على مقاعد الدراسة
طلاب المدارس اليوم هم أساتذة الغد وقادة البلاد في المستقبل، وما يرسم اليوم في أذهانهم من الاهتمامات والأولويات هو الذي يصوغ شخصياتهم ويؤثر على مواقفهم في الغد، ولهذا يجب أن نهتم بتربيتهم وتوجيه سلوكهم فيما يخدم دينهم وأمتهم.(1/1)
دعوة للمشاركة
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد: ففي بداية هذا اللقاء أرحب بالإخوة الحضور، وأشكر لهم حضورهم، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل لقاءنا لقاء خير وبركة.
وهذا اللقاء بمشيئة الله سيكون بداية سلسلة دروس شهرية، وستكون هذه الدروس بمشيئة الله في هذا المسجد أول أحد من كل شهر، سواء كان يوافق أول يوم من الشهر، أو سابع يوم من الشهر، المهم أن أول يوم أحد من هذا الشهر سيكون بمشيئة الله مثل هذا الدرس في هذا المسجد وكان المفترض أن يكون هذا الدرس في الأسبوع الماضي، لكن نظراً لأنه حديث عهد ببداية الدراسة أحببنا أن نؤخره إلى هذا الأسبوع على أمل أن نستمر إن شاء الله، وسنحاول قدر الإمكان أن يكون موضوع هذه الدروس وما يطرح فيها حول قضايا الشباب، وما يحتاجون إليه بصفة أو بأخرى.
ومن هنا أدعو الإخوة الحضور وغيرهم إلى أن يشاركوا في إفادتنا في مثل هذا اللقاء، فيجب أن نشعر جميعاً بالإيجابية، فأنا أطلب أن يشاركوا جميعاً في اقتراح بعض الموضوعات التي يرونها مناسبة لأن تطرح في هذا اللقاء، مع مراعاة الإطار العام في طرح بعض الأفكار، وبعض العناصر، وبعض المقترحات، والإمداد ببعض المعلومات؛ لأنه مهما بلغ المتحدث علماً وقدرة وإحاطة، فلن يستغني عن إعانة إخوانه، فكيف إذا كان دون ذلك بكثير.
لذا فأنا أؤكد على الإخوة أن يحرصوا على أن يعينونا على استمرار هذا اللقاء، سواء بالإمداد ببعض المقترحات، وبعض الموضوعات، أو بعض الأفكار وبعض العناصر.
ثم لا يتردد الأخ عندما يقترح علينا موضوعاً فلا يراه طرق، فهذا لا يعني إهمال هذا الموضوع، فقد يكون قبله موضوعات عدة، ونختلف معه في ترتيب الأولويات، المهم على كل حال أن ما تطرحه سيستفاد منه بشكل أو بآخر.
هذا الموضوع هو (على مقاعد الدراسة)، ونحن نعني بهذا الموضوع فئة خاصة، فالموضوع يتعلق بالدراسة، فنحن نخاطب الدارسين، سواء كانوا في مستويات متوسطة أو ثانوية أو مراحل جامعية، المهم أننا نخاطب الدارسين من الشباب، ولا نخاطب كل الدارسين، إنما نخاطب الشباب الأخيار الذين يحضرون أمثال هذه اللقاءات والمحاضرات.
لذا فقد لا أتحدث مثلاً عن بعض الجوانب السلبية التي تقع من بعض الشباب؛ لأنني أخص بحديثي فئة خاصة من الشباب، وفئة خاصة من الدارسين والطلاب، الذين نأمل أن يؤدوا أدواراً محمودة.
وكذلك هذا اللقاء أيضاً قد يعني الأساتذة، فإثارة مثل هذه الأفكار وسيلة لنقلها وطرحها أمام أبنائهم الطلاب، وحتى يساهموا معنا في تقييم مثل هذه المقترحات والتجارب.
وسأتحدث في خمس نقاط رئيسة: الأمر الأول: أهمية الدراسة بالنسبة للشاب.
الأمر الثاني: الطالب وأستاذه.
الأمر الثالث: الطالب والدراسة.
الأمر الرابع: الطالب والدعوة.
الأمر الخامس: أمور لابد منها.(1/2)
أهمية الدراسة للشباب
أما بالنسبة للدراسة وأهميتها بالنسبة للشاب، فهي تأخذ على الشاب حيزاً كبيراً من وقته، فهو يأخذ في اليوم قريباً من ست ساعات كلها داخل المدرسة، وهي تمثل ربع اليوم، وإذا حذفت منه مثلاً ثمان ساعات للنوم، وبعض ساعات الراحة والطعام لا تجد بعد ذلك إلا وقتاً يسيراً.
المهم أن وقت الدراسة يأخذ على الشاب جزءاً أساسياً من يومه، وجزءاً كبيراً جداً من وقته، وهذا يعني أنه لابد من أن يعتني بهذا الوقت، ولابد أن يستفيد من هذه الدراسة، ويعتني بحاله في المدرسة.
أيضاً: الدراسة تأخذ على الشاب وقتاً طويلاً من عمره، فإذا أنهى المرحلة الجامعية دون تخلف فالغالب أنه سيحتاج إلى ست عشرة سنة حتى ينهي هذه الدراسة.
ثم أيضاً هذه الدراسة تأتي في وقت مهم جداً بالنسبة للشاب، وهو وقت زهرة وحيوية الشاب، وكذلك وقت بناء شخصيته.
إذاً: هذه الدراسة تأخذ عليك وقتاً كبيراً، سواء من يومك أو من سني عمرك، وتأخذ عليك وقتاً غالياً نفيساً هو حيوية الشباب، فلابد أن تعتني بها، وتستفيد منها.(1/3)
علاقة الطالب بأستاذه
بعد ذلك ننتقل إلى نقطة ثانية وهي: تتعلق بعلاقة الطالب بأستاذه: ولن أطيل في هذه النقاط؛ حتى آتي إلى النقطة الأساسية، وهي ما يتعلق بدور الطالب في الدعوة داخل مدرسته.(1/4)
مراعاة هدي السلف في التعامل مع الأستاذ
هناك قضايا مهمة لابد من أن يعتني بها الطالب في التعامل مع أستاذه، فالأستاذ يشكل عنصراً أساسياً يتعامل معه الطالب في المدرسة، ومن هنا كان لابد أن يكون هناك ضوابط معينة تحكم علاقة الطالب بأستاذه، والسلف قد عنوا بذلك كثيراً في كتبهم، سواء من كتب في فضل العلم، أو من صنف كتاباً عاماً، بل بعضهم أفرد هذا الباب بتصنيف خاص، ألا وهو ما يعرف عندهم بآداب العالم والمتعلم، وعندما يتحدثون عن آداب المتعلم، فإنهم يفردون جزءاً خاصاً لآداب المتعلم مع شيخه وأستاذه.
والمفترض أن الشباب والطلاب يعتنون بهذا الأمر، فيقرءون ما سطره السلف حول ما ينبغي أن يتأدب به الطالب مع شيخه، ويحرص قدر الإمكان على أن يتخلق ويتأدب بتلك الآداب، وفي الواقع أننا عندما نقرأ ما سطره السلف حول آداب الطالب مع شيخه وأستاذه، ثم ننظر إلى واقع طلاب العلم نجد أن هناك مسافة شاسعة جداً بين الحالة التي يرى السلف أن الطالب ينبغي أن يصل إليها من الأدب مع أستاذه، وبين الواقع المعاصر الآن لهؤلاء الشباب.
وقد يقول بعض الشباب: إن السلف كانوا يدرسون على علماء، ولا يمكن أن تقارن أساتذة السلف ومشايخ هم بأساتذتنا ومشايخنا، وهذا حق ولا شك، لكن المقارنة تعقد بين الطلاب أيضاً، فقد كان الطلاب في عهد السلف فئة تختلف عن الطلاب في هذا العصر.
قد يقول بعض الشباب: إن هذه الآداب إنما ذكرت لعلماء السلف ومشايخ السلف، وقد كانوا يختلفون كلية عن أساتذتنا، وهذه قضية لا نجادل فيها، لكن أيضاً أعقد نفس المقارنة بين الطلاب وواقع الطلاب وحالهم في عصر السلف وحالهم الآن، تجد أن القضية تكاد تكون بعد ذلك متقاربة.
ونحن أيضاً لا نطالب الشباب بأن يطبقوا كل ما يقرءونه هناك؛ لأنه قد يجد أشياء يفاجأ بها نظراً لبعده عنها، فيتصور أنها من المبالغات، لكن على الأقل أنت عندما تقرأ ما سطره السلف في ذلك، وتقارن حالك بالصفات التي كانوا يرون أن الطالب لابد أن يتحلى بها، أظن أن هذا يدعوك إلى أن تنتقل نقلة أخرى بعيده في حسن التعامل والتوقير لأستاذك.
والسلف ما عنوا ببيان آداب المتعلم مع أستاذه إلا أن له أهمية، وللأسف نجد أن هذا مهمل، فنجد أحياناً أشياء عامة لابد للطالب أن يتأدب بها مع أستاذه وشيخه، ولابد أن يتأدب بها مع العلماء إذا كان يحضر معهم حلق العلم في المساجد وغيرها، وهي أشياء عامة وأمور عامة.
لكن أن تؤصل وتعرض النماذج والأمثلة التي ذكرها السلف، فهذا لا شك يساعد أكثر، ولا أريد أن أطيل في هذه النقطة، لكن بإمكانكم الرجوع إلى ما سطر في ذلك، ولعل أفضل ما سطر في ذلك كتاب الحافظ ابن جماعة، وهو بعنوان: تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم، ذكر في هذا الكتاب أدب العالم وأدب الأستاذ، وما ينبغي للأستاذ أن يعامل به طلابه، فعليك أنت بالشق الثاني وهو أدب المتعلم، فإنه ذكر أدب المتعلم مع نفسه، ثم أدب المتعلم مع أقرانه، وأخيراً الذي يعنينا، وهو أدب المتعلم مع شيخه وأستاذه.
إذاً: الجانب الأول الذي ينبغي أن يحرص عليه الشاب هو أن يراعي في هذا الأمر هدي السلف في التعامل مع أساتذتهم ومشايخهم.
وقد يكون عند بعض الأساتذة نوع من القصور في العلم بطبيعة المادة التي يدرسها، وهذه حالات خاصة، وأحياناً يكون عند الأستاذ مخالفات شرعية مما ابتلي به عامة المسلمين وانتشر بينهم، وأصبح أمراً لا يكاد ينكر، فنحن لا نشك ولا نجادل أن الأستاذ أولى الناس بأن يكون قدوة صالحة للطلاب، سواء في التزامه بالأحكام الشرعية في الأمور الظاهرة أمام طلابه، أو في تعامله مع طلابه، فهو يدعوهم إلى حسن الخلق ولابد أن يكون حسن الخلق، ويدعوهم إلى الصبر ولابد أن يكون صبوراً، وإلى الحلم ولابد أن يكون حليماً.
لكن أقول: عندما تجد بعض هذه السلبيات والأخطاء التي يقع فيها بعض الأساتذة، فهذا لا يسقط حق الأستاذ في الأدب، والتعامل معه بالتوقير، وحسن المعاملة.
فإن هذا الأستاذ الذي قد يكون عنده بعض المخالفات لا ينظر إليك على أنك شاب ملتزم ومستقيم، وهو منحرف عاصٍ ضال، وأنت أولى منه وأفضل، إنما ينظر إليك على أنك لا زلت طالباً، ولا زلت صغير السن، ومهما كان عندك من الاستقامة والعلم والخير فأنت لا زلت دونه، وهذا في الجملة واقع، ثم هو ينظر إلى نفسه على أنه إنسان لا ينقصه الخير والصلاح، لكن عنده بعض المخالفات التي يرى أنه يقع فيها لسبب أو لآخر، فهو يعاملك بهذا المنطق.
ومن هنا يفترض أن تكون حسن الخلق، وأن تكون حسن المعاملة، وأن يرى منك الأدب الحسن، لذا أقول: حتى ولو كان عند الأستاذ ما عنده من التقصير، أو المخالفات التي أصبحت ظاهرة عامة في المجتمع، فهذا لا يسقط حقه في التعامل معه بتوقير واحترام وتقدير، على أساس أنه أستاذ لك، وهو على كل حال أقدر منك علماً وتجربة، ولابد أن تستفيد منه.
ونحن لم نقل لك: اتبعه في كل شيء، أو اقتد به في كل شيء، بل عندما يكون عنده مخالفات لا نطالبك بأن تقتدي بها، وليس أحد معصوماً تصدر الأمة عن رأيه إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى أع(1/5)
حفظ العرض
الجانب الثاني الذي يتعلق بالأستاذ والحق عليه: حفظ العرض: كثيراً ما يدور في مجالس الطلاب الحديث عن الأستاذ، إما سخرية بطريقته في الحديث، وفي إيصال المعلومات، وفي التعامل مع الطلاب، فأنت تجد الطلاب يحترفون في هذه الأمور، فأحدهم مثلاً يقلد صوت الأستاذ، والآخر يقلد حركات الأستاذ، ويقلد مواقف الأستاذ، وهكذا تجد الأستاذ يبقى مجالاً للسخرية، وهذه قضية أظن أنكم توافقونني على أنها تحمل قدراً من البشاعة، فأنا على كل حال لا أقول هذا الكلام باعتبار أني أستاذ، لكن أظن أنكم توافقوني جميعاً على هذا الأمر.
وهذه قضية فيها من سوء الأدب إلى آخر حد، فالمسلم منهي عن السخرية، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات:11]، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12].
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن أربى الربا استطالة المسلم في عرض أخيه).
فهذه حقيقة السخرية، وهذه حقيقة الغيبة، وهي أن تقع في أي إنسان، فما بالك بالطالب الذي يسخر من أستاذه وشيخه الذي يتعلم منه العلم والأدب والخلق، أو يغتابه، فهذه قضية تزيد سوءاً، ولا شك أنه يوجد فرق بين أن تقع الغيبة لإنسان عادي، وأن تقع لإنسان صالح، وأن تقع لإنسان له حق عليك.
فأعطيك مثالاً يقرب لك الصورة: السخرية من الناس أمر مذموم، سواء من هو أكبر منك ومن هو أصغر منك، فعندما تسخر من إنسان فبحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، لكن عندما تسخر من إنسان أكبر منك تزيد القضية سوءاً، وعندما تسخر من إنسان قريب لك كعمك أو خالك تكون القضية أسوأ، وعندما تسخر من والدك فذلك أشد، فالذنب يختلف عظمه وقبحه عند الناس، والدين إنما جاء بما يوافق الفطرة السليمة والمستقيمة.
فأقول: من المستهجن أن يسخر الطالب من أستاذه، أو يقع في عرض أستاذه.
الشباب الأخيار عادة لا يتصور منهم هذا الشيء، وإن حصل فهي حالات شاذة ونادرة، لكن القضية التي أتصور أنها من حق الأستاذ عليك أن تحفظ عرضه، فعندما يسخر من الأستاذ أو يغتاب تدافع عن عرضه بأسلوب مناسب وحكمة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من ذب عن عرض أخيه ذب الله عن وجهه النار يوم القيامة)، هذا إذا كان عرض أخيك، فعرض أستاذك وشيخك الذي له حق عليك أولى.
ثم أحذر من قضية يسلكها بعض الشباب بحسن نية، فهو يحب الأستاذ إلى آخر حد من المحبة والإعجاب والتقدير لسبب أو لآخر، وعندما يسمع طالباً يسخر منه أو يغتابه يأتي ويبلغ هذا الأستاذ من باب المحبة، وهذا لا يجوز إطلاقاً، لأنك الآن تقع في معصية أخرى وهي النميمة.
فلا تبلغ الأستاذ مهما كان، وافترض أنك نهيت أخاك وما انتهى، فلا يوجد داعي لنقل الكلام الذي لا مصلحة فيه، بل واجبك أن تنهى من يغتاب أو من يسخر، وإذا لم يستجب فأمره إلى الله.(1/6)
التعامل مع الأستاذ حين يقع في الخطأ
الجانب الثالث: وهو التعامل مع الأستاذ حين يقع في الخطأ: فالأستاذ بشر وليس بمعصوم، ويمكن أن يقع في الخطأ، فمثلاً: قد يتحدث الأستاذ فيستدل بحديث ضعيف، هذه حالة تحصل كثيراً، بل أحياناً يتحدث أحد العلماء ويستدل بحديث ضعيف، وأنت تعرف أن هذا الحديث ضعيف، فلا يعني ذلك أنك أعلم منه، ولا أكثر إحاطة منه، فإن الهدهد قال لسليمان: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:22]، فهل يعني هذا أن الهدهد كان أعلم من سليمان؟! أو مثلاً: قد يورد الأستاذ كلاماً وعندك فيه اطلاع أكثر، باعتبار أنك سمعته من شخص آخر أو قرأته، فيخطئ الأستاذ.
أحياناً بعض الطلبة يفرح بمثل هذه القضية، ويقفز مباشرة في وجه أستاذه ليقول له: إن هذا الحديث ضعيف، أو هذا الكلام فيه كذا وكذا، وسمعت كذا وكذا، ويبدأ يواجه بهذا الأسلوب، وهذا فيه شهوة خفية، وهي شهوة حب الظهور، لأنه عندما يواجه الأستاذ، وعندما يعلم شيئاً لا يعلمه أستاذه يعطيه نوعاً من الثقة بنفسه، ونوعاً من الظهور عند الآخرين، وأنت قد لا تشعر بهذا، لكن هذا من الشهوات الخفية.
فيجب أن تسلك الحكمة في تصحيح مثل هذا الخطأ بأسلوب مناسب، لأن الأستاذ يتكلم مع الطلاب، فيصعب جداً أن يعترف بالخطأ أمام الطلاب؛ لأن هذه منزلة لا يستطيع كل إنسان أن يجاهد نفسه عليها، ولذلك ينبغي أن تسلك الحكمة، فيمكن أن تسأل الأستاذ خارج الفصل فتقول: سمعت كذا وكذا، وقرأت كذا وكذا، أو تأتي بكتاب معك في الغد مثلاً، وتعطيه الأستاذ وتقول: أنا قرأت هذا الكلام في كتاب، وأنت قلت هذا الكلام، فكيف أوفق بين كلامك وكلامه.
وقد يفهم الطالب فهماً خاطئاً، فيسمع فتوى، أو يقرأ كلاماً، فيفهمه فهماً خاطئاً، ويكون كلام الأستاذ صحيحاً، ثم يأتي الطالب ليواجهه بناء على فهم خاطئ.
فعلى كل حال الأستاذ يمكن أن يقع في الخطأ، ويمكن أن تعلم أشياء لا يعلمها أستاذك، ولا يعني هذا أنك بلغت غاية من العلم، فعندما تحصل مثل هذه الأمور فعليك أن تسلك الحكمة في التعامل معها، وأظن أن من أبسط حقوق الأستاذ عليك التأدب في مثل هذه القضايا.
كذلك قد يقع الأستاذ في مخالفة شرعية، فالإنكار عليه ليس مثل الإنكار على عامة الناس، فيجب أن تسلك الأسلوب الذي ترى أنه يؤدي المصلحة التي تريد أن تصل إليها وتسعى إلى تحقيقها.(1/7)
الاستفادة من الأستاذ قدر الإمكان
أخيراً: أمر رابع: الآن ولله الحمد قل أن تجد مدرسة إلا وفيها عدد من الأساتذة من طلبة العلم، لا نقول: إنهم بلغوا غاية من العلم، لكن على الأقل بالنسبة للطلاب ومستويات الطلاب فمستواهم عال لهؤلاء الطلبة، ويمكن أن يستفيدوا منهم كثيراً.
ومن هنا فأنا أوصي الشاب أن يحرص ويعرف أساتذته، ويرى أن فلاناً من الناس أو فلاناً عنده قدر من العلم، فيحرص على أن يستغل هذه الفرصة؛ لأن وجودك في المتوسطة ثلاث سنوات، وفي الثانوية ثلاث سنوات، وفي الجامعة أربع سنوات، مدة محددة، وأيضاً تدريسه لك مدة محددة، فتحرص عندما يوجد لديك مثل هذا الأستاذ أن تستفيد منه قدر الإمكان، ولو حتى خارج الفصل من خلال المناقشة، أو تقرأ كلاماً أشكل عليك تحرص قدر الإمكان أن يكون لك صلة خاصة بهذا الأستاذ خارج الفصل وخارج الدرس؛ حتى تستفيد منه، وتنتقل بعد ذلك إلى مدرسة أخرى، وترى أستاذاً آخر، وهكذا.
أقصد أن لا تفوت على نفسك هذه الفرصة، وأنا أتصور أنه ليس من العدل مع نفسك أن تكون علاقتك مع مثل هذا الأستاذ داخل الفصل فقط، فعندما تجد أستاذاً متميزاً في علمه، وعنده قدرات ليست عند الآخرين، أو على الأقل يمكن أن يفيدك، فأنا أتصور أن من الإهمال لحق نفسك أن تكون علاقتك مع مثل هذا الأستاذ المتميز داخل الفصل فقط، بل تحرص قدر الإمكان أن تستفيد منه، فمثلاً: قد ينتهي الدرس ويبقى وقت فراغ، فتطرح عليه بعض الأسئلة خارج الدرس، فتحاول قدر الإمكان أن تستفيد من هذا الأستاذ، وأن يكون لك معه علاقة خاصة تمكنك وتعينك على أن تستفيد منه أكثر، وتستطيع أن تستشيره في أي أمر، وتستطيع أن تستفيد منه في كل ما يشير عليك، أو يطرح لك، أو تستفسر عنه.(1/8)
الطالب والدراسة
بعد ذلك ننتقل إلى نقطة ثالثة وهي: ما يتعلق بالطالب والدراسة:(1/9)
الإخلاص لله سبحانه وتعالى
وأول قضية لها أهميتها: الإخلاص لله سبحانه وتعالى: أنت إما أن تدرس دراسة شرعية أو علوماً أخرى غير شرعية، فإذا كنت تدرس دراسة شرعية فأنت تتعلم علماً شرعياً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا).
فلابد أن تجتهد في تصحيح نيتك، وافترض أنك دخلت ابتداءً لأجل تحصيل الشهادة، فإن هذا لا يحول بينك وبين تصحيح نيتك، حتى تكون نيتك هي طلب العلم الشرعي الذي ينفعك الله سبحانه وتعالى به في دينك ودنياك، فتتعلم العلم الشرعي الذي تستطيع أن تعبد الله به كما أمرك، ويمكن أن تنفع به الأمة.
قد يقول شخص آخر: أنا لا أدرس دراسة شرعية، فما معنى الإخلاص في ذلك؟ فنقول: حتى الطالب الذي لا يدرس دراسة شرعية، فإن الأمة تحتاج إلى طاقات في كافة التخصصات، ونحتاج إلى الناس الأخيار في كل مكان، فهذا الطالب نريد منه أن يجعل نيته أن يخدم الأمة، لا أن يلقى قيمة اجتماعية ومعاملة خاصة.
فأنت عندما تدرس أي تخصص من دراسات عسكرية، أو علم طب، أو هندسة، أو حاسب آلي، أو علوم إنسانية، أو أدب، أو لغة، فأي تخصص نحتاج إليه، والأمة بحاجة إلى جهود أبنائها، فاحرص على أن تكون نيتك أن تنفع الأمة وتخدمها.
ثم إن الإخلاص لا يؤثر نقصاً، فإذا كان عندي طالبان يدرسان، هذا مخلص لله وهذا غير مخلص، فالنتيجة واحدة، كل منهما سيحصل على شهادة، وعلى مزايا مالية، ولن يكتب في شهادتك مثلاً: طالب مخلص، وطالب غير مخلص، فهذه أمور بينك وبين الله عز وجل.
ولا تتصور أنك عندما تخلص لله ستفقد هذه المزايا المادية التي يتطلع إليها الناس، بل أنت عندما تخلص لله في أي عمل ستحصل على نفس المزايا التي يحصل عليها الآخرون، لكن تزيد أن عملك هذا يكون عبادة لله، فتدخل تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع)، (ومن سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة).
وكلما يصيبك من تعب، وتبذل من جهد في الاستذكار والامتحانات، تثاب عليه نظراً لأنك تبتغي وجه الله، سواء كنت تدرس علماً شرعياً، أو علماً آخر.
وحذار -يا إخوان- من التطلع إلى الشهرة، ومما يؤسف أن النظرة الاجتماعية الخاطئة لا تزال موجودة إلى الآن، فعندما يأتي الطالب متفوقاً يظنون أنه من الخطأ أن يتجه إلى دراسات شرعية، ويرون أن مكانه في كلية الطب، أو كلية الهندسة، أو غيرها من التخصصات الأخرى، فلا تزال النظرة للعلم الشرعي دون ما ينبغي.
بل أنا أقول: المفروض أن المستويات العالية من النبوغ تتوجه إلى الدراسات الشرعية، لأن الأمة أحوج ما تكون إلى هؤلاء العلماء، وليس صحيحاً أن العلم الشرعي يصلح لأي إنسان، فنحن نحتاج إلى عالم يحمل قدرة على الاجتهاد، وقدرة على تنزيل النصوص على الوقائع، وقدرة على الربط بين الأحكام الشرعية وواقع الأمة.(1/10)
احترام التخصص
ننتقل إلى الجاني الثاني أيضاً الذي يتعلق بالدراسة وهو: احترام التخصص: عندي مثلاً تخصصان: تخصص شرعي وتخصص غير شرعي، بعض الشباب يتجه إلى التخصص غير الشرعي، فالبعض يدرس في كلية الحاسب الآلي ثم يتخرج من الكلية وهو لا يعرف كيف يستخدم الحاسب الآلي، ولا يعرف أي شيء يتعلق بالحاسب الآلي، وخارج الكلية تجده يقرأ في كتب الفقه والحديث والعقيدة، وليس له أي علاقة بتخصصه.
نعم، لا شك أن العناية بالعلم مطلوبة، لكن ما قيمة هذا التخصص الذي توجهت إليه، فعندما تختار تخصصاً وتريد أن تخدم الأمة من خلاله يجب أن تبدع في تخصصك، ولو كان ذلك على حساب فقد بعض الجوانب من العلم الشرعي، فحصل القدر الذي لابد منه، واستزد من ذلك، لكن يجب أن تحترم التخصص، وإلا فإذا كان ميلك إلى العلم الشرعي فاتجه إلى العلم الشرعي.
وتجد آخر متخصصاً في الهندسة، أو في الطب، أو في علوم إنسانية، أو أي تخصص آخر، ولا يعتني بالتخصص، فإذا توجهت إلى تخصص يجب أن تحترم هذا التخصص وتعتني به، سواء في قراءتك العامة، أو في متابعة ما يصدر من دوريات، أو من مؤتمرات، أو أبحاث، أو كتب، حتى تؤدي الدور الذي نريده منك، وبعد ذلك يمكن أن تطلع وتتوسع في قراءتك الخارجية.(1/11)
التخصص الشرعي
ننتقل نقلة أخرى: التخصص الشرعي: فالدراسات الشرعية ليست تخصصاً واحداً، فأنت تأتي مثلاً إلى اثنين من الشباب في المستوى الرابع، أحدهما واحد في كلية الشريعة، تخصصه فقه وأصول، والثاني في قسم السنة أو قسم العقيدة، وتعال إلى هذين الشخصين وقارن بينهما لا تجد فرقاً أحياناً، لا في المعلومات، ولا في الاهتمامات، ولا في المكتبة، فتجد هذا في قسم الفقه والأصول ولكن قراءته واطلاعاته واهتماماته متعلقة بالعقيدة أو السنة أو علوم القرآن أو غيره، ولا يعترف بالتخصص، والعكس أيضاً.
فأنت -يا أخي- ما دمت تخصصت في شيء، فيجب أن تحترم تخصصك وتعتني به، وأنت تستطيع أن تعرف الإنسان من خلال مكتبته، هذا طالب يدرس في كلية الشرعية، فيجب أن تكون مكتبته متميزة بالعناية بكتب الفقه والأصول، وطالب يدرس العقيدة يجب أن يعتني بهذا العلم، فهو يقتني الكتب المتعلقة بهذا العلم، ومن خلال قراءته الخارجية يركز على هذا العلم، وعند حضوره في وسط العامة يعتني بهذا العلم، ويعتني بالتخصص ويحترمه.
وهذا لا يعني إهمال الجوانب الشرعية الأخرى، لكن من خلال توسعه وتركيزه يجب أن يركز على تخصصه حتى يفيد فيه فعلاً، أما أن يكون إنساناً مبعثراً، تخصصه في وادٍ ودراسته في وادٍ آخر، فهذا تعطيل لهذه الطاقات.(1/12)
الفهم المغلوط
الجانب الثالث هو: الفهم المغلوط: بعض الشباب يتصور أن العلم الشرعي ليس من خلال الدراسة، إنما هو من خلال حلق المساجد، أو القراءة، أو غيرها، فتجده مثلاً يدرس في معهد علمي، أو يدرس في كلية شرعية، ولا يعتني بالدراسة، فيتخرج أحياناً بتقدير مقبول، أو تقدير جيد، أو ينجح في الدور الثاني، فتجده ضعيفاً ولا يعتني بالدراسة إطلاقاً، لكنه خارج الدراسة يعتني بالقراءة الخارجية، ويعتني بحضور مجالس العلم، ويتصور أن هذا هو العلم.
صحيح لابد أن يكون لنا قراءة خارجية، ولابد أن نحضر دروس أهل العلم، لكن يجب أن نعتني بالدراسة خاصة عندما نكون أصحاب تخصص شرعي؛ لأنك عندما كنت تحضر درساً في المسجد، فقد تكون مواظباً على درس فقه، ودرس يتوسع فيه المتحدث ثلاث سنوات أو أربع سنوات ولم تصلوا إلى كتاب الصلاة، وقراءتك كذلك.
لكنك عندما تدرس دراسة منهجية متكاملة، فتدرس النحو دراسة متكاملة، وتدرس البلاغة، وتدرس الفقه، وأصول الفقه، ومصطلح الحديث، والفرائض، وهكذا، فتدرس كافة العلوم دراسة قد تكون مختصرة، لكنها دراسة متكاملة تبني شخصية، بعد ذلك يشرحها الأستاذ، وتقرؤها في الكتاب، ومرة أخرى تذاكر وتمتحن، بحيث تكون معلوماتك ثابتة.
فمهما كان مستوى أساتذتك ومستوى تعليمك، فيجب أن تعتني بالدراسة، خاصة عندما يكون تخصصك شرعياً، واعتبر أن هذا جزء أساسي من طلب العلم، واعتبر أن هذه من أولويات العلم، ثم بعد ذلك أسعى فيما وراء ذلك.(1/13)
الطالب والدعوة(1/14)
اعتناء الشباب بأمور الدعوة العامة
أخيراً: ننتقل إلى الجانب الرابع وهو: الطالب والدعوة: هذا الجانب هو السبب وراء اختيار هذا الموضوع لهذه المحاضرة، وقد نكون أخذنا نصيب الأسد في النقاط الأخرى، فالملاحظ أن هناك إهمالاً لما يتعلق بالدعوة داخل المدرسة من خلال كثير من الشباب، وهناك أسباب كثيرة، ولعل من أسبابها: أن الشاب يعتنون بأمور الدعوة العامة، مثل إنكار المنكرات العامة، وينشغل بمتابعة قضايا المسلمين العامة، وبقضايا عامة بعيدة عن جو الدراسة.
فهو مثلاً مشغول بمتابعة أخبار المسلمين في البوسنة والهرسك، أو في الصومال، أو غيرها، وقضية القضايا عنده هي هذه المشكلة، وماذا أصنع؟! وما واجبي؟! وهذا اهتمام جيد ومطلوب، فاهتمامك بالمنكرات العامة عندما يحصل أي منكر، أو أي مقال، أو إعلان، فتجده يتابع القضايا، وينشغل بهذه القضايا، ويتصور أن هذه هي الدعوة، وهذا دوره، لكنه عندما يأتي إلى المدرسة ليس له أي دور إطلاقاً.
مرة أخرى أنا لا أنكر، بل أنا أطالب أن يكون للشاب دور في مجتمعه، وأن يكون له اهتمام بقضايا المسلمين، لكن يجب أن نضع أيضاً الأمور في نصابها، فأنت -يا أخي- تبقى في المدرسة ست ساعات، فيبقى زبدة وقتك داخل المدرسة، ماذا قدمت في هذه المدرسة؟ وماذا بذلت في هذه المدرسة؟ فالواقع أننا نجد إهمال واضح لهذه القضية خاصة في الفترة الأخيرة والسنوات الأخيرة؛ نظراً لأن الشاب أحس بأن هناك شيئاً ملأ عليه فراغه، وأخذ جزءاً من اهتماماته الدعوية، فأصيب هذا الجانب بإهمال واضح، ينبغي أن يعيد النظر فيه ونعتني به.(1/15)
كثرة عدد الطلاب
جانب آخر يبرز أهمية الدعوة في المدرسة، قضية كثرة عدد الطلاب، فعندما تأتي إلى المدرسة المتوسطة تجد فيها أربعمائة طالب، أو خمسمائة طالب، أو ستمائة طالب، والمدرسة الثانوية كذلك، فاحسب مجموع الثانويات، ومجموع المتوسطات والكليات، تجد أن عدد الدارسين عدد هائل.
فنحن الآن عندما نعتني بهذا الجانب، فنعتني بالدعوة في المدارس، لا نعدم أن نجد في كل مدرسة ما لا يقل عن عشرين أو ثلاثين أو أكثر من الشباب المتحمسين للدعوة، والذي عنده استعداد عندما تطرح له برامج في الدعوة يقوم بها، فعندما يكون عندنا في كل مدرسة عدد من الشباب يتحرك ويعمل ويدعو، فسنتعامل مع قطاع عريض جداً من قطاعات المجتمع، وقطاع كبير جداً.
فأنت في المدرسة عندك ثمانمائة طالب، أو ستمائة طالب، أو أربعمائة طالب، أو مائة طالب، فعندما يشعر الطالب أن عليه دوراً كبيراً في هذه المدرسة، وكذلك الأستاذ، فعندي في المدرسة عشرون طالباً مستقيماً يتحمس للدعوة يكفيني هذا العدد، وعندي ثلاثة أساتذة أو حتى أستاذ واحد يشعر بأن عليه دوراً في الدعوة وتوجيه الطلاب، ونشعر بأن وظيفتنا الأساسية ودورنا الأساسي، وأحق المواقع بنا وبدعوتنا هو دعوتنا من خلال المدرسة.
أتصور أنه عندما توجد عندنا هذه النظرة، ونبذل هذا الجهد ونعتني به، أننا سننتج كثيراً؛ لأننا سنتعامل مع قطاع عريض جداً من قطاعات المجتمع، ومهما كانت المحاضرات التي في المساجد لكنه لا يحضرها إلا فئات خاصة من الناس، والأمور العامة لا يحضرها إلا فئات خاصة من الناس، أما المدرسة ففيها كل من يقع داخل هذا السن من سن ست سنوات إلى سن اثنين وعشرين غالب الشباب لهذا السن هو موجود في هذه المدارس، فسنتعامل مع فئة كبيرة جداً من قطاعات المجتمع.(1/16)
الطلاب مجال خصب للدعوة
الجانب الثالث: أن هذه الفئة مجال خصب للدعوة: فالشاب لا يزال طرياً، ومهما كان عند الشاب من انحراف أو فساد فعنده جانب خير، وعنده شعور بالخطأ، وأظن أنكم تتذكرون من حضر منكم المحاضرة التي كانت في هذا المسجد في العام الماضي عوائق الاستقامة، عرضنا فيها نتائج تتعلق حول هذه القضية، وظهر لنا من خلالها أن الكثير من هؤلاء الشباب الذين عندهم سوء، وعندهم معصية وإعراض، أنهم يملكون جوانب خيرة ينبغي أن نستفيد منها ونستغلها.(1/17)
الطلاب هم رجال المستقبل
كذلك الجانب الرابع: أن هذا الجيل هم عدة الأمة، ورجال المستقبل: فهؤلاء الدارسون سيكون منهم المدير والوزير والمسئول والضابط، فكل المسئولين في المجتمع إنما يمرون من خلال قنطرة التعليم، ومن هنا فالأستاذ يتعامل مع كل هذه الفئات، وأنت أيضاً زميل لكل هذه الفئات، ومن هنا عندما نعتني بهذا الجانب ونوجه الدعوة له، فإن النتائج في المستقبل ستكون مثمرة فعلاً.(1/18)
الطلاب أحق الناس بالدعوة
الجانب الخامس: أن أولى الناس وأحق الناس بدعوتك هم هؤلاء الذين حولك: فهل من المعقول أن زميلك يكون معك في الفصل ثلاث سنوات، أو ست سنوات، ولم يسمع منك كلمة واحدة، فهذا ليس معقولاً أبداً.
فأنت دائماً تسأل وتتحدث عن الدعوة، وواجبك تجاه المسلمين في البوسنة وفي الصومال، فهذا شعور طيب، لكن -يا أخي- يوجد ثلاثون طالباً معك في الفصل، فما واجبك تجاههم؟ وستمائة طالب معك في المدرسة ما واجبك تجاههم؟ هل سألت نفسك هذا السؤال؟ أظن أن هؤلاء أقرب الناس إليك، وأنت -يا أخي الأستاذ- هؤلاء أقرب الناس إليك؛ حتى إذا كنت لا تدرس إلا درساً واحداً في الأسبوع، ستدخل على هذا الطالب ثمانية وعشرين مرة، أو ثلاثين مرة في الفصل الدراسي، وإذا كان عندك درسان فسيتضاعف العدد، وهكذا، تقابل هذا الطالب في المدرسة، وخارج المدرسة، فماذا قدمت له؟ وهذا أحق الناس بدعوتك، وأحق الناس بخيرك، وهؤلاء هم أقرب الناس إليك، ومجتمعك أولى الناس بك.(1/19)
خير مجال يحسنه الطالب
الأمر السادس: أن هذا هو -وهي قضية مهمة- خير مجال يحسنه الطالب: فكثيراً ما يقول الشاب: أنا شاب صغير السن، وقدراتي محدودة، فنقول: يا أخي! لا نطالبك بحل مشاكل المسلمين، وإن كنا نطالبك أن تتفاعل معهم، ولا نطالبك بأن تنكر المنكرات العامة وتقف في وجهها، وإن كنا نطالبك أن يكون لك دور فيها.
لكن أظن أن المجال الذي تستطيع أن تحسنه وتؤثر فيه هو مجال مدرستك، مهما كنت صغيراً أو جاهلاً، فزملاؤك تستطيع أن تؤثر عليهم، وتستطيع أن تقدم لهم الكثير، فهذا خير ما تحسن، فابذل جهدك -يا أخي- وطاقتك في خير ما تحسن، وضع الأمر في نصابه حتى تنتج، وحتى تستغل طاقتك فيما تحسن، فأظن أن خير ما تحسن وأفضل ما تنتج فيه هو هذا الجو المدرسي.
أنا أستغرب من كثير من الشباب حين تجده شاباً طيباً وخيراً وغيوراً ومستقيماً، ومع ذلك فإن معه ثلاثين أو خمسة وثلاثين طالباً في الفصل، وستمائة طالب في المدرسة، فأحياناً وبدون مبالغة تجد أن هذا زميله في الفصل ثلاث سنوات ولم يسمع منه كلمة واحدة، ولا حتى نصيحة.
أين الدعوة التي تسألنا دائماً وتقول: ما دوري في الدعوة؟ وما الذي يدعوك مثلاً أن تحضر محاضرة أو تشتري كتاباً، أو تحاول أن تتفاعل مع قضايا الدعوة؟ إنها تلك الروح التي كانت تدعوك لأن تتفاعل مع المسلمين في بورما، ومع المسلمين في يوغسلافيا وفي الصومال، وتسأل عن أخبارهم، وتقرأ ما يتعلق بأمورهم، وتتبرع لهم، هذه الروح لا نريد أن نقضي عليها، فنريدها أن تبقى، لكن نريدها أن تساهم في أن تدفعك إلى هذا الإنسان الذي تراه كل يوم، وتراه خمسة أيام في الأسبوع، وتبقى معه ست ساعات لسنوات عديدة، ومع ذلك لم تقدم له خيراً، أليس هذا أولى الناس بك؟(1/20)
القدوة ودورها في الدعوة
النقطة السابعة المتعلقة بالدعوة هي: القدوة ودورها في الدعوة: وهي قضية مهمة؛ ولذلك أحببنا أن نفردها، وأرجو ألا نطيل فيها: تستطيع أن تدعو بفعلك دون أن تقول كلمة واحدة، ولكن لا تتخذ هذا عذراً وتقول: أنا قدوة ولا أحتاج أن أتحدث، فمجرد مظهري يكفي، صحيح أن هذا له دور، لكن أيضاً هذا وحده لا يكفي.
فقد سألت أحد الشباب وكان سيئاً ثم هداه الله، فقلت له: ما هو سبب هدايتك؟ فقال: العامل الأساسي الذي أثر علي أنه كان في فصلي مجموعة من الشباب الطيبين، فكنت أراهم يدخلون الفصل ويخرجون، وعندما أراهم يؤثر في هذا المظهر، لا يتحدثون معي.
لم ينصحه منهم أحد، لكنه يقول: مجرد رؤيتي لهؤلاء الشباب جعلني أغبطهم، وجعلني أتمنى أن أكون مثلهم.
فهاهو تأثر بمجرد رؤية هؤلاء، فكيف إذا انتقلت القضية إلى جوانب أخرى!(1/21)
جوانب القدوة(1/22)
القدوة في العبادة
الجانب الأول: القدوة في العبادة: فأكثر الطلاب يصلون داخل المدرسة صلاة الظهر، فنحتاج أن تكون قدوة في العناية بالصلاة، وأداء الراتبة، وكل ما يتعلق بها، وهناك قضية معروفة عند الجميع وهي أن الأفضل أداء الراتبة في البيت، فعندما يكون الإنسان في مسجده فالأفضل أن يؤدي الراتبة في بيته، لكن أنا وجهت نظري إلى أن الأولى عندما يكون الطالب والأستاذ في المدرسة ألا يؤدي الراتبة في البيت، بل يؤديها في المدرسة؛ لأنه يكون قدوة للآخرين، وخاصة الطالب مهما كان يتأثر، فعندما يراك تعتني بالراتبة، وهو قد لا يحافظ على صلاة الجماعة، وأحياناً قد لا يشهد الصلاة، فلابد أن يتأثر.
ثم أنت لا تصلي الراتبة لأجل أن تراءي الآخرين؛ لكن تشعر بأنك قدوة، ومن سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.(1/23)
القدوة في الانضباط الشرعي
الجانب الثاني: القدوة في الانضباط الشرعي: فلا يليق أبداً أن نقع في المخالفات الشرعية أمام الناس، وهي ظاهرة محزنة، وأنا أقول: إنها ليست عامة، لكن أحياناً تجد الشاب المستقيم الملتزم يقع في مخالفات شرعية أمام الطلاب، وهنا تصبح قدوة سيئة، وتسمع الكلمات: هذا نفاق، وهذا وهذا، وأحياناً يحق لهؤلاء أن يقولوا مثل هذا الكلام؛ لأنهم يجدون تناقض بين المظهر والمخبر.
فيجب أن تكون قدوة في الالتزام في الأحكام والضوابط الشرعية، وفي مظهرك، وفي عدم الوقوع في المخالفات الشرعية أمام الناس، وفي كل شيء، فأنت أولى الناس بفعل الخير، وعندما تفعل معصية أمام الناس فأنت تدعوهم بصورة غير مباشرة للوقوع في هذه المعصية.(1/24)
القدوة في الأخلاق والآداب العامة
الجانب الثالث من جوانب القدوة: الأخلاق والآداب العامة: لا يليق أن تجد الطالب يقف دائماً أمام شئون الطلاب، أو يقف أمام مكتب الإدارة معاقباً، فيمكن أن أرى أي طالب لكن لا أريد أن أرى الطالب المستقيم والخير، وهذا مظهر سيئ يدل على الإهمال.
لا يليق أن ترى الطالب في أي موقف يعاب عليه في الآداب العامة والأخلاق، ولا يليق بالطلاب أن يمزحوا مزاحاً مسرفاً ويعبثوا عبثاً غير لائق.(1/25)
القدوة في الاتزان
فأنت يجب أن يكون عندك قدر من الاتزان، وهو الجانب الرابع وله أهمية: الطلاب مثلاً يمزحون، وعندهم أنواع من المزح والمداعبة والعبث، نحن لا نقول: لا تمزح، لكن يجب أن يكون لك قدر تتميز به، بل والناس جميعاً يطالبونك بهذا الاتزان، فيجب أن يكون عندك اتزان، وأن تحفظ اتزانك، فلا تضحك لأي مناسبة، ولا تعبث بأي صورة، بل كن إنساناً متميزاً؛ حتى تدعو الآخرين، وحتى يرى الآخرون أثر الاستقامة والصلاح عليك.(1/26)
القدوة في الاهتمام بالدراسة
كذلك العناية بالدراسة، وأداء الواجبات، والتعامل مع الأستاذ، والحضور، فأتصور أنه لا يليق أن يكون الشاب المستقيم والملتزم قدوة سيئة أو سلبية.
حتى الأستاذ عندما يسأل الطلاب: من الذي ما أدى الواجب؟ فيقوم ثلاثة أو أربعة من الطلاب الأخيار، هذا يعطيه انطباعاً بأن هذه النتيجة التي يصل إليها الطالب عندما يستقيم، لكن أنا أريد أن الأستاذ يعرف أن هناك علاقة طردية بين اجتهاد الطالب في دراسته وبين استقامته وصلاحه، فكلما استقام الطالب وصلح؛ كان أكثر اجتهاداً وانضباطاً.
وهذا هو الواقع، لكن نريد أكثر من ذلك، نريد أن تكون قدوة عند زملائك، فلا يليق أنك تكون متفوقاً، وعندما تستقيم وتسير مع الصالحين تتأخر، والآن لا زال الطلبة المتفوقون والبارزون في الدراسة غالباً هم الأخيار، لكن نحن نريد أن يكون هذا هدفاً وأمراً نسعى إليه.(1/27)
القدوة في التعامل مع الأستاذ والطالب
جانب آخر من جوانب القدوة: التعامل مع الأساتذة والطلاب: كما أن الأستاذ يرى أنك عندما تستقيم يجب أن تتميز بحرصك على الدراسة، كذلك يجب أن يجد فرقاً بين تعامل الطالب معه يوم أن كان منحرفاً، وبعد أن هداه الله عز وجل.
حتى الأستاذ الذي ترى عليه مخالفات شرعية، يجب أن تكون متأدباً في التعامل معه؛ لأنك تبعث إليه رسالة غير مباشرة بأن هذه النتيجة التي وصلت إليها بعد أن هداني الله عز وجل، وليس المقصود ألا تسيء، بل يجب أن تكون متميزاً بحسن الخلق والأدب.
والطالب عندما يحسن الأدب مع الأستاذ يأسر الأستاذ، فأحياناً يقع الطالب في الخطأ ويريد الأستاذ أن يعاقبه، لكنه عندما يتذكر أنه حسن الخلق، وأنه طالب وقور، لا يمكن أن يتجرأ على عقابه، بل عندما يصير للطالب مشكلة، ويرى الأستاذ أنه صاحب خلق عال ورفيع، تجد أن الأستاذ يتدخل ويحاول قدر الإمكان أن يعين هذا الطالب ويساعده.
فنحن نريد إذا دخل الأستاذ الفصل أن يستبشر أن هناك طالباً مستقيماً؛ لأنه سيجد منه حسن خلق، ونريد الطلاب جميعاً عندما يدخل عليهم طالب جديد الفصل ويرون أنه مستقيم يستبشر الطلاب جميعاً، فإنهم يرون هذا حسن المعاملة، يتعامل مع الطلاب بلطف، ويقضي حوائجهم.
لا يليق أن تكون مثل سائر الطلاب، أحياناً يتخاصم الطلاب على أشياء تافهة، طالب أخذ سجادة طالب، طالب أخذ قلم طالب، فيجب أن تكون متميزاً.
فمن أكبر المشاكل التي تثير الصراع بين الطلاب المكيف داخل الفصل، طالب يقول: الجو بارد، والآخر يقول: الجو حار، لكن أنت يجب أن تكون متميزاً عند الطلاب، فلا تكون إنساناً أنانياً، فعندما تأتي وتجد طالباً في مقعدك لا يوجد داع أنك تثير قضايا، وتجلس في مقعده، أريد الأستاذ أن يجد فرقاً واضحاً جداً في التعامل بين الطالب العادي وبين الطالب المستقيم والملتزم، وعندما نصل إلى هذا المستوى من القدوة، فإننا سننجح كثيراً في الدعوة، ولو لم نفعل شيئاً، ولو لم نقل كلمة واحدة.(1/28)
أهداف مهمة في الدعوة
ننتقل إلى النقطة الأخرى، وهي النقطة المهمة، وهي: مجالات ضرورية للدعوة؟ مع أهمية القدوة والعناية بها أقول: لا تكون قدوة تكسلنا، ونقول: يكفينا أن نكون قدوة، لا، نكون قدوة، ومع ذلك لابد أن نفهم، أستطيع أن أضع أربعة أهداف مهمة يمكن أن يسعى إليها الطالب في دعوته:(1/29)
زيادة المنتمين لجيل الصحوة
الهدف الأول: زيادة المنتمين لجيل الصحوة: فمثلاً: قد يكون بعض الشباب ليس منحرفاً ولا سيئاً؛ لكن همه الرياضة أو العبث أو اللهو، فعندما أنقل هذا الشاب وأجعله يسير مع الناس الصالحين والأخيار، وأجعله يسير في ركب جيل الصحوة، هنا أكون أضفت إضافة مهمة، ولا تحتقر -يا أخي- هذا الجهد أبداً، فأنت عندما تأتي بشخص، والثاني بشخص، والثالث بشخص آخر، سيكون عندنا نتيجة كبيرة جداً.
وتعالوا نجري لكم عملية حسابية بسيطة؛ حتى نعرف كيف أننا فعلاً نستطيع أن نصنع الشيء الكثير، فلو جئنا الآن إلى مدرسة فيها ثلاثون من الشباب الطيبين، يلتقون داخل جمعية مدرسية، أو بينهم رابط أو علاقة معينة بصورة أو بأخرى، وكل هؤلاء فعلاً عندهم شعور أنهم لابد أن يساهموا في زيادة هذا العدد، فعندما يقول كل واحد: أنا أريد أن أحاول محاولة واحدة في الشهر فقط، والدراسة عندنا فصلين، احذف أيام الامتحانات وغيرها، سيكون عندك الفصل الأول ثلاثة أشهر، والفصل الثاني ثلاثة أشهر، فسيكون لكل طالب ست محاولات، وسيكون مجموع المحاولات (180) محاولة.
فعندما ننجح -يا شباب- بنسبة (5%) من كل مائة محاولة سيزيد العدد تسعة، يعني قريباً من الثلث، فإذا شغلنا كل الطاقات وصار الجهد فقط مرة واحدة في الشهر، وكل واحد له محاولة واحدة في الشهر سنزيد بمقدار الثلث، (الثلث والثلث كثير)، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
وتعال الآن نعمل إحصائية في المدرسة، نأتي إلى مدرسة فيها أربعون من الشباب الطيبين، العام القادم كم زاد العدد؟ ما النتيجة؟ لا أدري لكن النتيجة أقل بكثير مما يكن أن نصله، لو كان كل واحد منا عنده شعور أنه عندما يضم واحداً إلى الناس الصالحين، فإنه قد ساهم فعلاً، فليست القضية أنك أنقذته واستفاد، هذا صحيح مكسب، ولا تنظر إليه نظرة قريبة، فأنت أحياناً تنظر إليه أن فلاناً من الناس الذي ضممته إلى جيل الصالحين أفدته، هذا جانب.
لكن القضية أبعد من ذلك، فالقضية أنك قدمت طاقة أخرى للصحوة، وقدمت طاقة للأمة، فقد يكون هذا إنساناً نابغاً، وقد يكون موهوباً، فيسخر طاقته لخدمة الأمة، فتساهم أنت من حيث لا تشعر بأعمال وجهود أخرى قد لا تلقي لها بالاً، وقد يكون هذا يعمل أعمالاً خيراً منك، فيأتيك أجره، (من دعا إلى هدى؛ كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً).(1/30)
محاولة هداية بعض المنحرفين
الهدف الثاني وهو قريب من هذا الهدف، لكني أؤكد عليه وهو: محاولة هداية بعض المنحرفين: هناك نوعية من الطلاب في غاية السوء، فلا ينبغي أن نيأس من هؤلاء، والآن توجد نماذج كثيرة، فتجد مروج مخدرات يتوب، وتجد مستعمل مخدرات يتوب، وكثير من الشباب الطيبين الأخيار الذين تراهم ولا تعرف تاريخهم كان تاريخه السابق سيئاً، ثم هداه الله عز وجل.
فيا أخي! ألم تفكر يوماً من الأيام أن تكون لك مساهمة؟ لماذا لا تنزل إلى الميدان؟ ولماذا لا نحاول أن نكسب واحداً؟ وأنا أقول: لو كان عندنا ثلاثون طالباً وأربعة مدرسين في مدرسة، وكسبنا في المدرسة في السنة اثنين فقط من الناس السيئين والمنحرفين واستقاموا وهداهم الله، سنحقق شيئاً كثيراً، وهناك وسائل كثيرة لتحقيق هذا، منها: النصيحة الخاصة: فعندما أجلس أنا وإياه، وأبدي له بعض المشاعر، وأقول له: أنت صحيح عندك كذا وكذا، لكن عندك جوانب خيرة، فأنت تصلي، وأنت مسلم، ثم تنصحه، قد يسخر منك، لكن في النهاية ستبقى هذه الكلمات تحترق في قلبه، وقد تكون هذه الكلمات سبباً في هدايته.
وأحياناً عندما تسأل عن سبب هداية بعض الناس تجده سبباً يسيراً.
أسلوب أخر مثلاً: أسلوب الشريط: أنا أطرح فكرة يمكن أن يقوم بها بعض الشباب، لكني أؤجلها للنقطة الثالثة، نأتي إلى هذا الشاب السيئ فتهدي له شريطاً أو كتاباً قد يكون أحياناً سبباً في هدايته، وكم من شاب استفاد بسبب الشريط أو الكتاب وهداه الله.
الرسالة: عندما تجلس في البيت وتكتب رسالة صفحتين أو ثلاث صفحات، فيها مشاعر جياشة لهذا الطالب، ونصيحة وموعظة، ولا تعطيه إياها في المدرسة، وعندما تخرج من المدرسة تقول له: تفضل، اقرأ هذه الرسالة، كم سيكون أثر هذه الرسالة عليه؟ أخيراً: هناك فكرة واقتراح أطرحه على الإخوة الأساتذة والطلاب أرجو أن تلقى عناية من الإخوة الأساتذة والطلاب، وأرى أنها وسيلة قد تكون مناسبة لدعوة بعض هؤلاء الشباب الذين يلاحظ عليهم بعض مظاهر الانحراف: مثلاً عندما يأتي أستاذ ويختار أربعة من الطلاب، ويكون هذا الطالب خامسهم، أو ستة من الطلاب، لكن من الطلاب الأخيار، ويأخذ هذا الطالب السيئ، فيكون طالباً وحيداً بينهم، ويخرجون جميعاً في رحلة خاصة، قد يكون لها طبيعة خاصة، ويعودون، ويعتنون بمثل هذه القضية، أتصور أنها ستنجح كثيراً، وقد طبقها بعض الإخوة، واستفادوا، وهدى الله على أيديهم بعض الشباب بسبب هذه الوسيلة.
حتى ولو لم يسمع مواعظ ولا نصائح في هذه الرحلة، مجرد كونه يخرج مع هؤلاء الشباب، ويرى كيف يتعاملون، ويأخذ صورة طيبة عن الناس الأخيار، أظن أنها ستنفع كثيراً، لكن لابد من الشباب أن يحذروا من بعض المزالق التي تسبب في ذلك، مثلاً ألا يخرج الطلاب وحدهم؛ لأنهم لن يصنعوا شيئاً، فلابد أن يستشيروا أستاذهم، ويكون معهم أحد الأساتذة، لا يناسب أن الطالب يتوسع مع مثل هؤلاء الذين عليهم انحرافات؛ لأنه قد يكون سبباً في التأثير عليه.
أنا أقول: هذه كفكرة أو كنموذج، وأتصور أن الأساتذة والطلاب قادرين على أن يبتكروا وسائل وأساليب أخرى أكثر من هذه عندما يعتنون بمثل هذا الأمر.(1/31)
نشر الخير والدعوة العامة
الهدف الثالث: نشر الخير والدعوة العامة: عندي ثلاثون طالباً في الفصل، ليس بالضرورة أن يكونوا كلهم من الشباب الأخيار، وليس بالضرورة كلهم أن يستقيموا، لكن على الأقل أقدم لهم خيراً، وعندي وسائل كثيرة يمكن أن أصنعها، فمن الوسائل: الكلمات التي تلقى بعد الصلاة في المدارس، فيعتني بها الطلاب والأساتذة، وتقدم كلمات تناسب مثل هؤلاء الطلاب.
برامج النشاط العام عموماً، برامج الجمعيات المدرسية والنشاط التي تقدم لعامة الطلاب يعتنى بها، وتكون مناسبة، وتخاطب مثل هؤلاء الطلاب، والأستاذ من خلال الفصل.
وهناك فكرة وبرنامج أيضاً آخر أطرحه على الشباب يمكن أن يفكروا فيه هو: أتصور أنه لا يمكن أن أعدم في الفصل أن أجد خمسة من الشباب الطيبين، فيتفق هؤلاء الخمسة ويقولون: كل شهر كل واحد منا يدفع عشرين ريالاً، ويكون واحد منا مسئول عنها، فنستطيع أن نشتري شريطاً للتوزيع بريالين، ونشتري كتيباً ونغلفها، ونوزع على الطلاب كل شهر شريطاً أو كتيباً.
افترض أنه لم يقرأ الكتيب ولم يسمع الشريط، فمجرد هذا الأمر له أثر نفسي، الأثر النفسي هذا له دور كبير، فعندما يرى أنه إنسان يتابع صفحات الرياضة، ويتابع الأمور الساقطة وغيرها، ويرى الشاب الآخر أصبح جاداً، وأصبح له اهتمامات أخرى، هذا الشعور النفسي له دور كبير، مع أن الغالب أنه يسمع الشريط، ويقرأ الكتيب.
لكن لابد من حسن الاختيار، فمن غير المناسب أن تأتي بمحاضرة موجهة للشباب الطيبين وتوزعها على عامة الطلاب في الفصل، أو تأتي إلى درس في الفقه، فلابد أن تحسن اختيار المادة التي تقدمها إلى هؤلاء الطلاب، (وما ندم من استخار، وما خاب من استشار).(1/32)
إنكار المخالفات الشرعية التي تحصل
الهدف الرابع: إنكار المخالفات الشرعية التي تحصل: يحصل كثيراً في المدرسة مخالفات شرعية أظن أنه ما من أحد يسمع هذا الكلام إلا ويعرف ويرى نماذج كثيرة من هذه المخالفات والتصرفات اللا أخلاقية التي تحصل من الطلاب، فلابد أن يكون لنا دور في إنكار مثل هذه المنكرات.
أولاً: أن هذا واجب شرعي علينا (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه).
ثانياً: عندما ننكر هذه المنكرات فإننا في الواقع نحمي أنفسنا، لماذا؟ أنت عندما تبقى في الفصل وتشاهد هذه التصرفات، فأنت بشر تستمرئ هذه الأمور؛ وقد تقع فيها أنت، لكن عندما تسعى إلى إنكارها، يكون هذا وسيلة لحماية نفسك، والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، فمهما بلغت -يا أخي- من إيمان وتقوى، يمكن أن تقع فيما يقع فيه الآخرون، فإنكارك لهذه المنكرات وسيلة لأن تحفظ نفسك وتحمي نفسك.
ثالثاً: أن هذا وسيلة لحماية الآخرين، فللأسف -مثلاً- بعض الشباب يتعلم هذه الأمور السيئة داخل المدرسة، والده محافظ عليه في البيت لا يخرج إلى الشارع، ولا يذهب ولا يأتي، لكنه داخل المدرسة عندما تكون هذه الممارسات ظاهرة ومنتشرة يستمرئها، فتجده إنساناً حيياً، وإنساناً لا يمكن أن يقع في هذه الأمور؛ لكنها عندما تظهر أمامه يستمرئها ويقع فيها.
فنحن عندما نساهم في منع هذا المنكرات؛ نستطيع أن نقدم الشيء الكثير، ونحن قادرون -يا إخوان- وأمامنا وسائل عديدة لإنكار هذه المنكرات: النصيحة الشخصية، والرسالة، والإنكار العلني أحياناً، ولو بنوع من التوبيخ، يعني: أنت إنسان ما تستحي تفعل هذا أمام الناس هذا لا يليق وهل وصل بك الحد إلى أنك تجعل نفسك ألعوبة في يد هؤلاء إلى غير ذلك من الكلمات الذي قد يكون فيها نوع من القسوة، لكنها أحياناً تؤدي دورها.
إذا لم ينفع هذا الكلام، فيمكن أن تستعين ببعض الناس في المدرسة، كالمرشد الطلابي إذا كان مستقيماً وخيراً، أو أستاذ من أساتذتك، أو وكيل المدرسة، أو المسئول عن شؤون الطلاب، تستعين بشخص آخر يساعدك في هذه القضية.
وقد تنتقل إلى خطوة أخرى وهي: التهديد، فتقول: نحن لا نرضى بهذا المنكر، وأنت لو تفعل أي شيء لا يعنينا، لكن هذا منكر شرعي، إذا لم تكف فأنا سأخبر الأستاذ أو فلان، أو سأخبر المرشد الطلابي، وهدد بمن يخشى منه ذلك، ليترك المنكر خوفاً من هؤلاء، فزوال هذا المنكر بحد ذاته مكسب.
وأظن -يا شباب- أننا لو فكرنا جادين؛ لاستطعنا أن نجد وسائل كثيرة تساعدنا على منع هذه المنكرات، بل أنا أقول وبدون مبالغة: أن الطلاب الأخيار وحدهم قادرون على منع هذه المنكرات، وأنهم يملكون قدرة أكثر من الأستاذ، وأكثر من إدارة المدرسة، فإدارة المدرسة تتعامل مع ما يظهر أمامها، لكن أنت موجود في الفسحة مع الطلاب، وفي داخل الفصل، وفي الممرات، وفي مكان تناول الطعام، وفي كل مكان توجد فيه هذه المخالفات فأنت موجود.
فلو كان كل واحد يشعر أن عليه واجباً تجاه إنكار هذه المنكرات، لاستطعنا على الأقل أن نخفف منها، وأتصور أننا وحدنا قادرون أن ننكر هذه المنكرات، ولو لم يتعاون معنا أحد، مع أننا سنجد في كل مدرسة من يتعاون معنا ومن يدعمنا ويشجعنا.(1/33)
أمور لابد منها في الدعوة
أخيراً: ننتقل إلى الهدف الخامس، ولعلي أختصر: هناك أمور لابد منها:(1/34)
ضرورة التثبت في الإخبار عن المخالفات الشرعية
الأمر الأول: ضرورة التثبت في الإخبار عن المخالفات الشرعية: فأحياناً يأتي طالب فيخبر عن خطأ حصل من بعض الطلاب، طالب -مثلاً- أحضر صورة في الفصل للأسف، وهذه مظاهر أحياناً تتكرر وإن كانت قليلة، لكنها مظاهر مؤلمة أن تحصل في أماكن العلم، أو طالب قال كلاماً أو فعل فعلاً، وتجده أحياناً ما تثبت وما تأكد، فيحرج الآخرين ويجعل الآخرين لا يثقون في المستقبل بأخباره، فيجب أن يتثبت ويتأكد من كل ما يراه ولا ينقل خبراً إلا وقد تثبت منه؛ لأننا كثيراً ما يأتينا بعض الشباب وينقل لنا أخباراً، ونكتشف أنها أخبار غير دقيقة.(1/35)
لابد من الاستشارة
الأمر الثاني: لابد من الاستشارة: فعندما تريد أن تصنع أي شيء، كأن توزع كتيباً على الطلاب أو شريطاً، فلابد أن تستشير أستاذك، أو إدارة المدرسة، لأن الأعمال الارتجالية أحياناً يكون لها نتائج وخيمة، فأنت قد تريد أن تحسن فتسيء، ويساء إليك، وتصيبك ردة فعل بعد ذلك، فلابد أن تستشير من هو أولى منك وأنفع منك، وخير منك وأحرص منك على نفع الطلاب، وعنده إدراك أكثر مما عندك، فمثل هذا يدرك ما لا تدرك.
كذلك أيضاً المسئولية لها قيمة، فلا يليق أنك تتصرف تصرفات عامة داخل إطار المدرسة بدون إذن، أو تنسيق على الأقل مع أحد المسئولين في المدرسة، فأنت عندما تريد أن تطرح أي مشروع أو أي فكرة ينبغي أن تستشير، وإن شاء الله لن تعدم من يريد الخير.
وهذه ظاهرة طيبة -ولله الحمد- لا نجد مدرسة ولا مجال إلا وفيه من الناس الأخيار، سواء مدير أو وكيل أو مسئول أو أستاذ، سنجد فيها من الأخيار ممن سنجد عنده الرأي، بل سنجد عنده الدعم والتشجيع.
وأنا أحذر الشباب من أن يعملوا أي عمل ارتجالي، اللهم إلا في الأمور العادية، فلا يعني ذلك أنني عندما أريد أن أنصح طالباً أذهب أستشير، فالاستشارة في القضايا العامة التي يحتاج إلى الاستشارة فيها.(1/36)
الثقة بالنفس وعدم الاحتقار
الأمر الثالث: الثقة بالنفس وعدم الاحتقار: دائماً يقول لك الشاب: أنا لا أصلح لشيء، فأنا ليس عندي علم، يا أخي! لا نريد منك أن تعقد حلق علم للطلاب، نريد فقط كلاماً كل واحد منا يستطيع أن يقوله، ونصيحة كل واحد منا يستطيع أن يقولها، ولا داعي أنك تدبج الألفاظ أبداً.
يا أخي! حتى لو كنت أصم وأبكم يمكن أن تأتي بشريط وتعطيه، حتى لو كنت مشلولاً يمكن أن تنقل هذا الشريط بوسيلة أخرى لمثل هذا الطالب، ويمكن أن تنقل كتاباً، مع أنك لن تصل إلى هذا القدر مهما كنت من الخجل، ومن الحياء، ومن عدم العلم، لن تصل إلى هذا القدر الذي يجعلك معطلاً إطلاقاً، ألا تستطيع أن تقول كلمة ولو واحدة؟! ألا تستطيع أن تعطي شريطاً لأحد زملائك؟! أو تكتب رسالة لأحد زملائك؟ أظن أنك تستطيع أن تصنع الشيء الكثير.(1/37)
طول النفس وعدم اليأس
الأمر الرابع: طول النفس وعدم اليأس: أحياناً بعض الشباب عندما يسمع هذا الكلم يتفاءل، ويقول: إن شاء الله اليوم الأحد، فيوم الأحد القادم تريد أن تتغير المدرسة كلها، هذا ليس معقولاً، ولا بعد سنة أو سنتين، لا، يجب أن نكون أناساً عندنا طول نفس، من طول النفس الذي أريده أنك تقول كلمة، وتنتظر أثرها بعد أربع سنوات، وممكن هذا، قد تقول كلمة لإنسان وتبقى تنمو وتنمو مثل البذرة وبعد ذلك تؤتي أكلها.
وقد تقول كلمة ولا تجد ثمرتها إلا يوم القيامة عندما يثيبك الله على عملك، فلا تيأس أبداً، وكن إنساناً طويل النفس، ونحن قلنا: لو نجتمع في المدرسة أربعين طالباً وخمسة أساتذة، وننفق وقتنا كله، ويهتدي على أيدينا ثلاثة طلاب، فأعتبر أننا حققنا مكسباً كبيراً، وتقدمنا خطوات، وأظن أننا قادرون على أن نحقق أضعاف أضعاف هذه النتائج.
ثم هناك نتائج ما تستطيع أن تقيسها، فمثلاً الأستاذ عندما يقول كلمة لمائة وعشرين طالباً لا يدرك أثر هذه الكلمة، فلها آثار قد تمتد خارج أسوار المدرسة، فقد تجد من الطلاب من يتحمس لأفكارك، وينقل أفكارك للناس الآخرين.
وأنت -يا أخي الطالب- قد تعطي زملاءك الشريط وانتهت العملية، فلا تدري عن أثر هذا الشريط عليهم، لكن له أثر، فقد يؤثر على شخص آخر خارج المدرسة، هذا ما استفاد، لكنه ترك الشريط في السيارة فسمعه فلان من الناس أو أعطى زميله أو صديقه أو أعطاه أخيه، فسمعه فهداه الله عز وجل.
فأقول: لا تيأس أبداً، أو تستعجل النتائج.
هذه بعض الأفكار وبعض المقترحات، وكما ترون ليس فيها شيء جديد، لكن أنا أقول -يا شباب- وأوجه حديثي للأساتذة ابتداءً، وللطلاب جميعاً: إننا مسئولون، والدور الأساسي الذي يجب أن نعتني به هو داخل أسوار هذه المدرسة، أن يشعر كل أستاذ وكل طالب أن له دوراً مهماً وأساسياً هو نشر هذا الخير، ونشر هذه الدعوة، وعندما ندرك هذه المسئولية أجزم أننا سنستطيع أن نصنع الكثير، وسنستطيع أن نفيد كثيراً، لكن المشكلة أن الأستاذ أحياناً يشعر أن دوره محصور داخل الطلاب الذين يشاركون معه في الجمعية فقط، والطالب يشعر أن دوره مع زملائه فقط في الجمعية وفي حلقة القرآن، أما القطاع العام فليس لنا دور تجاهه، بالعكس فهؤلاء أكثر وأحوج إلى جهدنا وإلى طاقاتنا.
أقول: عندما نعتني بالقضية سنكتشف وسائل، ونبتكر أساليب، ونستطيع أن نصنع الكثير الكثير، لكن عندما تكون القضية فعلاً هما يعنينا ونعتني به جميعاً.
أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لطاعته، وأن يجنبنا وإياكم أسباب معصيته وسخطه، ويرزقنا وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح.(1/38)
الأسئلة(1/39)
مشكلة الخجل في الدعوة
السؤال
أنا شاب ملتزم، وأحب الدعوة إلى الله، ولكني أعاني من مشكلة الخجل، وكثيراً ما تمنعني عن الدعوة إلى الله، فما نصيحتكم لي؟
الجواب
يجب أن تعلم أولاً: أنه ليس هناك مشكلة إلا ولها حل.
ثانياً: أنك هو الرجل الوحيد القادر على حل هذه المشكلة، ومشكلة الخجل تحتاج إلى أن توجد عند نفسك شجاعة وجرأة، وتعتاد وتتجرأ تدريجياً؛ حتى تستطيع أن تواجه.
والآن مشاهد تمر علينا كثيراً، فأحياناً نوعية من الطلاب السيئين تجده يتصرف تصرفات غير لائقة، فيعصي الله أمام الناس ويستعرض بها ولا يستحي أبداً، وأحياناً أشياء في غاية الوقاحة.
فلماذا -يا أخي- هذا ما يستحي، وأنت تستحي وأنت صاحب الخير؟! فالأولى أن يستحي صاحب المعصية، وأن يكون صاحب الخير هو الرجل الجريء، وأنا لا أريدك أن تلقي كلمات في الفصل، أو تقوم في درس الإنشاء وتلقي كلمة، وإن كان عندك استعداد لهذا فهذا طيب جداً.
لكن -يا أخي- أتعجز أن تمسك أحد زملائك وتقول له كلمتين، حتى بلغتك الدارجة، لا يحتاج إلى أنك تتكلف له اللغة الفصحى، فتقول له: يا أخي! عيب عليك، وأنت إنسان لابد أن تفكر في حياتك، ووضعك هذا لا يرضاه الله ولا رسوله، أما فكرت يوماً من الأيام أن تغير وضعك؟! هذا الكلام أتصور أن أشد الناس خجلاً وحياءً يستطيع أن يقول هذا الكلام.
وإذا قد بلغ بك الحد إلى أنك لا تستطيع أن تتكلم نهائياً فيمكن أن تأخذ شريطاً وتعطيه له، أو تكتب له رسالة خاصة وتعطيها إياه، لكن أظن أنه لن يبلغ بنا الحد من الخجل والحياء إلى أن الإنسان لا يجرأ أن يكلم الآخرين أبداً، والحياء مطلوب، والحياء خير كله، والحياء لا يأتي إلا بخير، والحياء من الإيمان؛ لكن أن يكون عائقاً عن أداء الواجب الشرعي فلا.
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان أشد حياءً من العذراء في خدرها، وخير الناس حياءً صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك ما كان يعوقه الحياء أبداً عن أداء هذا الواجب، فلابد أن نتخلص من هذا بالتمرين، فيتعود الإنسان مرة ومرتين وثلاث مرات؛ حتى يعتاد بعد ذلك.
فمثلاً: الطفل عندما يريد أن يمشي يجد صعوبة، فيقوم ويسقط، ويقوم ويسقط؛ حتى يعتاد، وأنت عندما تريد أن تقود السيارة تجد أنك تتعب كثيراً، وقد يحصل لك بعض الحوادث وبعض الإصابات، لكن تتحمل، وبعد فترة تقود السيارة، فمثلاً: لو أعطيتك السيارة فقلت: أنا لا أعرف أن أقود السيارة ولا أستطيع، أعطوني حلاً، فإنه لا يوجد حل إلا أن تتعلم، وتقع في الخطأ، وتتحمل بعض النتائج، حتى الرياضة التي يمارسها الإنسان كالسباحة، فعندما تريد أن تتعلم السباحة لابد من أن تحاول.
كذلك إذا أردت أن تزيل هذا الخجل لا يوجد وصفة طبية، أنت الذي تستطيع أن تعالج نفسك، وأن تحل لنفسك، وعندما تمارس القضية تدريجياً تجد أن هذا الخجل قد زال، وأحياناً تشعر بأنك تحتاج إلى قدر من الحياء يضبطك أكثر.(1/40)
الاعتذار عن الدعوة بقلة العلم
السؤال
أنا أود الدعوة في المدرسة، لكن إذا كان الداعي ليس عنده علم كافٍ للدعوة، فكيف يدعو؟
الجواب
هذا سؤال غريب جداً، فمجالات الدعوة مجالات واسعة، وعندما أطالبك أن تتصدر وتخطب، أو تحاضر، أو تؤلف، حينئذٍ نقول: لابد أن تتحدث بعلم، لكن أنت في واقع تشاهد انحرافات أمامك تعرف أنها حرام، وأنها أمور محرمة.
فمثلاً: ترى الطالب في المدرسة يقع في أشياء تعرف أنها حرام، هل هذه تحتاج إلى علم؟! هذه لا تحتاج أنك تحفظ آية من كتاب الله، ثم كلام لأحد الصحابة، أو كلام لأحد التابعين وأحد السلف والإجماع، ونقل هذا الكلام فلان في كتاب كذا وكذا، لا نحتاج إلى كل هذا، نريدك أن تقول كلمة واحدة، لا تحتاج إلى علم، فهناك أحياناً مواقف ومنكرات يعرفها كل مسلم لا تحتاج إلى مزيد من العلم، صحيح أن العلم له دور، وكلما كان الإنسان عنده علم؛ استطاع أن يؤثر على الآخرين.
لكن أظن أنك لن تحتاج إلى أن تملك رصيداً من العلم حتى تدعو فلاناً من الناس أن يترك هذا المنكر الذي يقع فيه، وحتى تقول لفلان من الناس: لماذا لا تفكر في تصحيح ما أنت عليه؟ وهل يصل بك الحد من الجهل إلى أنك لا تستطيع أن تفرق بين فلان أهو مستقيم أو غير مستقيم؟! فإذا وصلت إلى هذا القدر، فأنت حينئذٍ معذور.
لكن أظن أن كل واحد منا يعرف هذا الشيء، فيعرف المحرمات الظاهرة، ويعرف الواجبات التي يقصر فيها الآخرين، فلا تكون هذه القضايا عائقاً.
ونحن نريدك أن تدعو بالعلم الذي عندك، ولا نريدك أن تفتي بغير علم، لكن عندما أطالبك بالدعوة لا أريدك أن تعقد دروساً داخل المدرسة، ولو عقدت درساً فلن يأتيك أحد.
لكن أريدك أن تنكر المنكرات الواضحة، فالآن قضية الفساد الأخلاقي نشاهدها في كل وقت، في الشارع، وفي المدرسة، وفي كل مكان، وأحياناً في الفصل، هل هناك أحد لا يعرف أن هذه قضايا محرمة؟ لا أظن أحداً بلغ به الحد من الجهل إلى أن يجهل هذه القضايا، فتستطيع أن تفرق بين فلان المستقيم وفلان غير المستقيم، هذه كلها لا تحتاج إلى علم.
وقضية أني أدعي الخجل، وأن ليس عندي علم، كل هذه أحياناً حيل نفسية نحاول أن نقنع بها أنفسنا، ونتهرب بها من مسئوليات الدعوة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده)، وهذا خطاب لكل الناس.
فأقول: يجب أن نزيل هذا الوهم من أنفسنا، ويشعر كل مسلم أنه قادر أن يدعو إلى الله عز وجل.
لو كان -والله- كل إنسان يشعر بهذا الواجب؛ لاستطعنا أن نصنع الشيء الكثير، ومهما بلغ الإنسان من قلة الثقافة والعلم، فهو قادر أن يقول مثل هذا الكلام، وقادر أن يصنع هذا الشيء، فهذه من وسائل التهرب من المسئولية، ومن وسائل الدفاع عن النفس فقط.
ولا يعني هذا أن نهمل العلم، فالعلم ضروري ولابد منه، ولابد أن نعتني ونستغل وقت الشباب لتعلم العلم، لكن لا ينبغي أن تكون هذه عوائق وحواجز لنا عن الدعوة، وعن إنكار المنكرات، وعن نشر الخير.(1/41)
التخصص والدعوة
السؤال
بعض الشباب يكون تخصصه سبباً في ضعفه في الدعوة كالتخصصات العلمية، فما نصيحتك لهم؟
الجواب
ليس صحيحاً، فأنا أولاً لا أتخاطب مع الإنسان الذي يريد أن يأخذ تخصصاً علمياً لكي يشتهر، أو تكون له مكانة اجتماعية، فهذا شخص آخر ليس لنا معه لقاء، لكني أريد الإنسان الذي يختار التخصص سواء من ناحية الدراسة أو العمل وهو يشعر أنه يريد أن يخدم الأمة، فنحن في واقع حرج، وضع الأمة ووضع المجتمع لا يحتمل أننا لا نفكر إلا بمصالحنا الخاصة.
فأنا أقول: ما لم يكن هم الدعوة وهم المسلمين يتدخل في تقرير قضية الدراسة، وتقرير مجال العمل، وتقرير أحياناً مجال السكن، فيشعر أن هذا المجال يحتاج، وهذا التخصص يحتاج، ويربط كل هذه القضايا بالدعوة، ويضحي ببعض المزايا، فإذا لم نصل إلى هذا الحد فلن نقدم للدعوة ما تستحق.
ولهذا فأنا أخاطب الإنسان الذي يتخصص تخصصاً علمياً؛ لأنه يشعر أنه يريد أن يخدم الأمة من خلاله، وأي إنسان مهما كان حتى الرجل صاحب الحرفة اليدوية التي يمتهنها الناس يستطيع أن يخدم الأمة، لكن عندما يتقي الله، ويعي الصورة.
فأنا أقول: أنا لا أريد هذا المتخصص في تخصص يأخذ عليه جزءاً كبيراً من وقته أن يصنع مثلما يصنع الآخرون، أن يقرأ ويحضر ويلقي محاضرات، ولا يعني هذا أن هذا هو الدور، وإن كان هذا دوراً مطلوباً، لكن ليس مطلوباً من كل إنسان.
فأنت داخل كليتك نريد أن يكون لك دور مع أعضاء هيئة التدريس، فأنت طالب جامعي وأصبحت على قدر تستطيع أن تؤثر عليهم، وأن تحملهم أفكاراً للإصلاح والدعوة، ومع زملائك، ثم بعد ذلك في مجال العمل، نريد أن يرى الناس أن هذا المهندس وهذا الخبير إنسان فعلاً يوثق فيه، وإنسان يتحمل المسئوليات، فبدلاً من أن يأخذ الموقع إنسان يجعله فرصة أن يأخذ رشاوى، ويستفيد هنا وهناك، نريد أن يوجد إنسان عفيف فعلاً، يثبت للناس أن الناس الأخيار هم الأولى بمثل هذه الأمور.
أنا أقول: يستطيع مهما كان ولا يشغله، لكن هذا الوهم نتصوره عندما نقارن أنفسنا بجهود الآخرين، يا أخي! لا تقارن نفسك بجهود الآخرين، فأنت لك ظروف معيشية معينة، أو ظروف دراسة، أو ظروف سكن، ومهما كانت الظروف الاجتماعية أقلم نفسك على هذه الظروف، واسع إلى خدمة الدعوة من خلال هذه الظروف، وهذا الجو، وهذا المحيط الذي تسعى إليه.(1/42)
كيفية التعامل مع المدرس الشيعي
السؤال
يدرسني في المدرسة مدرس شيعي، ويأتي بعض الأحيان بأمور مخالفة، فكيف أتعامل معه؟
الجواب
يقولون: ثبت العرش ثم انقش، فالأصل أن الرافضة لا يتولون هذه المقامات، فيجب أن يكون عندنا ولاء، وأن نساهم نحن في علاج مثل هذه المشاكل، فهؤلاء الرافضة يعتقدون أنكم كفار، ودماءكم مباحة، والرافضي يعتقد أن مالك إذا ظفر به بصورة أو بأخرى فهو حلال له، لكن يعطي الخمس لأحد طواغيته الذين يسمونهم الشيوخ، والباقي له، ويعتقدون أن أهل السنة كلهم أولاد زنا.
المهم أن موقف الرافضة من أهل السنة موقف يجب أن نوضحه للناس جميعاً، وأريدكم أن تقرءوا كتاباً يعكس صورة، ولا يعطي كل المعلومات حول هذا، وهو كتاب جيد: (برتوكولات آيات قم حول الحرمين الشريفين) يعطيك صورة فعلاً للنظرة والعقلية التي يفكر فيها الرافضة، فنحن في وادٍ وهم في وادٍ آخر.
فأتصور أننا عندما نعرف هذه القضايا تهون عندنا بعض المخالفات، لكن مهما كان لا يجوز أن نرضى أن هذا يتجرأ ويسب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يوجد رافضي إلا ويسب الصحابة، ولو قال لك غير ذلك فهو يقول لك خلاف ما يبطن.
ولا يليق أبداً في بلد التوحيد وعند أهل التوحيد أن يأتي هذا الرافضي ويسب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا وقع في شيء من هذا يجب أن ننكر، ويجب أن نقف، ونطالب بوضع هذا الرجل عند حده، إما ألا يتكلم في هذه الأمور، أو أن يوضع عند حده، ونقدم شكوى إلى الإدارة أو إلى المحكمة أو إلى هيئة الأمر بالمعروف، ولو جاء واحد وسب أباك وأهناك ستذهب تشتكي وتطالب، ويعزر ويؤدب.
فيا أخي! أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحب إلينا من آبائنا، ولا يوجد رافضي -خاصة في هذا العصر- إلا ويعتقد أن أبا بكر وعمر هما الجبت والطاغوت، والكثير منهم يعتقد كفرهما، وهذا محب الدين الخطيب لما تناقش مع أحد الرافضة في الأزهر، قال له: هل أنتم تعتقدون إمامة أبي بكر وعمر أجبني بدون تقية، قال: ما تحت هذه القبة رجل يعتقد الإسلام في أبي بكر وعمر فضلاً عن أن يعتقد إمامتهم.
فأنا أقول: لا ينبغي أن يسمح لهؤلاء -فعلى الأقل وأضعف الإيمان- أن ينشروا ما عندهم.
وعندما يتجرأ أحدهم ويقول مثل هذا الكلام لا ينبغي أن نسكت، ولا يليق أبداً أن يكون لهؤلاء صوت في بلد التوحيد وبلد الحرمين، فالكلمة ليست هنا إلا لأهل التوحيد وأهل المنهج الحقيقي.(1/43)
الازدواجية في صحبة الأخيار والأشرار
السؤال
يسأل هنا عن الشاب الذي يعيش ازدواجية في صحبته للأخيار وصحبته للأشرار.
الجواب
غالباً مثل هذه الحالة يتجاذبها جانبان: جانب خير يدفعه إلى أن يصاحب الأخيار، وجانب شر وميل للشهوات يدعوه إلى مصاحبة السيئين، فهو لما غلبه.
فعندما نجد مثل هذا الشاب عندنا وسيلتان: أولاً: أن نقوي إيمانه، ونقوي جانب الخير فيه؛ حتى يتخلى ابتداءً عن أولئك.
ثانياً: أن نحرص عليه، ونحرص أن نجلس معه، ونبقى معه، فبدل من أن يجلس في المدرسة يأكل مع فلان وفلان من السيئين، لا نجلس نلومه، ونجلس نقول له: فلان يذهب مع السيئين، فالحل العملي أني أذهب أنا وإياه، فنشكل له حماية بصورة أو أخرى غير مباشرة من الناس السيئين.
فأقول: أمامنا وسيلتان لعلاج هذه الظاهرة: الأولى: تقوية إيمان هذا الشاب؛ حتى يصبح فعلاً يمقت أهل الشر.
الثانية: محاولة ملء وقته ومصاحبته؛ حتى لا يبقى بعد ذلك وقت لأولئك.
أسأل الله أن يوفقنا وإياكم لطاعته، ويرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح.
هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(1/44)
درس في العفة
العفة عن الفاحشة والابتعاد عن المعصية خاصة مع توفر الدواعي وسهولة الوصول إليها وانتفاء الموانع فضيلة عظيمة تجعل المرء ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وقد ضرب سيدنا يوسف عليه السلام أروع الأمثلة في ذلك حين راودته امرأة العزيز عن نفسه وغلقت الأبواب وتهيأت له.(2/1)
أعمال ميدانية في الدعوة إلى الله
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد: فهذه هي المحاضرة الثانية من الدروس التربوية التي اتفقنا أن تكون بمشيئة الله أول أحد من كل شهر، وبين يدي في الواقع بعض الأمور التي أود أن أشير إليها قبل البدء في المحاضرة، منها: أننا اقترحنا بعض البرامج في المحاضرة السابقة، وأفادني بعض الإخوة أنهم طبقوا بعض هذه البرامج، منها ما وردتني رسالة من أحد الإخوة قال: أولاً: وزعنا مجموعة أشرطة أو كتيبات فكانت ردة الفعل جيدة جداً بل ممتازة وجمعيهم يدعون للمهدي ويشكرونه ولم يشذ إلا واحد وضعها فوق لوح السبورة.
فهذا يذكر أن جميع طلاب الفصل عندما وزعت عليهم هذه الأشرطة شكروا وقدروا وأنهم كلهم استجابوا ما عدا شخصاً واحداً وضع هذا الشريط فوق لوح السبورة.
ويقول أيضاً: إنه كلم بعضهم عن بعض بالقضايا الأخلاقية التي كانت منه سراً فأبدى تجاوباً ملحوظاً وبعضهم كلم في المرة الأولى فلم يستجب فلما كلم مرة أخرى أبدى استجابة كبيرة جداً.
وأيضاً يقول: إنه جمع مبلغ مائة وعشرين ريالاً من أربعة أشخاص في الفصل واشترى بعض الكتيبات والأشرطة للفصل.
على كل حال أشكر الإخوة الذين قدموا هذا الشيء ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل عملهم خالصاً لوجهه، وفي الواقع ذكر لي أكثر من واحد من الإخوة أنهم طبقوا هذه الطريقة وكانت ناجحة، وأنا أذكرها من باب حث الإخوة جميعاً على المساهمة، فإن الأخ عندما يرى غيره قد عمل وقد كان لعمله نتيجة وثمرة فإن ذلك يدعوه لا شك إلى أن يعمل أكثر، فعندما يطرح اقتراح محدد يعطي دافعاً، لكن أن تعرض تجربة عملية قد طبقت فهذا يعطي دافعاً أكبر.
ومن هنا فأنا أحث الإخوة جميعاً على أن يحرصوا على ما يطرح من برامج أو أن يبتكروا برامج، وكذلك أحثهم على تزويدنا ببعض هذه النتائج مما له أثر طيب حتى تقرأ على الإخوة الحاضرين فيتشجعوا ويشعروا بأن هذه الأمور سيكون فيها إن شاء الله خير كثير.
هذا الدرس سنركز فيه على قضايا الشباب، ولكن هذا لا يعني أن نقتصر عليها وحدها؛ ولهذا رأينا أن يكون اسم هذه السلسلة: دروس تربوية.
وبين يدي مجموعة من الموضوعات تكاد تكون متكاملة وهذا لا يعني أنني أستغني عن مواصلة الإخوة ومشاركتهم لي بما لديهم، فلدي موضوع بعنوان: حتى نستفيد من خطبة الجمعة، وموضوع بعنوان: حصاد الأفلام، وموضوع بعنوان: سد ذرائع الفاحشة، وموضوع بعنوان: إذ تلقونه بألسنتكم، وموضوع: الشباب والمشكلات، وموضوع: عدم الثقة بالنفس، وموضوع: من آفات النجباء، هذه كلها موضوعات تكاد تكون شبه متكاملة، لكني أطلب من الإخوة أن يواصلوني ويعطوني مما لديهم من أفكار أو معلومات، وخاصة في الموضوعين الأولين: حتى نستفيد من خطبة الجمعة، وموضوع: حصاد الأفلام، فلدي رصيد طيب من المقالات والإحصائيات وغيرها، لكن إذا كان أحد من الإخوة لديه أي معلومات حول الموضوع أو مقترحات فيزودنا بها؛ لأن المقصود هو فائدة الجميع.
وكذلك أيضاً إذا كان أحد الإخوة يقترح موضوعاً معيناً أو بعض الأفكار التي يرى طرحها ولو ضاق عنها هذا الدرس فإننا يمكن أن نطرحها في محاضرة أخرى، أو يستفاد منها في مناسبة أخرى.
هذا الموضوع التي سنتحدث عنه هو درس في العفة، وفي الواقع إن من أشد ما يعاني منه الشباب -خاصة في هذا العصر- مشكلة الشهوات، ومشكلة هذه الشهوة العارمة مع انتشار بواعث الفتنة والمثيرات وتنوعها وكثرتها، وفي خضم مثل هذه المثيرات وهذه الفتن يبقى الشاب صريعاً بين وازع الخير والإيمان والتقوى الذي يدعوه للعفة والمحافظة وبين الاستجابة لنفسه الأمارة بالسوء وهذه الغرائز.
وهذا الموضوع لي معه قصة قديمة: فقد كنت ألقيت محاضرة قبل سنوات بعنوان: الشباب والشهوة، ثم بعد ذلك أصدرت كتيباً وكان عنوانه: أخي الشاب كيف تواجه الشهوة، وبعد أن أصدرت هذا الكتيب وردت إلي رسائل كثيرة جداً، رسائل بريدية وأحياناً مكالمات هاتفية من كثير من الشباب يعرض مشاكل كثيرة حول هذا الموضوع مزعجة، ومنها رسائل أتتني من خارج المملكة، أما من خارج مدينة الرياض فهي كثيرة جداً ويكاد يكون بمعدل رسالة أو رسالتين أسبوعياً منذ أن صدر الكتاب إلى الآن، وأحرص أن أرد على كل رسالة ترد إلي ولو تأخرت في ذلك، ولكن في الواقع هذه الرسائل وتواليها أعطاني شعوراً بأن الموضوع ذو أهمية، وما كنت أظن أنه سيبلغ هذا الصدى وهذا الأثر عندما طرقته مما يشعر بأن الشباب لا يزالون يحتاجون وأن الشباب فعلاً يعانون من هذه المشكلة.
وهناك رسائل مؤثرة ومؤلمة في الواقع ولكن المشكلة أن الكثير من الشباب عندما يبعثون لي بالرسالة يقول: أرجو أن لا تقرأ هذه الرسالة في محاضرة أو تذكرها في كتاب، مع أني لو قرأت جزءاً منها فإنني لن أشير من قريب ولا بعيد إلى واقع مثل هذا الشاب، لكن من حقه علينا ما دام قد طلب منا هذ(2/2)
عوامل إغراء سيدنا يوسف عليه السلام بامرأة العزيز
أما عوامل الإغراء: فنحن عندما نتأمل هذه القصة وحتى نعرف الثبات الذي ثبته يوسف عليه السلام، وحتى نعرف كيف كان هذا ابتلاءً لنبي الله لا بد أن نتصور ونعيش جو القصة ونتصور عوامل الإغراء والإثارة التي كانت موجودة لدى يوسف عليه السلام، وهي عوامل يستطيع كل واحد منا أن يتصورها عندما يقرأ القصة ويتخيلها في ذهنه، وقد أشار الحافظ ابن القيم رحمه الله إلى عدة أمور أوصلها إلى ثلاثة عشر كلها كانت وسائل تغري وتثير وتهيج الفتنة لدى يوسف عليه السلام في مثل هذا الموقف.
أولها: العامل الطبعي، يعني: أن الرجل يميل إلى المرأة أصلاً، وكل الرجال -إلا من شذ- عنده هذه الشهوة.
العامل الثاني: كونه شاباً، ولا شك أن الشهوة عند الشاب تكون أكثر توقداً منه عند غيره، ومع زيادة الشهوة عنده فقدرته على ضبط نفسه وعلى الانتصار على نفسه أقل من قدرة غيره، ومن هنا تكون الصعوبة أكثر.
وتعرفون أنتم أن يوسف عليه السلام رمي وهو صغير، ثم بعد ذلك أخذ رقيقاً وهو لا يزال غلاماً حتى قال الله عز وجل: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ} [يوسف:22 - 23] المهم أنه لا يهمنا الآن كم كان سن يوسف لكنه كان ولا شك قريباً من العشرين يزيد عنها قليلاً أو ينقص عنها قليلاً، المهم أنه في زهرة الشباب التي تشتد فيها هذه الشهوة.
العامل الثالث: أنه كان أعزب لم يتزوج بعد، ولا شك أن هذا أيضاً أمر له أهميته، فالمتزوج قد يسر الله له طريق الحلال والطريق الشرعي، فلو أثاره ما أثاره فأمامه المصرف الشرعي، أما هذا الشاب الذي لم يتزوج بعد ولم يحصن نفسه فإنه أكثر عرضة للوقوع في المعصية من غيره.
ومن هنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم الشباب فقال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء).
العامل الرابع: كونه في بلد غربة، فالإنسان عندما يكون غريباً بعيداً عن أهله فإن هذا يدعوه أن يمارس ما يمارس خاصة عندما يتركهم وهو في سن الطفولة، فليس هناك وازع يمنعه.
فوجود الغربة لا شك أنها تدعوه إلى أن ينطلق وينفلت من هذه القيود التي قد تقيده وتحجمه، وكما نشاهد الآن أن المرء إذا اغترب عن بلده أصبح أكثر عرضة للانفلات والضياع منه عندما يكون عند بني قومه وأهله وعشيرته.
العامل الخامس: أن المرأة ذات منصب وجمال، أما كونه ذات منصب فهذا واضح، وأما كونها ذات جمال فقال رحمه الله: إن العادة في مثل العزيز أن لا يتزوج إلا امرأة ذات جمال.
العامل السادس: كونها غير ممتنعة ولا أبية، فإن مما يصد المرء أحياناً عن مواقعة المعصية أن تتمنع المرأة وتأبى، وهي هنا غير ممتنعة.
العامل السابع: أنها طلبت وأرادت وراودت وبذلت الجهد فكفته مؤنة الطلب وبذل الرغبة، فهي الراغبة الذليلة وهو العزيز المرغوب فيه، فإن الشاب مثلاً قد تدعوه الشهوة إلى أن يواقع المعصية لكن أمامه عقبة، وعندما يتجرأ فيصرح برغبته ويطلب ذلك فإنه يقابل عقبة قد تكون كبيرة، وقد تكون حائلاً دون مواقعة المعصية، أما الآن فقد زالت هذه العقبة، بل المرأة قد أبدت رغبتها وصرحت وراودته ودعته وتجاوز الأمر إلى قضية التهديد والوعيد له فاجتمع له الترغيب والترهيب كما سيأتي.
فحينئذ حتى ولو كان الشاب ليس لديه رغبة ابتداءً فإن مثل هذا الموقف يثير الرغبة لديه.
العامل الثامن: أنه في دارها وتحت سلطانها وقهرها، بحيث يخشى أذاها إن لم يطاوعها فاجتمع له الرغبة والرهبة.
العامل التاسع: أنه لا يخشى أن تنم عليه لأنها الراغبة، فالمرء قد يترك المعصية لا خوفاً من الله عز وجل إنما يخشى من الفضيحة ويخشى من نتائج المعصية في الدنيا، أما الآن فهو لا يخشى فالمرأة هي الراغبة وهي الداعية، فحينئذ يكون في أمان من أن يفتضح ويشتهر أمره.
العامل العاشر: قربه منها وكونه مملوكاً لها مما يورث طول الأنس.
فهو مملوك يقابلها كل يوم ويلقاها ويخدمها ويدخل عليها في أحوال لا يدخل عليها فيها غيره، بل لا شك أن هذا يدعوه إلى أن يرى منها ما لا يرى منها غيره وهذا يكون أدعى إلى أن تثور لديه الرغبة، بخلاف من يلتقي بفتاة لأول مرة أو يرى صورة عارية لأول مرة.
العامل الحادي عشر: استعانتها بأئمة المكر والاحتيال وهن النساء، فإن النساء عندما كدنها: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا} [يوسف:30 - 31] فهي هنا استعانت عليه بالنساء وهن أئمة المكر والاحتيال، بل منهم من قال: إن كيد المرأة قد فاق(2/3)
وقفة مع ما ذكر في القرآن من هم يوسف بامرأة العزيز
هناك وقفات حول القصة: وهي قضايا تحتاج إلى أن نوضحها ونقف حول ما ذكره المفسرون في هذه القصة ثم نعود بعد ذلك إلى قوارب النجاة والأمور التي استمسك بها يوسف عليه السلام فنجا.
أولاً: يقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24] فهنا ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه أن يوسف هم بالمرأة.
أما كونها همت به فهذه قضية واضحة لا إشكال فيها، ولكن الإشكال هنا أن يوسف عليه السلام هم بالمرأة، فما معنى الهم هنا؟ أقوال المفسرين كثيرة حول هذه القضية نشير إليها بإيجاز، ثم نختار بعد ما يظهر أنه يليق بمقام أنبياء الله.
هناك مقدمة لا بد منها، وهي: أننا نعتقد نزاهة أنبياء الله ونزاهة يوسف عليه السلام، ويوسف ما عرضه الله سبحانه وتعالى في هذه القصة؛ إلا أنه نموذج ومثل يحتذى، ولا ينبغي أن ننساق وراء الأقوال التي يذكرها بعض المفسرين والتي كثير منها منقول عن بني إسرائيل، وفيها أحياناً اتهام ليوسف، وفيها كما قال سيد قطب رحمه الله تصوير لا يليق بنبي الله عز وجل يوسف وقد أسرف بعض من تحدث في هذه القصة وأطال في ذكر الإسرائيليات أحياناً لا تليق بمقام أنبياء الله: ومن ذلك ما يذكره بعضهم أن أحدهم دعته أعرابية فامتنع فرأى يوسف في المنام فقال: من أنت؟ فقال: أنا يوسف الذي هممت وأنت لم تهم، فكأن مثل هذا يجعل نفسه أفضل وأعلى من منزلة يوسف عليه السلام، ومن أجمل ما قيل فيها ما قاله شيخ الإسلام، قال: هب أن يوسف قال هذا الكلام في اليقظة فإنه يقوله تواضعاً كما يقول المرء: فلان خير مني، ويقول: أنا ظالم لنفسي وأنا مقصر، ولكن مهما كان لا يمكن أبداً يكون مثل يوسف عليه السلام.
المهم: أننا عندما نقرأ في التفسير سواء حول هذه القصة أو غيرها يجب أن لا ننساق وراء بعض الإسرائيليات أو الروايات، وعلينا أن نقرأ مثل هذه الأمور ونتعامل معها بروح التقدير واعتقاد العفة والمنزلة العالية لأنبياء الله عليهم صلوات الله وسلامه.
هنا قيلت أقوال كثيرة منها: أنه هم بهذه السيئة ولم يعملها حين حدثته نفسه لكنه لم يعمل ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من هم بسيئة فلم يعملها كتبت حسنة كاملة) وقالوا: فالهم هنا مثل الصائم يرى الماء البارد فهو يحدث نفسه أن يشرب الماء البارد لكنه لا يقدم على ذلك؛ مخافة من الله سبحانه وتعالى، وقالوا: فهذه حسنة يثاب عليها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب السيئات والحسنات فمن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة كاملة).
ويقول شيخ الإسلام: إن الله عز وجل لم يذكر عن أي نبي من أنبيائه أنه وقع في معصية إلا وذكر أنه تاب منها واستغفر منها فهو هنا لم يذكر أن يوسف تاب واستغفر، وهذا دليل على أنه لم يقع منه أي معصية.
القول الثاني: قالوا: أنه هم بضربها.
القول الثالث: أنه حدث نفسه أن تكون زوجة له، فإنه لما رأى جمالها ومنصبها قال: ماذا لو كانت هذه زوجة لي.
الذي يقول هذه الأقوال يعتقد أن يوسف عليه السلام بعيد عن كل هذه الأمور ويحاول أن يدافع عنه وينزهه، فيحاول أن يجد مخرجاً يلجأ إليه.
وهناك قول آخر ذكره أبو حيان واختاره الشنقيطي في أضواء البيان وأطال في استظهار هذا القول، قال: إن يوسف لم يقع منه الهم أصلاً؛ لأن الله عز وجل قال: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24] و (لولا): حرف امتناع لوجود، فهو هنا قد امتنع منه الهم؛ نظراً لأنه رأى برهان ربه، وكأن الكلام فيه تقديم وتأخير فيكون: ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها، مثل قول الله عز وجل: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} [القصص:10] فهي لم تبد به أصلاً لأن الله ربط على قلبها، فحينئذ يقول: إن يوسف لم يهم أصلاً لأنه رأى برهان ربه، وهو قول له وجاهته كما ذكر أبو حيان وكما ذكر الشنقيطي ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى أضواء البيان.
وفعلاً: عندما تتأمل في هذا القول تجده قوياً ووجيهاً فهو نظير قول الله عز وجل: {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} [القصص:10]، فهي لم تبد به أصلاً؛ لأن الله قد ربط على قلبها وحينئذ يكون يوسف عليه السلام لم يهم؛ لأن قد رأى برهان ربه.
ولو لم يصح هذا القول فإن القول الآخر الذي لا ينبغي خلافه هو أن يوسف عليه السلام حدثته نفسه كما تحدث نفس الإنسان في أي معصية لكنه لم يفعل شيئاً.
أما ما يذكرونه من أنه قعد منها مقعد الرجل من امرأته ثم رأى صورة يعقوب ثم أقدم، ثم رأى كفه ثم أقدم، حتى دفعه جبريل بيده كما قال سيد رحمه الله، قال: يخيل يوسف قد بلغ منه الشهوة والاندفاع لحد أنه لا يمتنع حتى يدفعه جبريل عليه السلام، هذه قضية أب(2/4)
معنى البرهان الذي رآه يوسف عليه السلام
الوقفة الثانية: ما المقصود ببرهان ربه: {لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24]؟ ذكر المفسرون أقوالاً كثيرة منها: أنه رأى صورة يعقوب عاضاً على أنامله.
منها: أنه رأى كف يعقوب.
منها: أنه رأى آية: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32]، ومنهم من قال: إنه رآها مكتوبة على جبهتها وقيل: رآها مكتوبة على الحائط وقيل: إنه خرجت له كف مكتوب فيها: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى) ثم لم يمتنع، ثم خرجت له كف مكتوب فيها: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281] ولم يمتنع حتى جاء جبريل ودفعه، وهذا كما قلنا لا يليق أبداً بحال يوسف عليه السلام.
منهم من قال: إن جبريل دفعه بيده حتى هرب بعد ذلك.
ومنهم من قال: إنه كان هناك صنم في الغرفة فجاءت تغطيه، فقال: لماذا؟ قالت: أستحي من إلهي، قال: وأنا أحق أن أستحي.
على كل حال: كل هذه الأقوال ليس عليها دليل صحيح، وكلها مرويات عن بني إسرائيل، وليس لنا حاجة أن نعرف ما هذا البرهان ولو كان فيه حاجة لأخبرنا الله سبحانه وتعالى، فالله عز وجل أبهمه: {لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24].
وإنما ذكرناها؛ لأني أعرف أن هناك من يتساءل عنه، وهي قضايا كثيرة أحياناً يوقف عندها، {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} [يس:13] من هم أصحاب القرية؟ في قصة أصحاب الكهف مثلاً {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:22] ما لون الكلب وما اسمه ومن فلان؟ هذه أمور أبهمها الله عز وجل فلا حاجة ولا مصلحة إلى أن نفتش عنها، ومهما ذكرها المفسرون، بل يجب أن نتعامل مع مثل هذه الآيات ومع مثل هذه القصص كما ذكرها الله في كتابه، فنقول: رأى يوسف عليه السلام برهان ربه، وهذا البرهان لا يعنينا بقليل ولا بكثير، المهم أن الله وفقه وأعانه فرأى هذا البرهان.
يقول ابن جرير رحمه الله: وجائز أن تكون تلك الآية صورة يعقوب، وجائز أن تكون صورة الملك، وجائز أن يكون الوعيد في الآيات التي ذكرها الله في القرآن على الزنا، ولا حجة للعذر قاطعة بأي ذلك، والصواب أن يقال في ذلك ما قاله الله تبارك وتعالى والإيمان به وترك ما عدا ذلك إلى عالمه.
يعني: الصواب أن نقول: إن يوسف رأى برهان ربه، أما ما يروى عن بني إسرائيل فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصدقوهم ولا تكذبوهم).
قضية أخرى: قال الله عز وجل: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} [يوسف:26].
نفس الكلام نقوله في الشاهد، ومن هنا: فأرى أنه ليس هنا حاجة للاستطراد في قضية الشاهد، وما قاله المفسرون هنا حول الشاهد حتى نتربى ونتعود على هذا المنهج، فهذا أمر أبهمه الله، ولم يذكر: هل هو رضيع هل هو رجل كبير هل هو القميص والمهم: أن الله وفقه ومنَّ عليه فرأى برهان ربه فأعانه الله سبحانه وتعالى وحفظه فرأى هذا الشاهد فحماه الله سبحانه وتعالى.
القضية الرابعة: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23]، ما المقصود هنا بقوله: (إِنَّهُ رَبِّي)؟ الأظهر أن قوله: (إِنَّهُ رَبِّي) يعني: العزيز، يعني: سيده، وهذا أمر كان مستعملاً عندهم فقد قال: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ} [يوسف:50] {أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} [يوسف:41] {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف:42] كل هذه مقصود بها: العزيز.
إذاً: فقوله: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23] أي: إن العزيز قد أحسن مثواي وأكرمني فلا يليق أن أخونه في أهله، لكن لماذا قال يوسف عليه السلام لما دعته إلى نفسها: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23] فاعتذر بهذا العذر، فلماذا لم يخوفها بالله، والمانع الحقيقي الذي منع يوسف عليه السلام هو الخوف من الله؟ قال شيخ الإسلام وغيره: إن المرأة هنا امرأة مستحكمة الشهوة لا تخاف الله عز وجل، فلو خوفها بالله لم ترتدع لكنه هو يريد أن يصرفها عن نفسه بأي وسيلة، فأراد أن يخوفها بزوجها فقال: إن هذا الزوج هو ربي وسيدي وأحسن مثواي وأكرمني فلا يليق بي أن أخونه في أهله، كان يظن يوسف عليه السلام أن زوجها يملك قدراً من الغيرة أو عنده بقية من الغيرة فحينئذ المرأة قد لا تخاف من الله عز وجل لكن عندما يخوفها بزوجها حينما يعلم عنها قد ترتدع.
وهذا فيه درس أن الإنسان يصرف الفتنة عنه ولو بما دون ذلك، أي: قد يذكر فلاناً من الناس أو يحدثه أو ينصحه ويعظه بما هو دون ما ينبغي، فهو مثلاً قد لا يرتدع من خوفه من الل(2/5)
ما يدل على براءة يوسف عليه السلام
أخيراً: برأ الله سبحانه وتعالى يوسف هنا، وهنا عدة أمور تدل على براءة يوسف عليه السلام: أولها: تبرئة الله سبحانه وتعالى له، وأعظم بها شاهدة! {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24].
الأمر الثاني: الشاهد، {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:26 - 27] فقد برأه الشاهد هنا.
الأمر الثالث: العزيز نفسه، فإنه لما حصلت القضية قال: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} [يوسف:29] فهذا دليل على أن العزيز يعترف فعلاً ويرى أن يوسف بريء من هذه التهمة.
كذلك المرأة نفسها قالت: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32] وفي الآية الأخرى: {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ} [يوسف:51].
كذلك النسوة: {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف:50] فماذا قال النسوة؟ {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} [يوسف:51].
كذلك هو نفسه عليه السلام تبرأ من هذه التهمة: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي} [يوسف:23].
وأخيراً قالوا: إن الشيطان أيضاً قد شهد ليوسف بالبراءة: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82 - 83] والله سبحانه وتعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24]، فقد حكم الله ليوسف بأنه من المخلصين، والشيطان قد أخبر بأنه ليس له سلطان على هؤلاء المخلصين.(2/6)
قوارب النجاة
بعد ذلك ننتقل إلى نقطة أخرى وهي: قوارب النجاة.
ما هي الأمور التي تمسك بها يوسف عليه السلام فكانت بعد توفيق الله عز وجل سبباً لحمايته ولنجاحه في هذا الابتلاء: أول أمر: الورع والخوف من الله عز وجل: والخوف من الله سبحانه وتعالى هو العاصم بإذن الله عز وجل من الوقوع في أي معصية وأي فاحشة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله - وذكر منهم قال -: ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله).
الإنسان قد تدعوه المغريات قد يأمن عقوبة الدنيا قد تكون هناك أمور كثيرة تدعوه إلى مواقعة المعصية، لكنه عندما يعلم أن الله سبحانه وتعالى مطلع عليه فحينئذ لا يمكن أن يتجرأ على هذه المعصية: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:12] {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:31 - 33].
فإذا أردت النجاة من معاصي الله سبحانه وتعالى صغيرها وكبيرها فرب في نفسك الخوف من الله سبحانه وتعالى، واحرص على تحصيل هذه العبادة، واحرص على أن تملأ قبلك من الخوف من الله سبحانه وتعالى وخشيته، حينئذ هذا أعظم رادع ومانع وحاجز للمرء عن الإقدام على معصية الله سبحانه وتعالى.
الأمر الثاني: توفيق الله وإعانته، فإن الله سبحانه وتعالى قال: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24] فإنه لو لم ير برهان ربه لهم بها.
ويقول الله عز وجل أيضاً في الآية الأخرى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] وتأمل هذا المعنى، فإن الله لم يقل: لنصرفه عن السوء والفحشاء بل قال: لنصرف عنه السوء والفحشاء، فكأن السوء والفحشاء صرفت عنه، وهذا أبلغ، وهو من تمام توفيق الله عز وجل وحفظه له؛ ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك) فحينما يحفظ الله سبحانه وتعالى يحفظه الله عز وجل، وأتم حفظ الله سبحانه وتعالى لهذا العبد أن يحفظه في أمور دينه، وأن يعصمه من الوقوع في المعصية والفحشاء.
الأمر الثالث أيضاً: الفرار من أسباب المعصية، فيوسف عليه السلام خشي الله سبحانه وتعالى وخافه، ورأى برهان ربه، ومع ذلك ما وقف بل فر، {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} [يوسف:25] فرأى أنه مع خوفه من الله ومع خشيته من الله عز وجل، ومع امتناعه لم يبق في هذا المقام، بل رأى أنه لا بد أن يفارق مكان المعصية وأسباب المعصية.
وهذه قضية مهمة في علاج مثل هذا الداء، وهي أن ترك المرء دواعي المعصية، وأن يفعل كما فعل يوسف عليه السلام، حيث وصل به الأمر إلى أن يجري وتجري المرأة وراءه كل يريد أن يدرك الباب قبل صاحبه (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) فلا تثق بنفسك وتقف! بل أغلق على نفسك أبواب المعصية، وهذا من تمام اعتماد المرء على الله سبحانه وتعالى وتمام تخليه عن الحول والطول، وشعوره بأنه لا يمكن أن يستغني عن الله سبحانه وتعالى كما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء: (اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين) فإنك إذا وكلك الله إلى نفسك لا يمكن أبداً أن تنجو.
وكلما ازداد المرء توكلاً على الله سبحانه وتعالى وأخذاً بالأسباب وتفويضاً إليه سبحانه وتعالى كان ذلك أولى أن يحفظه الله سبحانه وتعالى ويعينه.
الأمر الرابع: الدعاء، دعا الله عز وجل فقال: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33]، سأل الله أن يصرف عنه كيدهن، وتبرأ إلى الله من كل حول وطول (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ) فإذا كان يوسف عليه السلام لا يستغني عن توفيق الله وإعانة الله فغيره من باب أولى.
فالدعاء هو سلاح المؤمن، وهو الوسيلة التي يتصل بها المرء بالله سبحانه وتعالى، ومن هنا يخاطب الله عز وجل عباده: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60].
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في حدي(2/7)
دروس من قصة يوسف عليه السلام
أخيراً: ننتقل إلى دروس من قصة يوسف: أولاً: ضرورة البعد عن أسباب المعصية، فيوسف عليه السلام بعد أن نجح واجتاز هذا الابتلاء استبق الباب وأصبح يجري يريد أن يخرج من الباب، فلا بد أن يبتعد الشاب عن أسباب المعصية ودواعي المعصية، وهذه لعلها أن يكون لها حديث إن شاء الله في محاضرة لاحقة.
الأمر الثاني: ضرورة التضحية والتحمل، لا بد أن يتحمل المرء ما يلاقيه في الدعوة إلى الله، أو ما يلاقيه في طاعة الله عز وجل، أو ما يلاقيه في البعد عن المعصية.
فلا بد أن يتحمل ما يعانيه في نفسه من غليان الشهوة والتوقان إليها فيعصم نفسه ويجاهد نفسه ويتحمل، بل يتحمل الأذى الذي قد يصيبه في طاعة الله سبحانه وتعالى وفي ذات الله، وانظروا إلى النتيجة التي صار إليها يوسف عليه السلام: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} [يوسف:21] مكن الله سبحانه وتعالى له بعد ذلك وأثابه الثواب العاجل في الدنيا: {وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يوسف:57].
فنتيجة هذه التضحية ونتيجة هذا التحمل لا شك أنها ستكون بعد توفيق الله سبحانه وتعالى الأجر العظيم والنجاح في مثل هذا الابتلاء، وستكون النتيجة الثمرة العاجلة التي يجدها المرء في الدنيا.
كذلك من الأمور المهمة: مراقبة الله سبحانه وتعالى، وأشرنا إلى ذلك.
أيضاً من الأمور المهمة: دعاء الله سبحانه وتعالى والاستعانة به.
الأمر الخامس: خطورة كثرة الخلطة والخلوة، فالذي دعا امرأة العزيز إلى أن تضحي وأن تتجرأ وتدعو وتُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ هو كثرة مخالطتها ليوسف عليه السلام، ومن هنا فيجب أن يحذر الشاب من كثرة مخالطة من قد تكون مخالطته سبباً للوقوع في المعصية.
فإذا رأى أن مخالطة فلان من الناس مدعاة لأن يقع في المعصية بصورة أو بأخرى فإنه عليه أن يتخفف من لقاءه بفلان من الناس أو على الأقل أن يحرص على أن لا يخلو به.
وهذه مكابرة مع النفس وفعلاً يصل المرء فيها إلى حالة قد لا يوفقه الله ولا يعينه؛ لأنه لم يسلك أسباب التوفيق، فهو يرى مثلاًَ أن مخالطته لفلان من الناس مدعاة لأن يقع في المعصية، ومع ذلك تجده يخالطه بل قد يخلو به ويجلس معه كثيراً ويبدأ يعيش في صراع، الحل: هو أن يتخلى من مثل هذا اللقاء ومن كثرة المخالطة.
الأمر السادس: عدم استغناء العبد عن الله سبحانه وتعالى مهما بلغ من الإيمان والتقوى والطاعة، فالله عز وجل يقول عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74] فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستغني عن الله سبحانه وتعالى ويحتاج إلى تثبيت الله عز وجل فغيره من باب أولى، ومن هنا: فمن أكبر المخاطر على العبد المطيع لله هو غروره وإعجابه بنفسه وتقواه وطاعته، فإنه عندما يعجب بنفسه ويثق بنفسه: أولاً: هذا بحد ذاته ذنب يؤاخذ عليه.
الأمر الثاني: أنه عندما يعجب بنفسه يكله الله إلى نفسه فكأن هذا الإنسان الذي أعجب بنفسه يرى أنه مستغن عن الله وأن الناس الذين يحتاجون أن يدعوا الله ويسألوه الهداية هم أولئك العصاة أولئك الفساق أما هو فقد من الله عليه بالهداية، كما يقول كثير من الناس: أنا الآن الحمد لله عرفت الخير والشر وإنسان ماسك نفسي.
وهي كلمة يقولها كثير من الشباب عندما تتحدث معه فنقول: لا يا أخي! لا عصمة لأحد إلا بعد توفيق الله سبحانه وتعالى، فإذا كان يوسف عليه السلام يحتاج إلى أن يريه الله برهان ربه وأن يصرف عنه السوء والفحشاء، فأنت مهما بلغت من الإيمان والتقوى والطاعة لا يمكن أن تصل إلى منزلة يوسف عليه السلام.
إذاً: فهو عندما يعجب بنفسه فإن الله سبحانه وتعالى يكله إلى نفسه.
الأمر الثالث: أنه عندما يعجب بنفسه لا يأخذ بالأسباب، فالذي يجعل مثلاً الإنسان يسلك أسباب ترك المعصية ويجتنب كل دواعي المعصية ومثيرات المعصية هو أنه يخاف وأنه لا يثق بنفسه ولا يطمئن إليها أقول: فمن نتائج الإعجاب بالنفس أن هذا الذي يعجب بنفسه لا يمكن أن يسلك الأسباب التي تبعده عن المعصية؛ لأنه يرى أنه ليس محتاجاً إلى ذلك وأنه واثق من نفسه وأنه يملك إيماناً يعصمه من مواقعة هذه المعصية.
الأمر الرابع: أن هذا هو سبب أول معصية وقعت وهي معصية الشيطان، فإنه لما أعجب بنفسه أضله الله سبحانه وتعالى إلى يوم الدين.
ومن هنا فيجب -أيها الإخوة- أن لا نثق بأنفسنا في هذه القضية وأن نتهم أنفسنا وأن نخشى من الله سبحانه وتعالى ونكون على وجل دائماً حتى يرى المرء اليقين، ولا يمكن أبداً أن يستغني المرء عن رحمة الله عز وجل وعن توفيقه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).(2/8)
الأسئلة(2/9)
الاهتمام بالمرأة في الدعوة إلى الله
السؤال
هل تتفق معي بأن المرأة المسلمة عموماً والفتاة خصوصاً مظلومة عند دعاتنا عامة، وأنت خاصة، فالمواضيع التي تخصها قليلة، وللأسف أنها متروكة للمفسدين؟
الجواب
أولاً: يعني: من الخطأ أن نطلب من إنسان كل شيء، فهذا إنسان مثلاً مطلوب منه أن يلقي محاضرات، وأن يلقي دروساً علمية، وأن يتحدث عن قضايا النساء، وأن يزور السجون ويعظ المسجونين، وأن يفعل كل شيء، ويتخيل الناس أن هذا الإنسان هو القادر على كل شيء، فإنسان وفقه الله وفتح عليه مجالاً يستطيع أن يسده فينبغي له أن يسد هذا الباب ولا يشغل نفسه بغيره، فأنا مثلاً عندي قناعة أنه ينبغي أن يكون هناك قدر من التخصص فيختص إنسان بطرق موضوعات الشباب ويتواصل معه الناس في ذلك شخص آخر يعتني بموضوعات حول الواقع ومشاكل الأمة الإسلامية شخص آخر يعتني بموضوعات المرأة وهكذا، والإنسان مهما بلغ من الطاقة والقدرة لا يمكن أن يفي بمثل هذه الطلبات، وكم أحياناً نحرج من كثير من الإخوة الذين يطلبون محاضراً ولا يستطيع الإنسان أن يلبي، فمن الخطأ أن نبدأ نحيل هذه الأشياء على الآخرين.
الأمر الثاني: في النية أن أطرح موضوعاً يخص المرأة على غرار رسالة إلى شاب، ولكن نظراً لبعدي عن عالم المرأة وجو المرأة فإني احتاج إلى مزيد المواصلة حول هذا الموضوع؛ ولهذا فأنا أطلب من الإخوة ممن له زوجة أو أخت عندها معرفة بواقع النساء أن تعطينا ما تقترح من موضوعات أو من أفكار حول هذا الموضوع، نريد أن نوجه رسالة إلى فتاة غير ملتزمة على غرار الرسالة التي وجهناها: رسالة إلى شاب، وبمشيئة الله لعل هذا أن يكون قريباً.
ومن هنا فأنا أؤكد على الإخوة أن يواصلوني بما لديهم من ذلك وليكن عاجلاً، الإنسان لا يمكن أن يقوم لوحده، فلا بد من التعاون.(2/10)
دور الدعاة عملياً في مساعدة الشباب على العفة
السؤال
جميل جداً التحدث في هذه المواضيع من قبل الدعاة، ولكن عملياً ماذا فعل دعاة الأمة في مساعدة شبابنا على العفة، أظن الإجابة ستكون: لا شيء! فالمجلات الخليعة في زيادة والأفلام كذلك، هل تتفق معي أن دور الدعاة عملياً لا شيء في هذا الموضوع؟
الجواب
لا والله لا أتفق معك إطلاقاً، هذا العدد الموجود وغيره من أين جاءوا؟ يعني: نحن صراحة عندما نتحدث عن واقع لا نفرط في التشاؤم، وماذا تريد من الدعاة أن يصنعوا، فالأمر ليس بأيديهم، الأمر بيد غيرهم، لا شك أن أقول: المجلات الخليعة والأفلام تنتشر ونحتاج على الأقل أن يفرض جزء من الرقابة المفروضة على التسجيلات الإسلامية فتوجه إلى الأفلام والمجلات الساقطة، وإن شاء الله في المستقبل لدي موضوع عن الأفلام سأعرض فيه نماذج وترون ما تقوم به هذه من أدوار سيئة، لكن ماذا تريد من الدعاة أن يصنعوا؟ لا نصنع إلا هذا الشيء، وعلى كل حال لا ينبغي أن نتهم الدعاة وحدهم، أنا أقول لك: أنت ماذا صنعت؟ فالداعية يلقي محاضرة يخطب يعطي الناس برامج إلى غير ذلك؛ لكن أنتم ماذا صنعتم؟ أنا الآن أطرح هذا الرأي فأقول: الآن الأفلام والمجلات الخليعة موجودة، فلماذا لا يتفق الآن الشباب في هذا الحي أو غيره أن يرتبوا لأنفسهم برنامجاً فيزوروا كل المحلات سواء محلات الفيديو أو محلات التموينات وينصحوا أصحاب المحلات، الآن ابدأها أنت، قابل صاحب المحل وانصحه وقل له: اتق الله، فإذا جاء الأول والثاني والثالث والرابع لا بد أن يستحي ولا بد أن يستفيد.
بعض الإخوة ذكروا لي أنهم في مدينة الطائف أخذوا مجموعة من الأشرطة حول الربا وكتيباً ووزعوه على جميع الموظفين في البنوك، ويقول إنه في فرع واحد فقط من هذه البنوك انسحب ثمانية وتركوا العمل في هذا البنك، فالناس عندهم خير وعندهم استعداد.
فأنا أقول: من الأشياء التي نستطيع أن نصنعها نحن أن نأتي إلى هذه المحلات ونزور أصحابها ونقول لهم كلمات يسيرة، وإن شاء الله في الدرس القادم أريد أن أقرأ بعض النتائج التي حققها الإخوة فتأتينا رسائل تقول: لقد نصحنا صاحب محل فيديو وحصل كذا وكذا، وأنا أقول هذا الأمر وأنا على أمل عظيم، فلا تيأسوا يا إخوان، وخصصوا جزءاً من وقتكم لمثل هذه الأمور، وسترون النتائج إن شاء الله مثمرة.(2/11)
تعلق القلب بمعصية وصاحبه قدوة
السؤال
يتعلق القلب أحياناً بمعصية ما وهو يعرف ضررها، بل كثيراً ما يزدري نفسه بسبب تعلقها، وهو مما يظن أنه قدوة لغيره، فما رأيكم في ذلك؟
الجواب
إذا وقع الإنسان في معصية فذلك لا يعني أنه يحجزه عن دعوة الآخرين، بل وقوعك في المعصية لا يعفيك من المسئولية ولا من المشاركة في الدعوة، وهب أنك تقع في أي معصية فهل تتصور أن الآخرين لا يذنبون هل تتصور أن الناس لا يقعون في الذنوب؟ أنا الآن الذي تطلب مني الإجابة على هذا السؤال هل تتصور أنني معصوم؟ بل أنا أعتقد أنك خير مني وأتقى لله مني، وما من عمل أشعر أن لي أملاً فيه إلا دعوة صالحة تدعو لي بها أنت أو غيرك من هؤلاء الشباب الذين يحضرون مثل هذه اللقاءات، وأجزم أن أكثر هؤلاء أتقى وأورع لله سبحانه وتعالى مني، ولو كنت أفكر بهذا المنطق والله لم أقل كلمة واحدة، ولكن أهم شيء أن يقول الإنسان الكلمة وهو صادق من قلبه.
وهب أنك تقع في معصية وتنهى الناس عنها فما الشأن في ذلك؟ هل وقوعك في المعصية يعني ألا تنهى الناس عنها؟! هذا فهم مغلوط لقول الله عز وجل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:44] أو الحديث الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أجبنا عن هذه القضية بالتفصيل في محاضرة سابقة بعنوان: فن التهرب من المسئولية.(2/12)
مجاهدة النفس على ترك العادة السرية
السؤال
إني شاب أجلس مع ملتزمين وأحب الجلوس معهم، ولكن يوجد علي بعض الأخطاء مثل فعل العادة السرية، وإني حاولت أن أتركها ولم أستطع، فبماذا توجهني؟
الجواب
الحديث عنها يطول، لكن لا تترك الشباب الملتزمين ولا تترك الخير ولو وقعت فيها، فجاهد نفسك، وهي معصية تحتاج إلى مجاهدة شأنها شأن بقية المعاصي.(2/13)
هم سيدنا يوسف قبل النبوة أو بعدها
السؤال
إذا كان الهم من يوسف عليه السلام فقد يكون ذلك كما يحدث الإنسان نفسه بالمعصية ولكن الله عصمه وحفظه من المعصية، فيوسف عليه السلام لم يكن قد أرسل بعد؛ لأن سنه لم يبلغ الأربعين سنة، فما رأيكم في هذا الكلام حفظكم الله؟
الجواب
سواء كان قد أرسل أو لم يرسل فذلك لا يقدم ولا يؤخر كثيراً، وهناك من قال إنه كان قد نبئ وهناك من قال إنه لم ينبأ؛ لكن أظن أن القضية لا تقدم ولا تؤخر، المهم: أن هذه قدوة عرضها الله لنا ينبغي أن نتأسى بها.(2/14)
التذرع للمعصية بأن يوسف عصم منها لنبوته ونحن لا نملك العصمة
السؤال
ما رأيكم فيمن يقول: إن يوسف عليه السلام هو نبي من أنبياء الله، والله سبحانه وتعالى أعطاه من المزايا ما تميزه عن غيره من الناس، والله سبحانه وتعالى عصمه عن فاحشة الزنا، فكيف إذا كان هو كذلك ونحن البشر غير الأنبياء لا نملك تلك المزايا التي تميز الأنبياء عن غيرهم؟
الجواب
أنت تملك قدرة، فالله سبحانه وتعالى ما أمرك إلا بما تستطيع فعله ولا نهاك إلا عما تستطيع تركه، فليس صحيحاً أبداً الاحتجاج بما ذكر في السؤال.(2/15)
كيفية تربية الخوف من الله في النفس
السؤال
لقد ذكرت من قوارب النجاة تربية الخوف من الله في نفس الإنسان، فكيف أربي هذا الخوف وأزيد هذا الخوف إذا نقص؟
الجواب
معرفة أسماء الله وصفاته تلاوة كتاب الله عز وجل الإكثار من العبادة التفكر في مخلوقات الله سبحانه وتعالى التفكر في الجنة والنار كل هذه الأمور مما تربي الخوف من الله سبحانه وتعالى، ومن أعظمها تلاوة كتاب الله عز وجل بتدبر وتمعن.(2/16)
رسالة تحث الآباء على تزويج أبنائهم
السؤال
هل من رسالة توجهها إلى الآباء حيث إن بعض الآباء لا يراقب أبناءه مراقبة جادة، فبذلك لا يحس بمعاناة أبنائه تجاه الزواج فيسارع بتزويجهم؛ وذلك لأنه متزوج ومحصن لنفسه، وكذلك بعض الشباب يخجل من مخاطبة أبيه في ذلك.
الجواب
أولاً: كثير من الآباء عاشوا في عصر يختلف عن العصر الذي يعيشه الشباب الآن، عاشوا في عصر محافظ عصر لم تكن المغريات فيه والمثيرات كما هو في هذا العصر.
الأمر الثاني: أن الأب قد اجتاز هذه المرحلة التي يعيش فيها الشاب معاناته، فيقيس الناس على نفسه؛ ولذلك تجد أكثر الآباء يعيشون في عالم آخر غير عالم الأبناء.
واسمحوا لي أن أذكر لكم ظاهرة تتكرر كثيراً: يكون الأب متزوجاً ويأتي ليتزوج زوجة ثانية، وابنه يرغب بالزواج ومع ذلك لا يزوجه ويحتج بأنه لا يجد المال.
أنا لست ضد تعدد الزوجات بل أدعو وأحث على ذلك ومن كان عنده قدرة فينبغي له أن يبادر، فهذا قدوتنا النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك؛ ولكن أظن أن الابن على الأقل أولى وأنت قادر أن تتزوج وأن تزوج ابنك؛ لكن تجده يصرف على الزوجة الثانية خاصة مبالغ طائلة، ويستأجر له مسكناً جديداً ويؤثثه وابنه بغير زواج، وعندما تذكر له ذلك يقول: لا أجد.
أحياناً يشتري لابنه سيارة فارهة بثمن باهظ والابن قد لا يحتاج إليها، ويمكن أن يأخذ سيارة متواضعة إلى أن يمن الله عز وجل عليه وييسر له مورداً بعد ذلك، فحاجة الابن إلى الزواج أعظم من حاجته إلى السيارة كلها فضلاً عن تلك السيارة الفارهة.
فلا شك أنني أحث الآباء على أن يحرصوا أن يزوجوا أبناءهم وأن يتقوا الله، فهذا من مسئولية الأب على ابنه وحتى لو لم يطلب الابن فالمفروض من الأب أو من الأم أن تفاتح ابنها في ذلك وتدعوه إلى ذلك، فإن الابن قد يستحي كما ذكر الأخ السائل.(2/17)
دور المدرسين في دعوة الشباب إلى الله
السؤال
إن المدرسين لهم دور في هداية الشباب المنحرف؛ لكن لا نرى ذلك في المدرسين وخاصة الملتزمين.
الجواب
لا شك أن هنا تقصيراً واضحاً حول هذا الأمر -وأتهم نفسي أولاً- فالأستاذ له دور كبير في توجيه الطلاب، ومن هنا أخاطب إخواني وزملائي أن يتقوا الله سبحانه وتعالى في هؤلاء الطلاب الذين هم أمانة بين أيديهم، وأن يعرف المدرس أن هذا الطالب يعاني من دواعي ومثيرات الفتنة التي قد تكون في بيته، ويعيش جحيم الشهوات، فينبغي أن يكون خير معين له على الثبات، ويحرص على توجيه الطلاب وهدايتهم فلعل الله سبحان وتعالى أن يمن عليه فيهدي الله عز وجل على يديه واحداً من هؤلاء، ولو تكاتف الإخوة الأساتذة الأخيار واجتهدوا فعلاً ووجهوا جهودهم في توجيه الشباب وعنايتهم لحصل من ذلك خير كثير.
ولا شك أننا أيضاً لا نظلمهم ولا نبخسهم حقهم، فالكثير الآن مما نراه من هؤلاء الشباب الأخيار الكثير هم من جهود أمثال هؤلاء ولكني أقول: إن دور الأستاذ ومسئوليته مسئولية عظيمة وأمانة في عنقه تتخرج من أمامه أجيال وللأسف يأتي الطالب أمام الأستاذ قد يدرس عنده سنة كاملة أو سنتين أو حتى ثلاث سنوات ومع ذلك لم يسمع منه إلا الحديث عن الفاعل والمفعول والحال والتمييز، أو لم يسمع عنه إلا الحديث عن الدوال والمتباينات وغيرها، حتى أحياناً أستاذ المواد الشرعية قد لا يسمع منه إلا حديثاً عن أحكام وقضايا مجردة، أما أن يخاطب الشاب بواقعه أن يخاطب الشباب بمشكلاته أن يشعر هذا الطالب أن أستاذه حريص عليه أن يشعر هذا الطالب أن أستاذه يعيش مشكلاته فهذا قليل.
ومهما كان الأستاذ، سواء أستاذ مادة شرعية أستاذ لغة عربية حتى مدرس التربية الرياضية فما دام أستاذاً يتعامل مع الطلاب فعليه مسئولية، وهي فرصة أن ييسر الله للأستاذ مثل هذه النعمة أنه يعمل ويأخذ مكافأة أعلى من غيره ويلتقي بهؤلاء الطلاب ويقول لهم ما يريد، ويثقون به ويقدرونه ويتلقون منه، فهي والله فرصة أن يمن الله على الأستاذ بهذه النعمة، ونعمة ينبغي له أن يشكرها، ومن تمام شكر الله على هذه النعمة أن يستعملها في طاعة الله عز وجل، وقد يحال بينه وبين اللقاء بأمثال هؤلاء الشباب، فحينئذ يتمنى أن يلتقي بهم، فأنا أنقل هذه الرسالة بدوري إلى إخواننا.(2/18)
ما يعتقد العامة في خطوط اليد
السؤال
هل الخطوط التي في أيدينا الآن هن من أثر النساء اللاتي قطعن أيديهن، أرجو الإجابة؟
الجواب
مشهور عند العامة أن الخطوط التي في اليد حدثت عندما قطعت النساء أيديهن، لكن هذه ليس لها أصل فلستم كلكم من نسل هذه النسوة، ومثل هذه المسائل لا ينبغي أن ننشغل بها، سواء هذه من أثر النساء أو لم تكن فهي قضية لا تقدم ولا تؤخر.(2/19)
دور الشاب المسلم تجاه قضية التلفاز
السؤال
في هذا العالم وهذا العصر عصر الفتن والمزالق ما دور الشباب المسلم في بيوتهم وقضية التلفاز الذي اجتاز البيوت وانتشر في هذا البلد انتشاراً عظيماً، يدل هذا الانتشار على أشياء خطيرة، أرجو توضيح دور الشاب المسلم؟
الجواب
هو دور الشاب والأب وكل إنسان أن يخرج هذا الجهاز من بيته، وتستغرب فعلاً من المنطق الذي يحتج به الآباء لبقاء هذا الجهاز، يعني: شاب عنده شهوة وعنده غريزة بمجرد أن يرى صورة المرأة تثيره، فكيف وهو يرى صورة وتتحسن وتتجمل ثم تتكسر في كلامها وتتحدث عن الحب والغرام إلى غير ذلك من الأمور المخزية التي تعلم منها شبابنا وفتياتنا العلاقات بين الجنسين وتعلموا منها الحب وتعلموا منها أموراً كثيرة كانت من نتائج هذا كله، وما يدري الأب ما يعاني أبناؤه وبناته من جراء مشاهدة مثل هذا الجهاز.
فأنا أقول للآباء أولاً: لا يجوز لهم ولا ينبغي بحال أن يبقوا مثل هذه الوسائل ويتحملوا وزر أبنائهم ووزر بناتهم وكذلك الشباب أن يحاولوا بكل وسيلة أن يقنعوا آبائهم في زوال مثل هذا الجهاز.(2/20)
كيف تحافظ المرأة على عفتها
السؤال
كيف تحافظ المرأة على عفتها؟
الجواب
على كل حال كل ما يقال للرجل يقال للمرأة، النساء شقائق الرجال، فكل ما يخاطب به الرجل تخاطب به المرأة لكن كما هو في الكتاب والسنة يخاطب الرجال غالباً والنساء يدخلن تبعاً في ذلك.(2/21)
توجيه النساء بالتقوى
السؤال
هل من كلمة توجيهية للنساء وخصوصاً ونحن بصدد قصة يوسف وامرأة العزيز التي فسخت برقع الحياء وأخذت تجري خلف يوسف عليه السلام، خصوصاً ونحن في هذه الأيام نواجه صنفاً من النساء يماثل امرأة العزيز في تصرفها، سواء بالمكالمات في الهاتف أو التسكع في الأسواق والشوارع؟
الجواب
وصيتنا للنساء هي وصيتنا للرجال، وهي وصيتنا لكل مسلم أن يتقي الله سبحانه وتعالى، ويجتنب هذه الأمور، وأن نتعاون جميعاً على علاج مثل هذه الظواهر والمشاكل، وإن شاء الله لعله أن يكون هناك حديث خاص في المحاضرة التي وعدت إن شاء الله أن أتحدث عنها حديثاً خاصاً للنساء حول ذلك.
إن شاء الله سيكون اللقاء القادم، أو المحاضرة القادمة في يوم الأحد الموافق للخامس من الشهر السادس بمشيئة الله، وستكون كما قلنا بعنوان: حتى نستفيد من خطبة الجمعة.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم لطاعته، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(2/22)
كلانا على الخير
جبل الله النفوس على الطباع المختلفة والميول المتفاوتة، وعلى هذا فكل نفس تميل إلى عمل وترغب في شيء قد لا يرغب فيه الآخرون، فإذا كان الإنسان على باب من أبواب الخير فلا يحق له تحقير غيره من الأبواب ولا العاملين فيه، لأن الدعوة إلى الله تحتاج إلى التكامل.(3/1)
جميع أعمال الخير وخدمة الدين مطلوبة
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: فهذه المحاضرة هي امتداد للدروس التربوية التي كانت تلقى أثناء العام الدراسي، وقد وعدت أن أستأنف هذه الدروس خلال الإجازة وتكون مفرقة على المراكز الصيفية داخل الرياض وخارجها، وبمشيئة الله سبحانه وتعالى مع بداية العام الدراسي تعود هذه الدروس إلى مكانها وزمانها.
وهذا هو الدرس الثامن وهو بعنوان: كلانا على خير، وقد اعتدت وأنا أحرص قدر الإمكان على أن يكون العنوان واضحاً، وتكون له دلالة واضحة على المضمون، حتى يعرف من يقرأ إعلان المحاضرة أو من يقرأ عنوان الشريط مضمون ما فيه، لكن هذه المحاضرة قد نحتاج إلى أن نقف وقفة يسيرة حتى نحدد موضوعها.
وهذا العنوان عبارة قالها الإمام مالك رحمه الله تعالى، فقد كتب إليه أحد العُبّاد يُنكر عليه اشتغاله بالعلم ويدعوه إلى التفرغ للعبادة، فكتب له مالك رحمه الله: إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرُب رجل فُتح له في الصلاة ولم يُفتح له في الصوم، وآخر فُتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فُتح له في الجهاد، فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فُتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر.
فالإمام مالك يقول لصاحبه: إن الأعمال تتفاوت، والله سبحانه وتعالى قسم الأعمال بين الناس، فرُب رجل فُتح له في باب ولم يُفتح له في آخر، وإن كنت أنا على طريق وأنت على طريق آخر فكلانا على خير وبر، فكل هذه الطرق تؤدي إلى المقصود والمطلوب، وحين نلقي نظرة عجلى وسريعة على الجهود المبذولة لإحياء الأمة وإيقاظ الأمة نجد أن هناك أساليب متنوعة وطرقاً شتى فتجد من عُني بالعلم وأخذ على عاتقه إزالة غشاوة هذا الجهل المتفشي في الأمة، فسلك سبيل العلم تعلماً وتعليماً ودعوة إليه، ورأى أن إيقاظ الأمة إنما يكون من خلال هذا الباب.
والثاني رأى أن هذه الأمة إنما كانت خير أمة أخرجت للناس؛ لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فسخّر وقته وجهده لإنكار المنكرات الظاهرة والعامة والخاصة فاستغرق عليه ذلك جهده ووقته، ورأى أن هذا هو الطريق الذي ينبغي أن يُسلك لإنقاذ الأمة، وأنه بمثل هذا العمل يدفع الله عز وجل العذاب عن الناس.
وثالث قد تألم لحال وواقع من استهواهم الشيطان فوقعوا في الانحراف والرذيلة، فسخّر وقته وجهده لدعوة هؤلاء وإنقاذهم من خلال وسائل وطرق وأساليب شتى، فكل وقته وجهده مسخّر لأولئك الذين ضلوا عن صراط الله وسلكوا سبيل الانحراف والغواية.
ورابع قد رق قلبه للأكباد الجائعة، والبطون الخاوية، فصار ينفق من نفيس ماله، ويجمع الأموال من فلان وفلان فينفقها في أوجه الخير على الأرامل والمحتاجين، ولنشر الدعوة والجهاد، إلى غير ذلك من أبواب الإنفاق، فهذا شأنه وهذا ديدنه.
والخامس قد استهوته حياة الجهاد، فحمل روحه على كفه، وامتطى صهوة جواده، فهو كما قال صلى الله عليه وسلم: (كلما سمع هيعة لبى وطار) فيوماً تراه في المشرق، ويوماً تراه في المغرب، ويوماً تراه هنا وهناك يسعى للجهاد في سبيل الله، وأصبح لا يطرب أذنه ولا يشنفها إلا أزيز الرصاص وصوت السلاح، ورأى أن هذه الأمة أمة جهاد، وأن الجهاد هو السبيل لرفع الذل عن هذه الأمة.
والسادس رأى أن هذا الدين دين الناس جميعاً فسخّر جهده لدعوة غير المسلمين.
والسابع سخّر قلمه لخوض المعارك الفكرية دفاعاً عن الإسلام، ومصاولة لأعدائه، والمتحدثين زوراً باسمه، كتابة وخطابة وتأليفاً فصار يتحدث عن مشكلات الأمة، وعن قضاياها، وقد لزم هذا الثغر يواجه به أعداء الله سبحانه وتعالى.
وآخر هؤلاء من رأى أن الأمة عدتها وأملها إنما هو في شبابها وجيلها الناشئ، فسخّر وقته لتربية الشباب، وإعدادها وتنشئتهم على طاعة الله سبحانه وتعالى، ورأى أن هذا الطريق هو الذي يخرج العاملين والمجاهدين وينقذ الأمة، وهكذا ترى أبواباً من الخير، وألواناً من الخدمة لهذا الدين والدعوة له، أبواب واسعة تسع الجميع على اختلاف طاقاتهم وعقولهم وعلومهم ومداركهم وأفهامهم، فنتساءل هنا: هل نضيق ذرعاً بهذه الاجتهادات؟ أم هل نرى أن هذا من الخلاف والتنافر والخلل؟ أم أن نبحث عن طريق واحد لأن الحق لا يتعدد، وصراط الله المستقيم إنما هو واحد، والسبيل لإنقاذ الأمة سبيل واحدة واضحة! أو أن هناك منطقاً آخر من التفكير ينبغي أن نفكّر فيه هو أن هذه الجهود كلها مطلوبة، وهذه الجهود لا بد من القيام بها، فلا بد أن يقوم فلان بهذا العمل، والآخر بذاك، والثالث بالعمل الآخر، وهكذا لا بد أن ندخل جميعاً من أبواب متفرقة، ولا بد أن نسد جميعاً هذه الثغور وأن نقف على هذه الفصول، قد نستعجل فنحكم بهذه النتيجة فنقول: إن هذا هو ما ينبغي أن(3/2)
الأدلة والمبررات لقبول اختلاف الاجتهادات فيما يقدمه المرء للإسلام من الخدمات
إذاً اتفقنا نحن على أن المطلوب هو أن نقبل هذه الاجتهادات جميعاً، وأن تقوم هذه الجهود جميعاً وتتضافر، وأن يكون لسان كل واحد من العاملين لهذا الدين على أي ثغر من هذه الثغور ما قال الإمام مالك رحمه الله: كلانا على خير وبر.
للأمور الآتية:(3/3)
قول الله (وما كان المؤمنون لينفروا كافة)
أولاً: يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122].
في هذه الآية يخبر الله سبحانه وتعالى أنه لا ينبغي للمؤمنين أن يخرجوا جميعاً إلى الجهاد، بل لا بد أن ينفر من كل طائفة، ومن كل قوم، ومن كل قبيلة فئة يتفرغون للعلم ويتفقهون في الدين، ثم ينذرون قومهم إذا رجعوا إليهم، أي أن هذه طائفة لن تنفر للجهاد في سبيل الله، ولن تخرج للجهاد إنما ستتفرغ لتحصيل العلم الذي تتفقه فيه ثم تنذر قومها، بل إن هذا مسلك غير مطلوب أن تنفر الأمة جميعاً فيترك هذا الميدان المهم، وهو ميدان تعلم العلم الشرعي.(3/4)
اختلاف أبواب الجنة باختلاف الأعمال
ثانياً: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير، فإن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، وإن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، وإن كان من أهل الصيام دُعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة.
فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله، ما على من دعي من هذه الأبواب من ضرورة، فهل يُدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: نعم وأرجو أن تكون منهم) وهذه رواية الإمام البخاري في صحيحه، فالحديث يخبر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن هناك طرقاً ووسائل شتى، فمن الناس من يكون من أهل الصلاة، ومنهم من يكون من أهل الصيام، ومنهم من يكون من أهل الجهاد، ومنهم من يكون من أهل الصدقة فيدعى كل امرئ من خلال عمله الذي كان يعمله، ولا يعني هذا أن الذي كان من أهل الصلاة إنما كان يؤدي الصلاة المفروضة! لا، فالجميع يؤدون الصلاة الواجبة، والجميع يؤدون الصيام، والجميع يؤدون الحج، لكن أولئك الذين اشتهروا بالصلاة من خلال الاستزادة من النوافل، فصار شأنه الذي يُشتهر به ويُعرف به الصلاة، والآخر قد أقبل على الصدقة، والآخر قد أقبل على الصيام، وهكذا.(3/5)
اختلاف الطاقات والمواهب البشرية
ثالثاً: الناس معادن وطاقات ومواهب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الناس يتفاوتون تماماً كما تتفاوت معادن الذهب والفضة، فالمعدن مثلاً يُحصل عليه شائب يحتاج إلى تنقية فتجد أن ما تحصل عليه من هذا المعدن، قد تكون نسبة الشوائب فيه كبيرة، والآخر أقل، والآخر أكثر، وهكذا.
ثم المعادن تتفاوت فيما بينها فالذهب له قيمة ليست كقيمة الفضة، والفضة لها قيمة ليست كقيمة سائر المعادن، ثم ما دون الذهب والفضة من المعادن يحتاج إليه فيؤدي، أدواراً لا يمكن أن تؤديها الذهب والفضة، فيستفاد من هذه المعادن في صناعات وأمور لا يمكن أن تغنينا عنها الذهب والفضة، فكل هذه المعادن مطلوبة جميعاً، وكذلك الناس يتفاوتون، وكما قال الله سبحانه وتعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32].
وكما أن معادن الناس وطاقاتهم وقدراتهم تختلف فكذلك تربيتهم، فمثلاً إنسان ولد في بادية ونشأ فيها وعاش فيها، والثاني عاش في قرية، والثالث عاش في مدينة لا شك أن منطق وتفكير هذا وشخصيته وعقليته تختلف عن منطق وتفكير الآخر، تختلف عن الثاني والثالث، وهكذا، إنسان عاش في عصر معين وآخر عاش في عصر آخر عاش في بيئة معينة تحكمها عادات اجتماعية وظروف اجتماعية أو اقتصادية معينة، لا بد أن تكون له طبيعة خاصة، وعقلية خاصة، أنت ترى مثلاً الآن أن أهل هذه البلاد يختلفون عن أهل تلك البلاد، يختلفون عن أهل البلاد الأخرى تبعاً لتربيتهم وظروفهم وحياتهم.
إذاً: فالناس يختلفون في معادنهم وقدراتهم واستعداداتهم ابتداء، ويختلفون أيضاً من ناحية تربيتهم وتنشئتهم والظروف التي يعايشونها، وقد كان السلف كذلك يتفاوتون فيقول ابن المبارك: رأيت أعبد الناس عبد العزيز بن أبي رواد وأورع الناس الفضيل بن عياض، وأعلم الناس سفيان الثوري، وأفقه الناس أبا حنيفة ما رأيت في الفقه مثله.
وقال أبو عبيد: انتهى العلم إلى أربعة أبي بكر بن أبي شيبة أحفظهم له، وأحمد بن حنبل أفقههم فيه، وعلي بن المديني أعلمهم به، ويحيى بن معين أكتبهم له(3/6)
وجود الاختلاف في الخير بين الصحابة
رابعاً: عندما نتأمل في سيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نلمس هذا واضحاً، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة).
الآن النبي صلى الله عليه وسلم يصنف لنا أصحابه، فمثلاً أبو بكر هو أرحم الأمة، وقد كان رجلاً رقيقاً، أما عمر رضي الله عنه فقد كان فيه حدة وشدة، فكان أشد الناس في أمر الله سبحانه وتعالى، ثم هذا أعلمهم بالفرائض، وذاك أقرأهم للقرآن، وهذا أعلمهم بالحلال والحرام، إلى غير ذلك من أبواب الخير.
فهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفاوتون، فكل شخص له ميدان ومجال يؤدي فيه دوراً لا يمكن أن يؤديه الآخر، فمثلاً معاذ بن جبل أعلم الأمة بالحلال والحرام هذا لا يعني أنه أفضل من أبي بن كعب مثلاً، وأبي بن كعب أقرأ الأمة ولا يعني هذا أنه أفضل من معاذ، لأن معايير التفضيل معايير أخرى، وحتى تتضح لك الصورة أكثر فإن أبي بن كعب أقرأ الأمة لكتاب الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فهل يعني هذا أنه أفضل من عمر؟ لا، قطعاً ليس أفضل من عمر، وكذلك ليس أفضل من أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
زيد بن ثابت رضي الله عنه حينما جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان فتى نابغاً فقرأ وحفظ فأُعجب النبي صلى الله عليه وسلم بموهبته فأمره أن يتعلم السريانية لغة اليهود فتعلمها رضي الله عنه قيل حدقها في سبعة عشر يوماً أو خمسة عشر يوماً، الآن زيد بن ثابت رضي الله عنه هنا قضى وقتاً في تعلم هذه اللغة، ولا شك أنه قد يأتي قائل يقول: إن هذا الوقت الذي يقضيه في تعلم اللغة يمكن أن يقضيه في قراءة القرآن، وقراءة القرآن أفضل، أو في حفظ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، أو في الجهاد في سبيل الله أو غير ذلك، لكن هذا باب خير لا بد أن يُسلك، ومجال لا بد أن يُسد لهذه الأمة، فتصدى زيد رضي الله عنه لهذه المهمة، والنبي صلى الله عليه وسلم هاهنا أعطانا درساً أن كل ميدان من الميادين، وكل مهمة من المهمات يجب أن يقوم في هذه الأمة من يتولاها، وقد تكون مفضولة كما سيأتي لكنها بالنسبة له قد تكون أفضل من غيرها.
علي رضي الله عنه سئل عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقال: (عن أيهم تسألوني؟ قالوا: عن ابن مسعود قال: علم القرآن والسنة ثم انتهى، وكفى به علماً.
قلنا: أبو موسى؟ قال: صُبغ في العلم صبغة ثم خرج منه.
قلنا: حذيفة؟ قال: أعلم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بالمنافقين.
قالوا: سلمان؟ قال: أدرك العلم الأول والعلم الآخر بحر لا يدرك قعره، وهو منا أهل البيت.
قالوا: أبو ذر؟ قال: وعى علماً عجز عنه.
فسئل عن نفسه؟ فقال: كنت إذا سألت أُعطيت، وإذا سكت ابتديت).(3/7)
خالد بن الوليد يمنعه الجهاد عن كثير من القراءة
نريد أن نقف الآن عند نموذجين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: خالد بن الوليد رضي الله عنه، وأبو ذر خالد بن الوليد أثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وله مناقب، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه سيف من سيوف الله، ونعم أخو العشيرة، ويقول عمرو بن العاص رضي الله عنه: ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبـ خالد في حربه أحداً منذ أسلمنا.
أي أنه كان لا يقدم عليهما أحداً، والحديث رواه الطبراني.
وخالد رضي الله عنه كما في الصحيحين احتبس أدرعه وأعتده في سبيل الله عز وجل، وفي غزوة حنين جاء النبي صلى الله عليه وسلم يتخلل الناس يبحث عن خالد رضي الله عنه فنفث في جرح كان قد أصابه، وهذا الحديث في المسند.
خالد هو الذي يقول عبارته المشهورة: ما من ليلة يُهدى إليّ فيها عروس أنا لها محب بأحب إليّ من ليلة شديدة البرد كثيرة الجليد في سرية من المهاجرين أصبّح فيها العدو.
وهو القائل: لقد شهدت زهاء مائة زحف، وما في بدني موضع شبر إلا وفيه ضربة من سيف وطعنة من رمح إلى آخر الحديث.
خالد رضي الله عنه يقول قيس بن أبي حازم عنه: سمعت خالداً يقول: منعني الجهاد كثيراً من القراءة.
ذكره الحافظ في المطالب بلفظ: لقد منعني كثيراً من قراءة القرآن الجهاد في سبيل الله، وقد رواه أبو يعلى والهيثمي وقال فيه: رجاله رجال الصحيح.
إذاً خالد بن الوليد رضي الله عنه في هذه المناقب وهذه الفضائل وصار سيفاً من سيوف الله، وهو الذي أطفأ الله على يديه نار المجوسية في العراق، وكان له دور كبير أيضاً مع الروم في غزوة اليرموك، وقبل ذلك كان له دور في تأديب المرتدين، ومع ذلك لا تكاد تجد فتوى لـ خالد رضي الله عنه، ويندر أن تجد له قولاً في تفسير آية من كتاب الله سبحانه وتعالى، بل إنه قد قال: (لقد منعني الجهاد كثيراً من قراءة القرآن) ويروى أن سبب هذه المقولة أنه صلى بهم إماماً فأخطأ في قراءته، فها هو مثلاً خالد رضي الله عنه قد نبغ في هذا الميدان وبرز في هذا الميدان، ولا شك أنه قد فاته ما حصّله أُبي بالقراءة، وما حصّله معاذ بعلم الحلال والحرام، وما حصله ابن عباس بالتأويل وفقه الكتاب، وما حصّله سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من سائر أبواب الخير، ولكن هذا لن ينقص شأنه ومكانته وفضيلته.(3/8)
أبو ذر قوال للحق ضعيف في الإمارة
أبو ذر رضي الله عنه يقول عنه الذهبي: كان أحد السابقين الأولين من نجباء أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يفتي في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، وكان رأساً في الزهد والصدق والعلم والعمل، قوّالاً بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم على حدة فيه.
أبو ذر رضي الله عنه إمام في الزهد وهذا لا يخفى، وكذلك كان مشهوراً بقول الحق، وقد أوصاه النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أوصاني خليلي بسبع: أمرني بحب المساكين والدنو منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني، وأن لا أسأل أحداً شيئاً، وأن أصل الرحم وإن أدبرت، وأن أقول الحق وإن كان مراً، وأن لا أخاف في الله لومة لائم).
أبو ذر رضي الله عنه له عبارة مشهورة رواها البخاري تعليقاً، والقصة بتمامها عند أبي نعيم في الحلية: أنه أتاه رجل وهو جالس عند الجمرة الوسطى وهو يفتي فقال: ألم ينهك أمير المؤمنين عن الفتيا؟ فرفع رأسه وقال: (أرقيب أنت عليّ؟ لو وضعتم الصمصامة على هذه -يعني السيف- وأشار إلى رقبته، فاستطعت أن أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تجهزوا عليّ لأنفذتها) وهذه العبارة مشهورة وقد أوردها البخاري في كتاب العلم تعليقاً.
إذاً فهو رضي الله عنه كان إماماً في الزهد، وكان قوّالاً بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم، عنده استعداد أن أن يقول الحق حتى لو وضعوا السيف على رقبته واستطاع أن يقول في هذه الفرصة كلمة سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم لقالها رضي الله عنه، وورد من الثناء عليه أنه أصدق الناس لهجة رضي الله عنه، ومع ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم له: (إني أراك ضعيفاً وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين على مال يتيم) فمع هذه الفضائل له، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم ينهاه أن يتأمر على اثنين، وأن يتولى على مال يتيم؛ لأنه لا يصلح لذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
الآن هنا كون أبي ذر رضي الله عنه لا يتولى هذا المقام، أو لا يصلح لهذا الميدان هل يعني أنه قد أفلس من كل المقومات؟ وهل يعني أن أبا ذر رضي الله عنه لم يعد مؤهلاً أن يقدم خيراً للمسلمين؟ لا، فليس هذا هو المقياس، إن المقياس مقياس آخر، فلكل ميدانه.(3/9)
اختلاف ابن عباس وأبي هريرة في مراتب العلم
ابن القيم رحمه الله يعقد مقارنة بين ابن عباس وأبي هريرة فيقول: وأين تقع فتاوى ابن عباس وتفسيره واستنباطه من فتاوى أبي هريرة وتفسيره؟ وأبو هريرة أحفظ منه، بل هو حافظ الأمة على الإطلاق يؤدي الحديث كما سمعه ويدرسه بالليل درساً، فكانت همته مصروفة إلى الحفظ وتبليغ ما حفظه كما سمعه، وهمة ابن عباس مصروفة إلى التفقه والاستنباط وتفجير النصوص وشق الأنهار منها واستخراج كنوزها، وكلاهما على خير.
فهذا أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ الأمة، لا يمكن أن يفوته حديث كما قال عن نفسه في البخاري، قال: (قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أسمع منك حديثاً كثيراً أنساه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ابسط رداءك قال: فبسطت ردائي فقال بيديه هكذا، فضممته إلى صدري فما نسيت شيئاً سمعته بعد ذلك)، فـ أبو هريرة أحفظ الأمة على الإطلاق، لكنه في الفقه والاستنباط والفتاوى ليس مثل ابن عباس، كما أن ابن عباس رضي الله عنه ليس في الحفظ مثل أبي هريرة.
إذاً فهذا له ميدان وذاك له ميدان آخر، حتى داخل الإطار الواحد كإطار العلم حتى وجدنا أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نبغ وبرز في الجهاد، والآخر برز في الزهد، والثاني في الرحمة بالأمة، والثالث في الشدة في الحق إلى غير ذلك، وعندما نأتي إلى دائرة واحدة وميدان واحد نجد أيضاً أنه داخل هذا الميدان الواحد يوجد تفاوت، ففي ميدان العلم هذا أحفظ وذاك أفقه.
أمر وسع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينبغي ولا شك أن يسع غيرهم وسواهم.(3/10)
اختلاف الوصايا النبوية بحسب الأشخاص
خامساً: كان كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يفدون إليه فيستوصونه فيوصيهم فيقول لأحدهم: (لا تغضب) ويقول للثاني: (كلما مررت بقبر كافر فبشره بالنار) ويقول للثالث: (لا تسبن أحداً) ويقول للرابع كذا، والخامس كذا وهكذا تجد وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه مختلفة بل تراه يوصي أحدهم أن يوتر قبل أن ينام، ويوصي الآخر أن يقوم الليل الشاهد أن وصايا النبي صلى الله عليه وسلم تختلف من شخص إلى آخر، وأيضاً كثير ما كان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الأعمال أفضل؟) أو (أي الإسلام خير؟) فيجيب هنا بإجابة وهناك بإجابة أخرى، ومن أشهر ما قيل في الجمع والتوفيق بين هذه النصوص أن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف أن فلاناً تصلح له هذه الوصية، والآخر كذلك، والثالث كذلك، فلم يوص الجميع صلى الله عليه وسلم بوصية واحدة لاختلاف الناس وتفاوتهم.
بل النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه الناس يسلمون، فمنهم من يجلس ويبقى عنده في مكة، ومنهم من يوصله النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومه يدعوهم للإسلام، وذلك أن الناس كما قلنا يختلفون ويتفاوتون.(3/11)
عمق الخلل والانحراف في واقع الأمة
سادساً: عمق الخلل والانحراف في واقع الأمة.
الانحراف والخلل في واقع الأمة هائل ليس في جانب واحد أو مجال واحد فقط، فأنت ترى مثلاً الانحراف في الحكم، فالأمة تحكم بغير شرع الله سبحانه وتعالى، وتراه في الاعتقاد الأمة حيث تمنح ولاءها لأعداء الله عز وجل، وكل ألوان الشرك وأصنافه تجدها منتشرة في هذه الأمة، وانتشر فيها الجهل والفساد الأخلاقي، والأمية، والفقر، والتخلف، إلى غير ذلك من مجالات وأبواب الخلل في واقع هذه الأمة، وبناء عليه عندما تتسع أبواب الخلل وأبواب الانحراف لا بد أن تتسع أبواب الدعوة.
فنحتاج إلى باب مثلاً عندنا خلل في باب العقيدة والاعتقاد، فلا بد أن يتجرد من هذه الأمة من يُعنى بتصحيح العقيدة ومحاربة البدع والخرافات والتوسع في ذلك تعلماً وتعليماً ودعوة.
عندنا خلل فكري فنحتاج إلى من يتصدى لهذا الميدان، عندنا خلل في الجانب الأخلاقي فنحتاج إلى من يتصدى لهذا الميدان، خلل في الجانب السلوكي فقط، مشاكل اجتماعية، مشاكل اقتصادية، قضايا كثيرة تحتاج في كل ميدان إلى جهود كثيرة وإلى أشخاص يتفرغون لها، ومن ثم فمع سعة شقة الانحراف والخلل في واقع الأمة لا بد أن تتوسع مجالات الدعوة ومجالات محاولة إنقاذ الأمة.(3/12)
العصر الذي نعيشه يتطلب ذلك
سابعاً: نحن نعيش في عصر، فلا بد أن نعيش عصرنا، ولا بد أن نفكر بعقلية عصرنا، ولا شك أن هذا فيما لا يعارض أمر الله سبحانه وتعالى، العصر عصر التخصص، وفي السابق قد يكون الرجل موسوعة فتراه يقوم على أبواب شتى من أبواب العلم والخير، أما الآن فقد تنوعت طرق الحياة وتعقدت أساليبها وصار الناس على مبدأ التخصص، فلماذا لا يتخصص فلان مثلاً بالعناية في جانب من جوانب العلم الشرعي، والآخر في الجانب الثاني، والآخر في الجانب الثالث ويتخصص الرابع في مشاكل الأمة الاجتماعية، فيحل مشاكل الناس وينظر في حال المعوزين والفقراء، ويتخصص الخامس في دعوة المنحرفين والضالين، ويتخصص السادس في قضية المرأة، والرابع في القضايا الفكرية، والخامس، والسادس، وهكذا كل امرئ في ميدانه وفنه.(3/13)
الحاجة إلى التكامل
ثامناً: سنأخذ مثالاً يعطينا صورة واضحة عن الحاجة إلى التكامل: لو كان عندنا جيش فإننا سنحتاج إلى مجموعة في القيادة والمقدمة، وفي مواجهة العدو وجهاً لوجه، ونحتاج إلى مجموعة في الخلف يحرسون هؤلاء، ومجموعة يترصدون، وسنحتاج إلى مجموعة فنيين يقومون بصيانة الآلات وإعدادها، مجموعة يقومون بنقل الذخائر، مجموعة للتمويل بنقل المواد الغذائية، مجموعة طباخين يقومون بخدمة الجيش، وأناس يغسلون الثياب، ومجموعة يحرسون بلاد المسلمين ويحرسون ثغور المسلمين حتى لا يؤتوا من خلفهم، ومجموعة يخلفون الغازين، فأنت ترى الآن أبواباً مختلفة ومتفاوتة فهذا شخص يقف في مقابل العدو والشخص الآخر ليخلف الغازي في أهله ويبقى في بيته، فإذا قال الجالس في منزله ليخلف الغازي: لقد ذهب الناس في الجهاد وبقيت أنا مع النساء والعجزة فلا بد أن أذهب، وقال الذي يعد الطعام كذلك يقول، وقال الذي يقوم بإعداد الذخيرة كذلك، وهكذا؛ فإنه لا يمكن أن يقوم هذا الجيش، لأن الجيش لا يقوم إلا عندما تتكامل هذه الجهود، ومن هذه الجهود من يقعد لا جبناً ولا خوفاً إنما يقعد ليخلف هؤلاء في أهليهم، وحتى لا تؤتى البلاد عن غرة، فترى أنت الآن أن هذا الواجب وهذه المعركة لا يمكن أن تقوم إلا بتكامل جهود متفاوتة ما بين قائد فذ عبقري داهية ورجل شجاع، وبين إنسان مهمته إعداد الطعام فقط، وإنسان مهمته قيادة شاحنات، وإنسان مهمته أن يبقى حتى يحرس فهكذا تتكامل هذه الجهود، ويمكن أن نشبه نحن أبواب الدعوة أو واقع الدعوة في بلد محاصرة يعني افترض الآن أن هذه القرية محاصرة، فهنا حصن في هذه الزاوية، وحصن في هذه الزاوية، وحصن في الزاوية الأخرى، وحصن في الزاوية الأخرى قد يكون العدو من هذه الجهة فهؤلاء الآن في مقابل العدو؛ لكن نحتاج إلى من يقف هنا، ومن يقف هناك، ومن يقف في الميدان الآخر، ونحتاج إلى من يقف في داخل المدينة ويتجول فيها حتى لا يستغل الوضع مثل اللصوص والسُرّاق وقطّاع الطريق، فأنت ترى الآن الجهود مختلفة ومتفاوتة وكلها مطلوبة، ولا يصح أن يأتي الشخص الذي وقف في وجه العدو ويقول: أنتم جبناء أنا أجلس مقابل العدو وأنت جالس تحرس في الخلف! لا، ويقول: أنا أفضل لأني أواجه العدو! لا، الجميع يؤدون مهمة واحدة، ويؤدون دوراً واحداً ولا يمكن أن تقوم هذه القضية إلا بهذا التكامل.
فكذلك حراسة الأمة وحماية الأمة والدعوة لدين الله سبحانه وتعالى وإنقاذ الأمة لا بد أن نأخذ نحن جميعاً بهذه الجوانب كلها، هذه الطاولة الآن التي أمامنا لو أردنا أن نرفعها مثلاً واجتمع الجميع كلهم يريدون أن يرفعوها من هذه الجهة، فلا يمكن أن ترتفع، أو ترتفع بوضع غير مستقيم، طيب لو أتى من هنا مثلاً أربعة، ومن هنا واحد فقط ومن هنا واحد أيضاً فسيكون هناك خلل، لكن عندما تتوزع الجهود بشكل متوازن يمكن أن نرفعها، فكذلك هذه الأمة المصابة بهذا الخلل لا بد أن تتضافر الجهود جميعاً وأن تتوزع حتى تقوم هذه الأمة، أما إذا اعتنينا بجانب واحد وركزنا على جانب واحد فلا بد أن يكون هناك خلل ولا يمكن أن تنهض الأمة النهوض المراد.(3/14)
السلف لم يكونوا بمعزل عن هذا
تاسعاً وأخيراً: السلف لم يكونوا بمعزل عن هذا، فترى عبارات للسلف قديماً وحديثاً تدل على ذلك، ومنها ما سقناه في بداية المحاضرة عن الإمام مالك رحمه الله، وجاء أحدهم إلى الخليل بن أحمد ليتعلم العروض فأحس الخليل بن أحمد أن هذا ليس عنده استعداد لأن يتعلم عروض، فأعطاه بيتاً يقطّعه قال: إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع ففهم الرجل المقصود وأنه لا يناسب له علم العروض فاتجه إلى علم النحو ونبغ فيه وكان من النحاة.
نلاحظ أن الخليل بن أحمد يوجه إلى أنه ليس الميدان واحداً، والعروض أصلاً علم محدود، ولد جملة واحدة أنشأه الخليل بن أحمد، يمكن أن يحيط به الإنسان في وقت يسير، ومع ذلك مثلاً هذا الرجل لم يستطع، لكن لا يعني أنه قد أصبح فاشلاً فأمامه ميدان آخر ومجال آخر، فاتجه إلى الميدان الآخر واستطاع أن ينبغ فيه.
والأعمش كان إذا قيل له حدث قال: لا يقلد العلم الخنازير، يعني: ليس كل واحد مؤهلاً أن يُعطى العلم، فالعلم لا يُعطى إلا لمن يستحقه.
يقول ابن القيم رحمه الله في تحفة المودود: ومما ينبغي أن يتعهد حال الصبي وما هو مستعد له من الأعمال ومهيأ له منها، فيعلم أنه مخلوق له فلا يحمله على غيره ما كان مأذوناً فيه شرعاً، أي: إذا كان هذا الطفل متهيئاً لهذا العمل بشرط أن يكون مأذوناً فيه شرعاً فلا يحمله على غيره، فإنه إن حمله على غير ما هو مستعد له لم يُفلح وفاته ما هو مهيأ له.
يعني ابن القيم أن على الأب أن ينظر إلى حال الصبي، ويعرف استعدادات الصبي والأمور التي يتهيأ لها الصبي فيوجهه إلى هذا الميدان، فإذا كان الصبي عنده حفظ وعقل يمكن أن يوجه إلى العلم، وإذا كان عنده همّة ونشاط وعمل لكنه ليس متوجهاً للحفظ فينبغي أن يوجه إلى ميدان آخر، كذلك الأستاذ ينبغي أن يوجه طالبه هذه الوجهة، والمربي ينبغي أن يوجه من تحته هذه الوجهة، فينظر ما هو مستعد له فيوجهه إليه، وله عبارة طويلة يمكن أن نقرأها في مدارج السالكين: يقول: فإذا عُلم هذا فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الذي يعد سلوكه إلى الله طريق العلم والتعلم، قد وفّر عليه زمانه مبتغياً به وجه الله فلا يزال كذلك عاكفاً على طريق العلم والتعليم حتى يصل من تلك الطريق ويُفتح له فيها الفتح الخاص، أو يموت في طريق طلبه فيرجى له الوصول إلى مطلبه بعد مماته، قال تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100].
ومن الناس من يكون سيد عمله الذكر، وقد جعله زاده لمعاده ورأس ماله لمآله فمتى فتر عنه أو قصّر رأى أنه قد غُبن وخسر.
ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة فمتى قصر في ورده منها أو مضى عليه وقت وهو غير مشغول بها أو مستعد لها أظلم عليه وقته وضاق صدره.
ومن الناس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدي كقضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وأنواع الصدقات قد فُتح له في هذا وسلك منه طريقاً إلى ربه.
ومن الناس من يكون طريقه الصوم فهو متى أفطر تغيّر قلبه وساءت حاله.
ومن الناس من يكون طريقه تلاوة القرآن وهي الغالب على أوقاته وأعظم أوراده.
ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد فتح الله له فيه ونفذ منه.
ومنهم من يكون طريقه الذي نفذ فيه الحج والاعتمار، ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق، وتجريد الهمة، ودوام المراقبة، ومراعاة الخواطر، وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة.
ثم ذكر حال من جمع تلك الطرق كلها وهذا نادر.
وأيضاً يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله حول قول الله عز وجل: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة:122]: وفي هذه الآية أيضاً دليل وإرشاد وتنبيه لطيف لفائدة مهمة وهي أن المسلمين ينبغي لهم أن يعدوا لكل مصلحة من مصالحهم العامة من يقوم بها ويوفر وقته عليها ويجتهد فيها ولا يلتفت إلى غيرها لتقوم مصالحهم وتتم منافعهم، ولتكون وجهة جميعهم ونهاية ما يقصدون قصداً واحداً، وهو قيام مصلحة دينهم ودنياهم، ولو تفرقت الطرق وتعددت المشارب، فالأعمال متباينة والقصد واحد، وهذه من الحكمة النافعة في جميع الأمور.
أظن أن هذه المؤيدات التي سردنا تكفي لأن تعطينا القناعة بأن هذه الطرق كلها يجب أن تُسلك جميعاً، وأن لا يعتب بعضنا على بعض، وأن هذه الطرق على مستوى الأمة مطلوبة جميعاً، لكن على مستوى الأفراد مطلوب من كل امرئ أن يقوم بباب وأن يسد ثغراً من هذه الثغور.(3/15)
ينبغي أن يوجه الشباب إلى ما يحسنونه حسب استعداداتهم
بعد ذلك ننتقل إلى نقطة مهمة جداً وهي المقصودة من هذه المحاضرة، وقد نكون أطلنا الشق الأول في العنصر الثاني لكن أطلنا قصداً حتى يكون عندنا القناعة وبعد ذلك تكون النتائج سهلة لنستنبطها منها؛ لكن عندما لا يسلم لك بالمقدمة لا يمكن أن يسلم لك النتيجة، فنقول: أولاً: ينبغي أن لا نسلك بالشباب طريقاً واحداً، فالناس كما سبق لهم استعدادات تختلف وطاقات متفاوتة، وكل إنسان له طبيعة خاصة وطريقة خاصة في التفكير وطريقة في العمل، وشخصية مستقلة عن شخصية الآخر، وكذلك قدرات تختلف عن قدرات الآخرين.
وأيضاً في المقابل نحن نحتاج إلى سد عدة ثغور، ومن هنا فلا يسوغ أن نربي الشباب جميعاً في إطار واحد وقالب واحد، فمثلاً أن نطالب الشباب جميعاً أن يكونوا طلبة علم، فنقول: إما أن تتوجه للعلم فتقرأ وتحضر الدروس وتتفقه وتحفظ، وإلا فأنت إنسان غير مرغوب فيك وإنسان غير قادر أن تقدم أي خير للإسلام والمسلمين، فهذا الأمر ما تم على وقت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ألم يكن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً من كان مجاهداً وكان دون سائر أصحاب السنن في الفقه والعلم وقراءة القرآن والحفظ، ألم يكن فيهم من كان يؤدي هذا الدور والدور الآخر، ومن كان يتفرغ للعلم ويتفرغ لهذا الميدان؟ فإذا تفرغ هؤلاء مثلاً لهذا الميدان وتحصيل هذا الميدان، فإننا لن نفلح؛ لأن هناك ناساً غير مؤهلين أصلاً لهذا البناء، ثم يحصل أن تبقى ثغور تحتاج إلى من يسدها.
إذاً: فلا يسوغ أن نسلك بالشباب هذا المنهج وهذا المسلك، أو أن نريد أن نحول الشباب كلهم إلى وعّاظ، أو نحول الشباب إلى مربين، أو إلى أي ميدان من الميادين.
فيجب أن يكون هناك إطار عام للتربية لكن يبقى جانب يراعى فيه ويتعاهد فيه -كما قال ابن القيم - حال هذا الشاب وينظر إلى ما هو متوجه له فيسار به إلى هذا الطريق ما دام مأذوناً فيه شرعاً، والأبواب المأذون فيها شرعاً أبواب كثيرة وواسعة لن تضيق عنا هذه الأبواب والمسالك، بل لعلنا لا نستطيع أن نأتي عليها ونسدها فضلاً عن أن تضيق عنا.(3/16)
من سلك طريقاً يخدم به الإسلام فلا يجوز أن يحتقر الطرق الأخرى
ثانياً: الإنسان عندما يسلك ميداناً لا يسوغ له أن يحتقر الميدان الآخر، فمثلاً: هذا إنسان سلك طريق الجهاد، فلا يسوغ له أن يقول لغيره: أنت جالس تقرأ وتتعلم مسائل فرعية، والأمة بحاجة للجهاد ورفع السيف، والمسلمون يقتلون وأنت في هذا الميدان حابس نفسك على مسائل فرعية وقضايا دقيقة بين الكتب والمسائل، فأنت إنسان ليس عندك استعداد أن تقدم للإسلام خيراً ولا تضحي بنفسك إلى غير ذلك.
والآخر يقول: لا أنا آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأمنع المنكرات الموجودة وأتصدى لها وأسهر وأتعب وأتحمل إهانات، وأتحمل ما أواجه وأنت متفرغ لمجموعة من الشباب تحفظهم القرآن قد يحفظون وقد لا يحفظون، أو هم أصلاً صالحون بدونك ولكنكم تضيعون الأوقات سدى وإلى غير ذلك.
والآخر يقول: أنا متفرغ للعلم الشرعي، وهذا الدين إنما يكون بالعلم، والدعوة لا تكون إلا بالعلم، وأنتم أناس جهلة، صحيح أنك تجاهد وتأمر المعروف وتنهى عن المنكر لكن عن جهل، وإلى غير ذلك.
وترى كل إنسان أصبح في موقع مهاجم يتراشق وأصحابه، وهذا لا يسوغ أبداً فلا يسوغ أن نحتقر الميادين الأخرى ولا أن ننتقد الآخرين، يا أخي ما دام فلان من الناس قام بهذا الميدان وسد هذه الثغرة في دين الله سبحانه وتعالى فلنقل إنك على باب من أبواب الخير فالزم ما أنت عليه، ونحن على باب آخر، وهذا لا يعني أني أفضل منك أو أنك أفضل مني؛ فكل هذه الأبواب مطلوبة ومرادة للأمة جميعاً.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: ومنه -أي اختلاف التنوع- ما يكون طريقتان مشروعتان، ورجل أو قوم قد سلكوا هذه الطريق، وآخرون قد سلكوا الأخرى وكلاهما حسن في الدين.
يعني يكون هذا الاختلاف أن هذه الطرق أصلاً مشروعة وسائغة، فهذا سلك طريقاً والآخر سلك آخر فيحصل بينهم من الخلاف ما يحصل وكلاهما مقبول، وأنت ترى الآن الجدل قائماً حول مناهج الدعوة، ماذا نصنع الآن: هل نعتني بمحاربة البدع والخرافات، أم نعتني بما يسمى مثلاً بالعمل السياسي، أم نعتني بدعوة الضالين والمنحرفين، أم نعتني بجانب الرقائق وتزهيد الناس في الدنيا، أو نعتني بنشر العلم، أو نعتني بإنكار المنكرات؟ وترى كل إنسان يحشد الأدلة والمؤيدات أن هذا هو الطريق الذي لا ينبغي سلوك سواه، وأن الطرق الأخرى كلها تأتي بعدها، فالذي يحارب البدع يقول: عندما أحارب البدع وأقضي على البدع فإن الذي كان يقع في الزنا سيتوب من الزنا؛ لأني حاربت البدع، والذي كان ينشر الأفلام الساقطة كذلك سيتوب، والذي كان يروج المخدرات أيضاً سيتوب، والذي كان يحكم بغير ما أنزل الله سيتوب على عتبته لأني حاربت البدع.
والثاني يقول لك: لا، القضية هي قضية الحكم بغير ما أنزل الله، فإذا قضينا على هذه القضية ستزول تلك الأمور.
والثالث يقول: أهم شيء إنكار المنكرات الظاهرة، وهكذا وكل هذه الميادين مطلوبة، فلا شك أنا بحاجة إلى من يُنكر البدع، بحاجة إلى من يعلم العلم، بحاجة إلى من يجاهد في سبيل الله، بحاجة إلى من ينكر المنكرات وكلها جهود خيّرة ومطلوبة، والجدل الذي يقوم الآن على الساحة الإسلامية أن هذا الميدان أولى، وذاك الميدان أولى كله جدل لا داعي له، ولا يزيد على أن يكون مجرد تراشق، وترف فكري وإهدار لطاقة الأمة فيما لا طائل وراءه، فالأبواب كلها مطلوبة، هذا سلك هذا الميدان، والآخر سلك الميدان الآخر يا أخي أنت إذا كنت ترى فلاناً قصر في هذا الميدان فسد هذه الثغرة، والثالث يأتينا فهو مستعد لهذا الميدان فيرى أن الآخر قصر فيه فيسد هذه الثغرة، وهكذا حتى نسد كل هذه الثغرات.
دعني أضرب لك مثالاً آخر: افترض مثلاً أننا راكبون في السفينة فوقع فيها انفجار فحدثت فيها شقوق وصار يدخل منها الماء، فجاء واحد وسد هذا الثقب، فقال له الثاني: لا يا أخي! سد هذا الثقب، والثالث كذلك فمنطقنا هو هذا المنطق وترى واحد عنده ثقب صغير وجالس بكل جهده وطاقته يسد هذا الثقب ويطلب الجميع كلهم أن يتضافروا على هذا الثقب والسفينة تدخل عليها المياه من كل جانب ومع ذلك يقول: يجب أن نسد هذا الميدان، وإذا سد هذا الميدان فستنجو من الغرق.
أقول: إن هذا هو واقع من يتراشقون بالتهم، وهذا واقع من يحاول أن يختزل ميدان الدعوة، ويختصر ميدان خدمة الأمة وإنقاذ الأمة وخدمة دين الله سبحانه وتعالى بميدان واحد وزاوية واحدة.(3/17)
كل ميسر لما خلق له
ثالثاً: كل ميسر لما خلق له.
مثلاً هناك بعض الناس قد يكون عنده حماس وطاقة، وتجده إنساناً مثلاً لا يصبر على البقاء في البيت أبداً، لا بد أن يعمل، لا بد أن يتحرك، لا بد أن يذهب ويأتي، لكن إدراكه العقلي محدود، وحافظته محدودة، فليس مؤهلاً أن يتعلم العلم الشرعي، فجاءنا هذا وقال: والله أنا أريد أن أخدم الإسلام، وأنا عندي طاقة، أريد أن أصرفها في خدمة دين الله سبحانه وتعالى فابحثوا لي عن مجال، قلنا له: تعال فعندنا حلقات علمية فبعد الفجر درس وبعده درس، وبعد الدرس نقول له: تعال هنا، المهم أننا سلكنا به ميداناً، لكنه لا يستطيع أن يسير فيه ثم بعد ذلك لن يفلح، والنتيجة إما أن يترك هذا الميدان كله ويترك طريق الخير كله، أو أن يحس أنه إنسان مفلس، أو غير ذلك لكن لو فكّرنا تفكيراً آخر وقلنا: يا أخي هذا ليس ميسراً للعلم، وما دام عنده طاقة وعنده استعداد فلماذا لا نجعله يسافر إلى تلك البلاد فيعطينا تقارير عنها، ويسافر إلى البلاد الأخرى، لماذا لا نجعله مثلاً في جانب إنكار المنكرات؟ لماذا لا نجعله يخدم أحد العلماء الدعاة، هذا داعية يحتاج إلى من يخدمه ويعينه، وهذا عالم يحتاج إلى من ييسر له، والآخر كذلك، فلماذا لا نبحث له عن مجال آخر يمكن أن ينجح فيه؟ وهكذا الثاني، وهكذا الثالث فكل ميسر لما خلق له، لا يسوغ أن نأتي لإنسان يعيش طبيعة معينة فنأطره على ميدان ونريد أن نسلك به ميداناً لا يمكن أن ينجح فيه.
إنسان سريع الغضب ولا يجيد التعامل مع الآخرين وقد يكون إنساناً صالحاً وفيه خير، لكن هذه طبيعته، فهذا الإنسان مثلاً لا يسوغ أن نجعله في ميدان تربوي؛ لأن الميدان التربوي يحتاج إلى إنسان حسن المعاملة طويل النفس لكن لا يعني ذلك أنه إنسان فاشل، لا لكن له ميدان آخر، وهكذا الثالث، والرابع فأقول كل ميسر لما خلق له، ولا يسوغ أن نسلك بهذا الإنسان إلا المجال الذي ينبغي أن نراه مؤهلاً له.(3/18)
لن تحيط بكل ما أمرت به
رابعاً: لن تحيط بكل ما أمرت، فلا تكلف نفسك ذلك، ولا تطالب الناس به.
قد تجد إنساناً فتح الله له في باب من أبواب الخير، مثلاً: واحد من الشباب طالب في الجامعة أو أستاذ وهو مسئول عن مجموعة من طلاب المركز ويستنفذ عليه ذلك وقتاً طويلاً من العصر إلى الساعة العاشرة والنصف مثلاً، ففكّر وقال: أنا يضيع عليّ وقت طويل، والناس يقرءون ويتعلمون، فأنا أريد أن أترك هذا العمل وأذهب إلى طلب العلم، ثم يفكّر تفكيراً آخر فيقول: الناس يسافرون للجهاد في سبيل الله فأريد أن أسافر لأجاهد، ثم يفكّر تفكيراً آخر فيقول: الناس يعينون الفقراء والمعوزين والمحتاجين، ثم يفكّر تفكيراً آخر وهكذا تتقلب به الميادين، أو يريد أن يحيط بكل هذه الأبواب، فمرة تلقاه يعمل هنا ومرة يعمل هناك.
فنقول له: لا يا أخي، لا يمكن أن تأتي بكل هذه الأبواب، أنت ما دام أن الله يسّر لك باباً من أبواب الخير لخدمة هذا الدين فاسلكه ولا عليك من الآخرين، ولا تستطيع أن تحيط بها جميعاً.
وكذلك شخص متوقد الحفظ والفهم والذهن ويسّر الله له طريق العلم فرأى غيره متفرغاً لإنكار المنكرات أو للجهاد أو تربية الشباب فقال: أريد أن أعمل في هذا الميدان، وترك ما هو عليه.
فمن العبث ومناقضة الفطرة والواقع أن تحاول أن تحيط بكل الأبواب، فما دمت -يا أخي- سلكت طريقاً من هذه الطرق ففتح الله لك هذا الباب فامض فيه ولا تتصور أن الآخرين فاقوك، فليست القضية في ميدان دون ميدان، القضية أن تسخّر وقتك وجهدك وما أعطاك الله لخدمة دين الله سبحانه وتعالى، وأن تدعو لسبيل الله سبحانه وتعالى، وأبواب الدعوة وطرق الدعوة واسعة ومتنوعة، كذلك لا تطالب الناس بهذا، فإذا كان هناك عالم يفتي ويحل مشاكل الناس في قضايا علمية فمن العبث أن نطالبه أن يتحدث عن قضايا فكرية ومشاكل معينة قد تحتاج إلى شخص آخر، ومن العبث أنا نطالبه أن يتصدى لتربية الشباب وإعدادهم، ومن العبث أن نطالبه أن يخرج للجهاد أو يتفرغ لإنكار المنكر أو غيره يا أخي هذا سلك ميداناً فلا داعي لأن نطالبه بغيره.
وهكذا، عندما تجد إنساناً يعتني بقضية المرأة فيكتب ويحاضر ويخطب ويتحدث عنها فلا نطالبه أن يلقي محاضرة عن أمور تخص الشباب، أو عن قضية علمية شائكة، أو عن قضية في واقع المسلمين، وهكذا الثاني والثالث، فلا نطالب الناس بكل هذه الأبواب!(3/19)
قد يطرأ على المفضول ما يجعله أولى من الفاضل
أمر خامس: قد يأتي للمفضول ما يجعله أولى من الفاضل: وهذه قاعدة شرعية مهمة نبّه عليها شيخ الإسلام ونبّه عليها ابن القيم، وهي أنه قد يوجد عمل مفضول فيعتريه أمر يجعله أولى من الفاضل.
مثال: قراءة القرآن أفضل من الدعاء في الجملة فإذا جاء شخص إلى المسجد آخر ساعة في يوم الجمعة، فإنا نقول إن الدعاء في هذه الساعة أولى من قراءة القرآن.
إنسان فرغ من الصلاة فالأفضل له أن ينشغل بالذكر، فالذكر مفضول فأتاه سبب جعله أولى من الفاضل، والدعاء كذلك مفضول فأتاه ما جعله أولى من الفاضل تعالوا نطبق هذه القاعدة على هذا الميدان، فقد يكون هذا العلم مثلاً فاضلاً وذاك مفضولاً، لكن يأتينا أمر يجعله أولى فنحتاج مثلاً إلى إنسان يتخصص في الأدب لأن الواقع أن جزءاً من معركتنا معركة الأدب، وتعرفون أنتم أنا غزينا كثيراً من قبل الأدب سواء الأدب اللاأخلاقي والجنسي، أو الأدب الحداثي أو غيره، فنحتاج إلى إنسان يتفرغ للأدب فيحفظ الشعر ويقرأ في دواوين الأدب وكتب الأدب والمدارس الأدبية والنقد الأدبي.
مثال أقرب: إنسان مثلاً يقرأ عن الطوائف، يسمع عن القاديانية فيجمع مخطوطات ونشرات ويقرأ عنها وعن عقائدها وما يتعلق بها، ثم عن البهائية ثم عن الوجودية والعلمانية، وغيرها من الطوائف والنحل، وصارف وقته في قراءة خرافات هؤلاء وخزعبلاتهم، الآن أيهما أفضل: القراءة في هذه، أم القراءة في دواوين السنة وكتب السنة؟ لا شك أن القراءة في كتب السنة أفضل، لكن الآن قد نقول لفلان: إن اشتغالك بهذه القراءة أفضل؛ لأن الأمة محتاجة الآن إلى سد هذا الميدان، ومحتاجة إلى سد هذا الثغر فهذا مفضول لكن أتاه أمر جعله أولى من الفاضل، ومصداق ذلك من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فإن الخروج للجهاد أفضل من القعود، لكن كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرّج للجهاد يخلّف بعض أصحابه أميراً على المدينة، فقد خلّف علي بن أبي طالب رضي الله عنه في أهله في غزة تبوك، فاعترض على ذلك فقال: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟) لماذا كان علي بمنزلة هارون من موسى؟ ما وجه الشبه هنا، تشبيه تخلف علي في أهل النبي صلى الله عليه وسلم بهارون وموسى؟ نعم لأن هارون خلف موسى في قومه، وعلي رضي الله عنه خلف النبي صلى الله عليه وسلم في أهله، الآن الأفضل لـ علي أن يبقى في المدينة لا أن يخرج إلى الجهاد لأن هذا قد صار متعيناً عليه.
إذاً فنقول: إنه لا مجال لأن تقول لي: هذا الميدان أفضل! وذلك ما دمت أنت ستبدع في هذا الميدان وستفلح فيه، أو لسبب أو لآخر هذا ميدان مهجور أو متروك فاسلكه يا أخي ولا تلتفت إلى ما سواك، وإذا أخلصت النية وصدقت الله سبحانه وتعالى فإن الله يعطيك أجر من عمل ذلك العمل.(3/20)
ليست الشهرة هي قيمة الإنسان
سادساً: ليست الشهرة هي قيمة الإنسان.
ميادين العمل تختلف، فهناك ميادين تتطلب شهرة مثل الخطيب، أو من يتصدر لقضايا الناس أو لنفعهم أو كاتب أو محاضر أو متحدث، فطبيعة عمله تجعله مشهوراً ومعروفاً عند الناس كلهم، وشخص آخر طبيعة دوره تقتضي أنه لا يشتهر؛ لأنه إذا اشتهر سيضايقه الناس فيزدحمون عليه فيشغلونه عمّا ينبغي أن يتفرغ له، الآن لا يسوغ لهذا الإنسان المغمور أن يقول: والله فلان يعرفه الناس ويدعون له فهو أفضل مني! فالقضية ليست بالشهرة، فرب أشعث ذي طمرين مدفوع بالأبواب لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره، وإن الله يحب العبد التقي الخفي إلى آخر حديث هذا العبد البعيد عن الأضواء كما يقال الخفي الغير مشهور يحبه الله سبحانه وتعالى، فليس هناك علاقة مطردة بين الشهرة وبين خدمة دين الله سبحانه وتعالى، وأن مستواك في الدعوة إلى الله عز وجل وما تقدم من خير إنما هو مرتبط بشهرتك، وإن كان عادة ما يشتهر قادة ويشتهر أناس يقدمون الخير للناس فينفعهم الله من هذا الميدان، لكن غيرهم قد ينفعهم الله ويكتب الله لهم الأجر في ميادين أخرى لا يكتب لهؤلاء.(3/21)
محذورات يجب التنبه لها(3/22)
لا يترك الواجب بحجة التخصص
الجانب الأول: أنه لا يسوغ أن يترك الواجب بحجة التخصص، يعني هناك شيء واجب على الجميع، فالعلم الشرعي فيه قدر واجب على الجميع لا يسوغ أن تترك.
أنت متخصص في ميدان ما، لكن إنكار المنكرات الظاهرة أمام الإنسان واجب أيضاً، ولا يسوغ أنك تترك إنكار المنكر بحجة أنك متخصص، وهكذا سائر الواجبات الشرعية.(3/23)
لا يسوغ الخلل التربوي بحجة التخصص
الجانب الثاني أيضاً: لا يسوغ الخلل التربوي بحجة التخصص: يعني: يكون عنده خلل فيعاني من فقر مدقع في كافة الجوانب بحجة أنه متخصص! لا، فيجب أن يكون فيه نوع من التكامل، ثم يبدو هذا الجانب أقوى عنده من غيره، فمثلاً هذا الإنسان متوجه للعلم وأنفق فيه نفيس وقته، فلا يسوغ أن يكون هذا الإنسان قاسي القلب وما له حظ من عبادة الله عز وجل! ولا يتمعّر وجهه لمعصية الله عز وجل! أو إنسان لا يقدم النفع للناس، أو غير ذلك، فينبغي أن يكون هذا الشاب قد تربى على عبادة الله وطاعته، وتربى على إنكار المنكر وعلى إيجاد الخير للناس، وعلى كل أبواب الخير، لكن غاية مطلوبه تحصيل العلم قد صرف له كل همه، وتكون تلك الجوانب أيضاً موجودة.
يحصل أحياناً خلل واضح من شخصية غير متزنة فعلاً، حيث تجده في جانب من الجوانب مفلس، وهذا يعود أيضاً على الجوانب الأخرى بالإبطال، فمثلاً طالب العلم عندما يكون قاسي القلب لا بد أن يتأثر فيفقد الورع الذي يحتاج إليه في علمه وفي فتاواه، وكذلك المربي عندما يكون قاسي القلب أو يكون ضحل العلم والاطلاع، أو يكون فاقداً لهذا الجانب أو ذاك لا بد أن ينعكس هذا الخلل على عمله بوجوه إذاً فلا بد من التكامل مع التخصص حتى تكون شخصية الإنسان متكاملة.(3/24)
الحذر من الإغراق في التخصص المبكر
كذلك الجانب الثالث: يجب أن نحذر من الإغراق في التخصص المبكر: هناك شباب في سن معينة تكون استعداداتهم وتوجهاتهم متقاربة، وكلما تقدم بالعمر بدأت تتضح معالم شخصيته أكثر، فالتخصص المبكر يوقعنا في أخطاء، لأننا عندما نبدأ به من الصغر في التخصص سيقع في خلل ونفقد الجوانب الأخرى، كذلك أيضاً قد يوقعنا في أخطاء، فقد نتصور أن فلاناً يصلح لهذا الميدان بينما هو يصلح لغيره، لكن عندما نتأخر قليلاً في جانب التخصص نتجاوز تلك السلبيات، سواء الخلل يكون قد أوجدنا عنده قاعدة متكاملة، وأيضاً نتجاوز الخطأ في تقويم الشخصية واستكشاف استعدادات الشخص وطاقاته.(3/25)
عدم التهوين من شأن الجوانب الأخرى
المحذور الرابع: أن نهون من شأن الجوانب الأخرى: فلا يسوغ مطلقاً أن نهون ونغض من شأن العلم الشرعي بحجة أننا ننشغل بإنكار المنكرات الظاهرة، ولا يسوغ أن نهون من شأن إنكار المنكر بحجة التفرغ للعلم الشرعي، وهكذا كل هذه الأبواب أبواب شرعية وأبواب مطلوبة لا يسوغ أن نهون منها ونغض منها، وكم ترى من الناس من يقع في زلل أحياناً لحجة أنه يريد أن يدعو الناس إلى جانب من هذه الجوانب، فيحتقر القائمين بذاك الميدان مع أنهم قائمين بواجب شرعي وعمل مشروع، بل قد يكون هذا الميدان أفضل مما هو فيه، فكم ترى مثلاً ممن ينعى على أولئك المتفرغين لتحصيل العلم الشرعي بحجة أن الأمة تعاني من مشاكل وويلات! وكم ترى أيضاً ممن ينعى على من عاش متنقلاً هناك شرقاً وغرباً، وقد عطّل مشاغله وترك راحته يسافر لخدمة المسلمين وقضاياهم فينعى عليه أن اشتغل بهذا الميدان وترك الميدان الآخر أو ذاك! إن هذا إنما هو في النهاية غمط وانتقاص من هذا الواجب الشرعي، فجميع هذه واجبات شرعية لا يسوغ أن ننتقص شيئاً منها ولا أن ننتقص مجالاً منها.(3/26)
لا ينبغي أن ننشغل بالدون
خامساً: لا ينبغي أن ننشغل بالدون، فقد يكون فلان من الناس وخاصة النوابغ يصلح لميادين كثيرة فينبغي أن يختار الميدان الأولى والأليق به من خلال حاجة المجتمع، وحاجة الدعوة إلى هذا الميدان، أو من خلال أهمية هذا الميدان أو ذاك فصلاحية الإنسان لعمل أو لآخر لا تعني مباشرة أن يتوجه إليه، بل لا بد أن يختار العمل الأصلح له، ثم قد نجد إنساناً نبغ مثلاً في ثلاثة ميادين، الميدان رقم (أ) هذا ترتيبه الأول، والميدان (ب) ترتيبه الثاني، والميدان (ج) ترتيبه الثالث، قد نقول: نحن نريد منك الميدان (ج) مع أنه بالنسبة لك في الترتيب الثالث؛ لأن تلك ميادين يوجد من يسدها، لكن هذا الميدان شاغر.
فهذه قضايا ليس هنا مجال تفصيلها إنما أقصد أنه لا ينبغي أن ننشغل بالدون بحجة أننا قد أفلحنا وقد فُتح لنا هذا الباب، فبعض الناس انشغاله بدون ما هو فيه إهمال وإهدار للطاقة، كما حصل لذاك القاضي الذي يُقال إنه كان يقضي ويعلم الناس ويصلح بينهم فلما قرأ حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إماطة الأذى عن الطريق صدقة) ترك القضاء وانشغل بإماطة الأذى عن الطريق، فهذا قد انشغل بباب من أبواب الخير لا شك، ولكنه انشغل بأدنى مراتب الإيمان وترك الميدان الأنفع والأولى بأمثاله.(3/27)
لابد من التكامل على مستوى الأمة
سادساً: لا بد من التكامل على مستوى الأمة: يعني: قد نسمح أن فلاناً يكون متفرغاً لهذا الميدان وعنده إبداع فيه، لكن على مستوى الأمة وعلى مستوى توجهات الدعوة يجب أن يكون هناك تكامل، ويجب أن تسد الثغور جميعها، فهناك فرق بين الفرد وبين الأمة أو الدعوة على مستوى الأمة.(3/28)
الأسئلة(3/29)
التأسيس في العلم قبل التخصص
السؤال
أليس الأصل أن يتأسس الشاب على قاعدة ثابتة من العلم، ثم يتخصص بعد ذلك فيما يناسبه؛ لأن بعض الشباب إذا سمع كلامكم قد يمتنع عن طلب العلم فيقول: هذا ليس من تخصصي!
الجواب
سبق أن أجبت على هذا الإشكال، وقلت إن الشاب المطلوب منه التكامل حتى يصل إلى منزلة عالية ومن المستوى التربوي ويكوّن عنده شخصية متكاملة ثم بعد ذلك يتخصص، الآن مثلاً الطالب يدرس في المرحلة الابتدائية، ثم المرحلة المتوسطة دروساً يدرسها الجميع، ثم يدخل في المرحلة الأولى الثانوية فيدرس أيضاً دروساً يدرسها الجميع، بعد الأولى الثانوية يتوجه إلى تخصص علمي عام أيضاً، أو يتوجه إلى تخصص أدبي، ثم بعد ذلك يتخرج فيتوجه إلى كلية التخصص فيها أدق، وعندما يتخرج من الكلية ويدرس دراسات عليا يكون هناك تخصص أدق، حيث يكون التخصص أيضاً أدق في مرحلة الماجستير ومرحلة الدكتوراه، وهكذا.
فنقول: لا بد من التكامل فلا بد من أن نعتني بالعلم الشرعي جملة فنربي الشباب عليه ويستغلوا أوقاتهم فيه، ولا بد أن يتربى الشباب على الصلة بالله وعبادة الله سبحانه وتعالى، ولا بد من كل هذه الأبواب جميعاً، ثم بعد ذلك يكون التخصص، وما أظن أنه يفهم من كلامي انتقاص هذا الميدان أو الميدان الآخر، بل أنا أقول: لا يسوغ أن ننتقص هذه الميادين ونحتقرها على كل حال أنا أؤيد الأخ فيما قاله، وأنه لا بد من العناية بالعلم الشرعي، وأن كل واحد منا يفرغ جزءاً من وقته لتعلم العلم الشرعي، لكن هذا شيء وأن نطالب الإنسان بأن يتفرغ من كل الأعمال ويترك كل الميادين لتعلم العلم الشرعي هذا شيء آخر، وهناك فرق بين الصورتين والحالتين، فهذا فلان مثلاً يقضي كل يوم ساعتين يقرأ فيها ويتعلم، بل أنت أصلاً داخل هذا المركز الصيفي تتلقى دروساً علمية وحلقات علمية إلى غير هذا، فهذا الإنسان الذي يتعلم ساعتين لا يعتبر متخصصاً، فأنا أعتبره في ميدان آخر لكنه يحتاج إلى ما لا يقل عن ساعتين يومياً من القراءة والاطلاع ومذاكرة العلم لكن بقية وقته يستغله في جوانب أخرى، أما الإنسان المتخصص بالعلم نقول له: لا تكفينا ساعتان منك، بل ينبغي أن تنفق نفيس وقتك في تعلم العلم الشرعي، ثم تبقى منك فضول أوقات تستغلها بعد ذلك فيما سواها من الأعمال.(3/30)
لا يطلب من الناس أن يتجهوا إلى مكان واحد
السؤال
كثيراً ما نسمع عن أشخاص يطلبون من الناس أن يعملوا العمل الذي قصّر فيه الناس، وأنه لا تتم الدعوة إلا بسلوك هذا الأمر لخطورته وحاجة الناس إليه، فكيف التعامل مع هذا الطلب؟
الجواب
نحن ينبغي أن لا نقع في رد الفعل، صحيح أنه قد نجد ميداناً مُقصّر فيه؛ لكن لا ندعو الناس كلهم إلى هذا الميدان، يعني أنا أضرب لكم مثالاً آخر: لو كنا عشرة أشخاص في خيمة فجاءت الرياح عاصفة فإننا نحتاج أن نمسك الخيمة من كل الزوايا، فيأتي واحد يدعونا كلنا يقول تعالوا هذه الزاوية! فهذا غير صحيح، نعم هناك تقصير وهناك خطر فقد تسقط الخيمة من هذا الجانب، لكن لا يجتمع الجميع إلى هذا الميدان؛ لأنهم إذا أتوا إلى هذا الميدان تركوا ميادينهم، فينبغي أن لا يكون عندنا ردة فعل.(3/31)
تحريك الطاقة الكامنة في النفس بالعمل
السؤال
أنا شاب مع مجموعة وأشعر في نفسي أني طاقة كبرى، ولكن لم أجد من يحرك هذه الطاقة، فما نصيحتك لي، هل أترك هذه المجموعة أم ماذا أفعل؟
الجواب
هذا وهم ومخادعة للنفس، أنت أصلاً تستطيع أن تحرك نفسك، وتستطيع أن تعمل، لكن الإنسان يكون عنده طاقة وجهد وهو كسول، فيريد أن يبرر الكسل فيتصور أن هذه المجموعة أو هذا المجتمع أو العصر الذي وجد فيه هو السبب في إهماله! ولو كان في الوقت القرن السادس عشر أو في القرن الثالث عشر لكان آية من آيات الله! وهذا غير صحيح صحيح، بل هذا وهم ومخادعة للنفس، ما دمت تزعم وتدّعي أن عندك طاقة فأنت قادر على أن تعمل وتُنتج في أي ميدان كنت حتى وسط هذه المجموعة.(3/32)
الجمع بين جميع أبواب الدعوة مستحيل
السؤال
عندما قال أبو بكر: ألا يمكن أن يدعى أحد من جميع الأبواب؟ أجاب النبي بالإيجاب، أفليس ذلك دالاً على إمكانية الإحاطة بجميع الخير ليكون كلانا على كل الخير، أرجو الإجابة الوافية عن هذا السؤال؟
الجواب
يمكن أن يُدعى لكن الذين يدعون إلى هذا الخير قلة، وأنا أسألك: هل تستطيع الآن أن تكون عالماً تفتي في الفقه، ومفسّراً، وأصولياً، وأديباً، وعالماً بالمذاهب، وعالماً بالتيارات المعاصرة، وسياسياً بارعاً، وقائداً في الجيش، ومهندساً، وطبيباً، وإنساناً تنفق على المحتاجين، وتربي الشباب، وتدرس، وتؤذن، وتؤم الناس، وتفعل كل هذه الميادين؟ هذا مستحيل لا يمكن لكن يمكن أن يكون للإنسان من كل عبادة نصيب، أما أن يسد أبواب الدعوة وميادين الدعوة ويقوم بها شخص واحد فهذا مما لا يمكن ولا يطاق، ولو وجد من يجمع أبواباً كثيرة فهؤلاء أناس نوادر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعون كلهم من هذه الأبواب جميعاً.(3/33)
اتخاذ قرار التخصص بحسب الأغراض الدنيوية
السؤال
بعض الشباب بعد أن اجتاز المرحلة الثانوية ذهب إلى تخصص حسب الأغراض الدنيوية، ولم يذهب إلى المجال الذي يُبدع فيه، فما تعليقكم على ذلك؟
الجواب
هذا إنسان لا تعنيه القضية، أنا أقول: إن الإنسان الذي تعنيه قضية الدين وقضية الدعوة يجب أن تتحكم في كل قراراتك، ومن ذلك اختيار التخصص في الجامعة، اختيار العمل بعد التخرج، حتى اختيار موقع السكن قضايا كثيرة يجب أن تؤثر فيها، فهذه تكون عاملاً مؤثراً في اختيار هذه القرارات وحينئذ يختار الإنسان التخصص الذي يرى أنه يفيد الأمة من خلاله، أو العمل الذي يرى أنه سينفع من خلاله.(3/34)
الموازنة بين خدمة الدين في ميدان والتعرض للانحراف
السؤال
إذا ما نبغ الشخص في مجال نبوغاً فاق فيه الكثير لكن مثل هذه المجالات التي نبغ فيها قد تضعف إيمانه، وقد تؤدي إلى انحرافه، علماً بأن ما هو عليه ثغر ليس له من يسده إلى الآن، فما توجيهكم؟
الجواب
لماذا نضع أبيض وأسود، أضرب لك مثالاً حتى تتضح الصورة: نحن نحتاج مثلاً إلى طبيب يكون في المستشفى، المستشفيات فيها فساد وسفور وتبرج، فلا يطلق لنفسه العنان ولا يترك العمل، بل يبقى في هذا الميدان ويحاول أن ينكر، ثم يشعر أنه على خطر فيجتهد في العبادة والدعاء والإقبال على الله عز وجل حتى يكون محصناً من ذلك، ويغض بصره ويجتهد في مدافعة المنكر.
الذي ينكر المنكرات في الأسواق مثلاً يحتاج أن يخرج إلى السوق فينكر المنكرات فيتعرض للفتنة، فهو الآخر يحتاج إلى أن يتسلح بالإيمان، وأحوج من غيره إلى زيادة العبادة والطاعة وكلنا نحتاج إلى ذلك، لكن هذا يحتاج إلى أن يكون عنده حرص على العبادة والطاعة ودعاء الله والتوجه إليه، ولو حصل ما حصل عنده من الإخلال بجوانب أخرى نتيجة لأنه سد هذا الميدان فلا حرج، لكن إذا وصلت القضية عند بعض الناس إلى الانحراف في الخطورة فلا، بعض الناس قد يكون عنده شهوة قوية وغريزة قوية ولا يصبر، فهذا مثلاً لا يصلح أن يتصدى لإنكار المنكرات في الأسواق أو الأعمال التي يمكن أن تكون وسيلة لأن يقع في مثل هذا الميدان، فينبغي له أن يبتعد عن هذا الميدان ويسلك الميدان الآخر.(3/35)
جميع أبواب الدين مفتوحة للعمل فيها
السؤال
هل ترى أن هناك أبواباً من أبواب الخير قد اكتفت وتنصح بالتوجه إلى أبواب تحتاج إلى من يسدها، أرجو ذكر أمثلة على ذلك؟
الجواب
لا لا يوجد أبواب كل أبواب خدمة الدين وخدمة الأمة لا تزال مفتوحة أمام الجميع، قد يكون هناك باب أولى، وقد يكون هناك مجال أولى، لكن الأبواب جميعاً مطلوبة.(3/36)
كيفية تحديد منهج النبوغ
السؤال
الشباب يواجه بعض الصراعات في تحديد منهج نبوغه فتكثر الطرق والسبل، كيف يقوم الشاب بالتحديد؟
الجواب
ليس المعنى أن الإنسان ليس إلا خط واحد يسلكه! والتربية تؤثر على الإنسان فالإنسان قد يكون أمامه عدة خيارات، لكنك عندما تطوعه يمكن أن يسلك هذا الميدان أو الميدان الثاني، فمثلاً هذه الخرقة التي أمامي يمكن أن أستعملها عدة استعمالات، فيمكن أن أجعل منها حبلاً، ويمكن أستر بها على الجدار، ويمكن أن أستعملها بوسيلة أو أخرى؛ لكن لا يمكن أبداً أن أجعل من هذه الخرقة مكبّر صوت، وكذلك الشاب يمكن أن يسلك أكثر من ميدان لكن هناك ميادين لا يمكن أن يسلكها، والشاب عندما يتقدم به السن يعرف نفسه، ويستطيع أن يستفيد أيضاً من أساتذته ومن حوله من الناس.(3/37)
اختلاف الناس في التوجه للعبادة
السؤال
هل هذا الموضوع خاص بالأعمال المتنوعة، وهل تدخل فيه العبادات أيضاً، وكيف يكون ذلك؟
الجواب
سبق أن نقلت كلام ابن القيم رحمه الله، والعبادات فيها جانب من ذلك، فمثلاً: الإنسان قد يجد أن نفسه تتوجه لكثرة الصلاة فتراه يكثر من صلاة النافلة لكنه ليس عنده جلد على الصيام، فهذا يجتهد في النوافل مثلاً، أو يرى نفسه تتوجه إلى الإنفاق فيتجه للإنفاق ولو لم يكن له نصيب كبير من الصيام، وهكذا الصيام، أو قراءة القرآن، أو الذكر؛ لكن في الجملة يجب أن يأخذ الإنسان من كل باب بنصيب، فيكون له نصيب من الصيام والصلاة والذكر وقراءة القرآن.
وتأمل أنت في الناس من حولك تجد بعض الناس يقرأ القرآن في قيامه وقعوده وجلوسه، وبعض الناس يداوم على ذكر الله عز وجل، وبعض الناس يكف لسانه عن عيب الناس وانتقادهم، وبعض الناس ينفق في سبيل الله، وبعض الناس يصلح بين الناس، وهكذا ترى كل إنسان فُتح له باب خير، فأقول: هذا الكلام يشمل أبواب العبادات والتقرب إلى الله، ويشمل أبواب الدعوة لكن قد يكون بينها بعض الفروق.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يوفقنا وإياكم لسلوك صراطه المستقيم، وأن يجمعنا وإياكم في مستقر رحمته.
هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(3/38)
الشباب والاهتمامات
إن للشباب همة وقوة ونشاطاً، فينبغي استغلال تلك الطاقات استغلالاً جيداً مثمراً نافعاً للأمة، ومجالات الخير والسباق كثيرة من دعوة إلى الله، وطلب للعلم، ومسارعة في الأعمال الصالحة، والناظر في حال شباب الأمة يصاب بالذهول والحزن عندما يرى أكثرهم ليس له همة ولا مسارعة إلا في الرذائل والشهوات والتفاهات، ويراهم معرضين عن معالي الأمور وعن جميل الأفعال.(4/1)
اهتمامات كثير من الشباب ونتائجها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد: فموضوعنا لهذه الليلة كما ذكر الأخ المقدم هو: الشباب والاهتمامات، وهذا الموضوع جزء من سلسلة دروس تربوية لعل كثيراً منكم إن لم يكن قد حضرها فإنه قد سمع بعضاً منها من خلال الأشرطة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعل ما نعلم حجة لنا لا حجة علينا.
وهذا هو الدرس الحادي عشر من هذه الدروس التي تعنى بالقضايا التي تهم الشباب بدرجة أساس.
إن موضوع الاهتمامات موضوع له حساسيته وله أهميته كما ذكر لنا الأخ الفاضل الذي قدم لهذه المحاضرة، ومع هذه الأهمية التي تميز بها هذا الموضوع نجد أننا لا نعتني به، بل ربما البعض يتساءل: هل يستحق مثل هذا الموضوع أن يفرد بالحديث عنه؟ وهل يستحق مثل هذا الموضوع أن يفرد بهذه العناية؟ أقول: لعل البعض يتساءل حينما لا يدرك مدى تأثير هذه الاهتمامات على شخصية الشاب، وعلى سلوكه، وعلى توجهه، ولعلنا من خلال عرض الموضوع تتضح لنا أهميته أكثر.
عندما نبدأ بالإنسان من مراحله الأولى؛ مرحلة الطفولة، نجد أن الطفل يولد ساذجاً، له اهتمامات غريبة وساذجة، فهو في مرحلة من المراحل يهتم مثلاً باللعبة التي يقتنيها، فهي كل شيء عنده، وهي المقياس، ويرضى ويسخط من أجلها، ودائماً يتحدث عن هذه اللعبة، فإذا كان لديه مبلغ من المال فإنه سيشتري به لعبة، وإذا زار أحد أقاربه فسيقارن بين لعبته ولعبة الابن الآخر، وهكذا تصبح هذه اللعبة هي قضية القضايا عند هذا الطفل، ثم يتقدم به السن وتتقدم اهتماماته قليلاً، لكنها تبقى دائماً محصورة في إطار ضيق، ثم تبقى الفوارق أيضاً عند هؤلاء الأطفال محدودة، ولو أخذت شريحة أو عينة من مجموعة أطفال ونظرت إلى اهتماماتهم لوجدت أنها متقاربة، لكن عندما يتقدم به السن فيصل إلى مرحلة التكليف، فيبلغ ويكلف شرعاً، فحينئذٍ ستجد الاهتمامات عنده أصبحت في مفترق طرق.(4/2)
اهتمام الشباب بالدنيا
لعلنا قبل أن نتحدث عن الاهتمامات، وما يتعلق بها، وكيف تكون اهتماماتنا، وكيف نضبطها، سنلقي نظرة ولنحرص أن تكون عاجلة حول اهتمامات الشباب، فستجد مثلاً أن فئة من الشباب قد يكون همه الدنيا وتحصيلها، فتصبح هي كل شيء عنده، وهي مقاييسه، وهي التي تستغرق عليه وقته وجهده وتفكيره، حتى قد يصل إلى الحال التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش).
فقد وصل إلى حال أصبح فيه أسيراً للدنيا، وعبداً للدنيا وفي طوعها، فالدينار والدرهم والمال والدنيا هي كل شيء عنده، فيرضى من أجلها، ويسخط من أجلها، ويضحي من أجلها، وهي الهدف الذي لا يساوم عليه، بل لعلك حتى تدرك فعلاً مدى أسر الدنيا لمثل هذا الشخص أن تتصور كيف أنه باع آخرته لدنياه، وهذا يكفي ليعطيك دلالة على مدى أهمية الدنيا عند مثل هذا الشخص.
فهذه صورة، وقد تكون هذه الصورة الآن قليلة في محيط الشباب، لكنك تجدها في الطبقات الأكبر سناً.(4/3)
اهتمام الشباب بالرياضة وأثره
ننتقل إلى اهتمام آخر أكثر انتشاراً وتأثيراً عند الشباب ألا وهو الرياضة أو الكرة، فالشباب يهتم بالكرة اهتماماً بالغاً، من خلال الممارسة، ولعب الكرة يأخذ جزءاً كبيراً جداً من وقته من خلال ما يسمى بالمصطلح المعاصر التشجيع، وفي العلم نسميه الولاء، فهو في الواقع ولاء لهذا النادي وما يتعلق به.
ولو كان الشاب اقتصر على قضية الممارسة للرياضة مع ما تأخذ من الوقت فقد يهون الأمر، فنقول: إن الرياضة تأخذ عليه ساعات، فيصبح الأمر هيناً عندما نقارنه بالصورة الأخرى وهي صورة الانتماء الرياضي، فصار هذا الشاب يشجع نادياً من النوادي، وانظر كيف يؤثر عليه هذا الأمر، فهو مثلاً يهتم بأخبار النادي، واللاعبين، وتاريخهم، وربما يقتني أيضاً صور هؤلاء اللاعبين، ويتابع مباريات الفريق أولاً بأول، ويهتم بهذا، ثم تستولي على مشاعره كثيراً.
كذلك يتأثر أيضاً في تفكيره فيصبح تفكيره مربوطاً كثيراً بهذا النادي، حتى إن أشياء ساذجة صارت تحكم عقلية هذا الشاب، فمثلاً اللون الذي يميز هذا النادي يصبح لوناً له قيمته عنده، فهو مثلاً عندما يقتني قلماً يحرص أن يكون القلم يعبر عن شعار هذا النادي، وعندما يضع تلبيسة على سيارته فأيضاً يجب أن تكون تمثل شعار هذا النادي، فصار هذا اللون يحكمه، وصار يعشق هذا اللون؛ لأنه يذكره بهذا النادي الذي أصبح ينتمي إليه.
وهذه حققت مكاسب لفئات كثيرة من الناس: أصحاب الدعاية، فيطبع شعارات ويفرد شعارات وتروج هذه الشعارات؛ نظراً لارتباطها بنادٍ معين عند هذا الشاب الذي صار هذا النادي يسيطر عليه.
وأنت حتى تدرك فعلاً كم يأخذ هذا الانتماء من الشخص، ومن قدراته، ومن طاقاته، دعني أصور لك هذا المثال: شاب يشجع نادياً من النوادي، والآن لديه مباراة لهذا النادي لها أهمية فقد تحدد موقعه أو مصيره، فهو قبل المباراة سيقرأ الصحف، ويقرأ التحليل عن المباراة والتوقعات إلى غير ذلك، فتأخذ عليه جزءاً كبيراً من وقته ومن قراءته، وما يكتفي بصحيفة واحدة، بل يمكن يقرأ جميع الصحف التي تكتب عن المباراة والتحليل لها، ثم يتناقش مع زملائه، ولك بالضرورة أن تتصور طبيعة النقاش الذي يسود أجواء الرياضيين، فهو نقاش غير مؤدب، ونقاش غير لبق، ونقاش ينم عن مستوى الثقافة التي يتمتع بها أمثال هذه الطبقة، ثم يذهب للملعب، وبالتأكيد سيذهب في وقت مبكر؛ حتى يحصل على مكان متقدم.
وانظر ما سيترك من واجبات لأهله ومصالح سيفوتها نتيجة حرصه على الحضور بل الحضور المبكر لهذه المباراة، وإذا لم يتيسر له الحضور انتقل إلى المرتبة الثانية وهي متابعة المباراة من خلال الشاشة، فسيقف أمام الشاشة أو أمام الملعب وتبدأ المباراة وخلال وقت المباراة كله سيعيش جوا مشحوناً، فقد استجمع كل مشاعره من خلال النظر، ومن خلال التفكير، كل هذه المشاعر استجمعها؛ لأجل متابعة هذه المباراة.
وهذه المشاعر لا يمكن أن يستجمعها مثلاً وهو يقرأ القرآن، ولا وهو يصلي، ولا وهو يسمع الخير، فضلاً عن أن يستجمعها وهو يسمع شرح الأستاذ، أو في أي قضية من قضاياه الجادة، فيستجمع لها مشاعره، ثم يعيش أيضاً مشاعر وعواطف متناقضة خلال هذه المباراة، فهو مثلاً عندما تكون الهجمة على فريقه يعيش شعور خوف ووجل حتى تتبدد على خير، فيرتاح ويستقر، وتعود مرة أخرى فيعود إلى الشعور المعاكس تماماً، فهنا كان عنده شعور خوف، وهنا الآن صار عنده شعور رجاء، فصار يعيش مدة ساعة ونصف بين هذه المشاعر المتناقضة.
فلمصلحة من يضيع الإنسان هذا الوقت وهذا الجهد؟ فهذه المشاعر والعواطف التي عنده: الحب والكراهية والحماس حرام تضيع هذه المشاعر في هذه القضايا، وثق ثقة تامة أنها -كما سيأتي- ستكون على حساب القضايا الأهم.
يا أخي! إن الله سبحانه وتعالى خلق لك نفساً قابلة للحماس، وخلق لك مشاعر معينة، خلقها لحكمة، فهذا إهدار لثروة هائلة قد لا نقيم لها وزناً؛ لكن لها أهمية، فنحن نفكر في ثروة المال، ونفكر في ثروات معينة، وقد أحياناً نفكر في الوقت وأنه ثروة، لكن لا يمكن أن نفكر في هذه المشاعر الذي عندنا أنها ثروة مهمة يجب أن نحافظ عليها، ويجب أن نستغلها الاستغلال الشرعي؛ لأجل المصلحة التي خلقها الله عز وجل من أجلها.
ثم ما يعقب المباراة والنتيجة التي صارت في المباراة لابد أن يصير فيها إلى حالتين: إما أن ينتصر فريقه، فيصبح يعيش حالة زهو وفرح يسيطر عليه، وتؤثر على حياته كلها في اليوم التالي، أو العكس أن يهزم فيعيش مشاعر أخرى من السخط والحزن والقلق.
ولعلكم تسمعون كثيراً مثلاً عن حالات طلاق تحصل عن حالات خصام بين الزوجين؛ نتيجة مثل هذا الجنون الكروي، بل أحياناً قد يصل الأمر ببعض الناس إلى حالة الإغماء وحالة الوفاة.(4/4)
اهتمام البنات بالرياضة
ومن أطرف ما مر علي مقال أحب أن تشاركوني فيه، كتبته إحدى الفتيات، وهي فتاة غيورة كتبت في إحدى الصحف عن علاقة الفتاة بالرياضة، فإنك تجد الفتاة تهتم بأي شيء إلا الرياضة، فهذا المقال كتبته رداً على مقال آخر، تقول الكاتبة: كنت أتصفح إحدى الصحف المحلية ولفت نظري ما أشارت إليه إحدى القارئات بأن تشجيع الفتاة للكرة ليس من تخصصها، ولا يليق بأنوثتها.
ورغم أنني أتفق تماماً مع ما ذهبت إليه إحدى الأخوات في رأيها -لاحظ: أتفق تماماً- إلا أنني أود أن أطرح بعض النقاط والتي أتمنى أن تكون موضع اهتمام هذه القارئة وغيرها: التشجيع ليس مقتصراً على الشباب فقط حتى نقول إنه ليس من تخصص الفتاة، فلا أعرف من أين استقت هذه الفتاة هذا الرأي.
يعني: هذا نقاش علمي ومطالبة بالدليل والحجة والبرهان! فهل تحرم المواطنة من تشجيع منتخب بلدها مثلاً، أليست هي مواطنة تنتمي لبلدها؟! فهناك وفي أكثر الفنادق رجال يعملون في المطبخ، فلماذا لا نقول: إن الطبخ من اختصاص النساء فقط؟ هذا قياس.
إن تشجيع الفتاة للكرة لا يقلل من شأن أنوثتها طالما التزمت برقتها، وهدوئها، وصحيح أنها لا تمارس هذه الرياضة كالشباب لكن من حقها أن تشجعها، ومن حقها أن تمارسها أيضاً، فما المانع؟ عندما تكون هناك نوادٍ، وهناك مباريات رياضية فيما لا يتعارض مع العقيدة الإسلامية، ولا يتعارض مع شريعتنا الإسلامية ما هو الإشكال؟ وما المانع مثلاً أن يكون فيه أيضاً مسارح فيما لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية، ونوادٍ للرقص مثلاً؟ وإلى غير ذلك.
تقول: كرة القدم ليست محتكرة على فئة معينة دون الأخرى، ومن يتفق على أنها حكر على الشباب فأتمنى أن يدعموا رأيهم بأدلة تثبت ذلك.
وأخيراً أقول: بأن التشجيع هواية لدى الشباب والشابات بدليل الفنون التشكيلية، والرياضات العالمية، وغير ذلك مما أصبحت فيها الفتاة خير نموذج تؤكد نجاحها في كل المجالات فتخيلوا صورة فتاة تلبس برقعاً ومعها مجموعة من الكرات.
إن أخواتنا المسلمات تنتهك أعراضهن في كل مكان، ومنهن من تعيش في السجون، ومنهن من تنتهك أعراضهن، ويتناوب آلاف الرجال عليهن، وتسأل الفتاة: ماذا تصنع بهذا الجنين الذي في بطنها؟ كما نسمع كثيراً عن هذه المآسي.
والفتاة الأخرى تحارب عندما تلبس الحجاب، وتقام معارك في الجامعات هل يسمح للفتاة أن تلبس الحجاب أو لا تلبس الحجاب؟ إلى غير ذلك من المآسي التي تعاني منها الفتاة، ونحن نناقش هنا قضية أحقية الفتاة في تشجيع الكرة! فهذه الصورة لا نريد أن نطيل عندها كثيرا.(4/5)
اهتمام الشباب بالشهوات
صورة أخرى: صورة ذاك الشاب الذي قد سيطر عليه هم آخر وهو الشهوة، فسيطرت عليه الشهوة، فصارت تحكم تفكيره وحياته، فهو يفكر دائماً في هذه الشهوة، وكيف يقضي شهوته ويصرفها، فيجلس أمام الأستاذ في الفصل والأستاذ يشرح، لكنه يعيش في واد آخر غير هذا الوادي الذي هو فيه.
ويعيش مع الناس لكنه معهم ببدنه وأما قلبه ففي وادٍ آخر، ويسير بسيارته لكنه أيضاً يفكر تفكيراً آخر، ويتطور الأمر لديه وهو في الفصل ربما والأستاذ يشرح الدرس، فيخرج القلم ويخرج كراسة الكشكول أو الكتاب، فيبدأ يكتب عبارات دون أن يشعر، ويتحرك قلمه فيكتب قصائد حب وغرام، ويكتب عبارات معينة، وحروفاً معينة، ورموزاً معينة، كلها تعبر عن هذا الجحيم الذي يعيشه، وتعبر عن هذا الاهتمام الذي سيطر عليه.
وقد يتجاوز الأمر أحياناً فيكتب على كتابه، وربما يكون هذا الكتاب كتاب التفسير، أو كتاب التوحيد مثلاً، وهذا أمر رأيته بعيني، فقد رأيت أحد الطلاب كتب عبارات ساقطة على كتاب التفسير، ولا أستطيع أن أقولها لكم، ولا أتجرأ أن أقول هذا الكلام الذي يكتبه هذا الطالب على كتاب التفسير.
ولا شك أنه كتب هذا الكلام في درس التفسير، فهو قد أخرج الكتاب والأستاذ يشرح وهو يعيش في وادٍ آخر، فالأستاذ يتحدث عن أسماء الله وصفاته، وعن اليوم الآخر، وعن هذا القرآن الذي أنزله الله هداية للناس، وصاحبنا يعيش في وادٍ آخر.
وربما يتطور الأمر ويصلي ويقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:2 - 4].
والله سبحانه وتعالى يخاطب عبده كما تعلمون (إذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] قال: أثنى علي عبدي، مجدني عبدي، هذا لعبدي ولعبدي ما سأل).
وصاحبنا يعيش في وادٍ آخر، وله هم آخر، فهو يفكر في هذه الشهوة، وصارت هذه الشهوة مقياساً له يقيس به الناس، حتى قد يتحول الأمر به إلى أن يصبح عبداً وأسيراً لهذه الشهوة تحكمه، حتى إن من الناس من يضحي بدينه، وقد يقول عبارات الكفر -عافانا الله وإياكم- لأجل هذه الشهوة التي أصبح أسيراً لها.
أقرأ لكم كلاماً ذكره ابن القيم رحمه الله، وكلامه في هذه المواضع طويل وكثير جداً، لكن هذا كلام ذكره في (إغاثة اللهفان)، قال وهو يتحدث عن حال العاشق: فهو أعظم ذكراً له -أي: لمعشوقه- من ربه، وحبه في قلبه أعظم من حب الله فيه، وكفى به شاهداً على نفسه، {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة:14 - 15].
فلو خير بين رضاه ورضا الله لاختار رضا معشوقه على رضا ربه، ولقاء معشوقه أحب إليه من لقاء ربه، وتمنيه لقربه أعظم من تمنيه لقرب ربه، وهربه من سخطه أشد من هربه من سخط ربه عليه، يسخط ربه بمرضاة معشوقه، ويقدم مصالح معشوقه وحوائجه على طاعة ربه، فإن فضل من وقته فضلة، وكان عنده قليل من الإيمان صرف تلك الفضلة في طاعة ربه، وإن استغرق الزمان حوائج معشوقه ومصالحه صرف زمانه كله فيها، وأهمل أمر الله، يجود لمعشوقه بكل نفيسة ونفيس، ويجعل لربه من ماله -إن جعل له- كل رذيلة وخسيس، فلمعشوقه لبه وقلبه وهمه وخالص ماله، وربه على الفضلة وقته، قد اتخذه وراءه ظهريا، وصار لذكره نسياً، إن قام في خدمته في الصلاة فلسانه يناجي ربه وقلبه يناجي معشوقه، ووجه بدنه إلى القبلة ووجه قلبه إلى المعشوق، إلى آخر كلامه رحمه الله.
هذه صورة من صور بعض الاهتمامات التي قد تطغى على الشاب.(4/6)
الاهتمام بنقد الآخرين أياً كان النقد
وهذه صورة أخرى قد تكون أقل من الصور التي قبلها، لكنها أيضاً صورة من صور الاهتمامات الخاطئة، وهي الاهتمام بنقد الآخرين أياً كان هذا النقد، فيصبح هذا النقد يسيطر عليه، فهو يسمع لينتقد، ويقرأ لينتقد، ويسأل لينتقد، فيأتي يسأل فلاناً وهو يريده أن يجيب إجابة معينة؛ لينتقده فيها، فإذا أجاب على خلاف ما يريد الناقد قال الناقد في حق المسئول: إنه يقول ما لا يعتقد، إنه يعتقد كذا وكذا، ثم يطرح السؤال بصورة أخرى ويلح عليه حتى يجيب بالإجابة التي يريد أن ينتقده فيها، فهذا الشخص قد سيطر عليه النقد وأصبح همه.(4/7)
الاهتمام بطاعة الله والآخرة
لعلنا نرى نماذج من هذه الصور، وقد تختلف النسب بين من هذا همه وذاك همه، قد تختلف الخواطر، ولكنك ترى أن هذه الهموم كلها هموم تسيطر على فئة وقطاع من الشباب، وتتحكم هذه الهموم في مشاعر الإنسان.
ويضرب لنا ابن الجوزي مثلاً عجيباً في ذلك، فهو يتحدث عن همة المؤمن، ثم يضرب لنا مثلاً في اختلاف اهتمامات الناس وأثرها عليهم، فيقول: همة المؤمن متعلقة بالآخرة، فكل ما في الدنيا يحركه إلى ذكر الآخرة، وكل من شغله شيء فهمته شغله، ألا ترى أنه لو دخل أرباب الصنائع إلى دار معمورة رأيت البزاز ينظر الفرش ويحزر قيمته، والنجار إلى السقف، والبناء إلى الحيطان، والحائك إلى نسج الثياب.
والمؤمن إذا رأى ظلمة ذكر ظلمة القبر، وإن رأى مؤلماً ذكر العقاب، وإن سمع صوتاً فظيعاً ذكر نفخة الصور، وإن رأى الناس نياماً ذكر الموت في القبور، وإن رأى لذة ذكر الجنة، فهمته متعلقة بما في الآخرة، وذلك يشغله عن كل أمور الدنيا، إلى آخر كلامه رحمه الله.
وهناك شاب آخر يعيش الظروف نفسها، فهو يعيش في نفس البيئة التي يعيشها الشاب الأول الذي يهتم بالرياضة، أو الشاب الآخر الذي يهتم بشهوته، فيعيش نفس الظروف، ونفس البيئة، ونفس المتغيرات، وربما يعيش البيت نفسه الذي يعيشه فلان، فأنت ترى الشاب الأول له هذا الهم، بينما الآخر يعيش معه في البيت نفسه، ومن أم وأب واحد، ويتلقون تربية واحدة، ولكن هذا له هم آخر غير هم أولئك، ولسان حاله يقول: يا قومي! أنتم في وادٍ وأنا في وادٍ آخر، يا قومي! لي هم غير الهم الذي يشغلكم، فلم تعد الدنيا هماً لي، ولم تعد الرياضة مجالاً أن أفكر فيها أصلاً، فضلاً عن أن أصرف فيها نفيس وقتي ومشاعري وأحاسيسي، وأما الشهوة فهي أبعد إلي من ذلك كله؛ لأني أعرف أنها تقودني إلى ما حرم الله عز وجل.
نعم إنني أصرف شهوتي، لكن فيما أباح الله سبحانه وتعالى، وأؤجر على ذلك، وأتعبد الله بذلك، ولكن لي وادٍ آخر ولي هم آخر غير هذا الهم الذي تهتمون به، فهو يهتم بحفظ كتاب الله سبحانه وتعالى، فإذا رأى شاباً تساءل في ذهنه: يا ترى كم يحفظ من القرآن؟ ويسمعه يقرأ فيصغي إلى قراءته ليسمع ماذا يقرأ، وإلى أين وصل في حفظ القرآن، وهل فاقه أم لا؟ بينما ذاك الشاب ينظر إلى هذا الشاب نفسه الذي يقرأ القرآن، لكنه ينظر بعين أخرى، ينظر بنظرة أخرى، ينظر وله هم آخر وصورة أخرى، أرأيت كيف يجتمع هذان في النظر إلى هذا الشاب، لكن هذا له نظرة وذاك له نظرة أخرى! تماماً كما ذكر ابن الجوزي يدخل الناس القصر، فهذا ينظر إلى الأخشاب، وهذا ينظر إلى الحائط، وهذا يذكره هذا النعيم بنعيم الجنة، ويذكره هذا الجمال والبهاء في الدنيا بزوال الدنيا وفنائها.
وهذه صورة أخرى، فالشاب الذي همه العلم الشرعي وتحصيله، قد تراه يدخل مع غيره المكتبة، وتجد هذا الغير همه مجلة، أو همه صفحة رياضية، أما هذا فهمه كتاب من كتب العلم، ويدخل التسجيلات وله هم، والآخر يدخل تسجيلات أخرى ولكن له هم آخر، في المجالس يتحدث في موضوع، وذاك يتحدث في موضوع آخر.
إذاً: هذه صورة عاجلة عن اهتمامات الشباب.(4/8)
المجالات التي ينبغي أن نهتم بها
ننتقل بعد ذلك إلى النقطة الأخرى، وهي: ما المجالات التي ينبغي أن نهتم بها، والتي نصرف لها اهتمامنا؟ أظن أنه بعد ما سبق وصلتم على الأقل إلى قدر من القناعة بأهمية هذا الموضوع؛ أهمية أن نعتني باهتماماتنا، ونفكر فيها، ونسعى إلى أن نتحكم فيها ونضبطها.
فنقول إذاً: ما القضايا التي يجب أن يهتم بها الشاب؟ وما الأمور التي يجب أن تسيطر على اهتماماته؟(4/9)
إصلاح النفس
أول قضية وأهم قضية: هي إصلاح نفسه، أن يهتم بإصلاح نفسه: كيف أزيد من إيماني وطاعتي لله سبحانه وتعالى؟ وكيف أنمي في نفسي الخوف من الله عز وجل، ومحبته، ورجاءه، والتوجه إليه، والرغبة والرهبة، إلى غير ذلك من عبادات القلب، وكيف أصرفها لله سبحانه وتعالى؟ كيف أربي في نفسي الحرص على الصلاة، على تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى، على ذكر الله، ثم كيف أنتصر على المعاصي؟ كيف أضبط شهواتي؟ كيف أضبط نفسي عما حرم الله سبحانه وتعالى؟ ثم كيف أتخلص من داء البخل الذي قد يكون حاجزاً بيني وبين الإنفاق في سبيل الله؟ وكيف أتخلص من داء الكسل الذي يكون عائقاً بيني وبين الكثير من التطلعات التي أتطلع إليها؟ فقد يكون الكسل عائقاً بيني وبين عبادة الله سبحانه وتعالى، وبين طاعة الله عز وجل، وبين طلب العلم، وبين الدعوة، إلى غير ذلك من المجالات التي يجب أن أسلكها.
المهم أن هذا هم مهم وأساس يجب أن يسيطر عليك، فتفكر فيه كثيراً، وتتساءل عنه كثيراً، وتثيره مع أقرانك، وتفكر فيه، وتقرأ وتسمع وتوظف طاقات كثيرة تملكها لأجل تحقيق هذا الهم.(4/10)
تحصيل العلم الشرعي
هم آخر هو الآخر يجب أن يحتل مكانة بين قائمة اهتماماتك: تحصيل العلم الشرعي.
وذلك بدءاً بحفظ كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولك أن تتصور ماذا سيأخذ عليك من وقتك ومن تفكيرك، فأنت مثلاً تقرأ آيات الله فتفكر فيها، وتسمع حديثاً فتفكر به وتستنبط منه، وترى فيه فائدة مهمة في هذا الموضوع الذي يعنيك، وهكذا تدخل المكتبة فتبحث عن كتب، فهذا كتاب صدر حديثاً، وهذا موضوع جديد، وهذه مسألة تستحق البحث، إلى غير ذلك.(4/11)
الدعوة إلى الله تعالى
هم ثالث: الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
وسنتحدث بعد قليل إن شاء الله عن مقدار من العلم يجب أن تهتم به، ومقدار من الدعوة يجب أن تهتم به؛ حتى نضبط هذه الاهتمامات، لكن نحن الآن نتحدث عن مجالات الدعوة في البيت في المدرسة في الحي حتى تصبح هماً تفكر فيه، فترى فلاناً من الناس وتفكر كيف تدعوه، وكيف تنصحه، وكيف تؤثر عليه؟ وتفكر وأنت جالس فيما تدعو، وتفكر في برامج ووسائل يمكن أن تدعو بها إلى الله سبحانه وتعالى، وتفكر في أخطائك في الدعوة إلى الله عز وجل، وتفكر في تجارب الآخرين، وتقرأ، وتبحث، فالمهم أن هذا صار هماً يسيطر عليك.(4/12)
الاهتمام بمآسي المسلمين ومشاكلهم
أيضاً هم آخر: مآسي المسلمين ومشاكلهم هي الأخرى يجب أن تأخذ مساحة من اهتمامك.
فتفكر في أحوال إخوانك المسلمين، وتقرأ وتسمع عن أحوالهم، وتثير هذه القضايا، كل هذه الاهتمامات يمكن أن تصب في نهر واحد، ويمكن أن نقول: إنها طرق تؤدي إلى نتيجة واحدة، ويجب أن يسير فيها الشاب بخط متوازن كما سيأتي.
يقول ابن القيم: وبالجملة فالقلب الصحيح هو الذي همه كله في الله، وحبه كله له، وقصده له، وبدنه له، وأعماله له، ونومه له، ويقظته له، وحديثه والحديث عنه أشهى إليه من كل حديث، وأفكاره تحوم على مراضيه ومحابه، والخلوة به آثر عنده من الخلطة إلا حيث تكون الخلطة أحب إليه وأرضى له، قرة عينه به، وطمأنينته وسكونه إليه، فهو كلما وجد من نفسه التفاتاً إلى غيره تلا عليها: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر:27 - 28].
فيردد عليها الخطاب بذلك ليسمعه من ربه يوم لقائه، فينصبغ القلب بين يدي إلهه ومعبوده الحق بصبغة العبودية، فتصير العبودية صفته، وذوقاً لا تكلفاً، فيأتي بها تودداً وتحبباً وتقرباً كما يأتي المحب المتيم في محبة محبوبه لخدمته وقضاء أشغاله.
ولهذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: (وجعلت قرة عيني في الصلاة)؛ لأنه يناجي فيها إلهه سبحانه وتعالى، ولهذا كان يدعو صلى الله عليه وسلم ويقول في دعائه لربه: (اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك).
إن هذا الذي يشتاق إلى الله سبحانه وتعالى لن يصبح في قلبه شوق إلى غير الله عز وجل، فهما متناقضان لا يجتمعان أبداً، فلا يمكن أن يشتاق للشهوة الحرام، ولا اللذة الحرام، ولا لما حرم الله، ويشتاق لمحبة الله عز وجل ولقاء الله؛ لأنه يعلم أن هذا يطرد ذاك، وهذا يرفض ذاك، وهذا لا يمكن أبداً أن يجتمع مع ذاك.
إذاً: فهذه مجالات ينبغي أن نهتم بها، وحين يهتم بها الإنسان فإنها تسيطر على شعوره وعلى تفكيره، وأنا في الطريق في السفر كنت أسمع أحد الأشرطة، فسمعت حديثاً وكان في ذهني هذا الموضوع، وفعلاً تتعجب من العقلية التي كانت تسيطر على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر لهم حديث الدجال فقال: (يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، ويوم كأيامكم)، فهم مباشرة سألوه فقالوا: (يا رسول الله! اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم؟) يعني: ما فكر الصحابة في طول هذا اليوم، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يحدث عن الدجال، وصارت الصلاة قضية تسيطر عليهم وعلى همومهم، فمباشرة ذهب إلى أذهانهم هذا السؤال.
وتحفظون قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما طعن وأفاق قال: أصلى المسلمون؟ وأتاه شاب فلما انصرف قال: ارفع إزارك.
وهو يعاني من سكرات الموت.
والنبي صلى الله عليه وسلم وهو في مرض موته كان يقول: (أخرجوا الكفار من جزيرة العرب)، (لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد)، (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم)، فكان له هم يسيطر عليه.
وهكذا يجب أيها الإخوة! أن ترقى اهتماماتنا إلى هذه المراتب العالية والسامية، ولا يكفينا منك أن تكون هذه اهتماماتك، فقد ترى الكثير من الشباب يهتم هذه الاهتمامات الجادة، لكن قد يكون هناك خلل.(4/13)
ضوابط الاهتمامات(4/14)
التوازن
ومن هنا نحتاج إلى ضوابط في هذه الاهتمامات: الضابط الأول: التوازن.
فلا يطغى جانب على جانب، وقد ذكرت قائمة من الاهتمامات كلها تحتاج إليها: إصلاح نفسك، العلم الشرعي، الدعوة إلى الله عز وجل، مآسي المسلمين، إلى غير ذلك.
فيجب أن تسير كل هذه الأمور في خط متوازن، وهذا مجرد تصوير نظري وإلا فأنا أعتبر كل هذه هماً واحداً، ونتيجة واحدة، لكن حتى أصور لك القضية وأقربها لك من خلال التقسيم في الواقع النظري، وإلا فإصلاح النفس لا يتم إلا بالعلم الشرعي، وبالدعوة إلى الله، وبالعناية بمصائب المسلمين.
وهكذا تجد كل قضية تقول: أختي أختي! لكن أقول: يجب أن يكون هناك توازن في هذه الاهتمامات، فلا يطغى جانب على حساب جانب آخر، ولا نهتم بجانب ويكون على حساب الجانب الآخر.
والقضية -كما سيأتي معنا بعد قليل- أن الاهتمامات تعيش صراعاً، فعندما تزيد نسبة اهتمام معين فلابد أن يكون على حساب الاهتمام الآخر، ومن هنا لابد أن تسعى إلى أن تضبط اهتماماتك فلا تزيد عن القدر الذي ينبغي؛ لأنها ستكون على حساب غيرها.(4/15)
التكامل
الضابط الثاني: التكامل: فمثلاً قد تجد شاباً يهتم بأخبار المسلمين، وقضايا المسلمين، فتشغل عليه وقته كله، ثم ينسى العلم الشرعي، وينسى الدعوة إلى الله عز وجل.
وتجد شاباً آخر أصبح يهتم بالتحصيل العلمي، ثم ينسى نفسه، فلا يربي نفسه، ولا يعتني بإصلاح نفسه، ولا يهتم بأخبار المسلمين، وعندما تتحدث معه لا يدري الرجل أهو يعيش في عهد الخلافة العثمانية، أو في الحرب العالمية، أو في الحرب الباردة، أو في النظام الدولي الجديد، لا يعرف! ونحن لا نريده أن يدرك هذه المصطلحات، لكن على الأقل أن يعرف واقعه، ويعرف أحوال المسلمين، ويعرف ما هم فيه، فلا يليق أن يهتم بالعلم الشرعي ويعتني به، ثم لا ترى له أي جهد في دعوة غيره، وكأن الواقع الذي من حوله والذي يعيشه ربما في البيت، أو في المدرسة، أو في الحي، أو في موقع العمل، كأن هذا الواقع لا يعنيه بقليل ولا بكثير.
إذاً: لابد أن يكون هناك تكامل، فيجمع بين هذه العناصر.(4/16)
الاهتمام بما يناسب كل فرد
نقطة ثالثة: وأريد أن أقف عندها كثيراً؛ لأننا نجد فيها خللاً في الواقع، وأرجو أن تفهموها فهماً جيداً.
مثلاً: يأتيك أحياناً شاب في المرحلة الثانوية، فتجد أنه يهتم بمآسي المسلمين اهتماماً بالغاً جداً، ويسأل عن الأخبار، ويعتني بها، وتسيطر عليه هذه القضية كلية، وينسى القضايا الأخرى التي هي بالنسبة له قد تكون أهم، فما عسى شاب في المرحلة الثانوية أو في المرحلة المتوسطة، يعيش في مدينة، أو يعيش في قرية من القرى، ماذا سيقدم هو لقضية من قضايا المسلمين كقضية المسلمين في البوسنة مثلاً، عندما تكون هي الشغل الشاغل عنده، وهي كل شيء عنده، فدائماً يسأل عن هذه القضية، ويثير هذه القضية؟! كثيراً ما يزورني الشباب، وأجدهم دائماً يطرحون أسئلة حول القضايا الساخنة التي تدور في المجتمع، آخر الأخبار في قضية البوسنة، آخر الأخبار في أوضاع الصومال، ثم قضايا ساخنة في المجتمع، وهذا هو كل شيء عندهم.
ونادراً ما يطرح الشباب عليك قضية يعاني منها هو شخصياً، يعني كيف يربي نفسه؟ كيف يصلح نفسه؟ أو قضية علمية تعنيه مثلاً، أو مشروع دعوي هو يفكر فيه ويقترحه.
وشخص آخر يهتم اهتماماً علمياً، لكن هذا الاهتمام أيضاً فوق مستواه، فهو مثلاً شاب لا يزال في مراحل مبكرة من العمر، فتجده يهتم بمسألة من المسائل الفرعية، ويقرأ فيها في كل الكتب المطولات والمختصرات، وأقوال العلماء، وماذا قالوا فيها، وهذا الحديث ما العلة فيه، وفلان وماذا قال في فلان، إلى غير ذلك، ويغرق في القضية هذه، ويتصور أن هذا هو العلم الذي يجب أن يعتني به ويهتم له.
فيسيطر عليه هذا الهم أيضاً هو الآخر، فيهتم بهذه المسائل الدقيقة جداً، ولهذا لما تسأله في أي مسألة من هذه المسائل الجزئية المشتهرة، يقول لك: هذه المسألة فيها خمسة أقوال لأهل العلم، قال فلان: كذا، وقال فلان: كذا، وصنف فيها فلان، وفيها حديث فيه الراوي الفلاني، وهو شاب في مرحلة ثانوية.
أنا والله لا أقول هذا حسداً لهذا الشاب أن يصل إلى هذا المستوى، لكن اسأله في قضية مهمة من قضايا العلم وأساس من أساسات العلم فقد يخطئ فيها.
وأنا يمكن آتي لك بشاب يستوعب ما قاله أهل العلم في قضية تقديم اليدين على الركبتين في الصلاة، والمصنفات وصنف فلان، وقال فلان، وهذا الحديث فيه فلان، أو قضية الإشارة مثلاً بالسبابة، لكنه لا يستطيع أن يفرق مثلاً بين الركن والشرط والواجب في الصلاة، ما الفرق بين هذا وذاك؟ ويمكن أن يخطئ في عد أركان الصلاة، أو في أحكام أساسية هو يحتاج إليها في الصلاة.
مرة أخرى أنا لا أقول: إن هذه قضايا لا ينبغي أن نهتم بها ولا نعتني بها، بل يجب أن نهتم بها، وهي قضايا من ديننا، ولا يجوز إطلاقاً أن نقول هذه قضايا ثانوية، ولا يجوز أن نسفه من يهتم بها، لكن يا أخي! الشاب يجب أن يكون مهتماً بقدر ما هو عليه، فالشاب الذي في هذه المرحلة يجب أن يهتم بالقضايا الأساسية، فيهتم بأساسات العقيدة، ولا يهتم بقضايا جزئية في العقيدة قد لا يضره إن جهلها، ويهتم بأساسات الفقه، ولا يهتم بالقضايا الجزئية التي قد لا يضره إن جهلها، ويهتم بالأساسات في علوم القرآن، وفي تفسير القرآن، فإذا صارت عنده قاعدة علمية جيدة بدأ يهتم بالفروع.
خذ جانباً آخر قد يهتم به الشاب أكثر من مستواه: الجانب الدعوي.
فيأتيك شاب في هذه المرحلة يسألك عن الجماعات الإسلامية، والخلافات التي بين الجماعات، والعمل الإسلامي، ومشاكل العمل الإسلامي، والقضايا التي قد لا يجيد التعبير عنها فضلاً عن أن يستوعبها، ألا توافقني أن هذا الشاب قد أخذ ما لا يطيق، وقد تحمل ما لا يطيق؟ نحن لا نطالبك بعدم الاهتمام بالدعوة، اهتم بالدعوة، لكن في موضع معين، وعلى قدرك أنت، فاهتم بأحوال المسلمين لكن بالقدر الطبيعي الذي فعلاً يطلب منك، وليس من اللائق أن تضيع وقتك في قراءة تحليلات وأخبار، وتسمع الإذاعات، وتستغرق جزءاً كبيراً جداً من وقتك في متابعة قضية من قضايا المسلمين.
الجانب الآخر: الجانب الدعوي: فلا تشغلنا في الكلام عن الجماعات الإسلامية، وعن مشاكل العمل الإسلامي، وعن هموم العالم الإسلامي، وأحياناً -مع احترامي الشديد- تجد طالباً في المرحلة الثانوية أو في مرحلة متوسطة قد ألف كتاباً وكتب: تأليف أبي فلان الأثري، إلى غير ذلك من الألقاب، ثم يُقيِّم العمل الإسلامي كله، ويحكم على الدعاة والجماعات الإسلامية.
أنا لا أقول: إن هؤلاء معصومون، ولا أقول: إنه ما ينبغي أن يتحدث عن أخطائهم، لكن على الأقل يجب على كل إنسان أن يعرف لنفسه قدرها، فبدل الكلام هذا كله يا أخي! أنت الآن في المرحلة الثانوية، أو مرحلة متوسطة، أو طالب جامعي، أو موظف، أياً كان شأنك، بدل هذا التفكير كله، والكلام الذي قد لا يفيد، وعادة ما يكون تجنياً، ما دمت مصراً على التأليف والتصنيف فصنف لنا مثلاً في أساليب دعوية يمكن أن يسلكها من هو مثلك، فأنت مثلاً طالب اعرض لنا تجربتك في الدعوة إلى الله عز وجل، والأساليب التي يجب أن يسلكها الشاب في الدعوة، وإذا كنت موظفاً اعرض لنا هذه ا(4/17)
خصائص الاهتمامات
أخيراً: ننتقل إلى العنصر النهائي لهذه المحاضرة، وهو خصائص الاهتمامات.
أظن أنها قد تقدمت معنا قبل قليل من خلال الحديث العام، لكن نعرضها لكم الآن، وسنجد أنها مصداق لما سبق.(4/18)
أن الاهتمامات تتحكم في وقت الشخص
أولاً: الاهتمامات تتحكم في وقت الشخص، فدائماً الإنسان إذا سيطر عليه هم فلابد أن يتحكم في وقته، فيتأثر تنظيمه لوقته، ونظرته لوقته، فرأينا مثلاً كيف أن الشاب الذي أصبح يهتم بالرياضة سيطرت الرياضة على وقته، والشاب الذي أصبح يهتم بالشهوة سيطرت هي الأخرى على وقته، والشاب الذي يهتم بحفظ القرآن سيطر هذا الأمر على وقته، والذي يهتم بالعلم الشرعي سيطر أيضاً هذا الجانب على جزء كبير من وقته، وكذلك الدعوة وغير ذلك، فهذا الاهتمام لابد أن يسيطر على جزء من وقته، والوقت هو حياة الإنسان، وهو عمر الإنسان.
إذاً: فهذا الشيء الذي يتحكم في قضاء وقتك وتصريف وقتك ألا يستحق أن تعتني به؟ ألا يستحق أن نتحدث حوله، ونناقش فيه ونأخذ ونبدئ ونعيد؟(4/19)
أن الاهتمامات تتحكم في حديث الشخص مع الناس
ثانياً: الاهتمامات تتحكم في حديث الشخص مع الناس.
فدائماً الإنسان يطرح القضية التي تشكله، وكما يقال: كل إناء بما فيه ينضح.
وتجده في المجلس مع الناس، وفي موقع العمل، وفي موقع الدراسة، وفي أي مكان من الأماكن تجده دائماً يثير القضية التي تسيطر على اهتمامه، فيتحدث عنها ويسأل، ويبدي الحديث ويعيد حول هذه القضية.(4/20)
الاهتمامات عادة يعتبرها الشخص مقياساً للناس
ثالثاً: الاهتمامات عادة يعتبرها الشخص مقياساً للناس، فيقيس الناس من خلال هذه الاهتمامات التي أصبحت تسيطر عليه، فقد تجد مثلاً من يقيس الناس من خلال الولاء الرياضي، ويقيس الناس من خلال قضية الشهوة، فتصبح نظراته -عافانا الله وإياكم- دائماً تدور وتحوم حول هذه القضية.
وكذلك الإنسان الذي يهتم بالعلم الشرعي يقيس الناس ويزنهم من خلال العلم، ما مقدار ما عند هذا الإنسان من العلم؟ فالإنسان الذي يهتم بأي جانب من الجوانب يقيس الناس من خلال هذا الجانب، فصار هذا الاهتمام أيضاً معياراً يقوّم من خلاله الناس، ويزن من خلاله الناس.(4/21)
الاهتمامات تتحكم في صداقات المرء وعلاقاته
رابعاً: الاهتمامات تتحكم في صداقات المرء وعلاقاته.
فصداقات المرء وعلاقاته قد يحكمها ارتياح معين، فمثلاً هذا الإنسان الذي له هم من الهموم عندما يجد شخصاً يشاركه هذا الهم سيرتاح إليه، (الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف).
ولهذا فسيختار الجلوس مع فلان، ويحرص أن يجلس مع فلان؛ لأن فلاناً يشاركه هذا الهم، وسيرفض فلاناً؛ لأن فلاناً له هم آخر غير هذا الهم الذي يشغله، فهي قضية تتحكم في علاقات الإنسان وصداقاته.(4/22)
تزاحم الاهتمامات
خامساً: التزاحم.
فتتزاحم هذه الاهتمامات؛ لأن الإنسان عنده مساحة معينة وقدر معين لا يتسع إلا لطاقة معينة، وإذا تزاحمت أخرجت ما سواها.
فمثلاً هذا الكأس أريد أن أضع فيه خليطاً؛ سأضع فيه مثلاً عصير برتقال، وعصير ليمون، وعصير موز، وعصير تفاح، وماء، فيصير خليطاً من خمسة مركبات، فإذا زاد عصير البرتقال سيكون على حساب غيره، أو زاد عصير الليمون سيكون على حساب غيره، فلابد أن تكون بنسب متوازنة حتى لا يطغى شيء على شيء آخر.
وانظر إلى تفكيرك واهتمامك، فمثلاً اهتممت بشيء معين، وليكن الاهتمام الرياضي، فالاهتمام الرياضي أخذ مساحة من تفكيرك، ووقتك، وتصوراتك، وولائك، وعلاقتك، وهذا لابد أن يكون على حساب غيره قطعاً؛ لأنك تفكر في هذه القضية، ولهذا لن تفكر في إصلاح نفسك، ولن تفكر في ذنوبك ومعاصيك، ولن تفكر في العلم الشرعي، أو حفظ القرآن، أو غير ذلك، وإنما سيسيطر عليك هذا الاهتمام.
وكلما دخل اهتمام آخر أخذ مساحة، واهتمام ثاني واهتمام ثالث، ولهذا تجد دائماً أصحاب هذه الاهتمامات من الناس الفارغين، ولا يمكن أن تجد رجل أعمال مشغول وقته كله بجمع الطوابع، أو الفن التشكيلي، أو هواية رياضية أو غيرها؛ لأنه لا يجد وقتاً أصلاً لهذه الاهتمامات، ولا لهذه الأمور، فهو مشغول بشيء آخر.
فهذه تفيدك أنت في عدة أمور، فإذا عرفت أن الاهتمامات لابد أن تتزاحم، ولا يمكن أبداً أن تجمع هذا مع ذاك مع الآخر.
أما أولاً: فلأن المساحة التي يمكن أن تشغلها الاهتمامات مساحة واحدة ولا تقبل التوسعة، ولهذا إذا دخل شيء فسيكون على حساب شيء آخر.
وأما ثانياً: فلأنها متناقضة، فهناك شيء يؤثر على الشيء الآخر، فمثلاً الإنسان الذي يهتم بالشهوة هذا يناقض الاهتمام بالعلم، وحفظ القرآن، أو إصلاح النفس، فصارت شهوته في هذا الأمر، ولم تعد شهوته في تحصيل العلم، ولا شهوته فيما يرضي الله عز وجل، والآخر الذي هوايته تلك، والثاني والثالث والرابع.
إذاً: فأنت عندما تعرف أنها متزاحمة لابد أن تكون بخيلاً فلا تعطي اهتماماً بأي شيء إلا بعدما تراجع حساباتك؛ لأنه يجب أن تعرف أنك عندما تدخل أي شيء في دائرة اهتماماتك فسيشغل مساحة مهمة أنت تحتاج إليها، ولكن فكر هل يستحق أن تدخله في القائمة أو لا يستحق؟ فإذا كان لا يستحق اتركه في الخارج.
وهناك شيء آخر قلناه وهو: الاهتمامات المتناقضة.
فإذا كان هذا الشيء يناقض الشيء الثاني، فمثلاً لا يمكن أن تجعل في هذا الإناء السكر والملح معاً؛ لأنهما متناقضان، ولهذا فمن كان يحب الغناء ويسمع الغناء تراه يعرض عن آيات الله عز وجل، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} [لقمان:6 - 7].
وانظر كيف أثرها عليه؛ لأنه انشغل بسماع الغناء، والغناء صوت الشيطان، والقرآن كلام الله وهما متناقضان، فلما كان منشغلاً بسماع الغناء لم يبق مكان للقرآن، {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} [لقمان:7].
إذاً: فيجب أن تعرف أن أي اهتمام إذا أدخلته في اهتمامك فسيطرد نقضيه، وسيؤثر على نقضيه.
أيضاً معرفة هذه الخاصية تفيدك في العلاج؛ لأن بعض الشباب يقول: أنا أعاني الآن من أني أهتم بهذا الجانب، أو أهتم بالجانب الآخر، أو أهتم بالجانب الثالث، أو أهتم بالجانب الرابع، وهكذا، فثق يا أخي! أنك عندما تهتم بالاهتمام أَلِف، والاهتمام باء، وتريد أن تتخلص منه فلا يمكن أن تتخلص منه هكذا، بل لابد أن نقلص المساحة التي يأخذها من الاهتمامات، فأدخل اهتمامات جديدة، واهتم بأشياء أخرى جادة.
ولهذا نقول دائماً للشباب: الذي يعاني ويقول: أنا أعاني من التفكير في الشهوة، أو مثلاً من الاهتمام بالقضايا الرياضية، نقول له باختصار: أنت عندما تهتم بقضايا جادة ستجد أنها أخذت مساحة وطردت الأخرى، وتدريجياً ستتلاشى تلك الأمور الأخرى من حيث لا تريد أنت، ومن حيث لا تقصد ولا تشعر؛ لأنها قضية تلقائية، فصار لك الآن هم حفظ القرآن، أو تعلم العلم، أو إصلاح النفس، وستأخذ جزءاً من وقتك، ومن تفكيرك، ومن نظرتك للناس، إلى غير ذلك، وستكون على حساب غيرها.
إذاً: فأنت ستوظف هذه القضية لأن تطرد عنك الاهتمامات الأخرى التي لا تريدها، فتستطيع أن تتخلص من تلك الاهتمامات دون الحاجة إلى أن تتكلف، وباختصار شديد عليك أن تدخل الاهتمامات الجادة النقيضة لهذه الاهتمامات.
ولعلنا أن نختم هذا الموضوع بكلمة للحافظ ابن القيم رحمه الله حول من تعلق بالدنيا، وقد لا تكون في موضعها؛ ولكنها كلمة لها أهميتها حول من أصبحت الدنيا همه، ويتحدث عن قول الله عز وجل: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلا(4/23)
الأسئلة(4/24)
نصيحة لمن ابتلي بعشق الأشخاص
السؤال
هذا سؤال يتكرر كثيراً بصيغ عديدة، يقول: أنا شاب ابتليت بعشق شخص، وتجدني دائماً أفكر فيه، وأحاول أن أرى ما يسرني منه؛ لأني أحبه، وأحاول أن أقترب منه، وأحاول التمعن في وجه، وهكذا، فما هو الحل لهذه المشكلة التي أعاني منها؛ لأني وجدت ضعفاً في إيماني؟ وهذا يقول: ما هي أسباب العشق، وكيف التخلص منه؟ وهذا يقول: ماذا تقول عن شخص تمتلكه شهوته، فيذهب ويقضيها، وعندما يفرغ منها يبدأ ضميره يؤنبه، ويستمر التأنيب مدة طويلة، ثم تعود الشهوة وتسيطر عليه، وهكذا، فبماذا تنصح هذا الشاب؟
الجواب
هذا جزء من الصورة التي حكيناها وهي من يبتلى بهذه الشهوة، فتصبح هماً يسيطر عليه، ولعلنا قرأنا في هذا السؤال ما يشبه ما ذكرنا في المحاضرة من أن هذه القضية قد تسيطر على الإنسان، والحل -كما قلت لكم قبل قليل- في آخر المحاضرة: أولاً: أن الإنسان يتقي الله سبحانه وتعالى، ويحاسب نفسه، ويدرك شؤم المعصية، ثم خطورة التعلق بهذه الشهوات التي قد تكون سبباً في انحراف الإنسان وغوايته، وما أخطر أن تسيطر على الشاب هذه الشهوة، فتحكم تفكيره وتصوره.
ومن هنا فيجب أن يكون الشاب حازماً مع نفسه وجاداً، فيقطع الطريق عليها من أوله،؛ لأنه قد يستمر فتصبح عادة فيصعب عليه جداً أن يتحكم فيها، ولهذا فيجب أن يكون حازماً مع نفسه ويتخلص من الآن، ومع بداية الطريق، ثم لا يمكن أن يتخلص الشاب من هذه القضية إلا عندما يتوجه قلبه إلى الله سبحانه وتعالى، ويعلق قلبه بالله عز وجل، ودائماً يعبد الله سبحانه وتعالى بقلبه، ويتوجه إلى الله بقلبه قبل أن يتوجه إليه بلسانه، فهو قد يقرأ القرآن لكنه قد لا يستحضره في قلبه، ويشهد الصلاة لكنه قد يصلي ببدنه، فعندما يقبل على الله سبحانه وتعالى يجد الأنس واللذة، ثم يجد العتاب الشديد، واللوم للنفس عندما تتوجه إلى هذه الأمور التافهة.
فهذه خطوة مهمة، ثم خطوة أخرى أن يقطع على نفسه ما يثير هذه القضية، ويثير هذه الشهوة، فيقطع على نفسه النظر الحرام، والتفكير في هذا الموضوع، والتفكير في هذا الشخص، والتفكير في هذه القضية قدر الإمكان، ويحاول أن يشغل نفسه بين فترة وأخرى بالتفكير النافع المفيد.
وأخيراً: القضية التي أشرت إليها، وهي قضية التزاحم، فإن أدخل عنده اهتمامات بقضايا جادة فستشغله قطعاً، فإذا اهتم بقضايا جادة سيطرت عليه، فاهتم بإصلاح نفسه، وقراءة القرآن، والعلم، والدعوة، وغيرها، وصار لا يفكر أصلاً بهذه القضية، فلما ينظر إلى فلان لا ينظر من هذه الناحية.
ولعل بعد ذلك وقبله أن نوصيه بدعاء الله سبحانه وتعالى، والتوجه إليه، فالله عز وجل يقول: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، وقال: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل:62].(4/25)
توجيه الشباب الملتزمين المهتمين بالرياضة ومشاهدتها
السؤال
ظهر في فئة من الشباب الملتزمين الاهتمام بالرياضة ومشاهدة المباريات الكروية، فما هو التوجيه لهذه الفئة التي جعلت هذا اهتمامها؟ وسؤال آخر: يقول: ماذا تريد منا يا شيخ! هل نترك التشجيع؟ هل نترك جلسات السواليف في العطل ونحن غير مشغولين، في النهار فراغ وفي الليل فراغ؟ أرجو أن تعطيني جواباً يشفي أمراضاً كثيرة نعيشها نحن الشباب ومدارها على الفراغ يا شيخ! خاصة في العطل؟
الجواب
أقول: أولاً: لن أقول لك: أدرك قيمة وقتك، ولن أقول لك: إنك محاسب على وقتك، وستسأل أمام الله عز وجل عن كل دقيقة، وأنه لن تزول قدمك يوم القيامة حتى تسأل أمام الله عن هذا الوقت.
ولن أقول لك: إنك في المستقبل ستندم على هذا العمر الذي قضيته، وستندم على هذا الفراغ الذي أنت الآن تشتكي منه، وتتمنى في المستقبل وقت فراغ ولو لحظات تستفيد منها، وتتمنى ساعة فقط حتى تستفيد منها، حتى تقرأ، حتى تعود إلى الله، لن أقول لك ذلك كله؛ لأنه ليس مهماً، لكن لا شك أنه أهم شيء، لكنك تعرفه جيداً وتدركه، ولو فكرت تفكيراً جاداً وبإنصاف؛ لعرفت أنه لا يحق لك أنك تشتكي من الفراغ، بل تتمنى فراغاً أكثر؛ حتى تستفيد وتستثمر وقتك فيما ينفع.
لكن أنقلك إلى صورة أخرى: أنت الآن تعيش هذا الواقع القريب منك والبعيد، المجتمع الذي أنت تعيش فيه، والمرحلة التي تعيشها الأمة الإسلامية، الآن كلكم توافقون أن الأمة الإسلامية الآن تعاني أسوأ المراحل التي مرت بها في التاريخ، وهي الآن في ذيل القائمة.
ففي الشرق تجد المشاكل التي يعاني منها المسلمون هناك، في الهند مع الهندوس، وفي كشمير، وفي أفغانستان، في طاجكستان، في الجمهوريات التي استقلت.
وتأتي إلى ما يسمونه بالشرق الأوسط فترى المعاناة، وأعظم معاناة أن نرى المسجد الأقصى الذي يشرع شد الرحال إليه بيد اليهود، ونجد من يريد أن يساوم على التخلي عن هذه البقعة المقدسة، وتجد المسلمين أيضاً داخل هذه البقعة يعانون ما يعانون من قضايا تسمعون عنها كثيراً، وما الحديث عن الإرهاب والتطرف والأصولية ببعيد عنكم.
وانتقل إلى الغرب، انتقل إلى أوروبا، إلى أمريكا، إلى أي مكان وموطن في قارات العالم تجد المعاناة، إما تقتيل، أو تشريد، أو جوع، أو تنصير، أو صد عن دين الله، أو إثارة للشهوات.
ألا تدري أنه في مناطق كثيرة في العالم الإسلامي يجر الشاب إلى المحاكمة عندما يخرج إلى صلاة الفجر؟! ألا تدري أن علامات استفهام توضع على الفتاة عندما تذهب إلى الجامعة وقد ارتدت الحجاب؟! ألا تدري أن فتيات منعن من دخول الجامعة في كثير من البلاد الإسلامية نظراً لأنها محجبة؟! ألا تدري أن القضية طالت حول أحقية دخول الطالبة المحجبة كلية الطب؛ حتى وصلت إلى أن تعرض على مجلس النواب؟! ألا تدري أن هناك برامج ومواثيق وعهود يتفق عليها الكثير من هؤلاء لأجل قضية واحدة هي حرب الإسلام، حرب الصحوة، وأدها، صد الناس عن دين الله وفتنتهم؟! ثم تعال الآن قريباً في المجتمع الذي أنت تعيشه، كم ترى من الشباب من أقرانك في السن الذي أنت فيه الآن موجود في هذا المركز، فأنت تقضي فيه هذا الوقت أو في هذه المحاضرة وتجد من الشباب من له هم آخر، من أصبح غارقاً في شهوته، أنت تأتي للمسجد لصلاة الظهر، وهو يذهب ليقف عند مدارس البنات، أنت قد تقوم الليل تتهجد في الثلث الأخير من الليل، وهو مستيقظ في الليل؛ لكن لشأن آخر، فلك هم وله هم آخر.
فهذا الواقع المر الذي يعاني منه الناس حولك بالله عليك ما يحرك فيك ساكناً؟ ما يجعلك تنظر إلى وقتك نظرة أخرى؟ فهل يليق أن تقضي وقتك -مع الاعتذار الشديد- تطعيساً، أو من هنا ومن هنا، أو الاهتمام بالكرة، أو غيرها، وأنت ترى هذا الواقع المر الذي يعاني منه المسلمون، سواء الواقع القريب أو الواقع البعيد؟ أضف هذا كله إلى ما ذكرته لك في أول الإجابة عن السؤال، فتجد أنه ليس من حقك يا أخي! أن تفكر بهذا التفكير، فضلاً عن أن تتصور أن الفراغ مشكلة.(4/26)
علاج داء الاهتمام بالدنيا زيادة على الحد
السؤال
أنا شاب أعرف الله والحمد لله، وأحافظ على الصلوات الخمس، لكن ألاحظ في نفسي وفي كثير من الشباب أن اهتماماتنا دنيوية ليس إلا، فبين لنا الطريق الصائب والذي يقودنا إلى الله والدار الآخرة؟
الجواب
باختصار: أن تعرف أنك ما خلقت إلا لعبادة الله عز وجل، وما خلقت إلا لمرضاة الله سبحانه وتعالى، وهذه الدنيا إنما هي مرحلة للدار الآخرة.(4/27)
حكم الاهتمام بالكماليات اهتماماً زائداً
السؤال
تجد بعض الشباب الملتزم يهتم ببعض الكماليات البسيطة مثل: شكل ولون الثوب، وكذلك الأحذية، والسيارة، والشماغ، وإطار النظارة، ويقول معارضاً لمن ينصحه: يقول الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف:32]، وقول الرسول صلى اله عليه وسلم: (إن الله جميل يحب الجمال)، فكيف يرد على ذلك؟
الجواب
يقال له: من الجمال مثلاً: أن الشاب يرتدي قلادة ذهب، وساعة ذهب، ومن الجمال أيضاً أنه يتابع أحدث القصات، فيقص شعره بصورة مناسبة ولائقة، ومن الجمال أن يلبس ثوب حرير، فهذا كله جمال.
فالجمال الذي يحبه الله ليس كل جمال، وإنما هو محصور في قضية معينة، ثم لماذا نأخذ جانباً من النصوص ونترك الجانب الآخر؟ فمن الذي قال: (إن الله جميل يحب الجمال)؟ هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أحرص الناس على ما يحبه الله سبحانه وتعالى، فننظر إلى هديه صلى الله عليه وسلم في اللباس وفي الزينة، فنقتدي به صلى الله عليه وسلم.
فأقول: إن القضية تحتاج إلى التوسط، فكون الإنسان يكون رث المظهر وقذراً، ومظهره غير لائق هذا ما يجوز، وكونه أيضاً تصير المظاهر هي أهم شيء عنده أيضاً هذه قضية غير لائقة، فالتوسط مطلوب.
والنبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: (إن الله جميل يحب الجمال) قال: (البذاذة من الإيمان).
والله سبحانه وتعالى قال: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف:31]، وهذا من الإسراف أن يضيع الإنسان مبالغ باهظة في مظاهر أو في قضايا ثانوية.
فالاهتمام بالمظهر مُظهر لقضية داخلية أصلاً، فالإنسان الجاد ما يجد وقتاً أصلاً للتفكير في هذه القضايا، ولذلك تجد أن الشاب يعتني بمظهره اعتناء بالغاً، ويهتم به، لكن عندما يستقيم ويهديه الله عز وجل تجده خفف عنايته بالمظهر تلقائياً من دون قصد، لماذا؟ لأنه صار له اهتمامات جادة، فهو في السابق كان شخصاً فارغاً وتافهاً، ولهذا يعطي المظهر اهتماماً بالغاً جداً.
فالمطلوب هو التوسط في هذه الأمور.(4/28)
الأسباب الجالبة للشعور بلذة العبادة والاستقامة
السؤال
كيف تعلل حال من حفظ القرآن، وطبق الكثير من السنن والأوامر، واجتنب معظم المحرمات والكبائر؛ لكنه لا يشعر بلذة لذلك، ويخاف من الانتكاس؟
الجواب
يجب عليه أن يجاهد نفسه، وكما يقول أحد السلف: كابدت نفسي على قيام الليل عشرين سنة، ثم تلذذت به عشرين سنة، لكن ما بالكم بمن لا يقوم الليل أصلاً عافانا الله وإياكم، ورزقنا وإياكم عبادته، فنحن مقصرون كثيراً ومهملون، ونتمنى أن نجد ما يجده السلف من لذة في طاعة الله عز وجل، وأنى لنا ذلك.
وأهم شيء يا إخوان! يجب أن نعتني به هو إصلاح القلوب، فإذا أصلحنا قلوبنا وجدنا اللذة فعلاً، ووجدنا طاعة الله سبحانه وتعالى، فنحن أحياناً نعتني بمظاهر العبادات، ونعتني بإصلاح الظاهر فيغيب عنا الأهم من ذلك وهو إصلاح الباطن، كأن نعتني بأن يتوجه القلب لله سبحانه وتعالى، وأن يكون القلب همه كله لله عز وجل: رجاءً، ورغبة، ورهبة، وخوفاً، وتوجهاً إلى الله سبحانه وتعالى، ثم نطهر قلوبنا من أمراض الرياء والحسد وغير ذلك.
فإذا اعتنينا بإصلاح قلوبنا صلحت لنا، ووجدنا ما وجده السلف، وأما الآن فنحن جميعاً أنا وإياك والجميع نشتكي من هذه القضية: أنا لا نجد لذة العبادة؛ لأن قلوبنا مشغولة بالدنيا، وقلوبنا متوجهة إلى غير الله سبحانه وتعالى، ومن ثم لا نجد هذه اللذة، ولا نتمتع بها.(4/29)
نصيحة لمن تعلق قلبه بحب شاب آخر
السؤال
أنا شاب تعلق قلبي بحب شاب آخر، وأحياناً يخيل إلي أن حبي له في الله، وأحيان أرى غير ذلك، فما الحل في هذا؟ وهل من طريق لإصلاح هذه الحالة؛ لأني أراها عامة، وفقك الله؟
الجواب
هذا السؤال نفسه سبق أن أجبنا عليه قبل قليل، وهذه أحياناً وسائل يخادع بها الإنسان نفسه، فهو عنده غيرة ونفسه تلومه، ولهذا يخدع نفسه أنه يحبه لله عز وجل، ويقول: عندما يزيد في الطاعة تزيد محبتي له، والعكس صحيح، لكن تأمل أنت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أن يحب المرء لا يحبه إلا لله).
فيجب أن يحذر الشباب من هذه المزالق، واستفتي قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك، وكل إنسان طبيب نفسه، وكل إنسان أعلم بأمراض نفسه.(4/30)
توجيه في اشتغال المرء بإصلاح نفسه وكفه عن عيوب الآخرين
السؤال
أحس أحياناً إذا طغى على تفكيري بعض التنظيمات للدعوة، وأحس بقسوة في قلبي، وذلك من خلال حديثي عن فلان أنه مقصر، وفلان فيه ملاحظة، وهكذا، فما الحل؟
الجواب
أولاً: يجب أن نتجاوز قدر الإمكان الحديث عن الناس، ونحرص قدر الإمكان ألا نتحدث عن الناس، وإذا احتجنا أن نتحدث عن أخطاء عامة فما في داعي أن نقول: إن فلاناً يقع في هذا الخطأ، إذا أردنا أن نحذر من خطأ أو قضية ما فلا داعي أن نقول: فلان يقع في هذا الخطأ، أو الجماعة الفلانية تقع في هذا الخطأ، أو الفئة الفلانية تقع في هذا الخطأ، فنتحدث عن خطأ كخطأ دون أن نربطه بشخص أو فئة أو جماعة.
ثم أيضاً يجب أن يكون لنا حظ من عبادة الله، والتوجه إليه، فلا يطغى علينا مجرد العمل أحياناً، وهو إن شاء الله كله خير، وعمل لله عز وجل؛ لكن لا يستنفذ وقت الإنسان فلا يبقى بعد ذلك معه فرصة للعبادة والطاعة.
وسبق أن ذكرت لـ ابن القيم رحمه الله كلاماً جيداً حول هذه القضية في الدرس التاسع من هذه الدروس، والذي كان بعنوان: التربية الذاتية، فذكر كلاماً جيداً حول قضية الإيثار، وإيثار الإنسان بوقته، وإيثاره بحظه من الله عز وجل، وأنه يجب أن يكون للإنسان خلوة شرعية، ويجب أن يكون للإنسان حالة يخلو فيها بالله سبحانه وتعالى.
فأقول: أولاً: يجب أن نضبط حديثنا، فإذا احتجنا للحديث عن الأخطاء أو غيرها فلا نتحدث عن أشخاص، ولا عن فئات، وإنما نتحدث عن خطأ من حيث هو خطأ، وإذا اقتضت المصلحة الشرعية أن أتحدث عن أخطاء أشخاص معينين فلا حرج في ذلك، لكن يجب أن ننظر.
ثم القضية الثانية: أن يكون لنا حظ من عبادة الله سبحانه وتعالى، والصلة به؛ حتى تزيل عنا هذه القضية.(4/31)
نصيحة لمن يترك الاستقامة ثم يعود مرة أخرى وهكذا
السؤال
أنا شاب التزمت منذ زمن ليس ببعيد ثلاث مرات، ثم تركت الالتزام، وأنا أريد أن أتوب هذه المرة، فهل تقبل لي هذه التوبة؟ وكيف أتوب؟
الجواب
نعم تقبل هذه التوبة، لكن هل ستستمر أم لا؟ فهذه هي القضية، وإلا فما الذي يمنعك من التوبة، يا أخي! الله عز وجل قبل توبة من أشرك، ودعا إلى التوبة من فعل الفواحش، بل دعا إلى التوبة المنافقين، بل دعا إلى التوبة الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:73 - 74].
يا أخي! لقد دعا الله الذين فعلوا الفاحشة، ودعا الذين قتلوا النفس بغير حق، ودعا الذين وقعوا في الشرك، ودعا المنافقين، ودعا الكفار، ودعا الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، ودعا الذين تجرءوا على الله، وسبوا الله عز وجل إلى التوبة، وقال: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:74].
فليس هناك شيء يحول بينك وبين التوبة، لكن أنا أريد منك أن تفكر تفكيراً آخر وأن تسأل نفسك: ما هي الأسباب التي جعلتك ترجع ثلاث مرات؟ ثم انتبه أن تكون هذه المرة هي الرابعة ثم تطرح هذا السؤال مرة أخرى علي أو على غيري: إني التزمت أربع مرات! فأقول: إن قضية التوبة لا تحتاج إلى تفكير ولا نقاش، فهذه القضية مفروغ منها، فكل من تاب تاب الله عليه، لكن القضية هي: كيف تحل المشكلة هذه التي تجعلك تعود إلى طريق الضلالة مرة بعد أخرى.(4/32)
الاهتمام بما ينفع
السؤال
بعض الشباب يكون متحمساً لقضية ومجال من المجالات التي لا تعود عليه بخير، فإذا نصحتهم ووجهتهم قال: (كل ميسر لما خلق له)، فلو كان الناس كلهم شيوخاً أو علماء أو حكاماً لما كانت الحياة لها طعم؟
الجواب
صحيح أن مبدأ التخصص وارد، وكل إنسان له مجال وتخصص معين، فهذه مفروغ منها، لكن يجب ألا نفرط في هذه القضية فتكون على حساب غيرها، فمثلاً: بعض الشباب قد يكون نشيطاً في دعوة الشباب المنحرفين، ويقضي في ذلك وقتاً ويبذل جهداً، وهذا جهد طيب وخير، فإذا قلت له: يا أخي! احفظ القرآن، قال لك: لا يا أخي! أنا أجد نفسي متوجهاً لهذا المجال، وإذا قلت له: بالعلم الشرعي، قال لك: لا أنا متوجه لهذا المجال، والتخصص وارد.
فنقول له: صحيح أن التخصص وارد، لكن أيضاً مع التخصص يجب أن يكون هناك توازن، فهناك قدر مشترك يجب أن يحصله الجميع، ثم بعد ذلك يبقى أن فلاناً يركز على هذا الجانب، وفلاناً يركز على الجانب الآخر، لكن هذا التخصص لا يصح أن يدعونا إلى أن نفرط في جوانب مهمة.
فمثلاً: كم نسمع ممن يزهد في العلم الشرعي؛ بحجة أن التخصص وارد، والناس ما هم كلهم علماء، صحيح أن الناس ما هم كلهم علماء؛ لكن ليس كل من يطلب العلم الشرعي سيكون عالماً.
فنريد منك أن تأتي بالعلم الشرعي، وتطلب العلم الذي على الأقل يرفعك إلى أن تحسن عبادتك، وتدعو الناس من خلال هذا العلم، ويضبط لك كثير من الأمور، ثم بعد ذلك توسع في غيره، فاعتني بحفظ القرآن، ولو لم تكمل حفظ القرآن كله، لكن على الأقل تحفظ جزءاً من القرآن، وهكذا.
فلا يصح أن نخلط بين قضية التخصص وبين قضية الخلل في التخصص، فالتخصص مطلوب؛ لكن أيضاً ينبغي ألا يدعونا هذا إلى التركيز على جانب على حساب الجوانب الأخرى، فيكون الإنسان عنده خلل في شخصيته.(4/33)
فوائد القراءة
السؤال
تعلمون ما للقراءة من فوائد عظيمة وكثيرة: من حفظ للوقت، وإنارة الفكر، وغير ذلك؛ ولكن كثير من شباب الأمة منصرفون عنها إلى اهتمامات أخرى غالبها اهتمامات تافهة، فنرجو توضيح بعض فوائد القراءة، والمنهج الصحيح للقراءة؟
الجواب
أنت ذكرت بعض الفوائد من حفظ للوقت، وإنارة للفكر، وغير ذلك.
فأقول: أولاً: القراءة تحفظ وقتك كما ذكر الأخ، فعلى الأقل تجعلك لا تنشغل في معصية الله، فتكون حفظت هذا الوقت في طاعة الله، فإذا سئلت عنه أمام الله عز وجل فقد قضيته في قراءة علم نافع.
وفي الحديث: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)، فالذي يقرأ لأجل تحصيل العلم فإن الله يسهل له بهذا الطريق طريقاً إلى الجنة.
وفيها تحصيل فوائد علمية، والقراءة أيضاً تعينك على تصحيح سلوكك، فلما تقرأ في كتب السلوك والآداب تستفيد فتصحح سلوكك، والقراءة تعينك على الصلة بالله، وتزيد عندك جانب الرقائق، فأنت لما تقرأ في كتب الرقائق تتأثر في ذلك، القراءة تعينك على الدعوة؛ لأنك لما تقرأ في كتب الدعاة وكتب الدعوة أيضاً تتحمس للدعوة، فالقراءة تنمي تفكيرك، وقدرتك على التفكير، وحل المشكلات.
فالمهم أن القراءة لا يستغني عنها أحد، وأنا أقول للشباب: الآن في الإجازة يجب على الإنسان العادي أن يقرأ ما لا يقل عن ساعتين، وهذا أمر سهل في الإجازة، ثم الذي يتخصص في العلم هذا له قراءة أخرى، لكن هذا الإنسان مثلاً يقول: أنا تخصصي ما هو بالعلم الشرعي، ولي توجه آخر، مثلاً أنا أجد إني عندي نشاط في دعوة المنحرفين، أو مثلاً دعوة الجاليات، أو غيرها من الأمور الأخرى المهمة، فنقول: لكن لابد أنك تقرأ على الأقل ساعتين، وما سوى ذلك اصرفه في غيره، وأما الذي يهتم للتخصص في العلم فهذا يصرف نفيس وقته في القراءة.
فأقول: يا شباب! هذا الوقت فرصة لكم، وأنا أذكر لكم عن نفسي الواحد منا يبحث عن وقت الآن حتى يقرأ فلا يجد وقتاً حتى يحضر لمثل هذا الموضوع الذي ألقيه، فلا أكاد أجد وقتاً من زحمة الأوقات والمشاغل.
وكم نعظ أصابع الندم على تلك المراحل الطويلة من الشباب التي قضيناها وأهملنا فيها حظنا من القراءة والتحصيل، والآن وصلنا إلى هذه المرحلة والمستوى -والإنسان يعرف نفسه- لا علم، ولا قراءة، ولا إحاطة، فالواحد يشعر أنه رزق على الأقل شيئاً من القدرة، فأراد أن ينفع الناس به.
ونريدكم ألا تكونوا مثلنا، فنريدكم أن تأتوا وأنتم تحملون الإخلاص الذي لا نحمله، والإيمان والصلة والصدق مع الله عز وجل الذي نجد أننا نعاني من فقده، وتحملون العلم الشرعي، وتحملون الوعي والقدرة بحيث لا يبقى لأمثالنا مكان، فنريد أن يبقى المكان للناس الذين هم أعلى، ولن تصلوا إلى هذه المنازل إلا عندما تحفظون أوقاتكم، ومن خير ذلك استغلال الوقت بالقراءة، إلى غيرها من حضور مجالس العلم، وغيرها من وسائل تحصيل العلم الشرعي.(4/34)
ضرورة التكامل في جميع المجالات
السؤال
ما رأيك بالشاب الذي يتوجه إلى الكليات العلمية التطبيقية كالطب والهندسة مثلاً، مع المحافظة على كتاب الله تعالى؟
الجواب
كل التخصصات يا إخوان مطلوبة، سواء العلم التجريبي أو التطبيقي كالطب والهندسة وغيرها، أو العلوم الإنسانية من اجتماع واقتصاد وعلم نفس وإدارة، أو غيرها من العلوم الفنية، أو حتى القطاعات العسكرية، فأي جانب من الجوانب مطلوب ومهم أن نسلكه.
والآن نحن نتحدث في مثل هذا المعهد الذي هو تخصص معين، فمطلوب أن يوجد أناس يشغلون في هذه الميدان، لكن الإنسان يعرف نفسه، فمثلاً الشاب الذي عنده نهم للعلم الشرعي، وعناية وتوجه وحرص عليه، مثل هذا نقول له: ينبغي لك أن تتوجه لدراسة العوم الشرعية؛ حتى تكمل هذا الجانب، لكن الشاب الآخر عنده نهم في جانب آخر، وهكذا فنوجه كل واحد في مجاله.
أيضاً مع سلوك هذا الميدان لا يهمل الإنسان نفسه، فالطالب الذي يتوجه للطب، أو للهندسة، أو للغة الإنجليزية مثلاً، أو للاجتماع، أو لعلم النفس، أو غيرها من العلوم، يجب ألا يهمل نفسه، فيحرص على القراءة، وعلى حضور مجالس العلم، فيكون على الأقل عنده رصيد يعينه على ذلك.(4/35)
التوفيق بين مطالب الأهل وبين الذهاب إلى المراكز الصيفية
السؤال
أنا شاب من الشباب الذين يهتمون بالمراكز الصيفية، ودائماً ما أكون حريصاً على المراكز؛ حتى إن الأمر وصل إلى أنني أرفض أوامر الأهل إذا كانت هذه الأوامر تتعارض مع وقت المركز، فهل هذا العمل الذي أسلكه كل يوم عمل مرضي لله عز وجل أم لا، مع العلم أنني لا أرفض أوامر الأهل إذا كانت لا تتعارض مع وقت المركز؟
الجواب
أولاً: كثير من الشباب يرتاحون للمركز، لكن يختلفون: فبعض الشباب يرتاح للمركز لأنه يستفيد منه من خلال برامج المركز، وبعض الناس يرتاح للمركز لأن المركز فيه سعة صدر، وفيه رياضة، وفيه مسبح، ويبدو أن المسبح هذا أيضاً يجلب بعض الشباب، أو فيه ملعب، أو غير ذلك.
فأيضاً هذه نقطة يجب أن نضعها في الذهن عند الإجابة على هذا السؤال، ثم مع اهتمامك بهذا المركز يفترض أنك تحفظ فيه القرآن، أو تتعلم العلوم الشرعية، أو تجعله مجلس خير، ولا شك أن هذه المراكز مجال خير، فحتى الشاب الذي يأتي يلعب ويمارس الرياضة هنا فهذا خير له من أن يمارسها في ميدان آخر.
فأقول: إن هذه المراكز وما فيها -الحمد لله- ميدان خير، لكن يجب أيضاً أن ننضبط، فلا يجوز أن يعصي الإنسان والديه، أو يخل بواجبات أهله بحجة أنها تتعارض مع وقت المركز، فيكون عنده توازن، فإذا كان للأهل مطالب يمكن أن يقضيها مثلاً في غير وقت المركز فبها، فإن لم يتيسر ذلك فإنه يستأذن يوماً من الأيام ولا يأتي، أو يتأخر، أو يأتي للمركز ثم ينصرف.
وأتصور أنا أن الشاب الجاد ما عنده مشكلة، والمشكلة تكون من شخص غير جاد، فوقت المركز يكون في الفترة المسائية مثلاً من العصر إلى بعد العشاء، ووقت الصباح عند الأخ وقت واسع، وأيضاً أيام الخميس والجمعة وغيرها.
وإذا وجد شغل يتطلب أثناء دوام المركز وقضية ملحة فيجب على الشاب أنه يوازن ويضحي، ثم إذا صار الشاب جاداً فسيراعونه أهله، وسيكون بينه وبين أهله تفاهم، وأما إذا كان عنده استعداد يناقش أصلاً لأنه ذاهب للمركز فممكن الأهل في المستقبل يمنعونه من المركز، ويمكن أن نعطي الناس سمعة سيئة عن هذه المراكز: بأنها تشغل أوقات الشباب عن أهلهم، وتعطل عليهم مصالح أهلهم، فيكون الشاب لا يرى أهله إلا قليلاً، ولا يقضي مصالح أهله، ولا يعتني بها.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم العلم النافع، والعلم الصالح، وأن يجمعنا وإياكم على خير، وأن يجعلنا وإياكم متحابين بجلاله، وأن يظلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(4/36)
مقترحات في اغتنام الوقت
الوقت هو عمر الإنسان وثمرة حياته، ومن ضيع منه شيئاً فقد ضيع ذلك الشيء من عمره، والكثير من الناس لا يحسن استغلال وقته فيما ينفع، وقد وضع الشيخ في هذه المادة مقترحات لاغتنام الوقت فيما يفيد.(5/1)
المقصود بإدراك أهمية الوقت واغتنامه
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد: العنوان كما سبق أن أشرنا: (مقترحات في اغتنام الوقت).
لاشك أن الحديث عن الوقت، وعن أهميته وفضله، وضرورة اغتنامه، حديث ربما يكثر في مجالسنا، وفي مناسباتنا، وفي منتدياتنا، ونسمع الحديث الكثير ممن يتحدث عن الوقت مستشهداً على ما يقول ببعض النصوص الشرعية، ثم بأقوال السلف، وأعمالهم وأحوالهم في اغتنام أوقاتهم.
وحين يعيش المرء مع ذلك؛ فإنه يرى العجب العجاب من سير القوم، ويطمح فعلاً إلى أن يدرك أهمية الوقت، ويحرص على اغتنامه.
وأظن أن جميع الناس في الجملة يدرك إدراكاً نظرياً ومعرفياً أن الوقت مهم، وأن الوقت قصير، لكن ما هو حجم هذا الإدراك؟ ثم ما مدى تحول هذا الإدراك إلى سلوك؟ أعني هل تحكم هذا الإدراك في سلوكه فصار سلوكه في التعامل مع وقته هو سلوك ذاك الذي يدرك أن الوقت هو الحياة؟ وأن الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك؟ وأن الوقت هو عمر الإنسان؟ وكل ما مضى من الوقت إنما هو جزء يختصر من عمر الإنسان؟ هل هؤلاء يدركون هذا الأمر حقيقة الإدراك أم لا؟ أظن أن الكثير من الناس إن أدرك شيئاً من ذلك إدراكاً نظرياً ومعرفياً إلا أن هذا الإدراك لم يتحول إلى سلوك، أو -على الأقل- أن سلوكه لم ينضبط بمثل هذا الإدراك وبمثل هذه النظرة لوقته.
آثرت أن يكون الحديث حول هذا الجانب بالذات؛ لأن الحديث -كما قلت- عن أهمية الوقت، وإيراد الشواهد على ذلك.
ثم أيضاً هو حديث جميل ومفيد، ويؤثر في النفس ولا شك، لكن أشعر أن تحديد خطوات عملية نعيشها في حياتنا اليومية ربما يكون أكثر أثراً، وربما نكون أكثر حاجة إليه.
وآثرت التعبير بالمصطلح النبوي تبركاً وتيمناً بهذا التعبير، ولا شك أن المصطلحات الشرعية التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كلما حافظنا عليها فهو أولى، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (اغتنم خمساً قبل خمس، ومنها: فراغك قبل شغلك).
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الخاسر في وقته إنما هو مغبون كالذي يبيع سلعته بأقل مما تستحق، أو يشتريها بأكثر مما تستحق، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ).
وذلك أن كثيراً من الناس مغبون، فقد تهيأت له نعمة الصحة، ونعمة الفراغ، لكنه لم يغتنمهما الاغتنام الذي يستحق، فكأنه قد خسر خسارة كبيرة، وهو حين ينفق وقته فيما لا يستحق، أو في أقل مما يستحق، فإنه يكون مغبوناً في وقته.
وفرق بين اغتنام الوقت واستثمار الوقت، وبين الاغتنام الأمثل للوقت، الذي ينبغي أن يكون هو شعارنا؛ ولهذا فإن الذي يشتري السلعة التي تساوي عشرة بثلاثين يعتبر مغبوناً، والذي يشتريها بعشرين يعتبر مغبوناً، والذي يشتريها بخمسة عشر مثلاً يعتبر مغبوناً، كذلك الذي يغتنم جزءاً من وقته، ويضيع الجزء الكبير فهو مغبون، وإن كان الغبن يختلف ويتفاوت بين الناس.
وإدراك هذا المعنى الدقيق في الحديث يجعلنا ننظر إلى قضية اغتنام الوقت نظرة أدق، وأن نحاسب أنفسنا على الوقت الذي يضيع أكثر مما نحاسبها على الوقت الذي نغتنمه.
أحياناً يعتبر الإنسان أنه اغتنم ساعات أو أوقاتاً، ويرى أن هذه خطوة إيجابية، أو يرى أن هذه صورة من صور اغتنامه للوقت، بينما المفروض أن ينظر ما هي الأوقات التي تضيع؛ لأن الأصل أن يغتنم الأوقات كلها، ويحاسب نفسه على الوقت الذي يضيع.
واغتنام الوقت أمر يتفاوت، فليس هو درجة واحدة، والغبن للنفس في هذا يتفاوت.(5/2)
اغتنام الوقت عند أهل الدنيا
صنفان من أهل عصرنا يحرصون على اغتنام الوقت: لو تأملنا واقع الناس لرأينا أن هناك صنفين من الناس في عصرنا يحرصون حرصاً شديداً على اغتنام أوقاتهم: أولهم: رجال الأعمال والتجارة، فإنهم يدركون أهمية الوقت جيداً، وهم من أحرص الناس على اغتنام الأوقات، ألسنا مثلاً نفتقدهم كثيراً في المناسبات العائلية، وحتى إذا حضر هذه المناسبات فإنه مربوط ببرنامجه، ربما اعتاد كثير من الناس حين يتناولون طعام الغداء سوياً أن يجلسوا بعد صلاة العصر، أنت لو جلست بعد صلاة العصر لفقدت هؤلاء؛ ذلك أن هؤلاء يدركون للوقت قيمة أكثر من غيرهم من الناس، ولا شك أن هذا أمر مدرك ومجرب.
والصنف الثاني: هم الأعداء، فإنهم يهتمون بأوقاتهم كثيراً، وهناك في علم الإدارة ما يسمى: إدارة الوقت، وهو علم يدرسه رجال الأعمال، ويصنف فيه خبراء يقرءون وينظمون دورات لتعليم فن إدارة الوقت، بل ربما نجد أن بعض ما نقوله هنا هو مما سطره أولئك، ومما أخذ منهم، (الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها فهو أولى بها).
ومن المؤسف أن يكون أعداؤنا أكثر حرصاً على الوقت منا على كل المستويات، فلو نظرت إلى اليوم الدراسي في العالم الإسلامي، واليوم الدراسي في العالم الغربي، لوجدت أن النسبة تختلف كثيراً، ولو نظرت إلى ساعات العمل الوظيفية، لوجدت أولئك أكثر اغتناماً لأوقاتهم.
بل الكثير من الناس يستغرب حين تطالب منه الانضباط بموعد من المواعيد، ويستغرب حينما يرى إنساناً يهتم بتسجيل المواعيد وضبطها، ذلك أن الأصل في حياتنا هو الفوضى والتسيب.
هؤلاء الأعداء هم حطب جهنم، ولا شك أنهم خسروا الخسارة الكبرى في أوقاتهم حين عمروها بمعصية الله عز وجل، فما بالهم يغتنمون الوقت، ويحرصون على إجراء الدراسات والبحوث عن مضيعات الوقت، ومشتتات الوقت، والوصول إلى نظريات مثلى في إدارة الوقت، ما بالهم يحرصون على ذلك، ونغفل نحن عنه، ونحن نعتبر أن الوقت هو حياتنا، وأن الوقت هو عمرنا.(5/3)
ضياع الوقت عند الكفار
ولا شك أنه في مقابل ما نراه من حرص أولئك على الوقت، فهذا لا يعني أنهم اغتنموا الوقت الاغتنام الأمثل، بل إنهم خسروه الخسارة الكبرى من حيث أنهم أعرضوا عن شرع الله عز وجل، وضيعوا عمرهم في معصية الله تبارك وتعالى، فحين تزول هذه الدنيا يزول معها ما عملوا، ويصيرون حطب جهنم، عافانا الله وإياكم من ذلك.
وحين نتأمل مثلاً في سيرهم، وهم يتحدثون عن القراءة، ربما تجد جزءاً كبيراً من تلك القراءة التي يتحدث عنها أولئك قراءة غير مفيدة، فهو مثلاً يقرأ كثيراً في كتب الروايات، أو كتب القصص، أو في كتب لا تستحق أن يضيع المرء فيها عمره المحدود، لكن هم في الجملة يقرءون ويدركون قيمة الوقت.
بل إن الوجه الآخر والصورة الأخرى من حال أولئك، أنهم يقضون أوقاتاً هائلة لأمور تافهة، من ذلك مثلاً: أن هناك في فرنسا أكاديمية تسمى أكاديمية السخرية، وتجري مسابقة في البشاعة، فالذي يستطيع أن يحول وجهه إلى أبشع صورة يأخذ كأس أبشع وجه، وحصل على هذا الكأس أحدهم مرتين متواليتين، فأراد الآخر أن ينافسه، وجلس يتدرب لمدة سنة، كل يوم يتدرب ثمان ساعات لتحويل وجهه إلى وجه بشع، واستطاع أن يفوز بالكأس في المسابقة الثالثة.
فهذه صورة من صور اغتنام الوقت عند أولئك، ولا شك أن هذا يعتبر أكبر اغتنام للوقت حينما ينفق ثمان ساعات في تحويل وجهه إلى صورة بشعة، وقد خلقه الله عز وجل في أحسن تقويم.
فالذي يقضي ثمان ساعات كل يوم لأجل أن يحول وجهه إلى صورة بشعة وقذرة، أظن أن الهدف الذي عنده أهون بكثير من أهدافنا، فنحن نستهدف رضا الله عز وجل، ونستهدف أن نغتنم أوقاتنا في أمر نلقى فيه إجابة حين نسأل يوم القيامة عن أعمارنا فيما أفنيناها، ونحن نتطلع إلى أن نعمر أوقاتنا بعبادة الله عز وجل، وتحصيل العلم الشرعي، والدعوة إلى الله، ونفع الناس، وتقديم أمور لا يمكن بحال أن تقارن بحال مثل هذا السفيه وغيره.
على كل حال أردت بهذا الاستطراد أنه قبل أن يتحدث الناس عن اغتنام أولئك لأوقاتهم، وعن أنهم فاقوا المسلمين في اغتنام الوقت، لكن هذا لا ينسينا أن أولئك حطب جهنم، وأنهم غفلوا عن الاغتنام الحقيقي والأساس للوقت، وربما نجد صوراً كثيرة من إضاعة الوقت عند هؤلاء، كما سبق أن أشرنا.(5/4)
إدراك أهمية الوقت والشح به
الاقتراح الأول لاغتنام الوقت: إدراك أهمية الوقت والشح به: فالذي لا يدرك أهمية الوقت لا يمكن أن يغتنمه، فعلى سبيل المثال: من ليس عنده عمل فهو في فراغ أربع وعشرين ساعة فلو أتيت إلى أحد الشباب الفارغين، وقلت له: الآن أمامك يا أخي وقت فراغ لمدة ساعة أو نصف ساعة ينبغي أن تستغله أو تغتنمه، فإنه لا يعرف أهمية هذا الكلام، ويشعر أن هذا الكلام غير معقول؛ لأنه أصلاً لا يدرك أهمية الوقت، فليس عنده مشكلة في أن يجلس للحديث مع زملائه من بعد العصر إلى وقت متأخر من الليل ويعود بعد ذلك وهو لا يشعر أنه خسر شيئاً، أو أضاعه، أو أن هناك أي خسارة تحققت من وراء ذلك.
هذا يجب أن نقنعه بأهمية الوقت قبل أن نتحدث عن كيفية استغلاله.
إذاً: يجب أن نقتنع ابتداءً بأن الوقت مهم، وإذا لم نقتنع أن الوقت بهذا القدر من الأهمية فلا يمكن أن ننجح في جميع الخطوات التي تأتي، وأن نكون شحيحين بالوقت.
ومن الأمور التي تجعلك تدرك أهمية الوقت: أن تدرك أن اليوم لا يمكن أبداً أن يزيد على أربع وعشرين ساعة، ولا الأسبوع على مائة وثمان وستين ساعة، ولا السنة على ثمانية آلاف وسبعمائة وست وستين ساعة، أي أن هناك ساعات محددة لا تزيد ولا تنقص للسنة والشهر واليوم.
ثم أيضاً إذا مضت ساعة فهذا يعني أن هناك ساعة من عمرك انتهت، وأنك ابتعدت عن الدنيا ساعة، واقتربت إلى الآخرة ساعة، وهذه الساعة لا يمكن أن تعود.
وحينما نتذكر قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله عز وجل فيها)، فإذا كان أهل الجنة يتحسرون على ساعة لم يغتنموها في ذكر الله عز وجل؛ حتى يكون ذلك رفعة في درجاتهم، فكيف بمن لم يضمن الجنة؟! ويقول الحسن رحمه الله: أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أشد حرصاً منكم على دراهمكم ودنانيركم.
وهذه لغة لا يفهمها كثير من الناس، فأنت تستطيع أن توفر جزءاً من وقتك بدراهمك ودنانيرك، والدراهم والدنانير تذهب وتعود، لكن الوقت يذهب ولا يعود.
مثلاً: البعض من الناس عندما يريد أن يشتري أي غرض من الأغراض يفضل أن يذهب إلى سوق رئيس، فلو أراد أن يشتري مثلاً فاكهة، يفضل أن يذهب إلى سوق الخضار الرئيس، وهذا يتطلب منه بذل الكثير من الوقت في الذهاب والعودة، بينما يستطيع أن يشتري ذلك من مكان أقرب منه، وربما يزيد مبلغاً يسيراً من المال، لكنه يوفر بذلك الأمر الذي لا يمكن أن يوفره أبداً وهو الوقت.
وقل مثل ذلك في قضايا كثيرة، فالوسائل المعاصرة مثلاً يمكن أن تختصر كثيراً من الأمور فتوفر على الإنسان جزءاً من وقته، فهل نفكر هذا التفكير فنشتري الوقت بالدراهم والدنانير؟ وإذا تأمل الإنسان في الوقت وجد جزءاً كبيراً من الوقت يمضي في النوم، وجزءاً في الراحة، وجزءاً في الطعام، وجزءاً في التنقلات، ووجد أن الوقت الباقي له يسير جداً.
كما قال الأول: إذا كملت للمرء ستون حجة فلم يحظ من ستين إلا بسدسها ألم تر أن النصف بالنوم حاصل وتذهب أوقات المقيل بخمسها فتذهب أوقات الهموم بحصة وأوقات أوجاع تميت بمسنها فحاصل ما يبقى له سدس عمره ممكن أن نختلف نحن في النسبة، لكن افترض على أقل الاعتبارات أن الإنسان ينام ثمان ساعات، فإذا كان عمره ستين سنة، ذهبت في النوم عشرون سنة، أي أن ثلث وقته ذهب في النوم، ثم احسب بعد ذلك أوقات الراحة، وأوقات التنقلات وغيرها، ستجد أنه لم يبق له إلا الوقت اليسير، وهذا لا شك يدعوه إلى أن يحرص على اغتنام هذا الوقت اليسير، مع أنه إذا احتسب نومته، واتبع السنة في ذلك فإنه لا شك يؤجر على مثل هذا الوقت.
من الأمور المهمة التي تعين الإنسان على إدراك أهمية الوقت: هو أن يدرك أن الوقت الذي يضيع لا يمكن أن يعوض: بعض الناس ضاع عليه عصر هذا اليوم، فيقول: إن شاء الله أريد أن أعوض وأستغل عصر غداً، ويتصور أنه عوض هذا الوقت، وهذا الكلام غير صحيح، فإن الوقت الذي ضاع لا يمكن أن يعوض؛ لأن عصر الغد له واجب آخر.
ولهذا لما ثقل عمر بن عبد العزيز عن عمل قيل له: أخره إلى الغد، قال: إذا عجزت عن عمل يوم، فكيف إجمع علي عمل يومين؟! هؤلاء الذين يدركون الوقت حقيقة، ونحن بحاجة إلى أن نعود إلى سير أولئك ونقرأ فيها؛ لنعرف كيف كانوا يحرصون على اغتنام الأوقات.
عمر بن عبد العزيز رحمه الله يعتبر أن كل يوم له واجب معين، وله برنامج وأهداف يجب أن يحققها في هذا اليوم، إذا أخرت عمل اليوم فلا يعني أني سأقضيه في الغد، بل سيكون هذا على حساب الواجب الذي أقضيه في الغد.
ولهذا عندما تضيع علي موعداً، فليس صحيحاً أنك ستعوضني في المستقبل.
وقد أشار ابن القيم رحمه الله إلى هذا في المدارج فله كلام جميل حول الوقت، وحاصل ما قاله: أن الوقت هذا لا يمكن أن يعوض؛ لأن ما يستقبل من الوقت له واجب جديد لا يمكن أن تقضي فيه الواجب الذي قد فوته في هذا الوقت الذي ضيعته بالأمس.(5/5)
تحديد الأولويات
الاقتراح الثاني: تحديد الأولويات: وهذه من أهم القضايا، فأحياناً يشعر الإنسان مثلاً أنه قرأ في هذا الوقت، أو أنه زار أخاً له في الله، أو عمل أي عمل من الأعمال، فيعتبر أنه اغتنم الوقت بشيء مفيد واستفاد من الوقت، وهذا صحيح، لكن يجب أن تضع أولويات للوقت.
وأظن أن سلف الأمة أدركوا هذا المعنى جيداً حينما قالوا: إن من مكائد الشيطان أن يشغل الإنسان بالعمل المفضول عن العمل الفاضل.
فمن اشتغل بالعمل المفضول فقد استفاد من الوقت، لكنه ما راعى الأولويات، والسلف لم يعبروا هذا التعبير، لكنهم كانوا يراعون هذا الأمر فعلاً، وكانوا يخصصون الأوقات، هذا للعبادة، وهذا للتعليم، ويرفضون أن يعتدي أحد على مثل هذه الأوقات، وكانوا يرون أن هذه أولويات في تحديد الوقت.
وفي الجملة فتنبيههم العابد إلى أن يحذر من تلبيس الشيطان عليه بإشغاله بالعمل المفضول عن العمل الفاضل لا شك أنه دليل على اعتبار هذه القاعدة الذي يعبر عنها من يكتب الآن في إدارة الوقت بتحديد الأولويات.
وهنا
السؤال
هل صحيح أن أكثر الناس انشغالاً هو أكثر الناس إنتاجاً؟ ربما نتصور ذلك، لكن ليس ذلك متحققاً بالضرورة، فقد ينشغل الإنسان كثيراً لكن طريقته في إدارة وقته وإدارة عمله غير منتجة ولا عملية، فيصبح أقل إنتاجاً.
ولنفترض مدير مؤسسة أو شركة يربط الأعمال كلها به، وتراه مشغولاً، ومكتبه مليء بالأوراق، ويحمل معه إذا ذهب إلى المنزل جزءاً كبيراً من هذه الأوراق، وحين تراه يعمل تشعر أنه مخلص، وأنه إنسان منتج، وتتصور أنه أكثر الناس إنتاجاً، فلا شك أن هذا إنسان جاد مخلص، لكن ليس بالضرورة أن يكون أكثر الناس اغتناماً للوقت، ربما تجد رجلاً آخر يجد وقت فراغ، لكنه نظم وقته بطريقة معينة، وحدد أولوياته، وصار أكثر إنتاجاً.
ولهذا رفعت الجمعية الأمريكية لتقييم المهندسين شعاراً يقولون فيه: اعمل بطريقة أذكى، لا بمشقة أكثر.
وهناك دراسات أجريت على عدد من الناس الذين يصرفون أوقاتهم في جزء من العمل، وتوصلت إلى نتيجة صارت مبدأ مشهوراً يسمونه مبدأ بارفيو يقول فيه: إن الكثير من المديرين يبذلون أربعة أخماس وقتهم في القيام بواجبات ومسئوليات تتصل بخمس ما يحققون من نتاج.
يعني: أن الكثير من هؤلاء يبذل (80%) من الوقت في تحقيق (20%) من النتائج، وبعبارة أخرى: أنهم لا يحسنون تحديد الأولويات في أوقاتهم.
للأسف أن هذه القضية غائبة عنا، فنحن أحوج ما نكون إلى إجراء مثل هذه الدراسات في أوقاتنا، وأظن أننا سنجد مشكلة كبيرة لو أجريت الدراسات عندنا في كيفية قضاء أوقاتنا، ربما تجد بعض طلاب العلم في العالم الإسلامي مشغولاً بأعمال يمكن أن يقوم بها غيره، أو أعمال ربما يعينه غيره عليها فيوفر عليه جزءاً كبيراً من وقته، فيتفرغ هو للاغتنام الحقيقي للوقت، وهذه الأعمال -لا شك- تشغله عن أعمال أهم منها كما سيأتي.
إذاً: لا يكفي أن نشعر أننا استفدنا من الوقت، بل يجب أن نضع لنا أولويات، فأنت مثلاً حينما تشعر أنك تقرأ في كتب التراجم ربما تجد أنك أنهيت قراءة كتاب تاريخ بغداد، أو وفيات الأعيان، أو سير أعلام النبلاء، أو غيره، وتتصور أنك وصلت إلى مستوى جيد في اغتنام الوقت، بينما كان يمكن أن تقرأ بدل هذا الكتاب تفسير البغوي، أو تفسير ابن كثير، أو تقرأ جامع الأصول.
وأظنكم توافقونني على أن الذي يصرف جزءاً كبيراً من وقته لقراءة التراجم في هذه المرحلة أن عنده مشكلة في تحديد الأولويات، لأنه أحوج إلى قراءة كتب التفسير والحديث، وقل مثل ذلك في أعمال أخرى.
المقصود أن الاستفادة من الوقت لا تعني أنك وصلت إلى القمة، بل يجب أن تراعي الأولويات.(5/6)
تحديد الأهداف
الاقتراح الثالث: تحديد الأهداف: وهذا أمر مهم، وهو يعينك على القضية الثانية، فإنك لا تستطيع أن تحقق قضية ثانية بدون هذا الأمر، أنت مثلاً مقبل على إجازة، وأمامك وقت هائل في الإجازة، وتريد أن تغتنم وقتك، لكن بعدما تنتهي الإجازة تشعر أن هناك أوقاتاً هائلة ضاعت عليك لم تستطع أن تغتنمها.
ما هو السبب؟ أظن أن من أسباب هذه المشكلة أنك لم تحدد لك أهدافاً، لكن لو حددت أهدافاً فقلت مثلاً: إجازة الربيع أسبوعان، أريد أن أقرأ فيها تفسير ابن كثير مثلاً، أو حددت لك أهدافاً دعوية، وأهدافاً في التحصيل العلمي، وأهدافاً في القراءة، وأهدافاً تراعي فيها ما سيأتي من وسائل وأمور مهمة؛ وتكون أنت تضع هذه الأهداف بصورة غير واقعية -كما سيأتي-، أو أيضاً بصورة غير مراع فيها الأولويات.
المهم أنك تضع لك أهدافاً، هذه الأهداف تعينك على ضبط الأولويات، لأنك حينما تريد أن تضع الأهداف تتساءل عن الأولويات، ولنفترض أنني في الإجازة سأخصص جزءاً من الوقت لأنشطة دعوية وأعمال دعوية، وجزءاً للقراءة، فسنأخذ مثلاً الجزء المخصص للقراءة، فإذا أردت أن أحدد أهدافاً، قلت: أريد أن أقرأ تفسير ابن كثير في هذه الإجازة، مع أني أظن أنه سهل جداً أنه خلال إجازة الصيف، بل ربما مثلاً إجازة الربيع يستطيع الواحد منكم أن ينهي قراءة تفسير ابن كثير أو تفسير البغوي، أو غيره من الكتب.
المقصود أني قررت أن أقرأ تفسير ابن كثير، لكن ربما يأتي شخص آخر فيقول: أنا سأقرأ في الإجازة القاموس المحيط، أو لسان العرب، أو أقرأ سير أعلام النبلاء.
فأنت عندما تريد أن ترسم الهدف، ستراعي الأولويات، تفكر: هل الأولى فعلاً أني أقرأ تفسير ابن كثير؟ أم أقرأ القاموس المحيط؟ أم أقرأ ديوان الحماسة؟ أم جمهرة أشعار العرب؟ أو أي كتاب.
فأنت حينما تريد أن تحدد الأهداف ستضطر إلى تحديد أولويات، لكن عندما لا يكون لديك أهداف ولا أولويات أصلاً، وتأتي إلى المكتبة بعد الفجر، وتجلس فيها إلى الساعة التاسعة، تنظر في الكتب ربما يقع نظرك على كتاب وتمسك به وتقرأ فيه، وتعجب به، وتستمر فيه، فصار عندك هذا الخلل وهو عدم تحديد الأهداف ابتداءً، والذي لابد أن تضطر معه إلى الأولويات، ربما كان خير معين لك على اغتنام وقتك.(5/7)
ضبط تخصيص الوقت
الاقتراح الرابع: ضبط تخصيص الوقت: خصص الوقت بطريقة مضبوطة، حتى تعمل العمل المناسب في الوقت المناسب، مثلاً: شخص يريد أن يقرأ كتاباً مركزاً فلا يمكن أن يقرأ هذا الكتاب في وقت الظهيرة مثلاً، وجهاز التكييف الذي عنده مزعج، أو لا يعمل بصورة مريحة، فعندما تريد أن تقرأ عليك أن تختار وقتاً مناسباً، عندما تريد زيارة أو عملاً أياً كان فيجب أن تختار الوقت المناسب.
من ذلك مثلاً العبادة: هناك أوقات مناسبة للعبادة، وهناك أوقات تناسب القراءة، ومن الاشتغال بالعمل المفضول عن العمل الفاضل أن تكون قراءتك وتحصيلك في وقت العبادة، فكان أولى أن تصرفه في العبادة، وتصرف في القراءة وقتاً آخر.
أوقات الهدوء أوقات مهمة جداً، فمثلاً بعد الفجر إلى الساعة الثامنة أو التاسعة في الإجازة وقت مهم ووقت هادئ، فليس فيه احتمال أن يتصل عليك أحد بالهاتف، أو يزورك ثقيل، أو يزعجك طفل من الأطفال، أو يطلبك الأهل، غالب الوقت هادئ، ومن ثم فالجو هادئ، فهذا الوقت يعتبر قمة من الأوقات، لا يمكن أن تصرف هذا الوقت في شيء آخر ثانوي.
جانب مهم أيضاً: طبيعة الشخص: مثلاً الإنسان الذي اعتاد أن ينام بعد الفجر وقتاً معيناً، وهذا يعني أنه لا ينام بعد الظهر، فهو أعلم بنفسه فليست مشكلة، لكن أهم شيء أن تضبط الوقت، ولا يطغى النوم، فلك أن تنام بعد الفجر، أو تنام العصر، لكن تخصص الوقت المناسب لك، فتشعر مثلاً أن وقت الظهيرة مع توفر أجهزة الراحة والتكييف ربما كان مناسباً لك.
عندما تريد أن تزور أحداً أو تستقبل أحداً ينبغي أن تختار الوقت المناسب للزيارة، والذي يضبط الوقت فلا يضيعه عليك، فالزيارة بعد المغرب ربما تكون مناسبة باعتبار أنه وقت قصير، لكن الزيارة هذه الأيام بعد العصر خير وسيلة لإضاعة الوقت، والزيارة بعد العشاء في وقت الشتاء هي الأخرى من أفضل الوسائل لإهدار الأوقات.
كذلك هناك ما يمكن أن يشترك فيه أكثر من عمل، مثل السفر، فإذا سافر الإنسان فإنه يستطيع أن يصطحب معه كتاباً، بعض الأعمال لا تنجزها في أوقات السفر، لا أدري مثلاً ربما أتكلم عن حالتي الشخصية، من أفضل الأوقات لي أوقات السفر، وأجد فيها راحة، وفراغ أكثر بكثير من أوقات الإقامة، فقد يعود هذا لظروف خاصة، وقد يعود لطبيعة معينة؛ لكن أنا أعتبر أن وقت السفر يمكن أن تجمع فيه بين أمرين، فأنت مسافر مثلاً فتقرأ في الطريق، لأنه يتيسر لك فيه وقت، المهم أنك تستطيع أن تجمع فيه بين عملين، لو حسب كل واحد منا كم يقضي في السيارة لوجد وقتاً طويلاً، إذا افترضنا أن طريقك إلى المدرسة أو الجامعة أو العمل يستغرق منك ربع ساعة، فهذا يعني أنك تستغرق في اليوم نصف ساعة ذهاباً وإياباً، مع أن العادة أن العودة تكون أطول قليلاً بسبب الازدحام، فلنفترض أنه نصف ساعة، وهذا يعني أن عندك في الأسبوع ساعتين ونصف ساعة، وعندك في الشهر عشر ساعات، هذه العشر الساعات هي الوقت الذي تقضيه في الطريق ذهاباً وإياباً إلى مقر دراستك أو عملك، فهل هي مغتنمة فعلاً أو ضائعة؟ أنت مثلاً خلال هذه العشر الساعات ربما تقلب المذياع تبحث عن إذاعة في حالة من الحالات، أو يكون لك شأن آخر فهذا لا يضر إلا إذا قضيت الوقت كله هكذا هدراً، مع أنك لو رتبت لك برنامجاً لسماع بعض الأشرطة، واستطعت أن تسمع بمعدل عشر ساعات في الشهر لكان ذلك حسناً، وهذا إذا افترضنا أنك لا تذهب وتأتي إلا في وقت الدوام فقط، أما لو حسبت الأوقات الأخرى التي تذهب فيها وتأتي فستجد وقتاً كثيراً.
وهذا لا يعني أنك يجب أن تغتنم كل هذه الأوقات، لكن العشر ساعات أعطنا منها خمس ساعات على الأقل، وافترض أنك في الخمس الساعات الأخرى غير مهيأ لاغتنامها.
وإذا صرت مجهداً فاغتنم الوقت بالتفكير، فالتفكير من أهم ما يمكن أن يغتنم به الإنسان وقته، فيفكر في وقته، ويفكر في أمور مهمة يستطيع أن يستفيد منها في دينه ودنياه.
الإنسان على مائدة الطعام يستطيع مثلاً أن يستمع إلى نشرة الأخبار إذا كان حريصاً على نشرة الأخبار، فبدلاً من أن يخصص لها وقتاً يستمع إليها أثناء تناول الطعام، المهم أنك تستطيع أن تجمع بين أكثر من عمل.
إذا كنت تريد إنساناً في مقابلة سريعة ووقت سريع فيمكن أن تلتقي به على وجبة الطعام، فلا تضيع عليك ولا عليه وقتاً، وتستطيع أن تستفيد من هذا الوقت مثلاً في قضاء حاجتك وحاجته.
ربما تحتاج إلى إنسان في موعد، تريد أن تتناقش معه في موضوع، أو تستشيره في أمر، فإذا لم تجد وقتاً فيمكن أن تصحبه في السيارة مثلاً، فتذهب به إلى صلاة الجمعة أو إلى أي مكان فتوفر على نفسك وعليه وقتاً.
المقصود أن هناك أوقاتاً يشترك فيها أكثر من عمل، ويمكن أن يجمع فيها الإنسان أكثر من عمل، فينبغي أن نعتني بها.(5/8)
ضبط المواعيد
الاقتراح الخامس: ضبط المواعيد بدءاً وانتهاءً: بحيث تكون مواعيدنا دقيقة، فكثير من المسلمين اعتاد على المواعيد المفتوحة إلى القمة، تقول له مثلاً: متى تأتي؟ فيقول: آتيك بعد العصر مثلاً، بعد المغرب بين الصلاتين المصطلح الشائع بعد العشاء وقت مفتوح.
تريد أن تقابل شخصاً لقضية سهلة أو استشارة في موضوع، تقول له مثلاً: ائتني بعد العشاء، وتجلس معه بعد العشاء ساعات طويلة، والمقصود من هذه الزيارة لقاء وسلام، وتفقد للأحوال، أو ربما أمر كان يتم بدون ذلك.
لكن لماذا لا نجرب أن نضبط أوقاتنا بدءاً وانتهاءً، فمثلاً بدلاً من أن يكون الموعد بعد العصر نجعله الساعة الرابعة أو الرابعة والنصف أو السادسة، ثم نضبط موعداً لنهاية الوقت، وقد كنت أتصور سابقاً حينما أتعامل مع بعض الناس ومع بعض المشايخ الدقيقين جداً في أوقاتهم، أن هذه صورة من صور تعذيب النفس، لكن عندما جربت ذلك وجدت أنه سهل جداً.
بل وجدت أن قمة تعذيب النفس وقمة الإعياء أنه تحدد موعداً لا تعرف متى يكون، وتعيش في قلق لا تدري متى يأتيك صاحبك، وإذا أتاك لا تدري متى يذهب، فشعرت أن الوضع طبيعي جداً، ويستطيع الإنسان أن يضبط أوقاته.
لكن يجب أن تكون واقعياً، فحينما تضع موعداً الإنسان إلى الساعة الخامسة، فعندما تأتي الساعة الخامسة وخمس دقائق وما أتى فليس معنى هذا أن فيه صفة من صفات المنافقين حتى يدعها، وأنه مخلف الوعد، أو تعتبر أن هذه وسيلة تستحق أن تعاقب عليها فلا تنتظره.
أنا شخصياً أضع فرصة لإنسان في الحدود الطبيعية من عشر دقائق إلى ربع ساعة، فيمكن أنه حدث له عذر أو ظرف، كزحام في الطريق، فإذا تجاوز ربع ساعة شعرت أنه تأخر، لكن الربع ساعة يجب أن تخصمها من الوقت المخصص له، فهو الذي فرط فيه، إذا أعطيت إنساناً موعداً من الساعة الخامسة إلى السادسة وأتاك الخامسة والربع فالمفترض أن نلزم أنفسنا بأن ينتهي الموعد الساعة السادسة، ولا يمكن أن أعوضك؛ لأن الربع ساعة التي أضعتها لا يمكن أن تعوض.
فأنا أكون واقعياً على الأقل فلا ألوم الناس، أنا أفترض أنك ربما تخالفني، لكن على الأقل تحدد وقتاً مسموحاً به أو وقتاً يكون فيه مجال للتأخر.
أيضاً نفس الطريقة في انتهاء الوقت، فعندما أريد مثلاً موعداً مع شخص في أي أمر ديني أو دنيوي، أو استشارة في موضوع، أو في منقاشة أي قضية، فإني أنظر كم يكفيني من الوقت، فإذا كانت تكفيني نصف ساعة من الوقت مثلاً، فإني أجعل الوقت يكون ساعة إلا ربعاً، لأن الناس ليسوا آلات بحيث يدخل إلى صاحبه فيبدأ بالموضوع مباشرة، فعلى الأقل ما يسمونه بالتدفئة الاجتماعية، كسؤال عن الأحوال والأخبار، ومن هنا وهناك، ثم بعد ذلك يكون النقاش في مثل هذا الموضع.
وإذا كان صاحبك غير منضبط أو ثقيلاً، وتعرف أنت أنه لا يستأذن بعد انتهاء الوقت، وقد تشعر أن هناك حرجاً أن تقول له: الوقت المخصص قد انتهى، فيمكن أن تضبط الموعد بوقت الصلاة، فإذا واعدته إلى الساعة السادسة فهذا يعني انتهاء الموعد الساعة السابعة إلا ثلث باعتبار وقت الأذان، وهذه وسيلة جيدة لضبط الوقت دون حرج، مع أني أرى أننا يجب أن نكون صرحاء وواضحين في أوقاتنا كما سيأتي بعد قليل.(5/9)
الواقعية
الاقتراح السادس: الواقعية: سبق أن أشرت إلى جزء منها، فعندما أريد أن أضع أهدافاً لي في الإجازة.
مثلاً: إذا افترضنا أن صلاة الفجر في الساعة الرابعة، وصلاة الظهر الساعة الثانية عشرة، فهذا معناه أن الصباح ثمان ساعات، فعندما أقول: سأستغل الثمان الساعات يومياً في القراءة، فهذا كلام غير واقعي، وحتى ست ساعات! فيجب أن تضع أهدافاً واقعية؛ لأن مشكلة الأهداف غير الواقعية أنك عندما تجربها ولا تحققها لا تعود إلى نقطة التوازن، بل تعود إلى التطرف، وتشعر أنك فاشل، بينما كان الخطأ في أنك كنت مثالياً، وقل مثل ذلك في قضية الموعد كما سبق أن أشرنا.
فالمقصود أن نكون واقعيين في أهدافنا، وأيضاً لا تقودنا الواقعية إلى التسيب، بحيث لا نكون مستجيبين لأهواء النفس ومشكلاتها، ولا نكون أيضاً مثاليين.(5/10)
التخلص من مضيعات الوقت
الاقتراح السابع: التخلص من مضيعات الوقت: هناك مضيعات كثيرة للوقت منها: الهاتف، من خلال طول الحديث في الهاتف، فبعض الناس لا يحلو له الحديث إلا في الهاتف، ويسأل عن الأحوال والأخبار، ويتحدث معك دقائق طويلة وهو إلى الآن ما دخل في الموضوع، ولا تدري ما هو الموضوع الذي يريده، ربما يكون فارغاً، وربما يكون يعيش هماً وأراد أن يفرج همه بالاستئناس بحديث الإخوان، لكنه لا يتصور ما هو الوقت الذي تقضيه، ولا يتصور أنه ربما يكون عندك إنسان، أو أنك تقرأ، أو أنك منشغل بأي أمر من الأمور.
فيجب أن تقدر أوقات الآخرين، وأن يتعلم غيرك أن يقدر أوقات الآخرين، فمن مشكلات الهاتف أنك لا تعرف ما هو منشغل به صاحبك.
البعض من الناس يعتب عليك مطالبتك إياه بالاختصار في الهاتف، لكن لأنه يعرف أن هذه المكالمة ربما تكون هي الوحيدة في السنة، أو في الشهر، أو مكالمة فصلية، يتصور أنه لا مشكلة أن يقضي عشر دقائق معك، ولا يظن أن وقتك سيضيع، لكنه لا يتصور أنه عندما يتصل بك بعد العصر أن هناك عشرة اتصلوا مثله، وإذا كان كل واحد سيأخذ خمس دقائق فهذا يعني أن خمسين دقيقة تماماً قد ضاعت في الحديث مع هؤلاء الذين يعتبرون الخمس الدقائق وقتاً يسيراً في المكالمة الهاتفية.
أضف إلى ذلك أنها ليست في الواقع ساعة، بل هذا الانقطاع يؤثر كثيراً على العمل الذي كنت تعمله فانقطعت عنه ثم عدت إليه.
فيجب أن نتخلص من تضييع الوقت في الهاتف من خلال عدة أمور: الاختصار في المكالمة في الهاتف، وأن نتعود ألا نجيب على الهاتف، أو أن يعتذر الأهل أو أي شخص بأنك مشغول، وإذا كنت مشغولاً فليس بالضرورة أن تجيب على الهاتف في كل وقت.
ومن مضيعات الوقت أيضاً: الزائر: أحياناً يأتيك زائر مفاجئ فيضيع عليك وقتك، فافترضوا أنه أتاني زائر وأنا أعد هذا الموضوع وجلس عندي طوال وقت العصر، وتبادلت معه الحديث، فعلى أي حال سآتيكم وبأي صورة، أنا أظن مثلاً أني يمكن أن أكون صريحاً معه، أو ربما أحرج نفسي مع شخص واحد، ولا أحرجها أمام عدد من الطلاب ينتظرونني، ويريدون أن يسمعوا مني، وقد خصصوا هذا الوقت لذلك.
من الأمور التي تعين على التخلص من الزائر أن نحدد أوقاتاً للزيارة، فنعتاد على أن نأخذ موعداً للزيارة ولو بالهاتف قبل الزيارة، فيتصل ويقول: أنا سآتيك الآن فهل الوقت مناسب أو غير مناسب؟ فأنت مثلاً تجد أنك عندما تتصل على إنسان وتقول: أنا سآتيك، فيقول لك: أنا مشغول، لكن لو أتيته لا يمنعك.
أمر آخر وهو أن يكون لدينا جرأة على الاعتذار، وسيأتي بعد قليل الإشارة إلى هذا المعنى.
من مضيعات الوقت الثقلاء والبطالون: وابن الجوزي له معاناة مشهورة مع هؤلاء، أشار إليها في (صيد الخاطر) يقول رحمه الله: أعوذ بالله من صحبة البطالين، لقد رأيت خلقاً كثيراً يجرون معي فيما قد اعتاده الناس من كثرة الزيارة، ويسمون ذلك التردد خدمة ويطلبون الجلوس، ويجرون فيه أحاديث الناس وما لا يعني، وما يتخلله غيبة، وهذا شيء يفعله في زماننا كثير من الناس، وربما طلبه المزور، وتشوق إليه، واستوحش من الوحدة، وخصوصاً في أيام التهاني والأعياد، فتراهم يمشي بعضهم إلى بعض، ولا يقتصرون على الهناء والسلام، بل يمزجون ذلك بما ذكرته من تضييع الزمان، فلقد رأيت الزمان أشرف شيء، والواجب انتهاؤه بفعل الخير، كرهت ذلك وبقيت معهم بين أمرين: إن أنكرت عليهم وقعت وحشة لموضع قطع المألوف، وإن تقبلته منهم ضاع الزمان، فصرت أدافع اللقاء جهدي، فإذا غلبت قصرت في الكلام لأتعجل الفراق، ثم أعددت أعمالاً لا تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم؛ لئلا يمضي الزمان فارغاً، فجعلت من الاستعداد للقائهم قطع الكاغد، وبري الأقلام، وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لا بد منها، ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم؛ لئلا يضيع شيء من وقتي.
وربما أيضاً هذه تكون رسالة لهم أنهم من الناس المضيعين للأوقات.
إذاً: هو يسلك عدة وسائل: الأمر الأول: يحرص أنه لا يقابل هؤلاء ابتداءً.
الأمر الثاني: إذا قابلهم يقول: أختصر في الكلام، حتى ينتهي ما عندهم ويضطرون لاستئذاني.
فإذا لم يكن هناك فائدة خصص أعمالاً لا تحتاج إلى تفكير، فيبري قلماً، أو يرتب أوراقاً، وهو يتحدث مع زائره.(5/11)
الجرأة على الاعتذار
الاقتراح الثامن: الجرأة على الاعتذار: وأنا أقول بصراحة: يجب أن نكون أمام خيارين: إما أن نكون جريئين على أن نعتذر، أو أن نكون جريئين على إضاعة أوقاتنا، ونختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، كما هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
بل الناس ربما يتأففون من الجرأة على الاعتذار، والقضية قضية عادة، فإذا اعتاد الناس فيما يستقبل يصبح الأمر سهلاً وديدناً لهم.
ثم قبل هذا يقول الله عز وجل: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28].
فيمكن أن يأتيني زائر فأعتذر له عن المقابلة، ويمكن أن أجيبه من خلال سماعة الباب وأقول له: أعتذر عن مقابلتك فأنا مشغول، ويجب أن تستعد وتتهيأ نفوسنا لقبول هذا، فإن الله عز وجل قد قال ذلك في كتابه، بل قال: {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28]، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (الاستئذان ثلاثاً، فإن أذن لك وإلا فارجع).
والقضية تحتاج إلى موقف أو موقفين، فربما تخسر شخصاً أو شخصين، لكن أنا أظن أن خسارة بعض البطالين والثقلاء أفضل بكثير من خسارة وقتي، بل أنا أعتبر خسارة البطال مكسباً؛ لأنه عندما يجد في نفسه شيئاً وتخسره ربما أنت تربح؛ لأن هذا لن يأتي إليك مرة أخرى، فتكون قد وفرت جزءاً من وقتك.
وبصراحة يجب أن تكون أوقاتنا ثمينة، وهذا يدعونا إلى أن نكون جريئين في الاعتذار.
ربما تأتيك أوقات تشعر أنك تضطر إلى المجاملة فيها، فعندما تكون في البيت ويأتيك شخص عزيز عليك فقد يكون غير لائق أن تقول له: ارجعوا هو أزكى لكم، لكن من الأولويات أن تصرف ما أنت منشغل فيه إلى صاحبك، ويسهل تعويض ذلك؛ لأن هذا في الواقع ليس إضاعة للوقت، لكن حينما يكون الأصل عندنا هو الاستقبال، فأظن أن هذا ليس من المحافظة على الوقت.
دخلوا على أحد السلف فقالوا: لعلنا أشغلناك! قال: أصدقكم كنت أقرأ فتركت القراءة من أجلكم.(5/12)
جمع العناصر ذات العلاقة
الاقتراح التاسع: جمع العناصر ذات العلاقة: لنفترض أنك بعد العصر تريد أن تقرأ، وعندك ثلاث أو أربع مكالمات هاتفية، فمن أهم الأشياء أن تجمع، فاجعل المكالمات الهاتفية في وقت واحد، فبعد صلاة العصر مباشرة تتصل، وذلك في وقت تتأكد أنك تجد أصحابك؛ لأن الاتصال دون أن تجد صاحبك إضاعة للوقت مرة ثانية.
المهم أنك تجمع الاتصالات في وقت واحد، وتجمع الزيارات في وقت واحد، فتريد أن تذهب إلى مكتبة لتشتري كتاباً، وتريد أن تذهب إلى عيادة الأسنان في الموعد الذي حدده لك الطبيب، وتريد أن تذهب إلى أحد أقاربك، فبدلاً من أن تذهب في هذا الوقت ثم تعود، ثم تذهب في الوقت الآخر، اجمع هذه الأعمال في وقت واحد، فتوفر على نفسك عناء كبيراً.
المقصود أن جمع الأشياء المتشابهة في وقت واحد من أفضل الأشياء التي تعينك على توفير الوقت واغتنامه.
لكن لو تصورنا أنك قسمت هذه المكالمات الهاتفية الأربع على وقت العصر لضاع عليك الوقت كله.(5/13)
الانضباط الذاتي
الاقتراح العاشر: الانضباط الذاتي والعزم مع النفس: هذه من أهم الأشياء، فالكلام الذي نقوله كله جميل، لكن هل تستطيع أن تحزم أو لا تستطيع؟ هذه أهم قضية، ولهذا فالمحك في اغتنام الأوقات هو الإنسان الذي يستطيع أن يعزم على نفسه؛ مثلاً: عندما تريد أن تقرأ يأتي في بالك أن تزور فلاناً، وأن تتصل على فلان، وهناك أعمال صعبة على النفس، وأعمال محببة إلى النفس، فربما يكون من المعايير عندك تقدم هذا.
المهم أنك يجب أن تكون حازماً مع نفسك، هذا وقت تريد أن تقرأ فيه فاقرأ فيه، وقت تريد أن تسافر فيه فسافر فيه، المهم على حسب ما حددت يجب أن تكون حازماً مع نفسك، ولا تستسلم لمضيعات الوقت، كالراحة، والكسل، ونحوها.(5/14)
الحذر من التسويف
الاقتراح الحادي عشر: الحذر من التسويف: والتسويف جزء من عدم الحزم، لكن الحزم معنىً أشمل من ذلك.
ولهذا كان السلف يحذرون من التسويف، قيل لرجل من عبد القيس: أوصنا.
قال: احذروا سوف.
وقال أحدهم: سوف من جند إبليس.
لأنك ربما تقول: سوف أفعل كذا فتدركك المنية ولم تفعل هذا الأمر، أو يأتيك مرض، أو يصل الهرم وأنت لم تستطع أن تفعل شيئاً، وكم من الأمور قلنا سوف نعملها ولم نعملها.
والحسن البصري يقول: إياك والتسويف؛ فإنك بيومك ولست بغدك، فإن يكن غد لك فكن في غد كما كنت في اليوم، وإن لم يكن غد لك لم تندم على ما فرطت اليوم.
وقال أحدهم: ولا أؤخر شغل اليوم عن كسل إلى غد إن يوم العاجزين غد ولما قيل لـ عمر بن عبد العزيز وقد أعياه الإرهاق من كثرة العمل: أخر هذا العمل قال: لقد أعياني عمل يوم واحد، فكيف إذا اجتمع علي عمل يومين.(5/15)
ضبط أوقات الراحة
الاقتراح الثاني عشر: ضبط أوقات الراحة: وهذه يمكن أن يكون له علاقة قوية بموضوع الحزم، لأن أوقات الراحة تضيع علينا جزءاً كبيراً من الوقت، انظروا مثلاً إلى صباح الجمعة كيف نغتنمه؟ ينام الإنسان يوم الجمعة من الساعة الرابعة إلى الساعة التاسعة، هذا الذي ينام مبكراً ويستيقظ مبكراً، فيكون قد نام خمس ساعات، ومن الساعة التاسعة يضيع وقته هنا وهناك، ويشعر عموماً أن الوقت من فجر الجمعة إلى الصلاة وقت ضائع، ولهذا يقال: إن صباح الجمعة وقت ضائع.
يا أخي! ليس هذا منطقاً صحيحاً، إذا كنت مضطراً أن تنام هذه الخمس الساعات حتى تستمع إلى الخطبة استماعاً جيداً، فتأخر في ليلة الجمعة؛ لأنك ستنام، واغتنم جزءاً من الوقت.
المهم أننا ننام جزءاً من الخميس أو وقت الجمعة أو الإجازات؟ أوقات الراحة هذه التي تستهلك تعتبر فيروساً كبيراً للوقت لا نشعر به فعلاً، فيجب أن نضبطها، فيكون الإنسان حازماً مع نفسه، فاضبط نفسك أن تستيقظ الساعة السابعة أو الساعة الثامنة مثلاً، المهم أنك تستيقظ؛ لأجل أن تقرأ مثلاً، أو لأجل أن تعمل شيئاً.(5/16)
احترام أوقات الآخرين
الاقتراح الثالث عشر: احترام أوقات الآخرين: إذا كنت لا تحترم وقتك فيجب أن تحترم أوقات الآخرين، وهذا من خلال عدة أمور: الأمر الأول: أن تحترم مواعيدك، إذا أعطيت إنساناً موعداً يجب أن تحترم هذا الموعد فلا تضيعه، أو على الأقل إذا لم تستطع أن تعتذر في وقت مناسب؛ لأنه قد يكون مثلاً قد امتنع من مصالح مهمة له لأجل هذا الموعد الذي أعطيته، فتكون قد أضعت عليه الوقت، فلن يستطيع أن يصرف هذا الوقت لأمر آخر كان يمكن أن يصرفه فيه.
من احترام أوقات الآخرين: عدم الإحراج، فبعض الناس أحياناً يلح عليك إلحاحاً عجيباً أن تأتي منزله في وليمة، وهي وليمة لا تقدم ولا تؤخر، فتعتذر ولكن لا فائدة، حتى تضطر إلى الاستجابة لإلحاحه.
يا أخي! الناس ليسوا مثلك فارغين، فمن احترامك لأوقات الآخرين ألا تلح عليهم وألا تحرجهم بأي طلب أياً كان، يجب ألا تفترض أن أوقات الآخرين مثلك، فمن حقك أن تطلب، لكن ينبغي ألا تلح، والإلحاح ليس بالضرورة دليلاً على الحرص وجانباً إيجابياً، فربما كان جانباً سلبياً.
ومن ذلك افتراض الاختلاف حول تحديد الأولويات: فأحياناً شخص يطلب منك عملاً أياً كان هذا العمل، ثم تعتذر فيقول لك: يا أخي! هذا عمل مهم، وهذا عمل مفيد، وهذا ضروري، والناس محتاجون، إلى آخره.
يا أخي! أولاً: أنت لا تعرف وقتي كله حتى تحكم، ولو كان أمامك وقتي كله، ثم أتيت إلى هذا العمل الذي ترى أنت أني يجب أن ألغي جزءاً من وقتي لأصرفه له، ربما ترى أن من حقك ذلك، لكن حتى مع هذا قد أرى أنا أن أولوياتي تختلف عن أولوياتك.
فمن احترامك لوقتي أن تحترم نظرتي؛ لأن الوقت عمري أنا ووقتي أنا، وأنا المسئول عنه، ولست أنت المسئول عن وقتي، ولن تحاسب عليه، وأنا الذي سأسأل يوم القيامة عن هذا العمر فيم أضعته، وفيم أنفقته؟ ومن الأسئلة لا شك السؤال عن الأولويات، فعندما يصرف الإنسان وقته في شيء مفيد فليس معنى هذا أنه اغتنم وقته -كما قلنا قبل قليل- بل هناك أولويات، ولا يستطيع الإنسان ولو عمر عمراً طويلاً أن يأتي على كل الأمور التي يريد.
إذاً: من احترامك لأوقات الآخرين أن تفترض أنهم ربما يختلفون معك في تحديد الأولويات، وأن القضية المهمة عندك ليس بالضرورة أن تكون مهمة عند الناس، أو ربما أن يكون عند الناس ما هو أهم مما عندك.
هذا إذا كنا افترضنا أنك عارف بكل أوقات الناس وفيما يقضونه، فكيف إذا كنت لا تعرف أوقات الناس أصلاً، ولا بما هم مشغولون به.
بعض الناس -من حسن أدبه! - حينما يطلب منك موعداً فتعتذر وتقول له إني منشغل، أن يلح، فتعتذر، فيقول: إذاً ما هو برنامج اليوم؟ وماذا عندك؟ يا أخي! افترض أنه ليس عندي برنامج لكن هذا وقتي وأنا أحر، إذا اعتذرت فافترض أسوأ الاحتمالات، وهو أن ليس عندي رغبة، فيجب أن تحترم أوقات الآخرين، وافترض أني مشغول.
أحياناً بعض الناس عندما تعتذر منه يقول لك: صباح الجمعة، أو مغرب الخميس.
يا أخي! كأن الأوقات لا يعرفها إلا أنت، أنا أظن أن الناس المزحومين في الأوقات أكثر منك معرفة كيف يجدون الأوقات المناسبة حينما يريدون ذلك.
أقول: إن من الاحترام لأوقات الآخرين أن تفترض أنهم ربما يختلفون معك حول أولوياتك، وافترض أنك ما عذرته، وأنك ترى أن هذه قضيتك هي القضية التي يجب أن تتفرغ الأمة الإسلامية كلها لأجلها، فافترض هذا.
ومع هذا فهو المسئول عن وقته، وهو الذي سيحاسب عن وقته، فلا يجوز أبداً أن تفترض أن الناس تابعون لك فيما تريد.
وقد أشار ابن القيم رحمه الله إلى شيء من هذا المعنى، وهو من يضيع وقته مع الناس، فقال: من ذلك -يعني من الإيثار المذموم- أن تؤثر جليسك على ذكرك وتوجهك وجمعيتك على الله، فتكون قد آثرته بنصيبك من الله ما لا يستحق الإيثار، فيكون مثلك كمثل مسافر سائر في الطريق لقيه رجل فاستوقفه، وأخذ يحدثه ويلهيه حتى فاته الرفاق، وهذا حال أكثر الخلق مع الصادق السائر إلى الله تعالى، فإيثارهم عليه عين الغبن، وما أكثر المؤثرين على الله تعالى غيره، وما أقل المؤثرين الله على غيره! وكذلك الإيثار بما يفسد على المؤثر وقته قبيح أيضاً، مثل أن يؤثر بوقته، ويفرق قلبه في طلب خلقه، أو يؤثر بأمر قد جمع قلبه وهمه على الله، فيفرق قلبه عليه بعد جمعيته، ويشتت خاطره، فهذا أيضاً إيثار غير محمود.
وكذلك الإيثار باشتغال القلب والفكر في مهماتهم ومصالحهم التي لا تتعين عليك على الفكر النافع، واشتغال القلب بالله، ونظائر ذلك لا تخفى، بل ذلك حال الخلق والغالب عليهم، وكل سبب يعود عليك بصلاح قلبك ووقتك وحالك مع الله، فلا تؤثر به أحداً، فإن آثرت به فإنما تؤثر الشيطان على الله، وأنت لا تعلم.(5/17)
التفويض
الاقتراح الرابع عشر: التفويض: فأحياناً ينشغل رب الأسرة بأعمال يمكن أن يقوم بها ابنه، أو قريب له، أو شخص آخر ربما ينوب عنه في القيام بمثل هذا العمل، فيوفر عليه وقتاً يمكن أن يغتنمه في شيء آخر لا يستطيع أن يقوم هذا الابن به.
المسئول في دائرة أو مؤسسة قد يشغل نفسه بأعمال روتينية كان يمكن أن يشتغل بها غيره، فمن الوسائل مثلاً أن يفوض جزءاً من صلاحيته لمسئول دونه، فأنا لا أظن أن من الوضع الطبيعي أن مسئولاً كبيراً في دائرة أو في مؤسسة يوقع كل ورقة، وينشغل بتوقيع ورقة تتعلق بإجازة موظف، أو نحو ذلك، فإن هذا من إهدار الأوقات، وهذا المسئول يجب أن يخصص وقتاً للتخطيط، ووقتاً للتفكير، ووقتاً لتطوير العمل، فالتفويض من الوسائل التي تعين على اغتنام الوقت.(5/18)
التخلص من المعايير الخاطئة في تخصيص الوقت
الاقتراح الخامس عشر والأخير: التخلص من المعايير الخاطئة في تخصيص الوقت:- وهذه قضية تعود إلى الأولويات، فهناك معايير خاطئة في تخصيص الوقت، فأمامك الآن وقت بعد العصر، وعندك عشر مشاغل، فبأي شيء تبدأ؟ هناك معايير خاطئة مسيطرة على النفس تتحكم في تخصيص الأوقات، منها: طلبات الآخرين: فالشيء الذي يلح عليه الناس ويطلبونه تنهيه قبل، وهذا ليس بالضرورة أنه الشيء الملح، فمثلاً مسئول يحرص على إنجاز معاملة حريص عليها صاحبها، لكن هذا يشغله عن التخطيط لعمله الذي هو أمر مهم، وقل مثل ذلك في أي قضية من القضايا، فطلبات الآخرين ليست معياراً سليماً في تخصيص الوقت.
قرب الموعد النهائي: من المعايير المسيطرة علينا كثيراً هو أن الشيء الذي يقترب الموعد النهائي فيه نعتبر له أولوية، وربما كان هذا على حساب الأمور التي ليس لها موعد نهائي، فمثلاً القراءة ليس لها موعد نهائي، والتخطيط للأعمال ليس له موعد نهائي، فهناك أعمال ليس لها موعد نهائي.
ولهذا إذا كان هذا المقياس عندك فستهمل أعمالاً كثيرة ربما كانت أولى، وربما رأيت في حالة من الحالات أنك تفرط في أمر مثلاً، وأن غيره أولى منه وعلى حسابه.
من المعايير الخاطئة: درجة الاستمتاع: فهناك أعمال ممتعة بالنسبة لك أكثر من غيرها، فأحياناً الزيارة والذهاب والإياب أكثر متعة من القراءة، وهذا معيار خاطئ أن تخصص وقتك للزيارة على حساب القراءة.
والقراءة نفسها درجات، فهناك قراءة ممتعة أكثر، فالسير والتراجم والأدب أكثر متعة، فحينما تخصص وقتك لهذه القراءة أظن أن هذا معيار خاطئ.
من المعايير الخاطئة: درجة المألوفية: فالإنسان يحب العمل الذي يألفه، ولا يحب العمل الذي لم يعتده، وربما يكون عملاً ما اعتدت عليه ولا ألفته أفضل بكثير من عمل ألفته واعتدت عليه.
من المعايير الخاطئة: الأعراف الاجتماعية: فمثلاً أنا لست مقتنعاً أبداً أنه عندما يكون هناك مناسبة بعد العشاء -خاصة أيام الشتاء- أن يقول: عندنا مناسبة بعد العشاء، فواحد يأتي بعد العشاء، والثاني يأتي الساعة الثامنة، والثالث يأتي الساعة الثامنة والنصف، والرابع يأتي الساعة التاسعة، ويجلسون ساعة أو ساعتين ينتظرون إنساناً حتى يشرف ضيافتهم، ومن ثم ينتهي الوقت.
يا أخي! من الممكن أن نحدد وقتاً محدداً، نقول مثلاً: الساعة الثامنة، أو الساعة التاسعة، أو التاسعة والنصف، وانتهينا، وبعد الظهر مثلاً وقت ضائع عندما يكون هناك مناسبة.
هذه القضايا الاجتماعية لابد أن تضبط، والأعراف الاجتماعية لا يجوز أن تسيطر علينا فتكون مدعاة لإضاعة أوقاتنا، فالمناسبات العادية التي بعد صلاة العشاء كم يضيع فيها من الوقت؟! فلو حددت لما وجدنا حرجاً، فلنجعلها ساعة كاملة أو ساعتين، فليست هناك مشكلة، لكن نحدد لها بداية ونهاية بحيث نغير أعرافنا الاجتماعية.
لا يسوغ أبداً أن تكون أعرافنا الاجتماعية حاكمة لنا في تخصيص أوقاتنا، ونحاول أن نعود الناس لا أن نتعود على ما يفعله الناس.
وهذه -كما قلت- لا تعدو أن تكون مقترحات ووسائل لاغتنام الوقت، فحديثنا ليس حديثاً عن الوقت جملة، إنما هو عن بعض الوسائل التي تعيننا على اغتنام الوقت.
وهذا تنبيه يقول: هناك بحث جيد في الوقت وكم نستغل منه وكم نضيع، نشر في مجلة البيان قبل أعداد بعنوان: فن إدارة الوقت، والبحث اطلعت عليه وجيد، وطيب القراءة فيه.(5/19)
الأسئلة(5/20)
المقارنة بين استغلال الوقت بالحفظ واستغلاله بحضور المراكز الصيفية
السؤال
المراكز على الأبواب وفيها الغث والسمين، وأرى من نفسي -ولله الحمد- أنني إذا تفرغت أستفيد من وقتي قراءة وحفظاً أكثر بأضعاف مما أستفيد من المركز، فما ترى؟
الجواب
أولاً: ليس صحيحاً أن القراءة والحفظ هي وحدها الاستفادة من الوقت، بل مثل هذه المراكز يمكن أن نقول إن فيها بعض الأخطاء، فهذا طبيعي، وهذا جهد بشر، لكن أعتقد أن العبارة فيها نوع من التجاوز أن فيها الغث والسمين، باعتبار أنها مضيعة للوقت.
يا أخي! اجعل هذه في مقابل النوادي الرياضية، أو في مقابل الشباب الذين يضيعون أوقاتهم في الشوارع أو هنا وهناك، فأنا أعتبر أنها فرصة كبيرة لاغتنام أوقات الشباب وحمايتهم، خاصة في هذا العصر الذي كثرت فيه المغريات والملهيات.
وأنت حينما تأتي لمثل هذه المراكز أو الأنشطة أو غيرها، قد لا تستفيد استفادة مباشرة، وقد تكون لو تفرغت استفدت أكثر من وقتك، لكن -يا أخي- عندما تعين غيرك على الاستفادة من وقته فتحضر فهذه استفادة كبرى، وهذا توظيف للوقت في الدعوة إلى الله عز وجل.
فمعيار الاستفادة من الوقت ليس في كم تقرأ وكم تحفظ، إنما هذا الوقت الذي قضيته حين تسأل عنه يوم القيامة، فهل ترى الإجابة أنها ستكون منجية لك عند الله أم لا؟ أنا أعطيك مثالاً: هذا الوقت الذي قضيناه في إلقاء هذا الدرس، كان يمكن ألا ألقيه عليكم، وأن أغتنمه في حفظ أو قراءة، لكن لا أشعر أني لو جلست أحفظ لاستفدت أكثر، بل أشعر أني حينما ألقي الدرس أستفيد أكثر، من خلال أن القضية ليست في كم تقرأ وكم تحفظ، إنما هذا الوقت الذي قضيته هل قضيته فيما ينفع أم لا؟ ومعيار الفائدة له اعتبارات كثيرة، واعتبارات شرعية، وليس مجرد الفائدة الشخصية التي تراها أنت.(5/21)
مراعاة الميل الشخصي في اغتنام الوقت
السؤال
ألا ترى أنه يراعى في استغلال الوقت الميول الشخصية مثلاً في قراءة السير؟
الجواب
هذه من المعايير الخاطئة في تخصيص الوقت كما قلنا، فلا تأسرنا الميول الشخصية، فإذا قال شخص: أنا ليست هوايتي القراءة، أقول له: اجعلها من هوايتك، وعود نفسك، واحرص على ذلك.(5/22)
حكم تضييع الوقت في الترفيه
السؤال
هل هناك حكم في تضييع وقت بسيط للترفيه؟
الجواب
الإنسان يحتاج إلى الراحة والاستجمام، فمن الطبيعي أن يحتاج الإنسان إلى نوع من الاستجمام والراحة، بل كان السلف يدعون إلى ذلك، وقد ذكروا شيئاً من آداب المحدث، وهذا ربما تجد طائفة منه في (الجامع لآداب الراوي وأخلاق السامع).
فقد كانوا يقولون: أمتعونا فإن الأذن مجة وإن القلب حمض، وكانوا أحياناً تناشدون الشعر، ويتمازحون في أمور يرون أنها وسيلة لإذهاب الملل والسآمة.(5/23)
كيفية الانضباط مع الجدول المخطط
السؤال
أعاني كثيراً من عدم الانضباط مع الجدول الذي أضعه لنفسي، فما الحل؟
الجواب
هناك عدة مشكلات تؤدي إلى عدم الانضباط مع الجدول، فلاحظ هذه المشكلات، وابحث عن أيها تنطبق عليك.
من هذه المشكلات أولاً: أن يكون تخطيطك للجدول غير سليم أصلاً، إما أن يكون مثالياً، كإنسان ساكن مع أهله ومع والده ووالدته، ووالده كبير السن، والناس يزورونه بعد المغرب، ويقول: أنا مخصص بعد المغرب للقراءة، فهذا وضع غير عملي؛ لأنك تحتاج في هذا الوقت أن تبقى مع والدك وتخدمه، وتستقبل الزوار، وهذا اغتنام للوقت لاشك.
فيجب أن تضع وقتاً آخر للقراءة كما قلنا في تخصيص الوقت، أو قد يكون عندك خطأ في رسم الجدول، أو قد تكون مثالياً في الجدول الذي رسمته لنفسك، أو قد تكون كسولاً، وهذه أظن أنها من أكبر الأسباب، فكسول أنك لست حازماً أو تكون غير متدرج، فلا يمكن أن ينتقل الشخص من وضع سيء إلى وضع في القمة، لكن يتدرج الإنسان، ومن ثم يحاسب نفسه، وينظر ماذا عمل في الوقت الماضي؟ وما هي الأخطاء التي وقع فيها؟ ولماذا ضاع عليه هذا الوقت؟ ويستفيد من أخطائه وعيوبه.
هذه فيما أتصور بعض الأسباب التي تؤدي إلى عدم الانضباط في مثل هذه الجداول.(5/24)
اغتنام الوقت وعدم الاحتجاج بمضاعفة الأجر لبعض الأعمال
السؤال
ما رأيك فيمن يحتج بأن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة إلى آخر، والحرف من القرآن بأجر عظيم، والصدقة يربيها الله حتى تعظم، والولد الصالح، وغير هذا في التعويض لما فات من الوقت؟
الجواب
هذا غير صحيح، فصل في المسجد الحرام وصل في غيره، فلو دخلت الجنة ستندم على ساعة لم تذكر الله عز وجل فيها.(5/25)
اغتنام الوقت في الجهاد
السؤال
تكلمت عن اغتنام الوقت وفضله، وعن الفاضل والمفضول، فهل إذا تيسر لي الجهاد في سبيل الله وقضاء الإجازة في تغبير قدمي في سبيل الله أفضل، أو البقاء هنا في تضييع الأوقات والتسويف للاستفادة من الوقت، والحقيقة هذا واقع كثير من الشباب في الإجازة والإجازات خير شاهد؟
الجواب
لا شك أن الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام، وله منزلة عظيمة، ولعله أن يتهيأ وقت نتحدث فيه عن دور الجهاد في تربية الأمة، والأمة حين تركت الجهاد -كما أخبر صلى الله عليه وسلم- أصيبت بالذل، وما مر بالأمة ذل أشد من هذا الذل الذي تعاني منه، وإذا تيسرت للإنسان فرص، وكانت ظروفه تناسب، فلا شك أن هذا ميدان طيب، وميدان مطلوب، بل ميدان الناس بحاجة إليه.
لكن أيضاً لا يعني هذا أن من يجلس ولا يذهب أنه قد أضاع وقته، بل ربما يتعين بقاء بعض الناس في بلده، أو كان بقاؤه أولى، خاصة في الأمور التي يكون فيها الجهاد نافلة، وليس فرض عين.(5/26)
الجمع بين أمور الخير في اغتنام الوقت
السؤال
ذكرت أن من تلبيس الشيطان اشتغال الإنسان عن الفاضل بالمفضول، فهل يدخل في ذلك الشعور بشيء من الملل في قراءة القرآن، فيقرأ كتاباً، أو يحفظ متناً، وإذا كان ذلك ضمن الكلام إذاً فلنترك الكتب وقراءتها، ولنحفظ القرآن إلى آخره؟
الجواب
ليس هذا بصحيح، فالإنسان مطلوب منه أن يقرأ في القرآن، ويقرأ في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويقرأ في تراجم السلف، ويجمع بين هذه الأمور كلها، أرأيت مثلاً الصلاة أليست أفضل من التسبيح؟ فهل يمكن أن يقول الإنسان: إذاً لن أضيع وقتي بالتسبيح، أريد أن أجعل كل وقتي للصلاة، لا يمكن هذا! فينبغي للإنسان أن يجمع بين هذه الأمور، ولو وجد الإنسان مللاً في قراءة القرآن فانشغل بغيره ثم عاد، أو وجد مللاً من أي أمر فهذا لا إشكال فيه، بل النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الإنسان إذا قام يصلي وغلب عليه النوم، فإنه ينبغي أن ينصرف من صلاته وينام.
فأقول: إن هذا الأمر لا يعني بالضرورة الانشغال بالمفضول، بل هذه صورة من الاستجمام حتى يعود إلى هذا العمل الفاضل بصورة أولى.(5/27)
ضرورة اغتنام الوقت بالدعوة
السؤال
ماذا لو أن الشخص في الإجازة أمضى بعض الوقت مما يمكن الاستغناء عنه في أفضل منه، مع جمعه الاستغلال الأمثل للوقت، كمن يستغل وقته صباحاً في الإجازة بالقراءة والفائدة، وأيضاً يشترك بدوره في الحاسب الآلي، أو يشتغل في شركة أو متجر، أو غير ذلك؟
الجواب
الإجازة فرصة ثمينة، فمثلاً وقت الصباح ووقت المساء وقت طويل، فيستطيع الأخ أن ينشغل وقت المساء بأعمال دعوية، وأنا أؤكد على هذه القضية، فأنا أرى أن الذي ينبغي الآن هو الأعمال الدعوية، فالناس يحتاجون للدعوة، ولا يسوغ أن نتفرغ لأنفسنا، ونهمل هذه الأمور.
فينبغي أن ننشغل بهذه الأعمال في الفترة المسائية، فكل إنسان يستطيع أن يساهم بأي عمل، وبأي دور، فالأوقات التي تضيع سدىً كوقت الصباح وغيره ينبغي أن نغتنمها في القراءة، وأنا لا أوافق على أن نلغي كل برنامج الإجازة ونتفرغ للقراءة، فيا أخي! هناك أعمال مهمة إذا وازن الإنسان بينها استطاع أن يشعر في النهاية أنه اغتنم الإجازة اغتناماً أمثل، ثم سار بخط متوازن، فعمل قدراً من هذا الواجب.
فيا إخواني! وقت الصباح وقت طويل يقرب من ثمان ساعات، لو استغله الإنسان لكان ذلك خيراً كثيراً، وليتنا نستطيع أن نغتنم هذا الوقت، ويبقى معنا أوقات أخرى يمكن أن نغتنمها في أعمال أخرى.
أسأل الله عز وجل أن يعيننا وإياكم على اغتنام أوقاتنا، إنه سبحانه وتعالى سميع مجيب.
هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(5/28)
لا تجعلوا بيوتكم مقابر
البيت نواة المجتمع والدولة، وهو محضن تربوي لأفراد الأسرة صغاراً وكباراً، تتزاوج فيه الأخلاق وتتلاقح الطباع، ولذلك ينبغي على المرء أن يحيي بيته بالطاعات والعبادات المتنوعة حتى يطرد منه الشياطين وتحل فيه السكينة، ويتربى على ذلك الأحفاد والبنون.(6/1)
فضل المساجد وبناؤها
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد.
فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يثيب الإخوة على دعوتهم وعلى حسن ظنهم، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال في هذا الشهر الكريم المبارك الذي تصرمت أيامه وانقضت لياليه، وها نحن قدمنا في هذه الليلة وقد مضى شطر هذا الشهر، فنحن في الليلة الخامسة عشرة منه.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن صامه وقامه إيماناً واحتساباً إنه سبحانه وتعالى سميع مجيب.
(لا تجعلوا بيوتكم مقابر) هو عنوان حديثنا لهذه الليلة.
الله سبحانه وتعالى خص هذه الأمة بخصائص، وفضّلها على سائر الأمم بفضائل، وتحدث صلى الله عليه وسلم عن شيء من هذه الفضائل والخصائص، منها أنه كما قال صلى الله عليه وسلم: (جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما امرئ من أمتي أدركته الصلاة فليصل) وذلك أن الأمم السابقة كانوا لا يصلون إلا في بيعهم وكنائسهم وصلواتهم، أي: أماكن عبادتهم، أما هذه الأمة فالأرض لها مسجد وطهور، فهم يصلون أينما أدركتهم الصلاة.
هذا فيما يتعلق بالصلاة المكتوبة، أما سائر الصلوات فلها شأن آخر، لا شك أن هذه البيوت فيها النور والبركة، {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:36 - 37].
فهذه البيوت أمر الله سبحانه وتعالى ببنائها وتطهيرها، وأثنى على أولئك الذين يعمرون هذه المساجد ويذكرون الله عز وجل فيها، وأخبر سبحانه وتعالى أن هذه المساجد إنما يعمرها أهل الطاعة: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة:17] ثم قال بعد ذلك {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} [التوبة:18] إلى آخر الآيات.
لا شك في فضل هذه المساجد وأنها بيوت الله كما أخبر صلى الله عليه وسلم، وكما ورد في الحديث المتواتر: (من بنى لله بيتاً بنى الله له بيتاً في الجنة) وأن المرء إذا غدا إلى المسجد أو راح أُعد له نزل في الجنة كلما غدا أو راح، وأنه كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: (إذا خرج المرء من بيته فإن الله يتبشبش له كما يتبشبش أهل الغائب بغائبهم).(6/2)
فضل إحياء البيوت بطاعة الله
كل هذه الفضائل مرتبة على عمارة هذه المساجد لذكر الله وعبادته وطاعته سبحانه وتعالى، لكن هذا قد يصرف المسلم عن إحياء بيته ومنزله بالعبادة والذكر لله سبحانه وتعالى، قد يصرفه عن ذلك ويشغله، ولهذا يأمر صلى الله عليه وسلم أن يكون لبيت الإنسان نصيب من عبادة الله سبحانه وتعالى وطاعته، وألا يقفز بيته من توجهه لله سبحانه وتعالى، وتضرعه له وعبادته له عز وجل، ويظهر ذلك في أمور عدة:(6/3)
صلاة النافلة في البيت
منها الصلاة، وهي أعظم ما يتقرب به الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى، أوليس النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر الذي سأل مرافقته في الجنة أن يعينه بكثرة السجود؟ أوليست الصلاة هي أول ركن عملي يجب على الإنسان، وهي ثاني أركان الإسلام، وهي العمل الذي يكفر تاركه، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعدون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة، فلعلو الصلاة وعظم شأنها ومنزلتها عند الله سبحانه وتعالى صارت أول الأركان العملية وثاني أركان الإسلام، وصارت حداً فاصلاً بين الإيمان والكفر والشرك، وصارت أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من عمله، وكلما فضلت فريضته فضلت نافلته.
وإذا تأكد وجوب أمر فهذا دليل على محبة الله سبحانه وتعالى له، وعلى أنه يزيد العبد قرباً من الله سبحانه وتعالى، وعلى أن هذا العمل له أعظم الأثر في إصلاح العبد، له أعظم الأثر في إصلاح قلبه وحاله مع الله سبحانه وتعالى.
ومن عظمة الصلاة وعلو منزلتها أن الله سبحانه وتعالى فرضها على نبيه صلى الله عليه وسلم ليس في السماء، وإذا عظمت فريضة الصلاة عظمت نافلتها أيضاً، وإذا كانت الصلاة هي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من عمله فإنه كما في الحديث أيضاً: (إن أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة إن صلحت أفلح وأنجح، وإن فسدت خاب وخسر، وإن نقص شيء من صلاته قال الله عز وجل: انظروا هل لعبدي من تطوع فيُكمل بها ما انتقص من صلاته).
إذاً: فصارت نافلة هذه الصلاة وسيلة لأن يكمل بها ما نقص من فريضته، فإذا كان هذا شأن فريضة الصلاة فلا شك أن نافلة العمل قريبة من فريضته، فكلما ازدادت الفريضة فضلاً ازدادت النافلة فضلاً، ولهذا أوصى صلى الله عليه وسلم أن يصلي المرء في بيته، يعني النافلة والراتبة، وثبت في أحاديث عدة منها ما في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما واللفظ لـ مسلم: (اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً) وفي رواية له أيضاً: (صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً) ولـ مسلم أيضاً: (إذا قضى أحدكم الصلاة فليجعل لبيته نصيباً من صلاته فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيراً).
وفي قصة احتجاره صلى الله عليه وسلم موضعاً في المسجد وصلاة الناس بصلاته، فصلوا الليلة الأولى، ثم الليلة الثانية، ثم الثالثة ثم لم يخرج إليهم صلى الله عليه وسلم، وكان فيما قاله لهم صلى الله عليه وسلم: (فعليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة).
وهذا نص عام يدل على أن أفضل صلاة المرء ما كان في بيته إلا الصلاة المكتوبة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يصلي الرواتب في بيته، وكان صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على أن يصلوا الرواتب في بيوتهم مع أنه كان في مسجده صلى الله عليه وسلم الذي تضاعف فيه الحسنات، وتضاعف فيه الصلاة، فالصلاة فيه تعدل ألف صلاة فيما سواه، ومع ذلك يأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يصلوا في بيوتهم، وحقاً وصدقاً فإن صلاتهم في بيوتهم خير لهم من صلاتهم في مسجده صلى الله عليه وسلم مع ما له من الفضل، فغيره من باب أولى، وهذا الأمر هدي راتب عند سلف الأمة، فحين نقرأ سير السلف نرى أنه قد حفظ عن الكثير منهم من أصحابه صلى الله عليه وسلم، ومن تلاهم أنهم كانوا يصلون الراتبة والنافلة في بيوتهم.
في مصنف ابن أبي شيبة أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه كان يصلي الركعتين بعد المغرب في بيته.
وفيه أيضاً عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: لقد أدركت زمان عثمان بن عفان رضي الله عنه وإنه ليسلم من المغرب فما أرى رجلاً واحداً يصليهما حتى يخرجوا فيصلونها في بيوتهم.
وروى أيضاً عن ميمون قال: كانوا يستحبون هاتين الركعتين بعد المغرب في البيت.
وروى عن عبد الله بن يزيد قال: (رأيت السائب بن يزيد يصلي في المسجد ثم يخرج قبل أن يصلي فيه شيئاً) يعني لا يتطوع.
وروى أيضاً عن إبراهيم قال: سئل حذيفة رضي الله عنه عن التطوع في المسجد يعني بعد الفريضة؟ قال: (إني لأكرهه).
بينما هم جميعاً في الصلاة كانوا يصلون الفريضة جماعة، ثم أصبح يصلي كل منهم التطوع لوحده، وهذه ليست دعوة منه رضي الله عنه إلى أن يصلوا التطوع والراتبة جماعة ولكنها دعوة إلى أن يصلوا في بيوتهم.
وروى عن الأعمش قال: (ما رأيت إبراهيم متطوعاً في مسجد).
وأيضاً روى عن الربيع بن خثيم أنه ما رئي متطوعاً في مسجد الحي قط، والربيع بن خثيم من التابعين وهو الذي قال عنه ابن مسعود رضي الله عنه: (لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبك) كان رجلاً مشهوراً بالزهد والرقة والصلاح والتقوى، وكان من أصحاب ابن مسعود(6/4)
قراءة القرآن في البيوت
أيضاً البيت له نصيب من تلاوة القرآن لفعله صلى الله عليه وسلم تقول عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجري فيقرأ القرآن وأنا حائض)، وأين كان يتكئ صلى الله عليه وسلم في حجرها إن لم يكن ذلك في بيته صلى الله عليه وسلم.
ويأمر صلى الله عليه وسلم بتلاوة القرآن في البيت ويخبر أن ذلك مطردة للشيطان كما في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة) والمسلم له نصيب من كتاب الله سبحانه وتعالى، وحاله مع كتاب الله عز وجل كحال سمكة ماء النهر والطائر مع الهواء، وحين يمضي عليه وقت لم يقرأ فيه شيئاً من كتاب الله سبحانه وتعالى فإنه يشعر بضيق ووحشة في صدره وبعد عن الله سبحانه وتعالى وقسوة في قلبه، وخاصة حفاظ كتاب الله عز وجل أمثالكم بإذن الله، وأكثركم من حفاظ كتاب الله إما الآن أو مستقبلاً بإذنه سبحانه وتعالى، والمسلم أياً كان شأنه لا بد أن يكون له نصيب من تلاوة كتاب الله عز وجل، نصيب لا يخل به في أي وقت، وحافظ كتاب الله عز وجل هو أولى الناس بذلك حتى يشفع له كتاب الله عز وجل، فالقرآن حجة لك أو عليك، وهو يأتي يوم القيامة يحاج عن صاحبه ويخاصم عنه قائلاً: أي رب منعته النوم في الليل فشفعني فيه، فلا بد أن يكون لنا نصيب من تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى والإقبال عليه.(6/5)
ذكر الله تعالى في البيوت
والبيت أيضاً ينبغي أن يكون له نصيب من ذكر الله عز وجل، ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل البيت الذي يُذكر الله فيه والبيت الذي لا يُذكر الله فيه مثل الحي والميت).
وفي حديث جابر في الصحيحين يقول صلى الله عليه وسلم: (أغلق بابك واذكر اسم الله عز وجل فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً، وأطفئ مصباحك واذكر اسم الله، وخمّر إناءك ولو بعود تعرضه عليه واذكر اسم الله، وأوك سقاءك واذكر اسم الله عز وجل).
فتكون حال المؤمن حال الذاكر لله عز وجل، فهو يذكر اسم الله حين يدخل بيته، وحينئذ يقول الشيطان: لا مبيت لكم، وحين يغلق بابه يذكر اسم الله عز وجل، والشيطان لا يفتح باباً مغلقاً، ويذكر الله حين يدخل فيسلّم على أهل بيته لأن السلام من ذكر الله عز وجل كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم حين سلّم عليه رجل فلم يرد عليه السلام حتى تيمم ثم قال: (كرهت أن أذكر الله إلا على طهارة)، فإذا دخلت فسلم يكن بركة عليك وعلى أهل بيتك.
وهو يذكر الله حين يطفئ مصباحه يريد أن ينام، وحين يوكي سقاءه، ويذكر اسم الله حين يأوي إلى فراشه، وفي كل أحواله وأوقاته لا يفارقه ذكر الله سبحانه وتعالى، حينها يطرد الشيطان، وتحل البركة في هذا المنزل وهذا البيت.
والمسلم لا يفارقه ذكر الله فهو يستحضر وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يزال لسانه رطباً من ذكر الله، وهو يتطلع إلى أن يتحقق فيه: (من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، ومن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي)، ويتطلع إلى أن يكون من الذاكرين الله عز وجل كثيراً والذاكرات، فهو يتطلع إلى أن يبلغ منازل الذاكرين ولهذا لا يفتر لسانه من ذكر الله سبحانه وتعالى قائماً وقاعداً ومضطجعاً، حال أولئك الذين أثنى الله عز وجل عليهم في كتابه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191] فهو يتطلع إلى أن يكون من الذاكرين الله قائماً وقاعداً وعلى جنبه حتى يستحق هذا الوسام، وحتى يستحق هذا التشريف والتكريم، أعني أن يكون ممن وصفهم الله في كتابه بأنهم من أولي الألباب، وأن يكون ممن قال فيهم عز وجل: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195].
وحين يدرك المؤمن هذه المعاني العظيمة في ذكر الله عز وجل يعمر أوقاته وأحواله كلها في بيته وسوقه بذكر الله سبحانه وتعالى وتسبيحه وتمجيده والثناء عليه عز وجل.
إذاً هذه نماذج، وهي دعوة إلى أن يعمر المرء بيته بطاعة الله سبحانه وتعالى وعبادته، وأن يكون لبيته نصيب من عبادة الله عز وجل وطاعته، وأن لا يكون كحال أولئك الذين لا يعبدون الله إلا في بيعهم وصلواتهم وكنائسهم ومعابدهم، هذه العبادة وهذه الدعوة هي في إطار التصادق الشرعي، فما شرع الله أن يكون في المسجد فهو في المسجد، وما شرع أن يكون في الثغور ففي الثغور، وما شرع أن يكون أمام الناس ومع الناس فهو مع الناس، وما شُرع في البيت فهو في البيت أولى.(6/6)
آثار إحياء البيت بالطاعة(6/7)
ألا يكون البيت كالمقبرة
هذه العبادة والتوجه لله سبحانه وتعالى، وعمارة البيوت بذكر الله عز وجل لها آثار ونتائج عدة منها: أن لا يكون البيت من المقابر، والنبي صلى الله عليه وسلم قد شبّه البيت الذي لا يُصلى فيه بالمقبرة، فما وجه الشبه بين البيت الذي لا يصلى فيه والمقبرة؟
و
الجواب
أن المقابر لا تجوز الصلاة فيها سداً لذريعة الشرك كما تعلمون، لكن أيضاً في هذا الحديث معان أخرى أشار إليها شُرّاح الحديث، منها: أن أهل المقابر لا يصلون في قبورهم، وإنما ذلك خاص بالأنبياء كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم موسى يصلي في قبره.
فأهل المقابر لا يصلون في قبورهم، وحين لا يصلي المرء في بيته يصبح بيته كالمقبرة لا يُصلى فيها.
معنى آخر: أن البيت الذي لا يصلي فيه الإنسان يصبح للنوم والاستراحة، والنوم أخو الموت فهو الموتة الصغرى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام:60] {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42].
فحين يكون بيت المرء لنومه فقط صار شبيهاً بالمقبرة التي هي للأموات، فصار هذا البيت له كحال القبور لأصحابها فهم لا يعيشون فيها إلا موتى، وهذا لا يعيش فيه إلا ميتاً، ويؤيد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي ذكرناه قبل قليل: (مثل البيت الذي يُذكر الله فيه والبيت الذي لا يُذكر الله فيه كمثل الحي والميت).
وعلى كل حال فهذه المعاني كلها محقرة لهذا البيت الذي لا يُصلى فيه واستدل بهذا الحديث على النهي عن الصلاة في المقبرة.
ثانياً أهل القبور لا يصلون، وحال هذا البيت الذي لا يُصلى فيه كحال أهل القبور، إلا أنهم يفارقوا أهل القبور أنه يكتسب السيئات وأولئك قد انقضى عنهم، أيضاً هذا البيت ليس إلا للنوم وهو الموتة الصغرى فحاله فيه كحال أهل القبور في قبورهم.(6/8)
نفور الشياطين
الأثر الثاني لإحياء العبادة في البيت هو نفور الشياطين: فإن الشياطين إنما تأنس إلى الأماكن القذرة، أليس النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نستعيذ بالله حين ندخل الخلاء من الخبث والخبائث؟ أليس يخبر أن هذه الحشوش محتضرة؟ فالشياطين إنما هي نجسة تأوي للأماكن النجسة القذرة المستقذرة، وتأوي إلى الأماكن التي يعصى الله عز وجل فيها، ولهذا فهي تأوي إلى هذه البيوت، وحين يُعمر البيت بطاعة الله عز وجل وتلاوة كتابه وذكره سبحانه وتعالى فإن الشياطين تنفر منه، ويدل على ذلك مما سبق قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة)، وأيضاً في حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أغلق بابك واذكر اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً، وأطفئ سراجك واذكر اسم الله) فذكر الله عز وجل ينفر منه الشيطان.
فتخيل أنت معي هذا البيت الذي إذا دخل رب المنزل ذكر اسم الله، وإذا دخل الابن ذكر اسم الله، وإذا دخلت المرأة ذكرت اسم الله، وإذا أطفأ المصباح ذكر اسم الله، وهم فيما بين ذلك يذكرون الله ويسبحونه ويحمدونه ويكبرونه، وإذا اضطجعوا ذكروا الله، وإذا أكلوا طعاماً ذكروا الله، ثم هم أيضاً يتلون كتاب الله عز وجل في هذا البيت، وهم يحيون هذا البيت بالصلاة النافلة والراتبة، أو بإحياء الليل، فتخيل أي مكان سيجده الشيطان في هذا البيت العامر بالتقوى والإيمان وعبادة الله عز وجل.(6/9)
نزول البركة وحلولها
ثالثاً: هذا مدعاة لنزول البركة وحلولها، فإن البيوت التي يُذكر فيها اسم الله سبحانه وتعالى تحل فيها الملائكة وتنفر منها الشياطين فتحل فيها البركة، ولا شك أن اسم الله عز وجل ما ذُكر على أمر إلا وحلت البركة فيه، وحين يكون أيضاً معموراً بالصلاة والذكر والتسبيح وغيرها من أمور طاعة الله سبحانه وتعالى وعبادته فإن هذا البيت يصبح بيتاً مباركاً على أهله، وعلى من يسكنه.
وكم نحتاج إلى أن نعيش في هذا الجو الآمن المطمئن، في جو تنفر منه الشياطين، في جو تحل فيه البركة والخير كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فإذا كان السلام مدعاة لأن يكون بركة على المرء وعلى أهل بيته فكيف إذا أُضيف مع السلام ذكر الله في كل الأحوال؟ كيف إذا أضيف مع ذلك تلاوة كتاب الله عز وجل والصلاة والتوجه لله سبحانه وتعالى؟(6/10)
تربية أهل البيت على العبادة
رابعاً: العبادة في البيت مدعاة لأن يتربى أهل البيت على عبادة الله عز وجل وطاعته سبحانه وتعالى، وللأسف كم تفتقر بيوت المسلمين لهذا الأمر، إنك لو أتيت إلى بيوت الصلحاء الخالية من المعاصي والفجور دعك من بيوت من جوارهم وهم عامة وأغلب المسلمين، إنك لو أتيت على بيوت هؤلاء لوجدت أن الأبناء والبنات الذين يعيشون في هذا البيت لا يرون فيه أثر الطاعة والعبادة، فوالدهم الصالح العابد إنما يصلي ما كتب الله له في المسجد وينصرف وهم لا يرون منه في بيته إلا الوجه الآخر، فلا يرون منه إلا الحديث معهم في أمور الدنيا والذهاب والإياب، ويبقون في بيتهم كأنهم في صالة طعام، أو مكان يأوون إليه ويبيتون فيه، وليس هذا شأن البيوت، وليس هذا شأن الأسرة فهي المحضن الذي يتربى فيه أهل البيت على الطاعة والتقوى والصلاح باع أحد السلف جارية وكان بيته معموراً بقيام الليل وعبادة الله سبحانه وتعالى، فلما جاء ثلث الليل قامت توقظ سيدها الذي اشتراها فقال: لم يحن الفجر بعد! فقالت: أوما تستيقظون إلا عند الفجر، إنكم قوم سوء! فلما أصبحت خرجت تبكي إلى سيدها الذي باعها تسأله بالله أن يعيدها إليه، فقد باعها إلى قوم سوء لا يستيقظون إلا مع الفجر.
فماذا عسى هذه الجارية أن تقول لو رأت الكثير من بيوت المسلمين والذين لا يستيقظون حتى مع الفجر، ماذا عسى أن تقول؟ وانظر إلى أثر هذا البيت الذي عُمر بالتقوى والصلاح وعبادة الله، كيف كان أثره على هذه الأمة التي كانت تخدم فيه؟ حتى كرهت أن تفارق هذا البيت، فكيف بأثره على الأبناء والبنات والذرية؟ وهو أثر يتركه الأب على أسرته وبيته.
وحين يسلكه الشاب أو الفتاة يترك أيضاً أثراً على سائر أهل منزله وبيته، إن أهل المنزل يرون هذا الشاب قد سلك في قطار الصالحين، وسار في طريق الأخيار العابدين، لكنهم لا يرونه إلا أوقاتاً محدودة يرونه لماماً يتناول معهم الطعام، أو يرتاح في المنزل، أو منزوياً هنا وهناك، وقلما يرونه تالياً لكتاب الله سبحانه وتعالى، قلما يرونه مصلياً ذاكراً لله عز وجل، ولهذا نرى أن البعض من الشباب يقل أثره على أهل بيته، والسبب هو إهماله لهذا الأمر، ولو كان شأنه العبادة وديدنه الطاعة فعمر أحواله وبيته بعبادة الله سبحانه وتعالى تلاوة وصلاة وذكراً لله عز وجل لترك أثره على أهل بيته، وكم رأينا من بيوت صلحت واستقام أهلها كبيرهم وصغيرهم بصلاح واحد من الأبناء ربما كان لم يتجاوز الحلم إلا بقليل.(6/11)
دفع أثر الشرور والآثام
الأثر الخامس: أن بيوت المسلمين وللأسف مليئة بالمعاصي وبما يسخط الله عز وجل، أليست الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة؟ فكيف إذا ملئ البيت بالصور الفاتنة والمثيرة؟ فكيف إذا ملئ بأجهزة الفساد واللهو التي تعرض الرذيلة والفساد والسوء فيعيش البيت في جو صاخب من المشاهد المخزية والمعازف ومعصية الله، إن هذا أحرى أن تفارقه الملائكة وأن تحل فيه الشياطين، فحين يبتلى شاب أن يكون في بيته شيء من هذه المعاصي، فهو حين يجعل لبيته نصيباً من صلاته وذكره وتلاوة كتاب الله يدفع شيئاً من هذه الشرور والآثام عن هذا المنزل وعن هذا البيت.(6/12)
اتخاذ العبادة شأناً وديدناً لأهل البيت
سادساً: حين يعبد المسلم ربه في بيته، وحين يكون لبيته نصيب من صلاته وعبادته لله عز وجل فإن هذا مدعاة لأن تكون العبادة شأناً له وديدناً له في كل أحواله، فهو يعبد الله في المسجد، وهو يعبد الله حين يلتقي برفقته وإخوانه الصالحين الأتقياء البررة، وحين يعود إلى البيت كذلك، فتصبح العبادة شأناً له وديدناً، فيلهج لسانه وجوارحه وأحواله كلها في العبادة لله سبحانه وتعالى، فتصبح عبادة الله عز وجل عادة له يشق عليه أن يتركها، وأمراً يألفه فيصعب عليه أن يفارقه، بعد أن كان يجاهد نفسه ويكابدها على هذه العبادة.
أرأيت مثلاً الذي لا يشهد صلاة الفجر مع الجماعة، كم يثقل عليه حينما يريد أن يستيقظ للصلاة؟ أما الذي اعتاد أن يستيقظ للصلاة فالأمر هين عليه سهل، بل يثقل عليه ويشق عليه ويصيبه السأم والأسى حين لا يستيقظ مرة من المرات، وهكذا شأن سائر العبادات، فحين يديم المرء عبادة ربه وذكره وتلاوته يصبح جزءاً من حياته لا يستطيع أن يفارقه، يصبح مدمناً على هذا الأمر ومداوماً عليه فيصعب عليه ويشق عليه تركه، فيصبح من المخبتين المتقين المقبلين على الله سبحانه وتعالى.
سابعاً: وهي قضية مهمة خاصة للشباب، هو أن كثيراً من الشباب يشتكي من البيت أو يشتكي من الفراغ والخلوة في البيت، وحين يبقى في منزله فهو يبقى كأنه في زنزانة على أحر من الجمر، ينتظر صاحبه الذي اعتاد أن يصحبه كل يوم أن يطرق عليه بابه أو جرس الهاتف مؤذناً له بأنه سيحل عليه، وحين يفارق أصحابه أو يفارقونه يشعر بوحشة وغربة، فيعيش في البيت كأنه يعيش في جحيم، ولهذا تراه يتمنى أن لا يعود مبكراً إلى المنزل، ويتمنى أن يفارق المنزل حين يحل فيه، وله شيء من العذر في ذلك، ذلك أنه يرى أنه حين يكون مع إخوانه ومع رفقته يكون أكثر إقبالاً على الله سبحانه وتعالى، وأكثر طاعة له عز وجل وأكثر بعداً عن معصيته، أما حين يخلو بنفسه ويغلق عليه بابه فإن ذلك مدعاة لأن يستولي عليه الشيطان، مدعاة لأن يوقعه في معصية الله عز وجل، والشيطان يهم بالواحد وهو من الاثنين أبعد، ويهم بالاثنين وهو من الثلاثة أبعد، ولهذا نجد البعض من الشباب قد ينحرف، وقد يضل حين ينقطع عن رفقته، ويبقى وقتاً في منزله، فلم يعتد أن يبقى وحيداً، ويتساءل: ما العلاج لهذه الظاهرة وهذه الحالة؟ لكنه لو اعتاد أن يعمر البيت بالعبادة، فيقرأ القرآن في بيته، ويذكر الله، ويصلي لله عز وجل في أي وقت تكون فيه الصلاة مشروعة ليست خاصة بالرواتب، ولا بقيام الليل بل في أي وقت ما دام ليس وقتاً للنهي فالمرء مشروع له أن يصلي لله سبحانه وتعالى ما كتب له، فهو حين يعتاد هذا الأمر ما أن يخلو في منزله حتى يفزع إلى صلاته، أو إلى تلاوة كتاب الله عز وجل، أو إلى ذكر الله سبحانه وتعالى، فلا يشعر بالغربة، ولا يشعر بالوحشة، ولا يشعر بأثر فقدانه لأصحابه وإخوانه، بل ربما صار يدعوه ذلك إلى أن يجتهد في أن يكون له نصيب من خلوته بالله سبحانه وتعالى، له نصيب يخلو فيه ويبتعد فيه عن الناس ليركع ركعتين لله في ظلمة الليل، أو يتلو كتاب الله عز وجل، أو يذكر الله بقلبه ولسانه خالياً عله أن تفيض عينه بدمعة خوفاً من الله سبحانه وتعالى، أو شوقاً إلى لقائه ورحمته فيكون ممن قال فيهم صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ومنهم: رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).
أقول: حينما نعتاد العبادة بأبواها وطرقها في منازلنا فإننا لن نشكو هذه الشكوى بل ربما نسعى إلى أن نوفر جزءاً من وقتنا لنخلو فيه في بيوتنا لنتعبد إلى الله سبحانه وتعالى، وحين يفضل وقت بعد ذلك فهو سيصرفه في قراءة كتب أهل العلم، أو سماع ما يتعلم به فيرى حينها أن وقته قد صار كله معموراً بطاعة الله سبحانه وتعالى وعبادته.(6/13)
تحقيق الإخلاص
ثامناً: عبادة المرء في بيته لها أثر عظيم في تحقيق الإخلاص في نفسه، وتجنب الرياء، وقد يجد المرء نشاطاً حينما يصلي مع الناس، وهو ليس باباً من أبواب الرياء بل هو من باب التعاون على البر والتقوى، ومن باب حال أولئك الذين إذا رءوا ذُكر الله عز وجل، فيشعر بنشاط وإقبال، لكن أيضاً العبادة في السر تلاوة وصلاة وذكراً لله عز وجل وتفكراً لها أثر آخر، وأمر آخر، وهما كالجناحين للطائر لا ينوب أحدهما عن الآخر، ولا يقوم أحدهما عن الآخر، إنك لا يمكن أن تستقيم حياتك ولا أن يصلح قلبك حين تعبد الله عز وجل في المسجد وحده، حين تعبد الله مع إخوانك ومع إخوتك فقط، أما حين تخلو بنفسك فليس لك نصيب من ذلك فستطير بجناح واحد ولا يمكن أن يطير الطائر بجناح واحد، ولهذا فلعبادة السر والتي غالباً ما تكون في البيت أثر عظيم أثر عظيم في إصلاح القلب وإصلاح النفس، وفي فتح جوانب من العبودية والتوجه لله سبحانه وتعالى لا يمكن أن تنفتح للعبد وهو مع الناس وفي مشاهد الناس، ولها أثر في تحصيل الإخلاص في قلبه وتنقيته من شوائب الرياء وإرادة ما سوى الله عز وجل.(6/14)
ما الذي يبكي عليك
تاسعاً: وأخيراً ما الذي يبكي عليك؟ يقول سبحانه وتعالى حين أهلك قوم فرعون ونسأل الله عز وجل للطغاة أمثالها: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:29].
نعم.
لم تعرف الأرض من قوم فرعون إلا الطغيان والتجبر، فقد كانوا يستذلون الناس، ويستحيون نساءهم، ويقتلون أولادهم، كانوا يبدّلون دين الله عز وجل، وكانوا حرباً على موسى ومن معه لا لشيء إلا لأنهم دعوا إلى الله سبحانه وتعالى وآمنوا بالله عز وجل، وأرادوا إخراج الناس من عبودية ورق وذل الفراعنة وطغيانهم إلى عبودية الله سبحانه وتعالى، لذلك انصرفوا غير مأسوف عليهم {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:29].
وروى ابن جرير في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: أن رجلاً قال له: يا أبا العباس! أرأيت قول الله تعالى {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:29] فهل تبكي السماء والأرض على أحد؟ فقال رضي الله عنه: (إنه ليس أحد من الخلائق إلا وله باب في السماء منه ينزل رزقه وفيه يصعد عمله، فإذا مات المؤمن فأغلق باب من السماء الذي كان يصعد فيه عمله وينزل منه رزقه ففقده بكى عليه، وإذا فقده مصلاه في الأرض التي كان يصلي فيها ويذكر الله عز وجل فيها بكت عليه)، فسيفقدك مبيتك وغرفتك التي كنت تأوي إليها سنين عدداً، ستفقدك عاجلاً أو آجلاً، فهل تراها ستبكي عليك أم أن لها شأناً آخر، فقد فقدت معصية الله عز وجل، فأنت أعلم بحالك! وحين تعمر مكانك وغرفتك وبيتك بصلاة وذكر وتلاوة لله عز وجل فهي ستبكي عليك يوم تفارقها قريباً أو بعيداً، ورويت آثار عن جمع من التابعين، بل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغير واحد: (إن الأرض تبكي على المؤمن أربعين صباحاً).
وقال مجاهد: (ما مات مؤمن إلا بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحاً، قال فقلت له: أتبكي الأرض؟ قال: أتعجب؟ وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود، وما للسماء لا تبكي على عبد كان تكبيره وتسبيحه فيها كدوي النحل) هذه معشر الشباب بعض آثار إحياء العبادة في بيوتنا بأنواعها وأبوابها وطرقها، وهي كلها تدعونا إلى أن يكون لبيوتنا نصيب من عبادة الله.
فلعلنا أن نعيد هذه الآثار عاجلاً.
أولها: أن لا تكون البيوت مقابر.
الثاني: نفور الشياطين.
الثالث: أن تحل فيه البركة.
الرابع: تربية أهل البيت.
الخامس: أن بيوت المسلمين مليئة بالمعاصي فلا أقل من أن يكون لها نصيب ولو يسيراً من طاعة الله.
سادساً: أن تكون العبادة شأناً وعادة للمرء لا يفارقها.
سابعاً: تبكي عليه الأرض.
ثامناً: إعانة على الإخلاص وإصلاح القلوب.
تاسعاً: انعدام الوحشة، أن الإنسان يعيش في البيت غربة ونفور من البيت لأنه مدعاة للمعصية كما قلنا، فحين تكون العبادة شأناً له في منزله فإنه يعافى بإذن الله من ذلك.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم ممن تبكي عليه السماء والأرض، وممن يعمر قلبه وبيته بعبادته وطاعته، ونترك بقية الوقت للإجابة على الأسئلة.(6/15)
الأسئلة(6/16)
صلاة التراويح في المسجد أفضل منها في البيت
السؤال
هل صلاة التراويح للإنسان في بيته أفضل من المسجد خاصة إذا كانت صلاته في بيته أكثر خشوعاً وخلوة بالله، ويكون فيها مراجعة للقرآن، وأبعد عن الناس، وأخلص إلى العمل، فهل باعتبار هذه الأمور تكون صلاة التراويح في البيت أفضل أم في المسجد؟
الجواب
لا شك أنها في المسجد أفضل وأولى، لأن ما تسن فيه الجماعة فهو أفضل أن يكون في المسجد، لكن لو كان الناس يصلون فرادى في المسجد كان أفضل لهم أن يصلوها في بيوتهم.(6/17)
كيفية قراءة القرآن وفضلها
السؤال
هل قراءة القرآن الكريم تكون بالشفتين أو في النفس، وما هو الأفضل؟ وما هو الأفضل قراءة القرآن أو الاستماع؟
الجواب
أولاً: يجب على المسلم أن ينوع بين جميع العبادات، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يستمع القرآن فكان يقول: (إني أحب أن أسمعه من غيري) فيكون له نصيب من الاستماع، وله نصيب أيضاً من التلاوة.
ثانياً: الجهر إن كان الإنسان نشيطاً فهو أولى وأفضل لقوله صلى الله عليه وسلم: (ما أذن الله بشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يجهر بالقرآن).(6/18)
صلاة المرأة في البيت ينافي كونه قبراً
السؤال
أليس صلاة المرأة في بيتها مما ينافي كون البيت قبراً؟
الجواب
قبراً لها لكن قد يكون قبراً لك أنت والنبي صلى الله عليه وسلم قال لهم ذلك وهو يعرف أن في بيوتهم نساء.(6/19)
المسجد بين المؤمن وكذلك بيته
السؤال
كيف نوفق بين قوله صلى الله عليه وسلم: (المسجد بيت كل مؤمن) وبين حديث: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً)؟
الجواب
لا يوجد تعارض، فللمسلم بيت هو الذي يأوي إليه وينام فيه ويصلي فيه حتى لا يكون قبراً، والمسجد بيت للمؤمنين يأوون إليه، فكما كان في وقت النبي صلى الله عليه وسلم، من لم يجد مكاناً من فقراء المسلمين كان يأوي إلى الصفة التي كانت في المسجد كما تعلمون.(6/20)
مراجعة القرآن بعد حفظه
السؤال
إني أوشكت على حفظ كتاب الله وليس لدي أي وسيلة لمراجعته، علماً بأني بدأت أنسى ما قد حفظته في السنين الماضية، فوجّه لي نصيحة حفظك الله؟
الجواب
خذوا قاعدة: إذا أنهيت حفظ القرآن وأنت جاد تحتاج بعد حفظ القرآن إلى سنتين على الأقل حتى تتقن ما حفظته، فهذا وضع طبيعي وليست حالة شاذة، فمن الطبيعي أن الإنسان يتفلت من القرآن، وهو كما قال صلى الله عليه وسلم: (أشد تفلتاً من الإبل في عقلها).
وهناك طريقة لمراجعته، وهي تكرار المراجعة وتلاوة القرآن، فلا تيأس، افترض أنك حفظت القرآن وانتهيت منه ونسيت تماماً، فلن تبدأ من الصفر الآن مهما كان، وصحيح أنك تشعر أنك لا تستطيع أن تقرأ مثلاً آية واحدة أو آيتين كاملتين، لكن حينما تريد حفظه سيكون أهون عليك وأيسر عليك، ومرة ثانية ومرة ثالثة سيصبح سهلاً عليك، وقراءته حفظاً وتكرار تلاوته حفظاً مما يعين الإنسان على أن يتقن كتاب الله سبحانه وتعالى.(6/21)
التعود على الراتبة أول ما يدخل البيت
السؤال
كثيراً ما يحرص المرء على أن يؤدي بعض النوافل كالراتبة مثلاً في البيت حتى يظفر بالأجر مترتباً على ذلك، وحتى لا يراه الناس، وما إن يخرج من المسجد حتى يغفل أو ينسى ذلك، وربما يكرر ذلك فيقع في تفويت كثير من النوافل، فما توجيهكم في ذلك والله يحفظكم؟
الجواب
يعوّد نفسه أن يصلي الراتبة أول ما يأتي للمنزل مباشرة، ولا يبدأ بشيء قبل الصلاة، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم أول ما يبدأ ببيته إذا دخل بالسواك؛ لأنه كان يصلي إذا دخل منزله، فإذا دخلت بيتك فابدأ بالراتبة مباشرة حتى تتعود، يعني: قد ينسى الراتبة مرة مرتين لكن يعتاد بعد ذلك، ويصبح شأناً له وديدناً له أنه حينما يدخل منزله يصلي الراتبة.(6/22)
من صلى العشاء في مسجد والتراويح في مسجد آخر
السؤال
هل إذا صلى الإنسان صلاة العشاء في المسجد وصلى التراويح في مسجد آخر يكتب له قيام ليلة؟
الجواب
ما المانع فحديث: (كتب له قيام ليلة) قاله النبي صلى الله عليه وسلم فيمن صلى مع الإمام وذلك أن رجلاً لما صلوا قال: لو نفّلتنا بقية ليلتنا، فقال: (من صلى مع الإمام كتب له قيام ليلة) يعني يكفيك ما تصليه مع الإمام.
ونحن أحياناً نتكلف في معنى اللفظ ونلزم عليه لوازم غير مرادة.
فالمقصود أن الإنسان يصلي صلاة التراويح كاملة مع الإمام ولا يترك منها شيئاً، صلى العشاء مثلاً في مسجد وصلى التراويح في مسجد آخر لأمر أو لآخر فلا إشكال في ذلك، وفضل الله عز وجل واسع، والنوافل أمرها واسع، لكن الأصل أن الإنسان يعتاد أنه يصلي التراويح حيث يصلي العشاء، حتى لا يفوته شيء من الصلاة، وحتى لا يشعر الناس أنه ينصرف ولا يصلي التراويح؛ لأن الناس قد يرون أنه لا يصلي التراويح، أو أنه لا يريد أن يصلي مع الإمام وهذا مما يؤثر على الناس أو على الإمام في جماعة المسجد، فالأولى للإنسان أن يصلي التراويح حيث يصلي العشاء.(6/23)
مكان صلاة الإشراق
السؤال
هل يصح أن نصلي سنة الإشراق في البيت وأنا قرأت في المسجد؟
الجواب
إذا جلست في مصلاك بعد الفجر فالسنة أن تصلي في المسجد كما ورد في الحديث، فهذا مما يسن في المسجد، وفيها خلاف بين العلماء: هل هذه هي صلاة الضحى أم غيرها؟ لكنك إذا جلست بعد الفجر في المسجد إلى أن ترتفع الشمس فالأولى أن تصلي في المسجد؛ لأن هذه الصلاة سنتها في المسجد، أما غيرها من الرواتب والنوافل فالأولى والأفضل أن تكون في البيت.
نكتفي بهذا القدر، وأسأل الله عز وجل أن يكفينا وإياكم الشرور والآثام، وأن يجعلنا وإياكم ممن يصوم هذا الشهر ويقومه إيماناً واحتساباً.
هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.(6/24)
القابضون على الجمر
في آخر الزمان تكثر الفتن وتزدحم المغريات ووسائل الشر، فيكون القابض على دينه كالقابض على الجمر، وقد تحقق ذلك في زماننا، حتى وقع الناس في كثير من المخالفات الشرعية وارتكبوا الفواحش، إلا أن الله هيأ جيل الصحوة الذي هب كالمارد يحيي السنن ويجتنب الفتن، وهو مع ذلك لا يسلم من التقصير والخطأ، ولذا تناولته الألسنة والأقلام بالنقد والتقويم حتى كادت فضائله تستهلك بهذه الانتقادات، فكان من الجدير التذكير بفضائله ودوره في إصلاح الحياة.(7/1)
أهمية الحديث عن شباب الصحوة
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: فنحيي الإخوة الكرام في هذا اللقاء في هذا المكان المبارك، وأي مكان أطهر وأقدس من هذه البقعة التي اختارها الله تبارك وتعالى -وهو يخلق ما يشاء ويختار- واصطفاها تبارك وتعالى فخصها ببيته الذي يؤمه الناس من كل فجٍ عميق، في هذه الليلة ليلة الثلاثاء السادس والعشرين من شهر ربيع الأول عام ستة عشر وأربع مائة وألف للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وأشكر الإخوة في المركز الصيفي في مركز الخدمة الاجتماعية بمكة على إتاحة هذه الفرصة وهذا اللقاء الطيب المبارك، الذي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم فيه من المخلصين في العمل ابتغاء وجهه إنه سميع مجيب، وأن يجنبنا وإياكم الزلل في القول والعمل إنه تبارك وتعالى قريب مجيب.
عنوان حديثنا هذه الليلة: (القابضون على الجمر)، وهو كما تعلمون حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم: (أنه يأتي على الناس زمان القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر)، وهو ليس حديثاً عن القابضين على الجمر بأصنافهم وأحوالهم وأمورهم، إنما هو حديث عن طائفة نحسبهم والله حسيبهم ممن يصدق عليهم هذا الوصف النبوي.
لقد مرت الأمة بجهود للتغريب، وجهود لسلخها عن دينها، وإخراجها من عقيدتها، ولقد تضافرت جهود أعداء الأمة لصد الشباب وفتنتهم عن دين الله تبارك وتعالى، ورأينا في عالمنا الإسلامي صوراً تدمي وتحزن وتحرك أشجان من كان له قلب، ومن يملك غيرةً وعاطفةً على هذه الأمة المباركة، من بعد الشباب المسلمين عن دين الله تبارك وتعالى، ومن سير هؤلاء وراء قذارة هذه الحضارة المعاصرة، وسيرهم وراء أعداء الله، وفي وسط هذا الواقع المظلم البائس، وفي وسط هذا الانحراف والبعد.
رأينا نماذج فذة، ورأينا صوراً إيجابية، رأينا صوراً لامعة من ذلكم الشباب المتدين، الشباب الصالح المحافظ الذي أصبحنا نراه يتوافد على المساجد، يتوافد على ما يدله على دين الله تبارك وتعالى، من مجالس العلم ومجالس الخير والصحبة الصالحة، ورأيناه يأخذ طريقاً غير طريق أقرانه وأترابه، وهاهم هؤلاء الشباب أمام مرأى المسلمين وجمعهم، هاهم يلتزمون بأمر الله تبارك وتعالى، ويستقيمون على طاعة الله عز وجل في هذا العصر المائج المضطرب.(7/2)
دوافع الحديث عن القابضين على الجمر(7/3)
تثبيت السائرين على طريق الهدى
فحديثنا هذه الليلة عن بعض الجوانب المشرقة من واقع هؤلاء القابضين على الجمر؛ ولعل سائلاً يتساءل: ولماذا الحديث عن الجوانب المشرقة؟ ولماذا الحديث عن الإيجابيات؟ فأقول: الحديث عن هذا الموضوع له دوافع عدة أولها: أنه تثبيت لهؤلاء السائرين على هذا الطريق، والذين قد يواجهون ما يواجهون، فهم حين يشار لهم بما ميزهم الله وخصهم به، وحين ترفع أمامهم هذه اللافتات فإن هذا يزيدهم ثباتا، ويزيدهم إصراراً في المضي على الطريق، ويزيدهم عزيمة لأن يحتملوا ما يصيبهم في هذا الطريق من اللأواء والنصب والنكد.(7/4)
دعوة التائهين لسلوك الطريق القويم
ثانياً: هذا الحديث دعوة لأولئك الذين لما يزالوا على بنيات الطريق، دعوة لأولئك الذين لم يسلكوا هذا الطريق، أولئك الذين لا زالوا يسيرون في ركاب الغفلة والبعد عن الله تبارك وتعالى، فنقول لهم: هاهو الطريق، وهاهم هؤلاء قد سبقوكم فبادروا، فالميدان رحب واسع فسيح لا زال يتسع لكم ولأمثالكم، وأنتم طالما سمعتم الدعوة من خلال الترهيب من هذا المسلك السيئ الذي تسلكونه، ومن خلال التحذير من مغبة هذا الطريق المعوج الذي تسيرون عليه، لكن ربما كان ذكر بعض الجوانب المشرقة من الطريق الآخر الذي ندعوكم إليه، الطريق الذي سلكه أقرانكم، الذي سلكه أترابكم، ووفقهم الله تبارك وتعالى، بل أكرمهم عز وجل بسلوكه؛ إنكم حين تعرفون مزايا هذا الطريق، وحين تعرفون الجوانب المشرقة، وحين تعرفون تلك المنزلة التي يصلها أولئك الذين جانبوا الشهوات واللذات، الذين هجروا اللهو واللعب، وساروا في طريق الصالحين، ربما كان هذا دافعاً لكم أن تسيروا وأن تلحقوا بالقافلة.
كما أن الخطر يتهددكم حين تمضون على هذا الطريق المظلم، حين تمضون على طريق الضلال، كما أن الخطر يتهددكم حين تسيرون على هذا الطريق، فإن الطريق الآخر أمامكم، مفروش بالأضواء، الطريق أمامكم يدعوكم ويقول: هلموا فإن الطريق لا يزال يتسع لكم ولغيركم.(7/5)
كثرة النقد الموجه لجيل الصحوة وأخطائهم
ثالثاً: لا نزال نسمع الحديث الكثير عن النقد لبعض المظاهر السلبية في واقع الشباب المتدينين، والحديث عن بعض الأخطاء التي يقعون فيها، وهو حديث لا شك أن الكثير منه يصدر بلغة النصح، ومنطق الإشفاق على هؤلاء، والهدف والرائد له الإصلاح والتغيير، وأشعر أنني ممن يشارك أيضاً في الحديث في هذا الأمر، فقد تحدثت كثيرا عن بعض الجوانب، وعن بعض الأخطاء والسلبيات التي ربما وقع فيها هؤلاء الشباب الأخيار.
لا شك أن الكثير من هذا الحديث يصدر بمنطق النصح وتدفعه الغيرة والإشفاق على واقع هؤلاء الشباب؛ لكننا نخشى أنه حينما يكثر الحديث عن هذه الجوانب السلبية، وحينما يكثر الحديث عن الأخطاء، وهو وإن كان بمنطق النصح والإشفاق نخشى أن يحول الصورة لدينا إلى صورة سلبية، وإلى صورة بائسة، وأن نتصور أن الالتزام والاستقامة التي عليها هؤلاء الشباب لا تعدو أن تكون سراباً ووهما، وأنها قضية خادعة، وأن هؤلاء الشباب يقعون في أخطاء في عبادتهم لله تبارك وتعالى ويقصرون، ويقعون في المعاصي، ويرتكبون طائفة منها، ويقعون في أخطاء في دعوتهم إلى الله تبارك وتعالى، ويقصرون وحقوق إخوانهم في حقوق أهلهم في هذا الجانب وذاك، حتى لا تكاد ترى جانباً من الجوانب إلا وترى الحديث عن الأخطاء حوله! ولا شك أن الحديث عن الأخطاء حين يكون رائده النصيحة، ودافعه الغيرة، والهدف من ورائه الإصلاح، لا شك أنه أمر مطلوب، ولا يسوغ أن نلغي الحديث عن هذا الجانب، لكننا نخشى حين تطول هذه اللغة وحين يرتفع هذا الصوت أن تتحول القضية إلى قضية سلبية، وأن نشكك في أصل استقامة هؤلاء الشباب، وفي حقيقة تدينهم والتزامهم؛ لذا كان لا بد من الحديث عن الجانب الآخر، حتى لا نغلو في هذا الجانب وهذا الميدان.(7/6)
الدعوة لمناصرة شباب الصحوة ومعرفة مكانتهم
والدافع الرابع للحديث حول هذا الموضوع هو: الدعوة لسائر المسلمين أن يدركوا موقع هؤلاء، الشباب الذين أكرمهم الله تبارك وتعالى بهذه الهداية والسير على هذا الطريق، وأن يدركوا عظم منزلتهم ومكانتهم، وأن يدركوا قيمة هذا الإنجاز الذي حققوه، فيتعاطف معهم في وقت هم أحوج ما يكونون فيه إلى التعاطف مع قضيتهم.
إن هؤلاء الشباب الأخيار مع ما من الله عز وجل عليهم من الهداية والاستقامة على طاعة الله يواجهون أخطاراً تهددهم، إنهم يواجهون الخطر الأكبر الذي يؤرق ليلهم وهو أن يُختلجوا من هذا الطريق، وأن يسلكوا بنيات الطريق فينحرفوا، وهاهم يرون أنهم يعيشون في واقع يعج بالفتن والمغريات، واقع يدعوهم صباح مساء إلى أن يعرضوا عما هم عليه، واقع يدعوهم إلى أن يسيروا مع طريق الضلالة والغواية، ولا عجب فها نحن نرى فئاماً من الشباب ممن كتب له الاستقامة والصلاح في أول عمره ربما تنكب الطريق وزاغ وضل.
إنها قضية تؤرقهم، قضية تستدعي أن يتعاطف الجميع معهم، في هذه القضية التي يرونها قضية القضايا عندهم أن يتعاطف الآباء أن يتعاطف المصلحون أن يتعاطف الغيورون في مجتمعات المسلمين، وأن يدركوا أن هذا الجيل المبارك يستحق أن نحميه، ويستحق أن نثبته، ويستحق أن نعينه.
ولا شك أن من أعظم ما نعينه عليه ويكون بإذن الله طريقاً إلى تثبيته أن نسعى إلى إغلاق أبواب الفساد، وأن نسعى إلى سد طرق الفتنة.
إنه يواجه كيداً وتآمراً من أعداء الإسلام، والذين شعروا أن قضية الإسلام هي القضية التي تهددهم، وأن هذه الصحوة المباركة هي التي سوف تقضي على مكتسباتهم، سنة الله في التاريخ الصراع بين الحق والباطل، والصراع بين أهل الغواية والهداية، وما لبث أولئك وقد شعروا أن هؤلاء قد قطفوا الثمار دونهم، قد شعروا أن هؤلاء عادوا ليهدموا ما بناه أولئك من إفساد في صرح هذه الأمة، وهم يسرهم أن تعلن الأمة ردتها عن دين الله، وأن تتخلى عن دين الله.
لاشك أن هؤلاء الأعداء يغيظهم أن يروا هذا الواقع وأن يروا هؤلاء الشباب، ومن ثم فإنهم لا بد أن يتآمروا على فتنتهم وصدهم عن دين الله بكل الوسائل.
إن هؤلاء الشباب يعيشون -أيها الإخوة- في هذا العصر مأزقاً بحاجة إلى أن يتعاطف معهم الجميع، إن فتن الشبهات والشهوات قد بدأت تحاصر المسلمين الآن، ولا شك أن للشباب من ذلك نصيباً وافراً، بل لهم نصيب الأسد من ذلك.
ومن ثم فنحن نتحدث عن قضية هؤلاء، ونتحدث عن ما أنجزه وحققه هذا النشء المبارك، وهذا الجيل الطيب الذي نسأل الله عز وجل أن يثبته، وأن يعصمه من مضلات الفتن، وأن يكتب له الامتداد وأن يكتب له تبارك وتعالى الخير والتمكين.
لا شك أن هذا الجيل يواجه سيلاً جارفاً وبحاجة إلى يتعاطف المسلمون جميعاً مع قضيتهم، وحين يدركوا انجازهم فإن هذا يدعوهم إلى يتعاطفوا مع قضيتهم، لهذا وغيره رأيت أن أتحدث عن بعض هذه الجوانب والتي ربما أهملت، وهي لا تعدو أن تكون استثارة لصور نراها من واقع هذا النشء؛ لكنها دعوة للتذكير بهذه الصور التي قد ننساها.
وأنت قد تتهمني بأنها أخذتني العاطفة وأني أنطلق من منطلق عاطفة، وأنا لا أبرئ نفسي ومعاذ الله أن أسعى إلى أن أتخلى عن هذه العاطفة؛ كيف لا وأنا أدين الله تبارك وتعالى وأعبده بحب هذا الجيل المبارك وهذا النشء المبارك، لقد أخبر صلى الله عليه وسلم فيما رواه طائفة من أصحابه، في الصحيحين وغيرها (أن المرء يوم القيامة يحشر مع من أحب).
فإنني أملك عاطفة تجاه هذا الجيل لأنه أطاع الله تبارك وتعالى، بل أنني أتعبد الله عز وجل بحب هذا الجيل وبالولاء له والتعاطف معه، وأشعر أن قضية الإيمان وأن قضية حب الله تبارك وتعالى تستلزم منا أن نحب من يحب الله ويحبه الله تبارك وتعالى.
أليس النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله).
أليس صلى الله عليه وسلم أخبر: (أن ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه).
إنني حين أسعى إلي دفع تهمة العاطفة حول حديثي هذا فإنني أسعى إلى أن أتخلى عن واجب شرعي وحق شرعي في أن أحب من يطيع الله تبارك وتعالى ويحبه الله، بل إننا جميعاً نتعبد الله بحب الصالحين، ونشعر أن مما يكرم الله عز وجل به من أحب الصالحين أن يبلغه منازلهم ولو لم يلحق بهم.
لقد سئل صلى الله عليه وسلم عن المرء يحب القوم ولما يلحق بهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب).
ولهذا قال الشافعي رحمه الله: أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعه وأكره من تجارته المعاصي وإن كنا سواء في البضاعه فإن كان الشافعي رحمه الله يقول هذه المقولة تواضعاً منه وإلا فهو -نحسبه والله حسيبه ولا نزكي على الله أحداً- من الصالحين المصلحين، فنحن نقول هذا حقاً وصدقاً، فنحن نتعبد الله عز وجل بمحبة الصال(7/7)
مميزات شباب الصحوة وإنجازاتهم(7/8)
تحقيق الأوصاف الشرعية
أول هذه الجوانب وهذه الإيجابيات: أن هذا الجيل وهذا النشء المبارك من أسعد الناس بتحقق هذه الأوصاف الشرعية، قوله صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان القابض فيهم على دينه كالقابض على الجمر) والحديث رواه الإمام الترمذي وأحمد وأبو داود.
لا شك أن هؤلاء وقد استقاموا على طاعة الله تبارك وتعالى وقد ابتعدوا عن الشهوات في عصرٍ يعج بالفتن والشهوات، في عصر يدعوهم إلى ركوب الغواية، لا شك أنهم كالقابضين على الجمر، وهم من أسعد الناس بقوله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء).
وفسر النبي صلى الله عليه وسلم الغرباء بأنهم الذين يصلحون إذا فسد الناس، وأنهم أناس صالحون في أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم، فهنيئاً لكم يا شباب الإسلام وقد أخذتم على عاتقكم الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، فأنتم بين إحدى الحسنيين: إن استجاب لكم الناس وأطاعوكم فأنتم من أسعد الناس بقوله صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً).
وإن عصاكم الناس وأعرضوا عن دعوتكم فأنتم سعداء بقوله صلى الله عليه وسلم: (أناس صالحون في أناس سوء كثير من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم).
وهذا النشء المبارك من أسعد الناس بقوله صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله، الإمام العادل، وشاب نشأ في طاعة الله) إلى آخر الحديث.
إننا حين نقول هذا فإننا لا نشهد لشخص بعينه أن هذه الصفة أو تلك تحققت فيه، لكننا نرى أن هذا الجيل المبارك بالجملة من أسعد الناس بهذه الصفات، ومن أقرب الناس إلى تحققها.(7/9)
الاستقامة في وسط يحتقر الدين والتدين
ثانياً: من إيجابيات ومنجزات هذا الجيل المبارك استقامتهم على الدين في وسط يحتقر الدين والتدين.
إن العالم الإسلامي اليوم قد فتن بصورة من صور الردة عافانا الله وإياكم، صورة احتقار الدين واحتقار المتدينين، حتى أصبح البعض من المسلمين يستحيي حين يصلي مع أقرانه، يستحيي حين يعمل طاعة من الطاعات، يستحيي حين يمتنع عن معصية من المعاصي.
ولئن تفاوتت الدرجات أو الدركات حول هذه الخطيئة التي عمت بلاد المسلمين فإن مجتمعات المسلمين تشترك في أن لها نصيباً وافراً من احتقار الدين وأهل الديانة والتدين، ووصفهم بأقبح الأوصاف وأحطها، واتهامهم بهذه التهم، ومع ذلك يسير هؤلاء الشباب ويستقيمون على طاعة الله تبارك وتعالى، ويحتملون ما يواجهونه من احتقار الناس، ولعلهم من أسعد الناس بقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:109 - 111].
وقوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين:29 - 35].
وقد دأب أهل العلم على أن يحتجوا -كما قال ابن عبد البر - بما نزل من الآيات في الكفار على من تشبه بأعمالهم ولو كان من المسلمين.
أيها الشباب المبارك! لا يهولنكم سخرية الناس بكم ما دمتم تعتزون بدين الله تبارك وتعالى، لقد أخبر الله عز وجل عن طائفة من المنافقين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات، فقال الله تبارك وتعالى عنهم: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79].
وأخبر تبارك وتعالى عن حال أولئك الذين يقولون لشياطينهم: {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] فقال تبارك وتعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:15].
أي منزلةٍ أعلى وأكمل من أن يسخر الله تبارك وتعالى بأولئك الذين يسخرون بعباده الصالحين، أن يستهزئ بأولئك الذين يستهزئون بهم، وأي خسارة وبوار لمن يتعرضون لسخرية الجبار وأن يستهزئ بهم تبارك وتعالى.
إن استقامة هؤلاء الشباب وثباتهم في هذا الوسط الذي يحتقر الدين والمتدينين ويعتبر من صفات القصور والنقص في المرء أن يكون متديناً، إن هذا من أعظم الإيجابيات، ومن أعظم جوانب الإنجاز التي حققها هؤلاء.(7/10)
الانتصار على الشهوات
ثالثاً: من منجزات هؤلاء انتصارهم على شهواتهم في وسط مجتمع يعج بالفتن والشهوات.
إنها قضية ليست بحاجة إلى بيان، وأنتم جميعاً لستم بحاجة إلى أن أثير أشجانكم، إلى أن أذكركم بما تعج به مجتمعات المسلمين من مظاهر الإغراء والرذيلة، من تلك المظاهر التي تدعو الشباب، وتدعو الفتيات إلى مواقعة الرذيلة والفساد، حتى صارت الرذيلة تلاحق الشاب، وتلاحق الفتاة في الشارع، وفي السوق، بل في منزله وهنا وهناك، وصارت الصورة الفاتنة ومشهد الرذيلة يلاحقه في كل مكان، ومع ذلك يثبت هؤلاء الشباب، وينتصرون على شهواتهم، ويسيرون في طريق العفة، وتنتصر الفتيات على هذه الدواعي والدوافع بإذن الله تبارك وتعالى وتوفيقه.
إن هذا وحده كافٍ في أن نتجاوز كل ما يقع فيه هؤلاء من تقصير، في مقابل ما استطاع هؤلاء أن يحققوه في وسط فتن تؤزهم إلى الفساد أزّاً، وتدعوهم إلى الفساد بكل صوره وألوانه.(7/11)
إحياء سنة حفظ كتاب الله تعالى
رابعاً: أن هذا النشء المبارك قد أحيا سنة حفظ كتاب الله تبارك وتعالى.
قضية لا ينكرها أحد، لقد كان قبل سنوات يندر أن نرى في مجتمعنا إماماً يصلي بالناس وهو حافظ لكتاب الله تبارك وتعالى، فضلاً عن أن نجد شاباً حافظاً لكتاب الله، حتى صار يقال: إن في بني فلان شاباً أو رجلاً يحفظ كتاب الله تبارك وتعالى، بل إنه كان من النادر أن تجد من يتقن تلاوة كتاب الله عز وجل، ولو كان المصحف بين يديه.
أما الآن فها نحن نرى هذا الجيل المبارك يقبل على كتاب الله تبارك وتعالى، وها نحن نرى هؤلاء الشباب قد أقبلوا على حفظ كتاب الله تبارك وتعالى، ونرى العديد من هؤلاء مع الانشغال بالدعوة إلى الله تبارك وتعالى، والانشغال بدراسته وبمصالح نفسه ومصالح أهله، مع ذلك نجد المئات من الشباب والفتيات قد أتموا حفظ كتاب الله تبارك وتعالى، بل أصبحت لا تكاد ترى شاباً من هؤلاء الشباب المتدينين إلا وقد بدأ في حفظ كتاب الله عز وجل وشرع فيه، حتى أولئك الذين قعد بهم ضعف همتهم، وقعد بهم كسلهم وفتورهم لا نزال نراهم يتطلعون بلهف وشوق إلى أن يحفظوا كتاب الله عز وجل، وها نحن نراهم يتساءلون في كل مناسبة: كيف أحفظ كتاب الله؟ ما الطريق إلى حفظ كتاب الله عز وجل؟ وهي صورة أوضح وأظهر من أن نشيد بها وأن نتحدث عنها.(7/12)
العناية بالعلم الشرعي
خامساً: العلم الشرعي والعناية به وإحياؤه.
لقد مرت على مراكز العلم وحلقه ودروسه حالة من الجفاف، حالة من الفقر، كادت الأمة فيها أن تنسى العلم الشرعي، فما لبث هؤلاء الشباب، وما لبث هذا الجيل المبارك أن يقبل ويتوافد على حلق العلم وأن يحييها، وإذا أردت مصداق ذلك فاذهب يمنة ويسرة، وتأمل في حلق العلم من هم روادها؟ من هم الذين يثنون ركبهم في حلق العلم؟ في وقت يتوافد فيه أترابهم وأقرانهم على أماكن اللهو والمتعة واللعب، في وقت يدعوهم الناس فيه إلى الشهوات، إلى أن يسعدوا باللهو واللعب، ومع ذلك يضحي هؤلاء ويتركون لذة الفراش والنوم، يتركون لذة اللهو واللعب ليثنوا ركبهم أمام المشايخ وأمام حلق العلم يتعلمون العلم بل يقطعون المسافات لذلك.
وها نحن نرى بحمد الله الدراسات الشرعية، والكليات الشرعية تشهد إقبالاً واسعاً منقطع النظير من هذا الجيل، بعد أن مرت بالأمة مرحلة يستحي الطالب فيها أن يقول: إنه يدرس في كلية شرعية بعد أن مرت مرحلة كان يرى المسلمون وللأسف أنه من العيب ومن النقص في الشاب أن يدع سائر التخصصات ويقبل على العلم الشرعي.
إن رواج حلق العلم وقيام سوق التخصصات الشرعية في الجامعات في مشرق العالم الإسلامي ومغربه، ورواج الكتاب الإسلامي وانتشاره، بل كون الكتاب الإسلامي هو أكثر الكتب رواجاً وانتشاراً في العالم العربي كله، إن هذا دليل على إقبال الناشئة على هذا العلم الشرعي، وعلى أن هؤلاء وبحمد الله قد أحيوا هذه السنة وقد أقبلوا يتوافدون على هذا العلم، وهو لا شك أمارة وعلامة على أن الأمة سائرة نحو المنهج الحق، وعلى أن هذه الدعوة المباركة سائرة على المنهج الصحيح وفي الطريق إليه؛ لأن الناس حين يقبلون على علم الكتاب والسنة، فإن هذا بإذن الله عنوان عصمتهم من الأهواء والفتن والصوارف والضلال.(7/13)
الدعوة إلى الله وحمل همّ الإصلاح
سادساً: الدعوة إلى الله تبارك وتعالى وحمل هم الإصلاح.
من هم الذين يقومون بأمور الدعوة اليوم ويحملون همها، ويتحملون اللأواء في سبيلها، أليسوا هم هؤلاء الشباب، إننا وبحمد الله نرى هذا الجيل وهذا النشء المبارك قد أخذ هذه الدعوة على عاتقه، ها نحن نراه يصعد المنبر يخطب الناس، أو يقف أمامهم واعظاً، أو داعياً بأي وسيلة من الوسائل، ها نحن نراه يحيي الدعوة في مدرسته، في جامعته، في حيه، بل ها نحن نرى هؤلاء هم أبرز الناس، وهم أكثر الناس حملاً للدعوة.
وقد أصبح هم الإصلاح وهم التغيير في مجتمعات المسلمين يسيطر عليهم، بل يشغلهم عن سائر الأمور التي يهتم بها أقرانهم، ولا عجب ولا غرابة، فقد كان فرط هذه الأمة ورعيلها الأول أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كثير من الشباب، إن خمسة من العشرة المبشرين بالجنة كانوا من الشباب، كانوا من أمثال هذا الجيل، إن طائفة من السابقين الأولين إلى الإسلام، أمثال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وسعد بن أبي وقاص وخباب بن الأرت وغيرهم وغيرهم، كان هؤلاء لم يصلوا إلى العشرين من أعمارهم، ومع ذلك كانت لهم أدوار مثلى وكان لهم القدح المعلى في الدعوة لهذا الدين والجهاد في سبيله والقيام بنصرته، ولهذا لا غرو أن نجد هذا الجيل وهذا النشء المبارك يحيي سنة أسلافه: (ومن تشبه بقوم فهو منهم) ومن سار على طريق أولئك فهذا بإذن الله حري وجدير به أن يحشره الله تبارك وتعالى معهم: (فالمرء يحشر يوم القيامة مع من أحب).(7/14)
إصلاح من في البيوت
سابعاً: مساهمة الكثير من هؤلاء الشباب والفتيات في إصلاح بيوتهم، كم هي البيوت التي صلحت بإذن الله تبارك وتعالى بسبب دعوة شاب ربما لم يبلغ الحلم، بل ربما لم يجاوز العشرين من عمره، كم هي البيوت التي صلحت بسبب شاب أو فتاة من الفتيات؟ كم هم الآباء والأمهات الذين أصلحهم الله تبارك وتعالى وتغيرت هذه البيوت فزالت منها المنكرات، واستقامت على طاعة الله تبارك وتعالى بسبب جهد شاب صالح أو فتاة صالحة من هذا النشء وهذا الجيل المبارك!(7/15)
نفع الناس في أمور الدنيا
ثامناً: النفع للناس بأمور دنياهم.
إن هذا الجيل المبارك من الشباب والفتيات الصالحين، قد أخذ على عاتقه حمل قضية الدعوة والإصلاح، وقد شعر أن قضية الناس الكبرى والأساس هي القضية التي خلقوا من أجلها، لعبادة الله تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
وشعر أن أعظم خير ونفع يقدمه للناس هو إن يدعوهم إلى عبادة الله تبارك وتعالى، وأن يدعوهم إلى طاعة الله تبارك وتعالى، ولهذا أخذ على عاتقه هذا الهم، ومع ذلك لم يكن ذلك شاغلاً له عن أن يقوم بالواجب الآخر، أن ينفع الناس بأمور دنياهم، وهو أمر ظاهر بحمد الله، فمن هم الذين يتصدرون في الإحسان إلى المحتاجين والإحسان إلى الفقراء؟ من هم الذين يقومون ويسهرون على المضرات؟ يسهرون في نفع المسلمين في أمور دنياهم، في مسح دمعة يتيم، أو إطعام جائع ذي مسغبة، أو التخفيف عن مصاب في مصيبة، وقد أدرك أعداء الإسلام هذا الجانب، وشعروا أن هذه القضية قد تكسب هؤلاء بعداً عند الناس، ولهذا سعوا في حجب هذه الأدوار عن هؤلاء، لكن حالهم حال أولئك الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، والله متم نوره، وهانحن نرى هؤلاء والحمد لله هؤلاء الصالحين في كل مكان في مشرق العالم الإسلامي وغربه، حين تلم بالمسلمين كارثة، أو تصيبهم مصيبة، نراهم يبادرون لنجدة إخوانهم ونصرتهم ولمسح الدمعة عنهم، ولا غرو فقد ورثوا هذا الهدي من نبيهم صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم: (يحمل الكل ويعين على نوائب الحق) وكان صلى الله عليه وسلم هو القدوة في الإحسان إلى الناس، في أمور دينهم وأمور دنياهم.(7/16)
التفوق في مجالات الحياة المختلفة
تاسعاً: مما يميز هذا الجيل المبارك من الشباب الصالحين والفتيات الصالحات التفوق في سائر مجالات الحياة المختلفة.
مع ما شغل به هؤلاء من الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، ومن حفظ كتاب الله تعالى وتعلم العلم الشرعي، ومن نصرة قضايا المسلمين والاشتغال بها؛ مع ذلك كله هاهم يثبتون للناس أنهم هم المتفوقون في مجالات الحياة، ولا شك أن الاطلاع على نتائج الامتحانات في جامعة من الجامعات في بلاد المسلمين أو مدرسة من المدارس للشباب أو الفتيات تعطينا دليلاً على أن هؤلاء المتدينين الصالحين هم الذين يتصدرون القائمة، وأن أغلب هؤلاء الذين يحققون التفوق هم والحمد لله من هؤلاء.
لقد سعى أعداء هذه الدعوة إلى أن يصوروا للأمة أن التدين والاستقامة إفراز لمشكلات نفسيه أو لمشكلات اجتماعية واقتصادية، وأنه إفراز لتخلف يعاني منه هؤلاء، لكن يرى المسلمون بأعينهم أن هؤلاء كما أنهم قد فاقوا في العلم الشرعي، وفي حفظ كتاب الله، فقد فاقوا في سائر التخصصات، فهم الأوائل في الكليات التي تعنى بالدراسات التطبيقية.
وفي إحدى كليات الطب كان الخمسة الأوائل من الطلاب في سنة من السنوات كلهم من الشباب المتدينين الصالحين، وهي قضية تزعج أولئك وتقض مضاجعهم، مع أن هؤلاء قد عمروا معظم وقتهم في تعلم علم نافع، أو في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، فلم يصدهم ذلك عن أن يتفوقوا، وعن أن يبزوا أقرانهم.
وفي إحدى البلاد الإسلامية، والتي كانت أول بلاد سعي فيها إلى تحرير المرأة ورفع الحجاب، كانت نتيجة الثانوية العامة على مستوى تلك البلاد أن ثمانياً من العشر الأوائل من الطالبات هن من المحجبات.
هذا في بلد هي أول بلد رفع فيه الحجاب، ومع ذلك تأتي هؤلاء الفتيات ليقلن للعالم أجمع: إن الحجاب والتدين ليسا -كما يطرحه أولئك- إفرازاً لعقد نفسية، أو مشكلات اجتماعية، وليثبت هؤلاء أن المتدينين هم أقدر الناس، فهم الذين يدركون أن قضية الحياة قضية جادة، فهم أينما ساروا وأينما ذهبوا هم المتفوقون، وهم الذين يثبتون للناس أنهم متفقون في مجالات الحياة، مع أن غيرهم أولى بالتفوق، لأن هؤلاء قد حملوا هموماً أكثر من غيرهم.(7/17)
تجاوز الاهتمامات الفارغة
عاشراً: من إيجابيات هؤلاء أن اهتماماتهم تجاوزت اهتمامات الناس الفارغة.
ما هي القضايا التي تسيطر على هم المسلمين صغاراً وكباراً شيباً وشباناً؟ إنها قضية الدينار والدرهم، إنها قضية الشهوة، قضية اللهو، قضية العبث الفارغ.
أما هذا الجيل المبارك فهو يحمل هماً آخر ويحمل قضية أخرى، إن القضية التي تقلقه وتشغل باله، هي أنه كيف يستقيم على طاعة الله تبارك وتعالى، كيف يحفظ كتاب الله؟ كيف يحصل العلم الشرعي؟ كيف ينفع المسلمين؟ كيف يدعو إلى الله تبارك وتعالى؟ وهو من أعظم الإنجازات، حين يجتاز هؤلاء ما يهتم به سائر المسلمين والمسلمات ممن لم يسلكوا هذا السبيل ويسيروا في هذا الطريق، ولسان حال أحدهم يقول: يا قوم أنتم في واد وأنا في واد، يا قوم لكم هم ولي هم آخر، لكم شأن ولي شأن آخر، وهذا جدير بهم أن يكونوا ممن يقول يوم القيامة لله تبارك وتعالى حين يسألون: قد مضى الناس ولم تمضوا، فيقولون: فارقنا الناس في الدنيا ونحن أحوج ما نكون إليهم، وهانحن نفارقهم يوم القيامة أحوج ما يكون الناس إلى ذلك، فنحن ننتظر ربنا تبارك وتعالى، كما ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويل.(7/18)
استثمار المواقف والأوقات في الدعوة إلى الله
حادي عشر: أن هؤلاء أصبحوا يتساءلون في كل موقف وكل مناسبة: كيف يخدمون الإسلام؟ كيف يدعون إلى الله عز وجل؟ ألسنا نرى الشباب يتساءلون في كل مناسبة، على مقتبل الإجازة، في الحج، في رمضان في كل مناسبة: كيف نستثمر هذا الموقف في الدعوة إلى الله عز وجل، كيف نستغل هذا الوقت وهذا الموسم وهذه الفرصة في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، في حين كانت القضية التي تشغل غيرهم في الإجازة هي قضية السفر، وقضية اللهو واللعب، وفي حين كانت القضية التي تشغل بعض المسلمين وللأسف في شهر رمضان هي: كيف يمتعون أنفسهم بأطيب الطعام والشراب؟ كيف يرتبون أوقاتهم في اللهو واللعب، مع ذلك القضية التي تشغل هؤلاء في كل حين وفي كل مناسبة هي: كيف يخدمون هذا الدين؟ كيف ينصرون قضية هذا الدين؟ كيف يدعون إلى الله عز وجل في كل مناسبة وكل حين؟ ولهم أسوة في نبيهم صلى الله عليه وسلم الذي كان لا يدع قضية من القضايا وباباً من الأبواب وميداناً من الميادين إلا ونشر فيه علما، ودعا فيه إلى الله تبارك وتعالى.
أليس صلى الله عليه وسلم يأتي في موقف ربما لا يزيد أثره على الناس أن يستثير بعض عواطف الأمومة والأبوة نحوهم، فيرى صلى الله عليه وسلم امرأة تأخذ طفلاً من السبي وتضمه إلى صدرها، فيستوقف أصحابه صلى الله عليه وسلم ويقول: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ فيقولون: لا، فيقول: لله أرحم بهذه من ولدها، أو يقول: والله لا يلقي حبيبه في النار).
نعم لقد كانت قضية الدعوة، وقضية التعليم قضية تشغل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يستثمر كل هذه الفرص، ولهذا أخذ هذا النشء المبارك هذا الهدي منه صلى الله عليه وسلم، فصارت قضيته وصار سؤاله في كل وقت وفي كل مناسبة: كيف يستثمر هذا الوقت أو هذا الموقف في الدعوة لدين الله تبارك وتعالى.(7/19)
إحياء الجهاد في سبيل الله
ثاني عشر: أن هذا الجيل من الشباب أحيا سنة كادت الأمة أن تنساها، إلا وهي سنة الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى.
إن تجربة الجهاد الأفغاني تجربة قريبة وتجربة لن تنساها الأمة في وقت كادت الأمة أن تنسى الجهاد، كادت أن تنسى هذه الفريضة، بل للأسف لقد كان بعض من يتصدر للتعليم وتدريس الناس الفقه يقفز من باب الجهاد حين يصل إليه، لأنه قد نسيته الأمة، وحين قام هذا الجهاد في تلك البلاد وفتح الميدان رأينا الشباب ممن لم يتجاوز العشرين، أو تجاوزها بقليل، رأيناه يترك الدنيا ويترك الدينار والدرهم، ويترك كل ما يسير إليه الناس من متعهم، ويرحل إلى بلاد لا يعرف لغة أهلها، ولا يعرف طريقتهم، ولا يعرف حياتهم، ولسان حاله كحال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه حين ودع أصحابه وقالوا له: حفظكم الله وردكم إلينا، فقال: لا ردنا الله إليكم، وقال: لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا أو طعنة بيدي حران مجهزة بحرية تنفذ الأحشاء والكبدا حتى يقال إذا مروا على جدتي يا أرشد الله من غاز وقد رشدا وكان يسأل الله الشهادة ويقول وهو يخاطب راحلته: إذا أديتني وحملت رحلي مسيرة أربع بعد الحساء فشأنك أنعم وخلاك ذم ولا أرجع إلى أهلي ورائي وجاء المسلمون وخلفوني بأرض الشام منجدل الثواء هنالك لا أبالي طلع بعل ولا نخل أسافلها رواء ولسان حاله يقول كما قال الأول: إذا العرش إن حانت وفاتي فلا تكن على شرجع يعلى بخضر المطارف ولكن أحن يومي سعيداً بصحبة يمسون في فج من الأرض خائف لئن كان قالها صاحب بدعة وصاحب ضلاله فهو يقولها وهو على السنة، وهو يتمنى أن يرزقه الله الشهادة هناك.
لقد نسيت الأمة صور الشهادة، لقد نسيت صور الجهاد، وها نحن نرى بحمد الله نماذج من هؤلاء، ممن قتلوا ونحسبهم والله حسيبهم من الشهداء في سبيل الله، ممن أحيوا فريضة الجهاد، وضربوا للأمة أروع الأمثلة في التضحية والبطولة والفداء، في وقت كان يسافر فيه أترابهم وأقرانهم لقضاء الرذيلة ولقضاء الشهوات المحرمة، في وقت كان يسافر فيه الكبار والصغار للنزهة، يسافرون إلى البلاد التي يتيسر لهم فيها ما لا يتيسر لهم في بلادهم، أما هؤلاء فلهم شأن آخر وقضية أخرى وحياة أخرى، وأولئك الذين لم تكتحل أعينهم برؤية ميدان الجهاد، ولم تشنف أسماعهم بسماع صوت الجهاد، كما كان أحدهم يتغنى: لا شيء يشجيني ويطرب مسمعي كأزيز رشاش وصولة مدفع إنهم إذ لم تكتحل أعينهم برؤية تلك المشاهد، ولم تتشنف أسماعهم بسماع ذاك الصوت، ولم يحصل لهم شرف المشاركة في تلك الميادين، فإنما عاقهم عائق، وحبسهم حابس عن هذه الميادين، وأحدهم يتمنى أن تتاح له الفرصة، وأن يفتح له الميدان، أليست صورة تستحق الإشادة، أليست صورة تستحق أن نحفل بها وأن نشعر أنها وبحمد الله من منجزات جيلنا المبارك.
وكما قال صلى الله عليه وسلم: (من خير معاش الناس لهم في دينهم ودنياهم رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، كلما سمع هيعة طار يبتغي القتل والموت مظانه).(7/20)
إحياء سنة الأخوة الإيمانية
ثالث عشر: أن هؤلاء قد أحيوا سنة الأخوة في الله تبارك وتعالى، بعد أن كادت الأمة أن تنساها.
لقد كادت الأمة أن تنسى الحب في الله، والأخوة في الله، فجاء هذا النشء المبارك ليحيي معاني هذه الأخوة، وليتأسى بنبيه صلى الله عليه وسلم، والجيل المبارك الذين تآخوا علي غير أرحام بينهم، ولعل هؤلاء من أسعد الناس بقوله صلى الله عليه وسلم: (رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه) مما حدا بأحد شعراء هذه الصحوة أن يستبشر أي استبشار حين رأى هذا الأمل: الله أكبر إن عيني قد رأت نورا بآفاق السما يتلألا فلعله فجر الأخوة قد بدا يحيي النفوس ويبعث الآمالا ويميط عن هذه القلوب هوانها فتروح ترسل روحها إرسالا(7/21)
موقفهم من المعاصي
رابع عشر: موقف هؤلاء من المعاصي.
إن هؤلاء شأنهم شأن سائر المسلمين، قد يقعون في المعصية، وقد يواقعون الذنب، ومن هو الذي لا يقع في الذنب والمعصية: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وأتى بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم).
(وكل ابن آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون كما قال صلى الله عليه وسلم).
إن هؤلاء وإن وقع أحدهم في المعصية، إلا أن حالهم مع المعصية ليست كحال سائر المسلمين، إن أحدهم ما يلبث أن يبادر للتوبة إلى الله تبارك وتعالى والإقلاع، ولعله بهذا من أسعد الناس بقوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:201 - 202].
وبقوله تبارك وتعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران:133].
ثم ذكر تبارك وتعالى في صفة هؤلاء أنهم: {إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135].
في حين يصر غيرهم على هذه المعاصي، وهم لو وقعوا في المعصية فإن أحدهم يستعظم المعصية، وتعظم عنده، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إن المؤمن يرى معصيته كالجبل يوشك أن يقع عليه، وإن المنافق يرى ذنبه كذباب طار على أنفه فقال به هكذا).
كم يستهين الكثير من المسلمين بالنظر الحرام، بل يستنكر حين ينكر عليه هذا الأمر، وكم يستهينون بالكبائر والفواحش! أما هذا الجيل فإنك تراه حين تقع منه نظرة أو حين يقع في معصية يستعظمها، ويقبل على الله عز وجل مستغفراً تائباً، ويشعر أن هذه القضية توشك أن توبقه.
وهم أيضاً لو وقعوا في المعصية فإنهم إنما يقعون في المعصية وقوعاً عارضاً، إنهم لا يسعون إلى المعصية، ولا يبحثون عنها، ولا يفرحون بها، لكن قد يواقع أحدهم المعصية وقد غلبته شهوة، وقد غلبه هواه، ولعله أسعد الناس بما قاله ابن القيم رحمه الله وهو من أعلم الناس بأمراض القلوب، قال في مدارج السالكين: إن الله تبارك وتعالى إنما يغفر للعبد إذا كانت مواقعة الذنب منه على وجه غلبة الشهوة والهوى، فإذا واقع الذنب واقعه مواقعة ذليل خائف، مختلج في قلبه شهوة الذنب، وخوف الله تبارك وتعالى.
أما ذاك الذي يواقع الذنب وهو يضحك ظهراً ببطن، وهو الذي لا يدع ذنباً إلا أتاه، فهو من أبعد الناس عن التوبة، ومن أقرب الناس إلى أن يحال بينه وبين التوبة، أو كما قال رحمه الله تبارك وتعالى.
وهم أيضاً لو وقعوا في المعصية فهم لا يجاهرون بها، بل يستخفي أحدهم بها، ويخشى أن يراه غيره عليها، ولا شك أن هذا بإذن الله دليل خير، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) ولعله ينطبق عليه قوله صلى الله عليه وسلم بحديث النجوى: (إن الله يدني عبده المؤمن، ويضع عليه كنفه، ويقرره بذنوبه، فيقول: تذكر ذنب كذا وكذا؟ تذكر ذنب كذا وكذا؟ حتى إذا ظن أنه قد هلك، قال: أنا ستترها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، وأما الفاجر أو الكافر فينادى بذنوبه على رءوس الخلائق).
أيها الإخوة! إن هذا الحديث ليس شهادة عصمة، ولا مناداة بالبراءة من الخطأ والزلل والذنب على هذا الجيل، وليس دعوة إلى أن ننسى الأخطاء والسلبيات، لكن كما سبق أن أشرت في أوله، حيث إننا أصبحنا لا نسمع عن هذا الجيل إلا حديث النقد وذكر الأخطاء، فربما كان هذا مدعاة أن ينسينا بعض هذه الجوانب المشرقة، فأحببنا أن نستثيرها في أذهانكم، وأحببنا أن نذكركم بها، وهو لا يعني كما قلت شهادة براءة، ولا يعني الدفاع عن الأخطاء والسلبيات.
فمن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن نشأ في طاعة الله تبارك وتعالى، ونسأله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم من الغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس، وأن يجعلنا وإياكم ممن يقبض على دينه ويكون كالقابض على الجمر.
هذا والله وأعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(7/22)
وإنك لعلى خلق عظيم
من خير ما يرفع المرء عند الله الخلق الحسن، وقد كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً مع جميع الخلق، وهو الذي بعث ليتمم صالح الأخلاق، وهو القدوة الحسنة التي يجب أن نتبعها وأن نتخلق بالأخلاق الحسنة لنفوز برضوان الله تعالى.(8/1)
الحاجة إلى الكلام عن شمائله صلى الله عليه وسلم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، اصطفاه تبارك وتعالى ليحمل الرسالة للناس إلى قيام الساعة، وليكون صلى الله عليه وسلم هو داعي التوحيد وداعي الله عز وجل، فمن لم يجبه وقد سمع به من هذه الأمة لم يدخل الجنة، فصلى الله عليه وعلى آله وإخوانه إلى يوم الدين، وحشرنا في زمرته وأوردنا حوضه، إنه تبارك وتعالى سميع مجيب.
أيها الإخوة يشعر المتحدث حين يريد الحديث عن سيرة هذا النبي العظيم، وعن خلقه وعن شمائله صلى الله عليه وسلم، يشعر بالرهبة، ويشعر أنه مهما تحدث فلن يوفي الحديث حقه، وأنى لبشر مقصر أن يوفي حق المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي اختاره الله عز وجل وهو تبارك وتعالى يخلق ما يشاء ويختار.
نشعر اليوم أيها الإخوة أن الأمة وأن العالم أجمع بحاجة إلى أن يُبرز أمامه هذا النموذج، وأن تُفتح له هذه الصفحات من سيرة النبي القدوة صلى الله عليه وسلم، ونحن نعيش في وسط تسيطر فيه الأنانية والفردية، في وسط تتشعب فيه الأهواء بالناس، وحتى الصالحون يصيبهم ما يصيبهم من حظوظ النفس، ومن الأهواء، ويسيء المرء الخُلق وهو يحسب أنه يُحسن صنعاً، وما أعظم المقولة التي قالها صلى الله عليه وسلم حين استأذنه رجل فقال صلى الله عليه وسلم: (ائذنوا له بئس أخو العشيرة) فلما دخل هش له صلى الله عليه وسلم وبش، فقيل له في ذلك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (شر الناس من ودعه الناس اتقاء فحشه) عافانا الله وإياكم.
إنها صورة ونموذج قد يتمدّح به البعض وأنه يستطيع بلسانه أن يُخرس الناس، يستطيع أن يسفههم، يستطيع أن لا يدع أحداً يفوه بكلمة بعد ذلك، وحينئذ يخاف الناس فُحشه في مقالته وفي كتابته وفي حديثه، هؤلاء عافانا الله وإياكم هم من شر الناس، وأبعد الناس عن منهج النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الخلق العظيم.
أيها الإخوة أشعر ونشعر جميعاً أننا بحاجة إلى الحديث عن خُلق النبي صلى الله عليه وسلم، وطالما أردت الحديث عن هذا الموضوع، لكني أشعر أني أُقدِّم رجلاً وأؤخر أُخرى؛ لأني أشعر أنني حين أتحدث عن أي جانب من جوانب خلق النبي صلى الله عليه وسلم فإني أنادي على نفسي بفقدان هذا الخلق وهذا النموذج، إن الناس يرون منا خلقاً ويرون منا سلوكاً، وحين نحدثهم عن هذه الأخلاق يرون صورة أخرى غير تلك التي يرونها عنا، لهذا كنت أرى وأعتقد أن حديثي عن خُلق النبي صلى الله عليه وسلم وعن الخلق الحسن إنما هو شهادة إدانة، فكنت أُحجم عن الحديث في هذا الموضوع، مع أن الحديث عن هذا الموضوع وهذا الجانب لا يعوز طالب علم مهما كان ومهما قل شأنه ومهما قل اطّلاعه.
إنك حين تقرأ في كتاب من كتب السنة، أو كتب سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، أو كتب الشمائل فستجدها مليئة بالشواهد الناطقة على خلق هذا النبي صلى الله عليه وسلم، ولن تحتاج أن تتصفح أبواب الآداب والأخلاق والشمائل، بل وأنت حين تقرأ في أبواب الأحكام، حين تقرأ في أبواب العبادات، حين تقرأ في أي باب من الأبواب ما روي عن هذا النبي صلى الله عليه وسلم، فإنك سترى هذه المرويات كلها تنطق بخلقه صلى الله عليه وسلم، كلها تشهد لهذا المعنى العظيم الذي وصفه به ربه تبارك وتعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وما وصفته به عائشة رضي الله عنها بقولها: (كان خلقه القرآن).
ولكن الإخوة اختاروا هذا الموضوع فرأيت أن أتحدث عنه، ولو لم يختاروه ويلزموني به لما كنت أتحدث عنه، لا لأني أرى أنه ليس ذا بال وأهمية، بل لأني أشعر أننا نعاني كثيراً من التقصير في أخلاقنا، من التقصير في اتباع منهج النبي صلى الله عليه وسلم في خُلقه وسلوكه، وأننا حين نتحدث عن هذه الجوانب فإننا ندين أنفسنا، ويرى الناس واقعاً غير ذاك الذي نقول لهم، فنسأل الله عز وجل أن لا يجعلنا من أولئك الذين يقولون ما لا يفعلون.
لكن عزاءنا أن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رجل اختاره الله عز وجل من بين الناس، واصطفاه تبارك وتعالى، حتى إن الجيل الأول والرعيل الأول ما كان يمكن أن يبلغ منزلته صلى الله عليه وسلم في الخُلق والقدوة، كيف لا وهو القدوة للبشرية جمعاء! حين نتحدث عن هذا الموضوع فإننا لن نستطيع أن نوفيه حقه، بل ولن نستطيع أن نأتي بجميع جوانبه، ويشعر المتحدث بالحيرة حين يريد الحديث عن خُلق النبي صلى الله عليه وسلم، عن ماذا يتحدث؟ إنك لو أخذت جانباً من الجوانب، مثل جانب الرحمة، أو جانب الحياء، أو التواضع، أو الكرم والجود والسخاء، أو الصبر أو كظم الغيظ، لو أخذت جانباً من جوانب الخلق وتصفحت كتب السنة، لوجدت أن المقام يضيق عن أن تتحدث عن هذا الجانب وحده، أو أردت أن تدون شيئاً من ذلك لوجدت أن المقام يضيق، ولهذا فإن الذين ألفوا في شمائل النبي صلى الله(8/2)
الشواهد على كمال خلقه صلى الله عليه وسلم(8/3)
اختيار الله تبارك وتعالى له
إننا حين نتحدث عن سمو خلقه صلى الله عليه وسلم، فستطول معنا الشواهد، لكننا هنا نوجز شواهد مهمة على كمال خُلقه صلى الله عليه وسلم، وأول هذه الشواهد وأتمها هو اختيار الله تبارك وتعالى له.
إن الله عز وجل يخلق ما يشاء ويختار تبارك وتعالى، وهو الذي خلق البشر تبارك وتعالى وهو أعلم بهم، فاختاره تبارك وتعالى ليحمل الرسالة، واختاره ليكون قدوة وأسوة حسنة، ولهذا فإن هذا الاختيار يقتضي أن يكون صلى الله عليه وسلم في القمة في كل الصفات البشرية، إن هذا الاختيار يقتضي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً لا كالرجال، أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ليس كسائر الناس.
نعم، إنه صلى الله عليه وسلم بشر مثلهم ينسى كما ينسى الناس ويأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ولا يعلم الغيب صلى الله عليه وسلم شأنه شأن سائر الناس، لكنه صلى الله عليه وسلم في القمة في كل صفة كمال يمكن أن توجد في بشر، كيف لا وقد اختاره ربه تبارك وتعالى.
وها هو عبد الله بن مسعود رضوان الله عليه يشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ويشير إلى هذا المعنى فيقول: (إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيئ).(8/4)
ثناء الله عليه في القرآن بحسن الخلق
الشاهد الآخر: ثناء الله تبارك وتعالى عليه في كتابه {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122] ومن أحسن من الله حديثاً، فالله تبارك وتعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ} [القلم:4].
إنها شهادة للنبي صلى الله عليه وسلم ممن خلقه تبارك وتعالى وممن خلق الناس، وممن يعلم تبارك وتعالى ما تكنه الصدور والضمائر، شهادة من الله تبارك وتعالى لهذا النبي صلى الله عليه وسلم أنه على خلق، وليس على خلق فحسب، بل على خلق عظيم، ويخبر الله تبارك وتعالى أن الله امتن على نبيه صلى الله عليه وسلم بهذا الخلق، فقال تبارك وتعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159].
ويمتن تبارك وتعالى على المؤمنين أن بعث إليهم هذا النبي الذي يتصف بهذه الصفات العظيمة: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] وماذا نريد أيها الإخوة بعد أن عدّله ربه تبارك وتعالى، وبعد أن أثنى عليه الله عز وجل، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122] ومن أحسن منه حديثاً تبارك وتعالى.(8/5)
شهادة الصحابة له بحسن الخلق
وهاهم أصحابه رضوان الله عليهم الذين صحبوه في السراء والضراء، وعاشوا معه أحواله، في المنشط والمكره، هاهم يشهدون له رضوان الله عليهم بأنه أحسن الناس خلقاً يقول البراء رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً، وأحسنهم خلقاً، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير).
ويروي أنس بن مالك رضي الله عنه يصف النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، فربما تحضر الصلاة وهو في بيتنا فيأمر بالبساط الذي تحته فيُكنس، ثم يُنضح، ثم يؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقوم خلفه يصلي بنا، وكان بساطه من جريد النخل) وهذا الحديث رواه الإمام مسلم.
ويروي مسلم أيضاً في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم قالت لمن سألها: (ألست تقرأ القرآن؟ كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن).
وهاهو حسان رضي الله عنه يقول: وأحسن منك لم تر قط عيني وأجمل منك لم تلد النساء خلقت مبرأ من كل عيب كأنك قد خُلقت كما تشاء ويقول حين دفن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد غيّبوا علماً وحلماً ورحمة عشية واروه الثرى لا يوسد ولسنا بحاجة أيها الإخوة إلى أن نستطرد في إيراد الشواهد من مقولات أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وثنائهم عليه بحسن الخلق.(8/6)
إخباره عن نفسه أنه بعث ليتمم صالح الأخلاق
الشاهد الرابع: إخباره صلى الله عليه وسلم عن نفسه أنه بُعث ليتمم صالح الأخلاق، ففي المسند عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق) وهذا يعني أن الخلق له منزلة عظيمة في دين الله، إن الخلق والسلوك قد يأتي أحياناً لدى الكثير من المسلمين، بل لدى بعض طلبة العلم في مرتبة متأخرة، ويشعر بعض هؤلاء أن مجرد حفظ المسائل العلمية وإتقانها هو وحده ما يحتاج إليه طالب العلم! وحين يأتي الحديث عن الخلق وعن الهدي والسمت والسلوك يشعر هؤلاء أن هذا حديث الوعّاظ، وأن هذا حديث ينبغي أن يوجه لعامة الناس، وأما طلبة العلم فينبغي ألا يحدثوا إلا بقال فلان ورأى فلان، وفي المسألة وجهان، أو ثلاثة أقوال، وهكذا.
قد يتصور البعض من طلبة العلم أيها الإخوة أن الحديث في مثل هذه المسائل هو وحده الحديث الذي يعنيه، وهو الحديث الذي يهمهم، وهو مجال لا يمكن أن يقلل أحد من شأنه أو يغض منه، لكن أن نتصور أن أبواب الخلق والأدب والسلوك ليس من شأننا أو أنه قضية ثانوية، أو أنه قضية يزج بها الحديث فإن هذا خلاف المنهج الذي كان عليه سلف الأمة، وقد كان أحدهم يرحل في الأدب الواحد السنة والسنتين، وكانوا يتعلمون الأدب كما يتعلمون الحديث، وكان أحدهم يقول: كنا نأتي مسروقاً فنتعلم من هديه وسمته ودلّه، ويقول ابن وهب رحمه الله: ما تعلمت من أدب مالك أكثر مما تعلمت من علمه، وكانوا يأتون طالب العلم بوصية مشهورة يقولون فيها: أيها الطالب علماً ائت حماد بن زيد فاكتسب علماً وحلماً ثم قيده بقيد ودع الفتنة من آثار عمرو بن عبيد بل إن في تصانيفهم المتقدمة ما يدل على عظم هذه القضية، أليسوا قد صنفوا في أدب العالم والمتعلم وأدب طالب العلم وما ينبغي له كتباً مستقلة، وأدرجوا ذلك ضمن كتب الحديث وكتب الآداب، وهي كثيرة تلك الكتب التي صنفها أولئك المتقدمون من سلف الأمة، وما كان أولئك يعانون من أوقات لا يدرون بم يشغلونها، ولا يعانون من الإسهال الفكري فيريدون أن يكتبوا ما عنّ لهم، إنما كانت عنايتهم بذلك دليلاً على أهمية هذا الأمر وعلو شأنه في دين الله عز وجل، كيف ولا وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه بُعث ليتمم صالح الأخلاق، فما دام صلى الله عليه وسلم قد بُعث ليتمم صالح الأخلاق فلا بد أن تكون سيرته وهديه وسمته صلى الله عليه وسلم ناطقة بذلك، وهاهي سيرته وسنته تشهد بذلك لكل من قرأها وتصفحها.(8/7)
دعاؤه ربه أن يرزقه حسن الخلق
وأيضاً: النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه أن يرزقه حسن الخلق، ويدعو ربه تبارك وتعالى أن يحسن خلقه، يروي الإمام أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم أحسنت خَلْقي فأحسن خُلقي).
وأيضاً: يروي الإمام أحمد هذا المعنى عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم أحسنت خلْقي فأحسن خُلقي).
وكان صلى الله عليه وسلم يدعو في دعائه المشهور في قيام الليل: (اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف سيئها إلا أنت) ورسول الله صلى الله عليه وسلم مجاب الدعوة، فقد دعا ربه تبارك وتعالى هذا الدعاء فسيجيب الله عز وجل دعاءه، ولا عجب فقد كان صلى الله عليه وسلم في المنزلة العالية من الخلق، وإذا كان صلى الله عليه وسلم يسأل ربه تبارك وتعالى ويستعين به على أن يرزقه حسن الخلق، وعلى أن يحسّن خلقه، وهو صلى الله عليه وسلم قد بلغ هذه المنزلة، فقد جُبل صلى الله عليه وسلم على حسن الخلق وقد زكّاه ربه تبارك وتعالى وعلّمه الكتاب والحكمة، فعلّمه تبارك وتعالى حسن الخلق، ومع ذلك فإنه صلى الله عليه وسلم يستعين بربه ويسأله أن يرزقه حسن الخلق، وأن يهديه لأحسن الأخلاق، إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا الدعاء، ويسأل ربه تبارك وتعالى هذا السؤال فنحن أحوج ما نكون إلى ذلك، ونحن نرى حين نتأمل في واقعنا صباح مساء تلك الأخطاء التي نقع فيها، ونرى ذلك التقصير، ونرى إخلالنا بهذا الجانب، ونرى أن الكثير من مواقفنا تشهد وتنطق بأننا أحوج ما نكون إلى أن نترقى في مكارم الأخلاق، وأن نتعلم الكثير الكثير من حسن الخلق.(8/8)
أمره صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق
أيضاً: كان صلى الله عليه وسلم يأمر بمكارم الأخلاق، ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم أول من يمتثل ما يأمر به صلى الله عليه وسلم، كيف لا وهو صلى الله عليه وسلم قد حذّرنا وحذّر أمته من أن يقول أحدهم ما لا يفعل، وأخبر أن الرجل يُلقي في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع عليه أهل النار فيقولون: ألم تكن تأمرنا وتنهانا؟ فيقول: بلى كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وكنت أنهاكم عن المنكر وآتيه، عافانا الله وإياكم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد جمع الله له كمال الامتثال والتأسي فلا شك أن كل ما يأمر به صلى الله عليه وسلم ويدعو به أمته؛ لا شك أن ذلك سيكون متمثلاً في حياته صلى الله عليه وسلم وسيرته.
ها هو أبو ذر رضي الله عنه يحكي في قصته التي يرويها الإمام مسلم عن ابن عباس يقول: (لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فأعلمني علم هذا الرجل الذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء، فاسمع من قوله ثم ائتني.
فانطلق الآخر حتى قدم مكة وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر فقال: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق ويقول كلاماً ما هو بالشعر).
ونقف أيها الإخوة عند هذا المعنى ونتأمل، متى قدم أبو ذر رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يزال في مكة، ولما ينزل بعد الكثير من آيات القرآن، ولما تنزل الشرائع والأحكام، وأصبح هذا المعنى معلماً بارزاً في دعوته، فحين أراد صاحب أبي ذر رضي الله عنه أن يلخّص له دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لم يجد أبلغ من أن يصفها بهذه الكلمة: (رأيته يأمر بمكارم الأخلاق ويقول كلاماً ما هو بالشعر) إنه لو كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بمكارم الأخلاق في مكة ودعا إليها لما كان ذلك كافياً، أما أن تكون مكارم الأخلاق هي العنوان لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي القضية التي يشعر هذا الرجل الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وتفحّص حاله؛ فهذا يعني أنه معلم بارز واضح يدركه كل من عاشر النبي صلى الله عليه وسلم ورآه، ولو كان في تلك المرحلة التي كان صلى الله عليه وسلم لا يزال فيها في أول رسالته وأول دعوته، ولما تنزل الكثير من الأحكام والشرائع بعد.
وفي الصحيح عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فقلت: (أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة.
قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض التي في القرآن، يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً، وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويرحم، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله، ويفتح بها أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً).(8/9)
الخصائص التي امتاز بها النبي صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق(8/10)
أنه اجتمع له من المكارم ما لم يجتمع لغيره
لئن كان صلى الله عليه وسلم امتاز بهذا الخلق العظيم، ومن الله عز وجل عليه بمكارم الأخلاق، فما هي تلك الخصائص والمزايا التي للنبي صلى الله عليه وسلم وليست لأحد غيره من البشر؟ إنك قد تجد من الناس الذين تراهم صباح مساء من يعجبك خلقه، وقد تجد من هؤلاء من تشعر أنك لا تمل في الحديث عن حسن خلقه وأدبه وتتمنى أن تُرزق شيئاً مما رزقه الله عز وجل، ولا شك أن الله تبارك وتعالى خص طائفة من خلقه بشيء من ذلك كما جبل صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على خصلتين يحبهما تبارك وتعالى الحلم والأناة، فقد جبل الله عز وجل طائفة من خلقه على حسن الخلق، لكن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان في القمة في كل مجال وميدان من ميادين الخلق إلا أن له صلى الله عليه وسلم من المزايا والخصائص ما لا تراه لسائر البشر، إنه صلى الله عليه وسلم إن ذُكر أهل الحلم فهو أحلم الناس، وإن ذُكر أهل الغيرة فهو أغير الناس، وإن ذُكر أهل الشجاعة فهو أشجع الناس، وإن ذُكر أهل الجود فهو أجود الناس؛ فهو صلى الله عليه وسلم في كل باب من أبواب الخلق الحسن قد بلغ أعلى غاية وأعلى منزلة يمكن أن يبلغها بشر وأن يصل إليها مخلوق، لكن مع ذلك فإنه صلى الله عليه وسلم له من المزايا ما ليس لغيره: أولها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اجتمع له من الأخلاق ما لا يجتمع لأحد من البشر، إنك قد تجد فلاناً من الناس اشتهر بالجود وسارت الركبان بالحديث عن جوده وكرمه، بل صار مضرب المثل، وصارت تحكى الغرائب والروايات عنه، وقد تجد فلاناً من الناس اشتهر بالحلم وكظم الغيظ، وصرت تسمع من الحديث ما لا يكاد يصدقه عقلك، وصار مضرب المثل في ذلك، وقد ترى من اشتهر بالصبر، وقد ترى من اشتهر بالحياء، ترى من اشتهر بأي جانب من جوانب الخلق، وقلما تجد بشراً من البشر أو مخلوقاً من المخلوقين امتاز بحسن الخلق إلا وترى أن هناك خلقاً معيناً هو عنوان خلقه، تراه امتاز بالسخاء، أو تراه امتاز بالصبر أو بالحلم، أو أي باب من أبواب الخلق، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد جمع الله له ذلك كله، وما لم يُجمع لأحد غيره صلى الله عليه وسلم فإذا سخوت بلغت بالجود المدى وفعلت ما لا تفعل الكرماء وإذا عفوت فقادراً ومقدراً لا يستهين بعفوك الجهلاء وإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هما الرحماء وإذا غضبت فإنما هي غضبة للحق لا ضغن ولا بغضاء وإذا رضيت فذاك في مرضاته ورضا الكثير تحلم ورياء وإذا خطبت فللمنابر هزة تعرو الندي وللقلوب بكاء فقد جمع الله تبارك وتعالى له كمال الخلق في كل مجال وكل باب، تحدث ما شئت عن أي مجال وأي ميدان وائت بالشواهد من هنا وهناك فلن ترى أصدق شاهداً مما روي عن هذا النبي العظيم صلى الله عليه وسلم، تحدث عن الجود والكرم، تحدث عن الحلم، تحدث عن الرحمة، عن الصبر، عن الشجاعة، عن سائر الأخلاق، عن كل ما يمتدح به الناس من الخلق فسترى أن أصدق الشواهد هي ما يروى عن هذا الرجل العظيم صلى الله عليه وسلم.(8/11)
أنه لا يطغى عليه خلق فيخرجه عن الحق فيه
الجانب الثاني: إن الكثير من البشر حين يُرزق خلقاً فإنه أحياناً قد يطغى عليه في مواقف كثيرة ويخرجه عن الحق، خذ مثلاً من رزق الرحمة، وصار صاحب قلب رحيم يتحدث الناس عن رحمته، لا شك أنه يفعل خيراً كثيراً ويحسن للناس ويرق قلبه لما يراه من أحوال الناس، لكن ألا ترى أن هذا الرجل قد يأتي موطن يتطلب منه سوى ذلك فلا يستطيع فتغلبه تلك الشفقة والرحمة فتخرجه عن الحق.
وقل مثل ذلك فيمن رزق السخاء والجود فصار لا يطيق أن يمسك مالاً يرى الناس يحتاجون إليه، ألا ترى أنه قد يتحول ذلك أحياناً إلى ترف وتبذير للمال في غير محله؟ أو ذاك الذي رُزق الشجاعة فصار الناس يغدون ويروحون بالحديث عن أخبار شجاعته وبطولاته، ألا ترى أن هذه الشجاعة تتحول إلى باب من أبواب التهور؟ أو قل على الأقل قد تخرجه عن الحق في موقف من المواقف وموطن من المواطن.
أما النبي صلى الله عليه وسلم فلا، إنه صلى الله عليه وسلم الذي لا يرد سائلاً والذي لا يرد شافعاً، إنه الرحيم صلى الله عليه وسلم بأمته، بل لا يبلغ أحد رحمته صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم الذي يقبل شفاعة الأمة وشفاعة العبد، وشفاعة الصغير والكبير، وهو الذي يرحم الصغير والكبير، ها هو صلى الله عليه وسلم في موقف يتطلب منه الحق خلاف ما قد يسلكه بعض الرحماء، فنرى منه صلى الله عليه وسلم أن هذه الرحمة وأن هذا التقدير للناس وقبول شفاعتهم لم يخرجه صلى الله عليه وسلم عن الحق، إنه صلى الله عليه وسلم الذي يقبل شفاعة الأمة ويأتي يكلم زوجها، يأتي صلى الله عليه وسلم يشفع لرقيق من الأرقاء لدى أسياده.
بل يأمر صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يشفعوا فيقول: (اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء)، حين سرقت امرأة في مكة ذات جاه، وثقل على الناس أن تُقطع يدها أرادوا أن يشفعوا لدى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: من يتجرأ عليه صلى الله عليه وسلم إلا أسامة حبه صلى الله عليه وسلم وابن حبه، فجاء أسامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أتشفع في حد من حدود الله) ثم قام صلى الله عليه وسلم فصعد المنبر فقال: (إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).
إنها فاطمة رضي الله عنها التي يؤلم النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤلمها، والتي كان من شأن النبي صلى الله عليه وسلم حين حدث أنه ستكون لها ضرة ما كان من شأنه صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لو أنها سرقت لقطع صلى الله عليه وسلم يدها، ويرد النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة أسامة وهو حبه وابن حبه ويغضب صلى الله عليه وسلم لهذا الموقف.
وهكذا فإنه ما من خلق يُمدح به النبي صلى الله عليه وسلم إلا وتراه تحت دائرة الحق لا يخرجه عن الحق، وهذا أمر ينبغي لأولئك الذين طُبعوا وجُبلوا على خلق كريم أن يضبطوا أنفسهم بهذا الضابط، وألا يخرجهم هذا الخلق عن حدود الشرع، إن من جبله الله على الحياء، أو على الكرم، أو على الشجاعة، أو على الجود، أو على الصبر، أو على هذا الخلق وذاك ينبغي أن ينظر لنفسه مراراً، أن يكون هذا الخلق داخل دائرة ما يرضي الله تبارك وتعالى، فإذا شعر أنه سيخرجه عن الحق فإنه حينئذ يصبح خلقاً مذموماً.(8/12)
أن حسن الخلق لا يحوله إلى رجل ضعيف
أيضاً مزية ثالثة أن الخلق الذي اتصف به صلى الله عليه وسلم لم يكن ليحوله إلى رجل ضعيف.
إن البعض ممن يحسن خلقه يضعف فلا يطيق أحياناً ولا يستطيع أن يقف مواقف صارمة جادة، فتقعد به طبائعه وسجاياه، أما النبي صلى الله عليه وسلم فيجمع الله تبارك وتعالى بين تمام الخلق وبين القوة والجرأة في الحق، فهو صلى الله عليه وسلم صاحب الرحمة، وهو صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله تبارك وتعالى رحمة للعالمين، وهو الذي برحمة الله تبارك وتعالى لان للناس ولو كان فظاً غليظ القلب لانفض الناس من حوله، ومع ذلك يقول صلى الله عليه وسلم عن نفسه: (بعثت بالسيف بين يدي الساعة، وجعل رزقي تحت ظل رمح).(8/13)
جوانب من خلق النبي صلى الله عليه وسلم(8/14)
التواضع
وبعد ذلك ننتقل فيما تبقى من الوقت إلى جولة سريعة مع بعض الجوانب من خلقه صلى الله عليه وسلم، وهي لمجرد التمثيل لا الحصر، بل كما قلت في أول الحديث: لو أنا أخذنا جانباً واحداً من هذه الجوانب وكان موضوع حديثنا، وسعينا إلى أن نتقصاه في كتب السنة لشعرنا أن الوقت يضيق بنا، وشعرنا أننا حين نريد أن نجمع من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤيد هذا الجانب قد لا نطيق ذلك ولا نستطيعه، لكنها إشارات عاجلة إلى بعض الجوانب مما تميز به صلى الله عليه وسلم من تمام الخلق لتكون مجال قدوة وتأس لنا بهذا النبي صلى الله عليه وسلم.
من أهم مجالات الخلق الحسن التي ينبغي أن نتحلى بها التواضع، وما أصعب هذا الخلق على من يكون له مكانة عند الناس بعلم أو جاه أو منزلة، فقد يشعر المرء أن منزلته ومكانته عند الناس تتطلب منه أن يترفع، وقد يكون في قلبه شيء من الكبر من حيث لا يشعر ويرى أن هذا من تمام الوقار ومن تمام المحافظة على هذه المنزلة التي اكتسبها بين الناس حتى لا تضيع.
وانظروا مثلاً ما الذي يسيطر على تفكير الأستاذ وهو بين يدي طلابه وتلامذته، وما الذي يسيطر على تفكير الرجل الوجيه عند الناس وهو بين عامة الناس، فأي رجل له منزلة ومكانة كالنبي صلى الله عليه وسلم؟ وأي رجل أحق بالتقدير والتوقير والاحترام منه صلى الله عليه وسلم؟ ومع ذلك كان صلى الله عليه وسلم متواضعاً، كما حكى عنه عبد الله بن أوفى رضي الله عنه فيما رواه النسائي والدارمي يقول: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثر الذكر، ويقل اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصّر الخطبة، ولا يأنف ولا يستنكف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي لهما حاجتهما).
وكان صلى الله عليه وسلم كما روى عنه أنس يخالط أنساً وأهل بيته حتى كان يمازح أنساً رضي الله عنه فيقول له: (يا ذا الأذنين) وكان صلى الله عليه وسلم يقول لأخ لـ أنس أصغر منه: (يا أبا عمير ما فعل النغير؟) وكان له طائر يلعب به، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فرآه حزيناً كاسف البال، فسأل صلى الله عليه وسلم أهله عن شأنه فقالوا: مات نغره أو طيره الذي كان يلعب به، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا أبا عمير ما فعل النغير؟).
هاهو صلى الله عليه وسلم الذي يناجي ربه تبارك وتعالى، والذي يتنزل عليه الوحي، والذي يحمل الرسالة، ويعلم الأمة كلها أجمع، لا يستنكف ولا يتكبر أن يمشي مع الأرملة، وأن يمشي مع المسكين، وأن يقضي للناس حوائجهم، وأن يمازح الصبيان ويداعبهم ويسلم عليهم صلى الله عليه وسلم، فعجباً لهذا الرجل صلى الله عليه وسلم! يقول عنه أحد أصحابه وهو يتحدث عنه ويصفه: لقد أقوم مقاماً لو يقوم به يرى ويسمع ما قد أسمع الفيل لظل ترعد من وجد بوادره إن لم يكن من رسول الله تنويل كان أصحابه لا يحد أحدهم النظر إليه إجلالاً له صلى الله عليه وسلم، إذا تحدث النبي صلى الله عليه وسلم خفضوا أصواتهم، وكان صلى الله عليه وسلم كما شهد بذلك أبو سفيان: (ما رأيت رجلاً يحبه أصحابه كما يحب أصحاب محمد محمداً) ومع هذه المنزلة العالية كان هذا شأنه صلى الله عليه وسلم وتواضعه مع سائر الناس، وصدق صلى الله عليه وسلم وهو القائل: (ما زاد الله عبداً بتواضع إلا عزاً).(8/15)
الرحمة
ومن خلقه صلى الله عليه وسلم الرحمة، بل إن الله تبارك وتعالى أرسله رحمة للعالمين، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (قيل: يا رسول الله ادع على المشركين.
قال: إني لم أُبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة) رواه الإمام مسلم.
ورحمة النبي صلى الله عليه وسلم لا تقف عند حد البشر، بل تتجاوز ذلك إلى البهائم.
يحكي عبد الله بن جعفر رضي الله عنه: (أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم فدخل حائطاً فرأى جملاً، فحن الجمل لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إليه فأقبل إليه ومسح ذفراه، ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أين صاحب الجمل؟ فجاء شاب من الأنصار فقال: أنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اتق الله فإنه شكا إليّ أنك تجيعه وتدئبه).
يجد النبي صلى الله عليه وسلم وهو صاحب القلب المليء بهموم الناس وهموم الأمة كلها يجد في قلبه صلى الله عليه وسلم مكاناً لأن يعتني بشأن دابة من الدواب، وبهيمة من البهائم، وكأن هذا الجمل قد أدرك حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه لن يعدم مكاناً لدى هذا الرجل العظيم، ثم يأتي صلى الله عليه وسلم فيسأل عن صاحبه؟ ويوصيه به خيراً.
وحين يأتي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى طائر من الطيور فيأخذون فراخه، فيأتي صلى الله عليه وسلم فيقول: (من فجع هذه بولدها؟) إن النبي صلى الله عليه وسلم يرحم هذه البهائم والدواب فكيف ستكون رحمته صلى الله عليه وسلم بالناس؟ بل كيف ستكون رحمته صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين بالله تبارك وتعالى؟ ولهذا وصفه عز وجل بأنه بالمؤمنين رءوف رحيم.
وفي هذا أيها الإخوة أسوة لكل من ولاه الله عز وجل أمانة ومسئولية على المسلمين صغرت أم كبرت، أباً كان أو معلماً أو موجهاً، ولهذا أخبر صلى الله عليه وسلم أن أولئك الذين لا يرحمون الناس لا يرحمهم الله تبارك وتعالى.
استنكف رجل أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم يقبّل صبياً من الصبيان، فقال: (تقبّلون صبيانكم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أو أملك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟)، وفي موقف آخر يقول صلى الله عليه وسلم: (من لا يرحم لا يُرحم).
ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بأمته أن يدعو: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه).(8/16)
الحياء
ومن خلقه صلى الله عليه وسلم الحياء.
ويكفي في ذلك شهادة الله تبارك وتعالى له: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب:53].
ويقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه فيما رواه الشيخان: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، وكان إذا كره شيئاً عرفناه في وجهه).
إنه صلى الله عليه وسلم كان يستحي أن يصرّح للناس بما يؤذيه صلى الله عليه وسلم من سلوكهم، وهم لم يكونوا يتعمدون إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه صلى الله عليه وسلم حين يريد هؤلاء أن ينصرفوا كان يستحي أن يشعرهم بذلك، فيخرج صلى الله عليه وسلم ويدخل حتى جاءهم وحي الله تبارك وتعالى أنهم إذا دُعوا إلى طعام، فإذا طعموا فلينتشروا ولينصرفوا؛ لأن بقاءهم يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم يستحي أن يشعرهم بأنه يريد منهم أن ينصرفوا.
ولهذا أعلى النبي صلى الله عليه وسلم منزلة الحياء، وأخبر أن الحياء خير كله، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الحياء قرين الإيمان، وأنه منزلة من منازل الإيمان، بل أنكر صلى الله عليه وسلم على من وعظ أخاه في الحياء، وأخبر أن الحياء لا يأتي إلا بخير.(8/17)
العفو
ومن خلقه صلى الله عليه وسلم العفو والتنازل عن حقه.
فتقول عائشة رضي الله عنها فيما رواه الإمام مسلم: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط بيده، ولا امرأة، ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن يُنتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل).(8/18)
حسن المنطق
ومن خلقه صلى الله عليه وسلم حسن منطقه.
كما روى الإمام البخاري عن عائشة رضي الله عنها: (أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال: بئس أخو العشيرة وبئس ابن العشيرة، فلما جلس تطلّق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت له عائشة: يا رسول الله؛ حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا ثم تطلّقت في وجهه وانبسطت إليه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة، متى عهدتني فحّاشاً؟ إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره) عافانا الله وإياكم.(8/19)
إعطاء السائلين
وأيضاً من حسن خلقه صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يرد سائلاً.
ففي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال: (ما سئُل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قط فقال لا).
وفي مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله ثلاث أعطنيهن.
قال: نعم -وذكر الحديث وفيه:- ولولا أنه طلب ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ما أعطاه ذلك؛ لأنه لم يكن يُسأل شيئاً إلا قال: نعم).(8/20)
مراعاة مشاعر الناس
ومن حسن خلقه صلى الله عليه وسلم مراعاته صلى الله عليه وسلم لمشاعر الناس.
وهو جانب دقيق وعجيب في سيرته صلى الله عليه وسلم، وشواهده في ذلك كثيرة، منها ما يرويه أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رجلاً دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صفرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قلما يواجه رجلاً في وجهه بشيء يكرهه، فلما خرج قال: لو أمرتم هذا أن يغسل هذا عنه).
وفي الصحيحين أيضاً: (أنه صلى الله عليه وسلم حين كان محرماً أهدى إليه رجل صيداً فرده صلى الله عليه وسلم، فلما رأى ما في وجهه قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حُرم).
وحين جاء مالك بن الحويرث وأصحابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبقوا عنده أياماً قال مالك رضي الله عنه: (فرأى النبي صلى الله عليه وسلم أنا قد اشتقنا إلى أهلنا فرق لحالنا، فقال صلى الله عليه وسلم: انطلقوا إلى أهلكم وعلّموهم، وصلوا كما رأيتموني أصلي).
وحين تقرأ في سيرته صلى الله عليه وسلم ترى كثيراً أنه صلى الله عليه وسلم كان يدرك هذه المشاعر، وكان يرعاها صلى الله عليه وسلم، بل كان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك حتى وهو في صلاته, فالنبي صلى الله عليه وسلم يُخبر عن نفسه أنه يدخل الصلاة وهو يريد أن يطيلها فيسمع بكاء الصبي فيخفف الصلاة خشية أن تُفتن أمه.
وعجباً لهذا الخلق العظيم! إن السنة في حق المرأة أن تصلي في بيتها، والأفضل في حقها ذلك، ولو قيل لأحد ممن يؤم الناس شيئاً في ذلك لقال: اقعدي في بيتكِ، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يدخل الصلاة وهو يريد أن يطيل فحين يسمع النبي بكاء الصبي يخشى صلى الله عليه وسلم أن تُفتن أمه، فيقصر الصلاة مراعاة لهذه المرأة، والتي كان الأفضل في حقها أن تشهد الصلاة في بيتها كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف بأولئك الذين أوجب الله عز وجل عليهم صلاة الجماعة؟ أحياناً قد يجفو بعض الأئمة الخلق مع الناس فيتسبب في فتنة الناس وصدهم عن أداء الصلاة مع الجماعة والتي هي في حقهم واجبة يأثمون لو تركوها.(8/21)
الاهتمام بالناس
ومن خلقه صلى الله عليه وسلم اهتمامه بالناس.
وهو أيضاً خلق عجيب! وقد دونت بعضاً مما رأيته في سنة النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت أن الأمر يطول حينما أردت أن أجمع شيئاً مما يدل على اهتمامه صلى الله عليه وسلم بالناس ورعايته لهم، ومن ذلك مثلاً ما يرويه عثمان رضي الله عنه يقول: (إنا والله قد صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر، وكان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير، وإن أناساً يعلموني به عسى ألا يكون أحدهم رآه قط) رواه الإمام أحمد.
وهاهو النبي صلى الله عليه وسلم حين ماتت امرأة تقم المسجد، فحقّر الناس شأنها وصلوا عليها ودفنوها بليل، فقال صلى الله عليه وسلم: (هلا آذنتموني) فيذهب صلى الله عليه وسلم فيصلي على قبرها.
وحين يمرض أعرابي يأتي النبي صلى الله عليه وسلم إليه فيعوده، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم له: (لا بأس، طهور إن شاء الله، فقال له الأعرابي: ماذا قلت؟ فأعاد النبي صلى الله عليه وسلم عليه، قال هذا الأعرابي: بل حُمى تفور على شيخ كبير تزيره القبور، فقال صلى الله عليه وسلم: نعم، فمات ذاك الرجل).
وحين مرض شاب غلام من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبه رمك أتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده وهو زيد بن أرقم رضي الله عنه الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم راوياً له ما قاله عبد الله بن أبي فقال له صلى الله عليه وسلم: (قد وفت أذنك يا غلام).
إنه صلى الله عليه وسلم لا يستنكف ولا يستكبر أن يعود هذا الغلام.
إنه صلى الله عليه وسلم يهتم بشأن خاصة أصحابه ويعتني بهم، ويهتم بشأن الأعراب، ويهتم بشأن الصبيان، ويهتم بشأن القريب والبعيد، بل يبلغ هذا الأمر عند النبي صلى الله عليه وسلم شأناً عجيباً، (كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً فدخل أبو بكر فلم يعدّل جلسته، ثم دخل عمر رضي الله عنه فكان كذلك، فلما دخل عثمان تهيأ صلى الله عليه وسلم، وعدّل جلسته، فقيل له في ذلك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إن عثمان رجل حيي فإني أخشى أن يراني على هذا فلا يبلغ حاجته).
انظروا إلى هذا القدر من رعايته واهتمامه صلى الله عليه وسلم بأمر الناس: تأتي امرأة في عقلها شيء فتأخذ بيده صلى الله عليه وسلم، فينطلق معها صلى الله عليه وسلم وتحدثه بحاجتها، وتأتي بريرة وقصتها مشهورة، وهي أمة فحين عتُقت كانت ذات زوج، فحين حدثها صلى الله عليه وسلم فقال لها: (ارجعي إلى زوجكِ قالت له: أنت شافع أم آمر؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: بل شافع، فتقول: لا حاجة لي فيه).
يهتم النبي صلى الله عليه وسلم بأمر العبد وهو الذي يقود الأمة، ويواجه اليهود ويواجه غطفان، ويواجه قريشاً، ويواجه المنافقين، والأعراب من هنا وهناك، ويقضي بين الناس ويفتيهم ويعالج شئونهم وتعليمهم.
وفي الواقع أنك لو أردت أن تستكثر من هذه الشواهد لشعرت أن المقام يضيق بك، اقرأ سيرته صلى الله عليه وسلم وسنته، وانظر كيف كان صلى الله عليه وسلم يهتم بالناس ويعتني بهم، ولا شك أيها الإخوة أن هذا مما يؤثر على الناس، ويجعل الرجل يملك قلوبهم، فما أحوج طلبة العلم، وما أحوج الذين يتصدون للدعوة إلى الله تبارك وتعالى وإلى تعليم الناس أن يعتنوا بشأن الناس، والعناية بشأن الناس ولو بكلمة طيبة، أو اعتذار لطيف، أو حسن استقبال قد يكفي ويخلق من المودة في قلوب الناس الكثير الكثير، بل والمرء يفعل ذلك تديناً وحسن خلق قبل أن يفعله لأجل أن يكسب مودة الناس.
أشعر أيها الإخوة أن الحديث يطول، ولهذا أكتفي بهذا القدر، وأقتصر على هذه النقاط، وإن كانت هناك بعض النقاط التي دوّنتها وأردت الحديث حولها، لنترك بعض الوقت للإجابة على أسئلة الإخوة.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يهدينا لأحسن الأخلاق فلا يهدي لأحسنها إلا هو تبارك وتعالى، وأن يصرف عنا سيئها إنه تبارك وتعالى سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(8/22)
الأسئلة(8/23)
توضيح اللبس في الاقتداء بالخلق النبوي
السؤال
ذكرت في معرض كلامك أو أنا فهمت ذلك أننا لن نستطيع أن نبلغ ما بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم بأخلاقه ولا صحابته بقولك: عزاؤنا أن الصحابة لم يبلغوا ما بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم، أليس كلامك هذا فيه تثبيط للهمم؟ الرجاء توضيح ما التبس، كي يرتد إلينا النفس، ونكون كما كان أنس.
الجواب
لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم له منزلة ليست كسائر الناس، ولأصحابه منزلة ليست أيضاً لمن دونهم، لكن هذا لا يعني أن لا نتأسى بهم! ولو طبّقنا هذا لأبطلنا مبدأ التأسي أصلاً في العبادة وفي الهدي وفي كل الأبواب والمجالات لأننا لا نبلغ منزلة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يتصور أحد أبداً أن يبلغ منزلته صلى الله عليه وسلم، لكن كوننا لا نستطيع أن نبلغ منزلته لا يعني أن نلغي جانب التأسي.
وهنا شاهد سريع يشير إلى هذا المبدأ: أبو هريرة رضي الله عنه لما كان يذكر شدة جوعه وما يعانيه يقول: (كنت أخر عند المنبر من شدة الجوع فيأتي الرجل فيقرأ عليّ آية من القرآن يظن أن بي مساً وما بي إلا الجوع) يقول: (بلغ بي الجوع فلقيت أبا بكر رضي الله عنه فسألته عن آية من كتاب الله، ما أسأله إلا ليطعمني فأجابني ثم انصرف، ثم لقيت عمر رضي الله عنه فسألته فأجابني ثم انصرف، ثم لقيت النبي صلى الله عليه وسلم فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: انطلق) من مِن الناس مثل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؟ ومع ذلك خفي عليهما أن يدركوا هذا المعنى، ولو أن أبا بكر رضي الله عنه أو عمر أدرك القصد الذي كان يقصده أبو هريرة رضي الله عنه لأطعمه ولا شك.
لكن هكذا الناس مراتب ومنازل ودرجات، والإنسان يسعى قدر الإمكان أن يجتهد ويتطلع لمثل هذا المثل الأعلى، لكن إذا قصرت هممنا وتطلعنا إلى المثل القريب لا نستطيع أن نبلغه، يعني لو وضع الإنسان أمامه قدوة من الناس القريبين منه وأراد أن يسعى إليه فهو قطعاً لن يصل إليه وسيكون دونه، لكن لو كانت قدوته النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فإنه يستطيع أن يصل إلى ما وصل إليه هذا الرجل الذي يراه أمامه ولا تقصر همته.(8/24)
الاعتذار عن مكارم الأخلاق بأن النبي لا يمكن أن يكون مثله أحد
السؤال
قد يعتذر كثير من الناس حينما يُدعى إلى مكارم الأخلاق والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى قد اختاره واصطفاه ولا يمكن أن أكون مثله، فما رأي فضيلتكم؟
الجواب
حينما نقول له: كن مثل النبي صلى الله عليه وسلم تماماً يقول ذلك، لكن حينما ندعوه إلى مكارم الأخلاق نقول: ليست مكارم الأخلاق درجة واحدة يقفز إليها الإنسان قفزة وإلا كان سيئ الخلق، بل هي درجات ومراتب، والله عز وجل أمرنا ورتّب على حسن الخلق الدرجة العالية، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن المؤمن يبلغ بحسن الخلق درجة الصائم القائم، وأنه صلى الله عليه وسلم كفيل ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه.
النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكر هذا الحث عبثاً، لو كانت الأمة غير قادرة على أن تتخلق بهذا الخلق الحسن لما خوطبت بذلك، ولما كلفت ذلك، والناس لم يكلفوا إلا بما يطيقون، ولم يخاطبوا إلا بما يستطيعون، فما دام النبي صلى الله عليه وسلم قد دعانا لذلك وأمرنا به فهذا يعني أننا نطيق ذلك.
من الشواهد على ذلك أننا اليوم نرى في كل مجال وميدان، ليس من التاريخ البعيد بل من الناس الذين نعيش أمامهم؛ نرى من نتمنى أن نكون على حسن خلقهم في أي باب وأي مجال من المجالات، وهؤلاء بشر مثلك.(8/25)
دور السلام في ترابط المسلمين
السؤال
مما لا يخفى عليكم دور السلام في ترابط المسلمين، ولكن ألا ترى أن السلام قد اندثر بين المسلمين، فإذا سلمت على أحدهم تعجب وقال: هل هو يعرفني؟ نرجو من فضيلتكم أن تلقي ضوءاً على ذلك؛ لأن له علاقة بهذا الموضوع؟
الجواب
النبي صلى الله عليه وسلم ربط السلام بالمحبة: (أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم).
ثم أيضاً: هناك السلام الذي يقع بمجرد الالتقاء، مثل لقاء إنسان لا تعرفه، وهذا أمر طبيعي، لكن أحياناً السلام فيه مزيد من الترحيب والابتسامة والتلقي ليجعل من تقابله يشعر بأنك قابلته بوجه طلق.
مثلاً: أحياناً تقابل شخصاً تعرفه فيسلم عليك، حينما ينصرف تقول بنفس الشيء، وما قال لك كلمة لكن طريقة سلامه وترحابه بك ورده للسلام والابتسامة لها أثر، فلا شك أن الاهتمام بهذه الجوانب مما يشيع المحبة والود والوئام بين المسلمين.(8/26)
آداب المزاح
السؤال
من المعروف أن المزاح من خلق النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن ما ضوابطه؟ وماذا تنصحون ممن يُكثر منه جزاكم الله خيراً؟
الجواب
كان النبي صلى الله عليه وسلم يمازح أصحابه، لكن من أهم ضوابطه أنه لا يقول إلا حقاً صلى الله عليه وسلم، فلا يكذب حينما يمزح صلى الله عليه وسلم، هذا أمر.
الأمر الثاني: أن لا يكون غالباً على الإنسان، والنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يمازح أصحابه كان يقول: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل) ويخبر صلى الله عليه وسلم أن كثرة الضحك تميت القلب.
وكذلك أن لا يطغى على الإنسان فيصبح شعاراً له، وأن لا يكون في مواطن الجد، فحين يكون المرء في موطن من مواطن الجد ينبغي له ألا يخلط ذلك بمزاح، ثم أيضاً ينبغي أن يحذر من أن يكون المزاح فيما يتعلق بالنصوص والأحكام الشرعية فهذا أمر خطير، بل قد يوقع الإنسان في الكفر عافانا الله وإياكم.(8/27)
التوفيق بين حسن الخلق وتهاون الناس بمن يحسن خلقه معهم
السؤال
هل ترى أن من حسن الخلق أن تكون هيناً ليناً، ولكن بعض الناس يذهب شخصيتك بالتهاون واللين، ويصفك بالجبن والضعف؟
الجواب
هناك فرق بين الضعف والهوان على الناس وبين التواضع، وحينما ندرس سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نجد أنه صلى الله عليه وسلم كان يلقى الصبيان ويداعبهم ويمازحهم، ويقضي حاجات الناس، ومع ذلك ما كان أحد يتجرأ عليه صلى الله عليه وسلم، بل كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يحسنون معاملته صلى الله عليه وسلم هذا جانب.
الجانب الثاني: إذا كنا نريد أن نبحث دائماً عن هالة وقيمة لنا عند الناس نفتعل لأنفسنا صورة فستسيطر علينا كثيراً، والقضية تبدأ من مراعاة هذه النظرة، حيث يقول إنسان: أريد أن أحتفظ بوقاري، فتتحول إلى هالة يفترضها الإنسان لنفسه، ويريد قدراً من الاحترام والتوقير، وقد تدخل به باباً من أبواب الكبر عافانا الله وإياكم، والاحترام والتقدير عند الناس ليس شيئاً يصطنعه الإنسان لنفسه، إنما هو شيء يفرضه الإنسان من خلال خلقه وما يقدمه للناس، ولئن كنت قد تخسر جوانب في تواضعك للناس فإنك ستكسب الكثير الكثير بحسن خلقك من تقدير الناس واحترامهم لك.(8/28)
تطبيق حسن الخلق
السؤال
نرجو الانتقال إلى توجيه الحضور إلى حثهم على تطبيق صفة حسن الخلق وتربية وتوجيه الأهل لذلك وفقكم الله.
الجواب
هذا جانب كنت أريد أن أتحدث عنه في آخر المحاضرة، وإن كان موضوعنا الإشارة إلى خلق النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذه القضية فعلاً يجب أن نعتني بها في تربيتنا من الصغر؛ لأن حسن الخلق ليس مجرد توجيهات تعطيها للناس! سيتمثلها الناس تلقائياً إنما تحتاج إلى مجاهدة، نعم، منها جانب جُبل عليه الإنسان أصلاً، لكن منها جانب يحتاج إلى تربية وإلى تعود وإلى تلق، فنشيع في المنزل والبيت الخلق والاحترام، يعني إذا كان الأب مثلاً لا يقدر ابنه، وتلفظ عليه بألفاظ نابية ولا يحترمه ولا يقدره، فكيف نريد أن نوجد عند هذا الابن الخلق الحسن؟ قد يكون عنده خضوع لوالده، وتقدير واحترام لكنه مشوب بالرهبة والخوف، فحينما يتعامل مع الآخرين لا يحسن خلقه.
حينما يتلفظ الأب على ولده بألفاظ ساقطة، لا بد أن يتلقى الابن من الأب مثل هذه الألفاظ، وإن لم يقلها لولده فسيقولها لغيره من الناس.
إذا كنا نريد أن نعود الابن الحلم والصبر والأناة يجب أن يشعر أننا نحلم في التعامل مع الآخرين، هنا ينشأ الابن من الصغر على مثل هذا الخلق في كل مجال، أعني على خلق الصبر والرحمة، والمنطق الحسن، والجود والسخاء والكرم وغيرها من الأخلاق التي نريدها.
ننتقل إلى المدرسة، فحينما يعامل الطالب بفظاظة وغلظة وقسوة من الأستاذ أو من المسئول عن توجيهه، أو حينما يعامل بصورة أو أخرى بخلق سيئ فلا ننتظر منه إلا ذلك.
حينما يأتي إلى المسجد مثلاً ليحفظ القرآن في حلقة من حلقات القرآن فيجد سوء الخلق ممن يعلمه حفظ القرآن، أو حينما يأتي إلى مجلس من مجالس العلم فلا يجد ممن يعلمه مثلاً النموذج في حسن الخلق، بل يجد منه الإعراض، يجد منه الجفاء فإنه سيتعلم جانباً من ذلك فيجب أن نشيع ذلك في المنزل، في المدرسة، في كل أوساطنا، لا نتصور أبداً يا أخوة أننا يمكن من خلال الحديث والخطاب للناس نستطيع أن نبني ذلك، نعم نحن من خلال الحديث ننبه الناس على أهمية هذا الأمر، ننبه إلى أخطاء معينة، لكن أن نتصور أننا بمجرد التوجيه فقط سنصحح الأخطاء لدى الناس، وسنغرس عند الناس الخلق الحسن! فأظن أننا مخطئون في ذلك.(8/29)
كيفية اكتساب حسن الخلق
السؤال
ما رأيك فيمن يتصدر مقام التربية كالمدرس والأب وغيرهم، كيف يرسم منهجاً لنفسه يُعرف عنه بحسن الخلق، ويكون بذلك قدوة لغيره؟
الجواب
حسن سالخلق ليس درجة واحدة، فالإنسان بحاجة إلى أن يربي نفسه ويتعاهدها، فنحن بحاجة إلى أن نربي أنفسنا دائماً وأن نتعاهدها، ثم أن نستفيد ولو حتى ممن كان دوننا، وأن نستفيد من أخطائنا وهي نقطة مهمة وينبغي أن نستفيد منها، وأنا أذكر موقفاً حصل لي لا أشعر أنني استفدت مثل هذا الموقف امرأة أرسلت لي رسالة تستشيرني في مشكلة وأنا مشغول في دراسة منهجية، وقد لا يستطيع الإنسان أحياناً أن يجد وقتاً مناسباً للرد على الرسالة، فكتبت للرد على الرسالة وأرسلتها لكن وصلت رسالة منها قبل أن تصل إليها الرسالة، وكانت رسالة عتاب قاسية فعلاً، أنا صراحة عندما تلقيتها شعرت بالخطأ، لكن بعدها فكّرت فعلاً وشعرت أنني كنت وقعت في هذا الخطأ، تستشيرني في مشكلة تخصها، أنا لربما كانت المشكلة عندي ليست ذات بال، لكنها قالت لي في مقدمة الرسالة: أنك لو كنت حاخاماً يهودياً أو قساً نصرانياً واستشرتك في لون ملابسي والطعام المفضل لأشرت عليّ بمباركة الرب كما يقول هؤلاء! لكنني حينما أستشير طالب علم تعلمنا في الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم تأخذ بيده الأمة حيث شاءت وأستشيرك بقضية تهم مستقبل حياتي تنصرف عني، أظن أن هذا ليس من خلق الإسلام! ثم تقول: أتمنى أن تجد وقتاً لمواصلة أبحاثك واهتماماتك وأن لا أكون قد شغلتك برسالتي هذه يعني بشر أول ما يجد مثل هذا الموقف قد يأخذه حظ النفس ويشعر، لكن بعد فترة فكّرت وشعرت أن مشكلتنا أحياناً أننا ننظر إلى مشكلات الناس وقضاياهم كما ننظر إليها نحن، لا كما ينظر إليها هؤلاء! الرسول صلى الله عليه وسلم حينما كانت تأتيه امرأة في عقلها شيء وتحدثه فيستمع إليها، أقول: فعلاً يجب أن نستفيد من أخطائنا، وسنبقى دائماً نجد أخطاء، ونواجه أنفسنا بصراحة، قد لا نحتاج أحياناً أن نعترف ونواجه الناس بأخطائنا، لكني أتصور أن الاستفادة من الأخطاء التي نقع فيها من أهم الجوانب التي تعيننا على تجاوز السلبيات التي سنقع فيها، فإذا كنت أنت إنساناً سريع الغضب، وغضبت في موقف من المواقف وشعرت أنها ذهبت إلى ما لا تحمد عقباه ستبدأ بعد فترة تحسب حسابك، وكذلك مرة أخرى حتى تشعر أنك قد أصبحت تمسك بلجام نفسك، وقل مثل ذلك في أي خُلق سيئ ترى أنك قد اتصفت به.(8/30)
تأثر الأبناء بمخالطة أقاربهم
السؤال
من الأسباب التي تفسد أخلاق الأبناء والشباب والفتيات عدم اهتمام الآباء في مخالطة أبنائهم وبناتهم من الأقارب حتى وإن كان خلقهم سيئاً، فما داموا أقارب فلا يهتم بأخلاقهم وسلوكهم، أرجو التنبيه على هذه النقطة؟
الجواب
المشكلة أحياناً أن بعض الآباء ينظر إلى الابن من خلال والده، فعندما يصاحب ولده ولداً آخر يسأل الوالد عن هذا الولد فيقال: ابن فلان، فيرتاح لذلك نظراً إلى أن أب الولد رجل صالح، وهذا لا يكفي، أليس نوح عليه السلام كان له ابن كافر أغرقه الله عز وجل؟ إذا نظر أحد إلى ابن نوح على أنه ابن نوح وابن رسول الله، وابن واحد من أولي العزم سينظر له لا شك نظرة خاطئة، وكم يرتكب هذا الخطأ في موضوع الزواج، وذلك عندما يتقدم شخص إلى الخطبة، فيقال هو ابن فلان أو العائلة الفلانية وهي عائلة معروفة بالخير والاستقامة والصلاح، فسلا يسأل عنه هو، وكأن هذا الأب سيزوج عائلته أو سيزوج والده، وهذه من الأخطاء التي نقع فيها.
الذين نختارهم لصحبة أبنائنا أو صحبة بناتنا يجب أن نسأل عنهم هم، ونعرف أحوالهم هم لا أن نعرف أحوال آبائهم، وقد يكون الأب صالحاً وخيّراً لكن ما استطاع إصلاحه، وإنك لا تهدي من أحببت، أو قد يكون صالحاً وخيّراً لكن لم يحسن التربية، فليس بالضرورة أنه حينما يكون الأب صالحاً سيكون الابن صالحاً، وإن كان في حالات كثيرة لا شك أنه يترك أثره على أولاده.(8/31)
الكتب التي تتحدث عن الأخلاق
السؤال
حبذا لو أحلتنا إلى بعض الكتب المناسبة التي تتحدث عن الأخلاق؟
الجواب
اقرأ أي كتاب في السنة، اقرأ في أبواب الطهارة وفي أبواب الصلاة، مثلاً عندما تأتي إلى أبواب الصلاة تجد باب الحركة في الصلاة، تجد النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يصلي ويحمل أمامة فإذا سجد وضعها) هذا جانب من خُلق النبي صلى الله عليه وسلم؛ (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجاء أحد أطفاله يتعثر فنزل ثم أخذه معه ثم عاد إلى خطبته وقال: إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين طائفتين).
(لما كان صلى الله عليه وسلم يخطب جاء رجل فقال: يا رسول الله، رجل غريب جاء يسأل عن دينه، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بكرسي من حديد فجلس النبي صلى الله عليه وسلم، ثم علّمه ثم صعد إلى المنبر).
اقرأ في الحج مثلاً: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجاءه رجل فقال: اكتبوا لي، فقال صلى الله عليه وسلم: اكتبوا لـ أبي شاه).
هناك مواقف في الحج، في الصيام في أي باب من أبواب السنة اقرأ وتمعن، فستجد خلق النبي صلى الله عليه وسلم في كل موطن ليس قاصراً على أبواب الأخلاق والآداب، أما أبواب الأخلاق والآداب فهي مليئة، وقد صنّف العلماء في ذلك كتباً كثيرة من أهمها كتاب الشمائل المحمدية للإمام الترمذي.
نسأل الله تبارك وتعالى كما جمعنا في هذا المقام الكريم المبارك أن يجمعنا في دار كرامته في مقعد صدق عند مليك مقتدر إنه سميع مجيب.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف سيئها إلا أنت.
هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(8/32)
حتى يغيروا ما بأنفسهم
إن الله تعالى وضع لهذه الحياة قوانين ونواميس وسنناً تسير وفقها، ومن أراد أن يفهم أمور الحياة وكيف تسير وكيف تصلح فلابد له من معرفة ودراسة هذه النواميس والتعرف عليها؛ ليسهل عليه فهم خفايا هذه الحياة، والتعرف على سبب الخلل، ومعرفة كيفية الإصلاح.(9/1)
حاجة المسلمين إلى التعرف على سنن الله في الكون والمجتمعات
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد: ففي هذه الليلة المباركة ليلة الجمعة الثالث من شهر جمادى الثانية عام 1416 للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، يتم هذا اللقاء المبارك في هذا الجامع -جامع التنعيم- وعنوان حديثنا لهذه الليلة كما سمعتم: حتى يغيروا ما بأنفسهم، وهو حديث حول سنة من سنن الله تبارك وتعالى في الكون والمجتمعات، سنة أحوج ما يكون المسلمون إليها في هذا العصر وهم يتطلعون للتغيير والإصلاح، إنك لو طرحت هذا السؤال على أي فرد من المسلمين أياً كانت ثقافته، وأياً كان مستوى تدينه، وأياً كانت قيمة الدين لديه: هل ترى أن واقع المسلمين اليوم واقع شرعي يرضي الله تبارك وتعالى؟ لو طرحت هذا السؤال لأجابك الجميع بالنفي، والجميع أياً كانوا ينتظرون ويتطلعون إلى التغيير، لكن هل يدرك المسلمون وهل يعي المسلمون وهم يعيشون في هذه المرحلة التي لم يعد هناك خلاف بين من يملك قدراً من الجدية من المسلمين حول أن التغيير أصبح ضرورة، وأن هذا الواقع الذي تعيشه الأمة ليس هو الواقع الشرعي، هل يدركون وهم كذلك سنن الله تبارك وتعالى في التغيير؟ وهل يدركون كيف يتم التغيير؟ إن هذه السنة من سنن الله تبارك وتعالى واحدة في الكون والمجتمعات، وهذا يدعونا إلى أن نتحدث بمقدمة ربما تطول حول هذه السنن الكونية التي جاء الحديث عنها في كتاب الله وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، بل والقرآن مليء بالحديث عن هذه السنن كما سيتضح بعد قليل؛ حتى تتضح لنا قيمة هذه السنن، وحاجة المسلمين إلى مدارستها والعناية بها والأخذ بها وهم يتطلعون للتغيير، وهم يتطلعون لإصلاح هذا الواقع الفاسد.
إن لله تبارك وتعالى سنناً تحكم هذا الكون، وتحكم حركة التاريخ، هذه السنن تجعل المسلمين المستضيئين بنور الله تبارك وتعالى يفهمون الأحداث فهماً سليماً دقيقاً؛ لأنهم يطبقون هذه السنن التي جاءت في كتاب الله تبارك وتعالى، والتي جاءت عن الله تبارك وتعالى الذي أمور الكون والخلق بيده عز وجل، إن هذه السنن تجعل الناس يفهمون الأحداث فهماً سليماً، وتجعلهم أيضاً يتنبئون ويتوقعون حصول الأحداث من خلال المقدمات التي يعلمونها ويدركونها، وهي أيضاً تمثل أداة لهم في سيرهم في هذه الحياة.
إذاً فهذه السنن تؤدي هذه الأدوار الهامة في حياة المسلمين، فتعين على فهم الأحداث، وتعين على التنبؤ وتوقع ما لم يحصل منها بعد من خلال مقدماتها كما سيتضح بعد قليل، وهي أيضاً تمثل منارة وقاعدة يسير عليها المسلمون في حياتهم.(9/2)
الأدلة على اعتبار هذه السنن من الكتاب والسنة
إن الحديث عن سنن الله تبارك وتعالى في الأنفس والمجتمعات والآفاق حديث يطول كثيراً في كتاب الله تبارك وتعالى، ولو أردنا أن نستقصي في هذا الوقت الآيات التي جاء فيها الحديث عن هذه السنن لضاق بنا المقام، لكني أشير إشارات ربما تطول قليلاً حتى تدركوا أهمية هذه السنن، وحاجة الناس إليها، ولهذا كررت كثيراً في كتاب الله تبارك وتعالى.(9/3)
ورود قصص القرآن بذكر هذه السنن دليل على أن هناك سنناً تحكم الكون
إن أول أمر يدل على ذلك: إيراد القصص في القرآن، فإيراد قصص السابقين دليل على أن هناك سنناً تحكم حياة الناس وتحكم سيرهم في حياتهم، سواء أكانوا أفراداً أو مجتمعات، إن القرآن الكريم مليء بقصص السابقين والأولين، والله تبارك وتعالى يقول: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} [يوسف:3]، ويقول: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} [يوسف:111].
ولعلنا نتساءل: لماذا تورد هذه القصص؟ ولماذا يكثر الحديث في القرآن حول قصص السابقين والغابرين أليس للاعتبار والاتعاظ؟ بلى، وإذا لم تكن هناك سنن ولم تكن هناك قواعد تحكم حياة المجتمعات فكيف يتعظ الناس؟ وكيف يتعظ الناس بقصة حصلت في سالف الأزمان وماضي الدهور إلا إذا كان ذلك يسير وفق سنن، فيقيسون حياتهم على حياة أولئك، ويعلمون أنهم إن سلكوا طريقهم فسيصيبهم ما أصابهم، وأنهم إن بذلوا جهدهم فسيحصلون ما حصل أولئك.
إن إيراد القصص للاعتبار والاتعاظ دليل كما قلنا على أن هناك سنناً ثابتة لا تتغير تحكم حياة الناس في هذه الدار.
ما قيمة أن يعلم الإنسان أن قوماً من الأقوام كذبوا فأهلكوا؟ أو أن قوماً من الأقوام آمنوا فأنجوا؟ ما قيمة أن يعلم ذلك إلا إذا كانت قاعدة مطردة فيقيس حاله على حالهم، ويكفي إيراد هذه القصص الكثيرة في كتاب الله تبارك وتعالى على بيان سنن الله عز وجل في الآفاق والأنفس، وأيضاً يأتي التعليق على هذه القصص بالأمر بالاتعاظ والاعتبار، فبعد سياق كثير من هذه القصص يأتي الأمر بالاتعاظ والاعتبار بما أصاب أولئك، يقول تبارك وتعالى عن أولئك الذين أتوا جريمة من الجرائم وفاحشة من الفواحش، فكانوا يأتون الذكران من العالمين ويذرون ما خلق لهم ربهم من أزواجهم، يقول تبارك وتعالى واصفاً تلك العقوبة التي حلت بهم، والتي تليق بتلك الجريمة البشعة: {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83].
إذاً فلئن سلك قوم سبيل قوم لوط فهم معرضون لأن يصيبهم ما أصاب قوم لوط، {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83]، ويقول تبارك وتعالى في شأن طائفة من أهل الكتاب حين تكبروا وأعرضوا عن الإيمان بالله، وخانوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهم في ذلك القدح المعلى في نقض عهودهم مع الله ومع أنبيائهم قبل، يقول تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2].
إذاً فلو فعلتم ما فعل أولئك فيصيبكم ما أصابهم، فهذه سنة من سنن الله تبارك وتعالى: أن من فعل كما فعل أولئك فسيصيبه ما أصابهم، لذا فعليه أن يعتبر ويتعظ، وفي سورة الشعراء يقول تبارك وتعالى تعقيباً على كل موقف من مواقف الأنبياء مع أقوامهم، وتكذيبهم ثم حلول العذاب بهم: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9]، ويقول تبارك وتعالى أيضاً في آية تتكرر في أكثر من موضع تعقيباً على هذه المواطن في سورة القمر: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر:15 - 16] إلى غيرها من الآيات التي يعقب الله تبارك وتعالى فيها على شأن أولئك، ويأمر عباده بأن يتعظوا بمواقفهم، والتعقيب والأمر بالاتعاظ والاعتبار ليس خاصاً بمواقف العذاب والجزاء بالعقوبة وحدها، بل نراه أيضاً في مواقف الخير والإنعام من الله تبارك وتعالى على عباده، كما قال تبارك وتعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87 - 88].
فمن كان كمثل ذي النون عليه السلام في صدق لجوئه وتسبيحه لله تبارك وتعالى، فكما نجاه الله عز وجل فكذلك ينجي تبارك وتعالى عباده المؤمنين، وأيضاً يقول تبارك وتعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِ(9/4)
الإشارة في كتاب الله إلى طائفة من السنن التي تحكم حياة الناس
الأمر الخامس: يأتي في كتاب الله تبارك وتعالى الإشارة إلى طائفة من هذه السنن التي تحكم حياة الناس في تاريخهم ومجتمعاتهم، فيخبر الله تبارك وتعالى أنه حين يطغى المسرفون، ويعلنون فسقهم وفجورهم فإن هذا إيذان بحلول الهلاك والتدمير للقرية أياً كانت هذه القرية، {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16].
وتبقى هذه الآية نذيراً يلوح في الأفق أمام المؤمنين الذين ينظرون بنور الله، فيتنبئون ويتوقعون أن يحصل الهلاك والبوار لأولئك أو لهؤلاء؛ لأنهم قد فسقوا وأعلنوا فسقهم وفجورهم، وحين قالوا ذلك ليس لأنهم يعلمون الغيب، وليسوا يقرءون ما وراء الأحداث، ولكنهم يعلمون ذلك من خلال معرفتهم بسنن الله تبارك وتعالى.
وأيضاً يخبر تبارك وتعالى أن هناك سنة للمكذبين المتجبرين لا تتخلف، سنة لأولئك المعرضين عن نور الله تبارك وتعالى، المعرضين عن دعوة الله عز وجل، المستكبرين عن الإيمان بالله تبارك وتعالى، وهي: أن هؤلاء يجابهون ويواجهون من يدعوهم إلى الإيمان والصلاح والتقوى لله تبارك وتعالى يجابهونه بالتكذيب والإعراض والسخرية والاستهزاء، يقول تبارك وتعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت:43] على أحد القولين في تفسير هذه الآية، ويقول تبارك وتعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:52 - 53].
وكأن هؤلاء لاتفاقهم على هذه المقولة كأنهم قد تواصوا على هذه المقولة واتفقوا عليها، لكنها سنة الله تبارك وتعالى في المصلحين مع أقوامهم: أن يواجههم أقوامهم المكذبون بالتكذيب والإعراض والسخرية والاستهزاء، واتهامهم بما ليس فيهم.
ويخبر تبارك وتعالى متوعداً متهدداً أولئك الذين نجم نفاقهم؛ أهل الإرجاف والنفاق: أنهم إن لم يئوبوا إلى رشدهم ويتوبوا إلى الله تبارك وتعالى فإنه ستحل عليهم سنة الله في السابقين، يقول تبارك وتعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:60 - 62].
إنها سنة الله التي لا تتخلف، سنة الله التي لا تتغير: أن يحل بهؤلاء المنافقين وبهؤلاء المرجفين عذاب الله تبارك وتعالى إن لم يئوبوا إلى رشدهم، ويتوبوا إلى الله تبارك وتعالى.
وأيضاً يخبر تبارك وتعالى عن سنة من سننه عز وجل فيقول: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:42 - 43]، ويقول تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الحجر:10 - 11]، ثم يقول تبارك وتعالى: {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [الحجر:13]، ويقول عز وجل مخبراً أنه لو تمالأ أهل الكفر على قتال المؤمنين فإن الله تبارك وتعالى سيحل بهم الهزيمة ويولي هؤلاء الأدبار {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح:22 - 23]، سنة الله أنه حين يتمالأ ويجتمع أعداء الله على عباده المؤمنين أن تحل بهم الهزيمة، وأن يولي هؤلاء الأدبار، ثم يؤكد تبارك وتعالى أن هذه السنة لن تتبدل ولن تتغير.
ويقول تبارك وتعالى أيضاً مخبراً عن حال هؤلاء وأنهم يؤمنون حين يرون العذاب: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غاف(9/5)
الأدلة على ذلك من السنة
ويشير النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أحاديثه إلى شيء من هذه السنن، يقول صلى الله عليه وسلم في قصة قدوم أبي عبيدة بمال من البحرين: (فوالله ما الفقر أخشى عليكم! ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم).
فهي سنة لا تتخلف: أنه حين يتنافس الناس في الدنيا، ويتنافسون في الدينار والدرهم كما تنافس الذين من قبلهم أن تهلكهم كما أهلكت من كان قبلهم.
ونظر صلى الله عليه وسلم إلى السماء فقال: (هذا أوان يختلس العلم، فقال زياد بن لبيد رضي الله عنه: كيف يفقد العلم ويرفع العلم وقد قرأنا القرآن وأقرأناه أبناءنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إن كنت لأظنك من أفقه أهل المدينة! هذه الكتب عند أهل الكتاب أو اليهود والنصارى فلم تغن عنهم شيئاً)، فالسنة التي حقت على أولئك قد تحق على هؤلاء.
وحين أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم حد الله على امرأة شريفة ذات مكانة: امرأة من بني مخزوم كانت تستعير المتاع فتجحده، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع يدها، فشعر بنو مخزوم وشعرت قريش أن هذا فيه إهانة لشرف هذه القبيلة ذات المنزلة العالية، فأردوا أن يستشفعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يخفف عنها الحد، ويسقط عنها هذه العقوبة، فقالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة رضي الله عنه حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه، فكلموا أسامة، فكلم أسامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغضب صلى الله عليه وسلم على أسامة وقال: (أتشفع في حد من حدود الله؟!)، فالنبي صلى الله عليه وسلم عالج هذه القضية الخطيرة، والتي إن بدت في الأمة فهي نذير هلاك، أي: إن بدت فيهم المحاباة في أحكام الله تبارك وتعالى فهي نذير عقوبة وهلاك.
فلم يكتف صلى الله عليه وسلم بهذا الرد على أسامة، ولم يكتف بإقامة الحد على هذه المرأة، بل صعد المنبر صلى الله عليه وسلم وقال: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)، إذاً فقد كان السابقون يحابون في الحدود، وكانوا يقيمون أحكام الله على الضعفاء، وعلى أهل الوضاعة وأهل المنزلة التي ليس لها قيمة ومكانة عند الناس، وأما الشرفاء وأما أهل الشأن وعلية القوم فلهم شأن آخر، ولهم موقف آخر.
ولهذا توعد صلى الله عليه وسلم أنكم إن فعلتم كما فعل من كان قبلكم فسوف تهلكون كما هلك من كان قبلكم، إذاً هذه المادة أيضاً من الحديث هي عن السنن الكونية في سنة النبي صلى الله عليه وسلم.(9/6)
استفادة الناس من السنن المادية حينما اكتشفوها ووظفوها
إن لله تبارك وتعالى سنناً تحكم هذا الكون، وتحكم حركة التاريخ، وتحكم دنيا الناس، وهي سنن لا تتغير ولا تتبدل: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:62]، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43]، كما أن لله عز وجل سنناً تحكم عالم المادة ودنيا الناس، وحين اكتشف الناس السنن المادية أو ما يسميه العلم المعاصر بقوانين الطبيعة؛ حين اكتشفوا هذه السنن وهذه القوانين استطاعوا أن يستفيدوا منها، وأن يوظفوا هذه القوانين وهذه السنن توظيفاً في خدمة الناس في أمور دنياهم، فمن ذلك مثلاً: قانون الجاذبية، وهي قضية يراها كل الناس ولا يجهدون أنفسهم في التفكير فيها، ولا يجهدون أنفسهم في تفسير هذا الموقف الذي يرونه والذي لا يتغير ولا يتبدل.
وحين اكتشف العلم المعاصر هذا القانون استطاع أن يوظف هذا القانون وأن يستثمره، فيعبر القارات، ويعبر الفضاء من خلال السيطرة على هذا القانون، وحين يكتشف العلم المعاصر المواد التي تقبل الاحتراق والتي لا تقبل الاحتراق فإنه يوظف هذه السنة في تحقيق مقصد الناس ومصالحهم في أمور دنياهم، ولهذا نرى النبي صلى الله عليه وسلم يربط بين القضيتين: يربط بين السنن الكونية وبين السنن المادية، بين السنن التي تحكم حياة المجتمعات ودنيا الناس وبين السنن التي تحكم عالم المادة، ومن ذلك مثلاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فكان بعضهم أسفلها وكان بعضهم أعلاها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً فلم نؤذِ من فوقنا، فإن تركوهم وما أردوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً).
إن النبي صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن سنة من سنن الله تبارك وتعالى في المجتمعات، وعن سنة من سنن الله عز وجل في التاريخ وهي: أنه حين يقع الناس في المعاصي، ويتجرءون على حدود الله فإنه سيهلك المجتمع بمن فيه، ثم يربط النبي صلى الله عليه وسلم هذه السنة وهذا القانون بقانون يراه الناس في عالم المادة: فحين تخرق السفينة التي تسير على البحر فإن هذا إيذان بأن يلج إليها الماء فتمتلئ فتغرق بمن فيها ولو كان فيها طائفة لم يكن لهم دور في خرق هذه السفينة.
وأيضاً يذكر لنا صلى الله عليه وسلم سنة أخرى من السنن المادية التي يراها الناس، فيربطها بسنة من سنن الله في المجتمعات، يقول صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).
إذاً ما موقف الناس وما دور الناس وما دور العلم المعاصر في التعامل مع سنن الله في عالم المادة أو ما يسمونه بقوانين الطبيعة، ما دورهم في التعامل معها؟ أترى الناس مثلاً: يستسلمون لهذه السنن وهذه القوانين أم أنهم يحرصون قدر الإمكان على اكتشافها وتفسيرها، ثم محاولة توظيفها واستثمارها والتعامل معها؟ إن هذا هو دأب الناس، وكم استفاد العلم المعاصر من ذلك، وثورة العلم المعاصر إنما قامت على استثمار هذه السنن الثابتة التي تحكم الناس في أمور معاشهم وفي دنياهم، ولكن هل نحن نصنع ذلك في تطلعنا للتغيير الاجتماعي؟ وهل نحن نصنع ذلك في قراءتنا للتاريخ الماضي وفهمنا للتاريخ الحاضر؟ وهل نحن نتعامل مع ذلك كما نتعامل مع السنن في عالم المادة؟ وكتابنا الذي لا ينطق عن الهوى مليء بالإشارة إلى هذه السنن، والحديث عن هذه السنن، ولم نكلف عبئاً في محاولة اكتشافها ودراستها.(9/7)
موقفنا من السنن المادية(9/8)
السعي لاكتشافها
إذاً فما موقفنا من هذه السنن؟ الموقف الأول: هو السعي لاكتشافها، السعي من خلال قراءة ما حكاه الله تبارك وتعالى لنا من قصص السابقين والأولين قراءة يحكمنا فيها قوله تبارك وتعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2]، ونسعى من خلال ذلك إلى أن نكتشف السنن التي تحكم حياة المجتمعات وحياة التاريخ، وأن نقرأ تاريخ أمتنا وتاريخ الأمم الغابرة والماضية، بل أن نقرأ تاريخ الأمم المعاصرة ثم نتأمل ما فيه ونستنبط منه هذه السنن التي تحكم حركة الناس وحياة الناس، وهذا ما سعى إليه العلامة ابن خلدون رحمه الله في كتابه الرائع (مقدمة ابن خلدون) في محاولة اكتشاف سنن الله في الدول والمجتمعات، ومن قرأ فيه رأى فيه شيئاً كثيراً من ذلك.(9/9)
تفسير الأحداث من خلال هذه السنن
الأمر الثاني: تفسير الأحداث من خلال هذه السنن، فتحصل أحداث كثيرة تمر بالناس سواء ما يحصل للمسلمين في مجتمعاتهم، أو ما يحصل لمجتمعات أخرى معاصرة، فيرون ألواناً من الأحداث: من التمكين لأمة من الأمم، أو إهلاك أمة من الأمم، أو أمة يجعل الله تبارك وتعالى بأسها بينها، فهي أحداث تمر بالمؤمنين ومع ذلك يعجز الناس عن تفسيرها، ولو وعى الناس سنن الله تبارك وتعالى في التاريخ والمجتمعات وربطوها بهذا الواقع المعاصر الذي يعيشونه لاتضحت لهم الرؤية، ولأصبحوا يملكون رؤية واضحة تعينهم على تفسير هذه الأحداث، واكتشاف مغازيها.(9/10)
الرؤية المستقبلية للأحداث
الأمر الثالث: الرؤية المستقبلية للأحداث، أو التنبؤ بها من خلال أن يتوقع المسلمون ما سيحل بمجتمعاتهم، أو ما سيحل بالمجتمعات القريبة لهم، ألسنا قرأنا لكثير من المفكرين الإسلاميين وعلماء الإسلام في هذا العصر أنهم كانوا يتنبئون بسقوط الشيوعية ويتنبئون بانهيارها، فكيف استطاع هؤلاء أن يتنبئوا بذلك؟ أهم يعلمون الوحي؟ أهم يعلمون الغيب ويدركون ما وراء السطور؟ أبداً، إنهم علموا ذلك من خلال هذه السنن.
ولهذا حين ولى الفرس عليهم امرأة قال صلى الله عليه وسلم: (لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)، فأدرك صلى الله عليه وسلم من هذه السنة التي علمها صلى الله عليه وسلم -وهو لا ينطق عن الوحي- أن هذه أمارة ودليل على زوال الفلاح عن هؤلاء؛ لأنهم ولوا أمرهم امرأة، ومن ولى أمره امرأة فإن هذا إيذان بزوال الفلاح عنهم.(9/11)
استثمار هذه السنن والاستفادة منها
الأمر الرابع: أن نستثمر هذه السنن، وأن نستفيد منها ونحن نتطلع للتغيير في مجتمعاتنا، ونحن نسعى إلى عالم أفضل، فننطلق من خلال إدراكنا لهذه السنن.
إننا نقرأ في كتاب الله تبارك وتعالى ونقرأ في التاريخ عوامل نهضة الأمم وعوامل رقيها، فنحن إذاً حين نتطلع للنهضة والرقي علينا أن نسلك هذه العوامل، ونأخذ بهذه الأسباب، ونقرأ عوامل الانحطاط والانهيار وحلول العذاب والبوار.
ونحن إذ نحرص على حماية أنفسنا من عذاب الله تبارك وتعالى فيجدر بنا أن نجتنب هذه الأسباب، وأن نحذر بني قومنا منها.
أليس جديراً بنا إذاً ونحن نتطلع للتغيير، ونحن نطلع للإصلاح، ونحن نسعى إلى التغيير في مجتمعات المسلمين أليس جدير بنا أن نتأمل هذه السنن، وأن نعيها، وأن ننزلها على واقعنا، وأن نسعى من خلال التعامل معها إلى التغيير في واقعنا ومجتمعاتنا؟ وهذا يضيف علينا عبئاً كبيراً، وهذا يجعلنا ندرك أن المسئولية وأن واجب الإصلاح والتغيير لا يقف عند مجرد الجهود المرتجلة، وعند مجرد أعمال مبعثرة هنا وهناك، بل حركة الإصلاح والتغيير في مجتمعات المسلمين تحتاج إلى دراسة متأنية، وتحتاج إلى بحث عن سنن التغيير والسعي إليها.
ولهذا نقف في نهاية هذا الحديث حول سنة من هذه السنن بعد أن عرفنا من خلال هذا الاستعراض أهمية السنن الكونية: أهميتها في تفسير مجرى الأحداث، وأهميتها في التنبؤ بها، وأهميتها في توظيفها واستثمارها للرقي بالأمم، ولتجنب عوامل الانحطاط، يقول تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، ويقول تبارك وتعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال:53].
وقد أشار صلى الله عليه وسلم في السنة النبوية إلى هذا المعنى، فيقول صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لن يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم)، ويقول صلى الله عليه وسلم أيضاً: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟! قال: أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من قلوب عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا، وكراهية الموت).
وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه ألا يهلك أمته بسنة بعامة، وسأل ربه ألا يجعل بأسهم بينهم، فمنعه الله تبارك وتعالى ذلك، قال: حتى يكون بعضهم يقتل بعضاً، ويسبي بعضاً.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (يا معشر المهاجرين! خصال خمس إن أدركتموهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا ابتلاهم الله بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا) , فهذه سنة تفسر لنا ما نراه الآن في العالم المعاصر، وتبقى نذير خطر لأولئك الذين يسعون إلى إغراق مجتمعات المسلمين بالفساد والإباحية، (وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم، وما نقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالمؤنة وجور السلطان، وما منعوا زكاة أموالهم إلا حبسوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا).
إنها سنن كونية نراها الآن حاضرة في المجتمعات المعاصرة التي ابتلاها الله تبارك وتعالى بهذه العقوبات بما كسبت أنفسهم، إن هذا أيضاً مصداق لقوله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، وهو أيضاً مصداق لقوله تبارك وتعالى: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30]، وهو حديث يكثر في القرآن الكريم، بل إن قراءة قصص الأولين والغابرين في كتاب الله تبارك وتعالى تؤيد هذا المعنى وتشهد له، فالله تبارك وتعالى لم يكن مغيراً نعمة أنعمها على قوم إلا وقد غيروا ما بأنفسهم، ولم يكن تبارك وتعالى مغيراً سوءاً حل بقوم إلا وقد غيروا ما بأنفسهم.(9/12)
نتائج الاهتمام بالسنن المادية(9/13)
نحن مسئولون عن هذا الواقع الذي وصلنا إليه
إن هذه السنن معشر الإخوة الكرام! تعطينا نتائج مهمة جدير بنا أن نتأملها وأن نعيها ونحن نتطلع للإصلاح والتغيير: النتيجة الأولى: أننا نحن المسئولون عن هذا الواقع، وأن الأمة إنما أوتيت من داخلها، فليس الكيد الخارجي والتآمر، وليس فلان أو فلان هم المسئولون عما حل بالأمة، بل نحن المسئولون عما حل بنا، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال:53]، فالحال التي وصلنا إليها والواقع المر الذي نعانيه ونعيشه الآن إنما هو نتيجة للتغيير الذي غيرناه بأنفسنا حتى حل بنا ما حل.
فلنكن صرحاء مع أنفسنا ولا نحيل مشاكلنا على غيرنا، ولا نتهم بمشاكلنا ونحمل المسئولية من لا يحتملها، فنحن وحدنا نتحمل كل المسئولية، فكل ما حل في مجتمعات المسلمين من بعد عن دين الله، ومن تخلف، ومن جهل، ومن أمية، ومن فقر، ومن معاناة، ومن حروب، ومن بأس, كل هذه الظواهر التي تعاني منها الأمة إنما هي نتيجة منطقية لما كسبت أيدينا، ونتيجة لما بأنفسنا، فلا نحمل مسئولياتنا غيرنا، ولا نبحث عن شماعة نعلق عليه أخطاءنا، إن هذه سنة الله تبارك وتعالى {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].(9/14)
لا يتم التغيير إلا إذا غيرنا ما بأنفسنا
النتيجة الثانية: أن التغيير لن يتم إلا إذا غيرنا ما بداخلنا، إننا ونحن نتطلع إلى عالم أفضل، إننا ونحن نسعى إلى تغيير ما في الناس من بعد عن دين الله تبارك وتعالى، ونحن نسعى إلى إعادة الناس إلى دين الله عز وجل، وإلى التزامهم بما أمر الله تبارك وتعالى به، وانتهاؤهم وانزجارهم عما نهى تبارك وتعالى عنه، إننا ونحن نتطلع إلى ذلك لا يمكن أن نحققه إلا إذا غيرنا ما بأنفسنا، وإذا غيرنا ما بداخلنا فهي الخطوة الأولى والتي ليس هناك خطوة غيرها للتغيير وللإصلاح.
وحين نتطلع لتغيير ما تعانيه الأمة من جهل، ومن أمية، ومن تخلف، ومن فقر، ومن حروب، ومن تمزق، ومن قلاقل فإننا لن نستطيع أن نصل إلى هذا التغيير إلا إذا غيرنا ما بأنفسنا، إذاً فجدير بالأمة أن تفقه ما هو سبب معاناتها، وما هو سبب أزمتها، وأن تفقه ثانياً ما هو عامل التغيير وما هي وسيلة التغيير؟(9/15)
تغيير الواقع أمر ممكن
النتيجة الثالثة: أن التغيير ممكن وليس الواقع المعاصر أمراً حتماً ولازماً، وليس هو قدر الله لهذه الأمة ولا لمجتمعات المسلمين.
إن التغيير يمكن أن يحصل، وإن الأمة يمكن أن تنتقل إلى عالم أفضل، وإننا حين ننظر في حال المسلمين وفي حال هذه الأمة وتعاملها مع هذه القضية ومع هذه الحقيقة نرى أن هناك أزمة تعانيها الأمة، وأنها بحاجة إلى من يقنعها بالتغيير، فالكثير من الناس يعتقد أن هذا الواقع يفرض نفسه، ولهذا حين تحدثه عما في نفسه، أو تحدثه عن قضية يعاني منها المجتمع وتطالبه أن يأخذ بيد القائمين والساعين للتغيير يقول لك: إن المفروض شيء والواقع شيء آخر، وهذا يعني: الاستسلام للواقع، والشعور بأن هذا الواقع قد فرض نفسه، وأنه ضربة لازب لا سبيل ولا مناص إلى تغييره.
ونحن نرى أيضاً إلقاء تبعة التغيير السابق أو التغيير اللاحق على الآخرين، فنحن نحمل ما أصابنا من مصائب ومن نكبات، ومن بعد عن دين الله، ومن تخلف حضاري وتأخر نحمل المسئولية غيرنا، وأيضاً نحمل مسئولية النهوض بمجتمعاتنا غيرنا، وهي صورة تنم عن جهل في فقه هذه السنن، وعن جهل في وعيها، وهي تدعو المؤمنين إلى إعادة قراءة كتاب الله تبارك وتعالى قراءة تدبر وتمعن، وتنزيل ما في كتاب الله تبارك وتعالى على واقعهم وحياتهم وعالمهم المعاصر.
ونحن نعاني أيضاً مرضاً ثالثاً: في تعامل المؤمنين مع واقعهم، ذلكم هو: تسويغ الواقع، وهو داء عضال وجريمة عظمى يرتكبها أولئك الذين يقفون حجر عثرة في سبيل أي جهد يبذل للإصلاح والتغيير، فعجباً لحال هؤلاء! إن هناك وفي هذه المرحلة وهذا الواقع من يسعى لتبرير الواقع وتسويغه، وتسويغ الانحراف الذي تعاني منه الأمة والذي لم يعد خافياً على ذي عينين، إن هناك من يدافع عن تلك الجرائم التي ترتكب بحق الأمة، إن هناك من يدافع ويبرر كثيراً من مظاهر الشرك والوثنية التي تعاني منها الأمة الآن، ويلبسها تارة لباس المصلحة، وتارة لباس الجهل، وتارة يلبسها لباس أن أولئك يفقهون ما لا تفقهون، ويعلمون ما لا تعلمون، ويريدون ما لا تريدون، وأنكم حين تنزل الحكم الشرعي على هذه الوقائع فتقرر أن هذا الأمر جريمة، أو أن ذاك العمل صد عن سبيل الله، أو أن هذا مظهر من مظاهر الكفر بالله تبارك وتعالى، أنكم حين تسعون لذلك فإنكم تسعون إلى إثارة البلبلة، وإلى تمزيق صف الأمة ووحدتها، وكأن هذه الأمة مدعوة لأن تتحد على الخنى والفجور، وأن تحافظ على هذا الاتحاد ولو كان ذلك على حساب قضية الإيمان وقضية التوحيد وقضية العفة والنزاهة.
إن هناك للأسف وفي هذا الواقع المرير الذي يدعو الأمة أجمع إلى أن تهب وأن تقوم يداً واحدة للإصلاح والتغيير، إن هناك من يسعى إلى تسويغ الواقع وتبريره، ومحاولة البحث عن المسوغات وهي جريمة أشنع وأشد من جريمة القاعدين والناكسين.
وهناك سلوك رابع خاطئ في تعامل المسلمين مع هذه القضية، وهو إفراز لشعور المسلمين أن هذا الواقع لا يمكن أن يتغير، ذلكم هو الوهم الذي سيطر على المسلمين: وهو أن حل قضيتهم في انتظار البطل القادم الذي يأتي ويحل مشاكل المسلمين.
ولهذا فالمسلمون دائماً يتساءلون ويقولون: أين ابن تيمية؟ أين صلاح الدين؟ أين خالد بن الوليد؟ وأين فلان وفلان من الناس؟ وكأن هؤلاء قد شعروا بأنهم غير قادرين على أن يصنعوا شيئاً ولا أن يتقدموا خطوة، وأن هذا الواقع الذي تعاني منه هذه الأمة لا يمكن أن يتغير إلا إذا جاء هذا الفارس الموهوب، والبطل القادم الذي ليس له وجود إلا في خيال أولئك القاعدين الناكسين، مما حدا بشاعر أن ينعى على هؤلاء ويسخر بهم قائلاً: وغاية الخشونة أن تندبوا قمْ يا صلاح الدين قمْ دعوا صلاح الدين في مرقده واحترموا سكونه.
فإنه لو قام بيننا حقاً ستقتلونه إن المسلمين وهم يعيشون مرارة الهزيمة، وهم يعيشون مرارة التخلف، وهم يعيشون البعد عن دين الله تبارك وتعالى تتطلع نفوسهم للتغيير والإصلاح، لكنهم لا يجرءون على أن يحملوا أنفسهم مسئولية ما آل إليه واقعهم، ومسئولية الإصلاح والتغيير بعد ذلك، فيستسلمون لهذه الأوهام، ويتطلعون إلى أن يأتي رجل من عالم الغيب يقود الأمة لتقوم، ولو جاء هذا الرجل فإنه ما لم يقم معه الناس، وما لم يكن الناس له أعواناً، ويكن له من الناس ظهير فإنه سيقول كما قال موسى: {إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:25]، فحين تخلى قوم موسى عن موسى لم يكن ينفعهم، ولن يكن لينجيهم أنهم مع رسول من رسل الله من أولي العزم من الرسل، فلئن لم يتحقق ذلك لبني إسرائيل وهم مع نبي من أنبياء الله فإنه لن يتحقق لغيرهم وهم مع من هو دونه بكثير.(9/16)
عدم اليأس من تغيير الواقع
وهناك سلوك رابع خاطئ في تعامل المسلمين مع هذه القضية، وهو إفراز لشعور المسلمين أن هذا الواقع لا يمكن أن يتغير، ذلكم هو الوهم الذي سيطر على المسلمين: وهو أن حل قضيتهم في انتظار البطل القادم الذي يأتي ويحل مشاكل المسلمين.
ولهذا فالمسلمون دائماً يتساءلون ويقولون: أين ابن تيمية؟ أين صلاح الدين؟ أين خالد بن الوليد؟ وأين فلان وفلان من الناس؟ وكأن هؤلاء قد شعروا بأنهم غير قادرين على أن يصنعوا شيئاً ولا أن يتقدموا خطوة، وأن هذا الواقع الذي تعاني منه هذه الأمة لا يمكن أن يتغير إلا إذا جاء هذا الفارس الموهوب، والبطل القادم الذي ليس له وجود إلا في خيال أولئك القاعدين الناكسين، مما حدا بشاعر أن ينعى على هؤلاء ويسخر بهم قائلاً: وغاية الخشونة أن تندبوا قمْ يا صلاح الدين قمْ دعوا صلاح الدين في مرقده واحترموا سكونه.
فإنه لو قام بيننا حقاً ستقتلونه إن المسلمين وهم يعيشون مرارة الهزيمة، وهم يعيشون مرارة التخلف، وهم يعيشون البعد عن دين الله تبارك وتعالى تتطلع نفوسهم للتغيير والإصلاح، لكنهم لا يجرءون على أن يحملوا أنفسهم مسئولية ما آل إليه واقعهم، ومسئولية الإصلاح والتغيير بعد ذلك، فيستسلمون لهذه الأوهام، ويتطلعون إلى أن يأتي رجل من عالم الغيب يقود الأمة لتقوم، ولو جاء هذا الرجل فإنه ما لم يقم معه الناس، وما لم يكن الناس له أعواناً، ويكن له من الناس ظهير فإنه سيقول كما قال موسى: {إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:25]، فحين تخلى قوم موسى عن موسى لم يكن ينفعهم، ولن يكن لينجيهم أنهم مع رسول من رسل الله من أولي العزم من الرسل، فلئن لم يتحقق ذلك لبني إسرائيل وهم مع نبي من أنبياء الله فإنه لن يتحقق لغيرهم وهم مع من هو دونه بكثير.
وأخيراً: قد يلجأ الناس إلى الهروب من التفكير في القضية أصلاً، فيهربون من التفكير في الواقع ومرارته، أو يهربون من المناقشة الصريحة في وسائل التغيير والإصلاح، ويصرفون القضية يمنة ويسرة، وهذا فرار من المسئولية، وتخلي عن التبعة لن يفيدهم شيئاً، ولن يغني عنهم شيئاً أمام الله تبارك وتعالى.
إذاً: هذه صور تعكس شعور المسلمين أن هذا الواقع الذي يعيشونه ضربة لازب، وأنه أمر حتمي لا يمكن أن يتغير.
إن فقهنا لهذه السنن يعني أن ندرك تمام الإدراك، ونوقن تمام اليقين أن هذا الواقع يمكن أن يتغير حين يريد الناس وحين يغير الناس ما بأنفسهم.(9/17)
ضرورة القراءة المتأنية لمداخل النفوس
النتيجة الرابعة: فقهنا لهذه السنة يعني ضرورة القراءة المتأنية لمداخل ما في النفوس لاكتشاف العلة، والسعي لإحداث التغيير، إننا وقد تقرر لدينا أن هذا التغيير الذي أصاب الأمة وقد كانت أمة العز والنصر والتمكين، وقد كانت أمة تسير على شرع الله: أن هذا التغيير إنما أتاها من أنفسها، إنما أصابها من الداخل، إن شعورنا وإيقاننا بذلك يدعونا إلى دراسة وإلى قراءة متأنية لما في النفوس؛ حتى نسعى إلى اكتشاف العلة، والبحث عن مكمن الداء، ثم نسعى بعد ذلك إلى العلاج والإصلاح.
إذاً هذا يعني: معشر الإخوة الكرام! أن قضية الإصلاح وقضية التغيير تحتاج جهداً ضخماً من القراءة في سنن الله تبارك وتعالى، ومن خلال قراءة ما في النفوس ووعيها ثم إقناع الناس بواجب التغيير وضرورة التغيير وإمكان التغيير.(9/18)
شمولية التغيير لجميع جوانب الحياة
النتيجة الخامسة: إدراكنا لهذه السنة يعني: شمولية الأمر لجميع جوانب الحياة المختلفة، إن الله تبارك وتعالى يقول: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال:53]، ويقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، ولا شك أن أول ما يدخل في ذلك: ما في أمور دين الناس.
فالله تبارك وتعالى لم يكن ليغير حال الناس من تدين وصلاح وتقوى إلى فجور إلا وقد غيروا ما في أنفسهم والعكس، إن هذا يدخل في هذا الأمر، وأيضاً يدخل فيه ما يعاني منه المسلمون في أمور عالمهم المادي، إن الأمة الإسلامية الآن مدرجة ضمن العالم المتخلف والذي يسمى تفاؤلاً بالعالم النامي، فهي قد بلغت القمة والغاية في الأمية، والجهل، والفقر، والتخلف، والتأخر الاقتصادي، والمديونية، والتفرق، والتمزق، إنها تحمل رصيداً هائلاً من الأمراض البشرية التي تحملها المجتمعات المعاصرة، فهي حين تريد تغيير ما بها ينبغي أن تعلم أن التغيير إنما يتم من الداخل، فإن كانت الأمة صريحة مع نفسها، وإن كانت الأمة تحمل روحاً واقعية وتأملت في نفسها فإنها يمكن أن تغير، وإن أخلدت إلى الأرض فإن هذا الواقع لن يتغير حتى يتغير ما بأنفس الناس.(9/19)
ينبغي الربط بين معرفة هذه السنن والإيمان بالقضاء والقدر
النتيجة السادسة وبها نختم الحديث: ينبغي أن نربط هذه القضية بركن من أركان الإيمان؛ ذلكم هو الإيمان بالقضاء والقدر، إن المؤمنين يؤمنون جميعاً بل لا يتم إيمان عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، ولا يتم إيمان العبد حتى يعلم أن الأمور كلها تجري بقدر الله تبارك وتعالى، وأنه كما قال تبارك وتعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر:49 - 50]، وكما قال تبارك وتعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
إن المؤمنين يدركون جميعاً إدراكاً نظرياً هذه الحقيقة، وهذه القضية هي: أن الأمور كلها في عالمهم المادي، وغير المادي، والأمور كلها التي تحكم حياة الأفراد والمجتمعات إنما هي بقضاء الله تبارك وتعالى وقدره، ويؤمنون ويدركون أيضاً أن الله تبارك وتعالى قد جعل لهذه الأمور أسباباً، وأن من تمام الإيمان بالقضاء والقدر أن يسلك الناس فعل الأسباب، إن الناس كل الناس يدركون أن الجوع والمرض أمر بقدر الله تبارك وتعالى، لكنهم يسعون إلى منع المرض عنهم، وإلى منع الجوع عنهم، وإلى دفعه عنهم بالطعام والشراب والعلاج، إنهم يدركون جميعاً أن الرزق بيد الله تبارك وتعالى، وأنه لا يزيده ولا يرده حرص حريص، وأنه لن تموت نفس منفوسة حتى تستكمل رزقها، إن الناس يدركون ذلك ومع ذلك يدركون أنه لن يحصلوا رزقهم إلا إذا فعلوا الأسباب، فيجتهدون ويكدحون ويبذلون وهم يعلمون أن الرزق بيد الله تبارك وتعالى.
ولكن هل نحن في أمور مجتمعاتنا وفي نظرتنا إلى واقعنا هل نحن ندرك هذه القضية وهذه الحقيقة وهي: ارتباط السبب بالنتيجة؟ وهل ندرك أن الأمور بيد الله تبارك وتعالى؟ ونحن كثيراً ما نقول: الأمور بيد الله تبارك وتعالى، ونحن كثيراً ما نقول: القضية قضاء وقدر، ونلجأ إلى الله بالدعاء، لكن هل نحن مع ذلك نفعل الأسباب؟ هل نحن نسعى إلى فعل الأسباب؟ إنه تماماً كما أنه لن نحصل رزقنا إلا بفعل الأسباب فلن ندرك التغيير أيضاً في مجتمعاتنا والإصلاح إلا بفعل الأسباب والاجتهاد في ذلك، وينبغي أن تكون الأسباب على قدر الهدف الذي نتطلع إليه ونسعى إليه.
إننا ونحن نرى في واقعنا أن الناس يجتهدون في دفع المرض عنهم وفي العلاج، فينفقون الأموال الطائلة، ويسافرون، ويفتشون يمنة ويسرة في محاولة علاج هذا المرض؛ يدركون أن ذلك من تمام الإيمان بقضاء الله وقدره، وأن الأمور بيد الله لكنهم يبذلون هذا الجهد، فهل نحن معشر الإخوة الكرام! نبذل هذا الجهد في تصحيح واقعنا؟ هل نحن نبذل هذا الجهد في علاج أمراضنا؟ هل نحن نبذل هذا الجهد في دفع الفساد الذي حل بأمة الإسلام؟ هل نحن نبذل هذا الجهد في إزالة هذه المنكرات التي فشت في مجتمعات المسلمين؟ إنه من الجهل بقضاء الله وقدره أو قل: من مخادعة النفس أن نضع يداً على يد ونقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، لا حول ولا قوة إلا بالله، وأن نبكي ونتحسر على أمة الإسلام، إن البكاء لن يجدي ولن ينفع شيئاً، وإن الحوقلة والاسترجاع وحدها لن تنفع والدعاء وحده لن ينفع إلا إذا كان معه جهد وبذل وتضحية وتحمل.
إننا ما لم نشعر أننا يجب أن ندفع ثمناً باهظاً لإزالة المنكرات لتصحيح الواقع للنهوض بهذه الأمة، وما لم نقم بذلك فإننا غير مؤهلين للتغيير؛ لأننا لم نغير ما بأنفسنا، إننا قد أتينا من قلة فقهنا في قضية الإيمان بالقضاء والقدر، إننا قد أتينا من قلة فقهنا بالعلاقة بين السبب والنتيجة، وإن من رحمة الله تبارك وتعالى بعباده أن جعل هناك علاقة مضطردة في حياة الناس بين السبب والمسبب؛ بين السبب والنتيجة، فكل نتيجة يوصل لها سبب معروف يعرفه الناس في أبسط قضايا الناس إلى الأمور المعقدة، سواء في عالمهم المادي أو حياة مجتمعاتهم وحركة التاريخ، وهذا يعني: أن يسعى الناس إلى اكتشاف الأسباب، وأن يسعى الناس إلى بذل الأسباب إذا كانوا يتطلعون إلى نتيجة وحصولها، فالله تبارك وتعالى قد جعل لكل شيء سبباً، والله تبارك وتعالى قد جعل لكل شيء قدراً.
إن إدراك هذه الحقائق معشر الإخوة الكرام! ضرورة لأولئك الذين يتطلعون للإصلاح والتغيير، فهل ندرك هذه الحقائق؟ وهل نسعى إلى غرسها في مجتمعات المسلمين؟ أسأل الله تبارك وتعالى أن يغير ذل المسلمين إلى عز، وأن يغير معصيتهم إلى طاعة، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، ويحكم فيه بشرعك، وينتصر فيه للمظلوم والضعيف، إنك سميع قريب مجيب، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(9/20)
الأسئلة(9/21)
كل شيء بقضاء الله وقدره
السؤال
قلتم: إن الواقع الذي نعيشه ليس قدراً من الله بل هو من عند أنفسنا، أليس كل ما يجري في الكون من أمور الدنيا والدين يتم بقضاء الله وقدره؟
الجواب
ما أدري إذا أنا كنت قلت هذا، وما أحد يقول هذا، لكن ربما أحياناً والإنسان يتحدث قد يقول كلمة تكون سبق لسان منه، ولو كنت قلت هذا فإنني أقصد: أن هذا الأمر ليس ظلماً من الله تبارك وتعالى للناس، وإنما هو من عند أنفسنا، ولعل ما قلت في آخر الحديث يؤكد هذا المعنى من الحديث عن قضاء الله تبارك وتعالى وقدره، وليس هناك أحد يمكن أن يناقش أبداً في أن كل ما يحصل -سواء الأفراد أو المجتمعات- من أمور الدين أو الدنيا أنه كله بيد الله تبارك وتعالى، بل من شك في ذلك فعليه أن يعيد النظر في إيمانه.(9/22)
ضرورة الاستمرار في التغيير، وعدم التعلق بالأشخاص
السؤال
كثير من الناس يتعلقون بأشخاص وشخصيات بارزة كان لها دور في التغيير، فعندما مات أولئك توقفوا معهم، فهل من تعليق حول ذلك؟
الجواب
هذا جزء من أمراض الأمة، وهذه القضية أشار إليها مالك بن نبي رحمه الله؛ أشار إلى جزء من هذا فيقول: إن الأمة مصابة بالتعلق بالأشخاص، ودائماً تبحث عن حلها عند هؤلاء الأشخاص، فدائماً تتساءل عن صلاح الدين وعن فلان وفلان؛ لأنهم شعروا أن قضيتهم متعلقة بالأشخاص فقط.(9/23)
كيفية التعامل مع من يسوغون الواقع ويبررونه
السؤال
كيف نتعامل مع من يسوغون الواقع ويبررونه، أو من يحاول أن يزرع في النفوس اليأس من أن يمكن تتغير الأمور إلى الأحسن؟
الجواب
هؤلاء المثبطون إما أن يكون عندهم شبهة وعندهم إحباط، فهؤلاء ينبغي أن نسعى إلى إقناعهم، وأما أولئك المثبطون المتخاذلون، والإنسان الكسول الذي يسعى إلى ذلك لتبرير كسله فأظن أنه من إضاعة الوقت النقاش مع أمثال هؤلاء.(9/24)
سبب حصول المصائب على المؤمنين
السؤال
أحياناً تحصل بعض المصائب، فهل السبب هو التغيير في أنفسنا أم هو الابتلاء، نرجو منكم توضيح ذلك؟
الجواب
قد يكون هذا وقد يكون ذاك، فقد يصيب المؤمنين أمر هو ابتلاء، وقد يصيبهم أيضاً مصائب، لكن حتى المصائب يكفر الله تبارك وتعالى بها عن عباده.(9/25)
السبيل إلى نجاة الأمة
السؤال
ذكرتم أن السبيل إلى نجاة الأمة هو العودة إلى الله تعالى، وتغيير واقع الأمة المخزي، فكيف يكون ذلك والاتكالية موجودة بيننا؟
الجواب
هذا العرض الذي كنا نقول هو دعوة إلى إلغاء الاتكالية، فعلينا أن نعرف أن قضيتكم بيدكم فأنتم الذين تملكون حق تقرير المصير عن أنفسكم كما يقال، فإذا أردتم تغيير الواقع فالتغيير بيدكم فلا تخرجوه إلى غيركم ولا تلوموا غيركم، فهذه الأمة يجب أن تعي هذه القضية، والحقيقة تتحول هنا إلى بداهية: أن هذا الواقع نحن المسئولون عنه، ونحن القادرون على تغييره بإذن الله تبارك وتعالى، والله عز وجل إنما جعل التغيير بيد الناس، {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4].(9/26)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب في نجاة الأمة
السؤال
هل ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب في هلاك الأمة؟ لأني أرى كثيراً ممن يرى عليه علامات الخير والصلاح وهو يرى المنكر سواء كان ترك صلاة أو تبرج نساء أو سماع غناء، ولا ينكر ذلك المنكر، أرجو توجيه هؤلاء الناس الذين يعملون الخير الكثير من أمور الدين ولا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
الجواب
لا شك أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم أسباب حلول العذاب، ويكفي الحديث الذي أشرنا إليه والذي رواه البخاري، الذي شبه فيه النبي صلى الله عليه وسلم حياة الناس والمجتمع بالسفينة في قوله: (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فكان بعضهم أسفلها وكان بعضهم أعلاها).(9/27)
أهم الأمور المعينة على التغيير
السؤال
ما هي أهم الأمور في نظركم التي تعين على تغيير ما يكون في النفس؟
الجواب
من أهم الأمور أولاً: الاقتناع بضرورة التغيير، ثم أن نقتنع بأن التغيير ممكن، فأحياناً قد نكون مقتنعين أن عندنا مشكلة، ومقتنعين أيضاً أننا ينبغي أن نغير واقعنا، لكننا غير مقتنعين أنه يمكن أن يتغير هذا الواقع، وهذه مشكلة، فيجب أن نغرس هذا الاقتناع سواء على مستوى الأفراد أو مستوى المجتمعات، نغرس فيهم أن التغيير ممكن، وأنه ليس هناك شيء أبداً يمكن أن يحول بيننا وبين التغيير، ثم بعد ذلك محاولة الدراسة المتأنية العميقة لما في النفوس؛ لاكتشاف ما هي الأسباب والعوامل للتغيير، ثم الإرادة الجازمة الجادة في ذلك؛ لأن التغيير صعب؛ لأن العوائد تأسر الإنسان فيخلد إليها، فيصبح تغييرها صعب جداً إلا إذا كان عند الإنسان إرادة قوية وجادة، فكثير من الناس مثلاً: يقع في أمور مقتنع هو أنها تضره سواء في أمور دينه أو أمور دنياه، لكنه لا يتركها والسبب هو أنه اعتاد عليها، وأسرته العادة فصار يشعر أنه لا يستطيع أن يتخلى عنها، ولو كان عنده إرادة قوية لأمكن أن يتخلى عنها.(9/28)
لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم من خير أو شر
السؤال
المفهوم من منطوق عنوان المحاضرة؛ الآية الكريمة هو: أن الله لا يغير النعم حتى يتغير أصحابها، والسؤال هل الآية أو العنوان خاص بذلك أم يدخل في ذلك أن الله لا يغير النقم ويزيلها حتى يغير أصحابها ما بهم من سوء؟
الجواب
هذا صحيح في الآية الأولى في آية الأنفال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ} [الأنفال:53]، وكذلك الآية الأخرى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال:53]، فهذه خاصة في النعم، وأما قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] فهي عامة تشمل النعم والنقم، واستدللنا على ذلك أيضاً بقوله تبارك وتعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98].(9/29)
كيفية الجمع بين سنن الابتلاء وسنن الانتقام
السؤال
كيف نجمع بين سنن الابتلاء وسنن الانتقام، لاسيما وقد اغتر البعض بما فتح على الغرب من تقدم تكنولوجي ومن جمال في الطبيعة؟
الجواب
أول شيء: قضية الجمال في الطبيعة هذا أمر الله، يعني: ليس هو القضية قدر الله، فالله تبارك وتعالى قسم الأرزاق بين الناس، فأناس عندهم جمال في الطبيعة، وأناس عندهم معادن، وأناس عندهم نفط، فمن فقد شيئاً عوضه الله خيراً منه.
الجانب الثاني: كونه فتح على الغرب في التقدم التكنولوجي؛ فالله تبارك وتعالى من سنته أن الناس إذا بذلوا واجتهدوا في أمور الدنيا أنه يعطيهم، وأنه تبارك وتعالى يسخر لهم.
ولهذا أولئك أدركوا السنن التي تحكم عالم المادة، واستطاعوا أن يتعاملوا مع هذه السنن ويطوعوها، ولا يستطيع الإنسان أن يعدل فيها، وكذلك لا يستطيع أن يعدل في سنن التاريخ، لكنه يتعامل معها كما ذكر ذلك مالك بن نبي رحمه الله، فيقول: إننا لن نستطيع أن نغير سنن التاريخ، لكننا نستطيع أن نتعامل معها، يقول: كما أننا لا نستطيع أن نغير سنن وقوانين المادة، لكننا نستطيع أن نتعامل معها، وضرب على ذلك مثالاً بما أشرت إليه من قانون الجاذبية.
فالمهم أن هذا جزء من سنن الله، فلم يغير الله ما بأولئك من جهل وبعد عن العلم حتى غيروا ما بأنفسهم، فالتغيير في جانب واحد: في جانب المادة إنما كان نتيجة للتغيير الذي كان في أنفسهم، فحين بذلوا الجهد واستفرغوا وسعهم مكن لهم في الدنيا، والمؤمنون شأنهم شأن غيرهم بل هم أولى وأحق بالتمكين، ومع ذلك يبقون كما قال تبارك وتعالى عنهم: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7]، فهذا لا يدعوا إلى أن نغتر بما عندهم، لكن لاشك أن ما حصلوه ليس بخرق للسنن الكونية، فهذا جزء من هذه السنن.(9/30)
لا يكون التغيير حتى تغير الأمة من حالها
السؤال
هل يشترط للتغيير أن يكون من جميع أفراد الأمة تقريباً أو يكتفي بأن يكون من أفراد معدودين عاملين في الدعوة؟ وهل حينما نوجد أفراداً يقودون الأمة وتنقاد الأمة لهم يحصل التغيير، أما أنه حينما لا تنقاد الأمة فلا يمكن ذلك؟
الجواب
كما ذكرنا في قصة موسى لما كان مع قومه ولم يستجيبوا: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:25].(9/31)
الكتب التي ينصح بالرجوع إليها في هذا الموضوع
السؤال
ما هي الكتب التي تنصحنا بالرجوع إليها عن هذه المحاضرة؟
الجواب
هناك كتاب قرأته في الإعداد لهذه المحاضرة وهو مفيد لكن عليه ملاحظات، هذا الكتاب أنصح أي أخ أن يقرأ فيه، وهذا الكتاب هو (حتى يغيروا ما بأنفسهم) حول هذا العنوان لـ جودة سعيد وقدم له مالك بن نبي، لكن فيه بعض الشطحات وبعض التجاوزات، وهو ينتمي إلى مدرسة مالك بن نبي وهي مدرسة معروفة بالمدرسة الحضارية، فهم عندهم إبداع في بعض الجوانب لكن هناك بعض الملاحظات على مثل هذه المدرسة، فالذي يملك عقلية ناقدة جيدة يمكنه أن يقرأه، لكن البعض من الناس قد لا يستطيع أن يقرأ مثل هذه الكتب التي قد يكون فيها ملاحظات، لكن أتصور أن أفضل منه كتاب للدكتور عبد الكريم بكار وهو: نحو فهم أعمق للواقع الإسلامي.(9/32)
نصيحة في كيفية تغيير ما في النفس
السؤال
أحاول تغيير نفسي من حال إلى حال أحسن وأحسن، ولكن كثيراً ما أحاول ذلك وللأسف لا أوفق، فما الحل الصحيح؟
الجواب
الحل أشرت إليه قبل قليل وهو: أن تقتنع أنك ممكن أن تغير، وأن تقتنع بضرورة التغيير، فكونك تملك الإرادة هذا عنصر مهم في موضوع التغيير.(9/33)
تغيير الحال يؤثر في الأمور الدينية والدنيوية
السؤال
تحدثت عن السنن وأنها لا تتخلف، لكن الناظر في الواقع اليوم يجد أن الدول الكافرة وما هي عليه من دين محرف ممكنة في الأرض، فما هو التفسير الشرعي لذلك حتى تتضح الصورة؟
الجواب
هذا دليل يا إخوان على أننا ما نفقه معنى السنن، فهذا يا أخي جزء من سنن الله، لماذا؟ لأنه حين تأخر المسلمون، وحين بذل أولئك مُكِّن لهم، فهذه سنة من سنن الله: أنه حين يتأخر المسلمون ويتقهقرون فإنه يمكن لغيرهم، وأحياناً يبذل أولئك وسعهم، فسنن الله تحتاج إلى قراءة متأنية في القرآن وإلى مراجعة وإلى تأمل، وحينها يستطيع الإنسان فعلاً -كما قلت لكم- أن يفسر الواقع تفسيراً سليماً، ويعطيه ذلك رؤية في المستقبل أفضل وأتم.(9/34)
معنى السير في قوله تعالى (قل سيروا في الأرض فانظروا)
السؤال
قال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا} [النمل:69] هل السير هنا هو السياحة المعروفة أم البحث عن جديد أم ماذا؟ ثم هل هذا السير واجب أو مستحب؟
الجواب
لا، ليس المقصود مجرد أن يسافر الإنسان، لكن المقصود: التأمل والتمعن، فإذا كان لا يتم ذلك إلا بالسير فإن الإنسان يسير في الأرض، فالمقصود: أن آيات هؤلاء باقية ظاهره في الأرض؛ فإذا مر الإنسان رأى تلك البلد التي كان فيها أولئك الذين عذبوا وأهلكوا.(9/35)
الحل لانحطاط الأمة وتقهقرها
السؤال
ماذا نفعل والأمة تمشي إلى الانحطاط في إعلامها وفي تجارتها وفي جميع معاملتها؛ ما هو الدور الذي نقوم به في هذه الظروف التي تمر بها الأمة؟
الجواب
هذا هو الذي تحدثنا عنه سابقاً، وهو أن نحقق التغيير، وأن نسعى إلى إقناع الأمة أنها يجب أن تحقق التغيير في أنفسها حتى يتغير ما بها.(9/36)
الاهتمام بالدعوة في المناطق النائية
السؤال
ما موقفنا من الدعوة إلى الله في القرى وبالأخص المناطق النائية والتي يقل فيها طلاب العلم؟ وما موقف أهل العلم من المشايخ والدعاة من ذلك؟ وبماذا تنصحون الجميع؟
الجواب
أولاً: لا يصح أن نقصر الدعوة على تلك المناطق النائية، فالدعوة تحتاج إلى كل مجتمعات المسلمين، ولا يجوز أن يهمل جانب لحساب جانب آخر.
هذا أمر.
الأمر الثاني: أن من أهم الأدوار: أن يذهب إليها أناس يستقرون فيهان وهذا أفضل من الزيارات العاجلة القاصرة، بحيث إنه يحتسب مثلاً أحد الشباب ويتعين في التدريس أو الوظيفة أو العمل هناك ويبقى، ويكون له نشاط ومشاركة، ولا شك أن التجارب تثبت أن هؤلاء يكون لهم خير وفضل كثير بإذن الله.
وهذا لا يعني: أن الزيارات المتكررة المتقطعة ليس لها قيمة ولا أهمية، لكن لا شك أن الاستقرار والبقاء يترك أثراً أكبر وأعظم بإذن الله؛ لأن هذا الأستاذ أو طالب العلم إذا ذهب هناك وصار له دروس وصار له نشاط سيكون له تلاميذ من أهل البلد، فيتعلمون العلم ويحرصون عليه ويتربون، وينشأ من أهل تلك القرى وأهل تلك البقاع جيل يساهم في التغيير والإصلاح من أهل البلد نفسها، ولا يصبح هؤلاء عالة ينتظرون غيرهم.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا وإياكم لطاعته إنه سميع قريب مجيب، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(9/37)
إنهم فتية آمنوا بربهم
ذكر الله تعالى في القرآن كثيراً من القصص التي تحمل الدروس الكثيرة والعظات الجميلة، ومن ذلك قصة أهل الكهف الذين فارقوا قومهم وأووا إلى الكهف فناموا فيه مئات السنين، وهي مليئة بالعبر التي يجب أن يستفيد منها كل داعية.(10/1)
فضيلة سورة الكهف واشتمالها على الدروس والعبر
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد: فعنوان هذه المحاضرة: إنهم فتية آمنوا بربهم.
وخير ما عمرت به خير البيوت -المساجد- ذكر الله عز وجل، وأن تعمر بتلاوة كتابه والوقوف عند معانيه وتدارسه: (فما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)، فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم ممن يذكرهم تبارك وتعالى فيمن عنده إنه سميع مجيب.
هذه السورة العظيمة سورة يرددها المسلم ويقرؤها كل أسبوع، وهذا يعني أن فيها كثيراً من المعاني التي يحتاج الناس إلى تكرارها وإلى إعادتها، إننا دون أن نخوض في جدل وتساؤل عن الحكمة وراء تكرار هذه السورة وقراءتها كل جمعة دون أن نصل إلى إجابة لهذا السؤال فإننا نوقن أنه لم يؤمر بتكرار هذه الآيات وقراءتها إلا أن فيها معاني يحتاج الناس إلى أن يتذكروها، وأن يذكروا بها، وأن يتدبروها، وألا تغيب عنهم، هذه السورة العظيمة سميت بهذا الاسم: سورة الكهف، لأن فيها قصة هؤلاء الفتية الذين شهد الله لهم بالإيمان، وأثنى عليهم تبارك وتعالى.
وهذا الحديث الليلة ليس تفسيراً لهذه الآيات، فلست مختصاً بهذا العلم وهذا الميدان الذي له رجاله وفرسانه، إنما هو وقفات وإشارات لبعض الدروس والعبر التي ينبغي أن نستفيدها من هذه القصة، وبين يدي الحديث حول هذا الموضوع أرى أننا بحاجة إلى أن نؤكد على هذا المعنى التربوي الذي يرد كثيراً في كتاب الله عز وجل، ونرى أن اهتمامنا به وعنايتنا به لا يتناسب مع المكانة التي أولاها القرآن إياه، فالقرآن الكريم مليء بالقصص، والله تبارك وتعالى أخبر أنه يقص علينا أحسن القصص في هذا الكتاب، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176]، وأخبر تبارك وتعالى أن في قصص الأنبياء عبرة لأولي الألباب، وأنه حديث صدق وحق: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} [يوسف:111] نعم؛ لأن القصص يدخل فيها الأساطير والخرافات والأقاويل، أما كلام الله عز وجل فيتنزه عن ذلك.
إن هذا القرآن الذي هو كلام الله تبارك وتعالى أنزله الله عز وجل على عباده من فوق سبع سموات حين يكون مليئاً بالقصص والإشارة إليها والتعقيب عليها، فإن هذا يعطي المربين درساً مهماً في شأن القصة وأهميتها في التربية، وحين ندرك هذا المعنى نرى أننا نهمل شأن القصة أو أننا لا نعتني بها كما ينبغي، وأولى القصص التي ينبغي أن نعتني بها؛ هي ما جاء في كتاب الله عز وجل وما قصه الله تبارك وتعالى في كتابه، وهو دليل على أهمية هذا الموضوع وعلو شأنه.
إن كل واحد منكم يستطيع أن يطرح تساؤلاً حول موضوع يختار للحديث عنه، وقد يرى أن هذا الموضوع ليس ذا بال وليس ذا أهمية، ومن حقه أن يرى هذا الرأي، وأن يرى أن غيره أولى منه، لكن أن يقول امرؤ: إن قصة جاءت في كتاب الله أو قصها النبي صلى الله عليه وسلم ليست ذا بال فهذا أمر لا يمكن أن يجرؤ عليه مسلم ولا يقوله، وهي قضية لا مجال فيها للنقاش والجدل.
قصة جاءت في كتاب الله، تعني أننا بحاجة إلى أن نتدبرها، وأن نقف عند معانيها، وأن نقيس حالنا بحال أولئك الذين قص الله عز وجل علينا شأنهم، قصة قصها علينا النبي صلى الله عليه وسلم تعني أن لها شأناً ولها قيمة، فهي قضية تتجاوز مجرد الحديث التاريخي البحت الذي يعنى بتسطير الأخبار والروايات والأحداث، وحين نقرأ في كتاب الله ونحلل أساليب عرض القصة نرى أن القصة لا تأتي قصة مجردة تحكي أحداثاً إنما تأتي القصة وفي ثناياها الإشارة إلى العبر والعظات والدروس المهمة التي ينبغي على الناس أن يعوها.
ولهذا فحديثي سيكون عبارة عن جملة من الوقفات لا يجمعها جامع إلا أنها وقفات حول هذه القصة العظيمة التي جاءت في كتاب الله عز وجل.(10/2)
الشباب هم من يحمل الدعوة
أول قضية تستوقفنا حول هذه القصة: أنهم كما أخبر الله عز وجل فتية، فقال الله تبارك وتعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]، وقال عز وجل: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف:10]، ولا شك أن هذا الوصف وهذه الكلمة لم تأت اعتباطاً كقضية تاريخية، يعني: أنت حينما تكتب مثلاً قصة تقول: كان محمد أباً لأسرة فقيرة إلى آخره فاسم محمد هذا لا يعني شيئاً بالنسبة للكاتب ولا يعني دلالة، وحينما يقول: كان شاباً كان شيخاً طاعناً في السن فربما لا يعني دلالة حتى عند صاحب القصة؛ لكن كلام الله عز وجل لا يمكن أن تأتي فيه كلمة عبثاً، فحينما يأتي وصف هؤلاء بأنهم فتية في موضعين والقصة أجملت أولاً في ثلاث آيات، ثم فصلت: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} [الكهف:9 - 12] بعد هذا الإجمال قال الله تبارك وتعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13].
إذاً: هذه الكلمة لا تأتي عبثاً، ولا تأتي مجرد وصف لا قيمة له، فماذا يعني وصف هؤلاء بأنهم فتية؟ يعني: دلالات عدة، أول هذه الدلالات: هي سنة الله عز وجل في هذه الدعوة، وهي دعوة التوحيد: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء:92]، فهذه أمة واحدة بدءاً بنوح وإلى أن تختم بالطائفة المنصورة إذ ينزل عيسى مجدداً وحاكماً بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فهي أمة واحدة ودعوة واحدة.
وجاء هذا التعقيب وهذا الوصف بعد ذكر قصص الأنبياء في سورة الأنبياء، بعد أن ذكر الله عز وجل نوحاً ولوطاً وزكريا وإلياس وسائر الأنبياء أخبر أنها أمة واحدة، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء أولاد علات)، فهي سنة أن يكون أتباع هذه الدعوات هم من الشباب، وهذا النموذج أمامنا مجتمع يعج بالكفر والشرك بالله عز وجل يستفيق فيه هؤلاء الفتية وهؤلاء الشباب، ولهذا قال قوم نوح: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود:27] هم أولئك الفئات السذج بسطاء الرأي الذين يتبعون كل ناعق.
وقال الله عز وجل عن أتباع موسى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} [يونس:83] فهم ذرية، فأقران موسى ليسوا من الذين آمنوا بموسى، بل الذين آمنوا به الذرية، واستنبط ابن كثير رحمه الله من هذه الآية قال: يخبر الله عز وجل أنه لم يؤمن لموسى إلا فئة قليلة من قومه وهم الشباب، وكذلك أتباع الأنبياء.
وفي قصة أصحاب الأخدود أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن هذا الحدث وتلك القضية كانت على يد هذا الشاب الذي لم يبلغ العشرين من عمره، وحين جاء النبي صلى الله عليه وسلم أصبحت سيرته خير شاهد على ذلك، فالعشرة المبشرون بالجنة وهم من أوائل الذين دخلوا في الإسلام كان خمسة منهم دون العشرين في أعمارهم، ويعجب القارئ بهذه السير: كيف يصل هؤلاء إلى هذه المنزلة وكانوا لا يزالون في ريعان شبابهم، وربما كان بعضهم ليس في وجهه شعرة واحدة، وكثير من أوائل السابقين الذين اتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم وثبتوا على الإسلام في مكة كانوا من هذه الطبقة من الشباب: سعد بن أبي وقاص والزبير بين العوام وسعيد بن زيد وخباب بن الأرت والأرقم بن أبي الأرقم وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم وغيرهم كثير، بل أول من أسلم من أهل المدينة والأنصار وأول من يحفظ إسلامه كان غلاماً صغيراً وهو إياس بن معاذ، قدم مع قومه، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم وهم يطلبون الحلف فقال: (ألا أدلكم على خير مما جئتم إليه؟ فدعاهم إلى الإسلام، فتكلم هذا الغلام وقال: هذا والله خير مما جئنا إليه) فزجره أحدهم، ثم قال: فكانوا يسمعونه يسبح ويهلل فما كانوا يشكون أنه مات مسلماً.
وحين جاء أولئك الذين اتبعوا مصعب رضي الله عنه إلى بيعة العقبة واجتمعوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء العباس وهو على دين قومه يطمئن على صدق هؤلاء الذين سينتقل(10/3)
درس في القدوة
وكونهم أيضاً شباباً وفتية يعطي درساً مهماً وتساؤلاً مهماً نطرحه اليوم ونحن نعيش أزمة في عالم الشباب الذين يتعلقون اليوم بالأمجاد والبطولات الزائفة والبطولات الزائفة التي يصنعها الأعداء، أو تكون نتاج إغراق الأمة في لهو وعبث فارغ، لا يعدو أن يفرغ قضية الأمة الكبرى والأساس من مضمونها ليخرج جيلاً إنما تتعلق البطولة والأمجاد لديه بتوافه الأمور، أليس الشباب اليوم في العالم الإسلامي وهم يعيشون هذه الأزمة أحوج أن يبرز أمامهم هذا النموذج وهذا البديل؟ ويتساءل المسلم اليوم بمرارة وأسى: أيعرف شباب المسلمين اليوم عن شأن أهل الكهف، وعن شأن أصحاب الأخدود، وعن شأن الشباب من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون عن أهل الفن واللهو والعبث الباطل الزائل؟ إن الإجابة على هذا التساؤل إجابة مُرَّة، وهي تطرح مطلباً ملحاً لكل من ولاه الله مسئولية في تربية وتوجيه الأمة أجمع أن الأمة اليوم والشباب بوجه أخص يعانون من أزمة قدوة، وها هو البديل إن كنا جادين وصادقين، فلماذا لا تبرز هذه النماذج للشباب على أنهم هم المثل الأعلى؟ إذا كان الشباب يبحثون عن البطولات والإنجاز والأمجاد فها هو إنجاز أولئك الشباب ومجدهم الذي يستعلون على شهواتهم وعلى رغبات الدنيا، ويستعلون على الفتن التي تأتيهم من هنا وهناك فيعلنون إيمانهم بالله عز وجل: {لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف:14 - 15].
وأي مجد -أيها الشباب- وشأن أعلى من أن يتعلق الشباب بالمثل العليا؟ أن يتعلق الشباب بالقضية الكبرى التي خلقوا من أجلها؟ وألا تصرفهم الفتن والصوارف ويثبتوا أمامها في سبيل قضية كبرى، أيقارن هذا المجد بأمجاد الدنيا الزائفة التي يتطلع إليها الشباب اليوم؟ واسأل شباب الأمة اليوم عن قدوتهم، عن مثلهم الأعلى، عن الشخصية التي يتمنون أن يصلوا إليها، عن أمنيتهم في الحياة لتدرك المرارة والأسى وتدرك الحاجة الملحة إلى مثل هذا النموذج الذي لا يتطرق إليه الشك ولا الكذب، إنه نموذج يعرضه أمامنا كتاب الله عز وجل.
ثالثاً: ارتباط هذه القضية بالشباب تعطي الشاب الذي يعيش اليوم غربة ثقة بنفسه وثقة بطريقه، ويشعر اليوم وهو يرى ربما أنه يسير على طريق يخالفه الناس من هنا وهناك يشعر أن له امتداداً بعيداً يتجاوز هذه الحقبة الزمنية التي يعيشها؛ ليدخل ضمن هذه الدائرة الشباب الصادقون من سلف الأمة، والشباب الصادقون من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، بل يتجاوز تاريخ الأمة المحمدية ليشمل تاريخ تلك الأمم الموحدة منذ أن أهبط الله عز وجل آدم إلى أن تقوم الساعة، فيشعر الشاب حينئذ بالاعتزاز وهو ينتمي إلى هذا المنهج، ويرى أنه لا يعيش غربة، وأنه لا يعيش حالة شاذة، وإن بدا من خلال النظرة القريبة العاجلة التي يعيشها وينظر إليها اليوم غريباً شاذاً، إنه حين يقرأ كتاب الله عز وجل ويرى هذا النموذج البعيد على تلك القرون المتطاولة على مدى التاريخ فيرى أن له إخوة ساروا على الطريق نفسه، لا شك أن هذا يدعوه إلى الثبات والثقة بالطريق الذي هو عليه، ولسان حاله وهو يقرأ هذه النماذج أن يقول: لست وحدك في الميدان ولست وحدك على الطريق، وإن أصابك ما أصابك ورأيت ما رأيت فاصبر فإنه طريق طويل، إنه طريق يتجاوز مدى الزمان، ويتساءل: أين الشباب العابثون اللاهون التائهون الذين متعوا أنفسهم بالشهوات؟ أو أين أولئك الشباب الذين لم يستطيعوا أن يتجاوزوا أسر عصرهم وزمانهم، أين هم على مدى التاريخ؟ وماذا حفظ التاريخ عنهم؟ أما أهل الكهف فهاهم على مدى التاريخ يتحدث الناس ويتساءلون عنهم وعن أسمائهم، وعن اسم ذاك الكلب الذي صحبهم، أين الكهف الذي عاشوا فيه؟ إلى آخر تلك التساؤلات، وإن كانت طائفة من هذه التساؤلات تساؤلات غير جادة، إلا أن هذا يعني أن أولئك حفظ شأنهم وبقي شأنهم وبقيت قيمتهم، وما عند الله عز وجل لهؤلاء ولغيرهم من المؤمنين الصادقين أعلى وأتم من هذا الذكر الذي بقي في الدنيا.
وهو أيضاً يعني قضية أخرى مهمة: أن الإيمان والدين يرفع المرء مراتب، ويتجاوز الاعتبارات التي يضعها الناس لدنياهم، فهذه فئة من الشباب خالفوا قومهم وشذوا عن منطق قومهم وما هم عليه، فذهبوا وأووا إلى غار فباتوا فيه مدة طويلة ثم بعد ذلك ماتوا، فماذا يعني ذلك؟ لقد أعلى الله شأنهم، وأثنى عليهم، وشهد لهم بالإيمان وزيادة الهدى.
فهكذا الإيمان والصلة بالله عز وجل، إنها تتجاوز كل الاعتبارات التي يعليها الناس اليوم من الجاه والنسب والمال وسائر المطامع التي يسعى إليها الناس، تتجاوز ذلك كله لتبقى هي الرصيد الذي لا يزول ولا يفنى.(10/4)
لمز المشركين الذين لم يؤمنوا
درس آخر ووقفة أخرى: الله تبارك وتعالى قال: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]، بدأ بهذا المعنى، وهذا فيه إشارة وإيماء ولمز بالمشركين الذين لم يؤمنوا، وجاءوا يتساءلون عن شأن أهل الكهف: ما شأنهم؟ حدثنا عن فتية كانوا في غابر الزمان، فجاءت أول إشارة لهم: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} [الكهف:13]، وأنتم ما شأنكم وقد كفرتم بربكم؟(10/5)
الإيمان والعمل الصالح سبب للهداية والتوفيق
وقفة أخرى: الله عز وجل قال: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]، وهي قضية مهمة كثيراً ما يشير إليها القرآن، وقد نغفل عنها، وهي أن الإيمان والعمل الصالح سبب للهداية والتوفيق، يقول تبارك وتعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:66 - 68]، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69].
{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]، {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد:4]، وفي قراءة: (قاتلوا في سبيل الله)، {فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:4 - 6].
إذاً: أيها الإخوة، فالهداية والتوفيق من الله عز وجل لها أسباب، ومن أعظم أسباب الهداية والتوفيق: اجتهاد المرء في العمل الصالح والإيمان وتقوى الله تبارك وتعالى؛ فقال الله عز وجل: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13].(10/6)
قلوب العباد بيد الله
أيضاً: معنى آخر نحن أحوج ما نكون إليه اليوم في هذا العصر الذي أصبحنا نرى الناس يتهاوون صرعى على جنبات الطريق ذات اليمين وذات الشمال ويكيدون ويضلون عافانا الله وإياكم، والحديث اليوم الذي يسيطر على كثير من الشباب الصالحين الأخيار هو السؤال عن الثبات والهداية، وتأتي الإجابة هنا: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:13 - 14].
فقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء، والأمر أولاً وآخراً بيد الله تبارك وتعالى مقلب القلوب، فالثبات بإذن الله والتوفيق والربط على القلوب إنما هو بيد الله عز وجل، وقد جعل الله تبارك وتعالى لذلك أسباباً، فحين يشعر الشاب اليوم أن الفتن قد بدأت تتناوشه ذات اليمين وذات الشمال، ويشعر بالخطر والخوف على إيمانه فعليه أن يدرك أن الله عز وجل هو الذي يربط على قلوب المؤمنين الصادقين حين يفعلون السبب: آمنوا بالله وزادهم هدى، وربط على قلوبهم إذ قاموا فقالوا، قالوها صريحة: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} [الكهف:14 - 15].
فلا يخشى الشاب حين يؤمن بالله ويصدق مع الله عز وجل، بل يوقن بأن الله عز وجل سيثبته ويعينه ويربط على قلبه.(10/7)
دعوة التوحيد هي دعوة جميع الأنبياء
وقفة أخرى أيضاً: يقول الله عز وجل عنهم: {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:14].
فذكر هؤلاء توحيد الربوبية والألوهية: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:14] إنها دعوة واحدة وهي دعوة جميع الأنبياء: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وما أرسل الله عز وجل من رسول إلا أوحى إليه تبارك وتعالى بهذه الكلمة؛ أوحى إليه: إني لا إله إلا أنا فاعبدون، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء أولاد علات).
فقضية التوحيد هي قضية الأنبياء، هي قضية الأنبياء منذ آدم ونوح وهود وصالح، فكل هؤلاء ومن تلاهم ومن لم يقص الله علينا شأنهم كانت مقولتهم لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ} [الأعراف:59]، وهي أيضاً مقولة أهل الكهف الذين آمنوا بالله وزادهم هدى.
والتوحيد الذي يأخذ هذا القدر وهذه القيمة هو التوحيد بمفهومه الواسع، لا بالمفهوم الضيق الذي يحصره كثير من الناس في قضايا معرفية بحتة، إن كثيراً من المسلمين اليوم يشعرون أنه من الخلل بالتوحيد أن يقول أحدهم: ما شاء الله وشئت، أو أن يقول: لولا الله وفلان، ونعم، هذه أمور ينبغي أن يحذر منها الناس، وأبواب الشرك الأصغر والأكبر ينبغي أن يحذر منها الناس ويعوها، لكن أولئك الذين يحذرون من قول: ما شاء الله وشئت قد يقول أحدهم في الثناء على مخلوق بلسان الحال لا بلسان المقال: ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار إن أهل التوحيد لا يليق أبداً أن يكون في قلوبهم تعظيم لغير الله عز وجل، إن أهل التوحيد لا ينبغي أن تمتلئ قلوبهم إلا بالتوجسه لله تبارك وتعالى، وأولئك الذين تعلقوا بالدنيا وتعلقوا بالشهوات وصارت هي الحاكم الأول لكل ما يريدون، أولئك الذين صارت الدنيا هي كل شيء لديهم ينبغي أن يراجعوا توحيدهم، إنهم لو عظموا الله ووحدوا الله عز وجل وامتلأت قلوبهم بتوحيد الله تبارك وتعالى وتعظيمه لما تجرءوا على ذلك.
وأولئك الذين يتجرءون على شرع الله عز وجل فيحرم الله أمراً تحريماً صريحاً واضحاً فيتجرأ أولئك على إباحته على رءوس الأشهاد، أولئك ما قدروا الله حق قدره، وما وحدوا الله عز وجل حق توحيده، وأولئك الذين يتجرءون على مقام الألوهية فيشرعون ما لم يأذن به الله، أولئك قد طعنوا في توحيدهم، وقد جعل الله عز وجل هاتين القضيتين قرينتان: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40]، فقضية العبادة لا يتقرب بها المسلم إلا إلى الله عز وجل، وكما أنه لا يصلى ولا يسجد إلا لله عز وجل فلا يحكم إلا شرع الله تبارك وتعالى، والفصل بينهما خلل في قضية التوحيد، إذاً فكانت قضية التوحيد هي قضية هؤلاء.(10/8)
عظم شأن الدعاء في التوحيد
جانب آخر أيضاً له أهميته: {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:14]، وهو عظم شأن الدعاء في التوحيد، وقد سماه الله عز وجل عبادة، فإبراهيم عليه السلام يقول: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [مريم:48 - 49]، فسماه الله عز وجل عبادة، {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60].
وقال صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة)، لماذا كان الدعاء هو العبادة؟ ولماذا صار الدعاء قرين التوحيد؟
و
الجواب
إن الدعاء يعني توجه القلب لهذا الذي يدعوه المرء، فحين يدعو المرء غير الله فهذا يعني: أنه يرجو غير الله، يعني: أنه يعظم غير الله عز وجل، يعني: أنه يشعر أن قضيته بيد فلان أو فلان، أما أولئك الذين يخلصون دعاءهم لله تبارك وتعالى فأولئك لا يرون لبشر عليهم فضلاً، ولا يرون لبشر عليهم منة، ولا يرجون من بشر نوالاً، ولا يخافون من بشر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك).(10/9)
أهمية الدليل والبرهان
جانب آخر ووقفة أخرى: يقول هؤلاء: {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} [الكهف:15]، الدليل والحجة والبرهان منطق مهم ينبغي دائماً أن يحكم ما نقوله في كل قضية، والحق أبلج والباطل لجلج، إن أولئك الذين يستخدمون أسلوب الإثارة والتهويل وإصدار الأحكام الجاهزة أولئك يفرون من منطق الحجة والبرهان، ولا يخشى الدليل ولا الحجة ولا البرهان ولا الحوار إلا أولئك الذين لا يملكون ما يقدمون، ولا يستطيعون أن يقنعوا الناس بقضيتهم ودعوتهم، أما أهل الحق فلا يخشون من ذلك، بل إن الله عز وجل دعا أولئك الذين تجرءوا على الشرك فقال: {اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف:4]، ودعا أولئك الذين نسبوا الولد إلى الله عز وجل أن يأتوا ببرهان أو حجة، ونعى تبارك وتعالى على أولئك الذين يسيرون ويتبعون كل ناعق، وما جاء التقليد في القرآن إلا في موضع الذم والنهي، بل جاء التشبيه البليغ لأولئك الذين يسيرون خلف كل ناعق فقال الله عز وجل: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة:171]، كمثل الراعي حينما يسير بغنمه فهو ينعق بها ويصيح بها، فالغنم تسمع صوت الراعي لكن لا تفقه ما يقول، تسمع دعاء ونداء يدعوها فتسير وراءه وتمشي وراءه، ولا يسوغ أبداً أن نتربى على أن نكون قطيعاً نسير وراء كل ناعق، وأن تتربى الأمة على أن تكون قطيعاً ينعق لها هنا وهناك فتسير، فالأمة رباها القرآن على: {لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} [الكهف:15]، والذي عنده برهان وسلطان يمكن أن يطرحه، ويقول: هذا ما عندي، وأنتم: {اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} [الأحقاف:4]، {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111]، هذا هو المنطق الذي ينبغي أن يسود في دعوتنا، ينبغي أن يسود في تربيتنا، ينبغي أن تتربى عليه الأمة حتى تكون أمة مستقلة واعية، هل من مصلحة الأمة أن تكون أمة يغيب عنها الوعي؟ أن تكون أمة مغفلة؟ أن تكون كالقطيع؟ إذا كنا كذلك فنحن نريد أن تكون الأمة (كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء)، وما وصف الله عز وجل الأمة بأنها قطيع يسير وراء من ينعق به ويدعوه.(10/10)
الصلة بالله تعالى
من الجوانب المهمة التي تبدو في هذه القصة: الصلة بالله عز وجل، وهي قضية ينبغي ألا تفارق المسلم، {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [الكهف:13 - 15] ثم قال: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} [الكهف:16]، اعتزلوا أقوامهم ولجئوا إلى الله تبارك وتعالى، {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} [الكهف:16]، فلجوؤهم إلى الله عز وجل واعتصامهم بالله تبارك وتعالى أمر مهم ينبغي ألا نفتقده في أي موطن وفي أي حال، وهاهو هذا الدرس نتلقاه في قصة موسى في سورة القصص، فلما جاءه رجل من أقصى المدينة يسعى قال له: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص:20 - 22]، ثم لما أوى إلى الظل قال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24]، وهكذا الله عز وجل حين ذكر طائفة من أخبار الأنبياء في سورة الأنبياء قال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90].
فينبغي أيها الإخوة ألا نفتقد هذه القضية في كل موطن وفي كل حين، والمؤمن الموصول بالله يجد الطمأنينة والسكينة في كل ما يواجهه، حينما أمر الله عز وجل موسى أن يذهب إلى فرعون: {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:45 - 46].(10/11)
الثبات وأسبابه
جانب آخر: وهي قضية مهمة ترتبط بالثبات يجب نعيها، فالله عز وجل أخبر أنه ربط على قلوب هؤلاء وثبتهم وأعانهم ووفقهم، وذلك لأنهم بذلوا السبب فآمنوا بالله، ثم لما رأوا أن بقاءهم مع قومهم قد يكون سبباً لفتنتهم تركوا قومهم وأووا إلى الكهف: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} [الكهف:16]، ثم حين بعثوا أحدهم: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:19 - 20].
إذاً: فالمسلم حتى يثبته الله يحتاج إلى أن يبذل الأسباب، وأن يجتهد فيبتعد عن مواقع الفتنة ويحذر منها ويتجنبها، ثم يكل أمره إلى الله فيثبته الله عز وجل حينئذ، أما الذي يرمي نفسه في اليم ويسأل الله الثبات فهذا لم يفعل السبب الذي يستحق من أجله أن يوفق وأن يعان.(10/12)
حفظ الله لأوليائه والسنن التي يجري ذلك وفقها
جانب آخر عجيب في هذه القصة: حين ذهب هؤلاء وغادروا قومهم فرأوا كهفاً فقال: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} [الكهف:16]، قال تبارك وتعالى: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا * وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:17 - 18].
لقد حفظهم الله عز وجل وحماهم بأمور عدة: أولاً: أن جاءوا إلى هذا الكهف، فالشمس إذا طلعت تزاور عنه ذات اليمين، وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال، فاختير لهم من هذا الموطن وهذا الكهف الذي لا تدخله الشمس حينما تطلع أو حينما تغرب، ولهذا ذهب بعض المفسرين إلى أنه إلى جهة الشمال، فاختار الله لهم هذا الكهف.
ثانياً: أصبحوا يقلبون ذات اليمين وذات الشمال حتى لا تبلى أجسادهم: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف:18].
ثالثاً: ألقي عليهم الرعب والمهابة بحيث لو رآهم أحد فر منهم.
إنه حفظ الله لأوليائه، وفيه عبر: أولاً: أن الله حفظهم من حيث لا يحتسبون ومن حيث لا يظنون، فأمر الله فوق ما يفكر فيه البشر ويدور فيه البشر، حينما جاء هؤلاء الفتية أرادوا أن يختفوا وأن يستريحوا وأن يناموا، ربما ناموا تحت شجرة، أو في كهف إلى جهة المشرق، أو في كهف إلى جهة المغرب، وما كان يدور في بال أحدهم أنهم سينامون هذه القرون وسينامون هذه السنين الطويلة، فاختار الله لهم أمراً لم يدر في بالهم، جاءوا فوجدوا هذا الكهف وأووا إليه، لكن الله اختار لهم هذا الكهف، إذاً فأمر الله وإرادة الله فوق ما يتصور الإنسان، والله عز وجل يحفظ أولياءه وعباده من حيث لا يحتسبون من حيث لا يظنون والعاقبة أمرها إلى الله عز وجل.
أمر آخر أيضاً حول حفظ الله لأوليائه: سنة الله تبارك وتعالى أن الله يجري أسباباً عادية، إن الله عز وجل كان من الممكن أن يحفظهم، وقدرة الله عجيبة، بل هذا الحدث فيه قدرة عجيبة أن يبقى هؤلاء نائمين ثلاثمائة سنة، لكن الله عز وجل كان يمكن أن يحفظهم وهم قد ناموا تحت شجرة، أو ناموا تحت كهف إلى جهة المشرق أو إلى جهة المغرب، ويمكن أن يحفظهم الله عز وجل ويحميهم، لكن سنة الله عز وجل أن يسيروا وفق أسباب طبيعية، ثم قد تأتي الخوارق بعد ذلك.
وهذا فيه تربية للأمة؛ لأن حينما يكون هناك جيل يتعلق بالخوارق يبقى جيلاً غير عملي فلا يحمل المسئولية، ويجب أن نحذر من هذا في تربيتنا اليوم للحيل الذي يراد منه حمل الرسالة حينما نقول له: إن الله سينصر دينه وسيتم كلمته، فإن هذا حق وأمر الله فوق كل شيء، لكن يجب أيضاً أن نقول لهؤلاء: إن النصر والتمكين لا يكون إلا على أعتاب التضحيات والبذل والجهد، فهذه سنة الله عز وجل.
ففي قصة مريم حينما أجاءها المخاض إلى جذع النخلة أوحى الله عز وجل إليها: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم:25] يقول بعض المفسرين: النخلة لو هززتها ما أسقطت تمرة، هل يستطيع أحد أن يهز جذع النخلة فتسقط عليه من الرطب فضلاً عن امرأة تعيش حالة نفسية صعبة وهي لا تزال في ساعة الولادة فتؤمر بهز النخلة، أعني أننا قد لا نتصور أن هزها لجذع النخلة هو الذي سيساقط عليها الرطب، لكن سيسقط عليها الرطب وتهز لتربي الناس على بذل الجهد والسبب.
خذ مثالاً أوضح في قصة أصحاب الأخدود حين جاء الغلام ورأى الناس قد وقفوا وراء دابة قد سدت الطريق، فدعا الله عز وجل فقال: اللهم إن كان دين الراهب أحب إليك من دين الساحر فاقتل هذه الدابة على يدي وأخذ حجراً فرماها به فقتلها، والحجر لا يقتل الدابة وإلا فالناس ليسوا عاجزين حتى يأتي هذا الغلام ليرميها بحجر، إنما كانت آية، فهل تعيش الأمة اليوم هذا المعنى؟ وهل نشعر أن من مسئوليتنا أن نبذل الأسباب في كل شيء ونجتهد، وانظر إليهم كيف بذلوا السبب، وسنأتي إلى قضية أخرى في ختام الحديث أيضاً تشير إلى هذا المعنى وأن هذه الروح كانت موجودة عندهم.
إذاً: فسنة الله عز وجل أن يحفظ أولياءه من حيث قد لا يحتسبون، وأن يجري ذلك وفق سنن طبيعية ثم قد تأتي خوارق.
وأمر آخر: الله عز وجل قال في أول هذه الآيات: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} [الكهف:9]، ليست هذه أعجب آيات الله(10/13)
الصحبة الصالحة والحاجة إليها
من الجوانب المهمة والدروس المهمة أيضاً في هذه القصة: أثر الصحبة الصالحة وارتباطها بقضية الثبات، والحاجة الملحة إليها خاصة في أوقات الفتن والمحن، أو في الأوقات التي يزيد فيها الفساد فأحوج ما يكون المرء إلى هذه الصحبة، فجاء هؤلاء فتية واجتمعوا وتعاونوا ولهذا صار يوصي بعضهم بعضاً ويعين بعضهم بعضاً على الحق، بل إن بعض المفسرين ذكر لطيفة وليست هي أكبر قضية في شأن الصحبة الصالحة، لكن قال: هذا الكلب صاحبهم فجاء ذكره في القرآن وصار المفسرون يتحدثون عن اسم هذا الكلب وعن شأنه وعن خبره فيقولون: إذا كانت الصحبة الصالحة قد انتفع بها الكلب فأن ينتفع بها المخلوق من باب أولى، لكن أكثر من ذلك دلالة قول النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الملائكة الذين يتتبعون مجالس الذكر: (فيصعدون إلى ربهم فيقول: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم يسبحونك ويحمدونك ويكبرونك.
قال: فماذا يسألونني؟ ومم يستجيروني؟) إلى آخر الحديث وفيه: فلما قال الله عز وجل: (أشهدكم إني قد غفرت لكم) قالوا: فيهم فلان عبد خطاء ليس منهم إنما جاء لحاجة يعني أنه ما جاء حتى مجاملة ولكن جاء يريد حاجة، يمكن أنه أتى يبحث عن أحد الموجودين فرآهم في المجلس فما أراد أن يقطع عليهم الحديث فجلس فقال الله عز وجل: (هم قوم لا يشقى بهم جليس) إذا كان هذا يا أخي فما بالك بالذي لرغبة وإن كان خطاء أو مقصراً؛ لكن جاء لرغبة وجاء يقول: لعل الله عز وجل أن يرزقني البركة في مصاحبة الصالحين، وأن يجعلني ممن أحب قوماً ولما يلحق بهم، فالله عز وجل يحشر المرء مع من أحب.
أيضاً الحاجة إلى التعاون على الثبات والخير والتلاقي، وكلما أصبحنا نشعر اليوم أن الفتن أصبحت تهدد المسلمين ينبغي أن يدعونا هذا إلى أن نتكاتف جميعاً وأن نتواصى بالحق وأن نتناصح وأن نتعاون على الثبات، وألا يهمل بعضنا بعضاً، وألا يدع بعضنا بعضاً، بل يأخذ كل منا بيد أخيه ليعينه ويثبته ويسدده على هذا الطريق.
جانب آخر أيضاً: حينما استيقظ هؤلاء تساءلوا: قالوا: {كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} [الكهف:19].
لما استيقظوا بدر إلى الذهن سؤال طبيعي وكأنهم استطالوا النوم فقالوا: كم لبثتم؟ قالوا: يوماً أو بعض يوم، ثم قالوا بعد ذلك: ربكم أعلم بما لبثتم، يعني: النقاش في الموضوع ليس بعمل، والنقاش في الموضوع ليس هو المرام، فننا الآن أمام قضية يجب أن نعالجها ونعتني بها وهي أنهم يحتاجون إلى الطعام فليذهب أحدهم إلى المدينة وليختر الطعام ليأتي به، وهي قضية مهمة فيما نملأ به مجالسنا وفي أدب النقاش والحوار والجدل، فأحياناً القضايا التي ليست ذات بال قد تثار للنقاش وقد تطرح سؤالاً نجيب عليه هنا وهناك، لكن لا ينبغي أن تملأ مجالسنا، بل يأتي التعقيب على هذه القصة بهذا المعنى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:22].
والعجب أن هذه الآيات تؤكد على هذا المعنى، والسورة كلها تؤكد على هذا المعنى، أي: على عدم الجدل فيما لا يفيد، إلا أنك تجد بعض المفسرين يستطرد في كلام كثير فيذكر أسماءهم واسم الكلب والغار وغير ذلك.
والله عز وجل ما أنزل علينا هذه الآيات لهذا، ولكن لنعتبر ونتعظ ونأخذ ما فيها، والقضية لا تختلف سواء كان الكهف في أسبانيا أو في الهند أو هنا أو هناك، ولو كان في الأمر قضية نحتاج إليها لما أهملها القرآن ولذكرها القرآن.
أيضاً من اللطائف التي نشير إليها أنهم قالوا: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} [الكهف:19] يعني: يختار طعاماً طيباً مناسباً، قال بعض المفسرين: إن اختيار الإنسان للطعام الطيب والحسن أمر لا يخالف المشروع، وذكر الله عز وجل ذلك وهو يثني عليهم، فلا حرج أن الإنسان يختار طعاماً طيباً وإن كان يجد ما هو دونه في غير سرف ولا ما إلى ذلك.
جانب آخر أيضاً في هذه القصة: قال الله عز وجل: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} [الكهف:19] وهذا يعني: أنه كان عندهم ورق وعندهم نقود، ثم قالوا: {فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} [الكهف:19]، وهذا استنبط منه بعض المفسرين أنهم كانوا أثرياء وأبناء طبقة ثرية وكان معهم ورق ولذا اختاروا طعاماً طيباً، والطعام الطيب لا تختاره إلا فئة اعتادت عليه وألفته، وليسوا من الطبقة الفقي(10/14)
الحث على التحرز والبعد عن مواطن الفتن
من الجوانب والدروس: هؤلاء حينما استيقظوا وأرسلوا أحدهم، قالوا: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف:19] ينتبه ويحذر ويكون إنساناً فطناً: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:20].
وأشار الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله إلى جزء من هذا المعنى قال: ومنها -يعني من فوائد هذه القصة- الحث على التحرز والاستخفاء والبعد عن مواطن الفتن في الدين واستعمال الكتمان في ذلك على الإنسان وعلى إخوانه في الدين.
أقول: هنا جوانب مهمة، وهي أولاً: أن المسلم ينبغي أن يفر من الفتن ويبتعد عنها وينأى عنها، فإذا جاءت صبر وثبت، وهنا يقع الخلط، إما أن يغلب الإنسان الثبات والنظر إلى الأجر الذي يترتب على الثبات على الفتنة والابتلاء فيبحث عن الفتنة ويسعى إليها، وهذا غير مشروع، ودليل على ثقة الإنسان بنفسه، وقد يكون سبباً في أن يوكل الإنسان إلى نفسه وإذا وكل الإنسان إلى نفسه ضاع وتاه، ولهذا فمن المهم أن يبتعد عن الفتن ويحذر منها بالوسائل المشروعة، فإذا جاءت ثبت.
في قصة أصحاب الأخدود لما جاء الغلام قال: إني رأيت دابة سدت على الناس الطريق وقتلتها فذهب الناس، فقال الراهب: أي بني! قد غدوت اليوم أفضل مني، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي! أخذ الموقف حين رأى أن الغلام أفضل منه فشعر أن من سنة الله أنه سيبتلى، ولهذا لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى ورقة وقال له ما قال، قال: (ليتني حياً إذ يخرجك قومك، قال: أومخرجي هم؟ قال: ما جاء رجل بمثل ما جئت به إلا عودي)، فأي رجل يدعو إلى ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم لابد أن يواجه وغيره، لكن ما هو الحل؟ الثبات والفرار من الفتن، فالراهب ماذا قال للغلام؟ قال: إن ابتليت فلا تدل علي، لكن لما عذب الغلام وما أطاق ودل على الراهب ثبت الراهب فما ترك دينه وما تخلى عن دينه.
أيضاً: الفرار من الفتن لا يدعو المرء إلى أن يرتكب ما حرم الله، أو أن يدع ما أوجب الله عليه بحجة الفرار من الفتن، فالميزان هو ميزان الشرع، ولهذا فالنظرة المتكاملة لهذه القضية تمنع الإنسان من الشطط هنا أو هناك، يعني: من الغلو في النظرة إلى الجانب الآخر وثقته وإفراطه بنفسه، أو من الغلو في مسألة الفرار من الفتن؛ فيرتكب الحرام ويدع ما لا يسوغ له أن يدعه بحجة الفرار من الفتن، والثبات بيد الله، تركت أم فعلت، فسلم أمرك لله عز وجل يوفقك الله ويعينك تبارك وتعالى.
أيضاً: في هذه القصة الحرص على الدين والشح بالدين، ولهذا جعل الحافظ البيهقي من شعب الإيمان: الشح في الإيمان بالدين، وهنا قال: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:20]، حرصهم على دينهم وشحهم بدينهم جعلهم يفرون من قومهم، ثم يأوون إلى الكهف، ثم أرسلوا واحداً فقط ما أرسلوا اثنين أو ثلاثة، فذلك أسهل للتخفي، ثم حذروه: تلطف؛ لأننا إذا عدنا إلى قومنا صرفونا وصدونا عن ديننا.
فينبغي أن يشح المسلم بدينه، وأن يكون حريصاً عليه، وليست القضية أن نأخذ هذه الصورة القريبة ونجعلها هي القاعدة، بل نأخذها على مدى أوسع، يعني: إذا كان هؤلاء يأتيهم الخطر على دينهم من جهة أن يظفر بهم قومهم المشركون فيصدونهم عن دينهم، فغيرهم من الفتية والشباب الذين لهم أسوة في هؤلاء قد يكون الخطر عليهم من أن ينظر أحدهم إلى صور عارية أو إلى مجال أو ميدان فيه سفور وتبرج أو إلى أي فتنة أخرى.
فلا بد أن يكون المسلم شحيحاً بدينه، وفاراً من الفتن وحريصاً على دينه، وهذا من أسباب توفيق الله عز وجل وتثبيته.(10/15)
العواقب أمرها إلى الله
من العبر المهمة أيضاً: أنهم قالوا: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:20]، وكانوا يشعرون هم أن فطنة قومهم إليهم وظهورهم عليهم أمر لا يخدمهم وليس في مصلحتهم، لكن ما الذي حصل؟ ظهر قومهم عليهم واطلعوا عليهم: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} [الكهف:21] فأعثر الله عز وجل عليهم، وقد كانوا يتصورون أنه حين يعثر عليهم قومهم أن هذا لا يخدمهم، وأنهم إما أن يرجموهم أو يعيدوهم في ملتهم، وهذه فيها درس وعبرة عظيمة، وهي أن العواقب لا يعلمها إلا الله، فالمسلم مأمور أن يأخذ الأسباب ويتعامل مع الأشياء الظاهرة الواضحة أمامه، ثم يكل الأمر إلى الله، فالأمر الذي تحذر منه قد يكون فيه الخير، وإليكم مثالين من السيرة: في حادثة الهجرة لما جاء سراقة ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم لما سمع رجلاً يقول: رأيت هاهنا أسودة فلعله محمد ومن معه؟ قال سراقة: إنهم بنو فلان خرجوا يتعقبون بعيراً لهم، واستقسم بالأزلام، فخرج أن لا يضرهم، واستقسم أخرى فخرج أن لا يضرهم، فهو يستقسم بالأزلام، لكن مع ذلك يخالفها فعنده ازدواجية إلى الآن، فلما رآه أبو بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله هذا سراقة، النبي صلى الله عليه وسلم كان ثابتاً مطمئن البال، فلما لحق بهم سراقة وصار من شأنه ما صار، قال الراوي في آخر القصة: فكان أول النهار جاهداً عليهما، وآخر النهار حارساً لهما.
إذاً: ربما ونحن نعيش القصة، يعني: الإنسان يقرأ القصة لأول مرة وتفاعل معها في عواطف، يتمنى أن سراقة يموت ما يلحق بهم، لكن الأمر وراءه أمر آخر، كان من مصلحتهم أن يلحق بهم سراقة، سراقة الذي كان يطلبهم ويبحث عنهم لما لحق بهم صار آخر النهار حارساً لهما، يا أخي القضاء والقدر أمر عند الله ما هو عندك ولا عند فلان ولا غيره ولا بيد هؤلاء وغيرهم.
نموذج آخر: في صلح الحديبية كان من الشروط: أن من جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم من المستضعفين فعليه أن يرده، وهذا كان صعباً على المسلمين وزاد الصعوبة أنه موقف قدره الله، موقف يثير عواطف الناس، يأتي أبو جندل يرسف في قيوده فيلقي بنفسه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول سهيل: هذا أول ما أقاضيك عليه، فأعاده إليهم، فصاح بالمسلمين: يا معشر المسلمين! تردونني للمشركين ليفتنوني في ديني، ولهذا ما أطاق عمر رضي الله عنه الصبر على هذا، والمسلمون أصبحت عواطفهم مع هؤلاء المستضعفين، فيعاد أبو جندل رضي الله عنه إلى قومه، ثم يأتي أبو بصير ويفر من المشركين ويأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيأتون ليطلبوه من النبي صلى الله عليه وسلم بناء على الشروط فيرسله، ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم رسالة يفهمها أبو بصير: (ويل أمه مسعر حرب لو كان معه رجال)، ومضى أبو بصير وقتل صاحبه، ثم هرب إلى العيص، فلحق به أبو جندل ولحقه سائر المستضعفين.
فلهذا الشرط هو الذي جعل أبا بصير يفر إلى ذاك المكان، ويعلن الحرب؛ لأنه غير داخل تحت سلطان النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أنهى ما عليه، وليس على النبي صلى الله عليه وسلم أنه يطارد أبا بصير ويقبض عليه ويعطيه للمشركين.
فجاء أبو جندل وسائر المستضعفين وانضموا إلى أبي بصير، فصار هذا الشرط من مصلحة المستضعفين أنفسهم، بعد أن كان الصحابة والمشركون يظنون أنه ليس من مصلحة المستضعفين، حتى تأتي قريش وترجو من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتنازل عن هذا الشرط، ولذا فالعواقب لا يعلمها إلا الله.
مثال ثالث: في قصة عائشة رضي الله عنها حينما قذفت رضي الله عنها بالفرية العظيمة، ففي بادئ الأمر ما كان يمكن أن تظن عائشة أن هذا خير لها، هل كان أحد يظن أن عائشة كان خيراً لها أن تقذف بالزنا؟ فبقيت عائشة رضي الله عنها شهراً كاملاً، وبقي النبي صلى الله عليه وسلم كذلك حتى تجرأ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا عائشة إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله).
ثم ينزل الوحي ببراءتها فتقول: كان شأني في نفسي أحقر من أن ينزل الله في قرآن يتلى، وكنت أرجو أن يري الله نبيه رؤيا تنزل فيها براءتي، فتلك الفرية التي جاءت لـ عائشة كانت سبباً في أن ينزل فيها آيات من ك(10/16)
تذكر قيام الساعة
أختم بهذه العبرة: ولأنهم حينما استيقظوا: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:19] وهم لبثوا ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً كما قال الله عز وجل، والله عز وجل ربط هذا الموقف بالساعة، فقال: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} [الكهف:21]، ولهذا قال بعض المفسرين: إن حال هؤلاء يشبه حال الناس حينما يقومون لرب العالمين: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} [يونس:45]، {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:112 - 113]، إذاً: فالدنيا كلها بما فيها ستتحول يوم القيامة إلى ساعة من نهار، وستتحول إلى يوم أو بعض يوم كما حصل تماماً لأهل الكهف؛ حين استيقظوا صارت الثلاثة القرون كيوم أو بعض يوم.
هذه بعض الوقفات، وهي كما قلت ليس تفسيراً لهذه السورة ولا لهذه الآيات، إنما هي إشارات وعبر وكلما قرأنا هذه الآيات ووقفنا عندها سنرى أنا نستنبط منها دروساً وعبراً أعجب وأعظم مما يبدو لنا، وهذه من عجائب القرآن أنه لا تنقضي عجائبه، ولا يمل منه الإنسان، وكل يوم يتدبر فيه ويقف عنده يستنبط أموراً وفوائد جديدة لم يكن استنبطها من قبل، وهذا كلام الله عز وجل لا يمكن أن يقاس بكلام خلقه.
أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم جميعاً، وأن يهدينا وإياكم صراطه المستقيم إنه سميع مجيب.
هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(10/17)
الأسئلة(10/18)
المفهوم الأوسع للتشبه
السؤال
طرقتم قضية التشبه والتقليد، ألا ترى أننا قد نهتم أحياناً بقضايا التقليد الظاهرة كاللباس والمظهر والكلام، ولكننا قد نغفل أحياناً عن قضايا التشبه بأمور أعظم دون أن نشعر، نرجو تعليقكم على ذلك مأجورين؟
الجواب
قضية التقليد والتشبه أعم من أن تكون مجرد المظهر، كون الأمة تكون اهتماماتها مثل اهتمامات الكفار وقضايا تشغلها مثل قضايا الكفار أنا أتصور أن هذا لون وباب من أبواب التشبه بهؤلاء.(10/19)
مكان وجود الكهف
السؤال
يوجد كهف في الأردن يدعون أنه كهف أصحاب الرقيم، هل ثبت مكانه عند أهل العلم؟
الجواب
القاعدة في هذه القصص ألا يثبت منها إلا ما جاء في القرآن أو صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، يقول الله عز وجل: {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف:22]، والمرويات عن بني إسرائيل لا تصدق ولا تكذب، ففيما أعرف أنه لم يثبت شيء صحيح في ذلك، ولو كان يترتب على مكانه وموقعه أمر ذو بال لأرشدنا الله عز وجل إليه، فما ترك الله عز وجل في كتابه خيراً لنا إلا ودلنا عليه.(10/20)
هجرة أهل الكهف إلى الكهف
السؤال
هل ذهاب الفتية إلى الكهف هو نوع من أنواع الهجرة أم لا؟
الجواب
هي هجرة وفرار من قومهم؛ لأنهم شعروا أنهم إذا بقوا عند قومهم سيفتنونهم ويصدونهم عن دين الله فخرجوا وهاجروا في سبيل الله عز وجل.(10/21)
نصح الفتية أهل الكهف لقومهم بالتوحيد
السؤال
هل هؤلاء الفتية تركوا قومهم ولم ينصحوا لهم بالتوحيد؟
الجواب
لا، {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:14]، ثم إذا كانوا ما نصحوا قومهم، فلماذا يرجمهم قومهم أو يعيدونهم في ملتهم؟ لماذا يواجههم قومهم؟ وهذه قضية مهمة أشير إليها عاجلاً، نقارن بين عداوة قريش اللدودة لدعوة التوحيد، وقد كان هناك مثلاً زيد بن عمرو بن نفيل وورقة وقس بن ساعدة وكانوا موحدين يجهرون بهذا الكلام عند قريش، وقريش ما كان عندهم مشكلة أبداً، لكن لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم تغيرت الصورة تماماً واختلفت القضية، يعني: هل ممكن أن نقول: أن الحنفاء استطاعوا أن يوحدوا الله وأن يدعوا إلى التوحيد من دون مشكلات؟ نعم هم فعلاً دعوا إلى ذلك بدون مشكلات، لكن المنهج الذي نتعبد به نحن منهج النبي صلى الله عليه وسلم لا منهج الحنفاء.(10/22)
أهمية الصحبة الصالحة
السؤال
وهذا كلام جميل أقرؤه وأكتفي به، والأخ طلب التعليق، يقول: لقد كان زيد رضي الله عنه يفخر على باقي الصحابة بأنه الوحيد الذي ذكره الله من فوق سابع سماء في القرآن في قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب:37]، ونرى في سورة الكهف أن الله عز وجل قد ذكر الكلب في قصة هؤلاء الفتية الصالحين، ذكر القرطبي في تفسيره: أن الكلب نال هذه المنزلة العالية بأن يذكر في القرآن بسبب صحبته لأهل الصلاح والخير، انتهى، يقول: فكيف بمن هو فوق هذا الكلب بالمنزلة: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70] حين صحبته للصالحين، ونحن نسمع من يحذر من صحبة الصالحين ويلقي في طريق التائب الشبهات لكي يحول بينه وبين الصحبة الصالحة لكي يبقى في ضلالة، فهل من كلمة لأهمية الصحبة الصالحة في الثبات على دين الله في ضوء هذه الآيات؟
الجواب
التعليق الذي ذكره الأخ جميل ويكفي، وأنا أشير إلى قضية: أن الله عز وجل بعد أن ختم هذه الآيات، قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤمر بأن يصبر نفسه مع هؤلاء فغيره من باب أولى.(10/23)
الحكمة من قراءة سورة الكهف يوم الجمعة
السؤال
ما الحكمة من قراءة سورة الكهف في يوم الجمعة؟
الجواب
الله أعلم، ونحن ذكرنا من دروس أهل الكهف أنه لا يشغل الإنسان نفسه بما لا يترتب عليه فائدة كبيرة، ممكن نتساءل إذا وجدنا نصاً معيناً يدل على هذا المعنى، وإلا فلا نشغل أنفسنا، لكن أخشى أننا ننشغل بالسؤال عن الحكمة منها أكثر مما نعتني بقراءتها.(10/24)
كيفية معالجة السلوك الخاطئ
السؤال
بصفتكم أصحاب تخصص وباع في التربية، فكيف يكون معالجة السلوكيات الخاطئة في البيت أو المدرسة أو المجتمع؟ وما الكتب الهامة في التربية عموماً وهذا المجال خصوصاً؟
الجواب
هذا سؤال عريض لا نستطيع أن نجيب عليه في هذا المقام، لكن أحياناً نقع في خطأ عند معالجة الخطأ نفسه، ومعالجة الخطأ أحياناً يترتب عليها ما هو أكبر منه، ومن ذلك مثلاً قصة الرجل الذي بال في المسجد، فلما جاء الصحابة يعالجون الخطأ نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يعالج الخطأ بخطأ أكبر منه، أحياناً يسيطر علينا الخطأ نفسه وضخامته مثلاً فلا نفكر بعاقبة، بعاقبة العلاج ولا بأسلوب العلاج، وهل ستكون خطوة ناجحة أم لا؟(10/25)
علاج الفتور عند الشباب
السؤال
ما علاج الفتور الذي يرى ويشاهد في أوساط الشباب في هذا الوقت؟ وما نصيحتكم لهم بصورة سريعة ومختصرة؟
الجواب
هو اللجوء إلى الله عز وجل دائماً، وتلاوة كتابه، وذكر الله عز وجل، وإحياء القلب والقراءة في الرقائق وسير الصالحين والزهاد، هذه من أفضل الوسائل لعلاج هذا الأمر بإذن الله عز وجل.
والاجتهاد في العبادة والإقبال على الله عز وجل، وكلما أدرك المرء قصوراً أو فتوراً أو تفريطاً في نفسه فليبادر إلى علاجه وحله قبل أن يستفحل؛ لأن القضية تبدو مجرد ضعف يسير ثم يتطور، فإذا تركه الإنسان دون علاج تطور واستفحل حتى يقضي عليه تماماً، مثل المرض أحياناً يبدأ بصورة يسيرة، ثم يتحول بعد ذلك إلى داء يستعصي على الأطباء علاجه.(10/26)
اليائسون من انتصار الدين
السؤال
هناك من يعتقد أنه لم تعد هنالك مجالات مفتوحة للدعوة إلى الله ونصرة هذا الدين، ويوصي الإنسان أن يشتغل بنفسه فقط دون العناية بالدعوة؛ لأن الباطل قد ظهر وتمكن، فبماذا تنصح في هذا الموضوع؟
الجواب
هذا كما قال الإمام أحمد: إن كان هذا عقله فقد استراح، لأن من ذهب عقله فهو غير مكلف بالدعوة، فهذا منطق اليائسين، اقرءوا قصص الأنبياء وكيف كانوا مع أقوامهم، وكانت الأبواب مغلقة، ومع ذلك فإن أمر الله ودين الله فوق كل شيء.
والله تعالى ما أنزل الدين علينا إلا ليظهره على الدين كله، ولم ينزل الدين ليكون مجرد وسيلة يتآمر عليها الأعداء، وليكون أولياء الله عز وجل ألعوبة في يد هؤلاء، لكن هي مراحل يبتلى فيها الناس، قال الله عز وجل وهو أصدق القائلين: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح:28] وعد الله عز وجل لا يمكن أن يتخلف أبداً.(10/27)
الفرار من الفتن بالوسائل المشروعة
السؤال
بعد هذه المحاضرة القيمة والتي هي قريبة من الشباب قد يتحمس البعض فيسعى ليطبق هذه القصة، ويدور في باله إجراء مقارنة بين هذا المجتمع الذي كانوا يعيشون فيه وتلك الظروف والبيئة، وبين ما نحن فيه فيأوي إلى كهف ويعتزل الناس، فنرجو منكم الإشارة إلى الفرق بين الاقتداء والتقليد الغير المنضبط ولو كان بالصالحين؟
الجواب
هذا سؤال مهم نبهني إلى قضية كنت أريد أن أشير إليها، وهي هل العبرة مثلاً في أهل الكهف أن الإنسان يبحث له عن كهف إلى ذات الشمال ويبقى فيه أم ما هي هذه العبرة؟
و
الجواب
العبرة هي أن يفر الإنسان من الفتن بالأساليب والوسائل المشروعة، ولاحظ الآن أن هذا الأصل متفق عليه بين المؤمنين من أتباع الأنبياء كلهم أنهم يفرون من الفتن، لكن كيف يفرون؟ إذا كان الله عز وجل قد شرع لأولئك وسيلة فليس بالضرورة أن تكون هذه الوسيلة مشروعة؛ لكن الأصل واحد وهو أن يفر المسلم من الفتن، فحينما تقتدي بهم تقتدي بهم في الفرار من الفتن، في الثبات على الدين، بالوسيلة التي شرعها الله عز وجل لك.(10/28)
الاجتهاد والجد في حفظ القرآن
السؤال
إنني شاب أقرأ القرآن الكريم كل يوم ولله الحمد والمنة وأحفظ وأجتهد فيه، ولكنني لا أحفظ سورة منه إلا بعد وقت طويل، فما الطريقة المناسبة لحفظ القرآن ومراجعته، وأسأل الله أن يثبتني وإخوتي على هذا الدين القويم؟
الجواب
هو يحتاج إلى جهد، يعني: دائماً أي شيء ثمين نسعى إليه لابد أن نبذل ثمناً يتناسب معه، حتى في مقاييس الدنيا من كان يريد أهدافاً طموحة لابد أن يضحي ويبذل، والله عز وجل أعلى منزلة حفظة القرآن وأهل القرآن فينبغي أن نسعى نحن إلى حفظ القرآن ونضحي ونبذل ونجتهد.(10/29)
ماذا قدمت لإخوانك
السؤال
نرجو توجيه سؤال لكل من حضر، ماذا قدم لإخوانه الذين لم يحضروا ولم يتذوقوا طعم السعادة وطريق الاستقامة؛ كل حسب استطاعته بصبره وحسن خلقه وابتسامته وإفشاء السلام وكثرة الخصال الحميدة التي لها الأثر في التأثير على هؤلاء، وفقكم الله؟
الجواب
السؤال الذي طرحه الأخ يكفي فينبغي أن نسأل أنفسنا هذا السؤال.(10/30)
الموازنة بين مدح الشباب الملتزم وتوجيهه لتدارك الخطأ
السؤال
ألا ترى أننا نبالغ كثيراً في ذكر الشباب ومدحهم وإعطائهم فوق قدرهم حتى أنهم رضوا بهذا المدح والذكر عن طلب الرفعة والمنازل العالية وحمل هم الأمة، وها نحن نرى الواقع المرير اليوم في واقع الشباب، وخاصة شباب الصحوة من انتكاسات وضلال عن هذا الطريق، وشكراً؟
الجواب
لكن يا أخي أنت لماذا لا تنظر إلا إلى هذه النظرة؟ شباب الصحوة نضعهم في قفص الاتهام دائماً، وصحيح أحياناً تدعونا الرغبة في العلاج أخطاء والغيرة، لكن يا أخي الكريم هؤلاء شباب على الأقل يعيشون في عصر أين أقرانهم؟ الشاب الذي يحبس نفسه في المسجد يحفظ القرآن من دون ما يجبره أحد، بل أحياناً بعض الناس يصده وتجده يجاهد ويسعى ويحفظ القرآن ويصحب الصالحين ويجتهد ويضحي وكل يوم يجلس في المسجد ويذهب هنا وهناك يطلب العلم وأقرانه في الشوارع وراء الشهوات، في معاكسة النساء، ويفرح أحدهم إذا حظي بالخطيئة، ويرى أنه عيب حينما يتحدث مع زملائه يكون ليس له مغامرات يشيد بها أمام زملائه، فهذا واقع هؤلاء، أما أولئك الشباب فإذا وقع من أحدهم هفوة أو زلة شعر بأنه منافق وشعر بالخطأ، فشتان بين هذا وذاك، الشاب الذي انتصر هذا الانتصار، والذي استقام أصلاً على الدين في هذا العصر وهذه في حد ذاتها منقبة لا يسوغ أن نهملها، يعني: لماذا لا ينظر إلى زاوية أخرى؟ ما أريد التفصيل حول هذه النقطة وقد سبق الحديث حولها في محاضرة سابقة بعنوان: القابضون على الجمر، نرجو يا إخوان ألا يشغلنا النقد ولا يسيطر علينا فنسحق هؤلاء الشباب ونحولهم إلى ناس لا يملكون شيئاً، وأنهم هازلون وغير جادين وليس صحيحاً أنكم ملتزمون ولا إلى آخره.
يا أخي شاب يستيقظ لصلاة الفجر وأهله لا يستيقظون للصلاة، هذا دليل على جانب الجدية، شاب حينما يقع في زملاؤه يفاخرون بالزنا والفساد واللواط، وقد يفتعل أحدهم مواقف غير صحيحة يفاخر زملاءه، وهو إذا وقعت منه هفوة أو زلة شعر بالمرارة والأسى والخوف من الله عز وجل، شتان بين الحالتين.
شباب يعيشون هموم الشهوات والأهواء والرياضة، وهو يعيش هموماً عالية كبيرة، فهذا غير هذا، مع أن الملتزمين يواجهون سخرية واستهزاء، والأعداء من اليهود والنصارى وغيرهم وظفوا كل الجهود لحربهم، الفساد اليوم الذي في العالم الإسلامي ما المستهدف به إلا الشباب، فمجرد الثبات والاستقامة خير كبير، ولماذا نتهم الشاب الملتزم إذا كان لا يقوم الليل أو كان يقصر في الرواتب أو كان لماذا نضع عليه علامة استفهام، وأن هذا ليس بجاد في التزامه؟ نعم الخاصة من طلبة العلم والدعاة ينبغي أن يجتهدوا في النوافل؛ نبالغ فنصور أن هذا دليل على أنهم غير جادين؛ وأنه التزام فيه نظر ويحتاج إلى إعادة نظر، وأرجو أن نتوازن في نقدنا وطرحنا، يعني: أتاني طلب من إحدى الأخوات قالت: أريد أن تتحدث عن أخطاء الملتزمات، قلت: مع احترامي للاقتراح أنا لا أشعر أنا بحاجة أن نتحدث عن أخطاء الملتزمات، وأخشى أن يتحول الحديث من عندنا إلى إحباط فعلاً، وأن الناس غير جادين، أنا أشعر أننا بحاجة إلى أن نبعث الأمل، وبحاجة إلى أن نبرز الوجه الآخر.(10/31)
سنة السلام والمصافحة عند دخول المجلس
السؤال
إذا دخل الإنسان المجلس هل يسلم أو يصافح؟
الجواب
السلام سنة والمصافحة سنة، إذا تيسر أن يصافحهم، لكن أحياناً يكون في المجلس ناس كثر أو مشغولون بحديث ولا يريد أن يقطع عليهم حديثهم فيكتفي بالسلام والأمر فيه واسع.(10/32)
من صفات المربي
التربية للأحداث حتى يصلوا إلى النضج والهداية والاستقامة مسئولية ملقاة على عواتق المكلفين بها من الآباء والأمهات والمعلمين ونحوهم، ولها أهمية بالغة يكشف عنها حجم الخلل الذي تعيشه الأمة اليوم، ولا تعني التربية المنشودة القيام بأدوار قصة هزيلة يظن فاعلوها أنهم أسقطوا بها ما وجب عليهم في هذا الميدان، بل هي عملية تتوقف على جملة من العوامل في نجاحها، ومن أهمها وآكدها معرفة صفات المربي وتحقق القدر الأكبر منها فيمن يتولى هذه القضية العظيمة.(11/1)
أهمية التربية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد: فقد كنا برهة من الزمن نخاطب الآباء والأمهات، ومن ولاهم الله تربية الجيل، نخاطبهم بمسئولية التربية، ونحدثهم عن أهمية التربية والعناية بها، ونحذرهم من خطورة التساهل والتهاون بهذه المسئولية، وما نزال نحتاج إلى هذا التذكير، وما يزال المؤمن يحتاج إلى أن يذكر ويوصى، ولقد أدرك اليوم الجميع وهم يرون النتائج المرة لإهمال التربية وعدم العناية بها أن قضية التربية قضية ملحة، وأدرك الجميع أن الكثير من مظاهر الفساد والانحراف والخلل في الأمة في دينها وعبادتها لله تبارك وتعالى، وفي تأخرها في أمور دنياها، وكونها في قافلة الركب، أدرك الجميع أن هذا التأخر والتخلف ليس إلا مظهراً من مظاهر إهمال التربية.
ومن ثم شعرنا بأننا نحتاج إلى حديث آخر، وأننا ينبغي لنا أن نتجاوز الحديث عن أهمية التربية وضرورة التربية، لا لأنه ليس حديثاً مهماً، بل لأن أولئك الذين لم يستفيقوا إلى الآن، ولم يدركوا أهمية التربية بعد ليسوا مؤهلين للتربية فعلاً، وهم يرون النتائج اليوم ماثلة أمام أعينهم.
أننا نسمع الشكوى كثيراً أيها الإخوة، نسمع الشكوى من الآباء، ونسمع الشكوى من المعلمين، ونسمع الشكوى من الصغير والكبير من مشكلات كثيرة نعاني منها من جيلنا، ويشعر الجميع أن هذه المشكلات إنما هي إفراز لسوء التربية وإهمال التربية، ويتداعى الجميع إلى ضرورة العناية بالتربية، ودورها في إصلاح الناشئة، وفي تعبيدهم لله تبارك وتعالى، وتحقيق الغاية التي من أجلها خلقوا، وهي العبودية لله تبارك وتعالى، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
لكن هل نتصور -أيها الإخوة- أن التربية التي تعنى بإعداد هذا الإنسان بنفسيته المعقدة، وطبيعته، والعوامل والمتغيرات التي تؤثر في شخصيته، هل نتصور أن هذه التربية يمكن أن يقوم بها الإنسان بخبراته الشخصية، وتجاربه الشخصية، أو بما ورثه وتلقاه عن آبائه وأجداده، فيتصور أن تلك التربية التي كان يتلقاها في محيط أسرته، أو من آبائه وأجداده هي التربية المثالية، وحين يناقش في هذا الأسلوب أو ذاك يفاجئك بعيداً عن المنطق، وبعيداً عن الحجة والبرهان بأنه: هكذا تربى؟!(11/2)
ضرورة معرفة صفات المربي
أقول: إن التربية التي ننشدها ينبغي أن يكون لمن يقوم بها مواصفات وقدرات، فينبغي أن نفكر كثيراً، وأن نراجع أنفسنا، ونراجع أساليبنا في التربية، ونحن نرى وندرك الأخطاء يوماً بعد يوم، التي نرى أنها نتيجة للخلل في التربية وسوء التربية.
إن التعرف -أيها الإخوة- على صفات المربي ضروري؛ لنختار من يقوم بالتربية، فحين نريد اختيار فرد ليقوم ويتولى مسئولية التربية، وحين نريد أن نختار معلماً، أو نختار معلمة، أو نختار موجهاً يتصدى لتربية الناشئة وإعدادهم؛ ينبغي أن نتساءل كثيراً: ما الصفات التي تؤهله ليقوم بهذه المهمة، وليؤدي هذا الدور؟ إن الناس اعتادوا في وظائفهم في أمور دنياهم أن يطرحوا شروطاً ومواصفات لمن يتصدى لأي عمل وأي مهمة، فما بالنا بمن يتصدى لأكبر مهمة ووظيفة؟! إنها -لا شك- مهمة الرسل، فلقد أخبر الله تبارك وتعالى أنه أرسل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم إلى أمته يتلو عليهم آياته، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، إنها وظيفة الأنبياء والمصلحين.
ومن ثم فنحن حين نختار من يتولى التربية ينبغي أن تكون لدينا معايير واضحة، وصفات محددة؛ لنرى هل تنطبق على هذا الشخص أم لا؟ أما حين تكون التربية ويكون التعليم وظيفة من لا وظيفة له، ومهنة من لا مهنة له؛ فهذا احتقار لشأن التربية، وهذا إيذان بإخراج جيل يعاني من المتناقضات، ويعيش في فوضى لا أول لها ولا آخر.
ثم إننا نحتاج إلى أن نتعرف على صفات المربي؛ وينبغي أن نكون كلنا كذلك، سواء أكنا آباء أم معلمين، أم كنا موجهين للناس هنا وهناك، فإننا نقوم بالتربية.
إننا -ونحن نقوم بالتربية- نشعر -ويجب أن نشعر- بالمسئولية العظيمة، والأمانة الملقاة على عواتقنا، هذه المسئولية -أيها الإخوة- لا تنتهي عند حد شعور الإنسان بالتبعة، بل لابد أن يسعى إلى إتقان العمل؛ فالله تبارك وتعالى أمرنا أن نتقيه ما استطعنا.
إنك إذا كنت تستطيع أن تتعلم، وأن تقرأ، وأن تفكر كيف تربي وكيف توجه؛ كان فعلك لذلك من تقوى الله في هذا العمل، وهذه الأمانة، وهذا الدور الذي تقوم به، فلست معذوراً حينئذٍ حين تخل بهذه الأمانة.
إن المربي الذي يشعر بالأمانة والمسئولية يشعر أنه بحاجة إلى أن ينمي نفسه، وبحاجة إلى أن يوجد في نفسه الصفات التي تؤهله لأن يقوم بهذا الدور، ويؤدي هذه المهمة خير أداء، ومن ثم فإن المربي نفسه يحتاج إلى أن يتعلم صفات المربي؛ حتى يسعى إلى تفقدها في نفسه، ويسعى إلى أن يحقق في نفسه ما كان يفتقد من هذه الصفات.
إننا نحتاج إلى أن نتعرف على صفات المربي حينما نفكر بالقيام ببرامج لإعداد المربين، وينبغي أن تعتني الأمة بذلك، وأن تعتني الصحوة بهذه القضية، بأن يكون لها برامج لإعداد من يتولى التربية، فالعالم كله لا يقبل اليوم في وظيفة التعليم ومهنة التعليم إلا من تحقق في نفسه شروط، ومن اجتاز خطة دراسية معينة يرى القائمون على المؤسسة التعليمية أنها تؤهله للتربية، بغض النظر عن نظرة هؤلاء للتربية، وبغض النظر عن سلامة منهجهم أو انحرافه، لكنهم يرون أن هناك إعداداً لابد أن يتلقاه من يقوم بالتربية.
ولهذا فحين نفكر في إعداد المربي لابد من أن نعلم ما نعطيه، وبما نخاطبه، وما هي الجوانب التي نرى أنه ينبغي أن نغرسها فيه؟ وإن هذا السؤال لن نجيب عليه إلا إذا تعرفنا على صفات المربي.
وإنما نحتاج إلى التعرف على صفات المربي؛ لأن مثل هذه الصفات بمثابة المحددات لسلوكنا، فحين نقول: إن هذه الصفة أو تلك ينبغي أن توجد في المربي؛ فإن هذا يعني أن التربية السليمة ينبغي أن تسير على هذا النمط وعلى هذا الأسلوب، وسيأتي -بإذن الله- مزيد بسط لهذه القضية.
إن هذه الأمور وغيرها تطرح بإلحاح ضرورة التعرف على صفات المربي والحديث عنها.(11/3)
الاقتراب من الكمال في صفات المربي هدف منشود
وقبل أن نتحدث عن هذه الصفات لابد من أن نعي قضية مهمة، هي أننا حين نسرد قائمة طويلة من هذه الصفات، ثم نأتي فنبحث عنها بين الناس لنرى من تحققت فيه هذه الصفات، ومن منا قد حقق هذه الصفات، حينئذٍ قد يصاب المرء بإحباط، ويرى أنه غير قادر على ذلك، ذلكم أن هناك صفات جبل عليها الإنسان، وأموراً قد لا يستطيع أن يخرج عنها.
إن هناك من الناس من يتصف بالحدة وسرعة الغضب مثلاً، ومهما حاول أن يطبع نفسه على الحلم فإنه سيشعر أنه يقف عند حد معين، وإن هناك من الناس من جبل على العجلة والتعجل في أمره، ويشعر أنه مهما عود نفسه على الرفق سيقف عند حد معين، وإن هناك من الناس من يشعر أنه يفقد العاطفة والرحمة والحنان، ومهما تكلف ذلك سيقف عند حد معين.
وهكذا الناس لهم طبائع وصفات جبلوا عليها، ومهما تخلق المرء فإنه سيشعر أنه لن يستطيع أن يصل إلى الكمال، والبشر بشر لابد أن يكون فيهم قصور.
إذاً: فنحن حينما نذكر هذه الصفات، فإننا لا نفترض أن تكون كلها موجودة في كل إنسان مرب؛ فإن هذا الأمر ربما يكون من المستحيل، وإلا فماذا نصنع بهذا الأب الذي سيكون مربياً شئنا أم أبينا، وقد جبله الله على هذا الخلق أو ذاك؟! وماذا نصنع بهذه الأم أو فلان أو فلان من الناس؟! إن معرفة هذه الصفات تدعونا إلى أن نجتهد قدر الإمكان في تحقيقها في أنفسنا، وفي تحقيقها لدى من يهيئون ويعدون للتربية، وأن نجتهد في الاقتراب منها، وأظن أننا لن نستطيع -بل أجزم أننا لن نستطيع- أن نبلغ الكمال ونصل إلى القمة، ولذا نسعى إلى الاقتراب منها.
فحين نشعر أن في أنفسنا أو في غيرنا قصوراً في صفة من الصفات؛ فإن هذا لا يعني أن نشعر بأنه غير قادر على التربية، أو بأننا في غنىً عنه، فالأمة بحاجة إلى المزيد من الطاقات، فكلما استجلينا هذه الصفات، وأصبحت واضحة أمامنا وماثلة للعيان؛ فإننا سنكون قد وضعنا منارات في طريقنا وفي طرق المربين الذين يسعون إلى الاهتداء بها، ويسعون إلى السير عليها، ولهذا آثرت أن يكون العنوان: (من صفات المربين).
وإنني حين أزعم أنني أريد أن أتحدث عن كل صفات المربي فإنني أدعي أمراً لا أستطيعه ولا أطيقه، لأن هناك جوانب أجزم بأن قصوري البشري وضعفي سيحول دون إدراكي لها، فضلاً عن أن الوقت المخصص للحديث حول هذا الموضوع قد يضيق، ولهذا آثرت أن أتحدث عن بعض الصفات التي أرى أنها ضرورية، وليس بالضرورة -أيها الإخوة- أن تكون هذه الصفات هي أهم الصفات، فإنني قد تجاوزت صفات أرى أنها مهمة وضرورية، ولكن يعلمها الجميع ويدركها الجميع، ورأيت أن أركز حديثي حول صفات وجوانب أرى أننا نقصر فيها، أو أننا قد لا نشعر بأهميتها وضرورتها، ولهذا فإن هذه الصفات التي أتحدث عنها ليس بالضرورة أن تكون كل ما أراه ينبغي أن يكون في المربي، بل ليس بالضرورة كونها أهم ما نراه، فقد بقيت هناك جوانب ضرورية ومهمة أشعر بأنه ينبغي أن أتجاوزها، لا لأنها ليست مهمة، بل ربما تكون أهم من غيرها، وإنما لأنها معروفة ومقررة لدى أمثالكم، فلا أريد أن يكون الحديث تكراراً.(11/4)
أهم صفات المربي(11/5)
الهدي والسلوك والسمت الحسن
إن من أهم الصفات التي ينبغي أن تتحقق لدى المربي: الهدي والسلوك والسمت الحسن: ذلك أن المربي يترك آثاره بهديه وسمته وسلوكه أضعاف أضعاف ما يترك بحديثه وكلامه، ولهذا أخبرنا الله تبارك وتعالى أنه جعل لنا أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه، وأمرنا أن نتأسى بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والعمل والفعل يترك أثراً في النفوس لا يتركه القول.
لقد جاء قوم أهل فقر وضعف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فرق النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى حالهم، فدخل وخرج، ثم صعد المنبر، وحث الناس على الصدقة، فلم يتصدق أحد، فجاء رجل معه صرة كادت يده أن تعجز عنها بل قد عجزت، فألقاها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فتتابع الناس حتى تهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (من سن سنة حسنة؛ فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة).
لقد سمع الناس حديث النبي صلى الله عليه وسلم وكلامه وموعظته، ولكن ربما كان العمل في هذا الموقف وهذا الموطن من هذا الرجل -وهو دون النبي صلى الله عليه وسلم قطعاً- أعظم أثراً منه؛ لأن العمل يترك من الأثر ما لا يتركه القول.
ولهذا فإننا حين نكون -أيها الإخوة- قساة القلوب، وحين نعاني من جفاف العيون، ومن موت القلوب، ومن قلة خشية الله تبارك وتعالى، ونريد أن نعظ الناس، ونريد أن نترك أثرنا على الناس، وسلوكنا لا يشهد بذلك، ولا ينطق بذلك، وحالنا مع الله تبارك وتعالى، وحالنا في سلوكنا وهدينا يخالف ما ندعو الناس إليه، إننا حينئذٍ نسعى إلى أن نبني قصوراً في الرمال، ونسعى إلى أن ننحت في البحر كما يقال.
لذا قال أحد السلف حين سأله ابنه: ما بالك إذا وعظت بكى الناس، وإذا وعظ غيرك لم يتأثر الناس؟ فقال: ليست النائحة الثكلى كالمستأجرة.
ولهذا كان السلف كثيراً ما يؤكدون على هذا المعنى، ويؤكدون على أن طالب العلم ينبغي أن يتعلم الهدي والسمت والسلوك من مشايخه.
يقول ابن وهب: ما تعلمت من أدب مالك أكثر مما تعلمت من علمه.
ويقول إبراهيم: كنا نأتي مسروقاً فنتعلم من هديه وسمته ودله.
وكانوا يقولون: أيها الطالب علماً ائت حماد بن زيد فاكتسب علماً وحلماً ثم قيده بقيد ودع الفتنة من آثار عمرو بن عبيد لقد كانوا -كما حكى ابن سيرين رحمه الله- يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم.
فكان أولئك المربون بحق والمعلمون بحق يتركون آثارهم على تلامذتهم بسمتهم وهديهم وسلوكهم أضعاف أضعاف ما يتركونه بتعليمهم.
وتأمل ما قاله ابن وهب، وهو واحد من كبار تلامذة الإمام مالك المحدث الفقيه الذي كان الناس يضربون أكباد الإبل في زمنه فلا يرون إلا إمام دار الهجرة فيأتون إليه، ومع ذلك يرى أن ما لقيه وحصله من هديه وسمته وسلوكه أكثر مما تعلمه من علمه.
إذاً: فهي -أيها الإخوة- قضية مهمة ينبغي أن نعتني بها بتحقيقها في أنفسنا، وتحقيقها لدى من يتولى التربية، وحينئذٍ يشعر المربي بأنه لن يحتاج إلى مزيد من الحديث، ولن يحتاج إلى مزيد من الوعظ، ولن يحتاج إلى مزيد من النصح والتذكير، إنما حاله يذكر بهذا الأمر، وهديه وسمته وسلوكه يخبر بما وراء ذلك.
وما أقبح -أيها الإخوة- أن نرى من ينتسب للعلم الشرعي وتعليمه للناس، أو يتصدى لوظيفة شرعية، ثم نرى أثر المعصية على وجهه، لا تفارقه أينما ذهب! إنها -أيها الإخوة- صورة من صور إعلان التناقض بين القول والعمل، إن هذا المرء ليقول للناس بلسان حاله قبل أن يقول بلسان مقالة: إنني أقول لكم قولاً، وعملي وفعلي وسلوكي ينطق بخلافه، فيهدم هذا المرء بعمله وسلوكه أضعاف ما يبنيه بقوله ونصحه وتوجيهه.(11/6)
امتلاك المربي ما يقدمه للآخرين
والصفة الثانية من صفات المربي: أن يملك المربي ما يقدمه للآخرين: أن يملك العلم الشرعي، وأن يملك الخبرة، وأن يملك القدرة على حل المشكلات، إنه يحتاج إلى أن يقدم العلم والتوجيه والنصح، وأن يعطي الناس ويقدم للناس، ففاقد الشيء لا يعطيه، ولا يمكن أبداً أن ننتظر من المرء المفلس أن يقدم شيئاً للناس، ومن هنا كان الرصيد العلمي والبناء العلمي أمراً لا يستغني عنه مربٍ أياً كان، فيتعلم ويدرك ما يرى أنه يحتاج إليه في تعليمه ودعوته وتربيته للناس.
كما ينبغي أن يكون هذا المربي قادراً على حل مشكلات الناس، وعلى إعطائهم، وعلى أن يقدم لهم؛ لأنه حين لا يملك شيئاً من ذلك فماذا عساه أن يصنع ويقول ويقدم؟!(11/7)
قدرة المربي على العطاء
الصفة الثالثة: أن يكون قادراً على العطاء: إن المرء قد يمتلك رصيداً من العلم، وقد يمتلك رصيداً من الخبرة، وقد يمتلك قدرات، ولكنه قد لا يكون قادراً على الإعطاء، وقد لا يكون قادراً على غرس هذه المعاني لدى الناس، فليست القضية -أيها الإخوة- مجرد أن يملك ما يقدم للناس، بل أن يملك ما يقدم، وأن يكون -أيضاً- قادراً على أن يقدم للناس ما يحتاجون إليه، وأن يكون قادراً على أن يحل مشكلات الناس، وقادراً على أن ينقل ما يملكه من علم، وما يملكه من خبره وقدرات إلى الآخرين.(11/8)
حسن الإعطاء
الصفة الرابعة -وهي صفة مهمة، وقد أتوقف عندها قليلاً-: أن يكون حسن الإعطاء: أي: أن يقدم ما نبغي وما لديه بالصورة المناسبة، فالقضية -أيها الإخوة- ليست أن يملك الإنسان شيئاً، ولا أن يستطيع أن يقدم هذا الشيء، بل أن يقدمه بالصورة المناسبة للناس.
وهي قضية مهمة -أيها الإخوة- نفتقدها كثيراً في تربيتنا، حيث نشعر أحياناً بأننا أدينا المسئولية وقمنا بالواجب حين نقول كلمة، أو ننهى عن خطأ، أو نصحح سلوكاً ونخطئ آخر، وننسى أننا لم نقدم هذا الأمر بالصورة المناسبة اللائقة بالناس.
إن هناك -أيها الإخوة- فرقاً كبيراً بين كلمة يقولها الإنسان بلغة، وبين كلمة يقولها بلغة أخرى، وبين كلمة يقولها بلغة ثالثة، وإن كانت تؤدي المعنى نفسه.
ولنضرب على ذلك مثالاً: فلو شعرنا -مثلاً- أن التكييف في هذا المسجد مزعج، ودرجة البرودة لا نتحملها، فقد أشير على واحد منكم بعينه وأقول له: قم فأطفئ جهاز التكييف.
وقد أؤدي هذه الكلمة بلغة أخرى، فأقول: من يتبرع منكم فيقوم فيؤدي هذا العمل؟ وقد أقوله بلغة ثالثة، فأقول: إنني أشعر بأن الجو بارد جداً، ألا تشاركونني هذا الشعور؟! إن هذه الكلمات تؤدي معنى واحد، وتؤدي رسالة واحدة أريد أن أوصلها إليكم، لكن هناك فرق بين الأمر المباشر في الصورة الأولى، وبين الصورة الثانية، وبين الصورة الثالثة.
ولم يكن المربي الأول -صلى الله عليه وسلم- بعيداً عن هذا المنهج، وهو الذي اختاره الله تبارك وتعالى لهذه الرسالة، واختاره لا لتربية أصحابه فحسب، بل لتربية الأمة والمربين كلهم، فقد كان عند النبي صلى الله عليه وسلم رجلان يستبان، يسب أحدهما الآخر، فغضب أحدهما واحمر وجهه، فقال صلى الله عليه وسلم موجهاً الخطاب لأصحابه -كأن الأمر لا يعني هذا الرجل-: (إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
انظر إلى الفرق بين هذه الكلمة التي يقولها النبي صلى الله عليه وسلم مخاطباً لأصحابه، وبين ما لو قال له النبي صلى الله عليه وسلم مخاطباً له وهو في هذه الحالة: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، والنتيجة واحدة والمؤدى واحد، ولكن هناك فرق بين هذا الأسلوب وبين ذاك الأسلوب.
وحينما يجد الأب ولده قد تأخر عن الصلاة؛ قد يعاتبه بكلمات لاذعة قاسية، فيقول له: إنك لا تهتم بالصلاة، ولا تقيم لها وزناً، وقد يخاطبه بلغة أخرى، فيخاطبه بلغة الأمر فيقول له: اذهب إلى الصلاة منتهراً إياه، وقد يخاطبه بلغة ثالثة ومنطق ثالث، فيأخذ بيده فيقول: لنذهب سوياً إلى المسجد لنصلي.
وهناك فرق -أيها الإخوة- بين هذه الصور، فلماذا نتصور أن أداءنا لأمر أو نهي على أي صورة كان، وأن إبلاغنا لقضية بأي صورة كانت وبأي شكل كان، لماذا نتصور أن هذا الأمر كاف، وأن هذا الأمر مسقط للمسئولية عنا؟! إنك حين تشعر -مثلاً- أن ابنك يعاني، فلا يستيقظ للصلاة إلا بصعوبة؛ قد تعاتبه، وقد تقول له: إن عملك من عمل المنافقين، وقد تقول له كلمة أخرى، لكنك لو أهديت له ساعة لتوقظه، أو اتفقت معه على أن تذهبا جميعاً إلى المسجد، أو أيقظته بأسلوب أو بآخر؛ فإن هذا الأمر وهذا الأسلوب يترك أثراً في نفسه أعظم بكثير من ذاك الأمر المباشر أو النهي المباشر.
قد أقول لابني: لا تصاحب فلاناً وفلاناً من الناس، وقد أقول كلمة مناسبة في موقف معين، ولكنني حين أقول له: إنه ينبغي أن تحسن اختيار من تصادق، وإنني اقترح عليك أن تعيد النظر، وأن تفكر في واقع أصدقائك، أو أن اثني على فلان من الناس، فأقول: إنه يعجبني سلوك فلان، وخلق فلان، وأتمنى أن يكون صديقاً لك، وأتمنى أن يكون أخاً لك، حين أقول ذلك أوجد لمقالي أثراً في نفسه.
فهناك فرق بين هذا الأسلوب وبين ذاك الأسلوب حينما نصدر أمراً، وحينما نعالج خطأً، وحينما نوجه توجيهاً، هناك فرق -أيها الأخوة- بين أسلوب وأسلوب آخر، ومن ثم كنا بحاجة إلى حسن العطاء فعلاً، وبحاجة إلى نفكر كثيراً كيف ننقل ما لدينا إلى الآخرين؟ وكيف نصلح أخطاء الآخرين؟ وكيف نأمرهم؟ وكيف ننهاهم؟ وكيف نوجههم؟ بل إن الكلمة الواحدة أحياناً يختلف وقعها وأثرها، فقد يسألك رجل سؤالاً، فتقول له: (نعم) بلهجة فيها التهديد أحياناً، وقد تقولها وهي توحي بعدم المبالاة، وقد تقولها وهي توحي بعدم التصديق، وقد تقولها وهي توحي بالترحيب.
وحينما يصنع لك رجل معروفاً، فتقول له: جزاك الله خيراً، قد تقولها كلمة عاجلة أحياناً كما يعتادها الناس، وقد تقولها بشعور ينبئ عن الاهتمام، وقد تقولها أيضاً بما هو أكثر من ذلك، والكلمة هي هي، فقسمات الوجه، ووقع الكلمة، والصوت، وجرس الكلمة، كل هذه لها آثار، فتعطي هذه الكلمة أثراً لا تعطيه تلك الأخرى، وإن كانت هي هي بحروفها، ولكن قسمات الوجه، وجرس الكلمة، والصوت، كلها تترك آثاراً غير ما تتركه تلك الأخرى.
لهذا كان علينا أن نفكر كثيراً كيف نوصل ما عندنا لمن نربيهم، وألا تكون القضية مجرد أن نقول كلمة أياً كانت، بأي وسيلة، وبأي لغة، ونتصور حينئذٍ أن هؤلاء قد قامت عليهم الحجة، وأ(11/9)
الاتزان العاطفي
والصفة الخامسة مهمة، وهي: الاتزان العاطفي: إن الله عز وجل خلق عواطف للناس، فعند الناس رحمة ومحبة ومشاعر وارتياح، هذه العواطف لم يخلقها تبارك وتعالى عبثاً، وحينما ندعو إلى إلغائها عند الناس فإننا ندعو إلى تغيير خلق الله، وندعو الناس إلى أن يتخلوا عما فطرهم الله عليه، وحين تستبد بنا العواطف وتحكمنا العواطف نكون حينئذٍ ضحية لهذه العواطف، ونناقض صريح المنقول والمعقول، ونبقى أسرى لهذه العواطف التي قد تقودنا إلى مهالك.
إن المربي -أيها الإخوة- يحتاج إلى أن يملك العاطفة والحب والرحمة والحنان، فيشعر هذا الذي يتربى على يديه بهذا الشعور، فالله تبارك وتعالى قد قال عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول عنه ربه تبارك وتعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] مع أن هؤلاء أصحابه، ومع أن هؤلاء يعلمون أنه ليس ثمة حق إلا عند النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الحق كل الحق في اتباعه صلى الله عليه وسلم، والتأسي به، وأن كل حق يراد من غير طريقه ومن غير سبيله فليس حقاً، وأن كل ما يخالف ما دعا إليه باطل وضلال، مع هذا كله يقول الله تبارك وتعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] فكيف بمن هو دون النبي صلى الله عليه وسلم؟! إذاً: كيف تتصور أن يراك الناس، وأن ينظر إليك الناس؟! هل نتصور أن الناس سينظرون إلينا على أننا نحن الذين نملك الحق وحده، فنغضب الناس، ونسخط الناس، ونقسو على الناس، ونسيء أخلاقنا معهم، ونفتقد كل هذه المشاعر، ثم يقبلون علينا؛ لأننا نملك الحق، ونحمل الحق؟! إن هذا الأمر لم يتحقق للنبي صلى الله عليه وسلم، فما بالك بمن هو دونه؟! ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحمل هذه المشاعر، فقد كان صلى الله عليه وسلم يخطب بأصحابه فدخل الحسين -وهو صبي- يتعثر في ثوبه، فينزل صلى الله عليه وسلم فيحمله، ثم يقول: (إن ابني هذا سيد).
ويأتيه وهو ساجد فيعلو ظهره، فيطيل النبي صلى الله عليه وسلم سجوده، فيقول: (إنه ارتحلني فكرهت أن أقوم حتى يقضي حاجته).
وحين حضر الموت أحد أحفاده الصغار بكى، فرأى أحد الصحابة دموعه صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا؟ قال: (هذه رحمة يجعلها الله في قلب من يشاء من عباده).
وحين جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فراه يقبل الصغار، فقال: أتقبلون صبيانكم؟! إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحداً منهم؛ قال صلى الله عليه وسلم: (أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟! من لا يرحم لا يرحم).
إذاً: هكذا كان المربي صلى الله عليه وسلم يملك رحمة، وإحساناً إلى الناس، ومحبة، يقول صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه: (إني أحبك، فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (هل أنتم تاركو لي صاحبي؟ لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً).
ويثني صلى الله عليه وسلم على طائفة من أصحابه، فيفدي أحدهم، فيقول: (ارم فداك أبي وأمي)، ويقول في الزبير: (لكل نبي حواري، وحواريي الزبير)، إلى آخر ذلك من النصوص التي يشعر فيها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بمحبته إياهم، وسؤاله عنهم صلى الله عليه وسلم، وعطفه عليهم، فالمربي يجب عليه أن يملك هذا الشعور، وأن يملك العاطفة والرحمة والود.
وحين يعرض الناس عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم يناقضون الفطرة، فأحد أهل التصوف مات طفل له، فحين دفنه صار يرقص على قبره، وكأنه يعلن أن هذا من تمام الرضا بقضاء الله تبارك وتعالى! وهل يظن هذا أنه أثبت قلباً من النبي صلى الله عليه وسلم الذي دمعت عينه حين مات ولده إبراهيم، وقال: (إن القلب ليحزن، والعين لتدمع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا).
وعلى الجانب الآخر ينبغي أن تضبط هذه الانفعالات والعواطف فلا تنحرف، ولا تتحول الصلة بين المربي ومن يربيه إلى عواطف ومشاعر متبادلة، ولا تطغى هذه العواطف على ما يحتاج إليه هذا الشخص من الحزم أحياناً، ومن الجد، ومن معالي الأمور.
إن الإغراق في العاطفة يخرج جيلاً هش البنيان، وجيلاً يعيش على العواطف، وجيلاً غير جاد، وجيلاً غير عامل، وفي المقابل يخرج فقدان العاطفة جيلاً قاسي القلب، قد نزعت من قلبه الرحمة، فلابد أن يعيش المربي على هذا التوازن، وأظن أنه ليس أحدهما بأسوأ من الآخر، وأظن أن المربي المفرط في عاطفته ليس بأسوأ من ذاك الذي فقد العاطفة أو فقد المشاعر الإنسانية، والعكس كذلك.(11/10)
الاتزان الانفعالي
الصفة السادسة -وهي أيضاً تتعلق بالتوازن-: الاتزان الانفعالي: أن يكون المرء متزناً في انفعالاته، فهو قد يغضب مثلاً، وأمر طبيعي في حق من يتعامل مع الناس أن يأتيه ما يأتيه مما يستدعي الغضب والسخط، ويستدعي انفعالاً أو موقفاً معيناً تجاه هذا الشخص، فينبغي أن يكون هذا المربي متزناً، قادراً على ضبط هذا الانفعال.
ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا قمة الشجاعة، فقال: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).
وفي حديث آخر قال: (ما تعدون الشديد فيكم؟ قالوا: الذي لا يصرع، قال: الشديد: الرجل يغضب، فيحمر وجهه، ويقشعر جلده، ثم يكظم غيظه)، إنه يغضب، ويأتيه الغيظ، لكنه يكظم غيظه.
إنه حين تكون تصرفات المربي استجابة لهذه الانفعالات، وردود فعل؛ فإنه كثيراً ما يفقد التصرف المناسب، فقد يتصرف تصرفاً يمليه عليه الغضب، وليس التصرف الذي يمليه عليه الشرع، وليس التصرف الذي يرى أنه هو المناسب في مثل هذا الموقف أو ذاك، وقد يتصرف تصرفاً يمليه عليه رضا أو موقف آخر أياً كان، فضبط المربي لانفعالاته واتزانه فيها أمر له أهميته؛ حتى يضبط تصرفاته، وردود أفعاله، ومواقفه.(11/11)
الاتزان الاتصالي
الصفة السابعة -وهي حول التوازن والاتزان-: هي ما يمكن أن نسميه بالاتزان الاتصالي: فعملية التربية هي اتصال بين المربي ومن يربيهم، فحينما يكون المربي مجرد ملقٍ يتحدث، والذي يتربى دوره دور التنفيذ والسماع، حينما يكون الاتصال وحيد الاتجاه، فيبقى دور المتربي أن يسمع الأوامر، ويعطى نصائح دون أن يكون له فرصة للمناقشة، ولسماع ما عنده، ولسماع مشكلاته، ومن هنا فالمربي أحوج ما يكون إلى تحقيق هذا التوازن: أن يسمع كما يعطي، وأن يأخذ من هذا كما يعطيه، وأن يعطي فرصة لهذا الذي يتربى على يديه لكي يسأل ويناقش ويراجع، يعطيه فرصة ليتحدث عن مشكلاته، وليتحدث عن همومه.
إن الكثير من الأبناء اليوم يشكون أنهم لا يجدون الوقت والفرصة حتى يبثوا همومهم لآبائهم، وحتى يبثوا مشكلاتهم لآبائهم، وإن وجد الوقت لا يوجد الصدر الواسع الذي يستمع، ويستوعب ما عند هؤلاء.
ولننظر إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم كيف كان يربي أصحابه، فهاهي عائشة رضي الله عنها تسأله صلى الله عليه وسلم حينما ذكر شأن الحساب يوم القيامة، فقال: (من نوقش الحساب عذب، قالت: أليس الله يقول: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:7 - 8]؟!) فهو سيحاسب يوم القيامة حساباً يسيرا، فتشعر عائشة رضي الله عنها بنوع من التعارض بين هذا المقال الذي سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم وبين هذه الآية، فتسأل النبي صلى الله عليه وسلم ليجيبها صلى الله عليه وسلم، ولم تكن لتتجرأ رضي الله عنها على أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم، وأن تناقش، وأن تبدي له ما لديها لو لم يكن صلى الله عليه وسلم قد عودها على أن يستمع منها.
ويجلس النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة، فتحدثه حديثاً طويلاً كما في الصحيح في قصة أم زرع، فيستمع النبي صلى الله عليه وسلم إلى حديثها بإنصات، ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (كنت لك كـ أبي زرع لـ أم زرع).
فالمتربي -أيها الإخوة- يحتاج إلى أن نترك له فرصة للسؤال والمناقشة والاعتراض، ويحتاج إلى أن نترك له فرصة للحديث عن مشكلاته، والحديث عن همومه، وأن يبث ما لديه، وإلا فسيكون البديل هم أهل السوء، فحينما لا يجد الصدر الواسع من أبيه، ولا من أمه، ولا من معلمه وأستاذه؛ فإنه سيرى البديل عند من يستثمر هذا الضعف لديه، ومن يستثمر هذه المشكلة؛ ليحقق من وراء ذلك المقاصد والأغراض السيئة التي لا تليق.
ومن هنا كنا أحوج ما نكون إلى أن نعيد النظر في طريقة إلقائنا للأوامر، وإلقائنا للتوجيهات، وأن نعود هذا الجيل على أن يتحدث كما يسمع، وأن يأخذ ويعطي.
إن هذا النوع من التربية الذي يتعود فيه الشخص على أن يتلقى فقط يخرج جيلاً اتكالياً إن سلم من المشكلات، جيلاً لا يعتمد على نفسه ويعتمد على الآخرين، لا يستطيع أن يصنع شيئاً؛ لأنه لم يعتد أن يقول كلمة واحدة، ولم يعتد أن يناقش، ولم يعتد أن يبدي شيئاً مما لديه، ومما يعاني منه.(11/12)
القدرة على التقويم
الصفة الثامنة التي ينبغي أن تكون لدى المربي: القدرة على التقويم: وهي من الصفات المهمة التي ينبغي ألا يفتقدها، لماذا؟ لأنه سيحتاج -مثلاً- إلى أن يحدث تلميذه أو ابنه عن مشكلة من المشكلات، أو حدث من الأحداث، أو أن يقوم له كتاباً، أو مدرسة فكرية، أو فكرة، أو رأياً، أو مشكلة، وحين لا يملك القدرة على التقويم الجيد، فإنه لا يستطيع أن يوصل له الرسالة المناسبة، ولا يستطيع أن يوصل له الحكم المناسب.
ثم إنه يحتاج -أيضاً- إلى التقويم؛ ليعرف من يربيه، وليعرف أي مرحلة قطعها وتجاوزها، وليعرف الأخطاء، وجوانب القصور، وجوانب الضعف وليعرف القدرات التي يملكها هذا الشخص، وليقوم -أيضاً- عمله وجهده وتربيته.
وهي موهبة وملكة توجد لدى المرء، لكنه -أيضاً- يستطيع أن يتعلم ويتطبع على شيءٍ منها، حينما يتعود أن يكون عميقاً في نظرته، وحينما يتعود أن يكون موضوعياً لا يتأثر بالعواطف، ويحكم من خلال الموقف الواحد، فحينما يعتاد ويتعود على هذا النمط من التقويم؛ يستطيع أن يملك قدرة على التقويم يحتاج إليها فيما يقدم للآخرين؛ لأنه سيقدم تقويماً للأعمال للناس، وسيقدم تقويماً لفكرة، أو لرأي، أو لمشروع، أو لعمل أياً كان، ثم سيسعى إلى تقويم من يربيه ويوجهه.(11/13)
القدرة على النمو والاستمرار
الصفة التاسعة التي ينبغي أن تكون لدى المربي: القدرة على النمو والاستمرار: إن بعض الناس قد يملك قدراً من العلم والثقافة والقدرات، لكنه يقف عند حد معين، وإذا كان ما يملكه من علم وفكر وقدرة وخبرات يقف عند هذا الحد؛ فإنه سيشعر بعد مرحلة بأن تلامذته ومن يتربون عليه قد تجاوزوه، وقد أدركوا ما عنده، ويتطلعون إلى ما وراء ذلك، وحينئذٍ يفتقدون الثقة به، ويشعرون أنه قد استنفذ ما لديه، واستهلك ما عنده.
إن الأحداث تتجدد، والظروف تتغير، فالأب الذي عاش في عصر سابق حينما يتعامل مع أبنائه الذين هم نتاج عصر آخر يختلف عن عصره بالكلية، وتختلف فيه أفكار الناس واهتماماتهم وعقلياتهم، حينما يأتي هذا الأب وثقافته وعقليته وعلمه لا تعدو أن تكون امتداداً للعصر السابق الذي عاشه؛ فإنه لن يستطيع أن يقدم لهذا الابن ما يحتاجه.
ولهذا ندرك فشل كثير من الآباء الخيرين الغيورين في تربية أبنائهم؛ لأنه قد توقف الأب عند عصر معين ومرحلة معينة، فقد تربى هذا الأب في بيئة وعاش في ظل وسط محدود، يوم كان يعيش في قرية محدودة حين يقول من في أقصاها كلمة يسمع من في أدناها هذه الكلمة، ومظاهر المدنية والحضارة بعيدة عنه، حيث كان الناس وقتها يعيشون في الأرياف، ويعيشون في مزارعهم، ويعيشون في أعمالهم، وفي همومهم الخاصة، بعيداً عن ضجيج وصخب المدينة، وبعيداً عن هذه المؤثرات، أما اليوم فقد أصبح الجيل أمام عالم آخر يختلف تماماً عن ذاك الجيل.
فحينما يأتي الأب ليربي ابنه بالنمط نفسه الذي تربى به، وحين يقال له: إن هذا الأسلوب لا يجدي، فيقول: هكذا تربينا، وهكذا عشنا، حينها لا تثمر تربيته.
نعم قد تكون تربيتك سليمة، وما تربيت عليه سليماً، والأسلوب الذي تلقيته كان ناجحاً، لكنه كان كذلك في وقت من الأوقات، أما هذا الوقت فله ظروف أخرى، وله حالة أخرى.
ولهذا كان الأب بحاجة إلى أن يتجاوز هذه الفجوة الحضارية، وإلا فسيشعر أنه يعيش في مأزق مع أولاده، وقل مثل ذلك حتى مع من هم دونه.
إن المعلم والمربي الذي تربى على نمط معين وعلى طريقة معينة، لا يسوغ له أبداً أن يتصور أن هذا النمط وهذا الأسلوب هو الأسلوب الناجح والمناسب لتربية الناس كلهم، فالعصر قد تغير، والظروف قد تغيرت، والعوامل قد تغيرت.
إن هذا التغير السريع المذهل الذي نراه اليوم يؤكد على ضرورة أن يكون المربي قابلاً للنمو، وقادراً على النمو، وأن يملك القابلية والقدرة، وأن يسعى دائماً إلى تطوير نفسه والمتابعة، وإلا فسيشعر بأن هذا الجيل قد تجاوزه، وسيشعر بأن هذا الجيل قد أدرك أن هذا الرجل الذي أمامه لم يعد يملك ما يقدمه لهم.(11/14)
المعرفة التامة بالمتربي
الصفة العاشرة: أن يكون المربي على معرفة بمن يربيه، وعلى معرفة تامة بطبيعته وخصائصه وظروفه: وهي قضية كثيراً ما نجهلها أيها الإخوة، فنحن نتعامل مع أطفالنا -مثلاً- ونجهل طبيعة الطفل وخصائصه، ونجهل كيف يفكر الطفل، وكيف ينظر الطفل إلى الأمور، وكيف ينظر إلى الحياة، وكيف يقيمها، ولهذا نقع في أخطاء فادحة غير مقصودة في تعاملنا مع أطفالنا، ونحن إنما أوتينا من جهلنا بهذه الطبيعة للأطفال.
وخذ على سبيل المثال مرحلة أخرى مهمة، وهي مرحلة المراهقة، وهي مرحلة من أخطر المراحل لدى الشاب والفتاة، حينما نجهل طبيعة الشاب في هذه المرحلة، وكثيراً ما تقع مشكلات من الأب أو المعلم أو المربي أو غيرهم مع هذا الشاب المراهق، والسبب أنه يجهل طبيعة هذا الشاب في هذه المرحلة، ويجهل كيف يفكر، ويجهل مشكلاته، وقل مثل ذلك في الفتاة، فحينئذٍ نصادم هؤلاء.
وكثيراً ما نسمع هذه الكلمة من الآباء والأساتذة والمربين: كان هذا الطفل وديعاً، وهادئ الطباع، ومطيعاً، ومستجيباً، ففوجئنا به إنساناً متمرداً، وإنساناً معانداً، وإنساناً مشاكساً، بدأت تظهر عليه آثار الانحراف إلى آخره، ونريد أن نتعامل معه باللغة نفسها، وبالمنطق نفسه، وبالأسلوب نفسه الذي كنا نعامله به حين كان طفلاً، والسبب أننا لم نفهم هذه الشخصية.
إن المراهق يحتاج إلى الإقناع، ويحتاج إلى إشباع حاجاته، ويحتاج إلى إشعاره بأنه رجل، وأنه يملك الرجولة، وحين يجد من يحترم عقله، ومن يدرك ظروفه، فإنه سرعان ما يمنحه ثقة، بل الثقة المفرطة، فيسلم نفسه له ليصنع فيه ما يشاء.
إننا نصطدم كثيراً مع أبنائنا ومع تلاميذنا في هذه المرحلة، ونحن نريد أن نرفع عليهم العصا الغليظة؛ لأننا نرى أنها هي التي تربيهم، وقد كنا نشعر أنها في مرحلة سابقة كانت أسلوباً ناجحاً معه، ونتصور أنها ستنجح معه اليوم، وهكذا.
فالمقصود -أيها الإخوة- أن معرفة المربي بمن يربيه فيما يتعلق بخصائص المرحلة التي يعيشها وطبيعتها، ومعرفته بظروفه الخاصة، من حيث كونه فلاناً من الناس، وشخصيته، وطبيعته، أو ظروفه الاجتماعية، أو مشكلاته، معرفة ذلك من الأمور المهمة التي لا يستغني عنها المربي.(11/15)
القيادة
وآخر ذلك صفة أختم بها الحديث عن هذه الصفات، وهي: القيادة: أن يكون المربي قائداً لا أن يكون آمراً، وفرق -أيها الإخوة- بينهما، فالذي يقود الناس يقنعهم.
إنك قد تستطيع أن تأمر ولدك -مثلاً- فيذهب إلى المسجد، وربما يذهب معك إلى المسجد ولا يفارقك، لكن حينما تغرس لديه حب الصلاة، وتورثها لديه، يكون ذلك شأناً آخر.
إنك تستطيع أن تأمر ولدك أن يصاحب الأخيار، وتجعله يعيش مع الأخيار، ولكن هناك فرق بين هذا وبين أن تغرس لديه حب الأخيار، وقل مثل ذلك في سائر المعاني التربوية.
إننا نستطيع أن نملي على الناس كثيراً من الأمور، فيأخذوها تقليداً، ويأخذوها بحسن ظن، لكن أن نقنعهم بها وما وراءها أهم بكثير، وأنجح وأولى، وهذا يخرج جيلاً ويخرج قادة لا أتباعاً.
هذه -أيها الإخوة- بعض الصفات التي أرى أنها مهمة، وفي الواقع هناك صفات كثيرة كنت أريد الحديث حولها، لكن الوقت ضاق، وهناك صفات قد تكون أهم من هذه الصفات، ولكن نظراً لأنها معروفة ومقررة لدى الإخوة آثرت أن أتجاوزها.(11/16)
الأسئلة(11/17)
بيان سوء تصرف بعض المدرسين في خطابهم لتلاميذهم
السؤال
ما رأيكم في بعض الإخوة المدرسين الذين يخاطبون الشباب بألفاظ سوقية ساقطة لا تليق بإنسان، فضلاً عن كونه مدرساً معلماً؟
الجواب
هذه صورة لا تليق أبداً، وصورة من غرس الخلق السيئ عند الناس، إن المعلم يستطيع أن يتحدث كثيراً مع طلابه عن الخلق الحسن، وعن حسن الخلق، لكنه سرعان ما يهدم هذا بكلمة واحدة يقولها حين يغضب، فيواجه هذا الطالب بكلمات نابية، أو -بمصطلح شرعي- بكلمات فاحشة.
لقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاستأذن، فقال: (ائذنوا له بئس أخو العشيرة، فلما دخل هش له النبي صلى الله عليه وسلم وبش، فسألته عائشة عن ذلك، فقال: يا عائشة! متى عهدتني فاحشاً؟!) أي: هل علمت مني الفحش في القول؟! وفي رواية أخرى قال: (يا عائشة! شر الناس من ودعه الناس اتقاء فحشه).
إن من يتركه الناس حتى لا يغلظ عليهم، وحتى لا يفحش شره عليهم من شر الناس وسوء الناس، عافانا الله وإياكم، فحين يهاب الناس لسانك وسلاطته، فاعلم أن هذا أمارة على أنك من شرار الناس، عافانا الله وإياكم، وذلك لا يليق أبداً بالمربي.
نحن نريد أن نربي طلابنا على الحلم، والأناة، وحسن الخلق، لكننا أحياناً لأجل قضية تافهة -كما لو أن هذا الطالب ما أدى الواجب، أو ما حفظ، أو تأخر، أو حصل منه أي خطأ- لا نفترض في الطالب إلا أن يقع في الخطأ، فتجد المدرس أحياناً يغضب، وقد يتكلم بكلمات غير لائقة، ويخرج عن الحدود فعلاً، وعن الأدب الذي يليق بالإنسان، فضلاً عن المسلم، فضلاً عمن يتصدى ويوجه للتربية، وأحرى بهؤلاء أن يُربَّو فضلاً عن أن يكونوا مربين للجيل.(11/18)
مكانة الضرب البدني في العملية التربوية
السؤال
نريد توضيحاً شافياً لقضية استخدام العقاب البدني في التربية من منظور الشرع، ونرجو إلقاء الضوء على ثمرة التعاون بين المربين والمعلمين خاصة، ونسأل الله أن يثيبكم؟
الجواب
أولاً: الشرع جاء بالضرب كوسيلة للتربية في الحدود، فهناك من الحدود ما يستوجب الجلد، كما في حد القاذف، والزاني البكر، وشارب الخمر، وجاء الشرع بالإذن بالضرب في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله).
والصحيح في قوله: (حد من حدود الله) أن المقصود به: أوامر الله ومعاصيه، وليس المقصود بذلك الحد العقوبة المقدرة، وإلا فلا يجوز أن يعزر الإنسان بأكثر من عشرة أسواط، فحينما يقع الشخص في خطأ يجوز أن يعاقب، لكن لا يجوز أن يزاد على عشرة أسواط إلا إذا كان في حد من حدود الله، أي: مخالفة لأمر الله، كما قال تبارك وتعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229].
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بضرب الأولاد حين يمتنعون عن الصلاة لعشر سنين، بل في القرآن أخبر الله تبارك وتعالى أن من الأساليب التي قد يستخدمها الزوج مع زوجته أن يضربها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فاضربوهن ضرباً غير مبرح).
فنقول: حينما يأتي الشرع بتقرير هذه العقوبة لا يجوز أن نلغيها أبداً، وحينما نقول: إن الضرب ليس وسيلة تربوية وإنه لا يصلح؛ فإن هذا اعتراض على شرع الله، والله هو الذي خلق الإنسان، ويعلم تبارك وتعالى نفسه وعواطفه، {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
لكن القضية الأخرى: هل الضرب هو الوسيلة المناسبة في كل وقت وكل حين؟ هنا السؤال مهم، وهذا الخطأ الذي نقع فيه أيها الإخوة، فالخطأ الذي نقع فيه ليس أننا نضرب، إنما لأننا نضرب في موطن لا يستوجب الضرب، ونضرب في موطن لا يستحق ذلك، وحين نضرب لا نضرب ونعاقب بالطريقة المناسبة أيضاً.
والنبي صلى الله عليه وسلم الذي علمنا ذلك عامل من خدمه عشر سنين صلى الله عليه وسلم، فلم يقل لشيء فعله: لم فعلته؟ ولم يقل لشيء لم يفعله: ألا فعلته؟ فهو صلى الله عليه وسلم يشهد بذلك، وهو الذي شرع لنا صلى الله عليه وسلم ضرب الزوجة في بعض المواطن وقال: (فاضربوهن ضرباً غير مبرح)، ثم حكى عن أولئك الذين يضربون أزواجهم فقال: (إنهم ليسوا بخيارهم).
فهذا يدل على أن القاعدة والأصل خلاف ذلك، فالعقوبة -أيها الإخوة- أياً كانت -سواء كانت عقوبة بدنية أو غيرها- إنما هي حينما لا يجدي غيرها، والأصل هو الإقناع، والأمر، والتربية، والتوجيه، ثم نتدرج في العقوبة إذا شعرنا حينها أن الضرب هو العقوبة المناسبة، فعلينا حينئذٍ أن نضرب بأسلوب مناسب، ثم إذا ضربنا نضرب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فاضربوهن ضرباً غير مبرح) ضرباً لا يقترن بالانتقام والتشفي.
وهناك قضية أخرى مهمة أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إذا زنت أمة أحدكم فليجدلها الحد، ولا يثرب) أي: يجلدها ولكن لا يلومها ولا يؤنبها؛ لأن هذا الجلد هو العقوبة التي استحقتها، فنحن نضرب أحياناً التلميذ والابن، ونؤنبه، ونثرب عليه، وفي كل مناسبة نذكره بهذا الخطأ الذي وقع فيه، فحين نضرب يجب أن نقتصر على هذه العقوبة فقط، ونتجاوزها بعد ذلك، ولا نكثر من اللوم والتأنيب، وإذا كان صلى الله عليه وسلم ينهى عن التثريب على هذه الأمة وقد وقعت في كبيرة من السبع الم.
وبقات؛ فكيف بما دون ذلك؟!(11/19)
حدود المزاح المطلوب من المدرس مع الطلاب
السؤال
أنا مدرس للمواد الشرعية، وأنا أكثر من المزاح مع الطلاب؛ لكي أجلب قلوبهم، وأحببهم إلى هذه المواد من غير أن يطغى ذلك على شخصيتي، أو يكون ذلك مدعاة للفوضى أو الشغب بين الطلاب، فهل تنصحني بذلك؟
الجواب
المزاح حين يكون أمراً طبيعياً وغير متكلف، وليس سمة للإنسان ليس فيه إشكال، بل مطلوب، فقد كان السلف أحياناً في بعض مجالسهم إذا ملوا يقولون: ذكرونا بالشعر، فإن الأذن مجت، والقلب حمض.
فيتحدثون بالشعر، لكن حينما يكون سجية للإنسان، فيصير الإنسان كأنه صاحب طرفة ودعابة، ويشتهر بذلك؛ فشأن المسلم والمربي أكبر من ذلك.(11/20)
خطأ ترك ميدان التربية بدعوى مقارفة المعصية
السؤال
المربي كغيره من البشر يصيب ويخطئ، بل ويقع في المعصية تلو المعصية مما قد يؤخره إلى الوراء، فيبتعد عن مقاعد المربين، ويرضى بالدون، بدعوى أنه عاصٍ، فهل هذا الفعل صحيح؟
الجواب
هل هناك مسلم لا يقع في المعصية أصلاً؟! إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم)، وقال: (كل بني آدم خطاء)، فإذا كنا نريد من المربي ألا يذنب ولا يقع في الذنب؛ فحينئذٍ لن نجد أحداً يربي على الإطلاق.
لئن لم يعظ الناس من هو مذنب فمن يعظ العاصين بعد محمد(11/21)
توجيه للوالدين في القيام بدورهما في البيت
السؤال
يحدث أحياناً أن أطلب من زوجتي زرع بعض السلوكيات في أولادي، وأطلب منها الاهتمام بذلك، ولكنها تقول: أفعل ذلك أنت، وأبين لها أنها أفضل مني، فهي تقضي معظم الوقت معهم، بينما أكون خارج المنزل، لذا أرجو توجيه النصح لزوجتي خاصة، وإلى النساء عامة، وجزاك الله خيراً؟
الجواب
أولاً: أوجه النصيحة لك ولنفسي، فإنه يجب أن تقضي جزءاً من الوقت مع أولادك، وتهتم بذلك، وليس بصحيح أن نهمل أولادنا، فنحن نحتاج إلى أن نقضي جزءاً من أوقاتنا معهم، هذا جانب.
الجانب الثاني: أن قضية التربية مسئولية مشتركة على الأم والأب، وهناك أدوار، والله عز وجل حكيم جعل الأم يغلب عليها جانب العاطفة والرحمة والشفقة، والأب يغلب عليه الجانب الآخر؛ لتكون القضية متكاملة، ويؤدي الجميع دوراً متكاملاً، وحينما تكون التربية من الأب وحده والأم وحدها؛ لن تكون تربية سليمة ومستقيمة؛ فهي دور مشترك على الجميع.(11/22)
كتب في التربية
السؤال
هل هناك كتب حول هذا الموضوع، أرجو منكم ذكرها، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
هناك كتب كثيرة تتحدث عن قضية التربية بصفة عامة وعن المربي، وكتب السلف كثيرة في أدب العالم والمتعلم، ككتاب ابن عبد البر، وكتاب الخطيب (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع)، والآجري في (أخلاق العلماء)، والرامهرمزي في (المحدث الفاصل بين الراوي والواعي)، وغيرها.
فكتب آداب العالم والمتعلم معروفة، وفيها جوانب من أخلاق وآداب المربي، وهناك كتب -معاصرة -أيضاً- اهتمت بهذه القضية من أهمها كتاب صدر حديثاً عنوانه: (علم النفس الدعوي) للدكتور عبد العزيز المغيمشي، وهو كتاب ذكر فيه بعض الجوانب والخصائص التي ينبغي أن توجد عند المربي.(11/23)
المربي بين الغلظة واللين
السؤال
يوجد كثير من الموجهين والمربين ممن يستخدم الواحد منهم مع طلابه أسلوب الغلظة لإبراز الشخصية، ويوجد من المربين من يستخدم الأسلوب العكسي تماماً، فأي الفريقين أقرب للصواب؟
الجواب
نحن ذكرنا من صفات المربي: أن يكون عنده اتزان وتوازن، لا هذا ولا ذاك، كلاهما بعيد عن الصواب، فالغلظة والقسوة والفظاظة ليست من صفات المؤمن، وإهمال الحق وترك الحق، والسير وراء العواطف صفة لا تليق بالمربي.
فالمربي الأقرب إلى الصواب هو الذي يقف في الوسط، فيضع العاطفة والحب والمشاعر حين يحتاج إليها، ويستعمل القسوة والحزم حين يحتاج إليه.(11/24)
الموقف من الناصح المقصر
السؤال
ما رأيك فيمن عنده شيء من العلم، ولكن يرى عليه أثر المعاصي، وهو ينصح الناس، وإذا قلت له: يا فلان! اترك هذه المعصية قبل أن توجه الناس، يقول: خذ من علمي، ولا تنظر إلى عملي، فنرجو التوجيه؟
الجواب
أولاً: بالنسبة لك أنت خذ من علمه فعلاً، يعني: إذا وجدت علماً عند أحد من الناس -ولو كان صاحب معصية، ولو كان مقصراً، ولو كان فاسقاً- فخذ من علمه، فالحق يؤخذ ممن أتى به مهما كان، والحق ضالة المؤمن.
وأما هو فينبغي أن يتذكر قول الله عز وجل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]، والوعيد الشديد الذي ذكره صلى الله عليه وسلم للرجل الذي يلقى في النار، عافانا الله وإياكم، قال: (فتندلق أقتاب بطنه فيها، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع عليه أهل النار فيقولون: يا فلان! ما لك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: بلى، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه) عافانا الله وإياكم.(11/25)
بيان أصل الانحراف في حياة الأبناء
السؤال
إذا كان الأب لا ينصح ولده، والولد ضائع في الشوارع مع أصحاب السوء، فهل هذا من صفات المربي؟ أم أن ذلك ضعف في التربية؟
الجواب
هذه الصورة من صور الإهمال، فالأب قد يشكو من ولده، وأن ولده ضائع، فتسأله: هل جلست يوماً من الأيام معه، وتحدثت معه بهدوء ووعظته؟ فيجيبك بقوله: (لا).
فنحن لا نعرف أحياناً من التربية إلا أسلوباً نخطئ فيه فقط، ولا نعرف التربية إلا عندما يقع المرء منا في الخطأ، فيشعر الأب بدوره في التربية، فهو لما يرى ابنه -مثلاً- ما صلى ينهاه ويزجره، ولما يرى ابنه وقع في الكذب يزجره، ولما يرى ابنه وقع في خطأ ينهاه، وهذا واجب شرعي على الأب، لكن قبل ذلك يجب أن تعظه أصلاً، وتربيه، وتغرس عنده الخير، ونسأل: هل بيوتنا الآن تغرس الإيمان، وتربي الإيمان عند الأبناء، أم أننا نشعر أن التربية فقط هي مجرد الأمر والنهي؟! إننا نقرأ في القرآن: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] هذه الوصايا العظيمة التي كان يوصي بها ابنه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم من تحته، فقد علم الحسن دعاء القنوت صلى الله عليه وسلم، وكان أصحابه صلى الله عليه وسلم يعلمون من تحتهم، فمنهم من كان يجلس فيعلم أبناءه القرآن، ومنهم من كان يعلمهم المغازي ويقول: هذه مغازي النبي صلى الله عليه وسلم، لقد كانت بيوت مليئة بالإيمان والعلم والتربية.
فقبل أن نسأل عن الانحراف يجب أن نسأل عن الأصل، فالقضية أن الأصل أن نبني ونوجه، ونغرس عندهم الحب، لا أن تكون التربية مجرد علاج أخطاء، فالتربية ليست علاج أخطاء، فحينما يقع في الخطأ قد لا تستطيع أن تعالجه؛ لأن الخطأ كان نتيجة إهمال وتقصير، حينما تكتشف أن الابن أو التلميذ أو فلاناً من الناس قد وقع في الخطأ، وصار عنده انحراف، فتأتي لتعالجه قد لا تستطيع، وتأتيني تستشيرني فأقول لك: يا أخي! ليس الأمر بيدي، كنت تملك الحل قبل أن يقع الخطأ، أما بعد أن يقع الخطأ فليس بالضرورة أن يكون ذلك في مقدورهم.
ولو شعر بذلك فلا ييأس، فينبغي للمربي -مهما كان خطأ الابن أو البنت- ألا ييأس، وأن يسأل الله له الهداية، وأن يجتهد في بذل الأسباب.(11/26)
طرق اكتساب صفات المربي
السؤال
ما الطرق التي يتمكن من خلالها المسلم أن يكتسب صفات المربي التي ذكرتها؟
الجواب
انظر إلى الناس الذين علموك، فأنت مررت بمرحلة في الدراسة ذات سنوات عديدة، وعدد كبير من المدرسين، ففكر فيهم، وانظر من الشخص الذي كان مؤثراً عليك بدرجة كبيرة؟ ومن الشخص الذي شعرت أن توجيهاته كانت تترك أثراً عليك؟ انظر إلى الناس حولك، مَنْ مِنَ الناس يعجبك تعامله وتأثيره؟ استفد من تجارب الناس، ولا تحتقر شيئاً، قد يكون هذا الرجل ناجحاً في أسلوب غرس المحبة بينه وبين أبنائه، والثاني ناجحاً في أسلوب آخر، والثالث في أسلوب آخر، فتجمع ما عند الناس، فهذا مصدر مهم، وأن تستفيد من أخطائك وتجاربك مصدر آخر، وكذلك القراءة والاطلاع، بأن نكلف أنفسنا ونبحث ونقرأ في كتب السلف، وفي الكتب المعاصرة، وفي الكتب التي اهتمت بشأن التربية.
ووالله! لو سألت أي أب، أو أي معلم: ماذا قرأت أنت فيما يتعلق بالتربية؟ وما عندك من الكتب التي تهتم بالتربية؟ لوجدت عجباً، إنه يمكن أن نجد في بيوتنا أحياناً كتب الطبخ أكثر من الكتب التي تعنى بالتربية، فهل معقول أن الأم دورها واهتمامها أن تعد الطبخات؟! فأين حاجتها لتربية الأبناء؟! إننا نقرأ في الصحف أحياناً والمجلات أكثر بكثير مما نقرأ في هذه الكتب التي تعيننا ونستفيد منها، والحق ضالة المؤمن، فقد تجد -مثلاً- من الكفار أحياناً من يحسن نوعاً من أنواع التربية، وليس المطلوب أن تأخذ كل ما عنده، فقد يحسن أن يقنع ابنه، ويحسن أن ينقل ما عنده لابنه، فتستفيد من كل ما عند الناس، والحق ضالة المؤمن.(11/27)
ضرورة الصدق في توجيه المربي
السؤال
أنا أعمل مدرساً، وأحياناً آمر الطلاب بأشياء طيبة لا أستطيع أن أفعلها أنا، فهل هذا نوع من أنواع النفاق، مع أن نصيحتي لهم تكون خالصة لوجه الله؟
الجواب
لا، ليس هذا من النفاق، يعني: أنت قد تقول لهم: ينبغي أن تحرصوا على قيام الليل، وأنت تجد أنك ما تستطيع أن تقوم الليل كل وقت، وقد يكون فيك تقصير، وقد تدعوهم إلى الحرص على ذكر الله، لكنك لا تستطيع أن تقوم بذلك كما ينبغي، فلا حرج في ذلك، المهم أن تكون صادقاً ومخلصاً، النصيحة التي تقولها ليس فيها نفاق، بل صادقة، ثم تجتهد في أن يكون هذا عاملاً لأن تسأل نفسك: كيف أدعو الناس إلى أمر وأنا لا أعمل به؟!(11/28)
أمثلة على صفة القدرة على العطاء
السؤال
هل لك أن تعطي أمثلة على الصفة الثالثة، وهي: القدرة على العطاء؟
الجواب
أحياناً يكون الشخص -مثلاً- عنده معلومات كثيرة، لكن ما يستطيع أن يوصلها إلى الناس أصلاً، فنسمع بعض الناس أحياناً يقول: الفكرة واضحة في ذهني، لكن لا أستطيع أن أعبر عنها.
فلا يستطيع أن يوصلها إلى الناس بطريقة مناسبة، فهو يعرف ظاهرة معينة، ويعرف الحل لمشكلة معينة، ولا يستطيع أن يعطي.
قد تجد إنساناً قدوة في عبادته وفي أخلاقه وفي سلوكه، قد جمع المواصفات التي تتمنى أن تكون موجودة عند الناس، لكن لو أردته أن يربي فقد لا يستطيع بالضرورة أن يربي، وإن كان قد يترك أثراً على الناس بسلوكه فقط، لكن أن يعطي وأن يؤثر على الناس؛ فليس بالضرورة فعل ذلك، فليس كل من يعجبنا ما عنده يكون بالضرورة مؤهلاً لأن يربي.(11/29)
توجيه في تقصير بعض المربين في القيام بدورهم تجاه أبنائهم
السؤال
هناك بعض المربين يكونون عند غير أهليهم في كامل قوة التوجيه والإعداد الجيد في التربية، ولكنهم -في المقابل- أمام أبنائهم ضعاف لا يستطيعون توجيه أبنائهم إلا بالضرب والقسوة، فهل من كلمة توجيهية إلى هؤلاء الأشخاص؟
الجواب
هؤلاء أقرب شيء إليهم أبناؤهم، وقد قال تعالى: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الرجل راعٍ في أهل بيته ومسئول عن رعيته).
ونحن بحاجة إلى أن نعيد النظر كثيراً في حالنا في بيوتنا، وفي طبيعة علاقاتنا مع أبنائنا، وفي حسن علاقتنا معهم؛ إذ كيف نستطيع أن نؤثر على الآخرين ولا نؤثر على أبنائنا؟! وهذا دليل أنه ليست المشكلة تعود إلى قدراتنا، فنحن نملك القدرة، لكن الإنسان أحياناً يعيش في جو من الراحة والطمأنينة في خارج بيته، لكن إذا جاء إلى بيته فإنه يعيش في سجن وفي قفص يتمنى أن يخرج منه.(11/30)
الموقف من إساءة الوالد إلى ولده
السؤال
ماذا تقول للوالد الذي يجتهد أبناؤه في رضاه وبره بكل وسيلة، ولكن هذا الأب -مع الأسف- يقابل ذلك بشيء من الجفاء، وافتعال مواقف يعاملهم فيها بشيء من عدم الاحترام والتحقير بناءً على سوء الظن عند هذا الأب، الأمر الذي يجعل الأبناء يشعرون بالإحباط، إذ كيف يقابل الإحسان بالنكران؟! وهل من حقهم أن ينتقلوا من بيت أبيهم إلى بيت قريب لتفادي كثرة هذه المواقف مع حرصهم على طاعة والدهم؟
الجواب
مهما كان فقد يقع عند بعض الآباء هذا الحال، نتيجة جهله، وقد يكون حريصاً، ومن الحرص ما يقتل، فيؤتى الإنسان من حرصه، وليس كل حريص يجيد الأسلوب المناسب، ولكن مهما بدر -أيها الإخوة- من الآباء، فحقهم علينا أعظم بكثير، فيجب أن نصبر، وأن نحتمل، وأن نسعى إلى إحسان معاملتهم وعشرتهم مهما بدر.
فيا أخي! ليس هناك شيء أعظم من الشرك، وقد قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] حتى لو جاهداك على الشرك فإنك تصاحبهما في الدنيا معروفا.
فمهما كان من الخطأ والقسوة وسوء المعاملة وسوء التربية من الأب، فلا يسوغ بحال أبداً أن نسيء إليهم، وأن نغمطهم حقهم، فـ (الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فاحفظ هذا الباب أو أضعه).(11/31)
دور المحفزات المادية في التربية
السؤال
هل لكم أن تحدثونا عن دور الأشياء التشجيعية في التربية كالهدية والجائزة؟
الجواب
هذه قضية مهمة جداً ونغفلها أحياناً، وهي التشجيع والثناء، والتشجيع والثناء أحياناً قد يكون مادياً، وقد يكون معنوياً أكثر، وهو أسلوب كان يستعمله النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً في حث الناس، فقد سأله أبو هريرة فقال: (أي الناس أسعد بشفاعتك؟ قال: لقد ظننت أن لا يسألني أحد عن هذا الحديث قبلك)، لما علم من حرصه على الحديث، وهذا ثناء عظيم يثني به صلى الله عليه وسلم على أبي هريرة فيدفع أبا هريرة إلى التعلم.
ولما سأل أبي بن كعب عن أعظم آية في كتاب الله قال: (ليهنك العلم أبا المنذر).
وفي غزوة ذي قرد أردف النبي صلى الله عليه وسلم سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وراءه، وقال: (خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة).
فهذا الثناء يترك أثراً كبيراً وتشجيعاً، وله دور كبير في التربية، وأثر في التربية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمله كثيراً في الثناء والتشجيع، وليكن كلمة حسنة، وليس بالضرورة أن تكون الأمور التشجيعية مادية، فقد تكون مادية، وقد تكون ثناء معنوياً، وقد تكون، المهم أن لها دوراً، وينبغي أن نعتني بها ونكثر منها، لكن ينبغي ألا تكون دائماً هي الأصل، وأن يتعود المرء على أنه لا يعمل لأجل هذا الثناء، ولا يعمل ليجد مثل هذه الجائزة والمكافأة، لا، ينبغي أن تكون ذلك دافعاً فقط، أما أن يكون كل شيء فلا؛ لأنه بعد ذلك سيتوقف أثر السلوك على هذا التشجيع، وتصبح القضية معاوضة، وتتحول إلى عقود المعاوضات بعد أن كانت من عقود التبرعات.
أسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يهب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، وأن يصلح شباب المسلمين وفتياتهم وجيلهم إنه سمع مجيب.
هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(11/32)
العلم المفقود
الخشوع روح العمل، وهو فيه كالتنفس للجسد، وهو مرتبط بالعلم ارتباطاً وثيقاً، فإنما يخشى الله من عباده العلماء، ولكننا اليوم صرنا نرى أن الخشوع يكاد ينزع من القلوب، وأن طلبة العلم يغرقون في حفظ المتون وجمع المسائل والأقوال في منأى عنه، وهذا مرض يجب أن يبحث عن أسبابه ويعمل على علاجه.(12/1)
المقصود بالعلم المفقود
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: فأول سؤال يطرح نفسه ما المقصود بالعلم المفقود؟ وأظن البعض يتساءل وهو يسمع هذا العنوان: ماذا يقصد بهذا العنوان: (العلم المفقود)؟ هذا العلم المفقود هو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم كما روى ذلك الإمام الدارمي وغيره عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء، ثم قال: هذا أوان يختلس العلم من الناس، حتى لا يقدرون منه على شيء، فقال زياد بن لبيد الأنصاري: يا رسول الله، وكيف يختلس وقد قرأنا القرآن؟ فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا، قال: ثكلتك أمك يا زياد إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا يغني عنهم؟ قال جبير: فلقيت عبادة بن الصامت قال: قلت: ألا تسمع ما يقول أخوك أبو الدرداء، فأخبرته بالذي قال، قال: صدق أبو الدرداء إن شئت أخبرتك بأول علم يرفع من الناس، الخشوع، يوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً).
ولا شك أن من يتأمل في حالنا، وفي حال الصالحين من الناس، يرى أن هناك فقداناً لهذا العلم، وأن هذا السمت والهدي الذي ينبغي أن يتسم به أهل العلم والصلاح والتقوى يعاني كثيراً من فقداننا له، والخطورة تزداد حينما لا نشعر بالمشكلة، أو لا نسعى إلى علاجها، والحديث أيها الإخوة حول هذا الموضوع حديث يطول، وأشعر أنني لا يحق لي أن أتحدث حول هذه القضية، لأنني حين أتحدث عن مثل هذه القضية وأحدثكم عن مثل هذا الموضوع، فإنني أشعر أنه يصدق علي قول القائل: فاقد الشيء لا يعطيه، والمتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور.
ولا شك أن من احترام المرء لنفسه ولمن يستمع لحديثه ألا يتحدث إلا بما يحسن الحديث عنه، ولهذا آثرت ألا أتحدث عن هذا الموضوع جملة.
إنما أتحدث عن جانب واحد له أهميته، ولعله من أهم أسباب معاناتنا، وأسباب فقدنا لهذا العلم، ذلكم هو الكلام عن العلم والخشوع، هي الصلة بين العلم والتقوى والصلاح، ذلك أنه في مثل هذه العصور المتأخرة، عاش الناس عزلة بين العلم وبين الرقة والخشوع، حتى ساد عند البعض أن الانشغال والانهماك في مسائل العلم مما يقسي القلب، وصار الوعظ والرقائق باباً آخر غير باب العلم، ولهذا يطلق على فلان أنه واعظ، لا يجيد إلا لغة الوعظ، والآخر فقيه بعيد كل البعد عن الوعظ والتأثير في القلوب، وهذه العزلة المفتعلة لها جذورها القديمة، ولها أسبابها وظواهرها، ولسنا بصدد الإفاضة بالحديث عن أسباب هذه الظاهرة، التي هي ظاهرة قد بدأت منذ قرون قديمة، منذ أن غاب عن الناس روح العلم الشرعي، وتعلقوا بالتقليد والتفريع والتأصيل على قواعد المذاهب وما يتعلق بها، فحين غابت عن الناس روح العلم الشرعي، صرت لا تستنكر أن ترى طالباً للعلم قاسياً قلبه معرضاً.
إن ما أريد الحديث حوله في هذا اللقاء، هو التأكيد والدعوة إلى هذه الصلة، وإلى أن نعيد هذا الاعتبار للعلم، أن يرتبط العلم بالخشوع، وأن يرتبط العلم بالزهد والتقوى والصلاح، وألا نفترض أنهما قسيمان لا يلتقيان، نعم، قد يوجد من الناس مثلاً من يجيد الوعظ والتأثير في القلوب أكثر من غيره، وقد يوجد من الناس من يجيد التفريع والتأصيل في مسائل العلم أكثر مما يجيد تحريك القلوب.
لكن هذا ينبغي أن يكون ضمن دائرة التخصص، لا دائرة التنافر، كما أننا قد نجد من أهل العلم من يجيد علم الحديث أكثر من إجادته للفقه، ومن تكون إحاطته بالتفسير أكثر من إحاطته بعلم الأصول والمعتقد، إلى غير ذلك من التخصصات.
حين تكون القضية باب تخصص واهتمام فالأمر لا غبار عليه، مع التأكيد على القدر المشترك الذي لا بد منه هنا وهناك، أن يحمل الواعظ قدراً من العلم يمنعه ويحميه من الزلل والشطط، والمبالغة هنا أو هناك، وأن يحمل طالب العلم والمتعلم قدراً من الرقة والتقوى والخشوع، تؤدي به إلى أن يقوم بواجب العلم ودوره.
ولعل من أمارات ذلك، أنك حين تلقي نظرة على واقع التعليم الشرعي في بلاد المسلمين، التعليم الذي يقدم حتى في المساجد، وتتصفح في هذا التعليم لتبحث عما ما يحرك القلوب، وما مدى نصيبه، وهل هو قسيم لتعلم الأحكام والحلال والحرام ومسائل الفقه والمعتقد، أم أنه من شأن الوعاظ، الذين لهم شأن آخر وباب آخر غير باب العلم.
أما حين تنتقل إلى التعليم النظامي في الكليات الشرعية في العالم الإسلامي، فإنك لا تكاد أن ترى لمثل هذا العلم أثراً.(12/2)
طالب العلم معلم بفعله قبل قوله
إن المؤمل في طالب العلم الشرعي أن يجد في تعلمه وأن يجد في دروس العلم وحلق العلم، ما يحرك قلبه، وما يزيل الران عنه، وما يمحو القسوة التي كثيراً ما يعاني منها.
وإننا حين نطالب بهذا المطلب، تدفعنا لذلك أمور عدة: أولها: أن طالب العلم داعية ومعلم بفعله وعمله قبل أن يكون معلماً بقوله.
إن طالب العلم وهو يسعى لنشر الخير والعلم لدى الناس، لا يقتصر دوره على مجرد تبليغ المسائل بقوله، بل يجب أن يرى الناس ذلك من خلال سلوكه وسمته.
ولهذا يقول أبو العالية رحمه الله: كنا إذا أتينا الرجل لنأخذ عنه نظرنا إلى صلاته، فإن أحسن الصلاة أخذنا عنه، وإن أساء لم نأخذ عنه.
بل كان السلف يعدون تعلم هدي العالم وسمته، مطلباً أعلى من تعلم المسائل، ويعد المتفقه والمتأدب والمتعلم على أحد أهل العلم أنه إن ظفر بتعلم هدي هذا العالم وسمته فقد ظفر بخير كثير، ولهذا يقول إبراهيم: كنا نأتي مسروقاً فنتعلم من هديه ودله.
وهذا الأثر رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله.
وروى أيضاً عن ابن سيرين: كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم.
نعم كانوا يعنون بتعلم الهدي والسمت والخشوع والصلاح، تماماً كما يعنون بتعلم العلم.
ونقف مرة أخرى عند هذا الأثر لنتساءل كيف نتعلم نحن هذه الأبواب الهامة من العلم؟ بل التي يعدها البعض -للأسف- خارج دائرة العلم، ويرى أن العلم أن تحفظ قول فلان وفلان في المسألة، وأن تحفظ طائفة من النصوص، وتتقن قدراً من المتون، أما هذه فلها باب آخر وشأن آخر.
فهل نحن نعتني بتعلم هذه الأمور ودراستها كما نعتني بتعلم مسائل وأبواب العلم؟ لعل إدراك هذه الحقائق يجيب على تساؤل طالما طرحناه: لماذا قلوبنا قاسية؟ روى ابن المبارك عن مخلد بن الحسن قال: نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من حديث، وأوصى الأديب الشهيد وهو من الفقهاء ابنه فقال: يا بني، أصحب الفقهاء، وتعلم منهم وخذ من أدبهم، فإنه أحب إلي من كثير من الحديث.
إن هذا أيها الإخوة يدعو طالب العلم إلى أن يدرك ويعي أنه لا يمكن أبداً أن يدعو الناس بما يقوله ويسطره فقط، بل إنما يتعلم الناس منه بهديه وسمته وأحواله وخشوعه وتقواه لربه تبارك وتعالى، أضعاف أضعاف ما يتعلمون ويفقهون من قوله، وما يرونه من حاله فإنه أعظم أثراً مما يسمعونه من مقاله.
ولا شك أن العلم حين لا يكون وسيلة وخطوة للتعليم والدعوة ونشر الخير فإنه يصبح ترفاً وتكثراً، ويصبح وسيلة لأن يكون حجة على العبد يوم القيامة، حين يسأل عن علمه ماذا عمل به.
الأمر الثاني: أن هناك عوائق تعترض طالب العلم، وهي عوائق تعترض الناس أجمع، لكنها في شأن طالب العالم أكد، فهي أخطر وأعظم أثراً عليه، وهذه العوائق لن يستطيع أن يتجاوزها طالب العلم، إلا حين يعنى بتعلم هذا الباب من العلم المفقود.(12/3)
الآفات المصاحبة لطلب العلم(12/4)
الإعجاب بالنفس
من هذه العوائق: الإعجاب بالنفس، وهذا -عافانا الله وإياكم- عنوان الضلال، وبداية الشطط، وليس أدل على ذلك من أن الشيطان قد طرد من رحمة الله تبارك وتعالى، حين أعجب بنفسه واستكبر.
إن تعلم المرء للعلم وإدراكه لمسائل يشعر أن الناس من حوله لا يدركونها، ويشعر أن الناس يسألونه، وينصتون إذا تحدث، ويقدرونه؛ إن هذا مدعاة لأن يصاب بالعجب، وأن يدخل في نفسه ما يدخل، وحين لا يأخذ نفسه بزمام التقوى، وخشية الله تبارك وتعالى، والإقبال عليه عز وجل، فإن هذا العلم سيكون من أعظم الأبواب للعجب والغرور عافانا الله وإياكم.
ولهذا يقول الغزالي حول العجب: والقلب بيت هو منزل الملائكة، ومهبط أثرهم، ومحل استقرارهم، والصفات الرديئة مثل الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب وأخواتها كلاب نابحة، فأنى تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب.
وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل: (أن الملائكة لا يدخلون بيتاً فيه كلب).
وكلاً منا -أيها الإخوة- حين يتأمل في نفسه يرى أنه قد تدخل عليه هذه المداخل، وقد يعجب بنفسه، وقد يشعر أن الناس محتاجون إليه، وأن الناس ينصتون لقوله، وأن الناس يسألونه ويستفتونه ويستشيرونه ويأخذون برأيه، وهذا لا شك قد يكوك باباً من أبواب العجب والكبر، وحين لا يأخذ نفسه بزمام التقوى، ولا يربيها على خشية الله عز وجل ومخافته والإقبال عليه، فإن هذا قد يوقعه في الضلال عافانا الله وإياكم.
وقد يكون بداية للانحراف والضلال، بل البعض من الناس قد أدى به إعجابه بنفسه إلى الضلال، بل إلى الردة عافانا الله وإياكم.(12/5)
الحسد
والداء الثاني: الحسد وهو خصلة ذميمة، وصفة قبيحة يسعى الشيطان إلى إيقاعها بين الصالحين، وحين يشعر طالب العالم أن هناك غيره ممن قد يستمع الناس له، أكثر مما يستمعون لحديثه هو، وقد يتجه الناس إليه أكثر مما يتجهون له هو، وقد يشعر أن له قدراً أعظم من قدره، فإن النفس قد يدخل فيها ما يدخل فيها من الحسد، وحينئذ يبدأ رحلة مع الشيطان تقوده إلى إثارة الشحناء والبغضاء، وتقوده إلى تلمس المعايب والنقائص عند فلان، والطعن فيه والحديث عنه، بحجة الغيرة والحماية للدين، وليس الأمر إلا أنه رأى أن له منزلة أكثر مما له من المنزلة.
ولهذا صارت هذه المنزلة التي يسلم فيها المرء من الحسد منزلة عالية، قل من يطيقها، يحدثنا عن ذلك أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، حين بشر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً بالجنة، فتلمس عمله وفتش فلم ير فيه كثير صيام وصلاة إلا أنه يبيت وليس في قلبه شيء على أحد من المسلمين، قال: تلك التي لا نطيق.(12/6)
الهوى
المدخل الثالث: الهوى، والهوى حين يستحكم بصاحبه يريه الحق باطلا، والباطل حقاً، والمعروف منكراً، والمنكر معروفاً.
ولهذا أخبر تبارك وتعالى أن الجنة لا يستحقها إلا أولئك الذين سلموا من الهوى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41].
وأخبر تبارك وتعالى أن من الناس من اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم، أرأيت أو قرأت في التاريخ يوماً من الأيام أن رجلاً نصب تمثالاً يعبر عن الهوى فصار يركع ويسجد له؟ أم أن القضية أن الهوى صار قائداً للمرء، فما يدعوه الهوى إلى فعله يفعله، وما يدع وإلى تركه يتركه.
وما أخطر الهوى معشر طلاب العلم على الصالحين! إنه يري المرء الحق باطلاً، ويريه الباطل حقاً، حتى ترى هذا المرء يسارع في الصد عن سبيل الله، ويسارع في الفتنة بين المسلمين وهو يعتقد أنه يحمل الغيرة على دين الله تبارك وتعالى.
وليس يصدق على هؤلاء أعظم من قوله تبارك وتعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104].
إنهم أولئك الذين خاب سعيهم، وضل سعيهم وهم يظنون أنهم بذلك يحسنون الصنع، وأنهم يعبدون الله عز وجل بهذا الضلال.
ولهذا صار أصحاب الأهواء من أبعد الناس عن التوبة والإنابة، وأهل الشهوات وإن عملوا ما عملوا، أقرب من هؤلاء للتوبة، لأن صاحب الشهوة يعلم أنه يواقع معصية، وقد تلومه نفسه، وتحدثه بالتقصير.
أما صاحب الهوى فهو يحسب أنه يحسن صنعاً، وأن عمله يرضي ربه تبارك وتعالى، وأي هلاك وبوار أعظم من أن يشعر المرء أنه يتقرب بهذا العمل إلى الله، وهو مما يؤزه إليه الشيطان ويدفعه إليه.(12/7)
لبس الحق بالباطل
آفة رابعة: وهي من أخطر آفات طلاب العلم: لبس الحق بالباطل، وكتمان الحق، وقد حذر القرآن الكريم كثيراً من هذه القضية، وأخبر تبارك وتعالى أنه أخذ المواثيق على أهل العلم، أن يبينوه للناس ولا يكتموه، يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187].
وتوعد تبارك وتعالى الذين يكتمون العلم فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [البقرة:159 - 160].
نعم، حتى أولئك الذين شعروا بشناعة جرمهم وتابوا لا تقبل توبتهم إلا أن يصلحوا ما أفسدوه، وأن يبينوا للناس ما كتموه.
والله تبارك وتعالى يخبر وينعى على بني إسرائيل أنهم يلبسون الحق بالباطل ويكتمون الحق وهم يعلمون، ويأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستتبع سنن من كان قبلها، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، وأنها ستسير خلفهم حذو القذة بالقذة حتى لو دخل أولئك جحر ضب فستدخله هذه الأمة.
إنها قضية صعبة أيها الإخوة، نعم، إن تحصيل العلم يفرض على من يحصله واجباً، ويفرض عليه وأن يقول هذا العلم، وأن يبينه للناس، وأن لا يكتمه، وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الميثاق على أصحابه وبايعهم على ذلك، والبيعة لا تكون إلا على أمر ذي بال، كما يحكي أولئك الذين شهدوا هذه البيعة: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق حيث كنا لا تأخذنا في الله لومة لائم).
وأولئك الذين يكتمون العلم قد توعدهم تبارك وتعالى بالوعيد الشديد، في أنهم لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب إليم.
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار، فما الذي يعصم طالب العلم من هذا المسلك، وما الذي يعين طالب العلم على القيام بهذا الواجب إلا حين يتربى على تقوى الله تبارك وتعالى، وخشيته فتهون الدنيا لديه، ويهون شأن الناس لديه، فلا يقدم ولا يرى إلا مرضاة ربه تبارك وتعالى.(12/8)
التوصل بالعلم إلى المكاسب الدنيوية
الآفة الخامسة: من الآفات التي قد تدخل على طالب العلم: التوصل بالعلم إلى الأغراض والمكاسب الشخصية.
إن العلم قد يتيح للمرء علواً وبروزاً أمام الناس، وقد يتيح له فرصاً لا تتاح لغيره، فحين لا يتقي ربه تعالى قد يجعل هذا العلم سلماً لتحصيل هذه المكاسب، وقد توعد الله تبارك وتعالى أولئك الذين يجعلون العلم وسيلة لتحصيل الثمن العاجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة:174 - 175].
ولله در الجرجاني رحمه الله حين قال: يقولون لي فيك انقباض وإنما رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما أرى الناس من داناهم هان عندهم ومن أكرمته عزة النفس أكرما ولم أقض حق العلم إن كان كلما بدا طمعاً صيرته لي سلما أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما ولو أن أهل العلم صانوه صانه ولو عظموه في النفوس لعظما ولكن أهانوه فهان ودنسوا محياه بالأطماع حتى تجهما ولهذا كان السلف يوصون طالب العلم في مقتبل طلبه للعلم، أن يحفظ هذه الأبيات، لما فيها من المعاني، وتربية النفس على البعد عن السعي لهذه الأغراض الدنيئة.
أيها الإخوة: ليس المقصود هنا تعداد الآفات التي يمكن أن يقع فيها طالب العلم، إنما هذه أمثلة تدل على ما سواها، ونماذج تذكر بأخواتها.
فما السبيل لتجاوز هذه الآفات؟ وما الطريق لاجتنابها؟ وهل نحن نعلم طالب العلم ما يكون له وسيلة لتجاوزها، وهل نحن نعنى بإعطاء طالب العلم الأداة التي تعين على ذلك، أم أننا نعطيه العلم، ونهمل هذا العلم الذي لا يؤدي العلم الآخر ثمرته بدونه.
إن هذه الآفات أيها الإخوة، إنما تنشأ وتترعرع في تلك القلوب التي فقدت الخشوع، وفقدت التقوى، وفقدت الصلاح.(12/9)
صفات أهل العلم في القرآن
الأمر الثالث: صفات أهل العلم في القرآن.
لقد جاء الحديث في كتاب الله تبارك وتعالى كثيراً عن الخشوع والتقوى ومخافة الله تبارك وتعالى، وهي صفات أولى من يتصف بها حملة العلم، وحملة كتاب الله تبارك وتعالى.
وهي آيات كثيرة، ولن نتحدث عن هذه الآيات، إنما أريد أن أشير إلى الآيات التي يربط فيها القرآن بين العلم وخشية الله تبارك وتعالى.
فما هي صفات أهل العلم في كتاب الله عز وجل؟ إنهم أولئك الذين يسجدون لله، ويخشعون ويبكون حين يسمعون آياته، كما قال تبارك وتعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:107 - 109].
إن هذا أيها الإخوة، ليس أمراً خاصاً بهذه الأمة، وليس هدياً خاصاً بها، بل هو شأن الذين أوتوا العلم في الأمم السابقة: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ} [الإسراء:107].
هذه حالهم حين يسمعون آيات الله بتارك وتعالى، إن هذه الآيات ليست صفة للمتقين، وليست صفة للخاشعين، إنما هي صفات لأهل العلم.
ولهذا ينبغي أن يعنى طلاب العلم، وأهل العلم بتحقيق هذه الصفات في نفوسهم، لهذا قال عبد الأعلى التيمي رحمه الله: من أوتي من العلم مالا يبكيه، لخليق ألا يكون أوتي علماً ينفعه، لأن الله نعت العلماء ثم قرأ القرآن: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْم} [الإسراء:107] {يَبْكُونَ} [الإسراء:109]، وهذا الأثر رواه الإمام الدارمي.
والعلماء هم أهل الخشية لله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
والعلماء هم الذين يقنتون لله سجداً وقياما، ويحذرون عذابه ويرجون رحمته: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9].
فلنقف أيها الإخوة عند هذه الآيات، ونتمعن فيها، إنها صفات لأهل العلم، إنها صفات للذين يعملون.
إذاً فشرط أساس من شروط طالب العلم أن يتصف بهذه الصفات، وكما أن على طالب العلم أن يتعلم النحو والأصول والمعتقد والفقه، فعليه أن يتعلم الخشوع، وخشية ربه تبارك وتعالى، وإلا فإنه لا يتصف بصفات أهل العلم، وصفات طلاب العلم.
وأما ما جاء في القرآن من وصف المتقين والمؤمنين، والخاشعين وعباد الله الصالحين فأكثر من أن نحيط به في هذا المقام.
ولا شك أن أهل العلم أولى أن يتصفوا بتلك الصفات، لأنهم حملة كتاب الله عز وجل، والدعاة إلى كتاب الله، والله تبارك وتعالى أخبر أن هذا الكتاب آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم.
لكني آثرت هنا أن أقتصر على هذه الآيات التي يربط فيها القرآن بين الخشوع والخشية، وبين العلم بهذا المصطلح، حتى لا نرى أن هذا الأمر باب آخر غير باب العلم، وحتى نعلم وندرك أنه يجب علينا أن نتعلم هذا الباب، وأن نتعلم هذا العلم، وأن نعلمه في مدارسنا، وفي مساجدنا وفي حلقاتنا، وأن نرى أنه من واجبنا كما أن من واجبنا أن نعلم هذا الطالب مسائل الطهارة والصلاة والمعاملات وما يحل وما يحرم وأن نعلمه ما يجب أن يعتقده في ذات الله تبارك وتعالى، وأن نعلمه علوم الأدوات والوسائل وغيرها.
فيجب أن نعلمه الخشوع وتقوى الله تبارك وتعالى، كما نعلمه هذه المسائل.(12/10)
العناية بعصر النبوة
الأمر الرابع: العناية بهذا في عصر النبوة: ويصور لنا هذا المعنى أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو أحد الشباب، وهو جندب بن عبد الله رضي الله عنه، فيقول: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانا) رواه ابن ماجة.
فما أحوج الشباب اليوم إلى أن يتأسوا بهدي سلفهم رضوان الله عليهم، وكانوا وهم فتيان يتعلمون الإيمان ومسائل الإيمان كما يتعلمون القرآن، وتعلمهم لمسائل الإيمان ليس تعلمهم للمسائل الجدلية الكلامية، ولا للخلاف بين أولئك الذين يدخلون العمل في مسمى الإيمان أو يخرجونه، وإن كانت مسائل لا بد أن يتعلمها طالب العلم.
إنما كان تعلمهم للإيمان هو ذلك الإيمان الذي يحرك القلوب، والذي يصل القلوب بربها تبارك وتعالى، حتى تستجيب لأمر الله عز وجل، فحين تتعلم القرآن بعد ذلك تزداد إيمانا، ويترك القرآن أثره في النفوس.
وأيضاً يؤيد ذلك المعنى الأثر الذي ذكرناه في أول المحاضرة، وهو ما يرويه أبو الدرداء رضي الله عنه، قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فشخص ببصره إلى السماء ثم قال: هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدر منه على شيء، قال فقال زياد بن لبيد الأنصاري: يا رسول الله، وكيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن؟ فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا، قال: ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا يغني عنهم؟ قال جبير: فلقيت عبادة بن الصامت قال: قلت ألا تسمع ما يقول أخوك أبو الدرداء فأخبرته بالذي قال، فقال: صدق أبو الدرداء، إن شئت أخبرتك بأول علم يرفع من الناس؛ الخشوع).
فسماه رضي الله عنه علم الخشوع قال: (يوشك أن تدخل المسجد مسجد الجماعة فلا ترى فيه رجلاً خاشعا).
ويحكي لنا حنظلة رضي الله عنه صورة من مجالسهم مع النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (لقيني أبو بكر فقال كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة.
قال: سبحان الله، ما تقول؟ قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا، قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيراً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة.
ثلاث مرات) رواه مسلم.
فانظر كيف كانت مجالس النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف كانت مجالس أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم معه، فكانوا يتعلمون هذه المسائل، ويتعلمون هذه الأبواب، كما كانوا يتعلمون القرآن أول ما ينزل، وكما كانوا يتعلمون سائر مسائل العلم، وأبوابه.
فقد كان العلم هكذا في عصر النبوة، ولم يعرف عصر النبوة هذا الفصل المقيت بين العلم والخشوع، فيصبح هذا باباً، وذاك باب آخر، هذا له فئة وذاك له فئة أخرى.(12/11)
عناية السلف بالخشوع وأقوالهم في ذلك
الأمر الخامس: عناية السلف بهذا الأمر، والحديث عن أحوال السلف، في الخشوع والصلاح والورع والتقوى حديث يطول، بل إنك لو أخذت سيرة علم واحد من أعلام السلف رضوان الله عليهم، لشعرت أن المقام لا يسعك في الحديث عن أحواله، في الخشوع والعبادة والتقوى والصلاح.
واقرأ في تراجم الفقهاء والعلماء من سلف الأمة، بدءاً بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـ عبد الله بن مسعود وابن عمر، وأبي موسى وزيد بن ثابت وابن عباس ومعاذ وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وانتقل إلى الحسن وإلى سفيان وإلى أيوب، وإلى مكحول، وإلى غيرهم، ثم انتقل إلى الليث وابن سيرين ومالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم.
ثم انتقل إلى من تلاهم فاقرأ في سيرة ابن قدامة وابن الجوزي وابن حجر وغيرهم من أهل العلم.
وانظر كيف كانت حالهم في العبادة، والتقوى والصلاح، وأنت حين تتأمل في سيرة البعض، فقد ترى أن المأثور عنهم في أبواب الزهد والرقائق أضعاف المأثور عنهم في مسائل الفقه والحلال والحرام.
وهذا يعني أن السلف رضوان الله عليهم لم يكونوا يعرفون هذا الفصل، ولم يكونوا يعرفون هذه الهوة المفتعلة بين هذا العلم وبين مسائل الحلال والحرام، وسائر أبواب العلم والفقه.
وهاهي طائفة من أقوال سلف الأمة، وهي كثيرة من أرادها فليرجع إلى مظانها، مما صنفه أهل العلم في أبواب أدب العالم والمتعلم، أو صنفه أهل الحديث في أبواب العلم، لكني أشير إلى طائفة يسرة من النقول عنهم، ولن أشير أيها الإخوة إلى أخبارهم في الخشوع والصلاح والتقوى، ولا إلى ما قالوه في ذلك، إنما سأقتصر على ما نقل عنهم، من الربط بين العلم والخشوع، لأن هذا هو موضوع حديثنا، وإن كانت جميع أقوالهم وأحوالهم تعتبر دليلاً على ذلك، لأن أولئك هم حملة العلم، وهم أهل العلم، فإذا كانت حالهم كذلك، فإن هذا يعني أن هكذا ينبغي أن يكون أهل العلم، وينبغي أن يكون طلاب العلم.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم خشية الله) رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله.
وروى أيضاً عن مالك رحمه الله يقول: (العلم والحكمة نور يهدي به الله من يشاء، وليس بكثرة المسائل).
وقد أخبر الله تبارك وتعالى أن هذا الكتاب قد أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج الناس من الظلمات إلى النور: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم:1].
{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257].
نعم إن العلم وسيلة لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمات الهوى والتعصب والحقد والحسد إلى نور سلامة الصدر والقلب وصفائه.
ويقول مالك أيضاً فيما رواه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: (إن حقاً على من طلب العلم أن يكون له وقار وسكينة وخشية، وأن يكون متبعاً لأثر من مضى قبله).
ويروي الإمام الآجري في أخلاق العلماء، عن يحيى بن أبي كثير: (العالم من خشي الله، وخشية الله الورع).
وروى الإمام الدارمي عن سعد بن إبراهيم أنه قيل له: من أفقه أهل المدينة؟ قال: أتقاهم لربه.
وينقل لنا الحسن رحمه الله فيما رواه ابن عبد البر والآجري عنه وصفاً دقيقاً لأحوال السلف يقول: (إن كان الرجل إذا طلب العلم لم يلبث أن يرى ذلك في تخشعه وبصره ولسانه ويده وزهده.
وإن كان الرجل ليطلب الباب من أبواب العلم، فيعمل به فيكون خيراً له من الدنيا وما فيها، لو كانت له، فجعلها في الآخرة).
إذاً: فالقضية ليست مجرد أحوال، ارتقى إليها بعض سلف الأمة.
وليست مجرد أقوال ذكرت عن بعضهم، إنما هو سلوك كان سائداً عند السلف رضوان الله عليهم، فكان أن يبدأ الرجل في طلب العلم، حتى ترى هذه الأحوال لديه، ونتساءل معشر طلاب العلم اليوم، ونحن نتعلم العلم، فنقرأ ونحضر مجالس العلم، ونعلم العلم، أين هذا في أحوالنا؟ وهل يرى ذلك علينا؟ أترون أن هذا عيب في العلم؟ أترون أن العلم لا يرقق القلوب، أم أن لنا شأناً مع العلم ومع طلب العلم غير شأن السلف رضوان الله عليهم، وأنا فقدنا هذا الجانب؛ لذلك أصبحنا نتعلم أبواب العلم، ونحصل المراتب والشهادات العالية، ونحن من أقسى الناس قلوباً، أسأل الله أن يرزقنا وإياكم رقة القلب وخشيته تبا(12/12)
الأسئلة(12/13)
دعوى أن التخصص في العلم سبب للفصل بين العلم والخشوع
السؤال
ألا ترى أن من أسباب وجود تلك التفرقة أو الانفصام في شخصية الطالب بين الخوض في مسائل الفقه والحديث، وبين الخشوع والرقائق كما ذكرتم، من أسبابها التخصص، فحين يتخصص طالب السنة والحديث في هذا التخصص لا بد أن يسخر أوقاته في الحفظ والمراجعة ومعرفة أسماء الرجاء ومذاهب الأئمة، والتفتيش في الكتب والمطالعة الدائمة فيطغى ذلك على شخصيته، أو طالب الفقه في معرفة مذاهب الأئمة وملازمة كتب الفقه، فمن هنا يغرق كل واحد في تخصص ما، ويطغى وقته على هذه الأمور؟
الجواب
لا أوافق على ذلك، فقد يحتج البعض في ذلك بهذه الحجة، ولعل الأخ يقصد سياق الحجة ولا يقصد التأييد على ذلك؛ لكن ماذا نريد من إنسان يحفظ مسائل العلم ويتقنها ثم بعد ذلك لا يملك ما يضبط هذا العلم وما يجعله يؤدي الدور الحقيقي.
والعلم إما أن يكون خيراً على المرء وللناس، وإما أن يكون وبالاً عافانا الله وإياكم.
لأنه حين يتسلل الهوى والشهوات والأغراض إلى طالب العلم، فإنه يصبح وسيلة لإضلال الناس، ويصبح وبالاً على نفسه وعلى المسلمين، ولهذا فحين نفتقد هذه المعاني، ونفتقد هذه الأمور، فإنه مدعاة إلى تسلل هذه الأهواء.
ثم بيني وبينك يا أخي كتاب الله بعيداً عن هذا كله، فهذه صفات أهل العلم في كتاب الله عز وجل، فمن لم يتصف بها فقد نقص وفقد صفة مهمة من صفات أهل العلم، فالقرآن والسنة وأقوال سلف الأمة الذين برعوا في العلم، وبرعوا في هذه المسائل كلها ناطقة بأن العلم لا ينفصل عن هذه القضية، ولا ينفصل عن هذه الحقيقة.
ومما يؤسف أنك تجد في العالم الإسلامي كثيراً من حملة الشهادات العليا في التخصصات الشرعية تجده في مظهره غير ملتزم.
يعني طبيعي جداً تدخل جامعة في العالم الإسلامي، فتجد أستاذ شريعة وأستاذاً في السنة واسع الإطلاع على المسائل لكن مظهره الشرعي بعيد عن الالتزام الشرعي، فتجد أنه حالق لحيته، مسبل ثوبه، لا يؤدي الصلاة مع الجماعة أو لا يحافظ عليها، فلماذا نشأ هذا الأمر؟ نشأ من الفصل بين هاتين القضيتين.
فلا يليق أبداً بأي حجة أن نلغي هذا الأمر، بل نعتبر أن هذه القضية ليست قضية تخصص، وأن الخشوع مطلب أساسي لكل طالب علم، لا يجوز أن يخل به أبداً، كما أن هناك علوماً مما هي بالنسبة لطالب العلم فرض عين لا يسقطها التخصص، كذلك هذا الأمر من أهم الأمور.
نعم قد يكون التخصص في جانب إبداع هذا الإنسان وقدرته على التأثير على الناس بشكل أكبر، وهذا موجود حتى عند السلف، فقد وجد عند السلف من كان في الوعظ أكثر تأثيراً من غيره، هنا يأتي جانب التخصص، أما أن نلغي هذا وأن نفتقده فلا، لأنا نكون قد فقدنا القدر الواجب الذي لا يستقيم علم الإنسان بدونه.(12/14)
معالجة مرض عدم الخضوع لا يكون الخشوع لا يكون بترك طلب العلم
السؤال
العلم الخشية، وقد يتبادر إلى أذهان البعض أنه من لم يجد الخشية في علمه الذي يطلبه، فإنه يترك العلم، أرجو التأكيد على هذه النقطة.
الجواب
الخشية والخشوع هي أول علم يفقد، وحينما يشعر المرء بأن هذا العلم الذي يتعلمه أو يطلبه لا يحقق لديه هذا الجانب، فالحل ليس في تركه، ولا التخلي عنه، إنما الحل في إصلاح النفس، والحل في المراجعة والبحث عن الأسباب التي جعلته لا يجد هذا الأمر في نفسه، والخطأ لا يعالج بالخطأ.
وهذا الذي لم يتحقق له الخشية والخشوع من طلب العلم، فلا شك أنه حين يترك طلب العلم فإنه أولى أن يكون أكثر بعداً عنه.(12/15)
مناقشة أهل البدع أو ترك ذلك
السؤال
لا يخفى عليكم وجود شرائح متنوعة من الشباب الملتزم، ومن هذه الشرائح شريحة يجتمع فيها اتباع الهوى والحسد وتلبيس الحق بالباطل على الناس، والمؤسف أن كثيراً من هؤلاء الشباب من المغرر بهم، ويظن كما ذكرتم أنه يعمل لدين الله، ويشغل نفسه بأمور وأحداث لا فائدة من ورائها، فما السبيل في إقناع هؤلاء، بأن ما يظنون أنه حق هو باطل، أم أن من الأفضل عدم نقاشهم والخوض معهم في مثل هذه الأمور؟
الجواب
النقاش ينبغي أن يكون أولاً مع من يحترم النقاش، فمن تجد أن لديه استعداداً للنقاش والأخذ والعطاء وسماع رأي الآخرين فممكن أن تفتح معهم النقاش.
أما الإنسان الذي يناقشك ليقنعك بما عنده، وليس عنده استعداد أنه يستمع لوجهات نظر الآخرين، فإن النقاش معه لا يقسي القلب ويضيع الوقت، فينبغي ألا نضيع أوقاتنا في مثل هذا الجدل العقيم.
ولا شك أن تربية الناس على التقوى والتجرد وخشية الله تبارك وتعالى، ومراقبة الله عز وجل وإرادة وجه الله والدار الآخرة، ومحاسبة النفس والمراجعة، مدعاة أن يستفيق الإنسان من هذه الأمراض.
وهذه الأمراض من الهوى والحسد وغيرها خطورتها أنها خفية لا يتفطن إليها الإنسان، فيخيل للإنسان أن هذا العمل صالح لا معصية فيه، وأنه تقوى لله عز وجل وخشية لله تبارك وتعالى، وأنه بهذا الأمر يقوم على حراسة الدين، وعلى حماية الأمة، وهو يثير الفتنة ويصد الناس عن سبيل الله عز وجل، عافانا الله وإياكم.
أقول: حينما يكون هذا الأمر خفياً فإنه يصبح صعباً أن يتعرف الإنسان عليه، لكن حين يتقي الله ويقبل على الله عز وجل فإن الله تبارك وتعالى يعين الإنسان، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه تبارك وتعالى أن يريه الحق حقاً ويرزقه اتباعه، وأن يريه الباطل باطلاً ويرزقه اجتانبه.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).
هذا الدعاء الذي يتكرر كثيراً، بل يدعو المسلم به ربه تبارك وتعالى كل يوم مرات ومرات، لأن الإنسان قد يلتبس عليه الحق بالباطل، وقد يرى الحق باطلاً والباطل حقاً.
فالعناية بإصلاح القلوب والتجرد لله عز وجل وسؤال الله تبارك وتعالى الهداية، ومحاسبة النفس والمراجعة مما يعين الإنسان بإذن الله عز وجل على تجاوز هذه الأبواب الخطيرة، والموفق والمعصوم من عصمه الله تبارك وتعالى.(12/16)
المطلوب هو الخشوع بالقلب والعمل
السؤال
هذه قصة أحب أن تذكر بها الناس: يروى عن بعض المشايخ أنه كان يبكي في درس النحو ثلاث مرات، أثناء ذكر الأمثلة من كتاب الله، وكلما ذكر آية بكى.
الشيخ: نحن لا نفتش عن حال بعض من يبكي في درس النحو، لكن من يعظ الناس أن يتحرك قلبه، فليست القضية فقط على البكاء، ثم أن البكاء والخشوع هو خطوة لخشوع القلب وتقوى الله.
وأيضاً ينبغي أن لا يكون هذا هو النهاية، وألا يكون الإنسان مثل الذين جاءوا أباهم عشاء يبكون، أعني أنه قد يبكي الإنسان ويتأثر تأثراً صادقاً غير مصطنع، لكنه أحياناً ينتهي أثره، فالخشوع والتقوى ينبغي أن يرى أثره على المرء في هذه الأحوال، ثم أثرها أيضاً بعد ذلك ينبغي أن ينتقل الإنسان في عمله وإصلاح قلبه، وخشوعه لله عز وجل.(12/17)
أسباب كمال العلم
السؤال
ما الأسباب التي تؤدي إلى كمال العلم عند الطالب جزاك الله خيراً؟ الشيخ: الأسباب هي التي أشرنا إليها في ختام المحاضرة، وهذا ليس مقصود الحديث، فالهدف من طرق هذا الموضوع وطرق هذه المحاضرة هو الإشارة إلى هذا العلم المفقود، والإشارة إلى الربط بين القضيتين، إلى أن قضية الخشوع والخشية قضية لا تنفصل عن العلم وعن طلب العلم.
أما وسائل العلاج وتحقيق ذلك فهذا يحتاج إلى حديث مستقل، وكان في الذهن أن أتحدث حول هذه القضية، لكن أشعر أنه سيضطرنا إلى الاختصار وأنه يمكن أن نكتفي بأن يكون هدفنا من الحديث حول التنبيه وإثارة الاهتمام بهذه القضية، لكن أشرت باختصار في نهاية الحديث إلى أن العناية بالقرآن والسنة وأحوال السلف وأخبارهم، والقراءة في كتب الرقائق والآداب مما يعين الإنسان على ذلك، والحرص على العبادة الاستفادة منها، وتقوى الله عز وجل.(12/18)
الربط بين العلوم الطبيعية والخشية
السؤال
كيف نربط بين الخشية والعلم الطبيعي كالطب والهندسة أو تدريس هذه العلوم؟ الشيخ: الحديث الذي سلف عن قضية الربط بين العلم والخشية والخشوع، هم يعنون بذلك العلم الشرعي، ولا شك أنه ينبغي أن لا نتدخل ونشعر أن دراسة الهندسة والطب والطيران أو دراسة الأدب الأوروبي أو الأدب في العصور المتتابعة أو النقد أو غيره أو دراسة النحو وما يتعلق به أنه مدعاة الخشية والخشوع.
وهذا لا يعني أيضاً تسفيه أهل هذه التخصصات والدراسات، والأمة تحتاج إلى هذه التخصصات، فالقضية الأولى: أن الربط بين العلم والخشية والخشوع، وأن العلم مدعاة للخشية والخشوع إنما هو في العلم الشرعي.
الأمر الثاني: أن هذا لا يعني أيضاً أن أصحاب هذه التخصصات والدراسات ينبغي أن تكون قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة، فينبغي أن يعتني هو بتخصصه وعمله ويهتم به ويبدع فيه، وينفع الناس.
وأنا لا أدعو أصحاب هذه التخصصات إلى أن يهملوها، وأن ينشغل الإنسان بقراءات أخرى على حساب تخصصه، فيصبح غير نافع في المجال الذي هو فيه، فإن الأمة تحتاج إلى أن تستغني عن أعدائها، وتجتهد أن تكون النموذج أمام الأمم لأنها أمة أخرجها الله لتكون خير أمة تحمل هداية الناس، وما لم تكن الأمة مستغنية عن أعدائها فإننا لن نستطيع أن ننشر ديننا للناس، ولن نستطيع أن نقوم بهذا الدور والواجب الشرعي الذي أوجبه الله عز وجل علينا، لكن على الإنسان الذي في مثل هذا العمل وهذا الموقع أن يسعى إلى ما يرقي القلب في مجالات أخرى، من خلال قراءة القرآن، والقراءة في كتب الرقائق والآداب، وقد يوجد هذا النموذج بجانب آخر.
خذ مثلاً رجل الهيئة، قد يتطلب عمله نزوله إلى الأسواق، والدوام فيه، وهذا لا شك مدعاة لأن يرى من المناظر والمشاهد ما يصيبه ببلادة الإحساس أحياناً، لأنه كلما اعتاده الإنسان رؤية المنكرات أصيب ببلادة إحساس، وقد يزداد قسوة، لكن هل نترك العمل الذي هو من أعظم الأعمال لأجل هذا الاعتبار؟ لا، لكن يجب أن يعمل، ثم يسعى إلى علاج هذا المريض، خلال وسائل وأبواب العلاج الأخرى.
نكتفي بهذا القدر من هذه الأسئلة، وأسأل الله عز وجل أن يمن علينا وعليكم بصلاح قلوبنا وأعمالنا، إنه سميع مجيب، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، ويحبب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا إنه سميع مجيب.
هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، نشهد إلا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(12/19)
الشباب والشهوة
لقد خلق الله تعالى الإنسان وجعل له شهوة كامنة فيه، فإن صرفها بصورة صحيحة كان أمره قائماً ومحموداً، وإن أساء في استخدامها وتصريفها جرفته إلى المهالك والمهاوي، وكان عاقبتها خسراناً في الدنيا والآخرة.(13/1)
خطورة الانزلاق وراء الشهوات
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، بلغ الأمانة، وأدى الرسالة، ونصح الأمة حتى أتاه اليقين من ربه، فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وحشرنا تحت لوائه، وأوردنا حوضه.
أما بعد: أيها الإخوة! قبل أن أبدأ في هذا الموضوع أود أن أنبه إلى عدة أمور: أولها: موضوع حديثنا: الشباب والشهوة، ولا يعني هذا أن الأمر لا يعني إلا الشباب، فكما أنه يعني الشباب فهو يعني بدرجة كبيرة من الأهمية الآباء وأولياء الأمور، ويعني أيضاً بدرجة أخرى الأساتذة الذين يتولون تربية الشباب وإعدادهم، فجدير بهم أن يعرفوا ما يدور في خواطر هؤلاء الشباب، وأن يعرفوا الأخطار المحدقة بهم والتي تهددهم.
أمر آخر: أنا أتحدث في مسجد مع رواد المساجد، ومع أناس -أحسبهم والله حسيبهم- من الناس الأخيار، وأعرف مع من أتحدث.
إذاً: فقد يقول القائل: لم تتحدث عن مثل هذا الأمر مع هؤلاء؟ إن هذا الكلام ينبغي أن يوجه إلى أهل الأرصفة والشوارع.
فأقول: إن هذا الأمر يعني الشباب حتى الأخيار منهم؛ لأنهم يعانون من هذا الأمر، ويعانون من هذه الشهوة الخطيرة، كما سأشير إلى شيء من ذلك في ثنايا الحديث.
فجدير بهم أن يعتنوا بحماية أنفسهم، وأن يتقوا الله سبحانه وتعالى في إيمانهم وطاعتهم لله عز وجل.
والأمر الثاني: أن الشباب الذين منَّ الله عليهم بالهداية ينبغي أن يحملوا مشعل الدعوة والإصلاح لغيرهم من الشباب، فجدير بهم أن يكونوا على علم بمثل هذه الأمور.
أيها الإخوة! إن الشهوات أمر عام يشمل كل ما ركبه الله سبحانه وتعالى في نفس ابن آدم من الأمور التي يحبها ويميل إليها، فشهوة المال شهوة، وشهوة السلطان شهوة، وشهوة الاستعلاء والجاه شهوة، وشهوة الفرج -أو ما تسمى في لغة العصر شهوة الجنس- شهوة أيضاً.
وحينما نقول: الشهوة، فإن (أل) هنا عهدية، فنعني بذلك هذه الشهوة، ونعني بذلك هذا الأمر الذي أمر الله سبحانه وتعالى بحفظه، ورتب على ذلك الفلاح في الدنيا والآخرة، وإرث الفردوس، نعني بذلك هذا الفرج الذي وعد النبي صلى الله عليه وسلم وتكفل لمن حفظه ورعاه بالجنة، في قوله صلى الله عليه وسلم: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة).
أيها الإخوة! إن هذا الأمر خطير جداً -أعني: أمر الشهوة-، خطير لأنه يترتب على الانسياق وراء الشهوة ذلك الوعيد الشديد في الدار الآخرة، الذي توعد الله سبحانه وتعالى به من أتبع نفسه هواها، وانقاد وراء شهوته.
والكثير من الشباب الذين تزل بهم القدم ويهوي عندما نفتش عن أسباب ذلك؛ نجد أن الكثير منهم كان السبب وراء ذلك الانزلاق هو هذه الشهوة.
فهذا الموضوع خطير وخاصة في هذا العصر؛ حيث كثرت فيه المغريات، وكثرت فيه وسائل الفتنة ودواعي الفتنة، وتفنن أعداء الله بما يملكون من وسائل وقدرات في فتنة الشباب وتزيين الباطل لهم، والشيطان يؤزهم في ذلك أزاً.
أيها الإخوة! في دراسة أجراها بعض طلبة جامعة الإمام على إحدى الدور الاجتماعية بمدينة الرياض كانت نتيجة الدراسة أن (80%) من أفراد العينة قد وقعوا في عمل قوم لوط، عافنا الله وإياكم من ذلك، وإن (80%) منهم كان يمارس العادة السرية.
إن مثل هذا وغيره يدل دلالة واضحة على مدى تفشي هذه الأمور وهذه الظواهر السيئة في مجتمعنا الذي هو من أكثر مجتمعات المسلمين محافظة، فكيف بغيره من المجتمعات!(13/2)
الحكمة من ابتلاء الله تعالى للعباد بهذه الشهوة وجعلهم يميلون إليها
وقد يسأل سائل أيها الإخوة! فيقول: لماذا يبتلي الله سبحانه وتعالى عباده بهذه الشهوة، وهو الرحيم بهم سبحانه وتعالى؟ ولماذا أودع الله عز وجل في عباده الميل لهذا الأمر، ثم نهاهم عن هذه المقارفة، ورتب على ذلك العقوبات الشديدة في الدنيا والآخرة؟ فنقول: إن الله سبحانه وتعالى حكيم عليم، وهو سبحانه وتعالى لا يسأل عما يفعل، إننا حينما نتأمل في هذا الأمر نستطيع أن ندرك بعض أطراف حكمة الله سبحانه وتعالى من هذا الأمر، أعني: كونه ركب الشهوة في نفوس الناس، ثم نهاهم عن مقارفة الحرام، ورتب على ذلك خزي الدنيا ونكال الآخرة.
فندرك بعض الحكم ولا نستطيع أن ندرك جميع حكمة الله سبحانه وتعالى.
ومن الحكم في ذلك أيها الإخوة: بقاء الإنسان، فإن الله سبحانه وتعالى ركب في نفس الإنسان هذه الشهوة؛ حتى يميل إلى النكاح، وحتى يميل الرجل والمرأة إلى النكاح، مما يساعد على التناسل وعلى بقاء الإنسان، وبدون ذلك لا يبقى نوع الإنسان.
أيها الإخوة! ومن أعظم الحكم في ذلك الابتلاء والامتحان، حين يكون طريق المعصية محبباً إلى النفس، ويكون طريق الطاعة شاقاً محفوفاً بالمكاره، وحينما يكون الأمر كذلك لا يسلك هذا الطريق -طريق الطاعة- ولا يجتنب ذاك الطريق -طريق المعصية- إلا من وفقه الله سبحانه وتعالى، ومن يملك الإيمان الحق والقناعة بهذا الدين، والإيمان الذي لا يتزعزع بما أعد الله سبحانه وتعالى لمن أطاعه، وبما توعد به من عصاه يوم القيامة.
فلا تظهر حكمة الابتلاء، ولا يظهر الصادق في إيمانه والجاد إلا حينما يكون طريق الخير محفوفاً بالمكاره، وطريق النار محفوفاً بالشهوات، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم في قوله: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات).
أيها الإخوة! ومن الحكم في ذلك: ظهور فضل أولياء الله سبحانه وتعالى الذين يطيعون الله عز وجل، والذين ينهون النفس عن الهوى، والذين يحفظون حدود الله وحرمات الله سبحانه وتعالى، فيدعوهم إيمانهم بالله عز وجل، ومحبتهم له، وخوفهم منه، ورجاؤهم لما عنده، يدعوهم ذلك إلى أن يجاهدوا أنفسهم، ويدعوهم ذلك إلى أن ينتصروا على شهواتهم ويستعلوا عليها.
وحين يغفلون عن أعين الناس يعلمون أن الله سبحانه وتعالى يطلع عليهم، وأنه محيط بهم، وحين لا يراهم أحد يعلمون أن الله عز وجل يراهم سبحانه وتعالى.
إذاً: أيها الإخوة! إن في هذا الأمر ظهوراً لفضل أولياء الله سبحانه وتعالى، وفضل عباده المتقين، الذين يحفظون حرمات الله عز وجل.(13/3)
مخاطر الانسياق وراء الشهوة
ننتقل بعد ذلك إلى نقطة أخرى وهي: ما مخاطر الانسياق وراء الشهوة؟ الانسياق وراء الشهوة نعني به أن يرتكب المرء ما حرم الله سبحانه وتعالى مما يتعلق بهذه الشهوة؛ بدءاً بصغائر الأمور، وانتهاءً بالفواحش والكبائر، عافانا الله وإياكم من ذلك.(13/4)
الوعيد الشديد في الدنيا
أول أمر يترتب على هذا: الوعيد الشديد الذي يرجف فؤاد المسلم حينما يسمعه، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن).
فهذه معاصٍ نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن مرتكبها، وأخبر كما في إحدى روايات الحديث: (أنه يرتفع الإيمان فوقه حتى يكون كالظلة)، حينما يعلم هذا الوعيد الشديد فإنه يخاف على إيمانه، ويخشى على إيمانه، يخشى أن يقارف هذه المعصية العظيمة الشنيعة، فيكون مستحقاً لهذا الوعيد الشديد؛ بل ويتورع عن الصغائر في ذلك؛ لأنه يعلم أنها هي الخطوة الأولى في طريق الفواحش والكبائر.(13/5)
الوعيد الشديد يوم القيامة
الأمر الثاني من مخاطر الانسياق وراء هذه الشهوة: الوعيد الشديد يوم القيامة لمن فعل ذلك، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان:68 - 69].
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه، يقول: (أتاني رجلان فانطلاقا بي إلى أرض مقدسة -وذكر الحديث بطوله-، قال: فأتيا بي على تنور فإذا به رجال ونساء عراة، وإذا يخرج من تحتهم لهب، فإذا ارتفع اللهب ضوضوا وصيحوا، فسألت: من هؤلاء؟ فقيل: هؤلاء الزناة والزواني).
هذا أيها الإخوة! بعض ما يتعرض له من ارتكب هذه الشهوة الخطيرة، وبعض ما يتعرض له من تساهل في نهي الله سبحانه وتعالى المؤكد عن الانسياق وراء هذه الشهوة.(13/6)
الولوع بالفواحش والتعلق بها من أعظم أسباب سوء الخاتمة
الأمر الثالث أيها الإخوة: أن الولوع بالفواحش والتعلق بها من أعظم أسباب سوء الخاتمة، عافانا الله وإياكم من ذلك، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك -وذكر الحديث وفيه-: وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها).
وكان صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك).
ولذلك كان بعض السلف يقول: والله إني لا أخشى الذنوب، وإنما أخشى سوء الخاتمة.
أيها الإخوة! في حال الاحتضار يكون المرء في أضعف أحواله، فتجتمع عليه شياطين الجن تحتوشه تخشى أن يموت على الإيمان، وفي هذه الحال الشديدة وهو يعيش هذا الهم والغم، ويعيش الكرب، ويعاني من سكرات الموت التي عانى منها أطهر الخليقة وأبرها صلى الله عليه وسلم، في هذه الحالة الشديدة الكئيبة التي يعيشها المرء تجتمع عليه شياطين الجن تحاول أن تصده عن دينه؛ لأنهم يعلمون أن هذه آخر فرصة لهم، فيحاولون أن يصرفوه من هنا وهناك.
وحينئذٍ لا نجاة ولا أمل للعبد إلا بتوفيق الله سبحانه وتعالى، وحفظ الله عز وجل له، وإلا فلو وكل الله سبحانه وتعالى العبد إلى نفسه طرفة عين في هذه الحياة الدنيا لضاع وضل، كيف به وهو يعاني من أهوال الموت! وفي هذا الموقف أيضاً أيها الإخوة! يحضر المرء ما كان يدور في خلده، وما كان يشغل باله في الحياة الدنيا، وحينئذٍ يبدأ يتفوه ويهذي بما كان يشغله في الحياة الدنيا، فإن كان مطيعاً لله مات على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإن كان من المتعلقين بالدنيا أصبح يردد ما يتعلق بالدرهم والدينار، وإن كان من المتعلقين بالفواحش أصبح يردد ما يتعلق بذلك.
أيها الإخوة! ذكر الأخبار حول هذا الأمر يطول، وليس هذا وقته، وقد ذكر طرفاً من ذلك عبد الحق الإشبيلي في كتابه (العاقبة)، ونقل بعضاً منه الإمام ابن القيم في كتابه القيم (الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)، فمن أراد المزيد من ذلك فليرجع إلى هذه الكتب.
ولعلي أورد قصة مختصرة حول هذا الأمر، ذكر عبد الحق في هذا الكتاب عن رجل، وكان من الناس الصالحين، والعلماء الأخيار، رأى غلاماً أمرد فتعلق قلبه به، وكلف به حتى فقده، فلما فقده مرض واشتد به المرض، فذهب الناس يسعون إلى هذا الغلام؛ لعله أن يأتي إليه لأجل أن يراه فقط، فما زالوا به حتى أقنعوه أن يجيء إليه، فلما بلغ هذا الرجل موافقة الغلام سر وعادت إليه بعض حاله، فلما أخبر الغلام بذلك خاف من الله سبحانه وتعالى، فعدل عن مجيئه، وهنا اشتدت الحال بهذا الرجل، وأصبح يردد بيتين -عافانا الله وإياكم منها- كفر بهما بالله سبحانه وتعالى، قال فيهما: أسلم يا راحة البال العليل ويا شفاء المدنف النحيل رضاك أشهى إلي من رحمة الخالق الجليل عافانا الله وإياكم، ومات وهو يردد هذين البيتين.
أيها الإخوة! إنه أمر خطير جداً أن يتعلق المرء ويتعلق قلبه بمثل هذه الأمور، فتحضره عند وفاته يوم لا ينفعه -بعد توفيق الله سبحانه وتعالى- إلا عمله الصالح.(13/7)
استيلاء الشهوة على القلب ينسي الإنسان مصالح دينه ودنياه
الأمر الرابع أيها الإخوة! من مخاطر الشهوة: أن استيلاء الشهوة على القلب ينسي الإنسان مصالح دينه ودنياه، فتصبح الشهوة همه، فتقيمه وتقعده، يفكر بها في كل شئون حياته، حتى قد تجده -والعياذ بالله- يفكر بذلك في صلاته، ويفكر بذلك في نومه، وفي سائر أحواله، ويصبح همه وتفكيره منساقاً وراء هذه الشهوة، فيتعلق قلبه بها، فينسى بذلك مصالح دينه، وينسى بذلك ما فيه الخير له في الدين والدنيا، وينسى بذلك مصالح دنياه.(13/8)
تعلق القلب بالشهوة يكون على حساب محبة الله ورسوله
الأمر الخامس من مخاطر هذه الشهوة: أن تعلق قلب الإنسان بها ومحبته لها يكون على حساب محبة الله سبحانه وتعالى ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن القلب لا يمكن أن يجتمع فيه النقيضان، لا يمكن أن يجتمع فيه محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم التي بها يجد العبد حلاوة الإيمان، (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)، ومحبة غيرهما مما يجلب للقلب القسوة.
إن الرجل الذي تستولي الشهوة على قلبه وعلى فؤاده جدير بألا يبقى في قلبه مكان لمحبة الله سبحانه وتعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم.
واعلم أخي المسلم! أنه بقدر ما يتعلق قلبك بأمر من أمور الدنيا، وشهوة من شهوات الدنيا بقدر ما تفقد من ذلك من محبة الله سبحانه وتعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم.(13/9)
التعلق بالشهوة من أكثر أسباب الضلال والانحراف بعد الهدى
الأمر السادس: أن التعلق بالشهوة أيها الإخوة! من أكثر أسباب الضلال والانحراف بعد الهدى.
فكثير هم الشباب الذين كانوا على طريق الاستقامة والخير والصلاح، وكانوا يضرب بهم المثل في الورع والتقوى، وطاعة الله سبحانه وتعالى؛ لكن البعض منهم قد يتعلق بهذه الشهوة، فتتدرج معه حتى تأسر فؤاده حتى يقع بعد ذلك في الحرام، ثم يأتيه الشيطان فيقول له: هاأنت قد وقعت في الوحل فخض فيه، هاأنت قد هلكت فلا مجال للنجاة، فمتع نفسك بشهوات الدنيا ولذاتها.(13/10)
التعلق بالشهوة وانتشارها من أكبر أسباب الأمراض النفسية والجسدية
الأمر السابع أيها الإخوة!: ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه يقول: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا معشر المهاجرين! خصال خمس إن أدركتموهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا ابتلاهم الله بالطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم، وذكر بقية الخصال).
أيها الإخوة! إن الفواحش سبب كثير من الأمراض النفسية والجسدية، وهانحن نسمع الآن العالم بأسره يعاني من ويلات ما يسمونه بالأمراض الجنسية، وكلما اكتشفوا علاجاً لمرض ابتلاهم الله سبحانه وتعالى بمرض وطاعون لم يكن في أسلافهم.
أيها الإخوة! إن المتعة الحرام؛ بدءاً بالعادة السرية التي يمارسها الكثير من الشباب، يجني صاحبها الكثير من الآثار والأمراض النفسية والجسدية، فمن ذلك: الهم والحزن، وبلادة الذهن، وفتور الهمة، وضياع المروءة، والخجل، والإضرار بالذاكرة، والبصر، وتقوس الكتفين، وضعف الهضم، فهذه بعض أضرار ونتائج ممارسة العادة السرية، فما بالكم بما هو فوقها من الزنا، وعمل قوم لوط، عافانا الله وإياكم.
ولعلي أشير إلى بعض الإحصائيات عن بعض الأمراض الجنسية التي يعاني منها العالم، وكلما اكتشفوا علاجاً لمرض ابتلاهم الله سبحانه وتعالى بمرض آخر: ففي إحصائية نشرت عام 1977م أن عدد المصابين بمرض السيلان -وهو مرض يصيب المنحرفين جنسياً- 250 مليوناً سنوياً، ومرض الزهري يصاب به 50 مليوناً سنوياً، وعدد الأمريكيين المصابين بمرض الهربز التناسلي بلغ 20 مليوناً في عام 1983م.
ثم خرج بعد ذلك مرض العصر، وعقوبة الله سبحانه وتعالى: مرض الإيدز، ولعلكم سمعتم كثيراً عن هذا المرض الخطير، وقد أجريت دراسة على المصابين به في الولايات المتحدة التي تمثل الرقم القياسي في الإصابة بهذا المرض؛ لانتشار الشذوذ فيها، فيبلغ عدد الشاذين قريباً من 20 مليوناً، هؤلاء الذين يجاهرون بالشذوذ ويعلنون به أمام الناس، والشذوذ في مصطلح هؤلاء يعني عمل قوم لوط.
هذه الإحصائية دلت على أن 73% من المصابين بمرض الإيدز هم من الذين يعملون عمل قوم لوط، و17% من الذين يتعاطون المخدرات عن طريق الحقن.
يقول أحد نجوم السينما الأمريكيين الذين أصيبوا بهذا المرض وهو على فراش الموت: أنا بانتظار القدر أن يدق بابي، استمعوا إلى صوته من أعماقي، لم أكن أود أن أتعذب هكذا، ومن خلال هذا المرض الإيدز سرطان العصر، ورغم ابتسامات الكثيرين، وتهنئتي بالتماثل للشفاء، إلا أنني على موعد مع القدر، إنه يدق بابي اللحظات الأخيرة.
يقول هذا وهو على فراش الموت، وهو يعاني من آلام وويلات المرض.
ويقول رئيس قسم أبحاث الإيدز الدولية: إن تكلفة المرض في أمريكا ستصل في عام 1986م إلى 10 بلايين دولارات، يعني: 10 آلاف مليون دولار، هذه تكاليف العناية والرعاية، وإلا فمن أصيب به فلا أمل بعد ذلك بالشفاء، لكن هذه التكاليف لأجل رعاية المرضى، وهذا المرض ينتشر على شكل متوالية هندسية، والمتوالية الهندسية كما يعرفها المتخصصون بالرياضيات تعني تضاعف العدد، ولعل هذه الإحصائية تصور لنا ذلك التضاعف الرهيب للمصابين بالإيدز.
في الولايات المتحدة في عام 1981م كان عدد المصابين 252، وفي عام 1983م بلغ عدد المصابين 2643، وفي نهاية الشهر السادس من عام 1985م بلغ عدد المصابين به 12067، وبعده بثمانية أشهر بلغ عدد المصابين به 17001.
هذه الإحصائية عام 1986م، فلنتصور من خلال هذه الإحصائية الانتشار السريع والهائل لهذا المرض، وبعد ذلك انتشر المرض في سائر الدول، وعلى رأس القائمة -كما قلنا- الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، ثم انتشر المرض في كوريا الجنوبية لسببين: السبب الأول: أن عمل قوم لوط، أو ما يسمونه بالشذوذ منتشر في كوريا الجنوبية، وقلنا: إنه من أكبر أسباب انتشار الإيدز.
السبب الثاني: أنه انتقل إلى هذه البلاد عن طريق القوات الأمريكية التي كانت موجودة في ذاك الوقت، فقد كان يوجد في كوريا الجنوبية 40 ألفاً من القوات الأمريكية، وكانت هناك إحدى النساء تشتغل في صالون تجميل قريب من معسكر هؤلاء الفجرة، فعبث بها أحد هؤلاء المصابين بالإيدز، ثم انتقلت العدوى بعد ذلك وانتقل المرض وانتشر في تلك البلاد.
أيها الإخوة! هذه بعض النتائج والدلائل التي تدل على مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أنه: (ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا ابتلاهم الله بالطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم).
وهانحن نرى العالم وقد ابتلي بأمراض الزهري والسيلان، فلما اكتشفوا العقاقير ابتلوا بمرض الهربز، ثم بعد ذلك ابتلوا بمرض الإيدز، ولا ندري لعل المستقبل كفيل بأمراض وعقوبات أشد من ذلك وأقسى؛ وقد ظهرت بعض الحالات في بعض بلدان العالم الإسلامي، إلا أن الكثير من الدول لا ترغب في إعلان مثل هذه الإحصائيات.(13/11)
الانسياق وراء الشهوات سبب للقلق والأمراض النفسية
نتيجة أخرى أيها الإخوة! للانسياق وراء الشهوة.
إنها سبب للقلق والأمراض النفسية، فنحن نشاهد أن البلاد الغربية التي ينتشر فيها التحلل والفساد هي أكثر بلدان العالم أمراض نفسية وعيادات نفسية.
ولا شك أيها الإخوة! أن هذا الأمر مخالف للفطرة التي فطر الله الناس عليها، فحينما يتمرد الإنسان على فطرة الله عز وجل، حينما يعرض عن محبة الله سبحانه وتعالى، وينساق وراء الشهوات، فإنه يدفع هذه الضريبة الغالية ألا وهي القلق والأمراض النفسية التي تصيب الكثير من هؤلاء.(13/12)
الانسياق وراء الشهوات سبب لتفكك الأسر وانهيار النظام الاجتماعي
الأمر التاسع: أن التفسخ الجنسي، والانسياق وراء الشهوات سبب لتفكك الأسر، وانهيار النظام الاجتماعي.
والعالم الغربي أيها الإخوة! الذي انتشرت فيه الفاحشة يدلنا على ذلك دلالة واضحة وصادقة، ولعلنا نشير إلى بعض الإحصائيات حول ذلك الأمر: ففي السويد وهي من أكثر بلاد أوروبا ثراء، وترفاً، وانتشاراً للفاحشة، يوجد من كل أربعة أطفال طفل غير شرعي، أي: ولد زنا.
وفي الولايات المتحدة كانت نسبة الأولاد غير الشرعيين 5%، ثم ارتفعت خلال عشرين سنة إلى 17%، أي: 17% من الأطفال الذين يولدون كلهم أولاد زنا، وأولاد غير شرعيين، هذا ونحن في عصر انتشار وسائل منع الحمل بكافة أنواعها.
وأجريت إحصائيات تدل على أن نسبة 40% من طالبات الثانويات حوامل وهن غير متزوجات! أيها الإخوة! عندما يخرج هؤلاء للمجتمع كم من مجرم سيخرج من هؤلاء؟! وكم من عاهر سيخرج من هؤلاء؟! وأي تربية سيتلقاها مثل هذا الغلام ومثل هذا الفتى الذي ينشأ في جو العهر والفساد والانحلال؟! ناهيك عن ارتفاع نسب الطلاق، فقد وصلت في بعض بلدان أوروبا إلى نسبة 33%، وكلما ازداد هؤلاء بعداً عن منهج الله، وانسياق وراء الشهوة؛ ازدادوا تفككاً، وازدادت حياتهم انهياراً.(13/13)
الانسياق وراء الشهوات سبب لعقوبة الله وانهيار المجتمعات
الأمر العاشر أيها الإخوة! من نتائج ذلك: أنه سبب لعقوبة الله، وانهيار المجتمعات.
كلنا نقرأ القرآن، ونقرأ كيف صنع الله بقوم لوط لما جاهروا بهذه المعصية، فقد عاقبهم الله سبحانه وتعالى بعقوبة لم تكن في أسلافهم، وأخذهم الله سبحانه وتعالى أخذ عزيز مقتدر، وخسف الله سبحانه وتعالى بهم، وأتاهم عذاب الله عز وجل وهم غارون نائمون.
والذين يقرءون التاريخ يعرفون سبب هزيمة فرنسا في الحرب العالمية الأولى، لقد كانت فرنسا رمزاً للتحلل، حتى كانت دور البغاء تأخذ تصريحاً رسمياً من السلطات، وكانت النساء تأخذ إذناً رسمياً بالبغاء، وانتشر الزنا والفاحشة في صفوف الجيش الفرنسي، فما استطاعت فرنسا -وهي الدولة القوية- أن تصمد أمام الزحف الهتلري إلا 17 يوماً فقط، فوقعت بعد ذلك أيدي جيوش الألمان، وقد صرح الكثير من زعمائهم في ذاك الوقت أن السبب الأول وراء هذه الهزيمة هو الانسياق وراء الشهوات.
واسمعوا ما يقوله الزعيم الأمريكي كينيدي يقول: إن مستقبل أمريكا في خطر؛ لأن شبابها منحل غارق في الشهوات، لا يقدر المسئولية الملقاة على عاتقه، ومن بين كل سبعة شبان يتقدمون للتجنيد يوجد ستة غير صالحين؛ لأن الشهوات التي أغرقوا فيها أفسدت لياقتهم الطبية والنفسية.
وقريباً من هذا التصريح صرح الزعيم الروسي في ذاك الوقت.
إذاً: أيها الإخوة! هذه مخاطر ونتائج الانسياق وراء الشهوة.(13/14)
الأسباب التي تدفع الشباب إلى الوقوع في هذا الأمر
ما الأسباب التي تدفع الشباب إلى الوقوع في مثل هذا الأمر؟(13/15)
ضعف الإيمان
هناك جملة من الأسباب أولها وأهمها: ضعف الإيمان.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن).
والمؤمن يقرأ القرآن، ويقرأ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ويعلم أن من مقتضيات الإيمان ومن صفات المؤمنين حفظ الفرج والعفاف والطهر، فإذا ضعف إيمان المرء، وقلت تقواه وخشيته من الله سبحانه وتعالى تجرأ على المعصية.(13/16)
ضعف العلم بالله سبحانه واليوم الآخر
السبب الثاني -وهو مرتبط بالأول، وأفردته لأهميته-: ضعف العلم بالله سبحانه وتعالى، واليوم الآخر.
ولعله يأتي مزيد حديث عن هذه القضية عند الحديث عن العلاج.(13/17)
رفاق السوء
السبب الثالث: رفاق السوء.
في دراسة أجريت على نزلاء دار الملاحظة بالرياض كان من نتائج الدراسة: أن 75% من الذين أجريت عليهم الدراسة شاركهم رفاقهم السلوك الإجرامي، يعني: شاركوهم ذلك السلوك الذي كان سبباً في إيداعهم في الدار، وأما البقية الباقية وهي نسبة الـ 25% فلا يعني أن رفاقهم لا يشاركونهم في المعصية، وإنما قد يكونون لم يشاركوهم في مثل هذه القضية التي كانت سبباً في وقوعهم في لك.
وأفاد 52% منهم أن رفاقهم هم السبب في إيداعهم في الدار، و67% منهم أفادوا أنهم يقضون أوقاتهم دائماً مع رفاقهم.
ومثل هذه الدراسات تدلنا على مدى أثر الرفقة على الشباب، ومن أكثر الآثار السيئة التي يجنيها الشاب من وراء رفاق السوء هو الانسياق وراء الشهوات.
ففي تحقيق أجرته جريدة الأنباء يقول أحد المتحدثين وعمره 17عاماً: وفي أول مرة شاهدت فيها هذه الأفلام كان منذ سنين حيث كنت في زيارة لأحد أصدقائي، وكان في غرفته فيلم، فقام بتشغيل الفيلم، ثم ذكر اسم الفيلم، وذكر بعد ذلك ما حصل له.
الشاهد منه: أنه كان يجتمع مع زميله، وهو الذي عرفه على هذه الأفلام السيئة.
ويقول أحد الذين أودعوا في دار الملاحظة، ثم خرج منها وأعيد إليها مرة أخرى، لما سئل عن السبب في عودته للدار يقول: إن سبب عودتي أني عدت إلى نفس الشلة، ونفس رفقاء السوء؛ لأني إذا خرجت من الدار أجدهم ينتظرونني ويدعونني إلى العودة إلى المشاكل السابقة بعد أن حسنوا لي القبيح، وقبحوا لي الحسن، فأنسوني توبتي وعزمي على الاستقامة، فلذلك عدت إلى الدار بسبب هذه الشلة الفاسدة.(13/18)
انتشار المثيرات
السبب الرابع: انتشار المثيرات.
ولن أتحدث عن الأسواق وعن التبرج، وعن ما يجري في ذلك، ولن أتحدث عما يفعله بعض الشباب الفسقة من الدوران حول مدارس البنات أثناء خروجهن من المدارس، إنما سأتحدث عن قضايا أخرى مرتبطة بالمثيرات: أولها: الفيديو، وأفلام الفيديو التي يشاهدها الشباب أكثرها وغالبها مما يدور حول هذا الأمر، ففي دراسة أجراها بعض طلبة جامعة الإمام على نزلاء إحدى الدور الاجتماعية أفادت أن 100% من أفراد العينة يشاهدون الفيديو، وعندما سئلوا عن نوعيات الأفلام التي يشاهدونها أجاب 99% أنهم يشاهدون أفلان جنسية، والأفلام الجنسية تعني الأفلام المتفسخة، لأن ما يعرض الآن في التلفاز من أفلام الحب والغرام هذه لا يقصدون أنها أفلام جنسية، وإنما يعنون بذلك الأفلام التي تعرض الناس كما ولدتهم أمهاتهم.
وعندما سئلوا عمن يملك منهم جهاز فيديو أجاب 25% فقط من هؤلاء بأنه يملك في بيته جهاز فيديو، إذاً 75% منهم أين يشاهد الفيديو؟ يشاهده عند رفاقه، وتصوروا شاب مراهق ضعيف الإيمان يشاهد مثل هذه الأفلام الساقطة الوقحة مع زملائه ومع أقرانه!! ولذلك يتحدث أحد الذين سقطوا في هذه الرذائل -عافانا الله وإياكم- وهو لا يزال شاباً في أوائل المرحلة الثانوية يتحدث مع أستاذه فيقول: أجتمع أنا وبعض زملائي فنشاهد الأفلام الساقطة، ثم بعد ذلك نطبق ما فيها.
وكنت أتحدث مع شاب، كان هذا الشاب مستقيماً على طريق الخير والصلاح، فسألته عن سبب انحرافه لما تغير، فقال: إني كنت مع رفقة صالحة، فشغلت عنهم بسبب بعض المشاغل، فأصبحت أجلس في الحي، فرآني أحد الشباب من أهل الحي فدعاني إلى منزله، ثم نظرت إلى جهاز الفيديو، وبعد ذلك وقعت في كل ما تتصوره في ذهنك لما رأيت مثل هذه الأفلام.
وفي دراسة أجريت في الكويت على مجموعة من الشباب ليسوا من نزلاء الدور الاجتماعية، وليسوا كلهم منحرفين، أفاد 45% من الذكور من أفراد العينة أنهم يقضون وقتهم في مشاهدة الأفلام الممنوعة، و40% من الإناث أنهن يقضين وقتهن في ذلك.
إذاً: أيها الإخوة! ينبغي أن نتخذ مواقف حاسمة من هذا الأمر، وليست القضية حتى في الأفلام الممنوعة، فأكثر الأفلام التي تعرض الآن والتي تباع في محلات الفيديو هي مما يثير غريزة الشباب، وأكثرها ساقطة، فماذا تتصورون في هذه الأفلام التي تعرض والتي يبيعها هؤلاء؟ هل تتصورون أنها تربيهم على الخوف من الله عز وجل، وخشية الله عز وجل واليوم الآخر، أنهم يعرضون سير الصالحين والدعاة وشباب الصحابة؟ فيجب أن نقف وقفة حازمة أيها الإخوة! يجب أن نقف ونطالب بفرض رقابة صارمة على أمثال هؤلاء، نطالب بإغلاق هذه المحلات، فمن يؤجر محل الفيديو؟ يؤجره أنا وأنت والآخر، فبعض آباء المسلمين قد يؤجر هذا المحل طمعاً في مال وعرض زائل، ويتسبب في إفساد شباب الحي، ويتسبب في إفساد الشباب والفتيات بمثل هذا الأمر، ولو أن صاحب محل فيديو لم يجد من يؤجره، ولو أنه إذا أتى ليفتح المحل اجتمع عليه أهل الحي وقالوا: لا نرضى أن تفتح في هذا الحي، واجتمعوا إلى صاحب المحل وقالوا: لا نرضى أن تؤجره هذا المحل، لو أننا نتعاون جميعاً ونتكاتف لاستطعنا أن نحد كثيراً من هذه الظاهرة.
أيضاً العامل الثاني المثير: التلفاز وما يعرض فيه.
فالمراهق بمجرد أن يرى صورة امرأة تثور غرائزه، فكيف وهو يرى صورة امرأة تتزين، وتخرج وهي تتكسر في حديثها وفي حركاتها، كيف وهي تتلفظ بألفاظ الحب والغرام، ويشاهد المسلسلات والتمثيليات التي كلها تدور حول الجنس والحب.
في دراسة أجرتها جامعة أم القرى حول مجموعة من الشباب أفاد 57% من أفراد العينة من طلبة المرحلة الثانوية أنهم يقضون أوقات الفراغ في مشاهدة التلفاز، وماذا تتصورون أن هؤلاء الشباب ينظرون في هذه البرامج؟ هل يتابعون ما يسمونها بالبرامج الدينية، أو تلاوات القرآن، أو يتابعون برامج وأموراً أخرى؟ هؤلاء يقضون وقت الفراغ في مشاهدة هذه البرامج، ناهيك عمن يقضون بعض الوقت في ذلك.
وفي دراسة أجريت أيضاً في لبنان على 381 شاباً سئلوا عن رأيهم في التلفاز، فـ41% منهم يقول: إنه يؤدي إلى شيوع الرذيلة والجنس، وأيضاً 72% منهم يقول: إنه يضر بالمجتمع أكثر مما ينفع.
ويقول أحد الأطباء النفسيين في كولومبيا: إذا كان السجن هو جامعة جيم، فإن التلفاز هو المدرسة الإعدادية لانحراف الأحداث.
والحديث حول التلفاز يطول، ولا أريد أن أطيل في الحديث؛ لأن أمامي قضايا أخرى أرى بالضرورة الحديث عنها، والإفاضة فيها، لكن أحيلكم على مجموعة من الكتب تحدثت عن هذا، منها: كتيب (بصمات على ولدي) لـ طيبة اليحيى، وكتاب (الأسرة المسلمة أمام الفيديو والتلفزيون)، وأيضاً كتاب الشيخ سعيد علي زعيب حول أثر التلفزيون، وأيضاً كتاب عوض منصور (التلفزيون بين المنافع والأضرار)، وهناك كتب كثيرة مدعمة بالإحصائيات والدراسات والأرقام التي تعطينا قناعة بخطورة مثل هذا الجهاز.
وأقول هذا الكلام أيها الإخوة! ورغم أن كثيراً مما يعرض عند(13/19)
الفراغ
السبب الخامس: الفراغ: في الدراسة التي أجرتها جامعة أم القرى فإن 52% من أفراد العينة يقول: إن لديه أكثر من سبع ساعات فراغ في أيام الإجازة، يعني: في أيام الخميس والجمعة عنده أكثر من سبع ساعات فراغ، فكيف تتصورون أن يقضي الشاب وقت الفراغ؟ وفي دراسة أجريت في الكويت أن 45% من أفراد العينة قالوا: إنهم يقضون وقت الفراغ في مشاهدة أفلام ممنوعة، و40% من أفراد العينة يقول: إنهم يقضون وقت الفراغ في تكوين علاقات مع الجنس الآخر.
وفي تحقيق أيضاً أجرته جريدة الأنباء: أن شاباً عمره 20 عاماً لما سئل عن سبب مشاهدة الأفلام، قال: السبب الذي شدني لرؤية الأفلام الممنوعة هو الفراغ الذي أعيش فيه.
ويقول أيضاً أحد الذين خرجوا من دار الملاحظة وعاد إليها مرة أخرى، لما سئل عن سبب عودته يقول: إن سبب عودتي يرجع إلى الفراغ، وعدم وجود ما يشغلني ويقضي على وقتي بأشياء مفيدة، فكان أن عدت إلى الدار، ولم أستفد من وقتي منذ خروجي، ووجد الشيطان ونفسي الأمارة بالسوء إلي سبيلاً، فارتكبت ما أعادني إلى دار الملاحظة.(13/20)
غياب التوجيه
السبب السادس: غياب التوجيه: في إحدى الدراسات التي أجريت على بعض نزلاء الدور الاجتماعية 31% من أفراد العينة يقول: إن أحد أفراد العائلة دخل السجن.
يعني: أن ثلث أفراد العينة يعيش في تربية غير سليمة، وأفراد العائلة: إما الأب أو الأخ، فكيف نتصور هذا الشاب الذي تربى في مثل هذا الجو! أيضاً في التحقيق الذي أجرته جريدة الأنباء يقول أحدهم: أما بالنسبة لأهلي فهم لا يعرفون إلى أين أذهب، وماذا أعمل، والدي تاجر وكل وقته يقضيه في عمله، وأمي كل همها السيارات والأثاث والديكور إلى آخره.
ولما سئل أحد المدخنين عن سبب وقوعه في الدخان، قال: إن أولياء أمورنا هم المسئولون بالدرجة الأولى، فأنا لم أر والدي يسألني أين أذهب، ومع أي شخص أمشي، وحتى لو علم بأني أدخن فلا يعمل شيئاً، وقد وصل الإهمال عند أولياء أمري لدرجة أني سافرت في العطلة إلى الخارج وجلست هناك خمسة عشر يوماً، وعندما رجعت لم يسألوني من أين جئت! ويقول أحد الذين خرجوا من دار الملاحظة وعادوا إليها مرة أخرى، لما سئل عن سبب عودته إلى الدار، قال: أبي لا يهتم لأدائي لفروضي الدينية: من صلاة، وأمر بمعروف، ونهي عن المنكر، فوالدي لو قام بتنشئتي تنشئة إسلامية خالصة لجعل لدي درعاً واقياً أمام الشيطان وانحرافاته، لذا فإني لا أقوم بواجبي الديني على أكمل وجه؛ حيث إني لا أعرف كيف أؤدي بعض هذه الواجبات التي من المفروض أن تكون أساسية منذ نشأتي؛ كالصلاة.
ويقول الآخر أيضاً: إن ولي أمري الذي هو القدوة والمثل الأعلى لي، يطلب مني أشياء وواجبات أقوم بها وهو لا يؤدي هذه الواجبات، فيطلب مني عدم شرب الدخان وهو يشربه، ففقدت جانباً مهماً وهو القدوة، فسبب لي ذلك ازدواجية في تعلم المفاهيم وتطبيقها، كان من نتائجها أن عدت إلى الدار.
أيها الإخوة! عندما نعنى بالتوجيه هنا فإننا لا نخاطب الآباء وحدهم، وإنما نخاطب الآباء، ونخاطب الأساتذة أيضاً، ونخاطب كل من له صلة بجو الشباب، فيجب عليه أن يتقي الله سبحانه وتعالى، وأن يعلم أن هؤلاء الشباب الذين تحت يديه أمانة في عنقه، وسيسأله الله عز وجل عنهم يوم القيامة.
فكفى تشاغلاً أيها الإخوة! والله إنه مما يدمي أن ترى الأب ينشغل بدنياه، وينشغل بجمع أمواله، وينشغل بالسهر هنا وهناك، ويضيع أوقاته، وبعد ذلك يفاجئ بابنه وقد وقع في مصيبة، حينئذ يضع يده على رأسه ويقول: كيف يحدث هذا؟! لم أكن أتوقع هذا؟! السبب هو أنت، السبب هو غفلتك.
وتذكروا قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
تذكروا قوله صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته).
تذكروا قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله سائل كل راع عما استرعاه: أحفظ ذلك أم ضيعه).
أقول أيها الإخوة! إن من أكبر أسباب الوقوع في مثل هذه الأمور: غياب التوجيه، وعدم عناية الآباء وأولياء الأمور، والبعض ممن يتولون أمور الشباب من الأساتذة وغيرهم في الحديث عن مثل هذه الأمور، وتحذير الشباب منها ووقايتهم.(13/21)
كيف يقاوم الشاب شهواته
أخيراً: نجيب على هذا التساؤل، وهو في الواقع أهم ما يعنينا في هذا الأمر: كيف يقاوم الشاب شهوته؟ بعد أن أدركنا مخاطر هذه الشهوة، ومخاطر الانسياق وراءها، وبعد أن أدركنا الأسباب، وأظن أن إدراك الأسباب جزء كبير من الحل، فإن المرء حين يدرك هذه الأسباب يجتنبها، ويجنب من ولاه الله سبحانه وتعالى الأمانة والمسئولية.(13/22)
الزواج
أول أمر ينبغي أن نفكر فيه سواء الآباء أو الأبناء: هو الزواج، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء).
والزواج هو الوقاية؛ فيه يستطيع الإنسان فعلاً أن يصرف شهوته ليس فقط فيما أحل الله له، بل بما يؤجر عليه كما قال صلى الله عليه وسلم لما قال: (وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له بذلك أجر؟! قال: نعم، أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قالوا: نعم، قال: فكذلك إذا وضعها في حلال فإن له أجراً).
فلابد أيها الإخوة -وأنا أوجه هذا الحديث للشباب- لابد أن نفكر تفكيراً جاداً في الزواج، فلماذا نؤخر الزواج إلى هذا الوقت؟! لماذا يتأخر الشاب؟ لماذا يسوِّف؟ وعندما تتحدث عن الزواج يتصور الشاب أنه ليس مخاطباً بهذا الحديث، عندما نتحدث عن الزواج المبكر يتصور الشاب أن المخاطب بهذا الحديث من بلغ سن الثلاثين أو سن الخامسة والعشرين، أو من مضى على تخرجه أربع أو خمس سنوات.
ومن أين نشأ لنا أن الشاب لا يتزوج إلا بعد أن يتخرج؟ الله عز وجل يقول: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32]، فإذا كانت القضية قضية المصروفات المادية فقد تكفل الله عز وجل لك بها، الذي {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود:56]، والذي يقول: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22].
فلا يصح أن نتأخر يا إخوة في الزواج بحجة أننا لا نستطيع الإنفاق، وأن الزواج يتطلب تكاليف مادية، أبداً، ولذلك كان يقول ابن مسعود رضي الله عنه: التمسوا الغنى بالنكاح.
يعني: من أراد الغنى فليتزوج، وقد أخذها من قوله عز وجل: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32].
ويقول صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة حق على الله عونهم، ومنهم: الناكح يريد العفاف).
فإذا استطاع الشاب أن يجد مهر الزواج وتكاليف الزواج فلا عليه بعد ذلك مما بعد الزواج، وأما قوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33] فهو في الذين لا يجدون نفقة في الزواج ابتداءً، والذي لا يجد المهر وتكاليف الزواج، فإذا استطاع أن يأتي بتكاليف الزواج من هنا وهناك فلا عليه أن يفكر فيما بعد؛ فإنه قد تكفل عز وجل به.
أخي الشاب! أيما أهم عندك، وأيما أنت أحوج له: أن تعف نفسك، وتحفظ نفسك، وتعيش في ذاك الجو الساكن، {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]، {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187]، جو زواجة وطمأنينة، وسكينة، ورحمة، والذي يعيش الشاب فيه الاستقرار النفسي، والاطمئنان، والحياة الحقيقية فعلاً لا يعيشها الشاب إلا بعد الزواج.
والشاب الأعزب الآن لما يقرأ حقوق الزوجية، ولما يقرأ الآيات من حقوق الزوجية يحس أنه غير مخاطب بمثل هذه النصوص، لما يقرأ قول الله عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]، {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187].
فلماذا نفرط في حماية النفس وسعادة الدنيا؟ (وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة)، فينبغي أن نفكر ونبادر، وأيضاً للأسف كثير من الآباء يحتج بأنه لا يملك النقود، ولا يستطيع تكاليف الزواج، وقد تجده يشتري لوالده سيارة بمبلغ لو وفر هذا المبلغ للزواج لحفظ ولده، فتجده يندم ويعظ أصابع الندم عندما ينحرف ابنه، وعندما يهوي ويضل ابنه، وحينئذٍ يتمنى أنه بادر في مثل هذا.(13/23)
الصوم
الأمر الثاني: الصوم: النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء).
ماذا يصنع الشاب الذي لم يتزوج؟ أرى أن الحل الأول، والحل الأساسي، والحل الشرعي هو الزواج، فإذا لم يستطع الزواج فليس أمامه إلا الوجاء، وليس هناك حل سحري، وليس هناك وصفة طبية إذا وصفت للشاب انتهى صراعه، لا، سيبقى المرء في صراع، بل سيبقى في صراع مع الشهوات كلها حتى ينتهي من الحياة، وحينئذٍ ينتهي هذا الصراع.
أيها الشباب! ليس هناك حل سحري، وليس هناك خطوات عندما يسلكها المرء يضمن النجاة لنفسه، فلن تضمن النجاة أبداً، وليس هناك حل للمجاهدة، ولا يعني ذلك التيئيس، لا، كما أن الله عز وجل ابتلانا بهذا الأمر، فإنه لم يتركنا وحدنا في المعركة، فالله عز وجل قال عن الشيطان: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:99 - 100].(13/24)
الطرق التي ينبغي أن يسلكها الشاب إن لم يستطع الزواج(13/25)
الإيمان بالله تعالى والصلة به
وأنا سأشير إلى بعض الأمور التي ينبغي أن يسلكها الشاب إذا لم يستطع الزواج: أولها وأهمها: الإيمان بالله سبحانه وتعالى، والصلة به عز وجل.
إن الإيمان أيها الإخوة! هو الضمانة لوقايتنا من الانحراف، إن المرء وحينما يؤمن بالله سبحانه وتعالى، حينما يترقى في مراتب الإيمان والدين حتى يصل إلى أن يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فهو يعلم أن الله عز وجل يراه، حينما يصل إلى هذه المرتبة فإن هذا الإيمان سيصرفه عن الكثير من هذه المعاصي.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) دليل على أن المرء لا يقع في مثل هذه الأمور إلا عن ضعف إيمانه وصلته بالله سبحانه وتعالى.
إنه أيها الإخوة! حينما يتصل بالله سبحانه وتعالى، وحينما يملأ قلبه بالشوق إلى الله عز وجل، وبمحبة الله سبحانه وتعالى، وبالتضرع إليه، وباللجوء إليه، فحينئذٍ لا يتعلق قلبه في هذه الدنيا بشيء غير الله سبحانه وتعالى، وحينئذ يتحقق فيه وصف النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان).
وحين يجد العبد حلاوة الإيمان، وحين يجد لذة الإيمان، وطعم الإيمان، والصلة بالله سبحانه وتعالى لا يمكن أبداً أن ينصرف قلبه إلى غير الله عز وجل، ولا أن يتوجه إلى غير الله سبحانه وتعالى، فضلاً عن أن يتوجه إلى هذه المعاصي التي يدرك شؤمها عليه في الدنيا والآخرة.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة)، فقد سأل الله عز وجل أعلى نعيم الآخرة، وهو رؤية الله سبحانه وتعالى، ثم سأله أعلى نعيم الدنيا وهو الإيمان، والشوق لله سبحانه وتعالى، وهذا الجزاء مترتب على ذاك العمل.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الرؤية حين يكشف الله سبحانه وتعالى الحجاب عن وجه: (فلا ينصرف أهل الجنة إلى شيء من النعيم)؛ لما يرون، فهم قد منعوا أبصارهم، وحجبوا أبصارهم عن النظر إلى غير وجه الله سبحانه وتعالى، فكان هذا الأمر نتيجة لأنهم حجبوا قلوبهم في الدنيا عن التعلق بغير الله، وعن التوجه لغير الله سبحانه وتعالى.
أيها الإخوة! حينما يعمر الإيمان قلب العبد، وحينما يأنس بعبادة الله، وطاعة الله سبحانه وتعالى؛ فإنه يجد اللذة والراحة بطاعة الله عز وجل، ويجد حلاوة الإيمان ولذة الإيمان، حينئذٍ لا تتوجه نفسه لمثل هذه التوافه، ولا تحدثه، وحينئذٍ لا يطمع فيه الشيطان.(13/26)
معرفة الله تعالى وتذكر علمه وإحاطته، وتذكر اليوم الآخر
الأمر الثاني: معرفة الله عز وجل، وتذكر علمه، وإحاطته سبحانه وتعالى، وتذكر اليوم الآخر.
أخي الشاب! حينما تخلو بنفسك، وتغلق الباب، وترى أنه لا أحد يراك، اقرأ قول الله عز وجل: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ * سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد:8 - 10].
وحين تدعوك نفسك للمعصية تذكر أن الله يراك، وأن الله سبحانه وتعالى محيط بما تعمل، ولو كنت غائباً عن أعين الناس، وتذكر وقوفك بين يدي الله سبحانه وتعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليدني عبده فيضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه، فيقول: أتذكر ذنب كذا وكذا؟ أتذكر ذنب كذا وكذا؟).
كيف بك عندما تقف بين يدي الله سبحانه وتعالى في هذا الموقف العظيم، ويقررك الله عز وجل بذنوبك؟ وحينما تدعوك نفسك للمعصية تذكر قول الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت:20 - 22].
هل تستطيع أن تقارف المعصية بعيداً عن جوارحك؟! إنها هي التي ستوقفك أمام الله وتشهد عليك، كما قال صلى الله عليه وسلم في محاجة العبد ربه: (قال: إنك لا تجيز الظلم ولا أقبل علي شاهداً إلا من نفسي، فيقول الله عز وجل: نعم، لا نقيم عليك إلا شاهداً من نفسك، فيختم الله على لسانه، ويقول لجوارحه: انطقي، قال: فأول ما تنطق فخذه، فتنطق بما كان يعمل، ثم تنطق ساقه، ثم يده، ثم لسانه، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بعداً لكن وسحقاً؛ فعنكن كنت أناضل).
وحينما تدعوك نفسك للمعصية تذكر وصية العبد الصالح لابنه: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16].
فحينما تتذكر علم الله وإحاطة الله عز وجل، وحينما تتذكر اليوم الآخر وما يجري فيه، فلا يمكن أبداً أن تدعوك نفسك للمعصية، ولا يمكن أن تقارف المعصية؛ ولذلك يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} [النساء:17].
وكما قال السلف: لا يعصي الله إلا جاهل.(13/27)
الدعاء
الأمر الثالث أيها الإخوة! الدعاء: يقول الله سبحانه وتعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62]، ويقول عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
أيهما أكثر اضطراراً وأحوج وأرجى إلى إجابة الله: رجل يرى عليه خطراً من أخطار الدنيا، أو شاب يقف بين يدي الله في ثلث الليل الآخر يوم ينزل الله إلى السماء الدنيا ويقول: (من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له) يقف يبكي بين يدي الله، ويتضرع، ويلح بين يدي الله عز وجل، يسأل الله الحماية والحفظ في دينه، أليس هذا أحرى أن يجيبه الله؟ أليس هذا أكثر اضطراراً؟ ولذلك لما واجه يوسف عليه السلام الصراع مع الشهوة توجه إلى الله، فقال الله عنه أنه قال: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33].
فأكثر من الدعاء أخي الشاب! أكثر من دعاء الله سبحانه وتعالى أن يحفظك، وأن يعينك على التوبة، وأن يعينك على شياطين الإنس والجن، واعلم أنك ما دعوت الله، وصدقت معه، ولجأت إليه، فإن الله سبحانه وتعالى سيجيب دعاءك.(13/28)
اجتناب المثيرات وخاصة النظر
الأمر الرابع: وأؤكد عليه أيها الإخوة! اجتناب المثيرات وخاصة النظر: للأسف أيها الإخوة! أنه انتشر في مجتمعنا، وبين صفوف الكثير من الشباب عمل قوم لوط عافانا الله وإياكم، الإنسان قد يتورع عن النظر إلى النساء، والتزام النساء بالحجاب والتستر قد يحول دون ذلك، ولكن البلاء أن ينظر إلى بني جنسه.
ولذلك حذر السلف من ذلك، كما قال أحدهم: إني أرى مع المرأة شيطاناً، وأرى مع الغلام الأمرد اثني عشر شيطاناً.
فاحذر أخي الشاب! من أن ترسل النظر، فتبدأ المسألة بنظرة، ثم تتعلق الصورة في قلبك، ثم تتذكر وتفكر وتتدرج حتى بعد ذلك يملك على المرء فؤاده وقلبه.
ناهيك عن وسائل الإعلام: من صحف، وتلفاز، وأفلام وغيرها.
ولا يصح أبداً أن يأتي الشاب يتصفح هذه الصور الخليعة ويطلق نظره يمنة ويسرة، ثم يقول: ماذا أفعل؟ أنا أشكو من كذا، وأشكو من سيطرة هذه الشهوة، وأشكو من العادة السرية، اجتنب يا أخي هذه المثيرات، اجتنب هذه الأمور، وارجع إلى الله عز وجل، وأكثر من عبادة الله سبحانه وتعالى.(13/29)
من أخطر المثيرات التفكير والانسياق وراءه
ومن أخطر المثيرات أيها الإخوة: التفكير، والانسياق وراء التفكير: فالشاب لا يجد حرجاً في التفكير، وقد يجد فيه متعة، فيستلقي على فراشه، ويبدأ يفكر في هذا الأمر، وهو يعلم أنه ليس عليه حرج، ويسترسل به التفكير يوماً ويومين، وبعد فترة يملك التفكير عليه فؤاده، حتى تتحول المسألة إلى رغبة، وإلى همة، حتى يقع في الأمر.
فإياك إياك والاسترسال في التفكير، وإذا أتاك هذا الخاطر فأزله عنك وانشغل بعد ذلك: بالأمر الخامس: وهو الانشغال بالتفكير الجاد، والعمل الجاد، وبالذات الدعوة إلى الله عز وجل.(13/30)
الانشغال بالتفكير الجاد والعمل الجاد
إن أمامنا أموراً نشغل فيها التفكير يا إخوان! أمامنا واقع الأمة الذي يرثى له، والتفكير في أي جانب من جوانب حياة الأمة: صلة الناس بالله عز وجل، انتشار المعاصي، حياة الناس الاجتماعية والاقتصادية، أحوال الأمة الإسلامية، أحوال مجتمعنا، قلب نظرك في أي جانب من جوانب حياة الأمة، وابحث عن جانب واحد يسر.
أليس مثل هذه الأوضاع جديرة بأن تدعونا إلى التفكير الجاد، وأن نفكر فيها، وأن نفكر ماذا نصنع، وأن نفكر ما دورنا تجاه هذا الأمر، وأن ننشغل بالعمل الجاد؟ ينبغي أن تنشغل.
أخي الشاب! عندما تشغل نفسك بالدعوة إلى الله عز وجل: بدعوة إخوانك، باستصلاح إخوانك بأي وسيلة تستطيع أن تسلكها مع إخوانك الشباب، عندما تشغل نفسك بهذه الأمور الجادة، وبطلب العلم، وبالقراءة، وبعبادة الله عز وجل، فإنك تشغل وقتك دائماً.
وذكرنا من أسباب الوقوع في هذا الأمر: الفراغ، فبقدر الإمكان لا تبق للشيطان عليك طريقاً بأن تبقى فارغاً، وأن تسترسل مع وقت الفراغ.(13/31)
التفكر في حقيقة الشهوة وزوال النعمة
الأمر السادس: أن تفكر في حقيقة الشهوة وزوال النعمة: ماذا يحصل للإنسان إن أتى بما يجلب له الشهوة، وحقق تمام الشهوة، ما الذي يحصل؟ انتهى الأمر بزوال هذا الوقت الذي مارس فيه الإنسان الشهوة، وانتهت القضية، فهل بقي بعد ذلك يتمتع بالشهوة؟ لا، بقي بعد ذلك الحسرات؛ حسرات قلبه، فإن كان طائعاً منيباً لله عز وجل يبقى يتألم على هذه المعصية التي فعلها، وإن كان غير ذلك فيبقى يشتاق ويفكر في هذا الأمر.
ويبقى له بعد ذلك نتائج هذه الشهوة، فما الذي يحصل؟ من نتائجها التي أشرنا إليها: الأمراض الخطيرة؛ الأمراض الجنسية، والأمراض النفسية، فتفكر في مثل هذه العواقب، وتفكر في آثار هذه المعصية على المجتمع، وتفكر في آثارها على نفسك، وفي حقيقة هذه الشهوة.
ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاه شاب ثارت الشهوة في نفسه ويريد الزنا فقال: (يا رسول الله! ائذن لي بالزنا)، هذا الشاب هل تتصورون أنه بمجرد أن رغب في هذا الأمر أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة؟ لا، نحن لا نعلم ما يدور في نفسه، لكن يغلب على ظني أن هذا الشاب لما فكر في الأمر يعلم أن الزنا حرام، وعنده خوف من الله عز وجل، ففكر في الأمر ثم تردد، وفكر وتردد، وفكر وتردد، حتى عزم على الأمر، ولما عزم على الأمر قرر أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويستأذنه.
فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مع أصحابه فقال: (يا رسول الله! ائذن لي بالزنا)، فهم الصحابة به، فتوجه النبي صلى الله عليه وسلم وهو المربي، الذي قال عنه أحد أصحابه: (فبأبي وأمي رسول الله، ما رأيت أحسن تعليماً ولا تأديباً منه).
دعاه النبي صلى الله عليه وسلم وأجلسه، وقال له: (أترضاه لأمك؟ قال: لا، قال: ولا الناس يرضونه لأمهاتهم)، فهذه المرأة التي ستزني بها هي أم للناس، هل ترضى أن يأتي أحد يزني بأمك؟! وقال له: (أترضاه لأختك؟) فهذه المرأة التي ستزني بها أخت للناس.
وقال: (أترضاه لعمتك؟ ثم دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم حصن فرجه، وطهر قلبه، فانصرف الشاب وليس شيء أبغض إليه من الزنا).
فهذا الحديث أوجهه إلى الشباب، وإلى المربين الآباء والأساتذة وغيرهم، أن يسلكوا مثل هذه الوسائل.(13/32)
تذكر الحور العين في الجنة
أيضاً يا إخوة! من الأمور التي تعين الشاب: أن يتذكر الحور العين في الجنة: {كَوَاعِبَ أَتْرَابًا} [النبأ:33]، {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:35 - 38].
{حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72]، {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:74]، {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56].
يقول النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر في الصحيحين أول زمرة يدخلون الجنة في حديث أبي هريرة، فذكر صفاتهم، ثم قال: (لهم زوجان من الحور العين يرى مخ ساقها من وراء اللحم).
ويقول صلى الله عليه وسلم في حديث البخاري: (لو أن امرأة من نساء الجنة أطلت على أهل الدنيا لأضاءت ما بينهما، ولنصيفها -أي: خمارها- على وجهها خير من الدنيا وما فيها).
أخي الشاب! أيما أحب إليك أن تمتع نفسك بالشهوة العاجلة، ثم تعيش آلام وجحيم هذه الشهوة، أو أن تتمتع بالحور العين في دار الخلد، في الدار التي لا يهتم فيها الإنسان؟(13/33)
تذكر صفات المؤمنين
أيضاً من الوسائل يا إخوان! أن يتذكر صفات المؤمنين، ويرى أنه محروم منها: فالله عز وجل يقول: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35].
عندما تنساق وراء شهوتك، وتقرأ هذه الآيات تشعر أنك ليس لك فيها نصيب.
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:1 - 3].
إلى أن قال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7].
ثم قال بعد ذلك في آخر الآية: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:10 - 11].
فعندما تقرأ هذه الآيات وأنت لم تحفظ فرجك، ترى أنك لست مؤهلاً لهذه المنزلة.(13/34)
تذكر نماذج العفة
وأيضاً تذكر نماذج العفة، وخير نموذج على ذلك يوسف عليه السلام، وقد طال بنا الوقت، ولا أريد أن أطيل في وصف حالته عليه السلام، فقد اجتمعت له كل أسباب الفاحشة والمغريات: شاب، وغريب عن بلده، وفي بيت السلطان، ودعته المرأة إلى نفسها، وهي ذات منصب، وذات جمال، وغلقت الأبواب، وهددته، ومع ذلك قال: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23].
وقال الله عز وجل: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24].
لما تقرأ هذه القصة وهذا النموذج وأنت لم تحفظ فرجك تتألم كثيراً، ولما تقرأ قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظلة، وذكر منهم: رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله).(13/35)
اختيار الجليس الصالح واجتناب الوحدة
أيضاً من العوامل المعينة على ذلك: اختيار الجليس، وتجنب الوحدة: وقد عرفنا أن من أسباب الوقوع في هذا الأمر الجليس السيئ، والجليس يا إخوان! هنا لا نعني به فقط الجليس الذي يوقعه في الكبائر والموبقات، لا، فأي رجل يدعوك لمعصية فينبغي أن تجتنبه، وحتى في محيط الأخيار وفي تجمعات الناس الأخيار قد يوجد شاب ليس على مستوى من المحافظة، وعنده ميل إلى مثل هذه الأمور، أو عنده بعضها، فكون الشاب في محيط الأخيار لا يعني أنه قد أصبح مبرأً، وأنه ينبغي أن تجالسه، كلا، فينبغي أن تختار من تجالس، وأنت أعلم بمن تجالس، ومن تصطفي ومن تخالط.
وإذا رأيت عند شاب تقصير في مثل هذا الأمر وأنه يقودك إلى ذلك، فقل: هذا فراق بيني وبينك، وتجنب الوحدة أيضاً؛ فإنها من أقوى الدواعي إلى التفكير، وأقوى الدواعي بعد ذلك إلى الوقوع في مثل هذه الأمور.
وأخيراً: لا تتهاون بالصغائر: النظر، العادة السرية، وغيرها من الأمور، فكثير من الشباب يتهاون فيها، ويقول: هذا أمر يسير، فقد تنظر نظرة إلى صورة جميلة فترتسم الصورة في ذهنك، فالشيطان يعيد لك هذه الصورة في ذهنك مرة بعد مرة، حتى تتحول المسألة إلى تفكير، حتى يملك عليك فؤادك، حتى تتدرج بعد ذلك إلى الوقوع، فقد تقع في معصية صغيرة، ويتدرج الشيطان في عرضها عليك، والشيطان طويل النفس، وقد أقسم {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17].
فاحذر التهاون بالصغائر، وتذكر قوله صلى الله عليه وسلم يقول لـ عائشة: (إياك ومحقرات الذنوب، فإن لها من الله طالباً).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (مثل ما تحقرون من أعمالكم كقوم استبطنوا بطن واد، فجاء ذا بعود، وجاء ذا بعود، حتى أشعلوا نارهم، وطبخوا عشاءهم، وإن محقرات الذنوب متى ما يؤخذ بها المرء تهلكه).
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى وبعد ذلك أقول: لو وقعت في مثل هذه الأمور، فلا تتردد أبداً في أن تأتي إلى والدك، أو إلى أحد أساتذتك الذين تثق بهم، وتثق بدينهم وورعهم وخبرتهم، وتثق بأنهم يكتمون السر الذي تبديه لهم، وبأنهم ينصحون لك، وأفصح لهم عما في نفسك، واطلب منهم الإعانة، واطلب منهم التوجيه، فلا حرج في ذلك، وهو خير لك من أن تبقى أسير الشهوة، وخير لك من أن تهوي.
أيها الإخوة! في ختام هذه الكلمة أقول: والله إن الحديث عن هذا الأمر ذو شجون، والحديث يثير الأشجان، وهناك أمور كثيرة يود المرء أن يقولها، لكن الوقت لا يتسع لمثل ذلك.
وختاماً أقول: إن الدواء الناجح، والدواء الناجع بعد الزواج وبعد الصيام هو الإيمان بالله سبحانه وتعالى، وتعلق القلب به عز وجل، فلنسلك أسباب ذلك.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعصمنا وإياكم، وأن يجنبنا أسباب سخطه، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(13/36)
الأسئلة(13/37)
معنى حديث (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان)
السؤال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)، أرجو توضيح هذه العبارة، ويفضل ذكر مثال لذلك.
الجواب
هذا السؤال اختبار، وضح العبارة مع التمثيل، لأن الطلاب في جو امتحانات فمتأثرين بذلك الجو.
هذا الحديث يا إخوان! (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) معناه: أن تكون محبة الله ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم أحب إليه من كل شيء سوى الله ورسوله.
ويوضح ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين).
ولما قال عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: (إنك أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، حتى أكون أحب إليك من نفسك، قال: والله إنك الآن أحب إلي من نفسي، قال: الآن يا عمر).
يا إخوان! لا يوجد محبوب من مال أو شهوة أو نفس أو أي شيء ينبغي يحبه المرء أكثر من محبة الله ورسوله، والمحبة أمر قلبي؛ لذا لا أستطيع أن أمثل لذلك، ولا أستطيع أن أحضر لكم شخصاً وأقول: هذا يحب الله ورسوله أكثر مما سواهما، فالمحبة في قلبك، لكن المحبة تدرك بآثارها.
فإنسان مثلاً مستلقٍ على الفراش، ويسمع المؤذن يقول: الصلاة خير من النوم، وينام، ولا يصلي الفجر إلا بعد صلاة الجماعة، هل يمكن القول: إنه يحب الله ورسوله أكثر مما سواهما؟! وإنسان يقال له: أنفق في سبيل الله، ويفتح مجال تبرعات فيتبرع بالخمسة الريال أو بالريالين، وأما في المناسبات في أحوال تقتضي المجاملة للأقارب فإنه يدفع الألف والألفين ريال، وهو مجرد إحراج ومجرد مجاملة، لكن لما يأتي الإنفاق في سبيل الله عز وجل فإنه يبخل، هل هذا يحب الله ورسوله أكثر مما سواهما؟ وعندما يكون الطالب مثلاً يتأخر كثيراً عن صلاة الفجر، فإذا جاء وقت الامتحان فما يمكن يفوته الامتحان أبداً، لماذا؟ لأن النوم سلطان جائر في غير أيام الامتحانات، وفي أيام الامتحانات أصبح غير سلطان جائر! فهل هذا الطالب يصدق عليه أنه يحب الله ورسوله أكثر مما سواهما؟! كلا.
وإذا نظرنا في حياتنا فإننا نجد نماذج على ذلك كثيرة، فهذه آثار المحبة، وليست هي المحبة، فالمحبة في القلب، ولذلك يخطئ بعض الناس فيفسرها بآثارها، فهذه لوازمها وآثارها ونتائجها، وأما المحبة فهي في القلب، ولا شك أن المحبة لابد أن ينشأ عنها مثل هذه الآثار، فهذه آثار وعلامات نستطيع أن ندرك بها محبتنا لله ورسوله.
وفي ختام هذه الكلمة أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وأن يحفظنا وإياكم وشباب المسلمين من مضلات الفتن.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(13/38)
أخطاء في المناهج
المنهج هو الطريق الواضح المستقيم، ويقصد به هنا المعالم العامة والأمارات الواضحة لطريق الدعوة إلى الله عز وجل والعبودية له سبحانه، والأصل في المنهج المحجة التي تركنا عليها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو سبيل الطائفة المنصورة والفرقة الناجية إلى قيام الساعة، ومع طول الزمان وتباعد الأجيال ظهرت أخطاء في هذا المنهج نتيجة ما حصل للناس من اللبس والخلط في مفاهيم معينة، وهذا مما يحتاج إلى دراسة مستفيضة للخروج بحلول صحيحة.(14/1)
الدلالات اللغوية والشرعية لكلمة المنهج
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد: ففي بداية هذا اللقاء أشكر الإخوة القائمين على هذا المعهد -ونسأل الله تبارك وتعالى أن يجعله معقل علم وخير وبركة- على تنظيم مثل هذا اللقاء، ونحن في الواقع نحتاج إلى أن تكون مؤسساتنا التربوية بأسرها تؤدي مثل هذه الأدوار للمجتمع، وألا يكون الدور فيها قاصراً على ما يتلقاه التلاميذ على مقاعد الدراسة، وليس هذا بغريب عن مثل هذه المعاهد، فهي معاقل علم وخير وبركة، أسأل الله أن يبارك جهود الإخوة القائمين عليها.
في المعهد العلمي في مكة في هذه الليلة ليلة الخميس الثاني من شهر جمادى الثانية عام 1416 للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، نلتقي لنتحدث عن أخطاء في المنهج.
وبادئ ذي بدء أعتذر لكم؛ إذ أني كنت قد دونت بعض النقاط المتعلقة بهذا الموضوع وبعض النقول، لكن لأسباب فنية كما يقال لم أتمكن من إحضارها، ولهذا دونت بعض النقاط وأنا في الطائرة مما كنت أستذكره في هذا الموضوع، فمعذرة إن كان في الموضوع قصور أو خلل.
معشر الإخوة الكرام! الحديث عن المنهج حديث نسمعه الآن كثيراً، ولا شك أنها خطوة إيجابية، وخطوة مثمرة أن يبدأ الحديث عن المنهج، وأن يبدأ الناس يتساءلون عن المنهج، ويبحثون عن المنهج الصحيح، وهي خطوة بإذن الله لأن تترسم معالم هذا المنهج واضحة جلية للناس، وقبل أن نتحدث عن هذه القضية وهذه الأخطاء نشير إشارة سريعة إلى المقصود بالمنهج.
المنهج عرفته كتب اللغة بمعان عدة: منها الوضوح، والمنهج: هو الطريق الواضح المستقيم.
وأيضاً يقال: نهج فلان كذا إذا سلك هذا الطريق، وله معان أخرى لا تدخل ضمن هذا الاستخدام، وهو مصطلح جاء في كتاب الله تبارك وتعالى، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، يقول تبارك وتعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48]، ويقول صلى الله عليه وسلم في حديثه الطويل: (تكون فيكم النبوة ما شاء الله لها أن تكون)، ثم قال في آخره صلى الله عليه وسلم: (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة)، إذاً فهي ليست كلمة مبتدعة محدثة، وإنما هي كلمة عرفها العرب وتحدثوا عنها في أشعارهم وفيما يروى عنهم، وهي كلمة جاء بها القرآن وجاءت بها سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وحين نتحدث عن المنهج فإننا نعني: المعالم العامة الواضحة لطريق الدعوة إلى الله تبارك وتعالى والعبودية له عز وجل، والمنهج يطلق على الطريق الذي يسلكه المسلمون أجمعون، لكنه الآن في عرف الكثيرين ممن يتحدثون عن المنهج صار يطلق على مناهج الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، وعلى الجهود التي تبذل في سبيل إحياء مجد الأمة وإزالة هذه الغربة عن الأمة.
إذاً: فالمنهج يعني: معالم واضحة، فهي معالم رئيسة وواضحة وليست قضايا جزئية، وليست مسائل فرعية، ولا من أبواب الاجتهاد، إنما هي معالم ظاهرة واضحة، وهذا يعني: أن من خالف فيها فعنده نوع من الانحراف والخلل في المنهج.
والأصل في المنهج المحجة التي تركنا عليها صلى الله عليه وسلم، وهو سبيل الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة، لكن في هذا العصر وقد استجدت مستجدات وحصل للناس من اللبس والخلط ما لا قبل لهم به، صاروا بحاجة إلى حديث جديد تنزل فيه هذه القضايا على هذا العصر الذي يعيشونه.(14/2)
مناقشة أخطاء المنهج يجب أن تكون وفق منطلقات صحيحة وسليمة
قبل أن نتحدث عن الأخطاء في المنهج، نطرح تساؤلاً: حينما يتحدث الآن عن المنهج ويكتب عنه ويطرح في المنتديات والمناسبات، هل ما يطرح الآن هو محاولة لاستكمال معالم المنهج وإيضاحها وبيانها للناس؟ وهل هي محاولة للوصول إلى معالم واضحة وإلى أسس لا يعذر أحد بمخالفتها، ويعتبر من تجاوزها وتعداها قد انحرف وتجاوز المنهج، أم أن ما يعرض لا يعدو أن يكون صراعاً وعراكاً داخل دائرة أهل المنهج الصحيح، وداخل دائرة المنتمين إلى أهل السنة والجماعة؟ وإنه لمما يأسى له قلب المسلم ويتفطر أن يعود الصراع إلى الداخل، وأن يعيش جيل الصحوة حلقة مفرغة من الجدل والنقاش حول قضية المنهج، مع أنهم يسيرون في الأصل على أسس واحدة، وعلى أصول متفقة، وإن حصل ما حصل من الاختلاف في الآراء ووجهات النظر والمواقف؛ فإن هذا لا ينبغي أن يحول إلى اختلاف في المنهج.
إننا نتساءل ونحن الآن نسمع الحديث كثيراً حول المنهج، وحول الحكم بأن هذا هو المنهج الصحيح، وبأن هذا هو منهج السلف، وبأن منهج فلان أو فلان أو الطائفة الفلانية يخالف منهج السلف، ونحن نسمع الكثير من هذا الحديث نتساءل: هل هذا الحديث وهذا الزخم من إثارة هذه القضية يتوازى ويتناسب مع الحديث عن استكمال معالم المنهج وإيضاحها للناس من خلال الدليل والبرهان والحجة البينة الظاهرة التي لا يخالفها إلا مبتدع صاحب هوى معاند؟ فأقول بادئ ذي بدء: إن قضية المنهج قضية لا يعذر أحد في الإخلال بها، وإن الاختلاف يمكن أن يكون في أي باب إلا في المنهج، وهذا يعني: أن المنهج يشمل أسساً ثابتة ومعالم ظاهرة واضحة، وهو من الأمور المسلّمة في دين الله تبارك وتعالى، وهو مما جاءت به النصوص المتضافرة من كتاب الله ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم ومن عمل سلف الأمة، ولا يسوغ أن يحول المنهج إلى ما سوى ذلك، وداخل هذا الحديث وهذا اللغط نحن أحوج ما نكون إلى مراجعة، وأحوج ما نكون إلى دعوة إلى استكمال معالم المنهج، وإلى إيضاح الثوابت التي لا تعذر دعوة ولا يعذر داعية في أن يتجاوزها وأن يتخلى عنها، ولا يقبل الخلاف فيها، إن الجهود ينبغي أن تنصرف إلى تحرير هذه القضايا بعيداً عن الأهواء، وبعيداً عن المؤثرات، وبعيداً عن كل دافع وعن كل عامل إلا الانطلاق من منهج الطائفة المنصورة، ومن كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وما عليه سلف الأمة من القرون المفضلة.
إننا ونحن نسمع الحديث عن المنهج نرى أن هناك أخطاء كثيرة؛ أخطاء في الحديث عن المنهج، وأخطاء في تحرير معالم المنهج، ونريد أن نقف عند شيء منها، وليس حديثنا الآن حديثاً عن المنهج ومعالمه، إنما هي إشارة إلى بعض الأخطاء التي ربما تخفى، وهي منطلقات ينطلق منها البعض في تقرير المنهج أو في الحكم على أحد من الناس بأنه قد خالف المنهج، وهي منطلقات تخالف المنهج في أصله وهي منطلقات تحتاج إلى إعادة النظر فيها.(14/3)
أخطاء في تقرير المنهج والحكم عليه(14/4)
اعتبار آراء الرجال مقياساً للمنهج
أول خطأ من هذه الأخطاء: اعتبار آراء الرجال مقياساً للمنهج.
إن هذا الدين واضح لا لبس فيه ولا غموض، والعبودية في الناس إنما هي لله تبارك وتعالى، والاتباع إنما هو لكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولن يوجد أحد في الأمة صغر أم كبر يتوجب على الأمة كلها أن تصدر عن رأيه، وأن تدين الله باجتهاداته وآرائه، هذه قضية بدهية لا يجادل فيها مسلم، ولا يكابر فيها إلا مكابر، إن الأئمة الأعلام والرجال الكبار لهم شأنهم ولهم قيمتهم، ولهم اعتبارهم ووزنهم، ولا ينبغي أن تسفه آراؤهم ولا أن تهان منزلتهم ومكانتهم، ولا يجوز أن يدعى إلى إسقاط مثل أولئك الرموز الذين تفتقر إليهم الأمة، لكن هذا شيء وأن تحول أقوالهم إلى حجة تلزم الأمة كلها بقبولها شيء آخر.
ومن ادعى هذا الادعاء فنقول له: أعطنا نصاً من كتاب الله أو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم أو كلاماً لإمام معتبر من أئمة أهل السنة يرى أن الأمة ملزمة برأي فلان من الناس، لا سبيل إلى ذلك، بل هذا هو عنوان الابتداع، وهذه أمارة من أمارات الإعراض عن المنهج، فمن نصب شخصاً أياً كان، فوالى على موالاته، وعادى على معاداته، وجعل كلامه برهاناً على الحق والباطل فهو من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كما قرر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله، ولهذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الأئمة الأعلام، وهم مصابيح الدجى ومنارات الهدى كان أولئك رضوان الله عليهم يرون أن آراءهم وأن اجتهاداتهم ليست ملزمة للأمة.
فها هو ابن عباس رضي الله عنه يقول في شأن رجلين من أفضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بل هما أفضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس يوشكون أن يهلكوا؛ أقول لهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيقولون: قال أبو بكر وعمر، نعم إن رد حديث النبي صلى الله عليه وسلم لأجل قول فرد من الناس ولو كان حتى من أولئك الذين اختارهم الله تبارك وتعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم واختارهم تبارك وتعالى ليكونوا فرط هذه الأمة وقدوة هذه الأمة، إن هذا الأمر سبب للهلاك، وسبب للانحراف؛ فالأمة لم تتعبد إلا بقول النبي صلى الله عليه وسلم، أما آراء الرجال أيّاً كانوا وفي أي عصر وفي أي زمان وفي أي مكان فينبغي أن تعرض على ما في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، إذاً فلا يسوغ بحال أن نجعل كلام فلان أو فلان من الناس مهما علا قدره وارتفع شأنه أن نجعله هو المنهج، فضلاً عن أن نتهم من خالفه في اجتهاد أو في موقف أو في رأي أنه قد خالف المنهج، وأنه قد انحرف عن المنهج وتنكب الطريق، والأمة إنما هي متعبدة بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم لا غير، ولهذا كان سلف الأمة والمصلحون يشتكون من هذا العائق الذي يطرحه الكثير من الناس في وجوههم، كما قال أحدهم: عذيري من قوم يقولون كلما طلبت دليلاً هكذا قال مالك فإن عدت قالوا هكذا قال أشهب وقد كان لا تخفى عليه المسالك وهكذا كان أولئك يعترضون تارة بقول أشهب، وتارة بقول غيره، ثم يقول: فإن زدت قالوا قال سحنون مثله ومن لم يقل ما قاله فهو آفك فإن قلت قد قال الرسول فقولهم أتت مالكاً في ترك ذاك المسالك نعم إن ذكرت لهم حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: إن مالكاً إنما ترك هذا الحديث لأنه قد أتاه حجة وبرهان.
وإن قلت قال الله ضجوا وأكثروا وقالوا جميعاً أنت قرن مماحك فالمنطق هنا هو نفسه، والشكوى هي ذات الشكوى التي يطرحها كل مصلح في كل زمان حين يصدم بهذا الحاجز، وهو حاجز التقليد، وتعبيد الناس لآراء الرجال.(14/5)
اعتبار واقع مجتمع بعينه مقياساً للمنهج
الخطأ الثاني: اعتبار واقع مجتمع من المجتمعات مقياساً للمنهج.
قد يمتاز مجتمع من المجتمعات بأنه مجتمع محافظ أو أكثر محافظة وأبعد عن الانحراف والبدعة والخلل من سائر مجتمعات المسلمين، فيصبح المجتمع الرائد في عصره وزمانه، وهذا قد يدفع البعض من الناس لأن يجعلوا واقع هذا المجتمع هو المقياس وهو المعيار لسلامة المنهج، فكل رأي طارئ أو وافد أو جديد على هذا المجتمع يعتبر انحرافاً عن المنهج، ويعتبر مما لم نسمع به، وكوننا لم نسمع به دليل على أنه منهج منحرف، ألسنا نسمع كثيراً الطعن في بعض الآراء بحجة أنها آراء وافدة، وبأنها آراء جديدة، وبأنها آراء لم نسمع بها؟ إنا نطرح السؤال نفسه مرة أخرى: هل هناك مجتمع ما تكون الأمة متعبدة بما اتفق عليه هذا المجتمع؟ إن هذا المصطلح لا يعرف عند أهل العلم إلا فيما يسمى: (عمل أهل المدينة) وهي مرحلة قد مضت، ومسألة طال فيها الجدل والخلاف بين علماء الأصول، أما غيرها من المجتمعات والأزمنة والعصور فإنه لا يوجد من ينطق باسم الإسلام، ولا من يعتبر واقعه هو الواقع الذي يمثل الإسلام، وكل ما عداه وكل ما خالفه منحرف وزائغ وضال.
نعم قد يكون مجتمع من المجتمعات أكثر انضباطاً، وقد يكون الانحراف وتكون البدعة فيه أقل من غيره، ويكون في الجملة أسلم من غيره، لكن هذا لا يعني أن يكون كل طارئ وكل جديد على هذا المجتمع مرفوضاً وانحرافاً، وأن يكون كل ما ألفه هذا المجتمع أو ذاك منهجاً صحيحاً وسليماً، إن المناط والحجة إنما هي في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
إن الرأي الوافد والرأي الجديد والمنهج الذي لم يألفه المجتمع، ينبغي أن يعرض على كتاب الله وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى منهج سلف الأمة، فإن وافق فحيا هلاً وأهلاً وسهلاً به، وإن خالف فهو مرفوض لا لأنه وافد، ولا لأنه طارئ على هذا المجتمع؛ لكن لأنه قد خالف الكتاب والسنة ومنهج سلف الأمة، فينبغي أن يكون المعيار والميزان في ذلك إنما هو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهج سلف الأمة، وإلا أصبحنا عافانا الله وإياكم من أولئك الذين يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22].(14/6)
خلط المصطلحات والنصوص الشرعية وتنزيلها تنزيلاً خاطئاً
الخطأ الثالث: الخلط في المصطلحات الشرعية وتنزيلها على غير مواقعها.
إننا نسمع الحديث كثيراً من خلال المصطلحات الشرعية التي جاء بها الشرع، سواء أكانت ثناءً أم كانت في مقام الذم والمنع، إننا نسمع الحديث عن الفتنة وأن الشرع قد جاء بذم الفتنة وإثارتها والدعوة إليها، وهي قضية لا يخالف فيها مخالف، ولا يجادل فيها مجادل، ونسمع الحديث عن المصلحة وأن المصلحة تقتضي كذا وكذا، وأن هذا الأمر مما دعت إليه المصلحة، وهي قضية مسلمة من أصول هذا الدين، ونسمع أيضاً عن الكثير من العبارات التي جاءت في كتاب الله وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم واستخدمها سلف الأمة، سواءً أكانت في مقام الثناء والمشروعية، أو كانت في مقام الذم والعيب، لكن الذي يحصل أن هذه النصوص وهذه المصطلحات تنزل أحياناً على غير مواقعها، وقد استقر في أذهان الناس أن كل ما يحقق المصلحة فهو مما دعا إليه الشرع، وأن كل ما يجلب المفسدة فهو أمر مرفوض، وينسى الناس أن يناقشوا أن هذا الأمر يحقق المصلحة، أو أن هذا الأمر ابتداع في الدين أصلاً، أو أن هذا الأمر إثارة فتنة، أو أن هذا الأمر كذا وكذا إلى آخر المصطلحات الشرعية.
ولنضرب مثالاً سريعاً على ذلك بقضية يكثر الحديث عنها الآن: وهي قضية إثارة الفتنة، وإثارة الفتنة أمر مرفوض ولا شك، ولا يمكن أن نرى مسلماً يتعبد لله عز وجل ثم يتعمد السعي إلى الفتنة والدعوة إليها، لكن ما هي الفتنة التي جاء الشرع بذمها؟ وما هي الفتنة التي جاءت في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؟ أليست هذه القضية بحاجة إلى أن تحرر وأن توضح ثم تنزل الأحوال عليها، فما كان فتنة فهو مرفوض، وما كان سوى ذلك فلا يمكن أن يوصف بأنه إثارة للفتنة، إن الله تبارك وتعالى يقول في شأن أولئك الذين قاتلوا في الشهر الحرام: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:217]، لقد قاتل بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الشهر الحرام وعابهم المشركون بأنهم تجرءوا على الشهر الحرام، وتجاوزوا حرمته، فنزل القرآن يقرر خطأ هؤلاء، ويقرر أن القتال في الشهر الحرام أمر كبير لكن الكفر بالله والصد عن المسجد الحرام وعن سبيل الله أشد عند الله تبارك وتعالى: (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)، ما المقصود بالفتنة هنا؟ إنها صد الناس عن دين الله تبارك وتعالى، إننا الآن نسمع الحديث كثيراً عن الفتنة لكن هل نسمع يوماً أن من الفتنة صد الناس عن دين الله تبارك وتعالى؟ وأن من الفتنة السعي إلى إغراق الناس في الفساد والشرك والبدعة وصدهم عن سبيل الله؟ إنها فتنة وأيّ فتنة وهي أشد من القتل، يقول تبارك وتعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193]، {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]، وهكذا حين نتحدث عن هذه القضية ينبغي أن نجمع النصوص الشرعية مما جاء في الكتاب والسنة وعن سلف الأمة ثم ننزل هذه القضايا على مواقعها.
وقل مثل ذلك في قضية المصلحة والحكمة، وغيرها من المصطلحات التي جاء الشرع بها، إن هذه المعاني مستقرة عند الناس ومقبولة إما إيجاباً أو رفضاً، فالحكمة أمر يسعى إليه الجميع ويقبله الجميع والمصلحة كذلك، والفتنة أمر يرفضه الجميع، والذي يحصل أننا تنزل أحياناً هذه المصطلحات الشرعية على غير مواقعها فيبادر الناس بالقبول والرفض، ويشعر الناس أنها قضية مسلمة بدهية؛ لأن الشرع جاء بتحقيق المصالح؛ ولأن الشرع جاء بدرء المفاسد؛ ولأن الشرع جاء بالحكمة، وجاء بالمنع من الفتنة، ويغيب عن الناس مراجعة تحقيق هذا الأصل، وتنزيل هذه الألقاب الشرعية على مواقعها، وعلى مظانها.(14/7)
الخطأ في تحديد منهج السلف
الخطأ الرابع: الخطأ في تحديد منهج السلف.
إن منهج السلف لا يجادل أحد اليوم في أنه هو المنهج المقبول، بل هو المنهج الذي تتعبد به الأمة، ولا أدل على ذلك من أنك لا تجد مسلماً داعياً إلى الله تبارك وتعالى في مشرق الأرض ومغربها أياً كان مقدار استقامته وانحرافه يرضى بأن يوصم بأنه يخالف منهج السلف، وحينما يتهم أي واحد من هؤلاء بأنه قد خالف منهج السلف فإنه يبادر إلى الدفاع عن نفسه، وإثبات أنه لا يزال على منهج السلف، وأنه لم يخالف منهج السلف، وهي قضية إيجابية ونقلة مهمة انتقلت إليها الأمة أن يتفق الجميع على منهج السلف في الجملة، لكن الذي يحصل فيه الخلل هو تقرير منهج السلف.
إننا بدأنا نسمع كثيراً عن أن هذا هو منهج السلف، وأن هذا خلاف ما عليه السلف، ونتيجة لتعظيمنا لمنهج السلف وقبولنا له ورهبتنا من أن نصوم بأننا قد خالفنا منهج السلف فقد تحدث هذه القضية في أذهاننا ما تحدث، لكن القضية التي ينبغي أن تثبت أولاً هي أن هذا المنهج هو بحق منهج السلف، إن منهج السلف ليست دعوى يدعيها كل إنسان ويتاجر بها فيقول: إن هذا هو منهج السلف، أو هذا على خلاف منهج السلف، أو هذا ليس على منهج السلف، وسأشير هنا إشارة سريعة إلى بعض الأخطاء التي قد يقع فيها البعض في تقرير منهج السلف: أولهاً: أن يجعل رأي آحاد السلف هو منهج السلف.
فقد يأتي البعض من الناس ليقرر قضية من القضايا فيورد لك قائمة النقول عن جمع من التابعين وسلف الأمة ليستنبط بعد ذلك ويخرج بنتيجة أن هذا هو منهج السلف، وأن هذا هو مذهب السلف، لكنه قد يخفى عليه أن هناك طائفة من السلف ربما كانوا أكثر من أولئك الذين ساقهم هذا الرجل يخالفون في ذلك.
إذاً: ليس لنا كلما وجدنا قولاً لواحد من آحاد السلف أن نعتبره منهج السلف، وأن نعتبره المنهج الذي لا يسع الأمة أن تقول بخلافه، لا شك أن المسلم يقدر أقوال سلف الأمة، ويضعها في موضعها ويزنها بميزانها، لكن أيضاً أن تحول آراء آحاد السلف إلى منهج تتعبد الأمة به، ويوصم الناس بالانحراف لأنهم خالفوا رأي فلان أو فلان من السلف، فهي قضية بحاجة إلى أن يعاد النظر فيها، مثلاً: لو أتانا رجل وادعى أن منهج السلف هو وجوب الاستثناء في الإيمان، فإنه يستطيع أن يأتي بطائفة من أقوال السلف تنص على ذلك، ويقرر بعد ذلك أن هذا هو منهج السلف، وأن من لم يجز الاستثناء في الإيمان فقد خالف منهج السلف، لكن قد يقابله رجل آخر فيورد أيضاً قائمة أطول من تلك القائمة التي أوردها والتي ينقل فيها عن بعض السلف أنهم قالوا بعدم جواز الاستثناء في الإيمان، وأنا هنا مثلت بقضية واضحة ظاهرة معروف الخلاف فيها بين السلف، بغض النظر عن تحرير موطن الخلاف حول هذه القضية، لكنها قضية تؤكد لنا أنه ليس بمجرد أن يقال: قال فلان وهو من السلف أن هذا يكون هو منهج السلف، مع تأكيدنا على احترام آراء السلف وتعظيمها وتنزيلها منزلتها، لكنه لا يمكن أن تحوّل آراء فلان أو فلان إلى دين تلزم الأمة بقبوله، ويوصم من خالف هذا الاجتهاد وهذا الرأي بأنه منحرف، وإلا فبم نفسر ما ورد عن السلف من خلاف في مسائل كثيرة؟ خاصة وأن الكثير ممن يتحدث في هذه القضايا يغض الطرف عن عمد أو عن غير عمد عن أقوال أخرى لجماهير من السلف ربما كانوا أكثر من أولئك الذين حكى عنه تخالف هذا القول، إن الأمانة العلمية تقتضي أن تورد أقوال هؤلاء وأقوال هؤلاء ثم توفق بينها، واحترام عقل القارئ يقتضي منك أن تورد هذا كله، أما أن تضع يدك على عين وتنظر بعين واحدة وتتعامل مع جانب واحد فهذا عنوان دخول الهوى، وحين يدخل الهوى إلى ميدان البحث فإن هذه أول خطوة لمجانبة الصواب والانحراف عن المنهج.
الخطأ الثاني في قضية منهج السلف: إهمال عامل الزمان واختلاف الأمور.
لا شك أن هناك قضايا مسلمة في كل وقت وفي كل زمان لا تختلف فيها الأمور، لكن هناك قضايا نقلت فيها عن السلف أقوال قالوها في زمان معين أو عصر معين أو ظروف معينة، لا يمكن أن تكتسب هذه النصوص وهذه الأقوال صفة العموم والتعميم، ومهما كانت آراء السلف فهي لا ترقى إلى منزلة أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، والتي تتجاوز حدود الزمان والمكان.
ولأضرب على ذلك مثالاً حتى تتضح الصورة: لو تأملنا ما كتبه السلف لوجدنا أنهم ينهون كثيراً عن صحبة الأمرد وعن مجالسته ولو لمصلحة تعليمه وتهذيبه وتربيته، والنقول في ذلك عن السلف لا تخفى، ولهذا قد يأخذ بعض الغيورين هذه النصوص وينزلها على هذا العصر، ويقول: ينبغي ألا يصحب هؤلاء، وينبغي للصالحين والأخيار أن يبتعدوا عن صحبة هؤلاء، وأن يبتعد هؤلاء عن مثل هذه المجالس والمجامع؛ لأن السلف كانوا ينهون عن ذلك، وقد ينسى هؤلاء -وهم لا شك ينطلقون من منطلق الغيرة والحرص على اتباع منهج السلف- مراعاة فارق الزمان، وفارق ذاك الوقت الذي قيل فيه هذا القول والوقت والمرحلة التي نعيشها، إننا الآن حين ننهى الصالحين الأخيار عن مصاحبة هؤلاء والأخذ بأيديهم وتربيتهم وتهذيبهم فهذا يعني أن يترك هؤلاء هملاً يتيهون في الشوارع والأز(14/8)
عدم التفريق بين الخلاف في الأصل والخلاف في تحقيق المناط
الخطأ الخامس من الأخطاء في المنهج: عدم التفريق بين الخلاف في الأصل وبين الخلاف في تحقيق المناط.
إن هناك مسائل مقررة من هذا الدين ولا تحتمل نقاشاً ولا جدلاً، لكنه قد يحصل هناك خلاف في تنزيل هذه المسائل على وقائع معينة، وعلى أحوال معينة، فيحول هذا الخلاف إلى خلافٍ في الأصل، ولنضرب على ذلك بعض الأمثلة: قضية تاريخية قريبة حصلت ودار حولها لغط كثير وهي قضية الجهاد في أفغانستان، حين دار بين المجاهدين ما دار من الصراع، واختلف الكثير من أهل المنهج الحق -أهل السنة والجماعة- حول الموقف من هذه القضية، فهناك من صور أن القضية صراع بين السنة والبدعة، وأن القضية صراع بين التوحيد والشرك، ولهذا رأى أنه لا يسوغ لمسلم أن يقف موقف الحياد في هذه القضية، وأن الموقف الذي ينبغي أن يقفه المسلم هو الموقف الواضح المحدد، وهناك من خالف في هذا الأمر ورأى أن القضية لها أسباب وعوامل أخرى غير عامل العقيدة.
أقول: بغض النظر عن هذه القضية والموقف منها، لكن هذا الخلاف إنما هو خلاف في تحقيق المناط، فالجميع يتفقون على أن قضية التوحيد قضية لا يساوم عليها، وأن المسلم لا يجوز له أن يقف على الحياد في قضية يكون فيها صراع بين أهل السنة وأهل البدعة، ولا ينبغي له أن يتردد في موقفه حين يكون الجدل بين دعاة التوحيد ودعاة الفتنة والتصوف والضلال، لكن الخلاف في تقرير هذه القضية، هل هي أصلاً صراع بين أهل التوحيد وأهل الضلال أم أن لها باباً آخر؟ وقل مثل ذلك حينما يختلف مسلمان في تكفير فلان من الناس، حينما يقرر فلان أن فلاناً ممن وقع في أمر يكفره أنه قد كفر وارتد بهذا العمل عن الإسلام، والآخر لا يكفره، هل يسوغ لذاك الذي حكم بعدم تكفيره أن يصم هذا بأنه من الخوارج ويرى رأي الخوارج، أم أن القضية تحتاج إلى البحث والمناقشة؟ فإن كفّر بأمر يكفر فيه سلف الأمة وأهل السنة فإن هذا الأمر لا يمكن أن يحوله إلى رجل من الخروج وأهل الوعيد.
نعم، قد يكون الخلاف على التكفير بعمل لا يكفر فيه أهل السنة فهذا لا شك مسلك الخوارج، أما حين يكون هذا المرء قد ارتكب عملاً مكفراً بنصوص الكتاب والسنة، والخلاف إنما هو في تنزيل التكفير على هذا الرجل المعين فإن القضية ليست من هذا الباب في شيء، إنما هي خلاف في تحقيق المناط بغض النظر عن ملابسات هذه القضية من وجوب الورع والاحتياط والبعد عن تكفير المسلم، لكن فرق بين أن تحكم عليه بالخطأ في تنزيل هذا الحكم على هذه القضية وبين أن تلزمه بالأصل وتحكم عليه بمخالفة المنهج.
إذاً: فينبغي أن نفرق في قضايا الاختلاف بين ما كان خلافاً في الأصل وبين ما كان خلافاً في تحقيق المناط وتنزيل الوقائع على الأصول.(14/9)
الانطلاق في تحديد المنهج من أحداث ووقائع محددة
الخطأ السادس: الانطلاق في تحديد المنهج من أحداث ووقائع محددة.
قد يعيش المسلمون أحداثاً عنيفة وقد يعيشون أزمة، والأزمات بطبيعتها تسبب نوعاً من عدم التوازن في التفكير ومن عدم التوازن في المواقف، ولهذا يضطرب الناس ويموجون عند الفتن، والفتنة إذا أقبلت لا يدركها إلا العلماء، وإذا أدبرت عرفها وأدركها الجميع، فطبيعة الفتن والنوازل أنها تحدث نوعاً من الخلل وعدم الاستقرار في التفكير، فقد ينطلق البعض في تقرير المنهج من خلال موقف من قضية معينة أو حادث معين، وهذا خلل في المنهج، نعم، قد نعلق على هذه القضية أو على هذا الموقف أو قد نتخذ موقفاً من حدث معين، أو من قضية بعينها، لكن أن تكون هذه القضية منطلقاً لتقرير المنهج أصلاً، فهذا أمر يحتاج إلى إعادة النظر.(14/10)
الانطلاق في تقرير المنهج من ردود الأفعال
الخطأ السابع: الانطلاق في تقرير المنهج من ردود الأفعال.
قد يحصل خطأ ينتشر عند البعض من الناس، وقد يرفض هذا الخطأ فيبالغ في رفضه، ثم يعمد تجاه هذا الخطأ أو تجاه هذا الموقف أو تجاه هذا الواقع إلى تقرير المنهج متأثرين بردة الفعل.
إن قضية المنهج كما أنها يجب أن تحمل قدراً من الثبات والوضوح، فهي بحاجة إلى أن تحمل أيضاً قدراً من الاستقرار والتوازن مما يجعلنا نتلافى قدر الإمكان الاستجابة لردود الأفعال، والاستجابة للتأثر بالأحداث في تقرير المنهج، فحين نقرر المنهج ينبغي أن نتحرر قدر الإمكان من أحداث معينة تركت آثارها في أذهاننا، ونتحرر من ردود فعل تجاه أخطاء البعض من الناس أو تجاه تقصيرهم أو تجاه موقف أو آخر.(14/11)
اعتبار مسائل الاجتهاد من أصول المنهج
الخطأ الثامن: اعتبار مسائل الاجتهاد من المنهج.
إن هناك مسائل قد جاءت بها النصوص فهي ظاهرة واضحة، لا يعذر أحد بخلافها، وهذه بلا شك لا يسوغ أن تجعل ميداناً للجدل واللغط، وينبغي أن يخضع لها الدعاة ويخضع لها المسلمون أجمع، لكن ثمة قضايا هي من مسائل الاجتهاد، وقضايا لم يرد فيها نصوص قاطعة، ولهذا فهي تحتمل أن تختلف فيها الآراء والاجتهادات، وما دام أنه ليس في المسألة نص ظاهر يجب على المسلمين قبوله فالأمر واسع في ذلك، ويجوز فيه اجتهاد الدعاة والمصلحين، ويجوز لهم أن يتلمسوا ما يرون أنه أقرب إلى تحقيق مقاصد الشرع وأقرب إلى امتثال أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيجتهدون في تحقيقه قدر الإمكان، وما يهديهم إليه اجتهادهم يسلكونه ثم يعذرون الآخرين، ولا شك أن من أخطأ في مسائل الاجتهاد فهو معذور، وهذا منهج سلف الأمة، بل إن الذي يقرنون بين الخطأ والإثم والضلال هم أهل البدع كما قرر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله في مواطن من كتبه، وأهل البدع هم الذين يحولون مسائل الاجتهاد إلى مسائل يفرقون فيها بين الأمة، وإلى مسائل يؤثمون بها المخالف، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد)، وكم هي المسائل التي اختلف فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك لم تحول هذه المسائل إلى منهج يخطأ من خالفه.
إننا نرى الآن في عصرنا خلافاً حول قضايا مستجدة ربما كانت محلاً ومجالاً وميداناً للخلاف، ثم نرى من يحول هذه القضايا إلى منهج، ويجعل هذه القضايا معياراً للولاء والبراء، ويجعل هذه القضايا علامة على سلامة المنهج، ويجعل الإخلال بها علامة على الانحراف عن المنهج، ومن أبرز ذلك الخلاف في بعض وسائل الدعوة، فوسائل الدعوة المعاصرة لا شك أنه يحصل فيها خلاف كثير باعتبار أنها نوازل وقضايا طارئة، ولم يتفق فيها العلماء المعاصرون على رأي موحد، فلماذا تحول هذه المسائل إلى قضايا من أسس المنهج، وتجعل هذه المسائل علامة على أن من قال بها فهو من أهل المنهج الصحيح، ومن خالفها فهو من أهل المنهج المنحرف المبتدع؟ ولماذا لا يسعنا الخلاف فيها؟ نعم قد يرى فلان من الناس أنه لا يسعه إلا هذا القول، وقد يرى أنه يدين الله تبارك وتعالى بهذا القول، لكنه حين يلزم نفسه بهذا الاجتهاد ويقرره ويدعو الناس إليه فهذا شيء، وأن تحول هذه المسائل إلى أصول وإلى منهج يضلل من خالف فيه فهذا شيء آخر؛ لأننا حين نقرر هذا فمعناه أن يكون لدينا من المناهج بقدر ما لدينا من الدعاة، ويكون لدينا من الطرق والوسائل بقدر ما لدينا من الأفراد، فلا يستقيم على كل منهج إلا فرد واحد، لأنك لن تجد رجلين مهما كان وجه التقارب بينهما إلا ويختلفان في قضية من القضايا.(14/12)
اعتبار عدم النجاح في تحقيق هدف ما دليلاً على انحراف المنهج
الخطأ التاسع والأخير: اعتبار عدم النجاح في تحقيق الهدف دليلاً على انحراف المنهج.
لا شك أيها الإخوة أن الداعية إلى الله تبارك وتعالى حين يرى أن هذه التجربة أو تلك لم تنجح فإن ذلك يدعوه إلى أن يعيد النظر في نفسه، وأن يعيد النظر في اجتهاداته، وأن يعيد النظر في آرائه، ولا شك أيضاً أنه وهو يقرأ تجارب الآخرين من السابقين واللاحقين الماضين والذين يعيش معهم، لا شك أنه حين يقرأ تجارب من سبقه وعاصره يرى أن هناك تجارب لم يكتب لها النجاح، فيدعوه هذا إلى المراجعة، ويدعوه إلى أن يفتش عن أسباب؛ لأن الفشل له أسباب، لكن هل فشل فلان من الناس يكون بالضرورة سببه الانحراف في المنهج؟ قد يكون ذلك، فالمنهج المنحرف لن يكتب له النجاح، لكن ليس هذا بالضرورة فقد تكون هناك أسباب أخرى أدت إلى ذلك، منها تقصيره في الأخذ ببعض الأسباب المادية.
إن الله تبارك وتعالى أمرنا بأخذ القوة وأخذ العدة، وأن نتقيه ما استطعنا في كل شيء، قد يكون الإنسان على منهج صحيح، وعلى منهج سديد مستقيم لكنه يفرط في بعض الأسباب وبعض القضايا المادية التي ينبغي له أن يأخذ بها كما أمره الله تبارك وتعالى؛ فيفشل عمله أو يصاب بنكسة نتيجة إهماله وتفريطه، فهو هنا لا شك أُتي من تقصيره، لكن منهجه ليس منهجاً منحرفاً، ولا يسوغ أن نعود بعد ذلك لنقول: إن فشله في تحقيق هدفه دليل على انحراف منهجه، وقد يكون أيضاً فشله وعدم نجاحه عائداً إلى نوع من الخلل في نيته، قد يكون على منهج صحيح ومنهج سليم في الجملة، ولم يقرر باطلاً ولا بدعة، لكن قد يدخله في العمل بعض حظوظ النفس وبعض الرغبات الشخصية، وهنا قد لا يكتب له النجاح لعدم تحقيق تمام الإخلاص، فلا يدعونا هذا إلى أن نخطئ المنهج، نعم هو إنما أتي من عند نفسه، لكنه أتي من قضية النية، وأما المنهج الذي سلكه في الجملة فهو منهج سليم، فلا يسوغ أن نرفض منهجاً لأنه لم ينجح.
وقد يكون في الأمر ابتلاء وامتحان، والله تبارك وتعالى يبتلي عباده المؤمنين، أليس النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي ومعه الرهط، والنبي وليس معه أحد) فهل يسوغ أن نتهم هذا النبي الذي لم يستجب له إلا رجل أو رجلان رغم أنه استمر دهراً طويلاً في الدعوة، هل يسوغ أن نتهمه بأنه منحرف في المنهج بدليل أنه فشل في تحقيق الهدف الذي سعى إليه؟ هل يسوغ أن نتهم نوحاً عليه السلام -الذي لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً- بأنه منحرف في منهجه بدليل أنه خلال هذا الدهر الطويل لم يؤمن معه إلا قليل؟ لا يمكن أن يجرؤ مسلم أن يقول هذه المقولة، إذاً فالأمور لها عوامل أخرى.
ونموذج آخر: أصحاب الأخدود حين جاء ذاك الغلام الذي حكى لنا النبي صلى الله عليه وسلم قصته، وهدى الله عز وجل على يديه وزير الملك وجليسه، وهدى على يديه الكثير من الناس، ثم أخذ جليس الملك وشق بالمنشار نصفين كما أخبر صلى الله عليه وسلم، ثم أخذ الراهب وقتل، كل ذلك بسبب استجابتهما للغلام وبسبب دعوة الغلام، فهل يمكن أن نتهم هذا الغلام بأنه منحرف في المنهج؛ لأنه قاد هؤلاء إلى هذه النهاية، بل إنه قاد كل أولئك الذين آمنوا بالله إلى أن يحرقوا بنار الدنيا؟ وهل حرق أولئك جميعاً وقتلهم يعني أنهم قد فشلوا، وأن هذا الغلام مسئول عن تلك الدماء التي أريقت؟ لقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم في هذه البقعة المباركة ودعا إلى الله تبارك وتعالى فآمن به من آمن، واتبعه من اتبعه صلى الله عليه وسلم، وتعرض المسلمون لما تعرضوا له من التعذيب والإيذاء والفتنة، فمنهم من قتل، ومنهم من بلغ به الأذى ما بلغ، ومنهم من هاجر إلى الحبشة وتغرب، ومنهم من هاجر إلى المدينة حتى كان كما قال أولئك: فرق بين الرجل وزوجه، وفرق بين الابن وأبيه، وحتى التقى الابن مع أبيه بسيفيهما في غزوة بدر، وحتى قاتل الأخ أخاه، هل يمكن أن يقول قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته هي السبب فيما أصاب سمية، أو هي السبب فيما أصاب ياسراً حين قتلا تحت التعذيب، أو هي السبب في اغتراب المسلمين وهجرتهم إلى الحبشة أو إلى المدينة أو في كل ما أصاب المسلمين؟ لا يمكن أن يقول ذلك قائل.
إذاً: لا يجوز أن تنسب هذه النتائج إلى الدعاة إلى الله تبارك وتعالى، وأنهم هم المسئولون عنها، ثم ينتقل بعد ذلك إلى خطوة أخرى وهي الاستشهاد بذلك على الخطأ في المنهج واتهام المنهج.
هذه أيها الإخوة بعض الأخطاء التي نقع فيها عند تقرير المنهج وتبيين معالمه، وأكرر ما قلت في بداية حديثي: إننا أحوج ما نكون الآن إلى محاولة الخروج برؤية واضحة يتفق عليها جميع أهل السنة حول الثوابت التي لا ينبغي لأحد أن يخالف فيها، بدلاً من الجدل واللغط والخصومة واللجاج، فتحرير معالم المنهج يضمن النجاة بإذن الله؛ ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، ولن تنجو إلا الطائفة التي تكون على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتحديد معالم المنهج الوا(14/13)
الأسئلة(14/14)
ما يجب على الابن إذا ألزمه والده باتباع مذهب فقهي معين
السؤال
إن أبي يلزمني بالمذهب الحنفي، فهل أطيعه أم لا؟ علماً بأن عصياني له فيه من المفاسد والتفرقة، وكل أهلي كذلك مثل أبي؟
الجواب
لا شك أن البعض من المسلمين وخاصة العامة قد ينشئون في محيط ويعتادون عليه، ولهذا قد تصعب عليهم مخالفته، وقد يشعر الابن أن فيما عليه أهله ما لا يسعه أن يقرهم عليه، ويوافقهم عليه، لكن ينبغي له أن يتبع الحكمة في ذلك، وسواءً كان المذهب حنفياً أو مالكياً أو شافعياً أو حنبلياً فليست العبرة بالصحة والخطأ في قضية المذهب، إنما العبرة بما وافق الدليل، فإذا كنت تشعر أن ما يدعوك إليه والدك يخالف دليلاً صريحاً في كتاب الله أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم فينبغي أن تبين له بالحكمة والأسلوب الحسن أننا متعبدون باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وأن المذهب لا نقاش فيه ولا جدال حوله، لكن حينما يجد المرء دليلاً يخالف ما عليه المذهب فإنه من التزامه بالمذهب أن يتبع ما قاله أبو حنيفة رحمة الله عليه حين قال: إذا خالف قولي الدليل فاضربوا بقولي عرض الحائط.(14/15)
تقليد آحاد الناس للمجتهدين الثقات لا يعني إلزام غيرهم بذلك
السؤال
التنبيه على وجوب التقليد للمجتهدين المخلصين.
الجواب
هذه قضية كنت أريد أن أشير إليها، وهي أنك حين تقول لبعض الناس: إن آراء الرجال ليست حجة، يرد عليك بقوله: إنني من آحاد الناس وليس لدي علم ولا حسن إدراك لمثل هذه القضايا، ولهذا أرى أنه لا يسعني إلا أن أقلد فلاناً من الناس الذين أثق في علمهم وتقواهم.
فأقول: نعم قد يسوغ التقليد لفئة من الناس ممن لم يعرف الحق، فإذا كنت من هذه الفئة فلا يجوز لك أن تحكم بانحراف الناس لأنهم خالفوا هذا الرأي الذي تتبعه؛ لأنك أصلاً شهدت على نفسك بعدم العلم، فإذا ساغ التقليد فلا يسوغ معه أن تأخذ هذا القول الذي أخذته تقليداً وتدعو الناس إليه، وترى أن الناس متعبدون باتباعه، وأن من خالف فيه فهو منحرف، وإذا ناقشك الناس بالحجة والبرهان قلت: أنا ما أعرف، إنما أتبع فلاناً أو فلاناً من الناس، فإذا كنت أنت يا أخي تتبع فلاناً من الناس، وترى أنه لا يسعك الخروج من رأيه، فإن غيرك قد يفهم من كلام الله وكلام النبي صلى الله عليه وسلم ما يوجب عليه الخروج عن رأي فلان أو فلان في مثل هذه المسألة أو تلك.(14/16)
منهج السلف ضابط يتحاكم إليه عند الاختلاف
السؤال
التحذير من اتباع من يدعون القيام بمنهج السلف، بينما يتركون بعض أساسيات هذا المنهج مراعاة لمصالحهم الشخصية أو الجماعية.
الجواب
منهج السلف واضح ونحن نتحاكم مع الناس إليه، فمن كان على منهج السلف في معتقدهم وأخلاقهم وهديهم وسمتهم فهو كذلك، ومن خالف في شيء من ذلك فيحكم عليه بالبعد عن منهج السلف بقدر ما خالف فيه.(14/17)
بعض الكتب التي تعنى بقضية المنهج
السؤال
هل من كتابات ترشدنا إليها في هذا الموضوع وطرحه، وفي المعالم الرئيسية للمنهج؟
الجواب
المشكلة أن هناك كتابات كثيرة حول قضية المنهج، لكن كلها -كما قلت في المقدمة- تتناول الموضوع بنوع من اللجاجة والخصومة لا أقل ولا أكثر، وربما بدأت محاولات جديدة في هذا الوقت، وهي جديرة بالاعتبار، فمثلاً هناك كتاب: أهل السنة والجماعة معالم الانطلاقة الكبرى، وكتاب: الثوابت والمتغيرات في مسيرة العمل الإسلامي للدكتور: صلاح الصاوي، وهذه تعد محاولات للخروج برؤية واضحة حول ذلك، وهناك أيضاً رسالة صغيرة في منهجية العمل الإسلامي للشيخ: أحمد سلام، ورسالة صغيرة بعنوان: حتى لا نسقط في الفتنة، وهي حول قضية منهج الحوار بين دعاة أهل السنة، وهذا مما تيسر لي أن أقرأه حول هذا الموضوع.(14/18)
الخطأ في المنهج سبب من أسباب الفتور في جوانب الدعوة
السؤال
إن ما نراه من الفتور في الدعوة هو نتيجة الأخطاء في المنهج، نرجو من فضيلتكم الحديث عن هذا حفظكم الله.
الجواب
لا ينبغي يا إخوان أن تصيبنا عقدة أحادية التفكير، بحيث أن كل القضايا نحيلها إلى قضية واحدة، الفتور موجود، لكن ليس بالضرورة سببه الخطأ في المنهج، بل هناك أسباب كثيرة من تقصير في الطاعة وغير ذلك، فالخطأ في المنهج يعد سبباً منها، لكن يجب أن نتخلص من عقدة الأحادية ولا نجعل كل قضية نتحدث عنها مسئولة عن كل مرض من أمراضنا، وعن كل ظاهرة من الظواهر التي نعالجها.(14/19)
كيفية الجمع بين حضور مجالس العلم والتفرغ لحفظ القرآن الكريم
السؤال
كيف يستطيع طالب العلم التوفيق بين حفظ القرآن، وبين حضور الدروس العلمية المفيدة والمحاضرات النافعة؟
الجواب
لا شك أنه ينبغي للشاب أن يحرص على هذا وذاك، فيحرص على حضور حلقات القرآن، وعلى حضور المحاضرات والدروس العلمية، وما أتصور أن هناك تعارضاً كبيراً، فينبغي له أن يحرص على أن يوفق بينها، فيخصص وقتاً لحضور حلقات القرآن وحفظ القرآن، ووقتاً لحضور مجالس العلم والمحاضرات العامة؛ لأن النفس قد يصيبها الكسل، فالإنسان قد يتفرغ لحفظ القرآن، لكنه قد يكسل ويمل، فيكون حضوره هنا ومشاركته هنا مما يجدد له نشاطه وحيويته، ثم أيضاً -وهذا جانب مهم جداً- قد يتفرغ لحفظ القرآن؛ لكنه قد يضعف، ومجالس العلم والخير تزيد من إيمان الشاب، وتزيد من ثباته، وتزيد من الدافع لديه، وتضع قدميه على الطريق الصحيح، ويستمر في هذا وهذا، ومع ذلك فإني أنصحه إذا لم يتم حفظ القرآن أن يعطي جهداً أكبر للعناية بذلك.
السؤال
من هو الذي يمكن أن يتبين خطأ أو صحة رأي عالم من العلماء، ويرد ذلك للكتاب وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هل الأمر متروك لكل شخص التزم وتدين قريباً، ونصب نفسه من أئمة الجرح والتعديل، أم أن الأمر بضوابط وقيود؟ آمل توضيح هذه النقطة، لأن كثيراً من الشباب قد افتتن بهذا الأمر ووقع في لحوم العلماء وسفه آراءهم.
الجواب
هذا كلام صحيح وجميل، فليس معنى هذا أن نفتح الباب على مصراعيه، لكن لو تكلم إنسان مثلاً نقول له: ما هو الدليل من القرآن والسنة؟ ويكون النقاش باعتدال، فإذا رأينا دليله ظاهراً واضحاً من الكتاب والسنة نقبله ويبقى العالم والمجتهد له احترامه وله قيمته، ورد اجتهاده لا يعني بحال من الأحوال تسفيه رأيه، فنحن لو قلنا -مثلاً- في مسألة الجد والإخوة بقول غير قول أبي بكر، هل يعني ذلك أننا نسفه رأي أبي بكر، ولو قلنا في مسألة من مسائل الكلالة أو الربا برأي غير رأي عمر رضي الله عنه هل يعني أننا نسفه رأي عمر، وقل مثل ذلك في سائر المسائل، لذا فإن مخالفة رأي فلان من الناس لا يعني تسفيه رأيه، كذلك لا تجعل هذه القضية سبباً للفرقة، ولا يكون اكتشاف خطأ على فلان من الناس فرصة للنيل من عرضه والطعن فيه، فهذا مرفوض أيضاً.(14/20)
عدم اعتبار أقوال الرجال في تحديد المنهج لا يعني منع تقليد العلماء مطلقاً
السؤال
كيف الجمع بين رفض أقوال الرجال في تحديد المنهج، والقول بأن هذا الدين وهذا المنهج الذي أخذ من الكتاب والسنة لا يفهم ولا يعرف إلا بالرجال؟
الجواب
القضية ليست تطرفاً إما كذا أو كذا، نحن ما قلنا أن على كل إنسان أن يستغني عن قراءة كتب أهل العلم، وعن الاستماع إليهم، ويعرض عنهم، ويبقى يقرأ النصوص بنفسه ويستنبط منها مباشرة، هذا لا يمكن، فأهل العلم الذين بلغوا الغاية والقمة إنما استفادوا من آراء من سبقهم، ولا يمكن أن يستغنوا عن آراء غيرهم، لكن يا أخي هذا شيء وقضية التقليد المطبق شيء آخر، فنحن نرفض التقليد المطبق، ونرفض أن تكون آراء الرجال هي المقياس في المنهج؛ لأننا الآن نجد أن فلاناً يتهم بأنه منحرف في المنهج أو أخطأ في المنهج بحجة أنه خالف رأي فلان أو رأي الجهة الفلانية أو العالم الفلاني، هذا هو الخطأ وهذه هي القضية التي نرفضها، أما أن نهمل آراء العلماء والأئمة والاستفادة منهم فلا أظن أن أحداً يدعو إلى ذلك، ولا يقول ولا أظن أن أحداً يفهم مما نقوله أننا ندعو إلى مثل هذا.(14/21)
تبني الفرق الضالة لبعض جوانب المنهج الصحيح لا يلزم منه براءتهم من البدع والضلال
السؤال
نرى الآن من بعض آبائنا بعض الأخطاء في العقيدة كحبهم لبعض الطوائف مثل الصوفية، أو الرافضة إلخ، بسبب بعض الأعمال التي يقومون بها.
الجواب
نعم هذا حاصل، فمثلاً الرافضة اليوم -كما نرى من دولتهم- يرفعون راية الإسلام ويقومون ببعض الأعمال التي لم يقم بها كثير من المسلمين، وقل مثل ذلك في بعض طوائف التصوف، لكن هذا لا يعني أن منهجهم صحيح أو سليم، بل هؤلاء الكثير منهم يتاجر بمثل هذه الشعارات، ويتاجر بمثل هذه الأمور، وينبغي لنا نحن أن نكون واقعيين ومنصفين ومحايدين، فنقول: هذا الموقف الذي وقفوه موقف يجب على المسلمين أن يقوموا به، ويجب على المسلمين أن يقفوا مثل هذا الموقف، لكن هذا لا يعني الشهادة لهم بالبراءة من البدعة والضلال، ولا يعني أن يقود المسلم إلى حبهم والثناء عليهم، ألسنا نعلم أن أحد المشركين كان له أعمال من الصلة وإطعام الطعام، وتقديم الخير للناس، وحين سئل صلى الله عليه وسلم عنه قال: (إنه لن ينفعه، لأنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدي)، وهكذا فأعمال هؤلاء هي من هذا الباب.(14/22)
من أخطأ في اتباع المنهج بعد أن بذل وسعه واجتهد فيرجى له أن يكون معذوراً
السؤال
ما المنهج السليم الذي يمكن سلوكه لتجنب ما يبعد عن المنهج الذي رسمه لنا النبي صلى الله عليه وسلم؟ وكيف يمكن التمسك بهذا المنهج تمسكاً سليماً خالياً من الأخطاء؟
الجواب
يجب علينا أن نعود إلى دراسة منهج أهل السنة والجماعة دراسة عميقة واسعة، ونعرف ما هي القضايا التي اتفق عليها أهل السنة، وما هي المسائل التي اختلف فيها أهل السنة، ثم نسعى إلى تنزيل هذه القضايا على عصرنا وعلى واقعنا، ونرجع في كل أمورنا إلى كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كله بإذن الله أمارة الوصول إلى المنهج السليم، ولو أخطأ الإنسان بعد ذلك الاجتهاد ووقع في الخطأ ولم يوفق في سلوك الحق فإنه معذور بإذن الله، وعلينا أن نستكثر دائماً من الدعاء المأثور عنه صلى الله عليه وسلم: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم أرني الحق حقاً وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلاً وارزقني اجتنابه).(14/23)
موافقة الحق هو الميزان الصحيح لتقييم الأفراد والجماعات
السؤال
كثر في هذا الزمان الكلام عن الجماعات والعداء بينها، مع أن بعضها على خير، فما هو الميزان الصحيح في هذا الموضوع؟
الجواب
الميزان الصحيح في تقويم الرجال والجماعات والهيئات والأعمال أن ينظر المسلم ما وافق الحق فيقبله، ويثني عليه، وما خالف الحق فيرده ويرفضه، ومن كان صوابه أكثر من خطئه، واستقامته أكثر من انحرافه فإنه يحمد في الجملة، وإذا اقتضت الحاجة يبين ما وقع فيه من خطأ، ومن كان خطؤه وانحرافه وضلاله أكثر من صوابه فإنه يحذر منه في الجملة، وإن أتى بخير فإنه لا ينبغي أن يترك هذا الخير بحجة أنه جاء به فلان، لكن أرى أنه ينبغي لنا ألا نشغل أنفسنا بالحكم على الناس، وعلى الأعمال والجهود؛ لأن الإنسان إذا انشغل بهذه القضايا فإنه سينشغل عن عيب نفسه بعيوب الناس، ولن يسأل الإنسان في قبره عما يعتقد في فلان أو فلان من الناس، ولو مات وهو يعتقد أن فلاناً على الحق وكان بخلاف اعتقاده فيه فإن هذا لن يضيره أبداً.
المقصود: أننا ينبغي أن ننشغل بأنفسنا وأن ننشغل بعيوبنا، إما إذا كان هناك حاجة لبيان الموقف من قضية معينة أو جهة معينة فينبغي أن يكون ذلك بعلم وعدل، وأن نحذر من الهوى؛ لأن هذه القضايا من أكبر مداخل الهوى وحظ النفس.(14/24)
إخضاع آراء الرجال للكتاب والسنة يقي المسلم من التقليد المذموم
السؤال
لا شك أن تضخيم الناس لأقوال الرجال باعتمادها في كثير من القضايا يعتبر من الأخطاء الواضحة في المنهج، لكن ما الحل في علاج مثل هذا الخطأ الفادح، لا سيما وأن ممن يقع فيه بعض طلبة العلم الفضلاء؟
الجواب
العلاج هو أن نعبد الناس للكتاب والسنة ونخضعهم لهما، ونحن علينا أن نستفيد من آراء العلماء، ومن آراء الرجال، ويكون لها احترامها وقيمتها في نفوسنا، لكن بالمقابل ينبغي ألا تعظم آراء الرجال أكثر من الكتاب والسنة.
الآن الناس وسعهم أن يتركوا مذهب الإمام أحمد، ووسعهم أن يتركوا مذهب الشافعي، ووسعهم أن يتركوا مذهب أبي حنيفة، وما يرون غضاضة في ذلك، بل إن من دعا إلى مذهب من هذه المذاهب فإنهم يضعون عليه علامة استفهام، لكنهم في ذات الوقت يرون أنه مما يشق عليهم جداً أن يخرجوا عن قول عالم معاصر.
فأقول لهؤلاء: إذا وسعكم تقليد عالم معاصر فإن اتباع المذاهب أولى وأجدر؛ لأن أصحاب تلك المذاهب كانوا أعلم، وكانوا أئمة، واتفقت عليهم الأمة، وكان لكل مذهب منها مدرسة فقهية متكاملة، حررت قواعده وأصوله ومسائله، بخلاف آراء فلان أو فلان من الناس، فلا ينبغي لنا أن ننتقل من تقليد إلى تقليد آخر، ولا أن نذم خطأً ونرتكب خطأ آخر مثله أو أشد منه.(14/25)
اقتناع المرء أنه على المنهج الحق لا يلزم منه أن غيره على منهج باطل
السؤال
لماذا يصر البعض من الناس على عدم سلوك المنهج الصحيح، مع علمه أن المنهج الذي يسلكه هو منهج خاطئ؟
الجواب
أولاً هذا يحتاج إلى أن نقرر أن هذا الكلام سليم أصلاً، يعني: بعض الناس يرى فلاناً يسلك طريقاً، ويرى هو أن هذا منهج خاطئ، ويبين له ذلك، ثم بعد ذلك يصل إلى نتيجة أنه قد بين له الحق، وأنه قد رفض الحق وكابر.
أقول: يا أخي ربما أنه هو على منهج سليم وصحيح، وأن الخلاف بينك وبينه مما يسع فيه اختلاف وجهات النظر والرأي أصلاً، وليس خلافاً في المنهج، وربما كان على صواب وأنت على خطأ، وربما كان هو على خطأ فعلاً وأنت على صواب، لكنه ما اقتنع وما وضح له الحق، فلماذا دائماً نتهم الناس بفساد النية، وخبث الطوية؟! نكتفي بهذا القدر، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يكتب النصر والتمكين للطائفة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة، وأن يجعلنا وإياكم من أتباع منهجه صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة، وأن يوردنا حوضه، وأن يحشرنا تحت لوائه إنه سميع مجيب.
هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.(14/26)
نحو تربية جادة
التربية الجادة من الأمور الضرورية لإنشاء جيل عملي مؤهل لحمل الأعباء والتكفل بالقيام بالمسئوليات المناطة به، وهذه التربية لا يكفي فيها مجرد الطرح النظري والخطب والمقالات التي تلقى في المحافل؛ بل لا بد من وضع خطوات عملية والقيام بدور القدوة الحسنة في ذلك.(15/1)
المواجهات الضخمة تتطلب تربية جادة
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد: فتدرك الأمم أجمع اليوم أهمية التربية وضرورتها، وتدرك أنها لن تحقق أهدافها ولن تصل إليها إلا من خلال التربية وإعداد الجيل، ومن هنا فإن الأمم التي تقدر جيلها وناشئتها تشعر أن أولى ما تقدمه لهذا الجيل هو التربية؛ لذا تحظى هذه التربية عند أولئك بعناية كبيرة، بغض النظر عن فلسفتهم للحياة، وبغض النظر عن قيمة الحياة عندهم، لكنهم جميعاً يشعرون أن هناك مبادئ ومعارف وقضايا ينبغي أن تتربى عليها الأمم والشعوب، ولا شك أن الأمة التي تطمح إلى قيادة الأمم، والأمة التي تطمح إلى أن تتبوأ المكانة التي خلقها الله عز وجل واختارها من أجلها، لا شك أنها تدرك أن بلوغ هذا الهدف يعني أن تربي جيلاً يؤهل لذلك، وأن تكون مستوى تربيتها وأن يكون جيلها وأن يكون أفراد هذه الأمة مؤهلين بقدر هذا الهدف الذي تتطلع إليه.
ولئن كانت الأمة تحتاج إلى التربية في كل وقت وحين فهي في هذا العصر أحوج ما تكون إلى التربية الجادة.
إننا أمام متطلبات ضخمة وأهداف طموحة ينتظر من هذه الأمة أن تبلغها وتحققها، وهي لا يمكن أن تتم من خلال عواطف تفجر هنا وهناك، أو من خلال كلمات لا تعدو أن تكون نتاج خواطر مبعثرة، وإذا كنا نتصور أننا نستطيع أن نصنع الجيل من خلال هذا الجهد فإننا نبني قصوراً في الرمال ونسعى وراء السراب إننا بقدر ما تسمو أهدافنا وبقدر ما تعلو طموحاتنا ينبغي أن تكون تربيتنا، من هنا كنا نحتاج ونفتقر إلى التربية الجادة التي تخرج لنا الأمة الجادة وتخرج لنا الجيل الجاد الذي يحمل المسئولية ويقدر الأمانة ويكون أهلاً بإذن الله أن يكتب النصر والتمكين على يديه.
وسبق أن تحدثت بمناسبة سابقة حديثاً كان بعنوان: التربية الجادة ضرورة، وكتبت في ذلك، ووردت علي اقتراحات عدة من بعض الإخوة الذين استمعوا إلى هذا الحديث أو قرءوا ما كتب في ذلك؛ اقتراحات تؤكد على ضرورة طرح برامج ووسائل يمكن أن نصل من خلالها إلى هذه التربية.
لقد كان الحديث منصباً فيما سبق حول أهمية وضرورة أن نرتفع بتربيتنا وأن تربى الأمة وجيلها المبارك تربية جادة، وأشعر أن مثل هذا الحديث يقطع خطوات جيدة ويشعر الناس بضرورة المراجعة، لكن أيضاً لأننا اعتدنا -وهي ظاهرة سلبية نعاني منها- أن نحتاج إلى قضايا محددة وألا نكلف أنفسنا عناء التفكير والابتداع المشروع في ميدان التفكير حين اعتدنا هذا الكسل الفكري أصبحنا نحتاج إلى أن توضع لنا النقاط على الحروف؛ ولهذا أحببت أن أتحدث في هذا اللقاء حديثاً أركزه حول بعض الوسائل والمقترحات من أجل تربية جادة.(15/2)
من عوامل طرح موضوع التربية الجادة
أما الحديث عن أهمية التربية الجادة وما يتعلق بها وشواهد ذلك فقد سبق فيما أشرت إليه، وأقرأ في بداية هذا اللقاء مقتطفات من رسالة لأحد الشباب وردت إلي حول هذا الموضوع، ولا أخفي أنها كانت من العوامل وراء طرح مثل هذا الموضوع.
يقول الأخ: قرأت كتابكم: التربية الجادة ضرورة وكذلك استمعت إلى الشريط، وبدافع من آصرة التواصل ومبدأ المناصحة وجدتني أخط هذه الرسالة.
عند سماعي للشريط كنت متلهفاً للوصول إلى نقطة: مقترحات للنقلة؛ لأنها في رأيي أهم نقاط الموضوع إذ هي التي تحول العلم النظري إلى واقع عملي ولكن صدمت عندما سمعت نقاطاً عامة، أو معالم في طريق التربية الجادة، فقلت في نفسي: لعل في الكتاب زيادة بسط في الحديث ولكن ما زاد الكتاب عن الشريط في شيء، وقد عزيت ذلك بأن الهدف من الكتاب هو الاقتناع بضرورة التربية الجادة، ولكن هل مشكلتنا تكمن في عدم اقتناعنا بضرورة التربية الجادة، أم المشكلة في تخاذلنا في القيام بهذه التربية وتحمل مشاقها، ثم ذكر قضية خاصة له وقال في نهاية الرسالة: أعود إلى الكتاب فأقول: إن هذا الجهد وهذا الكتاب لا بد أن يتوج حتى تكتمل فائدته بكتاب أو رسالة يؤخذ فيها فصل مقترحات للنقلة بشيء من التفصيل والتوسع.
حين نتحدث عن التربية الجادة، أو حين نقترح بعض الوسائل التي نرى أننا حين نسلكها في تربيتنا توجد بإذن الله جيلاً وأمة جادة فإننا بحاجة إلى أن نقف وقفة ولو كانت قصيرة حول صفات الشخصية الجادة التي نتطلع إليها؛ لأنه قد يسير معك الناس في الحديث والنقاش حول هذه القضية لكن مواصفات الشخصية الجادة ليست مشتركة بينك وبينهم، ومن هنا ربما لا يدركون لماذا كان مثل هذا الحديث ومثل هذه النقطة وهذا الاقتراح.(15/3)
صفات الرجل الجاد
قد ينطبع في الأذهان حين نتحدث عن الشخصية الجادة أو الرجل الجاد أن الجد الذي نعنيه هو المعنى المضاد للهزل والضحك، وأننا نعني بالرجل الجاد ذاك الذي لا يمزح إلا نادراً ولا يضحك إلا لمماً، ولا تبدو منه الابتسامة إلا في الحول مرة أو مرتين.
لا شك أن استمراء الضحك والهزل والفكاهة مدعاة لموت القلب، لكن ليست في الضرورة هذه التي نريد، وماذا نريد من رجل صامت قد أطرق رأسه، ماذا عسى أن يصنع في هذا العصر الذي تواجه الأمة فيه تحديات وتواجه فيه الخطورة، إن هذا أسهل حل يمكن أن يسلكه المرء، أعني: أن يطرق وأن يخرس لسانه وأن يستمع ولا يتحدث وينظر ولا يتحرك ولا يعمل.
إننا حين نطلب الشخصية الجادة فإننا لا نعني مثل هذا النموذج، إنما نعني الرجل الذي يملك صفات محددة، ويمكن أن نلخص هذه الصفات بصفات ثلاث: الأولى: العمل والإنتاج، إن الرجل الجاد الذي نعنيه ونريده هو الذي يعمل هو الذي ينتج هو الذي يعمل أكثر مما يتحدث وحين تريد أن تتفقد مدى جديتك وأن تعرف مدى القدر الذي تحمله من هذه الجدية فانظر إلى نفسك وإلى عملك: كم يشكل العمل من اهتماماتك، وما هي النسبة بين حديثك وعملك بين مقترحاتك وأعمالك بين أفكارك العالية الطموحة وما تقدم وتعمل، فالرجل الجاد هو العامل الذي يعمل في كل الميادين والظروف.
أيضاً من المواصفات الهامة: جدية الاهتمامات، الناس تأسرهم اهتمامات شتى في هذا الواقع، فمنهم من الدنيا أكبر همه، ومنهم من همه الشهوات، ومنهم من همه الرياضة واللهو اللعب، ومنهم من همه تحصيل الجاه أمام الناس، وهكذا تتنوع اهتمامات الناس، انظر الآن كم تأخذ قضية الفن والرياضة من أجيال المسلمين من أوقاتهم ومن حماسهم ومن اهتماماتهم، أليست هذه صورة وعلامة وأمارة على قلة الجدية.
إن الرجل الجاد قد يمتع نفسه بشيء من الرياضة واللهو المباح لكن أن تسيطر عليه هذه القضية وتشغل باله وتصبح من الأولويات لديه فهذه أمارة على قلة جديته.
وقل مثل ذلك في ذاك الشخص الذي أصبحت الدنيا أكبر همه وأصبحت هي قضيته الأولى والأخيرة، فلا يفكر إلا في المستقبل والمستقبل هنا ينتهي بالدنيا قضية الدار الآخرة غير واردة عنده فيما يتعلق بالمستقبل، لا يفكر ولا يقيس الأمور ولا يزنها إلا بما يجلب له الخير والمصلحة في الدنيا.
إن هذه الشخصية التي تقف اهتماماتها عند هذا النموذج أو ذاك شخصية غير جادة، وشخصية لا ننتظر منها النتاج، فحين نراجع اهتماماتنا والقضايا التي تشغلنا نستطيع أن نقيس من ذلك مدى جديتنا.
المعيار الثالث والمقياس الثالث: أوقاتنا وكيف نعتني بها وكيف نصرفها، وانظر إلى المرء كيف يتعامل مع وقته وكيف يقضي وقته لتقيس مدى جديته، ومدى جدية الحياة لديه؛ لأن الرجل الجاد يشعر أن الوقت هو حياته هو عمره هو رصيده؛ ولهذا يضن به ويبخل به، ويكون كما قال السلف: أدركنا أقواماً كانوا على أوقاتهم أحرص منكم على دراهمكم ودنانيركم.(15/4)
برامج التربية الجادة
لا أريد أن أطيل في هذه المقدمات لأدخل في الحديث في بعض البرامج والمقترحات للوصول للتربية الجادة، وهي مقترحات قد يتناسب بعضها مع طبقة من الناس أو مع فئة من الناس وقد لا يتناسب غيرها، بل ربما تستطيع أن تضيف على هذه المزيد، وهي لا تعدو أن تكون محاولة لأن نضع أقدامنا في هذا الطريق هذا الطريق الذي نشعر أنه يستحق منا الكثير وأن قضية التربية والعناية به تستحق منا أكثر؛ لأنها هي التي تعنى بإعداد الرجال في كل جوانب الحياة.
وقد قسمت هذه الوسائل إلى شقين رئيسين: الشق الأول: وسائل معرفية.
والشق الثاني: وسائل عملية تطبيقية.
الشق الأول: في بعض القضايا التي يمكن أن نطرحها للناس، ونتحدث مع الناس من خلالها، فتساهم هذه القضايا في تحقيق التربية الجادة والوصول إليها سواء من خلال تعرفنا عليها بأنفسنا أو من خلال حديث المربين مع من يربونهم أو من خلال إبراز هذه الجوانب أمام الجيل وأمام الناشئة.
والشق الثاني: هو الحديث عن بعض الوسائل التطبيقية العملية.
ولعلي أعطي الشق الثاني والقسم الثاني النصيب الأكبر من الحديث.(15/5)
الوسائل المعرفية للتربية الجادة(15/6)
العناية بموضوع التربية وإدراك أهميته
نبدأ في الحديث عن بعض الوسائل المعرفية التي حينما نتعرف عليها ونعتني بها تدفعنا كثيراً نحو مستوىً أعلى من الجد والنتائج، وحين نطرحها أمام الجيل فإنها تساهم أيضاً في إيجاد وخلق جيل جاد يدرك المسئولية.
أول قضية: العناية بالموضوع أصلاً والنقاش فيه وإدراك أهميته، إننا حين نعتني بهذه القضية وتصبح هدفاً ونطرحها في مجالسنا وفي منتدياتنا وفي مناسباتنا سواءً في المنتديات الثقافية العلمية الرسمية من خلال محاضرة أو خطبة الجمعة أو الدرس في الفصل أو الكتابة من خلال هذه الوسائل التي تأخذ طابع الحديث المنظم الموجه إلى من يستمعون أو من خلال مجالسنا التي نتبادل فيها الحديث ونتناقش فيها والتي كثيراً ما يأخذنا الحديث فيها حول قضايا من أمور دنيانا ومن متاع الدنيا، بل ربما وكثيراً ما يلابس هذه المجالس اللغط واللغو والقول الباطل.
إننا حين نطرح هذه القضية بل أي قضية للنقاش في مجالسنا ومنتدياتنا أجزم أننا سنصل من خلال هذا النقاش إلى فوائد وإلى نتائج وإلى توصيات مهمة في حياتنا، وحين ننبه الناس ونتحدث فنحن نوقظ الوسنان النائم ونذكر الناسي وننبه الغافل حول هذه القضية أو تلك.(15/7)
إدراك سير الجادين من السابقين
الجانب الثاني أو الأسلوب الثاني: إدراك سير الجادين.
إن النماذج والقدوات العملية تترك أثرها في النفوس وتبقى شواهد حية على مدى تأهل هذه المعاني النظرية إلى أن تتحول إلى واقع حي ملموس وإلى أن تترجم هذه المشاعر وهذه الاقتناعات في عمل وفي سلوك وفي مواقف في جوانب الحياة كلها، والتاريخ مليء بهذه النماذج التي حين نقرأ فيها ونبرزها أمام الجيل فإنها تورث التطلع إليها، إن جيلنا اليوم يعاني من أزمة حادة في القدوة، نعم، إنه تبدو أمامه قدوات ونجوم لامعة في مجالات وجوانب من اللهو والعبث الفارغ، وما كان لمثل هذه النماذج الساقطة أن تتبوأ هذه المنزلة لولا أن الساحة شاغرة، ولو منحت هذه الساحة للنماذج الحقة المنتجة لم تجد تلك الشخصيات الساقطة لها مكاناً في مثل هذا الميدان.
وهو منهج وأسلوب قرآني فقد عني القرآن كثيراً بإبراز النموذج الجاد أمام المسلمين وأمام الأمة، ولنأخذ على ذلك أمثلة من قصص القرآن! لو سألتكم: عددوا لي القصص التي جاءت في كتاب الله عن أنبياء الله والمرسلين وفي كم موطن كررت القصص التي جاء الحديث فيها عن أقوام ليسوا بأنبياء كم يأتي الحديث كثيراً في كتاب الله عن مثل هذه النماذج خاصة في الفترة المكية والتي كانت فترة تعد فيها تلك القاعدة التي حملت الرسالة وحملت هذا الدين كم كررت قصة موسى مع قومه في القرآن؟ وماذا يعني إبراز هذا النموذج أمام المسلمين من المستضعفين في مكة إذ ذاك؟ إنه كان يعني أن يبرز هذا النموذج الجاد قدوة للمسلمين حين آمن سحرة فرعون وتوعدهم فرعون إذ آمنوا دون أن يأذن لهم وهذا الإيمان كان في مصطلح فرعون وعرف فرعون حيلة ومؤامرة يخفى وراءها مطامع وأهداف: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف:123] وقال لهم متوعداً مهدداً: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:71] كان فرعون يقول هذه الكلمة وهو يعي ما يقول وكان على أتم استعداد أن ينفذ ما يقول، وكان أولئك السحرة هم الأداة التي يبطش بها فرعون فهم يعرفونه جيداً ويعرفون أنه سينفذ ما يقول، فماذا كانت مقالتهم وماذا كان موقفهم؟ {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى} [طه:72 - 75].
كم أبرز هذا النموذج أمام المؤمنين في مكة حيث كانوا يعانون الاضطهاد والإيذاء في دينهم، وذلك ليكون هذا نموذجاً وقدوة حسنة.
الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه يقول ربه تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام:34] {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام:34] {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120] {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110] {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف:111] {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35].
وهكذا في آيات كثيرة يُخاطَبُ النبي صلى الله عليه وسلم ويُخاطَبُ المؤمنون وتُخاطَبُ الأمة بمثل هذه النماذج والصور الجادة.
وفي غزوة أحد حين أصاب المسلمين ما أصابهم ونزلت تلك الآيات تعقيباً على هذا الموطن أبرز هذا النموذج الجاد أمام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال تبارك وتعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أ(15/8)
إدراك بذل الأعداء وجدهم في حرب الدين
الأمر الثالث في المقابل: إدراك بذل الأعداء وجهدهم وجديتهم: كم يبذل الأعداء وكم يجتهدون في سبيل نشر ضلالهم وباطلهم وهو منهج أيضاً استخدمه القرآن، يقول تبارك وتعالى: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104] ويقول تبارك وتعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140].
إننا حين ندرك ما يبذله الأعداء من صبر ومن جهد ومن تحمل للمشاق نستهين ونسترخص ما نبذله في سبيل دعوتنا، ونحن كما قال تبارك وتعالى: {فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] إنكم أصحاب منهج حق أصحاب نية صادقة خالصة؛ ولهذا حين يدرك المسلم ما يبذله الأعداء من جهد وجلد وصبر لأجل حرب هذا الدين لأجل نشر الباطل لأجل تحقيق شهوات الدنيا؛ يشعر أنه هو أولى أن يكون جاداً أولى أن يبذل أضعاف ما يبذله أولئك.
والحديث حول هذا الجانب يطول لكني أشير إلى موقف عجيب رأيته بعيني: قرية نائية في دولة كينيا من دول أفريقيا، لا تستطيع أن تصل إليها بالسيارة، فيها رجل منصر، ذهبنا إلى تلك القرية وزرناها، فوجدنا أساليب الحياة الضرورية فيها غير متوفرة، رجل جاء من أوروبا وبقي فيها عشرين سنة تقريباً لأجل أن ينصر المسلمين ويذهب ويسافر إلى أوروبا ويتلقى دعماً مباشراً من المؤسسات التنصيرية التي هناك، ويقيم المشاريع ويحفر الآبار ويبني المدارس لأجل أن ينصر أبناء المسلمين، وبالفعل تنصر فئات من المسلمين في تلك القرية والمنطقة؛ لأنهم لا يملكون الماء، وهذا الرجل هو الذي يحفر البئر فيعطيهم حتى يتنصروا فهذا رجل أوروبي اعتاد حياة الترف حياة النعيم حياة اللهو واللعب، يأتي إلى تلك البلد بلد أمراض فقر متطلبات الحياة الضرورية لا يكاد يجدها ليس هناك اتصال بالعالم الخارجي ليس فيها أي وسيلة من وسائل الحياة الضرورية، ومع ذلك يبقى فيها عشرين سنة.
ونحن الذين كثيراً ما نتحدث عن الدعوة والتضحية في سبيل الدعوة، وحاجة الأمة للدعوة، ونتحدث كثيراً عن سيرة مصعب بن عمير رضي الله عنه وما بذل حين يعين أحدنا في منطقة نائية جميع الخدمات فيها متوفرة ويذهب إليها بسهولة ويتصل بأهله متى شاء، ويسافر متى شاء، ينتظر اليوم الذي يستطيع أن ينتقل فيه من هذه البلدة، ويبدأ يبحث عن حجج ومعاذير، وقد نفع الله على يديه كم نفع الله على يد هؤلاء الشباب الذين يغتربون؟! ويغترب ويرتاح ويبتعد عن ضجيج المدينة وصخبها وكل وسائل الحياة متاحة له، والناس يستمعون إليه ويتقبلون ويرى نتاج عمله، ومع ذلك يتذمر ولا يكاد يبقى سنة أو سنتين إلا وقد أدركه اليأس وشعر أنه يريد أن ينتقل يريد أن يذهب، أين الحديث عن الدعوة وعن البذل والعمل والنشاط! أذكر أحد الشباب تعين في منطقة محتاجة ودرس فيها سنة واحدة، ثم انتقل وأتى وأعطاني برنامجاً جيداً واقترح برنامجاً دعوياً للمنطقة وأعطاني إياه، فرميته عليه وقلت له: اسمح لي يا أخي الكريم! إذا كنت جاداً فابق هناك! فمن السهل جداً أنك تأتي وتقترح برنامجاً على الناس تريد أن يقدموه، لكن العمل والنتاج الذي نريد هو أن تبقى هناك وأن تقدم وأن تعلم الناس بما أعطاك الله، ليس بالضرورة أن تكون صاحب علم وصاحب موسوعة ليس بالضرورة أن تكون صاحب قضايا بعيدة، والوسائل حتى الآن متوفرة وكل ما تريد يمكن أن يتيسر لك، فإذا كانت القضية تهمك وتشغل بالك فابق هناك حتى تترك الأثر.
هل نحن نبذل كما يبذل المنصرون؟ والنهاية أن جهدهم يضيع ومع ذلك يصبرون ويتحملون العجيب أن في نفس المنطقة جاء مجموعة من الشباب قدراتهم متواضعة ومحدودة ورآهم بعض الدعاة في تلك المنطقة وشعروا بالمشكلة، فقدموا بعض الأعمال وحفروا بئراً فبدأ الناس يعودون ويتركون هذا الرجل المنصر، وبدأ يشعر بالإفلاس، ومع ذلك فهو باق ومتحمل وهو يشعر فعلاً أن النتاج الذي يحصله لا يتناسب مطلقاً مع الجهد الذي يبذله.
لا أريد أن أطيل في هذه القضية لكن أشعر أننا بحاجة أن ندرك ما يبذله الأعداء في كل مجال وما يتحملون في سبيل نشر أفكارهم، ماركس وإنجلز اللذين كانا وراء نشر الفكر الشيوعي في نصف الكرة الأرضية يوماً من الأيام وكانا وراء دولة حكمت نصف العالم وكان الغرب يرهبها، بقيا في السجن كثيراً واغتربا وطوردا من بلد إلى بلد! واليهود كم تحملوا وكم بذلوا حتى استطاعوا أن يجتمعوا كانوا شرذمة في الآفاق حتى جاءوا مصداقاً لوعد الله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء:104] كم بذلوا في سبيل تحقيق هذا الهدف والتخطيط له؟! يا إخوان! نحن المسلمين أسمى وأعلى هدفاً: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِ(15/9)
إدراك الواقع وتحدياته
الأمر الرابع: إدراك الواقع وتحدياته: إننا حين ندرك الواقع وتحدياته وندرك واقع الأمة إدراكاً جيداً، والفساد المنتشر في الأمة وتحدياته، يدفعنا إلى أن نكون جادين، لأنه إذا أدركنا هذا الفساد المنتشر في الأمة إذا أدركنا انتشار الجهل إذا أدركنا حاجة الأمة إلى البذل والجهد والعمل والتربية؛ فإن هذا يجعلنا نشعر أننا لا نستطيع أن نقوم بهذا العبء إلا أن نكون جادين، وأن نبذل كل ما نستطيع من طاقتنا ووسائلنا.(15/10)
الثقة بتحقق الهدف
الأمر الخامس: الثقة بتحقق الهدف: وهي قضية يجب أن نربطها مع القضية التي قبلها؛ لأننا أحياناً قد يسيطر علينا الشعور بالمرض الواقع، فقد ينقلنا إلى مرحلة اليأس، لكننا حينما ندرك الهدف وندرك أن هذا الهدف لا بد أن يتحقق وأن نصر الله عز وجل للأمة لا بد أن يتم، فذلك يعطينا دافعاً أن الإنسان الذي عنده شعور يتحقق هدفه، وأنه سيبلغ الهدف، فيزيده هذا الشعور طاقة وحيوية والله تبارك وتعالى يقول: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32].
يا أخي! مهما كاد أعداء الله ومهما فعلوا ومهما بذلوا فلا تخف على الدين ولا تخش عليه، القضية فقط أن نملك الروح التي نعمل بها وأن نكون على مستوى المسئولية، وهذا الدين دين الله سيظهره الله وينصره مهما كاد أولئك، وسيكون كل جهدهم كما قال تبارك وتعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} [الصف:8] {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة:32] {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:15 - 17].
وانظر كيف علق القرآن على ما فعله قوم صالح: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل:48 - 49] ماذا كان تعقيب القرآن؟ {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:50] انتهت القضية خلاص لك أن تتصور ماذا سيفعل هؤلاء وماذا سيحيق بهم؟! {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل:51].
إذاً: حين ندرك جميعاً أن الهدف سيتحقق وتكون البشائر واضحة أمامنا، وشعورنا بأن الأمة مهما وصلت إلى حال التخلف والتقهقر أنها بإذن الله قادرة أن تتأهل إلى هذا الدور فإن هذا يدفعنا للعمل، ونضيف إلى ذلك شيئاً آخر مهم جداً: أن يشعر الداعية ويوقن أنه لو لم يحقق الهدف كأن لم يستجب له الناس ولم يصل إلى تحقيق ما يريد فإن أجره على الله.
أرأيت أولئك الأنبياء الذي مضوا إلى ربهم ولم يستجب لهم أحد؛ أترى أن ذلك ينقص من قدرهم؟! وغيرهم كثير من أولئك الذين لم يستجب لهم أحد ولم يحققوا أهدافهم في الدنيا؛ أترى أن جهدهم ذهب هدراً؟ كلا! إنك أيضاً حين تدرك هذه القضية وتدرك أن العمل بحد ذاته هدف -بغض النظر عن النتيجة- فإنك تشعر فعلاً بالروح التي تدفعك للعمل وأن جهدك لم يذهب سدى.(15/11)
إدراك حقيقة الحياة الدنيا وزوالها
الأمر السادس: إدراك حقيقة الحياة الدنيا وزوالها: الحديث حول هذا يطول، لكن في القرآن: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف:45] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لروحة في سبيل الله أو غدوة خير من الدنيا وما فيها)، (ولقاب قوس أحدكم في الجنة أو موضع قيد -يعني: سوطه- خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها) والحديث في الصحيحين.
وفي الحديث الآخر عن جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بالسوق والناس كنفته فمر بجدي أسك -قصير الأذن أو مقطوع الأذن- ميت فتناوله فأخذه بأذنه فقال: أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟! فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به؟ قال: أتحبون أنه لكم، قالوا: والله لو كان حياً كان عيباً فيه أنه أسك فكيف وهو ميت فقال: والله للدنيا أهون من هذا عليكم).
وحين مر النبي صلى الله عليه وسلم بشاة ميتة يسحبها أهلها قال: (أترون هذه هانت على أهلها؟ قالوا: نعم، قال: والله للدنيا أهون على الله من هوان هذه على أهلها) هذه الدنيا، وهذه حقيقة الدنيا.
حينما نعي هذه القضية ترخص عندنا الدنيا بكل ما فيها ويشعر الإنسان أنه مهما بذل من وقت ومن جهد، ومهما ضحى ومهما فاتته من الفرص الدنيوية، فإن ذلك يهون كثيراً عند تحقيق مرضاة الله تبارك وتعالى وعند تحقيق الأهداف التي يسعى إليها.(15/12)
الوسائل العملية لتحقيق التربية الجادة
ننتقل بعد ذلك إلى الشق الثاني من الوسائل، وهي الوسائل العملية.
ما ذكرنا من الوسائل وسائل نظرية وهي مهمة، وقد عني القرآن بتحقيقها ودعوة الناس إليها، وعني النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً بتربية أصحابه على هذا المنهج وهذه القضايا؛ لكن لا ينبغي أن نقتصر على هذه الجوانب وحدها، وهذه من الأخطاء التي نقع فيها بتربيتنا أننا نشعر أن مشكلاتنا التربوية وأهدافنا التربوية إنما نحققها من خلال الطرح المعرفي البحت ومن خلال الحديث عن هذه القضايا حديثاً نظرياً، ونهمل الجوانب العملية التطبيقية التي هي أهم.(15/13)
العبادات
ومن هذه الوسائل وأهمها: العبادات: فإن العناية بها والحرص عليها يربي الإنسان ويجعل الإنسان يصبح إنساناً جاداً يدرك حقيقة حياته وعمره؛ ولهذا يذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث العظيم الذي ذكر فيه أنه رأى ربه صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة فقال له في المنام: (أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟) ثم قال له في الكفارات والدرجات والدعوات، قال: (وما الدرجات؟ قال: إسباغ الوضوء على الكريهات، ونقل الأقدام إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة).
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا أدلكم على ما يرفع الله به الدرجات ويحط به الخطايا: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة).
ولهذا فإن هذه العبادات عظيمة، أعني: إسباغ الوضوء في الوقت الذي يكره فيه الإنسان في الحر الشديد والماء حار، أو في البرد والماء بارد، والمشي على الأقدام إلى المساجد وخاصة في وقت الظلمة، والعبادة تتطلب جهداً من الإنسان حين لا يسعى إلى تحصيل مشقة، يعني: ليس من المشروع أن يبحث الإنسان على المشقة لكن حين تكون المشقة ملازمة للعبادة فإن المرء حين يجتهد بها فإن هذا أعظم أجراً كما قال صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (أجرك على قدر نصبك) إذاً: فالعبادات والعناية بها والحرص عليها يربي في النفوس الجدية ويجعل النفوس تنتصر على أهوائها وعلى رغباتها وعلى شهواتها.(15/14)
السعي إلى تحقيق رتبة الإحسان
أيضاً الأمر الثاني: أن يسعى الإنسان إلى تحقيق رتبة الإحسان: فإن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله جبريل عن أمور الدين سأله عن الإحسان فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) حينما يصل الإنسان إلى هذه المرتبة ويجتهد أن يحقق في نفسه هذه الصفة يراقب الله عز وجل في كل وقت وحين، ألا يصبح رجلاً عاملاً رجلاً جاداً رجلاً منتجاً؟ لا شك أنه حينما نراقب الله عز وجل في أوقاتنا وحينما نعبد الله تبارك وتعالى كأننا نراه، ونوقن أن الله تبارك وتعالى يرانا ويطلع علينا، فإن هذا لا شك سيدعونا إلى أن نعيد النظر في كثير من الأوقات التي نضيعها سدى في كثير من الاهتمامات التي لا تليق بالرجال الجادين.(15/15)
القدوة العملية
الوسيلة الثالثة وهي من أهم الوسائل العملية: القدوة العملية: تحدثنا في الجوانب المعرفية عن إبراز نموذج من التاريخ والحديث عنه والتعليق عليه لكن القدوة المنظورة التي يراها الناس تترك أثراً عظيماً في النفوس أفضل بكثير وأكثر من ألف كلمة وألف حديث يقال أمام الناس، وهاهو المربي الأول صلى الله عليه وسلم كان نموذجاً في ذلك، كان قدوة صلى الله عليه وسلم يشارك الناس في جوانب كثيرة، ولنأخذ على ذلك أمثلة: في الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه في قصة بناء المسجد حين جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبنون المسجد فكانوا كما قال أنس: وجعلوا ينقلون الصخر وهم يرتجزون والنبي صلى الله عليه وسلم معهم وهو يقول: اللهم لا خير إلا خير الآخره فاغفر للأنصار والمهاجره حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يعمل معهم ويعيش معهم في الميدان، لا شك أن هذا كان يمثل أعظم دافع للمسلمين؛ وكان يمثل هذا العمل نموذجاً ممتعاً لهم ويتمنى من يقرأ هذه الأخبار أن كان يعيش معهم مثل هذا الموطن، ما كان النبي صلى الله عليه وسلم ليجلس ويأمر أصحابه ويوجههم، أو كان يجلس من بعيد ويشير لهم، حتى المشاركة التي كان يقوم بها النبي صلى الله عليه وسلم ما كانت لأجل قضية دعائية، ولكن كان يشارك فعلاً ويحمل معهم ويبذل ويجتهد صلى الله عليه وسلم.
وفي حفر الخندق كما قال أحد الشباب من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو سهل بن سعد رضي الله عنه: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق وهو يحفر ونحن ننقل التراب ويمر بنا فقال: اللهم لا عيش إلا عيش الآخره فاغفر للأنصار والمهاجره).
ولهذا استطاع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يحفروا هذا الخندق في مدة قياسية فعلاً فلا توجد وسائل حديثة بأيديهم، فكيف استطاعوا أن يعملوا؟ هل هو من خلال كلمات ألقاها النبي صلى الله عليه وسلم عليهم أو خطبة؟ لا، ولكن نزول الميدان قدوة عملية، يرون النبي صلى الله عليه وسلم يعمل معهم فيترك هذا العمل أثره العظيم أكثر من ألف خطبة وألف موعظة.
ولما جاء جابر ورأى النبي صلى الله عليه وسلم وما عليه من الجوع والتعب، فرق لحال النبي صلى الله عليه وسلم فذهب إلى امرأته وأمرها أن تعد طعاماً، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ائت يا رسول الله! أنت واثنين أو ثلاثة من أصحابك.
نموذج آخر من هديه صلى الله عليه وسلم يقول أنس رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ليلة فخرجوا نحو الصوت فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم قد استبرأ الخبر وهو على فرس لـ أبي طلحة عري وفي عنقه السيف وهو يقول: لم تراعوا لم تراعوا!) فرس لم يسرجه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجد وقتاً ليسرجه، فحين فزع المسلمون لينظروا ماذا يعني هذا الصوت وجدوا النبي صلى الله عليه وسلم قد عاد إليهم وقد استبرأ الخبر.
كيف يتربى هذا الجيل الذي يرى هذا النموذج أمامه، ولهذا كان هذا الجيل هو الجيل المؤهل لحمل الرسالة، كم كان أولئك الذين عاشوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مكة والمدينة، وانظروا إلى فتوحاتهم ومواقفهم وأين وصلوا؟ يقول أحد التابعين: أرتج علينا الثلج ونحن في أذربيجان مع عبد الله بن عمر رضي الله عنه، ووصل أبو أيوب إلى أسوار القسطنطينية، والآخر وصل إلى المحيط إلى هنا وإلى هناك كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لماذا كانوا بهذه الروح؟ لأنهم تربوا تربية عملية؛ فهذه أفضل وسيلة نقدمها للناس حين نريد أن نربي الجيل نكون جادين نحن فعلاً، وسنترك بأعمالنا أضعاف أضعاف ما نتركه بأقوالنا، ولسنا بحاجة إلى ترديد الحديث أكثر من حاجتنا إلى النموذج العملي.
أرأيتم إلى حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه إذ قال: (جاء قوم عامتهم من مضر بل كلهم من مضر مجتابي النمار، فرق النبي صلى الله عليه وسلم لحالهم، ثم خطب صلى الله عليه وسلم فقال: تصدق رجل من درهمه من صاع بره من صاع تمره، فجاء رجل من الأنصار معه صرة كادت يده أن تعجز عنها بل قد عجزت، فألقاها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فتتابع الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة) انظر إلى أثر النموذج العملي الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية حين أمر أصحابه أن يحلقوا لم يحلق أحد منهم، فجاء يستشير أم سلمة فقالت: (اخرج ولا تكلم أحداً وادع بالحلاق واحلق رأسك) فحين حلق ونحر تقاتل الناس، فهل نستطيع أن نصل إلى هذا المستوى؟ نعم حين نكون نحن جادين فلنعلم أن جيلنا سيكون جاداً حين يكون المربون والموجهون وأهل الرأي فعلاً جادين فإنهم يصنعون من خلال تعاملهم مع(15/16)
صحبة الجادين
وسيلة عملية رابعة: صحبة الجادين: أن يختار الإنسان الجادين لصحبته؛ لأن هؤلاء يتركون أثراً عليه ويدعونه إلى معالي الأمور، ثم هو حين يراهم يشعر بالتقصير ويشعر بالضعف ويسعى إلى تجاوز ما هو عليه، ويلوم نفسه حين يرى أولئك قد فاقوه وسبقوه.(15/17)
التخلص من المعوقات
الأمر الخامس: التخلص من المعوقات.
هناك معوقات تعيق الإنسان وتحول دون الجد يجب أن نتخلص منها: منها العجز والكسل: والكسل هو أصل الداء، وجميل أن نقرأ ما ذكره العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد في الجزء الثاني حول قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل) وذكر أن الكثير من الشر والبلاء مصدره من هذين الداءين؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله منهما كل يوم.
من المعوقات أيضاً الإغراق في الترويح واللعب واللهو: فيجب أن نضبط هذه البرامج سواء ما نقوم به لأنفسنا أو ما نقدمه للجيل والشباب، لا شك أن الإنسان لا يستغني عن أن يروح عن نفسه لكن يجب أن نضبط هذا الترويح؛ لأنه حينما يسيطر على الإنسان ويستولي عليه فإنه يشغله عن معالي الأمور.
وانظروا الآن لجيل الأمة الذي قد شغل فعلاً باللهو واللعب وصار همّ الإنسان اللهو واللعب والسفر للنزهة، فهو يتحمل في سبيله كل شيء، لكن حين تريد منه عملاً دعوياً يصعب عليه ذلك، فمثلاً: انظر في هذه المواسم والأوقات حين تخضر الأرض، تجد الناس يبحثون عن مواطن الربيع ويسافرون مسافات طويلة ويتعبون ويشعرون أن هذه قمة الراحة النفسية والبدنية؛ لكن لو طلبت من أحدهم سفراً من أجل عمل دعوي لاعتذر بالمشاغل والأوقات ومشقة السفر إلى آخره وقل مثل ذلك في اللهو اللعب فكم يأخذ من أوقات المسلمين، وكم تضيع فيه من الجهود! ومن هنا كان لا بد أن نكون حازمين وأن نضبط البرامج التي تقدم للجيل من الشباب الصالحين، لأنه لا يسوغ أن تتحول الترويح والرياضة إلى غاية ومطلب نحفل بها ونهتم بها ونعطيها دعاية بشكل يجعلها تتجاوز القدر الطبيعي لها وموقعها.
من المعوقات أيضاً صحبة البطالين: وهم الذين يصاحبهم المرء لأجل أن يؤانسهم ويؤانسوه يضيعون عليه الأوقات، بل يحطمون عنده معاني الجدية.
من المعوقات الترف ومظاهره والذي سيطر على حياتنا وصار معوقاً لنا عن الكثير من الأمور الجادة؛ لأننا ألفنا حياة الترف وصار يصعب علينا جداً أن نتخلى عنها ونتنازل.
إذاً: التخلص من هذه المعوقات يعيننا كثيراً على أن نكون جادين.(15/18)
الواقعية
وسيلة سادسة وأسلوب سادس مهم: الواقعية: أي: أن نكون واقعيين؛ لأن الإنسان حينما يسمع مثل هذا الحديث ويرى هذه النماذج يتطلع إلى أن يكون جاداً متميزاً فيجتهد ويبذل، ويثقل على نفسه فلا يطيق التحمل، والنتيجة تتحول إلى ردة فعل؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة).
تعرفون قصة عبد الله بن عمرو رضي الله عنه حينما كان يديم الصيام والقيام، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكبر ويطول به العمر، وقال: (إن لنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً فأعط كل ذي حق حقه) يعني: أنك لن تطيق الاستمرار على هذا الأمر فاقتصد.
إذاً: الواقعية المعقولة ليست الواقعية المفرطة ليست الواقعية التي يجعلها الإنسان مبرراً لإضاعة الأوقات والكسل والقعود، لكن المقصود أن نكون واقعيين ولا نحمل أنفسنا إلا ما نطيق، فهذا جانب مهم؛ لأن الإنسان قد يتحمس فيأخذ أشياء أكثر من طاقته فلا يطيقها، فقد يقول: أنا إنسان غير جاد وغير قادر على الجدية، أو أن يصاب بردة فعل فيعود إلى الوراء.(15/19)
الجرأة على تجاوز الأعراف الخاطئة
الأمر السابع: الجرأة على تجاوز الأعراف الخاطئة.
هناك أعراف خاطئة سيطرت علينا وكبلتنا وأصبحنا لا نستطيع أن نتجاوزها، مثلاً: الأعراف الاجتماعية والمجاملات والعلاقات الاجتماعية يعني: كم تأخذ منا المناسبات الاجتماعية من أوقات طويلة وتسيطر علينا وتضيع علينا جهودنا مجاملة.
إضاعة الأوقات هنا وهناك الاعتذار قضايا كثيرة أحياناً تسيطر علينا هذه المجاملة والأعراف فنسايرها ونحن غير مقتنعين، والقضية تحتاج إلى جرأة، وأظن أن أوقاتنا وأهدافنا تتطلب منا أن نضحي بهذه الأعراف الخاطئة ونتجاوزها ونكون أصحاب جرأة وشجاعة، وأظن أن هذا مما يربي الناس على الجدية، بحيث يحترم الإنسان وقته ويدرك أن وقته هو عمره؛ فيستطيع أن يعتذر بكل جرأة من الناس حينما يدعونه لمجرد مناسبة وأنس؛ لأن وقته ثمين لا يمكن يضيعه، أو على الأقل يشعر أنه يقتصر على جزء من وقته ويعتذر عن الكثير من هذه المطالب غير المجدية وغير النافعة، ويعتذر عن كثير من هذه الاعتبارات والارتباطات التي تضيع عليه وقته وتشغله فيما لا طائل من ورائه.
إذا كنا غير جرآء على تجاوز هذه الأعراف والأنماط التي اعتدنا عليها فإنها ستكبلنا كثيراً وتقعد بنا.(15/20)
مراعاة العمل المناسب
وسيلة ثامنة: مراعاة العمل المناسب: وهذا الجانب مهم؛ لأنك حين تتحدث عن التربية الجادة قد يذهب وهل الناس إلى نموذج معين، وهو أن الجدية تتمثل مثلاً في طلب العلم وكثرة القراءة والاطلاع والحفظ، وهذا جانب لا شك أنه مهم لسنا بحاجة إلى أن نتحدث عن ضرورته وأهميته، لكن ليس هو النموذج الوحيد المناسب لكل الناس؛ فلهذا بعض الشباب قد لا يكون أعطاه الله القدرة على مثل هذه الجوانب، ولكن عنده طاقة في جوانب أخرى، فحينما نحصر هذا الجدية في هذا النموذج، أو في النموذج الدعوي أو في أي نموذج آخر فإننا قد نشعر بأننا فاشلون في تربية أنفسنا؛ لأننا لا نطيق ذلك، أو نشعر بأننا فاشلون في تربية فلان أو فلان من الناس؛ لأنه لم يصل إلى هذا القدر.
وهذا أمر نبه عليه الأوائل، يقول معاوية رضي الله عنه لـ صعصعة بن صوحان: صف لي الناس، فقال: خلق الناس أصنافاً فطائفة للعبادة، وطائفة للتجارة، وطائفة خطباء، وطائفة للبأس والنجدة، وجرجة فيما بين ذلك، يكدرون الماء ويغلون السعر ويضيقون الطريق يعني: أن البقية يكدرون الماء ويضيقون الطريق ويغلون السعر، فإياك أن تكون من أمثال هؤلاء.
يقول قيس بن أبي حازم: سمعت خالداً -يعني: خالد بن الوليد رضي الله عنه- يقول: منعني الجهاد كثيراً من القراءة، وذكره الحافظ في المطالب بلفظ: لقد منعني كثيراً من قراءة القرآن الجهاد في سبيل الله، رواه أبو يعلى وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.
وقال ابن القيم رحمه الله: ومما ينبغي أن يتعمد حال الصبي وما هو مستعد له من الأعمال، ومهيأ له منها فيعلم أنه مخلوق له فلا يحمله على غيره ما كان مأذوناً فيه شرعاً، فإنه إن حمله على غير ما هو مستعد له لم يفلح وفاته ما هو مهيأ له.
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله حول قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً} [التوبة:122]: وفي هذه الآية أيضاً دليل وإرشاد وتنبيه لطيف لفائدة مهمة، وهي أن المسلمين ينبغي لهم أن يعدوا لكل مصلحة من مصالحهم العامة من يقوم بها ويوفر وقته عليها ويجتهد فيها ولا يلتفت إلى غيرها، لتقوم مصالحهم وتتم منافعهم ولتكون وجهة جميعهم ونهاية ما يقصدون قصداً واحداً وهو قيام مصلحة دينهم وديناهم، ولو تفرقت الطرق وتعددت المشارب فالأعمال متباينة والقصد واحد، وهذه من الحكمة النافعة في جميع الأمور.
ولهذا لا نحصر النموذج الجاد في نموذج واحد، إنما نريد الإنسان أن يعمل وفق طاقته وفق ما آتاه الله في أي ميدان، المهم أن يكون رجلاً عاملاً فعالاً منتجاً يقدم الخير للناس، وأبواب الخير كثيرة وأبواب الجنة ثمانية يدعى الناس إليها من أعمالهم، فمن كان من أهل الصلاة دعي من أبواب الصلاة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام، وخصال الخير أربعون خصلة من عمل بها دخل الجنة كما قال صلى الله عليه وسلم.(15/21)
الأخذ بالعزائم
الأمر التاسع: الأخذ بالعزائم والتعود على ذلك: أخذ النفس بالعزيمة والإصرار والتعويد فإن العادة تربي الإنسان، فحينما يعود الإنسان نفسه قد يجد مشقة في البداية وصعوبة لكن تصبح قضية عادية عنده، كما صارت الفوضى عادة لك يمكن أن يصبح النظام عادةً لك، وكما كان الكسل والعجز عادةً لك تصبح الجدية والعزيمة هي الأخرى عادة لك، فالحزم على النفس والأخذ بعزائم الأمور والتعود وتعويد الناس لا شك أنه خير معين على ذلك.(15/22)
حسن اختيار المربي
الأمر العاشر: حسن اختيار المربي: ليس كل شخص يصلح أن يتولى التربية، وليس كل شخص مؤهلاً؛ ولهذا يجب أن نختار النموذج الجاد النموذج العامل المؤثر الذي يؤثر بقدوته وعمله قبل أن يؤثر بقوله، وذكرنا نموذجاً من تأثير القدوة وكيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي الناس من خلال عمله وبذله، وذكرنا أن هذا النموذج أعظم أثراً من مجرد الطرح النظري والحديث مع الناس، وهذا يحتم علينا أن نضع مواصفات دقيقة لأولئك الذين نختارهم لتربية الجيل والناشئة.(15/23)
التعويد على العمل
الأمر الحادي عشر والأخير وهو من أهم الأمور خاصة للمربين: التعويد.
تعويد الناس على المشاركة والعمل بأنفسهم، ولنأخذ على ذلك نماذج: في البيت مثلاً يجب أن يعوَّد الطفل من الصغر على أن يرتب حاجاته بنفسه وأن يقوم بمسئولياته، وليس لائقاً أبداً أن يستمر الطفل إلى أن يشب وهو يشعر أنه مخدوم، فحين يقدم له الطعام لا يكلف نفسه العناء أن يحمله ويعيده ترتب له غرفته تقضى له حوائجه ويشعر أنه يعيش في البيت مخدوماً مرفهاً، والفتاة هي الأخرى كذلك فهذا يخرج لنا جيلاً غير عامل غير جاد، جيلاً اعتاد على الكسل واعتاد أن يخدم، هل نريد من هذا الإنسان الذي لا يجد عناء في ترتيب غرفته أو في قضاء حوائجه أن يعمل بعد ذلك أعمالاً جادة ومنتجة ويتحمل ويبذل؟! أشك في ذلك.
كذلك أيضاً تعويده على قضاء حوائجه الخاصة وتحمل المسئوليات وتكليفه بواجبات وأعباء، وكذلك الفتاة، لأننا حين نأمر الشاب ونكلفه بأعمال ونعوده عليها يصبح إنساناً عاملاً تخلص من الكسل والترهل وصار العمل سهلاً عليه ويسهل أن يذهب ويأتي ويتحمل بالأسلوب المناسب بدون مشقة وبدون تكليف كذلك الفتاة حين تعود من الصغر فإن هذا يعودها على أن تتحمل المسئولية، لكن حينما نوفر لأبنائنا وبناتنا الخدم ونقضي لهم حوائجهم لأجل أن يتفرغوا ماذا نفعهم هذا التفرغ؟ يعني: توفر الوقت في القراءة والتفوق والتحصيل والجد أم في ماذا؟ حين قضينا لهم هذه الأمور وأمنا لهم هذه الحوائج ما الذي حصل؟ حصل عندنا جيل يبحث عما يقضي به وقته جيل غير جاد وليس عنده استعداد أن يتحمل أي مسئولية في التعليم وهو جانب مهم: يجب أن نغير نمط تعليمنا فهو تعليم يولد الكسل الفكري ويربي الناس على التسول العلمي والتسول الفكري، لأن الطالب اعتاد أن تقدم له المعلومات جاهزة ويقرأ هذا الكتاب ثم يحفظه ثم يكتب ما فيه في الورقة دون أي جهد ودون أي بذل؛ ولهذا لا ينشأ عندنا جيل قارئ لا ينشأ عندنا جيل يبذل الجهد فلا نكلف الطالب عناء الوصول إلى المعلومات ليس بالضرورة أن يأخذ من مصادر أخرى، لكن من خلال النقاش؛ كيف نوصل المعلومات للناس، حين أعطيه مقدمات وأطالب بالوصول إلى النتيجة وأناقشه فإني أربيه على التفكير وعلى الجهد ليشعر أنه يحصل معلومات بنفسه حين أحيله على مراجع بالقدر المناسب له وهي موجودة في مكتبة المدرسة كتب ميسرة فأعطيه الكتاب أطالبه بالرجوع إلى هذه القضية وأحيله إليها وأعوده تدريجياً على هذه الأعمال، فإنها تعود لنا هذا الجيل، لكن حينما يكون عند الأستاذ يسمع فقط وينصت لا يمكن في النهاية أن يكون عنده قدرة على القراءة ولا تعامل مع الكتب ولا تحصيل ولا إدراك لقيمة هذا العمل.
كذلك في تحميل المسئوليات، ونعود مرة أخرى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومنهجه كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي الأمة على أن تتحمل مسئوليات وعلى أن تشارك المسئوليات الجماعية في الحديث المشهور حديث النعمان بن بشير لقوله صلى الله عليه وسلم: (مثل المدهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة فصار بعضهم في أسفلها وصار بعضهم في أعلاها) إلى آخر الحديث والحديث مشهور ومعروف ماذا يعني هذا الحديث؟ النبي صلى الله عليه وسلم يحمل الأمة كلها المسئولية، ويشعر كل فرد من أفراد الأمة أنه مسئول فحين يحمل هؤلاء المسئولية يشعرون بضرورة الجدية وتحمل المسئولية.
وفي مواقفه العملية مثلاً كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يستشير أصحابه في غزوة بدر في غزوة أحد في الخندق في كل مناسبة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي أيها الناس! ويأخذ برأيهم ماذا كان أثر هذه الاستشارة؟ كانت لها آثار عديدة أولاً: غرس الثقة لديهم ثانياً: شعورهم بالمسئولية، يعني: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يتخذ القرار لكانوا يشعرون دورهم هو مجرد المشاركة، لكن حينما يشاركون في القرار ويناقشون ويأخذون ويعطون يشعرون بتحمل المسئولية؛ ولهذا خرج جيل يتحمل المسئولية وقام بالأدوار بعد أن مات النبي صلى الله عليه وسلم خير قيام؛ لأنه جيل تربى على المشاركة وليس جيل أتباع وهناك مشكلة نقع فيها في تربيتنا حينما نعود الناس في كل قضية أن نعطيهم قضايا جاهزة تماماً، ونربي الناس على الكسل فلا يفكرون لا يستشارون، فيصبح الجيل غير قادر على حل مشكلاته جيل غير قادر على سد الفراغ الذي يتركه فلان وفلان من الناس الذين كان يعلمهم ويربيهم ويوجههم فحين يذهب يذهب أثره، أما حينما يربي رجالاً فإنه يربي قادة لا أتباعاً، وهذا جانب يجب أن يعيه المربون.
ولنعد إلى السيرة وننظر كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يعامل أصحابه ويربيهم من حيث تأميرهم في السرايا كان النبي صلى الله عليه وسلم يرسل سرايا ويؤمرهم عليها، بل في مهمات صعبة حينما جهز صلى الله عليه وسلم جيش أسامة لغزو الروم، فهذه تربية عملية تخرج جيلاً جاداً عملياً، تربى عل(15/24)
الأسئلة(15/25)
نصيحة للشباب الذين لا يحضرون الدروس العلمية
السؤال
كثير من الشباب الذين لهم دور في الدعوة وعلى ثغر من ثغور الإسلام لا يحضرون الدروس العلمية ويذهبون إلى رحلات وزيارات ويقولون: نستمع الدروس من خلال الشريط، مع العلم أن طلعاتهم لا تتعارض مع أكثر الدروس، فما نصيحتكم تجاه الإخوة هؤلاء؟
الجواب
حضور الدروس مهم، ولا شك أن سماع الشريط لا يكفي عن الحضور مطلقاً لأمور كثيرة ليس هذا وقت الحديث عنها، لكن إذا كان الأخ مشغولاً بعمل خير ودعوة وبرامج خير فلا ينبغي أن يقطعها، فيتيسر له أن يجمع بين الأمرين فيستمع لمثل هذه الأشرطة ويحضر ما تيسر، لكن يمكن أن يختار الشاب درساً أو درسين في وقت مناسب له ليس عنده فيه ارتباط فيجمع بين الأمرين، لكن لا يعطل نشاطه وعمله وجهده لأجل هذا؛ لأن معنى هذا الكلام: أنه لا يتصدى أحد لمثل هذه الأعمال التي تحمي الشباب وتحمي الجيل من الانحراف والفساد والتي تعين على تربية الجيل بإذن الله.(15/26)
تعليق على ظاهرة الفتور في العبادة
السؤال
يقول: كنا في فترة من الزمن نرى شباب الصحوة في قوة وحماس للتمسك والالتزام بالدين والمحافظة على السنة في شتى المجالات، من ذلك المظهر والملبس والموعد والعبادة وصيام النفل وطلب العلم، أما اليوم فنرى الحال قد تبدلت وتغيرت إلى آخر ما يقول، فهل من تعليق؟
الجواب
لا شك أن هذه الظاهرة بدأت تظهر فعلاً، ونحن بحاجة إلى أن نتدارك أنفسنا؛ لأن المشكلة أن الإنسان قد يفتر عن الخير والنوافل فيقصر في الفرائض فقد يقع في الانحراف عافانا الله وإياكم، فيجب أن نتدارك أنفسنا وإخواننا ونتواصى بالخير دائماً وتقوى الله عز وجل والعبادة.(15/27)
كيفية التعامل مع الكتب التربوية
السؤال
هل تنصحون بقراءة كتب التربية الموجودة في الأسواق أم أن هناك ضابطاً لهذه المسألة، وهل يمكن الاستغناء عنها؟
الجواب
المشكلة أن الكثير من المسلمين لا يجيدون الكتابة في مثل هذه القضايا، للأسف أنك تجد الغربيين أحسن كتابة في مثل هذه القضايا، مع الفارق الكبير بيننا وبينهم؛ لكن حينما يتحدث عن الطفل والتعامل معه، وحينما يتحدث عن قضايا معينة وتقارن بينه وبين ما يكتبه المسلمون تجد فرقاً، المشكلة ليست لأن أولئك يملكون علماً لا نملكه أو يحملون خيراً لا نحمله، لكن نحن لا نكلف أنفسنا الاجتهاد والقراءة والبذل والتفكير، إنما صارت الكتابة عندنا مجرد تجارة.
ثم إن هناك كثيراً من الكتب التربوية موجودة قد لا تكون موجهة توجيهاً جيداً؛ لكن حين نفترض النضج عند المربين خاصة، أنه قادر أن يقرأ اقرأ يا أخي في مثل هذه الكتب وخذ ما يوافق الحق واترك ما ترى أنه لا يوافق الحق، وإذا كنت تريد أن يكتب لك شيء جاهز في كل قضية فأظن أن هذه مشكلة، وأظن أن المربي الذي يحتاج أن يكتب له في كل شيء في التربية غير مؤهل للتربية لأنه سيتعود على أن نربيه بهذا الأسلوب ولا بد أن نتجاوز هذه المرحلة ونشعر فعلاً أننا نستفيد مما حولنا أياً كان، ونستطيع أن نفرق بين الحق والباطل ونتناقش، ففي مناسباتنا وفي لقاءاتنا يجوز أن نأخذ بعض هذه الكتب ونقرأها ونتناقش فيها وفي السلبيات والأخطاء التي فيها، وجوانب الخير والإبداع التي فيها، والمؤمن يقبل الحق ممن قال به ولو كان من الشيطان.(15/28)
نصيحة لمن حلق لحيته بعد أن كان ملتزماً بالسنة
السؤال
هذه أول محاضرة أحضرها وأنا حالق اللحية، ولقد كنت من الشباب المستقيم وأنا أعلم أن هذا ليس من التربية الجادة، أرجو منك وضع الدواء على الداء؟
الجواب
أنا أشعر أن شعورك بالمشكلة بحد ذاته خطوة نحو الحل، واعلم يا أخي أن هذه المشكلة تبقى أمارة في وجهك بحيث أن كل من رآك يرى فيك معصية، يعني: هناك معاص يفعلها الإنسان بينه وبين الله فتبقى معصية مستترة، أما حينما تكون المعصية ظاهرة فأظن أن هذا أمر غير لائق، وعليك أن تفكر ماذا ستخسر حينما تلتزم بهذه السنة وهذا الأدب الشرعي، وما النتيجة التي تكسبها حين تحقق ذلك، أحياناً قد تكون بعض المعاصي وبعض الشهوات تقسر الإنسان فيقع فيها وهو لا يستطيع ثم يتوب ويرجع؛ لكن مثل هذا السلوك ما الذي يدفعك ويأطرك إليه إلا تسويل الشيطان، فحاول أن تنتصر على نفسك ولعل صحبة الأخيار تعينك لأن تجعلك تشعر بالحياء والخجل، فمن فوائد صحبة الأخيار أن تعينك وتجتنب الناس الذين قد تخشى من سخريتهم وتعليقهم.(15/29)
التحذير من اليأس من أحوال الناس
السؤال
ألا تعتقد أن في هذا الزمان الذي كثر فيه الفتن والملهيات أنه من الصعب أن تسيطر على كثير من الناس لانغماسهم في هذه الشهوات والملذات بأنواعها، فأصبحوا بعيدين كل البعد عن هذا الدين الحنيف؟
الجواب
لا والله يا أخي أنا لا أعتقد هذا، ولو كنت ما أعتقد ما جئت أكلف نفسي عناء الحديث حول هذا الموضوع، فيجب أن نحذر من هذا التفكير وهذا السلوك الذي يميتنا، نحن مع شعورنا بالواقع وما فيه يجب أن يكون عندنا أمل.
يا أخي! هذا الدين دين أرسله الله إلى قيام الساعة، ومعنى هذا أن الأمة مؤهلة أن تحمل هذا الدين إلى أن تقوم الساعة، ولا تزال طائفة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك.
نكتفي بهذا القدر، ونعتذر للإخوة الذين لم نجب على أسئلتهم.
ونسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح إنه سميع مجيب.(15/30)
العاطفة بين الإهمال والإغراق
العاطفة أمر فطري جبل الله تعالى الناس عليه، وقد تباينت أفعال الناس فيها تبايناً لا يحمد منه إلا نمط واحد، فبعضهم أفرط في نقدها والجرح بها متناسياً هدي النبي صلى الله عليه وسلم فيها بطبيعته البشرية، وبعضهم أغرق فيها إغراقاً سلبياً أورث حياته صوراً من الضرر العاطفي لا تصح معها مسيرة بناء النفس وتربية الأجيال، والوسط في ذلك هو الأمر المحمود.(16/1)
ثناء واعتدار
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد: فهي فرصة طيبة كريمة أن نلتقي بكم -معشر الإخوة الكرام- في هذا المكان الطيب المبارك، وفي هذا الجامع، وفي هذه الليلة المباركة.
وفي الواقع أني مدين لكم كثيرا ًمعشر الإخوة، مدين لكم بالحب والوفاء والتقدير، الذي هو عروة وثقى، وصلة وشيجة بين المسلمين جميعاً، والسالكين على طريق محمد صلى الله عليه وسلم، ومدين لكم أنتم أهل هجر، وأشكر لكم صبركم على جفائي، وعلى مطلي، ومطل الغني ظلم.
وقد كانت الدعوة من الإخوة سابقة، وأخرتهم إلى هذا الحين، أسأل الله عز وجل أن يثيبهم، وأن يجزيهم الأجر والمثوبة على ما تسببوا به من إحياء هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم جميعاً العلم النافع، والعمل الصالح.
وإن كنت أشعر أني حين أتحدث إليكم كجالب التمر إلى هجر، لكن الناس ألفوا أن يسمعوا الصوت الغريب، وأن يكون له وقع ليس كوقع الصوت القريب، هذا فقط هو ما أشعر أنه يؤهلني للحديث أمامكم؛ ولهذا فقد لا آتيكم بجديد حول مثل هذا الموضوع: (العاطفة بين الإهمال والإغراق)، وهو موضوع حديثنا هذه الليلة، وهو حديث ذو شقين: حديث حول الإهمال، وحديث حول الإغراق.(16/2)
بيان معنى العاطفة في اللغة
وقبل أن ندخل في موضوعنا لابد أن نقف وقفة سريعة عجلى حول ما قاله بعض أئمة اللغة حول معنى العاطفة.
يقول ابن فارس: العين والطاء والفاء أصل صحيح يدل على انثناء وعياج، يقال: عطفت الشيء: إذا أملته، وانعطف الشيء إذا انعاج وتعطف بالرحمة تعطفاً والرجل يعطف الوسادة: يثنيها ويقال للجانبين: العطفان.
وقال في اللسان: وتعطف عليه أي: وصله وبره، وتعطف على رحمه: رق لها، والعاطفة: الرحم، صفة غالبة، ورجل عاطف وعطوف: عائد بفضله حسن الخلق، قال الليث: العطاف: الرجل الحسن الخلق، العطوف على الناس بفضله، وعطفت عليه: أشفقت.
وهكذا نرى أن المعنى اللغوي لا يبتعد كثيراً عما يطلق عليه في المصطلح المعاصر: العاطفة، وإن كانت أخذت مداً أبعد من ذلك، فحين تطلق العاطفة فإنها تطلق على تلك المشاعر المتدفقة السيالة، التي تدعو الإنسان لاتخاذ مواقف من القبول والرفض أو الحب أو الكره، تطلق على تلك الحماسة التي تتوقد في نفس صاحبها؛ لقبول هذا العمل أو رفضه.(16/3)
لون الحديث حول العاطفة اليوم
وصار الحديث كثيراً حول العاطفة حديث الرفض وحديث الانتقاد، مع أننا أيضاً نعاني من إغراق في العاطفة، والأولى أن توضع في موضعها الصحيح، وحيث إننا نعاني ونشتكي من الإغراق، فإن هذا لا يعني أن نلقي العاطفة في قفص الاتهام، وأن تصبح من مصطلحات الجرح لدينا، فصار يكفي أن تجرح فلاناً من الناس أن تصفه بأنه صاحب عاطفة، أو بأنه صاحب حماس، أو -كما يقال- متحمس، صارت كلمة جرح مطلقاً، وهذا يعني أن فاقد العاطفة، وفاقد الحماس هو الرجل الأولى بالتعديل.
إننا ومع شعورنا بالإغراق، بل ومزيد من الإغراق في العاطفة، ومع شعورنا بأن ثمة مواقف تدفع إليها العواطف كثيراً، وأننا لابد من أن نحجمها ونحد منها، إننا مع ذلك ينبغي ألا نهمل دور العاطفة، وألا نقع في خطيئة الإهمال لها.
وهنا سنبدأ في الحديث حول إهمال العاطفة.(16/4)
الموقف من إهمال العاطفة(16/5)
فقد العواطف شذوذ
إن الدعوة إلى إهمال العاطفة -كما قلنا- دعوة بحاجة إلى مراجعة، وإلى إعادة النظر، إن العاطفة خلقها الله في الإنسان أصلاً، خلق الله الإنسان يحمل مشاعر وعواطف من الحب والكره والقبول والرفض والحماس، فالدعوة إلى إلغائها دعوة إلى تغيير خلق الله، والدعوة إلى إلغائها تعني بكل بساطة أن هذه العاطفة لم يكن لها حكمة في خلق الإنسان، وأنها خلقت عبثاً، وحاشا لله عز وجل أن يكون في خلقه سبحانه وتعالى عبث، فالله سبحانه وتعالى ما ركب هذه العاطفة في نفس الإنسان إلا لحكمة، ولمصلحة لابد أن تتحقق من ورائها.
ثانياً: على وصف فاقد العاطفة بأنه رجل شاذ: إن الرجل الذي لا تتحرك مشاعره، فلا يرق قلبه لمشهد يثير الرقة والعطف، ولا يملك مشاعر الحب تجاه الآخرين، أو مشاعر الرفض تجاه من يرفض، الرجل الذي لا يمكن أن تتوقد في قلبه حماسة أياً كان الموقف، لا شك أنه رجل شاذ فاقد للإحساس والعواطف.
بل إن الناس يرون أن الرجل الذي لا يحس بالجمال، ولا يتذوق الجمال في هذه الدنيا، رجل شاذ، فهو وصف مخالف للفطرة السوية، ولهذا حين جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ورآه يقبل صغيراً، قال: تقبلون صغاركم؟! إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم، قال صلى الله عليه وسلم: (أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟!).
إنه رجل شاذ بعواطفه، إنه رجل -كما قال صلى الله عليه وسلم- قد نزعت من قلبه الرحمة، فصار تصرفه، وصار سلوكه سلوكاً غير مرضي، وسلوكاً مرفوضاً يستنكره النبي صلى الله عليه وسلم، يستنكر النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الصحابي رضوان الله عليه ألا يملك في قلبه الرحمة للصبية الصغار، فصار لا يقبل أحداً منهم.(16/6)
وفي العاطفة النبوية هدي
حين نقرأ سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، نجد مواقف شتى تدور حول هذا المعنى، وسواء سميناها عاطفة، أو لم نسمها كذلك، فلا مشاحة في الاصطلاح، ولا يجوز أبداً أن نقيم جدلاً وحرباً حول المصطلحات والألقاب، سمها ما شئت فإنها تعني الذي نريد، وإن اصطلحنا نحن على تسميتها بالعاطفة، فإن هذا لا يعني أن وصف العاطفة لفظ تهمة أصلاً، ولفظ جرح يتردد المرء في أن يصف به محمداً صلى الله عليه وسلم.
وإن اخترت أن تبحث له عن لفظ غير هذا، فأنت وما تريد، لكنا نحن نريد المعنى، ولسنا نقيم جدلاً حول هذا المصطلح، وحول هذا الموضوع.
النبي صلى الله عليه وسلم كان يملك هذا الشعور، يملك صلى الله عليه وسلم هذا الشعور مع زوجاته، ففي حجة الوداع تأتي زوجه عائشة رضي الله عنها وقد حاضت، ولم يتيسر لها أن تأتي بعمرة قبل الحج، فتأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتقول: يذهب الناس بحج وعمرة، وأذهب بحج؟! ثم تلح عليه صلى الله عليه وسلم، يقول جابر: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سهلاً ليناً إذا هوت أمراً تابعها هي، ويواعدها صلى الله عليه وسلم المحصب أو الأبطح، ثم تذهب مع أخيها، فتعتمر، فتأتي إليه صلى الله عليه وسلم، فيقول: (أفرغتم؟ فتقول: نعم، فيؤذن أصحابه بالرحيل).
وفي موقف آخر أبعد من هذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في غزاة، ففقدت عقداً لها رضي الله عنها، وحبس النبي صلى الله عليه وسلم الناس يبحثون عن هذا العقد، ويأتي أبو بكر الصديق رضي الله عنه إليها، والنبي صلى الله عليه وسلم نائم على حجرها، فيقول: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء؟! قالت: فما يمنعني أن أتحرك إلا مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، ويقيمون البعير فتدركهم الصلاة وليسوا على ماء، فتنزل آية التيمم، فيقول أسيد رضي الله عنه: ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر.
إن النبي صلى الله عليه وسلم يحبس الجيش هنا كله، ويبقيه ينتظر هذا العقد، والقضية ليست قضية رجل يتعلق بالدنيا حاشا وكلا، إنما هي مراعاة لمشاعر تلك المرأة، تلك المشاعر المرهفة عند مثل هذه المرأة، التي تقيم لهذا العقد وزناً، فيحبس النبي صلى الله عليه وسلم الجيش، ويحبس الناس، ويأتي أبو بكر الصديق رضي عنه غاضباً إلى عائشة: كيف حبست الناس؟! ويبقيهم صلى الله عليه وسلم حتى أدركتهم الصلاة وليسوا على ماء، وليس معهم ماء.
وتأتي رضي الله عنها تنظر إلى أهل الحبشة وهم يلعبون في المسجد، ويقف صلى الله عليه وسلم يسترها، وهي جارية لا تمل اللعب، حتى تمل وتنصرف بعد ذلك، فينصرف صلى الله عليه وسلم.
ونرى أيضاً هذا الخلق وتلك الرقة عنده صلى الله عليه وسلم مع الأولاد، فيأتي إليه الصبي فيقبله صلى الله عليه وسلم، فيعترض عليه رجل جالس عنده، فيقول: تقبلون الصبيان؟ إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحداً منهم، فيقول له صلى الله عليه وسلم: (أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟!) وفي الحديث الآخر أيضاً يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من لا يرحم لا يرحم).
ويأتي النبي صلى الله عليه وسلم وصبي يحتضر، وروحه تقعقع، فيحمله صلى الله عليه وسلم، ثم تنزل قطرات من الدمع من عينيه صلى الله عليه وسلم، ويتساءل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: كيف يرق؟! كيف لهذا القلب الكبير أن يحمل هذه العاطفة لمثل هذا الصبي؟! فيقال: ما هذا؟ فيقول: (هذه رحمة يجعلها الله في قلوب من يشاء من عباده).
ويموت ولده إبراهيم، ويبكي صلى الله عليه وسلم ويقول: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون).
في حين يأتي أحد المتصوفة، ويرى أنه سيبلغ هدياً أكمل من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يشعر أنه قد أمر بالصبر على فقد الأولاد، والرضا، فحين يموت ولده يقوم هذا الرجل يرقص على قبره فرحاً بهذه المصيبة، ويظن أنه قد بلغ منزلة من الرضا بقضاء الله عز وجل وقدره عالية، بينما هو قد فقد تلك المنزلة العالية التي سما إليها النبي صلى الله عليه وسلم حين يجمع بين الصبر والرضا بقضاء الله عز وجل، ويجمع بين الرحمة والرقة والعاطفة التي لا يفتقدها إلا إنسان شاذ.
ويأتي الحسن والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي ساجداً، فيصعد على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، كما روى النسائي من حديث عبد الله بن شداد رضي الله عنه، فيطيل النبي صلى الله عليه وسلم السجود، حتى يقوم هذا الغلام، فيسأله أصحابه، فيقول: (إن ابني هذا ارتحلني فكرهت أن أقوم حتى يقضي حاجته).
ويدخل وهو يخطب صلى الله عليه وسلم، فينزل صلى الله عليه وسلم من على منبره، ثم يحمله، ويقول: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من طوائف المسلمين).(16/7)
الصياغة العاطفية في الأدب دليل أهميتها
رابعاً: يحفل الأدب بأساليب تعبر لك عن معاناة يتيم، أو معاناة أرملة، أو معاناة من فقد فقيداً له، وتقرأ هذه الأبيات فلا تملك إلا أن تتجاوب معها، وتعيش وكأنك ترى حال صاحبها، وكأن النعي ما يقوله الشاعر في وصف تلك الأرملة: لقيتها ليتني ما كنت ألقاها تمشي وقد أثقل الإملاق ممشاها أثوابها رثة والرجل حافية والدمع تذرفه في الخد عيناها بكت من الفقر فاحمرت مدامعها واصفر كالورس من جوع محياها إنك حين تسمع هذه الأبيات لا تملك إلا أن تتفاعل مع مثل هذا الموقف، ويرق قلبك وفؤادك لمثل هذه الأرملة المسكينة، التي يصفها الشاعر، وربما لم يكن رآها قط، ربما كانت قضية من نسج الخيال، لكن النفس مفطورة على تذوق الرواية التي تصور لك مأساة هذا الرجل الفقير أو المسكين، أو ذاك المظلوم.(16/8)
الحاجة إلى العاطفة الحماسية في الجهاد
خامساً: ونرى أثر العاطفة في إذكاء الحماسة، بل نرى ذروة سنام الإسلام الجهاد في سبيل الله، نرى أن المسلمين يحتاجون إلى من يشعل حماسهم، لقد وقف المسلمون في غزوة مؤتة حين بلغهم جمع الروم، وقفوا يتشاورون ماذا يصنعون، أيطلبون مدداً من النبي صلى الله عليه وسلم؟ أم ماذا يصنعون؟ فقام عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، وقال: أيها الناس! إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبونها الشهادة، والله إنا لا نقاتل الناس بعدد ولا عدة، إنما نقاتل الناس بهذا الدين، قالوا: فحمس عبد الله الناس، فمضوا إلى أمرهم.
أرأيت كيف يصنع الحماس؟ أرأيت كيف توقظ هذه الحماسة أصحابها، فتدفعهم إلى الجهاد، تدفعهم إلى أن يلغوا ذاك الخيار الذي اجتمعوا من أجله، وحين سار رضي الله عنه وودعهم أهل المدينة، قالوا: حفظكم الله وردكم إلينا، قال: لا ردني الله إليكم.
وسار ومعه غلام في حجره وهو زيد بن أرقم رضي الله عنه، سار وصار يتغنى ويخاطب راحلته: إذا أدنيتني وحملت رحلي مسيرة أربع بعد الحساء فشأنك أنعم وخلاك ذم ولا أرجع إلى أهلي ورائي وجاء المسلمون وخلفوني بأرض الشام مشتهر الثواء وردك كل ذي نسب قريب إلى الرحمن منقطع الإخاء هنالك لا أبالي طلع بعل ولا نخل أسافلها رواء فبكى زيد رضي الله عنه، فوخزه وقال: لا عليك يا لكع أن يرزقني الله الشهادة، وترجع بين شعبتي الرحل؛ لأنه قد يكون أبقى له مكاناً.
وكأنك ترى في حال هذا الصحابي الجليل وقد عقد العزيمة على ألا يعود، ويسأل الله عز وجل أن يخلفه المسلمون بأرض الشام، وحين قتل صاحباه، وتقدم تردد وتلكع، فقال أبياتاً يستحث فيها نفسه: أقسمت يا نفس لتنزلنه لتنزلنه أو لتكرهنه إن أجلب الناس وشدوا الرنة ما لي أراك تكرهين الجنة فيخاطب نفسه بهذه الأبيات، ثم يدفعها دفعاً إلى ميدان الشهادة، فيمضي رضي الله عنه مع صاحبيه.
وهكذا حين تقرأ في السير، قبل المعركة يجمع القائد جنده وجيشه، فيخاطبهم، ويحمسهم، ويحثهم على الاستشهاد في سبيل الله، ويبين لهم فضل الشهادة، وفضل الجهاد في سبيل الله؛ حتى يوقد حماستهم وعزيمتهم إلى الجهاد في سبيل الله عز وجل.
وما ترى معركة أو غزوة قادها المسلمون إلا وترى الشعراء والخطباء قد أوقدوا حماسة الناس لهذا الجهاد، أيسوغ بعد ذلك أن ندعو إلى إلغاء الحماس والعاطفة؟!(16/9)
العاطفة حاجة مهمة في التربية
سادساً: العاطفة حاجة مهمة في التربية، وحين يفقد المتربي العاطفة، فإنه ينشأ شاذاً، وهي صورة نراها فيمن مات أبوه، أو ماتت أمه، وتربى عند زوجة أبيه، أو عند غيرها من النساء التي لا تشعر تجاهه بشعور الأم الحنون، كيف ينشأ هذا الشاب؟ إن الغالب من هؤلاء ينشأ شاباً شاذاً، ينشأ شاباً يعاني من الفراغ العاطفي، وكثيراً ما نرى المشكلات تتمثل عند هؤلاء، ذلك أن ثمة حاجة ملحة هم بحاجة إلى أن يعطوا إياها، ألا وهي الحنين والعاطفة، ولهذا يتربى هذا الشاب بعقل أبيه، وحجر أبيه، ويتربى أيضاً بعاطفة أمه.
ولحكمة بليغة يخلق الله عز وجل العاطفة في الأم، عاطفة تذوب عندها المواقف، عاطفة تلتقي في نقطة اتزان مع عقل الأب وحصافته، فيعيش الشاب ويعيش الطفل بين هذين الخطين المتوازيين، فيعيش حينئذٍ متوازياً ومستقراً، وحين يشد أحد الخيطين أكثر من صاحبه، أو حين يفقد أحدهما؛ فإنه يعيش عيشة غير مستقرة.
ومن ثم فلا غنى للصغير عمن يحوطه بالعاطفة، وعمن يحن عليه، ويشفق عليه، وحين ينشأ على خلاف ذلك، فإن الغالب فيه أن ينشأ فاقداً لهذا الإحساس، وفاقداً لهذا الشعور.(16/10)
إنكار على داعية إلغاء العواطف
مع ذلك كله نسمع من يدعو إلى إلغاء العاطفة، بل من يدرج العاطفة ضمن مراتب الجرح، فيصف فلاناً بأنه صاحب عاطفة، أو بأنه متحمس، وكم نرى العتب واللوم على ذاك الذي أغاضه انتهاك لحرمة من حرمات الله عز وجل، فدارت حمالق عينه، وغضب غضبة لله عز وجل، حينئذٍ يوصف بأنه متحمس طائش، بأنه لا يحسب عواقب الأمور.
أما ذاك الذي لا تثيره حرمات الله عز وجل، لا تحرك لديه ساكناً، الذي يرى المنكرات، ويرى مصائب المسلمين، ويرى جسد المسلمين يقطع إرباً إربا، ومع ذلك لا تهتز مشاعره، ولا تتحرك عواطفه، ذاك يوصف بأنه رجل حكيم حصيف لبيب، يضع الأمور في مواضعها.
إنني أحسب أن هذه قسمة ضيزى، أحسب أن هذا جور في الحكم، إننا ومع رفضنا للإغراق في العاطفة إلا أننا نرى الغضب والحمية لدين الله من واجبات المسلم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم هيناً سهلاً ليناً، فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه صلى الله عليه وسلم شيء.
ويوصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم كانوا يتناشدون الشعر، فإذا أردت أحدهم على دينه دارت حمالق عينه، أليس هذا تعبيراً عن الغضب والغيرة لحرمات الله عز وجل؟! وكيف نصنع بتلك المواقف الفذة من سلف الأمة، التي وقفوا فيها غضباً وحمية لدين الله عز وجل، حمية مجلجلة، واضحة صريحة قالوها؟! ولا شك أن الذي دفعهم لذلك هو الحماس، نعم، والغضب، نعم، والعاطفة، نعم، لكنها عاطفة صادقة، وحماسة صادقة، فالمطالبة بإلغاء الحماسة والعاطفة مطالبة بتغيير خلق الله عز وجل، وتغيير سجية فطر الله سبحانه وتعالى عباده عليها.
وكما أننا ننكر على من يكون دافعه ووقوده الحماس والعاطفة وحدها، فإننا -أيضاً- ينبغي أن ننكر -وبنفس القدر- على ذاك المتبلد الحس، الذي يرى مصائب المسلمين، ويرى دماء المسلمين تجري، ويرى حرمات الله تنتهك، ويرى دين الله عز وجل ينقض عروة عروة، ومع ذلك لا يحرك فيه ذلك ساكناً، ولا يثير فيه حمية، ولا يغضب لله عز وجل، أيهما أولى أن يعاب؟ أيهما أولى بالذم والنقص والعيب؟ لست أحكم أيهما أكثر خطأً، لكننا حين نتحدث عن خطأ هذا، فينبغي أن نتحدث أيضاً عن خطأ ذاك، ولا يسوغ أن ننظر بعين الأعور، وأن ننظر إلى القضية بعين واحدة.(16/11)
ضرر الإغراق في العواطف وصوره
ننتقل بعد ذلك إلى الحديث عن الشق الثاني: وهو الإغراق في العاطفة: إن الوسط سنة الله عز وجل في الحياة، هذا المسجد الذين نحن فيه حين يزداد فيه التبريد يصبح حداً مزعجاً لا نطيق الصبر عليه، وحين ينقص عن القدر المعقول يؤلم الناس الحر ويزعجهم، فلا يطيقون الصبر عليه، وهكذا، الماء حين يكون بالغ العذوبة لا يستسيغه المرء، وحين يكون بالغ الملوحة كذلك، والطعام، وفي الحياة كلها الوسط، والتطرف أمر مرفوض.
أما دين الله عز وجل فلا شك أنه قائم على الوسط، ودين الله عز وجل وسط بين الغلو والجفاء، فكما أن إهمال العاطفة وإلغاءها أمر مرفوض، فالإغراق فيها والتحليق في التجاوب معها أيضاً هو الآخر أمر مرفوض، وينبغي أن نكون وسطاً بين هذا وذاك.
وإن كنا أفضنا في الحديث عن الشق الأول، إلا أنني أرى أننا أحوج ما نكون إلى الحديث عن الشق الثاني وهو الإغراق في العاطفة، فنحن نعاني من إغراق في العاطفة تختلف صوره ومظاهره ومجالاته.(16/12)
سيطرة العواطف على المرء في الحكم والتقويم
إن من هذه الصور أن تحكمنا العاطفة في الحكم والتقويم، فحين نحكم على فلان من الناس سلباً أو إيجاباً، وحين نحكم على عمل من الأعمال، أو على جهد من الجهود، وخاصة الجهود والأعمال الإصلاحية والأعمال الإسلامية، حين نحكم عليها، وحين نقوم الناس، لا يسوغ أن نندفع وراء عواطفنا، فنفرط في المدح والثناء، ونحلق في أجوائها بعيداً عن الرؤية الأخرى إلى جوانب القصور وجوانب الخلل، وحين نقوم أعمالنا وجهودنا فلا يسوغ أن تكون العاطفة هي المعيار والحكم، ومن في حكمه لابد أن يكون شخصية متطرفة، إما ثناءً أو ذماً، وإما سلباً أو إيجاباً؟ كثيرة هي الأحكام -معشر الإخوة الكرام- التي نطلقها من وحي العاطفة فقط، ففي أحكامنا ومواقفنا من الرجال ومواقفهم ما يكون فيه الحاكم الأول والأخير والقاضي والشهود والمدعي هو العاطفة وحدها، وحينئذٍ لابد أن يكون الحكم حكماً جائراً، حكماً بعيداً عن العدل.
إننا مع تأكيدنا على أن الثناء على من يحسن أمر مطلوب، وأن الإعجاب بمن يستحق الإعجاب أمر لا يدعى إلى إلغائه والتخلي عنه، لكننا مع ذلك لا يسوغ أن نفرط، ولا يسوغ أن تحكمنا العاطفة وحدها في ذلك، وكثيراً ما تتحكم العاطفة في تقويم مواقف كثيرة من مواقف العمل الإسلامي، فتقود إلى نتائج مؤلمة.
أضرب لكم مثالاً: تجربة عشناها كنا أغرقنا فيها، وتجاوبنا فيها مع العاطفة أكثر مما ينبغي، تجربة الجهاد الأفغاني، لقد بدأ هذا الجهاد وقد نسيت الأمة الجهاد كله، بدأ وقد ضرب على الأمة الذل والهوان، وظنت الأمة أنها لن تعرف الجهاد، ولن ترى الجهاد، وصار الذين يدرسون الفقه يقفز بعضهم من باب الجهاد؛ لأنه لم يعد له مجال وميدان.
فجاء أولئك وأحيوا سنة قد أميتت، وفريضة قد نسيتها الأمة، وحينئذٍ استفاقت الأمة، استفاقوا على هذا الصوت، واستفاقوا على داعي الجهاد، وصدموا بأولئك الذين خرجوا في تلك البلاد، وقاموا لله عز جل، وأحيوا الجهاد في سبيل الله، وكان جهاداً حقاً ولا شك، وقام بدور في إحياء الأمة ولا شك، لا يسوغ أبداً أن يطوى، ولا يسوغ أن يهمل.
لكن الذي حصل أننا أغرقنا كثيراً في العاطفة، لقد بدأ الجهاد وفيه أخطاء، وذلك شأن البشر، وفيه انحرافات، وذلك شأن البشر، وفيه خلافات، وذلك شأن جهود البشر، فما بالكم بهذا الواقع التي تعيشه الأمة؟! وما الجهاد الأفغاني، وما الأعمال الإسلامية كلها إلا إفراز لواقع الأمة التي تعيشه.
وبدأ الجهاد وفيه ما فيه من خطأ وخلل وفرقة وانحراف، وفي الصف منافقون، ومع ذلك كله كان جهاداً شرعياً، كان جهاداً يستحق الدعم من الأمة، وأن تقف في صفه، لكن الذي حصل أننا أغرقنا في العاطفة، فرفعنا منزلة أولئك إلى منزلة قريبة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والملائكة.
وصرنا نفرط في الحديث عن الكرامات، ونستدل بها، ما كان منها صحيحاً، وما كان منها لا يقبله عقل ولا منطق، بل ما كان منها من رواية أهل الخرافة الذين اعتدنا منهم على هذه الأباطيل، وصرنا نتهم من يشكك في شيء منها، صرنا نتهم من يتحدث عن أخطاء الجهاد، وعن أخطاء المجاهدين، ومن يطالب بتنقية الصف، صرنا نتهمه بأنه مخذل.
وصار هذا الإرهاب الفكري يمارس ضد أي صوت ناصح، يطالب مع البداية حين بدأ الجهاد بتنقية الصف، بتصحيح النية، يطالب بإذابة الخلافات، يطالب بمراجعة المنهج، فكنا دائماً نسمع التستر على الأخطاء، ودفن العوج، وكنا نتجاوب في عاطفة جياشة، ونتصور أن ذكر الأخطاء والحديث عنها لا ينفع ولا يحقق المصلحة، ويجعل الأمة لا تتجاوب مع هذا الجهاد.
وطال عمر الجهاد، وجاء وقت قطف الثمر، وما الذي حصل؟ وماذا كان موقف الناس؟ إن موقفنا لا يزال؛ ما زلنا غير آسفين على دينار واحد قدمناه للمجاهدين، وما زلنا غير آسفين على كلمة قلناها في دعمهم؛ لأنا نرى أنها كلمة حق، ولم نغير مواقفنا، لكننا نرى أننا نحن السبب في هذا الخطأ؛ حيث كنا نتجاوب مع العاطفة كثيراً، ونرفض الموضوعية، ولهذا أوقدت عاطفة في نفوسنا لم نستطع أن نضبطها ونحكمها فيما بعد، حتى وصلنا إلى هذه المرحلة التي يدمينا جميعاً ويؤلمنا أن نسمع فيها تصريح الزعيم الروسي السابق جورباتشوف حيث يقول: لو علمنا أن الأفغان سيصنعون ما صنعوا لسلمناهم كابل منذ زمن بعيد.
كم يدرك قلبك المأساة؟ فالسلاح الذي كان وراءه أموال المسلمين ترى حامليه الذين صعدوا على جماجم الشهداء من كل بقاع المسلمين، ترى أحدهم يوجه السلاح والرصاص لأخيه، وأياً كان الموقف لا عذر بعد ذلك.
إنني هنا لست بصدد تقويم هذا العمل، وهذا الجهاد، وهو مع ذلك لا يزال مفخرة من مفاخر الأمة، وإنجازاً من إنجازاتها، لكن الشاهد هنا أننا في تعاملنا مع هذا الحدث كنا نتجاوب كثيراً مع العاطفة، وكنا نمارس الإرهاب الفكري، ونمارس التثبيط ضد أي صوت ناصح يدعو إلى تنقية الصف، يدعو إلى تصحيح المسيرة.
وأخشى أيضاً أن يتكرر الخطأ نفسه، وها نحن الآن نشهد الصحوة المباركة، مع ما فيها من إنجازات، فهي فيها أمراض بحاجة إلى علاج، بحاجة إلى مراجعة، بحاجة إلى مصارحة، بحاج(16/13)
التجاوب مع العاطفة في اتخاذ القرار
ومن إغراق العاطفة أيضاً: أن تكون هي الدافع الوحيد للعبد، أن يتجاوب المرء مع عاطفته، أو يتخذ قراراً، أو يقف موقفاً، أو يقيم مشروعاً حين يكون الدافع الأول والوحيد له هو العاطفة فحسب، فإن هذا عنوان الفشل.
ومع عدم إهمالنا لدور العاطفة، ومع أننا نرى أنه لابد أن يدفع المرء إلى أي عمل حماس وعاطفة تتوقد في قلبه، ونرى أن من يفقد العاطفة لا يمكن أن يحمل الدافع لعمل وإنجاز، مع ذلك كله نرى أن العاطفة وحدها حين تكون الدافع للعمل ستقود إلى نتائج غير محمودة، ونرى أن التجاوب والإغراق في التفاعل مع العاطفة وحدها إهمال للطبيعة الإنسانية، فقد خلق الله الإنسان بعقل وحلم وعاطفة، خلقه الله عز وجل بمشاعر وخصائص شتى، والموقف الذي يقفه المرء ينبغي أن يكون إفرازاً لتفاعل كل هذه الخصائص التي فطر الله عز وجل الإنسان عليها، أما حين يكون إفرازاً لعامل واحد فقط فهذا إغراق في العاطفة، وغلو وتطرف.(16/14)
نشوء العلاقات العاطفية بين بعض الشباب
ثالثاً: ومن الإغراق في العاطفة: العلاقات العاطفية التي قد تنشأ بين بعض الشباب أو بعض الفتيات: فقد ينشأ بين شابين أو فتاتين علاقة ومحبة يتجاوز قدرها، وتعلو حرارتها، حتى تتجاوز الموقف الذي ينبغي أن تقف عنده، فتتحول إلى علقة، وقد يكون الدافع الأول الذي دفع إليها هو الحب في الله، وهي صور ومواقف نراها جميعاً.
وكثيراً ما ترد إلي هذه الشكوى، إما سؤال في محاضرة، وإما رسالة يحملها إلي البريد، وهي رسائل مؤثرة يحكي صاحبها معاناته مع هذا الجحيم الذي يعيشه من لأواء هذه العلاقة العاطفية.
وكثير من هؤلاء يطلب الواحد منهم مني ألا أنشر رسالته، مع أني أعرف أنه لن يعرف من وراء ذلك، لكن ما دمت قد استؤمنت على ذلك فلا يجوز أن تخون من ائتمنك، وإلا قرأت عليكم بعض تلك الرسائل التي تصور لكم عمق المعاناة التي يعيشها مثل هذا الشاب.
وتبدأ هذه العلاقة حباً في الله عز وجل، ثم تتطور إلى حد يتجاوز بعد ذلك هذا القدر، فتتحول إلى مشاعر عاطفية، يبديها فلان والآخر، ويحاول كل منهما أن يغلف هذه العلاقة بغلاف الحب في الله، ويحاول أن يطعم هذا اللقاء بشيء من التواصل، وشيء من التعاون على طاعة الله عز وجل، وهي مكائد وحيل نفسية وشيطانية؛ حتى يغفل عن الداء، وحين تستحكم حينئذٍ يصعب ويعز الفراق.
فترى زيداً حين تراه وأنت تنتظر قطعاً أن يأتي عمرو، وحين يعتذر زيد عن المشاركة، فهذا يعني بالضرورة أن يعتذر عمرو، وليس ثمة سبب إلا أنه قد اعتذر، وحين يكون الأول مشغولاً مع والده، فسيكون الآخر مشغولاً مع والدته، وإن لم يكن كذلك فثمة شغل هنا أو هناك، والقضية تتحول إلى أن يربط مصيره بمصير فلان من الناس، حتى لا يصبر على فراقه، ولا على لقائه، وهكذا الشأن أيضاً عند الفتيات.
إن في العاطفة والتجاوب معها صورة تقود إلى نتائج خطيرة، صورة تجعل هذه العاطفة تحجب عن غير هذا الشاب، فلا يحب في الله إلا هذا الرجل، ولا يبغض في الله إلا من أبغض هذا الرجل، ويصبح هذا الرجل هو مقياسه، والآخر يبادله الشعور نفسه، وأما أصحابه وخلانه وإخوانه فلم يعد لهم مكان فسيح في قلبه، حيث: أتاه هواه قبل أن يعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا فاستحكمت هذه العلاقة، واستحكمت هذه المحبة، حتى لم يعد في قلب كل واحد منهما مكان لغير صاحبه، ويكتشفان حينئذٍ الخطأ، لكن حين يفوت الأوان، وحين يكونان قد انساقا مع هذه العاطفة، وتجاوبا معها، فيصعب عليهما التراجع حينئذٍ.
ويأتي يبث شكواه، ويطرح
السؤال
كيف الخلاص؟ أشعر أني أحب فلاناً، أشعر أنها ليست محبة خالصة لله، أشعر بعمق المأساة والمعاناة، إلى غير ذلك، لكنه حينئذٍ أصبح لا يطيق الصبر والفراق، فيبحث عن العلاج حين صعب عليه الأمر.
ولو كان منطقياً وجاداً، وكان مقتصداً في بذل المشاعر العاطفية، والعبارات التي ترق عاطفة، وكان مقتصداً فيها؛ لاعتدل فيها فيما بعد، وقد تؤدي إلى هذه النتيجة، وقد تؤدي إلى نتيجة أكبر.
وقد تتحول هذه العلاقة وهذه المحبة إلى محبة شيطانية، وحين يدخل الشيطان ستدخل الأغراض والشهوات فيها، وحينئذٍ يأتي الداء العضال عافانا الله وإياكم، والسبب والمشكلة هي الإغراق في العاطفة ابتداءً.
نقول ذلك ولا نرفض الطبيعة التي تجعل فلاناً من الناس يشعر بارتياح لصاحبه، ويشعر أنه يميل إليه أكثر من غيره من الناس، وهذه فطرة فطر الناس عليها، والأرواح جنود مجندة، لكن أيضاً يبقى هذا بقدر معين ومحدود إذا تجاوزه تحول إلى مرض وداء عافانا الله وإياكم، وما على من ابتلي أو ابتليت بمثل هذه المشاعر إلا أن يقطع الطريق من أوله، حيث قد يصل إلى مرحلة قد يشق عليه الرجوع بعدها.(16/15)
التربية العاطفية
رابعاً: ومن الإغراق في العاطفة: التربية العاطفية: حين تسيطر العاطفة على المربي أباً أو أستاذاً، أياً كان موقعه وتربيته، حين تكون العاطفة هي المسيطرة عليه، فحينئذٍ يتعامل مع من يربيه بعاطفة جياشة، ويتجاوب مع مشاعره، وتساهم هذه العاطفة في حجب الرؤية السليمة والصحيحة لهذا المربي، الرؤية لواقع هذه العاطفة أيضاً في حجب ما يحتاج إليه، فهو مع حاجته إلى الترغيب يحتاج إلى الترهيب، ومع حاجته إلى الحب والحنان يحتاج إلى نوع من الجفاء حين ينفع الجفاء، والخشونة قد تنفع فهي كاليد تغسل أختها.
إن إغراق المربي في العاطفة يحجب عنه الأخطاء، يحجب عنه العيوب، يحجب عنه الموضوعية، يحجب عنه الحزم الذي يحتاج إليه في مواقف الحزم، فينهار حينئذٍ تجاوباً مع هذه العاطفة الجياشة، ويتخذ مواقفه وقراراته، ويرسم برامجه استجابة لتلك العاطفة، فهو يخشى أن يمل الشباب، يخشى أن يتضايق الشباب، يخشى أن يسأم الشباب، يريد أن ينفس عن الشباب، ولا تكاد تجد عنواناً أدق لهذه الأوهام وهذه المخاوف إلا التربية العاطفية.
وحين يكون قضاء وقدر هذا الشاب أن يتعامل مع غير صاحبه الأول، فإنه لا يطيق التعامل مع غيره، ولا يطيق الفراق، وحين ترى من تربيه لا يطيق فراقك، ويحن إليك حنيناً زائداً، فهذا عنوان إغراقك في العاطفة، فإنك أيضاً ينبغي لك أن تربي تلميذك، وينبغي أن تربي من تحتك على أنه على أتم الاستعداد لأن يتخلى -لا كرهاً- عنك، إنما حين يكون الأولى أن يتخلى، حين يكون الأولى أن يفارقك.
نعم قد يشعر بحنين كم منزل في القلب يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل لكن حين يزداد هذا الحنين، فيتأثر القرار بهذا الحنين، حين يساوم على هذا القرار، فهذا دليل على الإغراق في التربية العاطفية، وجدلاً نقنع أنفسنا بأن هذا عنوان نجاحنا، وأن هذا عنوان إقناعنا للآخرين، وليس هذا إلا حيلة نفسية نخادع فيها أنفسنا.
الله الله في هذه النشء، الله الله في هذا الجيل، إننا -معشر الشباب ومعشر المربين- بحاجة إلى جيل حازم، بحاجة إلى جيل يتحمل المسئولية، بحاجة إلى جيل ينتظر أن يقال له: لا، فيستجيب، بحاجة إلى جيل ينتظر أن يقال له: سر في غير هذا الطريق، فيسير في غير هذا الطريق.
أما الجيل الذي لا يستجيب إلا مع عواطفه، إلا مع مشاعره، فهذا لا يثبت وقت المحنة، ولا وقت الفتنة، ولا يؤمل فيه خير.(16/16)
جني الإغراق في الاستجابة للعاطفة
ولن نجني فائدة من العاطفة في هذه الصور أو غيرها، لن نجني من الشوك العنب، إننا سنجني أولاً الغلو، ومجانبة الاعتدال، سنجني الغلو قبولاً أو رفضاً، والغلو والتطرف أمر مرفوض، ترفضه الطباع المستقيمة والسليمة، فضلاً عن المتأدب بأدب الشريعة وهديها.
وها أنت ترى أنك بمجرد أن تصف فلاناً بأنه غالٍ تكفي في التنفير منه، ويكفي في نقد موقفه وطريقته أن تصفه بأنه غالٍ ومتطرف.
إن المحرك الأول للغلو والتطرف والإفراط هو العاطفة، فالغلو في المدح والثناء ليس إلا تجاوباً مع العاطفة، والغلو في الحب والتعلق هو الآخر، والغلو في الرفض والرد هو الآخر كذلك.
والإغراق في العاطفة مدعاة لمجانبة العدل والإنصاف، فحين يقبل يقبل جملة، وحين يرفض يرفض جملة، إن صاحب العاطفة الذي يتجاوب معها لا يملك أن يضع الأمور في نصابها، لا يملك أن يقول: هذا صواب، وهذا خطأ، لا يملك أن يزن الأمور بميزان العدل، فهو لا يحمل إلا حكمين لا ثالث لهما: القبول، والرفض، الحب المغرق فيه، والبغض المغرق فيه، أما طريق الوسط والعدل والإنصاف فهو لا يملكه، وهذا شأن من يشتط ويتطرف، لقد تطرف هو أولاً فاستخدم ميزاناً واحداً، وسار على طريق واحد هو طريق العاطفة، فقاده إلى هذه النتيجة والنهاية المتطرفة.
وهو أيضاً يقودنا إلى الوصول إلى نتائج غير سليمة، وغير منضبطة، وكثيراً ما نجني من حماسة لم تضبط ولم توزن، أو نجني من عاطفة لم تحكم ولم توزن بميزان العقل والشرع، كثيراً ما نجني منها المواقف الخاطئة، والنتائج التي لا يقتصر وبالها على صاحبها.(16/17)
علاج الإغراق في العواطف
وبعد ذلك ما العلاج؟ قد أكون أسهبت وأطلت في وصف المرض والداء، ولكني أشعر أن وصف الداء يتضمن في ثناياه وصف العلاج والدواء، أشعر أننا حين ندرك أن إهمال العاطفة جملة أمر مرفوض، فإن هذا يعني أن نضع عواطفنا في موضعها، وأن نعرف أن من الإيمان أن يتألم المسلم لآلام إخوانه، وأن يرحم، وأن يعطف، وأن يشفق، وأن يتحمس في مواضع الحماس، ويرحم في مواضع الرحمة، ويشفق في مواضع الشفقة، ويحب في مواضع الحب.
ونشعر أيضاً بأن الإغراق في العاطفة أمر مرفوض، وأننا -كما قلت- نعاني من جيلنا المبارك إغراقاً في العاطفة أكثر من الإهمال، ونعاني من مواقف كثيرة هي أكثر ما تكون تجاوباً مع العاطفة، وأرى أن الحل يتمثل ببساطة في أن نزن مواقفنا، وأن نزن أعمالنا، وأن نفكر فيها، وأن نشعر أن الله عز وجل كما خلق فينا عواطف خلق فينا أيضاً عقلاً وحلماً، وأعطانا سبحانه وتعالى علماً بكتابه سبحانه وتعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل قد أعطانا موازين وقيماً غير هذا الميزان وحده، وحين لا نملك إلا هذه الصنجة، ولا نزن إلا بهذا الميزان، فإن هذا عنوان التطرف والغلو.
ووزن الأمور، والتأمل فيها والمراجعة مما يعيننا كثيراً على تجاوز هذه النتائج والآثار السلبية.
ولذا أرى أن وزن الأمور بالموازين كلها جميعاً دون ميزان واحد مما يعين على الرؤية السليمة المستقيمة، ويبعدنا عن الشطط، والإهمال غلو، والإغراق والمبالغة في التجاوب هو أيضاً غلو، والوسط بين هذين الطريقين، وبين هذين السبيلين.
أسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح، إنه سميع مجيب، واعتذر لكم إن كان اعتور عرض الموضوع ما اعتوره، فقد كنا حديثي عهد بسفر الحج، وتعرفون أثر ذلك من الجهد والنصب، أسأل الله عز وجل أن يجعل ذلك في موازين حسناتنا وحسناتكم جميعاً، وأن يقبل منا ومنكم صالح الأعمال.(16/18)
الأسئلة(16/19)
طلب محاضرة توجيهية للأبناء
السؤال
لقد دبت الحياة في نفوس بعض الآباء بمحاضرتك القيمة، ولكن نشكو نفوس الأبناء، ومما نراه أن الآباء يعانون كثيراً من غفلة أبنائهم، فهم ركيزة الأمة، فهل ستكون محاضرة أو رسالة للأبناء بعنوان: (يا بني) فكل يود ذلك؟
الجواب
في النية أن تكون في هذه الإجازة إن يسر الله عز وجل.(16/20)
الفرق بين الرحمة والعاطفة
السؤال
الرحمة والعاطفة كلمتان مترادفتان، فأيهما الأشمل والأعم، وهل هناك فرق بين الكلمتين؟
الجواب
قرأنا في كلام أهل اللغة أن العطف يطلق على الرحمة والرفق، لكن في المصطلح المعاصر توسع المعنى، وصارت تدور حول الرحمة والحب، ومشاعر كثيرة، فالقضية -كما قدمت- ليست قضية مصطلحات، القضية قضية معان، مادام الناس قد اعتادوا التعبير عن مثل هذه الأمور بمثل هذا المصطلح، فتحدثنا ونحن نقصد هذا، ولست أريد الرحمة وحدها فقط، وإن كان في النية حديث حول الرحمة وما يتعلق بها، نسأل الله أن يعين عليه.(16/21)
المراد بتذوق الجمال المطلوب
السؤال
لقد أشرتم في مقدمة حديثكم أن من لم يشعر بالجمال ويتذوقه، أنه إنسان فاقد للعاطفة، وفي نظري أن هذا الإطلاق غير مناسب، فهو يفتح باباً أمام أرباب الهوى والشذوذ ليتمتعوا بالجمال فيما حرم الله، أرجو من فضيلتكم تقييد هذا الإطلاق، فهو حقيق بالتقييد؟
الجواب
أولاً: أرجو أن يرتفع مستوانا في الفهم، فلا نجلس لنحاكم العبارات إلى مثل هذا، وهذه من المشكلات التي كثيراً ما توصم بها أخطاء الناس، فما أحد منكم يتصور، ولا أحد حتى من أرباب الهوى -وهو يسمع كلامي- يتصور أنني أقصد أن من لم يحب فتاة رآها في الشارع، أو غير ذلك، أنه فاقد للإحساس، لا أحد يتصور هذا، وإذا تصور فالخطاب إنما هو للعقلاء وحدهم، والعقل من شروط التكليف.
فأنا أقول: أولاً: يجب أن نهون على أنفسنا، ولا نبدأ نقيد كل عبارة نقولها وكل كلمة، فأنا أشعر بأن السياق، والشخص الذي يقول الكلام، والمناسبة، كل ذلك يدل على المراد وأنا أقصد -وكلامي واضح- أن الشخص الذي لا يتذوق الجمال يعني الشخص الذي عندما تضعه في روضة غناء، وأزهار، وقت الأصيل، أو وقت البكور، أو تضعه على سفح جبل في عاصفة هوجاء، يكون المكانان عنده سيان، يعني: لا شك أنه شخص فاقد الإحساس بالجمال، وشخص شاذ تفكيره، هذه وجهة نظري ورأيي، فإذا كنت ترى رأياً آخر فهذا من حقك.
أما أرباب الهوى، فلهم شأن آخر، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله جميل يحب الجمال)، وأقر من أحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة على ذلك، وكان عمر رضي الله عنه أتى له بحلة يتجمل بها للوفود صلى الله عليه وسلم، فالجمال وما يتعلق به أمر فطرت النفوس عليه.(16/22)
صلة الرحمة بالعاطفة
السؤال
أرى أن هناك خلطاً في المحاضرة بين مفهوم العاطفة ومفهوم الرحمة؛ لأنه قد مضى جزء من المحاضرة في ذكر صور هي من الرحمة؟
الجواب
سواء هذا أو ذاك، سبق أن نبهت على القضية أنها جزء من العاطفة، لكن ذكرنا الحماس أيضاً وما يتعلق به، وأشرنا إلى الحب وما يتعلق به، كل هذه صور من صور العواطف.(16/23)
توجيه للمتأثر بعاطفته تجاه حال المسلمين إلى حد كبير
السؤال
إن العاطفة تأخذ مني مأخذها، حتى أصل إلى حد القنوط، وذلك لأن الجرح كبير، والخطب عظيم، فأنا أحمل عاطفة تجاه المسلمين في كل مكان، ولكن هذه العاطفة قد تؤثر على تفكيري، فما هي نصيحتكم لي؟
الجواب
هنا ندعو إلى ضبط العاطفة، وأن نحول العاطفة دائماً إلى رصيد عملي، فأنت ما دمت تتألم لمصائب المسلمين، فهذه العاطفة يجب أن تكون عند كل مسلم، بل من الإيمان، (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو؛ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
فلا شك أن من صفات الإيمان أن يحمل المسلم الحرقة والألم على مصائب إخوانه المسلمين، وهذا مما يمتدح به الرجل، ويعاب على فقده، وكذلك حين يقف عند هذا الحد، لا يصنع شيئاً، فلابد أن توقد هذه العاطفة، أقول: هذه العاطفة ينبغي أن تشعل رصيداً من العمل، تدفع إلى العمل والمبادرة والجهد والإنجاز، أما حين تبقى حزناً فقط، وبؤساً فقط، فإنها لا تصنع شيئاً.
ومما يهون على المرء أن يشعر بأنه مع عمق الجرح، وعظم المأساة، ليست مسئوليته إصلاح واقع المسلمين كلهم، وليست مسئوليته تغيير الواقع، إنما مسئوليته أن يعمل جهداً فحين يسأل أمام الله عز وجل يجيب، وحين يضع هذا نصب عينيه، فإنه يستطيع أن يقف في نقطة يتوازن فيها بين تلك العاطفة وبين العمل؛ لأنه إذا ازدادت حدة العاطفة أخذت مساحة من الجهد الذي ينبغي أن يصرفه الإنسان إلى العمل.(16/24)
كيفية الموازنة في العاطفة
السؤال
كيف يوازن الشاب في العاطفة بين الإفراط والتفريط، وما هو السبيل في ذلك؟
الجواب
سبق أن أشرنا إليه، قلنا: إن الاتزان والمراجعة والاعتبار بموازين الشرع، والتفكير بالأمور بعقل، واتهام النفس، مما يعين الإنسان على أن يتوازن، ويتلافى أثر ذلك.(16/25)
الموقف من حماس الشباب الغيور
السؤال
ألا ترى أن الشباب اليوم في حاجة ماسة لضبط عواطفهم، واستبدال حماسهم في هذه الفترة الحرجة التي يتربص فيها كثير من أعداء الإسلام لضرب الصحوة؟
الجواب
نعم، إلى الحماس، وإلى الهمة، ليس بصحيح أنا دائماً نهبط حماس الناس، وأن نقول للناس: دعوكم من الحماس، دعوكم من العاطفة، ذلك يعني إذاً أن نرضى ونرضخ للواقع، وما هو بصحيح، وهذا كلام غير مقبول وغير سليم، وها نحن نرى الآن أن الجهود المبذولة لتغيير الواقع جهود لا تساوي شيئاً بالنسبة إلى حجم الصحوة، أليس في الصحوة من يفقد الحماس الذي نريد؟! من يفقد العاطفة؟! أنا متأكد أن الكثير من هؤلاء لو كان عنده الحماس الذي ينبغي، والعاطفة التي تنبغي؛ لدفعته إلى العمل، نعم حين ندعو إلى ذلك فنحن لا ندعو إلى الحماس غير المنضبط، لكن أيضاً لا يسوغ أن ندعو الناس دائماً إلى إلغاء الحماس، وإلى أن الحماس كله خطأ، والعاطفة كلها خطأ، أتصور أنه منطق غير سليم.
وإذا ما تحمس الإنسان لدين الله، وما غار لحرمات الله عز وجل، وصارت عرى الإسلام تنقض عروة عروة، وحرمات المسلمين تنتهك، وهي لا تحرك فيه ساكناً، فإني أرى أنه بحاجة إلى أن يعيد النظر في إيمانه، وغضبه وحميته لدين الله سبحانه وتعالى.(16/26)
أثر العواطف على النصح والتوجيه
السؤال
هناك كثير من الشباب تتحكم فيهم العاطفة بشكل كبير وخاصة شباب الصحوة، فمثلاً: إذا كان الشخص لا يحضر إلى الحلقات والدروس التي هي من أسس التربية للفرد، فإنك تجد إخوانه لا ينصحونه ولا يوجهونه؛ خوفاً من غضبه، فهل يعتبر هذا تصرفاً للعاطفة، وماذا ننصح من يفعل ذلك؟
الجواب
نعم هذا من مراعاة العواطف والمشاعر، ونحن بحاجة إلى نربي جيلاً جاداً، بحاجة إلى أن نربي جيلاً يعتمد على معالي الأمور، لكن التربيت على الأكتاف، والخوف من أن يزعل، والخوف من أن تؤثر فيه هذه الكلمة، وأن الكلمة هذه قد تكون مؤثرة، وهذا الموقف قد يكون مؤثراً، إذا كنا نتعامل بهذه الحساسية وهذه العاطفة الجياشة، فلن نعد الرجال الذين تريدهم الأمة.
نعم لابد أن نراعي الناس، وأن نرفق بهم، ونراعي مشاعرهم، وهذا هدي ورثناه من النبي صلى الله عليه وسلم، لكن -أيضاً- مع ذلك لا يسوغ أن يكون على حساب الجد والحزم في التربية، والأخذ بمعالي الأمور.
فالنبي صلى الله عليه وسلم الذي وصفه الله عز وجل فقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:159]، وقال الله فيه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، هو صلى الله عليه وسلم الذي هجر كعباً وصاحبيه، وهو الذي ظهر غضبه على أصحابه حينما خرج وهم يتمارون في القدر، قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (فغضب صلى الله عليه وسلم كأنما فقئ في وجهه حب الرمان من الغضب، وقال: بهذا أمرتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟!).
فهو هو صلى الله عليه وسلم، فنأخذ سيرته صلى الله عليه وسلم كلاً متكاملاً؛ لنصل منها إلى النموذج التربوي الذي ينبغي أن نسير عليه، ونصل إليه.(16/27)
الموقف من العاطفة المذهبية
السؤال
بعض الناس -هداهم الله- تقول له: قال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول: قال الإمام الفلاني والفلاني، فهذه عاطفة مذهبية، فما توجيهكم لهذا الشخص؟
الجواب
أنا أقول: إن عندنا عقدة نعاني منها معشر المسلمين، عقدة التقليد أياً كانت، الجميع يرفض التقليد، والجميع عندما تقول له: هل قول أحد من الناس حجة؟ يقول لك: لا، ليس حجة، والحجة في كلام الله وكلام النبي صلى الله عليه وسلم، لكن حينما نأتي إلى الواقع لا نجد ذلك، فحينما يأتي شخص ويقرر قولاً واجتهاداً بأدلة شرعية، يضرب في وجهه أن فلاناً أكد خلاف هذا، أن فلاناً قال بخلاف هذا، ليست الحجة فقط إلا قول فلان، ورأي فلان.
والناس والعلماء والأئمة أياً كان شأنهم، وأياً كانت مكانتهم، ليس واحد منهم أبداً حجة على الأمة، الحجة على الأمة كلام الله وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، أما البشر أياً كانت إمامتهم فهم يبقون بشراً بعد ذلك، وعلى هذا تواترت وصايا الأئمة.
يقول مالك: كل يأخذ من قوله ويرد، إلا صاحب هذا القبر.
وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
لكنك حين تعيد النظر في قول فلان من الناس على جلالته وإمامته، فحينئذٍ يضرب في وجهك أنك لا تقدر العلماء، ولا تحترم أهل العلم، وأنك لا تصدر عن رأي أهل العلم، وإلى غير ذلك، وهذا هو محض التقليد الذي كنا نعيبه على غيرنا.
نعم نحن ندعو إلى التوازن، والانضباط، واحترام ووضع آراء الرجال في موضعها، لكن التقليد، والصدور عن رأي شخص أياً كان وحده أمر مرفوض، وهذا تعطيل لأفكار الناس، واستعباد لعقولهم، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا.(16/28)
ضرر الالتزام الناشئ عن العاطفة فقط
السؤال
ما هي نصيحتكم لمن التزم بأوامر الله تعالى عن إثر عاطفة فقط، وهذا يوجد كثيرا ًفي مجتمع النسوة، حيث إنهن يعتمدن على العاطفة، ولا يطلبن العلم، ولا يسمعن كلام أزواجهن، حتى في أوامر القوامة الشرعية؟
الجواب
يبدو أن الكاتب من الرجال، على كل حال المشكلة موجودة عند الطرفين، ما هي عند النسوة وحدهن، نجد عدداً كبير من الناس يلتزم ويستقيم بعاطفة، وهذا سرعان ما يستجيب حين تأتيه عاطفة أخرى تدعوه إلى خلاف ذلك.
وينبغي أن نحيط استقامتنا وصلاحنا والتزامنا بسياج العلم الشرعي، والوعي، وتربية الإيمان في نفوسنا؛ حتى يكون معيناً لنا بإذن الله وتوفيقه على الثبات.(16/29)
دواء الحماسة للعمل في مجالس أهل الخير وتركه في غيرها
السؤال
إذا دخلت مجالس الخير أجد أني أكون من شباب الخير، وإذا خرجت يذهب عني الإحساس ولم أفكر فيه؟
الجواب
هو طبيعي أن الإنسان إذا حضر مجالس الخير والإيمان ازداد إيماناً، وإذا افتقدها قل شعوره، لكن بحد معين، إذا وصل إلى حد أن الإنسان لا يعمل الخير إلا مع الناس، ولا يتحمس للخير إلا مع الناس، فهذا مرض وداء.
ومن الأشياء التي تعين الإنسان على التخفف من هذا هو أن يجتهد في أعمال السر بينه وبين نفسه، الصلاة، وقيام الليل، وقراءة القرآن، والذكر، يجتهد فيها، فإنها تعينه على تجاوز مثل هذا الأمر.(16/30)
علاج مرض النسيان
السؤال
أنا شاب أعاني من مرض النسيان، بحيث إذا حفظت آية أو حديثاً فسرعان ما أنساه، فذهبت إلى الصيدليات، فلم أجد عندهم الدواء لهذا المرض، والآن أتت صيدلية الدويش إلى منطقة الأحساء، فأرجو منك إعطائي دواء لهذا المرض؟
الجواب
نحن نعرف أن الصيدلية كلها يصعب أن تأتي، على كل حال لست بالصيدلي، لكنه كما قال الشافعي في وصيته: شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي وحين جاء الشافعي إلى الإمام مالك ليطلب العلم عنده، فتفرس في وجهه، قال: إني أرى في وجهك نوراً، فلا تطفئه بظلمة المعصية.
وقيل للإمام مالك: هل شيء يصلح الحفظ؟ فقال: إن كان فإنه ترك المعصية.
فتقوى الله عز وجل، وسؤال الله عز وجل يعين الإنسان، ثم بعد ذلك لا يضجر الإنسان فهذا ما أعطاه الله عز وجل، وأنا أجزم أن الأخ ما نسي نصوصاً معينة تبقى نصوصاً لا ينساها، فمع تكراره للنصوص والآيات والأحاديث؛ سيبقى جزء منها على الأقل لا ينساه.(16/31)
حكم ما يبقى من النقود عند الشاب المهتدي لرفقائه في طريق الغواية
السؤال
كنت شاباً مفرطاً في أوامر الله، وكنت أستعمل المخدرات، وبعدها هداني الله إلى طريق الخير، ويوجد عندي لبعض الشباب المنحرفين نقود لأشتري لهم مخدرات بها، فهل أردها إليهم، أم ماذا أفعل، علماً أنه مضى علي أكثر من خمس سنوات؟
الجواب
إذا كان عندك حقوق للناس ينبغي أن تعيدها إليهم، لكن لا تعنهم على المعصية، فتكون وسيلة لإعانتهم على المعصية، أما حقوق الناس فينبغي أن تعاد إليهم.(16/32)
الحل لعاطفة التأثر بأيام الصبا
السؤال
أنا شاب ربما أكون غزير العاطفة، حيث أتأثر بالمواقف التي حصلت لي أيام الصبا، ومراحل المراهقة المبكرة، فما هو الحل في مثل ذلك؟
الجواب
الحل أنك تخفف من العاطفة، وتشغل نفسك دائماً، النفس إذا شغلتها بأمور جادة، ومعان جادة؛ انشغلت عن مراتع الصبا وتذكرها، والإنسان الذي يحمل هماً، ويحمل دعوة، ويحمل غيرة لدين الله، يشعر أن هناك أشياء تملأ اهتماماته تشغله عن الإفراط في تذكر مراتع الصبا وأيامها.(16/33)
دواء الإفراط في العلاقات العاطفية
السؤال
بعد أن سمعنا هذه الكلمات التي شنفت أذاننا، ورطبت قلوبنا، ووجهت عواطفنا، وضبطت ما تفلت من مشاعرنا، بعد هذا كله يأتي سؤالي: إنني أعرف مجموعة من الشباب قد تشاكلوا في طباعهم وفي أشكالهم وفي أعمارهم، وقد نشأت بينهم عاطفة غير منضبطة، فقد غرق بعضهم في شخصية بعض، بل وذابوا في ذواتهم، وكل هذا باسم العاطفة الصادقة؟
الجواب
هذا خبر ما هو بإنشاء، ويبدوا أنه يريد الحل، سبق أن أشرنا إلى القضية، ولعل الأخ كتب السؤال مبكراً، لكن هذه من الأدواء، الإفراط في العلاقات العاطفية من الأدواء، وأشرنا إلى بعض نتائجها المؤلمة.(16/34)
نصيحة ودواء لذي العاطفة الشهوانية
السؤال
شاب يعاني من عاطفة ميالة إلى الشهوات، حيث يفتن كلما رأى شاباً جميلاً، حتى إنه يجلس يفكر فيه معظم الوقت، فما دواء هذه العاطفة؟
الجواب
هذه لا شك أنها في الحرام، ولا يسوغ أن نلمعها بأوصاف أخرى غير هذا الوصف، إنها شهوة محرمة، بل هي شهوة شاذة، شهوة قوم لوط الذين كانوا شاذين، فعاقبهم الله عز وجل بعقوبة لم يعاقب بها غيرهم من الأمم، أن رفع قراهم ثم خسف بهم بعد ذلك.
فالحل أن يتقي الإنسان الله عز وجل، ويغض بصره، وينصرف عما حرم الله، ويشغل نفسه بطاعة الله عز وجل، واللجوء إليه، وإدمان ذكره، وتلاوة كتابه، وكلما ازداد المرء حباً لله عز وجل شغله ذلك عن حب ما سواه.(16/35)
كيفية معالجة قوة العاطفة تجاه الآخرين
السؤال
إن عاطفتي تجاه كل من أتعامل معهم من أهلي وأصحابي وزملائي في العمل وغيرهم كبيرة جداً جداً، حتى إنني أشعر أنها تكاد تفسدهم علي، وذلك من خلال تعاملهم معي في حياتهم الاعتيادية، وأنا أعلم بذلك، أرشدني إلى الطريق الصحيح وفقك الله؟
الجواب
أنت أدركت الآن المشكلة، وأدركت الخطأ، حاول أن تتخفف، أنا لا أستطيع أن أقول لك حلاً غير هذا، أنك تحاول أن تتخفف، أنت أدركت أن عاطفتك زائدة جداً جداً كما وصفت أنت، فخففها جداً جداً، وحاول بقدر الإمكان أن تتخفف من ذلك، وتتوقف -مثلاً- في تبادل بعض العبارات وغيرها، التي تذوب عاطفتك، وتعود على نوع من الحزم، حتى تعتاد ذلك، والعلم بالتعلم، والحلم بالتحلم.
هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
وسبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(16/36)
وأنكحوا الأيامى منكم
الزواج قضية تدعو إليها الفطرة ويرغب فيها الشرع، وبها يكتمل شطر الدين وتستقر النفس وتزول كثير من مشاكل العزوبة ومعاناتها.(17/1)
وقفة حول العنوان
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد.
فعنوان هذا الدرس كما تعلمون جميعاً: (وأنكحوا الأيامى منكم)، وهو الدرس المتم للعشرين من هذه الدروس التربوية التي تلقى في هذا الجامع جامع السالم، وهو في هذه الليلة ليلة الأحد الثامن من شهر شوال عام 1414للهجرة النبوية الشريفة على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وحديثنا في هذا الدرس سيدور حول العناصر الآتية: أولاً: وقفة حول العنوان.
ثانياً: من منافع الزواج.
ثالثاً: السلف والزواج.
رابعاً: الفقهاء والزواج.
خامساً: غيرنا والزواج.
وأخيراً: ماذا نجني من الزواج المبكر؟ وآثرنا أن نزاوج بين العناصر، فالعنوان حول النكاح والعناصر تأخذ عنوان الزواج، وكلاهما مصطلحان معروفان مشهوران.
الوقفة الأولى حول العنوان والتعريف بموضوع المحاضرة، ولمن يوجه الخطاب فيها؟ لعل ما يستوقفنا في العنوان هو كلمة (الأيامى)، والأيم في اللغة وفي هذا العنوان الذي هو جزء من آية كريمة: هو من لا زوج له سواء كان ذكراً أو أنثى، سواء كان قد تزوج قبل وطلّق أو أُرمل، أو لم يتزوج، فكل من لا زوج له ذكراً كان أو أنثى، بكراً كان أو ثيباً فهو أيّم.
قال ابن سيده: الأيّم من النساء التي لا زوج لها بكراً كانت أو ثيباً، ومن الرجال الذي لا امرأة له، وهو كما قلنا يطلق على الذكر والأنثى، وإن كان الغالب في الاستعمال أنه للأنثى، والدليل على أنه يُطلق على الذكر قول الشاعر: فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي يد الدهر ما لم تنكحي أتأيمُ فأطلق التأيم هنا على نفسه وهو رجل مما يدل على أنه يُطلق على الذكر والأنثى.
وأيضاً: استعمل ابن القيم هذا المعنى للذكر، وإن كان كلام ابن القيم كما تعرفون ليس حجة في اللغة؛ لأن ابن القيم كان بعد عصر الاحتجاج، يقول في قصيدته الميمية المشهورة: وكن أيّماً مما سواها فإنها لمثلك في جنات عدن تأيم ونحن يهمنا بيان أن الأيّم يُطلق على الذكر والأنثى؛ لأن هذا يعني أن الرجال والنساء مخاطبون بهذه الآية الكريمة.
إذاً نقرر معنى الأيّم والمقصود به، فموضوعنا يدور حول التحريض على النكاح والترغيب فيه، وبيان محاسنه وفضائله، ومنزلته من دين المسلمين، وهو خطاب يعني شرائح شتى فهو يعني الأيّم سواء كان رجلاً أو امرأة بدرجة أولى وأساس؛ لأنه هو صاحب القضية، وما لم يحمل قضيته ويُعنى بها فلن يهتم به غيره، وهو يعني الأولياء وهم كثيراً ما يقفون عقبة دون تحقيق هذا الأمر الإلهي الذي خاطب الله عز وجل به المسلمين جميعاً: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور:32] وهو أيضاً يعني المجتمع كله، فإن الخطاب في هذه الآية كما أنه خطاب للأولياء فهو خطاب للمجتمع أن يأخذ على عاتقه إنكاح الأيامى، وأن يأخذ على عاتقه تذليل العقبات والعوائق التي تحول دون تحقيق وتطبيق هذه السنة الشرعية التي هي بمنزلة ومكانة عظيمة من دين الله عز وجل كما سيأتي بيانه.
إذاً فالموضوع يعني هذه الطبقات جميعاً، أما ما يتعلق بالعوائق والعقبات التي تقف فعلاً أو تُفتعل ضد التعجيل بالزواج والنكاح فقد كانت النية التعريج عليها في هذا الدرس، ولكن طال الموضوع وشعرت أن الوقت لا يتسع للحديث عن هذه العوائق، فلعلي أفردها بمشيئة الله بحديث خاص، وقد لا يكون في هذا الدرس، قد يكون مما يُلقى خارج الرياض، ويمكن للإخوة أن يستمعوا إليها إن شاء الله فيما بعد.(17/2)
من منافع الزواج(17/3)
أنه منة من الله تستوجب الشكر
العنصر الثاني: من منافع الزواج والنكاح.
ثمة أمور عدة تدل على قيمة الزواج والنكاح ومنفعته وآثاره سواء في الدنيا أو في الآخرة، منافع دينية أو منافع دنيوية، ومن ذلك أن الله عز وجل امتن على عباده بالنكاح والزواج، وهذا دليل على فضله، وأنه نعمة يمتن الله بها على عباده، وتستوجب الشكر، ومن ثم أيضاً فهي دعوة لمن لم يحصّل هذه النعمة أن يسعى إليها، فإن الله عز وجل قال في سورة الروم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:20 - 21] فبعد أن امتن الله عز وجل على عباده بنعمة إيجادهم وخلقهم من تراب، امتن عليهم بعد ذلك بنعمة أخرى وهي أن جعل لهم من أنفسهم أزواجاً، ولعل في هذا التعقيب حكمة والعلم عند الله عز وجل، فإنه أخبر عن خلق الإنسان من تراب ابتداءً، ثم الآية الثانية عقّب فيها بالزواج الذي هو السبب بعد ذلك لاستمرار بقاء النوع الإنساني، فإنه لن يُخلق المرء بعد ذلك من تراب، إنما يُخلق بعد ذلك بقدرة الله عز وجل من ما ينتج عن هذا الزواج وهذا النكاح.
وأخبر الله عز وجل أنه جعل بين الزوجين المودة {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] فأخبر الله عز وجل أنه جعل بينهم مودة، أخبر أن الزوجة سكن للزوج والزوج سكن لها، وأخبر أيضاً قال: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187] وأخبر أن المرأة حرث، إلى غير ذلك من الأوصاف التي وصف الله عز وجل بها النكاح، وامتن به على عباده في غير ما آية في كتابه الكريم.(17/4)
الزواج من سنن المرسلين
ثانياً: أن الزواج من سنن المرسلين، فإن الله عز وجل يقول: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38] فأخبر الله عز وجل أنه جعل للمرسلين أزواجاً وذرية.
وفي سورة القصص يحكي الله عز وجل لنا أن نبيه موسى عليه السلام بقي ثمان سنين أو عشر سنين يعمل لأجل أن يحصل مهر النكاح {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} [القصص:27].
وأيضاً في السنة النبوية يحكي النبي صلى الله عليه وسلم أن سليمان عليه السلام قال: لأطوفن الليلة على مائة امرأة تنجب كل منها غلاماً يقاتل في سبيل الله عز وجل، ونبينا صلى الله عليه وسلم توفي عن تسع نسوة.
إذاً: فهذه النصوص وغيرها تدل على أن الزواج من سنن المرسلين، ويدل على ذلك صراحة قوله صلى الله عليه وسلم حين جاء أقوام فسألوا عن عبادته فتقالّوها فعزم أحدهم ألا يتزوج النساء، قال صلى الله عليه وسلم: (إني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني) فمن سنته صلى الله عليه وسلم تزوج النساء ومن رغب عن سنته صلى الله عليه وسلم فليس منه.
ويروى: أربع من سنن المرسلين: الحياء، والتعطر، والنكاح إلى آخر الحديث، لكن الحديث لا يصح، وفي الحديث السابق، بل وفي الآيات التي وردت في كتاب الله غنية عن ذلك كله.
إذاً: فإذا كان المرسلون قد جعل الله عز وجل لهم أزواجاً، وكان الزواج من سنة المرسلين، وهم أعبد الناس، وأعلم الناس، وأكثر الناس شغلاً في خدمة الناس، ودعوتهم إلى دين الله عز وجل فلا مجال لأحد بعد ذلك أن يعتذر عن الزواج، إلا أن يكون قد خالف سنة المرسلين، أو أن يكون به مانع من موانع النكاح.(17/5)
أمر الله الأولياء بإنكاح الأيامى
ثالثاً: أن الله عز وجل قد أمر الأولياء بأن يُنكحوا الأيامى فقال: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32] ثم عقّب الله عز وجل على قضية قد تكون عائقاً وعقبة لهؤلاء عن الزواج، وهي قضية التكاليف: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32] وهو أمر لأولياء الشباب وأولياء الفتيات جميعاً أن يسعوا في إنكاحهم، وتيسير السبل أمام تحقيق هذه السنة.(17/6)
أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بالنكاح
رابعاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الشباب أمراً عاماً لأمته على مدى الأزمان كلها، فقال في الحديث المشهور وهو في الصحيحين: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) إنه خطاب لكل شاب، وهو أيضاً خطاب للفتيات، فخطاب الرجال تدخل فيه النساء، خطاب للجميع على مدى الأزمنة والأمكنة من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن يسعوا ويحرصوا على الزواج وألا يتأخر من استطاع منهم عن ذلك.(17/7)
تحصيل النكاح لأفضل متاع الدنيا
خامساً: الزواج فيه تحصيل لأفضل وخير متاع الدنيا، إن الإنسان في دار الدنيا في دار متاع، ومتاع الدنيا زائل فان، وكم ينصب الناس لتحصيل المتاع من مال، أو جاه، أو ثراء، أو منصب، أو غير ذلك من متاع الدنيا، لكن خير متاع الدنيا كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة).
وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من أعطيهن فقد أُعطي خير الدنيا والآخرة: قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، وبدناً على البلاء صابراً، وزوجة لا تبغيه حوباً في نفسها وماله).
إذاً: فالزواج إدراك لأفضل وخير متاع في دار الدنيا، ولئن كان الإنسان كما قلنا يضحي ويجهد وينصب في تحصيل أي متاع من الدنيا من مال أو جاه أو منصب أو ثراء أو غير ذلك، فإن خير متاع الدنيا أولى بذلك كله وأولى ما اجتهد المرء في تحصيله.(17/8)
الزواج فيه إكمال شطر الدين
سادساً: الزواج فيه إكمال لشطر الدين، فقد روى الحاكم عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه فليتق الله في الشطر الباقي) وفي رواية للبيهقي: (إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين فليتق الله في النصف الباقي).
وهاهنا
السؤال
لماذا كان الزواج نصف الدين؟ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يضمن ما بين رجليه وما بين لحييه أضمن له الجنة) فحين يتزوج يكون قد أحصن نصف ما يُضمن له به الجنة وهو فرجه فليتق الله في النصف الباقي.
سابعاً: من فضائل النكاح وما يرغّب فيه أنه صلى الله عليه وسلم كما أمر بالنكاح وحث عليه ودعا إليه فقد نهى صلى الله عليه وسلم عن التبتل والانقطاع، فيقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا) والحديث في الصحيحين، فلم يأذن له صلى الله عليه وسلم في التبتل الذي هو الانقطاع عن النكاح.
ويدل أيضاً على النهي عن التبتل نهيه صلى الله عليه وسلم للثلاثة الذين تقالّوا عبادته عمّا عزم عليه أحدهم من الانقطاع وترك تزوج النساء.(17/9)
الزواج فيه إعطاء الأهل حقهم
ثامناً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ عبد الله بن عمرو بن العاص حين نهاه عن المبالغة في التعبد: (إن لأهلك عليك حقاً) وفي رواية: (لزوجك عليك حقاً) فإذا كان المرء منهياً عن المبالغة في التعبد، وكما مر معنا في الدرس الماضي أن هذا الكلام قاله النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن عمرو حين كان يختم كل ليلة، ويصوم كل يوم، فكما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه عن المبالغة في العبادة على حساب حق الزوجة وواجبها فهذا يدل على الدعوة إلى الزواج من باب أولى، وأن العبادة لا ينبغي أن تكون على حساب النكاح والزواج.(17/10)
النكاح سبب لعون الله وتوفيقه
تاسعاً: أن النكاح سبب لعون الله عز وجل وتوفيقه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة حق على الله عونهم: المكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف، والمجاهد في سبيل الله) والحديث رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة.
فقد أخبر صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن هؤلاء ممن يستحقون العون والتوفيق من الله عز وجل، إذا نكح المرء يريد العفاف فإنه حق على الله سبحانه وتعالى أن يعينه، وقرنه صلى الله عليه وسلم بالمجاهد في سبيل الله وبالمكاتب الذي يريد حياة الحرية والتخلص من الرق والعبودية.(17/11)
النكاح سبب لزيادة عدد الأمة
عاشراً: أن الزواج سبب لزيادة عدد الأمة، وهو أمر مطلوب، وقد حث صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال فيما رواه أبو داود والنسائي: (تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم).
ونحن نرى الآن الكثير من الأمم تسعى إلى تشجيع الزواج، كما حصل في ألمانيا بعد الحرب العالمية، حيث واجهت نقصاً حاداً في الطاقة البشرية، فسعت الدولة إلى سن قوانين تشجع على الزواج منها فرض ضرائب على العزاب، وأيضاً إعانات للمتزوجين، وزيادة في مكافئات الموظف إذا كان متزوجاً، والمساعدة في تأمين السكن إلى غير ذلك من الإجراءات التي اتخذتها تلك الدولة؛ لأنها ترى أنها بحاجة إلى الطاقة البشرية.
والأمة الإسلامية اليوم هي أحوج ما تكون لزيادة النسل وخاصة في المجتمعات الصالحة الخيّرة؛ لأنها زيادة في الأخيار والصالحين في هذه الأمة، ولعلنا ندرك تماماً ما يفعله بعض أصحاب النحل الضالة في بلادنا حيث يسعون إلى تكثير الزواج بصور عجيبة، حتى إنك ترى الشاب يتزوج وهو لا يزال في السادسة عشرة أو السابعة عشرة، والفتاة كذلك، بل ربما تراه يعدد وهو لما يصل العشرين من عمره، وخلال سنوات استطاع هؤلاء أن يتفوقوا عددياً في بعض المناطق على أهل السنة، وذلك كله نتيجة الحرص على زيادة النسل إذاً: فأصحاب دعوة الحق والمنهج الحق أولى الناس بالحرص على التناسل لا سيما وهم أحض الناس بوصيته صلى الله عليه وسلم، وهم أولى الناس أن يحققوا هذا المعنى الذي يكاثر فيه النبي صلى الله عليه وسلم سائر الأمم يوم القيامة.(17/12)
للزواج أثر صحي وأثر نفسي
الحادي عشر: أن الزواج له أثر صحي بدني، وأثر نفسي، وسنتحدث عن الأثر النفسي فيما بعد، لكن هناك دراسات معاصرة كثيرة أثبتت أن الزواج له آثار صحية منها: أن المتزوجين بصفة عامة أطول أعماراً من العزاب، وهذه أمور بيد الله عز وجل، لكن لا شك أن الله عز وجل قد جعل أسباباً ومسببات، ومنها أيضاً دراسة أجراها عالمان نفسيان في جامعة شيكاغو فيها إحصاءات دقيقة عن حالات من الجنون قاما بفحصها من بين من يعالجونهم فوجدا أن بين كل مائة مجنون ومجنونة ثلاثة وثمانين مريضاً من العزاب وسبعة عشر من المتزوجين والمتزوجات، كما أن معدل الإجرام عند العزاب أكثر منه عند المتزوجين، حيث بلغ في إحدى الإحصائيات ثمانية وثلاثين مجرماً أعزب مقابل كل سبعة عشر متزوج.
على كل حال هناك قضايا صيحة كثيرة ترتبط بموضوع الزواج وخاصة الزواج المبكّر، وقضايا نفسية، ولعل جانب الإجرام يرتبط بالصحة النفسية أكثر من ارتباطه بالصحة العضوية أو البدنية، وسيأتي الإشارة إلى شيء من ذلك.(17/13)
الزواج تحصين للنفس من الفواحش
الفائدة الثانية عشرة: وهي أهم مقاصد النكاح وفوائده تحصين النفس وحمايتها من الوقوع في الفاحشة: وهو المعنى الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج) وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء، وإن فتنة بني إسرائيل كانت في النساء) فأخبر صلى الله عليه وسلم أن أشد فتنة تركها صلى الله عليه وسلم على أمته فتنة النساء، وهذا الكلام عام للأمة كلها، فما بالكم بهذا العصر الذي شُرّعت فيه أبواب الفتن والذي صار يُسعى فيه إلى فتنة الشباب والفتيات، وإيقاعهم في الفاحشة، وصارت الوسائل الحديثة والتقنيات المعاصرة توظف لإثارة الغرائز، إن هذا يزيد الأمر تأكيداً.
وكم نسمع كثيراً من التساؤلات والشكاوى من الشباب والفتيات عن مشكلات الشهوة والفتن التي أصبحت تؤرقهم وتزعجهم، ويبدأ الحديث في إعطاء هؤلاء بعض الوصايا التي لا تزيد على أن تكون مهدئات، بينما العلاج الأهم والأنجع والأساس في ذلك كله هو الزواج، فهو العلاج وهو العاصم بإذن الله عز وجل وتوفيقه، ولو لم يأت في الزواج إلا تحقيق هذه المصلحة وهذه الفائدة لكان حرياً وجديراً بأن يُعنى كل شاب وفتاة بتحصيله والسعي إليه والبدار فيه ليحصنوا أنفسهم، ولا سيما وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه ضامن بالجنة لمن ضمن له أن يحفظ فرجه وأن يحفظ له ما بين لحييه.(17/14)
بالزواج تتيسر أنواع من القرب والعبادات
الفائدة الثالثة عشرة: أن الزواج يتيسر فيه للرجل والمرأة أنواع من العبادة والقرب لا تتيسر لغيره من حسن العشرة، والصحبة بالمعروف، وقضاء حق العيال، والرحمة بهم، والانشغال بمصالحهم كل ذلك قربة إلى الله عز وجل، يحصل عليه الزوجان، ولا يحصل عليه الأيم، بل ومع أنه عبادة وقربة فإنه تحصل فيه راحة النفس ولذتها وقضاء رغبتها، بل إن اللقاء بينهما وتحصيل الشهوة أمر يثابان ويؤجران عليه، فكما في صحيح مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر).
وقارن أنت بين حالتين: حالة الشاب أو الفتاة الذي يعيش في حالة الزواج، الذي إن ضايقته الفتن وأقلقته قضى شهوته فيما أباح الله عز وجل، فيكسب أجراً على ذلك، ويحقق شهوته ولذته، وأيضاً يعصم نفسه من الفتنة، وحالة الأيّم الذي عندما تُفتح الفتن أمام ناظريه لا يجد منها مناصاً إلا الوقوع في الحرام، وهذا ضريبته أليمة جداً، أو المجاهدة والصبر ولكن هل ينجح في هذا الأمر أو لا ينجح؟ هل يستطيع أو لا يستطيع؟ هي قضية أجزم أنكم توافقوني أنها لا تحتمل المخاطرة، ولا تحتمل أن يعلّق المرء نفسه على مثل هذه الأمور أينجح فيها أم لا؟ هذه بعض الفوائد وبعض النتائج التي تُجنى من الزواج، وسيأتي أيضاً مزيد منها عند الحديث عن الزواج المبكّر.(17/15)
السلف والزواج
العنصر الثالث: السلف والزواج.
ولنورد بعض النقول عن السلف في عنايتهم بالزواج سواء من أقوالهم أو أعمالهم، وكل خير في اتباع من سلف.
روى البخاري عن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنه: هل تزوجت؟ قلت: لا.
قال: فتزوج فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء.
وفي رواية لـ أحمد بن منيع: وذلك قبل أن يخرج وجهي، يعني: قبل أن يلتحي أو أن يخرج شعر لحيته.
وروى ابن أبي شيبة عن شداد بن أوس رضي الله عنه وكان قد ذهب بصره قال: (زوجوني فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني ألا ألقى الله عزباً).
وروى ابن أبي شيبة عن معاذ أنه قال في مرضه الذي مات فيه: زوجوني، إني أكره أن ألقى الله عزباً.
وروى أيضاً عن ميسرة أنه قال: قال لي طاوس: لتنكحن أو لأقولن لك ما قال عمر لـ أبي الزوائد: ما يمنعك من النكاح إلا عجز أو فجور.
وروى عن طاوس أنه قال: لا يتم نسك الشاب حتى يتزوج.
أي: لا تتم عبادته حتى يتزوج.
وروى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: لولم أعد أكن في الدنيا إلا عشراً لأحببت أن يكون عندي فيهن امرأة.
وقال المروزي: قال الإمام أبو عبد الله يعني أحمد بن حنبل: ليست العزوبة من أمر الإسلام في شيء، النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أربع عشرة ومات عن تسع، ولو تزوج بشر بن حارث لتم أمره، ولو ترك الناس النكاح لم يكن غزو ولا حج ولا كذا ولا كذا، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصبح وما عنده شيء ومات عن تسع، وكان يختار النكاح ويحث عليه ونهى عن التبتل، فمن رغب عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم فهو على غير الحق، ويعقوب في حزنه قد تزوج وولد له، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (حبب إليّ النساء).
فقلت له: فإن إبراهيم بن أدهم يُحكى عنه أنه قال: لروعة صاحب العيال، فما قدرت أن أتم الحديث حتى صاح بي وقال: وقعت في بنيات الطريق، انظر ما كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثم قال: بكاء الصبي بين يدي أبيه يطلب منه الخبز أفضل من كذا وكذا، أين يلحق المتعبد العزب.
وقال الإمام أحمد أيضاً: لو كان بشر تزوج لتم أمره.
ونقل ابن قدامة عنه أيضاً رحمه الله أنه قال: من دعاك إلى غير التزويج فقد دعاك إلى غير الإسلام.
وتزوج الإمام أحمد رحمه الله في اليوم الثاني لوفاة أم ولده عبد الله.
وقد كان هذا مشهوراً عن السلف، بل عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان أحدهم يبادر بالزواج إذا توفيت زوجته يقول: أكره أن ألقى الله عزباً.
وكان يعقوب يدخل على المهدي ليلاً، ويرفع إليه النصائح في الأمور الحسنة الجميلة من أمر الثغور، وتقوية الغزاة، وتزوج العزاب.
وقال عبد المؤمن المغربي كلاماً طويلاً وفيه: ورجل بلا بعل كرجل بلا نعل، والعزوبة مفتاح الزنا، والنكاح ملواح الغنى، ومن نكح فقد صفد بعض شياطينه، ومن تزوج فقد حصّن دينه، ألا فاتقوا الله في النصف الثاني، فإن خراب الدين بشهوتين: شهوة البطن وهي الصغرى، وشهوة الفرج وهي الكبرى، فاعمر الركعتين واحكم الحكمين.
نكتفي بهذه النقول وإلا فالنقول كثيرة عن السلف في ذلك لنذكر أيضاً بعض النقول عن الفقهاء الذين تحدثوا عن حكم الزواج، وما يتعلق به، وليس هذا وقت تقرير حكم الزواج أصلاً والتفصيل، لكن ما نورده استشهاد لقيمة النكاح عند فقهاء الأمة الأعلام.(17/16)
الفقهاء والزواج
رابعاً: الفقهاء والزواج.
فهم يتحدثون في مبدأ كتاب نكاح عن الزواج وأهميته، فقهاء الحنفية يعقبون العبادات بباب النكاح بعد كتاب الحج، بخلاف المعهود عند الحنابلة حيث يأتي بعد الحج باب الجهاد، ثم بعد ذلك المعاملات، ثم النكاح، أما الحنفية فيوردون النكاح بعد العبادات مباشرة، وعلل ذلك أحد علماء الحنفية وهو الكمال بن الهمام صاحب شرح فتح القدير، قال: وهو أقرب للعبادات، حتى أن الاشتغال به أفضل من التخلي لمحض العبادة على ما نبين إن شاء الله تعالى، فلذا أولاه العبادات.
ثم ذكر حكمه واختلافهم فيه ورجّح تفضيله على التخلي للعبادة، ثم قال: وبالجملة فالأفضلية في الاتباع لا فيما يخيل للنفس أنه أفضل نظراً إلى ظاهر عبادة وتوجه، ولم يكن الله عز وجل يرضى لأشرف أنبياءه إلا بأشرف الأحوال، وكان حاله إلى الوفاة النكاح، فيستحيل أن يقرره على ترك الأفضل مدة حياته.
وهذا كله ذكره بعد أن علل لماذا أعقب صاحب الهدية العبادات بباب النكاح؟ قال: لأنه أفضل أصلاً من التخلي للعبادة، والحاجة إليه آكد، ثم بيّن لماذا قدّمه على الجهاد، قال: إن الجهاد فيه تحصيل الصفة، يعني إذا قاتلنا الكفار أسلموا فأوجدنا فيهم صفة الإسلام، أما النكاح ففيه تحصيل الصفة والموصوف؛ لأنه فيه يولد الرجل الذي يكون مسلماً، ثم قال: والذي يدخل الإسلام بالنكاح أكثر ممن يدخل الإسلام بالسيف والجهاد.
وقال الكاساني في بدائع الصنائع: لا خلاف أن النكاح فرض في حالة التوقان، حتى أن من تاقت نفسه إلى النساء بحيث لا يمكنه الصبر عنهن وهو قادر على المهر والنفقة ولم يتزوج يأثم.
وقال ابن رشد: فأما النكاح فإنه في الجملة مرغّب فيه ومندوب إليه، وأما من احتاج إلى النكاح ولم يقدر على الصبر دون النساء ولا نكاح ولا كان عنده ما يتسرى به وخشي على نفسه العنت إن لم يتزوج فالنكاح عليه واجب.
وقال ابن قدامة في المغني: والناس في النكاح على ثلاثة أظرب: الأول: منهم من يخاف على نفسه الوقوع في محظور إن ترك النكاح، فهذا يجب عليه النكاح في قول عامّة الفقهاء؛ لأنه يلزمه إعفاف نفسه وصونها عن الحرام، وطريقه النكاح.
الثاني: من يستحب له، وهو من له شهوة يأمن معها الوقوع في محظور، فهذا الاشتغال له به، أي بالنكاح أولى من التخلي لنوافل العبادة، وهو قول أصحاب الرأي، وهو ظاهر قول الصحابة رضي الله عنهم وفعلهم، ثم ساق بعض الآثار عن الصحابة التي أوردنا طرفاً منها.
الثالث: قال القرطبي: المستطيع الذي يخاف الضرر على نفسه ودينه من العزوبة لا يُختلف في وجوب التزويج عليه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وإن احتاج الناس لإنسان إلى النكاح وخشي العنت بتركه قدّمه على الحج الواجب، وإن لم يخف قدّم الحج، ونص عليه الإمام أحمد في رواية صالح وغيره، واختاره أبو بكر.
وهذا فيه أنه يريد الوجوب، بل تأكد الوجوب؛ لأنه لا يقدمه على الحج إلا إذا كان يرى وجوبه رحمه الله.(17/17)
غيرنا والزواج
رابعاً: غيرنا والزواج.
وهذا الاصطلاح من كتاب الله عز وجل، يقول الله سبحانه وتعالى في الوصية: {ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة:106] ووصف الكفار بأنهم من غيرنا.
ونورد بعض النقول عن سيرهم وعاداتهم وطبائعهم في حرصهم أو دعوتهم إلى الزواج، ولم يكن الزواج مرغّباً لأن أولئك دعوا إليه، وليست القضية للاستشهاد بهم، لكن إذا كان أولئك يدركون شأنه وقيمته وهم لا يجدون مانعاً ولا حاجزاً من ممارسة الحرام والرذيلة، فغيرهم من باب أولى وآكد.
أولاً: الأمم القديمة كان العزوبة عيباً عندهم، بل في كثير من معتقدات الأمم القديمة وهي معتقدات وثنية وجاهلية، يرون أن من مات وهو لم يتزوج أنه غير داخل تحت رحمة الإله، وليس هذا هو الذي نستشهد به، لكن هذا كان نتيجة شعور أولئك بأن الزواج ضرورة، وكانوا يعيبون على الأعزب، ويصفونه بأوصاف يستحيا منها، حتى أنه كان يستحي أن يقابل الناس على اختلاف في عوائد الأقوام والطوائف والناس مما يضيق الوقت عن ذكره.
وأيضاً كانت أوروبا في العصور الوسطى تُعنى بالزواج والحرص عليه والتشجيع عليه، فقد أصدر لويس الرابع عشر في عام (1661م) مرسوماً يقضي بإعفاء الذين تزوجوا وكان سنهم أقل من عشرين سنة حتى الخامسة والعشرين من الضرائب، وفي عام (1798م) أيضاً سن قانون لحماية قيمة الإيجارات وفرض الجباية، فضاعف الضرائب على العزاب الذين سنهم عشرون عاماً فما فوق، والإجراءات التي يتخذها أولئك كثيرة، وأشرنا أيضاً إلى ما اتخذته ألمانيا بعد الحرب العالمية وغيرها، ويتنادى بعض عقلائهم بالزواج المبكّر، وفي عبارة جميلة يقول أحد عقلائهم إن كان فيهم من يعقل: ولسنا نرى مقدار الشر الاجتماعي الذي يمكن أن نجعل تأخير الزواج مسئولاً عنه، ولا ريب أن بعض هذا الشر يرجع إلى ما فينا من رغبة في التعدد لم تهدأ.
يقول: ولكن معظم هذا الشر يرجع في أكبر الظن في عصرنا الحاضر إلى التأجيل غير الطبيعي للحياة الزوجية، وما يحدث من إباحة بعد الزواج فهو في الغالب ثمرة التعود قبله، وقد نحاول فهم العلل الحيوية والاجتماعية في هذه الصناعة المزدهرة، وقد نتجاوز عنها باعتبار أنها أمر لا مفر منه في عالم خلقه الإنسان وهذا هو الرأي لمعظم المفكّرين في الوقت الحاضر، غير أنه من المخزي أن نرضى في سرور عن صورة نصف مليون فتاة أمريكية يقدمن أنفسهن ضحايا على مذبح الإباحية، ولا يقل الجانب الآخر من الصورة كآبة بأن كل رجل حين يؤجل الزواج يصاحب فتيات الشوارع ممن يتسكعن في ابتذال ظاهر.
ويقول ول ديورانت الذي أوردنا كلامه السابق: كان البشر في الماضي يتزوجون باكراً، وكان ذلك حلاً صحيحاً للمشكلة الجنسية، أما اليوم فقد أخذ سن الزوج يتأخر، كما أن هناك أشخاصاً لا يتوانون عن تبديل خواتم الخطبة مراراً عديدة، فالحكومات التي ستنجح في نص القوانين التي تسهل الزواج الباكر ستكون جديرة بالتقدير؛ لأنها تكشف بذلك أعظم حل لمشكلة الجنس في عصرنا الحاضر.
وكما قلت حينما نورد أقوال هؤلاء لا يعني أننا نحتج بهم، وأيضاً قد نتحفظ على كلمات كثيرة أو عبارات يوردونها، لكن المقصود أنه إذا كان أولئك وهم أصحاب الإباحية والفجور، وهم الذين لا يرون أي مانع وأي وازع من الممارسة القذرة المحرمة يدعون إلى الزواج المبكّر، فأصحاب الفطرة السليمة الذين يرون أن هذا سور لا يجوز أن يتجاوزوه، أولى وآكد أن يعنوا، وأن تصدر منهم مثل هذه الأقوال.(17/18)
ماذا نجني من الزواج المبكر(17/19)
المصالح المترتبة على الزواج عموماً
وأخيراً ماذا نجني من الزواج المبكّر؟ أولاً: الفوائد والمنافع السابقة التي سردناها كلها مصالح حين يبادر الشاب والفتاة في الزواج فإنهم يبادرون في تحصيل تلك المنافع والمصالح.(17/20)
التخلص من معاناة العزوبة وجحيم الشهوة
ثانياً: ما أشرنا إليه من معاناة الشاب والفتاة خصوصاً من جحيم الشهوة وألمها ومشكلاتها، والتي أصبحت تلاحق الشاب والفتاة أينما حل وحيثما ارتحل، في كل مكان، في المنزل، والشارع، واللقاء مع الزملاء والأصحاب، أو مع الزميلات والصاحبات، في الهاتف، إذا سافر، وإذا أقام صارت هذه الشهوة جحيماً يعاني منه الجميع، وخاصة الشباب، ففي الزواج المبكر حل لهذه المشكلة وهذا الداء الذي يعانون منه.(17/21)
الاستقرار النفسي والراحة
ثالثاً: الاستقرار النفسي والراحة: والاستقرار النفسي أمر يحتاج إليه الإنسان وخاصة الشاب، وإذا مرت هذه المرحلة دون أن يستقر فيها المرء استقراراً نفسياً ويعيش فيها حياة مستقرة فإنه يفوّت على نفسه فرصة ذهبية من فرص العمر لا تتكرر، ولا يمكن أبداً أن يعدلها ما يأتي بعدها، ولا يمكن أن يحقق الشاب ولا الفتاة الاستقرار النفسي التام دون الزواج.
ونعود مرة أخرى إلى إفادات الغربيين فيقول أحدهم: إن العزوبة الدائمة تعرض صاحبها إلى اضطراب نفسي مختلف الأنواع والصفات، فيفسد النفس، ويجعلها تتحلى بعدم الرحمة والقسوة والخفة والطيش وعدم الاتزان.
ويقول أحدهم وهو جورج انكتيل: منذ مطلع القرن العشرين والعزوبة تمثل على مسرح هذه الحياة شقاء ينتهي غالباً بالانتحار والجنون.
وسبق أن أشرنا إلى كثير من الإحصائيات، ولو تابعتم الإحصائيات التي تُنشر في أي بلد حتى في بلاد العالم الإسلامي لوجدتم أن النسبة العليا ممن يقعون في الإجرام هم من العزاب، ومن أسباب ذلك هو أن الأعزب يعيش حالة من عدم الاستقرار النفسي، وعدم الراحة والطمأنينة النفسية بخلاف المتزوج.
وهذا المعنى هو ما أشار الله عز وجل إليه في آيات كثيرة في شأن الزواج قال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم:21] فهذا داخل تحت معنى السكن، {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] وقال: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة:187] وامتن الله سبحانه وتعالى على عباده بالزواج في غير ما آية في كتاب الله عز وجل.(17/22)
الشعور بالمسؤولية
رابعاً: الشعور بالمسئولية؛ لأن الشاب والفتاة في هذا العصر ومع الهيكل التربوي والتعليمي الذي تسير عليه الأمة أجمع في هذا العصر، صاغ الحياة بصياغة تجعل الشاب والفتاة يعتمد على الآخرين، ولا يتحمل المسئولية في وقت مبكر، فيستمر الشاب والفتاة في الدراسة ستة عشر عاماً مع السنوات الست الأولى التي قبل الدراسة، فلا يتوظف بعد ذلك ويتحمل المسئولية إلا حين يكون عمره أربعة وعشرين عاماً، ولا شك أن هذا يشكل خللاً تربوياً.
والشاب والفتاة حتى تكمل شخصياتهم بحاجة إلى أن يتعودوا على تحمل المسئولية، والزواج من أهم الأمور التي تعين الشاب والفتاة على تحمل المسئولية، وعلى الشعور بها مما ينعكس أثره على سلوكه ابتداء واستقامته، ونرى كثيراً من الشباب والفتيات يستقرون وتستقيم أمورهم ويزدادون صلاحاً وطاعة بعد الزواج، ولا شك أن الزواج من الأسباب المعينة على ذلك، وأيضاً شعوره بالمسئولية يساهم في نمو شخصيته نمواً طبيعياً خاصة مع الهيكلية التربوية التي تعيشها مجتمعات المسلمين من تأخير سن تحمل المسئولية، فيتجاوز الشاب المرحلة الذهبية وهو لم يتحمل المسئولية بعد.(17/23)
إتاحة التربية السليمة للأبناء والبنات
خامساً: أن الزواج المبكر يتيح التربية السليمة للأبناء والبنات.
وذلك لأن الشاب إذا تزوج مبكراً ستكون المسافة العمرية بينه وبين ابنه قريبة، فيأتيه الأطفال قبل أن يصل عمر الثلاثين، فيحسن التعامل مع ابنه عندما يبلغ سن التكليف لأنه يكون في الأربعين أو في الخامسة والثلاثين، فيحسن التعامل معه، ويحسن تربيته، لكن إذا أخر الزواج فإنه عندما يكون عمره خمسين سنة أو ستين سنة يبلغ ابنه سن التكليف، فيكون الأب قد صار يعيش عقلية غير عقلية الشاب، وصار هناك فجوة حضارية، فإن مدة خمسين سنة كافية أن تتغير فيها العادات والطبائع والظروف، ولهذا فإن من أهم المعاناة التي نعاني منها تربوياً الآن، الفجوة الحضارية بين الأب والابن، وذلك أن الأب عاش في عصر والابن عاش في عصر آخر، فإذا كان الإنسان تزوج متأخراً سيكون فارق العمر بينه وبين ابنه، أو بين الأم وابنتها فارقاً واسعاً مما يوسع الفجوة الحضارية، وهذا لا شك يترتب عليه خلل في التربية.
أيضاً جانب آخر: من الأمور المهمة تربوياً أن يكون الأب يتعامل مع ابنه معاملة مودة وحسن عشرة ولطافة، والأم كذلك، حيث تسد الفراغ العاطفي الذي تعاني منه الفتاة، وكثير من المشكلات التي تعاني منها الفتيات الآن ترجع سببها إلى وجود فراغ عاطفي لم تسده الأم، وكذلك الشاب يجد أن الأب بعيد عنه.
طيب عندما يتزوج الإنسان كبير السن لا يستطيع أن يتبسط مع ابنه الشاب بقدر يسد له هذا الفراغ.
يمكن أن يعترض أحدكم فيقول: هذا بالنسبة للابن الأول والثاني والثالث، أو البنت الأولى والثانية والثالثة، لكن عندما يستمر الأبناء والبنات، إلى سن الأربعين والخمسين، والذين يأتون فيما بعد، فنقول: إنه إذا أحسن تربية الأبناء الأوائل فسيعينونه على تربية من يليهم مباشرة، وسيقومون بالدور الذي يقوم به الأب.
إذاً فمن أهم الأمور التي تعين الأب على تربية أبنائه وتعين الأم على تربية بناتها وأبنائها الزواج المبكر؛ لأنه يقلل من المسافة العمرية بين الأب أو الأم، وبين الابن أو البنت.(17/24)
التعاون على القيام بأعباء المنزل
سادساً: أن يتيسر من يقوم بأعباء المنزل بالنسبة للأب وبالنسبة للأم.
وهذا أمر مهم جداً؛ لأن الأب كلما تقدم به السن ازدادت مشاغله، فإذا كان قد بلغ الأربعين وجد عنده ابناً قد بلغ سن التكليف أو قريباً من ذلك، والأم أيضاً وجدت عندها بنتاً، فلا تحتاج إلى خادمة؛ لأنها قد وجدت من تقوم بأعباء المنزل، وإذا تزوجت ستليها بنت بعد ذلك؛ لأن الأصل هو كثرة النسل، والأب كذلك وجد الابن الذي يقوم عنه بأعباء المنزل، بخلاف الذي يتزوج متأخراً، فسيضطر بعد ذلك إلى حلول أخرى في قضية السائق أو الخادمة أو غير ذلك، أو يكون هناك مشكلات في أعباء المنزل مما يجعل الأب يتفرغ أكثر في المستقبل للتحصيل، يتفرغ للعبادة، يتفرغ لأمور خاصة إذا كان داعية وكان رجلاً مؤثراً، فيصبح المنزل لا يشكل عليه أي عبء وهو في عمر الأربعين في الريعان، وهي السن التي يمكن أن ينتج بها ويؤثر، فإن الأنبياء كانوا في هذه السن، وهذا بخلاف ما إذا كان قد تزوج متأخراً.(17/25)
كثرة الولد الصالح
سابعاً: الزواج المبكر مدعاة لكثرة الولد الصالح.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنه (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) فإذا تزوج مبكراً كان هذا أدعى إلى كثرة تحقيق الولد الصالح خاصة أنه سيتيسر له أن يربيه ويرعاه مما يحقق له بعد ذلك امتداداً لعمله بعد وفاته كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.(17/26)
نجابة الأولاد
ثامناً: كما قلنا نجابة الولد، فإن الولد إذا كان من أبوين شابين فإنه يكون أنجب خلقاً وخُلقاً، كما قال الماوردي: إن أنجب الأولاد خلقاً وخُلقاً من كان سن أمه بين العشرين والثلاثين.
وتوصلت بعض الدراسات الحديثة إلى أن الأمهات دون العشرين وفوق الخامسة والثلاثين يزيد احتمال إنجابهن للأطفال المتأخرين عن الأمهات التي تقع أعمارهن فيما بين العشرين والخامسة والثلاثين.
وتوصلت بعض الدراسات الحديثة إلى أن نسبة الأطفال المشوهين والمعتوهين تزداد تبعاً لعمر الأب، وخاصة بعد الخامسة والأربعين.
على كل حال هذه القضايا شأنها شأن أخبار بني إسرائيل مما يستأنس بها فإن صحت فأهلاً وسهلاً وإن لم تصح فليس الداعي الأول والأساس والأهم في الزواج المبكر هو نجابة الولد، بل الداعي لذلك تحقيق سنة الله عز وجل واتباع سنة المرسلين أياً كانت النتيجة، لكن لا شك أن من الظاهر والملحوظ أنه كلما كان الولد لزوجين في ريعان الشباب كان أكثر نجابة خلقاً وخُلقاً، والعكس كذلك، ولعل أيضاً التربية مما تؤثر في ذلك كما سبق أن قلنا.
هذه بعض الأمور التي تؤيد الزواج المبكر وتحث عليه والمبادرة فيه.(17/27)
رسالة يا إبني
وقبل أن أختم المحاضرة أذكر كلمة رائعة طويلة للأديب علي الطنطاوي في رسالة له يا إبني، لعلي أقرأ مقتطفات منها فهي طويلة يقول: لماذا تكتب إليّ على تردد واستحياء؟ تحسب أنك وحدك الذي يحس هذه الوقدة في أعصابه من ضرم الشهوة، وأنك أنت وحدك الذي اختص بها دون الناس أجمعين.
لا يا بني هوّن عليك، فليس الذي تشكو داءك وحدك، ولكنه داء الشباب، ولئن أرقك هذا الذي تجد وأنت في السابعة عشرة، فطالما أرّق كثيرين غيرك صغاراً وكباراً، ولطالما نفى عن عيونهم لذيذ الكرى، ولطالما صرف عن درسه التلميذ وعن عمله العامل وعن تجارته التاجر، فماذا يصنع الفتى في هذه السنوات وهي أشد سنين العمر اضطراب شهوة واضطراب جسد وهياجاً وغلياناً! ماذا يصنع؟ هذه هي المشكلة، أما سنة الله وطبيعة النفس فتقول له تزوج، وأما أوضاع المجتمع وأساليب التعليم فتقول له اختر إحدى ثلاث كلها شر، ولكن إياك أن تفكر في الرابعة التي هي وحدها الخير، وهي الزواج، أولاً: إما أن ينطوي على نفسه، على أوهام غريزته، وأحلام شهوته تدأب على التفكير فيها وتغذيها بالروايات الداعرة والأفلام الفاجرة والصور العاهرة، حتى تملأ وحدها نفسك وتستأثر بسمعك وبصرك، فلا ترى حيثما نظرت إلا صور الغيد الفواجر، تراهن في الكتاب إن فتحته، وفي طلعة البدر إن لمحته، وفي حمرة الشفق، وفي سواد الليل، وفي أحلام اليقظة، وفي رؤى المنام أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلى بكل سبيل ثم لا تنتهي بك الحال إلا إلى الهوس أو الجنون أو انهيار الأعصاب.
ثانياً: وإما أن تعمد إلى ما يسمونه الاستمناء (العادة السرية)، وقد تكلم في حكمه الفقهاء، وقال فيه الشعراء، وهو إن كان أقل الثلاثة شراً وأخفها ضرراً، لكنه إن جاوز حده ركب النفس بالهم، والجسم بالسقم، وجعل صاحبه الشاب كهلاً محطماً، كئيباً مستوحشاً يفر من الناس ويجبن عن لقاءهم، ويخاف الحياة ويهرب من تبعاتها، وهذا حكم على المرء بالموت وهو في رباط الحياة.
ثالثاً: وأما أن تغرف من حمئة اللذة المحرمة وتسلك سبل الضلال وتؤم بيوت الفحش، تبذل صحتك وشبابك ومستقبلك ودينك في لذة عارضة ومتعة عابرة، فإذاً أنت قد خسرت الشهادة التي تسعى إليها، والوظيفة التي تحرص عليها، والعلم الذي أمّلت فيه، ولن يبقى لك من قوتك وفتوتك ما تضرب به لجج العمل الحر، ولا تحسب بعد أنك تشبع! كلا، إنك كلما واصلت واحدة زادك الوصال نهماً، كشارب الماء الملح لا يزداد شرباً إلا ازداد عطشاً، ولو أنك عرفت آلاف منهن، ثم رأيت أخرى ممتنعة متمنعة عليك معرضة عنك لرغبت فيها وحدها، وأحسست من الألم لفقدها مثل الذي يحسه من لم يعرف امرأة قط، وهبك وجدت منهن كلما طلبت ووسعك السلطان والمال، فهل يسعك الجسد؟ وهل تقوى الصحة على حمل مطالب الشهوة؟ وكأني أسمعك تقول: هذا الداء فما الدواء؟ الدواء أن تعود إلى سنة الله وطبائع الأشياء التي طبعها الله علينا، إن الله ما حرم شيئاً إلا أحل شيئاً مكانه، حرم المراباة وأحل التجارة، وحرم الزنا وأحل الزواج، فالدواء هو الزواج، فإذا لم يتيسر لك الزواج فليس إلا التسامي، وأنا لا أريد أن أُعقّد هذا الفصل الذي كتبته ليكون مفهوماً واضحاً لمصطلحات علم النفس، لذلك أعمد إلى مثال أمثّله لك أترى إلى إبريق الشاي الذي يغلي على النار، إنك إن سددته فأحكمت سده وأوقدت عليه فجّره البخار المحبوس، وإن خرقته سال ماءه فاحترق الإبريق، وإن وصلت به ذراعاً كذراع القاطرة أدار لك المصنع وسيّر القطار وعمل الأعاجيب، فالأولى حال من يحبس نفسه على شهوته يفكر فيها ويعكف عليها، والثانية حال من يتبع سبيل الضلال ويؤم مواطن اللذة المحرمة، والثالثة حالة المتسامي المستعف إلى أن قال: هذا هو الدواء: الزواج وهو العلاج الكامل، فإن لم يمكن فالتسامي وهو مسكن مؤقت، ولكنه مسكن قوي ينفع ولا يؤذي.
ثم تحدث عن الاختلاط ودعوتهم إلى ذلك يقول: وإذا نحن جوزنا للشباب ارتيادها لاستغنوا بذلك عن الزواج، فماذا نصنع بالبنات؟ هل نفتح لهن أيضاً محلات عمومية فيها بغايا من الذكور؟ كلام فارغ يا بني والله، وما تقوله عقولهم ولكن غرائزهم، وما يريدون إصلاح الأخلاق، ولا تقدم المرأة، ولا نشر المدنية، ولا الروح الرياضية، ولا الحياة الجامعية، إنما هي ألفاظ يتلمظون بها ويبتدعون كل يوم جديداً منها يهولون بها على الناس ويروجون بها لدعوتهم، وما يريدون إلا أن نُخرج لهم بناتنا وأخواتنا ليستمتعوا برؤية الظاهر والمخفي من أجسادهن، وينالوا الحلال والحرام من المتعة بهن.
ثم قال بعد ذلك: وبعد، فيا بني عليك بالزواج ولو أنك طالب لا تزال، فإن لم تستطعه فاعتصم بخوف الله والانغماس في العبادة إلى آخر كلامه.
نكتفي بهذا القدر لنجيب على بعض الأسئلة.(17/28)
الأسئلة(17/29)
الاستحياء من سؤال الزواج
السؤال
أنا شاب ملتزم ولله الحمد ورغبت في الزواج، ولكن الحياء يمنعني من مفاتحة والدتي ووالدي بالزواج، أرجو منك توجيهي وتوجيه والدتي ووالدي وجزاك الله خيراً؟
الجواب
على كل حال أظن أن ضرورة الزواج ومطلبه تحتم عليك أن تتجاوز وتتسلق سور الحياء، وأظن أنك إذا استحيت من مفاتحة والديك بالزواج فأنت حتماً ستستحي مما بعده.(17/30)
البحث عن الزوجة الصالحة
السؤال
بعض الشباب تجده يرغب في الزواج ولكن تعوقه مشكلة قد تؤخره عن الزواج كثيراً، ألا وهي البحث عن الزوجة الصالحة النادرة في هذا الزمن، وربما يكون داعي الشهوة شديداً عليه ولكن يؤخر الزواج للبحث عن الصالحة، فماذا تنصحون رعاكم الله؟
الجواب
بعض الشباب عندما يرغب بالزواج يطرح بعض الشروط كأنه يطرح مناقصة تجارية، وهو أيضاً قد لا يحمل مؤهلات لأن يُرغب فيه، فحرص الشاب على رفيقة العمر وعلى مواصفاتها أمر مطلوب، لكن أيضاً يجب أن يعتدل، وأما ما يقوله بأن الزوجة الصالحة نادرة في هذا الزمان، فهذا قول غير صحيح ولا رصيد له من الواقع، فالحمد لله البيوت مليئة بالزوجات الصالحات الخيرات القانتات التي يصلحن لمثل هذا الشاب وأمثاله.(17/31)
الفتور في الهمة بعد الزواج
السؤال
نرى بعض الشباب قبل الزواج نشيطاً وحريصاً على الخير وما أن يتزوج حتى تقل الهمة، وربما يتخلف كثيراً عن صلاة الفجر مع الجماعة، فبماذا تنصحون هؤلاء الشباب؟
الجواب
هذه ظاهرة، لكننا نرى كثيراً أيضاً من الشباب ممن يكون مفرطاً مهملاً فإذا تزوج ازداد حرصاً وطاعة وعبادة لله عز وجل، فلماذا نأخذ هذه الصورة ونترك الصورة الأخرى، هذا جانب.
والجانب الثاني: إذا كان يحصل هذا من البعض فالداء ليس في أصل الزواج، فالزواج أمر شرعه الله عز وجل؛ لكن الداء عند هذا الشاب فعليه أن يصلح نفسه.(17/32)
الزواج سنة الأنبياء
السؤال
هل الأصل في المسلم الزواج؟
الجواب
نعم، هو الأصل وهو سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن رغب سنة النبي صلى الله عليه وسلم فليس منه.(17/33)
الزواج ومعوقات العمل الدعوي
السؤال
يعتبر البعض أن الزواج عائق عن العمل الدعوي وخاصة الزواج المبكر، أرجو التوضيح؟
الجواب
ليس كذلك، بل هو مما يعين الإنسان فيخلصه من أثر التفكير بالشهوات وهمومها ومصائبها فيتفرغ همّه وتفكيره لما هو أنفع وأولى، وأحرص الناس على الدعوة هم أنبياء الله عز وجل صلوات الله وسلامه عليهم، ومع ذلك ستتهم الزواج.(17/34)
عدم زواج شيخ الإسلام وغيره من العلماء
السؤال
ماذا عن حياة شيخ الإسلام خاصة أنه لم يتمكن من الزواج لانشغاله بالدعوة؟
الجواب
أولاً نُقل عن بعض أهل العلم أنهم تركوا الزواج أو لم يتزوجوا، لكن أفعال الرجال وأقوالهم ليست حجة، والحجة في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وما عليه سائر سلف الأمة، فإذا وجد من آحاد السلف استحب ترك الزواج ودعا إليه فقوله يُعرض على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فما وافق الكتاب والسنة قُبل وما عارضها رد، ويجب أن تكون هذه القضايا المنهجية قضايا بدهية عندنا، فعجيب أن تأتي للإنسان وتسوق له الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة، ثم يفجأك بأن فلاناً قال كذا، وفلاناً قال كذا، هذا هو التقليد المحض للرجال، بل هو مخالفة كتاب الله عز وجل، بل أنا نقلت لكم كلام شيخ الإسلام أصلاً من أنه يرى أن من يخاف على نفسه فإنه يقدم الزواج على الحج إذا لم يستطع إلا تقديم أحدهما، ألا يكفي هذا؟ كونه هو ما تزوج أنت لا تعرف ظروف الناس وأمورهم، وقضية قولهم إنه ترك الزواج لأجل الدعوة وغيرها، هذه قضية احتمال والمعنى لا يدركه إلا صاحبه، وقد يكون من تأخر عن الزواج من السلف عنده مانع من الموانع، قد يكون عنده سبب لم يبده، قد يكون عنده اجتهاد، أياً كان فالسنة هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن مضى من سلف الأمة، وما خالفها فنعتذر لصاحبه، ونرى أن له عذراً، لكن ليس عمله حجة، وبإمكانكم أن تقرءوا كتاب الشيخ بكر أبو زيد العلماء الذين لم يتزوجوا والرد على من وحد السبب.(17/35)
من يرغب عن النكاح
السؤال
ما رأيك فيمن أنهى المرحلة الجامعية، ولديه القدرة على الزواج من جميع النواحي، ولكنه إذا سأله واحد عن الزواج فإنه يقول: أنا أعلم أن الزواج سنة وأنه الأفضل، ولكن لا أجد في نفسي رغبة في الزواج؟
الجواب
ما له رغبة ماذا تصنع معه، هذا رجل يرغب عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم.(17/36)
إعراض بعض السلف عن الزواج تفرغاً لحب الله
السؤال
كان أحد السلف معرضاً عن النكاح، ولما قيل له: لم لا تتزوج؟ قال: إن تزوجت انصرف الحب الذي أصرفه لله إلى تلك المرأة التي تزوجتها، فما تعليقكم على ذلك؟
الجواب
الإجابة ما سبق في كلام الإمام أحمد رحمه الله أن هذه بنيات في الطريق، فانظروا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعليكم بها وما سوى ذلك فلا حجة فيه.(17/37)
الجمع بين آية (إن يكونوا فقراء يغنهم) وآية (وليستعفف)
السؤال
ما هو الجمع بين الآيتين: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33]؟
الجواب
الآية الأولى فيمن يمتنع عن النكاح خشية ألا يستطيع أن يقوم بأعباء النكاح فيما بعد، فيمكن أن نوسع الأمور وندبر له الزواج، لكن فيما بعد قد لا يجد المصدر، فالآية خطاب لهم: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] أي أن القضية المادية ليست عائقاً، أما الآية الثانية فهي في الذي لا يجد المهر، ولا يستطيع أن يجد تكاليف ابتداء الزواج.
فالآية الأولى في استدامة النفقة بعد الزواج، وأما الآية الثانية ففي تكاليف الزواج ابتداء بحيث إنه لا يستطيع أن يجد المهر الذي يتزوج به، وسيأتي أيضاً مزيد تفصيل لها إن شاء الله.(17/38)
إقبال الأب على فكرة تزويج ولده ثم إعراضه عن ذلك
السؤال
أنا شاب عرضت على أبي فكرة الزواج فسر بها واستبشر وحثني عليها، ثم بعد أن مضت فترة من الزمن أخطأت خطأ بسيطاً وهي زلة لسان مني، فإذا بأبي يفتر عن هذه الفكرة ويعرض عنها، بل وكأنه لم يعرفها بتاتاً، فما توجيهكم لي أولاً ولأبي ثانياً ولأمثالي ثالثاً؟
الجواب
توجيهنا لك أولاً أن تحاول أن تصحح الخطأ، ولعل ما يستقبل من الوقت يكون مدعاة لحل المشكلة، أما الأب فلا يجوز أن تكون مثل هذه القضايا التافهة عائقاً عن تحقيق هذا الأمر، والسنة التي يحتاج إليها الابن ويحتاج إليها المجتمع وتحتاج إليها الأمة جميعاً، وأما وصيتي لأمثاله ثالثاً فهي أن يحرصوا على الزواج.(17/39)
منع الولد الزواج بحجة أنه لا يستطيع النفقة
السؤال
أنا طالب أريد الزواج وغيري من الأصدقاء كذلك، لكن العائق الوحيد الوالدان يقولون: من أين تعيشها وتلبسها وأنت طالب؟
الجواب
الإجابة على ذلك قول الله عز وجل: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32].(17/40)
الامتناع عن الزواج مراعاة للأخت التي لم تتزوج
السؤال
أنا أريد الزواج ولكني أجد في نفسي شيئاً، حيث إن لي أختاً أكبر مني بثمان سنين ولم تتزوج وأخشى على نفسيتها من التحطيم، وأخشى أن ينظر الناس إليها بأنها لا تصلح للزواج بدليل أن ثلاثة من إخواني الذين هم أصغر منها قد تزوجوا، فما توجيهكم لنا حفظكم الله؟
الجواب
أولاً: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، ولا يعالج الخطأ بخطأ آخر، هذا ليس عائقاً، وليس صحيحاً أن الناس يتحطمون لأجل أن إخوانهم الصغار تزوجوا.
ثم الأمر الآخر: أنت بإمكانك أنك تسعى لحل المشكلة، فإذا عرفت رجلاً يريد الزواج هو شخص صالح وخيّر فيمكن أن تدله عليها، وقد ورد عن السلف أنهم كانوا يخطبون لبناتهم، وقد ورد ذلك عن أبي بكر وعمر وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يختارون لبناتهم الرجال الأكفاء، وليس ذلك عيباً، بل هو فخر.(17/41)
التأخر عن الزواج حتى لا تشترط عليه عدم الخروج من البيت
السؤال
إذا دخلت في الزواج فإنها قد تشترط عليّ أن أُكثر من الخروج من البيت، وحتى النوم خارج المنزل، فكيف يمكن لي البقاء في المنزل فأنا لست بطفل ولا امرأة، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
هو يعني يمكن يحتاج الإنسان إذا تزوج في الأيام الأولى أنه فعلاً أنه قد لا ينام خارج البيت، لكن فيما بعد قد يحتاج إلى أن يسافر ويذهب، وإذا كانت المرأة تستوحش بإمكانه أن يضعها عند أهلها، على كل حال هذه العقبات أتصور أنها لا تصل إلى مستوى التفكير فيها فضلاً عن مناقشتها، وخاصة أن قضية الزواج ليست مجرد فضيلة من الفضائل أو سنة من السنن! بل هي قضية أساسية وقضية مهمة وضرورة، فلا يمكن أن ترقى مثل هذه العقبات إلى أن تناقش أصلاً في مقابلها فضلاً عن أن تكون عائقاً حقيقاً.(17/42)
امتناع الفتيات من الزواج
السؤال
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم الباءة فليتزوج) الحديث، انطلاقاً من هذا الحديث أردت أن أُكمل نصف ديني وأبحث عن زوجة صالحة لي، ولكني وجدت صعوبة في هذا الطريق، فتلك تريد أن تُكمل دراستها، وتلك ترفض، وتلك وتلك، فأرجو أن توجه نصيحة لمثل هذه النوعية من الفتيات، خاصة أن هذه المحاضرة مسجلة وقد تنتشر بين أوساطهن؟
الجواب
في الواقع كل هذه المحاضرة أعتبرها نصيحة لهؤلاء الفتيات والشباب، والمشكلة أن الفتاة فيها أشياء لكن مزعجة لا نحب أن نزعجكم ونزعج الناس بها، وإلا فهناك أرقام مزعجة، لو أجرى واحد منكم إحصائية لمدرسة من المدارس لوجد عدداً كبيراً من النساء العوانس اللاتي فاتهن القطار.
وكم تجد من الفتيات من تتأخر بحجة أنها تحتاج مواصفات محددة في الزوج الذي تريده، أو تريد أن تُكمل الدراسة وتواصل الدراسة، ثم تكمل الدراسة وتتخرج وتتوظف، وماذا تصنع بعد ذلك في الوظيفة؟ تبحث عن زوج! لقد فاتها القطار، ولن تجد من يتزوجها إلا رجل عنده زوجة ثانية، وهي تشعر أنها مدرسة ومثقفة ومتعلمة وينبغي أن تكون زوجة وحيدة، أو تجد رجلاً كبير السن، أو تجد رجلاً لم يجد من يزوجه فاضطر إلى مثل هذه الفتاة الكبيرة؛ لأنه لم يجد إلا مثل هذه الفتاة التي قد تخرجت أصلاً من الدراسة وقد كبر سنها، أو بينه وبينها فارق كبير في السن، لكن حينما تتزوج وهي تدرس وهب أنها لم تكمل دراستها فالحياة الزوجية والأمومة والمنزل ورعايته خير لها بكثير من أن تتأخر ثم بعد ذلك تعض على أصابع الندم.(17/43)
حكم الزواج بامرأة أكبر سناً من الرجل
السؤال
هل يجوز نكاح زوجة أكبر سناً من المتزوج؟
الجواب
هذه قضية ليس فيها حرج، ولعلكم تعرفون الشواهد على ذلك، فالرسول صلى الله عليه وسلم تزوج خديجة وهي تكبره وأولى زوجاته، لكن عموماً أنصح الشاب أن يحرص على أن يتزوج من هي دونه في العمر، هذا هو الأصل، والقاعدة أن يكون بينه وبينها فارق زمني معقول أيضاً، لكن إذا زاد الفارق الزمني أيضاً فهذا وضع غير طبيعي، كإنسان عمره خمسين سنة أو خمسة وخمسين سنة يتزوج فتاة عمرها ثماني عشرة سنة! هذا أنا أعتبر أنه من الظلم للفتاة؛ لأن هذا لن يملأ الفراغ، ولن يحقق عندها الإشباع العاطفي، فهي فتاة تريد شاباً تعيش معه هموماً مشتركة، ومصالح مشتركة، وإلى غير ذلك، فمثل هذا الرجل كبير السن لا يمكن أن يحقق لها مثل هذا الفراغ، وقد ينتج عن ذلك نتائج سيئة، وبإمكانه أن يتزوج فتاة أكبر منها سناً ممن لم تتزوج.(17/44)
مواصفات الزوجة الصالحة
السؤال
الزواج يعتمد كثيراً بعد الله عز وجل على نوعية الزوجة وعلى طبيعة تربية النفس على أحكام الزواج من حسن عشرة وغير ذلك، فتعلمون أن بعض الشباب قد يتزوج زوجة تعطله كثيراً عن الخير والدعوة والجهاد والعلم، فهلا ذكرت بعض النصائح والمواصفات في الزوجة الصالحة، وذكرت أيضاً بعض النصائح في سلبيات الزواج، وكيفية تجنبها؟
الجواب
النبي صلى الله عليه وسلم يقول باختصار: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) ومن أهم المواصفات في الزوجة الصالحة أن تكون ذات دين، ومطيعة لله عز وجل، ثم أن تتخلق بخير ما يُمدح به النساء وهو الحياء، وأن تكون حسنة الخلق ليست شرسة ولا طويلة اللسان، وأن لا تكون كثيرة التشكي والجزع إلى غير ذلك، هذه من أهم المواصفات، قد يبقى أحياناً عند الإنسان مواصفات ومطالب خاصة تخصه هو، هذه قضية تعنيه هو.
أسأل الله عز وجل أن يرزقني وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(17/45)
أخطاؤنا في علاج الأخطاء
الإنسان عرضة للوقوع في الخطأ، ولكن إذا علمه من نفسه أو أعلمه به غيره فينبغي أن يعمل على تصحيح خطئه، ولكن من الملاحظ أننا عند علاج الخطأ قد نقع في أخطاء كثيرة ينبغي التنبه لها والعمل على تداركها.(18/1)
أهمية الكلام على عن علاج الأخطاء
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد: فلعله من طيب الفأل أن يتكرر لقاؤنا في مبدأ هذه الإجازة، وأظن أنا التقينا في مبدأ الإجازة الماضية في هذا المركز الصيفي ثانوية العز بن عبد السلام بالرياض في محاضرة كانت بعنوان: (كلانا على خير)، وكما ذكرنا في العام الماضي إن كنتم تتذكرون أن الدروس التربوية الشهرية التي كانت تلقى أثناء العام الدراسي تتوقف وتوزع في الإجازة على بعض المراكز أو المساجد، وهذا هو الدرس الأول في هذه الإجازة وكان آخر درس بعنوان: (وأنكحوا الأيامى منكم).
معشر الإخوة الكرام ليس غريباً أن نتحدث عن الأخطاء ونتحدث عن علاجها، وليس غريباً أن يتحدث أي متحدث عن الأخطاء سواء أكان حديثه من خلال منهج منضبط أم غير ذلك، ومن يتحدث عن الأخطاء لابد أن يجد أمامه رصيداً ضخماً؛ لأن البشر أياً كانوا، أياً لابد أن يقعوا في الخطأ والذنب فضلاً عن الخطأ الآخر الذي ليس إثماً ولا ذنباً إنما هو من قبيل الاجتهاد الذي يؤجر عليه صاحبه.
إذاً: فما دام الخطأ صفة ملازمة للبشر فإننا بحاجة إلى الحديث عن منهج علاج الأخطاء، وما دمنا نرى الأخطاء أمام ناظرينا فنحن بحاجة إلى أن نضبط المنهج حتى لا نقع في الخطأ ونحن نعالج الخطأ، وأمامي عدة أخطاء أشعر أننا جميعاً نقع فيها ونحن نعالج الأخطاء سواء كانت أخطاء أنفسنا فالمرء يدرك الخطأ والتقصير من نفسه ويسعى إلى تصحيحه وعلاجه، أو كانت أخطاؤنا في الميادين التربوية من خلال الأسرة أو من خلال المدرسة أو من خلال أي مؤسسة تربوية، فهي لابد أن تكتشف أنها تقع في الخطأ ومن ثم كانت بحاجة إلى أن تترسم معالم منهج واضح منضبط في علاج الأخطاء والتعامل معها.
ونحن أيضاً بحاجة إلى انضباط المنهج في التعامل مع الأخطاء في علاج أخطائنا العامة التي تقع في مجتمعاتنا والتي نسعى إلى علاجها، ونحن نقول هذا لأننا نرى جميعاً أننا نرتكب أخطاء باسم علاج الخطأ، وباسم التصحيح، وربما كان هذا الخطأ أكثر شناعة وأكثر خطأً من الخطأ الأول، وذلك راجع إلى افتقاد المنهج، إن من يسعى إلى تصحيح الخطأ قد يتصور أن حسن مقصده وسلامة نيته كاف في انضباط منهجه، فيرى أنه ما دام يريد الإصلاح والنصح فهذا وحده كاف في أن يرفع عنه اللوم، وهذا يؤهله أن يقول ما يشاء وأن يفعل ما يريد وأن يرتكب ما يحلو له باسم تصحيح الخطأ، ولئن كانت النية الحسنة وحدها ليست كافية في سلامة أي عمل وأي قول فهي كذلك أيضاً في تصحيح الخطأ.
ومن ثم كنا بحاجة إلى الحديث عن منهج تصحيح الأخطاء، وإلى الوقوف عند بعض أخطائنا التي نقع فيها ونحن نعالج الأخطاء، وربما كانت أكثر خطأً من الخطأ الذي حاولنا علاجه وإزالته.
وسنطوف في هذه القضايا أمام ميدان واسع رحب، فسنتحدث تارةً عن أخطاء أنفسنا، وتارة عن علاج الأخطاء التي تقع في المؤسسة التربوية الأولى (الأسرة)، وتارة في الأخطاء التي تقع في المؤسسات التربوية الأخرى كالمدرسة وغيرها، وتارة نتحدث عن المجتمعات وعن الصحوة، ولا جامع لهذا الحديث إلا أنه حديث عن الأخطاء لمعالجة الأخطاء.(18/2)
الأخطاء التي ترتكب عند التعامل مع الأخطاء(18/3)
إهمال علاج الخطأ والتهرب من التصحيح
أول خطأ نرتكبه في التعامل مع الأخطاء: إهمال علاج الخطأ أصلاً، والتهرب من التصحيح.
وهو أسلوب قد يسلكه المرء مع نفسه، فيمارس حيلاً لا شعورية، يتهرب فيها من المسئولية، ويتهرب فيها من تحميل النفس الخطأ، ويرفض أن يواجه بخطئه، ويرفض أن يقال له: أخطأت، فهو يرفض النقد جملة وتفصيلاً، تصريحاً وتلميحاً إشارة أو عبارة، وأحياناً أيضاً نرفض الخطأ في مناهجنا التربوية.
إننا لا بد أن نقع في الخطأ في ذوات أنفسنا أو في أعمالنا، في مؤسساتنا التربوية، أو على مستوى مجتمعاتنا ككل، أياً كانت أعمالنا وجهودنا لا بد أن نقع في الخطأ فيها، وحينئذٍ لا بد من المصارحة والوضوح والاعتراف بالخطأ، ورفض الحديث عن الأخطاء إنما هو استسلام للخطأ وإصرار عليه.
إنه لا يليق بالمرء أن يرفض المصارحة مع نفسه ومناقشة أخطائه، وأن يتهم النقد الموجه له من الآخرين، وكذلك لا يسوغ لنا داخل مؤسساتنا التربوية أن نرفض المراجعة.
إن من حقنا، بل من واجبنا أن نتحدث عن الأخطاء التي يقع فيها الأب تجاه تربيته لأبنائه حديثاً واضحاً صريحاً، ومن حقنا أن نتحدث عن الأخطاء التي تقع فيها الأمة في تربيتها لأبنائها وبناتها حديثاً صريحاً واضحاً.
إن من حقنا بل من واجبنا أن نطلب المراجع لمناهجنا التربوية، سواءً كانت في المؤسسة التعليمية أم التربوية، ومن حق أي ناقد مخلص أن يطالب بالتصحيح، وأن يبدي وجهة نظره في مناهج التربية وبرامجها داخل مؤسسات التربية الرسمية أو غيرها.
ومن حقنا داخل قطاع الصحوة أيضاً أن نرفع أصواتنا، وأن نطالب بإعادة النظر والتصفية ومراجعة البرامج التربوية تارة بعد أخرى، والتهرب من النقد والمراجعة واتهام من ينتقد إنما يعني الإصرار على الخطأ، واعتقاد العصمة للنفس، فلا بد أن نتربى وأن نربي غيرنا على أن تكون لغة النقد البناء لغة سائدة بين الجميع، وعلى أن يكون الحديث عن الأخطاء حديثاً لا تقف دونه الحواجز ولا العوائق، ما دام ذلك داخلاً في إطار النصيحة.(18/4)
ردة الفعل وعلاج الخطأ بالخطأ
الخطأ الثاني: ردة الفعل، وعلاج الخطأ بخطأ آخر.
وهذا غالباً ما ينشأ عن زيادة الحماس لمواجهة هذا الخطأ، ولنضرب على ذلك أمثلة: قد يكتشف الإنسان خطأً في نفسه، وحينئذٍ يدعوه الحماس إلى تصحيح هذا الخطأ فيتعامل مع نفسه بردة فعل، ويتعامل مع هذا الخطأ بخطأ آخر، فربما كلف نفسه ما لا يطيق، وربما وقع في خطأ آخر مقابل لهذا الخطأ.
فعلى سبيل المثال: حين يكتشف المرء مثلاً أنه مقصر في طلب العلم الشرعي، ويرى أن أقرانه قد فاقوه وسبقوه، فسيسعى إلى تصحيح الخطأ، ويرسم لنفسه برنامجاً طموحاً لا يطيقه ولا يصبر على بعضه فضلاً عن أن يحيط به كله، وحين يبدأ التنفيذ ويخوض الميدان يصطدم بالواقع، ويرى أن ثمة مسافة هائلة بين المثال والواقع، أي: بين تلك الصورة التي رسمها لنفسه وكان يتطلع إليها، وبين ما كان يمكن أن يصل إليه من قدرٍ من التصحيح، وحين يصل إلى هذا الحال فإنه في الأغلب لا يعود إلى التوازن مرة أخرى، فلو رسم لنفسه مثلاً مقداراً من الحفظ أو قدراً من الوقت يقرأ فيه، أو قدراً من الدروس العلمية يلتزم بحضورها، واكتشف بعد فترة أن هذا البرنامج كان مثالياً وأنه خطأ، فإنه لا يعود إلى التوازن حتى وهو يصحح هذا الخطأ.
إذاً: فيجب أن نحذر الحذر الشديد عند تصحيح أخطاء أنفسنا من الوقوع في ردة الفعل التي قد توقعنا في الغلو والمبالغة، أو قد توقعنا في خطأ آخر في طرف مقابل.
فهذا الذي اكتشف أنه قد وقع في خطأ وإهمال في طلب العلم الشرعي قد يدعوه ذلك إلى إهمال واجبات أخرى، وما أكثر ما نقع في ذلك! وقد يكون الخطأ تجاه أعمال الآخرين، فقد جاء مثلاً أعرابي إلى المسجد وبال فيه فأراد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يعالجوا هذا الخطأ، لكن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم أن يعالجوا الخطأ بخطأ آخر كما هو معلوم.
بل القضية تتعدى ذلك حين تكون ردة الفعل مسئولة عن رسم المناهج أصلاً.
فكم نرى من مناهج للتغيير يراهن أصحابها عليها، ويرون أنه لا منهج لتغيير الأمة إلا هذا المنهج، ولا طريق إلا هذا الطريق، وأي امرئ يسلك غير هذا الطريق لا يتصرف هذا التصرف الذي يتطرف فيه أصحابه فهو ضال منحرف زائغ، فهو لا يملك التأهل لإنقاذ الأمة والتغيير، وحين تتأمل في هذا المنهج كله تراه لا يعدو أن يكون ردة فعل تجاه خطأ آخر، ولا نريد أن نضرب الأمثلة فهي واضحة؛ لأن ضرب الأمثلة قد يثير بعض الحساسية، خاصة في الحديث عن مناهج التغيير والمناهج الدعوية.
لكن أنت لو تأملت الواقع ووضعت أمامك قائمة من مناهج التغيير المطروحة في الساحة، لرأيت أن عدداً منها لا يعدو أن يكون ردة فعل لعلاج خطأ في مناهج أخرى، والغالب أن الموقف الذي تتحكم فيه ردة الفعل يقع في خطأ آخر مقابل الخطأ الأول، وربما كان أشد خطأً منه.
إذاً ونحن نعالج الأخطاء، سواء كانت أخطاء أنفسنا أو أخطاء الآخرين، فلا يسوغ أن نعالج الخطأ بخطأ آخر، ولا يسوغ أن ننطلق من ردة فعل دون تأمل فيما نريد أن نسعى إليه، ودون تأمل في المنهج الذي نطرحه بديلاً لعلاج ذلك الخطأ.(18/5)
رفض التصحيح العلني
ثالثاً: من أخطائنا في معالجة الأخطاء: رفض التصحيح العلني للأخطاء جملة.
نعم هناك أخطاء ينبغي أن تصحح من خلال قنوات خاصة، ومن خلال طرق شخصية وسرية، لكن ثمة أخطاء ومنكرات وقضايا لا بد أن يتحدث عنها، ولا بد أن تعالج تحت ضوء الشمس، ولا بد أن تعالج بوضوح، ومناط الأمر في ذلك كله يعود إلى المصلحة الشرعية، فحيث تقتضي المصلحة الشرعية علاج هذا الخطأ سراً وبطريقة شخصية، فإنه ينبغي أن يعالج كذلك، وحيث تقتضي المصلحة الشرعية علاج هذا الخطأ بصورة علنية واضحة، فالطريقة المثلى هي هذه الطريقة.
وإذا كان الأمر يدور مع المصلحة الشرعية، فلا شك أننا قد نجد داخل هذه الدائرة مجالاً للاجتهاد في بعض الجوانب.
لكن أن نرفض التصحيح العلني للأخطاء جملة فهذا منهج مرفوض، وهو ناشئ أصلاً من عقدة رفض النقد ابتداءً، حيث قد تربينا على رفض النقد، وتربينا على اعتبار أن النقد والحديث عن الأخطاء يعني بالضرورة الضلال والتأثيم والفشل والعداوة إلى غير ذلك من اللوازم التي نربطها بتصحيح الخطأ، وسيأتي مزيد حديث عن هذه القضية، لكن لو افترضنا ورأينا أنه يمكن أن يكون هناك حديث ونقد بناء عن الخطأ مع حسن النية وسلامة المقصد لاستطعنا أن نبني منهجاً سليماً للنقد يمكن أن يستفيد منه الجميع، ونحن نرى مثلاً ونقرأ في الصحف كثيراً من المقترحات ونقد بعض الأوضاع في المجتمع والمطالبة بالتصحيح، فنرى مثلاً من يطالب بزيادة اليوم الدراسي، ونرى من يطالب بإضافة مادة من المواد، وبتقليص مادة من المواد، والجميع يتحدثون ولا أحد يرى أن في مثل هذا الحديث طعناً في المناهج التربوية، واتهاماً لها بالفشل والقصور، وعدم الوفاء بمتطلبات العصر، بل الجميع يرون أنه يمكن أن نتحدث ونقترح، وليس بالضرورة أن يكون كل حديث صواباً صحيحاً، ثم ليس بالضرورة أن يكون كل حديث عن الخطأ إنما هو حديث مقرون بسوء النية والمقصد، لكن حين يتحدث المصلحون مثلاً عن المطالبة بالتصحيح يواجهون بألوان من الإرهاب الفكري والمحاصرة للكلمة من الصادقين ابتداءً قبل غيرهم، كمن يقول: إن في هذا الكلام طعناً واتهاماً وإثارة للبلبلة إلى غير ذلك من الأوصاف التي يوصف بها الناصحون.
إن مجتمعات المسلمين تعاني من أزمات كثيرة، ولنذكر مثلاً مشكلة المخدرات، فهي مشكلة تعاني منها مجتمعات المسلمين أجمع، والدليل على هذا أنك لا ترى دولة من دول المسلمين إلا وفيها جهاز أمني متكامل لمكافحة المخدرات، ويتحدث عنها في الصحف ووسائل الإعلام ويكتب عنها تحذيراً من الوقوع في هذه المشكلة، ومحاولة لعلاج من وقع فيها، إلى آخر المقاصد التي تدفع للحديث عن هذه المشكلة، ونرى أن مشكلات مجتمعات المسلمين الأخرى شأنها شأن هذه المشكلة ينبغي أن نتحدث عنها بوضوح، وعن انتشارها في المجتمعات، فلماذا تكون عندنا حساسية مفرطة، فعندما يتحدث عن انتشار بعض المشكلات في المجتمعات يقال إن في هذا تشكيكاً في المجتمع، وفي هذا إثارة للبلبلة وهذا الحديث طعن في المجتمع إلى غير ذلك، ولم يقل أحد من الناس مثلاً إن تخصيص أجهزة خاصة لمكافحة المخدرات يعني اتهام المجتمع بأنه غارق في ظاهرة المخدرات.
وحين نعود إلى تاريخ الأمة نرى أنها بنت منهجاً واضحاً للنقد العلني الواضح، ولم تر ذلك يعني الطعن ولا التشكيك، فيقوم أحد الرعية لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يخطب الناس على المنبر، فيواجهه بالحديث عن الخطأ علانية، ويناقشه عمر رضي الله عنه حتى يقتنع الجميع، وتحصل الحادثة نفسها مع معاوية رضي الله عنها وهو خليفة.
ونرى تلك الاختيارات الفقهية التي اختارها عمر، أو عثمان أو علي أو غيرهم حول جمع المصاحف، أو حول متعة الحج، أو حول الإتمام في الحج واجهت انتقاداً علنياً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهم يرون أنهم لا يزالون إخوة.
ونرى مثلاً أبا سعيد الخدري رضي الله عنه ينكر على مروان حين كان والياً على المدينة، وقد قدم خطبة العيد على الصلاة، فيقول له في محضر من الناس: خالفت السنة يا مروان.
ونرى من ينكر على بشر حين حرك يديه في الخطبة ويخبر أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزيد على أن يشير بالسبابة.
وحين ندعو إلى إهمال التصحيح العلني والحديث عن الأخطاء، فإن هذه دعوة إلى إلغاء التراث الذي حفظ لنا عن انتقاد المبتدعة، والحديث عن أسمائهم، والحديث عن أخطائهم، وانتقاد مناهجهم، وهذا يدعو إلى أن نصادر كل حدث وكل رواية وكل موقف قام فيه أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو قام فيه سلف الأمة، أو قام من تلاهم بعد ذلك من الناصحين، وأن نغض الطرف عنها، وأن لا نخرجها للناس؛ لأن هذه تربي الناس على الحديث العلني عن الخطأ.
بل لعل هذا المنهج يدعونا إلى التعسف في تأويل نصوص صحت عنه صلى الله عليه وسلم واضحة وضوح الشمس، فقد بايع صلى الله عليه وسلم أصحابه على السمع والطاع(18/6)
المثالية
رابعاً: من أخطائنا في معالجة الأخطاء: المثالية.
أن نكون مثاليين، فنطلب من أنفسنا أو من أبنائنا أو بناتنا، أو مجتمعاتنا، أو جيل الصحوة صورة مثالية، ثم نحاسبهم عليها، فالأم -مثلاً- كثيراً ما تعاتب أطفالها، وربما تعاقبهم على أخطاء لا بد أن يقع فيها الطفل ما دام طفلاً، فحين يأتي الطفل ويعبث ببعض أثاث المنزل، أو يعمد إلى آنية فيكسرها، أو يسيء إلى أحد إخوانه الصغار تعاتبه الأم وتعاقبه، وربما كانت العقوبة شديدة.
وهي تطلب منه أن يكون منضبطاً مثالياً، فلا يسيء إلى إخوانه الصغار، ولا يعبث بالتراب، ولا يعبث بالأثاث، ولا يرفع صوته، ولا يبكي، ولا إلى آخر هذه القائمة.
ولو راجعنا تعاملنا مع أبنائنا الصغار؛ لرأينا أننا مثاليون كثيراً، فنطلب منهم صورة مثالية لا يمكن أن يصلوا إليها، وبناءً على هذه الصورة التي نرسمها نحاسبهم عليها، فنحن نرسم صورة نريد أن يصلوا إليها، وحين يتخلفوا عن هذه الصورة، نرى أنهم قد وقعوا في الخطأ، وقل مثل ذلك مثلاً في الدعاة إلى الله عز وجل، وطلبة العلم، والشباب الأخيار، فالمجتمع وغيره ممن ينظر إليهم يطلب منهم صورة مثالية، وأقول بكل ثقة: إننا كثيراً ما نطلب منهم أن يكونوا معصومين، فنطالب منهم التجرد عن ذواتهم، والارتفاع عن كل ما يقع فيه البشر، وحين نرسم صورة مثالية للداعية أو لطالب العلم فهي صورة نظرية بعيدة عن الواقع الذي نعيشه، وبعيدة عن الواقع البشري، لكننا نحاسبهم عليها، ويترتب على هذا أن نعتبر من الأخطاء ما ليس كذلك.
وقل مثل ذلك مثلاً في الطالب: فالأستاذ قد يرسم صورة مثالية للطالب فيرى أنه ذاك الطالب الذي يلتزم بالأدب التام، فلا يسيء الأدب مع أستاذه في استئذانه وحديثه، ولا يسيء الأدب مع زملائه، ولا يمكن أن يتأخر عن أداء الواجب يوماً من الأيام، ولا بد أن يفهم ما يلقى عليه فهماً سليماً، ولا يسوغ له أن ينشغل عن الدرس، ولا أن يلهو ولا أن يتأخر عن الحضور إلى الفصل، ولا أن يغيب، ولا أن يمرض، ولا أن تصيبه عوارض، فيرسم هذه الصورة ويحاسب تلميذه بناءً عليها، ويطلب من التلميذ أن يعيش في جو مثالي، والأستاذ نفسه حين كان تلميذاً لم يصل إلى جزء مما يطالب تلامذته أن يصلوا إليه، وحين يكون الأستاذ والمربي واقعياً في التعامل مع من يربيه، فهو حينئذ لا بد أن يأخذ في الذهن أنه يتعامل مع بشر تأخذه عوارض النقص والغفلة والنسيان والهوى إلى غير ذلك، فحينئذٍ يضع الأخطاء في إطارها الطبيعي وحجمها المعقول.(18/7)
الاعتذار المفرط
الخطأ الخامس: خطأ مقابل للخطأ السابق، وهو أن نعتذر بأننا بشر: صحيح أن البشر لا بد أن يقعوا في الخطأ، لكن ليس هذا عذراً نضرب به في وجه كل من يطالب بالتصحيح، وحين نقول هذا العذر فإننا يجب أن نقوله ونحن نحمل العزيمة والإرادة الجادة والاستعداد للتصحيح، وأن نحمل تبعة هذا الخطأ.
أضرب لك مثالاً: أنظمة المرور تطالب الإنسان الذي يسير في الطريق أن يكون منتبهاً، وأن يضع مسافة بينه وبين السيارة التي أمامه، لكن الإنسان بشر قد ينشغل فتقف السيارة التي أمامه فجأة فيصطدم بها، وحين يطالبه هذا الشخص بأن يتحمل مسئولية الخطأ الذي وقع فيه، وأن يقوم بإصلاح سيارته فإنه لا يقبل منه بحال أن يعتذر عنه بأنه بشر والبشر قد ينسى وقد يسهو وقد يغفل، وقد وقد، نعم قد يفعل ذلك كله، لكن عليه أن يتحمل تبعة الخطأ الذي وقع فيه، فيقوم بإصلاح ما أفسد، ولهذا فالخطأ الذي يقع من الإنسان ويترتب عليه تلف في أموال الآخرين أو أبدانهم لا يعذر فيه بالخطأ عن التبعات، فقتل الخطأ مثلاً يطالب الإنسان فيه أن يدفع الدية، ولو أتلف مال غيره خطأً فهو مطالب بالضمان، مع أنه بشر، وقيمة الخطأ هنا أنه رفع عنه الإثم، لكن بقي أن يتحمل تبعة الخطأ.
المقصود أننا يجب أن نتوازن، فلا نطلب من الناس المثالية، ولا ندافع عن أخطائهم، ونسوغ أخطاءهم بحجة أنهم بشر، فقد نرى الأب كثيراً ما يعتذر عن ابنه بأنه مراهق، وأن هذا شأن الشباب، وقد نرى أستاذاً يعتذر عن حال طلابه بأنهم مراهقون، وربما نعتذر عن الكبائر بحجة أن من يفعلها بشر، وبحجة أنهم مراهقون، وبحجة أنهم يعيشون في عصر مليء بالفتن والمغريات إلى غير ذلك.(18/8)
أساليب الإسقاط والتبرير وغيرها من أساليب الدفاع عن الأخطاء
الخطأ السادس: أساليب الإسقاط والتبرير وغيرها من أساليب الدفاع عن الأخطاء: قد نعترف بالخطأ لكننا لا نحمل أنفسنا مسئولية الخطأ، فنحاول مثلاً أن نحمل غيرنا الخطأ، أو نحاول أن نبحث عن أسباب وعوامل وهمية نعلق عليها مسئولية الخطأ، وقد تحدثنا عن هذه القضية في درس سابق بعنوان: (دعوة للمصارحة) فلا نريد أن نطيل فيها.(18/9)
الخطأ في مقاييس تحديد الخطأ
الخطأ السابع: الخطأ في مقاييس تحديد الخطأ.
عندما نقول إن هذا الأمر خطأ فعلى أي أساس اعتبرنا أن هذا الأمر خطأ، فأحياناً قد نعتبر الخروج عن المألوف خطأ، وقد نعتبر من يأتي بشيء جديد مخطئاً، لا لشيء إلا لأنه جاء بأمر جديد لم نألفه، وأظن أن هذا المنطق مرفوض من الجميع، وهذا منطق عقلية الذين يرفضون التجديد، والمنطق نفسه هو الذي قاد قوماً من الناس إلى أن قالوا: إنا وجدنا آبائنا على أمة.
أيضاً: أن يكون المقياس مثلاً قول فلان من الناس، فنعتبر أن من خالف قول فلان من الناس فقد أخطأ، ونعتبر أن فلاناً هذا هو الحاكم على أقوال الناس وعلى أعمال الناس، وهذا منهج مرفوض تحدث عنه أئمة الإسلام، ممن تحدث عن ذلك شيخ الإسلام في مواضع كثيرة، ومما قاله في ذلك: وإذا قيل لهذا المستهدي المسترشد: أنت أعلم أم الإمام الفلاني كانت هذه معارضة فاسدة؛ لأن الإمام الفلاني قد خالفه في هذه المسألة من هو نظيره من الأئمة، ولست أعلم من هذا ولا هذا، ولكن نسبة هؤلاء إلى الأئمة كنسبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي ومعاذ ونحوهم إلى الأئمة ونحوهم، إلى آخر كلامه.
يعني أنك مثلاً عندما يقول فلان من الناس قولاً يخالف قول هذا الرجل الذي جعلته حكماً، فإنه وإن خالف قول هذا الرجل الذي هو أعلم منه ولا شك وأتقى منه، إلا أنه قد وافق غيره ممن هو أعلم من هذا العلم الذي نصبته حاكماً على أقوال الناس وعلى آرائهم.
وقال أيضاً: قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10]، وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، فالأمور المشتركة بين الأمة لا يحكم فيها إلا الكتاب والسنة، ليس لأحد أن يلزم الناس بقول عالم ولا أمير ولا شيخ ولا ملك.
فالحكم هو الكتاب والسنة، ولا يسوغ أن نجعل قول فلان من الناس هو المقياس فمن خالفه وشذ عنه فهو الواقع في الخطأ، وهذا منطق المقلد، ومنطق الإرهاب الفكري، فليس أحد كائناً من كان حجة على هذه الأمة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي يجادل ويحاج ويخطئ الناس ينبغي أن يجادل ويحاج بالمنطق والدليل والبرهان الشرعي.(18/10)
الخطأ في التعامل مع مسائل الاجتهاد
الخطأ الثامن: الخطأ في التعامل مع مسائل الاجتهاد: وذلك أن هناك مسائل هي مسائل اجتهاد الأمر فيها سائغ، وقد اختلفت الأمة فيها، ولا يزال الخلاف فيها إلى أن تقوم الساعة، وحين نعمد إلى تخطئة الناس في هذه المسائل، وربما التشنيع والتغليظ عليهم فإن هذا منهج مرفوض.
وقد تحدث الأئمة عن ذلك في باب الإنكار، قال ابن قدامة: لا ينبغي لأحد أن ينكر على غيره العمل بغير مذهبه، فإنه لا إنكار في المجتهدات.
وقال الإمام النووي، ثم العلماء لا ينكرون إلا ما أجمعت عليه الأمة، وأما المختلف فيه فلا إنكار فيه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: بل المجتهد المخطئ لا يجوز ذمه بإجماع المسلمين.
فما بالكم بما هو أعلى من الذم من الاتهام بالضلال والانحراف والخلل في المنهج، إلى غير ذلك، بحجة أنه خالف في مسألة من مسائل الاجتهاد! وقال أيضاً: مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه، ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه، والأقوال عن الأئمة في ذلك محفوظة مشهورة مدونة، أن مسائل الاجتهاد وهي التي ليس فيها دليل قاطع صريح من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسوغ أن ننكر على الناس فيها، ونخطئهم ونؤثمهم خاصة إذا انطلقوا من الاجتهاد، بل إننا نرى أن هناك من يحول بعض مسائل الاجتهاد إلى أصول وإلى منهج فيقيم الناس من خلاله ويضللهم ويخطئهم ويؤثمهم عليه.
ولنضرب على ذلك مثالاً حتى تكون الصورة واضحة: نحن مثلاً في هذا المركز الصيفي، يقوم بعض الإخوة العاملين في المراكز الصيفية ببعض الأنشطة المستحدثة المعاصرة والتي اختلف أهل العلم في مشروعيتها وعدم مشروعيتها، وعلى سبيل المثال مثلاً قضية التمثيل وغيره، ولا نريد أن نخوض في هذه المسائل، لكن أياً كان الرأي الذي نصل إليه، فهي مسائل اجتهاد ليس فيها نص صريح واضح يقطع بحرمتها وعدم مشروعيتها أو يقطع بالعكس، ولئن توصلت أنت إلى قناعة تامة أدت بك إلى أن لا تشك في أن قولك حق، فيجب أن تتصور أن هناك من أهل العلم الذين لا يقلون عنك علماً وورعاً قد قالوا بخلاف ذلك، وهذا لا يعني بالضرورة أن قولهم أصح من قولك، لكنه يعني أن القضية دائرة في مجال الاجتهاد، فلماذا تقام معارك حول هذه القضية، ونجعل هذه القضية من المنهج الثابت للدعوة، بل لمستوى أن تجد من يجعل أن من منهج الدعوة تحريم التمثيل، أو يعتبر بعض الناس عندهم خلل في منهج الدعوة وذلك أنهم يقعون في التمثيل، يعني إذا قررت أنها خطأ فضعها في حجمها الطبيعي، وافترض مثلاً أنه آثم، مع أننا لا نرى أنه آثم ما دام مستنداً على اجتهاد وفتوى لأحد من أهل العلم في مثل هذه المسألة، فغاية ما عنده أنه مجتهد مخطئ، لكن حتى لو قررت أنه آثم فهل يعني أنه صار منحرفاً ضالاً، وصار عنده خلل في المنهج، وينبغي منابذته وهجره، وأنه لا يمكن أن يصلح الأمة ولا يمكن أن يفعل خيراً إلى غير ذلك.
بل هناك من يشن حرباً على بعض هذه الأنشطة ولو ناقشته وجدت أن السبب هو هذه القضية وقل مثل ذلك في قضايا أخرى، وكلها ناشئة عن ضيق العطن حول مسائل الاجتهاد وحول التعامل معها، فقد يبحث البعض مثلاً مسألة من مسائل الاجتهاد، ويستقصي أدلتها فيتضح له أن الأدلة الشرعية تدل على هذا القول، فمن حقه أن يصل إلى هذه القناعة أو يتبنى هذا الرأي أو يعلنه للناس.
فقد يبحث البعض مثلاً مسألة من مسائل الاجتهاد ويستقصي أدلتها، فيتضح له أن الأدلة الشرعية تدل إلى هذا القول، فمن حقه أن يصل إلى هذه القناعة أو يتبنى هذا الرأي أو يعلنه للناس، لكن ليس من حقه أن يصادر اجتهادات الآخرين وأن يسفه قناعاتهم بحجة أن هذا هو مقتضى الكتاب والسنة، وهو ما تؤيده الأدلة الشرعية، فالمعرض عنه معرض عن الكتاب والسنة، والرافض له رافض لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو إما مقلد أو صاحب هوى، وكم تقذف لنا المطابع ودور النشر من كتاب يبحث مسألة من مسائل الاجتهاد، والتي اختلف السلف فيها، ولكل قول مرجح من الأئمة المعتبرين، فتقرأ في مقدمة الكتاب أو البحث أن هذا البحث جاء ليضع النقاط على الحروف في هذه المسألة المعضلة والتي كثر الجدل حولها وطال، ويبحث صاحبنا فيجير كل القواعد الحديثية والفقهية والأصولية لصالح ما توصل إليه.
ونحن لا نعترض على بحث هذه المسائل والاستقصاء فيها ونقاشها، لكن أن يصور الباحث للناس أن هذا البحث جاء ليقطع في هذه المسألة، ويضع النقاط على الحروف، ويستخدم كل القواعد الأصولية والفقهية، وكل قواعد مصطلح الحديث لتؤيد قوله في هذه المسألة التي اختلفت فيها الأمة من قبل، فأظن أن هذا منهج مرفوض.
نعم.
من حقك أن تقضي ساعات طويلة في تقرير قولك، بل تؤلف وتناظر عليه، لكن ينبغي أن تحترم اجتهادات الآخرين، وينبغي أن ترى أنه مع ذلك لا تزال هذه المسألة مسألة اجتهاد.
وقد نرى الصورة تتكرر في مجال آخر، فقد يأتي بعض الناس إلى تحقيق كتاب لأحد الأئمة، ويرجح الإمام ابن القيم أو غيره قولاً في مسأ(18/11)
افتراض التلازم بين الخطأ والإثم
من الأخطاء وهو الخطأ التاسع: افتراض التلازم بين الخطأ والإثم والضلال، وذلك أننا قد نتصور أن الخطأ يعني بالضرورة الإثم، وأننا حينما نقول: أخطأ فلان، معناه أنه آثم، وأنه منحرف، وأنه غير مؤهل، إلى غير ذلك، وهذه من أكبر العقد لمواجهة النقد، وأظن أننا لو حطمنا هذا الوثن، ولو قضينا على هذه الإشكالية لاستطعنا أن نبني منهجاً سليماً للنقد.
وذلك مثلاً: أن نتصور أنه عندما يأتي شخص ويقول إن فلاناً من الناس أخطأ، فلا غضاضة، ولا يعني أنه فاشل، ولا آثم، إلى غير ذلك، حين نستوعب هذه القضية وتكون واضحة يهون الخطأ عندنا، ونتقبل النقد، لكن المشكلة أننا نتصور أن من يقول: إن فلاناً أخطأ فهذا يعني اتهامه بالجهل، والحط من شأنه وعلمه ومكانته، ولهذا عندما تتحدث عن قضية وتخالف اجتهاد غيرك يشغب عليك في الحديث عن مكانة العالم، أو مكانة فلان أو إلى غير ذلك، وكأن هذا اتهام لك بأنك لا تعتبر مكانة لأهل العلم.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: فأما الصديقون والشهداء والصالحون فليسوا بمعصومين، وهذا في الذنوب المحققة -يعني في القضايا التي يعلم أنها ذنب حقاً- وأما ما اجتهدوا فيه فتارة يصيبون وتارة يخطئون، فإذا ما اجتهدوا فأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا وأخطئوا فلهم أجر على اجتهادهم، وخطؤهم مغفور لهم، وأهل الضلال يجعلون الخطأ والإثم متلازمين، فتارةً يغلون فيهم ويقولون إنهم معصومون، وتارة يجفون عنهم ويقولون إنهم باغون بالخطأ، لأنهم لا يعرفون التوسط وأهل العلم والإيمان لا يعصمون ولا يؤثمون، ومن هذا الباب تولد كثير من فرق أهل البدع والضلال.
وقال أيضاً: وإذا ثبت في الكتاب المفسر بالسنة أن الله قد غفر لهذه الأمة الخطأ والنسيان، فهذا عام عموماً محفوظاً، وليس في الأدلة الشرعية ما يوجب أن الله يعذب من هذه الأمة مخطئاً على خطئه.
افتراض التلازم بين الخطأ والإثم، أو الخطأ والانحراف، ينشأ عنه خطآن: الخطأ الأول: رفض التصحيح والنقد؛ لأنه بالضرورة يعني التأثيم والضلال.
الخطأ الثاني: الطعن في الشخص أو اعتقاد زيغه إذا وقع في الخطأ.
لكن لو فرضنا أنه لا تلازم وأن الخطأ لا يعني الإثم، وهذا من منهج أهل السنة كما قرره شيخ الإسلام فإننا نستطيع أن نتقبل القول أن فلاناً من الناس يقع في الخطأ، ونحفظ له مكانته وقيمته، وأنت عندما تكتشف عند نفسك خطأ رقم واحد واثنين وثلاثة، فترى أن الخطأ لا يعني أنك فاشل، يكون أمامك فرصة للتصحيح، لكن عندما ترى أن الخطأ يساوي بالضرورة الفشل، ويساوي بالضرورة عدم النجاح، فإن هذا سيكون عائقاً لك ومثبطاً عن التصحيح.(18/12)
إهمال البعد الزمني في تصحيح الخطأ
عاشراً: إهمال البعد الزمني في تصحيح الخطأ: أنت عندما تكتشف خطأً في نفسك، أو المربي عندما يكتشف خطأ في حق من يربيه، أو نحن عندما نكتشف خطأ في واقع الصحوة، أو واقع الدعاة أو غير ذلك، فإننا ينبغي أن نكون واقعيين، وأن نرى أن هذا الخطأ كان نتيجة تراكم عوامل عدة، وحين نسعى إلى تصحيحه فإن هذا يعني بالضرورة أن نعطيه المدى الزمني الكافي في تصحيحه حتى يمكن أن نصححه.
لو اكتشف إنسان أنه حاد وسريع الغضب وأراد أن يصحح هذا الجانب في نفسه، فإنه ينبغي أن يعلم أنه لا يمكن أن يتحول من إنسان سريع الغضب سريع الانفعال إلى إنسان حليم بين يوم وليلة، لأنه لا بد أن يتدرج ويبقى وقتاً يربي نفسه.
وعندما تكتشف عند طفلك أو عند ابنك أو عند من تربيه خطأ أياً كان، فمن الظلم أن تطالبه بتصحيح الخطأ في وقت يسير، وقل مثل ذلك في الصحوة، إن عمر الصحوة لا يزال قصيراً، وهذا الجيل المتوافد على الخير والهداية نتاج تربية في المجتمع، ومن الظلم أن نحمل الصحوة الأخطاء التربوية التي في جيل الصحوة؛ لأن هذا الجيل نتاج تربية آباء وأمهات وتربية مؤسسات تربوية عامة، وهذا الجيل إفراز لمجتمع يعيشه، فالوضع التربوي الذي يعيشه هو إفراز لكل هذه القضايا، وليس المسئول عنه بالضرورة من يربيه ولا الصحوة ذاتها، وحين نسعى إلى تصحيح الأخطاء في هذا الجيل ونسعى إلى منهج من النضج فإننا ينبغي أن نعطيه المدى الزمني الذي يمكن أن يؤهله لحل هذه المشكلة إذا أردنا أن نكون واقعيين.(18/13)
إحراج الواقع في الخطأ
الخطأ الحادي عشر: إحراج الواقع في الخطأ: حين نريد أن نصحح الخطأ عند إنسان يقع في الخطأ، فلا يسوغ أن نحرجه، ومن ذلك مثلاً أن لا نعطيه فرصة للتفكير، فأنت عندما تريد أن تصحح خطأ عند إنسان، فينبغي أن تعطيه فرصة للتفكير حتى يفكر في خطئه، وأن تعطيه أيضاً فرصة للتراجع، فمن طبيعة النفس أنه يصعب عليها الاعتراف بالخطأ، فأنت تحصره في زاوية ضيقة وترى أنه لا بد أن يعترف لك، وأن يقول: إنني أخطأت مائة بالمائة، وهذا منطق غير معقول، لكن يمكن أن تعطيه فرصة للتراجع، فتبحث له مثلاً عن المسوغات والمبررات التي أوقعته في هذا الخطأ، فقد تقول له: إنني أعرف أنك قد وقعت في الخطأ لسبب كذا وكذا وكذا، وأن هناك عوامل أدت للوقوع في الخطأ، وليس المقصود اتهامك بالخطأ، ولا تحميلك المسئولية، لكن نريد أن تصحح هذا الخطأ.
أظن أنك عندما تسلك معه هذا المنهج فإنك تعينه على الاعتراف بالخطأ.
وكذلك ينبغي اختيار الوقت والمكان المناسب لعلاج الخطأ.
يعني: عندما يأتي الأب أو الأم فيلوم الطفل أمام إخوانه وأخواته لا يتقبل هذا اللوم، وكذلك الأستاذ حينما يلوم الطالب أمام تلامذته، وقل مثل ذلك في أي موقف؛ فعندما تأتي إلى إنسان وذهنه مشغول، أو إنسان في طور الحماس لرأيه والحديث عنه فهو موقف غير مناسب أن تواجهه بالحديث عن الخطأ، لكن عندما تنتظر إلى أن يهدأ حماسه وتناقشه في الخطأ، فإنك حينئذٍ تعطيه فرصة وتعطيه وقتاً مناسباً ولا تحرجه.
المقصود أنه من الخطأ أن نحرج الواقع في الخطأ، وحينئذ نطلب منه أن يعترف اعترافاً واضحاً بلا تفصيل ولا غموض أنه مخطئ مائة بالمائة، أظن أننا حين نسلك هذا المنهج، فإننا سنفشل كثيراً في تصحيح أخطاء كنا يمكن أن ننجح فيها لو سلكنا منهجاً أكثر اعتدالاً وتوازناً.(18/14)
اتخاذ المخطئ خصماً
الخطأ الثاني عشر: أن نفترض المخطئ خصماً: وهذا كثيراً ما ينشأ في الردود، حيث نفترض أنه خصم ونعامله على أن هذا خطأ وانحراف وضلال إلى آخره، واقرءوا الردود التي يكتبها بعض الناس ثم يقول: وأنا له ناصح أمين أن يراجع نفسه ويعلن توبته ويرجع عن خطئه إلى آخره، والجميع يعرفون أن هذا واقع عن اجتهاد وحسن نية، لكنك افتعلت خصومة، وربما ولدت عنده الحماس للوقوع في هذا الخطأ بأسلوبك.
مثلاً: لو قام واحد منكم بعد هذا الدرس ليتكلم عن خطأ وقعت فيه وبدأ يعلق وقال: إن هذا الخطأ من الأخ المحاضر، وهذا فيه كذا وكذا ويخالف الإجماع والقياس والمصلحة المرسلة وسد الذرائع وأقوال الأئمة، وبدأ يسرد لك، وأنا أنصح الأخ أن يتراجع ويعترف بخطئه.
وأنا أجزم لكم أني لا أستطيع أن أعترف بالخطأ، وحتى لو رأيت في قرارة نفسي أني واقع في الخطأ، ثم هذا يدعوني إلى أن أتعصب لرأيي، وأبحث له عما يسوغه، لكنه لو سلك أسلوباً آخر كان يمكن أن يعالج في الخطأ، إذاً حين تريد أن تكون جاداً في تصحيح الخطأ، فلا تجعل المخطئ خصماً لك، وأما إن عاملته بالخصومة فاعرف حينئذٍ أنك لم تزد على أن أثرت الحماس عنده وعند أتباعه بخطئه الذي وقع فيه.(18/15)
المبالغة في تصوير الخطأ
الثالث عشر: المبالغة في تصوير الخطأ: لأنه قد يقع إنسان في خطأ من مسائل الاجتهاد أو هوى، فنضخم الخطأ ونعطيه أكبر من حجمه، ومنطق الحق والاعتدال أن نضع الخطأ في إطاره الطبيعي، وحجمه المعقول، وقل مثل ذلك في أسلوب الإنسان مع نفسه، أنه عندما يقع في خطأ يضخم الخطأ، وكثيراً ما يسلك الإنسان مع نفسه أن يضخم الأخطاء التي وقع فيها، ويعطيها أكبر من حجمها، فيتولد عنده شعور أنه فاشل، وأنه غير مؤهل للنجاح، فيجب أن نضع الخطأ في إطاره الطبيعي وحجمه الطبيعي، ولا نضخم الأخطاء.(18/16)
الحديث عن طرف واحد من المخطئين
الرابع عشر: الحديث عن طرف واحد من المخطئين: مثلاً الحوادث التي تحصل في العالم الإسلامي، قد يأتي أحد المسلمين الغيورين، ويسلك أسلوباً خاطئاً في إنكار منكر من المنكرات التي ابتليت بها مجتمعات المسلمين، وحينئذٍ يعامل بعنجهية وقسوة وظلم، فيعتقل ويقتل، كما يحصل في العالم الإسلامي وإذا بنا كثيراً ما نتحدث عن خطأ هذا الشخص ونقول إنه جر على نفسه، وجر على الصحوة وفعل وفعل، وأما الشخص الآخر فلا، وكم يدركك الأسف حين ترى بعض الناصحين وهم يتحدثون عن صراع يدور بين بعض الدعاة وبين أعداء لهم باطنيين كفار، ويعمد هؤلاء الباطنيون إلى مجزرة رهيبة لأولئك فيبيدون خضراءهم ويقتلون منهم الآلاف دون رادع أو وازع، ومع ذلك نرى من الأخيار من يتحدث عن خطأ هؤلاء وأنهم تعجلوا وجروا وفعلوا وفعلوا، أما أولئك الذين استباحوا الدماء فلا يمكن أن يتحدث عنهم ببنت شفة، وربما وقعوا في جريمة من أكبر جرائم الحرب، أليسوا بدلوا شرع الله، أليسوا أباحوا الحرام، ألم يقفوا بالمرصاد لمحاربة شرع الله عز وجل، لماذا لا نكون واقعيين ومنطقيين، ونعطي كل خطأ حجمه الطبيعي.
هذا عندما نفترض أن هذا الداعية أخطأ في منهجه، لكن الآخر الظالم المجرم لماذا لا نتحدث عن خطئه، وإذا ادعينا مثلاً أنه يمكننا الحديث عن خطأ هذا الظالم المتجبر فلنترك القضية كلها؛ لأننا حين نتحدث عن ضرر طرف واحد ضعيف نصور للناس أن هذا الشخص بريء، وأنه حين أراق الدماء وحين فعل ما فعل، فهو غير مسئول، والمسئول الأول والأخير هو ذاك الذي وقع في الخطأ، وكثيراً ما نقع في هذا الخطأ في التعامل، خاصة مع القضايا التي تحصل في العالم الإسلامي من الدعاة إلى الله عز وجل والعاملين للإسلام.(18/17)
البحث عن الخطأ والفرح به
الخطأ الخامس عشر: البحث عن خطأ والفرح به: بعض الناس يفتش عن خطأ، وإذا وقع على خطأ فرح به وكأنه حصل على كنز ثمين وصار يخبر الناس ويدلهم على هذا الخطأ، ويوصيهم به، إذا عرفت هذا في نفسك أو عرفته في غيرك فاعلم أن هذا غير جاد في النصيحة، وأن هذا غير جاد في تصحيح الخطأ، وأنه رجل يفتش عن الأخطاء.(18/18)
التمحل في إثبات الخطأ
السادس عشر: التمحل في إثبات الخطأ: وهذا قد يتم من خلال القول باللازم، فيقول: يلزم من كلامك كذا وكذا، وأنت تقصد كذا وتريد كذا، أو الحديث عن النوايا، حينما قلت كذا تريد فلاناً، حينما قلت كذا تريد كذا، إلى غير ذلك.
وهذا كله ناشئ عن التمحل والسعي إلى إثبات الخطأ، ولو كنا نجري الناس على ظواهرهم ونعاملهم على الظاهر لسلمنا من كثير من مثل هذه المواقف، وغالباً ما يظهر هذا في الردود، تجد من يرد على شخص يحمله بعض الأخطاء التي لم يقع فيها.
أضرب على ذلك مثالاً: أحد علماء أهل السنة المعاصرين المشهود لهم بالخير قال كلمة حول القرآن بغض النظر هي صحيحة أو لا؛ فماذا قال الذي يرد عليه؟ قال: هذا دليل على أنه يرى خلق القرآن، طبعاً أنا أجزم أنه يعرف أنه لا يقول بهذا القول، لكنه تمحل وتحريف.
ومن ذلك أنهم قالوا عن بعض الدعاة إنه يرى وحدة الوجود، مع أنه صرح في مواطن من كتبه بالرد الصريح على دعاة وحدة الوجود، وهؤلاء يعرفون ذلك لمنه، فلماذا ينسبونه إلى هذه العقيدة الكفرية! قد نقول إن هذه العبارة غير منضبطة ينبغي إبدالها، لكن أن نتهمه بأنه يقول بوحدة الوجود هذا أمر ليس فيه عدل ولا إنصاف ولا نصيحة، وقل مثل ذلك في قضايا كثيراً ما نراها.(18/19)
إهمال محاسن الرجل
السابع عشر: إهمال محاسن الرجل: نحن نريد أن نتحدث عن خطأ إنسان، فينبغي أن لا نهمل محاسنه وأن ننظر باعتدال.
قال سعيد بن المسيب رحمه الله: ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن لا تذكر عيوبه، فمن كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله.
وقال محمد بن سيرين: ظلم لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما تعلم، وتكتم خيره.
وقال شيخ الإسلام: ومما يتعلق بهذا الباب أن يعلم أن الرجل العظيم في العلم والدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة أهل البيت وغيرهم، قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقرون بالظن، ونوع من الهوى الخفي، ويحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه، وإن كان من أولياء الله المتقين، ومثل هذا إن وقع يكون فتنة لطائفتين: طائفة تعظمه فتريد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه، وطائفة تذمه فتجعل ذلك قادحاً في ولايته وتقواه، بل في بره وكونه من أهل الجنة، بل في إيمانه، بل حتى تخرجه من الإيمان، وكلا هذين الطرفين فاسد، والخوارج والروافض وغيرهم من أهل الأهواء دخل عليهم الداخل من هذا، ومن سلك طريق الاعتدال عظم من يستحق التعظيم، وأحبه ووالاه، وأعطى الحق حقه، فيعظم الحق ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات فيحمد ويذم ويثاب ويعاقب، ويحب من وجه ويبغض من وجه، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافاً للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم.
وقال ابن القيم رحمه الله: فلو أن كل من أخطأ أو غلط ترك جملة وأهدرت محاسنه، لفسدت العلوم والصناعات والحكم وتعطلت معالمها.
وهذا لا يعني عدم الحديث عن الأخطاء، لكن حين نتحدث عن الأخطاء فينبغي أن لا نهمل المحاسن، وينبغي أن نتحدث بتوازن وقد نقع في هذا الخطأ مع أطفالنا، فنعامل الطفل ونحدثه على أنه مشاغب وغير منضبط وغير مؤهل إلى غير ذلك، فنرسم له صورة تقضي عليه وتحطمه وتصور لنفسه أنه إنسان فاشل، وقل مثل ذلك مثلاً في الطالب وغيره ممن يتلقى التربية.(18/20)
الحديث عن مظاهر الخطأ دون الأسباب والعلاج
الخطأ الثامن عشر: الحديث عن الخطأ ومظاهره دون الحديث عن الأسباب والعلاج: يعني: قد نتحدث عن خطأ من الأخطاء ومشكلة من المشكلات ونفصل فيها، ثم لا نتحدث عن الأسباب ولا العلاج، وكثيراً ما يقع هذا من خطباء الجمعة اللهم إلا إذا كان في حالة ظاهرة، أو قضية واضحة الأسباب والعلاج، والمقصود إنما هو التنبيه عليها فحينئذ قد نكتفي بمثل هذا العرض، لكن حينما نتحدث عن الأخطاء بصفة عامة ينبغي أن نتلمس أسباب ومكمن الداء، وأن نبحث عن بعض الخطوات التي نوصي بها لعلاج مثل هذا الخطأ.(18/21)
حصر منهج التربية في تصحيح الأخطاء
الخطأ التاسع عشر والأخير: اعتبار تصحيح الأخطاء وحده هو منهج التربية: وذلك أن البعض من الآباء أو المربين قد يعتبر أن التربية ورفع مستوى الشخص إنما يتم من خلال إيقافه على أخطائه، ومن خلال الحديث عن أخطائه وحدها، وهذا منهج غير صحيح، فحين لا نتحدث إلا عن أخطاء فغاية ما نحققه إذا نجحنا أن نحافظ على الإنسان على موطن معين، لكننا ينبغي أن نتبنى منهجاً للبناء والرفع من مستوى التربية، مع الحديث عن الخطأ وفق المنهج المنضبط، وحين نتحدث عن الصحوة وعن الشباب من خلال أخطائهم فإننا لن نراوح مكاننا وسنصور للناس من حولنا أنهم أهل فشل وتأخر وأن الخطأ أصبح صفة ملازمة لهم.
أكتفي بهذا القدر من الحديث عن الأخطاء، وعلاج الأخطاء، وأرجو أن لا أكون قد وقعت في أخطاء وأنا أعالج مثل هذه الأخطاء، لكننا بشر، وكل يخطئ ويصيب ويؤخذ من قوله ويرد.(18/22)
الأسئلة(18/23)
تكلف التبرير للخطأ
السؤال
من المشكلات أن تكلم أحداً في خطأ واضح لك وضوح الشمس، لكن تجده يتكلف التبرير عن خطئه؛ فما هو المناسب في التعامل مع مثل هذا الأخ؟
الجواب
أنت لا تفترض أن نظرة الأخ لعمله مثل نظرتك أنت، وكما قلت: نحن أحياناً نريد من الآخرين أن يعترفوا اعترافاً واضحاً صريحاً لا يحتمل التأويل بأنهم وقعوا في الخطأ، ولا نقبل منهم غير ذلك، وأظن أن هذا عائق عن تصحيح كثير من الأخطاء التي نريد تصحيحها، لكن لو سلكنا أساليب غير مباشرة، وحاولنا من الأخ أن يقف على خطئه بنفسه، لتجاوزنا كثيراً من هذه المشكلات التي نعاني منها في تصحيح أخطاء الآخرين.(18/24)
السكوت عن نصح من لا يقبل النصح
السؤال
كثيراً ما ينبهنا أحد الإخوة في الله على أخطائنا جزاه الله خيراً، وحينما ننبهه على خطئه يأتي ويقول إنه لم يخطئ، ولا يقتنع إلا قليلاً، وأكثر الإخوة يعرفون أنه مخطئ، وهو خطأ واضح، فهل سكوتي عنه خطأ إذا كان لا يقبل إلا قليلاً؟
الجواب
السكوت عن الخطأ، وطريقة علاجه، قضية يجتهد فيها الأخ فيبحث عن الأسلوب المناسب الذي يراه في تصحيح الخطأ، إذا رأيت الإنسان لا يتقبل الخطأ مباشرة فلا تواجهه مباشرة بالخطأ، واسلك معه طريقة غير مباشرة.(18/25)
تصحيح الخطأ بحسب الحال
السؤال
ما رأيك في بعض الشباب الأخيار، الذين يصححون الخطأ في وقت الخطأ في الحال، وهل هذه الطريقة صحيحة أم لا؟
الجواب
تختلف الظروف، فبعض الأخطاء قد نرى من المناسب أن تصحح في الحال، وبعض الأخطاء قد نرى من المناسب تأخيرها، والعبرة هو في اجتهاد الأخ، وأن تحسن نيتك في التصحيح، ثم تبحث عن أفضل أسلوب تراه مناسباً في إقناع هذا الشخص بخطئه، وإذا رأيت أن من المناسب أن يكون في الحال ففي الحال، وإذا رأيت أن الأنسب تأخيره، فتؤخره.
يقول: لماذا نخاف من النقد، أنا أتصور أنه من أكبر الأسباب التي تدعونا إلى الخوف من النقد ما أشرت إليه قبل قليل، أننا نرى أن النقد يعني الانحراف، وأنك عندما تنقد فلاناً فمعناه أنه ملحد، معناه أنه جاهل، معناه أنه خطاء، معناه أنه فاشل، فإذا ربطنا بينهما حينئذٍ نخاف من النقد؛ لأننا نرى أن النقد اتهام بالخطأ والفشل، لكن لو استوعبنا أنه يمكن أن يقع الإنسان في الخطأ، وهو طالب علم أو داعية، وأن هذا لا يغض من شأنه، فحينئذٍ أظن أنه سيزول عنا هذا الخوف.(18/26)
تصحيح الخطأ الخفي
السؤال
عندما يكون الخطأ خفياً وقد علمت وقوعه من هذا الشخص، فهل من المناسب المبادرة بمصارحة الأخ ونصحه، أم التلميح دون التصريح؟
الجواب
تختلف الأحوال، فيجتهد الأخ فيما يرى أنه الأنسب والأصلح.(18/27)
ضرب الابن على الخطأ
السؤال
يقول: ماذا تقول في ضرب الوالد لابنه عندما يرتكب خطأً كأن يضرب أخيه.
الجواب
كون الضرب هو الوسيلة الأولى والأخيرة للتربية، هذا أسلوب مرفوض، وكثيراً ما يعمد الآباء والأمهات إلى ضرب أبنائهم على قضايا لا تستحق الضرب، مثلاً: طفل يضرب أخاه، والثاني يضرب الآخر، دعهم يحلونها بينهم، هذه مشكلة داخلية، فلا داعي لتدخل الأم نفسها في كل مشكلة، تجد أنه كسر قلماً بنصف ريال فتقيم الدنيا ولا تقعدها، هذه أوضاع تنم عن أننا نريد أن يكون الطفل مثالياً، صحيح أنه في حالات تحتاج إلى الضرب، لكن ينبغي أن يكون بأسلوب معين، وأن يكون آخر الدواء.(18/28)
نقد أهل الحسبة
السؤال
ما رأيك في بعض الشباب ممن ينقل الأخطاء التي تقع من أهل الحسبة، وهو نقل خاطئ؟
الجواب
لا شك أن هذا خطأ، وتكريس للخطأ، وحتى لو وقع منهم خطأ فهناك أساليب للتعامل مع مثل هذا الخطأ وعلاجه ليس هذا وقت الحديث عنها، لكن مجرد النقد أو نقل الخطأ ليس أسلوباً للعلاج.(18/29)
معنى المثالية
السؤال
وردت كلمة المثالية في حديثكم، فما هي؟
الجواب
عندما لا يكون الإنسان واقعياً، يريد أشياء لا يمكن أن تتحقق، فهو يريد من الطفل الذي عمره ست سنوات أن يكون هادئاً مؤدباً يحترم الآخرين، لا يصرخ ولا يبكي ولا يضرب إخوانه، أنا أعتبر الذي يسلك هذا الأسلوب يعاني من مشكلة، فهو شخص غير عادي، وعندما تريد من الإنسان أن يكون معصوماً لا يقع في ذنب ولا يقع في معصية ولا خطأ، فهذا معناه المثالية.(18/30)
الفرق بين المخالفة في الرأي والالتزام بالواجب
السؤال
متى يحق لي إذا لم أقتنع برأي أستاذي أو شيخي أو المشرف علي أن لا آخذ برأيه؟ ومتى لا يحق لي ذلك؟
الجواب
يجب أن نفرق بين قضيتين: قضية قناعة فكرية، وقضية إدارية، يعني مثلاً أنت في المركز، ولما يطلب منك مشرف الأسرة عملاً معيناً، وأنت ما اقتنعت ولك وجهة نظر، فليس من حقك أن تتمرد بحجة أنك ما اقتنعت، لكن عندما يكون له اجتهاد في قضية فكرية أو علمية فمن حقك أن تخالفه في اجتهاده، وأن ترى لك رأياً آخر، لكن أيضاً يجب أن تتأدب في التعبير عن رأيك، لكن حينما تكون قضية تنظيمية أو قضية حركية إن صح الإطلاق ينبغي أن تلتزم ولو لم تقتنع، مثلاً إذا طالب الأستاذ من الطلاب أن يقوموا بواجب منزلي فلابد من الالتزام ولو لم يقتنعوا، فلا يسوغ أن نجعل مخالفتنا للآخرين في الرأي مانعاً من الالتزام في الدائرة التي تفترض علينا الالتزام.(18/31)
متى يلزم الطفل بالواجبات
السؤال
طفل يبلغ من العمر عشر سنوات، فهل يلزم بأداء الفرائض، وهل يحاسب عليها في هذا السن أم في سن البلوغ؟
الجواب
ينبغي أن يؤمر بالصلاة لسبع ويضرب عليها لعشر، وينبغي أن يعلم ويؤدب، فيمنع من المحرمات ويؤمر بالفرائض ويؤاخذ عليها، حتى إذا بلغ يكون قد تربى عليها ونشأ عليها.(18/32)
فضيلة المسامحة
السؤال
إذا أساء إلي شخص فهل أسامحه في الحال أم أقاطعه لفترة محددة فيعرف خطأه؟
الجواب
إذا أساء إليك فهذه قضية شخصية، والأفضل والأولى أن تكون ممن قال الله عز وجل فيهم: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134]، وأن نربي أنفسنا على أن نتسامح في الحال، وأن نعرف أن الآخرين يخطئون علينا كما نحن نخطئ على الآخرين.(18/33)
كيفية تصحيح الخطأ
السؤال
أنا شاب كثيراً ما أقع في الخطأ فيصعب علي تصحيحه، فأرجو منكم توضيح كيف أصحح الخطأ؟
الجواب
يمكن أن أقترح عليك بعض الخطوات المختصرة: أولاً: يجب أن تضع الخطأ في حجمه الطبيعي، فلا تبالغ مثلاً، لأن الإنسان قد يبالغ في تصور خطأ كما قلنا.
ثانياً: أن تبحث عن الأسباب التي أوقعتك في الخطأ، وتفتش عنها.
وإذا اكتشفت الأسباب اكتشفت نصف خطوات العلاج.
ثالثاً: أن ترسم لك مرحلة زمنية معقولة يمكن أن تصحح فيها هذا الخطأ، فليس من المعقول أن تنتقل من حال إلى حال مباشرة، فلا بد أن يكون هناك نوع من التدرج.
هذه الخطوات الثلاثة مهمة في علاج أي خطأ نقع فيه، وأظنك لو سلكتها لاختصرت على نفسك مراحل كثيرة.
بعد ذلك نقول إن الأخطاء تختلف، فهناك خطأ يعالج بطريقة، وخطأ يعالج بطريقة أخرى.(18/34)
حكم التمثيليات
السؤال
لقد تكلمت عن التمثيل وعن اختلاف العلماء في تحريمه، وأنا فهمت من كلامك التمثيل المدرسي، لكن بعض الناس يمكن أن يفهموا أنها التمثيليات التي توجد في التلفزيون أو الفيديو أو غير ذلك؛ أرجو توضيح هذه النقطة.
الجواب
أنا قلت في هذه المراكز، وما أظن أن مثل هذه المراكز تحيي سهرات غنائية وماجنة.
أما التمثيليات التي تعرض في أفلام الفيديو أو غيرها، فلا شك في تحريمها، وهي وسائل وأساليب لإثارة الغرائز، وقد علمت أبناءنا وبناتنا مصطلحات الحب والغرام والعشق إلى غيرها، فحديثنا ليس عنها، الحديث عما يمارس من أنشطة في المراكز الصيفية وغيرها من التمثيليات التي يقصد منها بعض المعاني الإصلاحية.(18/35)
تصحيح الأخطاء
السؤال
من المسئول عن تصحيح الأخطاء؟ ومن الذي يجب عليه أن يصحح الخطأ؟ وما هي المؤهلات والشروط التي يجب توفرها في المصلحين الذين يصححون الأخطاء؟
الجواب
المسئول عن تصحيح الأخطاء الجميع، سواء من يقع في الخطأ وغيره، وأنا أرى أن المسئولية تقع على ثلاثة: الشخص نفسه، ثم الشخص الذي يمكن يأخذ على يده، كوالده أو أستاذه، ثم الذين هم دونه.
فالتلاميذ مثلاً مسئولون عن تصحيح خطأ أستاذهم، لا باعتبار أنهم يفرضون عليه رأياً، لكن من خلال النصيحة والتوجيه وغيره.
أما المؤهلات والشروط التي يلزم توفرها في المصلحين الذين يصححون الخطأ، فأنا أتصور أن المؤهل الأساسي هو أن يكون الإنسان قادراً على اكتشاف الخطأ، وعلى التقرير أن هذا خطأ، ويحمل مؤيدات وحجج شرعية مقنعة، بغض النظر عن حجمها.
فلا يحق لك مثلاً عندما يتحدث شخص عن خطأ أن تشغب عليه وتقول: من أنت حتى تتحدث عن خطأ فلان، أنا أقول: نعم، أنا لست أعلم من فلان، ولا أذكى منه، لكني اكتشفت خطأ، كما سبق أن ذكرنا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.(18/36)
كيفية تعامل محقق الكتاب مع مسائل الكتاب المختلف فيها
السؤال
لقد ذكرتم رأياً مال إليه قلبي، ولكن بقي في ذهني إشكال أرجو النظر فيه، ألا وهو: الكلام على أن المحقق لا يحق له مخالفة صاحب الكتاب المحقق، ألا يمكن أ، يكون ذلك جيداً من باب إظهار الحق ومناقشة الأدلة في المادة العلمية عند القارئ، خاصة المتخصص؟
الجواب
أنا أتحدث عن قضية محددة، فليس الكلام عن مخالفة المحقق في أي رأي، لكن عندما تكون هناك مسألة اجتهادية مشهورة.
أضرب لكم مثالاً: هل في الحلي زكاة؟ هذه مسألة من المسائل التي اختلف فيها العلماء من المعاصرين والقدماء.
وفي الصلاة هل يقدم المصلي في سجوده يديه أو ركبتيه مثلاً، وقل مثل ذلك في مسائل كثيرة اختلف فيها أهل العلم.
فعندما يأتي شخص يحقق هذا الكتاب، فيمكن أن يشير في الحاشية إلى أن هذه مسألة فيها خلاف، وهناك من رجح غيره، أو يحيل إلى بعض المراجع، لكني أقصد أنه عندما يضع صفحات طويلة في تفنيد كلام المؤلف فهذا الأسلوب لا ينبغي في التحقيق.(18/37)
التعامل مع من يبدعون مخالفيهم في الاجتهاد
السؤال
ما هو الأسلوب الأمثل للتعامل مع من يضخمون القضايا الاجتهادية ويبدعون ويفسقون مخالفيهم؟
الجواب
يطرح الموضوع بحوار وهدوء، وأظن أننا بحاجة إلى طرح الحديث عن المسائل الاجتهادية وكيف نتعامل معها حتى لا نشتط في الطرفين؛ لأن هناك أيضاً من يقع في الطرف الآخر، فأي مسألة يسمع أن فيها خلافاً يستبيح أن يعمل أي عمل، ويشغب على من ينكر عليه، ويرى أنه ما دام فيها رأي فإن هذا معناه أن الأمر فيها سائغ، وأن للإنسان أن يأخذ بما يريد، فينبغي أن نتوازن في مثل ذلك.(18/38)
التضايق من النصح مع العمل به
السؤال
أشعر بضيق في صدري عندما يقوم أحد الشباب أو أحد الناس بتصحيح بعض أخطائي، ولكن في نفس الوقت أشكر من يصحح لي خطئي وأحب فعله، فما الضابط النفسي لكي لا أصاب بضيق في صدري؟
الجواب
هذا أنا أتوقع أن هذا وضع طبيعي، لكن ستجد أنك بعد فترة ترتاح، فأنت قد تجد نوعاً من التضايق عندما يشار إلى خطئك، لكن بعد فترة ستشعر يعني بالارتياح وإذا رأيت أن فلاناً من الناس يستخدم معك أسلوباً غير مناسب في تصحيح الخطأ فلا حرج أن ترشده إلى أن يعدل من أسلوبه.
يعني: يبدوا أنني أطلت كثيراً، وأعتذر للإخوة إن كنت قد أطلت عليهم.
وأسأل الله عز وجل أن ينفعنا جميعاً وإياكم بما سمعنا، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، إنه سبحانه وتعالى سميع قريب مجيب.(18/39)
محاضرة في مخيم
انقسم شباب الأمة إلى شباب ملتزم وشباب غير ملتزم، وهذا التمايز أحدث فجوة عميقة بين الفئتين، حتى أثمر ذلك سلبيات كثيرة تضر بالإسلام والمسلمين على المستوى الفردي والمستوى الجماعي، وهي أمور مهمة يجب تداركها والعمل على سد الفجوة ولأم الشق الحادث وسط المجتمع المسلم.(19/1)
المؤامرة على الأمة وشبابها
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد: فهي فرصة طيبة أن نلتقي بالإخوة الكرام في هذا اللقاء المبارك، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يثيب القائمين على هذا المخيم، وأن يجعل ما يقدمون في موازين حسناتهم.
ونحن في الواقع بحاجة إلى مثل هذا التوسع في أنشطتنا الإسلامية، وفي دعوتنا، وفي برامجنا، وهي فكرة رائدة سرتني كثيراً، وأتمنى أن نرى في المستقبل المزيد من مثل هذه الأفكار والجهود؛ لأن المسلم يرى أن دينه ودعوته تتطلب منه جهداً أكثر.
لئن كان أصحاب التجارة وأصحاب الأموال يبتكرون الوسائل والأساليب في الدعاية والإعلان، وترويج منتجاتهم، ولئن كان أصحاب الفساد والفجور يبذلون المستحيل، لابتكار واكتشاف ألوان الفساد، والحصول على ما يريدون، والتحايل على الناس، فأهل الحق أولى ألا يكونوا أسرى تجارب ووسائل ورثوها، وألا يكونوا أسرى أفكار اعتادوا عليها، فصاروا لا ينطلقون إلا من خلالها.
أسأل الله سبحانه وتعال أن يعظم الأجر والمثوبة لإخواننا، وأن يجعل ما قدموا في موازين حسناتهم، وأن يجعلنا وإياكم جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
معشر الشباب! لقد أدرك أعداء الإسلام أنه لا مجال للانتصار على هذه الأمة والقضاء عليها إلا بسلخها عن دين الله سبحانه وتعالى، وأدرك أولئك جميعاً أن الشباب هم الأمة، يقال: الشباب عدة الأمة، وأمل المستقبل، والواقع أن الشباب هم الأمة، وليست الأمة إلا الشباب، فعلى أكتافهم وسواعدهم تقوم المجتمعات، وهم القادة في المستقبل، وهم الرجال الذين يوجهون المجتمعات والأمم.
وعلى أساس ما نشئوا عليه في شبابهم وفتوتهم يكونون بعد ذلك، ولما أدرك الأعداء قيمة هؤلاء الشباب وخطر شأنهم في الأمة سعوا لإضلالهم وفتنتهم، وصدهم عن دين الله سبحانه وتعالى، فقامت تلك الجهود، ومن ورائها الطابور الخامس المنتشر في مجتمعات المسلمين في عرض الأمة وطولها، يمهدون للأعداء، ويقومون بتنفيذ خططهم نيابة عنهم، ولا يزيد على أن يأخذ وكالة فقط حتى تتغير الواجهة واللافتة، والمقصود من ذلك كله واحد هو سلخ شباب هذه الأمة، وصدهم عن دين الله سبحانه وتعالى.
وتنوعت أساليب الإغراء والإثارة والصد، بدءاً بتشكيك أولئك بدين الله سبحانه وتعالى، وإخراج أجيال ممن يتشككوا في دين الله عز وجل، ويرتضي الإلحاد والردة عن دين الله سبحانه وتعالى، وصار يبحث له عن مناهج بديلة عن الإسلام.
ومروراً بوسائل سعى فيها أولئك الأعداء إلى إثارة غرائز الشباب، وإلى إثارة اهتمامات الشباب، وصرف الهمة الجادة والعالية؛ فخرج لنا جيل همه فرجه وشهوته، وصار يسعى إلى تحصيل هذه الشهوة بكل الوسائل، وإذا لم تتح له في بلده وفي موطنه، فهو على استعداد أن يوفر جزءاً كبيراً من ماله؛ حتى يسافر إلى الخارج، ويسافر إلى بلاد الكفر؛ حتى يقضي شهوته في الحرام.
وخرج لنا جيل يتعلق بالرياضة ويفتن بها، حتى صارت أساس تفكيره، وخرج لنا جيل يعتني بما يسمى بالفن، وصار أولئك مرايا عاكسة لآخر صرعات الفن في عالم الغرب.
إنه -معشر الإخوة الكرام- نتاج جهد متواصل من أولئك الأعداء، قابله تخاذل من هذه الأمة، وانشغال من المصلحين الذين كان أولى بهم أن يقفوا على بوابات الحراسة في مجتمعات المسلمين؛ ليحموا هذه الأمة من هذا الغزو الماكر، وبقيت مجتمعات المسلمين وبالأخص الشباب دهراً في سبات عميق، وما كان لهذا النوم أن يطول، وما كان لهذه الأمة أن تطيل في الغيبوبة وهي الأمة الشاهدة، وهي الأمة القائمة بدين الله عز وجل للبشرية جميعاً إلى قيام الساعة.
فآذن الله سبحانه وتعالى بانبلاج فجر الصحوة، وخرجت تلك الصحوة مع هذا الجيل الذي كان ينتظر الأعداء منه كل ألوان الفساد والانحراف، خرجت الصحوة مع هذا الجيل ليعود إلى دين الله عز وجل، وليضرب المثل الصادق في العودة إلى دين الله عز وجل، والعودة إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وأصبحنا مرة أخرى نرى الأفواج تتقاطر إلى طريق الاستقامة والصلاح والخير، وصارت الأفواج التي تتسابق إلى المساجد هي الأفواج إلى كانت تتسابق إلى الملاعب وإلى أماكن اللهو والرقص، بل صار أصحاب السفر والفساد والمجون والمخدرات والفن يعودون إلى هذا الطريق، وينضوون تحت لوائه، وصار العدد يتضاعف يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام.
وهي مسيرة بإذن الله مستمرة، فحين أشعل الفتيل، وحين أعلنت المسيرة فهذا إيذان باستمرار المسيرة إلى أن يتحقق وعد الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح:28]، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون(19/2)
انقسام شباب الأمة إلى فئتين
أقول: حين عاد هذا الجيل الناشئ بإذن الله عز وجل، والذي نعلق عليه -بعد توفيق الله عز وجل وعونه- آمالاً عريضة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا عند حسن ظننا، والله سبحانه وتعالى عند حسن ظن عبده به عز وجل.
أقول: مع تقاطر هذا الجيل أصبح عندنا فئتان من الشباب: فئة من الشباب الذين عادوا إلى الله عز وجل، وعادوا إلى الأصل والفطرة فاستقاموا على دين الله سبحانه وتعالى، وفئة وهي لا تزال عريضة تحتاج إلى دعوة.
وينبغي أيضاً ألا نفرط في التفاؤل، وألا ننسى أن هناك قطاعاً عريضاً، بل إن القطاع العريض من شباب الأمة لا يزال بحاجة إلى من يشده إلى هذه الميادين.
صار لدينا فئة من الشباب اصطلح على أن يسمى الشاب الملتزم، وفئة أخرى من الشباب غير الملتزم، ولسنا هنا بصدد تحديد المصطلحات، ومدى سلامة هذا المصطلح أو ذاك، وأيهما أولى، ليس هذا موضوع حديثنا، ولكن هذه القسمة نشأ عنها مفاهيم مغلوطة، هي ما سنحاول إلقاء الضوء عليه في هذه الدقائق.
نشأ عن هذه القسمة مفاهيم ومشاعر أصبحت جزءاً من تفكيرنا، وهكذا شأن الأخطاء، الخطأ يبدأ خطأً، ثم ينتشر ويتوسع، حتى يصبح بعد ذلك جزءاً من التفكير أصلاً، فيصبح الإنسان يفكر من هذه الزاوية، ولا يستطيع أن يتخلص من هذه النظرة التي تسيطر عليه.
وهذا الحديث لا يخص إحدى الفئتين، بل هو حديث للجميع، وقد يكون الحديث صريحاً، والصراحة لها ضريبة، وإذا كنا نريد الإصلاح فينبغي أن نكون واضحين وصرحاء.
وسأتحدث بصراحة مع الجميع وفي محضر الجميع عن أخطاء يقع فيها الشاب الملتزم تجاه أخيه، وعن أخطاء يقع فيها الشاب غير الملتزم، ونحن ينبغي أن نكون جميعاً صرحاء، ولعل هذه النقطة سيكون لها حديث في نهاية هذا الأسبوع في محاضرة الأربعاء، فلست بحاجة للإفاضة فيها.
ولكني أقدم بين يدي هذا الحديث أننا لابد أن نكون صرحاء، ولو أدى ذلك إلى أن تكشف الأوراق بمحضر الجميع، وأن نتحدث عن الأخطاء بمحضر الجميع، ما دام المقصود هو النصيحة.
هناك الكثير يتحدثون عن الأخطاء، وهناك الكثير ينتقدون، ومن ثم فنحن حين نريد أن نقطع الطريق على أولئك الذين يتخذون من النقد سلماً ووسيلة للفتنة والإعاقة، حين نريد أن نقطع الطريق على أولئك فلن نقطعه إلا حين نبني منهجاً سليماً للنقد يتحدث عن الأخطاء تحت ضوء الشمس، وفي وضح النهار، وحينئذٍ نقطع الطريق على من يريد أن يتكئ على هذه الأخطاء، وأن يستثمر هذه الزلات؛ ليجعل منها معولاً يهدم به البناء.(19/3)
عدم الالتزام لا يبرر المعاصي
حين تتحدث مع أحد الشباب غير الملتزم عن المعصية أو عن الطاعة يفاجئك بهذه الكلمة: إنني لست ملتزماً.
فيتصور أن عدم التزامه يعني أنه مخاطب بأحكام خاصة، وبتكاليف خاصة.
فنقول ابتداءً: إن كون الإنسان غير ملتزم، أو كونه يخل بشعائر ظاهرة من شعائر الإسلام؛ حتى يبقى مظهره لا يدل على الاستقامة والصلاح، لا يعفيه مما يجب على آحاد المسلمين، فهو مسلم يجب عليه ما يجب على المسلمين، وهو مسلم مخاطب بكل التكاليف الشرعية، وبكل النصوص الشرعية.
إنه يتخيل أحياناً أنه ما دام غير ملتزم، فينبغي ألا يوجه له هذا الخطاب، وينبغي أن يكون في مندوحة أن يقال له هذا الكلام، لأنه يظن أن هذا الكلام إنما يقال للناس الملتزمين، ويقال للأخيار، ويرى أنه لا يستحق أن يوجه له هذا الكلام، إنه ينبغي أن يخاطب بكلمة واحدة فقط لا غير، وهي: تب إلى الله عز وجل، وتخل عن طريق الإعراض والغفلة، وكن سائراً مع ركاب الصالحين والملتزمين.
وهذا لا شك خطاب وكلمة لابد أن تقال، وهي أساس ومبدأ حديثنا، وحولها ندندن، ولكن مع ذلك يبقى لنا حديث آخر، فمثلاً: هذا الشاب عندما تطالبه بطاعة من الطاعات، وهب أنها من النوافل، فتقترح عليه أن يصوم يوم الإثنين، أو يصوم يوم الخميس، أو يقوم ليلة من الليالي، أو يصلي النافلة، فيفاجئك ويقول: لست ملتزماً.
ويتخيل أنه ما دام كذلك فلا ينبغي له أن يخادع نفسه، ويرى أن صيامه، أو تلاوته لكتاب الله عز وجل، أو قيامه لليل، أو قيامه بأي عمل صالح إنما هو من المخادعة والنفاق، بل تراه مثلاً حينما يرى زميلاً له يقع في خطأ من الأخطاء، أو يعرف عنه ممارسة محرمة، أو عملاً سيئاً، ويراه يعمل طاعة من مثل هذه الطاعات، فإنه يتهمه بالنفاق والمراوغة والمخادعة، إلى غير ذلك.
إنه منطق عجيب، فلماذا كانت هذه المعاصي التي وقعت فيها مانعة لك من تلك الطاعات، نعم إن هذه المعاصي تكبلك، وهذه المعاصي تثقلك وتجعلك تتكاسل عن الطاعة، وتجعل الطاعة ثقيلة عليك، لكن هذا شيء وكونك لا تعمل الطاعة شيئاً آخر، هذا شيء وكونك تعتقد أن عملك لتلك الطاعة يعتبر نفاقاً شيء آخر.
وهذه من الحيل الشيطانية، فالشيطان يسيطر عليك بهذا المنطق، وبهذا التفكير؛ حتى يحقق إنجازاً لا يستطيع أن يحققه حتى يغلق جبهة كاملة يمكن أن تستثمرها أنت في صراعك مع هذا العدو، فيقطع عليك الطريق عن كل طاعة من الطاعات يمكن أن تقوم بها؛ بحجة أنك لست ملتزماً، وما دمت لست ملتزماً فينبغي ألا تعمل هذه الطاعات، وعملك لهذه الطاعة يعتبر مخادعة ويعتبر نفاقاً.
في أي كتاب أم بأية سنة؟ ومن أين حصلنا على مثل هذا الاقتناع؟ لست أدري! إنها قناعة لا تقبل الشك عندك، ولا يمكن أن تناقش فيها، والدليل على ذلك -كما قلت قبل قليل- أنك حين ترى زميلك أو أخاك يعمل ذلك تتهمه بالنفاق والمخادعة؛ لأنك رأيته يسمع الغناء، والذي يسمع الغناء لا ينبغي -مثلاً- أن يصلي الراتبة، والذي يسمع الغناء لا ينبغي أن يصوم النفل، وهكذا، الذي يقع في مثل هذه المعاصي لا ينبغي له أن يعمل تلك الطاعات، وإذا عملها عد منافقاً.
إنك لا زلت مسلماً شأنك شأن الآخرين، ويصدق عليك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)، ويصدق عليك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: هل من سائل فأعطيه سؤاله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟).
عهدتك لا تنام إلا قبيل الفجر، فها أنت مستيقظ في الثلث الأخير من الليل، فما رأيك لو طرحت عليك هذا الاقتراح؟ اقتطع من وقت السهر والسهرة التي تقضيها -وربما كانت على معصية الله عز وجل- نصف ساعة، واقضها في أن تصلي ركعتين لله عز وجل، أو أربع ركعات، وتتضرع فيها إلى الله عز وجل في سجودك، وتدعو الله سبحانه وتعالى أن يهديك ويعينك ويوفقك؛ لأني أجزم تماماً أنك تتمنى أن يهديك الله سبحانه وتعالى، وتتمنى اليوم الذي تودع فيه الغفلة، وتودع فيه المعصية، وتقبل على الله عز وجل.
فلعلك أن توافق باباً مفتوحاً من السماء فترفع لك فيه دعوة صادقة، ولماذا تحرم نفسك هذا الخير؟ فتستغفر وتتوب في هذه الساعة التي أنت أصلاً مستيقظ فيها.
إنك -أخي الكريم- أحوج إلى الطاعة من غيرك؛ لأنك تملك ركاماً هائلاً من المعاصي والذنوب، وأنت تراه كالجبل يوشك أن يهوي عليك، فأنت أحوج الناس إلى التخفف، وأنت أحوج الناس إلى التوبة، وأنت أحوج الناس إلى ما يكفر الذنوب، فما أحوجك إلى طاعة الله سبحانه وتعالى!(19/4)
كيف نتعامل مع المعصية
ثانياً: كيف تتعامل مع المعصية؟(19/5)
عدم المجاهرة بالمعصية
إن الكثير من الشباب يضع أمامه خيارين لا ثالث لهما: الخيار الأول: أن يتوب، ويترك المعصية، ويكون مع الناس الصالحين الأخيار، وهذا لا شك هو المطلوب.
الخيار الثاني: حين يفشل في هذا فإنه يبقى على المعصية دون أي وازع، ودون أي مانع، ويرى أنه لم يبق أمامه خيار ثالث.
إن هناك خياراً ثالثاً، ومع ذلك فهذا الخيار لا يعني أن نتنازل عن الخيار الأول الذي هو الأصل وهو ترك المعصية وتوديعها، والتوبة الصادقة النصوح إلى الله سبحانه وتعالى، لكن هب أنك فشلت ولم تستطع أن تتوب، ستكون في هذه الفئة، فكل مسلم قادر على أن يسلك هذا الطريق، وما كلف الله عز وجل الإنسان إلا ما يطيق، وهب أنك لم تستطع ذلك، فلماذا تجاهر بالمعصية، وأنت تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين)؟ إنك تفعل المعصية بالليل بينك وبين نفسك لا يعلم عنها أحد، وربما لا يعلم عنها إلا شريكك في المعصية، فما بالك إذا أصبحت تلقى زميلك في المدرسة فتخبره بما عملت وما صنعت؟! أنك تدعي أنك لا تستطيع التخلص من تلك المعصية، ولو فرضنا جدلاً أنك كذلك، أفلا تستطيع أن تتخلص من المجاهرة بالمعصية؟ ألا تستطيع أن تبقى معصيتك سراً بينك وبين الله سبحانه وتعالى؟ فإن ذلك أدعى إلى توبتك وإقبالك على الله سبحانه وتعالى.
ثم إن الذي يجاهر بالمعصية حين يهم بالتوبة بعد ذلك تثقل عليه، ويصعب عليه أن يسلك طريقها؛ لأنه أصبح مشهوراً بين الناس، ومشهوراً بين زملائه وأقرانه بالسوء والفساد، وهو الذي جنى على نفسه.
ومما يتعلق أيضاً بالمعصية أنك حين تفعل المعصية فلماذا لا تقتصر على نفسك؟ لماذا تدعو غيرك إلى المعصية؟ ولماذا تسعى إلى تسهيل المهمة لغيرك؟ فأنت أحياناً تتحدث مع زميلك، بل كثيراً ما تتحدث مع زميلك، فتخبره ماذا فعلت بطريقة تمارس فيها دعاية بالمجان لهذه المعصية، بل ربما تدله على الوسيلة التي يمكن أن تعينه على فعل المعصية، وربما وظفت نفسك مستشاراً دون مقابل على أسباب ووسائل الاحتيال على تحصيل المعصية.
أليست هذه دعوة للمعصية والفساد؟ ألا تخشى أن ينطبق عليك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً)، وأن ينطبق عليك قول الله عز وجل: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25]؟ ألا تخشى أن تأتي يوم القيامة وأنت تحمل وزرك على ظهرك ووزر من أضللته؟ قد تقول مرة أخرى: إن لك مبرراً وعذراً في فعل المعصية، ولكن ما العذر والمبرر أن تدعو غيرك للمعصية، وتسهلها عليه؟(19/6)
عدم الاستخفاف بالمعصية
ومما يتعلق بالمعصية أيضاً: ما بالك تستخف بالمعصية وتستهين بها؟ لقد حدثنا أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وضرب لنا مثلاً بليغاً، أرجو أن ترعي سمعك حتى لا ينطبق عليك هذا المثل، بل لعلك أن تصنف نفسك مع الفئة الأخرى: المؤمن يرى ذنبه كالجبل يوشك أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنبه كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا.
ما بالك حين تواجه بالنصيحة والإنكار تستخف بشأن المعصية؟ إن فعل المعصية شيء، والاستخفاف بها واستهوانها معصية أخرى، بل إن الاستخفاف بالصغيرة يحولها إلى كبيرة، فما بالك بالاستخفاف بالكبيرة والاستهانة بها؟! مرة أخرى أقول لك: حين تفشل في ترك المعصية، وتعجز عن ترك المعصية، فهذا لا يعني أن تفتح لنفسك الباب على مصراعيه، فهناك خيار ثالث وخطوة ثالثة أرجو وآمل أن تكون مقدمة التوبة الصادقة النصوح.(19/7)
عدم التخاذل عن نصرة الدين وخدمته
أخيراً: إن إعراضك وإدراجك لنفسك ضمن قائمة غير الملتزمين ليس مبرراً لك حتى تتخاذل، إنك تأتي إلى المسجد، فترى فيه محاضرة، هذه المحاضرة سلكت خطوات في إعدادها، وفي الإعلان عنها، وفي دعوة المحاضر، وفي ترتيب اللقاء، إلى غير ذلك.
ترى مثل هذا المخيم الذي تستمع فيه لمثل هذه الكلمة، وترى الجهد الذي بذله الشباب الذين قاموا عليه، وترى من يوزع الشريط، وترى من يوزع الكتاب، تلقيت منه الشريط والكتاب، وترى زميلك في المدرسة ويده تمتد ليناولك كتاباً أو شريطاً، وتراه يحرك لسانه ليقول لك كلمة صادقة ناصحة، وترى الجهود تبذل لخدمة دين الله عز وجل هنا وهناك.
فما بالك لا تبحث لك عن موقع في هذا الميدان؟! نعم، إنني أقدر موقعك، وإنني لا أنتظر منك وأنت على هذه الحال أن تتحول إلى واعظ، أو تتحول إلى خطيب أو محاضر، أو رجل يتحدث باسم الإسلام، فيؤلف ويصنف ويكتب وينافح عن دين الله عز وجل، لا أريد ذلك، بل لو أردت ذلك لقلت لك: رويدك وليس هذا مكانك.
لكن تستطيع -أخي الكريم- أن تقدم خدمة جليلة لدين الله عز وجل، وتستطيع أن تساهم في خدمة دين الله سبحانه وتعالى.
نقرأ في تاريخ الذين ساهموا في خدمة دين الله سبحانه وتعالى، من الزهاد، والعابدين، والقانتين، والعلماء، والصالحين، وحفاظ كتاب الله عز وجل، وحملة العلم الشرعي.
ولكننا مع ذلك نرى نماذج من أولئك الذين لم يكونوا على حال من الصلاح والاستقامة، كانت لهم مساهمات في دين الله عز وجل، والوقت يطول، فلعلي أذكر مثلاً واحداً.
كان الإمام أحمد رحمه الله كثيراً ما يدعو لرجل يقال له أبو إسحاق، فكان يقول: اللهم اغفر لـ أبي إسحاق إذا قام وإذا جلس.
فسأله أحد أبنائه: من يكون؟ فكان ينتظر أن يكون زاهداً رأى منه الإمام رحمه الله قدوة في الزهد، أو قدوة في العبادة، وكان ينتظر أن يكون شيخاً للإمام أحمد تعلم منه علماً.
فأخبره الإمام أحمد رحمه الله أن هذا الرجل كان لصاً، وكان قاطع طريق، حينما جيء بالإمام أحمد رحمه الله ليجلد في فتنة خلق القرآن، جذبه بردائه، فقال: أتعرفني؟ قال: لا أعرفك، قال: أنا أبو إسحاق العيار اللص الطرار، مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أني جلدت كذا وكذا في السرقة، ومع ذلك ما صدني ذلك، وأنت تجلد على كلمة الحق، فأنت أولى مني أن تثبت.
أرأيت هذا اللص الذي في السجن ولا يزال مصراً على جريمته، ومع ذلك يرى أنه يستطيع أن ينصر الإسلام، ويستطيع أن يقدم خدمة، وما هي هذه الخدمة؟ إنها ليست إقامة درس، ولا إلقاء خطبة، ولم يكن هذا الرجل مؤهلاً لذلك، إن هذه الخدمة كانت تتمثل بأن يقف مع الإمام أحمد رحمه الله، ويقول له تلك الكلمة التي زادته تثبيتاً، ولم يجد هذا اللص في تاريخه شيئاً يمكن أن يستثمره إلا تاريخه المليء بالإجرام والسرقة، فوظف ذلك التاريخ؛ ليكون شاهداً ومعيناً للإمام أحمد رحمه الله، بل تراه يستعين بتاريخه السابق السيئ فيقول للإمام أحمد: أنا وأنا صاحب المعصية والهوى أتحمل العذاب في سبيل السرقة، فأنت أولى مني أن تتحمل، وأنت تقول كلمة الحق! إننا نطلب منك أن تساهم، وأن تشعر أن الدين يعني الجميع، وأن الدين دين الناس جميعاً، وأنك ما دمت مسلماً فإنك ينبغي لك أن تسير مع القافلة، بل لعل هذا يكون بمشيئة الله عز وجل بداية خير وطريق توبة، فماذا عليك مثلاً لو أخرجت مبلغاً من المال -فهناك مبالغ كثيرة تقدم لزملائك بها بعض المشروبات والمأكولات، والذي تقدم أضعافاً منها لتكون وسيلة تشتري بها ما يعينك على المعصية- ماذا عليك لو أخرجت جزءاً من هذا المبلغ؛ فأعطيته أحد الصالحين والأخيار، أو أحد الدعاة إلى الله عز وجل، وقلت له: اصرف هذا المبلغ في الدعوة إلى الله عز وجل، وفي سبيل الله سبحانه وتعالى؟ ماذا عليك حين تستمع إلى شريط أن تهديه إلى أحد زملائك، وأن تشتري كتاباً، وأن تشتري شريطاً؟ ولو أردت مجال الخير وخدمة دين الله عز وجل؛ لاستطعت أن تجد الآلاف من الوسائل والسبل، فقد عهدناك مفكراً، وعهدناك مجتهدً في البحث عن شهواتك ورغباتك، بل أنت تبتكر، ولا ترضى بحال أن تستعير فكرة غيرك، فأنت كل يوم تخرج لنا بفكرة جديدة، وطريقة جديدة، فوظف هذا التفكير وهذا العقل لتقدم شيئاً يسيراً لخدمة دين الله سبحانه وتعالى، عل هذا يكون خطوة لك تنقلك إلى طريق الاستقامة والخير بإذن الله عز وجل.(19/8)
الآثار السيئة للهوة القائمة بين الملتزمين وغيرهم
بعد هذا الحديث ننتقل إلى نقطة أخرى تحتاج منا إلى مصارحة، وهي العلاقة بين الشاب الملتزم والشاب غير الملتزم، فنرى أن هناك أخطاء ترتكب من الجميع، ولا ننزه أنفسنا، وحين نقول: إن هناك أخطاء، فإننا نعرف ونجزم أن معظم هذه الأخطاء قد لا يكون بالضرورة صادراً عن عمد وسبق إصرار، بل ربما عن اجتهاد وحسن نية، فيرى أن هذا ما ينبغي أن يفعله.
وهناك أخطاء ألفناها فصارت جزءاً من تفكيرنا.(19/9)
الصراع والتنافس بين الملتزمين وغيرهم
إن أول خطأ أرى أن الجميع مسئولون عنه هي هذه الهوة السحيقة والفجوة العميقة بين هذين الجيلين، بين الشباب الملتزم والشباب غير الملتزم، فأنت ترى كل طرف يعتقد أنه في ميدان، والطرف الآخر في ميدان آخر يقابله، بل نرى أنهما قد أصبحا في ميدان تنازع وتنافس، وربما في ميدان صراع.
لا شك -معشر الإخوة الكرام- أن سلوك المرء واستقامته ودينه يؤثر على علاقته، وعلى نظرته للناس، ولا شك أن هذا يصير الناس فئات، فيتعاملون من خلال ما يعتقدون من معتقدات، وما يمارسون من سلوكيات، والمشابهة في الظاهر تورث المحبة واللقاء في الباطن، والتنافر في الظاهر يورث التنافر في الباطن، ولكن هذا شيء والواقع الذي نعاني منه شيئاً آخر.
إنني أطرح هذا السؤال الذي أرجو أن نطرحه جميعاً -معشر الملتزمين وغير الملتزمين- على أنفسنا: من المستفيد من هذه الفجوة وهذه القطيعة؟ إن الأعداء هم المستفيدون؛ لأنهم يحولون دون وصول الخير، ودون وصول الكلمة الناصحة والصادقة إلى الطرف الآخر، ودون وصول النقد والتقويم إلى الآخرين.
ثم السؤال نفسه بطريقة أخرى: من الخاسر؟ نحن جميعاً، ولست أقول: إنه غير الملتزم، بل حتى الملتزم، إن الشاب غير الملتزم يخسر خسارة كبرى حين يساهم في إيجاد هذه الهوة، وهذه الفجوة، إنه يخسر حين يقيم هذه الهوة وهذه الفجوة، فيقيم أمامه سحباً تمنعه من وضوح الرؤية، وتجعل حاجزاً بينه وبين طريق الخير وطريق الصلاح والاستقامة، فيفترض حواجز وعوائق تحول بينه وبين طريق الخير، فهو الخاسر الأكبر.
وأنت أيها الشاب الملتزم خاسر أيضاً؛ لأنك تساهم في الحيلولة بينك وبين من تريد أن تخاطبه في هذه الدعوة، إن مثل هذا الشاب كما أنه يحتاج إلى دعوتك، فأنت أيضاً تحتاج إلى أن تفتح معه هذه العلاقة، وتفتح معه هذه الصفحة؛ لتقدم بين يديك عملاً صالحاً تدخره عند الله عز وجل، {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم).
إن مثل هذه القطيعة المفتعلة، التي نمارسها ونسعى إليها، تحول بيننا وبين هذا الميدان الواسع الفسيح من الدعوة، بل تكون عائقاً لنا عن أداء هذا العمل الذي هو من أفضل الأعمال التي نتقرب بها إلى الله عز وجل.
إذاً: معشر الإخوة الكرام! من الرابح ومن الخاسر؟ قلب الأمر حيث شئت؛ لترى أننا بحاجة إلى أن نلغي هذه القطيعة، وأن نقضي عليها.
ثم مع ذلك نحن نخسر خسائر أخرى غير هذه الخسارة؛ نخسر الشاب غير الملتزم حال بينه وبين طريق الهداية، وطريق الكلمة الناصحة، والشاب الملتزم حال بين نفسه وبين هذا المجال من مجالات الدعوة، ومجالات الكلمة الناصحة الصادقة، هذا الميدان من ميادين العبادة والطاعة التي يتقرب بها إلى الله عز وجل.(19/10)
السخرية من الشباب الملتزم
أيضاً نخسر خسارة أخرى، فالشاب غير الملتزم يقع في خطأ شنيع قد يكون محبطاً لعمله الصالح، وهو السخرية من الشاب الملتزم، والاستهزاء به، وهذا أمر خطير قد يقود الإنسان -عافانا الله وإياكم- إلى أن ينطبق عليه قوله الله عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة:65 - 66].
وهذه الآية نزلت -كما تعلمون جميعاً- في قوم كانوا يقولون في قراء النبي صلى الله عليه وسلم: هؤلاء قراؤنا أرغبنا بطوناً، وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء.
إنه يخشى أن ينطبق عليه قول الله عز وجل: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون:109 - 111].
ويخشى أن ينطبق عليه قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين:29 - 35].(19/11)
استكبار الشاب الملتزم وإعجابه بنفسه
وفي المقابل الشاب الآخر الملتزم المستقيم هو الآخر عرضة لآفة تنشأ عن هذه القطيعة، وآفة تنشأ عن هذه الهوة المفتعلة، وهي الاستكبار والاستعلاء، والشعور بالعلو، واحتقار ذاك الذي يقع في المعصية، ويخشى أن يكون كأحد صاحبي بني إسرائيل الذي كان مطيعاً لله عز وجل، ومقبلاً على الله سبحانه وتعالى، وكان صاحبه مفرطاً، ومهملاً لنفسه، فكان يدعوه إلى ترك المعصية، ويدعوه إلى الاستقامة، وإلى الصلاح.
ونتيجة لأن هذه الدعوة الملحة قد طالت دون نتيجة، قال له صاحبه: (ما لك ولي، دعني وربي.
فقال: والله لا يغفر الله لك، فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى علي، قد غفرت له، وأحبطت عملك!).
معشر الشباب الكرام! آفة عرضة لأن يقع فيها الشاب الملتزم، حين يرى نفسه قد سلك الاستقامة والخير، وانتصر على شهواته ورغباته، في حين يرى صاحبه غارقاً في أوحال المعصية والرذيلة، فحين يراه كذلك فإن هذا مدعاة لأن يفكر في أنه أعلى قدراً وشأناً، وأن يفكر أنه أعظم منزلة عند الله عز وجل، وأن يعجب بعمله، وهذا الأمر مدعاة لإحباط العمل وبطلانه كما أخبرنا صلى الله عليه وسلم.
بل أول معصية نشأت إنما نشأت من الكبر والعجب ممن قال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12].(19/12)
حرص غير الملتزمين على إغواء الملتزمين
وهي أيضاً تنشئ عند الشاب سلوكاً آخر مرفوضاً، وهو حرصه على فتنة هذا الشاب وصده وإغوائه بأي وسيلة، أحياناً عن طريق السخرية، وأحياناً المناقشة، وأحياناً بترف الفتنة أمامه أياً كانت، وكم نرى من الشباب من يمارس الفتنة والصد، وهذه جريمة أخرى، وشنيعة أخرى.
إنك حين تقع في المعصية، وحين تستحقرها، فأنت على خطأ، وأنت قد قصرت، وأنت على الهاوية، نسأل الله عز وجل أن يعيننا وإياك على التوبة النصوح لله سبحانه وتعالى، فأنت تساهم في دعوة غيرك إلى المعصية، بل حين تساهم في فتنة وصد ذاك الشاب العفيف، والشاب الخير، والشاب المستقيم، فأنت ترتكب جريمة أخرى، وأنت تقف مع الأعداء في خندق واحد وصف واحد، سواء شعرت بذلك أم لم تشعر.(19/13)
دعوة إلى كسر الحواجز بين الملتزمين وغيرهم
إذاً: فنحن بعد أن أدركنا هذا النتاج، وبعد أن أدركنا تلك المقدمات كلها بحاجة إلى أن نسعى إلى كسر الحواجز، ووالله حين نكسر هذه الحواجز ونحطمها، فإننا بإذن الله عز وجل سنرى نتاجاً أكبر، وسنرى إن شاء الله جهوداً خيرة قد أثمرت، وسنرى الاقتراب.
لقد تضاعف عدد المسلمين الذين أسلموا بعد صلح الحديبية، فإن الذين أسلموا بعد صلح الحديبية إلى فتح مكة كانوا مثل الذين أسلموا منذ أن جاء الإسلام إلى صلح الحديبية، بل كانوا أكثر، والسبب في ذلك -كما يقول أهل السير- أن صلح الحديبية كان مجالاً للقاء والمناقشة والدعوة، وكانت هدنة أوقفت الحرب، فصار مجالاً لنشر الدعوة واللقاء، مما زاد من عدد المهتدين والداخلين في دين الله عز وجل.
وحين ندعو إلى كسر الحواجز فإننا ندعو الطرفين جميعاً، ندعو الشاب الملتزم لأنه هو الذي يحمل الهمة العالية، ويرى أن هذه الدعوة وظيفته، وأن هذه الدعوة شغله الشاغل، وأن هذه الدعوة هي همه وهي حياته.
وندعو الشاب غير الملتزم ونقول له: إن الشاب الملتزم قد فاقك في سلوك طريق الخير، والاستقامة، وقطع خطوة، وله حسنات، ولعلك تبادر وتقطع هذه الخطوة، فتكون أنت السابق ولو على الأقل في هذا الميدان.
إننا ندعو الجميع أن يساهموا في إزالة هذه الحواجز، وأن يساهموا في ردم هذه الخنادق، وبناء الجسور على مثل تلك الهوة التي كانت حاجزاً ومانعاً عن كلمات صادقة كان يمكن أن ينفع الله بها الكثير.
معشر الشباب! إنها دعوة صادقة وملحة إلى كسر هذه الحواجز وتحطيمها وإزالتها، فنفتح صفحة من الحوار والنقاش والمجادلة بالتي هي أحسن: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].(19/14)
النقاش والحوار الهادئ
النقاش والحوار الهادئ بين الطرفين، فسنرى أن الشاب غير الملتزم سيطرح عوائق وعقبات يراها أمامه في طريق الالتزام، فيساهم صاحبه وأخوه في تذليل هذه العقبات، والإجابة على هذه التساؤلات، وإعانته عليها، ونرى في المقابل الشاب غير الملتزم سيطرح بعض الانتقادات، وبعض العيوب التي يرى أن أخاه وزميله الملتزم يقع فيها، فتكون مدعاة لتوضيح الرؤية، ووضوح الصورة، ومدعاة لتصحيح الأخطاء أيضاً.
إن هذا النقاش وهذا الجدل حين يكون بالتي هي أحسن، وحين نفتح حلقات للحوار والنقاش في المدرسة، وفي الشارع، وفي المنزل، وفي كافة اللقاءات، فسنستفيد جميعاً، ولو على الأقل أن تقترب وجهات النظر، ولو على الأقل أن يكون هذا النقاش وحده مساهماً في تحطيم هذا الحاجز، وحين يكون هناك نقاش فينبغي ألا يتحول إلى محاكمة وجدل، وحين نتناقش نحن، ونتخيل أننا في ساحة المحكمة، فستكون ثمرة النقاش مرة، وستكون النتيجة معاكسة.
حين أقف أنا وأنت، فأقول: إنك تفعل كذا، فتتهمني بكذا، وأتهمك بكذا، ويصبح كل منا شأنه أن يبحث عن تهمة يلصقها بصاحبه، وشأنه أن يبرر تهمته، حين نسلك هذا المنهج فلن نفلح، ولن يؤتي النقاش ثمرته إلا حين يكون كما قال الله عز وجل: {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].
ومعنى (بالتي هي أحسن) أن نكون واضحين، وأن نكون صرحاء، وأتحدث لك عن خطئك بوضوح وصراحة، ومع ذلك فالصراحة ليست مبرراً لسوء الأدب، فمع الصراحة والوضوح أتحدث معك بأدب، ويتطلب مني أيضاً أن أعترف بأخطائي وعيوبي، وأن أكون واضحاً صريحاً مع نفسي ومعك.
وحين يفتقد النقاش ويفتقد الحديث هذا الشرط فلن يجدي، ولن ينتج الثمرة، بل لعله يزيد في افتعال الهوة، بل لعله أن ينتج لنا الثمرة المرة.(19/15)
البحث عن أسباب المشكلة والعمل على علاجها
أخيراً: إننا حين نرى مثل هذه القطيعة وهذه الهوة فأنا أجزم أنكم تشاركونني أنها مرفوضة، وأنها غير مقبولة، وأن الرابح غيرنا، والخاسر ليس سوانا، أظنكم تشاركونني هذه النتيجة.
أيضاً يجب أن نكون واقعيين، وأن نبحث عن أسبابها، فهناك أسباب وأمور أدت إلى ذلك، ولعل من أهمها تطبيق مبدأ الولاء والبراء، والبغض في الله والحب في الله.
إن الشاب الملتزم يرى أن دينه وأن استقامته وصلاحه تفرض عليه أن يحب في الله ويبغض في الله، وما دام فلان غير مستقيم، وما دام فلان يجاهر بالمعصية، فإن علي أن أبغضه وأن أظهر له البغضاء، وهذا من دين الله عز وجل، ولا نطالب بإلغائه ولا زواله، ولكن حسن العشرة شيء آخر غير ذلك بكثير.
إنه لا يمنعني -وحين يعهد مني صاحبي الصراحة- أن آخذه بحديث ودي، فأقول له: إنك مسلم، وإني أجزم أنك تحب الله ورسوله، وإنني أحب فيك الطاعة، وأحب أن أراك في المسجد، وأن أراك تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولكني واضح صريح معك، فلست أدعي أني أحبك كما أحب أخي، ولست أدعي أني أحبك من سويداء قلبي.
إنني مع ذلك أرى عليك أثر المعصية، وأثر الانحراف، وأرى أن هذا يفرض علي أن أبغض فيك هذه المعصية، فإني أتمنى أن تكمل المحبة، وأن يتم اللقاء، ولن تكمل هذه المحبة، ولن يتم هذا اللقاء إلا حين تزيل سبب القطيعة والبغضاء، وهو هذه المعصية.
أيضاً جانب آخر وأمر آخر قد يكون عائقاً للشاب الملتزم عن صاحبه، هو أنه يرى أنه حين يحسن العشرة معه، فإن هذا مدعاة إلى أن يصحبه فيتأثر به، فيدعوه ذاك من حيث لا يشعر إلى الارتكاس والانتكاس عافانا الله وإياكم.
إنه يرى أن هذه الاستقامة، وأن هذا الالتزام، وأن هذا الخير الذي حصله مكسب لا يقاس بثمن، وثمرة لا تعادلها ثمرة، فهو يريد أن يحيطها بهذا السياج، ويحيطها بهذا السور المنيع حتى لا تخترق، فيرى أنه إن صاحب ذاك بالحسنى وعاشره، فإنه مدعاة إلى أن يكون وسيلة للصحبة السيئة التي تقوده من حيث لا يشعر إلى الانتكاس، وإلى الحور بعد الكور.
فهو يضع هذا السياج، ويبني هذا السور، لا رغبة عن الخير، ولكن حماية لنفسه من التأثر، ومن الوقوع في الزلل والخطأ والانحراف والحور بعد الكور.
ونحن نقره أن الثمرة التي حصلها غالية، ونقره أن الاستقامة لا يعدلها الشيء، وأن السلامة لا يعدلها شيء، وأنه ينبغي أن يحرص عليها.
ولكن ما ندعوك إليه ليس أن تقضي لياليك ونهارك مع صاحبك، ليس أن تضاحكه وتمازحه وتعاشره، إنما ندعوك إلى ابتسامة صادقة، وإلى كلمة تقولها، وإلى دعوة، وإلى نقاش، ثم بعد ذلك يجب أن تحرص، وأن تحتاط، وأن تعرف أن طول العشرة والألفة واللقاء قد يكون مدعاة لأن تتأثر أنت، فتتحول من مرسل إلى مستقبل، وتتحول من داعٍ إلى مدعو، فيجرك معه إلى المستنقع حين أردت أنت إنقاذه.
وحينئذٍ فمع دعوتنا إلى كسر الحواجز، ومع دعوتنا إلى اللقاء والنقاش والحوار، فإننا ندعو أيضاً أن يكون هناك ضوابط تكفل ألا تتحول بعد ذلك إلى خسائر أخرى، وإلى أن يكون أولئك أصحاب الشهوات هم الذين يدعون الآخرين، ويجرونهم إلى طريقهم.
ونحن قادرون حين يكون الأمر مقتصراً على كلمة صادقة، وعلى هدية، وعلى ابتسامة، وعلى حسن عشرة، ثم بعد ذلك نقطع الطريق، ونقول لهم أيضاً بصراحة ووضوح: إننا نرى أن طول عشرتنا معكم، وإلفنا معكم، ولقاءنا معكم قد يكون مدعاة لأن نقع نحن معكم، فنعتذر لكم عن طول اللقاء، ونعتذر لكم عن طول المعاشرة؛ لأننا نخشى على أنفسنا، وحين تعودون وتسيرون في الجادة، فنحن سنصبح وإياكم إخوة.
معشر الإخوة الكرام! إن ما أطرحه في هذا اللقاء لا يزيد على أن يكون محاولة من قلب يتفطر ألماً وحرقة على هذا الواقع المرير الذي نعانيه.
الشاب يراهم هنا في هذه المخيمات، بل يراهم أمامه في الفصل وقد أنصتوا إليه، ويراهم أمامه في الحي فيتفطر قلبه ويبدأ يفكر، وقد يقوده هذا التفكير إلى مثل هذه الرؤى والنتائج، وهذه الرؤى والنتائج ليست بالضرورة معصومة، وليست بالضرورة نتائج مسلمة، بل ينبغي أن تحاط أفكارنا وإبداعاتنا دائماً بسياج الشرع الحكيم، وينبغي أن نكثر المراجعة، وأن نكثر المناقشة لها مرة بعد أخرى، وأن نقيس مدى انطباق ما نقوله على شرع الله عز وجل؛ لأن هذه الدعوة ينبغي أن تحاط بسياج الشريعة.
ومهما كانت أهدافنا نبيلة، ومهما كانت مقاصدنا عالية وسامية، فإن ذلك ليس مبرراً لنا أن تنطلق أفكارنا واقتراحاتنا دون ضوابط من شرع الله عز وجل، ودون قواعد.
أيها الإخوة الكرام! إنها محاولات وأفكار لا أدعي فيها العصمة، بل لا أدعي فيها أن تكون صواباً، فهي لا تعدو أن تكون اجتهاداً، فإن أصبت فمن الله عز وجل، وذلك فضل الله سبحانه وتعالى، وهو صاحب الفضل والمن أولاً وأخيراً، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان، وأنا أدعوكم جميعاً إلى أن نفكر جميعاً فيما نسمع، وألا نتلقى فقط دون مناقشة ودون مساءلة.
إنني أجزم أنكم جميعاً تشاركونني الألم والهم، وأجزم أنكم جميعاً ترون أن هناك أخطاء من الجميع، ولكن كيف يصحح الخطأ؟ قد نختلف في ا(19/16)
الأسئلة(19/17)
كلمة توجيهية للنساء
السؤال
نطلب منك كلمة توجيهية لأخواتنا المسلمات؛ لأنه يوجد في المخيم عدد كبير من النساء، نشكرهن على إنصاتهن وحسن أدبهن.
الجواب
لا أريد أن أطيل إنما أريد أن أقول كلمات يسيرة: أولاً: لماذا نفترض أن هناك كلمة خاصة للنساء، وإذا وجهنا كلمة خاصة للنساء فهذا يعني أن كل ما قلناه خاص بالرجال فقط، فما نقوله سابقاً يشمل الشباب، ويشمل أيضاً الفتيات، ولهذا أقول للفتيات: كل ما قلناه سابقاً ينطبق عليكن.
وإن كان هناك من كلمة خاصة توجه للنساء فهو فيما يخصهن، أما بقية الأمور فالمرأة تشترك فيها مع الرجل، ولئن كانت لهجة التذكير سائدة على حديثي فذلك لأسباب: أولاً: أن أصل الخطاب في الشرع للرجال، وتدخل فيه النساء.
ثانياً: لا أرى أمامي إلا الشباب، فيتأثر الإنسان بما يشاهد وبمن يستمع إليه.(19/18)
كلمة توجيهية عن الدعوة إلى الاجتماع ونبذ الخلاف
السؤال
نرى شباب الصحوة وقد وقعوا في التفرق المذموم، وإهمال العلم والدعوة إلى الله، والاشتغال بأمور تعود عليهم بالإثم، بينما هناك أهل الباطل يستجلبون الشباب، ويعملون ليل نهار على ألا يعودوا إلى الله، فهل من كلمة توجيهية حول هذا الأمر؟
الجواب
لا شك أن الجميع يدرك أن هناك فرقة واختلافاً، ونسمع الكلام الكثير عن ضرورة الاتحاد والاجتماع وذم الفرقة، لكن نريد برامج عملية للقاء، وبرامج عملية لزوال الفرقة، فنريد من الذين يتحدثون ويذمون الفرقة أن يطرحوا لنا وأن يساهموا وأن يعملوا.
الجميع يقولون: نجتمع على الكتاب والسنة، هذا الكلام نوافق عليه جميعاً، لكن كل الناس يرون أنهم على الكتاب والسنة، ولا يوجد من يدعو إلى خلاف ذلك.
ولكن بدلاً من هذا كله، وبدلاً من النحيب والانتقاد، وربما تجد هذا السؤال نطرحه جميعاً في كل مناسبة وكل لقاء، نريد أن نطرح برامج عملية، وأن نساهم عملياً في مثل هذه الأمور، مع أن هذا ليس دعوة إلى إلغاء الحديث في مثل هذه الأمور، لكنكم تعلمون جميعاً أن هناك من يمارس الفرقة عن عمد وسبق إصرار باسم الدعوة إلى إلغاء الفرقة، ومن يمارس شق الصف عن عمد وسبق إصرار باسم الدعوة إلى جمع الصف ووحدة الكلمة.
ونحن لا يهمنا النية، ولا يهمنا ما يريد، المهم الذي أقصده أننا يجب أن ننتقل نقلة أخرى، نحن الآن أصبحنا نسمع الدعوة إلى اللقاء، ونسمع ذم الفرقة، لكن نريد أن نكون عمليين، ونريد أن نكون أناس واقعيين، فمجرد الدعوة ومجرد الكلام لا يكفي.
لا يوجد أحد يرضى الاختلاف، ولا يوجد أحد يرفض الاجتماع، وإذا وجد أحد فهذا مرفوض أصلاً، وهذا يريد الفتنة لا يريد الخير، لكن نريد خطوات عملية واقعية يمكن أن تقنع الناس، فبدلاً من الانشغال بكثرة الكلام، يجب أن نشغل أذهاننا بالتفكير؛ فنطرح أموراً عملية نساهم فيها نحن عملياً عل الله عز وجل أن يعين ويوفق إن شاء الله.
وأنا أتصور أن من أهم الأمور التي تساعد على الاجتماع وزوال الفرقة، أن ننشغل جميعاً بالدعوة، فإذا انشغلنا بالدعوة والخير، وصار العمل هم الجميع، حينئذٍ ستزول كثير من المشكلات.
هذه القضايا ومشاكل الفرقة والاختلاف لا تنشأ إلا عند الناس الفارغين، فلو كان كل إنسان يعمل في ميدانه وينتج؛ لكانت المحصلة والنهاية -إن شاء الله- إلى الاجتماع والالتقاء.(19/19)
دعوة الآباء إلى الاهتمام بالأبناء
السؤال
آمل منكم توجيه نداء للآباء بالاهتمام بأبنائهم والعناية بهم، ولعل هذا النداء يعتبر من الجسور أو من إحدى الطرق لإقامة الجسور بين الطيبين وغير الطيبين؟
الجواب
نحن جميعاً ندرك المشكلة، وكل الآباء يدركون المشكلة التي يعانون منها، بل إن الأب حينما يرزق بمولود ذكر، فإنه كثيراً ما يضع يده على قلبه يخشى من المستقبل، ويخشى مما أمامه، وتراه دائماً يقول: أصلحك الله يا ولدي، وهداك الله يا ولدي، يقولها في العتاب والتأنيب والشكر والتشجيع، وفي كل مناسبة يكرر هذه الكلمة، والتي تنم عن شعور برغبته الجامحة وحرصه على هدايته وإصلاحه.
فأقول: لماذا لا نفكر أيضاً في كسر هذه الحواجز وتحطيم هذه الحواجز، ومد هذه الجسور بين الآباء والأبناء أنفسهم.
إن مما يحول دون التربية الأبوية السليمة والصحيحة والناضجة أن هناك فجوات عريضة وواسعة بين الأبناء والآباء، فلو سعى الطرفان جميعاً إلى تحطيم هذه الفجوات، وصار الأب يعيش في حوار صريح مع أبنائه، والأبناء كذلك؛ لساهم هذا كثيراً في وضوح الرؤية أولاً؛ لأن الأب لا يعرف فيم يفكر ابنه، ولا يعرف ماذا يريد ابنه، ولا يعرف مشاكل ابنه، والابن كذلك.
فلو كان هناك وضوح، وحوار صريح؛ لساهم كل طرف في معرفة ما عند الطرف الآخر، ثم كان هذا مدعاة بإذن الله لمزيد من الإصلاح، وقطع الخطوات بمشيئة الله عز وجل.(19/20)
كيفية العودة إلى طريق الاستقامة
السؤال
أنا شاب كنت ملتزماً، ولكني تغيرت وانحرفت في الأخير، وأريد أن أعود إلى الطريق، وإلى الرفقاء الصالحين، وأخشى ألا يرحب بي زملائي الطيبين، فماذا أعمل؟
الجواب
أولاً: يجب أن تشعر أن العودة إلى طريق الاستقامة والصلاح ضرورة، وليست فكرة تريد أن تطبقها.
ثم المشكلة أن الشاب عندما يكون مستقيماً وصالحاً ثم ينحرف؛ يكون أسوأ في الانحراف، ويكون أكثر بعداً عن العودة إلى طريق الاستقامة والخير؛ لأن الإنسان الذي لم يجرب أقرب إلى الخير من الإنسان الذي جرب هذا الطريق وعرف ما فيه.
فأقول: يجب أن تعرف أن القضية ليس فيها خيار، ولا مجال للتفكير في العقبات، وهو طريق لابد أن تسلكه، وإذا فكرت في العقبات ففكر كيف تذللها فقط، أما أن تفترض عقبات أمامك لتؤثر هذه العقبات في اتخاذ القرار فهذه مشكلة.
ومما يؤسف أن كثيراً من قراراتنا تتأثر، فعندما يفكر الإنسان أول ما يتبادر إلى ذهنه هذه العقبات، وينسى أنه ليس أمامه خيار من سلوك هذا الطريق، فإذا فكر في العقبات فيجب أن يفكر في كيفية تذليلها.
فأقول: إذا وجدت عندك هذه العزيمة والهمة ستستطيع أن تذلل هذه العقبات، وأنا أجزم أن زملاءك سيرحبون بك، بل سيحرصون عليك، وعندما تعرض أمامهم المشكلة بوضوح فسيحرصون عليك.
وهب أنهم رفضوك، فالناس غيرهم كثير، فبإمكانك أن تذهب إلى غيرهم، وأن تجد بديلاً عنهم بإذن الله عز وجل.(19/21)
حكم إشاعة خبر الانحراف
السؤال
ما توجيهكم لبعض الشباب الملتزمين الذين ينشرون خبر شاب كان من إخوانهم الملتزمين، ثم ارتكب معصية أو انحرف؟
الجواب
أولاً: هذا الأمر هو من الغيبة التي لا تخفى شناعتها وشؤمها، وقد شبهها الله عز وجل بمن يأكل لحم أخيه ميتاً.
ثانياً: هذا من إشاعة المعصية والفاحشة بين المؤمنين، وهي دعاية للمعصية؛ لأن الناس عندما يعرفون أن فلاناً وقع في المعصية، وفلان وفلان؛ يستسهلون المعصية، ويستهينون بها، وصاحب المعصية كلما تصور واعتقد أنه غريب ووحيد في هذه المعصية؛ فإن هذا مدعاة لأن يتوب إلى الله عز وجل، ويقبل إليه سبحانه وتعالى، أما حين يعرف أن له شركاء في المعصية؛ فهذا يجعل المعصية تهون عليه وتخف كالطاعة تماماً.
ثالثاً: هذا أيضاً لا يخدم المصلحة في النهاية؛ لأننا نريد من هذا الشاب أن يعود إلى الله عز وجل، وهذا يكرس الانحراف عنده، بخلاف ما إذا كان الناس لا يعلمون عنه مثل هذا الشيء، فإنه يسهل عليه أن يعود بعد ذلك.(19/22)
موقف الشاب الملتزم من بيئته
السؤال
أنا في بداية الالتزام على طريق الهداية، ولكني أعيش في بيئة غير ملتزمة، فماذا أعمل حيال ذلك؟
الجواب
لقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعيشون في حال أعظم مما نعيش فيه، فقد كانوا يعيشون في بيوت ليس فيها انحراف ومعاص فقط، بل كانت بيوتاً تغص بالشرك والكفر بالله عز وجل، وكان آباؤهم وأمهاتهم يسعون إلى فتنتهم وصدهم عن دين الله عز وجل، وما كان ذلك ليردهم عن دين الله سبحانه وتعالى، فعليك أن تصبر وتحتسب، ثم تعلم أن الالتزام والاستقامة لها ضريبة لابد أن تدفعها، ولابد أن تتحمل، ولابد أن تجاهد نفسك، ولعل ذلك يكون سبباً في إصلاح هذا البيت، ودعوته، والتأثير فيه، فكم نرى من البيوت التي عم فيها الخير والصلاح والاستقامة؛ بسبب شاب من هذه الأسرة هداه الله عز وجل.(19/23)
التكامل والتوازن في التربية
التربية الإسلامية للشباب والناشئة من الأمور الضرورية التي يجب أن يعنى بها المسلمون على مستوى الفرد والمجتمع، ومن أهم الأمور في ذلك التكامل والتوازن بين وسائل التربية وطرقها وتطبيقاتها، حتى يتخرج لنا جيل مؤهل لحمل المسئولية وقيادة المجتمع.(20/1)
ضرورة التكامل والتوازن في التربية
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
إن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد: فهي فرصة طيبة أن نلتقي بالإخوة الكرام، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يثيبهم ويجزيهم خير الجزاء على ما تسببوا به من إحياء هذا اللقاء الذي أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا فيه ممن يذكرهم الله سبحانه وتعالى فيمن عنده.
وهذا الموضوع -التكامل والتوازن في التربية- موضوع بائت، فقد كان ضمن سلسلة الدروس الشهرية في شهر ذي القعدة من العام المنصرم، ولكن حالت ظروفي الصحية دون إلقائه، وشاء الله عز وجل أن يكون من نصيبكم، ولئن كان الطعام لا يشتهى بائتاً وحين يبيت فإنه يأسن ويفسد، فأحسب أن الفكرة حين تبيت تصبح أكثر نضجاً ويصبح صاحبها أكثر اقتناعاً بطرحها.
وقديماً كان ابن النوام حين يطلب منه أن يخطب وهو لم يعد لخطبته كان يقول: لا أشتهي الخبز إلا بائتاً.
فأرجو ألا يكون من سوء حظكم وسوء وفائكم أن يكون نصيبكم هذا البائت، بل إن الفكرة البائتة أكثر نضجاً وأعمق أثراً.
معشر الإخوة الكرام! إن الحديث عن إنقاذ الأمة، وعن ضرورة رسم المنهج ذي المعالم الواضحة في إحياء الأمة وإنقاذها، حديث أحسب أنا قد تجاوزناه، وأحسب أنه أصبح من البداهيات لدى كل مسلم يشعر بواقع الأمة، ولدى كل مسلم يشعر بدوره في إنقاذ الأمة، لكن مدار النقاش والحديث حول المناهج ووسائل التغيير.
وأحسب أن الجميع أو أن الأغلب من قطاع الصحوة يوافقنا أن التربية ضرورة ملحة لغرس المعاني والتوجيهات الشرعية في صفوف الناشئة وعلى صعيد الأمة أجمع، وضرورة ملحة لغسل أوضار الماضي وآثاره السيئة، أن التربية ضرورة ملحة لإعداد الأمة لأن تكون أهلاً أن تحمل هذا الدين وأن تحمل هذه الرسالة، لا لهذه الأمة وحدها، بل للعالم أجمع، فقد اختار الله عز وجل هذه الأمة وأتمنها على هذه الرسالة للبشرية كلها فخصها الله عز وجل بخاتمة الرسالات وخاتمة الشرائع، وكانت أمة وسطاً خير أمة أخرجت للناس، شهيدة على الناس في الدنيا والآخرة، وهي حين تسعى للقيام بهذا الدور وأداء هذا الواجب فلابد أن تكون مؤهلة لهذه المنزلة.
ولا أظن أبداً -أيها الإخوة- أننا يمكن أن نبلغ هذا المستوى وهذه المنزلة، وأننا يمكن أن نرقع الخلل الذي تعاني منه الأمة من غير تربية، وأرى أنها تستحق منا الحديث الكثير عن ضرورتها، والمطالبة بها، والحديث عن المناهج التربوية والأخطاء التربوية، والحديث عن أساليب التربية، وأرى أن هذا الباب وهذا الجانب أمر ينبغي أن نعنى به جميعاً، لا على مستوى الصحوة فحسب، بل على كافة الطبقات والمستويات.
وهذا الموضوع موضوع شمولي يتحدث عن جوانب كثيرة، سواء أكانت جوانب فرديه أم كانت جوانب على مستوى الأمة، وسواء كانت جوانب تخص الفرد في حد ذاته أو كانت تتعلق بالأسرة ودور الأب ودور الأم، أو كانت تتعلق بالمؤسسات التربوية من المدرسة وغيرها من المحاضن التربوية، ونحن حين نتحدث هذا الحديث فإننا لا نعدو أن نذكر خواطر مجردة، وإلا فالحديث عن هذه القضية لا نستطيع أن نأتي عليه في هذه الأمسية.
ثانياً: حين نتحدث عن القضايا التربوية فنحن نطرح منهجاً ونظرية رأياً قد يكون قابلاً للصواب والخطأ، لكن هذا شيء وتطبيقه على آحاد الأفراد والأحوال شيء آخر، فنحن نتحدث عن أسلوب أو عن منهج أو عن برنامج، وهذا لا يعني بالضرورة أن زيداً من الناس أو عمرواًَ ينطبق عليه هذا الكلام أو ذاك، أقول هذا لأنه يحصل كثيراً أن الكثير من إخوتي الأساتذة والآباء والمربين يطبق ما تقول حرفاً بحرف على حالة يعيشها هو مع من يربيه، مع تلميذه أو مع ابنه، وقد تكون حالة فريدة لها اعتبارات خاصة، فحينئذ يشعر بنوع من عدم التوافق، بين ما يطرح ويسمع وبين ما يراه على أرض الواقع.
ثالثاً: التربية ليست مسئولة عن مشكلات لم تكن هي السبب في إحداثها وفي وقوعها، إنك مثلاً قد تجد البعض من الآباء يشكو لك مشكلة ابن من أبنائه أو بنت من بناته قد بلغ سن التكليف، واستعصى على التوجيه فلم يعد قابلاً للتربية، فيعرض عليك مشكلة ويطلب منك حلاً لهذه المشكلة، قد تجد حلاً وقد تنجح، لكن ينبغي أن نعلم أن هذه المشكلة لم تكن التربية هي المسئولة عن حدوثها، فهي تعكس إخلالاً، تعكس إهمالاً للتربية ابتداءً.
وهكذا حين يعرض عليك الأستاذ مشكلة يطلب منك حلاً لابد أن يتحقق على أرض الواقع، وحينئذ يراجع ويراهن على عدم صحة ما تقوله أو ما تطرحه، فنحن حين نتحدث عن التربية وحين نرى أن التربية كفيلة بإذن الله في تجاوز الكثير من المشكلات والعقبات، فهي ليست مسئولة عن حل مشكلات لم تكن هي السبب فيها ابتداءً.
إننا نفترض أن يتربى الشاب من صغره، بل من طفولته على أن يرعى هذا ال(20/2)
أسباب المطالبة بتربية متكاملة متوازنة(20/3)
خلق الله الإنسان وفيه جوانب مختلفة
إننا نطالب بأن تكون التربية متكاملة متوازنة في الوقت نفسه، سواءً على مستوى الأفراد أو على مستوى المجتمع ككل، وحين نطالب بذلك فإن الذي يدعونا لهذا الأمر مسوغات عدة: أولها: أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان يحوي جوانب مختلفة، فالله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وفيه جسم، وفيه عواطف متقابلة بل ومتناقضة، وخلق الإنسان وفيه عقل، وخلق فيه مشاعر.
إذاً: خلق الله عز وجل الإنسان وفيه جوانب كثيرة متنوعة، وحينئذ فالمنهج التربوي الذي يريد أن يرقى بهذا الإنسان يجب أن يكون متوافقاًَ مع فطرة هذا المرء، ولهذا صار أي تشريع للبشر من غير هذا المصدر الشرعي محكوم عليه بالفشل والبوار؛ لأنه تشريع صادر من البشر، والله سبحانه وتعالى هو الذي خلقهم: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، وغالباً ما ترى تشريعات البشر تأخذ جانباً على حساب جانب آخر، وغالباً ما تراها تخل بهذا التكامل أو هذا التوازن في شخصية المرء.
إذاً: فالتكامل والتوازن هو الذي يتوافق مع خلق الإنسان وفطرته التي فطره الله عز وجل عليها، ولأضرب على ذلك مثلاً: إننا حين نربي الناس مثلاً على الخضوع والتسليم لكل الآراء التي تطرح عليهم أياً كان مصدرها، ونطلب منهم أن يعطلوا عقولهم وألا يفكروا فيما يقال لهم، فإننا حينئذ نعطل هذا العقل الذي ما خلقه الله سبحانه وتعالى إلا لحكمة، ولو استقامت أمور الناس على التقليد والتبعية لخلق الله عز وجل لنخبة من الناس عقولاً وترك سائر الناس دون عقول، أما وقد خلق الله عز وجل العقول للناس جميعاً فإن هذا يعني أن يربى الناس على أن يستخدموا عقولهم بالدرجة التي لا تخرجهم عن حدود الدائرة الشرعية، وأي تربية تسعى إلى الحجر حريات الناس وعقولهم وتفكيرهم فإنها تعارض الفطرة، وأي منهج يعارض الفطرة فإنه يحمل في طياته بذور الهلاك والبوار.
وحين نأخذ منهجاً تربوياً يأخذ جانب العقل والمعرفة وحدها ويغفل عن جانب الوجدان في نفس الإنسان نجد أنه متناقض؛ لأن المرء مفطور على العبودية والخضوع فإن لم يخضع لله عز وجل خضع لغيره من البشر، إن لم يرب على العبادة لله سبحانه وتعالى توجه بالعبادة لغيره من البشر؛ ولهذا نرى المناهج التربوية الغربية التي تصر على التخاطب مع العقل وحده، وتهمل الجوانب الإيمانية وجوانب الوجدان والعاطفة؛ نراها تخالف الفطرة وتناقضها، وحينئذ تعيش في تناقض يحكم عليها بالفشل والبوار.(20/4)
سنة التكامل والتوازن في الحياة
ثانياً: سنة الله عز وجل في الحياة التكامل والتوازن: فالجنون مثلاً يحصل نتيجة لعدم توازن القدرات العقلية والعصبية؛ ولهذا يقال عن المجنون: إنسان غير موزون، والصرع العضوي من أسبابه زيادة الكهرباء في دماغ الإنسان، وفقر الدم أو ضعفه يحصل نتيجة عدم توازن الكريات البيضاء والحمراء في الدم، ثم إن زيادة سائل الأذن قد يتسبب في الإغماء لدى الإنسان.
هذه بعض النتائج التي يخلفها عدم التوازن لدى الكائن البشري، وهناك عشرات الأمثلة الأخرى على ذلك.
أما نتائج عدم التوازن في الكون والحياة فأكثر من أن تحصر، فإن تغير نسبة الأكسجين في الهواء تجعله ملوثاً وقد تجعله سماً قاتلاً، وتغير المعادلة المتوازنة في دوران الأرض والشمس والأفلاك ينتج عنه كثير من الأمور أقلها اختلال انتظام الليل والنهار وتعاقب الفصول، وما يؤدي ذلك من أضرار على الإنسان والحيوان والحياة بكاملها، وحتى ما يصنعه الإنسان من آلات وما يشيده من بنايات فجميعه محكوم بقاعدة التوازن، وأي خلل في المقادير والمعايير يتسبب بنتائج خطيرة ومأساوية.
وجوانب الشخص نفسها حين لا تكون متوازنة ولا متناسقة فإنها تخرج إنساناً غير متناسق، فجمال الوجه مثلاً في توازن نسبي بين حجم الأنف والعينين والفم والرأس، بحيث لو اضطربت هذه النسب لكانت صورة مشوهة أو هزيلة أو ناقصة، وقيمة الطعام تكمن في مختلف عناصره الغذائية، بحيث تتحقق النسبة المتوازنة لسلامة الجسم من مختلف الدهون والسكريات والأملاح والمعادن والفيتامينات إلى غير ذلك، والحديث في هذا يطول.
المقصود: أن الحياة قائمة على التوازن، وأن الإخلال في التوازن حتى في المظهر الجمالي أمر يدعو الناس إلى النفور.
إن البناء -مثلاًً- حين تزيد فيه نسبة الأسمنت على نسبة الحجارة التي توضع معه فإن هذا يحصل منه خلل، وحين تقل نسبة الحديد أو تزيد فإن هذا الأمر أيضاً يكون غير متناسق، بل حين يسعى الإنسان إلى أن يجمل منزله مثلاً فيبالغ في هذا الجمال، أو يجعله بصورة غير متوازنة يصبح أمراً مرفوضاً، ونقرأ الحديث عن توازن هذا الكون في القرآن، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2]، ويقول: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج:65]، {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40]، {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:3 - 4].(20/5)
قيام الشرع على الوسطية
ثالثاً: شرع الله عز وجل قائم على الوسطية في الاعتقاد والعبادة والأخلاق والسلوك، فشرع الله عز وجل قائم على هذه القاعدة.(20/6)
ظاهرة التكامل التشريعي
رابعاً: الشرع تبدو فيه ظاهرة التكامل معلماًً بارزاً، فما من مجال من مجالات الحياة إلا وللشرع فيه حكم، فإنك ترى الشرع له حكم في معتقد الإنسان الذي قد لا يعدو أن يكون عقيدة مستقرة في القلب، وترى للشرع حكماً في تعامل الإنسان مع غيره، وحكماً في عبادة الإنسان، وحكماً في سلوكه وأخلاقه، وفي الاقتصاد، والسياسة، وحياة الناس الاجتماعية وعلاقاتهم.
إنك لا تجد باباً من أبواب الحياة إلا وتجد للشرع فيه حكماً واضحاً ظاهراً، وهذا يعني أننا أمام شرع متكامل، وحين نربي الناس على هذا الشرع فينبغي أن نربي الناس تربية متكاملة متوازنة؛ ولهذا أنكر الله عز وجل على بني إسرائيل الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:85].
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء:150 - 151].
ولهذا فمن إعجاز القرآن أن حذر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم عن صورة نراها في واقعنا، حين أمره أن يحكم بشرع الله، وحين أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحكم بين الناس بما أنزل إليه وأن يحذر من اتباع أهوائهم قال بعد ذلك: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة:49]، وكأن هذه الآية تنطق بواقع هذه القرون المتأخرة، أن هناك من يساوم على شرع الله، فيأخذ بعض شرع الله عز وجل ويرفض بعضه، فينادي بالاحتكام إلى شرع الله عز وجل في باب من أبواب الحياة، ويرفض بعد ذلك سائر الأبواب، وهذا هو اتباع الهوى والإعراض عن شرع الله عز وجل؛ ولهذا حذر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من أهل الأهواء الذين يريدون أن يحكموا شرع الله في أمر من أمور الحياة ويهملوه في سائرها.
إن هذا -معشر الإخوة الكرام- دليل على أن هذا الشرع جاء ليحكم الحياة كلها، وحينئذ فأي منهج تربوي يريد أن يربي الناس على خلاف ذلك فهو معارض لهذه القاعدة الشرعية التي لا تنخرم، وتراها في كل حكم شرعي في سائر أبواب الحياة.(20/7)
التحدي التربوي الذي تواجهه الأمة
خامساً: الأمة الإسلامية تواجه تحدياً تربوياً من أبواب شتى: فالشباب يعانون من تخطيط ماكر وغزو مدبر، والطفل المسلم تعد له أفلام وتكتب له قصص ومجلات يقصد منها تربيته تربية تحرفه عن المنهج الشرعي، وكذلك الشاب والفتاة والعلاقات الاجتماعية والأسرة وحياة الناس في اقتصادهم وعقيدتهم وحياتهم السياسية، إن الأمة ستواجه تحدياً شاملاً متكاملاً لخلعها عن دينها وتربيتها على غير شرع الله عز وجل، وحينئذ فالتربية التي تستهدف إنقاذ الأمة والوقوف في وجه هذا التيار الوافد لن تكون مؤهلة للمواجهة ما لم تكن آخذة بالتكامل والتوازن.(20/8)
التكامل والتوازن التربوي على مستوى الفرد(20/9)
التكامل والتوازن في التعامل مع النصوص
وبعد أن تحدثنا عن ضرورة التكامل والتوازن وعن مؤيدات التكامل والتوازن في التربية ننطلق بعد ذلك إلى الحديث عن أمثلة من التكامل والتوازن التربوي الذي نريده في تربيتنا، وقد لا نستطيع أن نأتي على جميع ما نريد، فلعلنا أن نقتصر على بعض النماذج على المستوى الفردي وعلى مستوى المجتمع كله.
أولاًً: على المستوى الفردي: إن من التكامل في التربية أن يربى الفرد على التوازن في التعامل مع نصوص الشرع وأحكامه، فالغلو صفة ممقوتة مرذولة بالعقل مرفوضة بالشرع، والتجاوب مع شهوات النفس ورغباتها لا يسوغ أن يكون البديل للتخلي عن الغلو ورفضه: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء:29]، {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77].
إننا حين نربي أبناءنا على الفوضى، والتسيب في التعامل مع الأحكام الشرعية والتفلت من الضوابط الشرعية فإننا نربيهم تربية غير متوازنة، تربية متطرفة تميل إلى جانب دون جانب، وحين نربيهم على الغلو والمبالغة فإنها أيضاً هي الأخرى تربية غير متوازنة.
إذاً: فالتربية المتكاملة المتوازنة تقتضي أن يربى الفرد على الوسطية في التعامل مع الأحكام الشرعية، فلا يربى على التسيب والتفلت من الضوابط والأحكام الشرعية، ولا يربى على الغلو.
إننا كثيراً ما نسمع الشكوى من أن الابن يواجه التعويق من أبيه وهو يدعوه إلى التجاوب مع شهواته، يدعوه إلى التجاوب مع التقصير والإهمال، بل نرى الأب -وللأسف- يحظ ابنه على التقصير في الصلاة والتهاون فيها، نرى الأب أحياناً يدعو ابنته إلى الزهد في الحجاب والعفاف والفضيلة، إنها تربية غير متوازنة، تربية متطرفة تخل بهذا المبدأ التربوي الذي جاء به شرع الله عز وجل.(20/10)
التكامل في رعاية أبعاد الشخصية
ثانياً: التكامل والتوازن في تربية الفرد يعني التكامل في رعاية أبعاد الشخصية ومستوى الشخصية، بأن يحرص الأب والأم على أن تكون تربية الابن متكاملة، فالتربية التي نطالب بها ليست هي أمره بالصلاة فقط وليست هي نهيه عن سيء الأخلاق، وإن كان هذا مبدأً مهماً من مبادئ التربية، لكننا أيضاً نطالب أن ترعى صحة الابن، إنه لا يسوغ أبداً أن تهمل الأم ابنها أو طفلها الصغير وطفلتها تجاوباً مع داعي النوم وطفلها يريد الطعام، وطفلها يريد الحنان، ولا يسوغ أبداً أن تكون المكالمات الهاتفية والحديث مع بني جنسها مدعاة لانشغالها عن صبيتها ورعايتهم، والأب كذلك هو الآخر، ولهذا يوصي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر في الصحيحين؛ يوصي أن نحرص على رعاية الأبناء وحمايتهم مما قد يصيبهم من أضرار، يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا كان جنح الليل فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذ)، فهو يأمرنا صلى الله عليه وسلم أن نحرص على صحتهم وأن نحرص على إبعادهم عما قد يضر بصحتهم، ودخل صلى الله عليه وسلم فسمع صوت صبي يبكي، فقال: (ما بال صبيكم هذا يبكي؟ فهلا استرقيتم له من العين)، والحديث رواه الإمام أحمد.
ولهذا يوصي ابن القيم رحمه الله برعاية هذا الجانب، فيقول: ومما يحتاج إليه الطفل غاية الاحتياج الاعتناء بأمر خلقه، فإنه ينشأ على ما عوده المربي في صغره، من حرد وغضب ولجاج وعجل وخفة مع هواه وطيش وحدة وجشع فيصعب عليه تلافي ذلك.
إن هذه الجوانب مطلوب من الأب والأم أن يرعاها.(20/11)
الحاجة إلى رعاية جوانب الشخصية المختلفة
التربية الفردية ثالثاً حتى تكون متكاملة، ينبغي أيضاً أن ترعى جوانب الشخصية المختلفة، إن المرء له جوانب عقلية، وجوانب معرفية وجوانب وجدانية، إن التربية ينبغي أن ترعى هذه الجوانب كلها، وعلى سبيل المثال لنلقي نظرة سريعة عاجلة على التربية والتعليم الذي نراه على مستوى الأمة الإسلامية، هل التربية المدرسية الآن ترعى هذه الجوانب كلها، أم أنها تتعامل مع جانب واحد فقط من هذه الجوانب، ماذا يتلقى الطالب وماذا تتلقى الطالبة في المدرسة؟ إن الذي يتلقاه في المدرسة لا يزيد على أن يكون معلومات معرفية مجردة جافة، وحتى هذه المعلومات يأخذها تلقيناً ويطلب منه أن يعتاد على أن يسمع ويطيع، وأن يعتاد على مبدأ التسول الفكري، وعلى أن يلغي عقله وتفكيره، فكل ما يقوله له والده صواب لا يقبل الخطأ وكل ما يقول له أستاذه صواب لا يقبل الخطأ، بل لا يقبل النقاش، وكل ما يسمع في المجتمع من هنا وهناك صواب لا يقبل الخطأ.
إن هذه معشر الإخوة الكرام تربية غير متكاملة ولا متوازنة، إننا بحاجة إلى أن نعيد النظر في مناهجنا التربوية لننظر هل تغطي هذه الجوانب فعلاًً؟ أسألكم بالله كم عدد الشباب والفتيات الذين يعيشون في سن المراهقة وجحيمها ويعانون من المشكلات التي تثور مع هذه المرحلة؟ فهل مناهج التعليم في العالم الإسلامي تتعامل مع هذه المرحلة بما يليق؟ وهل مناهجنا التربوية وأساليبنا التربوية كفيلة بحل مشكلات هؤلاء الشباب؟ كم نرى في العالم الإسلامي من رواد الجامعات والمدارس ممن يكونون ضحية للمخدرات، أو ضحية للانحراف الجنسي، أو ضحية للخلل هنا وهناك، فأين أثر التربية؟ أظن أن جزءاً كبيراً من المشكلة يكمن في أن التربية هنا تربية غير متكاملة، فهي لا ترعى إلا جانباً واحداً فقط هو الجانب المعرفي وحده.(20/12)
الحاجة إلى التكامل في جوانب الفرد
رابعاً: وحتى في جوانب الفرد نحتاج إلى التكامل، ولأضرب على ذلك مثلاً: فالتربية العلمية بحاجة لأن تكون تربية متكاملة متوازنة، وهذا يعني أن تتنوع التخصصات وأن يتربى طالب العلم على أن يحمل رصيداً متكاملاً، وخلفية علمية متكاملة مما يحتاج إليه في مرحلته وسنه.
ويعني أيضاً أن يتعلم أدوات البحث ووسائل المراجعة، وألا يكون التعليم قاصراًً على مجرد شحن ذهنه بالمعلومات، وحين نمعن في مراجعة التربية المعرفية والعلمية وحدها نجد أن هناك شرخاً واضحاًً في هذا الجانب، فما بالكم بسائر الجوانب الأخرى.
وأختم الحديث عن الجانب الفردي بعبارة للحسن رضي الله عنه وكأنه يخاطب بها جيل الصحوة يقول: العالم على غير علم كالسالك على غير طريق، والعامل على غير علم يفسد أكثر مما يصلح، فاطلبوا العلم طلباً لا تضروه بالعبادة، واطلبوا العبادة طلباً لا تضروه بالعلم فإن قوماً طلبوا العبادة وتركوا العلم حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم -يقصد بذلك الخوارج- ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا.
إذاً: فحري بجيل الصحوة أن يتربى تربية متكاملة تعنى بالعبادة الحقة والصلة بالله عز وجل، وتعنى بالجانب العلمي والمعرفي، والجانب العملي والدعوي والتطبيقي، وأي تركيز في جانب على حساب بقية الجوانب إنما هو خلل تربوي ينتج تربية نشازاً قد نرى نتائجها المرة فيما بعد.(20/13)
التربية على مستوى المجتمع(20/14)
ألا تكون التربية نخبوية
أكتفي بهذه الأمثلة على المستوى الفردي لأنتقل بعد ذلك إلى التربية على مستوى المجتمع، وهو العنصر الثالث من عناصر هذا الدرس، فالتكامل والتوازن مطلوب على مستوى المجتمع ككل وهذا يعني: أولاً: ألا تكون التربية نخبوية فتخص فئة من الناس دون غيرهم، لا شك أنه جميل ومطلوب منا أن نعنى بتربية النشء وتربية الشباب وتربية طلاب العلم وأن تصرف جهود كبيرة في ذلك، لكن أيضاً حين نغفل عن تربية قطاع مهم من قطاعات المجتمع كقطاع المرأة والفتاة، أو عن التعامل مع قطاعات أخرى من قطاعات المجتمع بالتربية التي تليق بهم وتتناسب معهم فإن هذا خلل تربوي.
التربية المتكاملة تعني أن تتعامل مع طبقات المجتمع كلها، ولا شك أننا قد نعطي فئة وشريحة من شرائح المجتمع قدراً من العناية والتربية أكثر من غيرها من الشرائح، لكن هذا شيء وإهمال سائر الشرائح شيء آخر.
إنك تسر وأنت ترى الجهود المبذولة في تربية الشباب وتربية الجيل، لكن يدركك الأسف ويرجع إليك البصر خاسراً وهو حسير حين تتأمل في الجهود المبذولة لتربية الفتاة وتربية المرأة، فما هي الجهود التي تبذل لتربية هذا القطاع المهم من قطاعات المجتمع؟ تربية الطفل، ما حجم الكتابات والأعمال والجهود والمدارس التربوية التي تقدم للطفل المسلم؟ الذي يرى الأفلام وهو في منزله تحكي له الشرك بالله عز وجل، وهي قضية نراها جميعاً.
الطفل الذي يتربى على الشهوات من صغره، الذي يتربى على المبادئ المنحرفة، أي جهد تربوي يصرف لهذا القطاع من قطاعات المجتمع! وقل مثل ذلك في سائر الطبقات.(20/15)
تكامل الجهود التربوية
والتربية المتكاملة في المجتمع تعني ثانياً: أن تتكامل الجهود وتتظافر في كافة المؤسسات التربوية بين المنزل والمدرسة والنادي ووسائل الإعلام والمسجد.
أيليق أن تربي المدرسة الشاب تربية يسمع نقيضها بعد ذلك في الشارع ويراها في وسائل الإعلام؟ إننا نعيش ازدواجية تربوية فيسمع من خلال هذا المنبر في خطبة الجمعة حديثاً يرى نقيضه حين يخرج، يرى نقيضه في الشارع، يرى نقيضه في النادي، يرى نقيضه في وسائل الإعلام، يرى نقيضه في المنزل، يسمع حديثاً في المدرسة من أستاذه ثم يرى نقيضه بعد ذلك في سائر المؤسسات.
إن مثل هذا السلوك -معشر الإخوة الكرام- لا يعدو أن يخرج لنا جيلاً يعيش في حلقات المكر وفي دوامة حين يربى على التناقض، فالمسجد والمدرسة تدعوه إلى شيء، ووسائل الإعلام والشارع والمنزل يدعوه إلى شيء آخر، إننا حين نكون جادين في تربية الجيل فلتتكامل المؤسسات التربوية كلها في المجتمع لتسير في خط يتفق مع عقيدتنا الإسلامية، يتفق مع منهجنا، يتفق مع هوية الأمة، وحينئذ نرى الثمار يانعة بإذن الله.(20/16)
التكامل داخل المؤسسة التربوية الواحدة
والتربية المتكاملة تعني ثالثاً: أن تتكامل التربية داخل المؤسسة التربوية الواحدة: المنزل هو الدائرة الأولى من دوائر التنشئة الاجتماعية، وهو الدائرة التي يطل منها الطفل على الحياة، لكننا نرى أحياناً تناقضاً تربوياً بين قطبي الأسرة (الأب والأم)، فالأب مثلاً له كلمة تخالف كلمة الأم، والأم لها منهج يخالف منهج الأب، وماذا نتصور من شاب صغير أو فتاة صغيرة ترى التناقض وازدواجية التوجيه داخل البيت من الأم والأب؟ إنه قد يكون هناك خلاف بين الأب والأم حول بعض الوسائل التربوية، قد يكون بينهم خلاف حول بعض الأساليب، قد يكون بينهم خلاف حول الحلول لبعض المشكلات، وهذا أمر طبيعي، بل ينبغي أن تختلف وجهات النظر، لكن هذا شيء وبروز هذا الخلاف على السطح شيء آخر، حينئذ يعيش الطفل عيشة غير سوية.(20/17)
التكامل بين الوسائل التربوية
والتكامل والتوازن يعني رابعاً: التكامل بين الوسائل التربوية من خلال التوجيه المعرفي والعملي والتطبيق والقدوة والترغيب والترهيب والقصة، والتوجيه المباشر والتوجيه غير المباشر.
إننا وللأسف في مجالات كثيرة لا نحسن إلا أسلوباً واحداً، أسلوب التوجيه المباشر، أسلوب الأمر والنهي، أسلوب الترهيب والوعيد والعقوبة.
فمثلاً: من هو الأب الذي يكافئ ابنه ويثني عليه حين يحسن؟ والأستاذ الذي يكافئ تلميذه حين يبدو منه موقف يستحق المكافأة والثناء، وحين نستخدم العقوبة فإننا ينبغي أن نستخدم الثناء بالقدر نفسه، وحين نستخدم الترهيب فإننا ينبغي أن نستخدم الترغيب بالقدر نفسه، وحين نستخدم التوجيه المباشر فإننا ينبغي أيضاً أن نستخدم التوجيه غير المباشر بالقدر نفسه.
إننا -أيها الإخوة- نفتقر كثيراً في مؤسساتنا التربوية، في المدرسة والمنزل، بل ربما أحياناً في الدرس التربوي والحلقة التربوية في المسجد، نفتقر إلى التكامل بين الوسائل والأساليب التربوية، فلا نكاد نجيد إلا أساليب محدودة ربما تصب في قالب واحد، ولا شك أن هذا ينتج لنا تربية نشازاً، وحين نقرأ القرآن الكريم نجد أن القرآن ينوع بين الترغيب والترهيب والقصة والموعظة، وبين الثناء والعتاب على الخطأ، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم نراها كذلك، فهو صلى الله عليه وسلم تارة يثني على أحد أصحابه وتارة يعاتبه وتارة يغضب عليه، وتارة يوجه صلى الله عليه وسلم توجيهاً مباشر وتارة يوجه توجيهاً غير مباشر، وهكذا نرى في هديه صلى الله عليه وسلم التكامل بين الأساليب والوسائل التربوية، وأي منهج يريد أن يقتفي سنته وهديه لابد أن يأخذ على عاتقه التكامل والتوازن في استخدام هذه الوسائل التربوية.(20/18)
أمور تعين على تحقيق التوازن والتكامل(20/19)
التخطيط والترتيب
وبعد ذلك ننتقل إلى العنصر الرابع وهو: أمور تعين على تحقيق التكامل والتوازن.
والحديث فيما سبق كان عن شيء من مضمون التوازن والتكامل، وأرى أن ما ذكرته لا يعدو أن يكون أمثلة تدل على ما سواها ومعالم تقود إلى غيرها.
بعد ذلك ننتقل إلى أمور وخطوات أظن أنها قد تكون معينة لنا على أن تتكامل تربيتنا وأن تكون متوازنة: أولها: التخطيط والترتيب للعملية التربوية: معشر الآباء ومعشر الأمهات: من منكم يجلس مع نفسه ويفكر تفكيراً هادئاً في واقعة مع ابنه أو مع ابنته كيف سيتعامل مع هذه المشكلة ومع تلك؟ وكيف سيحقق هذا الهدف أو ذاك؟ وأسأل الأستاذ والمربي: كم يأخذ منا التفكير والتخطيط والترتيب للعملية التربوية؟ وحينئذ ندرك سر الخلل؛ لأن التربية صادرة عن تصرفات مرتجلة لم تكن معدة من قبل.(20/20)
وضوح الأهداف واتفاقها مع الشرع
ثانياً: وضوح الأهداف واتفاقها مع الأهداف الشرعية ومع نصوص الشرع: إننا ينبغي أن نرسم أهدافاً نريد أن نصل إليها، ونريد بهذه التربية التي نقدمها أن يصل الشاب والفتاة لمنزلة معينة وفق أهداف مرسومة، وهذه الأهداف ينبغي أن تكون منضبطة مع النصوص الشرعية، فالتربية الغربية التي تدعو إلى تكوين المواطن الصالح تربية مرفوضة في المنطق الشرعي؛ لأن الأمة الإسلامية أمة واحدة لا تعرف الحدود والحواجز، وحين نربي أبناءنا وبناتنا على الإقليمية والعنصرية فإن هذا هدف غير شرعي، وأخطر من ذلك حين تتطور القضية على المستوى الفكري الذي يطرح في الساحة، فنربي الناس على التعلق بالقومية والشعارات الوطنية، إن هذا يخرج لنا أمة متنافرة متناقضة.
وحين نربي أبناءنا وبناتنا على أن يكون الهم الأول والأكبر لهم هو تحصيل المادة، وعلى أن يكون هم التعليم وهدفه تحصيل الشهادة، فإن هذه أهداف مرفوضة لا تتوافق مع أهداف التربية التي يريد الله عز وجل أن تخرج المسلم العابد المتجرد لله عز وجل.(20/21)
المراجعة المستمرة
ثالثاً: المراجعة المستمرة: إننا ينبغي أن نراجع مناهجنا التربوية كثيراً، وأن نراجع الأساليب والوسائل التي نستخدمها في بيوتنا، وفي مدارسنا وفي غيرها من مؤسساتنا التربوية، بأن نراجع المناهج، والكتب، ويكون ذلك لتحقيق الأفضل والأشمل، وينبغي أن نعرف أن كل إنجاز وبرنامج تربوي نرسمه إنما هو جهد بشري، وحين يكون جهداً بشرياً فإن هذا يعني أنه لا يستغني عن المراجعة ولا يستغني عن التصحيح، وحين نرفض المراجعة والمناقشة فإن هذا يعني أن نبقى على ما نحن عليه من أخطاء ونبقى على ما نحن عليه من زلات ومن هفوات.(20/22)
عدم الاستجابة لردود الفعل
رابعاً: عدم الاستجابة لردود الفعل: وغالب الخلل -معشر الإخوة الكرام- الذي ينشأ في رعاية هذا الجانب إنما هو ردة فعل، والاستجابة لردود الفعل تولد الانحراف.
إن المرجئة الذين قالوا لا يضر مع الإيمان ذنب إنما قالوا قولهم هذا ردة فعل لأولئك الخوارج الذين غلو فكفروا مرتكب الكبيرة، والنواصب الذي ناصبوا آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم العداء إنما جاء موقفهم ردة فعل لانحراف الرافضة الذين يسبون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والذين شبهوا الله عز وجل بخلقة إنما انطلقوا من ردة فعل لأولئك الذين نفوا صفات الله عز وجل.
وهكذا ترى مدرسة التمسك الحرفي بالظاهر إنما جاءت ردة فعل للتقليد المقيت، وقل مثل ذلك في المدارس الفقهية والتربوية، بل حتى الاجتهادات في مسائل كثيرة تراها غالباً ما تأتي ردة فعل.
نعود إلى الجانب التربوي، حين يكتشف الإنسان في تربيته لنفسه أولاً أنه قد وقع في خطأ فركز على جانب على حساب جانب آخر مثلاً، فيكتشف هذا الخطأ ويريد معالجته فإنه غالباً ما يجنح إلى ردة الفعل فيغلو في الجانب الثاني على حساب الجانب الأول، ويبدأ يتقلب بين طرف وآخر، وقد تكون ردة فعله تجاه خطأ غيره، فهو مثلاً قد يرى غيره يعتني بالعبادة على حساب طلب العلم الشرعي وعلى حساب الدعوة فيرى أن هذا خطأ، فيعالج هذا الخطأ بخطأ آخر فيهمل جانب العبادة ويهمل التقرب إلى الله عز وجل، ويعيش قاسي القلب ليس له حظ من عبادة الله سبحانه وتعالى والتوجه له، وقل مثل ذلك في سائر الجوانب.
فينبغي أن نحذر معشر الإخوة الكرام ونحن نعالج أخطاءنا من ردود الأفعال، وأن نحذر أيضاً ونحن نعالج أخطاء الآخرين من ردود الأفعال وأن تكون مواقفنا متزنة.
إن ردة الفعل أدت ببعض الناس إلى الانحراف في المعتقد، أدت بهم إلى أن يضعوا مناهج فقهية وتربوية للتعامل مع النصوص، أدت بهم إلى أن يقفوا مواقف واجتهادات ليست إلا ردة فعل من موقف الآخرين الذين وقعوا في هذا الخطأ أو ذاك.(20/23)
تنبيهات(20/24)
التوازن ليس معناه التساوي
والعنصر الأخير هو تنبيهات حول ما سبق الحديث فيه: أولاً: إننا حين ندعو إلى التوازن في التربية فندعو مثلاً الشاب إلى أن يكون له نصيب من العبادة والصلة بالله عز وجل والبعد عن الدنيا، ونصيب من العلم الشرعي، ونصيب من الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وإنكار المنكرات، ونصيب من أبواب الخير، فإن التوازن ليس مرادفاً للتساوي والتعادل، فإن الناس طاقات ومواهب وقدرات.
ثم إن الأمة الإسلامية تحتاج أبواباً كثيرة قد تؤدي وتدعو إلى أن يربى بعض الناس على جانب، وأن يعنى بعض الناس بجانب ويعنى الآخرون بجانب آخر، فحين ندعو إلى التوازن فإننا لا ندعو بالضرورة إلى أن تكون النسب متساوية تماماً ومتعادلة، إنما التوازن يعني ألا تكون -مثلاً- عبادة الإنسان على حساب عنايته بالعلم الشرعي، وألا يكون طلبه للعلم على حساب صلاح قلبه، أو على حساب دعوته، وقل مثل ذلك في سائر الجوانب.
ثانياً: أيضاًً هذا لا يعني إهمال التخصص، فالناس خلق لهم الله عز وجل عقولاً وقدرات، كما قال الإمام مالك: رب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصيام، ورب رجل فتح له في الصيام ولم يفتح له في الذكر، ورب رجل فتح له في العلم ولم يفتح له في الجهاد، وما أظن ما أنا عليه بخير مما أنت عليه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر.
قال هذا رحمه الله لذاك الذي أنكر عليه العناية بالعلم، ودعاه إلى التفرغ للعبادة، فلابد من التخصص، ولابد أن يعنى فلان بجانب من الجوانب، وقد يكون مثلاً على حساب غيره، لكن هذا التخصص ينبغي أن يكون بقدر لا يخرج المرء عن القدر المشترك الذي ينبغي أن يكون عند الناس جميعاً.
إذاً: -أيها الإخوة الكرام- إن التكامل والتوازن لا يعني إهمال التخصص، ولا يعني إهمال القدرات الشخصية التي قد يفوق فيها فلان من الناس غيره، ولا يعني أيضاً أن تكون هذه الأمور كلها بنسب متعادلة، لكن لا يليق مثلاً بمن اشتغل بالعلم والتعلم وصرف نفيس وقته لذلك أن يهمل جانب العبادة وحظه منها إهمالاً واسعاً بحيث يؤدي به إلى قسوة القلب، وأن يكون بعيداً عما ينبغي أن يكون عليه أهل العلم من سمت، وقل مثل ذلك في من يدعو إلى الله ومن يحتسب على إنكار المنكرات العامة، وأظن أن القضية واضحة لدى الإخوة.
هذا ما أردت الحديث عنه حول هذه القضية التربوية، وهي قضية التكامل والتوازن.
أسأل الله عز وجل أن يجعل الخير والبركة فيما قلنا، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح.
إنه سميع قريب مجيب، وأترك بقية الوقت للإجابة على أسئلة الإخوة الكرام.(20/25)
الأسئلة(20/26)
عتاب على عدم إلقاء محاضرة في المدينة النبوية
السؤال
لماذا أنتم وسائر الدعاة منقطع عن مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنها أحوج ما تكون لذلك، وخاصة في هذه السنوات الأخيرة؟
الجواب
أولاً: الأخ الذي يوجه التهمة والسؤال ينبغي أن يعرف الواقع، فأنا لم أتلق أي دعوة إلى الآن لزيارة المدينة النبوية، وأظن أن الدعوات التي ترد إلينا لا يستطيع الأخ أن يأتي بجزء منها، فكيف يذهب يتبرع ويعرض نفسه؟ وإن كان هذا أمراً ينبغي أن يفعله الدعاة إلى الله عز وجل، لكن وقت الإنسان لا يسمح بالإجابة لدعوات غيره، ثم أحب أن أقول كلمة للإخوة جميعاً: يجب ألا نعتمد على التسول، وألا نعتمد على الآخرين، وننتظر من الآخرين أن يقوموا بنا، إذا كنا نشكو من مشكلات في بلادنا ومدننا وقرانا أياً كانت، فينبغي أن نسعى في حلها من تلقاء أنفسنا، أنا أجزم أن أي مدينة وأي منطقة مثلاً يطلب فيها الشباب محاضرات، وإلقاء محاضرة أنا أجزم أني سأجد في كل مدرسة ثانوية، وكل مدرسة متوسطة للبنين والبنات سأجد فيها عدداً من المدرسين الأخيار، ولو قام هؤلاء بمسئوليتهم ودورهم لصنعوا أكثر مما يصنعه شخص يلقي محاضرة ثم ينصرف.
وقل مثل ذلك في شأن الآباء وخطباء الجمعة وغيرهم، فلا يسوغ أن نحمل المسئولية الآخرين وأن ننسى الجهد والدور الذي ينبغي أن نقوم به نحن، وأظن أنه قد يكون أكثر من ما يمكن أن يقوم به الوافد.(20/27)
توجيهات للمربين في المراكز الصيفية
السؤال
هل من كلمة للإخوة المربين في المراكز الصيفية حتى يستطيعوا تقسيم ثمرة الجهد؟
الجواب
نقول للإخوة المربين والذين يتولون مثل هذه الثغور: إنهم على ثغور مهمة فينبغي لهم أولاً: أن يدركوا قيمة العمل الذي يقومون به، ولا يستهينوا به، فقد يرون مثلاً هذا العمل يشغلهم عن قضايا شخصية يريدونها، قد يكون بعضهم يريد أن يجعل من الإجازة فرصة للقراءة مثلاً العلمية، أو لجولات دعوية معينه، أو لبرامج يريدها لنفسه، فيرى أن مثل هذا العمل يشغله عنها، أو قد يزهد أحياناً فيما هو عليه حين يرى ما عليه الآخرون، أقول: أول وصية ألا يزهدوا فيما هم عليه، وأن يروا أنهم على ثغور مهمة وأن دورهم لا يقل عن دور غيرهم، فعليهم أن يعتنوا بالبقاء على هذه الثغور وحمايتها، وألا يفكروا في التحول عنها.
ثم أن يتقوا الله عز وجل في هؤلاء الشباب الذين جاءوا يطلبون الخير والصلاح والاستقامة، ووثق أهلهم فيهم فسلموهم أولادهم، والقضية ليست أمانة شخص، إنما الصحوة كلها مرهونة بهذا الجيل، والمربون الآن يتحملون أمانة ومسئولية إعداد هذا الجيل ليستلم القيادة، وأي خلل في تربيتنا وأي خلل في هذه الأمانة يحدث شرخاً في الأمة كلها؛ لأننا نحن نربي القادة، ونربي الجيل، فأرى أن المسئولية التربوية أبعد أن تكون مسئولية عن شخص وفرد بعينه، وإن كانت هذه بحد ذاتها مدعاة للمربي أن يدرك الأمانة والمسئولية، إنها مسئولية الأمة كلها أجمع من خلال إعداد هذا الجيل، فنصيحتي لإخواني في المراكز الصيفية وغيرهم من المربين أن يضعوا هذا الأمر نصب أعينهم.(20/28)
توجيهات لكبار السن في مراعاة التغير الاجتماعي في التربية
السؤال
هناك كثير من كبار السن عندهم أخطاء في التربية، يظنون أن طرقهم التي يستغلونها ويعملونها طرق تربوية حقيقية، وهي ضد ذلك؛ بدليل النتائج المزرية لهذه الأعمال، فنريد توجيه كلمة من فضيلة الشيخ لهؤلاء؟
الجواب
المشكلة أن عند الآباء أن الأب تربى في عصر وجيل له طبيعة خاصة، وظروف خاصة فيريد أن يصب الابن في القالب الذي عاش فيه هو، وأظن أننا أشرنا إليها في شريط (يا أبت)، مثلاً الأب في هذا السن عاش في وضع كانت المرأة عندما تخرج تلتصق بالحائط وتبتعد عن الناس، والمجتمع محصور وليس متصلاً بمجتمعات أخرى، واليوم يعيش الشاب في البيت وهو يرى مشهداً عارياً تماماً، يرى مشهداً ساقطاً، يرى أموراً لا قبل له بها، والأب يعيش في عالم آخر وهو لا يدري ما يعيشه الابن.
الابن يعيش ازدواجية في التوجيه من المدرسة، من الأسرة، من هنا وهناك، يعيش مشكلات لم يكن يعيشها الأب؛ ولهذا لا يسوغ أن يصب الأب الابن في القالب الذي عاش فيه، بل يرعى هذا الفرق.
أنا أتصور أن أكبر الأسباب أن الأب عاش في عصر وجيل وتربى على نمط معين يريد أن يربي ابنه أو بنته على هذا النمط الذي عاش عليه، فيجب أن ندرك التغير الذي حصل في المجتمعات والفروق.
أيضاً يجب أن يكون عندنا استعداد لأن نراجع أنفسنا، وها أنت ترى الأسلوب الذي تسلكه لم ينجح، فلماذا لا تعيد النظر؟ ولماذا نستعصي على أنفسنا أن نقول: إننا قد أخطأنا وكل إنسان يقع في الخطأ حتى العلماء والصالحون، فما بالك بمجرد أب أو أستاذ، فهو أكثر عرضة لأن يقع في الخطأ من أولئك الذين هم على صلاح واستقامة وعلم، فعندما يضع الأب والمربي هذين الاعتبارين في ذهنه أعني: جانب الفرق بين المجتمعات التي عاشها والتي يعيشها الآن، وجانب احتمال الخطأ والمراجعة، أظن أنه سيتجاوز كثيراً من هذه المشكلات.(20/29)
معالجة الخلل في التربية
السؤال
تحدثت عن التوازن والتكامل للتربية، لكن ماذا لو ربي الابن على غير ذلك؟ وما هي طرق التصحيح للخطأ الأولي عند الانتباه؟
الجواب
يعني: أنت قد تركز على جانب من الجوانب أكثر من غيره في التربية لحل مشكلة معينة ولحل خطأ، لكن هذا تصحيح فقط في مرحلة التصحيح بعد ذلك تعود إلى التوازن، أضرب لك مثلاً: الإنسان يجب أن يربى بتوازن بحيث يجد من والده ومن أمه نوعاً من العاطفة، ورعاية هذه الجوانب عنده، ثم نوعاً من الحزم، فيتربى بين هذه الخيوط المتقابلة، فحين نجد الابن متربياً تربية عاطفية بحتة، أو متربياً على القسوة فنريد أن نعيده للتوازن قد نضطر إلى أن نرتكب خللاً تربوياً متعمداً طبعاً ليس خللاً شرعياً إنما في أسلوب من الأساليب، حتى يعود بعد ذلك إلى الوضع الذي نريده ثم نعيش بعد ذلك مرحلة متوازنة، لكن هذا وضع مؤقت وجانب مؤقت.
مثلاً: الفاسق المعرض قد نركز معه على جانب الترهيب حتى يعود إلى صوابه وحينئذ نتعامل معه بمنطق الترغيب والترهيب، والعكس فالإنسان الذي عنده غلو وعنده مشكلات في الغلو، يمكن أن تعطيه نصوص الرجاء وتركز عليها حتى نعيده إلى الوسط، ثم بعد ذلك تتعامل معه تعاملاً متوازناً.(20/30)
كيف يعرف الداعية أنه على منهج متوازن متكامل
السؤال
إذا كان الشاب سائراً في طريقه في الدعوة إلى الله عز وجل، فكيف يعرف أنه سائر على منهج متكامل متوازن كما تدعون إليه في هذه المحاضرة؟
الجواب
المراجعة الدائمة مهمة، أن نراجع كيف نربي أنفسنا، وكيف نربي غيرنا، ونراجع مناهجنا التربوية، والمراجعة بالمصطلح الشرعي هي محاسبة النفس وهي الكفيلة باكتشاف الأخطاء خاصة هذه الجوانب، فهناك مثلاً أخطاء في حياة الإنسان قد تكون ظاهرة أو واضحة، لكن هناك جوانب قد تكون خفية ولا يدركها الإنسان، فعندما يحاسب نفسه يستطيع أن يكتشف أخطاءه.(20/31)
الموازنة بين الحكمة والمداهنة
السؤال
كيف نوازن بين الحكمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين المداهنة والخوف؟
الجواب
هذه من القضايا التي يكون فيها إشكال، بعض الناس لا يعرف إلا الحديث عن الرفق والحكمة وينسى أن هناك نصوصاً شرعية تأمر بالجهر بالحق والصدع به، وأن هناك نصوصاً تأمر بالأخذ على يد الظالم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بايع أصحابه على السمع والطاعة والنصح لكل مسلم، وأن يقولوا بالحق حيث كانوا لا يخافون في الله لومة لائم، بل إنه صلى الله عليه وسلم قال: (خير الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله)، فلا يسوغ مثلاً أن نركز على هذا الجانب، وأن نربي الناس عليه على حساب الجانب الآخر، والعكس أيضاً، فلا يسوغ أن نربي الناس على الاندفاع، ونهمل الجانب الآخر من الرفق والحكمة وأخذ الناس بحسن التعامل، مع ملاحظة أن الحكمة ليست مجرد فعل الرفق، فقد يكون من الحكمة الحزم والقسوة، وقد يكون من الحكمة الرفق، فالحكمة هي وضع الشيء في موضعه.(20/32)
الأسلوب الأمثل للتربية
السؤال
كثير من المربين الذين يقومون بجمع الشباب يعانون من تفاوت القدرات بينهم، فمنهم الذكي ومنهم دون ذلك، ومنهم من يميل إلى الترفيه والضحك واللعب، والآخر يميل إلى الجدية والطريقة المثلى، فما هو الأسلوب الأمثل لإفادة الجميع بارك الله فيك؟
الجواب
المشكلة موجودة وأنا أتصور أنها على نطاق أوسع من هذا النطاق، مثلاً في الجانب المدرسي، تجد المدرس عنده أربعون طالباً في الفصل، يأخذون منهجاً واحداً، ويشرح لهم درساً واحداً في وقت واحد، هؤلاء الطلاب فيهم شخص نابغ ذكي، وفيهم شخص مغفل غبي، وفيهم شخص بين ذلك، فكيف يعامل هؤلاء؟ وكيف نتعامل معهم؟ وهم يدرسون منهجاً واحداً وكتاباً واحداً وخطة دراسية واحدة، ويجب أن يتخرج من الجامعة كل هؤلاء، وإذا لم يتخرج من الجامعة فمعناه أنه إنسان فاشل إلى غير ذلك، فأنا أتصور المشكلة أكبر من حجم التجمعات التربوية هذه، حتى على مستوى التعليم، التعليم في العالم الإسلامي مثلاً، هيكلية التعليم، هل هناك رعاية لهذا الجانب؟ يعني: المتفوق الموهوب والشخص الضعيف يدرسون في منهج واحد وكتاب واحد ونظام واحد إلى أن يتخرج من الجامعة، هل هذا بناء ممكن أن يخدم الأمة؟ نعم، نحن بحاجة إلى التربية الجماعية وهي ضرورة أصلاً، يعني: الفرد لا يتربى وحده، ضروري أن يكون في مجموعة من خلال التعليم ومن خلال لكن أيضاً مع التربية الجماعية، يجب أن يكون هناك مراعاة للفروق الفردية، والوسائل والمناهج مثلاً التي ألفناها ليست قضايا لا يسوغ النقاش فيها، الشيء الوحيد الذي لا يسوغ النقاش فيه هو شرع الله عز وجل، هو ما جاء بنص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أما الأوضاع التي اعتدناها، فيمكن أن نناقش فيها وأن نعيد النظر فيها، فمثلاً نحن اعتدنا أن تكون المحاضرات بعد المغرب، يمكن يأتينا وقت بأن نجعل المحاضرات بعد الظهر، وقد نرى أناساً يريدون هذا الوقت، يعني: هذه القضية ممكن أن تكون قابلة للنقاش في وقت من الأوقات وكذلك برامجنا التربوية، التعامل مع الشباب في الحلقات في المدارس، بل حتى المناهج التعليمية لا يوجد مانع من مراجعتها وإعادة النظر فيها، ونحن لا ندعو لإلغاء كل هذا الكيان، لكن يمكن أن نضع حلولاً بديلة تسمح بمراعاة هذه الجوانب، وأنا أتصور لو أن المربين وضعوا في ذهنهم مثل هذه القضايا وتناقشوا فيما بينهم وفكروا، يمكن أن نخرج بحلول على الأقل تخفف من هذه المشكلة؛ لأنك أمام مشكلتين، نريد للشاب أن يتربى في وسط مجموعة؛ لأنه لا يمكن أن يتربى الإنسان تربية سليمة إلا في وسط جماعة، فإن معاني الأخوة والإيثار والقدوة لا تتحقق إلا في وسط الجماعة، وهناك جوانب فردية من خلال قدراته الخاصة وجوانب ضعف خاصة تحتاج إلى مراعاة، فكيف نحقق التوازن بينها، فهذه تحتاج إلى أن نعيد النظر، ويمكن أن نبتكر وسائل وأساليب جديدة، مع المحافظة على الجو الذي نعيش فيه الآن بصورة تكفل لنا أيضاً تحقيق جانب التربية الجماعية.(20/33)
المنهج التربوي الصحيح بين وسائل التوجيه المتناقضة
السؤال
تحدثت فضيلة الشيخ عن التوازن بالنسبة للطالب في دروسه وما يتلقاه والشارع والبيت، والمدرسون يعانون من هذه القضية، بين الأفكار التي يعطونها لطلابهم وبين ما يتلقفه الطالب خارج المدرسة، من الشارع أو وسائل الإعلام أو غيرها، ما هو المنهج التربوي للأستاذ حيال هذه المشكلة؟
الجواب
المشكلة ليست مشكلة المدرس وحده، بل هي مشكلة كل المؤسسات التربوية.
الأب مثلاً يربي ابنه على أنه لا يسمع كلمة سب ولا شتم ولا كلمة قبيحة ولا نابية، فيخرج إلى الشارع أو المدرسة فيسمع ذلك من أقرانه.
أو يربي ابنه على المحافظة على الخير والعفة، فيرى خلاف ذلك، وقل مثل ذلك في الأستاذ وأي شخص، فهناك ازدواجية في التربية وتناقض؛ ولهذا أرى أن من أهم الأشياء أن نركز على تنمية ما يسمونه بالانتخاب الاجتماعي، أن نربي عند الناس المعايير التي يحكمون من خلالها، بمعنى أنني أعود ابني على أن يميز بين الحق والباطل، وأن يكون عنده استقلالية في التفكير، ومنهج يستطيع أن يقاوم، ويستطيع أن يفكر، ويستطيع أنه يرى أن هذا الشيء خطأ، وهذا الشيء مرفوض.
لكن إذا ربينا الناس على قالب واحد يمكن أن يصطدم عندما يرى مثل هذه المواقف، ومع ذلك فهذه قضية صعبة معقدة تحتاج إلى مجاهدة وتحتاج إلى تخطيط وتوحيد للجهود، فلا شك أنه عندما تكون مؤسسات المجتمع متكاملة في الشارع والمدرسة والبيت والنادي ووسائل الإعلام والمسجد، وكلها تسير في منظومة واحدة، يكون هناك تكامل وتوازن، لكن عندما يكون هناك خلل نجتهد ونبذل بعض الوسائل وتبقى مع ذلك وسائل قاصرة.
فالحل هو أن تراجع أوضاع هذه المؤسسات على مستوى الأمة، وأن تكون تربية الأمة متكاملة وتسير في خط واحد وفق العقيدة الإسلامية، والمنهج الشرعي.(20/34)
البدائل المناسبة لقضاء أوقات الفراغ في العطلة
السؤال
أقبلت الإجازة بفراغها، فما هي البدائل في رأيكم لشغل وقت الشباب بين العاشرة والخامسة عشرة وسط هذا الغزو الفكري الذي جاءنا عن طريق أجهزة اللهو المختلفة؟
الجواب
هناك بدائل موجودة الآن، لكنني أشعر أنها بدائل قاصرة، فمثلاً عندنا حلقات قرآن ومراكز صيفية وبرامج للشباب كثيرة، لكني أشعر أنها بدائل قاصرة لا تكفي مع أنها من خير ما يشغل به الشباب أوقاتهم، لكن أنا أطرح سؤالاً آخر: الشاب الذي اعتاد أنه يشاهد الأفلام ويمتع نفسه باللهو واللعب، عندما تنقله من الشارع إلى أن يجلس في المسجد كل يوم من العصر إلى صلاة المغرب هل يطيق ذلك؟! لو أطاقه فهذا خير ولا شك، ونتمنى أن يكون الشباب كذلك، لكن الشباب تربوا على اللهو واللعب، فأنا أشعر أننا عندما نطالب هؤلاء بمثل هذا الإطار أنه مطلب غير واقعي، قد ينجح وقد لا ينجح لو قمنا بعمل إحصائية لعدد الشباب الذين في الحلقة، ثم نسبنا هذا العدد إلى الطلاب الذين في المدارس في أعمارهم لوجدنا النسبة غير مشجعة.
أنا أقول: المفترض أن يتداعى الآباء والأمهات والصغير والكبير على أن نبحث عن حلول للمشكلات التي نعاني منها، فمثلاً البنات يعانين من فراع ومشكلات، لأن الأسر أتت بالخادمات، وصارت البنت تعيش فارغة، ليس لها عمل إلا المكالمات الهاتفية، أو القراءة، وهل تقرأ في صحيح البخاري أو مسلم؟ لا، إنما تقرأ في المجلات، والشاب كذلك، فقد كان الشاب سابقاً يعمل مع أهله في الحقل، والبنت تعمل مع أمها في المطبخ وشئون البيت، ولا يجدون وقتاً إلا للراحة، أما الآن فقد تغيرت الأمور، فلماذا لا يتداعى أهل الرأي وأولو الألباب من مجتمعات المسلمين على أن يوجدوا حلولاً لهذه المشكلات التي يعاني منها الأطفال الشباب الفتيات؟ أنا أقول لكم: أنا كأب أشعر أنني لا أملك البديل لأطفالي الصغار، فإنهم عندما يذهبون إلى أقاربهم أو إلى الجيران يرون أنهم يعيشون مع شاشة التلفاز والفيديو، فماذا أقول لطفل صغير؟ اجلس واقرأ القرآن؟ وإذا قرأ فإنه يمل، هل هناك بدائل فعلاً تتناسب معهم؟ على كل حال هناك بدائل موجودة، كحلقات القرآن، والمراكز صيفية، وهناك بدائل أخرى كرحلات الصيد يمكن للآباء وخاصة الذين يعانون من نزوع أبنائهم وبناتهم إلى اللهو واللعب أن يعملوا بها، ولو أخذ الأب إجازة ولو كانت طويلة وذهب بأبنائه وبناته إلى بعض المصايف والرحلات، وتخلل هذا بعض البرامج التي توجهه وتعينهم، لا شك أنه حفاظ على أوقاتهم.
يسهر الشباب ليالي طويلة إلى الفجر في الإجازة مع بعضهم ولا يدري الأب على ماذا يجتمعون، والفتاة مثل ذلك.
فأقول: بعض هذه الوسائل يمكن أن تشكل حماية للأبناء والبنات من جحيم الفراغ الذي يعانونه، وبعض الإحصائيات والدراسات التي أجريت حول الفراغ تقول: إن عدداً من الشباب عنده معدل سبع ساعات فراغ يومياً، فأين يذهب في هذه الساعات السبع؟ فأقول: إنها قضية يجب أن نفكر فيها على مدى أوسع، انظروا إلى المراكز الصيفية، كم عدد المدارس التي فيها مراكز صيفية بالنسبة للمدارس الموجودة أصلاً؟ ثم كم عدد الملتحقين بالمراكز بالنسبة إلى عدد الطلاب الذين يدرسون عندنا؟ لا يقارن، وأنا لا أزهد من هذه الوسائل والبرامج، لكني أقول: إنها لا تزال دون حجم الاحتياج الذي نحتاج إليه.
ثم ننتقل إلى عالم الفتيات: ماذا تقدم الفتيات في الإجازة وفي فراغهن؟ فهذه أسئلة محيرة لي ولكم، لكن لو كانت القضايا تشغلنا ونفكر فيها ونعمل فيها بدلاً من المشكلات والهموم والكلام الفارع الذي نطرحه يمكن أن نجد ولو بعض الحلول التي تحل لنا جزءاً من هذه المشكلة.(20/35)
موقف الإسلام من الأحداث الدائرة على المسلمين
السؤال
جزاكم الله خيراً، هذا يسأل -فضيلة الشيخ- عن ما هو موقف المسلم أمام الأحداث الواقعة في هذه الأيام في البوسنة وبلاد الأفغان وفي اليمن؟
الجواب
الأحداث التي تحصل في العالم الإسلامي كثيرة، ولو أردنا أن نأخذ قضية واحدة من هذه القضايا التي أشار إليها السائل لطال بنا الوقت، بل قضية واحدة تحتاج إلى محاضرة بكاملها، لكن نقول: هناك ثوابت يتعامل فيها المسلم مع هذه القضايا: أولاً: أن يشعر المسلم أن هذه القضايا قضايا تخصه بصفة شخصية، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)، لأنها قضايا تخصه، ليس صحيحاً أبداًَ أنها قضايا لا تعنيه.
ثانياً: يجب أن يتألم المسلم لمصائب إخوانه، وأن يسأل الله عز وجل أن ينقذ إخواننا من هذا الجحيم الذي يعيشونه.
ثالثاً: في مصادر التلقي يجب أن يعرف المسلم ما هي المصادر التي يمكن أن يتلقى منها؟ أنا اليوم كنت في الطائرة أقرأ في إحدى الصحف السيئة للأسف، وخاصة الصفحتين الحديث عن أحداث اليمن كلها تصب في قالب واحد وتصب في تشكيل ذهن القارئ وفق عقلية معينة، فيجب أن نحذر، وأن نتلقى الأخبار والتحليلات من مصادر موثوقة.
رابعاً: ولاء المسلم وبراؤه بالمعايير الشرعية: فهو يرى أن وحدة كلمة المسلمين مطلب مهم، ويرى أن ولاءه لله عز وجل، ويرى أن أي شخص علماني أو اشتراكي أو شيوعي أو بعثي أياً كان منهجه ومذهبه فهو رجل لا يجوز أن يمنح ولاءه له، ولا تأييده له، ويرى أن المسلم أياً كان مكانه ينبغي أن يمنح ولاءه له، هذه معايير يتعامل بها المسلم مع مثل هذه القضايا.
أسأل الله عز وجل أن يجعلنا جميعاً ممن اجتمعوا على ذكره، وأن يجعلنا ممن يذكرهم سبحانه وتعالى فيمن عنده، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، إنه سميع قريب مجيب.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(20/36)
وقف لله
إن أنواع الوقف لله كثيرة، فمن الناس من يقف ماله، ومنهم من يقف داره ومنزله، ومنهم من يقف نفسه للدعوة إلى الله تعالى، ومنهم من يقف نفسه ووقته لتعليم المسلمين أحكام دينهم، فعلى المسلم أن يهب نفسه لله تعالى، وأن يوقفها في أعمال الخير، كي يفلح وينجح في الدنيا والآخرة.(21/1)
ميل النفوس إلى الإبداع والتجديد في كل شيء
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد: فهذه فرصة طيبة أن نلتقي وإياكم في هذه الليلة المباركة، وفي هذا المكان المبارك، في بيت من بيوت الله، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من المتحابين بجلاله، وممن يجتمعون على تدارس كتابه والتواصي به.
في بداية هذا اللقاء أشكر شكراً عامراً الإخوة في مركز الدعوة بالرس على دعوتهم وحسن ظنهم، وإن كان هذا الطلب لم يستجب له إلا متأخراً، فأشكرهم أولاً على حسن ظنهم ودعوتهم، وأشكرهم ثانياً على صبرهم علينا، ومراعاتهم لظروفنا، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك في أعمالهم وفي جهودهم، إنه سميع مجيب.
أيها الإخوة! تميل النفوس إلى التجديد والإبداع، وتمل التكرار والوتيرة الواحدة، وهي سنة لله سبحانه وتعالى في الكون كله، فالماء إذا بقي ساكناً لا يتحرك فإنه يأسن ويتغير، ولو عقدت مقارنة بين منزل بني منذ عشر سنوات ومنزل فرغ منه الساعة لوجدت بينهما بوناً شاسعاً، وذلك أن النفس دائماً تتطلع إلى التجديد والتغيير، وكذلك الكتاب يحرص القارئ والمقتني له على أن يقتني الطبعة الجديدة منه، والتي تتميز بإخراج حديث.
وهانحن نرى أعداءنا الذين أصبحنا نستهلك سلعهم قد أصبحوا يستثمرون هذه الظاهرة في النفوس، فتراهم يطورون في موديلات المنتجات، وخذ مثلاً السيارات فإنهم يطورونها في المظهر دون المضمون، ولكن هذا التطوير والتجديد يحظى بقبول الكثير، فيأسر المستهلكين، ويشكل اختيار الموديل مطلباً أساساً، فقد يؤخر المرء قراره بشراء سيارة ما في انتظار موديل جديد؛ رغبة في التجديد والتنويع، والذي قد يكون في المظهر دون المضمون، وذلك أن النفوس دائماً تميل إلى التجديد.
فالتجديد مطلب للجميع، ومسعىً للكافة، يتطلعون إليه، ويطالبون به، ويقدرون إبداع صاحبه، حتى ولو كان لا يعدو مجرد المظهر دون المضمون والجوهر.(21/2)
التجديد عند الدعاة إلى الله في الوسائل دون الخوض في الثوابت
إذاً: فإذا كانت النفوس تتطلع إلى التجديد والابتكار، فلماذا لا يسلك الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى هذا المسلك؟ ولماذا لا يكون التجديد مطلباً لهم، فينوعون في أساليبهم وطرقهم ووسائلهم بما يكون محاطاً بسياج المنهج، محصوراً في دائرة الشرع، فلا يسوغ أن يسلط التجديد على الثوابت الشرعية فيقضى عليها باسم التجديد والابتكار؟ لكن حين يكون تنويعاً وتشويقاً فلا بأس فالنفس تمل وتألف، ونحن نرى في تاريخ الحركة العلمية والفكرية في أمتنا أن الكثير من أسلافنا قد سلكوا هذا المسلك، فجددوا في التأليف، وجددوا في طرق التدريس، ولعل من يرصد الحركة العلمية والفكرية على مدى تاريخ الأمة يدرك ذلك واضحاً ظاهراً.
وهذه المحاضرة هي محاولة لعرض هذا الموضوع بقدر من التجديد في الأسلوب دون المضمون، وفي طريق المعالجة دون الأفكار والمنطلقات، وكل الطرق تؤدي إلى مكة.
إننا نطالب الناس دائماً بمطالب ملحة تشكل عندنا قضايا أساسية، وعلى قدر حاجتنا لهذه المطالب، وعلى قدر شعورنا بأهميتها، سيعلو صوتنا فيها، وستتكرر مطالبتنا، وسيتكرر نداؤنا، ولن يقف هاجس التكرار عائقاً لنا دون الإلحاح في المطالبة.
إننا أيها الإخوة! ونحن نطالب بهذه المطالب الشرعية لسنا بأولى من الدائن الذي يطالب بدينه ويلح، ويرفع صوته صباح مساء، ويبدئ ويعيد ويكرر، إن مطلبنا أعظم وأبعد أثراً من مطلب صاحب الدين، إن مطلبنا هو المطلب الشرعي للناس أن يفيئوا إلى الله جميعاً، وهي كلمة واحدة إليها ندعو، وحولها ندندن، ونرفع دائماً أصواتنا يمنة ويسرة، نطالب بالعودة إلى الله عز وجل، وبالرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، وبالعمل لهذا الدين، والدعوة له، ونطالب المسلمين جميعاً أن يسيروا معنا في صف واحد، وأن يركبوا معنا القطار، ويخوضوا معنا المعركة في الفكر أولاً والعلم والحجة واللسان، والتي تهيئ بعد ذلك للملحمة الكبرى في مواجهة الكفر وأهله وقادته.
إن من حقنا أيها الإخوة! ونحن نرى أن مطالبنا مشروعة، بل نرى أنها تتصدر قائمة المطالب المشروعة، من حقنا أن نكرر مطالبنا، وأن نرفع أصواتنا، وأن نبدئ ونعيد فيها، ومن ثم فقد نكرر كلاماً كثيراً، ولكن سنظل نكرر ونرفع الصوت حتى يستجيب الناس ويفيئوا إلى دين الله سبحانه وتعالى.
فهذه محاولة لنوع من المطالبة، وقد لا يكون ثمة جديد في الموضوع والمضمون في حقيقتها، فهي حقيقة واحدة حولها ندندن، وإليها ندعو، لكن التجديد قد يكون في الأسلوب والمظهر.(21/3)
أهمية الوقف والمال في نشر الدعوات والمبادئ
يدرك أصحاب المبادئ والدعوات أن مبادئهم تتطلب منهم بذلاً منقطع النظير، وتضحية بالنفس والنفيس، ويسعون بكل جهد لابتكار الوسائل والطرق، وحشد الجهود لخدمة مبادئهم ومعتقداتهم، فهم يجمعون المال والتبرعات لخدمة دعوتهم، ونشر معتقداتهم، وكم نقرأ في الحديث والقديم من أن الطائفة الفلانية جمعت كذا وكذا من المال، أو قررت توفير كذا وكذا لخدمة المبدأ والطائفة، وأحياناً تقام الحفلات والبرامج العامة ليصبح ريعها وقفاً على جمعية إنسانية، أو نحلة أرضية، أو مذهب ضال.
وفي تاريخنا الإسلامي نقرأ في كتب الفقه الكثير عن الأوقاف، والتي ساهمت مساهمة فعالة في خدمة الحركة العلمية على مدى تاريخ الأمة، فهذا وقف على مدرسة حنفية، وهذا وقف على مدرسة شافعية، وهذا وقف على مدرسة أهل الحديث والمشتغلين به، وهذا وقف على المشتغلين بالسنة ومواجهة أهل البدعة.
إن نظرة عجلى في تاريخ المدارس وفي كتب الفقه تعطينا الدلالة على عمق هذه الظاهرة وأثرها في دفع المسيرة العلمية، ولقد كانت الحركة العلمية والنهضة العلمية التي سادت في هذه الأمة على قرون متطاولة تعتمد اعتماداً أساساً واعتماداً كبيراً على هذه الأوقاف، وفي الجهاد في سبيل الله عز وجل كان هناك من حبس أدرعه وأعتده في سبيل الله سبحانه وتعالى، أو أوقف غلة أرض على المجاهدين في سبيل الله عز وجل، أو ريع منزل من المنازل على المرابطين.
وهكذا.
فاقرءوا كثيراً عن الأوقاف وأحكامها وما يتعلق بها، ويفيض الفقهاء في الحديث عنها؛ لأنها كانت ظاهرة سائدة منتشرة على مدى تاريخ الأمة، فالوقف يبقى شجرة مباركة تؤتي أكلها كل حين، فيبقى أصله ويدر الثمرة، فهو من خير ما ينفق الإنسان، وأفضل ما يساهم به في سبيل الله عز وجل.(21/4)
الاهتمام بوقف الطاقات البشرية فالمال ليس كل شيء
قد ينفق الإنسان مبلغاً كثيراً من المال، ويساهم هذا المال ولا شك مساهمة فعالة في إطعام جائع أو مسكين، وفي نصرة مجاهد في سبيل الله عز وجل، وفي دعم برنامج دعوي، أو مشروع إغاثي، وفي جلب خير للأمة، ولكن هذا يبقى مجرد مساهمة تنقضي مع انقضاء هذا المال، وما أسرع ما يزول، وأما حين يوقف مالاً يبقى أصله ويدر غلته فإنه يبقى خيره عميماً بعد ذلك، (وأحب العمل إلى الله أدومه وإن قل).
وليس هذا بالمال وحده، فلئن كان هذا شأن المال ودوره لدى كل صاحب دعوة ومبدأ، فهل صحيح أن بالمال وحده يستطيع الإنسان أن يحقق ما يريد؟ قد يسوغ أيها الإخوة! لأصحاب المبادئ الأرضية والدعوات الضالة أن يعتمدوا أساساً على المال، فيشتروا قناعات الناس وضمائرهم ومعتقداتهم مقابل المال، ولكن ما يشرى بالمال يمكن أن يأتي من يساوم عليه، والبيع لمن يزيد، والذي يبيع قناعاته ومعتقداته بالمال فهو على أتم الاستعداد أن يتخلى عنها حين ينقضي هذا المال.
أقول: قد يسوغ لأصحاب هذه المبادئ أن يغروا الناس بالمال لاتباعهم، والسير وراءهم، وأما نحن فحين نقول: إن المال أساس وعصب مهم للدعوة إلى الله عز وجل، فإنا لا نقول ذلك لأنا نرى أن يعطى الناس، وأن تشترى معتقداتهم، وأن يحاسبوا بالدينار والدرهم على قناعتهم، إن هذا الدين حق، {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف:29].
إنه حق واضح لا مجال للمساومة عليه، نعم قد يكون تأليف الناس مطلوباً، والمؤلفة قلوبهم لهم سهم من الزكاة، لكن هذا شيء واشتراء ذمم الناس شيء آخر.
إذاً أيها الإخوة! ليس بالمال وحده فقط تنتصر الدعوات، فمع أن المال مطلب ملح وأساس لكن ثمة طاقات أخرى ومطالب أخرى بحاجة إلى أن يعتنى بها، فهناك الطاقة الهائلة والجهد الذي لا يعوض وهو الطاقة البشرية بكل فروعها ومجالاتها، إننا بحاجة إلى أن نحشد الطاقات البشرية لخدمة دين الله سبحانه وتعالى والدعوة إليه، فهل نفكر في جعل صنف من الناس وقفاً لله تعالى؟ نقرأ في القرآن الكريم أيها الإخوة! قوله تعالى عن امرأة عمران: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران:35]، لقد أحست بالحمل، وكانت خدمة دين الله عز وجل تتصدر قائمة اهتماماتها وتطلعاتها، فنذرت حينئذٍ أن تقف هذا المولود على خدمة دين الله؛ بأن يكون خادماً للمسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، والذي اختاره الله عز وجل حيناً من الدهر قبلة يتوجه إليه في الصلاة، إنها الأرض المقدسة التي أمر موسى بني إسرائيل أن يدخلوها، والتي سار بهم إليها بعد ذلك نبي الله يوشع بن نون، والأرض التي هاجر إليها إبراهيم عليه السلام، والأرض التي أسري بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم إليها، والأرض والموطن المشهود له بالفضل على مدى التاريخ، والتي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها موطن الطائفة المنصورة حتى تشهد آخر ملاحم الإسلام حين ينزل عيسى بن مريم عليه السلام فيقتل الدجال.
ومن ثم لا غرو أن يوقف هذا الغلام وهذا الوليد على خدمة هذا المسجد، واستجاب الله عز وجل لدعائها، ولكن الله عز وجل رزقها خيراً من ذلك كله، فاستجاب الله سبحانه وتعالى لها، {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا} [آل عمران:36 - 37].
فاستجاب الله دعاءها وأعاذها وذريتها من الشيطان الرجيم، فكان الشيطان ينخس كل مولود فيستهل صارخاً إلا مريم وابنها عيسى عليه السلام، استجابة لدعوة هذه الأم الصالحة، استجاب الله عز وجل دعاءها فكان هذا الحمل أنثى، {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} [آل عمران:36]، ولكنها كانت أماً لرسول من أولي العزم من الرسل، يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله؛ يحيي موتى الأبدان، وقبل ذلك معجزته الأهم والأولى والتي أرسله الله من أجلها أنه كان يحيي موتى القلوب، ويخرج الناس من الظلمات إلى النور.
ونقرأ في القرآن أيضاً عن بيع وصفقة مع أولياء الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَ(21/5)
أهمية وقف النية والقلب لله تعالى في كل الأعمال
نحن نحتاج إلى من يكون وقفاً لله تعالى بقلبه وتوجهه، فلا يتوجه قلبه لغير الله عز وجل، فيخلع من قلبه قصد سواه، أو إرادة غيره، أو الميل إلى ما لا يرضيه سبحانه وتعالى، إنه يستقبل القبلة ببدنه خمس مرات كل يوم وليلة، ولكن قلبه يستقبل قبلة دائمة في منامه ويقظته، إنه ليس لقلبه إلا قبلة واحدة، فقلبه وقف لله تعالى.
وحين يدعو ويسأل فأمام ناظريه قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)، وقبل ذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18].
إنه لا يمكن أبداً أن يتوجه لغير الله عز وجل، أو يدعو غير الله سبحانه وتعالى، أو يسأل غير الله عز وجل، أو يستعين بغير الله سبحانه وتعالى، فهي أمور وقفت لله عز وجل، وصرفها لغير الله يعني انخلاع المرء من عبوديته لله سبحانه وتعالى إلى الذل والعار، إلى العبودية للمخلوق، والعبودية لما دون الله سبحانه وتعالى، فدعاؤه وعبادته وتوجهه وقف لمولاه سبحانه وتعالى.
قد يكون للناس نوايا وتطلعات وشوائب من الرياء، والشهرة، وحب الظهور، والتعلق بحظوظ النفس، أما هو فيجاهد نفسه ويكابدها، وهو يدرك عمق المشكلة، وشدة خطورتها، لاسيما وهو يسمع عبارات السلف تهزه هزاً عنيفاً، يسمع عباراتهم في الدعوة إلى مجاهدة النفس في تصحيح النية وإخلاصها لله عز وجل، (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه).
ولا يزال قول سفيان الثوري رحمه الله: ما عالجت شيئاً أشد علي من نيتي؛ لأنها تتقلب علي.
وقول يوسف بن أسباط: تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد.
لا تزال هذه الأقوال تطرق مسمعه وتتراءى أمامه، فحينئذٍ تصبح نيته وقفاً لله تعالى.
إن قضية تصحيح النية ووضوح المقصد قضية بدهية لدى الناس جميعاً، لدى الغافل والمقبل على الله عز وجل، لدى قوي الإيمان وضعيف النفس والهمة، إن الجميع يقرون بضرورة تصحيح النية، والتوجه إلى الله عز وجل.
إن الناس أيها الإخوة! قد يتوجهون لمطلب العلم، ولتحصيل العلم، هذا المطلب الملح الذي يتفق الناس جميعاً أنه مطلب شريف نزيه، وليس أولى وأدل على فضل العلم من أنه ما نسب امرؤ إلى الجهل إلا عد هذا عيباً وذماً وقبحاً، وما نسب إلى العلم إلا وعد هذا ثناء وخيراً.
إن مطلب تحصيل العلم مطلب مشترك لدى الجميع، فمنهم من يسعى إليه، ومنهم من تقصر همته دون ذلك، ولكن قد يسعى المرء للعلم فتعترض له النوايا لتقطع عليه الطريق، فتتحول نيته فيصبح مطلبه أن يقال فلان كذا وكذا، وأن يتصدر في المجالس، وأن يحصل على شهادة يسترزق بها، وأن يستطيع أن يتحدث مع المتحدثين، وأن يتفيهق مع المتفيهقين، وأن يتفاصح مع المتفاصحين.
إن العلم مهما كان عبادة وقربة لله عز وجل، ومهما كان مطلباً شريفاً يسعى إليه ذوو الهمم العالية، إلا أنه بحاجة إلى أن يصحح المرء فيه نيته، ويتفقدها ويتفقد إخلاصه، فيصبح علمه وطلبه للعلم وقفاً لله تعالى، فلا يتعلم إلا ونيته خالصة لله عز وجل، وإلا كان -عافانا الله وإياكم- أحد الثلاثة.
والدعوة إلى الله عز وجل هي الأخرى أيضاً طريق الأنبياء والرسل، {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:45 - 46].
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].
ولكن هذا الطريق هو الآخر قد يعترض المرء فيه ما يعترض مما يكدر نيته، أو يقطع عليه طريقه، فتنحرف مسيرته حينئذٍ، إنه قد تأسره الشهرة، فينقاد وراءها، وقد يأسره حظ من حظوظ الدنيا، أو مطمع زائل، فتنحرف نيته وتزيغ، وقد يبدو له -وقد بدأ مخلصاً صادقاً سليماً- مطمع أو مطمح فيحرفه عن مسيرته.
ومن ثم كان من أشد الناس حاجة إلى أن يصحح نيته، وأن يتفقد نيته، وأن تكون دعوته لله سبحانه وتعالى وحده، وأن يراقب نفسه ويراجعها؛ حتى تصبح دعوته وقفاً لله عز وجل، فلا يتطلع ولا يرجو غير مرضاة الله سبحانه وتعالى وابتغاء وجهه، {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108].
والعابد الذي قد حنا ظهره، وأسهر ليله، وأظمأ نهاره، فأصبح يشار إليه بالزهد والورع والعبادة، هو أيضاً أحوج ما يكون إلى أن يراقب نيته، وأن يصحح مقصده.
إن الشيطان أيضاً قد يجد سبيلاً ومسلكاً إلى هذا العابد، فيحرفه ويقطع عليه الطريق، ومن ثم كان هذا أيضاً بحاجة إلى أن تكون نيته وقفاً لله تعالى.
إننا أيها الإخوة! جميعاً -في أي ميدان كنا وحيثما اتجهنا- بحاجة إلى أن نفرض رقابة صارمة على نوايانا حتى تصبح وقفاً لله عز وجل، فلا تلتفت يمنة و(21/6)
اجعل تفكيرك وقفاً لله تعالى
لابد للمرء أن ينحصر تفكيره فيما هو نافع؛ من صلاح القلب، ومن تفكير في خلق الله عز وجل وآلائه، والتفكير فيما يقدمه خدمة لدين الله سبحانه وتعالى، والدعوة في سبيل الله عز وجل، فلا يبقى بعد ذلك في تفكيره مجال لأفكار رديئة، وخواطر هزيلة، وأحلام اليقظة، فضلاً عن التفكير في أوحال الشهوات، وأدران الشبهات، فقد أصبح تفكيره وقفاً لله عز وجل، فصار لا يفكر إلا فيما يرضي الله سبحانه وتعالى، وفي إصلاح نفسه وتعاهدها، وفي إصلاح عيوب نفسه، أياً كانت طرائق التفكير ومجالاته، وأياً كان مشربها ومسلكها، فكلها تصب في بحر واحد، وتؤدي إلى طريق واحد وهو: أن يكون تفكيره وقفاً لله تعالى.(21/7)
اجعل مشاعرك وعواطفك وقفاً لله تعالى
يجب على المرء أن يجعل مشاعره وعواطفه كلها لله، فإن أحب أحب لله، وإن أبغض أبغض لله؛ لأن لسانه يلهج دائماً بالدعوة الصادقة: (وأسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقرب إلى حبك)، فمشاعره هي الأخرى وعواطفه وقف لله تعالى.
وحين يأخذ الحماس بلب أصحاب الأهداف الوضيعة، فيطير رياضي عشق الرياضة حماساً لانتصار فريقه، ويسيطر عليه هذا الحماس لتتولد عنه أعمال تدل على مبلغ صاحبها من العقل، وحين يطغى الحماس على شاب تائه ليستعرض بسيارته أمام الناس، فيمارس التفحيط، أو ما يسمى بالتطعيس، وينتج عن ذلك إزهاق للأرواح، وعطب للأبدان، وحين يسيطر الحماس نفسه على فنان عاشق للصوت الحرام؛ فيجعل الغناء شعاره ويشتري لهو الحديث، حين يطغى الحماس على هؤلاء جميعاً فصاحبنا ليس في نفسه إلا الحماس لدين الله عز وجل، فقد استهلكت خدمة الدين همه، واستنفدت طاقته، فلم يعد لها بعد ذلك مزاحم، وتتزاحم هذه المطالب التي يسعى إليها الناس إلى صاحبنا تبحث لها عن مكان، فلا تجد مكاناً؛ لأن حماسه قد أصبح وقفاً لله تعالى.
ما أحوجنا إلى أن نحشد هذه الطاقات الهائلة، هذه الطاقات التي قد نهدرها: الحماس والعواطف وما ينشأ عنها من أعمال قد نراها بأعيننا، وقد تودي بصاحبها إلى أن يخاطر بنفسه، وأن يزهق روحه استجابة لحماسة ثائرة، ما أحوج الأمة أن توفر هذا الحماس وهذه الطاقة والمشاعر كلها خدمة لدين الله سبحانه وتعالى.
وتخيلوا أيها الإخوة! حين تحشد هذه الطاقات من العواطف والمشاعر التي يتمتع بها الشباب جميعاً، والشاب يتدفق حيوية وحماساً وعاطفة؛ حين تحشد هذه الطاقات كلها خدمة لدين الله سبحانه وتعالى، فأي جهد سينتج عنها؟! وأي ثمرة نستطيع أن نجنيها بعد ذلك؟! حين يتزاحم الناس على قضاء أوقاتهم فيما تقودهم إليه نفوسهم عالية كانت أم دنيئة، فيقضي الأول وقته في الدنيا وتحصيل المال، فيصبح هذا الهم هو الذي يسيطر عليه، فحياته لجمع المال، فهو عبد للدينار والدرهم، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض، فليس لديه فراغ للجلوس مع الناس، ولا للحديث معهم، بل إن أهله وأبناءه وزوجه لا يستطيعون أن يجدوا من وقته نصيباً؛ لأنه مشغول بهذه الدنيا وجمع المال، فقد سيطر هذا الهم وهذا الهدف على وقته.
والثاني الذي يقضي وقته في التسكع في الطرقات والأسواق، أو عند مدارس البنات؛ بحثاً عن فريسة، أو مطاردة لتائهة.
والثالث الذي يسيطر اللهو على حياته، فلا يسأل عنه حراماً كان أم حلالاً، فاللهو شعاره ومطلبه وهدفه الأساس، ومبلغه من العلم.
والرابع والخامس والسادس والجميع الذين تسيطر هذه الأهداف على أوقاتهم، حين يتنافس هؤلاء في قتل الوقت، ووأد العمر وأد أثمن ما يملكون، فصاحبنا له منطق آخر مع وقته، ومقياس يختلف عن مقاييس هؤلاء جميعاً، فالوقت الضائع لديه هو كل وقت لم يكتسب فيه خيراً، أو يقدم فيه فضلاً، ولسان حاله: إذا مر بي يوم ولم استفد هدى ولم استزد علماً فما ذاك من عمري وهكذا فهو يدرك أن وقته هو الحياة، وأن الوقت هو أثمن ما يملك، والله عز وجل يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]، وهل هناك أنفس لديه من عمره وحياته ووقته؟ ومن ثم فقد جعل وقته وقفاً لله تعالى.
مرة أخرى أقول أيها الإخوة! إن البشر هم الذين بتوفيق الله سبحانه وتعالى يصنعون التاريخ والحياة، وهم الذين جعلهم الله عز وجل وسيلة للتغيير في هذه الحياة وهذا الكون، وهم الذين استخلفهم الله سبحانه وتعالى في الأرض، فهم الطاقة التي لا يسوغ أن تهدر، ولا يسوغ أن تهمل وتذهب سدىً.
ومن ثم فنحن أحوج ما نكون إلى أن نستثمر هذه الطاقة، وأن نستغل هذه الطاقة، وأن نوظف هذه الطاقة في خدمة ما خلقنا من أجله، فقد خلق الله سبحانه وتعالى الناس ليعبدوه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
لقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان خليفة في الأرض؛ ليقوم بهذا المنهج وهذا الدين في الأرض، وسخر الله سبحانه وتعالى له كل ما في السماوات والأرض، فسخر الله سبحانه وتعالى له النعماء، وصرف سبحانه وتعالى عنه الضر والبأس، ويسر له كل هذا الكون بكل ما فيه، كل هذا تسخيراً لهذا الإنسان الذي ما خلق أصلاً ولا أوجد إلا ليكون عبداً لله سبحانه وتعالى، وإلا ليقوم بعبودية الله عز وجل بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ قريبة أو بعيدة قد تعظم وقد تصغر عند الناس، ولكنها عند الله سبحانه وتعالى عظيمة غالية؛ لأنها عبادة يتوجه بها إلى الله سبحانه وتعالى.
إن هذا الإنسان الذي لم يخلق إلا لعبادة الله عز وجل لا يسوغ أبداً بحال أن تصرف طاقته وجهده في غير مرضاة الله عز وجل، وفي غير ما خلق من أجله، ونحن في هذه المرحلة التي تعيشها أمتنا، وفي هذا الواقع الأليم الذي تعاني منه المجتمعات الإسلامية أحوج ما نكون إلى حشد الطاقات، وأحوج ما نكون إلى أن نجمع الجهود، فنستنفر وندعو الناس جميعاً لأن يتبرعوا فيخرجوا لنا أناساً وقفاً ل(21/8)
الوقف لأعمال الخير لا تتعطل منافعه
أيها الإخوة! يتحدث الفقهاء عن حكم نقل الوقف، فيقررون أنه لا يسوغ نقله إلا حين تتعطل منافعه، فهل هذا الوقف الذي ندعو إليه كذلك؟
و
الجواب
لا، إنه وقف دائم لا يسوغ نقله؛ لأن الوقف لا يسوغ نقله إلا حين تتعطل منافعه، وهذا الوقف لا يمكن أبداً أن تتعطل منافعه، فصاحبه إن أعياه التعب وأرهقه الجهد فقعد به عن عمل تتطلع نفسه إليه فلن يعجز لسانه عن دعوة صالحة للإسلام والمسلمين، وإن خرس لسانه فجوارحه لن تعجز أن تقدم خيراً، وإن شلت جوارحه فقلبه يلهج بحب الله ورجائه والتوجه إليه، فحتى وهو مقعد كسيح لا يستطيع حراكاً تنصر الأمة به، (أبغوني ضعفاءكم فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم)، وإن قعد به مرض أو سفر كتب له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
إنه لن تضيق أمامه الأبواب وهو يسمع التوجيه النبوي الكريم كما في الصحيحين من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله، والجهاد في سبيله، قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: أنفسها عند أهلها، وأكثرها ثمناً.
قلت: فإن لم أفعل؟ قال: تعين صانعاً، أو تصنع لأخرق، قلت: يا رسول الله! أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك).
وحتى حين يموت ويودع الحياة فالمسلم مبارك حياً وميتاً، وكم نرى ونشاهد أن رجلاً من الصالحين مات فاجتمع الناس لجنازته، فوافق ذلك أن حضرت جنازة أخرى، فصلى عليها هذا الجمع العظيم وساروا فيها، فصار هذا الرجل بركة في حياته وموته، وكم نسمع أن فلاناً من الناس قد تاب وأناب إلى الله عز وجل حين مات فلان الرجل الصالح، وكم نرى ونسمع أن بيتاً بأسره قد تغيرت أحواله، وتبدلت أموره إلى الصلاح؛ لأن أهله افتقدوا شاباً صالحاً قانتاً مطيعاً لله تخطفه الموت من بينهم، فهاهو المسلم تبقى بركته حياً وميتاً، فلا تتعطل منافعه، فهو حينئذٍ وقف دائم لا يسوغ نقله؛ لأن منافعه لا تتعطل.(21/9)
الوقف عقد لازم لا خيار فيه ولا رجوع
الوقف عند الفقهاء أيها الإخوة! عقد لازم لا خيار فيه، فحين يتبرع امرؤ بمال فيوقفه فلا يملك بعد ذلك أن يرجع، وهانحن بعد ذلك قد عقدنا الصفقة وتم البيع، فلا مجال للخيار؛ لأنه لا غبن ولا تدليس ولا خلابة، فقد تم البيع، {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إلى أن قال الله عز وجل: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة:111].
فلا مجال إلا الوفاء بالصفقة، والوفاء بالبيع، فاستحقاق الثمن حينئذٍ أو النكوص والنقض, وحينئذٍ يستحق صاحبه النكال عافانا الله وإياكم، فهو عقد لازم لا خيار فيه ولا مجال فيه للرجوع والتردد.
جاء في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أرضه التي أوقفها في خيبر، وهو حديث عظيم وأصل من الأصول في باب الوقف، قال رسول الله: (لا جناح على من وليها أن يأكل بالمعروف)، فلناظر الوقف ووكيله أن يأكل منه بالمعروف، وينتفع من غلته بما لا يعود على مقاصد الوقف بالإبطال.(21/10)
حكم ناظر الوقف هنا
ومن هنا يتحدث الفقهاء عن ناظر الوقف، فيسوغ له أن يأكل ما يقيمه بالمعروف، ويسوغ له أن ينتفع منه بالمعروف، لكن هذا الانتفاع لا يسوغ أبداً أن يتحول إلى مصدر للتمول والتأكل، فحينئذٍ تتعطل منافع الوقف التي من أجلها وقف.
وأما هاهنا فالواقف والموقوف وناظر الوقف شيء واحد، وله أن يمتع نفسه، أو يشغلها بالمعروف؛ لأن من ولي الوقف له أن يأكل منه بالمعروف، فالنفس تكل وتمل، وتحتاج إلى شيء من التسلية والانبساطة؛ حتى تعود بعد ذلك أكثر حماسة وعزيمة.
ولنا في نبينا صلى الله عليه وسلم أعظم الأسوة وخير القدوة، فقد كان صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقاً، وكان صلى الله عليه وسلم يداعب أصحابه ويمازحهم، وكان كما يقول عنه جرير رضي الله عنه: (ما رآني صلى الله عليه وسلم إلا تبسم).
ويوصي النبي صلى الله عليه وسلم من جاء يشتكي إليه من قسوة قلبه فيقول: (ساعة وساعة).
إن من تمام حيوية المرء ونشاطه وهمته ومما يعينه: أن يأخذ لنفسه قسطاً من الراحة، والمزاح المشروع، واللهو المباح، ولكن هذا يجب أن يكون مقيداً بالمعروف، فلا يسوغ له أن يتجاوز، فإذا تجاوز حينئذٍ فأصبح اللهو والراحة واللذة مطلباً أساساً فحينئذٍ اعتدى على هذا الوقف، وهذا لا يسوغ له، فهو ناظر ووصي وولي لا يجوز له أن يأكل إلا بالمعروف، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (كل لهو باطل إلا ثلاث)، فاللهو وإمتاع النفس بما يهيئها لأن تخدم دين الله، (ملاعبة الرجل أهله، أو تأديبه فرسه، أو رميه بقوسه).(21/11)
تعدد مجالات الوقف وتنوع مصارفه
الوقف عند الفقهاء له مجالات شتى، ومصارف منوعة، فقد يكون وقفاً على الذرية، أو على ابن السبيل، أو طالب العلم، أو ربما طالب علم معين كفقه حنفي أو حنبلي، أو وقف على المجاهدين والمرابطين، ولن يضير المرء أبداً أن يقف شيئاً من ماله على مجال دون غيره مادام يرى أن هذا المجال بحاجة، وأنه أولى من غيره من الأبواب.
وهكذا فنحن نرى من يقف وقته على العبادة والذكر، ودعوة الناس بسمته وزهده، فتراه يقضي سحابة نهاره تالياً لكتاب الله عز وجل، وصائماً، وقانتاً، ومصلياً ومقبلاً على الله سبحانه وتعالى، فإذا رآه الناس ذكروا الله عز وجل، وتذكروا هدي الصالحين والسابقين، وحين يدعو ينفع الله سبحانه وتعالى المسلمين بدعوته.
ونرى من يقف نفسه على إغاثة المحتاج وإعانة المنقطع، ونرى من يقف نفسه على دعوة غير المسلمين إلى دين الله سبحانه وتعالى، وإلى الدخول في السلم كافة، أو من يقف نفسه على إصلاح من قسا قلبه من المسلمين، وتنكب الطريق منهم، فصار جهده وهمه ووقته وتفكيره وحياته كلها مصروفة على دعوة هؤلاء، وعلى وعظهم، وعلى نصحهم، وعلى الأخذ بأيديهم ليسلكوا الطريق المستقيم، ويسيروا في ركاب الصالحين.
ونرى من وقف نفسه على تعاهد النبتة الصالحة، وعلى تعاهد عدة الأمة وذخيرتها، على تعهد الشباب بالتربية والتعليم والتوجيه والدعوة لكتاب الله عز وجل، فثنى ركبتيه في بيت من بيوت الله سبحانه وتعالى يقرئهم كتاب الله عز وجل، ويعظهم بزواجره، ويرغبهم بفضائله، فوقف حياته ووقته على هؤلاء الشبيبة وأولئك الصبية، كل هذا إعداداً لمن ينفع الله سبحانه وتعالى بهم الأمة.
ونرى من وقف نفسه على تعليم العلم الشرعي، فصار همه وحياته حتى أشغله عن سائر ما يتمتع به الناس من مصالح، فلم يعد وقته ملكاً له، وإنما هو ملك للناس، بل لم يعد هو حتى ملكاً لنفسه، فقد أصبح وقفاً لله تعالى.
والآخر الذي وقف حياته على إنكار المنكرات الظاهرة، وهكذا نرى مجالات شتى، وجوانب متعددة كلها تصب في مصب واحد وطريق واحد.
وفي صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أربعون خصلة أعلاها منيحة العنز، ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها، وتصديق موعودها إلا أدخله الله بها الجنة).
فلماذا نقسم العدد على أربعين قسمة ضيزى فنختصرها ونجعلها طريقاً واحداً وخصلة واحدة؟! ولماذا نوصد تلك الأبواب التي فتحها لنا النبي صلى الله عليه وسلم مشرعة؟! وفي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل، فمن كبر الله، وحمد الله، وهلل الله، وسبح الله، واستغفر الله، وعدل حجراً أو شوكة أو عظماً عن طريق الناس، أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر عدد الستين والثلاثمائة، فإنه يمسي يومئذٍ وقد زحزح نفسه عن النار).
وهكذا فهي مصارف شتى للوقف، ومنافع متنوعة تسير في منظومة واحدة دون تنافر أو تناقض، فكلٌّ وقف نفسه على باب من أبواب الخير، ولسان حاله يقول كما قال إمام دار الهجرة: كلانا على خير وبر.(21/12)
أمثلة من السنة النبوية للذين وقفوا أنفسهم لله تعالى
ولنفتح بعض الصفحات من السنة النبوية؛ لنرى نماذج من هذه الأوقاف: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من خير معاش الناس لهم: رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة طار على متنه يبتغي القتل أو الموت مظانه، أو رجل في غنيمة أو شعبة من هذه الشعب أو بطن وادٍ من هذه الأودية يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين، ليس من الناس إلا في خير)، رواه مسلم.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يصور لنا نموذجاً من أولئك الناس: فهذا الذي وقف حياته في سبيل الله عز وجل، خدمة لدين الله سبحانه وتعالى، فهو على فرسه كلما سمع هيعة أو فزعة طار ولبى يبتغي الموت والقتل مظانه، فلم يبق له مطلب يسعى إليه، ولا هدف يسير إليه إلا هذا الهدف وهذا المطلب، فقد وقف حياته لله عز وجل.
والآخر الذي لم يطق الصبر على الفتن والمصائب، وصار في عصر يقتضي منه العزلة بضوابطها الشرعية، فرأى أن يعتزل الناس ليعبد الله عز وجل في شعب من الشعاب.
إن أولئك كلهم قد وقفوا حياتهم لله عز وجل، ويتمنى صلى الله عليه وسلم أمراً لم يمنعه منه إلا شفقته صلى الله عليه وسلم على المسلمين، وهو أرحم الناس صلى الله عليه وسلم، وأرقهم قلباً، كم نقرأ في سنته صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشق على أمتي)، (لولا أن أشق على الناس)، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
يتمنى صلى الله عليه وسلم أمراً يعتذر عنه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك شفقة على المسلمين، فيقول: (ولولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبداً، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشق عليهم أن يتخلفوا عني).
وفي هذا الحديث دعوة للمسلم أن يكون هذا مسعاه، فلا يتخلف عن سرية تغزو في سبيل الله عز وجل، ولا يسمع هيعة وفزعة إلا طار ولبى يبتغي الموت والقتل مظانه، إنه لا يتقاعس عن عمل يخدم فيه دين الله عز وجل، فما أن يسمع صوتاً يدعوه بحق وصدق أن يسلك هذا الميدان، وأن يجاهد هاهنا بيديه وسلاحه وسنانه، أو يجاهد هناك بقلمه، أو يجاهد هنا بلسانه، إلا طار ولبى؛ يبتغي نصرة دين الله سبحانه وتعالى وخدمته، فقد وقف حياته لله عز وجل.
وحين قيل له صلى الله عليه وسلم إن خالداً منع الزكاة قال: (إن خالداً احتبس أدرعه وأعتده في سبيل الله عز وجل)، فخيل خالد وسلاحه وأعتده لم يعد لها غرض إلا الجهاد في سبيل الله عز وجل، وإعلاء كلمته، وحتى جسده رضي الله عنه قد جعله وقفاً لهذا الميدان وهذه الحياة، فمات رضي الله عنه وأرضاه وما في جسده موضع شبر إلا وفيه جرح يشهد بصدق بلائه، وصدق دعوته وإخلاصه لله عز وجل، وقد شهد زهاء مائة زحف، وهو القائل رضي الله عنه: ما من ليلة يهدى إلي فيها عروس أنا لها محب بأحب لي من ليلة شاتية في سرية من المهاجرين أصبح بها العدو.
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار)، وأخرجاه أيضاً من حديث ابن مسعود، وأخرج البخاري نحوه من حديث أبي هريرة.
إنها صورة أخرى من صور الوقف؛ من وقف ليله ونهاره لتلاوة كتاب الله تعالى، ومن وقف ماله فأهلكه في الحق والإنفاق في سبيل الله آناء الليل وآناء النهار، كلها صور وإن تنوعت مجالاتها وطرقها، فكلها تصب في نهر واحد، وتؤدي إلى طريق واحد.(21/13)
الأسئلة(21/14)
تعدد المجالات في خدمة دين الله تعالى
السؤال
هل العمل للدين مقصور على طلب العلم أو إلقاء المحاضرات؟ وهل يمكن لمن لا يتمكن من ذلك العمل للدين، أفدنا أفادك الله؟
الجواب
أظن أنه سبق الإجابة على هذا السؤال، وقلنا: إن الوقف له مجالات كثيرة شتى، فالمرء يبحث عن المجال الذي يمكن أن يخدم فيه دين الله سبحانه وتعالى، ولن تضيق الأبواب والطرق أمام امرئ جاد لخدمة دين الله سبحانه وتعالى، حتى ولو كان مقعداً كسيحاً.(21/15)
الاهتمام بدعوة الشباب المتواجدين خارج حلقات العلم
السؤال
إن هناك شباباً وفقهم الله تعالى للخير قد أوقفوا أنفسهم لله تعالى عملاً لا قولاً، هؤلاء الشباب هم الذين يدرسون في حلقات القرآن الكريم، لكني كأحد الشباب ألاحظ عليهم عدم الاهتمام بمن هم خارج هذه الحلقات من الشباب، فما تعليقكم على هذا بارك الله فيكم وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
لا شك أن نصيحتنا لهؤلاء جميعاً ولغيرهم أن يدعو غيرهم إلى هذا الميدان وإلى هذا المجال، وألا يبخلوا على غيرهم بهذا الطريق الذي هداهم الله سبحانه وتعالى له، ومنّ عليهم بسلوكه، وإن من تمام شكر نعمة الله عز وجل عليك حين وفقك لحفظ كتابه، وحين وفقك لسلوك هذا الطريق أن تنقلها إلى غيرك، وأن تدعو إليها من حرم منها، ولعل هذا يكون أدعى إلى ثباتك على هذا الطريق بإذن الله سبحانه وتعالى.(21/16)
إمكانية أن يقف الإنسان نفسه لله تعالى في جهتين فأكثر
السؤال
هل يمكن للإنسان أن يقف نفسه لله في جهتين: كالعلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
الجواب
الناس طاقات شتى ومواهب متنوعة، فالبعض من الناس قد لا يجيد إلا ميداناً واحداً ومجالاً واحداً، فينبغي له أن يستغل جهده وطاقته في خدمة دين الله سبحانه وتعالى واستثمار ما منحه الله عز وجل من قدرة خدمة لما يريد الله سبحانه وتعالى، ومن الناس من رزقه الله عز وجل الموهبة.
والناس ألف منهم كواحد وواحد كالألف إن أمر عنى فهو كالغيث أينما نزل نفع، فتارة ينبت العشب لينتفع به الناس، وتارة يبقى ماء يحتبس يشرب منه المارة، وتارة ينزل في الأرض فينتفع به من يحفر بئراً، فمن الناس من رزقه الله عز وجل مجالات وجوانب شتى، فهذا حري به أن يساهم فيما يستطيع، وعلى كل حال فالناس أصناف شتى، فمنهم من لا يصلح إلا في ميدان واحد، ومنهم من يصلح في أكثر من ميدان، ومنهم من يكون أمة وحده.(21/17)
الاهتمام بحفظ كتاب الله تعالى والعمل به
السؤال
هناك جانب قد غفل عنه الكثير من الشباب ألا وهو حفظ كتاب الله، وتدبره، والعمل به، ونشره بين الناس، فما ترى يا فضيلة الشيخ! لو كان للمرء وقت لحفظ كتاب الله والعمل به؟
الجواب
سبق أن ذكرنا نموذجاً من ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين قال: ورجل آتاه الله الكتاب فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار)، فهذا مما يغبطه الناس عليه ويحسده الناس عليه، والذي يحفظ كتاب الله عز وجل يكون قد حفظ وقته أولاً في استثماره فيما يعود عليه بالنفع دنيا وآخرة، وقد كرر تلاوة كتاب الله عز وجل، وله في كل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، ويضاعف الله سبحانه وتعالى بعد ذلك لمن شاء أضعافاً كثيرة.
ويقال له يوم القيامة: (اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في دار الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها)، وهذا الكتاب يأتي شفيعاً يوم القيامة لأصحابه، فيحاج عن صاحبه الذي كان يقرؤه به، وأولى الناس بالإمامة والصلاة، وأولاهم بأن يتولى أمورهم، وبعد ذلك أيضاً كله هو الذي يستطيع أن يقرأ القرآن في كل أحواله: أن يقرأ وهو قائم، وهو جالس، وهو مضطجع، وهو يمشي، أن يقرأ في الظلام والضياء، وأما غيره فلا يستطيع أن يقرأ القرآن إلا في حال يتهيأ له فيها أن يتطهر، وأن يكون المصحف أمامه يقرأ منه، فتتهيأ له أبواب وتنفتح له طرق من العبادة لا تنفتح لغيره، فيكفي هذا فضلاً لحفظ كتاب الله سبحانه وتعالى.(21/18)
الوسائل التي تعين الإنسان على أن يجعل أعماله وقفاً لله تعالى
السؤال
ما هي الوسائل التي تعين الإنسان على أن يجعل أعماله وقفاً لله تعالى؟
الجواب
النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، فإذا وقف المرء قلبه لله عز وجل توجهت بعد ذلك سائر جوارحه، فأصبحت كلها وقفاً لله تعالى، وإذا وقف قلبه على شهوة أو شيطان توجهت جوارحه بعد ذلك لذلك.(21/19)
الاهتمام بالدعوة إلى الله تعالى مع مجاهدة النفس في تجنب الرياء
السؤال
عندي من العلم -ولله الحمد- شيء لا بأس به، ولكن حينما أريد الظهور إلى الناس لإلقاء الدروس والمحاضرات تأتيني الأوهام والوساوس من جهة الخوف من الرياء، فكيف أرد هذا الأمر عن نفسي، أرجو التوجيه بما ترى، ولك جزيل الشكر؟
الجواب
نحن نحفظ جميعاً أيها الإخوة! النصوص عن السلف في التورع عن الرياء، والبعد عن مضان الشهرة، وتشديدهم في ذلك، ودعوتهم للإخلاص، ومجاهدة النفس، ومع ذلك تصدروا لما تصدروا له، والتقاعس عن أداء الواجب الشرعي خوفاً من الرياء يجعل المرء عرضة لأن يترك واجباً يحاسب عليه أمام الله عز وجل، فالله عز وجل يسأل عبده يوم القيامة فيقول: ما منعك إذ رأيت المنكر ألا تنكره؟ ويقول صلى الله عليه وسلم: (لا يحقر أحدكم نفسه، قالوا: وكيف يحقر نفسه؟ قال: يرى أمراً لله عليه فيه مقال، فيسأله الله عز وجل فيقول: يا رب! خشيت الناس).
فقد يمنعه خشية الناس، وقد يمنعه ورع كاذب، وقد يمنعه هذا الأمر أو ذاك، فالمهم أياً كان هذا الأمر الذي يمنعه سيبقى عائقاً له عن أداء الواجب الشرعي، فما دام المرء قد وجد عنده علماً وخيراً فينبغي له أن يبادر وأن يدعو الناس وأن يعلمهم، ولو لم يتصدر ويدعو ويعلم الناس إلا من أحس أنه قد بلغ الغاية من العلم لم يتصدر أحد، ولم يدع أحد، ولم يؤلف أحد إلا المرائين الذين لا يراد منهم خير.(21/20)
كيفية إعادة النية الفاسدة إلى مكانها الصحيح
السؤال
تكلمت عن تصحيح النية، فكيف نصحح النية حيث إنه كثيراً ما يبدأ الشاب مشواره بإخلاص ونية صحيحة، ثم نجد أن نيته تتغير إما شهرة أو طمعاً في الدنيا أو غير ذلك، فكيف نعيد النية إلى مسارها الصحيح؟
الجواب
أن يفرض الإنسان على نفسه رقابة صارمة، وأن يواجه نفسه دائماً، ويتعاهد نفسه، ثم يكثر من عبادة الله عز وجل، وخاصة عبادة السر التي تدعوه إلى أن يجاهد نفسه، وأن يشعر بحاجته وفقره إلى الله سبحانه وتعالى، ويستعين بالله عز وجل على ذلك.(21/21)
كيفية معرفة أن النفس مخلصة أو غير مخلصة
السؤال
كررت كثيراً خلال هذه المحاضرة: أن الأعمال لابد لها من إخلاص النية لله سبحانه وتعالى، فما الذي يدل المرء على أنه مخلص لله في عمله؟
الجواب
إذا وجدت نفسك تتوجه يمنة ويسرة إلى مطامع أياً كانت وتغلفها بغلاف الخير والصلاح، فراجع نيتك.(21/22)
كيفية جعل التفكير وقفاً لله تعالى مع وجود المنكرات المنتشرة
السؤال
كيف أجعل تفكيري وقفاً لله تعالى وأنا أرى المحرمات والمعاصي أمامي دائماً: إما في مجلة خبيثة، أو في تلفاز ودش ملعونين، أو في أسواق مليئة بالملاحظات، فلماذا لا يزال السبب المانع لوقف العقل على الله تعالى؟
الجواب
لا شك أن إزالة المنكرات ومظاهر الفتنة أمر مطلوب، ولكن هذا لا يعفيك، فقد وجد من عاش في بيئة تغص بالشرك والوثنية ودعاء غير الله، وهي بيئة أشد فتنة من هذه الفتنة، ومع ذلك كان من مات من هؤلاء مات على الشرك؛ لأنه لم يقل: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين.
فوجود الفتنة والشهوات أمامك ليس عذراً لك بحال في أن تسلك طريق الغواية والضلال، بل المطلوب منك أن تقبل على الله عز وجل وتئوب إليه، وأن تساهم أنت في وقف هذا السيل الجارف من هذه الفتن والشهوات، نسأل الله عز وجل أن يعصمنا وإياكم منها.(21/23)
نصيحة للشباب الذين كانوا يحفظون كتاب الله تعالى ثم فرطوا في ذلك وفرطوا في الاستقامة
السؤال
ما نصيحتكم للشباب الذين كانوا حفظة لكتاب الله، ثم أخذ شيئاً فشيئاً يتدرج إلى النزول، فاستبدل الأشرطة الدينية بأشرطة الغناء والعياذ بالله؟ وهذا أيضاً سؤال مشابه، يقول: لي صديق ملتزم ويدرس في حلقة ويشارك في النشاط المدرسي، وقد بدأت الآن تطغى عليه بعض المظاهر غير اللائقة بالشباب المستقيم، وقد ترك الحلقة والنشاط المدرسي ورفض الحضور، فماذا أفعل وأتصرف مع هذا وأمثاله، أرجو توجيهي لأتدارك صديقي من الانتكاس أعاذنا الله من ذلك؟
الجواب
هذه ظاهرة نشاهدها كثيراً، وهي تتكرر على مدى التاريخ، لكن أيضاً مع أن هذه الظاهرة مزعجة ومقلقة، إلا أنها تبقى ظاهرة قليلة في مقابل الذين يسيرون على طريق الاستقامة والخير؛ لأن الذي ينحرف ويزيغ هو الذي يلفت انتباهك، وأما الذي يسير أصلاً على الطريق السوي والصحيح فلا يلفت انتباهك، وقد سبق أن تحدثت عن هذا الموضوع بالتفصيل في محاضرة بعنوان: الحور بعد الكور، فأحيل الأخ إليها.(21/24)
وقف الإنسان نفسه لتعليم الناس أمور دينهم
السؤال
كثير من المسلمين ممن يعيشون بين أظهرنا لا يعرفون واجبات دينهم، فهل هناك من يقف نفسه لتعليم هؤلاء في القرى والهجر والمدن أيضاً؟
الجواب
لا شك أن من يقف نفسه على تعليم هؤلاء ودعوتهم هو ممن وقف نفسه على خدمة دين الله سبحانه وتعالى.(21/25)
ينبغي للمسلم أن يكون صاحب همة عالية في أعمال الخير
السؤال
أنا شخص من المسلمين وأحب أهل الخير والدعاة إلى الدين، وأريد خدمة هذا الدين، وكأني أفهم من كلامكم أنه لابد لي أن أكون صاحب طاقة عالية، وأنا أشعر أنني لست كذلك، فهل هناك خدمة خاصة لأصحاب الطاقات، مع المعذرة إن كنت أسأت الفهم، ودلني حفظك الله على أعمال بسيطة أستطيعها؛ لعلي أكون ممن يحشر مع الصالحين وإن لم أكن منهم؟
الجواب
هذه همة غير عالية، ولا يسوغ أن يكون مطلب الإنسان: دلني على أعمال بسيطة وسهلة أعملها، فينبغي أن يكون هم الإنسان وتطلعه إلى أن يكون مع المصلحين، وإلى الهمة العالية، هذا أولاً.
وإن قعدت به نفسه فالله عز وجل لا يظلم أحداً، وخدمة دين الله سبحانه وتعالى مجالاتها واسعة؛ بمال ينفقه في سبيل الله على محتاج، أو على مشروع دعوي لخدمة دين الله سبحانه وتعالى، أو بكلمة طيبة، أو بنصيحة صادقة، أو بأي جهد يبذله خدمة لدين الله سبحانه وتعالى.
وأظن أن الأبواب والطرق والمجالات لا يمكن أبداً أن تضيق عن رجل مهما كانت طاقته، ومهما كانت قدرته، ومهما كان علمه؛ لن تضيق المجالات لخدمة دين الله سبحانه وتعالى والدعوة إليه، لكن ينبغي أن نتطلع نحن إلى الصورة الأعلى، ولا يسوغ للإنسان أن يبحث عن أعمال سهلة وهينة يعملها، فتكون همته دنية، بل ينبغي له أن يكون صاحب همة عالية.(21/26)
نصيحة في أن يهتم الإنسان بما ينفعه في الدنيا والآخرة
السؤال
السواد الأعظم في بلدنا وكذلك في كثير من البلاد قد أوقف ماله ووقته وجهده على ملذات نفسه، فترى الشخص مظهره طيباً، ولا يسمع إلا طيباً، ويملك من الطاقات المالية والعقلية الشيء الكثير، وإذا نظرت في حاله فلا ترى له في الدعوة ولا في نفع نفسه نصيباً، فما توجيهكم لمثل هؤلاء؟
الجواب
توجيهنا لمثل هؤلاء هو أن يحشدوا طاقاتهم وجهودهم لما ينفعهم أولاً، ولما يدخرونه عند الله سبحانه وتعالى، وأن ينفقوا أنفس ما يملكون لخدمة دين الله عز وجل، هذا أكثر ما نستطيع أن نقول لهؤلاء.(21/27)
دعوة إلى أن توقف جماعات نفسها لله تعالى
السؤال
لعل هذه الصورة التي رسمتها لذلك الشخص الذي وقف كل جانب من جوانب حياته وشخصيته لله صورة مثالية، فهل ترى إمكانية وجودها، أم نفهم أن المطلوب هو التسديد والمقاربة كل بحسب جهده وطاقته وقدرته، أرجو التوضيح؟
الجواب
أولاً: قلت: إنه لا جناح على من ولي الوقف أن يأكل بالمعروف، فلا جناح على الإنسان أن يمتع نفسه بما يمتع به سائر الناس، لكن هذا ينبغي ألا يعود على مقاصد الوقف بالإبطال، وهذا لا شك مطلب عالٍ، لكنه ليس مثالياً، مطلب أن يتصدر للأمة جمع يوقفون أنفسهم ومشاعرهم وهمهم وحياتهم لله عز وجل، لكن أن تكون الأمة كذلك لا شك أن هذا مطلب مثالي لا يمكن تحقيقه، فنحن نطلب أن يتصدى جمع وفئام من الناس لهذا المطلب، {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122].
فنحن ندعو إلى أن ينفر من الشباب طائفة، ومن النساء طائفة، ومن الرجال ومن الجميع أن ينفر طائفة يجعلون أنفسهم وقفاً لله عز وجل، فيصبحوا منارات يسير بها الناس، ثم يبقى بعد ذلك سائر الناس كل يشارك بما يستطيع وما يتيسر له، لكن أنت ينبغي أن تتطلع إلى أن تكون من هؤلاء، وأن تسابق في الخيرات وتنافس فيها.(21/28)
نصيحة للآباء في أن يوقفوا من أبنائهم لخدمة دين الله تعالى
السؤال
ما تقول للآباء وما نصيحتك لهم في جعل أولادهم وقفاً لله تعالى لخدمة هذا الدين، فإن الخير سيعود إليهم؟
الجواب
على الأب أن يساهم في تربية ابنه، وأحياناً للأسف تجد الأب يغرس في ابنه الهمم الدنيئة والنازلة، فهو يربي ابنه من الصغر، ويكرر له هذه المقولة: يا بني! تكبر إن شاء الله وتتعلم وتأخذ شهادة وتتوظف وتكد على نفسك وعلى عيالك، فيظل الابن يسمع هذا الكلام دائماً من أبيه، وكأن الله عز وجل خلق هذا الابن كما خلق بعض الكائنات التي تأكل وتشرب وتتمتع بالشهوات.
فالأب صالح وخير، ويغضب عندما يرى ابنه على معصية، وعندما يراه مقصراً في طاعة، لكن هذه المعاني التربوية يغفل عنها، فمن من الآباء دائماً يكرر على ابنه: نريدك أن تكون حافظاً لكتاب الله، وأن تخدم دين الله عز وجل، وأن تكون مجاهداً في سبيل الله، وأن تكون داعية إلى دين الله عز وجل، فيغرس عنده هذا المفهوم، ويغرس عنده هذه الهمة، ويربيه على هذا الأمر حتى يصبح وقفاً لله عز وجل، فبعد ذلك يكون امتداداً لعمله كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).
وقد يقول بعض الآباء: فاتنا القطار، ولا أستطيع أن أساهم الآن، فنقول: أمامك أن تهيئ أبناءً صالحين يكونون خلفاً لك، ويكونون من كسبك، (إن أطيب ما أنفقتم من كسبكم، وإن أولادكم من أطيب كسبكم)، (أنت ومالك لأبيك).
فحين يقوم الأب بتربية ابن صالح، وتقوم الأم بتربية ابن أو بنت صالحة، فحينئذٍ هؤلاء يقدمون خيراً لأنفسهم أولاً، فيبقى ذلك امتداداً لعمله الصالح، (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، ومنها: أو ولد صالح يدعو له)، والولد في لغة العرب يشمل الابن والبنت، ويقدمون خيراً للأمة بعد ذلك حينما يقدمون هذا النموذج الفعال المنتج.(21/29)
أهمية المال في تسيير الدعوات ونهوض المجتمعات
السؤال
تكلمت -حفظك الله- عن أهمية الطاقة البشرية وضرورة استغلالها، وقللت من أهمية الطاقة المالية، وقلت: إن الاهتمام بهذا الجانب عند أصحاب المبادئ الأرضية فقط، ألا ترى أن الجانب المالي مهم لمسيرة الدعوة؟
الجواب
هذا كلام غير صحيح، بل أنا قلت في البداية: إن من يرصد الحركة العلمية على مدى تاريخ الأمة يجد أنها قامت واعتمدت على الأوقاف، فهناك من وقف ماله على مدرسة من المدارس، وهناك من وقف ماله على طلبة العلم الفقهي أو الحديث أو العقيدة أو غير ذلك.
وهناك من وقف ماله على المرابطين والمجاهدين في سبيل الله عز وجل، وقلت: إن المال مطلب وضروري ومهم، ولكن الطاقة البشرية أهم، وعندما نقول: إن الطاقة البشرية أهم من الطاقة المالية لا يعني أبداً أن نقلل من شأن المال وقيمته، هذا أولاً.
والأمر الثاني: أن الطاقة المالية ثمرة من ثمار استغلال الطاقة البشرية، فتوظيف الطاقة البشرية يساعد أصلاً على وجود الطاقة المالية، وإذا وجد المال دون أشخاص فلا يمكن أن يصنع شيئاً.(21/30)
الاهتمام بالأهل والأقارب قدر المستطاع
السؤال
إذا نظرت إلى واقعي شيئاً قليلاً أجد أنني قد صرفت الكثير منه وقفاً لله تعالى، وأسأل الله أن يكون كذلك، فقد صرفته ما بين إصلاح النفس، والنشاط، والدعوة مع الآخرين، وما بين حلقة، ونشاط مدرسي، وجماعة مسجد وغير ذلك، إلا أنني أجد نفسي مقصر جداً تجاه الأقارب وأهل البيت خاصة؛ وما ذلك إلا لأني أجد استجابة من غيرهم أكثر، فما رأي فضيلتكم؟
الجواب
الإنسان عليه أن يسعى ويسدد ويقارب، وبعد ذلك لا يكلف الله عز وجل نفساً إلا وسعها، فعليه أن ينذر عشيرته، ويسعى إلى إصلاحهم قدر الإمكان، لكن حينما يكون غيرهم أكثر استجابة وأكثر إقبالاً، فيستجيب ويهديه الله عز وجل في حين يرفض أولئك أن يستجيبوا لك، فلا ضير عليك؛ لأن المرء ليس عليه إلا الدعوة والتبليغ، والقلوب بيد الله سبحانه وتعالى.(21/31)
نصيحة في عدم جعل المجالس للكلام في أعراض العلماء وطلبة العلم وتقييمهم
السؤال
ما رأيك فيمن لهم مجالس عملهم فيها هو الحديث في تقييم العلماء وطلبة العلم، ويزعمون كما يدل لسان حالهم على أن هذه المجالس وقف لله تعالى؟
الجواب
هذه المجالس وقف للشيطان، ووقف للهو والباطل، وهؤلاء من أقل الناس عملاً ونصيباً، ولا يستحقون أن نقول فيهم أكثر من هذا.(21/32)
نصيحة لمن يقضون مجالسهم في المباحات أو الكلام في أعراض العلماء
السؤال
ما رأيك في مجالس الملتزمين -وجلهم من طلبة العلم الشرعي- الذين يقضون وقت مجالسهم في المباحات، وأحياناً في الكلام في أعراض العلماء والجماعات؟
الجواب
أولاً: أن تطالب الناس دائماً ألا يتكلموا إلا في قضايا جادة أو قضايا علمية أو وعظ، هذا مطلب مستحيل، لكن أن نطالب الناس أن يحفظوا أوقاتهم، وأن يحرصوا على استغلال الوقت فيما ينفع، وأن يمنعوا مجالسهم من الحرام، فهذا مطلب مهم.
وأما الانشغال بالكلام في أعراض العلماء والناس فهذا شأن الناس البطالين وغير العاملين، وكما قلت لا يستحق هؤلاء أن نجعل منهم قضية نتحدث عنها.(21/33)
إصلاح الإنسان لنيته وقصده
السؤال
إن بعض الشباب هداهم الله قد أصيبوا بمرض خطير ألا وهو الشهوة الخفية، وهي حب الصدارة قبل أن ينضج فكرياً وعلمياً، فهل من كلمة لهؤلاء قبل أن يضيعوا في الدنيا والآخرة؟
الجواب
نعم هذه بوابة خطيرة يا إخوة! ومدخل خطير، ونحن يجب دائماً أن نراجع أنفسنا في نوايانا، فيراجع الإنسان نفسه في عبادته لله عز وجل، وأن يراجع نفسه في طلبه للعلم، وفي دعوته، وفي كل عمل يقدمه، ويحاسب نفسه حساباً عسيراً قبل أن يتعرض للحساب الذي لا عمل بعده، وما أشق على الإنسان وأشد عليه من نيته ونفسه التي بين جنبيه، واقرءوا ما يقوله السلف عن الإخلاص، ومجاهدة النية التي يقولون: إنها من أشد الأمور على العابد لله عز وجل.(21/34)
نصيحة في الاهتمام بالشباب، ومخاطبتهم بما يناسبهم
السؤال
إننا نلاحظ على كثير من الشباب في المدارس وفي الشوارع وفي النشاطات خيراً كثيراً وحباً للخير، لكن المشكلة تكمن في البيوت وفي أولياء الأمور عموماً، فهلا قدمت كلمة توجيهية لنا في دورنا في هذه الحالة، وكلمة أخرى لأولياء الأمور، وجزاك الله خيراً؟
الجواب
نحن يجب أن نتخلص من عقدة السبب الواحد والمشكلة الواحدة، المشكلة ليست في البيت وحده، البيت جزء من المشكلة، لكن المشكلة موجودة في الشارع وفي البيت وفي المدرسة وعند الجميع، فالتقصير من الجميع بدأً بإمام المسجد، وخطيب الجمعة، والمدرس، والأب، نحن جميعاً مقصرون في حق هؤلاء.
إن هذا الشاب يحضر الجمعة، لكنه لم يسمع من خطيب الجمعة يوماً من الأيام حديثاً عقلياً مقنعاً هادئاً يخاطب عاطفته وقلبه، ولا يسمع إلا حديثاً يرى أنه لا يخصه، ولم يسمع من أستاذه كلمة ناصحة مشحونة بالود والعاطفة والمحبة، وكذلك والده والجميع.
أقول: إن التقصير من الجميع، ولا يسوغ أن نرمي التقصير على فئة دون أخرى، فيجب أن نتكاتف ونتعاون جميعاً؛ لنتجاوز هذا التقصير، ونسعى لاستنقاذ أنفسنا أولاً، واستنقاذ إخواننا.(21/35)
التزام الألفاظ الشرعية في الكلام
السؤال
قلتم: إن الكلام تكون نيته لله ورسوله، وكررتم: خدمة دين الله، فهل هذا التعبير صحيح؟ أوليس الأولى نصرة دين الله كما جاء في كتاب الله؟
الجواب
نشكر الأخ على هذا التنبيه، وأحياناً الإنسان عندما يتحدث قد لا يستطيع أن يضبط ألفاظه وعباراته، فعلى كل حال إن قلنا: نصرة دين الله عز وجل، فلا شك أن هذا مصطلح شرعي، {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7]، ولنستبدل هذه الكلمة بغيرها.
والمهم أن المقصود والمطلب واحد، وأيضاً التأدب في الألفاظ الشرعية مطلوب ولا شك، فنشكر الأخ على ملاحظته.(21/36)
الخطاب في غالب أحكام الشريعة عام للرجال والنساء
السؤال
نسينا النساء في هذا اللقاء مع العلم أنهن معنيات أيضاً في وقف أنفسهم لله، فهلا أشرتم إلى هذا؟
الجواب
الخطاب للرجال تدخل فيه النساء تبعاً في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه، والنساء لهن حق علينا، ولهذا -إن شاء الله- ستكون هناك محاضرة في الأسبوع القادم يوم الأربعاء في مدينة الرياض بعنوان: يا فتاة! وهي خاصة بالنساء، ولعل من لا يتيسر له حضورها أن يسمعها من خلال أجهزة التسجيل.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح، وأن ينفعنا وإياكم جميعاً بما نسمع، وأن يرزقنا إخلاص القلوب، وتوجه الأعمال له سبحانه وتعالى، وألا يفرق هذا الجمع المبارك إلا بذنب مغفور، وعمل صالح مقبول، ويجعلنا وإياكم ممن اجتمعوا في بيت من بيوته على ذكره سبحانه وتعالى، وأن يرفع درجاتنا وإياكم في المهديين.
هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(21/37)
حديث مع الشباب
إن الشباب ألم وأمل، ألم عندما ينحرفون ويضيعون فيسببون شرخاً عظيماً في المجتمع، ويتركون هوة سحيقة فيه.
وأمل للأمة إذا ما صلحوا وسعوا في نهضتها، وعرفوا ما لهم وما عليهم تجاه خالقهم، وتجاه دينهم وأمتهم.
والحديث عن الشباب ومشاكلهم والحمولة الملقاة على عاتقهم، وكيفية إصلاح شئونهم وتوجيههم التوجيه السليم، حديث ذو أهمية بالنسبة للفرد والمجتمع.(22/1)
حال شباب الأمة واختلاف نظرة طوائف الناس إليهم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد: فإن من يتأمل في واقع الشباب الآن يدرك أن هناك شرخاً عظيماً وانصداعاً في هذا الكيان، وهو كيان مهم من كيانات الأمة، وركن ركين من أركان المجتمع ودعاماته، والأمم والمجتمعات إنما تقوم بشبابها، وعندما تتحدث أنت عن الانحراف في واقع الشباب والفساد في كثير منهم لست بحاجة إلى إيراد أدلة على هذه الدعوى، فالجميع يسلم لك بذلك، ولا أظن أحداً أبداً يخالف في هذه البدهية، وأظن أنه من الترف الفكري وإضاعة الوقت أن نسعى إلى إثبات البدهيات، ولكن القضية التي قد يقع حولها الخلاف هي التعامل مع هذا الواقع، فالجميع يتفقون على أن هذا الواقع واقع غير شرعي، وأن هذا الواقع يحتاج إلى تصحيح، وأن هذا الواقع فيه انحراف، وهذه قضية بدهية ويتفق عليها الجميع.
وكما قلت: عندما تتحدث أنت عن أوساط الشباب والفساد والخلل الموجود في هذا الكيان لست بحاجة إلى أدلة ولا إيراد شواهد، بل هذا من إثبات البدهيات، وكما قال الشاعر: وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل ولكن الخلاف يحصل في منهج التعامل مع هذا الواقع، فهذا واقع يفرض نفسه الآن، أو واقع موجود على الساحة، فكيف نتعامل مع هذا الواقع؟ وكيف نتعامل مع هؤلاء الشباب؟ أظن أن هذه القضية بحاجة إلى أكثر من تفكير، وبحاجة إلى أكثر من جهد، وبحاجة إلى تنوع المجالات والجهود، فهي قضية مهمة من قضايا مجتمعنا، وقضية مهمة من قضايا الدعوة، وأنت عندما تتأمل في أساليب الناس في التعامل مع هذا الواقع تجد أن الناس أصناف شتى: فهناك فئة لا تتجاوز إثارة الأحزان والأشجان والندب لهذا الواقع الأليم، فهو يحدثك عن مرارة الواقع، وعن الفساد والانحراف، ويذكر لك ألواناً من الصور بل وألواناً من الصور الصارخة لهذا الفساد والانحراف، لكنه يقف عند هذا القدر، وهذا القدر يشترك فيه الكثير من الناس، ندب الواقع، والحديث عنه، والانتقاد له يشترك فيه الكثير، ولكن المشكلة ليست هنا فنحن الآن تجاوزنا مرحلة إقناع الناس بفساد هذا الواقع، وهي مرحلة أظن أننا لسنا بحاجة للحديث عنها، وعندما نتحدث عنها وعن مرارتها، ونندب هذا الواقع يجب أن نتحدث بلغة من يريد التغيير لا من يقف عند هذا الحد، فهناك فئة كثيرة -كما ذكرنا بل قد يكون منهم من أهل الصلاح والخير والاستقامة- تقف عند هذا الحد، تقف عند حد انتقاد الواقع، وإثارة الأحزان، والندب على هذا الواقع، والاسترجاع، وهذا منطق العاجزين، ومنطق الكسالى، ومنطق غير العاملين، ومنطق الذين يستسلمون للواقع، وما ترى أحداً يستسلم للواقع إلا صاحب عجز، وأنت ترى الإنسان قد يكون في حالة فقر، وعليه ديون، فتراه يسلك ألف وسيلة ويبحث عن ألف أسلوب ليحتال على هذه المشكلة، ويخرج من هذا المأزق، وترى امرأً يريد هدفاً في الحياة الدنيا أياً كان هذا الهدف، وتكون أمامه العقبات والمشاكل الكثيرة، فتراه يسعى ويفكر ويبحث عن ألف طريق وألف وسيلة؛ ليتجاوز هذه المشكلة.
وهناك أمور مثل هذا تتكرر عندنا كثيراً، فعندما يكون عند الإنسان حاجة في أي دائرة حكومية وقد يكون فيها مشكلة تتطلب تأخير هذه المعاملة، أو تتطلب عدم البت فيها، فماذا يصنع هذا الإنسان؟ تراه يسأل عن المسئول من أي بلد، ويسأل عن أقربائه، ويحاول بطريقة أو بأخرى أن يتصل بأقرباء هذا المسئول؛ حتى يتصلوا به ليقنعوه بحل هذه المشكلة.
وهكذا عندما يتقدم أحد ليخطب ابنته تراه يسأل عنه، وعن أخواله، فما يلبث أن يجد امرأ يحل له هذه المشكلة، فالشاهد: أن الإنسان هنا لم يقف عندما كان صاحب حاجة وإرادة وتصميم، واستطاع أن يحتال على حاجته، واستطاع أن يجد ألف أسلوب، وأما في قضايا دينه فالقضية تقف عند هذا الحد: عند التألم والأحزان والأشجان لا غير.
وهناك فئة أخرى تغرق في الحديث عن وصف المرض، وعن ذكر مظاهره وأعراضه بلغة تبعث على الأسى وتبعث على اليأس والقنوط، وعندما تذكر له بعض النماذج وتحاول أن توجد عنده بصيصاً من الأمل، فتحدثه عن بعض البشائر فإنه يفاجئك ببعض المظاهر الصارخة من الفساد والانحراف؛ ليسعى في تبديد كل أمل لديك في تغيير هذا الواقع، وقد لا تختلف هذه الفئة عن سابقتها، لكن الفئة السابقة فئة تقتصر فقط على مجرد التألم، وأما هذا فهو يزيد وقد يتحدث من خلال منابر ومن خلال وسائل الحديث مع الناس عن الانحراف وعن الفساد وعن الخطأ وعن الضلال وعن انحراف الشباب، ثم يقف عند هذا الحد.
إن هذا وصف للمرض وقد يكون مطلوباً -أحياناً- لإقناع من لا يدرك خطورة المرض، ولكن أن يكون هو العلاج فلا، فعلينا أن نفكر ملياً في هذا الأسلوب، إن هذا الأسلوب غاية ما ينتجه فقط إثارة الاهتمام بالمرض، وإثارة الشعور بالمرض، وأما القضية التي نحتاج إليها فهي العلاج، إننا الآن لا نملك أدنى شك ولا أظن أن أحد(22/2)
الاستقامة على دين الله وترك طريق الغفلة
فالصفحة الحادية والعشرون بعنوان: لا زلنا عند مطلبك.
كنا قد طلبنا في تلك المحاضرة من الشاب أن يودع طريق الغفلة، وأن يسلك طريق الاستقامة، وحاولنا قدر الإمكان أن نسلك ألواناً من الحجج والأدلة العقلية والمنطقية والأدلة المستنبطة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وحاولنا أن نتحدث مع الشاب ونحشد له الكثير من المؤيدات والحجج والبراهين التي تؤيد مطالبنا المشروعة، وهانحن الآن نخاطبه بلغة أخرى ومنطق آخر، ولكن هذا لا يعني: أننا تخلينا عن مطلبنا الأول، فلا زلنا نطالب وبصوت عالٍ وبصوت ملح نطالب جميع هؤلاء الشباب أن يعودوا إلى طريق الاستقامة والصلاح، أطل منهم أن يعودوا وليس أن يسلكوا؛ لأن هذا هو الأصل، وهذا هو طريق الفطرة، فلا نزال على هذا المطلب وسنستمر عليه، ومهما خاطبناك بلغة أخرى فهو خطاب آخر أو حديث ثانوي، ويبقى حديثنا الأصلي أننا لا زلنا نطالبك بالتوبة، ولا زلنا نطالبك بالعودة إلى الطريق الصحيح وإلى المسار السليم ألا وهو: الاستقامة على شرع الله عز وجل.
وسنزيد إلحاحاً وسنزيد مطالبة، ونشعر أن من محبتنا لك ومن مودتنا لك ومن حقك علينا أن نزيد في المطالبة والإلحاح، إنك ترى رجلاً يطلب من إنسان دينه أو حقه فتراه يلح في مطالبته، وتراه يحاول أن يستعين بالشفعاء والوسطاء، ويسلك آلاف الأساليب والحيل كي يطالب بحقه، وأنت ترى أنه يطالب بحق مشروع، فبالله عليك أينا أكثر حقاً؟ أتصور أن مطالبنا أكثر مشروعية من الرجل الذي يلح في المطالبة بدينه، فذاك رجل يطلب حقاً شخصياً له، وأما نحن فنطلب منك إسعادك، ونطلب منك أن تسلك الطريق، وأنت وحدك المستفيد، وأنت وحدك الخاسر حين ترفض هذا القرار، فأينا أكثر مصداقية في مطالبه؟ وأي المطلبين أكثر مشروعية؟ إنك لا تلوم ذاك الإنسان الذي يطالب حقاً ويطالب ديناً، فما بالك تلومنا نحن وتعتب علينا على إلحاحنا ولا نزال نلح وسيستمر هذا المطلب مطلباً ملحاً إلى أن تفرق بيننا وبينك المنية أو أن تلبي هذا المطلب.(22/3)
لا زلت مسلماً أيها الشاب
الصفحة الثانية والعشرون: لا زلت مسلماً.
هناك وهم كاذب يسيطر على البعض من الشباب، وهو ما أشرت إليه في مقدمة حديثي: فيتصور الشاب أن أمامه خيارين: الخيار الأول: أن يتوب ويسلك طريق الالتزام والاستقامة، ويعني هذا: أن تنقلب حياته رأساً على عقب، فيبدأ يحافظ على الأوامر، ويبدأ يفعل النوافل ويحرص عليها، ويبدأ يجتنب المحرمات والمعاصي، ويبدأ يتغير تفكيره ويتغير منطق حياته ومنهج حياته، فيصيبه انقلاب كامل في حياته.
الخيار الثاني: أن يفشل في تحقيق هذا الخيار لسبب أو لآخر وهو لا يزال عنده قناعة أن هذا هو الطريق الذي ينبغي أن يسلكه، إنه سلك هذا الطريق يوماً من الأيام لكنه فشل: إما لضعف شخصيته، أو لحواجز وهمية، فالقضية إذاً أمامه الخيار الآخر وهو: أن يبقى على ما هو عليه، فحينئذ يتصور أنه ما دام ملتزماً فله معاملة أخرى، وأنه ما دام ملتزماً فمن حقه أن يضيع وقته، وما دام ملتزماً فمن حقه ألا يحافظ على الصلاة، وما دام ملتزماً فليس مطالباً أن يفعل النوافل، وليس مطالباً أن يقرأ القرآن، وليس مطالباً بهذه المطالب.
أنت ترى مثلاً نقلة بعيدة جداً وشاسعة جداً بين هذا الشاب وهو في طريق الغفلة والإعراض، وعندما يسلك طريق الالتزام، ترى نقلة بعيدة جداً، أليس هناك حل ثالث وخيار ثالث لنختصر هذه النقلة؟ إنك أنت قد تفعل بعض المعاصي، وقد تكون تسير في طريق الغفلة، لكن لماذا تضع هذا الحاجز أمامك: أنك إنسان غير ملتزم وغير مستقيم؟ فتراه عائقاً يعوقك عن المساهمة في كثير من أمور الخير، ويعوقك عن كثير من الطاعات، وتراه مبرراً لك لأن تقع في كثير من المعاصي.
فأنت مثلاً: قد تطالب الشاب أنه يتخلى عن سماع الغناء، وعن مشاهدة الأفلام، وتطالبه بالمحافظة على صلاة الفجر، وتطالبه بأن يفعل السنن الرواتب، وأن يقرأ القرآن، فكأنه يستغرب هذا المطلب ويقول لك: يا أخي! أنا لست ملتزماً وأنا لست مستقيماً، وقد لا يقول هذا الكلام بلسان المقال لكنه يقوله بلسان الحال، فمن أين هذا الوهم؟ ولماذا لا تفترض طريقاً ثالثاً ومرحلة ثالثة؟ إنك قد تقول لي: عندك عوائق وعندك أعذار وعندك أسباب تمنعك من طريق الاستقامة، فنقول: إذا لم تسلك هذا الطريق فثمة طريق ثالث، فلا يعني هذا أنه مسوغ أن يتخلى عن المطلب السابق، لكن لم لا تجعله مرحلة وسيطة؟ لماذا لا تقول: أنا غير ملتزم لكني مسلم؟ فما الذي يمنع مثلاً: من أن أعفي لحيتي وإن كنت غير ملتزم؟ لأن المسلم مطالب بذلك، وما الذي يمنع من أن أحافظ على صلاة الفجر؟ وما الذي يمنع من أن أفعل النوافل؟ وما الذي يمنع من أن أقرأ القرآن، ومن أن أشارك في أمور الخير ولو كنت لست من أهل الاستقامة، ولست من أهل الالتزام والطاعة؟ بل أتصور أنا أن هذه خطوة مهمة قد تقودك إلى الانتقال للمرحلة الأخرى، وقد تجعلك تكون أكثر قدرة على سلوك الطريق الفعلي فعلاً الذي نطالبك به.
مرة أخرى عندما نطالبك نحن بهذا المطلب فلا يعني: أن نتخلى عن طلبنا الأول، فهو مطلب ملح وهو الأصل، ولكن إذا لم تلب هذا المطلب أو عجزت أو فشلت فلا يعني هذا أبداً بحال أنك أصبحت شخصاً آخر، أو كأني أحياناً بك تتصور أنك غير مكلف، أو كما يقول أهل الأصول: غير مخاطب بفروع الشريعة، فأنت إذا كنت غير ملتزم ومظهرك غير مستقيم، فهذا لا يعفيك إطلاقاً من التكاليف الشرعية، فكل نص شرعي سواء أمر أو نهي: سنة واجب محرم مكروه أنت مطالب به، وليس هناك أبداً نصوص خاصة وأحكام خاصة وأشياء خاصة بالملتزمين، وأمور خاصة بغير أولئك.(22/4)
كن من أهل العافية
الصفحة الثالثة والعشرون: كن من أهل العافية.
هناك مشاهد تكررت من الشباب، فيلتقي الشاب مع زملائه فيحدثهم عما فعل، فقد فعلت البارحة كذا وكذا، وشاهدت مثلاً: فيلماً، أو فعلت كذا وكذا، أو فعلت تلك الفعلة، بل وكأنه ينتظر اللقاء على أحر من الجمر؛ حتى يحدث زملاءه عما فعل.
وأحياناً يعمد إلى أن يفعل بعض الممارسات أمام زملائه وأمام الناس إما من خلال عدم المبالاة، أو من خلال الافتخار بهذا العمل، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل العمل بالليل ثم يستره الله عز وجل، فيصبح فيقول: يا فلان! فعلت البارحة كذا وكذا، فيصبح وقد ستره الله عز وجل فيكشف ستر الله عليه) يعني: أنت مثلاً عندما تفعل معصية أو تقع في المعصية أياً كانت هذه المعصية صغيرة أو كبيرة ما الداعي إلى أن تتحدث بها مع الناس؟ إن فعلك للمعصية ذنب، والحديث مع الناس ذنب آخر ومعصية أخرى، إن هذا قطع الطريق على التوبة، لأنه تسهيل للمعصية، ودعوة غير مباشرة للمعصية، ثم لو لم يكن كذلك إن هذا وسيلة لأن تقطع الطريق على نفسك أن تتوب، فإن الناس قد عرفوا ما عندك.
فإن ابتلاك الله عز وجل ووقعت في المعصية فلماذا لا تستتر بستر الله عز وجل، وتكون من أهل العافية؟ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين)، فالمجاهرة دليل -مع الاعتذار الشديد- على أنك إنسان مستخف بالمعصية، وعلى أنك إنسان لا تبالي بمعصية الله سبحانه وتعالى، وأما ذاك الإنسان الذي يقع في المعصية، ويتصور أن هذا ذنب، وأن هذا نتيجة أن نفسه غلبته حتى أوقعته في تلك المعصية، وينتظر الوقت الذي يتوب فيه إلى الله عز وجل، فهذا إنسان أقرب حال من ذاك الإنسان الذي يفتخر بهذه المعصية، ويتحدث بها مع أقرانه، أو يفعل معصية أمام الناس.
فهناك ثلاث مراتب فلماذا تختار أنت أسوأ هذه المراتب؟ كما قلنا في الصفحة السابقة: المرتبة الأولى: التوبة والإقلاع عن المعصية والذنب، هذه المرتبة هي الخيار الطبعي والأمر المطلوب.
المرتبة الثانية: مرتبة الإعلان والمجاهرة والافتخار، هذه مرتبتان، وأنت عندما تفشل في المرتبة الأولى لماذا تختار المرتبة الثانية؟ هناك حل وسط، لا يعني: كونه وسطاً أنه خير، لا، فالوسط الخيري: هو التوبة والإقلاع.
المرتبة الثالثة: أن تستتر بستر الله عز وجل، وأن تجتهد ألا تفعل معصية أمام الناس على الأقل إذا كنت مبتلى بهذه المعصية، فهذا طريق وخطوة بأن تقلع عن المعصية.
ونحن عندما نقول لك هذا الكلام لا نعطيك إطلاقاً مشروعية أن تفعل المعصية، لكن على الأقل هذا أهون الشرين، وهذه وسيلة إلى أن تستتر بستر الله عز وجل، وإذا كنت تقول: أنا ابتلاني الله عز وجل بالوقوع في المعصية وأحاول التخلص منها ولم استطع، وسأسعى إلى ذلك، فأتصور أن أول خطوة تعينك على ذلك هي أن تستتر بستر الله عز وجل، وأن تكون من أهل العافية كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، واختيارك لهذا الأسلوب وهذا الطريق يعني: أنه وسيلة لينقلك نقلة أخرى بعد ذلك، ووسيلة إلى أن تتوب إلى الله عز وجل، وبعد ما يكون عندك عزيمة وإرادة فليس هناك مشكلة، فالناس ما يعرفون عنك الماضي السيئ والتاريخ السيئ الذي أحياناً يكون عقبة وحاجزاً بين الإنسان وبين التوبة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النجوى قال: (وأما العبد المؤمن فيدنيه ربه فيضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه فيقول: أتذكر ذنب كذا وكذا؟ أتذكر ذنب كذا وكذا؟ قال: حتى إذا ظن أنه قد هلك قال: أنا سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم أو أغفرها لك في الآخرة)، فقد تفعل ذنباً ويستر الله عز وجل عليك، فلا داعي لإعلان ذلك الذنب فقد يمكن أن تكون من أهل هذا الحديث أن تكون ممن ستر الله عز وجل عليهم في الدنيا، وغفر الله لهم في الآخرة، فإن استتارك بستر الله سبحانه وتعالى، وعدم إعلانك لهذا الذنب لعل هذا أن يكون وسيلة لأن يقول الله تعالى لك يوم القيامة: (أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك في الآخرة).
وأما ذاك الذي يجاهر بالمعصية، ويتحدث بها ويفاخر بها، ويدعو إليها فأحرى به أن يكون ممن قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (وأما الفاجر فينادى بذنوبه على رءوس الخلائق).(22/5)
لا تحتقر المعصية
الصفحة الرابعة والعشرون: لا تحتقر المعصية.
حين تبتلى بمعصية فلا تحتقر هذه المعصية، إنك عندما تتحدث مثلاً مع بعض الناس عن معصية وسيئة يقع فيها يقول لك: هذه قضية سهلة، أو على الأقل هناك من خالف في هذه المسألة، أو هناك من يفعل أسوأ من هذا، أو أنا أفعل أسوأ من هذا، وهذا من نتائج المعصية وأثر المعصية، إنك عندما تفعل المعصية، وتقع فيها وتبتلى بها فأنت ينبغي أن تتصور وألا يزول أبداً من خاطرك ومن ذهنك أنك تجرأت على معصية الله سبحانه وتعالى، وعصيان الله عز وجل أمر عظيم، كما يقول بعض السلف: لا تنظر إلى صغر المعصية، وانظر إلى عظم من عصيت.
ويضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً لمحقرات الذنوب فيقول: (إياكم ومحقرات الذنوب؛ فإن مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن وادٍ فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى أشعلوا نارهم، وأنضجوا عشاءهم، وإن محقرات الذنوب متى ما يؤخذ بها المرء تهلكه).
ويروي البخاري عن ابن مسعود أثراً يضرب فيه مثلاً، فلا بد من إحدى الصورتين، فاختر أنت الصورة المناسبة، يقول رضي الله عنه: إن المؤمن يرى ذنوبه كالجبل يوشك أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب طار على أنفه فقال به: هكذا.
فكيف واقعك مع ذنوبك ومعاصيك؟ فأنت عندما تبتلى بمعصية وتفعل المعصية هذا لا يعني أن تجاهر بها، ولا أن تبحث عن مسوغ، ولا يعني مرة أخرى: أن تستهين بهذه المعصية وتحتقر هذه المعصية.
فليكن عندك هذا الهاجس، وليكن عندك هذا الشعور: أنك عاصٍ لله، وأنك تفعل المعصية، وحتى ولو كنت تفعل معصية أعظم منها فينبغي ألا يهون عليك تلك المعصية الصغيرة التي تقع فيها، وهذه خطوة للتوبة والإقلاع عن الذنب، بل إن استحقار المعصية قد يحولها إلى كبيرة ولو لم تكن كذلك، ومعاصيك مهما عظمت ومهما كثرت ومهما تكررت فهي لا تسوغ لك بحال أبداً أن تستهين بالمعصية، أو أن تأتي عندما ترتب هذه المعاصي على عظمها وصغرها أن تنظر إلى تلك الصغيرة أو تلك التي تأخذ مرتبة متأخرة في الترتيب، أن تنظر إليها نظرة ازدراء واحتقار أبداً، فرب معصية تحتقرها قد توبقك وتكون سبباً في هلاكك.(22/6)
إياك وإضلال الناس
الصفحة الخامسة والعشرون: إياك وإضلال الناس.
هذه صورة تتكرر كثيراً، فتجد شاباً مستقيماً محافظاً على أوامر الله عز وجل خير تربى تربية محافظة، وولد من أبوين مسلمين محافظين عليه، وبعد فترة يتغير، وكثيراً ما يقال: من صاحب من الناس؟ إذاً نستطيع أن نقول: إن فلاناً من الناس هو الذي أضله؛ نتيجة أنه صاحبه، فلماذا أنت تسلك هذا الأسلوب؟ فأنا أتصور أنك مقتنع قناعة تامة بأنك تسير على طريق خاطئ، ومقتنع أن طريقك طريق غير شرعي، فلماذا تتسبب في إضلال الناس وإضلال الآخرين؟ فأنت عندما تأتي وتأخذ فلاناً من الناس الذي كان ما يقع في المعصية، وصاحبته أنت وعاشرته ولازمته فأوقعته في الفساد والمعصية فأنت تسببت في إضلاله وإيقاعه في المعصية.
فقد تضله بالمصاحبة وقد تضله بطريقة أخرى، فأنت تدله على الطريق المثلى في المعصية، فتهدي إليه صورة، أو تهدي إليه فيلماً، أو تهدي إليه مجلة، وتدله بطريقة أو بأخرى على طريق المعصية، وتهون عليه أمر المعصية بأي وسيلة، فتكون أنت قد ساهمت في إيقاعه في المعصية بصورة أو بأخرى، وقد تكون قصدت ذلك وقد تكون لم تقصد، لكن لأجل أنك تعرف النتيجة وتعرف النهاية فأنت السبب، فعندما تأخذ فلاناً من الناس أو ابن فلان معك وتصاحبه وتعرف أنت إلى ماذا سيصير، وتعرف أنت النهاية عندما تهدي لفلان هذا الفيلم، أو تقص عليه هذه القصة، أو تعمل معه هذا العمل أو ذاك تعرف النهاية، فلماذا تكون سبباً في ضلال الناس؟ أنت يا أخي! مقتنع أن طريقك خاطئ، ويمكن أنك تبحث عن طريق الصلاح والاستقامة، فكيف ترتكب أنت الخطأ وهذا الأسلوب مع الناس وتنقلهم إلى أن ما ترى أنه أمر فاسد، فأنت ترى أن هذا الطريق الذي هم عليه هو طريق الخير، وهو طريق الصلاح، وهو الطريق الطبيعي الذي ينبغي أن يسلكه الإنسان، ألا تخشى أن ينطبق عليك قول الله عز وجل: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25]؟! وأنت مثلاً عندما تأتي وتصاحب فلاناً من الناس وبسبب مصاحبتك له انحرف وضل، أتدري أنك تأتي يوم القيامة تحمل وزرك مع وزره هو؟ هذا كلام الله عز وجل، ألا تخشى أن ينطبق عليك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً).
وهنا أضرب لك مثالاً محدداً بسيطاً: فأنت أتيت وأهديت إلى فلان فيلماً وأنت قد شاهدت هذا الفيلم، فقد تقول لي: ما أستطيع أتخلص منه، أنا تعودت، أنا أصبحت صاحب إدمان، سنتنازل معك فنقول: قد تكون كما قلت، لكن ما المبرر أنك تهديه إلى فلان من الناس؟ وماذا يترتب على ذلك؟ فإذا أنت أهديته إلى فلان فسينظر إليه، والنظر هذا معصية، وهذا العمل سيصرفه عن كثير من أنواع الطاعات، بل قد يتسبب في وقوعه في المعصية، بل قد يكون سبب في انحرافه كما سنتحدث إن شاء الله في الدرس القادم، وسنذكر لكم نماذج من ذلك.
فقد يكون ذلك سبباً في انحراف أناس آخرين، فهذا الشاب قد يعطي هذا الفيلم لآخرين، فقد تراه أخته وقد يراه أخوه، فتخيل معي الآن ما هي النتائج التي ترتبت على هذه الهدية التي قمت بإهدائها إلى فلان من الناس، فالنتيجة أنك أنت تتحمل المسئولية كاملة، وتتحمل كل الأوزار الذين وقعوا فيها هؤلاء؛ لأنك أنت سهلت لهم طريق المعصية، وهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً)، وأنت ترى مشهداً آخر معاكساً فأنت تهدي إلى هذا مثلاً فيلماً ساقطاً، لكنك ترى من يهدي إلى فلان شريطاً إسلامياً، وترى من يهدي إليك أنت شريطاً إسلامياً وكتاباً إسلامياً، أنت مثلاً: قد تصاحب فلاناً لغرض إفساده، أو لقضية معينة، وتعرف النتيجة، لكنك ترى أنت من يدعوك ويحاول أن يأخذ بيدك ليصحبك؛ كي ينقلك إلى طريق الاستقامة.
فيا أخي! هل هذا المشهد لا يدعوك إلى أن تراجع نفسك؟ فانظر كيف أنت عائش في النقيض، فهناك من يسلك نفس الأساليب التي تسلكها: أسلوب المصاحبة، والكلام، والإهداء، وتجده يحترق حتى ينقل فلاناً أو فلاناً إلى طريق الهداية، وأنت تمارس نفس الأسلوب بطريقة أخرى، فعلى الأقل يا أخي! إذا ما اقتديت به المفروض أن هذا الخطوة تجعلك تتوقف عن أن تسلك هذا الطريق: طريق إضلال الناس، وهي قضية خطيرة ما يسوغ أن تستهين بها، وفرق بين أن تفعل معصية وتقع فيها، وبين أن تسهلها على الناس، وتدعو الناس إليها، وتحاول أن تنقل الناس إلى المعصية، فتتسبب في إضلال الناس.(22/7)
إزالة الحواجز الموضوعة بين الصالحين وغيرهم
الصفحة السادسة والعشرون: لماذا هذه الحواجز؟ لماذا هذا العداء المفتعل وهذه الحواجز المصطنعة بينك وبين الأخيار؟ نرى الآن حواجز وحدوداً بين هذا الشاب وبين الناس الأخيار، فإذا نظر بعضهم إلى بعض فإنه ينظر شزراً، فلا يسلم عليهم، وإذا حصل السلام فيكون سلاماً -كما يقول الناس-: روتينياً، وأما مشاعر المودة وتبادل الحديث إلى غير ذلك فكل هذا قد لا يوجد.
قد تقول أنت: إن السبب هم الأخيار، وكثيراً ما يقال هذا الكلام، فيقول هذا الشاب: الأخيار لا يسلمون علي، والأخيار يفرضون حواجز وعندهم استكبار إلى غير ذلك، فأقول له: إنه من السهل جداً أن تحمل الآخرين المسئولية، فأنت الآن طرف في المشكلة فمن السهل أن تحمل الآخرين المسئولية كاملة، لكن بقي طرف آخر في القضية ومن العدل والمنطق دائماً أنك ما تحكم بين شخصين إلا عندما تسمع منهما جميعاً، ولهذا يقولون: إذا أتاك أحد الخصمين وقد فقئت عينه فلا تحكم له حتى تسمع من الخصم الآخر؛ فقد تكون فقئت كلتا عينيه.
يعني: يأتيك رجل ويقول: هذه عيني مفقوءة، فلعل الآخر فقئت كلتا عينيه، فانتظر حتى تسمع منه.
فكونك تحمل الآخرين المسئولية هذا منطق سهل، مثلاً: عندما يرسب الطالب من السهل أنه يحمل الأستاذ المسئولية، وعندما يفصل الموظف نتيجة الإهمال، أو يخصم عليه: من السهل أنه يحمل رئيسه المسئولية، وهكذا من السهل على كل إنسان أنه يحمل الآخرين المسئولية، بل أنت مثلاً: لو تلتقي بالمسجونين فإنك تجدهم يتحدثون عن تجاوز القضاة وتجاوز الشرطة والهيئات، فيحمل الآخرين المسئولية.
الأمر الثاني: أن العلاقة ما هي من طرف واحد وإنما هي علاقة تبادلية مشتركة، فأنت عندما تقول لي: هو ما يسلم، فإنه أيضاً يقول لك: وأنت ما تسلم، فالقضية ما هي من طرف واحد، فلماذا أنت تطالب فقط من طرف واحد؟ فالقضية الآن قضية مشتركة تحتاج إلى تنازل منك أنت وتنازل منه هو، وإلى مبادرة منك أنت ومبادرة منه هو، فليست من طرف واحد حتى نحمل هذا الطرف المسئولية وحده.
الأمر الثالث: من الخاسر؟ فمثلاً هو عندما يعرض عنك سيكون بينك وبينه حاجز، وصار هنا
السؤال
من سيخسر؟ أفترض أن الخسارة لك أنت؛ لأنك أنت عندما تصاحبه وتجلس معه ستستفيد منه، وستجد منه أموراً كثيرة من أمور الخير ولو على الأقل أن تجد منه ريحاً طيبة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وأما هو فقد لا يخسر كثيراً، فالخاسر أنت، أو بعبارة أخرى أنت صاحب الحاجة، فأنت الآن الذي تحتاج إلى أن تحسن هذه العلاقة، فالأولى أن تكون المبادرة منك أنت؛ لأنك أنت صاحب الحاجة، ثم أنت الذي ستخسر عندما تبقى هذه العلاقة علاقة سلبية.
الأمر الرابع: أن هذا المستقيم قد سبقك في ميادين كثيرة، فهو مثلاً: استقام، وترك المعصية، وفعل الطاعة، وفاقك في أمور كثيرة، فيا أخي! نريد منك نحن أن تفوق في هذه القضية وحدها، لماذا دائماً ترضى أن تكون في آخر القائمة؟! لماذا لا تقول: فلان سبقني في جوانب كثيرة من جوانب الخير فلابد أن أسبقه في هذا الخير، فنريد منك أن تساهم في تحطيم هذا الحاجز.
أمر خامس: قد يكون من حقه ذلك عندما هو يفرض هذا الحاجز، وعندما يرفض أن يلتقي بك، أو يجلس معك، أو يتحدث معك، والقضية ليست كبراً وليست غروراً وإن كانت قد توجد حالات نادرة، لكن لماذا لا تحمل دائماً أنت إلا أسوأ التفاسير؟ فهناك باب العذر والتبرير، فمثلاً: أنت عندما تلتقي به وتسخر منه بالله عليك أليس من حقه أن يرفضك؟ فلماذا أنت تواجهه بالسخرية دائماً؟ وأحياناً بالكلام وبالغمز أحياناً وبالإشارة بصورة أو بأخرى، أنت تفعل معه أنواعاً من السخرية، فكيف مع ذلك تطلب منه أنت أن يحطم هذه الحواجز، وأن يعاملك بنقيض ما تعامله؟! أيضاً: هو قد يكون عنده عذر آخر، فقد يكون يريد أن يحافظ على نفسه، فيرى مثلاً: أنه عندما يجلس معك تحدثه أنت عن المعاصي، وتحدثه عما تفعل وتسوغ له المعصية، فيرى أن جلوسه معك من باب مصاحبة جليس السوء، وقد تكون سبباً في وقوعه في المعصية، فمن هنا فهو يرفضك لا كبراً ولا استكباراً وإنما يرفضك من باب أن يحافظ على نفسه.
فلماذا لا تكون أنت صاحب القرار؟ ولماذا لا تحطم هذه الحواجز وتحترم مشاعر الآخرين؟ فتبدأه بالسلام وتبتسم له وتبدي له إعجابك وارتياحك بما هو عليه، وتقول: والله يا أخي! أنا أغبطك على الذي أنت عليه، يا أخي الكريم! هذا شيء أنا أجزم أنه موجود عندك في الداخل لماذا لا تقوله؟ أنا أجزم أنك أنت عندما يسألك أحد تقول: والله يا أخي! إني أغبط الناس المستقيمين والأخيار، وأتمنى أن أكون مثلهم، فأنت عندما تسلم عليه وتبتسم له وتقول: يا أخي! أنا أغبطك على الواقع الذي أنت عليه، وأتمنى أن أكون مثلك، وأتمنى أن أصير إلى الحال التي أنت عليه، وأرى أني على خطأ وعلى انحراف، وأخشى على نفسي لكن الشكوى إلى الله، وتساهم أنت في تحطيم الحواجز هذه، فتستفيد الكثير، وتختصر عليك خطوات كثيرة، لماذا لا تتمثل قول الشافعي: أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة وأكره من تجارته المعا(22/8)
مساهمة الشاب ولو كان عاصياً في مسيرة الخير
الصفحة السابعة والعشرون: تساهم معنا في المسيرة.
فأنت الآن ترى مسيرة الصحوة سواء من خلال ما تشاهد في واقعك القريب والبعيد، أو ما تسمع عن أخبار المسلمين، ولو سألتك: هل هذا الأمر يهمك؟ لقلت لي: يهمني، وطبيعي أنه يهمك؛ لأنك إنسان مسلم، ومهما كان عندك من التقصير والإهمال فإن هذا الأمر يهمك.
سؤال آخر: ألم يهدك أحد يوماً من الأيام كتاباً؟ ألم يهدك شريطاً؟ ألم يدعك بأن تحضر محاضرة؟ وقد تكون حضرت هذه المحاضرة من خلال دعوة فلان من الناس، أو سمعتها في الشريط الذي أهداه إليك فلان من الناس، ففكر واسأل نفسك هذا
السؤال
ماذا يريد مني؟ ولماذا أهدى لي هذا الكتاب؟ وهذا الشريط لماذا دعاني لحضور هذه المحاضرة؟ ولماذا وجه لي هذه النصيحة؟ وستعرف أنت الإجابة.
ثم أقول لك: هل فكرت أنك أنت تصنع مثل ذلك؟ فأنت عندما نطالبك مثلاً: أن تساهم في الدعوة إلى الله عز وجل تقول لي: أنا ما استطيع، وهذا الأمر يحتاج إلى إنسان صاحب علم، وإنسان مستقيم، وإنسان خير، فأقول لك: أنت مثلاً: ما تستطيع أنك بعد ما تسمع هذا الشريط أن تهديه إلى زميلك، فتكون قدمت خطوة طيبة ولا تحتقرها أطلاقاً؟ لماذا لا تفكر يوماً من الأيام أنك تحضر محاضرة؟ لماذا لا تدعو زميلك معك.
وهناك أسلوب آخر: وهو أن زميلك هذا الطيب المستقيم الذي معك في الفصل إذا أنت قلت له كلمة طيبة وقلت له: والله يا أخي! أنا أغبطك على طريق الخير والاستقامة والصلاح، فاستمر على ما أنت عليه.
فهذا الكلام الذي تقوله والله يثبت الكثير.
يذكر لي أحد الإخوة الطيبين يقول: كان لنا زميل أعرفه أنا كان من الصالحين والأخيار ثم انحرف -عافنا الله وإياكم- حتى وقع في المخدرات، وأصبح إنساناً آخر، يقول: قابلته مرة من المرات وأنا أشك فيه هل هو صاحٍ، أو غير صاحٍ، فسلمت عليه فقال لي: خليك مع فلان لا تفارقه أبداً، يقصد زميله السابق الخير، فأنتم على طريق الخير والصلاح والاستقامة.
فأنا أريد أن يكون عندك هذا الشعور.
وأنا سأضرب لك مثلاً وهي قصة أظن أنك قد سمعت عنها: الإمام أحمد رحمه الله له قصة مشهورة، يقول ابنه عبد الله: كنت أسمع أبي كثيراً ما يقول: اللهم اغفر لـ أبي الهيثم! اللهم ارحم أبا الهيثم! اللهم تجاوز عن أبي الهيثم! فقلت له: من يكون؟ قال: ألا تعرفه؟ قلت: لا، قال: لما دعيت للجلد جذبني بردائي فقال: أتعرفني؟ قلت: لا، قال: أنا أبو الهيثم العيار اللص الطرار، مكتوب في ديوان أمير المؤمنين أني جلدت ثمانية عشر ألف جلدة في طريق الشيطان وسبيل الدنيا، وأنت تجلد في طاعة الرحمن وسبيل الآخرة فأولى مني أن تثبت.
فانظر إلى أبي الهيثم هذا قاطع الطريق، الذي ما تاب ولا عنده نية أنه يتوب، وهو في السجن ويقول: أنا جلدت ثمانية عشر ألف جلدة في سبيل الدنيا وطاعة الشيطان، فيأتي للإمام أحمد وهو يشعر أن الإمام أحمد يعيش في محنة، وأن هذه المحنة تعيشها الأمة، فمن الواجب عليه أن يؤيد الإمام أحمد، فهو لا يملك شيئاً من الآثار كي يذكر بها الإمام أحمد، ولا يحفظ الأحاديث، وما يملك إلا تاريخه السابق في الإجرام، فاستطاع أن يوظف هذا التاريخ السابق في الإجرام ليقول للإمام أحمد: إنني ضحيت وبذلت وأنا صاحب معصية، فأنت أولى مني أن تضحي وأنت صاحب طاعة.
يقول الإمام أحمد رحمه الله: فزادني هذا الكلام تثبيتاً، وكان الإمام أحمد يستغفر له كثيراً حتى إن ابنه عبد الله يسأل ويستغرب: من يكون هذا الرجل؟ ولعله قد غفر الله له بدعوة هذا الرجل الصالح.
فأنت مثلاً: قد يكون لك أستاذ ناصح تسمع منه دائماً النصيحة والتوجيه سواء عامة أو خاصة، فعندما تأخذ بيد أستاذك وتقول له: والله أنا معجب بطريقتك، وأشعر أني أستفيد منك، وأشعر أن الشباب يستفيدون منك.
فهذه الكلمة التي تقولها كلمة ما تعجز عنها، وكلمة موجودة في مشاعرك ولن تخسر هذه الكلمة، لكن هذه الكلمة ستدفع هذا الأستاذ دفعة قوية؛ لأنه يشعر أن كلامه وقع في قلوب الآخرين.
وعندما ترى مثلاً: داعية أو خطيب جمعة أو رجلاً أياً كان أثر فيك، فتبدي له الإعجاب، وتبدي له تفاعلك مع ما حدث، فهذه قضية قد تحتقرها ولكنها خطوة مهمة تدفع هذا الرجل وتزيده حماسة وشعوراً بنتيجة عمله، فأثر عليه ولا تحتقر شيئاً أبداً يا أخي! فوالله إن كلمة واحدة قد تقولها تدفع هذا الرجل دفعات كثيرة، وإذا كنت عاجز فاكتب له ورقة وأرسل من يبلغ له هذه الرسالة، وقل لفلان من الناس: قل لفلان هذا الكلام.
فهذه جهود يسيرة يمكن أن تقوم بها فلا تحتقرها، فهي على الأقل تعطيك شعوراً بأنك عملت شيئاً، وأنك ساهمت بدفع الصحوة ولو بشيء يسير.
أنا أقول: يمكنك أن توظف خبرتك في الفساد في دعوة الناس إلى الخير، فعندما تقول لفلان: أنا أضحي وأسهر وأتحمل وأتعرض للمخاطر: مخاطر الفضي(22/9)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الصفحة الثامنة والعشرون: حين تكون مع أصحابك.
قد تجلس مع أصحابك فما المانع مثلاً -وهذا الكلام امتداد للصفحة السابقة- أنك تأتي بشريط وتعطيه زملاءك وتقول: اسمعوه، وما المانع أنك تقترح عليهم اقتراحاً، وما المانع أنك عندما تكون مع أصحابك تقول: والله نريد أن نصلي، وعندما يفعلون منكراً تحاول أن تنكر عليهم حتى ولو كانوا أصحاب سوء، ولو كنت سيئاً مثلهم، فقد يسخرون منك، لكن أنت تقول: أنا منطقي مع نفسي، فلو كنت مع أصحابك وزملائك ولو كانوا أصحاب سوء ولو كنت أسوأ منهم؛ ما المانع أن تكون في تناصح معهم، وتكون في تذكير، وتبذل خطوات في أنك تنكر عليهم، وأن تعوقهم عن مشروع يريدون أن يقعوا فيه، فكثيراً ما يكون أحد هؤلاء سبباً في منع أصحابه أن يقعوا في منكر أو أن يقعوا في سيئة، ولعل مثل هذه الخطوات تكون وسيلة لأن يعينك الله عز وجل ويتوب عليك.(22/10)
خطر السخرية من الأمور الشرعية
الصفحة التاسعة والعشرون: إياك والسخرية.
إن السخرية تكثر في مجالس الكثير من الشباب في الأمور الشرعية، سواء في العبادات، أو الآيات، أو السخرية من الناس الصالحين الأخيار؛ لأجل الطرفة وإذهاب الملل والسآمة، وأحياناً لأجل الافتخار بذلك، وهذا أمر كما تعلم من نواقض الدين ومن نواقض الإسلام، وقد ينقل صاحبه إلى الردة والكفر عافانا الله وإياك، وأظن أنك قد قرأت ودرست في كتاب التوحيد: باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول، وساق فيه شيخ الإسلام قول الله عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة:65 - 66]، فالسخرية أمرها خطير.
فاحرص قدر الإمكان أن تتخلى عنها، وحين تسمع من يدخل في ذلك من زملائك وأقرانك فينبغي أن تنتصر للدين ولو كنت منحرفاً، ولو كنت أسوء منه، فينبغي أن تنتصر للدين، إنك لو سمعت من يسب أباك أو أمك لغضبت وانتفخت أوداجك واحمرت عيناك، وقمت ولم تقعد؛ انتصاراً لأبيك وأمك، ولو قلت لك: إن والديك أعز وأغلى عليك من دينك، أو إن نفسك أعز عليك وأغلى من دينك؛ لاعتبرت هذا اتهاماً، ولاعتبرت هذا إهانة وسوء ظن، ولكن ما بالك تنتصر عندما تهان وعندما يوجه لك اللوم والسخرية والانتقاد، ولا ترضى أبداً أن تمس بسوء، وأما دين الله عز وجل فلا تنتصر له.
مرة أخرى أقول لك: مهما كنت تقع في المعاصي، ومهما بلغ بك الفسق والفجور فإن هذا ليس مسوغاً لك وليس عذراً لك ألا تنتصر لدين الله سبحانه وتعالى.
فإذا سمعت من يسخر أو يسب الناس الصالحين والأخيار، أو يسخر بدين الله عز وجل فانهه ولو بكلمة واحدة.(22/11)
امنح ولاءك لدين الله
الصفحة الثلاثون: لمن تمنح ولاءك: يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56].
إن هذه الآية خطاب للمسلمين جميعاً: للصالح وغيره، للتقي والفاجر، للمؤمن المحافظ والفاسق المفرط، إن شأنها شأن سائر النصوص الشرعية خطاب للجميع، فهي دعوة للجميع أن يكون وليهم المؤمنين، وأن ينخرطوا في حزب الله سبحانه وتعالى ويتولوا المؤمنين، إننا ندعوك من خلال تجارب قد تكون قد مرت عليك، فقد تكون مثلاً: تشجع نادياً رياضياً وتمنح له ولاء، هذا الولاء يفرض عليك أنماطاً كثيرة من السلوك والتعامل، فأنت مثلاً: تحب هذا اللون؛ لأنه يذكرك بهذا النادي، وتكره ذاك اللون؛ لأنه يذكرك بالنادي الآخر، وأنت قد تحب فلاناً؛ لأنه يلعب في هذا النادي، وتكره فلاناً، وتستولي عليك مشاعر عالية من الفرح لتحقيق الانتصارات، ومشاعر أخرى من الحزن والقلق للخسائر والتراجعات، اسأل نفسك هذا
السؤال
ألا تمنح هذا الولاء وتسخر هذا الولاء لمن يستحقه؟ ألا ترى أن هذا من قصر الاهتمامات ودنو الهمة؟ من حقك أن تمارس الرياضة بضوابط مشروعة، ومن حقك أن تفعل ما تراه جائزاً شرعاً، ولكن أن يكون ولاؤك مربوطاً بهذه الأمور فهذه قضية أخرى.
فاحرص يا أخي! أن يكون ولاؤك للإسلام، وأن تتفاعل مع قضايا الإسلام ومع مشكلات المسلمين المستضعفين، وأن تتفاعل مع الدعوة ومع قضايا الدعاة، ولو على الأقل أن تسمع الأخبار وتتطلع الأخبار، وقد تقول لي: لا أجد مصادر لذلك، فأقول لك: إن هذا كلام غير صحيح، فأنت مثلاً: قد تشجع النادي الفلاني فتعرف ذاك اللاعب وتاريخه وأين ولد وأين نشأ، وتعرف كل ما يتعلق بذلك؛ لأن القضية باختصار تهمك وتعنيك، ولو طرحت على بعض الشباب سؤالاً فقلت له: ما أكثر ما تحفظه: أسماء اللاعبين، أو أهل الفن، أو غيرهم ممن تمنح لهم ولاءك، أو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ لأجابك بالجواب الأول.
إذاً فكيف استطعت أن تحصل على هذه المعلومات؟ وكيف استطعت أن تعتني بها؟ إنك ترى مثلاً: بعض الشباب كثيراً ما يكتب على دفاتره وكتبه الدراسية ومفكرته بعض الأسماء التي يتعلق بها، وقد تكون أسماء بعض المطربين الساقطين، أو أسماء أخرى لغرض أو لآخر، إنها تعبر عن رمز للولاء، فنحن نريد أن يتحول ولاؤك إلى ولاء آخر، أن يتحول ولاؤك للدين والإسلام حتى ولو كنت صاحب معصية وصاحب فسق وصاحب فجور، إن هذا ليس مسقطاً لهذا الواجب الشرعي عنك.(22/12)
الاستفادة من مواهب وقدرات الشباب ولو كانوا عصاة
الصفحة الحادية والثلاثون: مواهبك وقدراتك.
إنك تملك مواهب أياً كانت هذه المواهب، فقد تكون رجلاً جريئاً مثلاً، فبدلاً من أن تكون جرأتك مثلاً: مع رجال الشرطة، أو رجال الهيئة، أو تكون جرأتك مع أساتذتك، أو مع فلان أو مع والدك فتقول ما تريد، وتقف عند كلمتك، فأنت تملك قدرة وجرأة فهذه الجرأة يا أخي! نريد أن توظف جزءاً منها للخير، فعندما تأتي الآن وتقف في وجه والدك وتناقشه وتجادله، وقد ترفع الصوت عليه؛ فأنت تملك قدراً من الجرأة: إنها جرأة غير شرعية، ولكنك أنت على الأقل رجل جريء، وقد تعارض أستاذك مثلاً وتقف في وجهه وتعاند وترفض الاستجابة، فأنت حينها رجل جريء وإن كانت جرأة غير مقبولة، ولكن ما دمت رجلاً جريئاً فنريد يا أخي! قدراً من هذه الجرأة لتوظفها لأمور الخير، فعندما تجلس مثلاً مع زملائك فيسخر أحدهم من الدين فنريد أن توظف هذه الجرأة للدفاع عن دين الله عز وجل، ونريد منك أن توظف هذه الجرأة كي تكون دافعاً لك على أن تتخذ قرارات مهمة تحتاج إليها، فتقول كلمة الحق التي قد يعجز عنها غيرك.
وهكذا قد تكون ذكياً ونابغة، وقد تكون حافظاً، وقد تملك موهبة أياً كانت هذه الموهبة، فنحن نريد منك أن تسخر هذه الموهبة التي أعطاك الله تعالى أو جزءاً منها.
وقلما تجد امرأً من الناس إلا وأعطاه الله موهبة: إما في الحفظ، أو في الفهم، أو في الجدل، أو في الجرأة، أو في أي أمر من الأمور، فنريد منك حتى -ولو كنت على حال غفلة وإعراض- أن توظف هذه الموهبة وهذا الجهد لخدمة دين الله عز وجل وللخير.
فعندما تكون صاحب جدل ومنطق وتفحم الآخرين؛ نريد منك أن توظف جدلك في الدفاع عن الحق، وفي أمور الخير، وهكذا عندما تكون جريئاً، وعندما تكون قوي الشخصية، وعندما تكون حافظاً، وعندما تكون ذكياً، وعندما تكون متفوقاً، فالمهم فكر في نفسك وستجد أنك على الأقل متفوق في جانب وتملك موهبة من المواهب، فنريد أن تسخر هذه الموهبة لخدمة دين الله عز وجل.(22/13)
المسلمون على اختلاف مراتبهم هم ضحية لمخططات الأعداء
الصفحة الثانية والثلاثون: من الضحية؟ إنك ترى تخطيط الأعداء في إفساد مجتمعات المسلمين، وترى الضحايا أمامك، ترى هؤلاء يسعون إلى القضاء على المسلمين؛ من الضحية؟ إن الضحية هم أبناؤك وإخوانك، ألا تتصور أنك أنت ضحية؟ وأحياناً يكون ذلك بنفس الأساليب التي قد تسعى إليها أنت، فتكون أنت وسيلة لتنفيذ مخططات أعدائك، ثم أنت الآخر مستهدف، إن وقوعك في المعصية، وسعيك إليها، وإعراضك وغفلتك لا يمنحك العذر عند أعداء الله عز وجل، فإنهم يحقدون عليك ما دمت مسلماً، ألم تسمع أنت عن أخبار المسلمين؟ فإنهم يقتلون، فتجد أحدهم مقتولاً ولو كان لا يؤدي الصلاة، ولو كان لا يعرف من الإسلام إلا اسمه، إنك أنت مستهدف، ويجب أن تعلم أنك مستهدف: في دينك، وعقيدتك، وأخلاقك، وأمنك، وحياتك ما دمت مسلماً وما دمت تنتمي إلى الإسلام، حتى ولو أعلنت أنك علماني، حتى ولو أعلنت خروجك عن الإسلام فما دام أن أصلك إسلامي فأنت مستهدف، وأنت ترى العالم الآن كله يجتمع على حرب الإسلام والمسلمين، وما أريد أن أسرد لك أمثلة وشواهد فأنت ترى وتحفظ الكثير من ذلك.(22/14)
اجعل الالتزام بأوامر الله تعالى همك وهاجسك
الصفحة الثالثة والثلاثون: اجعله هماً.
فأنت مقتنع أنك تريد الالتزام وتريد الاستقامة، فلا ترجع في اتخاذ هذا القرار، وقد تحاول ذلك وتفشل، لكن هذا لا يعني: أن تلغي هذا القرار، فاجعل هذا على الأقل هماً يسيطر عليك وعلى تفكيرك، فقد يتحول هذا الهم إلى عمل يوماً من الأيام، وسأضرب لك مثلاً من سيرة واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: إنه جبير بن مطعم رضي الله عنه، فقد قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بدر، قال: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فكاد قلبي يطير، قال: فوقر الإيمان في قلبي منذ ذاك الحين، ثم أسلم بعد الحديبية، وغزوة بدر كانت في السنة الثانية، والحديبية كانت في السنة السادسة، يعني: أسلم بعد أربع سنوات أو خمس سنوات, فلاحظ أن ذلك الذي سمعه بقي هماً في ذهنه خمس سنوات، وأخيراً نجح فعلاً واتخذ هذا القرار الذي كان يؤرقه لسنوات.
فإذا فشلت أنت وما استطعت أنك تتوب فاجعل هذا هماً وهاجساً، وانتظر اللحظة والفرصة المناسبة، فقد يوفقك الله عز وجل بعد ذلك.(22/15)
الاتعاظ بالماضي وتدارك ما فات
الصفحة الرابعة والثلاثون وهي الأخيرة: {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} [سبأ:46].
يقول الله عز وجل لنبيه: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ:46]، ففكر في ماضيك: قد قطعت شوطاً من العمر، وطويت صفحات كثيرة من سنين عمرك محصلاً للشهوات واللذات، فماذا بعد ذلك؟ وماذا حصلت؟ وماذا جنيت؟ قد تكون جنيت تأخر مستواك الدراسي، وقد تكون جنيت الهم والغم، وقد تكون جنيت التعاسة في الدنيا ونظرة الناس السيئة، وبعد ذلك حتى لو سلكت طريق الاستقامة والخير فأنت ترى أولئك قد سبقوك، فحصلوا علماً شرعياً لم تحصله، وعملوا عبادات كثيرة لم تعملها، فاحرص من الآن واتخذ القرار عاجلاً.(22/16)
الأسئلة(22/17)
لا يكون فعل معصية ما مبرراً للإنسان في فعل معاصٍ أخرى
السؤال
هل يفهم من ذكرك للمرحلة الوسطية بين الانحراف والاستقامة: إصلاح الظاهر فقط دون الباطن مثل إعفاء اللحية وتقصير الثوب دون الأعمال الأخرى أو البقاء على هذه الحالة؟
الجواب
لا، لا يفهم هذا، لكن أقول مثلاً: إن حلق اللحية معصية، وكونك تفعل معصية أخرى كبيرة ليس هذا عذراً في أنك تقع في هذه المعصية، فأنا أقول: أعف لحيتك استجابة لأمر الله، إسبال الثوب معصية لله، فما الذي يمنع أن تقصر ثوبك ولو كنت تقع في معصية أخرى وهكذا، فعليك أن تتخلى عن المعاصي، وعدم الاستقامة وكونك إنساناً مقصراً ليس هذا مبرراً لك أن تقع في المعصية، لكن هذا لا يعني أبداً أنه دعوة إلى إهمال الباطن.(22/18)
نصيحة لمن حاول الالتزام فوجده صعباً عليه
السؤال
أنا شاب أحاول الالتزام منذ زمن بعيد محاولات شبه جادة، ولكني أجد أن الأمر ليس سهلاً؛ فأني لو التزمت الالتزام المطلوب فهناك بعض الذنوب أرى من الصعب علي تركها بسهولة حتى بعد الالتزام، فماذا أفعل؟
الجواب
أولاً: نقترح أن تكون توبتك جادة حتى تنجح.
ثانياًً: أقول لك: إن هذا وهم وهذا من كيد الشيطان، فأنت كنت في يوم من الأيام لا تفعل هذه الذنوب ولا شك، ثم أصبحت تفعلها من خلال العادة، فكل ما اكتسبته من خلال العادة تستطيع أن تتركه من خلال العادة، فترى أن الصبي الصغير لا يستطيع المشي، فيحاول ويحبي ثم ينهض تارة ويكبو أخرى حتى يستطيع بعد ذلك فيصبح يجري، وترى من لا يحسن السباحة فيحاول ويغرق أحياناً وينجح أحياناً ويفشل أحياناً حتى بعد ذلك يستطيع أن يجيدها، فأنا أقول أولاً: هذا وهم وحيلة شيطانية.
الأمر الثاني: افترض أنه بقي ذنب أو ذنبان لم تتركها فبالله عليك أيهما خير لك: أن تبقى في الطرف الآخر على الصفر أو على الأقل تتقدم خطوة إلى الأمام؟ لا شك أن الأفضل هو الثاني، وتقدمك خطوة إلى الأمام سيعطيك دفعة وقدرة على التخلي عن الذنب.
فنقول لك: التزم واسلك مع الصالحين حتى ولو بقيت بعض الذنوب التي تفعلها، فهذا خير لك ألف مرة من أن تبقى على حالك السابقة.(22/19)
الصبر على نصيحة الإخوان
السؤال
أخي وما أدراك ما أخي! لقد تعبت في نصحه، وفي بعض الأحيان عندما أذكره تدمع عيني، وفي صلاة الفجر من المستحيل أن يستيقظ، وكثيراً ما أذهب لأصلي وأتركه، فماذا أفعل؟
الجواب
لا تيأس منه، وحاول تنويع الأساليب والطرق، وما دام أنه عنده جانب خير ما دام أنه يسمع الموعظة ويتأثر فهذه -إن شاء الله- خطوة نحو الخير، فحاول ولا تيأس أبداً، ولا تنس أن تدعو له.(22/20)
الضابط في معرفة الاعتدال من الغلو
السؤال
أنا شاب لا أدري أين أصنف نفسي: هل أضعها مع الشباب الملتزم؛ لأني أصاحبهم، وأحافظ على الصلاة، وألتزم بأعمال الخير، أم أضع نفسي مع من يسمون أنفسهم المعتدلين؛ لأن لدي أفكار لا تناسب أفكار الملتزمين، وقناعة أني لن أصبح منهم، ولن تتناسب صفاتي وصفاتهم وتصورهم للأمور، فما رأيك جزاك الله خيراً؟
الجواب
أولاً: ما هو صحيح الاعتدال؟ هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الخطأ أن تفترض معنى الاعتدال من ذات نفسك، فتظن أنك أنت معتدل وأن الآخرين متطرفون، وأن الآخرين غلاة في الدين، هذا أمر غير صحيح.
وأنا لا أستطيع أن أصنفك؛ لأني لا أعرف حالك، وأنت أعلم بحالك، والتصنيف يا أخي لا يكون بناء على قناعاتك أنت، وإنما خذ قناعاتك هذه واعرضها على النصوص الشرعية، وعلى ضوئها تستطيع أن تصنف نفسك، لكن أنا أتصور أنك إذا كنت ترى نفسك دون زملائك الذين تصاحبهم فأنت من المفرطين، فأسأل الله عز وجل أن يتجاوز عنك.(22/21)
الاهتمام بدعوة غير الملتزمين وتنوع الأساليب في ذلك
السؤال
جاءني شاب هذا اليوم وقال لي: إني أريد أن التزم، وأنا أفكر في ذلك منذ أيام، وطلب مني أن أقابله لأحدثه وأشجعه على ذلك، فكيف أبدأ معه؟
الجواب
كان المفروض أنك تبدأ معه قبل أن يأتيك، وأنك تأتيه أنت قبل أن يأتيك، لكن ما دام أنه قد جاء فأقول: إن الناس يختلفون سواء بالنسبة لك أنت أو بالنسبة له هو، فبعض الناس مثلاً: قد تؤثر عليه الموعظة والتذكير باليوم الآخر أكثر، وبعض الناس قد يؤثر عليه الترهيب، وبعض الناس الترغيب، وبعض الناس الإقناع العقلي، وبعض الناس في الحديث عن نتائج المعصية في الدنيا، ولما تنظر هدي النبي صلى الله عليه وسلم كيف كان يدعو الناس للإسلام تجده يستعمل مع هذا أسلوباً، ومع الآخر أسلوباً، ومع الثالث أسلوباً، فأنا أقول: اجتهد أنت بأنك تشخص هذا الإنسان وتعرف ما هي النقاط التي يمكن أن تؤثر عليه من خلالها، وحاول أن تقوي علاقتك معه وتنقله إلى مواقع الخير، وتذهب به إلى زملائك الطيبين والأخيار، وتعطيه بعض الأشرطة وبعض الكتب، وتواصل معه ولا تيأس منه، ولا تنس أيضاً الدعاء له.(22/22)
الاهتمام بتزويج الشباب العزاب
السؤال
أريد الزواج وأستطيع جمع المال من العمل، ولكن أهلي يستهزئون بي، ويقولون: اصبر حتى تنتهي من دراستك، فهل أسمع لكلامهم أم لا؟
الجواب
حاول أن تقنع أهلك، والشاب زواجه قد يكون ضرورة، ولعلنا قرأنا في الصحف قبل فترة عن تزويج بعض الرافضة لمائة شاب زواجاً جماعياً، وهؤلاء كانت أعمارهم سبعة عشر وثمانية عشر وستة عشر عاماً، فلماذا هؤلاء يحرصون على تكثير النسل وعلى حل مشاكلهم ونحن لا نسعى إلى ذلك؟! فأقول: إنها قضية بحاجة إلى أن نعتني بها جميعاً، فيحاول الأخ أن يقنع أهله قدر الإمكان، ونسأل الله عز وجل أن يوفقه.(22/23)
نصيحة لمن يريد الاستقامة، وإزالة بعض الشبه في ذلك
السؤال
أنا شاب أبلغ من العمر ثلاث عشرة سنة وأريد أن ألتزم، لكن لا أجد الظروف المناسبة للالتزام، وأريد أن أتابع أصحاب الخير ولكن أهلي لا يثقون بي، فماذا أفعل؟
الجواب
أولاً: لا تنتظر الظروف، بل نريدك أنت أن تصنع الظروف، فلا تنتظر حتى تأتيك ظروف مناسبة.
وأما قضية ثقة أهلك وعدم رضا أهلك فهذه قضية يجب ألا تؤثر عليك، فأنت الذي ستحاسب وحدك، وستأتي الله سبحانه وتعالى وحدك، وأنا أجزم أن أهلك عندما تستقيم وتسلك طريق الخير سيثقون بك أكثر.(22/24)
نصيحة لمن حاول الاستقامة وضعف عن ذلك
السؤال
أنا شاب قد فعلت كبائر الذنوب، وإن لم تدركني رحمة الله فإنني هالك لا محالة، وقد حاولت الالتزام كثيراً ولكن فتن العصر وأشياء نفسية تؤثر فيّ، فعلى سبيل المثال: لا أريد أن أحلق اللحية، ولا أن أقوم بمعاكسة الفتيات، ولكن دون شعور مني أفعل ذلك، مع أني -والحمد لله- لا أسير مع رفقاء السوء، ولا أدخن، ولا أحب المعصية ولكن للأسف أفعلها، فأرجو منك أن تخبرني بالحل الصحيح، وأن تدعو لي بالصلاح.
الجواب
جاهد نفسك، وهذا الشعور شعور طيب، وعندما يوجد عند إنسان هذا الشعور فهذه خطوة نحو التوبة، وأفضل حل للإنسان أنه يسير مع الصالحين، وكونك تترك الناس السيئين هذه خطوة، لكن انتقل إلى الخطوة الأخرى: أن تسير مع الصالحين؛ لأنك تشعر أنك تنتقل تلقائياً إلى مثل هذا الوضع، بل ستشعر عندما تسير مع الصالحين أن وضعك وضع شاذ فتحاول أن تصحح هذا الوضع، ثم استعن بدعاء الله عز وجل، واحرص على العبادة.
وأنا أظن أن هذه حيلة نفسية عندما تقول: لا استطيع، لماذا لا تستطيع؟ وعندما تقول: أفعل ذلك بدون شعور، اسمح لي أن أقول لك: أنت عاقل ومكلف وبالغ، وعندك إرادة فلماذا لا تستطيع؟ فأنت مثلاً: تستطيع أن تعمل كثيراً من الأعمال في حياتك: فتستطيع أن تتزوج، وتستطيع أن تأكل، وتستطيع أن تذهب وتأتي، وما يمكن أن تناقش في هذه القضية، ولما تكون طالباً مثلاً تستطيع أن تذاكر وتنجح، ولما تكون موظفاً تستطيع أن تنتج في عملك؛ حتى تحصل على تقدير مناسب، وهكذا عندما تكون في أي ميدان تستطيع أن تنجح فيه إلا في هذا الميدان لماذا؟ هذه وسيلة تخادع بها نفسك، فأقول: إنك تستطيع، والله ما كلفك إلا بما تستطيع.(22/25)
نصيحة في الالتزام ورد بعض الشبه في ذلك
السؤال
إنني أجتهد وأرغب في الالتزام ولكن مما يفسد علي ذلك علاقتي بأصدقائي الذين أظن أني لا استطيع تركهم، وكذلك بعض العلاقات الخاصة كالعلاقات الهاتفية وغيرها، وكذلك تصوراتي بنظرة المجتمع نحوي، فكيف الخلاص؟
الجواب
لماذا أنت تفترض أنك لا تستطيع أن تتخلص من أصدقائك؟ أنت تستطيع أن تتخلص منهم، وما هو المانع من ذلك؟ تستطيع أن تقول لأصدقائك: والله يا شباب أنا اكتشفت أن لي طريقاً آخر غير طريقكم مع احترامي لكم وتقديري للعلاقة السابقة، فأود أن تنقطع العلاقة التي بيننا، ما الإشكال في هذا، أو تتركهم دون أن تقول هذا الكلام، وقد تجد صعوبة في البداية لكن هو قرار لا بد منه؛ لأنك لا بد أن تتحمل ضريبة القرار السابق الذي اتخذته لما سرت معهم، ثم أنت لا بد أن تتبرأ منهم حتماً إما في الدنيا أو في الآخرة {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} [الفرقان:27 - 29]، {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة:166].
فأنت لا بد أن تتبرأ منهم إما في الدنيا وإما في الآخرة، فاختر أحد الأمرين فإذا كانت هذه صعبة عليك فأظن أنها أصعب عليك جداً أنك تنتظر إلى يوم القيامة وتحشر معهم ثم تتبرأ منهم، فهناك لا ينفع اللوم ولا الندم.
وكذلك العلاقات الهاتفية هي الأخرى تستطيع أن تتخلص منها، وذلك أن تحرص قدر إمكانك أنك ما تكون في البيت مثلاً، أو أنك لا تجيب عليها، وتجاهد نفسك، وحتى يا أخي! لو بقيت عندك بعض الشوائب، وسعيت في إصلاحها فهذا خير وأفضل بكثير من أن ترفض الالتزام جملة وتفصيلاً؛ لوجود هذه الشوائب التي تتعلق بها.
وأما نظرة المجتمع نحوك فأنا أجزم أن المجتمع ستتغير نظرته نحوك، فأنت الآن المجتمع ينظر نحوك بنظرة شاذة، وقلت: إنك إذا تبت لن يعدل المجتمع نظرته نحوك، فنقول: إذا لم تتعب فالنتيجة أن المجتمع لا يزال ينظر إليك النظرة السابقة ولا تتغير تلك النظرة، فأنت الآن أمام ثلاثة خيارات: الخيار الأول: أنك تبقى على الفساد، وستبقى نظرة المجتمع لك كما هي.
الخيار الثاني: أنك تتوب وتبقى نظرة المجتمع لك.
الخيار الثالث: أنك تتوب وتتحسن نظرة المجتمع إليك، ولو افترضنا أن الفرض الثالث غير موجود مع أنه هو الأصل فما بقي قدامك إلا خياران: أن تستمر على الفساد ويبقى الناس ينظرون إليك نظرة سيئة، أو تستقيم وينظر الناس إليك نظرة سيئة، فبالله عليك أيهما أفضل؟ أتصور أن الرأي الثاني أفضل، وهو الذي ينفعك، وأما إذا بقيت على الفساد فلا ينفعك ذلك؟ وتبقى النظرة هي، فعلى الأقل أنت يا أخي! لما تتوب بعض الناس تتعدل نظرته إليك، وافترض أن كل الآخرين ما نظروا إليك نظرة خير فأهم شيء لك هو نجاتك يوم القيامة، مع أني أجزم أن المجتمع سيغير نظرته، وأن الناس كلهم سيغبطونك على ما أنت فيه.
لعل هذا يكون آخر سؤال، أسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح، وأن نلتقي وإياكم إن شاء الله على خير، وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.
سبحانك اللهم وبحمدك, نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.(22/26)
من يحمل الأمانة
لقد جعل الله تعالى لقيام دينه سنة لا تتخلف ولا تتبدل، وهي حمل أتباعه كلهم له وشعورهم جميعاً بالمسئولية تجاهه، فدين الله لا يناط قيامه بفئة من الناس دون غيرها، ولا بشخص دون سواه، ولقد ضرب الله تعالى لنا في القرآن صوراً مشرقة في الشعور بواجب القيام بالبلاغ، وأخرى سيئة في التنصل من تبعة الاتباع، فإبلاغ الدين أمانة، ولهذه الأمانة صور عديدة يجب القيام بها في ميدان الدعوة الرحب الفسيح.(23/1)
تكريم الله للإنسان بالعبودية له تعالى والدعوة إليه
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد: فإن عنوان درسنا لهذه الليلة ليلة الخميس الموافق للعشرين من شهر رجب عام 1415 للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم هو (من يحمل الأمانة؟).
وأشكر في بداية هذا اللقاء الإخوة في مركز الدعوة والإرشاد بالدمام على حسن ظنهم بي، وتشريفي بهذا اللقاء والحديث لإخوتي الكرام.
معشر الإخوة الكرام! لقد كرم الله سبحانه وتعالى الإنسان، كرم الله عز وجل بني آدم، فخلق الله سبحانه وتعالى آدم بيده عز وجل، وأسجد له ملائكته، وعلمه الأسماء كلها، وخص سبحانه وتعالى بني آدم دون سائر المخلوقات بتكريم ومنزلة ومزايا خاصة لهم دون غيرهم.
لكن أعظم تكريم هو أن الله سبحانه وتعالى حملهم هذا الدين، وجعلهم سبحانه وتعالى عباداً له، فشرفهم عز وجل بالانتساب إليه سبحانه وتعالى، والتعبد له عز وجل، فصار شرف الإنسان وعزه هو حينما يذل بين يدي مولاه، فشرفه في عبوديته لله سبحانه وتعالى، وكماله هو في فقره إلى الله عز وجل، واستغنائه عمن سواه، بل هذا هو الذي خلق بنو آدم من أجله، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فأعظم تشريف وتكريم لهذا المخلوق أن جعله سبحانه وتعالى عبداً له، وجعله سبحانه وتعالى خاضعاً له.
ومن تمام هذه العبودية وكمالها تشريف آخر، وتعظيم لمنزلة هذا الإنسان دون سائر خلق الله سبحانه وتعالى، وذلك أن الله عز وجل جعله حاملاً لمشعل الهداية ولدعوة الخير إلى الناس جميعاً، فهو الذي يحمل كلام الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يبلغ كلام الله عز وجل ودينه سبحانه وتعالى للناس كافة.
إن الإنسان العابد لله عز وجل، والمتجه له وحده سبحانه وتعالى ذكراً كان أو أثنى، صغيراً كان أو كبيراً، قد شرفه الله سبحانه وتعالى بحمل هذا الدين إلى الناس كافة، وتبليغه لهم، وحين يعرض هذا الإنسان، ويتنكب الطريق يكون بديله إنساناً آخر، فالقضية إنما تدور حول الإنسان ومعشر البشر.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]، وقال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].
إذاً: فهذا الدين إنما يقوم به، وينصره، ويذب عن حياضه أولئك الذين تشرفوا بعبودية الله سبحانه وتعالى، والخضوع له عز وجل، فصار سبحانه وتعالى هو أعظم محبوب إليهم، وهو سبحانه وتعالى المعبود الحق، والمعبود الواحد لهؤلاء جميعاً، وصار البشر -مهما علت منزلتهم وشأنهم- لا يساوون شيئاً عند هذا العابد لله سبحانه وتعالى، وأنى له أن يرجوهم ويتطلع إلى ما عندهم، وترمق عينه ذات اليمين وذات الشمال، وقد اختار العبودية لله سبحانه وتعالى؟! بالله عليكم -أيها الإخوة، وأيتها الأخوات- أي تشريف ورفع لمنزلة الإنسان أسمى من أن يكون داعياً للناس إلى عبودية الله عز وجل، وتوحيد الله عز وجل، وأن يخلعوا عنهم كل توجه لغير الله سبحانه وتعالى، وأن يدعو الناس بلسان حاله، وأن يدعو الناس بلسان مقاله، وأن يوظف وقته وجهده لتحقيق هذه الغاية، وأداء هذه الرسالة، وحين لا يستجيب الناس يشهر سلاحه مجا