ومالي حيلة إلا رجائي *** وعفوك إن عفوت وحسن ظني
والله لو علموا قبيح سريرتي *** لأبى السلام عليَّ من يلقاني
ولأعرضوا عني وملُّوا صحبتي *** ولَبُئْتُ بعد كرامة بهوان
لكن سترت معايبي ومثالبي *** وحلمت عن سقطي وعن طغياني
فلك المحامد والمدائح كلها *** بخواطري وجوانحي ولساني
اللهم اجعلني خيرًا مما يظن الظانُّون، واغفر لي مالا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون ، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا، وأنت تجعل الحزن سهلا إذا شئت.
أحبتي في الله أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله -عز وجل- في السر والعلانية فهي وصية الله -جل وعلا- للأولين والآخرين. (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ)
راقبوا الله جل وعلا راقبوا الله جل وعلا فما راقبه عبد وذل وأخطأ إلا آب وعاد وحاله
رحماك يا رب رحماك *** رب يا رب ويا رب الورى
ما ترى في عبد سوء ما ترى
خلق الله السماوات سبعا وخلق الأراضين سبعا وفي مجموع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحاح أن ما بين الأرض وما بين السماء الدنيا مسيرة خمسمائة عام وما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام وسمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام ومن فوق السماء السابعة مسيرة خمسمائة عام ومن فوق ذلك عرش الرحمن ومن فوقه ربنا سبحانه وبحمده بائن عن خلقه مستو على عرشه (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا) متى علمت هذا ومتى استشعرت هذا فأنت من المتقين
إذا ما خلوت الدهر يوما *** فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة *** ولا أن ما تخفيه عنه يغيب(25/2)
ها هو [عمر بن الخطاب] رضي الله عنه وأرضاه في بستان من بساتين الأنصار وأنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه يراقبه ويرقبه وهو لا يراه وإذا بعمر يقف وقفة محاسبة ووقفة مراقبة مع نفسه ويقول عمر أمير المؤمنين بخ بخ والله لتتقين الله يا عمر أو ليعذبنك الله والله لتتقين الله أو ليعذبنك الله عمر الذي يأتيه أعرابي قد قرض الجوع بطنه وبه من الفقر ما به و يقف على رأسه ويقول
يا عمر الخير جزيت الجنة
اكس بناتي وأمهن
وكن لنا في ذا الزمان جنة
أقسم بالله لتفعلن
قال وإن لم أفعل يكون ماذا قال:
إذا أبا حفص لأمضين
قال وإذا مضيت يكون ماذا قال:
والله عنهن لتسألن
يوم تكون الأعطيات منة
وموقف المسئول بينهن
إما إلى نار وإما إلى جنة
فلم يملك عمر رضي الله عنه وأرضاه إلا أن زرفت دموعه على لحيته رضي الله عنه وأرضاه ودخل ولم يجد شيئا في بيته فما كان إلا أن خلع ردائه وقال خذ هذا ليوم تكون الأعطيات منة وموقف المسئول بينهن إما إلى نار وإما جنة هكذا تكون مراقبة الله – عز وجل – وهكذا تكون تقوى الله – عز وجل –(25/3)
وعمر الثاني [عمر بن عبد العزيز] وهو يلي أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام ويكسب أو يفيء الله على المسلمين فيئا وهذا الفيء تفاح فأراد أن يقسمه على الرعية بينما هو يقسم هذا التفاح إذ امتدت يد صبي من صبيانه طفل صغير أخذ تفاحة ووضعها في فمه فما كان من عمر إلا أن أمسك بفيه وأوجع فكيه واستخرج التفاحة من فمه وردها بين التفاح والطفل يبكي ابن عمر يبكي ويخرج ويذهب إلى أمه ويذكر لها الحادثة فترسل غلام من البيت ليشتري لهم تفاحا ويقسم الفيء على المسلمين وينسى نفسه فلم يأخذ تفاحة واحدة ويذهب إلى البيت فيشم رائحة التفاح في بيته فيقول من أين لكم هذا و والله ما جئتكم بواحدة بتفاحة واحدة فأخبرته الخبر قالت جاء ابنك يبكي فأرسلت الغلام وجاء له بهذا التفاح قال يا فاطمة والله لقد انتزعت التفاحة من فمه وكأنما أنتزعها من قلبي، لكني والله كرهت أن أضيع نفسي بتفاحة من فيْء المسلمين يأكلها قبل أن يقسم الفيء هكذا تكون مراقبة الله – جل وعلا – هكذا تكون تقوى الله – جل وعلا – وبها النجاة (وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون) ما راقب عبد ربه إلا أفلح وفاز وما الحياة الدنيا إلا متاع ما راقب عبد ربه فذلت به قدمه فأخطأ فارتكب فاحشة إلا عاد نادما حسيرا كسيرا فيتقبله ربه وهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين بمنه وكرمه الله عز وجل رحيم بل هو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما رحمته وسعت كل شيء وسبقت غضبه – سبحانه وبحمده – له مائة رحمة أنزل لنا في هذه الدنيا رحمة واحدة فبها يتراحم الخلق كلهم ناطقهم والأعجم صغيرهم والكبير حتى إن الدابة لترفع رجلها لوليدها ليرضع منها ثم يذهب بهذه الرحمة فإذا كان يوم القيامة لرفع الله هذه الرحمة إلى تسع وتسعين رحمة عنده سبحانه وبحمده فيتطاول إبليس ويظن أن رحمة الله ستسعه في ذلك اليوم.(25/4)
فيا من رحمته وسعت كل شيء ارحمنا برحمتك اسمع له صلى الله عليه وسلم كما يروى في [البخاري]" يوم يأتيه سبي وإذا بامرأة من بين هذا السبي تبحث عن صبي لها فقدته لا تلوي على شيء كلما وجدت طفلا قلبته ونظرت فيه فإذا به ليس طفلها ثم تجده تجد ابنها بعد مشقة وعناء فتلصقه ببطنها وترضعه ورسول الله وصحابته صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم يرقبون الموقف وإذا بها تذرف الدموع على ابنها وهو على ثديها دموع الفرح فيقول صلى الله عليه وسلم أترون هذه طارحة ولدها في النار قال الصحابة لا والله يا رسول الله فقال الله أرحم بعباده من هذه بولدها."
يا كثير العفو عن من كثر الذنب لديه جاءك المذنب يرجو الصفح عن جرم لديه
أنا ضيف وجزاء الضيف إحسان إليه (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم) أحبتي في الله كثيرا ما يضل الإنسان في الطريق وينحرف عن الجادة بوازع الجهل والهوى أحيانا واستجابة لإغراء عابث أحيانا أو لشهوة جامحة قوية الأمر الذي يهبط بمستواه الإنسان ويحول بينه وبين الطهر والتسامي فتسقط قيمته وينحط إلى الدرك الأسفل من الرذيلة والعار تتجه قواه كلها إلى إشباع غرائزه وإتيان لذ ائذه فيسقط إلى منزلة البهيمة حتى إنك لتجده بأذن لا تسمع وبعين لا تبصر وبقلب لا يفقه تجده بهيمة في مسلاخ بشر والإنسان قد تمر به ساعة تنام فيها قواه ويغفو فيها ضميره وتستيقظ غرائزه فيسقط صريع الهوى والشهوة والشبهة فيا له من سقوط ويا لحقارتها من لذة مؤقتة تورث النار
تفنو اللذاذة ممن نال صفوتها *** من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء من مغبتها *** لا خير في لذة من بعدها النار(25/5)
وكلنا ذوو خطأ والمعصوم من عصمه الله جل وعلا على كل واحد منا أن يذكر فلا ينسى أنه لم يخلق ملكا ولم يخلق بشرا معصوما وإنما هو إنسان تتنازعه قوى الخير والشر فتارة يغلب خيره شره فهو خير من الملائكة وتارة يغلب شره خيره فهو شر من البهائم كما قال [ابن القيم] عليه رحمة الله وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون كلنا ذوو خطأ في صحيح [مسلم] عن [أبي هريرة] رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم" فلابد من الخطأ ولابد من التقصير وكلنا ذوو خطأ
من ذا الذي ما ساء قط *** ومن له الحسنى فقط
تريد مبرئا لا عيب فيه *** وهل نار تفوح بلا دخان(25/6)
لكن إياك أن تبقى على الخطأ إياك أن تدوم على المعصية فإن المعصية شؤم وإن المعصية عذاب وإن المعصية وحشة وإن المعصية غضب من الله الواحد الديان وقد يحبس عن أمة خير بمعصية من فرد واحد لم يأمروه ولم ينهوه نسأل الله ألا يحرمنا خير ما عنده من شر ما عندنا هاهم بنو إسرائيل –كما في كتاب التوابين [لابن قدامة]- يلحق بهم قحط على عهد [موسى] –عليه السلام- فاجتمعوا إلى موسى ، وقالوا: يا نبي الله ادعُ لنا ربك أن يسقينا الغيث ، فقام معهم وخرجوا إلى الصحراء ليستسقوا وهم سبعون ألفًا أو يزيدون، فقال موسى: إلهنا اسقنا غيثك، وانشر علينا رحمتك، وارحمنا بالأطفال الرُّضَّع، والبهائم الرُتَّع، والشيوخ الرُّكَّع، فما ازدادت السماء إلا تقشعًا، ذهب السحاب الذي في السماء، وما ازدادت الشمس إلا حرارة ، فقال: يا رب استسقيناك فلم تسقِنا، فقال: يا موسى إن فيكم عبدًا يبارزني بالمعصية منذ أربعين عامًا، فمُرْهُ أن يخرج من بين أظهركم؛ فبشؤم ذنبه مُنِعْتم القطر من السماء، قال: يا رب عبد ضعيف وصوتي ضعيف، أين يبلغ وهم سبعون ألفًا أو يزيدون؟، فأوحى الله إليه –سبحانه وبحمده- منك النداء وعلينا البلاغ، فقام ينادي في سبعين ألف، قام ينادي فيهم قائلا: يا أيها العبد العاصي الذي بارز الله بالمعصية أربعين عامًا، اخرج من بين أظهرنا؛ فبشؤم ذنبك مُنِعْنَا القطر من السماء، فيوحي الله إلي موسى أنه تلفت هذا العبد يمينًا وشمالا لعله يخرج غيره، فعلم أنه المقصود بذلك، فقال في نفسه: إن خرجت افتضحت على رؤوس بني إسرائيل، وإن بقيت هلكت وهلكوا جميعًا بالقحط والجدب. فماذا كان منه ؟ ما كان منه إلا أن ادخل رأسه في ثيابه ، وقال: يا رب عصيتك أربعين وأمهلتني، واليوم قد أقبلت إليك طائعًا تائبًا نادمًا ، فاقبلني واسترني بين الخلق هؤلاء -يا أكرم الأكرمين-؛ فلم يستتم الكلام حتى علتْ السماء سحابة بيضاء، فأمطرت كأفواه القِرَب، فقال موسى لربه -سبحانه(25/7)
وتعالي- قال كليم الله لربه: يا رب سقيتنا ولم يخرج من بين أظهرنا أحد، فقال: يا موسى أسقيتكم بالذي منعتكم به، بنفس العبد الذي منعتكم به أسقيتكم به، قال: يا رب أرني هذا العبد الطائع التائب النادم، قال: يا موسى لم أكن لأفضحه وهو يعصيني أفأفضحه وهو يطيعني؟
يا من ألوذ به فيما أؤمله *** وأستعيذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظمًا أنت كاسره *** ولا يهيضون عظمًا أنت جابره
لا إله إلا الله، ما أرحم الله، ما أحكم الله، هو القائل: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوَا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) ما جزاؤهم ؟ (أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مغْفِرَةٌ من ربِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) هو القائل كما أخبر المصطفى –صلى الله عليه وسلم- في الحديث القدسي " يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ، يا ابن آدم لو أتيتني بتراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بترابها مغفرة"
سبحان من يعفو ونهفو دائمًا *** ولا يزل مهما هفا العبد عفا
يعطي الذي يخطي ولا يمنعه *** جلاله عن العطا لذي الخَطَا(25/8)
يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها ، هو القائل كما في الحديث القدسي "يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا ، فاستغفروني أغفر لكم" هو القائل في كتابه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) ما أكرم الله -جل وعلا-! ما أكرم الله -سبحانه وتعالى-! هو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، ويعلم ما تفعلون، ولن يهلك على الله إلا هالك ، فيا مخطئاً وكلنا ذوو خطأ، ويا من سقط في المعصية وكلنا ذاك الرجل، ويا من زلَّتْ قدمه وكلنا ذاك الرجل، صحح أخطاءك، وعالج أمراضك، وغسِّل نفسك مما قد ران عليها، واستأنف الحياة في ثوب التوبة النقي النظيف، واسمع لداعي الله -جل وعلا- يوم يقول: (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
توضأ بماء التوبة اليوم نادمًا *** به ترأى أبواب الجنان الثماني
كلنا ذوو خطأ، والله يمهل ولا يهمل، ويحب التوابين والمتطهرين، ولذلك فتح باب التوبة أمام المخطئين ليتوبوا ويؤوبوا ويعودوا إلى رشدهم، فيغفر لهم ما اقترفوه من إثم وخطيئة وموبقة وصغيرة وكبيرة ؛ فله الحمد أولا وآخر وظاهرًا وباطنًا.(25/9)
هاهو كما في [البخاري]: رجل من بني إسرائيل أسرف على نفسه كثيرًا، وهو موحد لم يشرك بالله –جل وعلا- قتل وزنا وسرق وغش وكذب واحتال وشهد الزور وأساء كل الإساءة، انتهك حرمات الله، تكبر وتجبر، وحلت به سكرات الموت التي لم يُعفَ منها أحد حتى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- جمع أبناءه في تلك الساعة ، ساعة لا ينفع فيها مال ، ولا ينفع فيها ولد، ولا ينفع فيها منصب، ولا ينفع فيها جاه، جمع أولاده وقال: أي أبٍ كنت لكم ؟ قالوا: خير أب، قال: فوالذي نفسي بيده ما عملت خيرًا قط، غير أني أشهد أن لا إله إلا الله، فإذا أنا مت فأضرموا فيَّ نارًا، ثم القوني في النار حتى أصير فحمًا، ثم اسحقوني، ثم زروني مع الريح، فمات فنفذوا وصيته، أضرموا له النار، ورموه فيها حتى صار فحمًا، ثم سحقوه، ثم ذروه مع الريح، تفرق على ذرى الجبال، وعلى رؤوس الأشجار، وعلى السهول والوِهَاد وعلى الأنهار، لكن الذي بدأه أول مرة يعيده، قال الله له: كن فكان، قال: يا عبدي ما حملك على ما صنعت؟ أما علمت أني أستر العيب، وأغفر الذنب، قال: يا رب خفتك وخشيت ذنوبي، قال: أشهدكم يا ملائكتي بأني قد غفرت له وأدخلته الجنة. فلا إله إلا الله، ما أرحم الله! ما ألطف الله بعباده! ما أحلم الله على عباده! (وَمَن يَعْمَلْ سُوءً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رحِيمًا) وكلنا ذوو خطأ .(25/10)
هاهي امرأة بَغِيّ، بارعة الجمال، لا تمكن من نفسها إلا بمائة دينار، وتمر على عابد ما عصى الله طرفة عين، يتعبد لله في صومعة من الصوامع فيفتتن بها، وصدق رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "فاتقوا الدنيا واتقوا النساء" افتُتن بها فراودها على نفسها، فأبت أن تمكنه إلا بمائة دينار، وهو لا يملك ريالا ولا دينارًا ولا درهمًا، فماذا كان منه؟ كان منه أن ترك صومعته وذهب يكدُّ ويتعب، وجمع المائة الدينار، ثم ذهب إلى هذه البغي في بيتها وفي قصرها، طرق عليها الباب ولما طرق عليها الباب خرجت، ويوم خرجت قال لها: ها أنا ذا، قد جمعت المائة دينار وجئت، قالت: ادخل، فدخل إليها في قصرها، فَعَلَتْ على سرير من ذهب وتزينت في كامل زينتها، ويوم تزينت في كامل زينتها قالت: هلمَّ إليّ، فسقط جالسًا، قالت: قد كنت تزعم أنك ستجمع وتأتي، فلما مكنتك من نفسي تجلس، قال: ذكرت وقوفي بين يدي الله –عز وجل- فلم تحملني أعضائي لأقف، فما كان منها هي أيضًا إلا أن ارتعدت وارتعشت وخافت ووجلت وقالت: لا تخرج من هذا البيت حتى تتزوجني، قال: لكني والله لا أتزوجك، وإنما خذي هذه الدنانير ودعيني أخرج، قالت: لا تخرج حتى توافق على الزواج مني ، فماذا كان منه ؟ قال: بلدي في المكان الفلاني ، وعلك إن جئت تائبة لعلي أن أتزوجك، -وهو يريد الخلاص منها- أما هو فذهب وخرج نادمًا على تفكيره في عمل المعصية، نادمًا على تركه العبادة ليجمع المائة دينار ليزني بها، كما يفعل بعض شبابنا اليوم –هداهم الله- يوم يجمعون دراهمهم ودنانيرهم ليذهبوا ليعصوا الله في بلاد الكفر والعري، ثم يرجعوا وكأن لم يكن شيئًا، وكأن الله –عز وجل سبحانه وبحمده وله العزة والجلال- كأنه لا يراقبهم إلا في جزيرة العرب ، أما هي فأقلقتها بشاعة الفاحشة وآلمتها مرارة الكبيرة ولسعتها مرارة المعصية وما كان منها إلا أن رجعت إلى الله، وتابت إلى الله، وذهبت تبحث عمن كان سببًا في توبتها إلى الله-(25/11)
جل وعلا- ذهبت إليه في قريته، وسألت عنه، فدُلَّت على بيته، فلما وصلت إلى البيت طرقت الباب فخرج، فتذكر يوم كادت تزل قدمه، فشهق شهقة عظيمة فمات –كما ذكر ذلك [ابن قدامة] في كتابه التوابين -. فكان منها أن حزنت حزنًا عظيمًا، وقالت: لأتزوجنَّ قريبًا من أقربائه حبًا فيه، فقالوا: له أخ فقير تقي، قالت: أتزوجه حبًا في أخيه، فتزوجت هذا العبد الصالح الفقير التقي أخو ذلك الصالح التقي، فجعل الله من نسلها ومن نسله سبعة من الصالحين العابدين الزاهدين، فلا إله إلا الله! ما أعظم شأن التوبة! وكلنا ذوو خطأ، فهل من توبة؟ وهل من أوبة؟، آن لنا أن نتوب، آن لنا أن نؤوب أيها الأحبة. قد يدَّعي الإنسان التوبة ثم لا يتوب؟ إن ذلك كقول غاسل الثياب: قد غسلتها ولم يغسلها بعد، فالقول لا ينظف الثياب، وادِّعاء التوبة لا ينظف القلوب، والنفس البشرية كالطفل إن أهملتها ضاعت وضلت وخسرت وتاهت، وإن هذبتها وأدَّبتها صلحت واستقامت، بل هي كالبعير إن علفته وغذيته سكن وثبت، وإن تركته صدَّ وندَّ وهرب، والنفس بطبيعتها تميل إلى الشهوات، وتميل إلى الملذات، ووالله لا فلاح لنفس ولا نجاح ولا فوز إلا بالعودة إلى بارئها -سبحانه وبحمده- القائل: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)
والنفس كالطفل إن تهمله شب على *** حب الرضاع وإن تفطمْه ينفطمِ
خالف هواك إذا دعاك لريبة *** فلا خير في مخالفة الهوى
حتى متى لا ترعوي يا صاحبي ***حتى متى وإلى متى وإلى متى(25/12)
هاهو أحد صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- [أبو محجن الثقفي] ممن أسلم مع ثقيف حين أسلمت ورأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكنه تمادى في شرب الخمر، تلك الكبيرة من الكبائر، وما زال يُجلد بعد عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما أكثر من ذلك سجنوه وأوثقوه ، فلما كان يوم القادسية رأى أن المشركين قد أصابوا من المسلمين ، فأرسل لامرأة [سعد بن أبي وقاص]، وقد كان مسجونًا في بيت سعد ، قائلاً : يا بنت آل حفصة هل لك إلى خير؟ قالت: وما ذاك ؟ قال: تخُلِّي عني ، وتعيرنني البلقاء -فرس [سعد بن أبي وقاص]– فأقاتل مع المسلمين، ولله عليّ إن سلَّمَني الله أن أرجع فأضع رجلي في القيد كما كنت، قالت: ما أنا وذاك، فرجع يرسف في قيوده، نفسه مشتاقة للجهاد في سبيل الله، ويرى أن المسلمين يُنال منهم ما ينال، فيقول:
كفى حزنًا أن تُرديَ الخيل بالقنا *** وأترك مشدودًا علىَّ وثاقيا
إذا قمت عن نار الحديد وغُلِّقت *** مصاريع دوني قد تصمُّ المناديا
وقد كنت ذا مال كثير وأخوة *** فقد تركوني واحدًا لا أخَ ليا
فلله عهد لا أقيس بعهده *** لأن فرجت ألا أزور الحوانيا(25/13)
فقالت [سلمى]: لقد اخترت الله ورضيت بعهدك، فأطلقته، وأعطته فرس [سعد] الذي كان في الدار، وأعطته مع ذلك سلاحًا، فخرج كالأسد يركض حتى لحق بالجيش المسلم، فجعل لا يزال يحمل على مشركٍ إلا دق صلبه وقتله، حمل على ميسرة القوم، ثم حمل على ميمنة القوم، كان يقصفهم -ليلتئِذٍ- قصفًا عظيمًا، حتى تعجب الناس منه وهم لا يعرفونه، تعجب سعد وهو يرقب المعركة، ويقول: من ذلك الفارس الملثم؟ ولِمَ يتلثم؟ ولِمَ لمْ يظهر إلا في آخر النهار؟ تساؤلات ترد على ذهن سعد ولم يلبسوا إلا قليلا حتى هزم أعداء الله -عز وجل- ورجع أبو محجن ورد السلاح، وجعل رجليْه في القيد، وعاد سعد، فقالت امرأته: هنيئًا لكم النصر، كيف قتالكم اليوم؟ فجعل يخبرها، ويقول: لقي جند الله ما لقي، ولقوا ولقوا ويذكر لها حتى بعث الله رجلا على فرس أبلق، فلولا والله أني تركت أبا محجن في القيد لقلت: إنها بعض شمائل أبي محجن، قالت: إنه -والله- لأبي محجن، وذكرت له ما كان من أمره؛ من أمره كذا وكذا، فما كان من سعد إلا أن ذرف الدموع، وقال: حلوا قيوده ، وأتوني به، فأتوا به إليه، قال: يا أبا محجن -والله- إني لأرجو الله ألا أجلدك على خمر بعد اليوم أبدًا ، قال: لا والله ما أشربها بعد اليوم أبدًا ، قد كنت أشربها فتطهرني بالحد والجلد، وأما اليوم فإن شربتها فلا يطهرني إلا النار، فلم يشربها بعد ذلك أبدًا .
فخالف النفس والشيطان وأعصهما *** وإن هما محَّضاك النصح فاتَّهم
(الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُم مغْفِرَةً منْهُ وَفَضْلا) فمن تجيب(25/14)
أخي المسلم؟ العز في كنف العزيز، ومن عبد العبيد أذَلَّه الله . هاهو شاب قوي وسيم –وأنا ما أورد هذا القصص إلا لأن فيه عبرة (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِى الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى)- قوي وسيم حييٌّ عالم في أوْج شهوته وشدة شهوته ، لكنها مربوطة شهوته بقال الله وقال رسوله –صلى الله عليه وسلم-، عمره لا يجاوز الثلاثين ؛ هو [الربيع بن خثيم] ، كان في بلده فسّاق وفجَّار يتواصون على إفساد الناس وليسوا في بلد [الربيع] ، هم في بلدي وفي بلدك وفي كل بلد، ثلة تسمى فرقة الصد عن سبيل الله، يهمها أن تقود شباب الأمة وشيبها ونساءها إلى النار ، تأخذ بحجزها لترميها على وجهها في النار، من أطاعها فليس أمامه إلا النار- تواصوا على إفساد [الربيع] ، فجاءوا بهذه الغانية، وقالوا: هذا ألف دينار، قالت: علام؟ قالوا: على قُبْلة واحدة من [الربيع] ، قالت: ولكم فوق ذلك أن يزني ، ثم ذهبت وتعرضت له في ساعة خلوة ، وأبدت مفاتنها ووقفت أمامه ، فلما رآها خرج فيها قائلا: يا أمة الله كيف بك إذا نزل ملك الموت فقطع منك حبل الوتين؟ أم كيف بك يوم يسألك منكر ونكير؟ أم كيف بك يوم تقفين بين يديْ الرب العظيم؟ أم كيف بك إن لم تتوبي يوم تُرمَيْن في الجحيم؟ فصرخت وولَّت هاربة تائبة عابدة عائدة إلى الله -عز وجل- تقوم من ليلها ما تقوم ، وتصوم من أيامها ما تصوم ، فلقِّبت بعد ذلك بعابدة الكوفة، وكان يقول هؤلاء المفسدون: أردنا أن تفسد الربيع فأفسدها الربيع علينا. (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ) (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ ولو حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) فإياك وداعي الشر، إياك ودعاة الشر، واسمع لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يدعوك إلى أن تضبط نفسك في أي مكان كنت ، أو في أي زمان كنت ، "اتقِ الله حيثما كنت، واتبع السيئة بالحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن" (فَاسْتَمْسِكْ(25/15)
بِالَّذِي أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) وكلنا ذوو خطأ، لكن الحسنات يذهبن السيئات، فلا تحقر ذنبًا، ولا تستصغر معصية، ولا تستصغر كبيرة، ولا تنظر إلى صغر المعصية، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت، القائل كما في الأثر "وعزتي وجلالي لا يكون عبد من عبيدي على ما أحب فينتقل إلى ما أكره إلا انتقلت له مما يحب إلى ما يكره" يقول [أنس] -رضى الله عنه وأرضاه-: إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الموبقات يقول هذا لمن؟ لخير جيل عرفته البشرية، ولخير فرقة عرفتها البشرية، ولخير القرون كما أخبر بذلك النبي –صلى الله عليه وسلم-، يقول ذلك للصحابة والتابعين. فيا أيها الحبيب إنما يعظم الذنب في قلب المؤمن لعلمه بجلال الله –سبحانه وبحمده-، إن المؤمن ليرى ذنوبه كأنه قاعد تحت أصل جبل، يخاف أن يقع هذا الجبل عليه، وإن المنافق ليرى ذنوبه كذباب مرَّ على أنفه فأطاره بيده. فيا أيها المخطئون إياكم ومحقرات الذنوب ، فإن لها من الله طالبا، وإياكم ومحقرات الذنوب فإنها تجتمع على الرجل فتهلكه.
خلِّ الذنوب صغيرها *** وكبيرها ذاك التُّقَى
واصنع كماشٍ فوق أرض *** الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة *** إن الجبال من الحصى
يا أيها المخطئون -وكلنا ذو خطأ- أفيقوا وأقلعوا عن ذنوبكم، واعزموا على ألا تعودوا، واندموا ندمًا يورث العين دمعًا، والقلب خشية، وردوا الحقوق إلى أهلها قبل ألا يكون درهم ولا دينار، وإنما التعامل يكون بالحسنات والسيئات، وعندها يعضُّ الظالم على يديه حتى يأكلها ولا ينفعه ندم، ولا تنفعه حسرة، لو كان الندم هنا لنفعه، ولو كانت الحسرة هنا لنفعه، لو قال: يا رب في الدنيا لقال الله: لبيك وسعديك يا عبدى، أشهدكم أني قد غفرت له.(25/16)
وتذكر يا من أخطأ -وكلنا ذو خطأ- أننا على الله قادمون، وإليه راجعون، وبين يديه مسؤولون، فمنا من يقدم عليه كالرجل المسافر الغريب القادم على أهله، تراه فرحًا، وتراه مسرورًا، يوم يلقى أحبته وأهله وأبناءه وأصحابه وخِلاَّنه، ومنا من يقدم على الله -عز وجل- قدوم العبد الآبق الشارد عن سيده، تجده ذليلا حسيرًا وَجِلا خائفًا كسيرًا مهانًا (أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم من يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) شتان بين الفريقين، شتان بين مُشرِّق ومُغرِّب (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ). يا من قسا قلبه، ويا من صدت نفسه فأمرته بالسوء والفحشاء، هلا زرت المقابر، هلا ذهبت وأحييت هذه السنة التي كادت تموت بيننا، هل ذهبت إلى المقابر فزرتها ودعوت الله -عز وجل- لهم لترى فيها الآباء والأمهات، لترى فيها الإخوان والأخوات، لترى فيها الأحباب والأصحاب والخلان قد توُسَّدُوا التراب، وارتُهِنوا بالأعمال، ما كأنهم فرحوا مع من فرح، ولا كأنهم ضحكوا مع من ضحك، ولا كأنهم تمتعوا مع من تمتع، قد حِيل بينهم وبين ما يشتهون، ثم اعلم أنك -قريبًا- ستكون بينهم، ووالله لن تكون إلا في روضة أو حفرة ، القبر روضة من الجنان، أو حفرة من حفر النيران، إن يكُ خيرًا فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده، وإن يك شرًا فما بعد أشد ، ويل لعبد عن سبيل الله صد.(25/17)
هاهو [دينار العيَّار]، كان مسرفًا على نفسه، وكان له أم تعظه فلا يتعظ ، فمر في يوم من الأيام بمقبرة كثيرة العظام قد خرجت العظام من المقبرة ، فتذكر مصيره ، وتذكر نهايته ، وتذكر أنه على الله قادم ، أخذ عظْمًا نخراً في يده ففتته، ثم فكر في نفسه وقال: ويحك يا نفسي، كأني بك غدًا قد صار عظمك رفاتًا، وجسمك ترابًا، وما زلت مكبَّة على المعاصي واللذائذ والشهوات، ثم ندم وعزم على التوبة، ورفع رأسه للسماء قائلا: إلهي ألقيت إليك مقاليد أمري، فاقبلني واسترني يا أرحم الراحمين، ثم مضى إلى أمه متغير اللون، منكسر القلب، فكان إذا جنَّه الليل أخذ في القيام والبكاء، وأخذ في النحيب وهو يقول: يا دينار ألك قوة على النار؟ يا دينار ألك قوة على النار؟ كيف تعرضت لغضب الجبار؟ وظل على ذلك أيامًا يقوم ليله، ويناجي ربه، ويناجي نفسه يؤدبها ويحاسبها، فرفقت به أمه يوم رأت جسمه قد هزل، ويوم رأت صحته بدأت تتدهور، فقالت: ارفق بنفسك قليلا، فقال: يا أماه دعيني أتعب قليلا لعلي أستريح طويلا، يا أماه إن لي موقفًا بين يديْ الجليل، ولا أدري إلى ظل ظليل، أم إلى شر مقيل؟ إني أخاف عناء لا راحة بعده، وتوبيخًا لا عفو معه، قالت: بنياه أكثرت من إتعاب نفسك؟، قال: راحتها أريد، يا أماه ليتك كنت بي عقيمًا، إن لابنك في القبر حبسًا طويلا، وإن له من بعد ذلك وقوفًا بين يديْ الرحمن طويلا، وتمر ليالٍ وهو يقرأ قول الله، ويقوم ليله، بقول الله (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) فيبكى ويضطرب، ثم يخر مغشيًا عليه، فيا مخطئ –وكلنا ذوو خطأ- (أَلَمْ يَأْنِ للذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) (أَلَمْ يَأْنِ للذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) ها(25/18)
هو [مالك بن دينار] –كما يذكر أهل السِيَر- كان شرطيًا من شُرط بني العباس، وكان يشرب الخمر، وكان صادًّا نادًّا عن الله –عز وجل- ويشاء الله –عز وجل- أن يتزوج بامرأة أحبها حبًا عظيمًا، لكنه كان لا يترك الخمر، يشربها في الصباح والمساء، ويشاء الله –عز وجل- أن يرزق بمولودة من هذه المرأة، فما كان منه إلا أن ملكت عليه لبه هذه الطفلة، ملكت عليه لبه، وملكت عليه قلبه، فكان لا ينتهي عن عمله حتى يأتي إليها ليداعبها ويمازحها، وكان يؤتى بالخمر، فإذا رأته يشرب الخمر ذهبت وكأنها تريد أن تعتنقه، فأسقطت الخمر من يده وكأنها تقول يا أبت اتقِ الله، ما الخمر لمسلم أبدًا، هكذا حالها معه، وفي يوم من الأيام يأتي من عمله ويأتي ليداعبها ويلاعبها ويرميها فتسقط ميتة، فيحزن حزنًا عظيمًا، ويجِدُ عليها وَجْدًا عظيمًا، فما كان منه في تلك الليلة -كما يخبر عن نفسه- إلا أن شرب الخمر، ثم شرب حتى الثمالة، قال: ثم نمت في تلك الليلة وبي من الهمِّ ما لا يعلمه إلا الله، قال: فرأيت -فيما يرى النائم- كأن القيامة قد قامت، وكأن الناس قد خرجوا من القبور حفاة عراة غرلا بُهمًا ، يدوخ الناس في عرصات القيامة، وإذ بهذا الثعبان العظيم فاغرًا فاه، يقصدني من بين هؤلاء الخلق جميعهم ، ويأتي إليَّ يريد أن يبتلعني، قال: وأهرب منه ويطاردني، وأهرب منه ويطاردني ، كاد قلبي أن يخرج من بين أضلاعي، وإذا أنا بهذا الشيخ الحسن السَّمْت، الرجل الوقور، قال: فتقدمت إليه فقلت: بالله عليك أنقذني، قال: لا أستطيع ، ولكن اذهب إلى من ينقذك، قال: فبقي يطاردني، فما وقفت إلا على شفير جهنم قال: فبقى من ورائي ، وجهنم من أمامي. قال: فقلت أرمي بنفسي في جهنم ، وإذا بهاتف يهتف، ويقول: ارجع ، لست من أهلها، قال: فرجعت لأدوك في عرصات القيامة وهو ورائي يطاردني، ورجعت إلى ذلك الشيخ الوقور، فقلت له: أسألك بالله أن أنقذني أو دلني، قال: فأما إنقاذك فلا، ولكني أدلُّك(25/19)
على ذلك القصر، لعل لك فيه وديعة، قال: فانطلقت إلى القصر، وهو لا يزال يطاردني، قال: وإذا بهذا القصر من زبرجد وياقوت، مكلل باللؤلؤ والجوهر، وإذا بالسُتُر ينادي بفتحها: افتحوا السُتُر، قال: ففتحت الستر عن أطفال مثل فلق القمر، وإذا بكل واحدة وواحد ينظر إلى هذا المنظر المهول، وإذا بابنتي من بينهن تقول: أبتاه، ثم ترمي بنفسها من القصر بيني وبين الثعبان، قال ثم تقول للثعبان بيمناها –هكذا- فينصرف، فتضرب على لحيتي، ثم تضرب على صدري، و تقول: أبتاه (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) قال بل قلت: بل آن بل آن ثم قلت ما ذاك الثعبان قالت ذلك عملك السيئ كاد يرديك في جهنم .قال وما ذلك الشيخ الوقور قالت ذلك عملك الحسن ضعفته حتى ما استطاع أن يقاوم عملك السيئ قال ثم تضرب صدري ثانية وتقول أبتاه: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) قال: ففزعت من نومي، قال: ثم توضأت، ثم انطلقت إلى المسجد، فذهبت لأداء صلاة الفجر، قال: وإذا بالإمام يقرأ الفاتحة، ثم يبدأ (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) فقلت: والله ما كأنه يعني إلا إياي. فيا أيها الأحبة أعمالكم أعمالكم، أعماركم أعماركم. كلنا ذوو خطأ ، كلنا ذوو خطأ. ها هو عبد من بني إسرائيل أطاع الله أربعين عامًا، ثم انقلبت هذه المضغة وانتكس ورجع على عقبيه، وارتد على عقبيه، فعصى الله أربعين عامًا أخرى فقال: وقد رفع يديه إلى الله، يا رب أطعتك أربعين، وعصيتك أربعين، فهل لي من توبة إن أنا تبت وأُبْت وعدت إليك يا رب؟ قال: فسمعت هاتفًا يهتف ويقول: أطعتنا فقربناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإن رجعت إلينا قبلناك، فلا إله إلا الله، ما أحلم الله بعباده! ما أرحم الله بعباده! ما ألطف الله بعباده! أسأله برحمته(25/20)
التي وسعت كل شيء أن يرحمنا برحمته.
هاهم سلفنا –أيها الأحبة- قلوبهم بالخوف وجلة، وأعينهم باكية، يقول قائلهم: كيف نفرح والموت وراءنا، والقبر أمامنا، والقيامة موعدنا، وعلى الصراط مرورنا، والوقوف بين يدي الله مشهدنا، كيف نفرح ؟! (كَانُوا قَلِيلاً من اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) يأتي أحدهم إلى فراشه فيلمسه في الليل، فإذا هو ناعم لين، فيقول مخاطبًا فراشه: يا فراشي –والله- إنك لليِّنٌ، ولكن فراش الجنة ألْيَنُ، ثم يقوم ليله كله حتى يصبح (كَانُوا قَلِيلاً مِّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) يناجي أحدهم ويقول: يا قوم –والله- لا أسكن ولا يهدأ روعي حتى أترك جسر جهنم ورائى، والله لا أهدأ ولا أسكن حتى أترك جسر جهنم ورائي، ويجب أن نكون كذلك. كانوا إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وكادت تنخلع خوفًا من الله –جل وعلا- خافوا الله –جل وعلا- فأمَّنَهم ؛ فهو القائل كما في الحديث القدسي " وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفيْن ، ولا أجمع له أمنيْن؛ إن أمنني في الدنيا خوَّفته يوم القيامة، وإن خافني في الدنيا أمَّنته يوم القيامة" (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) كان لسان حال الواحد من سلفنا وهو يناجي ربه في ثلث الليل الآخر، ثلث الآيبين، ثلث التوابين، ثلث المستغفرين، ثلث المخطئين، ثلث النادمين الذي ضيعناه ، الذي سهرنا إلى تلك اللحظة، ثم رمينا أنفسنا كالجِيف، ونسأل الله أن يعاملنا برحمته، وإن عاملنا بعدله لعذبنا، ثم لم يظلمنا سبحانه وبحمده. كان لسان حال الواحد منهم:
لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا *** وقمت أشكو إلى مولاي ما أجدُ
وقلت يا عدتي في كل نائبة *** ويا من عليه كشف الضر أعتمدُ
أشكو إليك ذنوبًا أنت تعلمها *** مالي على حملها صبر ولا جَلَدُ
وقد مددت يدي بالذل معترفا *** إليك يا خير من مدَّت إليه يده(25/21)
فلا تردَّنها يا رب خائبة *** فبحر جودك يروي كل مَن يرِدُ
هذه حال سلفنا، فما حالنا يا أيها الأحبة؟ ما حالنا في ليلنا؟ وما حالنا في نهارنا؟ أما ليلنا -إلا ما رحم الله- على الأغنيات وعلى المسلسلات وعلى التمثيليات وعلى الأفلام، وعلى قيل وقال إلى الثلث الذي ينزل فيه الرب سبحانه نزولاً يليق بجلاله، هل من داعٍ فأستجيب له؟، وهل من مستغفر فأغفر له؟، هل من تائب فأتوب عليه؟، وفي تلك اللحظة نحن على قسمين -أيضًا-؛ منَّا مَن هو كالجيفة البطَّال، ومنَّا من لا زال مواصلا في غيِّة وظلمه، يدعوه الله إلى التوبة وهو مازال على فسقه وعلى فجوره، أما يخشى أن يأخذه الله أخذ عزيز مقتدر، (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيد)
يا راقد الليل مسرورًا بأوله *** إن الحوادث قد يطرقن أسحارًا(25/22)
كيف كان ليل سلفنا ؟ هاهو أحدهم؛ وهو [رياح بن عمر القيسي] عليه رحمة الله، أحد التابعين، تزوج امرأة صالحة، وأراد أن يختبرها، أراد أن يختبرها هل هي من اللاتي تركن إلى زخارف الدنيا؟ هل هي الصائمة القائمة أم هي المشغولة بقيل وقال وبالأزياء والموديلات وما أشبه ذلك من زخارف الدنيا؟ يوم جاء الصباح ما كان منه إلا أن رآها تعجن عجينها، وتعمل عمل البيت تقُومُ ببيتها، فقال: يا [دؤابة]، -واسمها دؤابة- أتريدين أن أشترى لك أَمَة لتخدمك؟ قالت: يا رياح إني تزوجت [رياحًا]، وما تزوجت جبارًا عنيدًا، ثم جاء الليل، قام يتناوم، فقامت ربع الليل الأول، وقالت له: يا رياح قم، قال: أقوم، ثم نام مرة أخرى، فقامت الربع الثاني، وقالت: يا رياح قم، فتناوم –أيضًا- مرة أخرى، ثم قامت ربع الليل الثالث، ثم قالت: يا رياح قم، فقال: أقوم ولم يقم، فقالت: يا رياح قد فاز المحسنون، وعسكر المعسكرون، يا ليت شعري من غرَّني بك؟، يا ليت شعري من غرني بك؟، تقول اتغريت فيك ووقعت بإنسان لا يقوم الليل -مع أنه يقوم الليل، ولكنه أراد أن يختبرها-. فهل جعلنا لثلث الليل الآخر منا لو ركعتين علّ الله أن يرضى علينا بنظرة رحمة، وبنظرة عطف فيرحمنا في الدنيا والآخرة، فنسعد في الدنيا والآخرة سعادة الأبد. نسأله الله -سبحانه وبحمده- أن يجعلنا من المرحومين المغفور لهم. أما في النهار فما حالنا ؟ منا -والله أيها الأحبة- مَن يخرج الصباح مِن بيته فيجمع الحرام، يبحث عن الحرام أيًا كان، فيجمع الحرام، فمطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّيَ بالحرام. فما حال سلفك يا عبد الله؟ إن امرأة من السلف يوم يخرج زوجها في الصباح تقول له: اتقِ الله ولا تطعمنا إلا حلالاً، فإنا نصبر على الجوع، لكنا لا نصبر على النار، فهل قال لنا نساؤنا كذلك ونحن نخرج ، يا أيها الأحبة؟ ثم بعد ذلك نرجو النجاح، بعد هذه الأعمال، وبعد هذا الليل المخزي، وبعد هذا النهار المخزي،(25/23)
نرجو النجاة:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها *** إن السفينة لا تجري على اليَبَس
ركوبك النعش ينسيك الركوب *** على ما كنت تركب من بعل ومن فرس
يوم القيامة لا مال ولا ولد *** وضمَّة القبر تنسي ليلة العُرْس
أبناؤنا كيف نربيهم؟ ربيناهم تربية مادية، وهيَّأناهم تهيئة مادية، فجعل الواحد همَّه في سيارة وفي ثوب وفي زخرف من زخارف الدنيا وفي قصر، ونسي قصور الجنة، وأنهار الجنة، ونعيم الجنة، أشغلناه بهذا عن ذاك، ربيناه تربية البهائم، سمَّنَّاه كما تُسمَّن العجول، ثم ماذا يكون؟ هل هذه هي المسئولية التي وضعها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عنقك " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته...... " "ما من راع استرعاه الله رعية فبات غاشا لهم إلا حرم الله عليه رائحة الجنة" هيَّأنا لهم كل مادة، لكنا لم نُرَبِّي أرواحهم، ثم نرجو نجاتهم، فوالله ما مثلنا إلا كقول القائل:
ألقاه في الماء مكتوفًا وقال له *** إياك إياك أن تبتل بالماء(25/24)
أما أبناء سلفنا فكيف كانوا؟ سأضع لكم نموذجًا، كيف كانوا يربونهم؟ وكيف كانوا يتعاملون معهم؟ وكيف تربوا فأصبح الطفل منهم كالرجل منا، بل كالعابد الزاهد منا. هاهو [خيثمة بن الحارث] -عليه رضوان الله ورحمته- ما كان منه يوم أن دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للنُفرة إلى غزوة بدر إلا أن جاء إلى ابن له اسمه [سعد]، ابن صغير، وكان معه من النساء الكثير، ومعه من البنات والأخوات يعولهن هذا الرجل الكبير [خيثمة بن الحارث] فقال لابنه [سعد]: يا بني تعلم نساءنا، وليس لهن من يحميهن، وأريد أن تبقى معهن وأذهب لأجاهد في سبيل الله جل وعلا ، قال: يا أبتاه للنساء رب يحميهن، والله ما تطمع نفسي في هذه الدنيا بشيء دونك، لكنها الجنة يا أبتاه، والله لو كان غير الجنة لآثرتك به، وانطلق يجاهد في سبيل الله، وجلس الأب الكبير مع هؤلاء النساء، وقُتِل شهيدًا -بإذن الله- في سبيل الله هذا الطفل، يوم جاء الخبر أباه في اليوم الثاني قالوا له: لقد قتل نحتسبه شهيدًا عند الله -جل وعلا- فما كان منه إلا أن قال: أواه أواه، والله لقد فاز بها دوني، والله لقد كان أعقل مني، لقد رأيته البارحة يسرح ويمرح في أنهار الجنة وثمارها وأزهارها ، ويقول: يا أبتاه إلْحَقْ بنا، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا.
ومع ذلك الظلام الذي نراه الآن فهناك بشائر -ولله الحمد- والباب مفتوح يا أيها الأحبة، ولن يُغلق إلا عند طلوع الشمس من مغربها أو غرغرة الروح في الحلقوم، المبشرات كما قلت كثيرة وكثيرة ولله الحمد، والصور المضيئة كثيرة وكثيرة، والخير في الأمة لا زال ولن يزال بإذن الله إلى قيام الساعة " لا تزال طائفة على الحق منصورة ......" ولولا هذه المبشرات لضاقت علينا الأرض بما رحبت ، ولكن من فضل الله -سبحانه وتعالي- علينا.(25/25)
كانت النماذج يا أيها الأحبة- من الماضي، فإليكم النماذج من الحاضر، وهي مبشرات أقولها لكل من آلمَه ما يرى من تدهور حال الأمة المسلمة وذهابها إلى الهاوية، هناك بشائر وسأذكر لكم بعض الأمثلة على ذلك ، هاهي عجوز بلغت الثمانين من عمرها في مدينة <الرياض> هذه العجوز جلست مع النساء فرأت أنهن لا ينتفعن من أوقاتهن، جلساتهن في قيل وقال، في غيبة ونميمة، في فلانة قصيرة وفلانة طويلة وفلانة عندها كذا، وفلانة ليس عندها كذا، وفلانة طلقت، وفلانة تزوجت، كلامًا -إن لم يبعدهن عن الله عز وجل- فهو تضييع لأوقاتهن، فاعتزلت النساء وجلست في بيتها تذكر الله -عز وجل- آناء الليل وأطراف النهار، وكان أن وضعت لها سجادة في البيت تقوم من الليل أكثره، وفي ليلة من الليالي قامت -ولها ولد بار بها، لا تملك غير هذا الولد من هذه الدنيا بعد الله -جل وعلا- ما كان منها إلا أن قامت لتصلى في ليلة من الليالي، وفي آخر الليل يقول ابنها: وإذا بها تنادي، قال: فتقدمت وذهبت إليها، فإذا هي ساجدة على هيئة السجود، وتقول: يا بني ما يتحرك في الآن سوى لساني، قال إذاً أذهب بك إلى المستشفى، قالت: لا، وإنما أَقْعِدني هنا، قال: لا، والله لأذهبن بك إلى المستشفى -وقد كان حريصًا على برِّها جزاه الله خيرًا- فأخذها وذهب بها إلى المستشفى، وتجمع الأطباء وقام كل منهم يدلي بما لديه من الأسباب، لكن لا ينجي حذر من قدر.
إن الطبيب بطبِّه ودوائه *** لا يستطيع دفاع نَحْبٍ قد أتى
ما للطبيب يموت بالداء الذي *** قد كان يُبرئ مثله فيما مضى
مات المداوِي والمداوَى والذي *** جلب الدواء وباعه ومن اشترى(25/26)
حلَّلوا وفعلوا وعملوا، ولكن الشفاء بيد الله -سبحانه وبحمده-، قالت: أسألك بالله إلا رددتني على سجادتي في بيتي، فأخذها وذهب بها إلى البيت، ويوم ذهب إلى البيت وضَّأها ثم أعادها على سجادتها، فقامت تصلى. يقول: وقبل الفجر بوقت ليس بالطويل، وإذ بها تناديني، وتقول: يا بني أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، لتلفظ نفسها إلى بارئها -سبحانه وبحمده- فما كان من ولدها إلا أن قام فغسَّلها وهي ساجدة، وكفَّنها وهي ساجدة، وحملوها إلى الصلاة عليها وهي ساجدة، وحملوها بنعشها إلى المقبرة وهي ساجدة، وجاءوا بها إلى القبر فزادوا في عرض القبر لتدفن وهي ساجدة، ومن مات على شيء بُعثَ عليه، تبعث بإذن ربها ساجدة.
(يُثَبِّتُ اللهُ الذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ) أيعجز شبابنا، أيعجز شاباتنا، أيعجز نساؤنا، أيعجز رجالنا أن يفعلوا كما فعلت هذه المرأة؛ أن يقوموا من ليلهم ولو بعضه؛ ليقفوا بين يدي الله، ليلقوه وقد غفر لهم ما اقترفوا من إثم وخطيئة؟. أسأل الله –عز وجل- بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى.(25/27)
المبشرات كثيرة جدًا كما قلت أيها الأحبة. أورد صاحب كتاب قصص السعداء والأشقياء هذا الحدث وفيه عبرة وعظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع. سائق الإسعاف كان فظًا غليظًا، لا يتذكر إذا ذُكِّر، ولا يتعظ إذا وُعظ، يباشر الحوادث الشنيعة فيحمل أشلاء المصابين، رأس المصاب في يد، ورجل المصاب الآخر في يد أخرى، فلا يهزُّه ذلك المنظر، ولا يؤثر فيه، كان تاركًا للصلاة، مرتكبًا للموبقات، ويشاء الله –عز وجل كما يقول هو- أن بُلِّغت ليلة من الليالي عن حادث من الحوادث على مدخل مدينة <الرياض>، قال: في الساعة الواحدة ليلاً، قال: ركبت السيارة، وانطلقت مسرعًا نحو الحادث، ووصلت إلى موقع الحادث؛ فإذا بي أجد سيارة بيضاء قد ارتطمت بأحد أعمدة الإنارة –أحد أعمدة الكهرباء- قال: وأدت إلى انطفاء الكهرباء في تلك المنطقة، قال: والغريب أني أرى نورًا خافتًا ينبعث من السيارة، قال: فانطلقت متوجهًا إلى باب السيارة، وكان في يدي سيجارة، قال: فإذا بي أري رجلاً كَثَّ اللحية، مستنير الوجه –وجهه كأن فلقه قمر- قد ملأ نور وجهه السيارة، وقد ارتطمت أجزاؤه السفلي بمقود السيارة، قال: فحاولت أن أعيد المقعد إلى الخلف لأنقذه، فقال: أتريد أن تنقذني يا بني؟ قلت: نعم، قال: إذا سمحت أطفئ سيجارتك، واتق الله –جل وعلا-. قال: فما كان مني إلا أن أطفأتها، ورجعت أحاول إنقاذه، قال: وما استطعت أن أخرجه كما ينبغي، قال أتريد أن تنقذني فعلاً، قال: نعم، قال: فإن النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول: من صنع إليكم معروفًا فكافئوه، والله يا بني لا أملك لك مكافأة على إنقاذي إلا نصيحة أوجهها إليك، فهل تقبل ذلك؟ قال: قلت: تفضل، قال: عليك بتقوى الله، عليك بتقوى الله عليك بتقوى الله، وإياك ورفقة السوء. أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ثم مات، قال: فارتجفت مكاني، وأخذته من هناك، وأخذته في السيارة، وسلمته في قسم الحوادث في الساعة الثالثة ليلاً، قال:(25/28)
ولم أستطع النوم، كلماته لازالت تَرِنُّ في أذني، قال: وقمت إلى صلاة الفجر، وتوضأت وصليت، وأخبرت إمام المسجد الذي بالحي بما حصل، فقال: احمد الله الذي أحياك بموت ذلك الرجل، احمد الله الذي أحياك بموت ذلك الرجل، وادع الله له؛ وادع الله عز وجل له فخير ما تكافئه به الدعاء، ثم يقول هذا الرجل: فاسأل الله أن يرحمه، وأن يغفر له، وأن يجمعني به في الجنة " لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم". أرأيتم أيها الأحبة، رجلاً يلفظ أنفاسه الأخيرة، وعلم أنه مسئول أمام الله أن يأمر وينهي، فماذا كان منه؟ يقول له: أطفئ سيجارتك، ويقول له: اتقِ الله، وبعضنا يرى المنكرات والعظائم أمام عينه فلا تهتز فيه شعرة، ويذهب ويخرس كالشيطان لا يتكلم بكلمة، ألا فاتقوا الله، وقولوا كلمة الحق، لا تخشوا في الله لومة لائم؛ فإن الله ينفع بها، ولأن يهدي الله بك رجلاً واحدا خيراً لك من حُمر النِّعم،(25/29)
وهاهو حدث آخر حدث في مدينة >الرياض<، وقد نقلته قبل ذلك في محاضرة كل يغدو ولكن أرى أن المقام مناسب له الآن، رجل عمره ما بين الثلاثين والأربعين، شاب في مقتبل شبابه، لا يرتاح ليلة من الليالي إلا على كأس خمر يشربها، أو امرأة يزني بها، حياته مظلمة، عربدة وفساد وعناد وبُعد عن الله الواحد الدَّيان، تمر به الأيام والليالي، ويشاء الله أن يتزوج بزوجة، وبعد زواجه يزداد طغيانه، ويزداد عصيانه، ويرزقه الله عز وجل بابنة من زوجته لتترعرع وتبلغ الخامسة من عمرها، ترعرعت وبلغت الخامسة من عمرها وهي لا ترى أباها إلا قليلاً، يسهر ليله على معصية الله، ثم يأتي مُنهكًا لينام، ونادرًا ما تراه ابنته، في الليل نائمة وهو سهران على المعاصي، وفي النهار في عمله وهي في البيت، تمر الأيام وتمر الليالي فلا يزداد إلا سوء، وفي ليلة يتفق مع بعض قرناء السوء يجتمعون على شرب الخمور، ويقدِّر الرحمن أن يتأخر عن هؤلاء الرفقة السيئين، ثم يقول هو عن نفسه: ذهبت وفتشت عنهم يمنة ويسرة، نظرت إليهم هنا وهناك –يبحث عنهم- فلم أجدهم، قال: فما كان مني إلا أن ذهبت إلى صديق سوء آخر، فذهبت إليه وأخذت منه فيلمًا ماجنًا خليعًا جنسيًا يستحي إبليس أن ينظر إلى ذلك، فكيف بالبشر؟، قال: ثم أخذته وعدت به في الساعة الثانية ليلاً ، ولا إله إلا الله، ثلث الليل الآخر يتنزل الرب، هل من داعٍ فأستجيب له، ومنا من تهراق دموعه على خدِّه من خشية الله، فذلك هو الفائز، ومِنَّا من يرضع المعاصي في تلك الساعة وخاصة هذه الأيام مع قدوم البث المباشر ، في الساعة الثانية ليلاً الله يقول: هل من داعٍ فأستجيب له؟، والناس ينظرون إلى ما يغضب الله –جل وعلا- قال: فدخلت إلى بيتي ونظرت إلى زوجتي وابنتي فوجدتهم نائمتين، قال: ودخلت إلى غرفة ذلك الجهاز؛ –يقصد الفيديو- الذي خرب بيوت كثير من المسلمين، وأضاع شباب المسلمين، قال: فدخلت ووضعت الشريط في ذلك الجهاز، ثم جلست،(25/30)
وبينما أنا جالس وإذا بالباب يفتح، وإذا بها ابنتي –عمرها خمس سنوات- وإذا بها تدخل وتنظر إلىّ بنظرات حادة، بنظرات قوية وتقول: عيب عليك يا والدي، اتقِ الله، عيب عليك يا والدي اتقِ الله، قال: ذهلت ودهشت، وقلت: من علَّمها؟، من أنطقها؟ إنه رب الأرباب –سبحانه وبحمده- قال: وأغلقت الجهاز، وخرجت ونظرت إليها، فإذا هي نائمة، قال: فخرجت وأنا أتذكر قولتها: عيب عليك يا والدي، اتق الله، بقيت في الشارع أمشي وآتي، وإذا بمنادٍ ينادي الله أكبر ، الله أكبر نداء صلاة الفجر الذي حُرِمَه كثير من المسلمين، والذي ذكر النبي –صلى الله عليه وسلم- أن من عِظَم الأجر فيه لو لم يكن من الإنسان إلا أن يأتي حبوًا لتلك الصلاة لجاء حبوًا، قال: فذهبت وتوضأت ودخلت في المسجد، وما كنت أصلي أبدًا، قال: وكبرت مع الإمام، قال: ويوم سجدت انفجرت من البكاء، قال وعندما انتهى الإمام من صلاته، قال الرجل الذي بجانبه: ما بك يا أخي؟، قال: قلت له: سبع سنوات ما سجدت فيها لله سجدة، بأي وجه ألاقي ربي، سبع سنوات ما ركع فيها لله ركعة، بأي وجه يلاقي الله –جل وعلا-، قال: ثم ذهب الناس، وبقيت أتذكر جرائمي وفضائحي، وذنوبي التي عظُمت وعظمت وعظمت، قال: ونظرت في الساعة، فإذا وقت الدوام يحين، قال: فانطلقت إلى عملي، وكان لي زميل لطالما ذكرني بالله –جل وعلا- ولكنني لم أتذكر، قال: دخلت عليه ونظر إلي وقال: والله إني لأرى بوجهك اليوم شيئًا غير الذي أراه منك كل يوم، قال: لقد كان من أمري البارحة كذا وكذا وكذا وقص عليه قصته، فقال: احمد الله الذي أرسل إليك ابنتك لتوقظك وما أرسل إليك ملك الموت ليقبض روحك، ثم قال: إني لم أنَمْ البارحة، وأريد أن تأذن لي لأذهب لأنام، فأذن له فخرج من عنده، وذهب ودخل في مصلى الدائرة التي يعمل فيها، ثم قام يصلى من الساعة العاشرة إلى صلاة الظهر، قال: وجئته وظننت أنه ذهب إلى البيت، قال: فتقدمت إليه، ولما رآني انفجر بالبكاء،(25/31)
فقلت له: لِمَ لَمْ تذهب وتسترح؟، قال: يا أخي سبع سنوات ما ركعت فيها لله ركعة، بأي وجه ألاقي ربي، والله إن بي شوقًا عظيمًا إلى الصلاة. النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول: "وجعلت قرة عيني في الصلاة " وتواعد هو وإياه على ليلة جديدة وعلى عُمْر جديد؛ ليكون عمره تلك الليلة، وليكون عمره بدايته في ذلك اليوم، وما مضى فعُمْر لا يتشرف به، وذهب إلى بيته يريد أن يرى ابنته التي لم يرَها منذ أن قالت له كلمتها، ويدخل البيت، وإذا بزوجته تصرخ في وجهه أين أنت؟ نتصل عليك فلم نجدك، لقد ماتت ابنتك منذ لحظات ومنذ ساعات، فما كان منه إلا أن انهار، لم يتمالك نفسه إلا وهو يردد كلماتها؛ عيب عليك يا والدي، عيب عليك يا والدي، اتق الله، ثم ماذا كان؟ كان منه أن اتصل بزميل الصلاة زميله وأخبره، فجاء وكفَّنوها وصلوا عليها صلاة العصر، وذهبوا بها إلى المقبرة، ويوم وصل إلى المقبرة قال: خذ ابنتك -يقول زميله- وضَعْها في لحدها، فأخذها ودموعه تقطر على كفنها .
وليس الذي يجرى من العين ماؤها *** ولكنها روح تسيل وتقطر
ما كان منه إلا أن وضعها في القبر، ويوم وضعها في القبر قال كلامًا أبكى جميع من حضر الدفن، قال: يا أيها الناس أنا لا أدفن ابنتي، ولكني أدفن النور الذي أراني النور، هذه البنت أخرجتني من الظلمات إلى النور بإذن الله -سبحانه وبحمده-، فأسأل الله أن يجمعني وإياها في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
أرأيتم أيها الأحبة يوم يعود العبد إلى الله فيجد الله -سبحانه وتعالى- توَّابًا رحيمًا.
يا أيها المذنبون -وكلنا ذوو خطأ- المولود إذا ولد أُذِّن في أذنه اليمنى، وإذا مات صُلِّيَ عليه، فكأن الحياة ما بين الأذان إلى الصلاة، ولا إله إلا الله! ما أقصرها من حياة! إن للموت أَخْذَة تسبق اللمح بالبصر، إياكم والتسويف ؛ فإن سوف جندي من جنود إبليس.
أعماركم تمضى بسوف وربما *** لا تغنمون سوى عسى ولعلما(25/32)
فاقضوا مشاربكم عجالى إنما *** أعماركم سِفْر من الأسفار
وتراكضوا خيل الشباب وبادروا *** أن تُسْترد فإنهن عوارِ
اذكروا أن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل، وإذا كانت نظرة الخلق إليك تمنعك من المعصية فإن الله أولى بذلك، أَصْلح ما بينك وبين الله، وتقرَّب إليه بطاعته؛ عسى أن تكون ممن يبدل الله سيئاتهم حسنات؛ فإنك عما قريب تُحمل على أكتاف الرجال ، ونفسك إن كانت صالحة تقول: قدموني قدموني، وإن كانت طالحة تصيح بصرخات تقض منها المضاجع: يا ويلها، أين تذهبون بها؟(25/33)
أحبتي في الله أسعد ساعة في العمر وأصدق لحظة في الحياة تلك الساعة التي يقف العبد فيها مع نفسه محاسبًا ، وقفة العتاب، وقفة الملامة ، إنها ساعة المخطئين المنيبين إلى رب العالمين ، إنها ساعة المنكسرين من خشية إله الأولين والآخرين، إنها ساعة العتاب، إنها ساعة الحساب التي يتذكر فيها العبد ما أصاب، أيام خلت وليالٍ مضت قد قصر فيها في جنب الله، إذا تذكر السيئات وما أصاب من الأوزار رق قلبه، وانكسر فؤاده من خشية الله، تذكر حقوقًا لله ضيعها، وحدودًا لله جاوزها، ومحارم لله انتهكها فانكسر فؤاده من خشية الله، ورقَّ قلبه خوفًا من الله، إنها ساعة الحزن والندامة والأسى على التفريط في جنب الله، لكن سرعان ما يزداد الألم والندم إذا تذكر أنه إلى الله صائر وراجع ومسؤول، وأنه مرتحل من هذه الدنيا ليقف بين يديْ جبار السماء والأرض، ثم يسأل نفسه، كيف ألقاه وحقوقه ضيعت؟ كيف ألقاه ومحارمه انتهكت؟ كيف ألقاه وحدوده تجاوزت؟ كيف ألقاه ؟ بأيِّ وجه ألقاه بأيِّ قدم أقف بين يديْه؟ عندها ينكسر قلبه ويرقُّ فؤاده، ولا يجد إلا أن يدمع من خشية الله، ثم لا يملك إلا أن يرفع يديْه، ربَّاه أسأت، ربَّاه ظلمت، ربَّاه أسرفت، ربَّاه ذنوبي، من أرجو لها سواك؟، من يفتح الباب إن أغلقتَه؟، من يعطي العطاء إن منعتَه؟ فيصلح الحال، وتُبدَّل السيئات -بإذن الرب- إلى حسنات؛ فالبدار البدار. انتبه عبد الله وتيقظ وادخل باب التوبة المفتوح قبل إغلاقه مبادرًا منكسرًا (وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الْذِينَ يَتَّبِعُونُ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا) .(25/34)
أحبتي في الله العيون تذنب، والآذان تذنب، والقلوب تذنب، والأبصار تذنب، والأرجل تذنب، وكلنا ذوو خطأ وذنب. والله لا يغفر تلك الذنوب إلا التوبة النصوحة، التوبة التوبة لعلكم تفلحون ، الأوبة الأوبة، متى ما أقبلتم على الله فاستغلوا ذلك الإقبال؛ فإن النفس كالحديدة لا تلين بيد الحدَّاد إلا إذا كانت ساخنة، فإذا بردت جمدت وصارت أشدَّ من الحجارة. ألا واستغلوا اندفاع الأنفس إلى الخيرات؛ فإن لكل نفس إقبالاً وإدبارًا، ولكل خافق سكونًا
إذا هبت رياحك فاغتمنها *** فإن لكل خافقة سكونًا
ولا تغفل عن الإحسان فيها *** فلا تدرى السكون متى يكون
إن صاحب الشمال -المَلَك الموكَّل بالسيئات- ليرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ ؛ فإن ندم واستغفر الله منها ألقاها، وإلا كتبت عليه واحدة فضلاً مِن الله ومِنَّة، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، التوبة على عَجَل قبل دنوِّ الأجل، لنندم ونقلع، ونرد المظالم، ولنخالط الصالحين؛ فبخلطة الصالحين نتذكر رب العالمين. (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتوبون من قريب فأولئك أتوب عليهم وكان الله عليما حكيما)
يا نفس توبي قبل أن لا تستطيعي أن تتوبي
واستغفري لذنوبك الرحمن غفار الذنوب
إن المنايا كالرياح عليك دائمة الهبوب
يا من يرى مد البعوض جناحها
في ظلمة الليل البهيم الألين
ويرى نياط عروقها في مخها
…..……………………… والمخ في تلك العظام النُحَلِّ
رب اغفر لجمع تاب من ذلاتها
ما كان منه في الزمان الأول(25/35)
نسألك اللهم باسمك الأعظم، نسألك اللهم بعزِّك وذلِّنا إلا رحمتنا. نسألك بقوتك وضعفنا، بغناك وفقرنا إليك إلا غفرت لنا. هذه نواصينا الخاطئة الكاذبة بين يديك. عبادك سوانا كثير ولا رب لنا سواك. لا ملجأ ولا منجى إلا إليك، لا مهرب منك إلا إليك. نسألك مسألة المسكين، ونبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وندعوك دعاء الخائف الضرير، ونسألك سؤال من خضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عيناه، وذلَّ لك قلبه إلا رحمتنا وتقبلتنا. من يغفر الذنوب إلا أنت؟، من يستر العيوب إلا أنت؟. اللهم آمن روعاتنا، واستر عوراتنا، واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا، ونعوذ بك اللهم أن نُغتالَ من تحتنا، اللهم تقبلنا فيمن تقبلت، اللهم تقبل منا أحسن ما عملنا، وتجاوزْ عن سيئ ما عملنا، ربَّاه من يفتح الباب إن أغلقته، من يعطينا العطاء إن منعته. اللهم تقبلنا في التائبين، واغفر ذنوب المذنبين. اللهم إنا عبيدك، بنو عبيدك، بنو إمائك، في حاجة إلى رحمتك، وأنت في غنى عن عذابنا، اللهم جازِنا بالإحسان إحسانًا، وبالإساءة عفوًا وغفرانا. اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
تم الكلام وربنا محمود *** وله المكارم والعُلا والجُود
وعلى النبي محمد صلواته *** ما ناح قُمْري وأورق عُود
************
يقول أحدهم: حبذا لو دعوت الشباب إلى أن يأخذوا في طريقهم قبل أن يأتوا إلى حضور حلقات الذكر إخوانهم الذين ربما انشغلوا وربما غفلوا.(25/36)
فأقول لهم: يا أيها الأحبة لأن يهديَ الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم إن [أبا بكر] -رضي الله عنه وأرضاه- يدخل على المصطفى -صلى الله عليه وسلم- فيؤمن برسالته ، ثم يخرج من عنده ويرجع وقد أدخل في دين الله -بإذن الله- ستة من العشرة المبشرين بالجنة، يأتي يوم القيامة وهم في ميزان حسناته. فهلا ركزت جهدك على أن تأتي بواحد لتذيقه ما ذُقتَه من حلاوة الإيمان. إن من أعظم الأخوة علينا أن نشارك غيرنا فيما نشترك فيه في حلقات الذكر. إن المؤمنين وهم في الجنة على مقاعدهم إخوانًا على سُرُر متقابلين يتذكرون بعض إخوانهم من أصحاب الكبائر، يتذكرون بعض إخوانهم فيقولون: يا رب كيف ننعم وإخواننا يعذبون؟ كيف ننعم وإخواننا يعذبون؟ فيأذن الله –عز وجل- بالشفاعة لكل رجل جلس مع آخر ولو لساعة واحدة يذكر فيها الله –عز وجل-. " وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتذاكرونه ويتدارسونه فيما بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده" أسأل الله أن يوفقنا وإياكم للخير أنَّا اتَّجهنا ، وسبحان الله وبحمده، أشهد أن لا إله إلا هو، أحمده وأستغفره وأتوب إليه.(25/37)
مكانة المرأة في الإسلام
لفضيلة الشيخ / علي عبد الخالق القرني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى اللهم لك الحمد ملء السماوات والأرض فكل الحمد لك اللهم لك الشكر ملء السماوات والأرض فكل الشكر لك نحمدك على نعمة الإسلام والإيمان والقرآن ونحمدك على أن هديتنا للإسلام وجعلتنا من أمة خير الأنام صلوات الله وسلامه عليه نشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا عبدك ورسولك صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما كثيرا السلام عليكم ورحمة الله وبركاته واسأل الله عز وجل أن يجعل هذه الدقائق في ميزان الحسنات في يوم تعز فيه الحسنات في يوم الحسرات وأن يجعل من تسبب في ذلك بشيء قليل أو كثير يجعل هذه في ميزانه وأن يجعلها له من الباقيات الصالحات هو ولي ذلك والقادر عليه أيتها الأخوات المؤمنات إدارة ومعلمات وطالبات ومنسوبات أوصيكن ونفسي بتقوى الله عز وجل وأن نقدم لأنفسنا أعمال تبيض وجوهنا يوم أن نلقى الله (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم) (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها) (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا) (يوم يبعثر ما في القبور ويحصل ما في الصدور) يوم تبلى السرائر وتنكشف الضمائر يوم الحاقة والطامة والقارعة والزلزلة والصاخة (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه)(26/1)
أيتها الأخوات من أنتن لولا الإسلام والإيمان والقرآن؟ أنتن بالإسلام وبالإيمان والقرآن شيء وبدونها والله لا شيء، ولعلكنَّ تُعِرنني أسماعكنَّ قليلا، لتعرفن تلك النعمة التي أنتنَّ تعِشْنَها في هذه الأيام، يوم تسمعْن لحال المرأة في عصور الجاهلية، وأنتنَّ تتبوأن نعمة الهداية. كيف كانت المرأة؟ كانت سلعة تُباع وتُشترى، يُتشاءم منها وتُزدرى، تُبَاع كالبهيمة والمتاع، تُكْرَه على الزواج والبِغَاء، تُورث ولا تَرث، تُملَك ولا تَمْلِك، للزوج حق التصرف في مالها –إن ملكت مالها- بدون إذنها، بل لقد أُخْتلِفَ فيها في بعض الجاهليات، هل هي إنسان ذو نفس وروح كالرجل أم لا؟ ويقرر أحد المجامع الروسية أنها حيوان نَجِس يجب عليه الخدمة فحسب، فهي ككلب عَقُور، تُمنَع من الضَّحِك –أيضا-؛ لأنها أحبولة شيطان، وتتعدد الجاهليات، والنهاية والنتيجة واحدة. جاهلية تبيح للوالد بيع ابنته، بل له حق قتلها ووأدها في مهدها، ثم لا قِصاص ولا قَصاص فيمن قتلها ولا دِيَة، إن بُشِّر بها ظلَّ وجهه مسودًا وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بُشِّر به، أيُمْسِكَه على هونٍ، أم يدسُّه في التراب.
وعند اليهود إذا حاضت تكون نجسة، تنجس البيت، وكل ما تَمسُّه من طعام أو إنسان أو حيوان، وبعضهم يطردها من بيته؛ لأنها نجسة، فإذا تطهَّرت عادت لبيتها، وكان بعضهم ينصب لها خيمة عند بابه، ويضع أمامها خبزا وماء كالدابة، ويجعلها فيها حتى تطهر.
وعند الهنود الوثنيين عُبَّاد البقر يجب على كل زوجة يموت زوجها أن يُحرق جسدها حية على جسد زوجها المحروق.
وعند بعض النصارى أن المرأة ينبوع المعاصي، وأصل السيئات، وهي للرجل باب من أبواب جهنم، هذا كله قبل بعثة محمد –صلى الله عليه وسلم-.(26/2)
فهل أتاكنَّ أيتها المؤمنات المسلمات القانتات، بل هل أتاكنَّ يا بنات حواء في هذا العالم كله أنباء ما جاء به نبي الرحمة والهدى محمد –صلى الله عليه وسلم- من التعاليم في حقِّكنَّ فحمدتنَّ الله على ما تبوأتنَّ به من هذه النعمة. بعد تلك المهانة والذِلَّة، يأتي رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ليرفع مكانة المرأة، ليُعلي شأنها، فإذا به –صلى الله عليه وسلم- يبايع النساء بيعة مستقلة عن الرجال، وإذا بالآيات تتنزل، وإذا المرأة فيها إلى جانب الرجل تكُلَّف كما يُكَلَّف الرجل إلا فيما اختصت به. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم من نفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) (وَاللهُ جَعَلَ لَكُم منْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم منْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً) (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) صفات صالحة في الرجال، ما ذكرها الله إلا وذكر في جانبها النساء، والصالحة كذلك. (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)(الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَاتِ) (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) وإذا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد مدة ليست باليسيرة يقول: "إنما النساء شقائق الرجال" وإذا به -صلى الله عليه وسلم- بعدها يقول في خطبته الشهيرة: "استوصوا بالنساء خيرًا فإنهن عندكم عَوَان "يعني أسيرات، ثم يقول -صلى الله عليه وسلم- رافعًا شأن(26/3)
المرأة، وشأن من اهتم بالمرأة على ضوابط الشرع: " خياركم خياركم لنسائهم، خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي" صلوات الله وسلامه عليه. يأتيه [ابن عاصم المنقري]؛ ليحدثه عن ضحاياه، وعن جهله المُطْبِق، ضحاياه المؤودات فيقول : لقد وأدت يا رسول الله اثنتي عشرة منهن، فيقول –صلى الله عليه وسلم-: "من لا يَرحم لا يُرحم ،من كانت له أنثى فلم يَئدْها، ولم يُهِنْها، ولم يؤثر ولده عليها، أدخله الله –عز وجل وتعالى- بها الجنة ". ثم يقول –صلوات الله وسلامه عليه-: "من عَالَ جاريتيْن حتى تبلغا، جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين، وضمَّ بين أصابعه صلوات الله وسلامه عليه" ثم يقول –صلى الله عليه وسلم:" الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو كالقائم لا يفتر، أو كالصائم لا يفطر" أو كما قال –صلى الله عليه وسلم-: أمٌّ مكرَّمَة مع الأب، أُمِرْنَا بحسن القول لهما (فَلاَ تَقُل لهما أُفٍّ) وحسن الرعاية (وَلاَ تَنْهَرْهُمَا) وحسن الاستماع إليهما والخطاب (وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا) وحسن الدعاء لهما (وَقُل رّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبّيَانِي صَغِيرًا). أمٌّ مكرَّمة مقدَّمة على الأبِّ في البرِّ. "من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك". يأتي [جاهمة] إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد الجهاد في سبيل الله من >اليمن<، قد قطع الوِهَاد والوِجَاد حتى وصل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: أردت يا رسول الله أن أغزو وجئت لأستشيرك، فقال -صلى الله عليه وسلم-": هل لك من أم؟ قال: نعم، قال: الْزمها؛ فإن الجنة عند رجليها " أو كما قال صلى الله عليه وسلم. بل أوصى –صلى الله عليه وسلم- بالأم وإن كانت غير مسلمة. فها هي [أسماء] تقول: "قدمت أمي عليَّ، وهي ما زالت مشركة، فاستفتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: قدمت أمي وهي(26/4)
راغبة أَفأَصِلُها؟ قال: نعم –صلى الله عليه وسلم-، صِلي أمك".
ليس هذا فحسب، بل أنزل الله فيكِ سورة كاملة باسم سورة النساء، وخصَّكِ بأحكام خاصة، وكرَّمك، وطهَّرك، واصطفاك، ورفع منزلتك، ووعظك، وذكَّرك، وجعلك راعية ومسؤولة، وأرجو من الله –عز وجل- أن تكوني كذلك، فالأمل –والله- فيكن –أيتها المؤمنات المتعلمات- كبير، والمسئولية –والله- عليكن عظيمة وجسيمة. راعيات في المدارس، راعيات في البيوت، فلتكنَّ قدوات، قدوات في المظاهر، وقدوات في المخابر، قدوات في القول، وفي العمل، وفي كل أمورِكن؛ فإن النبي –صلى الله عليه وسلم- الذي رفع شأنكن بهذا الدين يقول: "وما من راعٍ استرعاه الله رعية فضيَّعهم، أو بات غاشًا لهم إلا حرَّم الله عليه رائحة الجنة ". منذ بزوغ فجر الرسالة –يا أيتها المسلمة- والمرأة مُكرَّمة معزَّزة تقوم بدورها إلى جانب الرجل تؤازره، تشد من عزمه، تقوي همَّته، تناصره، تحفظه إن غاب، تسرُّهُ إذا حضر إليها، ثم تنال بعد ذلك نصيبها في شرف الدعوة إلى الله –عز وجل- . وتنال نصيبها من الإيذاء في سبيل الله. فها هي [سمية]، ما سمية؟! سمية أول شهيدة في الإسلام، وهاهو ابنها وزوجها يُعذَّبون، يُلبسون أذرع الحديد، ثم يُصهرون في الشمس، في رمضاء <مكة>، وما أدراكم ما تلك الرمضاء؟! ثم يمرُّ –صلى الله عليه وسلم- وهم يُعذَّبون بـ>الأبطح<، وهو في بداية دعوته لا يملك لنفسه شيئًا بل لا يملك ما يدفع به عنهم وعنها، فيقول: "اصبروا آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة" وذات يوم بالعشي يأتي [أبو جهل] إلى [سمية]، فيسبها، ويشتمها، ويتكلم بكل كلمة وَقِحَة ومهينة، وهي ثابتة بإيمانها، راسخة بيقينها، لا تلتفت إلى وقاحته، ولا تنظر إلى سفالته، وإنما رنت عينها مباشرة إلى جِنَانٍ ذاكية، وإلى منازل ذاكية، في دار النعيم والرِّضوان والتكريم، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها، نظرت إلى هناك ولم ترد عليه ليتقدم -أخزاه الله- إلى تلك(26/5)
العجوز الضعيفة الكبيرة فيطعنها بالحربة في موطن عِفَّتِها، لم يرحم ضعفها ولا عَجْزَهَا لتسقط؛ فتكون أول شهيدة في الإسلام، ثم يموت زوجها بعد ذلك بالعذاب فيحتسبها، ثم يحتسبه أبناء هذا الرجل، ويشاء الله أن يعيش ابنها [عمار] حتى يرى قاتل أمه يوم >بدر < مجدلاً على الأرض، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول له: " قتل الله قاتل أمك يا عمار، قتل الله قاتل أمك يا عمار".
أخواتي المؤمنات؛ ونَعِمَت المرأة في ظل الإسلام قرونًا، ولا زالت تنعم بذلك حتى جاءت جاهلية هذا القرن والذي قبله، فوأدت المرأة وأدًا معنويًا، أمثل خطرًا من وأد الجاهلية. فإن الموءودة في الجنة كما أخبر بذلك النبي –صلى الله عليه وسلم-.
أما موءودة هذا القرن فهي التي وأدت نفسها، وباعت عفَّتها، وأهدرت حياءها، لا تجد الجنة، ولا تجد ريحها، كاسية عارية، مائلة مُمِيلة، لا تجد عرف الجنة، وإن ريح الجنة ليوجد من مسافة كذا وكذا، أصغت بأذنها إلى الدعاة على أبواب جهنم، فقذفوها في جهنم، فشقيت وخسرت دنياها وأخراها، فهي تعض أصابع الندم هنا ويوم القيامة، نسأل الله –عز وجل- أن يتجاوز عنَّا، وعن العاصيات من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-. يا أمَةَ الله تجيء جاهلية هذا القرن في صور متعددة؛ في صورة المشفق عليك، الضاحك ظاهرًا، وهو يريد قتلك باطنًا.
إذا رأيت نِيُوبَ اللَّيثِ بارزةً *** فلا تظنِّين أنَّ اللَّيث يبتسمُ
جاءت هذه الجاهلية في صورة المشفق عن طريق مجلة، أو عن طريق صفحة جريدة، أو أغنية فاجرة، أو مسلسلة، أو تمثيلية، أو جهاز استقبال، يريدون منكِ أن تكوني عاهرة، سافرة، فاجرة، يريدون أن تكوني بهيمة في مِسْلاخِ بشر. حاشاك يا ابنة الإسلام، ويا حفيدة [سمية] و[أسماء].(26/6)
اسمعي لقائلهم سمع الكبار يوم يقول وهو أحد الكفار الذي يتربص بك وبأخواتك وبالمؤمنين الدوائر يقول: لا تستقيم حالة الشرق الإسلامي لنا حتى يُرفع الحجاب عن وجه المرأة، ويُغطَّى به القرآن، وحتى تؤتى الفواحش والمنكرات. وخاب وخَسِر.
ويقول الآخر: مزِّقيه مزِّقيه بلا ريث، فقد كان حارسًا كذابًا -يخاطب بذلك الحجاب-.
ويقول الآخر: إلى متى تحملين هذه الخيمة؟.
ويقول آخر: ينبغي أن تبحثي عن قائد يقودك إلى المدرسة والكليَّة .
ويقول آخر: لابد أن نجعل المرأة رسولاً لمبادئنا، ونخلِّصها من قيود الدين. خاب وخسر.
ويقول الآخر: إن الحجاب خاص بزوجات رسول الله –صلى الله عليه وسلم- .
فأين تنطلي مثل هذه الأمور؟ وأين هذا من القرآن؟ إنه لم يعرف القرآن، ولو عرف القرآن لقرأ قول الله في القرآن: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ)
ويقول أحدهم -وهو [قاسم أمين]، من الذين تأثروا بالغرب- يقول: إن الحجاب ضرر على المرأة؛ فهو معرقل لحياتها اليومية يضرب بالآيات عرض الحائط، ويحكِّم عقله، وينظر إلى الغرب الهائم. فعامله الله –عز وجل- بما يستحق.
وآخر يقول: كأس وغانية تفعلان في الأمة المحمدية مالا يفعله ألف مدفع؛ فأغرقوهم في الشهوات والملذَّات.
كيف جاءت هذه الأمور؟ إنها لم تأتنا إلا من أعداء الإسلام، على طريقة من؟! على طريقة الذين رُبُّوا على أفكار أولئك.(26/7)
يخرج [سعد زغلول] منفيًا مُرتبًا له من مصر إلى بريطانيا أيام الاحتلال، ليعود من هناك وهو بطل وزعيم وطني قومي، وقد رُتِّب له الأمر، فإذا بسرادق النساء في استقباله، وإذا بزوجته [صفية زغلول] –انتسبت إليه، ولا تنسب إلى أبيها على طريقة الغربيات الكابرات- تأتي معه على ظهر الباخرة، وتصل إلى هناك، ولمَّا وصلت إلى هناك، وجاءوا لاستقباله إذا الأمر مرتب، ينزل وينطلق مباشرة إلى سرادق النساء، إلى سرادق الحريم المحجبات فتقوم [هدى شعراوي] –عاملها الله بما يستحق- تقوم إليه محجبة، فينطلق إليها ليمد يده –وقد مدَّ اليهودي قبل ذلك يده فدفع ثمن ذلك نفسه- يمد يده إلى حجابها ويرفع ذلك، وهي تضحك وتصفِّق، ويضحك ويصفِّق، ثم يصفِّق النساء لِيُعْلِنَّ الرَّذيلة من ذلك اليوم، وليبدأنَ في تقليد الكافرات، هذا هو عمله، فماذا فعلت؟ التي قامت بالدور بعد ذلك [هدى] و[صفيَّة] ، انطلقا في مظاهرة ظاهرها وهدفها مناوأة الاحتلال الإنجليزي، وانطلقا إلى ميدان الإسماعيلية، ليقفا في ذلك الميدان محجبات سود كالغربان، كما أمر النبي –صلى الله عليه وسلم- ولكن لحاجة في نفسهن، رمين الحجاب ودُسْنَهُ بالأقدام، ثم أحرقْنَه في تلك الساحات، ليُعلنَّ التمرد على القيم والأخلاق الإسلامية، فماذا كان بعد ذلك؟! حصل في <مصر> ما حصل ، حصل فيها أن بدأ التغريب هناك على يد هؤلاء، وبين أيادي المؤمنات، وعلى مرأى المسلمين والمسلمات.(26/8)
ماذا حصل؟! انطلقوا مباشرة، فإذا بالرجل ينطلق إلى جنب المرأة مباشرة، وإذا به يعمل معها، وإذا بها يخالطها في المدرسة تلميذًا ومعلِّمًا فيما بعد، وإذا بالأمور تنفرط، ليس هناك فتدب العدوى إلى بلاد عربية ، حتى يكاد لا يَسْلَم من ذلك بلد إلا من رحم الله، وقليل ما هم. وإذا بنا نئن ونشكو من اختلاط ، من رذيلة توأد، ومن طهر وعفاف يوأد، وإذا الفساد ينتشر، وإذا الداعية يطيح هنا وهناك، فإذا الآذان صُمَّت، واتجهت تقلِّد الغرب حتى في لباسها، قامت تقلدهم في الموضة والأزياء. جاءت هذه الصرعات فاستنفذت البيوت واستنفذت ميزانيات الأسر. حتى إنك لترى التي بلغت الخامسة عشر لا زال لباسها من فوق ركبتها، وتقول: لازلت صغيرة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.(26/9)
وما –والله- ذكرت من هؤلاء سواءً [هدى] أو [قاسم] أو [زغلول] أو غيرهم من الدعاة هنا وهناك إلا نماذج للدعاة على أبواب جهنم الذين ألقوا بحجابهم، وداسوه بالأقدام إنما يتَحَدَّوْن مشاعر المسلمين، والذين يكتبون لتحرير المرأة، والذين وقفوا بذلك الميدان وسموه ميدان التحرير إنما هو التحرر من الفضيلة والخُلُق والطُّهر ولاشك، يكتبون، والله يكتب ما يُبيِّتون هم وأذنابهم إلى يوم يبعثون. (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُم أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُم آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ أُولَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ) (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ التِي فِي الصُّدُورِ). أختي المؤمنة؛ هل لهؤلاء ومن على أدرابهم من الكُتَّاب والراقصات والعاهرات أهلٌ لأن يَكُنَّ قدوة للصالحات المؤمنات القانتات الصابرات الخاشعات ؟ نعوذ بالله من الانتكاس ، ونسأل الله الثبات حتى الممات . أنت الطهر ، وأنت الفضيلة ، وأنت السُّمُوُّ ، والطهر لا يقتدي بالرِّجس والمهين ، والفضيلة لا تقتدي بالرذيلة ، والسمو لا يقتدي بالسُّفْل . خابوا وخسروا وتعسوا وانتكسوا .
أغيظيهم وقولي بلسان حالك ومقالك:
دعهم يعضوا على صُمِّ الحَصَى كمدًا *** من مات من غيظه منهم له كفن
إن آمالنا في المسلمة المتعلِّمة والمعلِّمة أن تكون أقوى من التحدِّيات، آمالنا في المسلمة في كل مكان وآمالنا في المسلمة في هذه الجزيرة أن تكون أقوى من التحديات، تعتز بدينها، تتمسك بعقيدتها ومبادئها وأخلاقها، بل وتدعو إليها؛ فذلك من دينها.(26/10)
هاهو رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يخبر ليلة الإسراء أنه كما قال: "فلما كانت الليلة التي أُسْرِيَ بي أتت علىَّ رائحة طيِّبة ، فقلت: ما هذا الرائحة الطيبة يا جبريل؟ قال: هذه رائحة ماشطة بنت فرعون وأولادها" أتدرون ما خبر هذه المرأة؟ وما خبر هذه الماشطة؟ اسمعنَ إليها؛ فلعل فيها ما يثبِّت المرأة أمام شهواتها، وأمام رغباتها، والترغيب والترهيب عمومًا. هذه كانت تمشط بنت فرعون، ذات يوم من الأيام، وبينما هي تمشِّط بنت فرعون –وهو الذي يقول: أنا ربكم الأعلى- وإذا بالمِدْرَى يسقط من يديها، -المشط أو المِفْرَق التي تفرق به الشعر يسقط من يديها-، ويوم سقط من يديها قالت: باسم الله –وقد كانت تخفي إيمانها قبل ذلك- فقالت بنت فرعون: أبي؟ قالت: باسم الله ربي، ورب أبيك، وربك رب العالمين جميعًا، فقالت: إذاً أخبره بذلك، قالت: افعلي، فذهبت وأخبرت أباها، فجاء في تكبُّره وتجبُّره، ووقف عندها، وقال: أو إنَّ لك ربًا غيري؟ أو إن لك ربًا غيري؟! قالت: ربي وربك ورب الجميع رب العالمين سبحانه وبحمده، فاغتاظ، وقال: أما أنت بمنتهية؟ قالت: لا، فقال: إذًا أعذب أو أقتل، قالت: (اقْضِ مَا أَنتَ قَاض إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاة الدُّنْيَا) فانطلق يعذِّبها، أوتد يديْها ورجليْها، وصنف عليها أنواع العذاب، فكانت تمزج حلاوة إيمانها بمرارة العذاب، فتطفو حلاوة الإيمان على مرارة العذاب، فتشتاق وتقول: إنما هي ساعات، وإلى جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر. يرسل عليها العقارب لتلسعها علَّه أن يصل إلى قلبها، ثم يقول: أما أنت بمنتهية؟ فتقول: ربي وربك الله رب العالمين، فيعود ليرسل عليها الحيَّات لتنهشها، ثم يقول: أما أنت بمنتهية؟ فتقول: ربي وربك الله رب العالمين، ينوِّع عليها العذاب، ويصنف عليها ذلك، وهي راسخة بإيمانها وعقيدتها، قد علمت إنما هي سويعات، ثم تعود إلى الله –عز وجل- فماذا حصل؟ قال: إذاً أقتلك وأحرقك(26/11)
بالنَّار، قالت: (فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) فأمر ببقرة من نحاس، قيل أنه قدِر على صورة بقرة، وقيل: إنها بقرة أُذِيبت، ثم جيء بها وبأولادها ليقفوا على طرف هذه النار، يقف على طرف هذه النار، ثم يأخذ واحدًا من أولادها، وقبل أن يأخذه قالت: لي إليك حاجة، قال: وما هي؟ قالت: أن تجمع عظامي مع عظام أولادي، ثم تدفننا في ثوب واحد، قال: ذلك لك علينا من الحق ، ثم رمى الولد الأول فوقفت ، فوقف أخوه الثاني وقال: اصبري يا أماه، فإن لك عند الله كذا وكذا إن صبرت، ثم رمى بالثاني، فقال الثالث: اصبري يا أماه؛ فإن لك عند الله كذا وكذا إن صبرت. ويرمي بهم واحداً بعد الآخر، وهي تقول: ربي وربك الله رب العالمين. لم يبقَ سوى طفل على ثديها رضيع لم ينطق بعد في شهوره الأولى، فما كان منها إلا أن ترددت أن تلقي بنفسها مع أولادها من أجل هذا الرضيع، ويشاء الله، فيطلق الثدي وينطقه الله الذي تعبده؛ ربها ورب كل شيء، فيقول: يا أماه اقتحمي؛ لَعذابُ الدنيا أهونُ من عذاب الآخرة، فتقتحم مع طفلها لتلقى الله- عز وجل-، راسخة ثابتة بإيمانها؛ فعليها رحمة الله ورضوانه. لم يقف الأمر عند ذلك، بل كانت [آسيا بنت مزاحم] زوج فرعون، والتي ربت [موسى] –صلوات الله وسلامه عليه- والتي قالت: (قُرَّتُ عَيْنٍ لي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) كانت تراقب الموقف وهي مؤمنة، ولم تعلن إيمانها بعد؛ خوفًا من أن يفتنها عن دينها، ولما رأت من الماشطة ما رأت، فقوي في قلبها إيمانها، وتعلقت بربها؛ رب العالمين. فجاء إليها ليخبرها متبجحًا وقد علمت ما حصل، فقال: فعلت بالماشطة كذا وكذا، فقالت: الويل لك، ما أجرأك على الله! الويل لك ما أجرأك على الله! الويل لك، ما أجرأك على الله! قال: لقد اعتراك جنون الماشطة، قالت: بل آمَنْتُ بالله ربي ورب الماشطة، وربك رب العالمين. آمنت(26/12)
بالله رب العالمين، فذهب إلى والدتها، وقال: لأذيقنَّها ما ذاقته الماشطة أو لترجع، فجاءت أمها –برحمتها وشفقتها عليها- تعرض عليها أن تتنازل عن دينها –وهي إنما تتنازل عن الجنة التي عرضها السماوات والأرض- فماذا كان منها؟ قالت: يا أماه أما أن أكفر بالله، فوالله لا أكفر بالله، عندها بدأ في التعذيب، أوتد يديْها ورجليها، وعرَّضها لأشعة الشمس، ووكَّلَ من يعذبها يصنف عليها أنواع العذاب ويقول: أما أنت بمنتهية؟ فتقول: لن أنتهي حتى ألقى الله –أو كما قالت- فيأتي بعد ذلك، ويقول: لأرمينك بكذا وكذا من الصخور – يهدِّد – قالت: لا أرجع عن ذلك أبدًا، فماذا يحصل بعد ذلك؟ كان الذين يعذبونها في حرارة الشمس ينصرفون عنها ويذهبون بعيدًا عنها؟ فإذا ذهبوا، نزلت الملائكة لتظلَّها بأجنحتها، ثم يرجع إليها ويعرض عليها مرة أخرى، فترفض فيرمي بالصخرة عليها لتلقى الله –عز وجل- ثابتة بإيمانها. هذا خبر من قبلنا من الأمم.(26/13)
فما خبر من بعد البعثة؟ إن الخبر ليستلزم أن نقف عند [خديجة] –رضي الله عنها- تلك المؤمنة صاحبة الثراء، وصاحبة الجاه، وصاحبة المال، التي تزوجت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وكانت أول مؤمنة به، وآزرته في محنته، وثبَّتته يوم خاف، ويوم عاصرت نزول القرآن من أول لحظاته، كانت أول مثبت للنبي –صلى الله عليه وسلم-، وهي التي جاء النبي –صلى الله عليه وسلم- منها الولد، وكان يذكر ذلك لها بعد موتها، رضي الله عنها، وصلى الله عليه وسلم. جاء إليها يومًا من الأيام، وهي تبكي بعد موت ابنها [القاسم]، فيقول: ما بك؟ قالت: دَرَّت لُبَينَة القاسم، فكان بودِّي لو عاش حتى يستكمل رضاعته، فقال –صلى الله عليه وسلم-: إن له في الجنة مرضعًا تستكمل له رضاعته، فهان عليها ما كان، ثم قامت معه حتى أنزل عليه الوحي، وجاء إليها يرتعش خائفًا مرتعدًا؛ لما رأى جبريل وهو يقول له: اقرأ، وهو يقول لها: زملوني ، دثِّروني، فيقول لها: والله يا خديجة لقد خشيت على نفسي، قالت: كلا والله لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتحمل الكلَّ، وتُقْرِى الضَّيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق. وقفت معه –صلى الله عليه وسلم- فقاسمته شدَّته ومحنته، وما تراجعت عن ذلك مع أنها صاحبة الجاه، وصاحبة السؤدد، وصاحبة المال، فزادت ذلك سؤددًا ومالاً وجاهًا يوم ارتقت لأن أفقد ولدي خير لي من أن أفقد حيائي وديني، إن الله خاطب رسوله فقال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ) ووالله ما أنا بخير منهن. فتخلقي بأخلاق أهل الإسلام، وارجعي إلى سِيَر هؤلاء الأعلام . وادعي إلى الله –عز وجل- فإنك مسؤولة عن علمك، ماذا عملت به أيتها المؤمنة فما عسى يكون الجواب؟ المرأة المسلمة على ثغرة عظيمة. فاللهَ اللهَ أن تؤتى البيوت من قِبَلِك. واللهَ اللهَ أن يؤتى الإسلام من قِبَلِك. واللهَ اللهَ أن(26/14)
يؤتى أبناء المسلمين من قبلك. هاهي مَثَل لك؛ لأن الخير يستمر في الأمة إلى قيام الساعة والأمثلة كثيرة في هذا العصر والذي قبله.
هاهي [بنان الطنطاوي]؛ ابنة الشيخ الوقور [على الطنطاوي] غفر الله لنا وله، وتجاوز عنا وعنه؛ زوجة [عصام العطار] علمت مسؤولية الزوجة في البيت، وآمنت بربها، ودعت بما تستطيع، وهيأت لذلك الداعية أن يدعو إلى الله –عز وجل-. انطلق يرد الناس من الضلالة إلى الهدى، ومن الغواية إلى الهدى والهداية، فأغاظ ذلك المنافقين، والذين يَشْرَقُونَ بالنور، والذين ما يعيشون إلا في الظلام، فما كان منهم إلا أن سجنوه في سجن من السجون، فأرسلت إليه رسالة، فما فحوى هذه الرسالة يا أيتها الداعية، يا أيتها المعلِّمة، يا أيتها المتعلِّمة؟ اسمعي إلى هذه الرسالة ماذا تقول لزوجها وهو في سجنه؟ تقول له: لا تحزن ولا تفكِّر فيَّ، ولا في أهلك، ولا في مالك، ولا في ولدك، ولكن فكِّر في دينك وواجبك ودعوتك؛ فإننا –والله- لا نطلب منك شيئًا يخصُّنا، وإنما نطلبك في الموقف السليم الكريم الذي يبيِّض وجهك، ويرضي ربك الكريم، يوم تقف بين يديْه حيثما كنت، وأينما كنت، أما نحن فالله معنا، ويكتب لنا الخير، وهو أعلم وأدرى سبحانه وأحكم.(26/15)
انظر إلى هذه الكلمات، كيف وقفت معه وهو بعيد عنها، وقفت معه لأنها تعلم أنها على ثغرة وأنَّ ثغرةً ذهبت فسدَّت تلك الثغرة، ثم يشاء الله أن يخرج من ذلك السجن ليُشرَّد في ديار الغرب، وما أُخرج وما نُقِم منه إلا أن قال: ربي الله، واعتز بدينه ومبادئه، شُرِّد في بلاد الغرب ، ويبتليه الله –عز وجل- هناك أيضًا ليرفع درجته بإذن الله –عز وجل- ، ويوم ابتلاه الله –عز وجل- هناك بكونه يعيش بين الكفار، وكونه مشردًا عن أهله وغيرهم، يُبتلى بالشلل، يُشلُّ في ديار الغرب، لا أهل، ولا صاحب، ولا صديق، لكن له الله الذي أُخْرِج من أجله، وله الله الذي سُجِنَ من أجله، وله الله الذي دعا من أجله. فماذا فعلت هذه الزوجة؟ بعيدة عنه، بعيدة بجسمها لكن قلبها معه، وروحها معه، هدفها وهدفه واحد؛ وهو نشر دين الله، ولقاء الله، والتعامل مع الله –عز وجل-.(26/16)
كتبت إليه رسالة هناك وقالت: لا تحزن يا [عصام]، ولا تأس، يرفع الله من يبتليه، إن عجزت عن السير سرت بأقدامنا، وإن عجزت عن الكتابة كتبت بأيدينا، والله معك، الله الله معك ولن يَتِرَك، ولن يضيع لك ما أنت فيه. ثم تنطلق بعد ذلك لتلحق به في ديار الغرب إلى هناك، لا لتجلس بجانبه تندب حظَّها، ولا لتجلس بجانبه وتقول: جَنَت الدعوة عليه، لا ، وإنما لتجلس بجانبه هناك، لتأخذ أفكاره، وتأخذ علمه، فيكتب هو بيدها، ويسير بقدمها، فتنشئ مركزًا إسلاميًا في ديار الكفر، فلا إله إلا الله . كم من تائبة تابت على يديها هناك، وكم من ضالة كافرةٍ لا تعرف شيئًا إلا الحياة البهيمية ردها الله على يد [بنان الطنطاوي]، هناك مع زوجها تستشيره ليعطيها المعلومات، فتنطلق ويأبى أولئك الذين يَشْرَقُون بهذا الدين أن يروا للخير قولة أو جولة، ويأتي ثلاثة رجال يبحثون عن ذلك المشلول في تلك البلاد، وما وجدوه إلا أن دلُّوا على شقته، فجاءوا فاقتحموها، وتقدموا على هذه الداعية المسكينة -امرأة في بيت غربة، وبعيدة، لكن معها الله الذي قدمت نفسها له- فإذا بها يُطلق عليها خمس رصاصات؛ في العنق، وفي الكتف، وفي الإبط، لتسقط مُدْرَجة بدمائها. أسأل الله أن يجعلها من أهل الفردوس الأعلى. أسأل الله أن يكتب لها ولمن بعدها من أهلها النعيم المقيم السرمدي الأبدي الذي لا يزول. وأسأل الله أن يوقظ في بنات المسلمين ومعلمات ومتعلمات المسلمين نماذج مثل تلك النماذج، وأَعْظَمَ من تلك النماذج.(26/17)
إن الأمة تنتظر منك الكثير والكثير. اعلمي أخيرًا أن طريق الجنة صعب، وأنه محفوف بالمكاره، لكن آخره السعادة الدائمة؛ أخبر بذلك من؟ أخبر به النبي –صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه [مسلم] يوم يقول: "إن الله –عز وجل- لما خلق الجنة قال لجبريل: اذهب فانظر ما أعددت لعبادي الصالحين فيها، فذهب؛ فإذا فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فرجع إلى ربه، وقال: يا رب وعزتك وجلالك لا يسمع بها أحد إلا دخلها ،" لِما فيها من النعيم، ثم حفَّها الله بالمكاره، بما تكره النفس من التكاليف؛ من الأوامر ، من النواهي ، من الضوابط الشرعية التي يتنقل الإنسان بينها وفيها، حفَّها بهذا كله. ثم قال: ارجع فانظر إليها، فنظر إليها، فإذا هي حفَّت بكل ما تكرهه النفس، فماذا قال؟ رجع إلى ربه، وقال: وعزتك وجلالك قد خشيت ألا يدخلها أحد. النفس يا أيها الأحبة ، والله لا يدخلها إلا من زكىَّ نفسه . اسمعوا إلى الله وهو يقسم، يٌقسم مرات بعد مرات، يقسم بالضحى، وله أن يقسم بما شاء (وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) ثم يقول هناك: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا وَالأرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) ثم الجواب يأتيك بعد هذه الأقسام المتعددة المغلظة العظيمة من الرب العظيم يقول: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) فوالله لن يفلح إلا من زكَّى نفسه بالإيمان بالله، والدعوة إلى الله -عز وجل-. وطريق النار سهل، ولكنه محفوف بالشهوات ، وآخره الشقاء الأبدي السرمدي الذي لا يزول. "لمَّا خلق الله النار -في نفس الحديث السابق- قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب إليها، فإذا هي سوداء مظلمة، يحطم بعضها بعضًا، ترمي بشرر كالقصر، كأنه جِمَالت صُفْر، فرجع إلى ربه وقال: وعزتك(26/18)
وجلالك ما يسمع بها أحد فيدخلها، ثم حفَّها الله بالشهوات، وبكل ما تشتهيه النفس، وبكل ما ترتاح له النفس، وبكل ما تهواه النفس، ثم قال: ارجع فانظر إليها، فرجع فنظر إليها، فإذا هي قد حفت بكل ما تشتهيه النفس، فرجع إلى ربه وقال: لقد خشيت ألا يبقى أحد إلا دخلها". إن التعامل مع الله عظيم، وإن المتعامل مع الله لا يخيبه الله رجلاً كان أو امرأة، فيا أيتها المؤمنة انوِالخير، واعملي الخير، فوالله لن تزالي بخير ما نويت الخير، وما عملت الخير.
اسمعي لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من همَّ بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، ومن همَّ بحسنة فعملها كتبت له عشر حسنات، ومن همَّ بسيئة ولم يعملها كتبت له حسنة، وإن عملها كتبت له سيئة واحدة". فضلا من الله ومِنَّة.(26/19)
فيا ويل ويا ويل ويا ثبور من غلبت آحاده عشراته. حسنة واحدة، أو سيئة واحدة تغلب عشرات الحسنات. يا ويل من كان حاله على ذلك. فانتبهن وتقربن إلى الله -عز وجل- بما يرضى الله. تقربن إليه بالفرائض؛ فإن أحب ما يتقرب به إلى الله الفرائض، ثم تقربن بالنوافل؛ فإنه لا تزال المرأة تتقرب، والرجل يتقرب بالنوافل حتى يحبه الله، "فإذا أحببته -كما قال-: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه". فالهِمَّة الهمة؛ فإنها طريق إلى القمة. أسرعي ولا تنظري إلى الخلف، لا تنظري إلى أي عائق، واعلمي أن شبرًا بذراع، وأن ذراعًا بباع، وأن مشيًا بهرولة. فضلا من الله ومِنَّة. اصبري، وجِدِّي، ولا تسأمي، ولا تملي بالنصح، بالدعوة، بالقيام، بما أوجب الله عليكِ، فلا تنظري إلى لوم لائم، ولا إلى عتاب عاتب، ولا إلى هوى نفس أو شيطان. وإذا اجتمعت عليكِ هذه كلها، فانظري إلى منازل زاكية في جنان ورضوان. أدنى أهل الجنة فيها من يأتي بعد ما دخل أهل الجنة، فيقول الله له: ادخل الجنة، فيقول: يا رب وقد أخذ الناس منازلهم وسكنوا مساكنهم - يخيَّل إليه أنها ملأى- فيقول الله: ألا ترضى أن يكون لك مثل مَلِك من ملوك الدنيا؟ قال: بلى رضيت يا رب، قال: فإن لك مثله ومثله ومثله ومثله، وفي الخامسة يقول: رضيت يا رب رضيت. فيقول: ولك عشرة أمثاله، وما اشتهت نفسك، ولذَّت عينك وأنت فيها.
قولي خيرًا، وادعي خيرًا، وتكلمي خيرًا أو اصمتي؛ فكم كلمة جرى بها اللسان هلك بها الإنسان، وإن المرء ليقول الكلمة من سخط الله يكتب الله –عز وجل- لها بها سخطه إلى أن يلقاه.(26/20)
أخيرًا. توبي إلى الله، واستغفري الله؛ فإن الشيطان قد قطع علي نفسه عهدًا، فقال: وعزتك وجلالك لأغوينهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، والله يقطع العهد على نفسه –ورغمت أنف إبليس- وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني.
فاللهم إنا نستغفرك، إنك كنت غفارًا، أرسل السماء علينا مدرارًا، وأقرَّ أعيننا بصلاح المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العلا أن تجعلنا من الصالحين، وأولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وأن تجعلنا ممن باع نفسه لله، فجعل همَّه الله والدار الآخرة.
أسأل الله أن يرينا من بنات المسلمين، وأمهات المسلمين، وأخوات المسلمين ما تقَرُّ به الأعين، صالحات، قانتات، تائبات، عابدات. أسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، من كان سببًا في هذا الاجتماع، ومن ساهم فيه بأي مساهمة صَغُرَت أو كَبُرَت أن تجعل له ذلك في ميزان الحسنات عظيمًا عظيمًا؛ فأنت أهل التقوى، وأهل المغفرة. وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين .(26/21)
نظرات في غزوة تبوك
لفضيلة الشيخ / علي عبد الخالق القرني
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمد لله ، نحمده و نستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يَهْدِه الله فلا مُضلَّ له ، و من يُضلل فلا هادي له ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، له الملك و له الحمد ، و هو على كل شيء قدير ، و أشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله ، أرسله الله رحمةً للعالمين ، فشرَح به الصدور ، وأنار به العقول ، وفتح به أَعْيُنًا عُمْيًا وآذانًا صُمًا وقلوبًا غلفًا ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان و سلم تسليمًا كثيرًا . ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ ) ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) أما بعد ،(27/1)
عباد الله : أوصيكم و نفسي بتقوى الله ، و أن نقدم لأنفسنا أعمالاً تُبَيِّض وجوهنا يوم نلقى الله ، ( يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَ لاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) ثم اعلموا علم يقين أن حكمة الله اقتضت أن يكون الحق و الباطل في خلاف دائم ، و صراع مستمر ، إلى أن يرث الله الأرض و من عليها ، كل ذلك ليميز الله الخبيث من الطيِّب ، فمنذ بَزَغَ نجم هذا الدين و أعداؤه من يهودٍ و نصارى و مشركين يحاولون القضاء عليه بكل ما يستطيعون ، ( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) حاول أعداء هذا الدين القضاء عليه في عهد النبي- صلى الله عليه وسلم ـ فما أفلحوا ، وحاولوا في عهد الخلفاء الراشدين- رضي الله عنهم- فما أفلحوا ، ثم في العصور المُتَأَخرة إلى وقتنا هذا و هم يحاولون دائبين ؛ بالعنف و الصراع المُسلح تارة ، و بالمكر والخداع و الخطط و المؤامرات تارة أخرى ، ولسنا مجازفين –والله- عندما نقول ذلك ؛ فالله يقول : ( وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُوا ) والله جل وعلا يقول : ( وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) هذه شهادة الله على أعدائنا بما يريدونه منا ، و أَيُ شهادة أعظم من شهادة الله و أصدق . والتاريخ في ماضيه و حاضره يشهد بذلك ، لكن أنَّى لهم أن يفلحوا ما تمسَّكنا بكتابنا وسُنَّةِ نبيِّنا محمد- صلى الله عليه وسلم- .
كلُّ العِدَا قَدْ جَنَّدوا طَاقَاتِهِم *** ضِدَّ الهُدَى والنُّورِ ضِدَّ الرِّفْعَةِ
إِسلامُنا هَُو دِرْعُنَا وَسَِلاحُنَا *** و منارنا عَبْرَ الدُّجَى فِي الظُّلْمَةِ
هَُو بِالعَقِيدةِ رَافِعٌ أَعْلامَهُ *** فَامْشِي بِظِلِّ لِوَائهَا يَا أُمَّتِي(27/2)
لا الغَْربُ يَقصِد عِزَّنَا-كَلا- وَ لا *** شَرْقُ التَحَلُّلِ ، إنَّهُ كَالحَيَّةِ
الكُلُّ يَقْصدُ ذُلَّنَا و هَوَانَنَا *** أَفَغَيْرُ رَبِّي مُنْقِذٌ مِنْ شِدَّةِ ؟
عبادَ الله : يوم يُقلِّب المرء صفحات الماضي المجيد ، ويتدبر القرآن الكريم ، ثم ينظر لواقعنا ، ويقارنه بماضينا يتحسر ، يتحسر يوم يَجِد البَوْن شاسعًا و الفرق عظيمًا ، يتحسر يوم يرى تلك الأمة و قد كانت قائدة و إذا بها قد أصبحت تابعة ، ثم يدرك أن السبب هو بُعدنا عمَّا كان عليه أسلافنا ، ويتساءل المرء متى ينزاح هذا السواد الحالِك من الذل و المسكنة متى يَنْبَرِي للأَمَّة أمثال خالد و [صلاح] و [القعقاع] ؟ ، متى تُحيَا في القلوب آل عِمران و الأنفالُ و بَرَاءة ؟ ( قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا )
و إنَّا لنرجُو اللهَ حتَّى كأنَّما *** نَرَى بِجَمِيلِ الظَّنِّ مَا اللهُ صَانِعُ
عَودًا والعَود أحمد ، عَودًا سريعًا إلى الماضي المجيد لنستلهِم منه الدروس والعبر في هذا الحاضر العاثر ، عَودًا لسيرة من لم يطْرِق العالم دعوة كدعوته ، ولم يُؤَرِّخ التاريخ عن مُصلِح أعظم منه ، ولم تسمع أُذن عن داعية أكرم منه
رُوحِي الفِدَاءُ لِمَنْ أَخْلاقُهُ شَهِدَتْ *** بِأَنَّهُ خَيْرُ مَبْعُوثٍ مِنَ البَشَرِ
عَمَّتْ فَضَائِلُهُ كُلَّ البِلادِ كَمَا *** عَمَّ البَرِيَّةَ ضوء الشَّمسِ وَ القَمَرِ
صلوات الله وسلامه عليه ، ما هَطَلَتْ الغمائم بتهتان المطر ، وما هَدَلَتْ الحمائم على أفنان الشجر ، العَيْش في سيرته عَيْشٌ رَغِيد سعيد ؛ هِداية و نور و حضور و بِشْر و سرور، ما أحرانا و نحن في هذه الأيام العَصِيبة أن نخترق أربعة عشر قرنًا ؛ لنعيش يومًا من أيام محمد –صلى الله عليه وسلم- ، بل ساعة من سُوَيْعاته الثمينة ، لنأخذ العِبرة و الدروس من تلك الساعة في هذه الساعة :(27/3)
اقرءوا التَّارِيخَ إِذْ فيه العِبَرْ *** ضَلَّ قَوْمٌ لَيْسَ يَدْرُونَ الخَبَرْ
عَوْدًا بكم إلى السنة التاسعة للهجرة ، والعود أحمد ؛ لنعيش معكم أحداث غزوة العسرة التي تساقط فيها المنافقون ، وثبت فيها المؤمنون ، وذَلَّ فيها الكافرون ، ما السبب وما الأحداث ؟ ما آيات النبوة فيها ؟ ما الدروس المستفادة ؟ إليكموها ، فاسمعوها وعُوها واعتبروا بما فيها ، واسألوا التاريخ عنا كيف كنا ؟ نحن أسسنا بناءً أحمديًا .
بلغ النبي- صلى الله عليه وسلم- أن الروم تتجمع لحربه ولتهديد الدولة الإسلامية في ذلك الوقت ، يريدون مبادرته بالحرب قبل أن يبادرهم ؛ لكونه قد أذاقهم مرارة غزوة <مؤتة> التي جلبوا لها مائتيْ ألف ، ولم يتمكنوا من إبادة ثلاثة آلاف مقاتل ؛ بل ولا هزيمتهم ، فيا للَّه !!
كنا جبالا في الجبال و ربما *** صرنا على موج البحار بحارا(27/4)
عند ذلك أعلن النبي- صلى الله عليه وسلم- ولأول مرة عن مقصده ، وأعلن التعبئة العامة فتجهز أقوام و أبطأ آخرون ، تجهز ثلاثون ألف مقاتل قد باعوا أنفسهم من الله ، وأعلنوا نصرة لا إله إلا الله . تساقط المنافقون ، ومن يرد الله فتنته فلن تجد له سبيلا . هاهو أحد المنافقين يقول المصطفى- صلى الله عليه وسلم- له : هل لك في جلاد بني الأصفر يعني الروم فيقول : يا رسول الله ائذن لي ولا تفتني ؛ فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل أشد عجبًا بالنساء منِّي ، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر . فَرَّ من الموت وفي الموت وقع ، أعرض عنه- صلى الله عليه وسلم- وعذَره ، لكن الذي يعلم خائنة الأعين ، و الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فَضَحَهُ –وأذلَّه- وأنزل فيه قرآنًا يُتلى . ( وَ مِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لي وَ لاَ تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) و يتخلف أناس آخرون عن الخروج ، لا رغبةً بأنفسهم عن نفس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، لكن غلبتهم نفوسهم لصعوبة الظرف واشتداد الحرب . قد آن أوان الرطب وظلال الأشجار ، فاعتذروا بعد عودة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- و قَبِل عُذْرَهم ، وتاب الله عليهم وأرجأ توبة ثلاثة منهم امتحانًا لهم فَمُحِصُوا حتى ( ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَ ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَ ظَنُّوا أَلاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّه تَّوَّابُ رَّحِيمُ ) يأتي سبعة رجال مؤمنون صادقون ، لكنهم فقراء لم يجدوا زادًا ولا راحلة ، و عز عليهم التخلف ، نياتهم صادقة لكن ليس هناك عدة ، فأتَوْا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقولون : يا رسول الله لا زاد ولا راحلة ، ويبحث لهم- صلى الله عليه وسلم- عن زاد و راحلة فلا يجد ما يحملهم عليه فيرجعوا . ( وَ(27/5)
أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ) بالله ظلّ السيف للمسلم مثل ظل حديقة خضراء ، تنبت حولها الأزهار ، وتدنو ثمار المدينة ويشتد الحر ، ويبتلي الله من يشاء من عباده ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ) و يخرج- صلى الله عليه وسلم- و يستخلف على أهل بيته عليًا - رضي الله عنه- ويخيم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في <ثنية الوداع> و معه ثلاثون ألفًا ، و يأتي المنافقون الذين لا يتركون دسائسهم و إرجافهم على مر الأيام ، يلاحقون أهل الخير والاستقامة ، يلمزون و يهمزون و يتندرون و يسخرون ، سخر الله منهم ، و يستهزئون ، و الله يستهزئ بهم ، يأتون إلى عليٍّ- رضي الله عنه- ويقولون : ما خلفك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا استثقالا لك ؟ يريد التخفف منك ، و عليٌّ بَشَرٌ تأثَّر لذلك ، ولبس دِرعه ، وشَهَرَ سيفه يريد الجهاد في سبيل الله ، ويلحق برسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويعتنق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويقول : يا رسول الله زَعَم الناس أنك استثقلتني فخلفتني في النساء والصبيان فتهراق دموعه- صلى الله عليه وسلم- ويقول : " كذبوا يا عليُّ فاخلفني في أهلك وأهلي ، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟! إلا أنه لا نبي بعدي" . فيقول بلسان الحال: بلى رضيت ، بلى رضيت ، وعاد عليُّ -رضي الله عنه-.
يَدعُو جَهارًا: لا إلهَ سِوى الذِي *** خَلَقَ الوُجُودَ وقَدَّرَ الأقْدَارَا .(27/6)
و قبل مسير الحبيب محمد- صلى الله عليه وسلم- تقوم فرقة للصَدِّ عن سبيل الله ، تُثبِّط الناس بعد أن اجتمعوا في بيت أحدها ، تقول- و هي تزهد في الجهاد- : لا تنفروا في الحَرِّ ، تشكك في الحق وترجف برسول الحق ، ويتولى الحق -سبحانه- الرد : ( و َقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ) هم في مؤامرة الصَدِّ عن سبيل الله ، ويأمر- صلى الله عليه وسلم- بإحراق البيت عليهم ، ويُنَفِّذُ ذلك الأمر [طَلْحَةُ] - رضي الله عنه- فيقتحمون الأسوار خوفًا من نار الدنيا ، فتنكسر رِجل أحدهم ، و يفِرُّ الباقون ، و يَعِزُّ جُنْدَ الحق رغم أنوفهم ، و يخيب كل منافق خَوَّان . ويتوجَّه- صلى الله عليه وسلم- و يمر بديار <ثَمُود> ، و ما أدراكم ما تلك الديار ! ، ديار غضب الله على أهلها ، فتلك بيوتهم خاوية ، و آبارهم معطَّلة ، و أشجارهم مقطَّعة ، فيدخلها و قد غطَّى وجهه ، و هو يبكي ، و يقول لجيشه :" لا تدخلوها إلا باكين أو مُتباكين لئلا يصيبكم ما أصابهم".(27/7)
يا لله !! هذه أرض سكنها الظَلَمَة ، فقولوا لي -بالله فيمن يجالس الظَلَمَة ، و يؤيد الظَلَمَة ، و يركَن إلى الظَلَمَة ، و يكون لهم أنيسًا و لسانًا و صاحبًا- : كيف يكون حاله ؟ ألا يخاف أن يغضب الله عليه ؛ فيأخذه أخذ عزيز مقتدر ( وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) و يستسقي الناس من بئر في< ديار ثَمُود> فيقول -صلى الله عليه وسلم- : "لا تشربوا من مائها ، و لا تتوضئوا منه للصلاة ، وما عَجَنتم من عجين بمائها فاعْلِفوه الإبل ، و لا تأكلوا منه شيئًا " ففعلوا امتثالا لأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم – و مع الغروب يُعلن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنها سوف تَهُبُّ رياح شديدة ، فلا يخرج أحد من مُخَيَّمِه إلا مع صاحب له ، حتى تهدأ الريح ، و خالف أمره رَجُلان من المسلمين ، لضَعف في إيمانهم ، خرج أحدهم ليقضي حاجته فخَنَقَتْه الجِنُّ عند حاجته ، وخرج الآخر في طلب بَعِير له ، فاحْتَمَلته الريح حتى طرحته في< جبال طَيء> ، فدعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للذي أُصيب بخَنْق الجِنِّ ، فَشُفِي ، فكانت هذه آية من آيات نبوَّته- صلى الله عليه وسلم- وأمَّا الآخر ، فسُلِّم للنبي- صلى الله عليه وسلم- عند عودته إلى <المدينة> .(27/8)
لازال - صلى الله عليه وسلم- في طريقه إلى <تَبُوك> ، قد بلغ به الجوع والتعب والإرهاق مبلغًا عظيمًا ، لكن في سبيل الله يهون ، و مع السَّحَرِ ينام من التعب- صلى الله عليه وسلم- على دابَّتِه حتى يكاد يسقط- كما في صحيح مسلم- فيقترب منه [أبو قتادة] ، فيَدْعَمَه بيده حتى يعتدل ، ثم يميل مَيلةً أخرى، فيدعمه أبو قتادة حتى يعتدل، ثم يميل مَيلة أشَدَّ من المَيلتين الأُولَيين ، حتى كاد يسقط ، فيدعمه بيده ، فيرفع رأسه- صلى الله عليه وسلم- و يقول : من هذا ؟ قال : أنا أبو قتادة ، فيُكَافِئَه- صلى الله عليه وسلم ، فبمَّ كافأه ؟ قال : " حفظك الله بما حفظت نبي الله يا أبا قتادة" . يقول أهل العلم : فوالله مازال أبو قتادة محفوظًا بحفظ الله في أهله و ذريته ما أصابهم سوء حتى ماتوا ، وهذا درس عظيم ، فإن من حفظ الله حفظه الله فلا خوف عليه ، إن صنائع المعروف تقي مصارع السوء ، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان ، وينزل –صلى الله عليه وسلم- و المؤمنون منزلا ، يقول عمر : في ذلك المنزل و قد أصابنا عطش عظيم حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع ، حتى إن الرجل لينحر بعيره ، فيعتصر قرته فيشربه ، وتضل راحلة النبي- صلى الله عليه وسلم- و يخرج أصحابه يبحثون عنها ، فيقوم أحد المنافقين ، فيقول : إن محمدًا يزعم أنه نبي ويخبركم بخبر السماء و هو الآن لا يدري أين ناقته ، و يأتي جبريل رسول الله –صلَّى الله عليه وسلم- بالخبر ، و يقول : إنَّ رجلا منكم يقول : إنَّ محمدًا يزعم أنَّه نبي و يخبركم بأمر السماء و هو لا يدري أين ناقته ، وإني – والله - ما أعلم إلا ما علمني الله ، وقد دلني الله عليها . يقول لهم النبي – صلى الله عليه وسلم- : "هي في هذا الوادي في شعب كذا ، قد حبستها شجرة بزمامها ، فانْطَلِقُوا حتى تأتوني بها" فذهبوا فوجدوها كما ذكر- صلى الله عليه وسلم- وظهرت آية نبوته وفُضِحَ هذا المنافق وطُرِدَ عدو الله من جيش محمد -صلى الله(27/9)
عليه وسلم- ويمضي -صلى الله عليه وسلم- في مسيره إلى <تبوك> ، ويتخلف عنه بعض المسلمين ، فيقول الصحابة : فلان تخلف يا رسول الله ، فيقول :"دعوه إن يكن فيه خير فسَيُلْحِقَه الله بكم ، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم الله منه" ، ويتأخر [أبو ذر] ، بعيره هزيل ، أبطأ به بعيره ، فترك بعيره وأخذ متاعه وحمله على ظهره ، وينزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في بعض منازله على الطريق ، وينظر ناظر المسلمين ويقول : يا رسول الله : رجلٌ يمشي على الطريق وحده ، متاعه على ظهره ، فقال- صلى الله عليه وسلم- :" كن أبا ذر كن أبا ذر " فيتأمل الصحابة ، فيقولون هو والله أبو ذرٍ يا رسول الله ، فقال- صلى الله عليه وسلم- :" رحم الله أبا ذر ، يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده." ، وتمضي الأيام على هذه المقولة ، وتمضي الأعوام ، و يُنْفَى أبو ذرٍ إلى <الربدة> ، ويحضره الموت هناك ، وليس معه إلا امرأته وغلامه ، وقبل موته أوصاهما : أن يُكَفِّنَاه و يُغَسِّلاه ، و يضعاه على الطريق ، و أول ركب يمر بهم يقولوا : هذا أبو ذر صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأعينونا على دفنه. و يفعلان ذلك ، ويأتي [عبد الله بن مسعود] في رهط من أهل العراق ؛ ليعتمروا و ما راعهم إلا الجنازة على قارعة الطريق ، كادت الإبل أن تطأها ، عندها قام غلام أبي ذر و قال : هذا أبو ذر صاحب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأعينونا على دفنه ، فاندفع عبد الله بن مسعود باكيًا يقول : صدق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- " تمشي وحدك وتموت وحدك." ، ثم نزل هو وأصحابه فدفنوه ، ودموعهم تَهْراق على خدودهم .
وليس الذي يجري من العين ماؤها *** ولكنها روحٌ تسيل فتَقْطُرُ(27/10)
وينتهي المسير بمحمد- صلى الله عليه وسلم- إلى <تبوك> ، ويقيم بضع عشر ليلة حافلة بالأحداث المثيرة . روى [البيهقي] من حديث [يزيد بن هارون] أنَّه- صلى الله عليه وسلم- لما نام ليلة في <تبوك> ، أتاه جبريل -عليه السلام- وقال : يا رسول الله قم صَلِّ صلاة الغائب على [مُعاوية بن مُعاوية اللَّيْثِي] فقد تُوفِى بالمدينة ، من يا ترى [معاوية] ؟ عابد صالح يذكر الله قائمًا وقاعدًا وعلى جنبه ، وكأنَّه- صلى الله عليه وسلم- يتساءل لِمَ ؟ فأُخْبِر أنَّه كان يقرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) قائمًا وقاعدًا وعلى جنب ، بالليل والنهار ، وقد تُوفِى <بالمدينة> و صُلِّيَ عليه هناك، وشهد الصلاة عليه صفان من الملائكة ، في كل صف سبعون ألف ملك ، فلا إله إلا الله ، قام- صلى الله عليه وسلم- و صلَّى عليه – و كان قد سافر- صلى الله عليه و سلم- إلى <تبوك> و هو مريض فهنيئًا له دعاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- و صلاة الملائكة عليه.(27/11)
لازالت الأحداث المثيرة تتوالى في <تبوك> يقول [ابن مسعود] -رضى الله عنه-: "ونِمْنًا تلك الليلة وانتبهت وسط الليل ، فالتفت إلى فراش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم أجده ، إلى فراش أبي بكر فلم أجده ، إلى فراش عمر فلم أجده ، و إذ بنار وسط الليل تضيء آخر المعسكر ، فذهبت أتبعها ؛ فإذا برسول –الله صلى الله عليه وسلم- قد حفر قبرًا و معه أبو بكر وعمر. و عند رسول- الله صلى الله عليه وسلم- سراج بيده قد نزل إلى القبر قال : قلت يا رسول الله من الميت ؟ قال هذا أخوك [عبد الله ذو البجادين]. "من هو ؟ إنه أحد الصحابة حلت به سكرات الموت بالليل ، فقام- صلى الله عليه وسلم- و شهد موته و ودعه و دعا له و حفر قبره بيده الشريفة و أيقظ أبا بكر و عمر. يقول ابن مسعود :" فو الذي لا إله إلا هو- ما نسيت قوله – صلى الله عليه وسلم - و هو في القبر ، و قد مد ذراعيه لذي البجادين ، و هو يقول لأبي بكر و عمر:" أدنيا إليَ أخاكما فدلياه في القبر و دموعه –صلى الله عليه وسلم- تتساقط على الكفن. ثم وقف –صلى الله عليه وسلم- لما وضعه في القبر رافعا يديْه مستقبلا القبلة يقول: اللهم إني أمسيت عنه راضيًا فارض عنه ، اللهم إني أمسيت عنه راضيًا ، فارض عنه. يقول ابن مسعود : يا ليتني كنت صاحب الحفرة ، لأنال دعاءه –صلى الله عليه وسلم-". من هو [ذو البجادين] ؟ إنه صحابي جليل ، أسلم و كان تاجرًا ، فأخذ أهله و قومه ماله كله ؛ لأنه آمن وهم يريدون له الكفر ، أخذوا حتى لباسه ، فذهب فما وجد لباسًا غير شملة قطعها إزارًا و رداء – بجادين-، و فر بدينه يريد الله و الدار الآخرة . قدم على المصطفى-صلى الله عليه وسلم- ذو البجادين- ، وأُخبِرَ صلى الله عليه وسلم بخبره ،" فقال: تركت مالك لله ورسوله ، أبدلك الله ببجاديْك إزارًا ورداء في الجنة ، أنت ذو البجادين". فلُقِّب من تلك اللحظة بذي البجادين ، و كان مصرعه في <تبوك> ، و مضى الركب وخلفوه(27/12)
هناك ، لكنهم يجتمعون معه في جنة عرضها السماوات و الأرض. ( يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ ) و يقيم –صلى الله عليه وسلم- بـ<تبوك> و يدنو من الروم و يفزعهم ، و يكاتب رسلهم ، و يفرض عليهم الجزية ، و هم صاغرون ، و لم يلق كيدًا منهم ، لأن الله قد نصره بالرعب مسيرة شهر ، فلم يقرب إليه الروم خوفًا و فزعًا ، وقد كانوا قبل قد عزموا على غزوه في عقر داره. ( إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ) و يرسل –صلى الله عليه وسلم- [خالدًا] على رأس أربعمائة مجاهد في سبيل الله إلى [أُكيْدِر] ملك <دومة الجندل> ، و يخبر –صلى الله عليه وسلم- خالدًا أنه سيلقاه يصيد بقر الوحش ، خرج خالد ، ولما بلغ قريبًا من حصنه ، وجده قد خرج للصيد ، كما أخبر النبي –صلى الله عليه وسلم-، فتلقته خيل الله بقيادة خالد ، فاستأسرته ، واستلب خالد منه قباء مخوصًا بالذهب –قميصًا مخوصًا بالذهب- ، و بعث به إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قبل قدومه عليه ، فجعل المسلمون يتعجبون من هذا القباء ، فقال –صلى الله عليه و سلم- مُزهِّدًا لهم في زخرف الدنيا : "أتعجبون من هذا ؟ لَمناديل [سعد بن معاذ] في الجنة خير من هذا". قدم خالد بـ[الأكيدر] ، و حقن دمه –صلى الله عليه وسلم- و ضرب عليه الجزية ، ولكنه مجرم ، ولو علم الله فيه خيرا لأسمعه ، نقض العهد في عهد أبي بكر ، فقتله خالد–رضي الله عنه وأرضاه- . وهكذا نصر الله جنده وأولياءه ورسله وعباده في الحياة الدنيا ، وينصرهم يوم يقوم الأشهاد.(27/13)
عباد الله: ويعود –صلى الله عليه وسلم- إلى <المدينة> ، بعد إرهاب أعداء الله من نصارى و يهود و مشركين ، يعود في يوم بهيج ، لتستقبله <المدينة> ، لتستقبل نور بصرها –صلى الله عليه وسلم- يخرج الأطفال في فرح ، ليصطفُّوا إلى مداخل المدينة ، و على أفواه الطرقات ، ليستقبلوا رسول البرية –صلى الله عليه وسلم- أصواتهم -كما حقق [ابن القيم] عليه رحمة الله- :
طلعَ البدرُ علينَا *** مِن ثنيَّات الوداعْ
وجَب الشكر علينَا *** ما دَعا لله دَاعْ
أيها المبعُوث فينَا *** جئتَ بالأمرِ المُطاعْ
جئتَ شرَّفت المدينةْ *** مرحبًا يا خيرَ داعْ
و هنا قال- صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ <بالمدينة> رجالا، ما سرتم مسيرًا ، و لا قطعتم واديًا ، و لا وَطَئِتُم موطئًا يغيظ الكفار ، إلا كانوا معكم ، حبسهم العذر. قالوا : يا رسول الله و هم بالمدينة ؟ قال: نعم ، و هم بالمدينة" ، و يتبسم –صلى الله عليه وسلم- و يمسح الرؤوس ، ويقبل ويدعو. وهكذا انتصر المسلمون في <تبوك> على شهواتهم وأنفسهم ، وبالتالي انتصروا على أعدائهم. ( وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) هذه غزوة <تبوك> قائدها محمد –صلى الله عليه وسلم- ، جنودها صحابته –رضوان الله عليهم-، عز فيها المؤمنون ، و سقط المنافقون ، و ذل الكافرون و انهزموا ، و بالجهاد في سبيل الله ، لإعلاء كلمة الله يُنصَر المؤمنون ، و المؤمنون على عناية ربهم يتوكلون، لا خوف يُرهبهم ، و لا هم في الحوادث يحزنون.(27/14)
اللهم أنت الناصر لدينك ، و المعز لأوليائك ؛ افتح لنا فتحًا مبينًا ، انصرنا نصرًا عزيزًا ، و اجعل لنا من لدنك سلطانًا نصيرًا ، اللهم ثبِّت أقدامنا ، وزلزل أعداءنا ، اللهم أدخل الرعب في قلوبهم ، واستأصل شأفتهم ، و اقطع دابرهم ، وأَبِدْ خضراءهم ، و اجعل تدبيرهم تدميرهم ، و أورثنا أرضهم ، و ديارهم و أموالهم ، و كن لنا وليًا ، و بنا حفيًّا. يا من نصرت بماض ضعف أمتنا على الطواغيت عجل نصرنا الثاني . أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله العظيم فاستغفروه ، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين ، و أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له ، واشهد أن محمدًا عبده ورسوله -صلى الله عليه ، وعلى آله ، وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ، وسلم تسليمًا كثيرًا-.
أما بعد ، عباد الله : ها قد عشتم بعد أحداث غزوة تبوك التي انتهت -كما عرفتم- بنصر المؤمنين ، ولئن انتهت ، فما انتهى نورها ، و ما انتهت دروسها وعبرها ومواعظها ، ففي كل حديث منها قصة، و في كل قصة عظة وعبرة ، و في كل ذكرى منها موعظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع ، هل يكفي سرد أحاديث الماضي ، والتغني بالذكر الغابر ؟ هل يجزي هذا ، و قد تشابكت بأمة الإسلام –في هذه الأعصار- حلقات من المحن ، و تقاذفتها أمواج من الفتن ، وصيح بهم من كل جانب ، و تداعى عليهم الأكلة من كل فج . لابد أن نستفيد مما مضى ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُّفْتَرَى ) فهاكم بعض دروسها وعبرها ، علَّ الله أن يجعلنا و إياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه .
وأول هذه الدروس : أن هذه الأمة أمة جهاد ، و مجاهدة ، و صبر ، ومصابرة ، و متى ما تركت الجهاد ، ضُربت عليها الذلة والمسكنة .
دعِ المِداد و سطِّر بالدَّمِ القانِي *** و أسكتِ الفَمَ و اخطبْ بالفمِ الثَّانِي(27/15)
فَمُ المدافعِ في صدرِ العداة لهُ *** منَ الفصاحةِ ما يُذري بسحبانِ
وثانيها: أن الله تعالى ، كتب العزة و القوة لهذه الأمة ، متى ما صدقت وأخلصت. فها هي دولة الإسلام الناشئة ، تقف في وجه الكفر كله بقواه المادية فتهزمه ، و تنتصر عليه ( وَ لَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ ) و من هذه الدروس : أنه ما تسلل العدو سابقًا ولاحقًا إلا من خلال الصفوف المنافقة ، ولم يكن الضعف والتفرقة في هذه الأمة ، إلا من قِبَل أصحاب المسالك الملتوية ( لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً و لأوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ )
و منها : أن مواجهة الأعداء ، لا يشترط فيها تكافؤ القوى . يكفي المؤمنين أن يعدُّوا أنفسهم بما استطاعوا من قوة ، ثم يثقوا بالله ، و يتعلقوا به ويثبتوا ويصبروا ، وعندها يُنصروا . فها هو سلفهم [ابن رواحة] يقول: والله ما نقاتل الناس بعَدد ، ولا عُدد ، و ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي كرمنا الله به . و منها أن الحق لابد له من قوة تحرسه ، لا يكفي حق بلا قوة .
فما هو إلا الوحيُ أو حدُّ مُرهَف *** تقيم ظباه أخدعيْ كل مائلِ
فهذا دواء الداء من كل جاهل *** و هذا دواء الداء من كل عاقلِ
دعا المصطفى دهرًا <بمكة> لم يُجَب *** و قد لان منه جانب وخطاب
فلما دعا و السيف بالكف مسلط له *** أسلموا و استسلموا و أنابوا(27/16)
و منها : أن الأعداء لن يَرْكنوا إلى السكون ، و لن يصرفوا أنظارهم عن دولة محمد -صلى الله عليه وسلم- سابقًا و لاحقًا ، فهم يُجمعون أمرهم و شركاءهم ، و يُعمِلُون مكرهم و دسائسهم ( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) في نهاية هذه الغزوة هاهي مؤامرة دنيئة يقوم بها أدنياء سفلة عددهم اثنا عشر شقيًا منافقًا تواطئوا على قتل محمد -صلى الله عليه وسلم-. و تنفيذ الخطة -في تقديرهم- بمضايقته في عقبة في الطريق إلى <تبوك> ليسقط من على راحلته فيهلك -على حد زعمهم- ، و يصل إلى العقبة تَحُفُّه عناية الله ورعاية الله ، [حذيفة] آخذ بخطام ناقته ، و [عمار] يسوقها ، و إذ بالأشقياء يعترضون الناقة لينفذوا مخطط الشقاء و العار ، فيصرخ فيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فيولوا مدبرين ، و يحفظ الله سيد المرسلين ، و ينزل الله قوله في المنافقين ( وَ هَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ) و يرسل بعدها -صلى الله عليه وسلم- عليهم سهمًا إلى الحي القيوم الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ؛ إذ يدعو اللهَ عليهم أن يهلكهم ، فيصاب كل واحد منهم بخُرَّاج يخرج في ظهر الواحد منهم ، و يدخل إلى قلبه ؛ فلم ينجُ منهم أحد ؛ فإلى جهنم ، وبئس القرار .
و من دسائس أعداء الله أنهم أرسلوا [لكعب بن مالك] –رضي الله عنه- يوم أمر النبي –صلى الله عليه وسلم- بهجره أرسلوا إليه يقولون له : بلغنا أن صاحبك جفاك ، ولم يجعلك الله بدار هوان و لا مضيعة ؛ فالْحقْ بنا نُواسِك ، لكن [كعبًا] مؤمن علم أن هذا من الابتلاء ، فيمَّمَ التنور ، فأوقده بالرسالة ، ( وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ ) .(27/17)
عباد الله : هذا هو ديدن أعداء الإسلام في الغابر و الحاضر في كل زمان و مكان ، يتحسسون الأنباء و يترصدون و يتربصون بالإسلام و أهله ، و كم من أقدام في مثل هذا ذلَّت! ، وكم من أرجل في مثل هذه الأوحال قد انزلقت ! ، أما كعب فيمَّمها التنور و سجَّرها ، و كم في الأمة من أمثال كعب !.
فدت نفسي و ما ملكت يميني *** فوارس صدقت فيهم ظنوني
و من هذه الدروس : إن العقيدة في قلوب رجالها من ذرةٍ أقوى و ألف مهند ، قضى الله أنه متى ما حادت الأمة عن عقيدتها ، و تعلقت بهذا أو بذاك إلا و تقلبت في ثنايا الإهانات و النكبات و النكسات حتى ترجع إلى كتاب ربها وسنة نبيها .
من يتق الله و ينصر دينه *** لابد في ساح المعارك يُنصَر
ألا و إن من أعظم الدروس ، و ليكن الأخير من غزوة <تبوك> -و المسلمون يمرون بأحداثهم المعاصرة و متغيراتهم الحثيثة- إنه الدرس الجامع الذي يكون من محراب الجهاد و كفى . من محرابه تنطلق قوافل المجاهدين . بالجهاد ترد عاديات الطغيان ؛ فيكون الدين لله ، و لا تكون فتنة . جهاد بالنفس و المال و اللسان و السنان، و يبقى دين محمد –صلى الله عليه وسلم- مهيمنًا .
فيا أمة الإسلام في كل زمان ومكان اتقوا الله، وأجمعوا أمركم، وذُودوا عن دينكم ومحارمكم ؛ فإن من لا يذود عن دينه و محارمه و لا ينتصر لدينه ذليل حقير غير حقيق بالعزة ؛ بل لا تحلو له الحياة ، اصبروا، و صابروا ، و رابطوا ، و بما تمسك به أسلافكم تمسكوا ، جاهدوا كجهادهم ، و اصبروا كصبرهم ، وتوكلوا على الله ، و ثقوا بالله واطمئنوا ، و أبشروا ، و العاقبة للمتقين . ( وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) خذوا إيمان إبراهيم تنبت لكم في النار جنات النعيم .
يا أمة الإسلام فانتفضي فإن الجرح غائر(27/18)
والجمع مُذْ فقد العقيدة فهو مضطرب وحائر
و جريحنا الأقصى هوى و ديس بالحوافر
فهناك تعبث في جوانب أرضه عُصَب الكوافر
وتسومهم ذلا وخسفًا كالبهائم في الحظائر.
يا أمتي فلتنفضي عنك الغبار وتستعدي
ولتنفري نحو الجهاد بكل إقدام وجد
إن الجهاد به نرد لَجاجة الخصم الألَدِِّ
وبدونه نبقى على ما نحن من أخذ ورد
يا رب أيقِظْ أمتي حتى تعود إلى رحابك
يا رب أيقِظْ أمتي حتى تعود إلى رحابك
واهدِ الولاة لكي يسوسوها بوحي من جنابك
وأمدها بالنصر ليس النصر إلا من جنابك
هذه بعض دروس من هذه الغزاة العظيمة، غيض من فيض، وقطر من بحر ، وكتب السيرة تفيض بذلك فاتقوا الله ، وعوها ، وطريق أسلافكم اسلكوها ، عودوا فالعود أحمد، و صلوا و سلموا على نبيكم محمد فقد أمرتم بالصلاة عليه: ( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) .
اللهم صلِّ على محمد و آل محمد ، كما صليت على إبراهيم و آل إبراهيم ، و بارك على محمد و على آل محمد ، كما باركت على إبراهيم و آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد . اللهم أعز الإسلام و المسلمين ، اللهم أعز الإسلام و المسلمين ، اللهم أعز الإسلام و المسلمين . و أذل الشرك و المشركين ، اللهم أصلح من في صلاحه صلاح للإسلام و للمسلمين ، و أهلِكْ من في هلاكه صلاح للإسلام و المسلمين ، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعز فيه وليك ،(27/19)
محاضرة : هكذا علمتني الحياة
فضيلة الشيخ : علي عبد الخالق القرني
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه.
نعوذ بالله منى شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، شهادة عبده وأبن عبده وأبن أمته ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته.
أشهد أن محمدا عبد الله ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور وأنار به العقول، ففتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم باحسان وسلم تسليما كثيرا.
)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران102)
)يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء1)
)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب:71)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله أن يجمعنا وإياكم في هذه الحياة تحت ظل لا إله إلا الله، وأن يجعل آخر كلامنا فيها لا إله إلا الله، ثم يجمعنا أخرى سرمدية أبدية في جناة ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
أشهد الله الذي لا إله إلا هو على حبكم فيه، ولعلكم تلحظون ذلك فالوجه يعبر عن ما في النفس:
والنفس تعرف في عيني محدثها......... إن كان من حزبها أو من أعاديها(28/1)
عيناك قد دلتا عيني منك على......... أشياء لولاهما ما كنت أدريها
اللهم لا تعذب جمعا التقى فيك ولك، اللهم لا تعذب اللسنة تخبر عنك، اللهم لا تعذب قلوبا تشتاقُ إلى لقائك، اللهم لا تعذب أعينا ترجو لذة النظرِ إلى وجهك، برحمتك يا أرحم الراحمين.
أحسن الظن أخوتي بي إذ دعوني فأجبت الدعوة، وما حالي وحالكم هذه الليلة إلا كبائع زمزم على أهل مكة، أو كبائع التمر على أهل المدينة، أو كبائع السمك على أهل جده.
لكني اسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجعلني خيرا مما تظنون، وأن يغفر لي ما لا تعلمون، وأن لا يؤاخذني بما تقولون.
يا منزل الآيات والقرآن................ بيني وبينك حرمة الفرقان
إشرح به صدري لمعرفة الهدى......... واعصم به قلبي من الشيطان
يسر به أمري وأقض مآربي ........... وأجر به جسدي من النيران
واحطط به وزري وأخلص نيتي.........واشدد به أزري وأصلح شاني
واقطع به طمعي وشرف همتي ..........كثر به ورعي واحي جناني
أنت الذي صورتني وخلقتني............وهديتني لشرائع الإيمان
أنت الذي أطعمتني وسقيتني............ من غير كسب يد ولا دكان
أنت الذي آويتني وحبوتني............. وهديتني من حيرة الخذلان
وزرعت لي بين القلوب مودة.......... والعطف منك برحمة وحنان
ونشرت لي في العالمين محاسنا.......... وسترت عن أبصارهم عصياني
والله لو علموا قبيح سريرتي............ لأبى السلام علي من يلقاني
ولأعرضوا عني وملوا صحبتي.......... ولبؤت بعد كرامة بهوان
لكن سترت معايبي ومثالبي ............وحلمت عن سقطي وعن طغياني
فلك المحامد والمدائح كلها............. بخواطري وجوارحي ولساني
هكذا علمتني الحياة:
أي حياة تعلم، وأي حياة تدرس، وأي حياة تربي أيها الأحبة ؟
أهي حياة اللهو واللعب؟
أهي حياة العبث واللعب ؟
أهي حياة الضياع والتيه ؟(28/2)
لا والذي رفع السماء بلا عمد، إنها الحياة في ظل العقيدة الإسلامية، إنها الحياة التي تجعلك متفاعلا مع هذا الكون تتدبر فيه وتتفكر. حياة على الحق نعم الحياة......وبئس الحياة إذا لم نحق
إنها الحياة الحقيقة، حياة تحت ظل الإسلام، تعلم وتربي وتدرس.
حياة على الهدى والنور، حياة الحبور والنعيم والسرور، من عاش تحت ظلها عاش في نور وعلى نور ومات على نور ولقي الله بنور وعبر الصراط ومعه النور: ) نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ )(النور35)
إذا جاء يوم القيامة وقسمت الأنوار بين المؤمنين والمنافقين، عندما توضع الأقدام على الصراط يتبين من بكى ممن تباكى.
سرعان ما تنطفئ أنوار المنافقين فهم في ظلمات لا يبصرون، ينادون:
) انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ)(الحديد13)
في تلك اللحظات وفي هذه الساعات يكون المؤمنون قد عبروا بنورهم: )يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ
الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم)(الحديد12)
فلا يرضى المؤمنون إلا بجوار الرحمن في جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.
)أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا )(الأنعام122)
كلا وألف كلا. )وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ، وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ، وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ، وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ) (فاطر:22)
لا يستوي عاقل كلا وذي سفه....... لا والذي علم الإنسان بالقلم(28/3)
هل يستوي من على حق تصرفه.... ومن مشى تائها في حال الظلم
لا يستوون أبدا.
أحبتي في الله، الحياة في ظل العقيدة مدرسة وأي مدرسة عظات وعبر لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
فأليكم هذه الليلة أزف دروسا علمتنيها الحياة تحت ذلك الظل، وهي تعلم كل شخص كان من هذه الأمة إن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد.
أسال الله أن يرزقنا وإياك العلم النافع والعمل الصالح والنظر الثاقب والبصيرة النافذة، والعظة والاعتبار، وأن يظلنا تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله. اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا، وأنت تجعل الحزن سهلا إذا شئت.
علمتني الحياة في ظل العقيدة الإسلامية أن توحيد الله هو محور الرسالات السماوية:
ومحور حياة الإنسان الحقة، فقيمة الإنسان تظهر عندما يجعل ربه محور حياته، فيستعبد كل ذرة من ذرات جسده، وكل حركة من حركاته، وكل سكنة من سكناته ونفسه لله رب العالمين.
فصلاته لله، ونسكه لله، وحياته لله، وموته لله، وشعاره:
)قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام:162)
وبذلك تتفق وجهة الكون مع وجهة هذا الإنسان، تتفق وجهة الإنسان مع هذا الكون الذي يعيش فيه.
الكون - أيها الأحبة - كله مطيع لله جل وعلا خاضع لسلطان الله، مسبح بحمد الله، فإذا تمرد العبد على ربه أصبح نشازا في هذا الكون، إذا تمرد هذا العبد أصبح شاذا في هذا الكون الهائل المتجه إلى الله وحده بالطاعة والخشوع والخضوع. الكون كله في اتجاه وهو في اتجاه مضاد:
)مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) (الروم:44)
خلق الله سوانا كثير وكثيُر وكثير لا يعلمهم إلا خالقهم، وطاعتك أيها العبد لك، ومعصيتك أيها العبد عليك ولن تضر الله شيئا. في صحيح مسلم أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال:(28/4)
( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومه إلا نفسه).
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل....... خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة............. ولا أن ما تخفيه عنه يغيب
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن توحيد الله هو نقطة البداية في حياة المسلم والأمة:
وأن التوحيد هو كذلك نقطة النهاية في حياة المسلم والأمة، من ضل عنه خسر الدنيا والآخرة، فهو أضل من حمار أهله، قلبه لا يفقه، وعينه لا تبصر، وأذنه لا تسمع بهيمة في مسلاخ بشر، حياته ضنك وسعيه مردود، وذنبه غير مغفور:
)إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً) (النساء:48)
( وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)(الحج: الآية31)
) إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)(المائدة: الآية72)
نعوذ بالله من النار.(28/5)
وفي المقابل من ضفر توحيد الله جل وعلا فقد ربح الدنيا والآخرة، وسعد الدنيا والآخرة، فسعيه مشكور وذنبه مغفور وتجارته لن تبور، يقول الله جل وعلا: )إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً، خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً) (الكهف:108)
العز في كنف العزيز ومن.......... عبد العبيد أذله الله.
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن بلسم الجراحات هو الإيمان بالقضاء والقدر.
(وعجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خيرن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له). قد علم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وعلم أن ما أخطئه لم يكن ليصيبه.
علم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوه بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، ولو اجتمعت على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عز وجل عليه.
فرضي فرضيَ الله عنه، وسعد بدنياه وأخراه، واطمأن قلبه وسكنت روحه، فهو في نعيم وأي نعيم.
في الموقف العظيم يوم يقول الله للناس وهم يدوكون في عرصات القيامة، يقول لأناس من بين الخلائق جميعهم:
ادخلوا الجنة بلا حساب.
فيقولون يا ربنا ويا مولانا قد حاسبت الناس وتركتنا؟
فيقول قد حاسبتكم في الدنيا، وعزتي وجلالي لا أجمع عليكم مصيبتين ادخلوا الجنة.
فيتمنى أهل الموقف أن لو قرضوا بالمقاريض لينالوا ما نال هؤلاء من النعيم.
في الحديث الصحيح كما في الحديث القدسي أن الله عز وجل يقول:
(ما لي عبدي المؤمن عندي من جزاء إذا قبضت صفيه وخليله من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة).
ويا له من جزاء، ما لا عين رأت ولا أذن سمعة ولا خطر على قلب بشر.
في الحديث الصحيح كما في الحديث القدسي أن الله عز وجل يقول لملائكته:(28/6)
( قبضتم أبن عبدي المؤمن، قبضتم ثمرة فؤاده –وهو أعلم سبحانه وبحمده- فتقول الملائكة نعم، فيقول وماذا قال –وهو أعلم جل وعلا- قالوا حمدك واسترجع، فيقول الله جل وعلا ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد).
) وَبَشِّرِ الصَّابِرِين ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة:156)
فطب نفس إذا حكم القضاء:
ولا تجزع لحادثة الليالي........ فمالي حوادث الدنيا بقاء
ومن نزلت بساحته المنايا....... فلا أرض تقيه ولا سماء
مروا بيزيد أبن هارون عليه رحمة الله وقد عمي، وكانت له عينان جميلتان قل أن توجد عند أحد في عصره مثل تلك العينين، فقالوا له وقد عمي:
ما فعلت العينان الجميلتان يا أبن هارون ؟
فقال ذهب بهما بكاء الأسحار وإني لأحتسبهما عند الواحد القهار.
فالإيمان بالقضاء والقدر نعمة على البشر وبلسم وظل وارف من الطمأنينة وفيض من الأمن والسكينة ووقاية من الشرور وحافز على العمل وباعث على الصبر والرضاء، والصبر مر مذاقه لذيذة عاقبته.
صبرت ومن يصبر يجد غب صبره......ألذ وأحلى من جنى النحل في الفم
فأحرص على ما ينفعك وأرضى بما قسم الله لك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل.
ولست بمدرك ما فات مني...........بلهف ولا بليت ولا لو أني
علمتني الحياة في ضل العقيدة أنه كما تدينُ تدان، وكما تزرعُ تحصد، والجزاءُ من جنسِ العمل:
) وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)(الكهف الآية49).
حصادك يوما ما زرعت وإنما............يدان الفتي يوما كما هو دائن
إن زرعتَ خيراً حصدتَ خيراً، وإن زرعتَ شراً حصدتَ مثلَهُ، وإن لم تزرع وأبصرتَ حاصداً ندمتَ على التفريطِ في زمنِ البذرِ.
هاهوَ رجلُ كان له عبد يعملُ في مزرعته، فيقولُ هذا السيد لهذا العبد:
ازرع هذه القطعةَ برا.(28/7)
وذهبَ وتركه، وكان هذا العبد لبيباً عاقلا، فما كان منه إلا أن زرعَ القطعة شعيراً بدل البر.
ولم يأتي ذلك الرجل إلا بعد أن استوى وحان وقت حصاده.
فجاء فإذا هي قد زُرعت شعيراً.، فما كان منه إلا أن قال:
أنا قلت لك ازرعها برا، لما زرعتها شعيرا؟
قال رجوت من الشعيرِ أن ينتجَ برا.
قال يا أحمق أفترجو من الشعيرِ أن يُنتجَ برا؟
قال يا سيدي أفتعصي اللهَ وترجُ رحمتَه، أفتعصي اللهَ وترجُ جنتَه.
ذعر وخافَ واندهشَ وتذكرَ أنه إلى اللهِ قادم فقال تبتُ إلى الله وأبت إلى الله، أنت حرٌ لوجه الله.
كما تدين تدان والجزاء من جنس العمل، ولا يظلمُ ربك أحدا.
)مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) (النحل:97)
وفي المقابل:
( فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(القصص:الآية84)
هاهوَ رجلٌ كان له أبُ قد بلغَ من الكبر عتيا، وقام على خدمته زمناً طويلا ثم مله وسئمه منه.
فما كان منه إلا أن أخذه في يومٍ من الأيامِ على ظهر دابةٍ، وخرجَ به إلى الصحراْء.
ويوم وصل إلى الصحراء قال الأبُ لأبنهِ يا بني ماذا تريدُ مني هنا ؟
قال أريدُ أن أذبحَك، لا إله إلا الله ابنٌ يذبحُ أباه.
فقال أهكذا جزاءُ الإحسانِ يا بني.
قال لا بد من ذبحِك فقد أسأمتني وأمللتني.
قال إن كان لابدَ يا بني فاذبحني عند تلكَ الصخرةِ.
قال أبتاه ما ضركَ أن أذبحك هنا أو أذبحك هناك ؟
قال إن كان الجزاءُ من جنسِ العمل فاذبحني عند تلك الصخرةِ فلقد ذبحتُ أبي هناك.
ولك يا بنيَ مثلُها والجزاءُ من جنسِ العمل، وكما تدينُ تدان، ولا يظلمُ ربكَ أحدا.
علمتني الحياة في ضل العقيدة أن العقيدة قوة عظمى:
لا يعدلها قوة مادية بشرية أرضية أي كانت هذه القوة والأمثلة على ذلك كثيرة، وبالمثال يتضح المقال.(28/8)
هاهي جموع المسلمين وعددها ثلاثة آلاف في مؤته تقابل مؤتي ألف بقلوب ملئها العقيدة.
يقول قائل المسلمين والله ما نقاتلهم بعدد ولا عدة وإنما نقاتلهم بهذا الدين.
فسل خالدا كم سيف أندق في يمينه؟
يجبك خالد، اندق في يميني تسعة أسياف.
وسل خالدا ما الذي ثبت في يده وهو يضرب الكافرين ؟
يجب إنها صحيفة يمانية ثبتت في يده.
أنظر إليه يوم يقبل مائتا ألف مقاتل إلى ثلاثة آلاف فيهجموا عليهم هجمة واحدة يوم يأتي بعض المسلمين ويرى هذه الحشود فيقول لخالد:
يا خالد إلى أين الملجئ، إلى سلمى وأجا.
فتذرف عيناه الدموع وينتخي ويقول لا إلى سلمى ولا إلى أجا، ولكن إلى الله الملتجأ.
فينصره الله الذي التجأ إليه سبحانه وبحمده.
بربك هل هذه قوة جسدية في خالد أبن الوليد؟
لا والذي رفع السماء بلا عمد، إنها العقيدة وكفى.
إن العقيدة في قلوب رجالها.............من ذرة أقوى وألف مهند
وها هو صلاح الدين في عصر آخر غير ذلك العصر، صلاح الدين الأيوبي عليه رحمة الله، تأتيه رسالة على لسان المسجد الأقصى وكان أسيرا في يد الصليبيين يوم ذاك. تقول الرسالة:
يا أيها الملك الذي............. لمعالم الصلبان نكس
جاءت إليك ظلامة............ تسعى من البيت المقدس
كل المساجد طهرت ...........وأنا على شرفي أنجس.
فينتخي صلاح الدين، ويقودها حملة لا تبقي ولا تذر ويشحذ الهمم قبل ذلك فيمنع المزاح في جيشه ويمنع الضحك في جيشه ويهيأ الأمة لاسترداد المسجد الأقصى الذي هو أسير في يد الصليبيين يوم ذاك.
ثم يقودها حملة لا تبقي ولا تذر فيكسر شوكتهم ويعيد الأقصى بأذن الله إلى حظيرة المسلمين.
ثم ماذا بعد صلاح الدين أيها الأحبة ؟
عادوا بعد صلاح الدين بفترة يوم تخلى من تخلى عن مبادئ صلاح الدين، عادوا فاحتلوه وذهبوا إلى قبر صلاح الدين ورفسوه بأرجلهم وقالوا ها قد عدنا يا صلاح الدين، ها قد عدنا يا صلاح الدين. وهم ينشدون:
محمد مات خلّف بنات.(28/9)
فما الحال الآن أيها الأحبة ؟
إن ما يجري هناك تتفطر له الأكباد، إن المسجد الأقصى بلسان حاله ليصيح بالأمة المسلمة.
هل من صلاح، هل من عمر ؟ فلا آذن تجيب ولا قلوب تجيب. أواه ......أواه.
إني تذكرتُ والذكرى مؤرقةٌ..............مجداً تليداً بأيدينا أضعناه
أن اتجهت إلى الإسلام في بلد............. تجده كالطير مقصوصا جناحاه
كم صرفتنا يد كنا نصرفها................وبات يملكنا شعب ملكناه
استرشدَ الغربُ بالماضي فأرشده...........ونحنُ كان لنا ماضٍ نسيناه
إنا مشينا وراء الغربِ نقبسُ من...........ضيائهِ فأصابتنا شظاياهُ
باللهِ سل خلفَ بحرِ الروم عن عرب....... بالأمسِ كانُ هنا واليومَ قد تاهوا
وانزل دمشقَ وسائل صخرَ مسجِدها......عن منً بناهُ لعل الصخرَ ينعاهُ
هاذِ معالمُ خرسٌ كل واحدة ...............منهن قامت خطيباً فاغراً فاهُ
اللهُ يعلمُ ما قلبتُ سيرَتهم يوماً.............وأخطاءَ دمعُ العينِ مجراهُ
لا درَ درُ إمرءٍ يطري أوائله...............فخراً ويطرقٌ إن سألتُه ما هو
يا من يرى عمراً تكسوه بردتُه.............والزيتُ ادمٌ له والكوخُ مأواهُ
يهتزُ كسرا على كرسِيه فرقاً..............من خوفه وملوكُ الرومَ تخشاه
يا ربي فأبعث لنا من مثلهم نفراً...........يشيدونَ لنا مجداً أضعناه
هاهو قلب أرسلان ذلكم الفتى المسلم الشجاع المؤمن بالله كان عائدا من إحدى معاركه متجها ببقية جيشه إلى عاصمة خرسان، سمع به إمبراطور القسطنطينية رومانس.
فجهز جيشا قوامه ست مائة ألف مقاتل، والله ما جمعوا هذه الجموع إلا بقلوب ملئها الخور والضعف والهون.
جاء الخبر لأرسلان ومعه خمسة عشر ألف مقاتل في سبيل لا إله إلا الله.
انظروا ووازنوا بين الجيشين، ستمائة ألف تقابل خمسة عشر ألف مقاتل، بمعنى أن الواحد يقابل أربعمائة، هل هذه قوى جسدية ؟ إنها قوى العقيدة وكفى أيها الأحبة.(28/10)
نظر هذا الرجل في جيشه، جيش منهك من القتال ما بين مصاب وما بين جريح قد أنهكه السير الطويل.
فكر وقدر ونظر في جيشه أيترك هذا الجيش الكافر ليدخل إلى بلاده ويعيث فيها الفساد، أم يجازف بهذا الجيش، خمسة عشر ألف مقابل ستمائة ألف.
فكر قليلا ثم هزه الإيمان وخرجت العقيدة لتبرز في مواقفها الحرجة، فدخل خيمته وخلع ملابسه وحنط جسده ثم تكفن وخرج إلى الجيش وخطبهم قائلا:
إن الإسلام اليوم في خطر، وإن المسلمين كذلك وإن أخشى أن يقضى على لا إله إلا الله من الوجود.
ثم صاح وإسلامهَ، وإسلامه، ها أنا ذا قد تحنطت وتكفنت فمن أراد الجنة فليلبس كما لبست ولنقاتل دون لا إله إلا الله حتى نهلك أو ترفع لا إله إلا الله.
فما هو إلا الوحي أو حد مرهف............تقيم ظباه اخدعي كل مائل
فهذا دواء الداء من كل عاقل.......... وهذا دواء الداء من كل جاهل
فما هي إلا ساعة ويتكفن الجيش الإسلامي، وتفوح رائحة الحنوط وتهب رياح الجنة وتدوي السماوات بصيحات الله كبر، يا خيل الله اثبتي يا خيل الله اركبي، لا إله إلا الله.
هل سمعتم بجيش مكفن ؟
هل سمعتم بجيش لبس ثياب حشره قبل أن يدخل المعركة ؟
هل شممتم رائحة حنوط خمسة عشر ألف مسلم في آن واحد ؟
هل تخيلتم صور جيش كامل يسير إلى معركة يظن ويثق أنه من على أرضها يكون بعثه يوم ينفخ في الصور ؟
التقى الجمعان واصطدم الفئتان، فئة تؤمن بالله وتشتاق إلى لقاء الله، وفئة تكفر بالله ولا تحب لقاء الله، ودوت صيحات الله أكبر، واندفع كل مؤمن ولسان حاله وعجلت إليك ربي لترضى.
تطايرت رؤوس، وسقطت جماجم، وسالت دماء، وفي خضم المعركة إذ بالمنادي ينادي مبشرا أنهزم الرومان وأسر قائدهم رومانس. الله أكبر، لا إله إلا الله صدق وعده ونصر جنده.
( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)(البقرة: من الآية249)(28/11)
ذهب من جند الله كثير وكثير نحسبهم شهداء، وبقي الباقون يبكون، يبكون على ما فاتهم من غنائم؟ لا والذي رفع السماء بلا عمد. لكنهم يبكون لأنهم مضطرون إلى خلع أكفانهم وقد باعوا أنفسهم من الله.
أما القائد المسلم فبكى طويلا، وحمد الله حمدا كثيرا، وبقي يجاهد حتى لقي الله بعقيدة لا يقف في وجهها أي قوة، ويوم حلت به سكرات الموت كان يقول: آه ...آه أمال لم تنل وحوائج لم تقضى وأنفس تموت بحسراتها.
كان يتمنى أن يموت تحت ظلال السيوف ولكن شاء الله له أن يموت على الفراش.
إن العقيدة في قلوب رجالها .......... من ذرة أقوى وألف مهند
فتعرف يا أبن أمي في العقيدة
يا أخ الإسلام في الأرض المديدة
ما حياة المرء من غير عقيدة
وجهاد وصراعات عنيدة
فهي طوبى واختبارات مجيدة
فانطلق وأمضي بإيمان وثيق
وإذا ما مسك الضر صديقي
فلأن قد مشينا في الطريق.
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن من حفظ الله حفظه الله.
ومن وقفَ عند أوامرِ الله بالامتثال، ونواهيهِ بالاجتناب، وحدودِه بعدمِ التجاوزَ حفظَه الله.
من حفظَ الرأسَ وما وعى، والبطنَ وما حوى حفظَه الله.
من حفظَ ما بين فكيه وما بين رجليه حفظَه الله.
من حفظَ اللهَ في وقتِ الرخاء حفظَه اللهَ في وقتِ الشدةَ.
من حفظَ اللهَ في شبابه حفظَه الله عند ضعفِ قوتِه:) فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(يوسف64).
هاهوَ الإمامُ الأوزاعي ذلكم الإمامُ المحدثُ الورعُ الفقيه.
حين دخل عبدُ الله ابن علي ذلكم الحاكمُ العباسيُ دمشقَ في يوم من الأيام فيقتلُ فيها ثمانيةً وثلاثين آلفَ مسلم.
ثم يُدخلُ الخيولَ مسجدَ بني أميةَ، ثم يتبجحُ ويقول:
من ينكرُ علي في ما أفعل؟
قالوا لا نعلمُ أحداً غير الإمامُ الأوزاعي.
فيرسل من يستدعيه، فعلمَ أنه الامتحان وعلم أنه الابتلاء، وعلم أنه إما أن ينجحَ ونجاحٌ ما بعدَه رسوب، وإما أن يرسبَ ورسوبٌ ما بعده نجاح، فماذا كان من هذا الرجل ؟(28/12)
قام واغتسلَ وتحنطَ وتكفن ولبس ثيابه من على كفنه، ثم أخذَ عصاه في يده، ثم اتجه إلى من حفظه في وقت الرخاء فقال: يا ذا العزةِ التي لا تضام، والركنَ الذي لا يرام.
يا من لا يهزمُ جندُه ولا يغلبُ أوليائهُ أنتَ حسبي ومن كنتَ حسبَه فقد كفيتَه، حسبي اللهُ ونعم الوكيل.
ثم ينطلقَ وقد اتصلَ بالله سبحانه وتعالى انطلاقة الأسد إلى ذلك الحاكم.
ذاك قد صفَ وزرائَه وصف سماطين من الجلود يريد أن يقتله وأن يرهبه بها.
قال فدخلت وإذ السيوف مصلته، وإذ السماط معد، وإذا الأمور غير ما كنت أتوقع.
قال فدخلت ووالله ما تصورت في تلك اللحظة إلا عرش الرحمن بارزا والمنادي ينادي:
فريق في الجنة وفريق في السعير.
فوالله ما رأيته أمامي إلا كالذباب، والله ما دخلت بلاطه حتى بعت نفسي من الله جل وعلا.
قال فأنعقدَ جبينُ هذا الرجل من الغضب ثم قال له أأنتَ الأوزاعي ؟
قال يقولُ الناسُ أني الأوزاعي.
قال ما ترى في هذه الدماء التي سفكناها ؟
قال حدثنا فلان عن فلان عن فلان عن جَدُك أبن عباس وعن ابن مسعود وعن أنس وعن أي هريرة وعن عائشة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال:
( لا يحلُ دمُ امرأ مسلمٍ إلا بأحدِ ثلاث، الثيبُ الزاني، والنفسُ بالنفسِ، والتاركُ لدينه المفارقُ للجماعة).
قال فتلمظَ كما تتلمظُ الحيةَ وقام الناس يتحفزون ويرفعون ثيابهم لألا يصيبَهم دمي، ورفعتُ عمامتي ليقعُ السيفُ على رقبتي مباشرة.
وإذ به يقول وما ترى في هذه الدور التي اغتصبنا والأموالِ التي أخذنا ؟
قال سوفَ يجردُك اللهُ عرياناً كما خلقَك ثم يسأُلك عن الصغيرِ والكبيرِ والنقيرِ والقطميرِ، فإن كانت حلالاً فحساب، وإن كانت حراماً فعقاب.
قال فأنعقدَ جبينُه مرة أخرى من الغضبِ وقام الوزراء يرفعون ثيابهم وقمت لأرفع عمامتي ليقع السيف على رقبتي مباشرة.
قال وإذ به تنتفخ أوداجه ثم يقول أخرج.
قال فخرجت فوالله ما زادني ربي إلا عزا.(28/13)
ذهب وما كان منه إلا أن سار بطريقه حتى لقيَ الله جل وعلا بحفظه سبحانه وتعالى.
ثم جاء هذا الحاكم ومر على قبره بعد أن توفي ووقف عليه وقال:
والله ما كنتُ أخافُ أحداً على وجهِ الأرضِ كخوفي هذا المدفونُ في هذا القبر.
واللهِ إني كنتُ إذا رأيتُه رأيتُ الأسدَ بارز.
اعتصمَ بالله وحفظَ اللهَ في الرخاء فحفظَه اللهُ في الشدة:
( فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)
والأمثلة كثيرة أيها الأحبة.
وما ندري أنحن مقبلون على مرحلة عزة وتمكين أم نحن مقبلون على مرحلة ابتلاء.
يجب أن نحفظ أنفسنا ونحفظ الله وحدوده وأوامره ونواهيه في الرخاء ليحفظنا سبحانه وبحمده في وقت الشدة.
ولا بد من الابتلاء: )أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت:2)
هاهوَ الأسودُ العنسيُ ذلكم الساحرُ القبيحُ الظالمُ الذي ادعى النبوةَ في اليمن:
يجتمعُ حولَه اللصوصُ وقطاعُ الطرق، ليكونُ فرقةً تسمى فرقةُ الصدَ عن سبيلِ الله، ليذبحَ الدعاة في سبيل الله، ذبح من المسلمين من ذبح، وأحرقَ منهم من أحرق، وطردَ منهم من طرد، وهتكَ أعراضَ بعضهم وفر الناس بدينهم، عذب من الدعاة من عذب وكان من هؤلاء أبو مسلمٍ الخولاني عليه رحمةُ الله ورضوانه.
عذبَه فثبتَ كثباتِ سحرةِ فرعون، حاول أن يثنيَه عن دعوته قال كلا والذي فطرني لن أقف فأقضي ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا.
فما كان منه إلا أن جمع الجموع كلها وقال لهم:
إن كان داعيتكم على حق فسينجيه الحق، إن كان على غيرِ ذلك فسترون.
ثم أمرَ بنارِ عظيمةِ فأضرمت، ثم جاءَ بأبي مسلم الخولاني عليه رحمة الله فربط يديه وربط رجليه ووضعوه في مقلاع ثم(28/14)
نسفوه في لهيب النار ولظاها، وإن هذه النار كما يقولون كان يمر الطير من فوقها من عظم ألسنة لهبها فتسقط الطيور في وسطها. وهو بين السماء والأرض لم يذكر إلا الله جل وعلا وكان يقول: حسبي الله ونعم الوكيل.
ليسقطَ في وسط النار، وكادت قلوبُ الموحدين أن تنخلع وكادت أن تتفطر، وانتظروا والنارُ تخبو شيئاً فشيئاً وإذ بأبي مسلم قد فكتُ النارُ وثاقَه، ثيابه لم تحترق، رجلاه حافيتان يمشي بهما على الجمر ويتبسم، ذهل الطاغية وخاف أن يسلم من بقي من الناس فقام يتهدد هم ويتوعُدهم.
أما هذا الرجل فأنطلق إلى المدينة النبوية، إلى أصحابِ رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم) في خلافةِ أي بكر، ويصلُ إلى المسجد ويصلي ركعتين، ويسمعُ عمرُ رضي الله عنه بهذا الرجلِ، فينطلقُ إليه يأتي إليه ويقول:
أأنت أبو مسلم قال نعم.
قال أنت الذي قذفت في النارِ و أنقذك اللهُ منها ؟
قال نعم، فيعتنقُه ويبكي ويقول الحمد لله الذب أراني في أمةِ محمدٍ (صلى الله عليه وسلم) من فعلَ به كما فعلَ بإبراهيم عليه السلام.
من حفظَ أبا مسلم ؟
إنه الله الذي لا إله إلا هو، حفظ الله عز وجل فحفظَه الله. ( فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).
وها هو أبن طولون والي من ولاة مصر ولا زالت مصر ترزأ بظالم وراء ظالم، نسأل الله أن يفرج عن إخواننا في كل مكان، هذا الوالي - يا أيها الأحبة - قتل ثمانية عشر ألف مسلم في تلك الأرض، وقتلهم بقتلة هي أبشع أنواع القتل، حبس عنهم الطعام والشراب حتى ماتوا جوعا وعطشا، فسمع أبو الحسن الزاهد عليه رحمة الله، فأقض مضجعه أن يسمع بأخوته يعذبون ثم لا يذهب، وقد سمع قبل ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو يقول:
(أفضل الجهاد كلمة حق تقال عند سلطان جائر).
ذهب إليه وقال له أتق الله في دماء المسلمين وخوفه بالله.
فأرغى وأزبد وأمر بأن يسجن في سجن وأمر بأسد أن يجوع لمدة ثلاثة أيام.(28/15)
ثم جاء فجمع الناس جميعهم وجاء بهذا الرجل، وأطلق ذلك الأسد المجوع ثلاثة أيام.
قام هذا الرجل يصلي متصلا بالله الذي لا إله إلا هو، أما الأسد فأنطلق حتى قرب منه ثم توقف وقام ينظر إليه ويشمشمه ويسيل اللعاب على يديه وفيها من الجراح ما فيها.
فما كان من الناس إلا أن ذهلوا وما كان من الطاغية إلا أن ذهل، وما كان من الأسد إلا أن رجع وهو جائع ثلاثة أيام.
من الذي حفظه إلا الله الذي يحفظ من يحفظه في وقت الرخاء.
ما كان من الناس إلا أن اجتمعوا بشيخهم وإمامهم بعد ذلك وقالوا:
يا أبا الحسن في ما كنت تفكر يوم قدم عليك الأسد ؟
قال والله ما فكرت قي ما فيه تفكرون، ولا خفت مما منه تخافون، ولكني كنت أقول في نفسي ألعاب الأسد نجس أو طاهر لأن لا ينقض وضوئي وأنا متصل بالله الذي لا إله إلا هو.
حفظوا اللهَ فحفظَهم الله، ما اعتصمَ عبدُ بالله فكادتُه السماءُ والأرض إلا جعل الله له منها فرجاً ومخرجا.
اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا ونعوذ بك الله أن نغتال من تحتنا.
علمتني الحياة في ظل العقيدة الإسلامية أن الظلمَ مرتَعهُ وخيمٌ.
وأن الظلمَ يفضي إلى الندم، وأنهُ ظلماتٌ يومَ القيامة.
وأن الله لا يغفلُ عما يعملُ الظالمون، لكن يؤخرُهم ليومٍ تشخصُ فيه الإبصار.
في الحديثِ القدسي يقول النبي (صلى الله عليه وسلم) قال يقول الله :
( يا عبادي إنيِ حرمتُ الظلمَ على نفسي وجعلتُه بينكم محرما فلا تظالموا).
وظلموا ذوي القربى أشد مضاضة........على المرء من وقع الحسام المهند.
ها هم أهل قرية من القرى قبل وقت من الزمن:
نقص عددهم نتيجة الحروب التي كانت تقام بين القبائل لأتفه الأسباب، فما كان منهم إلا أن فكروا في أن يزيدوا عددهم، فاجتمعوا وعقدوا مؤتمرا لهم وكان قائدهم في ذلك المؤتمر إبليس عليه غضب الله جل وعلا، ونعوذ بالله منه.(28/16)
فاتفقوا على أن يرجع كل واحد من أهل هذه القرية فيقع على محارمه، يقع على أخته وعلى بنته ليكثر العدد، والحادثة معروفة ومشهورة والقرية معروفة ومشهورة وهي عبرة وعظة لكل من يعتبر.
فما كان منهم إلا أن رجعوا من اجتماعهم فمنهم من رجع إلى أهله ونفذ ما اجتمعوا عليه، ومنهم من رضي بذلك ولم يفعل والراضي كالفاعل. أي ظلم أيها الأحبة وأي ظلمات أن يقع الأب على أبنته أو يقع الأخ على أخته، أو يقع المحرم على محارمه ؟ إنه والله الظلم والظلمات.
ماذا كانت النتيجة وماذا كان منهم.
يرسل الله عز وجل جندي من جنوده : ) وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ )(المدثر:31).
يخرج عليهم نمل، تقوم النملة فتلدغ الواحد منهم فيذبل ثم يذبل ثم يذبل ثم يموت، وهكذا واحدا وراء الأخر.
فما كان من أحدهم إلا أن أراد أن يفلت فسرق من أموالهم ما سرق وجمع من الذهب والفضة ما جمع، ثم أخذه في وعاء معين وحفر له تحت صخرة من الصخرات وعلمه بهذه الصخرة وذهب هاربا إلى مكة.
ولم يبقى في تلك القرية إلا النساء.
بقي ذلك الرجل في مكة ردحا من الزمن، قيل أنه عشرون سنة أو أكثر من ذلك.
فما كان منه بعد عشرين سنة وقد تذكر ذلك الذي حصل إلا أن أرسل واحد من أهل مكة، ما استطاع هو بنفسه أن
يرجع إلى هناك، وقال أذهب إلى ذاك المكان وستجد في المكان الفلاني تحت الصخرة الفلانية وعاء فيه كذا وكذا خذه
وأتنا به ولك كذا وكذا.
ذهب الرجل على وصفه وسأل على المكان واستخرج ذلك الكنز وجاء به إليه في مكة، وكان ذلك الرجل أمينا فلم يغير
فيه ولم يبدل بل أخذه كما هو وجاء به إلى مكة.
وعندما فتحه ذلك الرجل وإذ بنملة على ظهره فتقفز إلى أنفه فتلدغه فيذبل ثم يذبل ثم يموت.
)وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) (ابراهيم:42)
وهاهوَ المعتمدَ حاكمُ بعضِ ولايةِ الأندلس:(28/17)
ذلكم الشجاعُ القويُ المترف، يستعينُ به حاكم ولاية مجاورة التي غزى عليها أحدُ أعدائه، فيسرعُ المعتمدُ لنجدة ذلك الرجل ويرجع ذلك الغازي مدحورا لما رأى جيوش المعتمد.
هنا انتهت مهَمةُ المعتمد، لكنَه في ظلام الليل يقوم ليبثَ جيوشَه في المدينة وحول قصر من استنجد به ويحتلُ المدينة، ويالها من مجير: والمستجير بعمر عند كربته........كالمستجير من الرمضاء بالنار
أصيب ذلك الحاكم بصدمةٍ عنيفةٍ شُل منها، قبضَ عليه وعلى والده وأخذت أمواله وأودع لسجن، وسبيت زوجاتُه وبناتُه، ثم أخرج من ولايته مهانا ذليلا، يقول أبوه:
والله إن هذا بسبب دعوة مظلومٍ ظلمناه بالأمس، ثم يرفعُ يديه إلى من لا يغفل عن ما يعملُ الظالمون قائلا:
اللهم كما انتقمتَ للمظلومين منا، فأنتقم لنا من الظالمين.
وتصعدُ الدعوة إلى من ينصرُ المظلوم، ويظل المعتمد في ملكه فترة ينام والمظلوم يدعُ عليه وعينُ اللهِ لم تنمِ، وتجتاحُه دولةُ المرابطين في ليلةٍ من الليالي وتأسرُه في أخرِ الليل:
يا راقدَ الليلِ مسروراً بأولِه........... إن الحوادثَ قد يطرقنَ أسحارا
ويقضي حياتَه في أغمات في بلاد المغرب أسيرا حسيرا كسيراً، وأصبحَ بناتُه المترفاتُ الآتي كنا يخلطُ لهن التراب بالمسكِ ليمشينَ عليه، أصبحن حسيراتٍ يغزلنَ للناس الصوفَ، ما عندَهن ما يسترن به سوءتهن، ويأتين أباهن يوم العيد في السجنِ يزرنه، فيتأوه ويبكي وينشد وكان شاعرا:
في ما مضى كنتُ بالأعيادِ مسرورا............ فساءكَ العيدُ في أغمات مأسورا
ترى بناتِك في الأطمارِ جائعة................. يغزلنَ للناسِ ما يملكنَ قطميرا
برزنَ نحوكَ لتسليم خاشعةً................... أبصارُهن حسيراتٍ مكاسيرا
يطأنَ بالطينِ والأقدام حافية...................كأنها لم تطىء مسكاً وكافورا
من باتَ بعدك في ملكٍ يسرُ به................فإنما بات بالأحلامِ مغرورا(28/18)
كم من دعوةِ مظلومٍ قصمت ظهر طاغيةٍ، والعدل أساس الملك ولا يظلمُ ربُك أحد.
هاهوَ حمزة البسيوني الجبار الطاغية الظالم، كان يقول للمؤمنين وهو يعذبهم وهم يستغيثون الله جل وعلا، وما عذبوهم إلا أن أمنوا بالله، يقول لهك متبجحا:
أين إلهكم الذي تستغيثون لأضعنه معكم في الحديد – جل الله وتبارك سبحانه وبحمده -.
ويخرجَ ويركبَ سيارتَه وظن أنه بعيد عن قبضة الله جل وعلا، وإذ به يرتطم بشاحنةٍ ليدخل الحديدُ في جسده فلا يخرجونَه منه إلا قطعة قطعه.
( إن اللهَ ليملي للظالم حتى إذا أخذَه لم يفلتِه).
)وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود:102)
لما أهينَ الإمامُ أحمد عليه رحمةُ اللهِ من قبل أبن أبي دؤاد، رفع يديه إلى من ينصر المظلوم وقال:
(اللهم إنه ظلمني ومالي من ناصرٍ إلا أنت، اللهم أحبسهُ في جله وعذِبه).
فما ماتَ هذا حتى أصابه الفالج فيبست نصف جسمه وبقي نصف جسمه حي.
دخلوا عليه وهو يخورُ كما يخور الثور ويقول:
أصابتني دعوةُ الإمامِ أحمد، مالي وللإمامِ أحمد، مالي وللإمامِ أحمد. ثم يقول واللهِ لو وقعَ ذبابُ على نصفِ جسمي لكأنَ جبال الدنيا وضعت عليه، أما النصف الآخر فلو قرضَ بالمقاريض ما أحسستُ به.
فإياك والظلم ما استطعت، فظلم العباد شديد الوخم.
في الأثر أن الله عز وجل يقول:
(وعزتي وجلالِ لا تنصرفون اليوم ولأحدٍ عندَ أحدٍ مظلمةٌ، وعزتي وجلالِ لا يجاورَ هذا الجسرَ اليومَ ظالم).
لا تظلمنَ إذا ما كنتَ مقتدرا.............فالظلمُ آخره يفضي إلى الندمِ
تنامُ عينُكَ والمظلوم ُمنتبهاً................ يدعُ عليك وعينُ اللهِ لم تنمِ
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن البناء جد صعب، والهدم سهل جد سهل.
فما يبنى في مئات الأعوام من المدن والقرى والقصور والدور يمكن هدمه في لحظات، وما يبنى من الأخلاق والقيم والمثل في قرون يمكن هدمه أيام وليالي.(28/19)
ما رأيكم أيها الأحبة إن كان هناك ألف باني وورائهم هادم واحد هل يقوم البناء ؟
كلا لا يمكن أن يقوم، فما رأيكم إن كان الباني واحدا والهادم ألفا:
أرى ألف بان لا يقوموا لهادم.............فكيف بباني خلفه ألف هادم.
وسائل في غالبها تهدم ومجتمع في بعض أفراده يهدم، ومدارس في بعض أفرادها تهدم، وشوارع تهدم، وأندية تهدم، وبناة قلة إذا قيسوا بهؤلاء الهادمين، لكن الحق يعلو والباطل يسفل:
فهل يستقيم الظل والعود أعوج.
أعمى يقود بصيرا لا أبا لكمو.............قد ضل من كانت العميان تهديه
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن لا أيئس وأن لا أقنط.
وأن أعمل وأدعو إلى الله ولا أستعجل النتائج وأن أبذر الحب قطفت جنيه أم لم أقطف جنيه، فلا ييئس من روح اله إلا القوم الكافرون. )قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) (الحجر:56)
لو تأملت أخي الحبيب قصة نوح عليه السلام الذي طالما دعا بالليل والنهار، بالسر والإعلان، ولم يزدهم دعائه إلا فرارا، جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا،والدعوة لمدة تسع مائة وخمسين عاما، ومع ذلك ما آمن معه إلا قليل:
قيل اثنا عشر وغاية ما قيل أنهم ثمانون بمعنى أنه في كل خمس وثمانين سنة يؤمن واحد أو في كل اثنتي عشرة سنة يؤمن واحد، ولم ييئس صلوات الله وسلامه عليه وما كان له أن ييئس.
يقول (صلى الله عليه وسلم) كما في الصحيح:
(يأتي النبي ومعه الرجل، ويأتي النبي ومعه الرجلان، ويأتي النبي ومعه الرهط، ويأتي النبي وليس معه أحد).
ولم ييئسوا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وهاهم أصحاب قرية إنطاكية يرسل الله لهم رسولين فكذبوهما فعززنا بثالث فكذبوه، ثالثة رسل إلى قرية واحدة ثم يقوم داعية من بينهم قد آمن بالله الذي لا إله إلا هو، فما كان منهم إلا أن قتلوه، فما النتيجة:
)قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ) (يّس:26)(28/20)
أيها الأحبة: النملة تلكم الحشرة الصغيرة تعمل وتجمع الحب في الصيف لتأكله في الشتاء، ينزل المطر فتخرجه من جحورها ومخازنها لتعرضه للشمس، ثم تعيده مرة أخرى، وتحاول صعود الجدار مرة فتسقط، ثم تحاول أخرى فتسقط، ثم تحاول مرتين وثلاثا وأربعا حتى تصعد الجدار.
أفيعجز أحدنا أن يكون ولو كهذه الحشرة ؟.
أيها الأحبة (بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين).
إن الله جل وعلا يقول: )أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) (الغاشية:20)
ثم ماذا قال بعدها ؟ )فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ) (الغاشية:21)
وكأن الله عز وجل يريد من الذين يدعون إلى الله:
أن يأخذوا صبر الأبل، وسمو السماء، وثبات الجبال، وذلة الأرض للمؤمنين، ثم بعد ذلك:
)فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ)
ليس لليأس مكان عند المؤمن، وليس للقنوط مكان عند المؤمن.
هاهو رجل يركب البحر وتنكسر به سفينته، فيسبح إلى جزيرة في وسط البحر ويمكث ثلاثة أيام لم يذق طعاما ولا شرابا، ويأس من الحياة فقام ينشد:
إذا شاب الغراب أتيت أهلي............وصار القار كاللبن الحليب
لا يمكن أن يكون القار كاللبن، ولا يمكن أن يشيب الغراب، ومعنى ذلك أنه يئس وأيقن بالموت.
وإذا بهاتف يهتف ويقول:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه...............يكون ورائه فرج قريب
وبينما هو يسمع هذا النداء وإذ بسفينة تمر فيلوح لها فتأتي وتحمله وإذ على ظهر السفينة أحدهم يردد منشدا:
عسى فرج يأتي به الله إنه.............له كل يوم في خليقته أمر
إذا لاح عسر فأرجو يسؤ فإنه.........قضى الله أن العسر يتبعه اليسر
ولن يغلب عسر يسرين، فأعمل أخي لا تيئس وأبذر الحب.
فعليك بذر الحب لا قطف الجنى..........والله للساعين خير معين
ستسير فلك الحق تحمل جنده.............وستنتهي للشاطئ المأمون(28/21)
بالله مجراها ومرساها فهل.................تخشى الرد والله خير ضمين
ولنا بيوسف أسوة في صبره..............وقد ارتمى في السجن بضع سنين
لا يأس يسكننا فإن كبر الأسى...........وطغى فإن يقين قلبي أكبر
في منهج الرحمان أمن مخاوفي............. وإليه في ليل الشدائد نجأر
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن أنظر في أمور دنياي إلى من هو تحتي فذلك جدير أن لا أزدري نعمة الله علي.
وأن أنظر في أمور آخرتي لمن هو فوقي فأجتهد اجتهاده لعلي الحق به وبالصالحين، فلا أحقد على أحد ما استطعت، ولا أحسد أحدا ما استطعت.
يقول أحدهم عن أبن تيمية عليه رحمة الله:
(وددت والله أني لأصحابي مثله –يعني أبن تيمية- لأعدائه وخصومه، يقول:
والله ما رأيته يدعو على أحد من خصومه بل كان يدعو لهم، جئته يوما مبشرا بموت أكبر أعدائه، قال:
فنهرني واسترجع وحوقل وذهب إلى بيت الميت فعزاهم، وقال إني لك مكان أبيكم فسألوا ما شئتم، فسروا به كثيرا ودعوا له كثيرا وعظموا حاله ولسان حالهم والله ما رأينا مثلك).
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهمو .......لطالما ملك الإنسان إحسان
لا يحمل الحقد من تعلوا به الرتب...... ولا ينال العلا من طبعه الغضب
ماذا استفاد الحاقدون ؟ ماذا استفاد الحاسدون ؟
ما استفادوا إلا النصب وما استفادوا إلا التعب، وما استفادوا إلا السيئات.
ووالله لن يردوا نعمة أنعم الله على عبد أي كان، ولله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله.
أصبر على مضض الحسود...... فإن صبرك قاتله
كالنار تأكل نفسها............إن لم تجد ما تأكله
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن من عرف الحق هانت عندَه الحياة.
فيتعالى على مُتع الحياة وزخارفِها لأنه ينتظرُ متعةً أبديةً سرمدية في جناتٍ ونهر في مقعد صدق عن مليك مقتدر.
فيقدمُ مراد على شهواتِه ولذائذه،ويقدم مراد الله على كل ما يلذ لعينه وما يلذ لقلبه فيسعدُ في دنياه ويسعدُ في أخراه.
في الأثر أن الله جل وعلا يقول:(28/22)
( وعزتي وجلاليِ ما من عبدٍ آثرَ هوايَ على هواه ( أي قدم مرُاد الله على لذائذ نفسه) إلا أقللتُ همومَه، وجمعةُ له ضيعتَه ونزعتُ الفقرَ من قلبِه، وجعلتُ الغناء بين عينيه، واتجرتُ له من وراءِ كلِ تاجر).
هاهوَ أحدُ صحابة أحدُ صحابةِ رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم)، دميمُ الخِلقة، لكنه رجلُ أعطاه اللهُ من الإيمانِ ما أعطاه، وما ضرَه أنه دميمُ الخِلقة.
تقدم ليتزوجَ من أحد البيوت، وكلما تقدم إلى بنت رفضته لأنه دميمُ الخلقةَ ولأنه قصير لا ترغبُ فيه النساء.
فجاء إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) يشكو أصحابَه ويقول:
يا رسولَ الله أليسَ من أمن بالله وصدقَ بك يدخلُ الجنة ويزوجُ من الحورِ العين ؟
قال بلى، قال فمالُ أصحابكَ لا يزوجوني.
قال اذهب إلى بيتِ فلان وقل لهم رسولُ اللهِ يطلبُ ابنتَكم.
فذهبَ إلى بيتِ رجلٍ من الأنصار، وطرق الباب عليهم فخرجَ صاحبُ البيت فسلم عليه وقال:
رسولُ اللهِ يطلبُ ابنتَكم.
قالوا نعم ونعمةٌ عين من لنا بغير رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم) أي نسبٍ نريدَه غيرَ هذا النسب.
قال لكنَه يطلبُها لي أنا.
فقال اللهُ المستعان، ثم ذهب ليستشير زوجه، فأخبرها بذلك فقالت رسول الله يطلب ابنتنا نعم ونعمة عين.
قال لكنه يطلبها لفلان وسماه بأسمه.
فما كان منها إلا أن ترددت وقالت أما كان أبو بكر أو عمر أو عثمان ألم يجد رسول الله غير هذا.
وكانت البنتُ التقيةُ العابدة الزاهدة التي تقدمُ مراد اللهِ على لذائذ وشهوات النفس تسمع ذلك، فخرجت إليهم وقالت:
ما بكم؟
قالوا إن رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) يطلبكِ لفلان، قالت وما تقولان ؟
قالوا نستشير ونرى، قالت أتردانِ أمرَ رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم)، أين تذهبانِ من قول الله:
)وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ )(الأحزاب36)(28/23)
ادفعوني إليه فإن الله لا يضيعني.
ويسمعُ الرجل وينتقل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) ويخبرُه الخبر .
وتبرقُ أساريرُ وجهُه (صلى الله عليه وسلم) ويفرحُ بها، ويدعو لهذه المرأة ففازت بدعوته (صلى الله عليه وسلم).
قيل أن المال كان يأتيها لا تعلمُ من أين يأتيها.
وفي ليلةِ الزفاف ليلةِ الدخول وإذ بمنادي الجهاد ينادي أن يا خيل الله أركبي.
هنا يقف موقف أيدخلُ على زوجتهِ في أولِ ليلة في كاملِ زينتِها، أم يجيبَ داعي الله جل وعلا.
فما كان منه إلا أن تركَ هذه البنت وأنطلقَ يطلبُ الحور العين، وانتهت المعركة.
وقام النبي (صلى الله عليه وسلم) يتفقدُ أصحابه، فيقول هل تفقدون من أحد؟
قالوا نفقدُ فلاناً وفلاناً وفلانا وما فقدوا هذا الرجل خفي تقي.
قال هل تفقدون من أحد ؟، فقالوا نفقدُ فلاناً وفلاناً وما فقدوه.
فما كان منه (صلى الله عليه وسلم) إلا أن قال لكني أفقدُ أخي جليبيب، قوموا معي لنطلبه في القتلى.
ذهبَ يبحثُ عنه (صلى الله عليه وسلم)، ووجدَه قد قتل سبعة من المشركين وقتلوه.
فأخذَه (صلى الله عليه وسلم) على ذراعيه ومسحَ التراب عن وجهه وقال قتل سبعة من المشركين وقتلوه هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه.
لا إله إلا الله ماذا قدمَ هذا الرجل ؟ قدمَ قليلاً وأخذَ كثيراً وكثيراً وكثيرا.
وها هو الشيخ الحامد أحد مشايخ الشام عليه رحمة الله، ذلك الورع التقي كما نحسبه، يتوفى أخوه الأكبر فيثنى على علمه ودينه في يوم من الأيام، فيقولون له كيف أولاده وزوجته ؟
قال لقد تحولت زوجته بالأمس إلى منزل آخر، والله ما رأيتها خلال إثني عشر عاما وهم يسكنون معي في المنزل إلا يوم خرجت، وكانت مولية ظهرها لنا وألقت علينا السلام.
يعيش معها ولم ينظر إليها ولم يجلس معها وهم في بيت واحد لأنه يعلم أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال:
(الحمو الموت، الحمو الموت).(28/24)
لقد آثر أن يكون خطيب جامعا عن أن يكون رئيسا للقضاة في عهده رحمه الله.
هاهوَ صاحبيٌ أسمه أبو لبادةَ يختلفُ مع يتيمٍ على نخلةٍ كانت بين بستانينِ لهما، يدعي اليتيمُ الصغير أن هذه النخلةَ له، فيخرجُ النبيُ (صلى الله عليه وسلم) ليعاين المكان، فإذا النخلةُ في بستانِ الصحابي أبي لوبادة فيحكمُ بها لهذا الصحابي فتذرفُ دموع اليتيم، ما كان الرسولُ (صلى الله عليه وسلم) أن يغيرَ حكمَه أبدا لأنه العدل والحقُ، لكنَه أعلنَ عن مسابقةٍ قال لأبي عبادة أتعطيه النخلةَ ولك بها عذقٌ في الجنة ؟
لكنه كان مغضباً إذ كيف يشكوه والحقُ له، كان في المجلسُ أبو الدحداج عليه رحمة الله وهو رجل يبحثُ عن مثلِ هذه الأمنية فقال: يا رسول الله ألي العذقُ في الجنة إن اشتريتُ نخلته بحديقتي وأعطيتُها هذا اليتيم ؟
قال لك العذق، فما كان من أب الدحداح إلا أن لحقَ بأبي لبادةَ رضي الله عنه وقال له أتبيعُني النخلةَ بحديقتي كلها ببستاني كُله ؟
قال بعتك إياها لا خيرَ في نخلةٍ شكيتُ فيها لرسولِ الله (صلى الله عليه وسلم)، فباعه إياها.
فذهبَ أبو الدحداح ودخل ونادى على أم أبي الدحداد وأولاد أبي الدحداح أن أخرجوا فقد بعناها من الله بعذقٍ في الجنة، حتى قيل أن بعض أطفالهِ في أيديهمُ بعض الرطب فكان يأخذَه ويقول قد بعناه من الله ويرميه في البستانَ.
خرج ولم يكتفِ بذلك ولم يرضى ثمنا للجنة إلا أن يقدم دمَه ليزهق في سبيل الله عز وجلِ.
وتأتي موقعة أحد، ويشارك الجيش ويكون الرسول فيها في حالة تعلمونها في آخر المعركة وقد شج وجهه وكسرت رباعيته بأبي هو وأمي (صلى الله عليه وسلم).
ولم ينسى أصحابه في تلك اللحظة الحرجة، يمر فإذا هو بأبي الدحداح فيمسحُ التراب عن وجهه ويقول:
يرحمُك الله، كم من عذقٍ مذللٍ الآن لآبي الدحداح في الجنة.
ماذا خسر أبو الدحداح ؟(28/25)
خسر تراب، وشجيرات ونخيلات، لكنه فاز بجنةٍ عرضها الأرضُ والسماوات. وذلك هو الفوز، ومن عرف الحق هانت عنده التضحيات.
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن لا أحقر شيء مهما قل:
بل أتعلم وأعمل وأدأب وأداوم ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وأحب العمل إلى الله ادومه وإن قل، والقليل إلى القليل كثير وإنما السيل اجتماع النقط: اليوم شيء وغدا مثله....... من نقب العلم التي تلتقط
يحصل المرء به حكمة........ وإنما الشي اجتماع النقط
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن أحسن الظن بالمؤمنين:
وأن أحملهم على خير المحامل ما استطعت إلى ذلك سبيلا، ذلك الخلق الذي لا يتصف به حقا إلا المؤمنون:
)وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت:35)
ها هو أبو أيوب بعد حادثة الإفك التي عاش فيها نبينا (صلى الله عليه وسلم) شهرا من المحنة والابتلاء، يوم رمي في عرضه وفي صميم دعوته وفي قواعد رسالته، يأتي أبو أيوب بعد أن تنزلت البراءة من فوق سبع سماوات إلى أم أيوب ويقول: يا أم أيوب ارأيت لو كنت مكان عائشة أيمكن أن تفعلي ما رميت به عائشة رضي الله عنها؟
قالت لا والله، قال فوالله لعائشة خير منك وخير من نساء العالمين.
قال يا أبا أيوب ارأيت لو كنت مكان صفوان أيمكن ن تفعل ما رمي به صفوان ؟
قال لا والله، قالت فصفوان واله خير منك.
إحسان ظن بالمؤمنين وهذا هو الخلق الذي لا يتصف به إلا المؤمنون، بل إن عائشة رضي الله عنها صاحبة المعاناة في حديث الإفك والذي بقيت وقتا من الزمن لا يرقأ لها دمع، دموعها وقلبها يتفطر، تسمع رجلا يسب حسان لأن حسان كان ممن وقع وتكلم في حديث الإفك، فتقول دعوه، أليس هو القائل:
فإن أبي وولده وعرضي..........لعرض محمد منكم وقاء
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن أعداء الأعداء من لا يواجهك.(28/26)
وإنما يغدر بك ويقتلك ويتقمص شخصك، ويتقمص عملك أحيانا لينقض عليك وهو يتبسم وهذا هو أشرس الأعداء، وهو أقوى الأعداء ظاهريا وإلا ففي باطنه فهو على شرف حرف هار.
إذا رأيت نيوب الضبع بارزة........... فلا تظن أن الضبع يبتسم
إنه النفاق والمنافقون:
إن النفاق لآفة فتاكة إن.......... أهملت أدت إلى الأسقام
وقضت على آمالنا في أمة........ راياتها في البحر كالأعلام
المنافقون ذلكم السوس الذي ينخر في جسد الأمة المسلمة منذ عهد النبوة وإلى اليوم، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ما يريدون أن يتكلم داعية، ما يريدون أن يؤمر بمعروف ولا أن ينهى عن فاحشة فقبحهم الله وأرداهم في الحافرة.
إذا ذكر الله اشمأزت قلوبهم وإذا ذكر الذين من دون إذا هم يستبشرون.
لهم ألف وجه بعد ما ضاع وجههم.......... فلم تدري فيها أي وجه تصدق
ملعونين أينما ثقفوا فهم في الدرك الأسفل من النار، ولن تجد لهم نصيرا.
إن المنافقين جراثيم تسمم وبكتيريا عفونة يتربصون بالمؤمنين الدوائر، خذلوا المؤمنين في أحد وتبوك، ولا زالوا يخذلونهم إلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لسان حالهم:
لن تستريح قلوبنا إلا إذا........... لم يبقى في الأرض الفسيحة مسلم
يريدون غير ما يظهرون، ويسرون غير ما يبدون قائدهم وكبيرهم ومنظرهم الذي علمهم الخبث أبن سبأ الذي ظهر في عهد عثمان رضي الله عنه وأرضاه وأندس في الصفوف على أنه مسلم، وكم من مندس في الصفوف على أنه مسلم:
ولو كان سهما واحدا لاتفيته.......... ولكنه سهم وثاني وثالث
يدير رحاها ألف كسرى وقيصر........وألف مدير للمدير مدير
تقولون من هم؟
نقول: ) وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ )(محمد30).(28/27)
ظهر هذا الرجل في عهد عثمان وقام يجوب البلدان ليجمع قطاع الطرق والمفسدين ليكون عصابة من المنافقين وبعض المغفلين ليفسد نفوسهم على عثمان رضي الله عنه، وقد نجح إلى حد ما، ونجاحهم دائما مؤقت. وهو خسارة وإنما تسميته بالنجاح من باب تسمية اللديغ بالسليم.
حتى أنه ليأتي في يوم من الأيام مع عصابته ليدفعهم ليحاصروا عثمان رضي الله عنه وأرضاه في بيته.
ولينفردوا به ليضربه الغافقي بحديدة معه، ثم بضرب المصحف برجله وهو يقرأ منه رضي الله عنه ليستدير المصحف ويستقر مرة أخرى بين يدي عثمان، ويتخضب بالدماء .
ويغشى عليه ويجر برجله رضي الله عنه وأرضاه، ويأتي أحدهم في سيفه يريد وضعه في بطنه فتقيه إحدى الناس بيدها فيقطع يدها قطع الله دابره.
ثم يتكأ بالسيف على صدر عثمان، وبينما هو كذلك إذ وثب شقي آخر على صدر عثمان وبه رمق رضي الله عنه فطعنه تسع طعنات قائلا: أما ثلاث منها فلله وأما ست فلشيء كان في صدري عليه.
ثم يثب آخر عليه فيكسر ضلعا من أضلاعه، فلا إله إلا الله.
إنها مجزرة دموية يدبرها السبئيون في كل مكان وفي كل زمان يريدون قطع رأس هذا الدين وكسر أضلاع معتنقيه، والمبرر أنها لله، ولو صدقوا لقالوا: ستا منها لما في الصدور.
) قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(التوبة30)
وبصيحة لله الصادرة من المنافقين في كل زمان ضاع كثير من شباب المسلمين، وثبط شباب آخرون وكشفت أسرار وملأت سجون وكلها لله كما يزعمون ولو صدقوا وأنصفوا لقالوا:
ستا منها لما في الصدور، وولله إنها كلها لما في الصدور.
حتى عثمان وهو يُذهب به ليدفن يرجم سريره ويحاول أن يمنع من الدفن في البقيع، ويقتل معه عبدان كان يدافعان عنه ويرمى بهما لتأكلهما الكلاب ولما تدفن جثثهم بعد.
أنظر أخي الكريم كيف وصلت الأمور بالمنافقين إلى أن يقدموا جثثا أعزها الله طعاما للكلاب.
لهم أشد على المؤمنين من الكلاب والنصارى.(28/28)
)ْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (المنافقون:4)
ولا إله إلا الله، يقول الحسن:
لو كان للمنافقين أذنابا لما استطعنا أن نمشي في الطرقات.
قوله على عهده رضي الله عنه وأرضاه، فما نقول نحن الآن، لكن نقول كل سيلقى الله بسريرته وعلانيته وعندها يتبين من بكى ممن تباكى.
يذكر أأمتنا أن رجلا تاب من عمل كان يقوم به وهو من أرذل الأعمال، كان يأتي على قبر الميت في أو ليلة من لياليه فيفتح القبر ويسرق الكفن ويذهب ليبيعه، هذه حالته لفترة طويلة ثم ترك هذا العمل فسأل:
قيل له لما تركت هذا العمل؟
قال والله لقد فتحت ألف قبر من قبور أهل القبلة فما وجدت واحدا منهم موجه إلى القبلة، وأنا أفتحه في أو ليلة من ليالي الدفن.
فما الذي حوله عن القبلة؟ ما الذي حوله عن ذلك إلا ما كان يظهره هنا ويسر، ما كان يخادع به هنا ظهر هناك.
بيننا وبينهم يوم تبلى السرائر، بيننا وبينهم يوم يبعثر ما في القبور ويحصل ما في الصدور.
وأقول مع ذلك:
فتنبهوا يا معشر الإسلام من............ أحلامكم فالضعف في الأحلام
لا تغفلوا عن حاقد يقضان يرقب....... نومكم كالوحش في الأجام
حرب المعاصي والنفاق صراحة......... ليست سوى حرب على الإسلام
لا تقل زال عصر النفاق، فلكل عصر رجاله:
ما زال فينا ألوف من بني سبأ..........يؤذون أهل التقى بغيا وعدوانا
ما زال لأبن سلول شيعة كثروا........أضحى النفاق لهم وسما وعنوانا
لكن أخي لا تبتئس فالكون يملكه......رب إذا قال كن في أمره كانا
) وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)(آل عمران120)
والمؤمنون على عناية ربهم يتوكلون........... لا شيئا يرهبهم ولا هم في الحوادث يحزنون(28/29)
لو مر واحدهم على فرعون يجتز الرؤوس...... لأراك في لإفصاح هارون وبالإقدام موسى
)َّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ)(المنافقون8)
علمتني الحياة في ظل العقيدة أنه لا نجاح للدعوة ولا ثمرة لها إن نحن أعطينها فضول أوقاتنا.
إذا لم ننسى معها طعامنا وشرابنا وراحتنا، إذا لم نجند كل طاقاتنا فلن نفلح في إيصال الأمانة التي كلفنا الله بها.
يقول (صلى الله عليه وسلم): (بلغوا عني ولو آية).
لم يدع فرصة لكسول ولا لخامل ولا لتنبل ولا لبطال، بلغوا عني ولو آية.
ألا فليكن الوجود للإسلام، والرسالة الإسلام والهوية الإسلام، له نحي وبه نحي وعليه نموت، حزننا لله وغضبنا لله ورضانا لله، حياتنا لله، ومماتنا لله لسان حال الواحد منه:
قد اختارنا الله في دعوته.........وإنا سنمضي على سنته
فمنا الذين قضوا نحبهم......... ومنا الحفيظ على ذمته
ها هو نوح يدعو ويسعى كما سمعتم لا يفتر ولا ييئس بالليل والنهار لمدة تسع مائة وخمسين عاما، ماذا بقي من حياة نوح لم يسخر للدعوة إلى الله، وما النتيجة كما سمعتم لم يؤمن معه لا قليل.
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يحمل هم هذا الدين ويدخل الهم به حتى يواسيه ربه سبحانه بقوله:
) فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَات)(فاطر: من الآية8)
يريد حياتهم ويريدون موته، يريد نجاتهم ويريدون غرقه، يأخذ بحجزهم وهم يتهافتون كالفراش على النار.
ثم أنظر من بعده إلى صحابته رضوان الله عليهم تجد حياتهم قد أوقفت لله رب العالمين، في اليقظة يعملون لهذا الدين، في الليل يعملون لهذا الدين، أمانيهم لخدمة هذا الدين، لم تكن حول قضايا شخصية ولا هموما أرضية، يجمع عمر أصحابه يوما من الأيام ويقول تمنوا:
فيقول أحدهم أتمنى أن يكون معي ملئ هذه البيت جواهر فأنفقها في سبيل الله.
ويقول الآخر أتمنى أن يكون معي ملئ هذا البيت ذهبا أنفقه في سبيل الله.(28/30)
فيقول عمر لكني أتمنى أن يكون معي ملئ هذا البيت رجالا أستعملهم في طاعة الله.
حملوا هم هذا الدين:
لا تعرضن بذكرنا مع ذكرهم.......... ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
لكن هل أعجبتك خصالهم ؟
إذا أعجبتك خصال أمرء ........ فكنه يكن منك ما يعجبك
فليس على الجود والمكرمات...... إذا جئتها حاجب يحجبك
ليسأل كل واحد منها نفسه كم جعل من وقته للدعوة إلى الله ؟
ماذا قدم لدين الله عز وجل ؟
ماذا قدم لنفسه ؟
كم اهتدى على يديه ؟
إن الإيجابيات واضحة ومخجلة.
لم نعطي للدعوة سوى فضول أوقاتنا، وسوى فضول جهودنا إلا عند من رحم الله.
لكن الفرصة لا زالت قائمة فجد واجتهد عبد الله، وسارع فستبقى طائفة على الحق منصورة فجند نفسك أن تكون في ركاب هذه الطائفة:
لأن عرف التاريخ أوسا وخزرج.......... فلله أوس قادمون وخزرج
وإنا لندعو الله حتى كأنما.................نرى بجميل الظن ما الله صانع
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن صوت الحق لا يخمد أبدا إذ هو أبلج، والبطل زبد لجلج.
الباطل ساعة والحق إلى قيام الساعة.
والحق يعلو والآباطل تسفل.......... والحق عن أحكامه لا يُسأل
وإذا استحالت حالة وتبدلت.......... فالله عز وجل لا يتبدل
ها هو رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقف صفا واحدا في بداية دعوته والبشرية كلها ضده تريد إطفاء النور الذي جاء به ومع ذلك خسروا وما كيد الكافرين إلا في ظلال، يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، ولو كره المنافقون، ولو كره الفاسقون.
ويأتي صحابته من بعده (صلى الله عليه وسلم) فيصدعون بالحق لا يخشون في الله لومة لائم، ومن بعدهم وإلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها لا تزال هناك طائفة فيها خير عظيم قد أخبر بها النبي (صلى الله عليه وسلم).
ولأن لا نيئس ولأن لا نقنط نأتي بهذه الحادثة:(28/31)
الشيخ عبد الحميد الجزائري رحمه الله كما ورد في تاريخ الجزائر ورد أن المندوب الفرنسي أيام الاستعمار كان يقول بكل صراحة: جئنا لطمس معالم الإسلام، واستدعى الشيخ عبد الحميد وقال له إما أن تقلع عن تلقين تلاميذك هذه الأفكار وإلا أرسلت الجنود لقفل المسجد وإخماد أصواتكم المنكرة، فقال الشيخ بثبات المؤمن:
إنك لن تستطيع فاستشاط غضبا وأرغى وأزبد وقال كيف ؟
قال إن كنت في حفل عرس علمت المحتفلين.
وإن كنت في اجتماع علمت المجتمعين.
وإن ركبت سيارة علمت الراكبين.
وإن ركبت قطارا علمت المسافرين.
وإن دخلت السجن أرشدت المسجونين.
وإن قتلتموني ألهبتم مشاعر المسلمين.
وخير كم ثم خير لكم ثم خير لكم أن لا تتعرضوا للأمة في دينها.
فوالله لا نقاتلكم لا بهذا الدين ووالله لا نقاتلكم إلا لهذا الدين:
إذا الله أحياء أمة لن يردها......... إلى الموت جبار ولا متكبر
ديننا الحق والكفر ذا دينهم........كل دين سوى ديننا باطل
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن الأذى لا يهزم دعوة أبدا.
ولن يصل الطغاة إلى قلب مؤمن مهما فعلوا:
)إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر:51)
أبو بكر النابلسي عليه رحمة الله، ذلكم الزاهد الورع العابد يوم ملك الفاطميون الروافض بلاد مصر عطلوا الصلوات وحاربوا أهل السنة وذبحوا من علماء السنة الكثير، واستدعى المعزٌ الحاكم أبا بكر النابلسي عليه رحمة الله فقال له:
بلغني عنك أنك قلت لو كان معي عشرة أسهم لرميت الروم بتسعة ورميت الفاطميين بسهم.
قال أبا بكر لا... فظن المعز أنه رجع عن قوله، قال المعز كيف ؟
قال أبا بكر بل ينبغي رميكم أيها الفاطميون بتسعة ورمي الروم بالعاشر.
فأرغى وأزبد وأمر بضربه في اليوم الأول، ثم أمر بإشهاره في اليوم الثاني، ثم أمر في اليوم الثالث بسلخه حيا.(28/32)
فجيء بيهودي فجعل يسلخه وهو يقرأ القرآن حتى أشفق عليه اليهودي فلما وصل في سلخه إلى قلبه طعنه بالسكين ليلقى ربه فكان يسمى بالشهيد.
علو في الحياة وفي الممات، فهل انتهت دعوة أبي بكر بقتل أبي بكر، هل خلف أبو بكر أحدا ؟
نعم خلف أبو بكر ألف أبي بكر من أهل السنة، وأهل السنة يقوم بذمتهم أدناهم.
إذا سيد منا مضى قام سيد........... قئول بما قال الكرام فعول
وهكذا كم عالم سقط على الطريق وعاشت كلمة الحق، وكم عالم عذب وأهين من أجل أن تبقى كلمة الحق عالية، وبقيت كلمة الحق، وكم من عالم حُرم جميع حقوقه من أجل أن يُحفظ حق الله، وبقيت كلمت الحق:
) وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ)(المنافقون8)
تالله ما الدعوات تهزم بالأذى ........... أبدا وفي التاريخ بر يميني
ضع في يدي القيد ألهب أضلعي......... بالسوط ضع عنقي على السكين
لن تستطيع حصار فكري ساعة......... أو كبح إيماني ورد يقيني
فالنور في قلبي وقلبي في يدي........... ربي وربي حافظي ومعيني
علمتني الحياة في ظل العقيدة الإسلامية أن سهام الليل لا تخطئ ولكن لها أمد وللأمد انقضاء.
فإذا ادهمت الخطوب وضاقت عليك الأرض وعز الصديق وقل الناصر وقل الناصر وزمجر الباطل وأهله، ودعم الفساد وأهله وكبت الحق وأهله ونطقت الرويبظة وغدا القرد ليثا وأفلتت الغنم، فأرفع يديك إلى من يقول:
)وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ )(غافر60)
يا من أجبت دعاء نوح فأنتصر........ وحملته في فلكك المشحون
يا من أحال النار حول خليله.......... روحا وريحانا بقولك كوني
يا من أمرت الحوت يلفظ يونس...... وسترته بشجيرة اليقطين
يا رب إنا مثله في كربة............... فأرحم عبادا كلهم ذو النون
تم الكلام وربنا محمود........وله المكارم والعلا والجود
وعلى النبي محمد صلواته.... ما ناح قمري وأورق عود(28/33)
سبحان ربك رب العزة عن ما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وأشهد أن لا إله إلا هو سبحانه وبحمده.
………………………………
تم بحمد الله وتوفيقه.
أخي الحبيب – رعاك الله
لا نقصد من نشر هذه المادة القراءة فقط أو حفظها في جهاز الحاسب،
بل نأمل منك تفاعلا أكثر من خلال:
- إبلاغنا عن الخطأ الإملائي أو الهجائي كي يتم التعديل.
- نشر هذه المادة في مواقع أخرى قدر المستطاع على الشبكة.
- مراجعتها ومن ثم طباعتها وتغليفها بطريقة جذابة كهدية للأحباب والأصحاب.
- الاستئذان من الشيخ لتبني طباعتها ككتيب يكون صدقة جارية لك إلى قيام الساعة.
أخي الحبيب لا تحرمنا من دعوة صالحة في ظهر الغيب.
من خلال اقتراحاتك وتوجيهاتك لأخيك يمكن أن تساهم في هذا العمل الجليل.
اللهم اجعل هذا العمل خالصا لوجهك الكريم.
للتواصل: أخوكم البوراق / anaheho@maktoob.com
http://www.khayma.com/ante99/index.htm(28/34)
محاضرة : هكذا علمتني الحياة (2)
فضيلة الشيخ : علي عبد الخالق القرني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد الأحد، تعالى عن الشريك والصاحبة والولد.
نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه.
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين فشرح به الصدور وأنار به العقول، وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا.
اللهم اجزه عنا أفضل ما جزيت نبيا عن أمته وأعلي على جميع الدرجات درجته واحشرنا تحت لوائه وزمرته وأوردنا حوضه في الآخرة.
اللهم لا تجعل لقلوبنا الآن حوضا ترده إلا كتابك وسنة نبيك (صلى الله عليه وسلم) أفضل صلاة وأتم سلام وأكمله وأعلاه.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
اللهم وبغض إلى قلوبنا البدعة والمبتدعين، وأرنا الحق حقا والباطل باطلا ووفقنا لأتباع الحق والعمل به والدعوة إليه والصبرَ على الأذى فيه ابتغاء وجهك وطلب مرضاتك.
( رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ* رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ).
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً).(29/1)
سلام عليكم ورحمته وبركاته، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعنا وإياكم على الإيمان والذكر والقرآن، وأن يجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله.
ثم يجمعنا أخرى سرمدية أبدية في دار قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها.
أحبتي في الله:
لقائنا الليلة يتجدد مع الجزء الثاني من محاضرة هكذا علمتني الحياة.
لكم غنم هذه المحاضرة وعلي غرمها، لكم صفوها وعلي كدرها.
هذه بضاعتي وإن كنت قليل البضاعة تعرض عليكم، وهذه بنات أفكاري تزف إليكم، فإن صادفت قبولا فإمساك بمعروف، وإن لم يكن فتسريح بإحسان والله المستعان.
ما كان من صواب فمن الله الواحد المنان.
وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان والله بريء منه ورسوله والله المستعان.
وأنا العبد الفقير القليل الضعيف المهوان نُبذ مما سنح لي من المعارف تحت ظل العقيدة.
أسأل الله أن يجعلها لي ولكم ذخرا ليوم تتقلب فيه القلوب والأبصار.
وأسأله أن يجعلها من صالحات الأعمال وخالصات الآثار وباقيات الحسنات إلى آخر الأعمار. رباه،رباه:
يظن الناس بي خيرا وإني....... لشر الناس إن لم تعفو عني
وما لي حيلة إلا رجائي ........وعفوك إن عفوت وحسن ظني
اللهم اجعلني خيرا مما يظنون، وأغفر لي ما لا يعلمون، وهكذا علمتني الحياة:
علمتني الحياة في ظل العقيدة إنه لا خيرَ ولا أفضل ولا أجملَ ولا أحسنَ من كلمةٍ طيبة:
)أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ* تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).
أخي: إن البر شيء هين..........وجه طليق وكلام لين
هاهو أعرابي كما يروى يدخل على رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم) وهو بين أصحابه:
فيمسكه بتلابيبه ويهزَه ويقول:(29/2)
أعطني من مالِ اللهِ الذي أعطاك لا من مالي أبيكَ ولا من مالِ أمِك.
فيقومُ صحابةُ رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم) يريدون أن يؤدبوا من يعتدي على شخصِ محمدٍ (صلى الله عليه وسلم) فيقول عليه الصلاة والسلام:
على رسلِكم المالُ مالُ الله، أو كما قال (صلى الله عليه وسلم).
ثم يأخذُ هذا الأعرابيُ يداعبُه ويلاطِفُه، ويذهبُ به إلى بيتِه (صلى الله عليه وسلم) فيقول:
خذ ما شئت ودع ما شئت.
لكن ماذا يأخذ من بيتِ محمدٍ (صلى الله عليه وسلم) ؟
بيتٌ لا توقدُ فيه النارِ شهرينِ ولا ثلاثةَ أشهر، بيتٌ لم يشبعَ أهلُه من خبزِ الشعير، ولم يشبع من دقل التمر ورديء التمرِ، بيتُ يأتي السائلُ يسأل فلا يوجد يوم من الأيام في بيته إلا عنبة، وفي يوم من الأيام لا يوجد في بيته (صلى الله عليه وسلم) سوى تمرة واحدة، لكنه خيرُ بيتٍ وجدَ على ظهرِ الأرضِ بأبي وأمي صاحبُ ذاك البيت (صلى الله عليه وسلم).
ما ملك الأعرابيُ إلا أن قال: أحسنتَ وجزاك الله من أهلٍ وعشيرةٍ خيرا.
قال عليه الصلاة والسلام:
إن أصحابي قد وجدوا عليك أو كما قال (صلى الله عليه وسلم)، فأخرج إليهم وقل لهم ما قلتَ لي الآن، فخرجَ وجاء إليهم فقال (صلى الله عليه وسلم) هل أحسنتُ إليكَ يا أعرابي؟ قال نعم وجزاك الله من أهلٍ وعشيرةٍ خيرا، أشهدُ أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم).
فقال (صلى الله عليه وسلم):
إنما مثلي ومثلكم و مثل هذا الأعرابي كرجل كانت له دابة، فنفرت منه فذهب يطاردها، فجاء الناس كلهم وراءه يطاردون فما ازدادت الدابة إلا نفارا وشراد، فقال دعوني ودابتي أنا أعلم بدابتي، فأخذ من خشاش الأرض ولوح به لهذه الدابة فما كانت منها إلا أن انساقت إليه وجاءت إليه فأمسك بها، أما إني لو تركتكم على هذا الأعرابي لضربتموه فأوجعتموه فذهب من عندِكم على كفرهِ فماتَ فدخل النار.(29/3)
أريتم إلى الكلمةِ الطيبةُ يا أيها الأحبة، فلا إله إلا الله لا أفضلَ من دفعِ السيئةِ بالحسنة، إنها آسرةُ القلوبِ والأرواح، إنها مستلةُ الأضغانِ والأحقاد والسخائم من القلوب.
)وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).
المؤمنُ الحق يا أيها الأحبة كالشجرةِ المثمرةِ كلما رُجِمت بالحجارةِ أسقطت ثمراً طيبا.
فيا له من قمة ويا لها من مُثل.
هاهوَ يهوديُ معه كلبُ، واليهود لطالما استفزوا المسلمين يريدون أن يوقعوهم في شركهم، يمرُ على إبراهيمَ ابن أدهم – عليه حمة الله - ذلكم المؤمنُ فيقولُ لهُ:
ألحيتُك يا إبراهيم أطهرُ من ذنبِ هذا الكلب، أم ذنبُ الكلبِ أطهرُ من لحيتِك ؟
فما كان منه إلا أن قال بهدوءِ المؤمنِ الواثقِ بموعود الله عز وجل:
إن كانت في الجنةِ لهيِ أطهرُ من ذنبِ كلبك، وإن كانت في النارِ لذنبُ كلبيكَ أطهرُ منها.
فما ملك هذا اليهوديُ إلا أن قال:
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، والله ما هذه إلا أخلاقُ الأنبياء.
) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ* وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).
أقولُ هذا لعموم الناس، أما نحن الدعاة ونحن طلبة العلم والمفترض في الحاضرين أن يكونوا طلبة علم، ليس لنا أن ننزل عن مستوى دعوتنا إلى التراشقِ برديءِ الكلام.
ليس لنا أن ننزل إلى سفاسف الأمور ولو حاول غيرنا جرنا إلى هذه الأمور.
يكن تحركنا ذاتيا، فلا يحركنا غيرنا لأن لا نستجر إلى معارك وهمية خاسرة ولا شك، ثم علينا أن لا نغضبَ لأنفسِنا بل علينا أن نسموَ بأنفسِنا عن كلِ بذيءٍ وعن كلِ ساقط.
لو كل كلب عوى ألقمته حجرا.......لأصبح الصخر مثقالا بدينار(29/4)
ومن عاتب الجهال أتعب نفسه....... ومن لام من لا يعرف اللوم أفسد
ليس معنى ذلك أن نستسلم فلا ندافع، لكن المدافعة أحيانا يا أيها الأحبة تكون بالسكوت.
والمدافعة أحيانا تكون بالاختفاء.
والمدافعة أحيانا تكون بالإعراض عن الجاهلين.
في يوم أحُد وما أدراكم ما يوم أحُد، يوم أصاب المسلمين ما أصابهم، نادى أبو سفيان، ولا زال مشركا رضي الله عنه وأرضاه، قال:
هل فيكم محمد ؟
فلم يرد عليه (صلى الله عليه وسلم) ولم يأمر أحدا بالرد.
هل فيكم أبو بكر، هل فيكم عمر؟
فلم يجبه أحد مع أن الجواب قد كان أغيظ له، لكن الموقف كان يستلزم السكوت من باب قول القائل:
إذا نطق السفيه فلا تجبه........ فخير من إجابته السكوت
فإن كلمته فرجت عنه......... وإن خليته كمدا يموت
ومن باب قول الآخر:
والصمتُ عن جاهلٍ أو أحمقٍ شرفُ....... وفيه أيضاً لصونِ العرض إصلاحُ
أما ترى الأسدَ تخشى وهي صامتةٌ ........ والكلبُ يخزى لعمرُ اللهِ نباحُ
وهاهوَ الإمامُ أحمد عليه رحمةُ الله في مجلسه وبين تلاميذه، ويأتي سفيهُ من السفهاء، فيسبُه ويشتُمه ويقذعه بالسب والشتم، فيقولُ له طلابُه وتلاميذُه:
يا أبا عبد الله رد على هذا السفيه، قال لا والله فأينَ القرآنُ إذاً:
)وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً).
إذ سبني نذلٌ تزايدتُ رفعةً .......... وما العيبُ إلا أن أكونَ مساببُه
ولو لم تكن نفسي عليَ عزيزةً ....... لمكنتُها من كلِ نذلٍ تحاربُه
هاهوَ مصعبُ ابنُ عميرٍ رضي اللهُ عنه سفيرُ الدعوةِ الأولُ إلى المدينةِ النبوية، يأتيهِ أسيدُ أبنُ حضيرٍ بحربته وهو لا يزالُ مشركاً، فيقول لمصعبُ :
ما الذي جاءَ بك إلينا تسفهُ أحلامنَا وتشتمُ آلهتَنا وتضيعَ ضعفائَنا ؟
اعتزلنا إن كنتَ في حاجةٍ إلى نفسِك و إلا فاعتبر نفسَك مقتولاَ.(29/5)
فما كان من مصعب بهدوءِ المؤمنِ الواثقِ بموعودِ الله وبنصر الله لهذه الدعوة إلا أن قال له في كلماتٍ هادئة:ٍ أو تجلسُ فتسمع، فإن رضيتَ أمرَنا قبِلته، وإن كرهتَهُ كففنا عنكَ ما تكره.
قال: لقد أنصفت.
وكانَ عاقلاً لبيبا، فكلمه مصعبُ رضي الله عنه عن الإسلام وقرأ عليه القرآن فتهللَ وجهُه وبرقت أساريرُه وجهه واستهل وجهه ثم قال:
كيفَ تصنعونَ إذا أردتم الدخولَ في هذا الدين ؟
جاءَ ليقتلَه والآن يريدُ أن ينهلَ من ما نهلَ مه مصعب.
قال اغتسل وتطهر وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسوله (صلى الله عليه وسلم).
أسلم الرجل وفي نفس الوقت أصبح داعية، قول:
إن ورائي رجلا إن اتبعكم لم يتخلف عنه أحد من قومه هو سعد أبن معاذ.
وذهب إلى هذا الرجل واستفزه بكلمات معينة فجاء هذا يركض إلى مصعب ويقول:
إما أن تكف عنا وإما أن نقتلك.
قال أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمرنا قبلته وإن لم ترضه كففنا عنك ما تكره، فجلس.
فقام يخبره عن الإسلام ويبين له هذا الدين فما كان منه إلا أن استهل وجهه وبرقت أسارير وجهه وقال: كيف يفعل من يريد الدخول في هذا الدين؟
قالوا اغتسل وتطهر وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
ففعل، ثم خرج من توه داعية إلى قومه، فذهب إلى بني عبد الأشهل وقال:
كيف تعلمون أمري فيكم ؟ قالوا سيدنا وأفضلنا رأي وخيرنا وأيمننا.
قال فإن كلامكم علي حرام رجالكم والنساء حتى تأمنوا بالله الذي لا إله إلا هو وتصدقوا برسالة محمدا (صلى الله عليه وسلم).
يقول فلم يبقى رجل ولا امرأة في تلك الليلة إلا مسلم أو مسلمة.
فلا إله إلا الله الكلمةَ الطيبةَ، الإحسانَ الإحسان والله يحبُ المحسنين.
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ........ لطالما ما ملك الإنسان إحسان
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن الاجتماع والمحبةَ بين المؤمنين قوةً، وأن التفرُقَ والتشتتَ ضعفٌ، فإن الإنسانَ قليلٌ بنفسهِ كثيرٌ بإخوانه.(29/6)
وما المرء إلا بإخوانه............. كما تقبض الكف بالمعصم
ولا خير في الكف مقطوعة...... ولا خير في الساعد الأجذم
يقولُ عمرُ رضي اللهُ عنه وأرضاه:
ما أعطيَ عبدُ بعد الإسلامِ خيرٌ من أخٍ صالحٍ يذكرُه بالله، فإذا رأى أحدُكم من أخيه وداً فليتمسك به.
تمسك به مسك البخيل بماله....... وعض عليه بالنواجذ تغنم
ويقولُ الحسنُ عليه رحمةُ الله:
إخوانُنا أحبُ إلينا من أهلِنا و أولادِنا، لآن أهلُنا يذكروننا بالدنيا وإخوانُنا يذكرُننا بالآخرة، ويعنوننا على الشدائد في العاجلة.
إن يختلف نسبٌ يؤلفُ بيننا ...... .ديننا أقمناه مقامَ الوالدِ
أو يختلف ماء الوصالِ فماؤنا....... عذبُ تحدر من غمامٍ واحدِ
يقولُ عمرُ رضي الله عنه:
واللهِ لو لا أن أجالس اخوةً لي ينتقونَ أطايبَ القول كما يلتقط أطايبُ الثمر لأحببتُ أن ألحق بالله الآن.
وها هي جماعة من النمل تصادف بعيرا فيقول بعضها:
تفرقنا عنه لا يحطمكن بخفه، فقالت حكيمة منهن اجتمعن عليه تقتلنه.
تأبى الرماح إذا اجتمعنا تكسرا...... وإذا انفردنا تكسرت أحاد
بنيانُ واحد، جسدُ واحد، أمةٌ واحدة.
لو كبرت في جموعِ الصينِ مإذنةٌ ......... سمعتَ في الغربِ تهليلُ المصلينَ
)وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا).
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن لا تضيعَ فرصةً في طاعة:
فإن لكل متحركٍ سكونَ، ولكلِ إقبالٍ أدبار، ورحم اللهُ أبا بكرٍ رضي الله عنه وأرضاه يوم يقول (صلى الله عليه وسلم) كما في صحيح مسلم:(29/7)
( من أصبحَ منكم اليومَ صائما، قال أبو بكرٍ أنا، من تبعَ منكم اليومَ جنازةً، قال أبو بكرٍ أنا، من عاد منكم اليومَ مريضاً، قال أبو بكرٍ أنا، من تصدقَ اليومَ على مسكين، قال أبو بكرٍ أنا، قال (صلى الله عليه وسلم) ما اجتمعنا في رجلٍ إلا ودخل الجنة).
من لي بمثل مشيك المعتدل....تمشي الهوين وتجي في الأول
خرجَ أبو بكرٍ من عندِ رسولِ الله (صلى الله عليه وسلم) ولم يكن عمرُه في الإسلامِ بضعة أيامٍ، وعاد وهو يقود الكتيبةَ الأولى من كتائبِ هذه الأمة، عاد وقد أدخل في الإسلام ستةً من العشرةِ المبشرين بالجنة يأتي يومَ القيامةِ وهم في صحيفةِ حسناته، وبعضُنا يعيشُ عشرين عاما وثلاثين عاما وستين عاما ومائة عاما وما هدى الله على يديه رجلاً واحد، إلى اللهِ نشكو ضعفنا وتقصيرَنا.
ليسَ هذا فحسب بل يمرُ يوماً من الأيامِ على بلالَ رضي الله عنه وهو يعذبُ في رمضاءِ مكةَ وبه من الجهدِ ما به وهو يقول أحدُ أحد فيقول ينجيك الواحد الأحد.
ويذهب ويرى أنها فرصةٌ لا تتعوضَ لإنقاذِ هؤلاء الضعفاء لآن لا يفتنوا في دينِهم فيصفي تجارتِه ويصفي أموالَه ويأتي إلى أميةَ ابنَ خلف ويقولُ:
أتبيعُني بلالاً؟ قال أبيعُك إياهُ لا خيرَ فيه، فيعطيهِ فيه خمسَ أواقيً ذهبا.
فيأخذَ أمية الخمسَ ويقول:
واللهِ لو أبيت إلا أوقيةً واحدةً لبعتُك بلالا.
قالَ أبو بكر: و واللهِ لو أبيت يا أمية إلا مائة أوقيةً لأخذته منك.
لأن لأبي بكرٍ موازينَ ومقاييسَ ليست لهذا ولا لغيره من البشر فرضي اللهُ عنه وأرضاه.
يقولُ أبوه: إن كنتَ ولا بدَ منفقُ أموالَك فأنفقها على رجالٍ أشداء ينفعونك في وقتِ الشدائد.
فيقولُ أبتاه إنما أريدُ ما أريد.
ماذا يريدُ أبو بكرٍ رضي الله عنه وأرضاه؟
إنه يريدُ ما عندَ الله ويريدُ وجه الله والدار الآخرة0.(29/8)
يقولُ الناسَ ما أعتقَ بلالاً إلا ليدٍ كانت له عند بلال، يعني لمعروفٍ أسداه بلال إليه فأراد أن يكافئَه بذلك، فيتولى اللهُ سبحانه وتعالى الردَ من فوقِ سبعِ سماوات:
)وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى).
رضي اللهُ عنه وأرضاه قد كان سباقاً إلى كل فرصة يغتنمها.
وها هو خيثمة أبن الحارث كان له أبن يسمى سعد، ولما أراد المسلمون النفور إلى بدر، أرادوا الجهاد في سبيل الله، فما كان من هذا الرجل إلا أن قال لأبنه:
يا بني تعلم أنه ليس مع النساء من يحميهن، وأريد أن تبقى معهن.
وراء هذا الشاب أن هذه فرصة لا تتعوض، جهاد في سبيل الله، قال:
والله يا أبتاه لا أجلس مع هؤلاء النساء، للنساء رب يحميهن، والله ما في الدنيا شيء تطمع به نفسي دونك، والله لو كان غير الجنة يا أبتاه لآثرتك به، ولكنها الجنة، ووالله لا آثر بها أحدا.
ثم ذهب الشاب وترك الشيخ الكبير مع هؤلاء النساء، ذهب يطلب ما عند الله، فأستشهد في سبيل الله، بأذن الله نحسبه شهيدا ولا نزكي على الله أحدا.
يقول أبوه بعد ذلك:
والله لقد كان سعد أعقل مني، أواهُ أواه لقد فاز بها دوني، والله لقد رأيته البارحة في المنام يسرح في أنهار الجنة، وثمارها ويقول أبتاه، الحق بنا فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا.
وهاهو أبو خيثمة يتخلف عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في غزوة تبوك، وكانت له زوجتان، جاءهما يوما فوجد كل واحدة منهما قد رشت عريشها بالماء، وبردت له الماء ووضعت له الطعام.
فلما رأى ذلك بكى وقال: أواهُ أواه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في الحر والريح، وأبو خيثمة في الظل والماء البارد، والله ما هذا بالنصف.
ورأى أنها فرصة لو فاتته لعد من المنافقين، قال:
والله لا أذوق شيئا حتى ألحق برسول الله (صلى الله عليه وسلم).(29/9)
فهيئ زاده وهيئ راحلته وأنطلق وحيدا في صحاري يبيد فيه البيد، ويضيع فيها الذكي والبليد.
ولحق بالنبي (صلى الله عليه وسلم) فأدركه قرب تبوك، وراءه الناس فقالوا:
ركب مقبل يا رسول الله.
فقال (صلى الله عليه وسلم) كن أبا خيثمة، كن أبا خيثمة، قال الصحابة هو أبو خيثمة.
فدعاء له (صلى الله عليه وسلم) ففاز بدعوة النبي (صلى الله عليه وسلم) وياله من فوز.
)لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى).
كانوا سباقين إلى فعل الخير، لا يضيعون فرصة في طاعة الله عز وجل.
والي من الولاة في عهده بنى له بناء في واسط وزخرفه وأكثر فيه من الزخرفة ثم دعا الناس للفرجة عليه والدعاء له، فما كان من الحسن البصري رحمه الله يوم اجتمع الناس كلهم إلا أن رآها فرصة لا تعوض أن يعض الناس ويذكرهم بالله ويزهدهم في الدنيا ويرغبهم في ما عند الله جل وعلا، فما كان منه إلا أن انطلق ثم وقف بجانبهم هناك فحمد الله وأثناء عليه فاتجهت إليه القلوب والأبصار ثم قال:
لقد نظرتم إلى ما ابتنى أخبث الأخبثين فوجدنا أن فرعون بنى أعلا من ما بنى وشيد أعلا مما شيد، أليس هو القائل: ) أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي)، فأجرى الله الأنهار من فوق رأسه، ليته يعلم أن أهل السماء مقتوه، وأن أهل الأرض قد غروه، وأندفع يتدفق في موعظته حتى أشفق عليه أحد السامعين من هذا الوالي فقالوا حسبك يا أبا سعيد حسبك.
قال لا والله، لقد أخذ الله الميثاق على أهل العلم ليبيننه للناس ولا يكتمونه.
من كتم علما ألجمه الله بلجام من نار.
ويسمع ذلك الوالي، ويأتي لجلسائه يتميز من الغيظ ويدخل عليه ويقول:
تبا لكم وسحقا وهلاكا وبعدا، يقوم عبد من عبيد أهل البصرة فيقول فينا ما شاء أن يقول، ثم لا يجد من يرده أو ينكر عليه، والله لأسقينكم من دمه يا معشر الجبناء.(29/10)
ثم أمر بالسيف والجلاد والنطع، وما كان منه إلا أن استدعى الحسن عليه رحمة الله، فتقدم ودخل، فلما رأى السيف والجلاد تمتم بكلمات ولم يعرف الحجاب والحراس ماذا يقول.
ويوم دخل وقد خاف الله، فخوف الله منه كل شيء، دخل على هذا الوالي، فما كان منه إلا أن قال:
أهلا بك أيها الإمام، وقام يرحب به ويقول هاهنا يا أبا سعيد، حتى أجلسه على مجلسه وعلى كرسيه بجانبه، ويسأله بعض الأسئلة ثم يقول له أنت أعلم العلماء يا أبا سعيد، انصرف راشدا بعد أن طيب لحيته.
فخرج من عنده فلحق به أحد الحجاب وقال:
والله لقد دعاك لغير ما فعل بك، فماذا كنت تقول ؟
قال دعني ونفسي، قال أسألك بالله ماذا كنت تقول وأنت داخل؟
قال كنت أقول: يا ولي نعمتي وملاذي عند كربتي أجعل نقمته علي بردا وسلاما كما جعلت النار بردا وسلاما على إبراهيم.
اتصل بالله عز وجل ولم يضيع هذه الفرصة، وعلم الله صدقه فأنجه وأنقذه وحفظه.
والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين.
فالحياة أيها الأحبةُ فرص، من اغتنمها فاز ومن ضيعها خسر: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ).
إذا هبت رياحك فاغتنمها........ فإن لكل خافقة سكون
ولا تغفل عن الإحسان فيها....... فلا تدري السكون متى يكون
وإن درت نياقك فاحتلبها..........فلا تدري الفصيل لم يكون
أترجُ أن تكونَ وأنت شيخٌ ......كما قد كنتَ أيامَ الشبابِ
لقد خدعتك نفسُك ليسَ ثوبٌ.... دريس كالجديدِ من الثيابِ
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن لا أعيبَ أحداً ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.
وأن أشتغلَ بإصلاحِ عيوبي، وإنها لكبيرة جد كبيرة، آما يستحي من يعيبَ الناس وهو معيب.
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها........ كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
من ذا الذي ما ساء قط....... ومن له الحسنى فقط.
تريد مبرأ لا عيب فيه......... وهل نار تفوح بلا دخان.(29/11)
هاهو عمر أبنُ عبد العزيز عليه رحمة الله ورضوانه يختار جلاسه أختيارا، ويشترطُ عليهم شروطا، فكان من شروطه أن لا تغتابوا ولا تعيبوا أحدا في مجلسي حتى تنصرفوا.
السهلًُ أهونُ مسلكا........ فدع الطرق الأوعرَ
واحفظ لسانك تسترح......فلقد كفى ما قد جرى
هاهوَ ابنُ سيرين عليه رحمةُ الله كان إذا ذُكرَ في مجلسه رجل بسيئةٍ بادر فذكرَه بأحسنِ ما يعلمُ من أمره، فيذبُ عن عرضه فيذبُ اللهُ عن عرضه.
سمع يوما أحد جلاسه يسبُ الحجاجَ بعد وفاته، فأقبل مغضباً وقال:
صه يا أبن أخي فقد مضى الحجاج إلى ربِه، وإنك حين تقدُمُ على اللهِ ستجدُ أن أحقرَ ذنبٍ ارتكبتَه في الدنيا أشدَ على نفسِك من أعظمِ ذنبٍ اقترفَه الحجاج و )لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ).
واعلم يا أبن أخي أن اللهَ عز وجل سوف يقتصُ من الحجاجِ لمن ظلمَهم، كما سيقتصُ للحجاجِ ممن ظلموه، فلا تشغلنا نفسك بعد اليومِ بعيبِ أحد ولا تتبعَ عثراتِ أحد.
ومن يتتبع جاهدا كل عثرة يجدها..........ولا يسلم له الدهر صاحب
يا عائبَ الناسِ وهو معيب اتقِ الله، أعراضُ المسلمينَ حفرةٌ من حُفرِ النار.
وخواص المسلمين هم العلماء والوقيعة فيهم عظيمة جد عظيمة، لحومهم مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصهم معلومة، ومن أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب.
وكم من عائب قولا صحيحا..........وآفته من الفهم السقيم
ومن يكو ذا فم مر مريض............. يجد مرا به الماء الزلال
فإن عبت قوما بالذي فيك مثلُه..........فكيف يعيبُ من الناسَ من هو أعورُ
وإن عبتَ قوما بالذي ليسَ فيهمُ....... فذلك عند اللهِ والناسِ أكبرُ
من طلبَ أخا بلا عيبٍ صار بلا أخ، ألا فانظر لإخوانك بعين الرضى:
فعينُ الرضى عن كل عيبٍ كليلةُ.........ولكن عين السخطِ تبدي المساوي.
فكيف ترى في عينِ صاحبك القذى..... ويخفى قذى عينيك وهو عظيمُ(29/12)
بعض الأخوة ظلمة، بعضُ الأخوة غيرُ منصفين، يرون القذاةَ في أعين غيرهم ولا يرونَ الجذعَ في أعينِهم.
فحالُهم كقولُ القائل:
إن يسمعوا ُسبةً طاروا بها فرحا...... مني وما يسمعوا من صالحٍ دفنوا
صمُ إذا سمعوا خيرا ذكرت به........ وإن ذكرتُ بسوءٍ عندهم أذنوا
إن يعلموا الخيرَ أخفوه......وإن علموا شرا أذاعوا... وإن لم يعلموا كذبوا.
طوبى لمن شغلته عيوبُه عن عيوبِ غيره. وكان حالُه:
لنفسي أبكي لستُ أبكي لغيرها..... لنفسيَ عن نفس من الناسِ شاغلُ
والكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن الصاحبَ ساحب وأن القرينَ بالقرين يقتدي:
وأن الناسَ أشكالٌ كأشكالُ الطير، الحمامُ مع الحمام، والغراب مع الغراب والدجاجُ مع الدجاج، والنسور مع النسور والصقورُ مع الصقور، وكلاً مع شكلِه، والطيورُ على أشكالها تقعُ، والخليلُ على دينِ خليله، ففرَ من خليلِ السوء فِرارك من الأسد، فهو أجربُ معدٍ، يقودُك إلى جهنَم إن أجبتهُ قذفَك فيها وسيكون لك عدواً بين يدي الله الواحد الأحد: )الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ).
هاهوَ عقبةُ ابن أبي مُعيط كان يجلسُ مع النبيِ (صلى الله عليه وسلم) بمكة ولا يؤذيه، وكانَ كافرا، وقد كان بقيةُ قريشُ إذا جلسواُ معه (صلى الله عليه وسلم) يؤذونَه.
كانَ لأبنِ أبي معيط صديقٌ كافرٌ غائبٌ في الشام وقد ظنت قريش أن عقبةَ قد أسلم لما يعامل النبي (صلى الله عليه وسلم) من معاملة حسنة.
فلم قدِمَ خليله من الشام قالت قريش هاهو خليلك ابنَ أبي معيطٍ قد أسلم.(29/13)
فغضب خليله وقرينه غضبا شديداً وأبى يكلِمَ عقبةَ وأبى أن يسلمَ عليه حتى يؤذي النبي (صلى الله عليه وسلم)، فاستجاب عقبةَ له، وأذى النبي (صلى الله عليه وسلم)، حتى أنه خنقه بتلابيبه ذات مرة، وحتى أنه بصق في وجهه الشريف مرة أخرى فأستأثرَ بكلِ حقارةٍ ولؤم على وجه الأرض في تلك الساعة.
وكان عاقبته أن مات يومَ بدرٍ كافرا، فأنزل ال فيه وفي أمثاله قرأناً يتلى إلى يومِ القيامة:
)وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً).
فإياك وصديق السوء فإنه يعدي كما يعدي الصحيحَ الأجربُ.
إذا كنتَ في قومٍ فصاحب خيارَهم......ولا تصحبِ لأردى فتردى مع الرديء
عن المرءِ لا تسأل واسأل عن قرينهِ......فكلُ قرين بالمقارنِ يقتديِ
من جالس الجرب يوما في أماكنها......لو كان ذا صحة لا يأمن الجرب
أنت في الناس تقاس....... بالذي اخترت خليلا
فأصحب الأخيار تعلو.... وتنل ذكرا جميلا
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن أعمل بما أقول ما استطعت إلى ذلك سبيلا:
ومن لم يعمل بما يقول وبما يدعو له فإنما يسخر من نفسه أولا:
كالعيس في البيداء يقتلها الضما...........والماء فوق ظهورها محمول
كحامل لثياب الناس يغسلها.............وثوب غارق في الرجس والنجس
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها........ إن السفينة لا تجري على اليبس
ركوبك النعش ينسيك الركوب على.....ما كنت تركب من بعل ومن فرس
يوم القيامة لا مال ولا ولد...............وضمت القبر تنسي ليلة العرس
ابدأ بنفسك فأنهها عن غيها..............فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك ينفع ما تقول ويحتفى..............بالوعظ منك وينفع التعليم(29/14)
لا تنهى عن خلق وتأتي مثله..............عار عليك إذا فعلت عظيم
فأحرص على ما ينفعك واعمل بما تقول ما استطعت: )كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ).
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن إرضاء الناس غاية لا تدرك:
نعم إرضاء البشر ليس في الإمكان أبدا، لأن علمهم قاصر، ولأن عقولهم محدودة، يعتورهم الهوى ويعتورهم النقص، ويتفاوتون في الفهم والإدراك فلا يمكن إرضاءهم، فمن ترضي إذا ؟
أرضي الله جل وعلا وكفى.
هاهو رجل يبني له بيتا فيضع بابه جهة الشرق، فيمر عليه قوم فقالوا:
هلا وضعت بابه جهة الغرب لكان أنسب.
فيمر آخرون ويقولون هلا وضعت بابه جهة الشمال لكان أجمل.
ويمر آخرون ويقولون لولا وضعته جهة الجنوب لكان أنسب.
وكل له نظر ولن ترضيهم جميعا فأرضي الله وكفى.
هاهو رجل وأبنه ومعهما حمار، ركب الأب وترك الابن ومشيا، فمروا على قوم فقالوا:
يا له من أب ليس فيه شفقة ولا رحمة يركب ويترك هذا الابن المسكين يمشي وراءه.
فما كان منه إلا أن نزل وأركب هذا الطفل، فمروا على قوم آخرين فقالوا:
ياله من ابن عاق يترك أباه يمشي وراء الدابة وهو يركب الدابة.
فركب الاثنان على الدابة ومروا على قوم آخرين فقالوا:
يا لهم من فجرة حملوها فوق طاقتها.
فنزل الاثنان ومشيا وراء الدابة فمروا على قوم فقالوا:
حمقى مغفلون يسخر الله لهم هذه الدابة ثم يتركونها تمشي ويمشون ورائها.
)وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ َ).
من ترضي أخي في الله ؟ أرضي الله وكفى. من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس.
لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، أما إرضاء رب الناس فهو الممكن سبحانه وبحمده، بل هو الواجب، لأن سبيل الله واحد، ولأن دينه واحد:(29/15)
)وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ).
يذكر الشيخ عمر الأشقر في كتابه (مواقف) حدثا يناسب هذه النقطة.
يذكر أن طفلة صغيرة من بيت محافظ تعود لأمها من المدرسة ذات يوم وعليها سحابة حزن وكآبه وهم وغم، فتسألها أمها عن سبب ذلك فتقول:
إن مدرستي هددتني إن جئت مرة أخرى بمثل هذه الملابس الطويلة.
فتقول الأم ولكنها الملابس التي يريدها الله جل وعلا.
فتقول الطفلة، لكن المدرسة لا تريدها.
قالت الأم، المدرسة لا تريد والله يريد فمن تطيعين إذا؟ الذي خلقك وصورك وأنعم عليك أم مخلوقا لا يملك ضرا ولا نفعا.
فقالت الطفلة بفطرتها السليمة، لا.. بل أطيع الله وليكن ما يكون.
وفي اليوم الثاني تلبس تلك الملابس وتذهب بها إلى المدرسة، فلما رأتها المعلمة انفجرت غاضبة، تؤنب تلك الفتاة التي تتحدى إرادتها، ولا تستجيب لطلبها، ولا تخاف من تهديدها ووعيدها، أكثرت عليها من الكلام، ولما زادت المعلمة في التأنيب والتبكيت ثقل الأمر على الطفلة البريئة المسكينة فانفجرت في بكاء عظيم شديد مرير أليم أذهل المعلمة، ثم كفكفت دموعها وقالت كلمة حق تخرج من فمها كالقذيفة، تقول:
والله لا أدري من أطيع أنتي أم هو!
قالت المعلمة ومن هو ؟
قالت الله رب العلمين الذي خلقني وخلقك وصورني وصورك، أأطيعك فألبس ما تريدين وأغضبه هو، أم أطيعه وأعصيك أنتي، لا، لا سأطيعه وليكن ما يكون.
إذا لم يكن إلا الأسنة مركبا........ فما حيلة المضطر إلا ركوبها
ذهلت المعلمة وشدهت وسكنت، وهل هي تتكلم مع طفلة أم مع راشدة، ووقت منها الكلمات موقعا عظيما، وسكتت عنها المعلمة، وفي اليوم التالي تستدعي المعلمة أم البنت وتقول:
لقد وعظتني أبنتك أعظم موعظة سمعتها في حياتي، لقد تبت إلى الله وأبت إلى الله، فقد جعلت نفسي ندا لله حتى عرفتني ابنتك من أنا، فجزاك الله من أم مربية خيرا.(29/16)
وهنا أقول – أيها الأحبة- إلى أن نرضي الله جل وعلا، وأن نعرف أن الحق إنما يصل إلى القلوب إذا خرج من القلوب التي تؤمن به، وتعمل بمقتضاه، أما الكلمات الباردة فلن تأثر في السامعين أبدا.
ألا فأرضي الله جل وعلا وكفى.
فلست بناجي من مقالة طاعن......... ولو كنت في غار على جبل وعر
ومن ذا الذي ينجو من الناس سالما..... ولو غاب عنهم بين خافيتي نسر
)وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ).
(وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ).
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن أحبَ الحقَ وفلاناً ما اجتمعا:
فإذا افترقا كان الحقَ أحبَ من فلانٍ ونفسي ومالي وأهلي ولدي والناسِ أجمعين.
لأنني مولع بالحق لست إلى سواه..........أنحو ولا في نصره أهن
دعهم يعضوا على صم الحصى كمدا.....من مات من غيظه منهم له كفن
هاهوَ سعد ابنَ أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه، يستجيبُ لدعوةِ الهدى والحق فيكونَ ثالثُ ثلاثةٍ أسلموا، لكن إسلامه لم يمرَ هيناً سهلا، وإنما تعرضَ الفتى إلى تجربةٍ من أقسى التجارب أنزل الله في شأنها قرأناً يتلى، فلما سمِعت أمهُ بخبرِ إسلامِه ثارت ثائرتُها، يقول:
وكنت فتى براً محباً لها، قال فأقبلت تقول يا سعد ما هذا الدينُ الذي اعتنقته فصرفَك عن دينِ آبائِك وأجدادِك، لتتركنَ هذا الدين أو لامتنعنَ عن الطعامِ والشراب حتى أموتَ فيتفطرُ قلبُك حزنٌ علي ويأكلَك الندمُ بفعلتك التي فعلت ويعيرَك الناس بها أبد الدهر.
قال قلت يا أماه لا تفعلي فأنا لا أدعو ديني لشي.
لكنها نفذَت وعيدها وامتنعت عن الطعامِ والشراب أياما، كان يأتيها ويسألَها أن تتبلغ بقليل من طعام أو شراب فترفضُ ذلك، فما كان منه ذلك اليومَ إلا أن جاءها وقال:
يا أماه إني لعلى شديدِ حبي لكي لأشدُ حباً لله ورسولِه، واللهِ لو كانت لكِ آلفُ نفسٍ فخرجت منكِ نفساً بعد نفسٍ ما ارتددت عن ديني فكلي أو دعي.(29/17)
فلما وضعها أمام هذا الأمرَ ما كان منها إلا أن أكلَت على كُره منها فأنزل اللهُ فيه وفيها: (وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
وهاهو الإمام مالك يأتيه رجل يستفتيه وهو في حلقة العلم في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، يدخل هذا الرجل إليه ويقول:
يا إمام قد قلت لزوجتي أنت طالق إن لم تكوني أحلى من قمر.
ففكر الإمام قليلا ثم قال: ليس هناك أحلى من القمر، هذه طلقة ولا تعد لذلك.
كان تلميذه الشافعي يجلس إلى سارية من السواري، ولم يدري ما الذي حدث بينهما، وكان حريصا على طلب العلم، فلحق بهذا الأعرابي وقال: ما السؤال وما الإجابة، يريد أن يستفيد فائدة.
قال: قلت للإمام كذا وكذا، فقال القمر أحلى من زوجتك فزوجتك قد طلقت طلقة.
فقال: الإمام الشافعي لا، بل زوجتك أحلى من قمر.
قال أو قد رأيتها، وكانوا ذا غيرة، اغتاظ منه، قال لا، ألم تسمع قول الله جل وعلا:
)وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ *لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ).
فخلق الإنسان أحسن خلق، وأقوم خلق وأعدل خلق.
قال إذا نرجع إلى الإمام مالك، قال نرجع إليه.
فرجعوا إلى الإمام مالك فأخبروه الخبر فقال، الحق أحق أن يتبع أخطأ مالك وأصاب الشافعي.
فما أحوجنا إلى معرفة الرجال بالحق لا العكس.
والحق يعلو والأباطيل تسفل.... والحق عن أحكامه لا يُسأل
وإذا استحالة حالة وتبدلت..... فالله عز وجل لا يتبدل.
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن لا نفرح في صفوفنا بالهازلين:
المضيعين لأوقاتهم المفرطين في المزاح المنغمسين في الملهيات.
نريد رجالا أشداء لا ينثنون للريح، يشقون الطريق بعزم وجد، لا تلهيهم كرة، ولا يضيعهم تلفاز ولا هراء، وقتهم أعظم وأثمن من أن يضيع في مثل هذه الترهات.(29/18)
نريد من يأخذ الحياة بجد، فالحياة الحقيقية للشجعان الأقوياء العاملين، ولا مكان فيها للكسالى والتنابلة والبطالين والمتخاذلين.
نريد من يشق طريقه معتمدا على الله بعيدا عن التفكير الهامشي السافل، التفكير في الشهوات، التفكير في الملهيات، والركض ورائها والتفكير المادي المنحط.
نريد شباب يتربى على معالي الأمور، ويترفع عن سفاسف الأمور ليكونوا ممن قيل فيهم:
شباب ذللوا سبل المعالي........ وما عرفوا سوى الإسلام دين
إذا شهدوا الوغى كانوا حماة.... يدكون المعاقل والحصون
وإن جن المساء فلا تراهم........ من الإشفاق إلا ساجدين
شباب لم تحطمه الليالي......... ولم يسلم إلى الخصم العرين
وما عرفوا الأغاني مائعات...... ولكن العلا صيغة لحون
ولم يتشدقوا بقشور علم....... ولم يتقلبوا في الملحدين
ولم يتبجحوا في كل أمر....... خطير كي يقال مثقفون
كذلك أخر الإسلام قومي...... شبابا مخلصا حرا أمين
وعلمه الكرامة كيف تبنى........ فيأب أن يذل وأن يهون
أين نجد هؤلاء الشباب ؟
نجد هؤلاء في المسارح، أعلى المدرجات، أعلى الأرصفة ؟
لا... إنما نجدهم في حلقات العلم والتعلم، في بيوت الله، في الأمر والنهي.
فلتأخذ الحياة بجد، ولتعد الأنفس ليوم الشدائد، فما ندري ما المرحلة القادمة.
يا رقد الليل مسرورا بأوله...... إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
كيف يرجو من به كسل....... نيل ما قد ناله الرجل
من يريد العز يطلبه............. في دروب ما به سهل
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن النفس البشرية كالطفل تماما:
إن هذبتها وأدبتها صلحت واستقامت، وإن أهملتها وتركتها خابت وخسرت، بل هي كالبعير إن علفتها وغذيتها بالمفيد سكنت وثبتت واطمأنت وخدمت، وإن تركتها صدت وندت وشردت.
النفس بطبيعتها تميل إلى الشهوات والملذات والهوى، وتأمر بالسوء والفحشاء، وإذا لم يقيدها وازع دين عظيم تنقاد إلى السقوط والهلاك.(29/19)
والنفس كالطفل إن تهمله شب على .......حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فخالف النفس والشيطان واعصهما........ وإن هما محضاك النصح فاتهمي
وإصلاح نفسك بما يكون أيها الحبيب ؟
بالمجاهدة: )وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).
يقول ثابت البناني عليه رحمة الله:
تعذبت في الصلاة عشرين سنة، يجاهد نفسه عشرين سنة ليصلي لله في بيوت الله، قال ثم تنعمت بها عشرين سنة أخرى، والله إني لأدخل في الصلاة فأحمل هم خروجي منها.
وأعظم المجاهدة مجاهدة النيات، فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا.
يقول أحد السلف، ما من شيء فعلته صغر أو كبر إلا وينشر له ديوانان، لما وكيف.
لما فعلت ؟، ما علت الفعل وما باعث هذا الفعل؟ هل هو لحظ دنيوي، لجلب نفع لدفع ضر، أم لتحقيق العبودية لله وابتغاء الوسيلة إليه سبحانه وبحمده.
هل فعلت هذا الفعل لمولاك أم لحظك وهواك.
وكيف فعلت هذا الفعل؟ هل الفعل وفق ما شرعه الله ورسوله، أم ليس عليه أمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) القائل: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد).
فأعظم ما يربي النفس مجاهدة النية.
يقول سفيان الثوري : ما عالجت شيئا أشد علي من نيتي.
يا نفس أخلصي تتخلصي، إخلاص ساعة نجاة الأبد ولكن الإخلاص عزيز، وطوبى لمن صحة له خطوة يراد بها وجه الله.
هاهو أبن الجوزي عليه رحمة الله الذي لطالما جاهد نيته، تحل به سكرات الموت فيشتد بكائه ونحيبه، فيقول جلاسه: يا إمام أحسن الظن بالله، ألست من فعلت ومن فعلت.
قال والله ما أخشى إلا قول الله: ) وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ).
)وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ).(29/20)
أخشى أن أكون فرطت وخلطت ونافقت فيبدو لي الآن ما لم أكن أحتسب، وتبدو لي سيئات ما كسبت.
وهو الذي يقول عن نفسه كما في صيد الخاطر:
قد تاب على يدي في مجالس الذكر أكثر من مائتي ألف، وأسلم على يدي أكثر من مائتي نفس، وكم سالت عيني متجبر بوعظي لم تكن تسيل، ويحق لمن تلمح هذا الإنعام أن يرجو التمام، ولكم اشتد خوفي إلى تقصيري وزللي، لقد جلست يوما واعظا فنظرت حوالي أكثر من عشرة آلاف ما منهم من أحد إلا رق قلبه أو دمعت عينه، قال فقلت في نفسي:
كيف بك يا بن الجوزي إن نجى هؤلاء وهلكت، كيف بك يا ابن الجوزي إن نجى هؤلاء وهلكت، ثم صاح إلهي ومولاي وسيدي إن عذبتني غدا فلا تخبرهم بعذابي لأن لا يقال عذب الله من دعا إليه، عذب الله من دل عليه.
إلهي وأنت أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين لا تخيب من علق أمله ورجائه بك، وخضع لسلطانك، دعا عبدك إلى دينك ولم يكن أهلا لولوج باب رحمتك، لكنه طامع في سعة جودك ورحمتك أنت أهل الجود والكرم.
فأخلصوا تتخلصوا، طوبى لم صحت له خطوة يراد بها وجه الله تعالى.
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن كثيرا من الناس محاضن خالدة لتربية الأجيال:
ولبعضهن مواقف مشرفة تصلح نبراسا وأنموذجا لفتياتنا وأمهاتنا وأخواتنا في وقت أصبحت مصممة الأزياء والممثلة والراقصة والفنانة العاهرة الفاجرة هي القدوة وهي الأسوة إلا عند من رحمهن الله سبحانه.
فإليكم بعض النماذج:
هاهي صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها، يتوفى عنها زوجها ويترك له أبنا هو الزبير رضي الله عنه، فنشأته نشأة الخشونة وربته على الفروسية والحرب، وجعلت لعبه في بري السهام وإصلاح القسي، ودأبت على قذفه في كل مخوفة، وتقحمه في كل حط، فإذا أحجم ضربته ضربا حتى أنها عوتبت من بعض أعمامه حيث قال لها إنك تضربينه ضرب مبغضة لا ضرب أم، قالت مرتجزة:
من قال قد أبغضته فقد كذب.... وإنما أضربه لكي يلب .....ويهزم الجيش ويأتي بالسلب.(29/21)
آمنت بالله جل وعلا، وصدقت برسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وهاجرت مع من هاجر وهي تخطو إلى الستين من عمرها، وفي أحُد جاهدت مع أبن أخيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وجاهدت مع أخيها حمزة رضي الله عنه، ومع ابنها الزبير رضي الله عنه، ذرية بعضها من بعض.
فلم انكشف المسلمون في أحد كما تعلمون هبت هذه المرأة كاللبؤة وانتزعت رمحا من أحد المنهزمين وانقضت تشق الصفوف وتزأر في المسلمين كالأسد وتقول ويحكم أتفرون عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
ويراها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فيقول لأبنها الزبير :
ردها فإن أخاها حمزة قد مثل به المشركون.
فقال لها ابنها إليك يا أماه، قالت تنحى عني لا أم لك، أتفر عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
قال إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يأمرك أن ترجعي.
وقد كانوا وقافين عند أمر الله وأمر رسوله- قالت الأمر أمر الله وأمر رسوله (صلى الله عليه وسلم).
توقفت وقالت ولما يردني رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، إنه قد بلغني أنه قد مثل بأخي وذلك قي ذات الله، وذلك في سبيل الله، والحمد لله.
فقال (صلى الله عليه وسلم) لأبنها خلي سبيلها، فخاضت المعركة حتى انتهت.
ولما وضعت الحرب أوزارها، وقفت على حمزة أخيها وقفت العظماء، وقد بقر بطنه وأخرجت كبده، وجدع أنفه، وقطعت أذناه، وشوه وجهه، فاستغفرت له وجعلت تقول:
إن ذلك في ذات الله، إن ذلك لفي ذات الله وقد رضيت بقضاء الله، دموعها تذرف وقلبها يلتهب:
وليس الذي يجري من العين مائها....... ولكنها روح تسيل فتقطر
تقول الأصبرن واحتسبن إن شاء الله، الأصبرن واحتسبن إن شاء الله.(29/22)
هذا موقف من مواقف صفية، وموقف آخر لا يقل عن هذا الموقف، في يوم الخندق تركها النبي (صلى الله عليه وسلم) مع نساء المسلمين في حصن حسان وهو من أمنع الحصون هناك، وجاء اليهود فأرسلوا واحدا ليرى هل أبقى الرسول (صلى الله عليه وسلم) حماة للنساء والذراري في هذا الحصن أم لم يبقي أحدا، فرأت ذلك اليهودي يتسلل إلى الحصن، فما كان منها إلا أن نزلت عليه بعامود فضربته أولى وثانية وثالثة حتى قتلته، ثم احتزت رأسه ثم طلعت به إلى أعلى الحصن ثم رمت برأسه فإذا هو يتدحرج بين أيد اليهود، فقال قائل اليهود قد علمنا أن محمدا لم يترك النساء من غير حماة.
فرحم الله صفية رحمة واسعة فقد كانت مثلا فذا للأم المربية المسلمة، ربت وحيدها وصبرت على أخيها، وكانت أول امرأة قتلت مشركا في الإسلام فرحمها الله رحمة واسعة، وأخرج من أصلاب هذه الأمة نساء كتلك المرأة، بل رجالا كصفية.
وهاهي ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، تلكم المرأة التي حظيت بموقف لم تحظى به امرأة قبلها ولا بعدها وهي خدمة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في طريق الهجرة في الغار.
ثم أنظر إلى تلك المرأة في أواخر سني عمرها، في أحلك المواقف وقد بلغت السابعة والتسعين، أبنها يحاصر في الحرم، ويصبح في موقف حرج، فيذهب مباشرة إلى أمه يستشيرها في الموقف وماذا يفعل.
فقالت تلكم المؤمنة الصابرة:
أنت أعلم بنفسك إن كنت تعلم أنك على حق وتدعو إلى الحق فأصبر عليه حتى تموت في سبيله، وإن كنت تريد الدنيا فلبأس العبد أنت أهلكت نفسك ومن معك.
قال يا أماه والله ما أردت الدنيا، وما جرت في حكم وما ظلمت وما غدرت والله يعلم سريرتي، وما في قلبي، فقالت الحمد لله وإني لأرجو الله أن يكون عزائي فيك حسنا إن سبقتني إلى الله.
تعانقا عناق الوداع، ثم قالت:
يا بني اقترب حتى أشم رائحتك، وأضم جسدك، فقد يكون هذا آخر العهد بك0.(29/23)
فأكب على يديها ورجليها ووجهها يلثمها ويقبلها دموع تشتبك في دموع، وهي تتلمس أبنها وهي عمياء لا ترى، ثم ترفع يدها وهي تقول ما هذا الذي تلبسه؟
قال درعي، قالت يا بني ما هذا لباس من يريد الشهادة في سبيل الله، انزعه عنك فهو أقوى لوثبتك وأخف لحركتك، وألبس بدلا منه سراويل مضاعفة حتى إذا صرعت لم تنكشف عورتك.
فنزع درعه وشد سراويله ومضى إلى الحرم لمواصلة القتال وهو يقول لا تفتري عن الدعاء يا أماه.
فرفعت كفها قائلة اللهم أرحم طول قيامه، وشدت نحيبه في سواد الليل والناس نيام، اللهم أرحم جوعه وظمئه في هواجر مكة والمدينة، اللهم إني قد أسلمته لك ورضيت بما قضيت فيه، فأثبني فيه ثواب الصابرين.
ويذهب أبنها وبعد ساعة من الزمن انقضت في قتال مرير غير متكافئ تلقى أبنها عبد الله ضربة الموت ليلقى الله عز وجل، ليس هذا فحسب بل يصلب جثمانه كالطود الشامخ في الحجون.
علو في الحياة وفي الممات...... بحق أنت إحدى المكرمات
كأنك واقف فيهم خطيبا...... وهم وقفوا قياما للصلاة.
وتسمع الأم الصابرة ذات السبع والتسعين سنة العمياء البصيرة، وتذهب إلى ولدها المصلوب تتلمس حتى تصل، فتأتي فإذا هو الطود الشامخ، تقترب منه وتدعو له، وإذ بقاتله يأتي إليها في هوان وذلة ويقول:
يا أماه إن الخليفة أوصاني بك خيرا.
فتصيح به لست لك بأم، أنا أم هذا المصلوب وعند الله تجتمع الخصوم.
ويتقدم أبن عمر رضي الله عنه معزيا لها ومواسيا لها، فيقول اتقي الله واصبري، فتقول له بلسان المؤمنة الواثقة بموعود الله:
يا ابن عمر ماذا يمنعني أن أصبر وقد أهدي رأس يحي ابن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.
أريتم ما أعظم الأم وما أعظم الابن وما أعظم الأب.
سلام على ذات النطاقين، وسلام على ابن الزبير، وسلام على الزبير، وسلام على أبي بكر، وسلام على صحابة رسول الله، وسلام على أمهات المؤمنين.(29/24)
النساء محاضن الرجال، بصلاحهن يصلح الجيل، وبفسادهن يفسد الجيل، ولو استطردنا في الأمثلة لوجدنا أمثلة كثيرة يعجز الرجال أن يقفوا تلك المواقف ناهيك عن النساء.
فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وسلم) تتزوج علي رضي الله عنه، تجر بالرحى حتى تأثر الرحى في يدها، وتستقي في القربة حتى أثرت في نحرها، وتقم البيت، وتوقد النار، وتربي أبنائها فيكون من أبنائها الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، هي بنت من ؟ هي أم من؟ هي زوج من؟
من ذا يساوي في الأنام علاها ؟
أما أبوها فهو أكرم مرسل........ جبريل بالتوحيد قد رباها
وعلي زوج لا تسل عنه سوى..... سيف غدا بيمينه تياها
فلو كان النساء كمن ذكرنا....... لفضلت النساء على الرجال
وما التأنيث لأسم الشمس عيب... وما التذكير فخر للهلال
آن للنساء أن يقتدين بالطهر والعفة والفضيلة، بصفية وأسماء وعائشة وفاطمة.
فالأم مدرسة إذا أعددتها..... أعددت شعبا طيب الأعراق
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن الدهر دول والأيام قلب لا تدوم على حال:
) وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ).
الدنياً غرارةُ خداعةُ إذا حلت أوحلت، وإذا كست أوكست، وإذا جلت أوجلت، وكم من ملك رفعت له علامات فلما علا مات.
هي الأقدارُ لا تبقي عزيزا ........ وساعاتُ السرورِ بها قليلة
إذا نشر الضياءَ عليك نجمُ ........ وأشرقَ فأرتقب يوما أفوله
فيومُ علينا ويومُ لنا ......... ويومُ نساءُ ويومُ نسر
الأمرُ جدُ وهو غيرُ مزاح.............. فأعمل لنفسك صالحا ياصاح
كيف البقاءُ مع اختلافِ طبائعٍ......... وكرورُ ليلٍ دائمٍ وصباح
تجري بنا الدنيا على خطرٍ كما.......... تجري عليه سفينةُ الملاح
تجري بنا في لجِ بحرٍ ماله................ من ساحلٍ أبدا ولا ضحضاح
فاقضوا مئارَبكم عجالا إنما..............أعمارُكم سفرُ من الأسفار
وتراكضوا خيل الشباب وبادروا..........أن تسترد فإنهن عوار(29/25)
الدهر يومان ذا أمن وذا خطر........ والعيش عيشان ذا صفو وذا كدر
أما ترى البحر يعلو فوقه جيف.......وتستقر بأقصى قاعه الدرر
وفي السماء نجوما لا عداد لها....... وليس يكسف إلا الشمس والقمر.
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن ميت الأحياء من لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن منكر:
)لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ).
ويقول (صلى الله عليه وسلم): (لتأمرن بالمعروف ولتنهأن عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه وتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما لعنهم).
(لتأمر بالمعروف ولتنهأن عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لكم).
(لتأمرن بالمعروف ولتنهأن عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم من لا يرحم صغيركم ولا يوقر كبيركم).
كم من ميت هو حي بأعماله، بأمره ونهيه بعلمه وعمله، وكم حي ميت يرى المنكر فلا يهزه:
يا رب حي رخام القبر مسكنه....... ورب ميت على أقدامه انتصب
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن العصا أداة للتقويم والتربية والإصلاح:
إذا صاحبتها يد حانية ولسان هادئ وقلب رحيم، العصا أداة نافعة متى ما وجدت من يستخدمها بحكمة ولطف، متى ما وضعت في موضعا أفادت كالدواء تماما.
إننا نريد العصا حين نستنفذ كل سبيل للعلاج وعنده آخر الدواء الكي، ومن الكير يخرج الذهب.
وقسا ليزدجروا ومن يكو حازما...... فليقس أحيانا على من يرحم
وهي كذلك أداة لتوكأ والهش على الغنم وفيها مآرب أخرى، وإن للخير سبل، وكم من مريد للخير لا يدركه، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.
علمتني الحياة في ظل العقيدة أن لكل بداية في الدنيا نهاية:
ولكل شمل مجتمع فرقة، ولكل نعيم انقطاع:(29/26)
إذا تم شيء بدأ نقصه............ ترقب زوالا إذا قيل تم
بينما المولود يولد ويفرح به ويؤذن في أذنه، إذ به بعد وقت ليس بالطويل يحمل ليصلى عليه ما كأنه ضحك مع من ضحك، ولا كأنه فرح مع من فرح، ولا كأنه استبشر مع من استبشر، فكأن حياته ما بين آذان وصلاة، ولا إله إلا الله ما أقصرها من حياة.
آذان المرء حين الطفل يأتي......... وتأخير الصلاة إلى الممات
دليل أن محياه يسير ............... كما بين الآذان إلى الصلاة
بينما الإنسان في أهله في ليلة آمنا مطمأنا فرحا يخبر عن غيره، إذ به في ليلة أخرى وحيدا فريدا لا مال ولا ولد ولا أنيس ولا صاحب سوى العمل، وإذا به خبر يخبر به.
بينا يرى الإنسان فيها مخبرا........فإذا به خير من الأخبار
بينما الطبيب يعالج من مرض إ به يصاب بنفس المرض، فلا طبه ينفعه، ولا دواءه يرفعه، وإذ به يلقى ما لقي غيره على يديه وحال الناس:
مال الطبيب يموت في الداء الذي..........قد كان يبرأ مثله في ما مضى
مات المداوي والمداوى والذي............جلب الدواء وباعه ومن اشترى
ما أنت والله إلا كقطعة ثلج تذوب ثم تذوب حتى تتلاشى وكأن لم تكن:
سيصير المرء يوما.....جسدا ما فيه روح
نح على نفسك يا.....مسكين إن كنت تنوح
لست بالباقي ولو.....عمرت ما عمر نوح
فأنتبه من رقدت..........الغفلة فالعمر قصير
واطّرح سوف وحتى.....فهما داء دخيل
واتقي الله وقصر أملا...ليس في الدنيا خلود للملأ
الموت لنا بالمرض ...... إن لم يفاجئ اليوم فاجئ في غد
الموت باب وكل الناس سيدخلون من هذا الباب، ومن باب إلا وبعده دار.
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها....... إلا الذي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه.......... وإن بناها بشر خاب بانيها
كتب الموت على الخلق فكم......... فل من جيش وأفنى من دول
أين نمرود وكنعان ومن ............. ملك الأرض وولى وعزل
أين من سادوا وشادوا وبنوا......... هلك الكل ولم تغني الحيل(29/27)
أين أرباب الحجى أهل التقى......... أين أهل العلم والقوم الأول
سيعيد الله كل منهم................. وسيجزي فاعلا ما قد فعل
هل شاهدت محتضرا في شدة سكراته ونزعاته ؟، هل تأملت صورته بعد مماته ؟، هل تذكرت أنك صائر إلى ما صار إليه، وذائق ما ذاقه من آلام الموت وكرباته ؟
هل تذكرت ذلك فاستعديت لتلك اللحظات العصيبة فزدت في عملك وزدت في اجهاد نفسك واجتهادك.
هاهو الحسن عليه رحمة الله يدخل على يعوده فيجده في سكرات الموت، فينظر إلى كربه وإلى شدة ما نزل به فيرجع إلى أهله حزينا كئيبا بغير اللون الذي خرج به من عندهم، فقالوا له:
يا إمام الطعام يحرمك الله، قال يا أهلاه عليكم بطعامكم وشرابكم فو الذي نفسي بيده لقد لقيت مصرعا لا أزال أعمل له حتى ألقاه.
فمثل لنفسك يا عبد الله وقد حلت بك السكرات، ونزلت بك الغمرات، وابنتك تبكيك الأسيرة وتتضرع وتقول من ليتمي بعدك ؟
وابنك ينظر ما يتعجل من اليتم بعدك ويقول من لحاجتي أبتاه ؟، وأنت تسمع فلا ترد الجواب.
هل رأيت جنازة محمولة على الأكتاف لتوارى في التراب، ثم تسألت عن حالها ما حالها.
في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد قالَ قال (صلى الله عليه وسلم):
(إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقها، إن كانت صالحت قالت قدموني قدموني، وإن كانت غير ذلك قالت يا ويلها أين تذهبون بها، يا ويلها أين تذهبون بها، يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعه لصعق).
تصرخ صرخات تقض المضاجع، فهل مثلت لنفسك أنك المحمول، ما حالنا لو احتملنا جنازة ثم صرخت تلك الصرخات، يا ويلها أين تذهبون بها، والله لصعقنا ولما حملنا جنازة أبدا، وهذا ما خشيه علينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم قال كما في صحيح مسلم:
(لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع).
فخيل لنفسك يا ابن آدم إذا أخذت من فراشك إلى لوح مغتسلك فغسلك الغاسل(29/28)
وألبست الأكفان وأوحش منك الأهل والجيران، وبكى عليك الأصحاب والأخوان، فما ينفع البكاء وما ينفع العويل وما ينفع إلا ما قدمت من صالح الأعمال.
هاهو يزيد الرقاشي عليه رحمة الله يحضر عابدا قد حضرته الوفاة وحوله أهله يبكون فقال لوالده أيها الشيخ ما الذي يبكيك ؟
قال أبكي فقدك وما أرى من جهدك.
فبكت أمه فقال أيتها الوالدة الشفيقة الرفيقة ما الذي يبكيك؟
قالت فراقك وما أتعجل من الوحشة بعدك.
فبكى صبيانه وأهله وزوجه قال يا معشر اليتامى ما الذي يبكيكم؟
قالوا نبكي ما نتعجله من اليتم بعدك.
فما كان منه إلا أن صرخ وقال كلكم يبكي لدنياي، أما فيكم من يبكي لآ لا ةخرتي، أما فيكم من يبكي لملاقاة التراب وجهي، أما فيكم من يبكي لسؤال منكر ونكير إياي، أما فيكم من يبكي لوقوفي بين يدي الله ربي، ثم صرخ صرخة عظيمة شهد بعدها أن لا إله إلا الله ليلحق بالله عز وجل.
أيها المسلم هل نظرت إلى القبور؟
ما نظر عبد لها إلا انكسر قلبه، وكان أبرأ ما يكون من القسوة والغرور، ما حافظ عبد على زيارة المقابر مع التفكر والتدبر إلا رق قلبه وذرفت عيناه إذ يرى فيها الأباء والأمهات والأصحاب والأخوان والأخوات، يرى منازلهم ويتذكر أنه قريبا سيكون بينهم، وأنهم جيران لبعضهم قد انقطع التزاور بينهم مع الجيرة وحيل بينهم وبين ما يشتهون.
قد يتدانى القبران وبينهما ما بين السماء والأرض نعيما وجحيما.
ما تذكر عبد هذه المنازل إلا رق قلبه من خشية الله، ولا وقف على شفير قبر فرآه محفورا فهيأ نفسه أن لو كان صاحبه إلا رق قلبه، ولا وقف على شفير قبر فرأى صاحبه يدلى فيه فسأل نفسه على ماذا أغلق؟
على نعيم أم على جحيم، على مطيع أم على عاص إلا رق قلبه.
فلا إله إلا الله، هو العالم بأحوالهم، هو الحكم العدل الذي يفصل بينهم، ألا فتذكر هادم اللذات، وتذكر القبر والعظام النخرات ليهتز قلبك خشية من الله فتنيب إليه إنابة الصادق الخاشع الذليل.(29/29)
هاهو أبن عوف رضي الله عنه يقول: خرجت مع عمر رضي الله عنه فلما وقفنا على مقبرة البقيع وكنت قابضا على يده فأختلس يده من يدي، ثم وضع نفسه على قبر فبكى بكاء طويل.
فقلت ما لك يا أمير المؤمنين ؟
قال يا ليت أم عمر لم تلد عمر، يا ليتني كنت شجرة، أنسيت يا ابن عوف هذه الحفرة، قال فأبكاني والله.
فالله المستعان على تلك اللحود الضيقات، والله المستعان على تلك اللحظات الحرجات.
هاهو (صلى الله عليه وسلم) كما في المسند من حديث البراء، أنه رأى أناسا مجتمعين فسأل عن سبب اجتماعهم، فقيل على قبر يحفرونه ففزع (صلى الله عليه وسلم) وذهب مسرعا حتى انتهى إلى القبر، ثم جثا على ركبته وبكى طويلا ثم أقبل على الناس وهو يقول:
يا إخواني لمثل هذا فأعدوا، يا إخواني لمثل هذا فأعدوا.
فهلا أعددنا أنفسنا لتلك اللحود الضيقات، إنه القائل (صلى الله عليه وسلم) كما في حديث أبي ذر:
(إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تأط ما فيها موضع أربع أصابع إلا ومالك واضع جبهته ساجد أو راكع، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله، (وفي رواية المنذر)، ولحثوتم على رؤوسكم التراب).
والله لو علمن حق العلم لقام أحدنا حتى ينكسر صلبه، ولصاح حتى ينقطع صوته،الأمر خطير جد خطير:
يا نفس قد أزف الرحيل وأظلك الخطب الجليل..... فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويل
فلتنزلن بموضع ينسى الخليل به الخليل.............. وليركبن عليك من الثرى حمل ثقيل
قرن الفناء بنا فلا يبقى العزيز ولا الذليل
خالف هواك إذا دعاك لريبة.......... فلرب خير في مخالفة الهوى
حتى متى لا ترعوي يا صاحبي........ حتى متى ولا ترعوي و إلى متى
علمتني الحياة في ظل العقيدة :
أن من خدم المحابر خدمته المنابر، وكم من سراج أطفأته الريح وكم من عبادة أفسدها العجب.(29/30)
وأن وضع الندى في موضع السيف في العلا... مضر كوضع السيف في موضع الندى.
وأن من أراد أمير كأبي بكر فليكن كخالد وسعد.
وأن سوف جندي من جنود إبليس.
وأن معظم النار من مستصغر الشرر
وأن الحق لا بد أن تحرسه قوة.
وأنه بالشكر تدوم النعم
وأن من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل.
وأن النار من بري العودين تذكى... وأن الحرب مبدأها كلام
وأن ثمن العزة قد يكون قطرة دم.
وأن الجواد قد يكبو، وأن الصارم قد ينبو.
وأن النار قد تخبو.
وأن الإنسان محل النسيان.
وأن الحسنات يذهبن السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين.
وأخيرا علمتني الحياة في ظل العقيدة أن أعظم سلاح بأيدي المؤمنين هو الدعاء:
سهام الليل لا تخطئ ولكن...... لها أمد و للأمد انقضاء
لا تسألن بُني آدم حاجة........ واسأل الذي أبوابه لا تحجب
الله يغضب إن تركت سؤاله.... وبني آدم حين يسأل يغضب
سلاح عظيم غفل عنه المؤمنون، لن يهلك معه أحد بأذن الله، إنه الدعاء، الالتجاء إلى رب الأرض والسماء: )وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ).
)وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ).
يقول ابن كثير عليه رحمة الله:
كان بقي ابن مخلد أحد الصالحين الأخيار عابدا قانتا خاشعا أتته امرأة صالحة فقالت:
يا بقي إن ابني أسره الأعداء في أرض الأندلس وليس لي من معين بعد الله إلا ابني هذا فسأل الله أن يرد علي ابني وأن يطلقه من أسره.
فقام وتوضأ ورفع يديه إلى الحيي الكريم الذي يستحي أن يرد يد العبدين صفرا خائبتين سبحانه وبحمده، دعا الله عز وجل أن يفك أسر ابنها، وأن يجمع شملها بابنها، وأن يفك قيده.
وبعد أيام وإذ بابنها يأتي من أرض الأندلس، فتسأله أمه ما الذي حدث ؟
قال في يوم كذا في ساعة كذا، وهي ساعة دعاء بقي، سقط قيدي من رجلي فأعادوه فسقط، الحموه فسقط فذعروا ودهشوا وخافوا وقالوا أطلقوه، قالت فعلمت أن ذلك بدعاء صالح من عبد صالح.(29/31)
)أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ).
الدعاء الدعاءَ هو العبادة.
هاهو صلة ابن أشيم كان في غزوة فمات فرسه، فتلفت يمينا وشمالا ثم قال:
اللهم لا تجعل لمخلوق علي منة فأني استحي من سؤال غيرك.
وعلم الله صدقه في سرائه وضرائه فأحي الله عز وجل له فرسه.
فركبه حتى إذا وصل أهله قال لغلامه فك السرج فإن الفرس عارية، فنزع السرج فهبط الفرس ميتا.
ولا عجب فمن توكل على الله ومن التجأ إلى الله أجاب دعائه وحفظه ولو كادته السماوات والأرض لجعل الله له من ذلك فرجا ومخرجا.
فمرة أخرى إذا ادلهمت الخطوب.
وضاقت عليك الأرض، وقل الناصر.
وزمجر الفساد، ودعم الباطل، وكبت الحق.
وعير البخيل الكريم، وعير العيي الفصيح، وعير الظلام الشمس.
وطاولت الأرض السماء سفاهة...... وفاخرت الشهب الحصى والجنادل
وتمنط كل جبان، وتخلى الأمناء، ورفع السفهاء، وتظاهر بالوفاء كل خوان.
ونطق الرويبضة، وغدى القرد ليثا وأفلتت الغنم فأرفع يديك إلى من يقول:
)وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ).
يا من أجبت دعاء نوح فأنتصر...... وحملته في فلكك المشحون
يا من أحال النار حول خليله........ روحا وريحانا بقولك كون
يا من أمرت الحوت يلفظ يونسا..... وسترته بشجيرة اليقطين
يا رب إنا مثلهم في كربة........... فأرحم عبادا كلهم ذي النون
اللهم إنا نسألك في هذه الساعة المبارك باسمك الأعظم الذي إذا سألت به أعطيت، وإذا استرحمت به رحمت، وإذا استفرجت به فرجت، أن تجيرنا من النار، وأن ترزقنا اللسنة ذاكرة، وقلوبا خاشعة، وأعينا مدرارة، وإيمانا نجد حلاوته يوم أن نلقاك.
رباه إن حالنا لا يخفى عليك، وذلنا ظاهر بين يديك، والمسلمون عبيدك وبنو عبيدك وحملة كتابك وأتباع رسولك يرجون رحمتك ويخشون عذابك.
اللهم الطف بنا، اللهم الطف بنا، اللهم ارحمنا.
رباه لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.(29/32)
يا مغيثا لمن لاذ بحماه، يا قريبا لمن دعاه، يا معيذا من استعاذ به أجرنا من النار، ومن دار الخزئ والبوار.
اللهم إن أردت بعبادك فتنة فأقبضنا إليك غير مفرطين ولا مفتونين.
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يتوفنا مسلمين وأن يلحقنا بالصالحين، وأن يجعلنا من عباده المتقين الفائزين.
اللهم وأجعل ما قلناه خالصا لوجهك الكريم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
تم الكلام وربنا محمود....... وله المكارم والعلا والجود
وعلى النبي محمد صلواته..... ما ناح قمري وأورق عود
………………………………
تم بحمد الله وتوفيقه.
أخي الحبيب – رعاك الله
لا نقصد من نشر هذه المادة القراءة فقط أو حفظها في جهاز الحاسب،
بل نأمل منك تفاعلا أكثر من خلال:
- إبلاغنا عن الخطأ الإملائي كي يتم التعديل.
- نشر هذه المادة في مواقع أخرى قدر المستطاع على الشبكة.
- مراجعتها ومن ثم طباعتها وتغليفها بطريقة جذابة كهدية للأحباب والأصحاب.
- الاستئذان من الشيخ لتبني طباعتها ككتيب يكون صدقة جارية لك إلى قيام الساعة.
في اقتراحاتك وتوجيهاتك لأخيك يمكن أن تساهم في هذا العمل الجليل.
اللهم اجعل هذا العمل خالصا لوجهك الكريم.
أخي الحبيب لا تحرمنا من دعوة صالحة في ظهر الغيب..
للتواصل: أخوكم البوراق / anaheho@maktoob.com
http://www.khayma.com/ante99/index.htm(29/33)
هلموا إلى القرآن
لفضيلة الشيخ / علي عبد الخالق القرني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القائل ( إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور ) أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله القائل "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة" صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً
يا خادم الجسم كم تسعي لخدمته *** أتعبت نفسك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها *** فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
عباد الله وأنتم تعيشون شهر القرآن اتقوا الله واعلموا أن لكل رسول من الرسل عليهم الصلاة والسلام معجزة اِختُصَّ بهذه المعجزة من بين الرسل ليصدقه قومه وليعلن التوحيد فيهم بالبراهين فكان لموسى عليه السلام معجزة العصا يوم خرج في قوم بلغوا في السحر ذروته ومنتهاه فأتت عصاه تلقف ما صنعوا فوقع الحق و بطل ما كانوا يعملون وبلغ قوم عيسي مبلغاً عظيماً في الطب فأتي إليهم عيسي بطب من الواحد الأحد يبرأ الأكمة والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله فوقع الحق و اندحر الباطل و أما رسولنا صلى الله عليه وسلم فبعث في أمة فصيحة في لغتها مجيدة في بيانها خطيبها أخطب الخطباء و شاعرها أرقى الشعراء فأتي إليهم صلى الله عليه و سلم بالقرآن سمعوه فدهشوا من بيانه و بهتوا من بلاغته و فصاحته فما استطاعوا أن ينكروا ذلك رغم جحودهم حتى يقول كبيرهم [الوليد بن المغيرة] و قد سمع القرآن فدهش يقول واللات والعزة إن له لحلاوة و إن عليه لطلاوة و إن أعلاه لمثمر و إن أسفله لمغدق و أنه يعلو و لا يعلى عليه ،لا إله إلا الله
الحق يعلو و الأباطل تسفل *** والحق عن أحكامه لا يُسأل
و إذا استحالت حالة و تبدلت *** فالله عز وجل لا يتبدل .(30/1)
مازال به قومه بـ[الوليد] حتى رجع عن مقالته وكذب نفسه فيما قاله عن القرآن فقال منتكساً إن هذا إلا سحر يؤثر ويتولى الله الرد عليه ويعنفه و يتهدده ( سأصليه سقر وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر ) ويأتي الرسول صلى الله عليه وسلم لِيُرَبِّي هذه الأمة على هذا الكتاب العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه ( تنزيل من حكيم حميد ) فتربت الأمة و تهذبت وأصبح عابد الأصنام قزما حماة البيت والركن اليماني تربت على كتاب ما قرأه قارئ إلا آجره الله .(30/2)
ما تدبره متدبر إلا وفقه الله . كتاب مَن حكم به عدل من أستمع إليه استفاد مَن اتعظ بمواعظه انتفع . كتاب من قرأه علمه الله علم الأولين و الآخرين ، كتاب من استنار بنوره دخل الجنة و من تقفاه وجعله خلف ظهره قذفه على وجهه في النار كتاب من تدبره أخرج النفاق و الشك و الريبة من قلبه هو شفاء لما في الصدور مَن التمس الهداية فيه هداه الله و سدده و من التمس الهدى من غيره أضله الله وأهانه الله ( ومن يهن الله فما له مِن مُكْرِم ) يقول شيخ الإسلام [ابن تيمية] رحمه الله من اعتقد أنه سيهتدي بهدى غير هدى الله فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ويقول جل ذكره ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) والمعني ما بهم لا يتدبرون ما فيه من العظات ما بهم لا يعيشون مع الآيات البينات والجواب رانَ على قلوبهم فأقفلت فلا تسمع وأوصدت فلا تنتفع ولو أنها تدبرت لفهمت كلام ربها فاهتدت بهدى باريها ويقول تعالى ( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) والاختلاف الكثير تجده في الكتب غير كتاب الله عز وجل أما كتابه ( فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) من قرأه بارك الله في عمره و بارك في ولده و بارك في ماله و من أعرض عنه محق الله عمره و أزال هيبته و أفنى كابره وصاغره و جعل معيشته ضنكا و حشر يوم القيامة أعمى ولذلك كان عليه الصلاة والسلام ينادي الناس جميعاً لقراءة القرآن والتلذذ بتلاوته و إلا يهجروه فيقول صلى الله عليه وسلم "اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه" يأتيك القرآن يوم القيامة فيشفع لك عند من أنزله وعند من تكلم به في يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة فيدخلك الجنة بإذن الله تعالي ويقول صلى الله عليه وسلم "يؤتى بالقرآن وبأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحجان عن صاحبهما يوم القيامة" متفق عليه . ويقول(30/3)
النبي صلى الله عليه وسلم "اقرؤوا الزهراوين؛ البقرة وآل عمران فأنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما فِرقان من طير طواف تحاجان عن أصحابهما" "أقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة" يعني السحرة رواه [مسلم] . إن في سورة البقرة آية الكرسي من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظا ولا يقربه شيطان حتى يصبح ، يقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يفاضل بين الناس : "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" علامة الصدق والإيمان كثرة قراءة القرآن وعلامة القبول تدبر القرآن ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم : "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين" قال [عمر بن الخطاب] رضي الله عنه لأحد ولاته على <مكة> وقد ترك <مكة> ولقيه في الطريق : كيف تركت <مكة> وأتيتني قال : وليت عليها فلاناً يا أمير المؤمنين قال و من هو ذا قال مولى لنا وعبد من عبيدنا قال [عمر] ثكلتك أمك تولى على <مكة> مولى قال يا أمير المؤمنين إنه حافظ لكتاب الله عالم بالفرائض فدمعت عينا عمر وقال صدق رسول الله "إن الله ليرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين" يرفع الله به من اتبعوه وتدبروه ويضع من أعرضوا عنه فلم يقرءوه ولم يتدبروه ولم يعملوا به والعجيب أن تسمع من بعض هذه الأمة من يقول لأخيه وهو يحاوره والله ما قرأت القرآن ستة أشهر لا إله إلا الله أي قلب يعيش وهو لم يمر بكتاب الله ستة أشهر وهو يمر بالصحف اليومية والمجلات والقيل و القال والخزعبلات وآراء الماجنين والماجنات ( ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين ) يقول الله عز وجل على لسان رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ( وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ) يقول [ابن عباس] ـ رضى الله عنه وأرضاه ـ مَن لن يختم القرآن في شهر فقد هجره ، و هَجْرِ القرآن على أَدْرُبْ ، مِن الناس مَن يهجر العمل به و تلك والله هي الطامة و(30/4)
منهم من يهجر تلاوته فيقدم صحف البشر و مؤلفات البشر على كلام رب البشر يسهر على المذكرات يعللها ويلخص فوائدها وليس بها فوائد لكن كتاب الله يشكوه إلى الله كتاب الله يشكونا ، هجرناه وأهملناه وضيعناه وخالفنا أوامره و نواهيه ، قرآننا سار يشكو ما قرأناه ، عميٌ عن الذكر والآيات تندبنا لو كلم الذكر جلمودا لأحياه يقول صلى الله عليه وسلم يستثير الهمم لتطلب الأجر والثواب من عند باريها يقول صلى الله عليه وسلم : "اتلوا القرآن فإن الله يأجركم على تلاوته كل حرف بحسنة والحسنة بعشر أمثالها أما إني لا أقول ألف لام ميم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف" فعُدَّ يا عبد الله واقرأ واحتسب الأجر عند الله فإنك تأتي يوم القيامة وقد نصب لك في الجنة سلما بدرجات يقول الله لك بلا ترجمان اقرأ وارتق ورتل فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها فمن كان يقرأ في القرآن كثيرا رقى حتى يصبح كالكوكب الدري في سماء الجنة ثم هم على منازل هم درجات عند الله والله بصيرٌ بما يعملون ، عباد الله من حفظ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه غير أنه لا يوحي إليه ، لا حسد في الدنيا ولا في مناصبها ولا في أموالها لا حسد إلا في تلاوة القرآن آناء الليل وأطراف النهار ، بيت لا يقرأ فيه القرآن عششت فيه الهموم و الغموم والنفاق بيت سكنته المعاصي و والله لا يخرجها إلا القرآن وليس كل المؤمنين يجب عليهم قراءة كل القرآن كاملاً فمنهم من لا يقرأ القرآن وهو تقي عابد بار صالح خير لأنه لا يقرأ أصلاً فواجب مثل هؤلاء الذين فاتتهم القراءة أن يردد ما تيسر من سور يحفظونها وأن يسبحوا الله ويحمدوا الله و يهللوا و يكبروا و يصلوا على رسول الله ويتعلموا القرآن و إن شق عليهم فإن لهم أجرين عند الله ، كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعيش مع القرآن بل كتابه الذي تربي عليه القرآن ، لم يكن عند الصحابة مؤلفات ولا صحف ولا مجلات ، معهم القرآن معلق في طرف البيت و السيف معلق في(30/5)
الطرف الأخر هم يمشون على الأرض وكل واحد منهم قرآن ، فتحوا الدنيا بآيات الله البينات وهذه معجزة رسولنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يأتي بكتاب فيتوارث منه العلماء مجلدات ومجلدات تملأ البيوت والمكتبات في كل الدهور والعصور .
أتى النبيون بالآيات فانصرمت *** وجئتنا بعظيمٍ غير مُنْصَرِمِ
آياته كلما طال المدى جُدُدُ *** يَزِيِنُهُنَّ جلالِ العِتْقِ والقِدَمِ
فيا أمة القرآن ويا حفظة كتاب الله من يقرأ القرآن إن لم تقرءوه من يتدبره إن لم تتدبروه من يعمل به إن لم تعملوا به أما سمعتم أساطين الكفر في كل مكان بدأوا الآن في الدخول في دين الله ظرافات ووحدانا بعد أن قال القرآن فيهم ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) في وقت يخرج منه أبناء هذا الدين . الموازين عطلت وغدا القرد ليثا وأفلتت الغنم .(30/6)
عباد الله ، ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد كان يحب سماع القرآن كيف لا وهو كلام الله عز وجل ولذلك يقول لـ[ابن مسعود] كما في الصحيحين : " يا عبد الله اقرأ علىّ القرآن فيخجل عبد الله ويستحي من شيخه صلى الله عليه وسلم ويقول كيف أقرأ القرآن عليك وعليك أنزل ، قال : اقرأ فإني أحب أن أسمعه من غيري قال : فاندفعت أقرأ في سورة النساء فلما بلغت قول الله ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) قال حسبك حسبك ، فنظرت فإذا عيناه ـ صلى الله عليه وسلم ـ تذرفان" تأثر من كلام الله الذي يقود النفوس إلى باريها وتذكر ذاك اليوم الذي يكون فيه شهيدا على العالمين و ها هو صلى الله عليه وسلم يخرج بعد ما أظلم الليل يمر ببيوت الأنصار يستمع لحالهم في الليل يوم كانت بيوتهم حية بكتاب الله ، يوم ما ماتت بالأغاني والتمثيليات والمسلسلات والأفلام ، يوم كان ليلهم تعبداً هم فيه سجداً يمر ببيت [أبي موسى] فينصت لأبي موسى وهو يقرأ القرآن فلما جاء اليوم الثاني" قال يا أبا موسى لو رأيتني البارحة و أنا أستمع لك لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود فيقول يا رسول الله أإنك كنت تستمع لي البارحة ، قال إي والذي نفسي بيده . وفى بعض الروايات أنه استمع ـ صلى الله عليه وسلم ـ له من صلاة العشاء حتى صلاة الفجر يقول [أبو موسى] يا رسول الله والذي نفسي بيدي لو أعلم أنك تستمع لي لَحَبَّرْتُهَ لك تَحْبِيِراً أي جودته وحسنته تحسيناً فانظروا كيف كان صلى الله عليه وسلم يعيش مع القرآن وللقرآن ، و كيف كان صحابته رضوان الله عليهم ها هو [عثمان] ـ رضى الله عنه ـ كان ينشر المصحف من بعد الفجر إلى صلاة الظهر يقرأ ودموعه تنهمر على كتاب الله فيقول له الناس لو خففت عن نفسك قال أما والله لو طهرت قلوبنا ما شبعنا من القرآن .(30/7)
والذي نلاحظه يا عباد الله في أنفسنا وإخواننا المسلمين عامة هو قلة الاهتمام بكتاب الله والإعراض عن كتاب الله والاستغناء بكتب البشر و الصدود والإعراض إلا ممن رحم الله و قلة التجويد حتى في بعض أئمة المساجد و قلة الحفظ والتدبر وكثرة المشاغل حتى بين طلبة العلم لا تجدوا إلا القليل النادر ممن يحفظ القرآن أو يحفظ بعضه و إذا كلف أحدنا بحفظ شيئاً من القرآن استصعب ذلك حتى كأن جبال الدنيا على كاهله و معنى ذلك هزيمة الإسلام و المسلمين وذهاب الإيمان فوالله لا نصر و لا تمكين و لا عزة إلا بهذا القرآن و الله متى تركناه و نسيناه ابتلينا بكل خزيٍ وفضيحةٍ في الدنيا والآخرة .
يقول أحد أعداء الإسلام من لي بمن يخرج القرآن من صدور أبناء الإسلام فيرد أحد الأشقياء ويقول نأتي إلى المصحف فنمزقه قال لا لا ينفع نريد أن نمزقه من قلوبهم وقلوب أبنائهم .
و يقول عدو أخر للإسلام ثلاث ما دامت عند المسلمين فلن تستطيعوا إخراجهم من دينهم ؛ القرآن في صدورهم والمنبر يوم الجمعة والكعبة التي يرتادها الملايين من المسلمين فإذا قضي على هذه قضي على الإسلام والمسلمين و لذلك جاء أعداء الإسلام يهودٌ وأذنابهم من شيعة و باطنيين ورافضة جاءوا إلى القرآن فهونوا من شأنه ، و قالوا إنه مختلق ، بل اِدَّعُوا نقصه فعلماؤهم لا يحفظون من كتاب الله إلا القليل وعالمهم أقصد عالم الرافضة لا يعرف قراءة القرآن ( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ) وأتوا إلى منبر الجمعة فأرادوا تعطيله ليتحول إلى مناقشة قضايا تافهة لا تمت إلى الإيمان بصلة ( وما كيد الكافرين إلا في ضلال )(30/8)
فيا أيتها الأمة المسلمة يا من أخرجها الله من الظلمات إلى النور أقبلوا على بيوتكم وقلوبكم وأبنائكم أقبلوا عليها بتغذيتها بكتاب الله ، استرشدوه يرشدكم ، تدبروه يعينكم بإذن الله ، استهدوه يهدكم من أنزله ، يغفر الله لكم ذنوبكم ما تقدم منها وما تأخر يحيي بيوتكم على الإيمان يردكم إليه رداً جميلاً ، هذا شهر القرآن هذا شهر التلاوة هذا شهر مضاعفة الأجور إقرأوا فيه القرآن فإن الله يأجركم على تدبره وتلاوته والنظر فيه ملأ الله بيوتكم رحمة وبركة وهداية ونورا وقلوبكم وملأ صدوركم إيمانا ويقينا وخيرا وبرا عاشروا القرآن جالسوا القرآن ليعظم في قلوبكم القرآن اللهم أعنا على تلاوة كتابك آناء الليل وأطراف النهار اللهم اجعلنا ممن يقرأوه فيقودهم إلى جنان النعيم اللهم و تقبل منا رمضان صيامه وقيامه وتلاوته وصدقته وكل عمل صالح فيه إنك على كل شيء قدير أقول ما تسمعون وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا لإله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وصحبه والتابعين له بإحسان وسلما تسليماً كبيراً أما بعد عباد الله ، شهر رمضان هو شهر القرآن و أنتم أمة القرآن وحملة القرآن ينبغي أن تُعْرَفوا بليلكم إذ الناس ينامون وبنهاركم إذ الناس يكدون و يلهون و يلعبون وببكائكم إذ الناس يضحكون وبورعكم إذ الناس يخلطون وبتواضعكم إذ الناس يختالون وبصمتكم إذ الناس يخوضون وبحزنكم إذ الناس يفرحون لسان حال الواحد منكم يخاطب نفسه ويقول :
وَيْحُكِ يا نَفْسُ أَلاَ تَيَقَّظِي *** للنفع قبل أن تذل قدمي
مضى الزمان في ثوانٍ وهوى *** فاستدركي ما قد بقي واغتنمي
أُمَّة القرآن ، لتلاوة القرآن آداب نقف عندها وقفات قصيرة عل الله أن ينفع بها و أولها بل جماعها أن من قرأ رياء أو سمعة كبه الله على وجه في النار.(30/9)
في الصحيح أنه صلي الله عليه وسلم قال "يؤتي بحامل القرآن رياء فيقول الله له ماذا عملت قال تعلمت فيك القرآن وعلمته قال كذبت وإنما تعلمت ليقال عالم وقرأت ليقال قارئ فقد قيل ثم يُأْمَرُ به فيسحب على وجهه حتى يلقي في النار" فلا إله إلا الله لا يُقْرَأ القرآن إلا لوجه الله فأخلص النية في قراءته تؤجر وتثاب وتكون مع السفرة الكرام البررة و يشفع لكم يوم القيامة فيقول للعبد يا رب أي منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفع فيه القرآن ومن آداب التلاوة أن يقرأ على طهارة لأن ذلك من تعظيم كلام الله عز وجل فإذا تتطهر العبد فليرتل وليتدبر القرآن ولا يقرأه في أماكن مستقذرة أو في جمع لا ينصت فيه له لأن قراءته في مثل ذلك إهانة له والقرآن منزه عن ذلك لأنه كلام الله وليستعذ القارئ بالله من الشيطان الرجيم عند القراءة فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ولتحضر قلبك عند تلاوة القرآن ولتعلم أن الذي أنزل القرآن هو الذي خلق الأنس والجان فامتثل أمره واجتنب نهيه و لا ترفع صوتك إن كان حولك من يصلي أو يتلو فتشوش عليهم و هذا ما يقع فيه البعض و هو من علامة الجهل و عدم الفقه في الدين يأتي أحدهم ليقرأ فيرفع صوته ليشوش على المصلي في صلاته وعلى التالي في تلاوته وعلى الذاكر في ذكره وكأن ليس في المسجد سواه ، أَلاَ إن كان بجانبك من يستمع منك فلا بأس أن تسمعه وإن كان بجانبك مصلي فإياك أن ترفع صوتك لأَلاَّ تُشَوِّشْ عليه واسمع للمصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم يخرج على الناس وهم يصلون ويجهرون بالقراءة فيقول "كلكم ينادي ربه فلا يجهر بعضكم على بعض لا يؤذي بعضكم بعضا" أو كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ و اسمع إلى [الإمام مالك] ـ عليه رحمة الله ـ يوم يقول أرى في من يرفع صوته ويشوش على المصلين أن يُضْرَْب ويُخْرَج من المسجد ومن آداب التلاوة أن يكون للعبد المسلم حزب من القرآن فأكثر لا يَفْتُرْ عنه يومياً لو تغير(30/10)
كل شيء في الكون ما تغير عن حزبه فهو علامة الإيمان ألا فليكن لكل واحد منا في كل يوم حزب لا يتركه أبداً لتعظم الصلة بالقرآن و لرب القرآن و الإنس و الجان و مِن آدابه أن يُعَلَّم الناس ما تعلمناه منه و حظنا من تعليمه الأجر و المثوبة و نبدأ بتعليم أبنائنا وبناتنا و إخواننا و أمهاتنا و آبائنا فهم رعايانا نحن عنهم مسئولون وأمام الله محاسبون "و ما من راع استرعاه الله رعية فبات غاشاً لهم إلا حرم الله عليه رائحة الجنة" و من أعظم الغشَّ ألا تعلم من استرعاك الله عليه القرآن ويا من حمل القرآن إياك إياك أن تخالف أمره فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول فاسمع "يُمَثَّلُ القرآن يوم القيامة رجلا فيؤتى بالرجل قد حمله فخالف أمره فيُمَثَّل له خَصْما و من لا يُخاصِمُ القرآن فيقول القرآن يا رب حَمَّلْتَه إياي فبئس الحامل تعدى حدودي وضيع فرائضي وركب معصيتي وترك طاعتي فما يزال يخلف عليه بالحُجَجِ حتى يقال شأنك به فيأخذه بيده فما يرسله حتى يكبه على وجهه في النار" نعوذ بالله من النار يا أمة القرآن في شهر القرآن قفوا عند أحكام القرآن و اتلوه في كل حين وآن فهو شافع مشفع مَن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار و بئس القرار ألا يا أمة القرآن و إن مما دعاكم له القرآن أن تنفقوا في سبيل الله مما رزقكم و جعلكم مستخلفين فيه و أنتم في شهر الإنفاق و في شهر الصدقة و قد قال ـ صلي الله عليه وسلم ـ "أفضل الصدقة صدقة في رمضان" فيا أخي الصائم للصدقة في رمضان مزية وخصوصية ليست في غيره فبادر إليها فلعلك لا تدرك رمضاناً آخر . أطعم الطعام لتكن ممن امتدحهم القرآن ( ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً ) و اسمع إلى المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم يقول "أيما عبد مؤمن أطعم مؤمنا على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة ومن سقى مؤمنا على ظمئ سقاه الله من الرحيق المختوم" فلا إله إلا الله ما(30/11)
أعظم الأجر وما أيسر العمل على من يسره الله عليه ويقول صلى الله عليه وسلم "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر أشمل منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر أمامه فلا يرى إلا النار فاتقوا النار و لو بشق تمرة فاتقوا النار و لو بشق تمرة" ويقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ "من فطر صائماً كان له مثل أجره لا ينقص من أجره شيء و من سقى صائماً سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ من بعدها حتى يدخل الجنة" لا إله إلا الله هبت رياح الجنة في رمضان فاغتنموها يا عباد الله ألا لا يخرج أحد من بيت الله هذا إلاَّ و قد فَطَّرَ في أقل القليل عشرة من الصيام أو أقل أو أكثر وكل صائم بعشرة ريالات والجزاء من أكرم الأكرمين توضع هذه في صناديق موجودة على يمينك و يسارك وأنت خارج من هذا المسجد و ستقوم الهيئة بجمعها وإرسالها فوراً فبادر أيها الصائم إلى الغنيمة الباردة ضيوفك اليوم عشرة صائمين أو أقل أو أكثر و الأجر من أكرم الأكرمين لك مثل أجرهم لا ينقص من أجرهم شيئا و كل على قدر استطاعته
الله أعطاك فابذل من عطاياه *** فالمال عارية والعمر رحال(30/12)
ويا أهل الخير في هذا المسجد وكلكم أهل خير أطفال أيتام توجد استماراتهم في مكاتب الهيئة هنا كفالة الواحد منهم في العام ألف ومائتا ريال ينتظرون من يكفلهم بادروا إلى كفالتهم ولكم الجنة من أكرم الأكرمين والضمين رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ القائل "أنا و كافل اليتيم كهاتين في الجنة" ألا لا يأتين أحدكم يوم القيامة وخصمه أحد هؤلاء يقول يا رب عُرِضت عليهم في يوم كذا في مسجد كذا فتركوني فخذ لي بحقي منهم عباد الله أقرءوا القرآن و تصدقوا قبل ألا تتصدقوا ، و كل يوم جمعة في رمضان سيكون لفقراء المسلمين معكم لقاء ، لقاء ضيافة و الجزاء من أكرم الأكرمين فاحتسبوا الأجر و الثواب ممن يرزق الطير تغدو خماصا و تعود بطانا أطعمكم الله من ثمار الجنة وسقاكم من الرحيق المختوم ألا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد فقد أمرتم بالصلاة عليه ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً ) اللهم صل وسلم على عبدك و رسولك محمد و على آله وصحبه و التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك و خاصتك اللهم شَفِّع فينا القرآن اللهم ارفعنا بالقرآن اللهم أحينا على الإسلام و الإيمان و القرآن و توفنا على الإسلام والإيمان و القرآن اللهم اجعلنا ممن يأخذ بيده القرآن إلى رضوانك والجنة ونعوذ بك أن يكون القرآن خصماً علينا يوم الوقوف بين يديك اللهم اجعلنا ممن يقيم حدوده ويعمل بأوامره ويتلوه على الوجه الذي يرضيك عنا اللهم اجعلنا لكتابك من التالين ولك به من العاملين و إلى لذيذ خطابه مستمعين وبما فيه من الحكم معتبرين اللهم انفعنا بما فرجت به من الآيات وكفر عنا به السيئات وارفع لنا به الدرجات وهون علينا به السكرات عند الممات اللهم و أوجب لنا به الشرف و المزيد و ألحقنا بكل بر سعيد و وفقنا جميعاً للعمل الصالح الرشيد اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك نواصينا بيدك ماضٍ(30/13)
فينا حكمك عدل فينا قضاؤك نسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا و نور صدورنا وجلاء أحزاننا و ذهاب غمومنا و همومنا. و سابِقَنَا ودليلنا إليك و إلى جنانك جنات النعيم اللهم ألبسنا به الحلل و أَسْكِنَّا به الظلل و ادفع به عنا المقن و اجعلنا به عند الجزاء من الفائزين و عند النعماء من الشاكرين وعند البلاء من الصابرين و لا تجعلنا ممن استهوته الشياطين فشغلته بالدنيا عن الدين فأصبح من الخاسرين وفى الآخرة من النادمين برحمتك يا أرحم الراحمين اللهم و اجعلنا من المنفقين المبتغين جنة عدن بحورها العين اللهم تقبل منا صيامنا و قيامنا و سائر عملنا اللهم لا تصرف هذا الجمع إلا بذنب مغفور و عيب مستور و عمل مقبول و تجارة لن تبور اللهم لا ترُدَّ هذا الجمع خائبين اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم و تب علينا إنك أنت التواب الرحيم اذكروا الله يذكركم و اشكروه على نعمه يزدكم و لذكر الله أكبر و الله يعلم بما تصنعون .(30/14)