع في كل بيت، قال الله جل وعلا: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم:3]؛ فهو صلى الله عليه وسلم يدني زوجته يعطيها بعض الخبر، لكنه يعرف أنها امرأة لا يلبث عندها شيء، فأعرض عن بعض الأخبار ولم يعطها إياها، وقد قلت مراراً: من يريد أن يسوس الناس لابد أن يبقي على مسألة الطمع والخوف منه، فالناس إذا طعموا فيك بالكلية لم يعملوا، وإذا خافوا منك بالكلية يئسوا من عطائك فلم يعملوا، والعرب تقول: ولن ترى طارداً للحر كاليأس لكن اجعل من تحت يدك زوجة كانت أو طالباً، أو عاملاً، أو أجيراً أو موظفاً يرجوك ويخافك في آن واحد، فإن كان من تحت يدك لا يرجوك، بل يخافك بالكلية، أو يخافك بالكلية ولا يرجوك، فاعلم أنك غير موفق في سياسة الناس، قال الله جل وعلا: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم:3].
وأمهات المؤمنين حق لهن أن يتنافسن؛ لأن الزوج الذي يتنافسن عليه هو سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وزينب بنت جحش وعائشة كن أكثر نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم ملابسة عليه، فأما عائشة فتدلي بأنها بكر، وأما زينب فتدلي بشيئين: أنها قرشية وابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأنها زوجها الله جل وعلا من فوق سبع سموات، فهذا الذي جعل المنافسة غالبها ما بين زينب وبين عائشة.
والمنافسة محمودة بين الناس؛ لأنها تدفع إلى الإقدام، لكن ينبغي أن تكون محكومة بضوابط الشرع، ويمكن أن يقبل منك كلمة خرجت من غير أن تضبطها في خصم أو منافس لك، لكن لا يقبل منك أن تتعمد هذا المرة بعد المرة، فـ زينب بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها كانت تسامي عائشة جداً، فلما وقعت حادثة الإفك وخاض من خاض في عرض أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها كانت حمنة بنت جحش أخت زينب تريد أن تذكي المسألة؛ نصرة لأختها على عائشة، وأما زينب نفسها رضي الله عنها وأرضاها فقالت: أحفظ سمعي وبصري، وأملك علي لساني، ولا أقول إلا خيراً، وعصمها الله من أن تقول أي قالة سوء في عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وهكذا العاقل، فنقبل منك أن تنازع إماماً مجاوراً لمسجد لك يقع منك أنك لا تحب الصلاة وراءه، وتتثاقل ويقع في نفسك شيء إذا سمعت الناس يمدحونه فلا بأس في ذلك، فالله يقول: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5].
فالمهم ألا ينقلب هذا الأمر إلى شيء من قول أو فعل تضر به أخاك، فهنا يخرج الأمر عن إطاره الشرعي، ولا ينبغي لعاقل أن يصنعه.
نعود إلى بيوت أمهات المؤمنين رضوان الله تعالى عليهن، فبينهن كان صلى الله عليه وسلم، وهذه الحجرات شهدت أموراً عظاماً، وأعظم ما شهدت هو تنزل الوحي، {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34]، فهو صلى الله عليه وسلم يقوم في الليل فيقول: (سبحان الله ماذا فتح الليلة من الخزائن، أيقظوا صواحب الحجرات، رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة)، فيقوم يصلي ويأمر أمهات المؤمنين أن يصلين, وشهدت تلك الحجرات تنقل السبطين: الحسن والحسين رضوان الله تعالى عليهما ريحانتي رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا.
وشهدت تلك الحجرات قدوم الوفود، وقول بعض العرب: يا محمد اخرج إلينا فإن مدحنا زين، وذمنا شين، فأنزل الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4].
وشهدت تلك الحجرات قيام الليل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفقده أم المؤمنين فتجده قد انتصبت قدماه يقول في سجوده أو ركوعه: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك من لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك).(49/7)
استماعه صلى الله عليه وسلم للشعر واستزادته منه
رابع المواقف أيها المؤمنون: ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ردفه الشريد بن سويد الثقفي، كما روى مسلم في الصحيح من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه، وأبوه هو الشريد بن سويد الثقفي صحابي جليل، هذا الصحابي الجليل ردف النبي صلى الله عليه وسلم أي: أن النبي عليه الصلاة والسلام ركب معه على الدابة، فقال له عليه الصلاة والسلام: (هل تحفظ من شعر أمية بن أبي الصلت شيئاً؟ قال: قلت: نعم يا رسول الله! قال: هيه) أي: يطلب، قال: (فأنشدته بيتاً، فقال: هيه، فأنشدته بيتاً، فقال: هيه، فأنشدته بيتاً فقال: هيه؛ حتى أنشدته مائة بيت).
ولغوياً كلمة هيه: اسم فعل عند النحاة، فإذا بقي على البناء على الكسر ولم تنونه فأنت تطلب الاستزادة من نفس الحديث، وإن نونته قلت: هيهٍ فأنت تطلب الزيادة من أي حديث؛ لأن التنوين قرين التنكير، فأنت تطلب الزيادة من أي حديث، لكن إن قلت هيه من غير تنوين فإنك تطلب الزيادة من نفس الحديث، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يقولها من غير تنوين ويريد الزيادة من نفس شعر أمية بن أبي الصلت.
يقول الشريد رضي الله عنه: فأسمعته مائة بيت، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في مسلم أيضاً من حديث أبي هريرة قال: (أصدق كلمة قالها شاعر: ألا كل شيء ما خلا الله باطل)، وقال: (وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم)، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (أصدق كلمة قالها شاعر قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل) فكلمة باطل هنا ليست ضد الحق، فإن الدين حق، وهو خلا الله، والنبي صلى الله عليه وسلم حق وهو غير الله، والجنة حق وهي غير الله، والنار حق وهي غير الله، لكن قصد لبيد بقوله: ألا كل شيء ما خلا الله باطل، أي: مضمحل، فالعرب تطلق على الشيء المضمحل بأنه باطل.
قال شراح الحديث: وإن النبي صلى الله عليه وسلم قال على كلمة لبيد بأنها أصدق كلمة؛ لأنها وافقت أصدق كلام، وأصدق الكلام هو كلام الله، والله يقول في القرآن: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26].
فهذه المقولة الشعرية ل لبيد قبل الإسلام وافقت قولاً قرآنياً وهو قول ربنا جل ذكره: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26]، فلهذا قال صلى الله عليه وسلم: (ألا كل ما خلا الله باطل) هي أصدق كلمة قالها شاعر.
ولبيد: هو لبيد بن ربيعة العامري أحد شعراء المعلقات، ومطلع معلقته: عفت الديار محلها فمقامها بمنى تأبد غولها فرجامها وقد أدرك الإسلام وأسلم، وهو الوحيد من شعراء المعلقات الذين أدركوا الإسلام، فأسلم رضي الله عنه وأرضاه، وقد عمر طويلاً، وكان يقول: ولقد سئمت من الحياة وطولها وسؤال هذا الناس كيف لبيد وهنا مسألة وهي: أن الإنسان يحاول قدر الإمكان إذا مرت عليه أحاديث المعصوم صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بها، وأن يصنع ما استطاع أن يصنعه من هديه صلوات الله وسلامه عليه، فقد قدر لي عام 1409 أن كنت مع الشيخ محمد المختار الشنقيطي الفقيه الواعظ المدرس في الحرم النبوي الشيخ الجليل المعروف.
وفي تلك الفترة كنت طالباً في التعليم، وكنت في الدرس فمات أحد الطلاب فرثيته بأبيات، فلما كنت مع الشيخ وفقه الله ذكرت له الأبيات، وموضع الشاهد من القضية كلها: أنه كان كلما قلت له بيتاً كان الشيخ حفظه الله ووفقه يقول: هيه؛ تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فزاد والله إجلالي ومحبتي وإقبالي للشيخ وإن كنا نحبه من قبل، فوقتها منّ الله عليه بالتوفيق أن تذكر كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أنشد شعراً قال هذه الكلمة.
والمقصود أيها المبارك: أن من أعظم ما تتقرب به إلى ربك: أن تحاول أن تتأسى بسيد الخلق وأشرفهم صلوات الله وسلامه عليه، ولن تصل إلى مرادك من الله بطريق ولا بسبيل أقوم ولا أكمل من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله يقول وقوله الحق: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].(49/8)
مدح بعض الشعراء للنبي صلى الله عليه وسلم
نعود هنا إلى عالم الشعر على وجه الإجمال، فالنبي صلى الله عليه وسلم عظمه ربه في القرآن، فمهما قال الشعراء في حقه عليه الصلاة والسلام فغاية الأمر أنهم ينبئون عن عظيم إيمانهم ومحبتهم لرسول الله عليه الصلاة والسلام، أما هو صلى الله عليه وسلم كفى بتزكية القرآن له تزكية، فقد زكى الله بصره: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17]، وزكى الله لسانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3]، وزكى الله قبله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]، وزكى الله أذنه: {وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} [التوبة:61]، وزكاه الله جل وعلا جملة: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، فهو عليه الصلاة والسلام ليس في حاجة لأن يطريه أحد من الخلق، لكنه إذا أطراه أحد ومدحه وفق ضوابط الشرع فإنما ينبي ذاك عن علم ذلك الرجل بالدين، وحبه لرسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم.
وكان حسان رضي الله عنه وأرضاه من أعظم من مدح النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: عفت ذات الأصابع فالجواء إلى عذراء منزلها خلاء فمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء هجوت محمداً فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء فإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منكم وقاء هذه هي من همزيته المشهورة رضي الله عنه وأرضاه.
ويقولون: إن أعظم ما قيل في مدح النبي صلى الله عليه وسلم قول حسان: وأجمل منك لم تر قط عين وأسمح منك لم تلد النساء خلقت مبرأً من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء كما مدحه عبد الله بن رواحة وكعب بن زهير، ثم تسابق الناس من شعراء المسلمين عبر التاريخ الإسلام في مدح رسول الهدى ونبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه، فقال شوقي رحمة الله تعالى عليه في همزيته الشهيرة: خلقت لبيتك وهو مخلوق لها إن العظائم كفؤها العظماء فإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هما الرحماء وإذا ملكت النفس قمت ببرها ولو أن ما ملكت يداك الشاء وإذا أخذت العهد أو أعطيته فجميع عهدك ذمة ووفاء وإذا قضيت فلا ارتياب كأنما جاء الخصوم من السماء قضاء وإذا بنيت فخير زوج عشرة وإذا ابتنيت فدونك الآباء وإذا حميت الماء لم يورد ولو أن القياصر والملوك ظماء أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى فالكل في دين الإله سواء فلو أن إنساناً تخير ملة ما اختار إلا دينك الفقراء يا أيها المسرى بها شرفاً إلى ما لا تنال الشمس والجوزاء يتساءلون وأنت أطهر هيكل بالروح أم بالهيكل الإسراء بهما سموت مطهرين كلاهما روح وريحانية وبهاء تغشى الغيوب من العوالم كلما طويت سماء قلدت سماء أنت الذي نظم البرية دينه ماذا يقول وينظم الشعراء والمصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء صلى عليك الله ما صحب الدجى حاد وحنت بالفلا وجناء واستقبل الرضوان في غرفاتهم بجنان عدن آلك السمحاء وقال في البائية غفر الله له ورحمه: سلوا قلبي غداة سلا وثابا لعل على الجمال له عتابا ويسأل في الحوادث ذو صواب فهل ترك الجمال له صوابا أخا الدنيا ترى دنياك أفعى تبدل كل آونة إهاباً فمن يغتر بالدنيا فإني لبست بها فأبليت الثيابا لها ضحك القيان إلى غبي ولي ضحك اللبيب إذا تغابى جنيت بروضها ورداً وشوكاً وذقت بكأسها شهداً وصابا فلم أر مثل حكم الله حكماً ولم أر مثل باب الله بابا أبا الزهراء قد جاوزتُ قدري بمدحك بيد أن لي انتسابا فما عرف البلاغة ذو بيان إذا لم يتخذك له كتابا مدحت المالكين فزدت قدراً فلما مدحتك اقتدت السحابا وأحسن من هذا كله قول الله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
هذا ما تيسر إيراده، وأعان الله على قوله، سائلين الله جل وعلا أن يتقبل منا ومنكم صالح العمل، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.(49/9)