الفرق بين المؤمن والكافر في مسألة الأجل
والمؤمن آمن على أجله، فإن الله قدر له ميقاتاً مسمى، وأياماً معدودة، وأنفاساً محدودة لا تملك قوة في الأرض أن تنقص منها، قال تعالى {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون:11] {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [نوح:4] {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر:11].
أيقن المؤمن أن الله فرغ من الآجال والأعمار وكتب ذلك قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فما الذي يغيرها الآن؟ ومن الذي يغيرها؟ وكتب على كل نفس متى تموت، وأين تموت.
ومن كانت منيته بأرض فليس يموت في أرض سواها
وبهذه الحقيقة ألقى المؤمن عن كاهله هم التفكير في الموت والخوف على الحياة.
وبعض الناس يحتاطون لأجل الموت، يشترون القبر، ويعمرونه، ويزينونه، ويفعلون ويفعلون ثم يموتون بأرض أخرى! إن التجهز للموت حق ولكن بالحق، باليقين بأن الإنسان ربما يموت في غير البقعة التي توقع أن يموت فيها، وأن علم ذلك مما انفرد به الله تعالى.
لما هدد الحجاج سعيد بن جبير بالقتل قال له سعيد: "لو علمت أن الموت والحياة في يدك ما عبدت إلهاً غيرك".
المؤمن لا يخاف الموت فهو يعلم أنه زائر لا بد من لقائه، وقادم لا ريب فيه، لا يرده الخوف منه ولا يثنيه الجزع: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة:8] {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78] {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:54] أي: إلى الموضع الذي قدر الله أن يقتلوا فيه.
ويهون الموت على المؤمن إذا عرف أنه سبيل أفضل الناس من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فلا عليه إذن إذا اقتفى أثرهم وسار في دربهم.
إن الموت خطبٌ قد عظم حتى هان، وخشن حتى لان، إنه بلية عمت والبلايا إذا عمت هانت {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] هذا من جهة الحس في المؤمن.
أما من جهة الاستعداد له فالموت خطب عظيم في نفسه، فهو يستعد له، ولكن هل يخاف من الموت خوفاً سلبياً يقعد به عن العمل كما يشتكي عدد من الناس؟ يقول: إن زوجتي تخاف من الموت ولا تنام بالليل، ولا لها طعام، ولا ذاقت شيئاً، وإنها قد مرضت ونحل عودها، فإذا كان الخوف من الموت خوف سلبي قعد بالإنسان عن ممارسة أي شيء.
وهناك خوف إيجابي: وهو الذي يدفع للاستعداد للموت، ونحن نريد الخوف الثاني فنعظمه في أنفسنا، وأما الخوف الأول فنهونه في أنفسنا؛ لأن الموت طريق لا بد أنه مسلوك.
ومتاع الدنيا أهون عند المؤمن أن يأسى على فواته، لماذا يخاف أهل الدنيا الموت؟ لماذا إذا قلت لأحدهم: فلان مات قال: أعوذ بالله؟! تعوذ بالله من الموت وهو آتيه آتيه.
لماذا يخافون الموت؟ لأنه سيحرمهم من المخططات، والأرباح، والنعيم، وكل الآمال التي يأملونها سيحرمون منها، ولذلك يكرهونه ويخافونه، والمؤمن يود أن يفسح له في الحياة لا لأجل أن يعمر قصراً، أو يشتري سيارة، لكن لأجل أن يستكثر من الأعمال الصالحة، وأن يتوب توبة أخرى.
الموت -أيها الإخوة- ليس عدماً محضاً ولا فناءً صرفاً، بل هو انتقال من حياة إلى حياة، ومن طور إلى طور.
وما الموت إلا رحلة غير أنها من المنزل الفاني إلى المنزل الباقي
إنها انطلاقة من قفص الجسد لتعود إليه يوم الدين، وقد كتب أحد الصالحين في وصيته أبياتاً يبين هذه الحقيقة لإخوانه بعد موته:
قل لإخوان رأوني ميتاً فبكوني ورثوني حزنا
أتظنون بأني ميتكم ليس هذا الميت والله أنا
أنا في الصور وهذا جسدي كان ثوبي وقميصي زمنا
أنا عصفور وهذا قفصي طرت عنه وبقي مرتهنا
أنا عصفور وهذا قفصي: الجسد الذي ترونه ممتداً أمامكم على الفراش.
لا تظنوا الموت موتاً إنه ليس إلا نقلة من هاهنا
أيها الإخوة: إذا نظرنا إلى جسد الشيخ الكبير الذي تقدمت به السن، ونظرنا إلى تجاعيده وترهل هذا الجسد ولين العظام، إذا نظرت جيداً إلى جسد العجوز الفاني لعلمت أن خلقان الثوب الذي بداخله الروح لا بد أن يعنيه أن هناك انتقالاً؛ لأن هذا الثوب وهذا الجسد بعد هذا الترهل والتجاعيد لا بد أن ينتقل؛ لا بد أن يكون هناك انتقال فإذا رأيت بيتاً يهدم ويخرب فاعلم أن هناك تصميماً جديداً وبناء جديداً.
ولعل من حكمة الله أن يجعل جسد الإنسان يهترئ ويذبل؛ ليتمعن المتمعنون بأن هذا الجسد الآن بعد اهترائه في سن الشيخوخة لم يعد يصلح أن يستمر ثوباً للبدن، وأن هناك تغيراً واضحاً من حال العجوز الفاني والشيخ الكبير، وأن هذا الجسد لم يعد يتحمل الاستمرار؛ فلا بد من التغيير والتغيير بالموت، ولكن الموت ليس هو الفناء وإنما تنتقل الروح من عالم إلى عالم آخر.(301/4)
الأمل في حياة المؤمن
أيها الإخوة: إن من مصادر الأمن والسكينة لدى المؤمن الأمل الذي يضيء له الظلمات، وينير له المعالم، ويهديه السبيل وتنمو به شجرة الحياة، ويرتفع به صرح العمران، فهو قوة دافعة تشرح للعمل وتخلق دواعي الكفاح من أجل الواجب وتبعث النشاط في الروح والبدن.
فالإيمان يولد الأمل والأمل مهم في الحياة ما الذي يدفع الزارع إلى الكدح والعرق إلا أمله في الحصاد؟ وما الذي يغري التاجر بالأسفار والمخاطر إلا الأمل في الربح؟ وما الذي يبعث الطالب على الجد والمثابرة إلا الأمل في النجاح؟ وما الذي يحبب إلى المريض الدواء المر إلا الأمل في الشفاء؟ وما الذي يدعو المؤمن إلى أن يخالف طبيعته وهواه ويتحمل المشاق في هذه الدنيا؟ إنه الأمل في جنة الفردوس، فهذا الأمل هو الذي يهون هذه الصعاب، فهو دافع النشاط ومخفف الويلات وباعث البهجة:
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
إذا يأس التلميذ من النجاح -أيها الإخوة- نفر من الكتاب والقلم، وضاق بالبيت والمدرسة، ولم يعد ينفعه درس خاص ولا عام، ولا نصح يسدى ولا تهيئة المكان ولا الجو المناسب ولا ولا إلا أن يعود إليه شيء واحد يحل له كل هذه المشكلة، ألا وهو الأمل، فإذا رجع الأمل انحلت المشكلة.
وإذا يأس المريض من الشفاء كره الدواء، وكره الطبيب، والعيادة، والصيدلية، وضاق بالحياة والأحياء، ولم يعد يجديه العلاج إلا أن يعود إليه الأمل، وهكذا إذا تغلب اليأس على إنسان اسودت الدنيا في وجهه، وأظلمت في عينيه، وأغلقت أمامه أبوابها، وتقطعت دونه أسبابها، وضاقت عليه بما رحبت.
اليأس سم بطيء لروح الإنسان، وإعصار مدمر لنشاطه، ولا إنتاج ولا إحساس حينئذٍ.
واعلموا أن اليأس ملازم للكفر، كما أن الأمل ملازم للإيمان، وليس بعجيب أن تجد أصناف اليائسين بغزارة وكثرة بين الجاحدين لله البعيدين عن شرع الله، {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] يتجلى هذا اليأس في الشدة ونزول الشر كما ذكر الله: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ} [هود:9] {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً} [الإسراء:83] {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت:49] لكن استثنى الله صنفاً واحداً فقال: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [هود:11] فلو خسر في تجارة، أو رسب في مدرسة، أو حصل له فشل في شيء فإنه لا ييئس ولا يقنط؛ لأن أمله مستمر برب رءوف رحيم، ليس اليأس فقط من الدنيا وإنما -أيضاً- السخط على الرب كما قال المعري:
هذا ما جناه أبي عليَّ وما جنيت على أحد
ولكن المؤمن أوسع الناس أملاً.
لماذا أيها الإخوة؟ ما هو السر في أن المؤمن عنده أمل والكافر والضال يائس وقانط؟ السبب: أن المؤمن يؤمن بأن هناك إلهاً رحيماً قديراً يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء، ويمنح الجزيل، ويغفر الذنوب، ويقبل التوبة، ويعفو عن السيئات، أرحم من الوالدة بولدها، وأبر بخلقه من أنفسهم، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، يفرح بتوبة عبده أشد من فرحة من أضل شيئاً إذا وجد ضالته، والغائب إذا وفد، والظمآن إذا ورد.
إله يجزي الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف ويزيد، ويجزي السيئة بمثلها أو يعفو، إله يدعو المعرض عنه من قريب، ويتلقى المقبل عليه من بعيد، ويقول: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني؛ إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) إله يداول الأيام بين الناس؛ فيبدل من بعد الخوف أمناً ومن بعد الضعف قوة، ويجعل من كل ضيق فرجاً، ومن كل هم مخرجاً ومع كل عسر يسراً، فلذلك يأمل المؤمن فيه.
هذا مبعث الأمل وهذا هو السر: الاعتصام بالإله البر الرءوف الرحيم العزيز الكريم الفعال لما يريد، يعيش المؤمن على أمل لا حد له، ورجاء لا تنفصم عراه، إنه دائماً متفائل، ينظر إلى الحياة بوجه غير الذي ينظر إليها الكافر، لا ينظر إلى الحياة بوجه عبوس قمطرير، فهو إذا حارب فهو واثق بالله أنه سينصره؛ لأنه مع الله والله معه {إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ} [الصافات:172 - 173].
إذا مرض لم ينقطع أمل المؤمن أبداً من العافية {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:78 - 80].
إذا اقترف ذنباً أو جرماً المؤمن لم ييئس من المغفرة، ومهما كان الذنب عظيماً فإن عفو الله أعظم {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
والمؤمن إذا أعسر وضاقت ذات يده أمل في الله ولم يزل إيمانه فيه عظيماً لقوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5 - 6] ولن يغلب عسرٌ يسرين ولو دخل العسر جحراً لدخل اليسر حتى يخرجه.
والمؤمن إذا انتابته كارثة من كوارث الزمن ووقعت به المصيبة؛ فإن أمله في الله مازال موجوداً، كيف يكون موجوداً والولد قد مات؟ كيف يكون موجوداً والبيت قد احترق، والمال قد ذهب؟ إنه موجود في رجاء الأجر على احتساب المصيبة بالصبر {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156].
نسأل الله تعالى أن يجعلنا بإيماننا آمنين مطمئنين وأن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين, وأن يتوب علينا إنه هو البر الرءوف الرحيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(301/5)
اختلاف أثر المصيبة على المؤمن عن الكافر
الحمد لله إله الأولين والآخرين، ورب السماوات والأرضين، لا إله إلا هو يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى خلق فسوى، وقدر فهدى، لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، فعال لما يريد سبحانه وتعالى، يحكم ما يشاء، ويفعل ما يريد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد الرحمة المهداة، والسراج المنير، والبشير النذير، وأشهد أنه رسول الله حقاً والداعي إلى سبيله صدقاً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: إن أثر وقوع المصيبة على المؤمن يختلف تمام الاختلاف عن الكافر، ولنأخذ حال امرأة كانت في جاهليتها كافرة وقعت عليها مصيبة، ولما صارت مؤمنة في الإسلام وقعت عليها مصائب فاختلف حالها في إسلامها عن حالها لما كانت كافرة، تلك المرأة هي الخنساء؛ التي فقدت في جاهليتها أخاها لأبيها فقط وهو صخر فملأت الآفاق عليه بكاء وعويلاً، ونياحة وشعراً حزيناً حتى قالت:
يذكرني طلوع الشمس صخراً وأذكره بكل غروب شمس
ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي
هذه المرأة هي نفسها المرأة التي أسلمت وحضرت حرب القادسية مع أبنائها الأربعة فجلست إليهم في تلك الليلة الحاسمة تقول لهم: يا بني! إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رحم واحد، كما أنكم بنو رجل واحد، ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم، ولا غيرت نسبكم وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] فإذا أصبحتم غداً إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائكم مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها تظفروا بالغُنم في دار الخلد.
فلما أصبحوا باشروا القتال بقلوب فتية، وأنوف حمية، تدفعهم وصية أمهم بموعود ربهم إذا فتر أحدهم ذكره إخوته وصية العجوز فزأر كالليث، وانطلق كالسهم، وانقض كالصاعقة حتى استشهدوا واحداً بعد واحد، فبلغ الأم نعي أولادها الأربعة فلم تلطم خداً، ولم تشق جيباً، ولم تطلق صيحة، ولا نياحة، ولكنها استقبلت النبأ بإيمان الصابرين وفضل المؤمنين فقالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم وأرجو من ربي أن يجمعني معهم في مستقر رحمته.
أيها أشق على النفس: الأخ لأب أم الأولاد الأربعة؟ الواحد أم الأربعة؟ ومع ذلك كان للمرأة موقف آخر يختلف تمام الاختلاف عن الموقف السابق.
فما الذي تغير أيها الإخوة؟ تغير شيء واحد -أيها الإخوان- إنها النقلة من الكفر إلى الإسلام، ومن الجاهلية إلى الإيمان، ولذلك كان الكفر يأساً وكان الإسلام أملاً.
الإيمان أمل بالله تعالى وهو الذي يجعل المسلم يطلب من ربه ويرجو رحمة ربه.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل الإيمان، اللهم زد إيماننا، اللهم زدنا إيماناً وتقى وتوكلاً عليك يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك الأمن يوم الوعيد، اللهم إنا نسألك دخول جنة الخلود، اللهم اجعلنا يوم القيامة من الآمنين الركع السجود، اللهم إنا نسألك أن تقضي ديوننا، وتفرج همومنا، وتشفي مرضانا، وترحم موتانا، وتستر عيوبنا، اللهم إنا نسألك أن تكبت عدونا، اللهم دمر اليهود والنصارى واجعلها عليهم ناراً ودماراً، اللهم إنهم تمالئوا على حرب الإسلام فاكبتهم واجعل تخطيطهم تدميراً عليهم، اللهم قيض لهم من عبادك المسلمين من ينصر المسلمين عليهم يا رب العالمين، اللهم قيض من عبادك الأخيار من يقود المسلمين لجهاد الكفار ويحقق النصر يا أرحم الراحمين، اللهم عجل فرجنا يا رب العالمين.
إخواني: إذا كنا مقبلين على عيد من أعياد الكفار، فإننا نذكر أنفسنا بعدم جواز مشاركتهم مطلقاً، لا الهلوين ولا الكرسمس ولا غيرها فإنها من عقيدتهم ونحن لنا عقيدتنا وإذا كان لهم دينهم فلنا ديننا {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6].
ومن قدر الله أنه سيوافق دخول رمضان هذه السنة عيدهم الأكبر الذي سيكون، فسننظر كيف يعمل المسلمون حين يتعارض دخول رمضان في عبادته وجلاله مع ما يفعلونه من الكفر والفسق في عيدهم.
وهذه مناسبة تمحيص كما قلنا في الخطبة الماضية، فلننظر إلى أي الفريقين سيميل المائلون.(301/6)
حكم الجمع بين الصلاتين في المطر
ومن الأحكام -أيها الإخوة- التي يحتاج التنبيه إليها في هذا الوقت الجمع في المطر: فاعلموا رحمكم الله أن الجمع في المطر رخصة جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالذات جمع العشاء إلى المغرب جمع تقديم عند نزول المطر ويشترط للجمع بين الصلاتين شرطان: الأول: أن يكون المطر مستمراً من الصلاة الأولى إلى الصلاة الثانية.
الثاني: أن يكون مطراً حقيقياً، أي: مطراً يبل الأرض والثياب؛ فإذا كان مطراً يبل الأرض والثياب، وكان مطراً مستمراً ساغ الجمع للصلاتين، ذلكم تخفيف من ربكم ورحمة.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(301/7)
التأثر والتفاعل
في هذه المادة بيان لما كان عليه الصحابة من تأثر بمواعظ النبي صلى الله عليه وسلم وتفاعل معها، أو دعائه أو عتابه، كما أنهم كانوا يتأثرون عند حدوث الخطأ منهم فيتراجعون عن ذلك ويتوبون إلى الله عز وجل.(302/1)
الصحابة وشدة تأثرهم بالآيات والمواعظ والمواقف
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
في وسط هذه الجاهلية التي يعيشها المسلمون اليوم ضاعت هوية الشخصية الإسلامية، وانعدمت ميزاتها إلا من رحم ربي عز وجل، والبحث عن سمات الشخصية الإسلامية من الأمور المطلوبة لكل مسلم يريد أن يسير إلى ربه على نور من الله في صراط مستقيم، وللشخصية الإسلامية -أيها الإخوة- سمات بارزة، وعلامات مميزة، ونحن في هذه الخطبة سنتعرض لواحد من سمات هذه الشخصية.
إن الشخصية المسلمة سريعة التأثر والانفعال من أدلة القرآن والسنة سريعة التأثر مع المواقف التي جاء في القرآن والسنة ذكر لها سريعة التأثر والانفعال إذا ما حدث خطأ من الأخطاء سريعة التأثر والانفعال إذا ما وقع المسلم في ذنب من الذنوب سريعة التأثر والانفعال عند رؤية أحوال المسلمين سريعة التأثر والانفعال لمواعظ الله ورسوله، ونحن اليوم نذكر أمثلةً لهذا التأثر والانفعال في عصر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلك الشخصيات التي رباها رسول الله صلى الله عليه وسلم على منهج الله، فمشت بخطىً ثابتة مستقيمة على منهج الله ورسوله، نذكر هذه الأمثلة في وقت تبلدت فيه إحساسات المسلمين، وانعدم التأثر والانفعال لكثير من المواقف التي ينبغي أن يقف المسلم حيالها وقفة التأثر والانفعال الدافعة إلى العمل لا عند حدود البكاء وذرف العين فقط.(302/2)
تأثر الصحابة من قوة بلاغة رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان أول تأثر صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام عندما عرض عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعوة، عندما عرض عليهم نصوص القرآن والسنة، ولذلك كانت الصفوة المختارة عندما تسمع كلام الله تتأثر مباشرةً؛ فترق القلوب؛ وتدخل تلك النفوس في دين الله.
وهذه الأحاديث التي سأتلوها الآن هي في الصحيحين أو أحدهما عن ابن عباس أن ضماداً قدم مكة فقيل لـ ضماد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مجنون أو دخل فيه جن أو مصاب بمرض، وكان هذا الرجل طبيباً يداوي الناس من الأمراض فقال: لعل الله أن يشفيه على يدي، فلما جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ عليه صلى الله عليه وسلم هذه الكلمات الجامعات: (إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله أما بعد، فقال ضماد: أعد كلماتك هؤلاء.
فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوت البحر -يعني: وسط البحر وعمقه من شدة تأثيرهن- ثم قال: هات يدك أبايعك، فبايعه ثم قال له عليه السلام: وعلى قومك؟ قال: وعلى قومي).
يذهب إليهم داعية إلى الله.
أيها الإخوة تأثر هذا الصحابي من أي شيء؟ ما هي الكلمات التي نقلته من ظلمات الجاهلية إلى نور الإسلام؟ إنها كلمات جامعات لكنها وجدت في قلبه مكاناً فتأثر لها، فدخل في دين الله، اعتنق الإسلام بعد الكفر.
عتاة اليوم من الكفرة والمرتدين الذين يتسمون بالإسلام لو عرضت عليهم مثل هذه الكلمات يا ترى هل سيستجيبون ويتأثرون أدنى تأثر؟! وعند سماع المواعظ كانت نفوس صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ترق رقة عجيبة لكلمات يسمعونها من رسول الله على المنبر.
مثلاً: عن أنس رضي الله عنه قال: (خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبةً ما سمعت مثلها قط! قال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) لو تعلمون ما أعلم من عذاب الله، وتفاصيل العذاب كيف يعذب أهل النار وكيف يحرقون؟! لو تعلمون ما أعلم من أهوال المحشر ومن شدة الحساب لو تعلمون ما أعلم من عظمة الصراط وشدة المشي عليه والكلاليب التي تتخطف الناس فيهوون في جهنم لو تعلمون ما أعلم.
يقول عليه الصلاة والسلام: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) الرسول صلى الله عليه وسلم أراه الله جهنم بعينه، ما اطلع على هذا من الصحابة أحد، فقال لهم هذه الكلمات التي يعبر فيها عما رآه: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) ماذا فعل الصحابة؟ هل قالوا: ما دمنا لم نر ما رآه عليه الصلاة والسلام فلماذا نتأثر كما تأثر؟ لا، هذه الكلمة دفعتهم إلى التأثر حالاً، فقال أنس رضي الله عنه: (فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين) ذلك الأزيز: الصوت الذي يرتفع من الصدر بالبكاء، صوت يتأزز من الصدر من البكاء لهذه الكلمة التي أخبرهم بها عليه الصلاة والسلام.
يا إخواني عندما نسمع المواعظ اليوم هل نتأثر بها كما كان صحابة رسول الله يتأثرون؟! هل نغطي وجوهنا كما غطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم؟! هل تنخنق العبرات، وتذرف الدموع، وتخرج الأصوات كالأزيز الذي يغلي به المرجل من الصدور للتأثر من هذه المواعظ؟! لقد تبلدت إحساساتنا والله، إن على قلوبنا غلافاً سميكاً لا تنفذ من خلاله آيات الله وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم في المواعظ، يجب أن نرقق هذه القلوب -أيها الإخوة- بشتى أنواع المرققات حتى نصل إلى الدرجة التي إذا سمعنا فيها المواعظ تأثرنا.(302/3)
تأثر الصحابة بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان أصحاب رسول الله إذا سمع أحدهم دعاءً طيباً ولو لميت تأثر به.
يقول الراوي: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة، فحفظت من دعائه وهو يبكي: (اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه، واعف عنه، وأكرم نزله، وأوسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر أو من عذاب النار -ماذا قال الصحابي لما سمع هذه الدعوات؟ هي لميت مات، ماذا قال الصحابي- حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت) يقول الصحابي: تمنيت أن أكون ذلك الميت.
لماذا تمنى أن يكون ذلك الميت؟ لأنه تأثر -أيها الإخوة- من هذه الأدعية التي دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك الميت، يتأثرون حتى من الدعاء ولو لميت يتمنى أن يكون مكانه لهذه الأدعية التي دعا بها عليه الصلاة والسلام.(302/4)
تأثر الصحابة عند حثهم على الصدقة والإنفاق
الصحابة رضوان الله عليهم كثير منهم كانوا فقراء لا يملكون شيئاً خصوصاً في بداية الدعوة، عندما يسمع الصحابة الأوامر التي تحث على أفعال الخير وهم لا يملكون شيئاً، عندما يسمعون الأحاديث تحث على الصدقة وهم لا يملكون دنانير يتصدقون بها، كيف كانوا يتصدقون؟ كان تأثرهم -يا إخواني- من الأحاديث وهذه الكلمات التي تحث على الصدقة يحملهم على فعل أمر عجيب حتى يدركوها، ماذا كانوا يفعلون؟ قال الصحابي: [أمرنا بالصدقة.
قال: كنا نحامل -أي: يؤجر أحدنا نفسه لرجل عنده متاع ليحمله له- فإذا حمله له أخذ أجرة التحميل فتصدق بها] ما عنده دنانير ماذا يفعل؟ يذهب يؤجر نفسه فيحمل هذه الأحمال، يأخذ أجرة التحميل فيتصدق بها! أناس تأثروا من هذه الأحاديث التي تدفع إلى الصدقة، ما عندهم شيء، هكذا كانوا يفعلون.(302/5)
تأثر الصحابة بعد ارتكاب خطأ ما
وإذا اعتدى أحدهم على مسلم، ضعفت نفسه في موقف، عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال -في حديث طويل يرويه الإمام مسلم منه-: (وكانت لي جارية ترعى غنماً لي قبل أحد، فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكةً -ضربها بكفه على صفحة وجهها، تأثر كيف يذهب الذئب بغنمة! بشاة! كيف يذهب بها؟ أين أنتِ؟! أين حراستكِ؟! أين رعايتك للغنم؟! تأثر فضربها بيده على صفحة وجهها، فماذا كان موقف الصحابي لما أخطأ في حق هذه المرأة المسلمة؟ - فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم -هذه الضربة كما أثرت في وجه المرأة أثرت في نفس الضارب- فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك علي -كيف تفعل هذا الفعل؟ كيف تضرب على الوجه؟! كيف تضرب أصلاً؟ ماذا فعل الصحابي عندما عظم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر؟ - قلت: يا رسول الله! أفلا أعتقها؟ -أيهما أغلى: الشاة أم المرأة الراعية، الأمة عند الرجل؟ الأمة عند الرجل أغلى، وفائدتها عنده عظيمة، لكن لما تأثر ما صار عنده مانع أن يعتقها- قال: أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها، فأتيته بها فقال: أين الله؟ قالت: في السماء.
قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله.
قال: اعتقها فإنها مؤمنة).
كثير من المسلمين اليوم يعتدون بالضرب على إخوانهم المسلمين الآخرين المستضعفين من الخدم، وحتى إخوانهم الصغار، يا ترى هل إذا أخطئوا يتأثرون مثل تأثر هذا الصحابي؟ هل إذا أخطئوا تنطلق منهم كلمات التأسف، الاعتذار، أم أن أحدهم تأخذه العزة بالإثم فيرفض أن يتفوه بكلمة واحدة يعتذر بها عما فعله؟(302/6)
خوف الصحابة من فوات الطاعة عليهم
الصحابة حتى النساء كانوا يتأثرون إذا خافوا أن تفوتهم الطاعة، عن جابر بن عبد الله قال في الحديث الطويل في الحج: ثم أهللنا يوم التروية، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة فوجدها تبكي، فقال: (ما شأنك؟ قالت: شأني أني قد حضت وقد حل الناس ولم أحلل، ولم أطف بالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن) الناس يذهبون إلى الحج، أنا لا أستطيع أن أذهب، أنا حائض.
هذا الحيض خوفها فوات العبادة، خوفها فوات موسم الحج، موسم الفضل العظيم، عائشة رضي الله عنها تبكي في بيتها، تخاف أن يفوتها هذا الموسم، ماذا تفعل؟ حاضت، لا تعلم الحكم، فبكت تأثراً وخوفاً من فوات الطاعة، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بكلمات المربي الذي يعالج الحرج في نفوس أتباعه، قال لها: (إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم فاغتسلي ثم أهلي بالحج) أعطاها الحكم، فرج الهم الذي كان بها، خافت عائشة.
اليوم -أيها الإخوة- كم من مواسم الطاعات تفوتنا؟ صغيرها وكبيرها، تفوتنا مواسم الطاعات، هل نحدث أي نوع من الأسف؟ هل نبكي على فوات صلاة الجماعة؟(302/7)
تأثر الصحابة من عتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
عندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعاتب أصحابه على الخطأ كانوا يتأثرون من المعاتبة أشد التأثر لدرجة عظيمة.
عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة -قوم من الكفار- فأدركت رجلاً، فلما رفع أسامة عليه السيف قال: لا إله إلا الله، فطعنته - أسامة يظن أن الرجل قال: لا إله إلا الله؛ اتقاء السيف، فقال: وماذا تنفعه؟ فطعنه فقتله- فوقع في نفسي من ذلك -هذا الفرق أيها الإخوة بين كثير من المسلمين اليوم وبين الصحابة- فوقع في نفسي من ذلك -كانوا إذا صار لهم أمر شك أنه خطأ يأتي فوراً ويعاتب نفسه إذا ظن أن الأمر فيه شيء، الناس اليوم تمر عليهم أمور وهو متأكد من تحريمها ولا يحدث في أنفسهم شيء مطلقاً، وقع في نفسه شيء، ربما أنه أخطأ، ماذا يعمل؟ إلى المرجع مباشرةً: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]- قال أسامة: فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال لا إله إلا الله وقتلته؟! قال: قلت: يا رسول الله! إنما قالها متعوذاً، قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟) أقالها خوف السلاح أم لشيء آخر؟ فما زال يكرر ذلك، وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقتلته؟ قال: نعم.
قال: فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ فيقول أسامة: يا رسول الله! استغفر لي.
قال: فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ فيقول أسامة: يا رسول الله! استغفر لي.
فجعل لا يزيده على أن يقول: فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟) ماذا حدث -أيها الإخوة- في هذا الموقف؟ لما عاتبه على خطئه وبخه توبيخاً شديداً، وذكره بالحساب، ماذا تمنى الصحابي؟ ماذا قال؟ ما هي الكلمات التي عبر بها عن الحرج العظيم في نفسه؟ قال: (فما زال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ) تمنيت أني ما دخلت في الإسلام إلا بعد هذا الخطأ؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، تمنيت أني ما أسلمت إلا في ذلك اليوم؛ لأنه عظم عليه هذا جداً.
اليوم كثير من المجرمين يفعلون جرائم متعددة، وكبائر كبيرة جداً، لو سمعوا وعظم ذلك عليهم وقرعوا على أفعالهم، وأقيمت عليهم الأدلة على شناعة ما فعلوا ماذا يحدث لديهم من التأثر؟ أي تأثر يحدث في نفوسهم؟ فرق أيها الإخوة، هذه النفسيات اختلفت، فالناس نفوسهم اختلفت تماماً.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم واجعلنا من أهل العزة والبصيرة، من الذين يتأثرون إذا تليت عليهم آيات الله، وتزيدهم إيماناً.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه غفور رحيم.(302/8)
رجوع السلف عن الخطأ بعد التبيين لهم
الحمد لله الذي لا إله إلا هو لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل وأكبره تكبيراً، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ووعظ الأمة فأثر فيها، وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه.
وعندما تقام الحجة على أناس ممن أخطئوا في تصوراتهم، وتقام الحجة على أهل الشبهات كانوا يرجعون، وكانوا يفيئون، حتى أهل البدع منهم، من أراد الله به خيراً كان يتأثر من كلام الصحابة، ورجوع ثمانية آلاف من الخوارج لما بين لهم ابن عباس رضي الله عنه الحجة دليل على هذا.
وروى مسلم رحمه الله عن يزيد الفقير قال: [كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج ثم نخرج على الناس هذا هو منطوق الخوارج ومفهومهم، نريد أن نحج -نأتي بالعبادة- ثم نخرج على الناس بالسيف ونقتل المؤمن والصالح والمحسن هذا المنطق الأعوج.
قال: فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله يحدث القوم وهو متكئ على سارية، فقال: فإذا هو قد ذكر الجهنميين.
قال: فقلت له: يا صاحب رسول الله! ما هذا الذي تحدثون والله يقول: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران:192] و {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} [الحج:22]-لأن الجهنميين قوم يخرجون من النار بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما هذا الذي تقولون؟ - قال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم.
قال: فهل سمعت بمقام محمد عليه السلام الذي يبعثه الله فيه؟ المقام المحمود، قلت: نعم.
قال: فإنه مقام محمد المحمود الذي يخرج الله به من يخرج -يعني: من النار- قال: ثم نعت وضع الصراط ومر الناس عليه إلى أن قال: فرجعنا فقلنا: ويحكم! أترون الشيخ يكذب على رسول الله؟ فرجعنا -فرجعنا عن رأينا الفاسد، ورجعنا عن تلك المصيبة العظيمة التي وقعنا فيها- فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد] أو كما قال أبو نعيم.
فإذاً كان هؤلاء إذا أقيمت عليهم الحجة وأزيلت الشبهة، من أراد الله به الخير منهم كانوا يرجعون، وكثير منهم رجعوا، الأكثرية رجعوا، المسلمون اليوم ممن ينتسبون إلى الإسلام من أصحاب الشبهات لو أقيمت عليهم الحجة، هل يرجعون؟ الأكثرية رجعوا في عهد الصحابة، اليوم القلة، قلة جداً هي التي ترجع وتتأثر من الحجة عندما تقام عليها، عندما تسمع يا أخي الحجة أقيمت عليك ماذا يبقى لك بعد ذلك؟ وعندما كانت المرأة تجهل شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ثم تعرف تلك الشخصية وقد أخطأت في حقها تتأثر تأثراً عظيماً.
أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة تبكي على صبي لها، فقال لها: (اتقي الله واشكري) فقالت: وما تبالي بمصيبتي؟ فلما ذهب قيل لها: إنه رسول الله، ما كانت تعلم أنه رسول الله، فألقت كلمة: وما تبالي بمصيبتي؟ فلما ذهب قيل لها: إنه رسول الله، فأخذها مثل الموت، كيف تكون علامات الميت من الاصفرار والذبول؟ هذه العلامات أخذت المرأة، أخذها مثل الموت، لماذا أخذها مثل الموت؟ لأنها عرفت هذه الكلمة العظيمة أمام من ألقتها، استعظمت الكلمة التي ألقتها.
اليوم تقول للناس شيئاً فيستهزئون به وينكرونه، فإذا قلتم لهم: يا جماعة إن هذا حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا يحدث لهم؟ هل يتأسفون؟ هل يأخذهم مثل الموت أو أدنى من ذلك؟ إذا عرفوا كلام من الذي استهزئوا به، ولا نقول أيها الإخوة: إن التأثر يقتصر على الحزن وذرف الدموع فقط، بل كان تأثرهم في أحيان فرحاً، يتأثرون من الفرحة، والحديث الصحيح لما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فرح الناس بمقدمه فرحاً عظيماً حتى جعلت الولائد والإماء يقلن: جاء رسول الله، جاء رسول الله.
جاء المربي، جاء المعلم، جاء صاحب الوحي الذي سينقل لهم مباشرةً وحي الله عز وجل، فرحوا بمجيء المعلم، فرحوا بمجيء الواعظ.
اليوم الناس في مجالسهم لو جاءهم واعظ أو معلم هل يفرحون بمقدمه؟ هل يفرحون بمجيئه؟ هل تشتعل أنفسهم سروراً وغبطةً ويقولون في أنفسهم: الحمد لله، جاء من يرشدنا ويعلمنا.
أم تعلوا وجوههم قترة وغبرة، ويتوارون من المجلس من سوء ما رأوا، ويريدون اللهو؟ إذاً -أيها الإخوة- الانفعال من سمات الشخصية الإسلامية، هذا الإحساس المرهف، هذه النفسية الرقيقة التي تتأثر لأدنى المواقف وأدنى الكلمات، حال إخواننا المسلمين اليوم في العالم يرثى له من التشريد والتقتيل والسجن والمجاعات، وأنواع الأوبئة والأمراض والاضطهاد، وأحوال الأقليات الإسلامية في العالم، من الذي يتأثر لها التأثر العملي -أيها الإخوة- الذي يؤدي إلى الدعم وإلى الإنفاق في سبيل الله؟ أشياء وأمور كثيرة جداً.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- بأسمائه الحسنى أن يجعلنا وإياكم ممن يتأثرون بالوحي، وممن ينتفعون بهذا التأثر إلى أعمال البر وأعمال الخير بجميع أنواعها.
وصلوا على نبيكم صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى أخبر أنه من صلى عليه فإنه عز وجل يصلي عليه بتلك الصلاة عشر مرات، وأخبر عليه الصلاة والسلام أن من صلى عليه في يوم الجمعة وليلة الجمعة فله أجر عظيم، فصلوا عليه -أيها الإخوة- سائر هذا اليوم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.(302/9)
المرأة المسلمة على عتبات الزواج [1 - 2]
يتحدث الشيخ في هذه المادة عن المشاكل والعقبات التي تحدث للمرأة وهي على عتبة الزواج، ومن ذلك: تظاهر المتقدم للزواج بالالتزام ثم يتبين العكس، وكذلك تحدث عن البحث عن زوج أو زوجة بطريقة صحيحة، وحذر من انفتاح المرأة عبر الهاتف بالكلام مع الرجال، كما تكلم عن المفاسد التي تحدث بعد الزواج من الرجل الفاجر، وفي الأخير ذكر وصية أمامة بنت الحارث لابنتها عند زفافها.(303/1)
مشكلة عدم قناعة الزوج بزوجته وكذا العكس
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً وبعد: فهذه فرصة طيبة أن نلتقي من رواء حجاب لنتذاكر سوياً في مسألة من المسائل المهمة التي تحتاج إليها المرأة المسلمة، وسيكون حديثنا - إن شاء الله - عن المرأة المسلمة على عتبة الزواج، وهذا موضوع عبارة عن جزء من موضوعٍ أطول منه وهو الكلام عن العلاقات الزوجية في الإسلام، وعن أسباب السعادة الزوجية، ولكن سنخصص هذه الليلة بالحديث عما قبل الزواج.
لقد جعل الله عز وجل الزواج نعمة من النعم التي أنعم بها علينا، فكان من آياته سبحانه وتعالى أن جعل لنا من أنفسنا أزواجاً لنسكن إليها، وجعل بين الزوج وزوجته مودة ورحمة سبحانه وتعالى، حتى تتكون الأسرة المسلمة التي يتألف منها المجتمع المسلم، ولقد كان الإسلام ديناً عظيماً عندما شرع الله فيه من الأسباب التي تكفل الاستقامة والإنتاج في الأسرة المسلمة، وحمى الله هذا المجتمع الذي يقوم على الكتاب والسنة من الرذيلة والفواحش بأنواعها، وأوجد العلاج للمشاكل أو المشكلات التي تحدث، وقبل ذلك شرع من أسباب سد الذرائع ما يمنع وقوع هذه المشكلات أصلاً، والمرأة المسلمة تحتاج إلى الزواج لعفاف نفسها، والقيام بدورها في إنجاب الأولاد وتربيتهم، والقيام بشأن الزوج والبيت، والتقرب إلى الله عز وجل بهذه الأمور جميعاً، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31] وهذا الأمر منه عز وجل مفيدٌ جداً في حماية المرأة المسلمة من أنواع الانحراف.
ولذلك نجد أن من أسباب المشكلات الحادثة في الحياة الزوجية مشكلة معينة؛ وهي قضية عدم قناعة كلٌ من الزوجين بالآخر، نجد أن من أسباب هذه المشكلة عدم غض البصر، فإذا داومت المرأة على النظر إلى الرجال الأجانب حتى انطبعت في مخيلتها صورٌ كثيرة للرجال، فأنَّى لها أن تقنع بمن يتقدم إليها أو بزوجها إذا كانت متزوجة؟! وقل العكس بالنسبة للرجل أيضاً، عندما يفتح الرجل بصره على أشكال متنوعة من النساء، في مسلسلات وعلى صفحات المجلات، وفي الشارع وفي الطريق والأماكن العامة فإنه لا بد أن يحصل عنده نوعٌ من عدم القناعة بزوجته في الغالب، أو إذا أراد أن يتقدم لخطبة امرأة فإنه لا يزال يقارن بين الصور التي نظر إليها وبين الصورة التي يراها أمامه، وفي الغالب فإن الصور التي رآها ستتميز بوجه من الوجوه عن الصورة التي ينظر إليها بعد زواجه أو أثناء خطبته، ولذلك كان من حكمة الله ومن رحمته أن جعل غض البصر أمراً واجباً حتى تسد جميع منافذ الشيطان.
ومن صفات المرأة المسلمة المتعلقة بمرحلة ما قبل الزواج: الحياء، وهو لازم ومطلوب للمرأة في جميع أوقات حياتها، ولكنه مهمٌ جداً خصوصاً للفتاة في سن الشباب، فإن الإسلام يكره المرأة الخراجة الولاجة المزاحة المتبذلة التي لا تقر في بيتها، كما قال الله عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] ولذلك عندما وُصِف صلى الله عليه وسلم في حيائه بأنه أشد حياءً من العذراء في خدرها، وهذا دالٌ على شدة حيائه صلى الله عليه وسلم؛ لأن المرأة في تلك الحالة تكون في أشد درجات الحياء، وبعض الفتيات قد تحاول إظهار نفسها أمام بنات جنسها بشخصية غير شخصيتها الحقيقية بنوع من التبذل لتشتهر بينهن، ولكن هذا الظهور بهذا المظهر المتكلف يساعد أو يسبب زوال أو تخفيف الحياء في نفسها، ولا بد أن تحافظ المرأة المسلمة على غض بصرها وعلى حيائها، حتى تهدى إلى الزوج المسلم وهي في كامل درجات الصيانة والعفاف، ولا يكون عندها دافعٌ أصلاً لمد عينيها إلى أمور أخرى.
كثيرٌ من الفتيات يتقن للزواج ولكن الذي يحصل عند البعض إضاعة الأوقات بالأماني، وإشغال الذهن بفارس الأحلام، فيضيع وقت ثمين من غير طائل، والإنسان مسئول عن تفكيره مسئول عن الأمور التي يشغل بها ذهنه، ولذلك يكون إشغال المرأة نفسها بدعاء الله أن يرزقها زوجاً صالحاً هذه عبادة، بدلاً من أن تضيع الوقت وتسرح في الأفكار وهي تفكر في طبيعة القادم الجديد، وهذا أمر نجده في الواقع موجوداً يسبب تشتت الفكر، وانشغال المرأة بالخيال عن الواقع الذي تعيش فيه، وتنشغل بالخيالات عن التفكيرات الجادة التي من المفروض أن تكون منشغلة بها، ومن التبذل الذي ذكرته أن تكون الفتاة في نوع من الصيانة، فمثلاً: لا تعرض نفسها على الرجال، ونجد في سيرة الصالحات أن هناك وسائط تتم بين المرأة والرجل المتقدم، ومسألة تخطي الأبوين من المسائل التي لا تحمد عقباها في العادة، والزوج في العادة هو الذي يبحث عن زوجة.
وأما الزوجة فلا مانع من أن يبحث وليها عن زوج صالح لابنته أو لأخته، وهذا واقع في سير الصحابة رضوان الله عليهم، وأن يعرض الرجل ابنته أو أخته على الرجل الصالح هذا كان من سنن السلف، لكن لا أن تعرض المرأة نفسها.
ولا داعي للاستدلال بالواهبة نفسها للرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم له خصوصيات.(303/2)
مأساة امرأة مسلمة مع زوج فاجر
السبب الذي من أجله نطرق هذا الموضوع وهو موضوع " المرأة المسلمة على عتبة الزواج " لأننا نسمع قصصاً كثيرة في الواقع تدل على أن هناك نقصاً في الوعي من بعض النساء في موضوع اختيار الزوج أو الموافقة عليه.
فمثلاً أذكر لكن -أيتها الأخوات الكريمات- نموذجاً أو أكثر من أمور واقعية حصلت عند بعض النساء اللاتي تزوجن، حتى يتضح لكن ما أريد الوصول إليه من وراء عرض هذا الموضوع، امرأة تقول: تزوجت من رجل كان يظهر في البداية الخير والاستقامة، قدم إلي هدايا، لاطفني ولاطف أهلي، سألنا عنه قالوا: إنه إنسان طيب وأخلاقه طيبة، وبعد الزواج تبين ما يلي: تارك للصلاة، يستهزئ بي وبديني وحجابي، أعطاني مهلة لأنزع الحجاب وأكشف وجهي على إخوانه، وأقدم الضيافة لأصحابه الرجال الأجانب، يقوم بنزع الحجاب عن رأسي بالقوة، حرمني من المناسبات الطيبة ولقاء أخواتي في الله، وحضور المحاضرات الإسلامية، مزق كتبي، وكسر الأشرطة الإسلامية التي لدي، يضربني باستمرار ويشتمني ويهينني حتى أمام أهله، ويقول: أنا أخذتك من الشارع، ومرة انفرد بي في غرفة وضربني حتى سال الدم، أسقطت مرتين أحدهما طفل له أربعة أشهر دفناه، الإسقاط كان نتيجة الضرب، يسافر إلى الخارج - بانكوك - لديه خطابات من نساء هناك، وصور بين أوراقه، يسافر للبلاد البعيدة للفاحشة، وللبلاد القريبة لشرب الخمور، ويتذرع بأن لديه أعمالاً تجارية، وهو يتعاطى المخدرات، لا ينفق علي وأعطاني مرة مائة ريال وقال: هذا مصروف السنة، اشتريت كثيراً من أغراض البيت من مالي الخاص حتى الحلويات أوفرها مما يضيفني إياه الناس من أجل الأولاد، يستهزئ بالدين ويقول: ما عليك مني، إذا أراد ربي أن يهديني هداني لا دخل لك بي، أنا ربي يحاسبني، أنا قلبي نظيف، (البيرة) التي أشربها فيها (1%) كحول، وإذا سألته: لماذا كنت سكراناً الليلة الماضية؟ قال: كنت أمثل عليك، إذا رآني أصلي وأدعو ربي قال مستهزئاً بي: أنت شحاذة ما عندك إلا الشحاذة من الله، يطلق في كل حين، أنا أظن أني أعيش معه في الحرام.
هذا نموذج من النماذج الموجودة في المجتمع نسأل الله العافية، لكن نقول: أيتها الأخوات! كيف وصل الأمر أصلاً إلى هذه الدرجة، وكيف حصل هذا أصلاً؟ ما حصل إلا لنتيجة نقص الوعي لدى مثل هذه المرأة المسكينة، طيبة متدينة لكن ليس هناك أسس تنظر من خلالها عند الموافقة على الزوج، ليس هناك وعي في البحث والسؤال، ليس هناك طرق صحيحة يعمل بها، ولذلك تكون النتيجة كوارث مدمرة، واكتشافات لمصائب، ولكن بعد فوات الأوان، اكتشافات في مراحل متأخرة جداً وكثير من الأحيان يريد أهل الفتاة أن يستمر الوضع لكي يستروا على ابنتهم ولا يريدون المشاكل وقد لا يكون الوضع في بيتهم مهيأ أصلاً لرجوع الفتاة وهم أرادوا أن يزوجوها، وينتهي هذا العبء والحمل، فيكون الرجوع مسألة صعبة جداً وقد تستمر المسكينة في هذه الحياة والسنوات تمضي وهي في هذا الذل والبؤس.
بعض النساء لا يعرفن أضرار الزواج من الشخص الفاسق الفاجر، ويكتفين بالسؤال الأول من أول وهلة، فقد يكون الشخص المسئول هو قريب لهذا المتقدم، وقد تكون خالته أو عمته وبالطبيعي فإنهن سيثنين عليه، فليست الأقارب الخلّص هنّ اللاتي تعتمد شهادتهن أصلاً في الرجل.
وأضرار الزواج من الكافر المرتد تارك الصلاة المستهزئ بالدين لا تحصى ولا تعد، وهذه نماذج ذكرناها نتيجة طبيعية حتمية لمن تتزوج برجل لا يخاف الله، ولو كان الشخص ذا أخلاق طيبة، ولكن يكون لديه انغماسٌ في الحرام كأن يعمل بوظائف محرمة كوظائف البنوك مثلاً، فهل يكون من الأمر المحمود أن تأكل من الحرام، وأن تطعم أولادها من الحرام، وتشرب من الحرام، وتلبس من الحرام وهكذا؟ وأي خيرٍ وأي بركة يكون في حياتها وحياة أولادها وبيتها وهي أهملت عندما عرفت بأن هذا وضع الزوج ولكن قالت: أقدم عليه؟! يجب أن تكون المحاولة قائمة، والجهد مستمر لكشف المزيفين، وهذه طائفة من الناس يعلمون أن المرأة في الغالب تريد المتدين، ولذلك قد يظهرون التدين والالتزام لأجل الزواج فقط، قد يصلي في المسجد لأجل الزواج فقط، وينبغي أن يكون سؤال المرأة عبر أوليائها، أو عبر نساءٍ أخريات حتى تصل المسألة إلى أناس ثقات عندهم معلومات كافية عن وضع هذا الرجل، وقضية التحري مطلوبة ومهمة في هذا العصر الذي اختلط فيه الحابل بالنابل، وأصبح الوصول إلى معلومات صحيحة أمراً متعسراً، لذلك كان لا بد من دراسة الموضوع دراسة كافية، وعدم التسرع، وكثيراً ما تكون المرأة هي الخاسرة في مثل هذه القضايا.
هناك خطأ يحصل أحياناً لا بد من الإشارة إليه، وهو: أن بعض النساء قد يحصل عندها جرأة في السؤال عن الشخص، فتتصل هي مباشرة بمديره في العمل، أو تتصل مباشرة بأصدقائه، وتسأل بنفسها تريد أن تصل إلى معلومات، ولكن هذا الأمر ينافي مسألة الحياء التي سبق أن ذكرناها في البداية، وليس من المناسب أن تقوم المرأة بسؤال الرجال، يمكن أن تصل إلى الرجال عن طريق أوليائها، أو عن طريق صاحباتها المتزوجات من أزواج ثقات، فإنها تستطيع أن تصل في النهاية للمعلومات لكن بطريقة سليمة، ومسألة انفتاح المرأة على الرجال في الهاتف والكلام في الاجتماعات مسألة لا تحمد، وكثيراً ما كان لها نتائج سلبية جداً.(303/3)
مسألة تظاهر الرجل بالالتزام قبل الزواج
أريد أن أقول أيضاً: إن المتقدم أحياناً قد يزور أهل الفتاة، فإذا أذن المؤذن انطلق إلى المسجد ويريهم أنه يصلي، فعندما يدخل بها يظهر على حقيقته ويظهر على تركه للصلاة، ثم تقول إحدى النساء المسكينات: لا يصلي ويقول: ما عليك مني أنا سأعاقب بالنار لوحدي، أو يقول: لا يدخل النار أحد إلا أنا؟! ويقول متباهياً لزملائه في العمل: إذا أذن المؤذن فسوف أذهب إلى النوم أو أنشغل بأي شيء.
ولا يحصل هذا الانشغال إلا إذا جاء وقت الصلاة، وهنا ينبغي عدم الانخداع بالمظاهر، أو الأشياء التي تبدو للوهلة الأولى، لا بد أن يكون هناك وعي في مسألة البحث في حال المتقدم، أحياناً يحصل المحذور ويصبح ويصير العقد على شخص، وبعد العقد يتبين حال الشخص، ولكن قبل الدخول هنا لا بد أن تكون المرأة لها موقف، وكونه حصل العقد هذا نصف المشوار، والرجوع في هذا الوقت أسهل بكثير جداً من الرجوع بعد الدخول، اسمعن إلى هذه القصة: امرأة ملتزمة في الدين عقدت على شخص، ظهر لهم في البداية أنه إنسان متدين، وكانت تخرج معه أحياناً ولاحظت مرة من المرات أن الرجل إذا ظهر صوت الموسيقى في السيارة لا يهتم بخفض الصوت، فبدأت تخاف أن هذا الرجل غير متدين، الحسن البصري رحمه الله يقول: [ما أخفى إنسان شيئاً في صدره إلا وأظهره الله على صفحات وجهه أو فلتات لسانه] هذه قاعدة مهمة جداً أرجو أن تنتبهن لها أيتها الأخوات، لذلك فإن مثل هذا الشخص قد يُكشف وهذه المرأة لما رأت الشخص عنده نوع من التهاون بهذه الأشياء أرادت أن تستدرج الرجل وكان لديها شيء من الذكاء واستطاعت أن تصل به إلى النتيجة، فسألته: ما رأيك بالمغني الفلاني؟ ثم قالت له: أنا أحب أغاني فلان، وسردت له ما تعرفه عن هذا المغني في جاهليتها، وهذا الرجل كان طبعاً في البداية مستغرب من الحديث، ولما حصل الاسترسال في الكلام عن أمور من الجاهلية وقع الرجل ثم انفتح، وقال: الحمد لله، أنا كنت أظنك متشددة ومتزمتة ولكن -الحمد لله- أخيراً ظهرنا مثل بعض، وانفتح الرجل وصار يتكلم عن المعاصي والمنكرات، والأغاني والمسلسلات، وعما يراه ويسمعه، وظن بأن المرأة مثله وهي تقول وتومئ برأسها تستدرجه: نعم ثم.
وبعد ذلك أوصلها إلى البيت فاتصل أهلها بعد ذلك، وقالوا للرجل: إن البنت لا تريدك.
ولكن الوصول إلى هذه المرحلة أصلاً خطر، لكن نقول للمرأة وللفتاة: لو حصل هذا لا يعني إكمال المشوار وقد تبين لك بعد العقد أن الرجل ليس من أهل الدين، وأنه لا يكافئك بالدين، فإذاً ليس من الخير الاستمرار معه، وطلب الفسخ والطلاق في هذه الحالة هو الشيء الذي من المفروض أن يحصل.
هناك بعض النساء يقلن في أنفسهن أمراً وهو أنها تقول: أنا معتادة الآن على عيوبه وسأحاول أن أهديه إن شاء الله، ولعل الله أن يهديه على يدي، ولعله يهتدي ويتأثر مني، هذا الكلام في الغالب لا يحصل لأسباب، منها: أن الرجل هو الأقوى، وهو المؤثر، وهو صاحب الشخصية وصاحب القوامة على المرأة، ولذلك من الصعب أن يتأثر الرجل بالمرأة، نحن لا ننكر أن هناك حالات متعددة يتأثر فيها كثيرٌ من الرجال بنسائهم، وكانت المرأة سبب هداية الرجل، وتأثر رجالٌ من تدين نسائهم، وكانت المرأة فاتحة خير كبير على الرجل، لكن أقول: إن المرأة عليها ألا تتساهل، ولا تقدم على مثل هذا إلا إذا كانت القرائن قوية جداً في إمكان إصلاح هذا الرجل، كأن يكون رجلاً مؤدٍ للواجبات على خلق حسن رجل عفيف، لكن قد يكون عنده بعض المعاصي البسيطة أقصد بالنسبة لغيره، كأن يستمع الغناء لكنه ليس متعلقاً به، إنسان قد يكون في ثوبه شيءٌ من الإسبال لكنه يقبل النصيحة، إذا توفرت القرائن على أن الرجل من الممكن إصلاحه، وتبين من مناسبات كثيرة أنه لين العريكة، وأنه يتقبل، وأنه إنسان على بداية الالتزام، فعند ذلك نستطيع أن نقول لهذه المرأة: توكلي على الله، واعزمي واستخيري الله في هذا الشخص ولا مانع من الإقدام عليه ما دام أنه يتأثر ويقبل النصيحة، وليس معانداً ولا متعجرفاً، فعند ذلك قد يكون هذا القرار فيه شيء كبير من الصواب.(303/4)
البحث عن زوج بطريقة صحيحة
هناك مشكلات كثيرة تحدث الآن في موضوع الزواج منها: كيف يتم الربط بين الشاب الصالح والفتاة الصالحة؟ طبعاً أهل الزيغ والضلال عندهم أساليب عجيبة في تعرف الفتيات على الرجال ولذلك تجدين -أيتها الأخت المستمعة- صفحات بعض المجلات عبارة عن صفحات للتعارف، وتنشر في بعضها الصور أو بدون صور مربع خالٍ وتحته بيانات ومعلومات: فلانة الفلانية العمر كذا البلد كذا المستوى التعليمي كذا وتريد رجلاً كذا، وكذلك رجال يكتبون في (صفحات التعارف) كما يسمونها، وهذه طريقة من أفشل الطرق، وكون هذه المرأة تعرض نفسها بهذا الشكل شيء مزرٍ، وكون الواسطة أو الوسيلة التي يتم بها هذا هي وسيلة من وسائل الفساد والمجون؛ مجلات سيئة وتافهة هي التي تصل الرجال بالنساء وهذه لا شك أنها وسيلة من وسائل الفساد.
والحقيقة أن كثيراً من النساء لا يعرفن إلى أين يتوجهن بحل لمشاكلهن، ولذلك نجد كثيراً من الفتيات خصوصاً في مرحلة المراهقة يتصلن لمحرري الصحف، أو بمحرري بعض الزوايا، أو بعض الصفحات في بعض المجلات والجرائد، وأحياناً ينطلقن من إخلاص ومن إرادة لمعرفة الحل ولكن يتجهن إلى الفسقة من أمثال هؤلاء المحررين طالبات حل مشاكلهن، وأنَّى لهذا الفاسق وأنَّى لهذا المفسد الذي يكتب بيده ما يغضب الله في صفحات الجرائد والمجلات أنَّى له أن يقدم الحل الشرعي لمثل هذه الفتاة الواقعة في مشكلة؟! ويجب على المرأة أن تتجه لأهل الخير والصلاح، ويجب أن يقوم الصالحون والصالحات بدور الدلالة على الخير، يجب -مثلاً- أن يقوم بعض الأزواج وزوجاتهم بعمل حلقات للوصل بين الصالحين والصالحات، فمثلاً: يقوم الزوج من جهته بجلب المعلومات عن رجال صالحين يريدون الزواج، وتقوم الزوجة بحلقة الوصل مع النساء، فإذا عرف الزوج أن أحد إخوانه يبحث عن زوجة يخبر زوجته وهي تبحث له فيمن تعرف، هذه من الطرق الطيبة التي يجب أن تشجع وأن تكثر.
أما ما يحدث من بعض الفتيات اللاتي لا يتقين الله في مسألة البحث عن الزوج بطريقة غير شرعية، مثل: الهاتف، فيتصلن بالرجال الأجانب، أو يقبلن من الرجال الأجانب الاتصال بهن وتستمر الفتاة في الكلام في الهاتف، وترتبط بعلاقة مع هذا الشخص عبر الهاتف، وكثيراً ما يكون هذا الرجل لعاباً مستهزئاً متحايلاً يريد أن يوقع هذه المسكينة فريسة له، ويؤمنها في الزواج منها، وبأنه يحبها حباً شريفاً عفيفاً، وأن آخر هذه العلاقة التلفونية ستنتهي بزواج سعيد، هذا الكلام المعسول ينطلق من الكثيرين من الفجار عبر أسلاك الهاتف، وكثير من الفتيات خصوصاً في المراحل المبكرة من العمر ينخدعن بمثل هذا الكلام فتنجر للكلام مع الرجل، وتفتح صدرها له، وتفشي له بالمعلومات الخاصة عن أهلها وبيتها، وعن شخصيتها، وعن رغباتها وأحلامها، وعن تفكيرها، ويلعب بها ذلك الخبيث بالهاتف.
وفي كثير من الأحيان بل هو الأكثر وهو الغالب أن هذه العلاقات تنتهي نهاية مأساوية، ويلعب بها ثم يتركها فتتورط وقد عرف اسمها، ورقم هاتفها وعنوان بيتها، وما كان الهاتف في الغالب أبداً وسيلة خيرٍ مطلقاً للتزويج.
شوهد رجل متزوج لكن فيه فسق وفجور تزوج امرأة متحجبة، وكان يبحث عن المتحجبة، فاندهش أحد الناس ممن يعرفه وقال له: عجباً لك يا فلان! أنت إنسان غير معروف بالاستقامة والصلاح، فلماذا تحرص على المرأة المحجبة؟ ولماذا تريد الزواج بامرأة متدينة؟ فقال: أنا أريد إذا ذهبت إلى البيت أن أجد زوجتي في البيت، وليست خارجة مع شخص آخر، وهذا شيء حقيقي، كثير من الناس يريدون الاستقرار في البيت مع أنهم يقومون بعمل المعاصي والمنكرات، ولذلك الرجل الذي يستخدم الهاتف في إقامة الاتصالات والعلاقات هذا في داخله يحتقر تلك المرأة التي يتصل بها وتستجيب له، وهو يعلم -فعلاً- بأن هذه المرأة لا تصلح أن تكون زوجة، ولا تصلح أن تكون ربة أسرة وربة بيت؛ لأنها ليست أمينة، لو كانت أمينة لما حصل هذه الاستجابة منها، ولذلك فإن الورطات الحاصلة كثيرة في موضوع قضايا الاتصال بالهاتف.(303/5)
رؤية الخاطب لمخطوبته والعكس
هناك أيضاً فيما يتعلق بموضوع المرأة المسلمة على عتبة الزواج موضوع رؤية الخاطب للمخطوبة والمخطوبة للخاطب، ورؤية الخاطب للمخطوبة والمخطوبة للخاطب من سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأمر عليه الصلاة والسلام ذلك الرجل، فقال: (اذهب فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما) وفي رواية: (اذهب فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً) وكان في أعين الأنصار شيءٌ من الصغر فأمره أن يذهب فينظر حتى يرتاح لها ويطمئن لشكلها؛ لأن هذا الزواج ليس لعباً وله ما بعده.
وأحياناً تتحكم بعض العادات الاجتماعية في تطبيق هذه السنة، وتصبح الرؤية مستحيلة عند بعض الناس الذين لديهم عادات عجيبة، وتقاليد ليست من الإسلام، فإننا نرى بعض الآباء -مثلاً- مع الأسف لا يمكن أن يسمح للخاطب أن ينظر إلى ابنته أبداً، لكن في نفس الوقت ليس عنده أي مانع أن يأخذ البنت بالسيارة إلى السوق لتمشي في السوق متبرجة أو بغطاء شفاف ينظر إليها الغادي والرائح، سبحان الله! في الحرام لا مانع عندهم أن يرى الرجال الأجانب بناتهم أو أخواتهم، لكن إذا جئنا للحلال وإذا جئنا إلى السنة يقولون: لا يمكن أن ينظر، هذه عاداتنا، وهذه تقاليدنا.
فإذا تأكد الأب أو الولي بأن الخاطب جادٌ وأنه من أهل الصلاح والاستقامة، فإنه لا بد له أن يمكنه من تطبيق هذه السنة ومن تطبيق الأمر الذي جاءت به السنة وهو نظر الخاطب إلى المخطوبة، وعلى فرض أن هذا الأمر لم يتم وأن الأب ظل مصراً على رأيه فلا أقل من أن تأخذ المخطوبة وصفاً كاملاً ودقيقاً للمتقدم كما يأخذ هو ذلك عن طريق أمه أو خالته أو عمته من النساء اللاتي ذهبن يخطبن هذه المرأة له، وهنا يباح من الأمور في الوصف ما لا يباح في غيره، هنا موضوع زواج وموضوع ارتباط بين شخصين، لا بد أن يكون هناك بينة قبل الإقدام عليه، وهذا عمر وهذه معيشة، وزمن طويل.
وهذا حديث يبين كيف كانت استجابة الصحابة رضوان الله عليهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قضايا التزويج، كانت الأنصار إذا كان لأحدهم أيمٌ لم يزوجها حتى يعلم هل للنبي صلى الله عليه وسلم فيها حاجة أم لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من الأنصار: زوجني ابنتك، فقال: نعم يا رسول الله! وكرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعم عينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لست أريدها لنفسي، قال: فلمن يا رسول الله؟ قال: لـ جليبيب وجليبيب رجل من الصحابة لكنه لم يكن غنياً، ولا وجيهاً، فقال الرجل: يا رسول الله! أشاور أمها، وهذا يعني أن الأم لها رأي في الموضوع، فأتى الرجل لزوجته الأم، فأتى أمها فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ابنتك، فقالت: نعم، ونعمت عينه، فقال: إنه ليس يخطبها لنفسه إنما يخطبها لـ جليبيب، فقالت: أجليبيب؟! لا لعمر الله لا نزوجه، فلما أراد أن يقوم ليأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره بما قالت أمها، قالت الجارية: من خطبني إليكم؟ فأخبرتها أمها، قالت: أتردون على رسول الله أمره؟! ادفعوني فإنه لن يضيعني، فانطلق أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره قال: شأنك بها.
فزوجها جليبيباً، ثم خرج جليبيب رضي الله عنه في غزوة فاستشهد، فكانت هذه المرأة من النساء الخيرات اللاتي عرف عنها الخير قبل زواجها وبعد زواجها، وهذا الحديث صحيح رواه الإمام أحمد في المسند.
والشاهد هو قبول إشارة الرجل الطيب الخبير الصالح بالرجل المناسب للزوجة، هذا مما يوفر كثيراً من العناء، ولا بد للفتاة -عندما يتقدم إليها رجل- من أمرين: الاستشارة والاستخارة، والاستشارة هي مرحلة قبل الاستخارة، فإن معرفة المرأة للرأي ومعرفة ماذا يقول الناس الثقات في أمرها وأمر المتقدم إليها تساعد كثيراً في توضيح الرؤيا وفي اتخاذ القرار، ثم تكون الاستخارة في اللجوء إلى الله عز وجل.
بعض النساء تقول: هل أصلي صلاة الاستخارة مرة واحدة فقط أم أستطيع أن أصلي أكثر من مرة؟ فنقول: ذكر أهل العلم أنك تستطيعين أن تصلي أكثر من مرة صلاة الاستخارة حتى يحصل الارتياح أما ما يقوم به بعض الناس أو بعض الفتيات من أن تستخير لأختها أو البنت تستخير لأمها فلا أصل له في السنة، والاستخارة تكون من المرأة صاحبة الأمر، لا يستخير أحد عن أحد، وإنما يقوم بالاستخارة الرجل أو المرأة صاحبة الشأن: (إذا هم أحدكم بأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة) الحديث.(303/6)
التفاؤل عند الدخول في الحياة الزوجية
ولا بد من الدخول في الحياة الزوجية بنفسية التفاؤل، لا نفسية الخوف والتشاؤم، وهنا نريد أن نذكر مشكلة بسيطة تحدث أحياناً وهي: أن هذا الخاطب أو هذه المخطوبة يكون ماضيها ليس بالحسن، ماضٍ فيه بعض المعاصي والمنكرات، وهنا تتحرج المرأة أو قد يتحرج الرجل: هل يجب عليه أن يخبر الفتاة أو أهل الفتاة بماضيه؟ ثم تقول هي في نفسها: هل يجب علي أن أخبر هذا الرجل بأنني كنت مثلاً أعاكس بالهاتف؟ فنقول: لا يشترط ذلك أبداً، وما دام ستره الله وسترها فليستر ولتستر على نفسها هذا إذا حصلت التوبة إلى الله، وانقطع ذلك المنكر، وتبدلت تلك الحياة السيئة بحياة طيبة صالحة، فما دامت التوبة حصلت فإنه لا يصلح أبداً ولا يشترط مطلقاً أن يصارح كلٌ منهما الآخر بما كان منه في الماضي، شيء حصل وانتهى والله يغفر ويتجاوز.
وهو عليه ألا يسمع كلام الناس فيها خصوصاً عن الماضي إذا تابت إلى الله، وهي كذلك إذا تأكدت من صلاحه واستقامته الآن، وأنه قد تاب توبة صالحة فإنها لا تسمع لكلام المجرحين فيه.
وهناك أمور قبل الزواج تكون أحياناً عقبات، مثل: المرأة الموظفة ما هو رأي الزوج في الوظيفة؟ هل يريد منها أن تترك الوظيفة أو أنه يسمح لها بالاستمرار في الوظيفة؟ المرأة تدرس في الكلية أو في الثانوية: هل يسمح الزوج لها بالاستمرار في التعليم أم لا؟ أولاً: هذه المسألة لا داعي لأن توضع وكثير من الناس يخطئون فيضعون شرط إكمال المرأة للوظيفة أو التعيين أو الدراسة قبل صلاح الرجل وتدينه، قبل التأكد من أي شيء، أول شيء يقال للرجل: المرأة تريد أن تعمل في الوظيفة أو تريد أن تستمر في التعليم وهكذا.
ولكنني أقول في نفس الوقت: إن الأمور ينبغي أن تكون واضحة من البداية، فبعض الناس يقولون: نتزوج وبعد ذلك لا نختلف، أو نزوجه ثم لا نختلف، أو هو يقول: أتزوج ثم لا أختلف.
لا، ينبغي أن تكون الأمور واضحة من البداية، قد يتفق هو وإياها مثلاً على ترك الوظيفة، أو يتفق هو وإياها على الاستمرار في الوظيفة، وتفادياً لحصول الاختلافات في مسألة الراتب فإنه لا بد أن تكون الأمور واضحة أيضاً، فهو قد يتفق معها على أن تستمر في الوظيفة على أن تعطيه جزءاً من الراتب مقابل عدم تفرغها التام لشئون البيت، وإذا اصطلحت هي وإياه على أي شيء كان طيباً، وإذا شترطت هذا الشيء في العقد كان لازماً للرجل، فإذا لم تشترطه في العقد فإنه ليس بلازم، فإن له أن يمنعها من الدراسة أو الوظيفة إذا لم يكن ذلك شرطاً في العقد.
المقصود هو أن تكون المسائل واضحة حتى لا تحدث مشاكل في المستقبل، وفي الوقت الذي نقول فيه للمرأة: المهم الزواج، قدمي الزواج على أي شيء، وما دام الرجل صالحاً نقول للرجل: لا تجعلها عقبة، تزوجها ثم حاول أن تقنعها بالحسنى والتجربة -تجربة الحياة الزوجية- ستبين لها على أية حال ما هو الأصلح، وإذا كان الزوج عاقلاً والزوجة عاقلة فإنهما -إن شاء الله- لن يختلفا على أي مسألة من هذه المسائل في الغالب.(303/7)
عقبات في طريق الزواج(303/8)
رفض الزواج برجل قد تزوج ثم طلق أو رجل عنده أولاد
أحياناً يتقدم المرأة رجل سبق له الزواج، فبعض الناس يجعلون هذا عقبة، يقولون: سبق لك الزواج وطلقت! يمكن أنك إنسان سيئ؛ لماذا طلقت؟ ولماذا لم تكمل الحياة مع زوجتك الأولى؟ ولماذا ولماذا؟ لكن الحقيقة أن الرجال يختلفون فمنهم -فعلاً- من يكون طلق زوجته لأنه إنسان سيئ لا يمكن أن تعيش معه وطلبت الطلاق وطلقها، وفي بعض الأحيان يكون الرجل هو المظلوم وتكون المرأة لا يمكن أن يُعاش معها وأن يصبر عليها فطلقها لسوء في خلقها أو في دينها، فيجب هنا أن يتأكد لماذا طلق الرجل؟ فإذا كان رجلاً معروفاً بالصلاح معروفاً بالاستقامة وسبب الطلاق هو أنه لم يصبر منها على السوء في دين أو خلق، أو لم يتفاهما بدون أسباب شرعية، لم يحصل اتفاق، أو تقابل نفسي، فعند ذلك لا يصح أن تجعل قضية أن الرجل سبق له الزواج، وتجعل هذا الأمر عقبة في طريق قبول هذا الشخص في تقدمه لإحدى النساء، وتزداد المشكلة عندما يكون للرجل أولاد من امرأة سابقة، فبعض النساء تقول: لا أريد الرجل لا يمكن أوافق عليه، لماذا؟ تقول: عنده أولاد، أنا ما عندي استعداد أن أربي أولاد غيري، نقول: التكافل من دين الإسلام، وإذا كان الرجل طيباً وصالحاً لم يتقدم أحسن منه أو لم يتقدم أحد والمرأة قد تكون في سن متقدمة نوعاً ما، فلماذا ترفض؟ لأن عنده أولاد، أليست تؤجر على تربية أولاد زوجها ولو من امرأة أخرى؟ صحيح أن المسألة فيها إشكالات اجتماعية، صحيح أن القضية ليست مثل أن يتقدم إنسان لم يسبق له الزواج ولا يوجد عنده أولاد، لكن لا يعني أن الإنسان الذي يأتي وعنده أولاد يشطب عليه ويوضع في القائمة السوداء لمجرد أنه سبق له الزواج أو مجرد أن عنده أولاداً.(303/9)
موافقة المرأة الزواج برجل عنده عيوب خَلْقية ثم ترفضه
كذلك من الإشكالات التي تحدث أن المرأة قد توافق على الرجل في البداية وفيه بعض العيوب -مثلاً- تكون امرأة متحمسة وتطلب صاحب الدين -مثلاً- فيكون الرجل فيه بعض العيوب الخلقية على سبيل المثال، قد يكون فيه عيب في خلقته قد يكون إنسان ضعيف ذات اليد ليس ميسوراً وهي من عائلة غنية، وقد تكون أيضاً جميلة وهو فيه عيب، ففي البداية بعض الفتيات يتحمسن فيوافقن، نقول: إذا كان الحماس صادقاً فإن الله سيوفقها وإياه، ولكن أحياناً يكون حماساً في القبول لكن دون مصارحة حقيقية للنفس، فإذا خف حماس المرأة بعد الزواج بدأت تنظر لماذا أغفلته سابقاً، وبدأت تقول: هاه هذا غير مكافئ لي، هذا غير مساوٍ لي، أنا أستحق أحسن من هذا الرجل وهكذا، فيجب أن تصدق المرأة مع نفسها قبل الموافقة.
والرجل ما دام صالحاً وذا دين وخير فإن الدين والصلاح والخلق الحسن أهم من بعض العيوب الخَلْقِيَّة، ولكن مع ذلك نقول للمرأة: أنت أعرف بنفسك، إذا كنت تعرفين بأنك لن تصبري على الحياة معه في المستقبل فلا بد من اتخاذ الموقف الصحيح من الآن.(303/10)
رفض المرأة الزواج برجل متزوج
هناك أمر آخر وهو أن لدى بعض النساء موقف معين من زواج الرجل بامرأة أخرى، ونحن نقول: ما دامت المرأة تقر بما أنزل الله وتعترف به فهذا هو الأساس، أما كونها يوجد عندها غيرة فهذا شيء طبيعي وقد حصل مع نساء الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن ينبغي ألا تتراجع المرأة تحت مصارف الغيرة فتنكر شرع الله أو تبغضه، فإن المسألة إذا وصلت إلى هذا الحد فإنه يخشى عليها من الكفر والعياذ بالله، وبعض النساء يتحمسن في البداية وتقول: أنا راضية بقضاء الله، وإذا أردت أن تتزوج أنا ما عندي مانع إلخ، فإذا تزوج حصلت المشاكل بعد ذلك، فيجب أن تنطلق المرأة من الإيمان بما أنزل الله في كتابه، وليقينها بأن ما فرض الله هو الخير للناس، وينبغي ألا تكون الدعوة القائمة عند البعض بأننا لا نرى مانعاً من الزوجة الثانية، وأننا لا نرى إشكالاً فيه، وأننا وأننا وبعد ذلك يحصل شيء آخر.
أحياناً يكون من المشاكل التي توجد على عتبة الزواج أن يتقدم شخص متزوج بامرأة أخرى، وقد يكون المتقدم إليها بلغت سناً لا بأس به، وامرأة بنصف رجل خير من امرأة بلا رجل، وامرأة بربع رجل خير من امرأة بلا رجل، ولذلك بعض الأشياء الاجتماعية الموجودة الآن مما تأثرنا به من الكفار ينبغي أن يزال، وينبغي أن تكون الحياة طبيعية كما كانت عند القدامى، ينبغي أن تكون حياة طبيعية في حالة إقدام الرجل على الزواج بامرأة أخرى، كذلك عندما يتقدم لامرأة وهي تحتاج إلى رجل ويكون عنده زوجة يجب ألا تكون الزوجة الأولى عائقاً أيضاً، ويرفض الشخص لمجرد أنه متزوج، إذا كانت المرأة المتقدم لها لم يتقدم لها شخص آخر نحن نقول: لا يشترط وليس بلازم أن كل امرأة يتقدم لها إنسان متزوج عنده زوجة لا بد أن توافق عليه، نقول: هي حرة، هي لا تريد رجلاً متزوجاً ليس هناك إشكال، لكن أحياناً لا يتقدم أحد، لا يوجد إلا هذا الرجل، فهل يُرفَض لأنه متزوج بامرأة أخرى؟ خصوصاً وأنه لا يجوز في الشرع أن تسأل الزوجة أو المخطوبة، تقول للخاطب: لا أتزوجك حتى تطلق زوجتك، هذا الشرط حرامٌ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن هذا، ونهى أن تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في صفحتها، ولذلك المسألة هذه مع ما فيها من الدقة والحساسية لكن الرضا بما أنزل الله عامل مهم في حل كثير من المشاكل.(303/11)
تكبر الزوجة على الزوج
كذلك من الإشكالات التي تحصل في البداية قضية التكبر، المرأة قد تتكبر أحياناً على الرجل بسبب علمها، قد تكون أعلم منه حتى في الأمور الشرعية، وهذا ليس بعيب في الرجل أن تكون زوجته أعلم منه، هذا شيء حصل في التاريخ الإسلامي، شيء طبيعي أن تكون بعض النساء عندهن قدرة علمية، واستيعاب وحفظ، وجلد في القراءة بما يجعلها أعلم من الزوج، لكن الخطأ والمصيبة أن يحصل عندها الكبر نتيجة لإحساسها بأنها أعلم منه، وقد يكون أحياناً بسبب نسبها، ترى أنها أنسب وأرفع وأحسب منه فيحصل عندها كبر في هذا الجانب، وقد يكون بسبب ثراء أهلها ومحدودية دخله هو، وقد يكون بسبب جمالها وترى أنه إنسان غير مكافئ لهذا الجمال، وأنه إنسان فيه نوع من الدمامة فتتمرد عليه وتقع في المحرمات من عصيان الزوج ورفض طلباته ونحو ذلك، وهنا تكون المسألة قد وصلت إلى حد المعصية والمخالفات الشرعية، وبعض النساء اللاتي تكون عندها شهادة وزوجها ما عنده شهادة جامعية مثلاً؛ يحصل عندهن هذا النوع من الكبر ومن التعالي ومن شوفة النفس أو الحال، وتبدأ في التمرد وإملاء رغباتها على زوجها.
نحن الآن نتكلم مع النساء ولو تكلمنا مع الرجال لقلنا كلاماً مشابهاً في تكبر الرجل على زوجته، أو ظلمه لها.
من الأمور المهمة في هذا الجانب في قضية ما قبل الزواج أو على عتبة الزواج: لا بد أن تكون المرأة المسلمة عاملاً مساعداً في تيسير الزواج وتسهيله، فمثلاً: الأهل قد يطلبون مهراً عالياً وثياباً وذهباً وخدامة ونحو ذلك، ينبغي أن تكون الفتاة المسلمة المتدينة عاقلة، فتقنع أهلها بأنه لا داعي لكل هذه الطلبات، وأنها لا تريد كل هذا المهر، ولا كل هذا الذهب، ولا كل هذه الثياب، خصوصاً إذا كان الزوج ليس بمستطيع ولا مقتدر، بل إنه سيستدين لأجل الوفاء بهذه الطلبات.
وهذه قصة جميلة سمعتها من رجل عن زوجته قال: في بداية الزواج عندما تقدمت طلبوا ذهباً بكذا وكذا، فقلت: لها أن تنزل إلى السوق وتختار ما تشاء، هذه الفتاة العاقلة لما نزلت إلى السوق وأهلها يقولون لها: تريدين هذا الطقم؟ فتنظر في ثمنه، فإذا كان مرتفعاً تقول: لا يعجبني، ثم يرونها طقماً آخر فتنظر في ثمنه فإن كان مرتفعاً تقول: هذا ما أعجبني وهكذا، حتى تصل إلى طقم معقول القيمة لا بأس بثمنه تقول: نعم، هذا هو الذي أريده، فهنا تكون الحكمة، لا بد أن تكون الفتاة عاملاً مساعداً في تيسير الزواج، الأهل لهم ضغط صحيح، وإذا صمموا ولا بد فهي قد توافق ظاهرياً وبعد الزواج تتنازل لزوجها عن أشياء مما غرمه من الديون ودفعه إليها فيرد به دينه، هذا أيضاً من العقل والحكمة.(303/12)
رفض الزوج بسبب تعلق المرأة بصديقاتها
ومن المشاكل أيضاً التي تحدث على عتبة الزواج أن بعض الفتيات عندما يعقدن على أزواج يبدأ عندهن شعور في كره الزوج؛ لأنه يكون لها أحياناً أخوات ملتزمات وهي متعلقة بهن تذهب معهن وتأتي إليهن زيارات متبادلة وحلقات علم ارتباط قوي وتعاون وثيق وهكذا، فيأتيها الشيطان ويحسسها بأن هذا الزوج سيأخذها عن صويحباتها، ثم تبدأ تفكر وتقول: كيف أعيش بدونهن؟ كيف سأبتعد عنهن؟! كيف سأبتعد عن فلانة وفلانة؟ كيف سيحدث في هذه العلاقات الحميمة؟ كيف كيف؟ فتبدأ تكره الزوج وتكره الزواج وتقول: لا أريده، هذه المشكلة ناشئة من أسباب، منها: عدم تقدير أبعاد الأمور، وعدم الإحساس بالمسئولية، تقديم استئناس سنة أو سنتين على حياة كاملة، وأولاد وعفة، وإنشاء بيت إلخ، هي الآن عاشت معهن هذه الفترة فهل تضمن أنها ستعيش معهن إلى النهاية؟ ألسن سيتزوجن وينشغلن بالزوج والبيت؟ وما هو الأهم؟ هذا التفكير هو الذي يجعل الأمور ترجع وتستقر في الميزان الصحيح.
ثم إننا نقول للزوج: إن عليه ألا يقطع زوجته عن صويحباتها، ولا يحرمها من زيارتهن وصلتهن، وهو عليه الصلاة والسلام كان يسرب إلى عائشة صديقاتها يلعبن معها في بداية الزواج ليراعي نفسية زوجته.
وسبق أن تكلمنا عن موضوع التعلق الذي يحصل بشكل غير طبيعي وقد يصل إلى حدٍ غير شرعي من بعض الفتيات بزميلاتهن، فبقاء هذا التعلق يؤدي إلى كره الزوج في المستقبل؛ لأن قلبها ما زال متعلقاً بشخصيات أخرى، بشكل غير طبيعي ينتج عنه كره للزوج، وهذه حالة عسى ألا تكون ظاهرة ولا كثيرة.(303/13)
اشتراط المرأة أن يكون الزوج عالماً
من الأشياء التي ينبغي أن تذكر هنا أن بعض الفتيات المتدينات يشترطن في الأزواج شروطاً عجيبة، فنسمع مثلاً أن فتاة تريد أن يكون الشخص حافظاً للقرآن الكريم، أو لـ صحيح البخاري، أو العقيدة الطحاوية إلخ.
طبعاً الرجال الذين يحفظون القرآن أو يحفظون صحيح البخاري أو إلخ، هؤلاء ليسوا كثيرين، وإنما هم قلة، وكونك تشترطين مثل هذه الشروط تقولين: لا أتزوج إلا طالب علم حقاً، وينبغي أن يكون قد قرأ كذا وكذا وأن يكون حفظ كذا وكذا هذا يعني أنه يمكن ألا تتزوجي نهائياً؛ لأن المتدينين أصلاً الآن ليسوا كثيرين جداً، فكيف وأنت تشترطين بالإضافة إلى الالتزام والتدين شروطاً عالية في قضايا العلم والحفظ، وبعضهن تقول: تصور! أنا بعد ما تزوجت اكتشفت أن زوجي ما سمع أشرطة كذا وكذا للشيخ فلان الفلاني، ولا قرأ كتاب كذا وكذا، تصور! أنه لا يدري شيئاً عن مسألة الذهب المحلق، تصور! تصور وبعضهن قد تلجأ إلى إعطاء الرجل المتقدم أسئلة مثل المسابقة لكي يحلها ويتبين مدى علمه.
طيب هذا الرجل يمكن أن يذهب إلى أي شخص آخر ليحلها له مثلاً، وكونه قد يبحث في بعض الكتب ليأتي بالحل، هذه طريقة عقيمة وطريقة لا تدل على وعي جيد، ونقول: بعض الفتيات عندهن فرصة للقراءة والاطلاع أكثر من الرجال، فهي تمكث في البيت لفترة طويلة تتمكن فيها من القراءة واستماع الأشرطة، التلخيص، الحفظ إلخ.
أما الشاب فقد يكون مشغولاً بالدعوة، يخرج من البيت كثيراً، لا يجلس مثلما تجلس هي، فإذاً لا داعي للشروط التعجيزية التي تدل على أن هذه الفتاة تعيش في جهة والواقع في جهة أخرى، بعض الشباب قد لا يحفظ الأربعين النووية، وهي تقول: أريد كذا وكذا، والخلاصة أن بعض الفتيات تريد رجلاً على شرط البخاري ونحن نقول: يكفي أن يكون زوجاً على شرط الحديث الصحيح.
نعم، لا بأس باستطلاع رأي الشخص المتقدم عن طريق الثقات، مثلاً: كيف عقيدته؟ ما مدى التزامه بالسنة؟ ما مدى تمسكه بالدليل، ما مدى علمه مثلاً؟ لا بأس أن يُسأل عن هذه الأمور، لكن أنه يحصل تدقيق شديد جداً في قضايا عميقة لا تقدح في التزام الشخص ولا في تدينه فهذا ليس من الحكمة في شيء.(303/14)
جهل المرأة ببعض الأحكام الشرعية
من الأمور المطلوبة أيضا على عتبة الزواج أن تعرف المرأة شيئاً من الأحكام الشرعية في الزواج، كحقوق الزوج، وأحكام العشرة الزوجية، وتقرأ مثلاً في شروط النكاح، وآداب الخطبة وما يجوز للرجل أن ينظر إلى المرأة، وآداب الزفاف ونحو ذلك هناك جهلٌ عند كثير من الفتيات في الأحكام الشرعية مما يجعل أموراً كثيرة يقع فيها الحرج بسبب الجهل، فينبغي قبل الإقدام على الزواج أن تعرف المرأة أموراً تتعلق بهذا الجانب، وينبغي أن ننبه إلى مزلق الخوض في بعض الأشياء التي تتعلق بكيفية معاشرة الزوج لزوجته قبل أن تصل المرأة إلى مرحلة الزواج أصلاً، فإن التعمق في هذه المسائل غير محمود العواقب إذا لم يأت وقته المناسب.(303/15)
حكم عقد النكاح للمرأة وهي حائض
من الاعتقادات الشائعة عند الناس عدم جواز عقد نكاح الحائض، فترد أسئلة تقول: هل إذا كانت المرأة عندها الدورة أو العادة هل يجوز عقد النكاح؟ نقول: نعم، لا بأس بعقد النكاح وهي حائض ولكن عندما يدخل بها زوجها يستحسن وينبغي أن تكون طاهراً.(303/16)
المرأة ودورها في البيت
كذلك دور المرأة في البيت فيه غبش عند الكثيرات، ما هو دور المرأة الحقيقي؟ بعض الفتيات قبل الزواج تكون في مجال دعوة وطلب للعلم بكثافة ثم تتزوج وليس في ذهنها دورٌ واضح فيما ينبغي أن تكون عليه الزوجة، فعندما تبدأ في حقوق الزوج والبيت والطبخ والتنظيف والحمل والولادة والرضاع تتأفف، وتشعر أنها تقوم بأشياء تافهة، وأنها ليس عندها وقت للدعوة وطلب العلم، لكن عندما تنظر المرأة في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت) حديث صحيح.
انظري -أيتها الأخت- ما نبه عليه هذا الحديث، بعض النساء لا يقمن وزناً للصبر على آلام الحمل والولادة، هذه أمور أجرها عند الله عظيم، لماذا الاستخفاف بها؟ وللأسف أن بعض النساء لا يصبرن على آلام الحمل والولادة وبعضهن تأخذ حبوب منع الحمل تقول: لا أريد آلاماً، لا أريد مشقات، وبعضهن تريد أن تلد بالعملية، ولو لم يكن هناك سبب لذلك مع ما فيها من المخاطر تقول: لا أريد آلاماً، هذه الأشياء التي دخلت علينا من الكفار وهي قضية أن المرأة لا تريد أن تتحمل أي ألم وهذا خطأ، المرأة خلقت لهذا، والله عز وجل يقول: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ} [لقمان:14] فهو مقرر في الكتاب العزيز بأن هذا الحمل وهذه الولادة فيها ضعف وفيها مشقة، والصبر على الآلام فيه أجر عظيم، والله يعلم كم يحطُّ عن المرأة من السيئات بآلام الطلق وحده لو احتسبت ذلك عند الله الله أعلم كم يحطُّ عنها من السيئات وكم يكتب لها من الحسنات إذا هي احتسبت ذلك عند الله.(303/17)
وصية أمامة بنت الحارث لابنتها
نختم كلامنا بوصية أمامة بنت الحارث رحمها الله تعالى لابنتها حين زفت إلى زوجها، هذه الوصية العظيمة الجامعة التي تدل على حكمة هذه المرأة وعلى بعد نظرها، وعلى تجربتها وخبرتها رحمها الله.
تقول: أي بنية إن الوصية لو كانت تترك لفضل أدب أو لتقدم حسب لزويت ذلك عنك ولأبعدته منك، ولكنها تذكرة للغافل، ومعونة للعاقل.
انظرن إلى هذا المدخل الجميل الذي فيه فتح النفس لتدبر الكلام.
أي بنية! لو أن امرأة استغنت عن زوجٍ لغنى أبويها وشدة حاجتهما لها كنت أغنى الناس عن ذلك، ولكن النساء للرجال خلقن، ولهن خلق الرجال.
أي بنية! إنك قد فارقت الحِمَى الذي منه خرجت، وخلفت العش الذي فيه درجت إلى وكر لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فأصبح بملكه عليك مليكاً فكوني له أمة يكن لك عبداً، واحفظي له خصالاً عشراً تكن لك ذخراً.
أما الأولى والثانية: فالصحبة بالقناعة، والمعاشرة بحسن السمع والطاعة -بعض الرجال لا يصبر على المرأة لكثرة طلباتها، ولا يحتملها لكثرة عصيانها- تقول: فإن في القناعة راحة القلب، وفي حسن المعاشرة مرضاة الرب.
وأما الثالثة والرابعة: المعاهدة لموضع عينيه، والتفقد لموضع أنفه، فلا تقع عيناه منك على قبيح، ولا يشم منك إلا أطيب ريح.
فإذاً تحرص المرأة على تجميل نفسها لزوجها، وعلى تطييب رائحتها له مما يجذب الرجل كثيراً إليها.
وأما الخامسة والسادسة: فالتعاهد لوقت طعامه، والتفقد لحين منامه، فإن حرارة الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة، ولذلك المرأة العاقلة تحسن وضع الطعام لزوجها في المواعيد، يكون طعامها جاهزاً، وإذا كان مرهقاً يكون فراشه معداً، وتأخذ الأولاد وتشغلهم حتى يستريح الزوج وينام.
وأما السابعة والثامنة: فالاحتراس بماله، والإرعاء على حشمه وعياله، وملاك الأمر في المال حسن التقدير، وفي العيال حسن التدبير.
الله أكبر! على هذه الوصية الثمينة، تدبير البيت والمال، وحسن التدبير في العيال.
وأما التاسعة والعاشرة: فلا تفشين له سراً، ولا تعصين له أمراً، فإنك إن أفشيت سره لم تأمني غدره، وإن عصيت أمره أوغرت صدره، واتقي مع ذلك كله الفرح إن كان ترحاً، والاكتئاب إن كان فرحاً، فإن الأولى من التقصير، والثانية من التكبير.
يجب أن تشارك المرأة زوجها في شعوره.
وإنكِ أشد ما تكونين له إعظاماً أشد ما يكون لك إكراماً، وأشد ما تكونين له موافقة أطول ما يكون لك مرافقة، واعلمي -يا بنية- أنك لا تقدرين على ذلك حتى تؤثري رضاه على رضاك، وتقدمي هواه على هواك فيما أحببت أو كرهت، والله يضع ويصنع لك الخير، وأستودعك الله.
والسلام عليكن ورحمة الله وبركاته.(303/18)
أنواع الشهداء
للشهيد في سبيل الله أعظم الرتب وأعلاها عند الله، وأنفس المقامات وأبهاها، وهم أنواع؛ شهيد الدنيا والآخرة، وشهيد الدنيا، وشهيد الآخرة، وشهداء الآخرة أنواع ذكرها الشيخ وفصل في ذلك تفصيلاً جميلاً، وتحدث أيضاً عن أحكام شهداء الآخرة في الدنيا من حيث التغسيل والتكفين.(304/1)
الشهداء ثلاثة أنواع
إن الحمد لله؛ نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلى الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون) َ) [آل عمران:102].
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن الشهادة من أعظم الرتب وأعلاها، وأنفس المقامات وأحسنها وأبهاها، ذلك لما لأهلها عند الله تعالى من الأجر العظيم، والثواب الجزيل، والدرجة العالية.
والشهيد -أيها المسلمون- على ثلاثة أقسام: الأول: شهيد الدنيا والآخرة، والثاني: شهيد الدنيا، والثالث: شهيد الآخرة.
فشهيد الدنيا والآخرة: هو الذي يقتل في قتال مع الكفار مقبل غير مدبر؛ لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، دون غرض من أغراض الدنيا.
جاء عن أبي موسى رضي الله عنه قال: (إن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال مستفهماً: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال عليه الصلاة والسلام: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).
أما شهيد الدنيا فهو من قتل في قتال مع الكفار وقد غل في الغنيمة أو قاتل رياءً أو عصبية عن قومه، أو لأي غرض من أغراض الدنيا ولم يكن قصده إعلاء كلمة الله، فهذا وإن طبقت عليه أحكام الشهيد في الظاهر من دفنه في ثيابه ونحو ذلك لكنه ليس له في الآخرة من خلاق، ونحن نعامل الناس على حسب الظاهر في الدنيا، والله الذي يعلم الحقائق وهو الذي يتولى حسابهم يوم القيامة.(304/2)
أنواع شهداء الآخرة
شهيد الآخرة الذي يكون له أجر شهيد في الآخرة لكنه في الدنيا يطبق عليه ما يطبق على الميت العادي فهذا أصناف منهم المقتول ظلماً من غير قتال، وكالميت بأنواع من الأمراض ونحو ذلك، وكالغريق في البحر الذي ركبه وكان الغالب فيه السلامة بخلاف من ركبه وكان الغالب عدم السلامة، أو ركبه لإتيان معصية من المعاصي ونحو ذلك، فأما الاستشهاد في ساحة القتال فإن أجره عظيم جداً، وهو قمة مراتب الشهادة، ولا يمكن لأي نوع آخر من الشهداء أن يصل إلى هذا المقام، قال الله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:170 - 171] وقال صلى الله عليه وسلم: (للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويُرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر، ويحلى حلية الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه).
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة) رواه النسائي وسنده صحيح، فترجى هذه الشهادة لمن سألها مخلصاً من قلبه ولو لم يتيسر له الاستشهاد في المعركة لقوله صلى الله عليه وسلم: (من سأل الله الشهادة بصدق؛ بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه) ولذلك كان لا بد من سؤال الله الاستشهاد في سبيل الله بصدق لتحصيل هذا الأجر العظيم، ولو مات الإنسان حتف أنفه.
- وكذلك من أنواع شهداء الآخرة: الموت غازياً في سبيل الله لقوله صلى الله عليه وسلم: (ما تعدون الشهيد فيكم قالوا: يا رسول الله! من قتل في سبيل الله فهو شهيد.
قال: إن شهداء أمتي إذاً لقليل، قالوا: فمنهم إذاً يا رسول الله؟ قال: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد).
- عباد الله ومن أنواع شهداء الآخرة: الموت بالطاعون، قال صلى الله عليه وسلم: (الطاعون شهادة لكل مسلم) وقال -أيضاً- لما سئل عن الطاعون: (إنه كان عذاباً يبعثه الله على من يشاء فجعله الله رحمة للمؤمنين، فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد) وقال عليه الصلاة والسلام: (يأتي الشهداء والمتوفون بالطاعون فيقول أصحاب الطاعون: نحن شهداء.
فيقال: انظروا فإن كانت جراحهم كجراح الشهداء تسيل دماً، ريح المسك، فهم شهداء، فيجدونهم كذلك).
وكذلك فإن من أنواع شهداء الآخرة من مات بداء البطن لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: (إن شهداء أمتي إذاً لقليل -ثم ذكر أنواعاً- ومن مات في البطن فهو شهيد) وعند عبد الله بن يسار قال: كنت جالساً وسليمان بن صرد وخالد بن عرفطة فذكروا أن رجلاً مات ببطنه، فإذا هما يشتهيان أن يكونا شهداء جنازته، فقال أحدهما للآخر: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يقتله بطنه فلن يعذب في قبره، فقال الآخر: بلى، وفي رواية: صدقت).
- وكذلك من أنواع شهداء الآخرة الموت بالغرق والهدم لقوله صلى الله عليه وسلم: (الشهداء خمسة: المطعون -الذي أصيب بالطاعون- والمبطون -الذي قتل بداء البطن ومات بسبب مرض في بطنه، وأمراض البطن كثيرة ومنها: الكوليرا- والغرق -الذي مات غريقاً- وصاحب الهدم -الذي انهدم عليه بيته، الذي يسكن فيه، أو وقع عليه جدار أو حائط، مات بسبب الهدم، وكثير من الذين يموتون في الزلازل كذلك- وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله).
- ومن أنواع شهداء الآخرة موت المرأة في نفاسها بسبب ولدها لحديث عبادة بن الصامت: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد عبد الله بن رواحة فما تحوز له عن فراشه -أي: تنحى- فقال: أتدري من شهداء أمتي؟ قال: قتل المسلم شهادة.
قال: إن شهداء أمتي إذاً لقليل، قتل المسلم شهادة، والطاعون شهادة، والمرأة يقتلها ولدها جمعاء -التي تموت وفي بطنها ولد- والمرأة يقتلها ولدها جمعاء شهادة يجرها ولدها بسرره إلى الجنة) والسرة: ما يبقى بعد القطع مما تقطعه القابلة، هذا هو السرر، الحبل السري يجرها به ولدها إلى الجنة، وهذا مخصوص بالمسلمة التي تموت في حمل صحيح، ولذلك استثنى العلماء من هذا الحديث من ماتت بحمل من زنا والعياذ بالله.
- وكذلك من شهداء الآخرة الموت بذات الجنب كما قال صلى الله عليه وسلم: (وصاحب ذات الجنب شهيد) وهو ورم يعرض في الغشاء المستبطن للأضلاع، أورام في الجانب يموت بسببها الإنسان، ونرجو -إن شاء الله- أن يكون كل مسلم مات بالسرطان من شهداء الآخرة الذين لهم أجر شهيد، الميت من ذات الجنب شهيد.
- وكذلك من أنواع شهداء الآخرة الموت بداء السل لقوله صلى الله عليه وسلم: (القتل في سبيل الله شهادة، والنفساء شهادة) قال في الحديث: (والسل شهادة، والبطن شهادة) فالذي يموت بالسل شهيد إن شاء الله.
وكذلك الموت في سبيل الدفاع عن المال المراد غصبه قال صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون ماله فهو شهيد) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطه مالك، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله -وليس الأمر للوجوب- قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار) رواه مسلم.
وعن مخارق رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يأتيني يريد مالي؟ قال: ذكره بالله، قال: فإن لم يذكر؟ قال: فاستعن عليه من حولك من المسلمين، قال: فإن لم يكن حولي أحد من المسلمين؟ قال: فاستعن عليه السلطان، قال: فإن نأى السلطان عني وعجل علي؟ -هذا اللص قاطع الطريق عجل علي ولم يكن هناك وقت للاستنجاد- قال: قاتل دون مالك حتى تكون من شهداء الآخرة أو تمنع مالك).
- ومن الشهداء -أيضاً-: الموت في سبيل الدفاع عن الدين والنفس، قال صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد -الذي يقتل دفاعاً عن عرضه- ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد) وقال عليه الصلاة والسلام: (من قتل دون مظلمته فهو شهيد).
والموت في الرباط في سبيل الله من أعظم الميتات وأطيبها، قال عليه الصلاة والسلام: (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان).
وأما من مات على عمل صالح قبض عليه فإنه من علامات حسن خاتمته، قال صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة، ومن صام يوماً ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة، ومن تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة).
- أيها المسلمون وإن من أعظم أنواع الشهادة -أيضاً- الموت بالحرق لقوله صلى الله عليه وسلم: (الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله) وقال: (والحرق شهيد) فالذي يموت محترقاً فهو من أنواع الشهداء، ولا يصح التساهل في إطلاق لفظ الشهيد على الأشخاص، فالله أعلم من الذي يموت شهيداً في سبيله.
نسأل الله تعالى أن يحسن خاتمتنا، وأن يتوب علينا، وأن يوفقنا لعمل الصالحات وترك المنكرات، وحب المساكين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(304/3)
أحكام شهداء الآخرة في الدنيا
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أشهد أن لا إله إلا الله رب الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً رسول الله خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله إن النبي صلى الله عليه وسلم حذرنا وهو يحذر أمته من كل شر من خطورة النار، فقد روى البخاري رحمه الله عن أبي موسى قال: احترق بيت بـ المدينة على أهله، فحدثت النبي صلى الله علي وسلم بشأنهم، فقال: (إنما هذه النار عدو لكم، فإذا نمتم فأطفئوها عنكم) ونظراً لشناعة الاحتراق كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ من الموت بها، لا لأنه ليس له أجر شهيد بل لشناعتها في الدنيا، فكان رسول الله صلى الله علي وسلم يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك من التردي والهدم والغرق والحريق، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبراً، وأعوذ بك أن أموت لديغاً) رواه النسائي وأبو داود وهو حديث صحيح، لكن إن حصل ومات بالحرق فإن له أجر شهيد كما تقدم، والله يفعل ما يشاء، وهو أعلم بمصائر العباد، وهو مقدر الأقدار سبحانه وتعالى.
وهؤلاء الأصناف الذين تقدم ذكرهم من شهداء الآخرة ماذا يفعل بهم من جهة الأحكام في الدنيا؟ قال العلماء: لا يغسل الشهيد -أي: قتيل المعركة مع الكفار- سواء كان مكلفاً أو غير مكلف إلا إن كان جنباً أو امرأة حائضاً، أو نفساء طهرت من حيضها أو نفاسها، وإن سقط من دابته، أو وجد ميتاً، أو سقط من شاهق في القتال، أو رفسته دابة في القتال، أو عاد إليه سهمه الذي أطلقه بالخطأ فالصحيح أنه يغسل إذا لم يكن ذلك من فعل العدو، لكن إن قتله العدو فلا يغسل ويبقى أثر الشهادة عليه، ومن قتل مظلوماً بأي سلاح كقتيل اللصوص ونحوه يلحق بشهيد المعركة في أصح الروايتين في مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وقال بعض العلماء بتغسيله، وكذلك الغريق والمبطون والمرأة التي ماتت في الولادة فإنهم شهداء في الآخرة يغسلون باتفاق الفقهاء.
وأما الميت المحترق فقد ذهب العلماء إلى أن من احترق بالنار يغسل كغيره من الموتى إن أمكن تغسيله؛ لأن الذي لا يغسل إنما هو شهيد المعركة، ولو قتل في المعركة محترقاً أو أحرق العدو حصناً للمسلمين ونحو ذلك كان شهيداً لا يغسل، أما المحترق خارج المعركة فهو من شهداء الآخرة لا تجري عليه أحكام شهداء الدنيا فإنه يغسل، فإن خيف تقطعه بالغسل يصب عليه الماء صباً ولا يمس، فإن خيف تقطعه بصب الماء لم يغسّل، ولكن ييمم إن أمكن كالحي الذي يؤذيه الماء، وإن تعذر غسل بعض دون بعض غسل ما أمكن غسله، وييمم الباقي كالحي سواء.
وهذا المحترق يصلى عليه صلاة الجنازة، لأنه لا وجه لترك الصلاة عليه فإنه يصلى عليه ولو صار رماداً، يجمع رماده ويصلى عليه، وقال بعض أهل العلم بعدم الصلاة عليه واشترطوا حضوره أو حضور أكثره فإنه إذا صار رماداً لا يصلى عليه، ومذهب الإمام أحمد -رحمه الله- الصلاة عليه وإن صار رماداً.
عباد الله إذاً الذي يموت محترقاً له أجر شهيد، ويغسل إن أمكن وإلا ييمم ويصلى عليه.
وكل ما تقدم من الكلام كما يظهر لكم كانت مناسبته حضور هذا الحريق الذي سمعنا عنه في منى، وقد احترق أكثر خيامها بسبب ذلك الحريق، والله يقدر ما يشاء ويفعل ما يريد، ولا شك أن المصاب الذي حصل إنما هو مصاب لكل مسلم قلبه حي، فأما المسلم الذي في قلبه دغل فلا يكاد يكترث، وأما المسلم الذي قلبه حي فإنه يحس أن المصيبة مصيبته هو، وعزاؤنا فيهم أمور منها: أنهم ماتوا محترقين، ومن مات محترقاً له أجر شهيد.
وثانيا: أنهم ماتوا محرمين في عبادة وعمل صالح، فاجتمع لهم علامة من علامات حسن الخاتمة، والله تعالى يصطفي من عباده ما يشاء، وإن كان الأمر في الظاهر شراً بالنسبة إلينا فإنها إن شاء الله نعيم لهم في قبورهم، ورحمة لهم من ربهم، وثواب جزيل يكتب في صحائف أعمالهم، وخاتمة حسنة نرجو لهم بها الشهادة عند ربهم، فالحمد لله على كل حال، والحمد لله على ما قضى وقدر، ونسأل الله لهم الرحمة والمغفرة.
اللهم ارحم شهداء حريق الحج، اللهم ارحم شهداء حريق الحج، اللهم ارحم شهداء حريق الحج، اللهم أعظم لهم الأجر والثواب، اللهم ثقل موازينهم، اللهم وآتاهم أجر حجهم الذي قصدوه، اللهم إنا نسألك لهم الرحمة والمغفرة، ولأهليهم الصبر على مصابهم فيهم، اللهم إنا نسألك حسن العزاء فيهم، اللهم إنا نسألك قبول حج من حج من المسلمين، ونسألك أن تخلف بخير للقاعدين من المسلمين، اللهم إنا نسألك رفع الدرجات، وزيادة الحسنات، وتكفير السيئات.
اللهم إنا نسألك النصر للإسلام والمسلمين، اللهم عجل فرج المسلمين، اللهم عجل فرج المسلمين، اللهم عجل فرج المسلمين يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك الأمن في أوطاننا ودورنا، اللهم إنا نسألك النصر على أعدائنا، اللهم إنا نسألك قضاء ديوننا، اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا حقوقك التي علينا يا رب العالمين! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.(304/4)
أهمية الإيمان باليوم الآخر
إن الإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان، والبشر لا يمكن أن تستقيم لهم حياة أو نظام أو علاقة أو أعمال إلا بالإيمان باليوم الآخر؛ وهنا يتحدث الشيخ عن أهمية الإيمان باليوم الآخر وآثاره على حياة المسلم، مع ذكر فوائد الإيمان به.(305/1)
الإيمان باليوم الآخر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون) َ) [آل عمران:102].
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إخواني: جعل الله اليوم الآخر بعقابه وثوابه نهايةً لهذا العالم الذين نعيش فيه، والله عز وجل حكمٌ عدلٌ لا يظلم أحداً، جعل الجنة أهلاً لمن أطاعه، وجعل النار عقاباً لمن عصاه، وأخذ العهد على نفسه أن يثيب من أطاعه وألا يظلمه شيئاً، وأخذ العهد على نفسه أن يجعل الكفار المشركين في النار خالدين مخلدين، فقال سبحانه وتعالى: {فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق:14].
أيها الإخوة: واليوم الآخر نعمة عظيمة من نعم الله، والإيمان به ركن من أركان الإيمان، وهو أن تؤمن بالله واليوم الآخر وبالرسل والكتب والنبيين وبالقدر خيره وشره، والذي لا يؤمن باليوم الآخر عاقبته سوداء، ومصيره إلى جهنم -والعياذ بالله- وقد كابر في هذه المسألة المشركون كثيراً، وناقشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها طويلاً، وكان أحدهم يأتي بالعظم البالي فيفته بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: أتزعم أن ربك يعيد هذا؟ {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام:29] فأنكر الكفار اليوم الآخر.
إن الكفرة العصاة لا يستطيعون أن يتحملوا التفكير في أن هناك يوماً آخر، وأن هذه الأعمال التي تعمل في الدنيا لا بد من الجزاء والحساب عليها، وأهل الشهوات لا يستطيعون أن يتحملوا في أدمغتهم وأذهانهم شيئاً اسمه اليوم الآخر؛ ولذلك فهم يسارعون إلى نفيه ويتكبرون ويستكبرون في الاعتراف به، وبعضهم يتناساه ويتغافل عنه ولا يفكر به نهائياً؛ لأن التفكير في المصير أمر مؤلم خصوصاً بالنسبة لأولئك العصاة الذين حادوا عن منهج الله عز وجل، والله الحكيم العليم يعلم أن البشر لا تسمح حواسهم أبداً على هذه الأرض، ولا يستقيم لهم نظام، ولا تحكم أمورهم وعلاقاتهم وأعمالهم إلا باليوم الآخر الذي يكون وراء هذه الحياة الدنيا.
وبدون اليوم الآخر فإن هؤلاء البشر -كما هو حادث الآن- سينطلقون في شهواتهم في كل اتجاه، ويتكالبون على المتاع المحدود -متاع الحياة الدنيا- وترى المصارعة والتصارع بين الأفراد والأنظمة، والأجناس والطبقات يغير بعضهم على بعض، وينطلق الكل في الغابة كالوحوش الكاسرة يأكل القوي الضعيف، والظالم يأكل المظلوم وهكذا، لشيء واحد وهو أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر، والله عز وجل يبتلي البشر ليعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو في شك.(305/2)
انعكاسات وآثار الإيمان باليوم الآخر في حياة المسلم
أيها الإخوة: إن الإيمان باليوم الآخر له انعكاساته وآثاره في حياة المسلم، الإيمان باليوم الآخر هو الذي يهيئ الاهتمامات، ويجعل التعلق بالدنيا أمراً لا مجال له عندما يعلم الإنسان أن هذه الدنيا زائلة، وأن الآخرة مقبلة، وأن هذه الأيام والأنفاس ستنقضي لا محالة، وأنه سيقدم على الله في يوم يعرض فيه على ربه لا تخفى منه خافية؛ فنتيجة للإيمان بهذا اليوم، وبأن هناك حشراً وحساباً وصراطاً وجنةً وناراً، عذاباً وجزاءً، نتيجةً لهذا ستنشأ سلوكيات لم تكن لتنشأ لولا الإيمان باليوم الآخر، وستنشأ هناك أعمال لله عز وجل لم تنشأ لو لم يكن هناك إيمان بالله واليوم الآخر.
وسيتسع تصور المسلم للحياة وللكون عندما يؤمن ويوقن بأن هناك يوماً آخر، وسيعلم بأن الموت في هذه الحياة ليس نهاية كل شيء، وأن هناك أشياء أخرى أعظم مما يجري الآن بكثير، ولا يمكن المقارنة أبداً، ستنفتح عيناه عليها في اليوم الآخر.
وأما أولئك الكفرة الذين لا يؤمنون باليوم الآخر فإنهم يحشرون تصوراتهم وأنفسهم وقيمهم في جحر ضئيل ذليل حقير هو الحياة الدنيا، فالكفار -الآن- يعملون وينشطون ويجدون ويخترعون، ويبنون ويعمرون، ويعملون متناوبين آناء الليل وأطراف النهار؛ لأنهم يظنون أن هذه الحياة هي الحياة فقط، وأنه لا شيء بعد ذلك، وأن هذا العمر هو العمر فقط، وأنه لا عمر بعد ذلك، فلأجل ذلك هم يستغلون كل لحظة من هذه الحياة وهذه الأيام وهذا العمر؛ لكي يتمتعوا ويتقدموا، ولكي يأخذوا حظهم من هذه الحياة الدنيا، ولذلك ليس عندهم أي تفسيرٍ فيما وراء هذه الحياة الدنيا: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64] لهي الحياة الحقيقة كما أخبر الله عز وجل، وهي الحياة الدائمة، وحياتنا هذه لا تساوي شيئاً بالنسبة للحياة في اليوم الآخر.
هذا اليوم الذي يبدأ بانقلابات في هذا الكون {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق:1] {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ * وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْْ * وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْْ * وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير:1 - 6].
{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} [طه:105].
{فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن:37].
{كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً} [الفجر:21].
ولما تقع الواقعة: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجّاً * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً} [الواقعة:2 - 6] وفي ذلك اليوم: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] فيقدم الله سبحانه وتعالى ويجيء مجيئاً يليق بجلاله وعظمته إلى ساحة القضاء للفصل بين العباد، فيُحاكمون بين يدي الجبار، والملائكة صفوفاً صفوفاً في عظم خلقتهم التي خلقهم الله عليها، فيكون الموقف عظيماً، ويكون المشهد جسيماً، وتكون العاقبة هناك فعلاً لأهل الإيمان وأهل الكفران.
أيها الإخوة: نحن لم نر الجنة ولا النار، ولا الصراط، ولا الشمس وهي تدنو من رءوس الخلائق، لم نر هذه الأشياء؛ فهي لذلك بعيدة عن الحس، ولكن حس من؟ حس الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر، أما حس المؤمن فهو عندما يقرأ هذه الآيات في القرآن، وعندما تتلى على مسامعه أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يحس أن الجنة والنار فعلاً أقرب إليه من شراك نعله، يحس أنها قريبة جداً وأن الآزفة قد أزفت، وأن الموعد قد اقترب؛ فهو لأجل ذلك يعمل لآخرته ويكدح ويجد أكثر مما يعمل أهل الدنيا لدنياهم، فإذا كان أهل الدنيا يجعلون هذا اليوم الأربعة والعشرين ساعة يجعلونه على مراحل ومراتب؛ لكي لا يخلو يوم من العمل ولا ساعة من الساعات، حتى في الليل فهم يعملون في نوبات متواصلة لأجل البناء والتعمير كما يزعمون في الدنيا.
بالمقارنة أهل الآخرة يقول الله عز وجل في شأنهم، هم يعملون -أيضاً- في نوبات ليلية: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ} [الزمر:9] ساجداً وقائماً لأي شيء؟ {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] والله مدح المؤمنين بأنهم يصدقون بيوم الدين، ومدحهم فقال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [النمل:3].(305/3)
فوائد الإيمان باليوم الآخر
الإيمان باليوم الآخر -أيها الإخوة- له فوائد عظيمة جداً ونتائج باهرة، فمن فوائده:(305/4)
من فوائد اليوم الآخر: أن النفس إذا علمت العوض استعدت للبذل
النفس عندما تعلم ضخامة العوض، وأن طاعة الله عاقبتها جنة عرضها السماوات والأرض، نعيمها لا يفنى، وعيشها دائم، أكلها وظلها دائمان، وما فيها من أنواع النعيم، فإن هذا الجزاء العظيم ينسي المسلم تعب العمل وكده لله عز وجل؛ لأنه يتطلع إلى الأمام، يتطلع إلى الآخرة، فنعيم الجنة ينسيه ما في طاعة الله من المشقة والتعب.
والعبادة لله تكاليف فيها مشقة على العبد، في الصيام، أو في الحج، وحتى في إخراج زكاة المال فيها تكاليف شاقة لكن العباد يستطيعونها، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها، لكن هل فيها مشقة؟ نعم، هل فيها جهد؟ نعم، هل فيها عمل؟ نعم، لا جنة بلا عمل أو تعب أو جهد أو مشقة يقوم بها العبد فكيف إذاً سيتحمل العباد المشقة والجهد في طاعة الله؟ وكيف سيتخلون عن هذا النعيم؟ كيف سيقوم المصلي لصلاة الفجر من دفئ الفراش والنوم الهانئ؟ كيف سيقوم منه إلى صلاة الفجر بتلك المشقة والتعب؟ إذا لم يكن هناك عوض ولم يكن هناك جزاء هل كان سيهجر مضجعه ليقوم إلى المسجد لصلاة الفجر؟ وقل مثل ذلك في جميع الأعمال التي يقوم بها العباد لرب العالمين، فاليوم الآخر إذاً هو المتنفس هو الأمل هو النعيم الحقيقي الذي ينسي المسلم التعب الذي يتعبه في الدنيا، وهو النعيم الذي يعوض المؤمن عما يفوته الآن من نعيم الدنيا؛ لأنه يعمل لله رب العالمين.
إن النفس إذا علمت عظم العوض استعدت للبذل، ما الذي يجعل المقاتل المجاهد في سبيل الله يدفع روحه ونفسه وماله لله رب العالمين؟ إذا لم يكن هناك عوض أكبر من التضحية بالنفس والمال هل كان سيضحي بنفسه وماله؟ والكفار على النقيض من المؤمنين لا يفكرون في اليوم الآخر مطلقاً، ولا يحسبون له أي حساب: {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} [الإنسان:27] الدنيا، ولكنهم: {وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} [الإنسان:27] ثقيلاً عليهم بطوله، كان مقداره خمسين ألف سنة، ثقيلاً عليهم بتبعاتهم لأنهم سيحملون أوزارهم على ظهورهم وينتظرون في ذلك الموقف العظيم تحت الشمس الدانية من رءوسهم والعطش الكبير، ثم يقولون: عطشنا ربنا فاسقنا؛ فإذا جهنم يحطم بعضها بعضاً، فيساقون بالسلاسل والأغلال إلى النار {فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:72] فهو يوم: {وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} [الإنسان:27] هؤلاء الكفرة الذين لم يكونوا في الدنيا يفكرون بهذا اليوم، سيصبح هذا النسيان وبالاً عليهم يوم القيامة.(305/5)
من فوائد اليوم الآخر: ظهور آثار أسماء الله وصفاته
ومن أعظم فوائد هذا اليوم: ظهور آثار أسماء الله وصفاته؛ فإن الله عز وجل رحيم، غفور، شديد العقاب، جبار، يوم القيامة ينادي الجبار في السماوات عندما يقبضها بيمينه والأرض معها، فيقول: (أنا الجبار، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟) فلا يجيبه أحد، فيظهر عند ذلك أثر عظيم من آثار أسماء الله وصفاته، عندما يفنى كل شيء: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] فيظهر ذلك الأثر ويعلن في السماوات والأرض أن لا إله إلا الله، وأن كل من عليها فان، وأن الباقي وجه ربك سبحانه وتعالى.
ويظهر أثر اسم الله (الرحيم) عندما يدخل الجنة أناساً برحمته، وعندما يستر على المؤمنين ذنوباً كانوا يخافونها ويتوقعون أن يشاهدوها في سجلات أعمالهم.
ويظهر أثر صفة الله بأنه (شديد العقاب) عندما يلقي الكفار والعصاة في النار فيحترقون فيها فيكونون هم حصب جهنم، وهم وقود النار.
ويظهر كذلك أثر اسم الله (الجبار المتكبر) عندما يحشر المتكبرون كأمثال الذر -مثل النمل على صورة الرجال- يطؤهم الناس بأقدامهم.(305/6)
من فوائد اليوم الآخر: شفاء صدور المؤمنين والمظلومين
وفي هذا اليوم شفاء صدور المؤمنين شفاء صدور المظلومين، يأتي المقتول يجر القاتل، فيقول: يا رب! انظر هذا فيمَ قتلني؟ يأتي الذين قد عذبوا في الدنيا من المؤمنين فينتقم الله لهم من الكفرة الذين عذبوهم {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:34 - 36].
وهذا اليوم يقام فيه ميزان العدل: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} [الأنبياء:47] وتوزن الأعمال بالدقة، بالشعرة، لا يخفى شيء ولا يفوت منها شيء، فيكون العدل الحقيقي، الآن في الدنيا المحاكم أكثرها على شريعة لم ينزلها الله عز وجل ولم يأذن بها، فهي تحكم بغير ما أنزل الله، وقد يوجد محاكم على الشريعة ولكن القاضي جائر لا يحكم بما أنزل الله، ويأتيه الهوى وتأتيه الرشاوي فتجعله يحيد عن شرع الله أما يوم القيامة فسيعاد الحق إلى نصابه، وسيقام العدل في أرض المحشر في أرض الحساب، فلا يفوت شيء أبداً، وتظهر عزة المؤمنين وذلة الكفار.
في الدنيا قد يسام المؤمنون أنواع العذاب، وقد يظهر المتمسكون في أعين العامة أنهم أذلاء، وأن السيطرة والقوة للجبابرة العتاة المسيئين، ويوم القيامة يوم تبيض فيه وجوه وتسود وجوه، تبيض فيه وجوه أهل السنة، وتسود فيه وجوه أهل البدعة؛ فيرى الناس جميعاً أهل المعاصي والكفر والشرك والبدعة والظلم وجوههم قد اسودت، فينادى على رءوس الأشهاد أن لعنة الله على الظالمين، فيظهر عند ذلك العز الحقيقي والذل الحقيقي في ذلك اليوم الذي يكسي الله به وجوه أهل السنة ويذل وجوه أهل البدعة.
وإن كان المسلمون المؤمنون الصادقون في الدنيا فقراء محتاجون، لكن قد لا يعطف عليهم أحد، فإن الله يجعل الكفار في الآخرة يمدون أيديهم يناشدون المؤمنين: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50] هذا من فوائد اليوم الآخر.(305/7)
من فوائد اليوم الآخر: أن المسلم لا يندم على كل عمل عمله ولم ير ثمرته في الدنيا
ومن فوائده: أن المسلم العامل لدين الله لا يندم على كل عمل عمله ولو لم ير ثمرة عمله في الدنيا.
إن الذين يريدون إقامة منهج الله في الأرض، ويشتغلون بالدعوة إلى الله والتربية على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، هؤلاء الناس الذين اصطفاهم الله من بين البشر للقيام بهذه المهمة قد لا يأتي عليهم اليوم الذي يرون فيه ثمرات أعمالهم يانعة، أو يرون فيه قيام المنهج الصحيح كما أراده رب العالمين على الأرض، وقد لا يأتي عليهم اليوم الذي يرون فيه سراج الدين وهاجاً، وقد لا يأتي عليهم اليوم الذي يرون الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، ولكنهم بسبب إيمانهم أن هذه الأعمال لن تضيع، وأن أجرها عند رب العالمين فهم لذلك يعملون مع طول الليل الحالك، ولو لم يروا بزوغ الفجر؛ لأنهم يعلمون أين الفجر الحقيقي، ولأنهم يعلمون أن كل هذه الأعمال لن تذهب سدىً أبداً، وأنهم سيجزون بها عند الله الجزاء الأوفى؛ فيهون على هذا المسلم الصادق طول الطريق والمشقات والعقبات الموجودة في هذا الطريق؛ لأنه يعلم متى وأين سيلقى هذا الجزاء عند رب العالمين.
ولا يقلق على الأجر وإن كان العمل صغيراً، فهو يعلم أن هناك رجلاً دخل الجنة بسبب جذع أزاحه من الطريق كان يؤذي المسلمين، يعلم هذا فهو لا يتهاون بأي عمل: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) وعندما يعلم الإنسان أنه حتى شق التمرة يأخذ عليها أجراً؛ فإنه لن يتهاون بالأعمال الصالحة ولو كانت قليلة، بعكس المتهاونين المفرطين الذين يقولون: وماذا ستغني عنا هذه الأمور؟ ولماذا نتمسك بهذه القشور؟ وما تغني عنا هذه التوافه؟ وليس لنا شأن بالمظاهر، علينا باللب والجوهر؛ فيضيع عليهم هذا الأجر العظيم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة).(305/8)
من فوائد اليوم الآخر: أن الحساب فردي
ومن فوائد هذا اليوم: أن الحساب فيه فردي وليس جماعي، والله عز وجل لا يحاسب بالقوائم وإنما يحاسب كل فرد بما كسبت يداه: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل:111]: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] مرتهنة، مقيدة، محاطة بما كسبته.
بعض الناس يقول: الموت مع الجماعة رحمة، وما دام الناس يعصون أنا مثلي مثلهم، فيكون إمعةً، ويزين له الشيطان اجتماع الناس على المعاصي، فيقول: أنا واحد مثل هؤلاء، فيعصي مثلهم وكأنه يظن أن هؤلاء الناس سيشفعون له عند الله، وأن الناس ما دام أنهم تابعوا فلاناً وفلاناً؛ فإنهم عند الله معذورون بهذه المتابعة، ولكن {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:166 - 167].
بعض الناس يقول: أسأل شيخ علم أو إمام مسجد وآخذ بفتواه وأنا أعلم أنها مخالفة للشرع، وهو يكون ستراً بيني وبين النار، أجعل بيني وبين النار شيخاً أو مطوعاً كما يقولون، كل هذه الهراءات تنسفها هذه الآية من كتاب الله عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33].
{وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [فاطر:18].
{لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:94 - 95].
بعض الناس الذين يقولون: نحن نقلد تقليداً أعمى، يقلد من يثق به تقليداً أعمى، ما دام يأمرنا فنحن نطيع، وهو يقول وليس علينا شيء، التبعة عليه إن أساء.
نقول لهم: إن الله سيحاسب التابع والمتبوع، ولن يعذر الله التابع بسبب ضلال المتبوع، لماذا لم تفكر؟ لماذا لم تتدبر وتقول في نفسك: هل هذا الذي أمرني به فلان طاعة لله أم لا؟ لماذا التقليد الأعمى؟ إن الذين يحملون قياداتهم مسئوليات أنفسهم في الخير والشر هؤلاء لا يعذرون أمام الله أبداً، وسوف يقف القائد والمقود، والتابع والمتبوع، والمقلَّد والمقلِّد عند الله فيحاسبهم سبحانه وتعالى حساباً فردياً، كل واحد يحاسب بما فعل وبما عمل، فليست المسألة -أيها الإخوة- تقليداً أعمى وأننا نجري وراء فلان وفلان والإثم عليهم كلا.
أسأل الله العلي القدير أن يجعلنا وإياكم ممن يخشى هذا اليوم، ويعمل له الأعمال الصالحة، وأن يجعلنا سبحانه وتعالى ممن يخشاه في الغيب والشهادة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(305/9)
من فوائد اليوم الآخر: إرجاع الحق إلى نصابه
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة، وله الملك وإليه ترجعون، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله دعانا إلى كتاب ربنا وبيَّن لنا الحلال والحرام، وبيَّن لنا سبيل الهدى وسبل الضلال حتى نجتنبها، فصلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين.
أيها الإخوة: من فوائد اليوم الآخر إرجاع الحق إلى نصابه، وقد ذكرنا هذا قبل قليل، ولكن لأهمية هذه المسألة لا بد أن نركز عليها -أيضاً- الناس اليوم كما يصف الكثيرون -حتى من العامة- في غابة يأكل القوي الضعيف؛ بسبب البعد عن منهج الله عز وجل، ولكن هذا المقبور وهذا المظلوم المغلوب الذي يقع تحت نيل الظلم والغلبة بأولئك الجبارين المتكبرين في الأرض، هذا الرجل أو هذه المرأة سيتكفل الله بإرجاع الحق له يوم القيامة، وربما يكون من الخير له أن ظلم الآن حتى يأخذها يوم القيامة بالحسنات والسيئات، يأخذ من حسنات ظالمه فإذا فنيت حسنات الظالم أخذ من سيئات المظلوم فطرحت على الظالم ثم طرح في النار.
هذا الظلم لا يرضاه الله عز وجل: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) ينهى سبحانه وتعالى عن الظلم، وهذه قصة مما حدث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين لنا كيف كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأثرون بهذا المفهوم.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (جاء رجل فقعد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني، وأشتمهم وأضربهم.
فكيف أنا منهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان يوم القيامة يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك في كفة وعقابك إياهم في الكفة الأخرى، فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافاً لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلاً لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم -عاقبتهم أكثر مما يستحقون- اقتص لهم منك الفضل -أخذوا منك الفرق- فتنحى الرجل وجعل يهتف ويبكي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما تقرأ قول الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] فقال الرجل: يا رسول الله! ما أجد لي ولهؤلاء شيئاً خيراً من مفارقتهم، أشهدك أنهم كلهم أحرار) رواه أحمد والترمذي وهو حديث صحيح.
فالصحابة رضي الله عنهم كانت عندهم شفافية في النفس تجاه الظلم، كانوا يتحرون أشد التحري في قضية الظلم، فهذا الصحابي أعتق العبيد كلهم؛ لأنه خشي أن يكون قد ظلمهم أو عاقبهم أكثر مما أساءوا إليه كل هذا يوم القيامة: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47].
أيها الإخوة: ما الذي يضمن عدم ظلم الزوج لزوجته أو العكس؟ ما الذي يضمن عدم ظلم المدرس لطلابه؟ ما الذي يضمن عدم ظلم المدير لمن تحته من الموظفين والعمال؟ وقس على ذلك، ما الذي يضمن لنا في النظام الإسلامي هذا الأمر؟ قد تقول: المحكمة.
المحكمة قد يوجد في الأرض محاكم تحكم بشريعة الله، وهذا نادر الآن، وقد يوجد محاكم تحكم بالظلم، وقد يكون القاضي صاحب ذمة وضمير متصل بالله عز وجل وقد لا يكون، قد يقبل الرشوة، قد يكون المشتكى عليه قريباً له فيحكم له ويزور القضية، قد يكون المدرس له واسطة عند المدير فلو جاء الطالب يشتكي عند مدير المدرسة لبرأ سماحة المدرس وربما عاقب الطالب، وقد يكون للمدير الفلاني واسطة ونحو ذلك إذاً: ما الذي يضمن؟ ما هو الضمان الحقيقي؟ إنه اليوم الآخر أيها الإخوة!! بعض العمال قد لا يعلم أن من مستحقاته كذا وكذا فيصفي له صاحب العمل حساباته ويعطيه إياها دون أن ينبهه على أن من حقه كذا وكذا، فهو أصلاً لم يشعر أنه مظلوم حتى يشتكي، هذه الدريهمات التي أكلها صاحب العمل عليه أين ستذهب؟ والذين أكلوا حقوق الأجراء والعمال ولم يعطوهم إياها، أو أعطوهم نصفها أو ربعها أين سيذهب الباقي؟ قد لا يجد العامل المسكين مجالاً ليحصل على حقه، أين الضمان الحقيقي في أرجاء الأرض كلها مشارقها ومغاربها؟ أين سيكون هذا؟ قد يوجد ظلمة يحكمون الناس فيقتلون ويسجنون ويعيثون في الأرض فساداً ثم يموتون وهم على عظمتهم وعلى كراسيهم، هل ستنتهي القضية بهذه السهولة؟ بعض أرباب الأعمال يموت وهو غني ثري وقد أكل أموال كثير من الناس ويموت وهو في أوج غناه وثرائه، أليس كذلك؟ بلى.
هل ستنتهي المسألة بهذه البساطة؟ إذاً: هناك لا بد أن يأتي يوم يرجع فيه الحق إلى نصابه، ويقتص للمظلوم من الظالم.
اليوم الآخر مهم ليحجم أهل الكبائر عن كبائرهم، عندما يعلم الزاني أن هناك فرناً في جهنم للزناة فقط، ويعلم المرابي أنه سيسبح في بحر من الدم ويلقم حجراً في فمه، ثم يعود ويسبح ثم يأتي ويلقم أحجاراً، وعندما يعلم الغادر أن له لواءً ينصب يوم القيامة، وعندما يعلم ويعلم ويعلم إلى آخر أصحاب الكبائر، أليس هذا رادعاً لهم، ما الذي سيحل القضية حلاً جذرياً مثل اليوم الآخر؟!! ويوم القيامة يرفع أهل الحديث أعناقهم؛ لأن الله يقول: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:71] فيأتي الإمام ووراءه المأمومون الذين يأتمون به، فيكون أسعد الناس حالاً هم أهل الحديث؛ لأنهم تابعوا قدوتهم وإمامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.(305/10)
من فوائد اليوم الآخر: أن المسلم يعمل بجد لهذا اليوم
ومن فوائد هذا اليوم أيضاً: أن الصالح عندما يعلم أن النعيم لا حدود له وأنه سيثاب ويثاب فإنه سيعمل ويعمل، يقال لصاحب القرآن يوم القيامة: (اقرأ وارتق ورتل فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها) عندما يعلم أنه كلما قرأ تزداد مرتبته في الجنة، وكلما قرأ سيعلو ويعلو، أليس هذا حافزاً له؟ هناك كثير من أصحاب المصائب حتى في الأبدان، هناك كثير من أصحاب العاهات المستمرة، من الناس الذين أصابهم سرطانات -عافانا الله وإياكم- أو أمراض خبيثة لا علاج لها، وهم يعيشون في غرف الإنعاش أو يعيشون على سرر جثة هامدة يسحب منه الأذى ويعطى له الطعام بهذا الشراق الذي يوضع في أفواههم، لا يستطيعون حركة، أولئك المشلولون أصحاب العاهات، اليوم الآخر مهم بالنسبة لهم، ما الذي يصبرهم؟ إنه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم أهل العافية في الدنيا ما لأهل البلاء في الآخرة عند الله لتمنوا أن جلودهم قرضت بالمقاريض) فانظر كيف يدخل الإيمان باليوم الآخر حلاً لجميع المشكلات! هذا -أيها الإخوة- دين عظيم، لكن نحن المسلمين قد يخفى علينا جوانب من عظمة هذا الدين.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم واجعلنا ممن يخافك ويتقيك، ويتبع منهجك الذي أنزلت يا رب العالمين.(305/11)
أي الناس أنت؟
خلق الله الناس وقسمهم على الخير والشر درجات مختلفة، وقد بين الله أصناف الناس في القرآن، وذلك في مختلف المواقف، فما عليك إلا أن تتبع القرآن لتنظر من أي الناس أنت، أو فطالع هذه المادة تفتح لك الطريق في ذلك.(306/1)
أصناف الناس في القرآن والسنة
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد: فأي الناس أنت؟ هذا سؤال سألنا أنفسنا فيه: من أي أنواع الناس نحن؟ وقد ذكر الله عز وجل أنواعاً من الناس فقال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8].
وقال جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] وقال جل شأنه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة:204].
وقال سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج:3].
وقال جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].
وقال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10].
وقال جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان:6].
وهناك في الجانب المقابل يقول الله جل وعلا: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207] إذاً هناك من الناس ألوان وأنواع وأصناف وأجسام وأشكال ذكرها الله عز وجل في كتابه، وهذا التنويع في الناس يجعلنا نلتفت -أيها الإخوة- إلى هذه الأقسام، ثم نحن نتعرف على حال أنفسنا من خلال هذه الأقسام المذكورة في الكتاب والسنة.
فمثلاً: الله -سبحانه وتعالى- قال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32] فجعل الله -سبحانه وتعالى- الأمة على هذه الأصناف الثلاثة، فالمسلم الذي لم يقم بواجب الإيمان هو الظالم لنفسه، والمقتصد: هو الذي يؤدي الواجبات ويترك المحرمات، والسابق بالخيرات: هو المحسن الذي يعبد الله كأنه يراه فيزيد في المستحبات ويتقرب إلى الله بالنوافل بالإضافة للفرائض فهذه ثلاثة أقسام -أيضاً- من الناس ذكرها ربنا عز وجل، قسم هذه الأمة إلى هذه الأقسام الثلاثة: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32].
وقد ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم سراً من الأسرار في أصل تكوين الناس وأصل خلقتهم، وكيف كان هناك ارتباط بين أصل الخلقة والتكوين من تربة الأرض وبين الطبائع والدين الموجود في النفوس، فقال عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: (إن الله عز وجل خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر هذه القبضة المأخوذة من جميع الأرض، جاء منهم الأبيض، والأحمر، والأسود -هذا من جهة الألوان: جاء من الناس أبيض وأحمر وأسود- وبين ذلك، والخبيث، والطيب، والسهل، والحزن وبين ذلك، فهذه القبضة التي أخذها ربنا من جميع الأرض جاءت فيها اختلاف الألوان والطباع).
يقول المبارك فوري في شرح الحديث: هذه الثلاثة هي أصول الألوان، وما عداها مركب منها، هذه الثلاثة أصول الألوان: الأبيض، والأحمر، والأسود، والألوان الأخرى إذا خلطت بنسب مختلفة جاءت الألوان الأخرى.
ثم بالنسبة للطبائع قال: وجاء منهم السهل: اللين، والحزن: الصعب الشرس الغليظ، والخبيث: خبيث الخصال، والطيب: بحسب الأرض التي خلقوا منها، لوناً وطبعاً وخلقاً، وهكذا تجد الناس باختلاف الطبائع يرجع اختلاف طبعهم إلى اختلاف الأرض، هناك أرض سبخة مالحة ما ينبت فيها شيء، وهناك أرض صخرية ليس فيها أي لين ولا سهولة، وهناك أرض لينة طيبة، وهكذا نفوس الناس من هذه القبضة، وهذا سر من الأسرار وقد اطلعنا عليه من حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك فإنه عليه الصلاة والسلام قد أخبرنا عن أنواع من الناس من جهة عطاء الدنيا والآخرة فقال في حديث الإمام أحمد: (الناس أربعة، والأعمال ستة، فالناس: موسع عليه في الدنيا والآخرة، وموسع له في الدنيا مقصور عليه في الآخرة، ومقصور عليه في الدنيا موسع عليه في الآخرة، وشقي في الدنيا والآخرة) أي: لا دين ولا مال.
وأما الأعمال فقد قال عليه الصلاة والسلام: (الأعمال موجبتان، ومثل بمثل، وعشرة أضعاف، وسبعمائة ضعف.
فالموجبتان: من مات مسلماً مؤمناً لا يشرك بالله شيئاً فوجبت له الجنة -وما هي الموجبة الثانية؟ - من مات مشركاً بالله عز وجل كافراً وجبت له النار، ومن هم بحسنة لم يعملها علم الله أنه قد أشعرها قلبه وحرص عليها كتبت له حسنة، ومن هم بسيئة لم تكتب عليه، ومن عملها كتبت واحدة ولم تضاعف عليه، ومن عمل حسنة كانت له بعشر أمثالها، ومن أنفق نفقةً في سبيل الله كانت له بسبعمائة ضعف).
الآيات والأحاديث تتكلم عن أنواع من الناس، تقسم الناس إلى أنواع باعتبارات مختلفة، وهذا التقسيم -أيها الإخوة- يفيدنا في فهم الطبائع والأحوال، حتى إذا عرضنا أنفسنا عليها عرفنا أين نحن؟ ما هو نوعنا؟ ما هو جنسنا نحن؟(306/2)
أصناف الناس في الدين والدنيا عند العلماء
بالرجوع إلى كلام العلماء -أطباء النفوس- يتبين أن هناك أنواعاً -أيضاً- من الناس باعتبارات كثيرة، ومن هؤلاء العظماء: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وتلميذه ابن القيم، اخترت لكم من كلامهما هذه الأنواع: الناس في الدين والدنيا أقسام، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: منهم أصحاب دنيا محضة ما عندهم إلا الدنيا، أما الآخرة فهم معرضون عنها وليس لهم في الآخرة نصيب، ما لهم نصيب إلا في الدنيا، ومنهم أصحاب دين فاسد وهم الكفار والمتبعة الذين يتدينون بما لم يشرعه الله من أنواع العبادات من جنس الصابئة والهند وغيرهم.
الشيخ العالم/ محمد أمين المصري رحمه الله، ذهب يدرس في بريطانيا فنزل في عمارة وسكن فيها، وكان له جار بروفيسور هندوسي، فاشترى الشيخ لحماً لبيته -لحم بقر مفروماً- فلما جعله على النار يطبخه مر ذلك الجار به وهو يطبخ اللحم، فنظر إليه فذرفت عيناه وجعل يبكي، فتعجب وقال: ما لك؟ ما الذي يبكيك؟! قال: لا تدري لماذا أبكي؟ قال: لا، لحم مفروم يطبخ قال: إني أرى إلهي يقلى في المقلاة ولا أبكي؟!! لأنه هندوسي من عباد البقر هذا شغلهم.
وبعض هؤلاء يتدينون بترك اللحم، من هذه التدينات من جنس تدين الرهبان ما أنزل الله بها من سلطان كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله: مثل بعض الجهال يمزح يقول: فلان ما نكح ولا ذبح.
يعني: أنه زاهد في الدنيا، لا زواج ولا لحم، وهذا زهد فاسد؛ لأن هدي النبي صلى الله عليه وسلم: (أتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
فإذاً قال: الناس في مسألة الدين والدنيا أقسام: منهم أصحاب دنيا محضة، غارقون في الدنيا يعبدون الدرهم والدينار فقط، ومنهم أصحاب دين فاسد، مثل هؤلاء الهندوس وغيرهم، وقسم ثالث وهم: أهل الدين الصحيح، أهل الإسلام المستمسكون بالكتاب والسنة والجماعة، إمامهم محمد صلى الله عليه وسلم، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.(306/3)
أقسام الناس باعتبار الحسنات والسيئات ونسبتها إلى الله
تقسيم آخر للناس باعتبار الحسنات والسيئات ونسبتها إلى الله عز وجل، الناس -أيضاً- يتفاوتون، يقول شيخ الإسلام: فشرهم الذي إذا أساء أضاف ذلك إلى القدر، واعتذر بأن القدر سبق ذلك وأنه لا خروج له عن القدر، فركب الحجة على ربه في ظلمه لنفسه، وإن أحسن أضاف ذلك لنفسه ونسي نعمة الله في تيسيره لليسرى، فإذا عصى قال: شيء مقدر ومكتوب، ولماذا تلومونني على ما قدر الله علي من المعصية؟ وإذا أحسن قال: أنا فعلت، أنا أنا ولم ينسب إلى الله أن يسره لهذا العمل، يسره لليسرى، كما قال الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي: أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به.
الآن لو أن شخصاً أعطى شخصاً مالاً لكي يضارب به قال: هذه مائة ألف شغلها لي.
جاء في آخر السنة قال: يا فلان المبلغ خسر.
قال: ماذا؟! قال: والله قضاء وقدر.
ماذا سيفعل؟ يناقشه، تعال قضاء وقدر! ماذا فعلت، ولماذا خسرت؟ رجل أعطى شخصاً من رأس ماله يفتح متجراً، كل يوم يمر أمام المتجر، ومرة جاء الشخص متأخراً قال: اليوم شمسك مرتفعة.
يعني: معناها أنك متأخر عن المتجر -فتحه متأخراً- فإذا جاءه في الدنيا لا يقبل قضاء ولا قدراً، لا، يناقشه في قضية الأسباب ولماذا ما فعل كذا؟ ولماذا ما فعل كذا؟ وإذا صارت المعصية قال: قضاء وقدر! تلومونني على القضاء والقدر؟ فهؤلاء شر الناس.
قال: وخير الأقسام -وهو القسم المشروع الذي جاءت به الشريعة- إذا أحسن شكر نعمة الله عليه، وحمده إذا أنعم عليه أن جعله محسناً ولم يجعله مسيئاً، فإنه فقير محتاج إلى الله، وإذا أذنب تاب واستغفر، وهذا هو حال المؤمن.(306/4)
أقسام الناس في المحبة والقدرة
تقسيم آخر: الناس في المحبة والقدرة -يقول شيخ الإسلام - أقسام: فمنهم من لهم قدرة وإرادة قوية، عندهم عزم وتصميم وجهد كبير، لكنهم -قال شيخ الإسلام - يستعملون جهدهم وطاقتهم لا في سبيل الله بل في سبيل آخر، إما محرم كالفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم والبغي بغير الحق، والإشراك بالله، وإما في سبيل لا ينفع عند الله مما جنسه مباح لا ثواب فيه، لكن الغالب أن مثل هذا كثيراً ما يقترن به ما يجعله في سبيل الله أو في سبيل الشيطان، أي: مباح لا ثواب فيه ولا عقاب، لا يستمر، لا يصفو إما أن يصير في النهاية إلى طاعة الله وإما إلى معصيته.
فيقول شيخ الإسلام: هناك أناس عندهم قدرة، وإرادة، وعمل، وعزيمة قوية؛ لكن يسخرونها في الشر، أو في مباحات ليس منها نتيجة في الآخرة، ولا فائدة له قال: ومن الناس مؤمن قوي، قوم لهم إرادة صالحة، ومحبة كاملة لله، فهؤلاء سادة المحبين المحبوبين المجاهدين في سبيل الله، لا يخافون لومة لائم، كالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين عملوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في رفعة شأن الدعوة، والذين جاهدوا، وعملوا لله تعالى، وحملوا راية الإسلام، دعوا إلى الله، فتحوا البلاد، ذهبوا شرقاً وغرباً، ضحوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، عندهم همة وعمل وجهد فرغوه، وأين وضعوه؟ وضعوه لنصرة دين الله عز وجل.
قال: والقسم الثالث: قوم فيهم إرادة صالحة ومحبة لله، لكن قدرتهم ناقصة، من ناحية القدرة على نصرة الدين ناقصة، لكن نيته طيبة، عنده إرادة حسنة.
قال: هؤلاء يأتون بمحبوبات الحق من مقدورهم لكن قدرتهم قاصرة، وما زال في المؤمنين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده من هؤلاء خلق كثير، منهم الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (إن بـ المدينة رجالاً ما سرتم مسيراً ولا سلكتم وادياً إلا كانوا معكم وهم بـ المدينة، قالوا: وهم بـ المدينة؟! قال: هم بـ المدينة حبسهم العذر) وهؤلاء لهم فائدة عظيمة وهي التي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: (وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم).
هتلر كان عنده مبدأ، هتلر يقول: كيف يكون في المجتمع أناس أصحاب عاهات؟ أي: صاحب عاهة لابد أن نعدمه، نقتله؛ لأنه عالة على المجتمع، فنخلص من ميزانية العجزة الكبار والمرضى! هؤلاء النبي صلى الله عليه وسلم والمبدأ الإسلامي ماذا يقول فيهم؟ (هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟) هذه النوايا الحسنة التي عند هؤلاء لها فائدة عظيمة في المجتمع، تمكين النصر، النصر يأتي من الله لسببين: بسبب الضعيف الخيِّر، هذا الضعيف الخيِّر، أما الذي يلام من هو؟ الذي عنده مشكلة في نيته أو عنده قدرة على نصرة الدين ولا ينصره، عنده قدرة ولا يستعملها.(306/5)
أقسام الناس في مسألة الغضب للرب والغضب للنفس
تقسيم آخر: الناس أنواع في مسألة الغضب للرب والغضب للنفس، قال شيخ الإسلام رحمه الله: والناس في هذا المقام أربعة أقسام: منهم من يغضب لربه لا لنفسه وهذا أعلى نوع، ومنهم بالعكس يغضب لنفسه ولا يغضب لربه، ومنهم من يغضب لهما -يغضب لله ويغضب لنفسه- ومنهم الذي ما من ورائه رجاء، لا يغضب لنفسه ولا لربه.
قال: فأعلاهم حال النبي صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه، يصبرون على أذى الناس ويجاهدون في سبيل الله، وينتقمون لله لا لنفوسهم، ويعاقبون لله لا لأشخاصهم، وهكذا في جهاد الكفار وإقامة الحدود.
قال شيخ الإسلام: وأدناهم عكس هؤلاء، يغضبون وينتقمون ويعاقبون لنفوسهم، إذا أخذت ريالاً من دراهمه ثارت ثورته، إذا آذيت ولده ثارت ثورته، ولكن إذا انتهكت محارم الله؟ قال شيخ الإسلام: فإذا أوذي أحدهم أو خولف هواه غضب وانتقم وعاقب، ولو انتهكت محارم الله أو ضيعت حقوقه لم يهمه ذلك، وهذا حال الكفار والمنافقين.
وأما الذي لا يغضب لا لله ولا لنفسه فهذا إنسان جبان ضعيف، خائر القوى، لا دين ولا دنيا، لا عنده قدرة في الانتصار للدين ولا في الانتصار للنفس، ومن الناس من تجده يغضب لنفسه ويغضب لربه لكن ما هو الأفضل؟ أن الإنسان يسامح في حق نفسه ولا يسامح في حق الدين، إذا انتهكت حرمات الدين يقوم لله، إذا اعتدي عليه هو يسامح في حق نفسه وأجره على الله {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه} [الشورى:40].
قريب منه -أيضاً- تقسيم آخر ذكره رحمه الله في موضع آخر في مسألة الانتقام، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال لأنس عشر سنين: (أف) أبداً، ولا قال له لشيء فعله: لم فعلته؟ ولا لشيء لم تفعله: لِمَ لم تفعله؟ مع أنه خادم عنده.
أيها الإخوة هذه قضية صعبة جداً، شخص عنده خادم، تصور أن عندك خادمة في البيت عشر سنوات لا تقول لها: لماذا لم تعملي كذا؟ لماذا عملت كذا؟ انظروا! هذا أنس خدم عند رسول الله عشر سنوات ما قال له لشيء فعله: لم فعلت؟ ولشيء ما فعله: لِمَ لمْ تفعله؟ وهذه قدرة عجيبة على ضبط النفس تخلق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.(306/6)
أقسام الناس في مسألة العبادة والاستعانة
تقسيم آخر في مسألة العبادة والاستعانة: يقول شيخ الإسلام رحمه الله: الناس في عبادتهم واستعانتهم على أربعة أقسام: فالمؤمنون المتقون له وبه، أي: العبادة له -لله- والاستعانة بمن؟ بالله، هذا معنى: له وبه، هؤلاء المؤمنون المتقون له وبه، يعبدونه ويستعينون به، وطائفة تعبده من غير استعانة ولا صبر، فتجد عند أحدهم تحرياً للطاعة والورع ولزوم السنة، انظر هذه نوعية موجودة من الناس، لكن أحياناً ما نتفطن، وما نربط الأشياء ببعضها ربطاً جيداً، يقول شيخ الإسلام: هناك أناس عندهم تحرٍ للطاعة والورع ولزوم السنة، لكن ليس لهم توكل واستعانة وصبر بل فيهم عجز وجزع، أي: أنك قد تجد شخصاً في الصف الأول في صلاة الفجر في المسجد، ويجلس إلى طلوع الشمس، ويصلي الضحى، ويأتي بالأذكار والأدعية وقراءة القرآن والأوراد والمحافظة عليها وعبادات، لكن إذا مات ولده سقط وانهار انهار!! إذا صار لزوجته حادث انهار! إذا ذهب ماله انهار! يعني: عنده عبادة لكن ليس عنده صبر وتوكل، فهذا الشخص إذاً هو ناقص من هذه الجهة.
وطائفة ثالثة فيها الاستعانة والتوكل والصبر لكن على غير استقامة ولا متابعة للسنة، عندهم صبر وعندهم الاستعانة لكن على غير متابعة للسنة، ولذلك تجد بعض الكفار إذا مات ولده يتجلد ويصبر لفقد الولد، ويوجد شخص مؤمن يموت ولده ولا يصبر لماذا؟ هذا الكافر عنده صبر وتجلد لكن لا يؤجر عليه؛ لأنه لم يفعله لله
وتجلدي للشامخين أريهمُ أني لريب الدهر لا أتضعضع
دخلوا عليه فتجلد عند المصيبة، قالوا: لماذا تجلدت؟ ما شاء الله صبرت، قال: من أجل ألا يشمت الناس بي.
ما صبر لله، فيوجد أناس عندهم صبر وعندهم -كما يقولون- صبر كصبر الحمار، لكن ليس لله، فهناك أناس عندهم صبر وتجلد لكن ما عندهم لزوم السنة ولا استقامة على الدين، توجد نماذج من هذا في المجتمع؟ موجودة، ما يقوله شيخ الإسلام موجود، بعض الكفار عنده قلب أجرأ من بعض المسلمين، وبعض الناس عندهم توكل في المعصية، شخص ذهب لبلد من بلاد الفحش يفعل الفاحشة، فواحش، جاء شخص وقال له: يا أخي اتق الله، وهذه فيها أمراض، فيها أشياء يصيبك إيدز، يصيبك مرض وبلاء.
قال: أنا متوكل {لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51] أنا ذاهب، لن يصيبني إلا المقدور، وهذا شيء مكتوب، وإذا عزمت فتوكل على الله، فبعض الناس -ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في كلام له- آخر قضية توكل بعض قطاع الطرق، إن بعض قطاع الطرق عندهم توكل عجيب، وأنهم بسبب هذا التوكل يتجاوزون عقباتٍ وأخطاراً ومفازاتٍ، ويقطعون صحاري وينجون ويسلمون ويسرقون ويهربون، عندهم هذه القضية، لكن على ماذا؟ على إجرام، وعلى فساد.
فالمقصود: لا نستغرب إذا وجدنا تجلداً وصبراً عند أهل المعاصي، وبعض هؤلاء عندهم توكل في الأشياء وهم على جريمة، وينجحون في أشياء بسبب ما عندهم من هذه الاستعانة وهذا التوكل، وقد يكونون من أصحاب البدع، كثير منهم أصحاب بدع لكن عندهم توكل، لكن على بدعة.
فإذاً من هم الطائفة؟ ومن هو القسم الناجي؟ ومن هو الذي عنده الاستعانة والتوكل مع العبادة والطريقة الصحيحة، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]؟! من كان على سنة محمد صلى الله عليه وسلم لكن بصبر واستعانة وتوكل.(306/7)
أين السفر في الإجازة؟
إعلانات الإجازة الصيفية تطرق الأبواب وتفتحها على مصراعيها للخير والشر، فنشاهد ونسمع الكثير من الدعايات والعروضات البهلوانية، فما هو موقف المسلم من هذا؟ وكيف يقضي إجازته؟(307/1)
العروضات البهلوانية في الإجازة الصيفية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
أما بعد: فإن البهلوانية وعروض المصارعة الحرة، ومسابقة كمال الأجسام، وملاعب التنس المفتوحة، وكذلك كرة الطائرة الشاطئية، والتزلج على الماء، ومسابقة القوارب الشراعية، ومسابقة بناء القلاع الرملية في المنتزهات البحرية والشواطئ وغير ذلك، من مسرح العرائس، وأضخم الفنادق والمطاعم، والأطعمة الفرنسية الممزوجة بالذوق السويسري، وما شابهه من الدعايات إن هو إلا ضحك على الذقون يبلعون فيه الأموال، وإلا لو تأملت في هذه الأطباق التي تقدمها تلك المطاعم وما تحتوي عليه لوجدت أن في كثير منها تلبيس وغش وتدليس، يسمونها كذلك ولكن في الحقيقة نصب واحتيال بهذه المبالغ الطائلة التي تصرف في فنادق ومطاعم الخمس نجوم، وغيرها، ونحن مسئولون عن الأموال التي ننفقها -أيها الإخوة- في هذه الأشياء.
إذاً: هذه الأمور من الأشياء البهلوانية، فالدلافين، والمراكب الشراعية، والقوارب المائية، والسباقات وغير ذلك إذا لم يكن فيها إضاعة أموال ففيها -أيضاً- اختلاط، فتجد بناتك وزوجتك وأسرتك تقف مع شباب آخرين، وأسرهم وبناتهم في أماكن متقاربة وضيقة ومتراصة ومزدحمة، وكذلك أماكن جلوس متقاربة، وكراسي متجاورة في مسارح ومعارض ولوحات فنية ونحو ذلك، تزجية الأوقات، وإضاعة الأموال، وتقريب الزوجات والنساء من الشباب، وكذلك الذكور الآخرين الموجودين في نفس المكان فما حكم ذلك شرعاً؟ وعندما تنسف الريح تلك العباءات التي تركب هذه المراكب البحرية ما هو الحكم شرعاً؟ لو أن الناس قالوا: نريد أن نذهب إلى أماكن نقية صافية، إلى جبل أو بر أو وادٍ أخضر أو شاطئ نظيف إذاً لقلنا: ترويح، وأمر حسن.
ولو قال: أصيد سمكاً أو غيره.
فنقول: لا بأس بذلك، لكن عندما تكون القضية اختلاط وسفور وتبرج في تلك الأماكن، فما هو حكم الذهاب وحكم الإنفاق؟ إن الله سائل كل راع عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته.(307/2)
الحث على قضاء الإجازة في الدعوة إلى الله
أيها الإخوة: إنا نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا الحرام، وأن يرزقنا الحلال، وأن يجعلنا في حلنا وترحالنا طائعين له، مخبتين له ومنيبين، وأن يجعلنا ممن عبدوه حضراً وسفراً، واجتنبوا المحرمات ظاهراً وباطناً.
أيها الإخوة: عندما نسافر لو نتذكر فقط إلا طلائع دعاء السفر: (نسألك البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى) لكفى ذلك؛ اجعلوها عبادات في عمرة أو غيرها، واجعلوها طاعات في صلة رحم وغيرها، واجعلوها قياماً بواجب الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما كان أسلافكم من هذه الأمة يسافرون طلباً للعلم، حضوراً عند العلماء في حلق الذكر، يجمعون الأحاديث والمسائل، ويعثرون على عيون هذا العلم فيسطرونه وينشرونه، دعوة، نشر للدين، إمامة بقوم جهال، إلقاء الكلمات، المواعظ، الدروس، وغير ذلك من أنواع البر، نشر الخير، إغاثة الملهوف، إقامة المدارس في هذه الأماكن من بلاد المسلمين المجهولة، التي تستحق أن يذهب إليها الدعاة بعيداً عن خطر الفتنة، وإذا كانت فتنة فسلامة النفس أولى، وحفظ رأس المال مقدم على جلب الأرباح.
أخي: اجعل عنوانك في سفرك أن تحفظ أهلك -زوجتك وبناتك- أن تحفظهن من كل منكر، ولو اجتذبوك وضغطوا عليك وأغروك، وطلبوا منك، وقالوا: نريد المكان الفلاني، نريد الملهى الفلاني، نريد المتحف الفلاني، والشاطئ الفلاني، والمدينة السياحية الفلانية، ونحو ذلك، ذكرهم بالله عز وجل، واذهب بهم إلى أماكن تكون أبعد ما يكون عن التبرج والاختلاط.
واعلموا -أيها الإخوة- أن المحافظة على أوامر الدين في هذا الزمان لا شك أن فيها صعوبةً بالغة، ولكن ليس لنا خيار آخر، وإذا كان القابض على دينه كالقابض على الجمر في آخر الزمان فلنفز نحن بهذه المرتبة، ولنكن نحن الأخيار في زمن كثرة الشر؛ فإن الله يعطي من الأجر على الغربة -غربة الدين- شيئاً عظيماً، إذا تمسكت بدينك في وقت غربة الدين أجر عظيم لك جداً، فهنيئاً لمن فاز به! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم، وأوسعوا لإخوانكم وتقاربوا يوسع الله لكم.(307/3)
ضرورة قضاء الإجازة مع الأهل والأولاد
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً رسول الله النبي الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة: عباد الله! إن الموظف إذا أخذ إجازته فإنه يكون له مع أهله وأولاده وقفة، في زيادة التداخل معهم، وكسب قلوبهم بعد أن كان منشغلاً في هم الوظيفة وأوقاتها، ومزيد من التعليم لهؤلاء الأهل والأولاد بعد أن كان منشغلاً عن تعليمهم، وكذلك القيام بحقهم وشراء حاجاتهم وهداياهم ومكافأة المتفوقين من أولاده، وغير ذلك من الأمور الطيبة.
إن دفع الأولاد في الإجازات إلى مراكز تحفيظ القرآن الكريم، وكذلك دفع النساء إلى مراكز تحفيظ القرآن للنساء خير عظيم جداً، وثمار قد ظهرت والحمد لله تعالى، وليس كل الناس يسافرون ولا في كل الأوقات حتى ولو كانوا في إجازة.
إذاً: ينبغي أن تغتنم هذه الإجازة، وهذا الفراغ الذي حل محل الدوام المدرسي بما يرضي الله تعالى، وينبغي الانتباه الشديد للأولاد ذكوراً وإناثاً في قضية ما يسمعونه وما يتفرجون عليه، وأنت مسئول عن ثغر سمعه وثغر بصره، فانظر -رحمك الله- ماذا يسمع ولدك وماذا يرى وإلى أي شيء ينظر؟! وهذا التعليم وبذل الأوقات لإصلاح الأولاد وملاعبتهم له أجر عظيم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يلاعب أولاده، وكان يشبع الرغبة النفسية للطفل في اللعب، لكنه كان لعباً مباحاً، ليس بالضرورة أن نأخذه إلى مدينة ملاه فيها فسق، أو فيها تبرج واختلاط، أو فيها موسيقى وأمور محرمة، وإنما ملاعبة الوالد لولده ومشاركته له تكون علاجاً نفسياً وهدوءاً وطمأنينةً وإشباعاً لغريزة الطفل بأمور كثيرة قد تكون أبسط وأرخص مما يتصوره البعض.
لقد جن هؤلاء الأطفال بهذه الألعاب الإلكترونية فلم يعد يلعب إلا مع الجهاز، ولا يرى إلا الجهاز، يعكف عليه الساعات الطويلة، فأي شيء يبني هذا من العلاقة بين الوالد وولده أو الأم بولدها؟ أيها الإخوة: لقد غزانا أولئك الكفار بهذه الألعاب، وقلما تجد ولداً ليس في بيته أو لا يطلب من أبيه (سوني بلاير ستيشن) أو غير ذلك من أنواع الألعاب التي ربما تشتمل على نساء بملابس فاضحة من اللاعبين واللاعبات، وأشكال مخزية مما فيه موضات وتقليعات للكفار في شعورهم وأخراصهم في آذانهم، ونحو ذلك، وكذلك صلبان كثيرة في هذه الألعاب، يدخل اللاعب في الصليب ليكسب قوةً إضافية، أو يأخذ روحاً ثانياً وثالثاً، وليس له إلا روح واحدة إذا خرجت من الإنسان مات وهكذا مما تنطوي عليه من المخاطر العقدية.
وأما مسألة سباحة أو رمي أو ركوب خيل ونحو ذلك من الأشياء التي تقوي بدنه فقل ما يحدث ذلك، أو مشاركة فعلية من الوالدين للولد في الألعاب فقل ما يحدث ذلك.
أيها الإخوة: إننا فعلاً ينبغي أن ننتبه لأبنائنا في هذه الإجازات، وأن نراعي مستوياتهم في السن عندما نريد أن نرفه عنهم، وأن نجلب لهم ما يتسلون به، إن هناك الكثير من الألعاب العائلية التي تحصل فيها المشاركة من عدة أطراف تربي الولد على التعاون، وأن يكون جزءاً من كل، وأن يكون حلقةً في سلسلة، وهكذا من الأشياء التي تربي روح الجماعية وليس روح الفردية القاتلة المملوءة بها مثل هذه الألعاب العصرية الحديثة.
أيها الإخوة: اهتمامنا بتحفيظ أولادنا للقرآن، وقص القصص النبوية وسير الصحابة عليهم، والإتيان بالكتب المفيدة لهم، بدلاً من هذه القصص الماجنة، والقصص المصورة التي فيها كثير من الغث والرديء، بل والمنكر والمحرم، إن المسلم يجب أن يكون مفتشاً دقيقاً لما يطلع عليه أولاده فيسمح بالخير ويمنع الشر وهذا من مسئوليته.
اللهم إنا نسألك ذريةً طيبةً تقر بها أعيننا، اللهم إنا نسألك أن تصلح أولادنا وذرياتنا، وأن تجعلنا للمتقين إماماً، وهب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، اللهم أصلح أزواجنا وبيوتنا يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر.
اللهم أهلك اليهود ومن شايعهم، اللهم أهلك اليهود ومن شايعهم، اللهم أهلك اليهود ومن شايعهم، اللهم أقر أعيننا بنصرة أهل السنة والتوحيد على اليهود يا رب العالمين! اللهم أقر أعيننا بنصرة أهل السنة والتوحيد على اليهود يا رب العالمين! وأخرجهم من بيت المقدس أذلةً صاغرين.(307/4)
فرح المسلم بما يصيب عدوه الكافر
إن المسلم ليفرح ولا شك بأي مصيبة تصيب الكفار وخصوصاً اليهود الذين هم ألد أعدائنا: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ} [المائدة:82] ولكن لا تنس قول الله بعد اليهود: {وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82] والذين أشركوا، ولو أن الله ضرب يهودياً بمشرك وألقى بينهم العداوة لفرحنا بهلاك الفريقين جميعاً وما يصابان به، ولا يمكن لمسلم أن يوالي ولا أن يفرح بانتصار مشرك على نصراني أو يهودي، فهو يفرح لهزيمة اليهود، ولكن لا يفرح لانتصار مشرك ولا من خرج من الدين بالردة واعتناق كل كفر أو إلحاد أو شرك أو بدعة مخرجة عن الملة.
وعندما تتأمل في تخلي اليهود عن أوليائهم ستجد العجب العجاب كما قال ذلك النصراني ممن كان يوالي اليهود: تركتمونا خلفكم مثل الحيوانات.
يقول لليهود: تركتمونا خلفكم مثل الحيوانات، وخدعتمونا وكنتم تقولون لنا: كل شيء على ما يرام هكذا يقول: أنا غاضب ومصاب بخيبة أمل، كل شيء انتهى، وهكذا قال أولياء اليهود ممن تساقطوا.
فالعبرة إذاً -أيها الإخوة- أن هؤلاء اليهود لا يرقبون عهداً ولا ذمة، قال الله في وصفهم من قديم: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [البقرة:100] فإذا تخلوا عن أوليائهم النصارى فما بالك بما سيفعلونه بالمسلمين؟! ولذلك فقوم أثبتوا عملياً وأمام مرأىً من العالم سمعاً وبصراً تخليهم عن أوليائهم الكفار، فأي عهد فيهم وأي ميثاق يرجى، وأي أمانة لأولئك القوم.
إن ما رأيناه -أيها الإخوة- كان درساً عظيماً، وكان كشفاً إلهياً لهذه الحقيقة المستقرة في نفوس اليهود منذ القدم، إذا تخلوا عن أوليائهم فما بالك بغيرهم؟! اللهم أخزهم والعنهم لعناً كبيراً، واجعل هزيمتهم عاجلةً يا رب العالمين! اللهم انصر المجاهدين في الشيشان وكشمير والفليبين وسائر الأرض يا رب العالمين! اللهم اجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، رب اجعل هذا البلد آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.(307/5)
بدعة المولد ومحنة مقدونيا
يا مدعي حب طه لا تخالفه الخلف يحرم في دنيا المحبين وقد طرأ على المسلمين في القرون المتأخرة من المحدثات ما هي مخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم مع ادعاء كمال محبته، ولاندري كيف استطاعوا الجمع بين محبته ومخالفة هديه المخالفة التامة، وإذا أردت معرفة ذلك ففي هذه المادة بيان لما ذكرت، ما بيان لمحنة مقدونيا أحد الجروح النازفة في أمة الإسلام.(308/1)
تعظيم الصحابة ومحبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفتح:8 - 9] وهكذا أمرنا الله سبحانه وتعالى بتعظيم نبينا صلى الله عليه وسلم وتضمنت الشهادة التي يدخل بها الإنسان الإسلام توحيدين: الأول: توحيد العبادة لله سبحانه وتعالى.
والثاني: توحيد الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم فينبغي أن نؤمن به وأن نتبعه وأن نوقره وأن ننصره صلى الله عليه وسلم فحرمته عظيمة، ومحبته من أركان الدين، وهذه المحبة التي تسابق الصحابة لبذلها لنبيهم حتى قال علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن حبه: [كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ] وخبيب رضي الله عنه لما سئل: هل يسرك أن محمداً عندنا الآن مكانك وأنت في أهلك -وكان مصلوباً أمامهم ليقتلوه- قال: [والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي] فشهد أبو سفيان بعد ذلك عند ملك الروم بقوله: ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمدا، وهكذا بذلوا النفوس لحمايته، وكانوا يتسابقون للموت بين يديه كما مات منهم تسعة متتاليين في غزوة أحد، وهكذا حكموه في أنفسهم وأموالهم، وقالوا: هذه أموالنا بين يديك، فاحكم فيها بما شئت، وهذه نفوسنا بين يديك لو استعرضت بنا البحر لخضناه نقاتل بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك، فنشهد أن لا إله إلا الله ونشهد أن محمداً رسول الله، كيف كانت محبتهم رضوان الله عليهم لنبيهم؟ قدموه على كل أحدٍ من البشر وكان الواحد يقول: فداك أبي وأمي.
إن الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم -أيها الإخوة- شيء عظيم، وخصوصاً عندما نثني عليه ونصلي إذا ذكر؛ لأن البخيل من ذكر عنده النبي عليه الصلاة والسلام فلم يصلِّ عليه، والإكثار من ذكره والتأدب معه عند ذكره، وحتى في مسجده وعند قبره وتوقير حديث النبي صلى الله عليه وسلم كما كان المحدثون يجلسون في مجالس الحديث على وضوء تامٍ ونظافة وطهارة خشعاً؛ لأجل التحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومر مالك بن أنس على أبي حازم وهو يحدث فجازه وقال: إني لم أجد موضعاً أجلس فيه، فكرهت أن آخذ الحديث حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قائم.
وكان محمد بن سيرين يتحدث فيضحك فإذا جاء الحديث خشع.
وكان مجلس عبد الرحمن بن مهدي مملوءاً بالوقار، لا يبرى فيه قلم، ولا يبتسم فيه أحدٌ، ولا يتكلم أحدٌ؛ لأجل الحديث الذي يقوله عن النبي صلى الله عليه وسلم.(308/2)
بيان المحبة والتعظيم الحقيقي للنبي صلى الله عليه وسلم
أيها المسلمون! إن المحبة الحقيقية في تصديقه صلى الله عليه وسلم بما أخبر وعدم الشك فيما جاء به واتباعه وطاعته والتأسي بسنته، وليس ترك السنة ولا الإعراض عنها ومخالفتها، فالعجب كل العجب من هؤلاء الذي يزعمون محبة النبي عليه الصلاة والسلام في الموالد ثم ترى أشكالهم لا تتفق مع سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وترى أفعالهم فيها من المعاصي والمخالفات لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
عباد الله: إن التحاكم إلى السنة أمرٌ مهم جداً، والرضوخ لحديث النبي عليه الصلاة والسلام أمرٌ مهم جداً، والذب عن سنة النبي عليه الصلاة والسلام واجب علينا، والذب عن أصحابه من محبته: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] وهكذا الترضي عنهم: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ} [الحشر:10] والاهتداء بهدي الصحابة من توقير النبي صلى الله عليه وسلم والذب عن زوجاته عليه الصلاة والسلام من محبته: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور:26] نخل السنة مما علق بها من الأحاديث الموضوعة، وكذلك التنبيه على الأحاديث الضعيفة ونشرها نقية بين الناس، وعقد الدروس لأجل ذلك من حق النبي صلى الله عليه وسلم علينا.
أيها الإخوة! إن الاتباع الحقيقي للنبي صلى الله عليه وسلم الاتباع فيما جاء به وعدم الابتداع ولتعلم أن الحذر من الخروج عن السنة، وعن المخالفة أمرٌ في غاية الأهمية، فلذلك لا نزيد عليها لا قدراً ولا كماً ولا كيفاً ولا عدداً.
أيها الإخوة! إننا نرضى بحكم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإننا كذلك نحترم نصوصه التي جاء بها من الله تعالى ولا نعتدي عليها بتحريفٍ ولا تعطيل ولا نطعن فيها، ولا نقول: إن العقل لا يقبل هذا، أو لا يقبل هذا، فلا يمكن أن نقدم عقلاً على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك فإننا لا يمكن أن نقدم كلام رجلٍ من الرجال على محبة النبي صلى الله عليه وسلم أبداً.(308/3)
بدعة احتفال المولد
ولما ثقلت السنة على بعض الناس وخالفت أهواءهم أرادوا من منطلق الانسحاب النفسي وإراحة أنفسهم بزعمهم أن يكون لهم رمزٌ يعبرون به عن محبتهم هذه المزعومة دون أن يتمسكوا بالسنة الثقيلة على أنفسهم، وتداخلت قضية الابتداع بالدين، مع شيء من الرغبات النفسية المنحرفة، مع شيءٍ من التشبه بالنصارى، مع شيءٍ من مكائد الباطنية الذين كانوا في بعض بلاد المسلمين وأرادوا إلهاء المسلمين بمناسبات ابتدعوها، تداخلت هذه الأمور لتولد في القرن السادس أو السابع الهجري بدعة وهي بدعة الاحتفال بمولده عليه الصلاة والسلام، فجاءت هذه البدعة لتغطي على تقصير أولئك في السنة بزعمهم، ولكي تريحهم شيئاً ما نفسياً من تقصيرهم طوال العام بهذه الحفلة التي يعملونها، كما يعمل الكفار اليوم في عيد الأم فيقذفون على أمهاتهم بهدية في يومٍ في السنة وهم يعقونها بقية العام ويريحون ضمائرهم بزعمهم بعيد الأم ثم يعصونها ويهجرونها بقية العام فلا يتذكرونها إلا في ذلك اليوم يوم الأم وعيد الأم كما يزعمون.
وهكذا قام المبتدعة في المسلمين بإحياء هذه الاحتفالات نتيجة لهذه العوامل المتداخلة، وخرجوا علينا بأن هذا الاحتفال عبادة يعظمون به النبي عليه الصلاة والسلام؛ لكن أيهم أشد تعظيماً للنبي عليه الصلاة والسلام أهؤلاء أم أصحابه؟! هل احتفلوا إذاً بمولده أصحابه؟ ولماذا لم يحتفلوا بما هو أعظم كالبعثة والهجرة؟ أليست البعثة والهجرة مناسبتين أعظم من المولد؛ لأن التغيير الذي ترتب على البعثة والهجرة في التاريخ أشد بل لا يقارن بالتغيير الذي حصل بمجرد مولده، بل إنك لا تكاد تجد تغييراً واضحاً بمجرد مولده، لكنك تجد التغيير بهجرته وبعثته، فلماذا إذاً جعلوها في مولده بالذات؟! لما احتفل النصارى بميلاد عيسى واتبع هؤلاء ملة النصارى في هذه القضية مصداقاً لما أخبر به عليه الصلاة والسلام: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة) وأقام هؤلاء الموالد واحتجوا بأن أكثر المسلمين يفعلونها، فمتى كانت الأكثرية دليلاً على الحق؟ وقد قال الله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] وقالوا: نحيي ذكراه، فنقول: هو حيٌ في قلوب المؤمنين الصادقين على مدار العام، فكل يومٍ يذكرونه ويصلون عليه، ويسمعونه في النداء، وقد قرن الله اسمه باسمه في الأذان للصلاة: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4] وهكذا يحيون سنته ويروون أحاديثه يومياً، فمتى كان جعل يوماً في السنة مغنياً؟ ومتى كان إحداث هذا العيد دليلاً على المحبة؟ إذا كانت المحبة واجبة في جميع أيام السنة، وإذا نظرنا فلم نجد في أصحاب النبي عليه الصلاة السلام ولا في السلف من فعل ذلك وإنما هي على أحسن الحالات استحسانات قام بها بعض الجهلة.
عباد الله: لا شك أن معرفة سيرة النبي عليه الصلاة والسلام أمرٌ مهمٌ جداً، ولكن لماذا تخصيص قراءة السيرة في هذا اليوم بالذات يوم المولد؟! أليس الصادق في المحبة يقرأ سيرته ويتداول سيرته على مدار العام صلى الله عليه وسلم؟! إذاً ينبغي أن تكون الذكرى حية على مدار العام وليس أن تحصر في يوم من أيام العام.(308/4)
مفاسد الاحتفال بالمولد
لقد صار الاحتفال بالمولد فيه من المفاسد الأمور العظيمة، ومن ذلك ما يرتزق به تجار الحلوى، ومؤجرو الألعاب والملاهي، والباعة الجوالون، والقصاصون والمداحون والمغنون، وأخيراً الراقصون والراقصات، والمغنون والمغنيات في إقامة الحفلات الغنائية، وربما أحياناً بالمجان صدقة لأجل المولد ومشاركة بالأغاني والمعاصي والمحرمات مشاركة وهبة لأجل المولد، وأتيحت الفرصة أمام الفساق والفجار وصارت التعمية على بعض المهرجانات والممارسات المعادية للدين الحق.
إن نابليون -أيها الإخوة- قد أمر بإقامة الاحتفال بالمولد وأعطى شيخاً ثلاثمائة ريال فرنسي وأمره بتعليق الزينات وحضر حفل المولد من أوله إلى آخره، وكشف أحد مؤرخي مصر العظماء وهو عبد الرحمن الرافعي حيلة نابليون وقال عن ذلك: إنه يريد أن يعلن للعالم الإسلامي أنه صديق للإسلام والمسلمين خدعة وكذباً ليتوصل من وراء احتلاله إلى توطيد أركان ذلك الاحتلال بين المسلمين، ودغدغة عواطفهم، هكذا إذاً يشارك حتى الكفرة في هذه القضية ويعلنونها ويشجعون عليها ويحضرونها وينشرونها ويطالبون بها.
فالسنة السنة يا عباد الله، والحرص الحرص على توحيد الله، وكذلك المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم.
اللهم اجعلنا من أهل سنتك، واجعلنا ممن يحب صاحبها ويقدم محبته على كل بشر إنك سميع مجيب.
اللهم اجعلنا من أهل شفاعته يوم الدين، واجعلنا ممن رافقه في يوم الدين؛ إنك سميع مجيب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(308/5)
محاربة أهل الزندقة للنبي صلى الله عليه وسلم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً رسول الله البشير والنذير والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه وأزواجه وذريته الطيبين الطاهرين إلى يوم الدين.
عباد الله: إن مما يثير الحمية في النفس لسنة النبي عليه الصلاة والسلام ولشخصه الكريم ما يراه المسلم من هجمات أهل الكفر والزندقة والانحلال، والنفاق في هذا العصر على النبي عليه الصلاة والسلام وسنته، وقد صارت هناك موجة وموضة من حرية الكفر لا حرية الفكر في كثير من الأماكن بين المسلمين، عندما يخرج الواحد تلو الواحد لأجل المس بهذا الدين والشريعة والسنة ويكتب من يكتب الكتب التي تلقي الشبهات حول نبينا صلى الله وسلم ونبوته كما فعل واحدٌ منهم في هذه الأيام.
وإن من العلامات التي تدل على صدق محبة الإنسان لنبي الله صلى الله عليه وسلم المنافحة عنه وعن سنته ويغلي الدم في العروق وأنت تسمع يا عبد الله تلك الشاعرة التي تلقي قصيدة في مناسبة عيد المرأة، وهذا من فوائد الأعياد المبتدعة إن صح أن يكون لها فوائد، وكلها أضرار، لكن حتى نعلم هذه المبتدعات تقود إلى ماذا؟ في عيد المرأة تحدثت عبر الهواء امرأة في قصيدة لها تقول فيها:
ملعون يا سيدتي من قال عنك أنك من ضلع أعوجٍ خلقتِ
ملعون يا سيدتي من أسماك علامة على الرضا بالصمتِ
من هو الذي قال ذلك؟ من هو الذي قال: (إن المرأة خلقت من ضلع أعوج فإن ذهبت تقيمه كسرته وقال: كسرها طلاقها) ومن الذي قال لما سئل عن البكر إذا استحيت أن تقول عند عقد النكاح صراحة بالنطق نعم، أو تظهر الموافقة بالكلام فقال: (إذنها صماتها) من هو القائل؟ هو النبي عليه الصلاة والسلام، ففي عيد المرأة تخرج هذه الشاعرة التي ارتدت بالنص، وتكفر على الملأ في هذه الموجات البثية الإذاعية، لتعلن الردة عن الإسلام على رءوس الأشهاد، وعندما يقوم بعض المسلمين للإنكار والمطالبة بالدعوى عليها وإقامة الحد الشرعي وهو حدٌ مهم منسي، حد الردة، تقوم منادية الشرفاء للتصدي للاتهامات الباطلة.
وامرأة أخرى أنالها الله الخزي في الحياة الدنيا والآخرة تقوم أيضاً لتقول في مقابلة صحفية: إن الحج مظهر من مظاهر الوثنية وكذلك تقبيل الحجر الأسود ومسحه، وإن عقلها لا يقبل ذلك، وقالت: الحجاب غير إسلامي، هذه الموضة -أيها الإخوة- من إعلان الكفر على الملأ، هذه الموضة والانحلال من الدين الذي نسمع عنه، إنه فعلاً دليل على وجود صف للمنافقين يعمل داخل هذه الأمة، وأن فيها من المرتدين من يجب إقامة حد الله عليه بضرب رقبته بالسيف حتى يبرد.
ونعلم أيضاً أن المحبة الحقيقية للنبي عليه الصلاة والسلام تكون بإقامة الحد على هؤلاء، وليس بإقامة الاحتفالات بالمولد، فإذا رأيتهم يسكتون عن هذه الأقوال ويقيمون الاحتفالات فتعلم وتفهم أي شيء؟ ماذا تستنتج يا عبد الله؟ إقامة البدعة وترك الكفرة والمنافقين والمرتدين يسرحون ويمرحون، أين المحبة المزعومة للنبي عليه الصلاة والسلام في نفوس هؤلاء؟! أيها الإخوة! إننا نوقن أنه ليس في أفعال الله شر محض، وأن الله عز وجل بعث نبيه صلى الله عليه وسلم ليبتليه ويبتلي به وقد ابتلى به هؤلاء، ابتلى به، فمنهم من آمن ومنهم من كفر.
أيها الإخوة! تتزامن الأحداث ليكتشف المسلم أين هي المحبة للنبي عليه الصلاة والسلام حقيقة والدفاع عنه وعن دينه وعن سنته وعن شخصه الكريم صلى الله عليه وسلم؟ ولا شك أن المسلم لا بد أن يغار على الدين ولا بد أن يكون له موقفٌ من بطش أولئك المجرمين، ولا بد أن يعلم بأن هذا الكفر الذي ينشر على الملأ وخصوصاً المقابلات في تلك الفضائيات مع هؤلاء الزنديقات والمنحلات وغيرهن من المنحلين -أيضاً- من الدين، أن ذلك مما خطط له الكفار في نشر الردة والكفر علناً حتى تستمرئ أسماع المسلمين سماع مثل تلك العبارات الشنيعة، فيعتادوا عليها مع الوقت، ولكن في نفوس المسلمين حمية للدين لم تمت بعد، وعندهم غيرة لم تضمحل بعد، ولذلك يقوم المخلصون منهم برفع دعاوى الاحتساب، وعمل ما يمكن عمله والمطالبة ورفع الصوت لأجل أخذ الحق للنبي عليه الصلاة والسلام من هؤلاء المردة من شياطين الإنس.
أيها الإخوة! نحتاج فعلاً إلى دعوة صادقة وتعليم للسنة، وبيان لمعاني الخروج عن الدين والردة؛ لأنها أمرٌ قد تفشى وأذيع وأعلن، فلا بد إذاً من الحذر والعلم والبيان، وهذه وظيفة أهل العلم.(308/6)
محنة المسلمين في مقدونيا
ونحن -أيها الإخوة- كذلك نعيش هذه الأيام مع محنة إخواننا في مقدونيا، ذلك الشعب المسلم الذي يشكل قريباً من نصف سكان مقدونيا (45%) ولا يشكل النصارى الأرثوذكس الذين يمسكون بزمام الأمور في مقدونيا إلا الثلث فأقل، فهم أقل من المسلمين، ومع ذلك يتحكمون في رقابهم، يغلقون جامعاتهم، وقد نصبت هذه الطغمة الأرثوذكسية في تلك البلاد صليباً طوله اثنا عشر متراً ضمن احتفالات الألفية، وهو واحدٌ من عدد من الصلبان التي زرعت في أنحاء البلاد كان أكبرها صليب بطول مائتي متر على قمة أعلى جبل، صمم بحيث يضيء في الليل ليراه الجميع، رفعوا ذلك الوثن، ولوثوا به الهواء والفضاء، ولكن ضاقت أنفسهم بمآذن أحد أعرق المساجد في مقدونيا فأمروا بإغلاقه ومنع إقامة شعائر الدين فيه، وهكذا حُرم المسلمون في مقدونيا من عدد كبير من ميزاتهم وحرياتهم الدينية وحقوقهم، فقاموا يطالبون بلا فائدة، وهكذا لما نفذ صبرهم وقاموا للمطالبة بحقوقهم جند أولئك النصارى جنودهم لكي يكتسحوا قرى المسلمين التي يتحصن فيها أولئك المدافعون؛ ليصبوا عليها جام غضبهم بنيران أسلحتهم، وتقصف المساجد قبل البيوت كما أوضحت ذلك صور الأحداث المنقولة في الوسائل العالمية، تستهدف المساجد أولاً، وهكذا تصب حمم السلاح على رءوس المسلمين فيقتل المدنيون ويشردون بالآلاف المؤلفة وفيهم -الآن- من نتيجة الحصار من الجوع والتشرد ما الله به عليم.
فإلى الله نشكو أمرهم وأمرنا وأمر المسلمين، ونسأله سبحانه وتعالى أن يعجل بكشف الغمة، وإنقاذ تلك الأمة المسلمة إنه سميع مجيب.
وقد تحالف الصرب مع المقدون النصارى ومع غيرهم من الأحلاف الأخرى الموجودة في الأرض على أولئك النفر القلة من المسلمين في مقدونيا، وجاء الدور على مقدونيا وكان ذلك معلوماً من قبل، بعدما صارت المذابح في البوسنة وكوسوفا جاء الدور على مقدونيا.
أيها الإخوة! ولا ننسى أيضاً أن إخواننا في فلسطين يعيشون تحت أنواع الحصار الذي يفرضه أولئك اليهود عليهم، يقللون من غاراتهم العسكرية تارة ويكثفونها أخرى، ويقتحمون ديارهم تارة وينسحبون أخرى، وهكذا في عمليات مدروسة لليهود ضد إخواننا.
وإننا لنعجب فعلاً من بطولات ذلك الشعب الأعزل المسلم في فلسطين المحتلة، ذهب أحد الذين يوزعون المساعدات يمشي في طريق من الطرق في تلك البلاد المحتلة بين المسلمين فاندلعت الاشتباكات فجأة في مكان قريب فدخل هذا مسرعاً إلى مكان يلتجئ فيه فقال له أحد المسلمين في فلسطين متأملاً ومتفرساً فيه: أنت لست من أهل هذه البلد، أليس كذلك؟ فقال: نعم، كيف عرفت؟ قال: لأنه عندنا إذا حدثت الاشتباكات من كان بالداخل يخرج إلى الخارج، وليس الذين في الخارج يدخلون إلى الداخل، ولذلك فإننا نعجب فعلاً من ثبات إخواننا العزل تقريباً في تلك الديار، ونحن ندعو لهم بأن يرزقهم الله مزيداً من الثبات، ومزيداً من القوة على مواجهة أعدى أعدائنا وهم اليهود، وندعو الله بأن ينصرهم وهم يقاتلون بالنيابة عن المسلمين في أرض فلسطين ولا نبخل بما نستطيع لأجل نصرتهم.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوحد المسلمين على توحيده، وأن يجمع صفهم وأن ينزل عليهم نصره وأن يسدد رميتهم، وأن يجعلهم حرباً على أعدائه سلماً لأوليائه إنه سميع مجيب.
اللهم عليك باليهود والنصارى والصليبيين، اللهم عليك باليهود والصليبيين، وسائر المشركين والمنافقين المرتدين يا رب العالمين، اللهم العنهم لعناً كبيرا، اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، وأخزهم في الدنيا والآخرة وصب عليهم سوط عذاب، اللهم فرق شملهم، وشتت جمعهم، واجعل دائرة السوء عليهم، وائتهم من حيث لا يحتسبون، زلزل الأرض من تحتهم، وأسقط عليهم عذاباً من فوقهم، اللهم عطل أسلحتهم وخيب رميتهم، واجعل تدبيرهم تدميراً عليهم، اللهم أسقط دولتهم ومزقهم كل ممزق يا رب العالمين اللهم عجل بنصر المسلمين، عجل فرجنا يا أرحم الراحمين؛ سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(308/7)
برنامج دين ودنيا حقوق الأبناء على الآباء
يتحدث الشيخ في هذه المادة عن حقوق الأبناء على الآباء، ومن ذلك: اختيار أفضل الأسماء التنشئة الإسلامية العدل بين الأبناء تزويجهم متابعتهم ومراقبتهم إلخ.
كما حذر من أخطاء كثيرة يرتكبها الآباء في حق الأبناء.(309/1)
حقوق الابن قبل ولادته
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المشاهدون الكرام! أينما كنتم وحيثما كنتم؛ أحييكم بتحية الإسلام، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
وأهلاً ومرحباً بكم معنا إلى لقاءٍ جديد من برنامجكم دين ودنيا.
الذرية بلا شك عزيزة غالية، فهي قطع الأكباد وثمار القلوب، وعماد الظهور وقرة العيون وزينة الحياة، ثم هي بعد ذلك أمانة من الله سامية يضعها بين أيدي العباد ليرعوها حق رعايتها، ويصونها حق صيانتها، ولكن الآباء في العهود الأخيرة أهملوا أبناءهم إهمالاً شنيعاً، لا نقول: أهملوهم في الطعام والثياب والفراش والسكن، فذلك قدر من العيش ميسور للناس مع اختلاف في الأحوال والأشكال، ولكنهم أهملوهم فيما هو أهم وأعظم وأخطر وأكبر؛ أهملوهم في تقويم نفوسهم وتطهير أرواحهم وتدعيم أخلاقهم، في تنشئتهم على الدين والعبادة، وفي ضرب القدوة الصالحة لهم، وفي تحديد الطريق المستقيم أمامهم، ومن هنا خرج الأولاد بلا هدفٍ ولا إيمان، وبلا رصيد من عزيمةٍ أو أخلاق، فتفرقت بهم السبل وتوزعتهم الأهواء، وتقسمتهم الأخطاء وعاشوا في دنياهم بأفئدة هواء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
أيها الإخوة! كم يطيب لنا وكم يسرنا أن يكون معنا في هذه الحلقة أو الندوة المباركة صاحب الفضيلة الشيخ/ محمد بن صالح المنجد إمام وخطيب جامع عمر بن عبد العزيز بـ الخبر نتلقى اتصالاتكم ورسائلكم عبر هاتف البرنامج وناسوخه، والذي يظهر بين الفينة والأخرى، وأذكر هنا برقم الناسوخ (4425016).
أرحب بك صاحب الفضيلة فمرحباً بك في برنامج دين ودنيا.
الشيخ: حياكم الله، أهلاً وسهلاً.
المقدم: بارك الله فيك.
الشيخ: الله يحييك.
المقدم: أقول: من ثمرات الزواج إنجاب الأولاد، والذين هم -أعني: الأولاد- قبل ذلك نعمة من الله سبحانه وتعالى يمن بها على من يشاء من عباده، يقول الله عز وجل: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً …) [الكهف:46] أقول: ولا ريب أن هذه النعمة إنما تثمر ثمرتها، وتؤتي أكلها بإذن ربها متى ما قام الآباء بالحقوق الواجبة تجاه أبنائهم، فهل لنا صاحب الفضيلة أن نتعرض على طبيعة تلك الحقوق، مثلاً: حقوق الأولاد عند الولادة كيف تكون حقوقهم؟ الشيخ: الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على محمد بن عبد الله خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأحييكم في هذه الحلقة، وأسأل الله تعالى أن يرزقنا جميعاً الإخلاص والعلم النافع والعمل الصالح.
وقد سبق الحديث عن حقوق الوالدين ونتحدث -أيضاً- عن حقوق الأولاد كما تفضل أخي حفظه الله، وحق الولد على أبيه حقٌ عظيم وعندما نقول: الولد، فإنه يشمل الذكر والأنثى، إنه حقٌ من قبل الولادة بل من قبل الزواج عندما يختار له أمه التي ستربيه: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) (تزوجوا الودود الولود) ودعاء: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38] وعند إتيان الزوجة يسمي الله سبحانه وتعالى، الولد له حق في الحياة فهو يخرج من بطن أمه ولذلك لا يجوز إسقاطه ولا قتله، لا قبل الولادة ولا بعد الولادة {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء:31] أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك من أكبر الكبائر: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9] الجاهلية التي كانت تأخذ الأم عند الولادة إلى حفرة فالقابلة تستلم المولود، فإن كان ذكراً أبقوه وإن كانت أنثى طموا عليها التراب، عوضتنا الشريعة بشيء عظيم في استقبال البنات: (من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن وأطعمهن وسقاهن وكساهن من جزته -أي: من غناه وماله- كن له حجاباً يوم القيامة من النار).
من حقوق الولد في بطن أمه أنه لا يجوز للحامل أن تتناول أي شيء يضعفه أو يشوهه، بل ينبغي أن تتقوى لتغذيته.
هذه المرأة التي أتي بها لما ثبت عليها الزنا لترجم، النبي عليه الصلاة والسلام لأجل حق الولد أبقاها ولم يرجمها حتى تضع، ثم حتى ترضع، وحتى فطمته، وفي يده كسرة خبز، ثم بعد ذلك كان الرجم، هذا الجنين إذا سقط له دية عند الاعتداء عليه.
هذه الزوجة التي ينبغي أن تراعى عند الحمل لأجل المولود، فعليك -يا أيها الزوج- بمراعاتها عند الوحام وغيره، إنها قضية مهمة، النسب من حقوق الولد.
إن إثبات النسب حقٌ لله، وحقٌ للطفل وللأب والأم، هذا النسب الذي يصونه عن الضياع والتشرد، الولاية، الإرث في الصغر، له حقوق كثيرة بسبب النسب، فلا يجوز لأب مسلم أن ينفي ولده دون بينة.
من الأمثال القبيحة التي توجد عند بعض العامة أن يقول: هذا ولدي إن صدقت أمه.
ما هذا الكلام؟ كذلك لا يجوز للإنسان أن يدعي من ليس ولداً له ويضيفه إلى نسبه، ثم يستقبل المولود استقبالاً كريماً بالبشارة وكذلك يؤذن في أذنه اليمنى، فيسمع الولد شهادة التوحيد، يحنك بالتمر المعجون، يحلق رأسه، يدهن بالزعفران.(309/2)
حق الابن في تسميته وعقيقته وختانه
إن من حقوق الابن أن يسمى اسماً حسناً، النبي عليه الصلاة والسلام سمى الحسن والحسين، وحسَّن على التسمية بعبد الله وعبد الرحمن وسمى بنتاً جميلة، وأخرى حسانة، هذه التسمية في اليوم الأول أو في اليوم السابع كلاهما لا بأس به وفي أي يومٍ آخر، وهنا نرى يا أخي الكريم، والإخوة المشاهدين أشياء عجيبة تحدث في قضية التسمية عندما يسمي بعض الناس أولادهم من ذكور وإناث أسماء عجيبة أسماء جاهلية أسماء مبغوضة شرعاً، ودعنا الآن من قضية الأسماء المعبدة لغير الله المنتشرة، وأشياء لا تليق بالله عند بعض الأعاجم كعاشق الرحمن ونحوه! والأسماء المكروهة شرعاً مثل: فتنة فاتن هيام، هذا اسم مرض يصيب الإبل، واحد اتصل على الخطوط ليحجز؛ قال: عندي امرأة، قال: ما اسمها؟ قال: لحظة، فانتظر موظف الخطوط، ثم قال: ما اسمها يا أخي، قال: لحظة، فانتظر مرة أخرى، ثم قال الموظف: عندنا ناس، قال: يا أخي اسمها: لحظة.
ثم آخر يقول: ما اسم الراكبة؟ قال: اسمها فضيحة، قال: يا أخي! تكلم، لا حرج، قال: اسمها فضيحة، قال: نحن إخوان ثم تبين أن اسم البنت فضيحة، وهذا شخص جاءته خمس بنات، فجاءه توأم بنات، ماذا سماهما؟ اسم الحدث الريح الذي يخرج من الدبر فعله وفعيلة، على وزن فعلة وفعلية.
المقدم: هذه أسماء غريبة جداً، وحتى يحاول أن يجعل لها أصلاً ويقول: هذه موجودة في اللغة العربية ارجع إلى القاموس.
الشيخ: ولو رجع إلى القاموس ربما لا يعرف شيئاً ولا يعرف كيف يستخدم القاموس أصلاً، وآخر من كرهه للبنات توعد زوجته لما جاءت بالبنت السادسة سماها مغضوبة.
واحد يسمي فوطة ومسفوطة، وهذه أسماء حقيقية.
ثم بعد ذلك نسمع ونقرأ في الجرائد واحد من كرهه لزوجته لما جاءه ذكر وأنثى سمى البنت جهنم والابن عزرائيل، ثم يقولون: ما وجدنا في القانون ما يمنع التسمية بهذا إذا كان القانون لا يحمي المغفل، الشريعة تحمي المغفل، عندنا خيار الغبن، وخيار العيب، الشريعة تحمي الولد والمولود والوالدة والأب، الشريعة تحمي الناس، الله سبحانه وتعالى أنزلها هكذا، ثم قضية التشبه بأسماء الكفار في بعض الأسماء: روزا، كريستين، ليندا، ديانا، جاكلين، ماري، مادونا، هذه أسماء موجودة، وقد كنت ألقيت محاضرة في مدرسة خاصة للبنات، أعطيتهم أسئلة جاءت الإجابات وكل واحدة مكتوب الاسم الأول، تصور يا أخي بنت مسلمة مكتوب نانسي، لماذا هل الأسماء الإسلامية، عائشة، هل سمعنا أن الكفار يسمون أولادهم عائشة وفاطمة، وحفصة، مثلاً، ونورة وجوهرة، هل يسمون بالأسماء الإسلامية، انتهت الأسماء الطيبة حتى نسمي بأسماء القوم، {هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ} [آل عمران:119] فلما تسمون بأسمائهم، ثم أسماء رخوة، بدلاً من زينب زيزي، بدلاً من فاطمة فيفي، وهكذا أسماء أعجمية مثل: نيفين ناريمان، لماذا لا نسمي الأسماء الصحيحة؟ هناك ارتباط بين الاسم والمسمى، أسماء عباد الله الصالحين، أسماء الأنبياء.
أيها الإخوة! الأب عندما يسمي لابد أن يقلب الاسم من جميع الوجوه وينظر هل يليق الاسم بالمولود، وإذا كبر هل يليق به إذا صار به جداً أو صارت جدةً.
المقدم: الحقيقة أن الأسماء -ولله الحمد- مجاناً وليست بمال، فوسع الله عز وجل دائرة الأسماء قال: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [النجم:23] فهي كثيرة، لكن دعني أطرح هذا التساؤل يا شيخ محمد: هل التسمية من حق الأب أم أنها من حق الأم؛ لأننا لربما أحياناً يلوح في سماء البيت سحابة غضب وزمجرة لماذا لم تسم على اسم أمي؟ والثاني يقول: لماذا لم تسم على اسم والدتي، أنا أحق وهكذا؟ الشيخ: أما التسمية شرعاً فإنها من حق الأب لأنه سيضاف إلى اسمه وينسب إليه كما نص على ذلك العلماء، ولذلك الأم لا تنازع الأب حقه، وعلى الأب ويستحب للأب وينبغي على الأب أن يشاور الأم في هذه القضية، ويأخذ رأيها، هي حملته وتعبت فيه، وتحملت آلام المخاض والوضع فيراعي أيضاً حالها.
ومن الطرائف أن أباً أصر على اسم ابنه فيصل، والأم أصرت على طلال، وأهله معه، وأهلها معها، والولد يعيش إلى الآن باسمين فيصل وطلال، يجب أن نعلم أن هذه التسمية حق للأب شرعاً وهو يراعي زوجته.
قضية العقيقة؛ العقيقة سنة مستحبة من فوائدها فك ربطة الشيطان، تسلط الشيطان على المولود لحديث: (كل غلام مرتهن بعقيقته) مرتهن، فهو مربوط، الشيطان عليه تسلط فإذا ذبحت العقيقة، وإذا لم يكن الأب قادراً -الحمد لله- هي سنة وليست بواجبة، ثم الحلق وبعض الناس ربما يقول: هذه المنطقة لينة في رأس الولد أنا أخشى عليه من الضرر، فنقول: انتق حلاقاً جيداً.
الختان من حق الولد فيترتب له عليه مصالح كثيرة في صغره وفي كبره.
ومن القضايا التي تكون في مسألة الصغر الرضاع الذي ينبغي للأم ألا تهمله، لا بحجة أن شكلها سيسوء، والمحافظة على شكل الصدر، تهمل الرضاع، وتنتقل بالولد إلى ما يضره، وكذلك بعض الآباء ربما الأم ترضع الولد الآن وفي وقت رضعته يقول: اتركي الولد وتعالي إلي، وهذا من حق الولد أن يرضع، فهذه مسائل مهمة عند الولادة ينبغي مراعاتها من حقوق المولود في الإسلام.(309/3)
حق الابن في التنشئة الصالحة
المقدم: أحسن الله إليكم، أحياناً يتفق الزوجان فتقول المرأة الزوجة: أنا أسمي البنات، ويقول هو: أنا أسمي الأولاد، وهذا حل وسط كما يقولون، طيب ماذا عن حقوق الأولاد عند النشأة يعني: لربما يتساءل البعض يقول: لي أولاد كيف أنشئهم التنشئة الصالحة وما حقوقهم عليَّ؟ الشيخ: أما بالنسبة لهذه القضية الخطيرة والمهمة التي نهمل فيها كثيراً -أيها الإخوة! والأخوات- أن هذا الولد من ذكر وأنثى أمانة بيد الأبوين، هذه نفس تحتاج إلى صيانة، 90% من التعليم بالعادات يكتسب في الصغر، في الخمس السنوات الأولى تكتسب أشياء كثيرة {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6].
إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ولا يلين إذا قومته الخشبُ
قد ينفع الأدب الأحداث في مهلٍ وليس ينفع في ذي الشيبة الأدبُ
يجب أن تكون القضية منذ البداية، تعليم ومراعاة الحاجات العبودية والحاجات النفسية، وأيضاً قيامٌ بحق هذه الروح في التهذيب والتربية إيمانياً وصلة بالله {ُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} [لقمان:13] {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ} [لقمان:17] يا بني {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] وهكذا يعلمه التوحيد وضده الشرك، والصلاة والعبادات، لقمان يعلم ولده وهذا النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (يا غلام! احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة) وهكذا يقول للآخر عندما يرى يده تطيش في الصحفة: (يا غلام! سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك).
ينبغي -أيها الإخوة- أن نقوم بقضية التعليم والتربية والتأديب للأولاد، في قديم الزمان كان عند الناس رجل اسمه مؤدب، يؤدب الأولاد، يرتاد الأب المساجد مع الأولاد، يقوم معهم بصلة الرحم، يعلم البنت الحجاب منذ الصغر، وليس إذا بلغ تفاجأ بالأوامر، الأذكار يقولها بصوت مسموع ليحفظه الأولاد: اصطحابهم عند أفعال الخير إلحاقهم بتحفيظ القرآن التحدث أمامهم بالعربية الفصحى توطيد العلاقات بالعائلات الطيبة لإيجاد بيئة ينشأ فيها أولاد المتدينين معاً ويتأثرون بالجو الذي لا بد أن يكون لهم.
أصدقاء الأولاد من هم؟ من يعاشرون؟ تعزيز العلاقات الطيبة، يدربون على الأعمال النافعة وعلى العادات الطيبة، يعودون على الأكل مما هو موجود، لماذا يكون عند الأولاد ترفٌ قاتل؟ يمنعون من السهر الأخلاق الحميدة تغرس فيهم كيف يكرم الضيف الشجاعة، بعض البادية عندهم أشياء قد تكون أفضل من المدينة.
أب يريد أن يعلم أولاده الشجاعة فقال: أنتما تسابقا إلى حوض السيارة، وقد وضع في حوض السيارة ثعباناً ميتاً، فأسرعا معاً فقفز الكبير في داخل السيارة فرأى الثعبان فخاف ورجع وهو يصرخ، الصغير وقف هنيهة ثم قلب الثعبان فوجده ميتاً فجلس وأخذ الجائزة، ثعبان كان قد قتله ووضعه، وأنا أضرب مثال فقط، ويعود الولد ألا يخشى الظلام، لا يخشى قول الحق، وأنا ذكرتها طرفة؛ لأن الثعبان مقتول.
القضية في العبادة الاهتمام بالعبادات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الصبر وعدم الشكوى الشكوى لله.
اهتمام بإقامة حلق العلم في المنزل ربط القلب بالله عز وجل، كلما صارت حادثة تربط بالله يحبب الولد بالله عز وجل من خلال ذكر النعم.
إذا أمرت الابن في شيء تابعه في تنفيذه، قضية المشاعر توجه مشاعر الولد الغضب الفرح الحزن لتكون أشياء شرعية، تربط العبادات بالله عز وجل أنها ليست قضية عادة وليس لأنك رأيت أباك يصلي، إحضاره مجالس الكبار، يعلم عادة شكر الناس، كيف يثني عليهم، يعاملهم بالأمر الطيب والكلام الطيب، نرى في بعض المجتمعات الإسلامية الولد الصغير يقول كلاماً طيباً، لأن أباه رباه هكذا، يقول للضيف الواحد يقول: أنتم تريدون الشاي بسكر أم بغير سكر، يخاطبه بلفظ الجماعة، لأنه هكذا علم، فرق أن يقول أنت يا كذا، أنت يا كذا ويخاطب الضيف بطريقة ساخطة، يعلمه حسب السن، لاعبه سبعاً، أدبه سبعاً، صاحبه سبعاً.(309/4)
قصة والد اهتدى على يد طفله
من حق الولد أن يجد أباً مربياً ناصحاً معلماً موجهاً قدوة في الخير وفي الصلاة وفي البر.
يا أخي! هذه قصة سمعتها من ولد صغير -في الأولى أو ثانية ابتدائي- أبوه لا يعرف القبلة في البيت، ولذلك الابن هذا ما رأى أباه يصلي أبداً، لما ذهب الابن إلى المدرسة رزقه الله بمدرس في الفصل، إنسان متدين يخاف الله، ويعرف أمانة الطالب الذي بين يديه، فدعاهم إلى صلاة الجماعة، حببها إليهم، وفضل صلاة الفجر، والمشي في الظلمة إلى المسجد، الولد صار عنده إقبال وانجذاب إلى الصلاة، فلما رجع للبيت، ضبط الساعة المنبه على صلاة الفجر كما علمه المدرس، فلما قام وتوضأ وذهب وفتح باب الشارع وجد في الطريق ظلاماً فخاف، ورجع، يفتح الباب ويغلقه متردد يفتح الباب ويغلقه -وهذا طبيعي في الولد يهاب الظلمة- حتى سمع شيئاً يطرق على الرصيف، إنه عكاز جد صاحبه أحمد في الحارة يمشي يذكر الله، فمر من أمام باب البيت، فتشجع الغلام وخرج مع هذا الشايب ورافقه كظله إلى المسجد وصلى ثم انتظر الشايب حتى يرجع فرجع معه، ثم توالت الأيام على هذا الحال.
في يوم من الأيام أبو الولد دخل البيت ووجد الولد يصرخ ويبكي بكاءً حاراً قال: ما لك يا ولد؟ فسكت، ما لك يا ولد؟ يلح عليه، في النهاية الابن تكلم، قال: جد جارنا أحمد مات، قال: وماذا يعني أن جد جارك مات؟ من يكون جد جارك؟ لماذا تبكي عليه؟! الولد سكت، قال أبوه: أهو أبوك؟! قال: يا ليت الذي مات أنت وليس هو -تجرأ الولد- الأب انصدم من هذه الكلمة، قال: يا ولدي! ماذا تقول؟ قال: هذا العجوز كنت أذهب معه إلى المسجد، هذا كان نعم الرفيق لي في الظلمة، أنت ما رأيتك في البيت تركع لله ركعة.
فكانت كلمة هذا الصغير سبباً في هداية أبيه لطريق الحق والمحافظة على الصلاة.
من حق الولد أن يجد في البيت أباً يعقل، وليس أباً ذاهب العقل بالمسكرات والمخدرات، والأم المسكينة تداري الموضوع، والولد يقول: ماذا يشرب أبي؟ ولماذا يشرب كثيراً؟ وما هذا؟ وتقول له: ماء، ويقول: والدي يحب الماء؟! والأسئلة تتوالى، يدخل وهو سكران، يسب ويلعن ويشتم الزوجة والأولاد، كم مرة طلق الأم المسكينة وهي لا تدري تعيش معه بالحلال أم بالحرام؟ وهذا الآخر السكران الذي يخرج أغلب الأوقات ما يغيب عن عقله أكثر مما يفيق، الأولاد محرومون من رؤيته، هو ينزوي في الغرفة يشرب، الأولاد يضيعون، عندنا في الحي أولاد لأب من هذا النوع يمشون يطوفون على البيوت يسألون الناس، بنت عمرها اثنا عشرة سنة بشكلها تطرق الباب تسأل الناس يمدون أيديهم للناس؛ لأن أباهم يشرب الخمر، المال كله ذهب في المسكرات والسفريات القريبة والبعيدة، سألت الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله قلت: يا شيخ! الآن المجاهرة بالمعصية إثمها عظيم، الذي يسر غير المجاهر، قلت له: الأب إذا جاهر داخل البيت، إذا عمل المنكر أمام أولاده عمل أي منكر أمام أولاده، هل يعتبر مجاهراً أم لأنه داخل البيت يعتبر مسراً، قال الشيخ: أعوذ بالله! أعوذ بالله! هذه أعظم من المجاهرة، هذه مجاهرة وإساءة تربية، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين).(309/5)
حق الولد في اللعب
من حق الولد أن يلعب، تصور أن طفلاً يقول: أبي لا يشتري لنا ألعاباً، لماذا؟ أبوه في شركة محترمة وراتبه كبير، لكن تذهب في المسكرات في المحرمات في السفريات، والنبي صلى الله عليه وسلم قبَّل الحسن والحسين، ترك ابنه يرتحله كما ترتحل الدابة، والآخر يلعب فوق ظهره، حتى في السجود ترك لهم المجال، يذهب خصيصاً لزيارة ولده الرضيع إبراهيم، عندما كان يرتضع يذهب لزيارته، ويذهب خصيصاً لزيارة الحسن، ويطرق الباب ينتظر حتى فاطمة تلبس الحسن، ويخرج إليه يمد يده، فالحفيد يمد يده، فيحضنه في حجره ويقبله ويجلع له لسانه علاقة عاطفة محبة حتى عائشة لما انتقلت إلى النبي عليه الصلاة والسلام بألعابها سمح لها أن تلعب؛ لأنها كانت صغيرة في السن، تلبية حاجة الولد في الألعاب، لكن أي ألعاب؟ البلاستيشن ألعاب صلبان! أي ألعاب؟! الفئة السحرة! وتطير على مكنسة! الموسيقى! أي ألعاب؟! التي فيها نساء بملابس شبه عارية! أي ألعاب التي يلعب بها؟! ألعاب هادفة وليست ألعاباً مدمرة للنفس والأخلاق.(309/6)
بعض سلبيات الآباء
المقدم: الله يبارك فيكم أنا قلت: كم من أناس كانت هدايتهم على أيدي أبنائهم، ولله در بعض الآباء الواعين الفاضلين يأتي إلى غرفة أبنائه في الليل ويصلي فيها ركعتين أو ما كتب الله عز وجل فينظر الأبناء إلى أبيهم وقد ركع في غرفتهم يعني ممارسة عملية تطبيقية، فيكون هذا أدعى إلى الاقتداء به.
هذا الأخ يوسف الحيدان يقول: ما رأيكم يا شيخ محمد بما نعايشه ونشاهده في ميدان التربية والتعليم حينما ندرس حالة طالب بئيس حزين هزيل نجد أن أمه مطلقة، ويعيش مع والده، ووالده يمنعه من مشاهدة أمه إذا لم يحقق كذا وكذا في الدراسة، فهل من توجيه لهذا النوع من الآباء؟ أيضاً تساؤل جيد من أبي نواف يقول: أنا شاب متزوج وعندي أطفال، ولقد رزقني الله بطفلٍ ولكن أبي أجبرني على أن يكون اسم الطفل مثل اسمه، رغم أن اسم والدي فيه شيء من الغلظة والقسوة، أنا أحياناً أرفض وإذا صرحت في الرفض يقول أبي: أنت عاق، فهل هذا من العقوق وما نصيحتك لوالدي، وإذا لم أسم وهجرني ما الحكم في ذلك رغم أني أريد أن أسمي أسماءً جيدة مثل عبد الله وغيره من الأسماء التي فيه تعبيد لله تعالى، ويقول: والأسماء التي عندنا مثل: مطعش اشبيد سدك مسرف؟ أنا معي إبراهيم الطلحة ثم أعود إليك لتعلق، وأيضاً لنأتي على قضية النفقة وحقوق النفقة وما يتعلق بها؛ لأن هناك أناس ربما يفهمون موضوع النفقة مائة وثمانين درجة، أفهام متخالفة ومتباينة.
الأخ إبراهيم! السلام عليكم.
السائل: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
المقدم: حياكم الله السائل: مساكم الله بالخير جميعاً المقدم: مساك الله بالخير أهلاً وسهلاً.
السائل: أشكرك -يا شيخ عبد المحسن - على هذه الجودة المباركة.
المقدم: الله يبارك فيك.
السائل: نحن في مستشفى الأمل بحكم أني رئيس الشئون الدينية فيه، فهناك نعاني بشدة من إهمال الآباء في أبنائهم، حتى أوقعتهم في شباك المخدرات، وأصبح الكثير من الشباب يعاني أو يكل السبب الكبير للآباء، وهناك بعض العناصر من جراء الجلسات الفردية مع بعض المدمنين أو بعض الشباب، هناك بعض الأمور التي أوقعت بعض الشباب في المخدرات وقد جلست مع أحد الشباب وعمره تقريباً سبعة عشر عاماً، فتكلمت معه بخصوص كيف وقع في المخدرات، فيذكر لي أن سبب وقوعه في المخدرات أول وقت كان في الابتدائية -في سادس ابتدائي- بدءوا وقعوا بالمخدرات من سادس ابتدائي، فسألته عن والده ما كان يراقبك؟ كيف كنت تخرج؟ قال: والله كان هناك إهمال كبير من الوالد، وعدم المراقبة من المنزل هذه أيضاً من الأسباب التي أوقعت كثيراً من الشباب في المخدرات، أيضاً أب من الآباء يقول: أنا السبب في إدمان ابني قلت: كيف ذلك؟ قال: أنا أعطيه المال ولا أراقبه، وكل ما أراد من مال أعطيته، والآن هذه هي النتيجة؛ الوقوع في المخدرات.
أيضاً من السفر للخارج وهذه النقطة مهمة -يا شيخ عبد المحسن - وخاصة أنها تكثر في الإجازات الصيفية فبعد الإجازات الصيفية نستقبل أكبر عدد من المدمنين فهذه من أهم النقاط أيضاً: التفرقة بين الأبناء هذه التفرقة بين الأبناء يصاب الابن بأمراض نفسية تقوده إلى الوقوع في المخدرات أيضاً.
أيضاً الدعاء على الأبناء هذه قضية يجب الانتباه لها.
الإهمال من الصغار الآن بعض الآباء يأتينا -يا شيخ عبد المحسن - ويقول: أتمنى أن يهتدي ابني وأن يترك هذه المشاكل، فإذا هو من الصغر مهمل، فكيف يريد النشء الآن وفي هذا السن أن يلحق به أيضاً: ممارسة المعاصي أمام الأبناء وهذه ذكرها الشيخ وهي مهمة أيضاً.
آخر شيء -يا شيخ! -: منظر عجيب في أحد أقسام الشرطة، امرأة طردها ابنها وهي كبيرة في السن، والضابط تكلم مع ابنها في الهاتف قال: لا أريدها، وهي أيضاً رفضت أن تذهب إليه قالت: إنه يضربني!! وهي امرأة كبيرة في السن!! أسأل الله جل وعلى أن يبارك فيكم جميعاً.
المقدم: شكراً جزاك الله خيراً.
المقدم: السؤال طبعاً يقول الأخ يوسف الحيدان: إن هناك ما نعايشه في ميدان التربية والتعليم حينما ندرس حالة طالب بئيس لأن أمه مطلقة وهو يعيش مع والده ووالده يمنعه من مشاهدة أمه إذا لم يحقق كذا وكذا في الدراسة.
الشيخ: بالنسبة للسؤال الأول هذا ليس من حق الأب أن يمنع الابن من رؤية أمه حتى لو اختار، قال العلماء: لو أن عند الطلاق في الذكر إذا بلغ سبع سنين يخير بين أبيه وأمه، والبنت طبعاً ستذهب إلى أبيها؛ لأنها طبعاً ستخطب منه، لو أن الابن اختار الأب والابن غير رأيه إلى الأم يجوز أن يذهب إليها، لو اختار الأم ثم غير رأيه إلى الأب، يجوز أن يذهب إليه، ولو اختار الأب لا يجوز أن يمنعه من زيارة أمه، ولو اختار الأم لا يجوز أن تمنعه من زيارة أبيه، وهذه من المشكلات الكبيرة حتى القضاة يعانون منها مع بعض الناس.
وأما بالنسبة لقضية تسمية الأب لابنه باسم أبيه، فهذا طيب إذا كان اسم الأب طيباً، أما إذا كان اسم الأب قبيحاً فالابن ليس ملزماً أن يضع عنواناً لولده عنواناً قبيحاً إلى أن يموت؛ لأن الاسم هذا يلصق بالولد حتى يموت.
أما بالنسبة لقضية حقوق الولد في العاطفة والرحمة كنت قد تكلمت عن موضوع النبي صلى الله عليه وسلم مع الحسن والحسين، والأطفال عموماً وكيف النبي عليه الصلاة السلام قصر الصلاة مراعاة لمشاعر الأم ومراعاة للطفل كذلك، ينبغي أن يكون هناك عاطفة.(309/7)
أهمية الحنان للطفل
من الأشياء المفقودة -أيها الإخوة والأخوات- في علاقة الآباء والأمهات في الأولاد قضية العاطفة، العاطفة مفقودة لا يوجد الحنان الكافي، الولد مع الخادمة، الولد يسكت على يد الخادمة، ولا يسكت إذا حضنته أمه، من كثرة الإهمال وترك الأم للأولاد، والأب كذلك مشغول وحتى لو جاء يمكن أن يقتصر كلامه على الزجر والتهديد والوعيد.
هناك أبيات لطيفة قالها أحد الشعراء المسلمين يعبر فيها عن هذه العاطفة لما ودع أسرته وأولاده؛ سافروا في الصيف وبقي هو في البيت ورجع بعد وداعهم، يقول الشاعر رحمه الله:
أين الضجيج العذب والشغبُ أين التدارس شابه اللعبُ
أين الطفولة في توقدها أين الدمى في الأرض والكتبُ
أين التشاكصٌ دونما غرضٍ أين التشاكي ما له سببُ
أين التسابق في مجاورتي شغفاً إذا أكلوا وإن شربوا
يتزاحمون على مجالستي والقرب مني حيثما انقلبوا
فنشيدهم "بابا" إذا فرحوا ووعيدهم "بابا" إذا غضبوا
وهتافهم "بابا" إذا ابتعدوا ونجيهم "بابا" إذا اقتربوا
بالأمس كانوا ملء منزلنا واليوم ويح اليوم قد ذهبوا
إني أراهم أينما التفتت نفسي وقد سكنوا وقد وثبوا
في كل ركنٍ منهم أثرٌ وبكل زاوية لهم صخبُ
في النافذات زجاجها حطموا في الحائط المدهون قد ثقبوا
في الباب قد كسروا مزالجه وعليه قد رسموا وقد كتبوا
في الصحن فيه بعض ما أكلوا في علبة الحلوى التي نهبوا
في الشطر من تفاحة قضموا في فضلة الماء التي سكبوا
إني أراهم حيث ما اتجهت عيني كأسراب القطا سربوا
دمعي الذي كتمته جلداً لما تباكوا عندما ركبوا
حتى إذا ساروا وقد نزعوا من أضلعي قلباً بهم يجبُ
ألفيتني كالطفل عاطفة فإذا به كالغيث ينسكبُ
قد يعجب العذال من رجلٍ يبكي ولو لم أبك فالعجبُ
هيهات ما كل البكا خورٌ إني وبي عزم الرجال أبُ
القضية في الاهتمام بالأولاد، قضية النزهة إلى الأماكن الحلال المباحة، هذا يشتكي يقول: أبي لا يأخذنا إطلاقاً، لا إلى فسحة ولا إلى نزهة، أمي مرة سألته قالت له: إلى أين تذهب يا أبا فلان؟ قال: أنفه الغنم وأطلق أرجلها، الآن أطلق أرجل الغنم وهو إذا سأله ثم قال: سمعنا مرة -عنده بقر في مزرعة- أنه أتى بطبيب بيطري للبقر بأربعمائة ريال قال: ونحن نحيا ونموت ونمرض ونقوم، ولا يذهب بنا ولو مرة إلى المستشفى، يقول: دبروا أنفسكم!!(309/8)
التحذير من التدليل الزائد للأبناء
العاطفة -يا إخوان ويا أخوات- لا تعني التدليل الزائد؛ لأن من المصائب التي نحن فيها الآن قضية التدليل الزائد للأولاد، أي شيء يريد أعطيته، ما معنى أن تذهب بنت إلى طبق خيري أو يوم مفتوح في المدرسة معها ثلاثمائة ريال، تشتري بها الطبق الخيري أو اليوم المفتوح، هذا كم ستصرف البنت في العادة، ولو اشترت قوالب الكيك فأين ترمى؟! ثم كسر نفوس الطالبات اللاتي ليس عندهن هذه القدرة، هذا التدليل الزائد {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5] ثم نكسر بها قلوب الفقراء.
هذا شخص عنده خمس بنات، سبحان الله! تولد له البنت تحمل الأم تضع ذكراً يموت، ثم تلد بنتاً ثم تحمل بذكر ويموت، خمس مرات، لما جاءه الذكر الأخير وعاش؛ فتن به أعطاه كل شيء أعطاه الأموال، حتى قال ذات مرة لمن حوله: أي شيء تريدونه عن طريق ولدي هذا، الذي يأتي عن طريق ولدي هذا أنا أنفذ مباشرة، وفي النهاية الولد فسد، سرق من مال أبيه أخذ من هنا، نهب منه، الأب الآن يشتكي يعض أصابع الندم على هذه التربية التي حصلت، وعقوق، وارتفع ضغط أبيه وأصيب بالأمراض وشاب رأسه من وراء هذه القضية.
إذاً قضية كل شيء نعطي الأولاد، أي شيء نعطي الأولاد، يا أخي دعهم مرة يتعلمون العمل، إذا كنت ستعطيهم قل لها: إذا نظفت المطبخ وغسلت الأواني أعطيتك كذا، دربها قليلاً يمكن أن تذهب إلى زوج وما عنده خادمة، وهي لا تعرف شيئاً في البيت أبداً، ويعطيها مكافأة مالية، قل له: قص الزرع واغسل الحوش، وأعطه مالاً، درَّب الأولاد على قضية العمل ويأخذون مقابلاً عليها، لا مانع.(309/9)
الحذر من الشدة في التأديب
المشكلة في قضية التأديب -يا شيخ عبد المحسن - هنا بعض الآباء والأمهات يسرفون يعني: يمكن أن يقشر سلك الكهرباء ويضرب فيه، يقول لي ولد من الأولاد: أنا أبي لا يضرب بسلك عادي، بل يقشره ويضربني به، أو يضعني على غرفة على السطح في البرد وما عندي لحاف ولا يوجد أكل.
طبعاً لماذا؟ لأن أمه تطلقت وتزوج بأخرى وامرأة الأب اضطهدت.
واحد آخر يقول: أنا أكبر أولاد أبي وأمي مطلقة، وأبي أبيض وتزوج امرأة بيضاء وجاء له أولاد بيض وأنا أمي سمراء وجئت أنا أسمر والآن لا يكاد يتعرف عليَّ ولا يعترف بي، لماذا؟ يقول: لماذا لونك أسمر؟ يا أخي! سبحان الله! الله الذي خلقه هكذا، يعني: ما ذنب الولد في قضية اللون، ينبغي ألا نمزق الأولاد عاطفياً، فتمزيق الأولاد عاطفياً من المصائب.
المدرسة في رياض الأطفال تقول: تكلمت عن موضوع ففوجئت ببنت صغيرة في الروضة تقول لي: هل يصح أن الأب يضرب الأم؟ فقلت لها: لا.
لكن هي تسرعت في الجواب، فقالت: لكن أنا (بابا) يضرب (ماما) دائماً في البيت.
فإذاً تمزيق الولد عاطفياً يحدث نتيجة الصراع بين الأبوين العلني الذي يمكن أن يكون ضرباً، كذلك من التمزيق العاطفي أن الولد لا يجد أمه في البيت، بل يجدها خراجة ولاجة.
هي الأخلاق تنبت كالنبات إذا سقيت بماء المكرماتِ
تقوم إذا تعاهدها المربي على ساق الفضيلة مثمراتِ
ولم أر للمكارم من محلٍ يهذبها كحضن الأمهاتِ
وهل يرجى لأطفال كمالٌ إذا ارتضعوا ثدي الناقصاتِ
من حق الابن أن يرى أباه وأمه أمامه.
ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولا(309/10)
الأبناء بين معاصي الأب وشرور الفضائيات
المقدم: يا شيخ محمد! هذه أم معاذ، وتساؤلها طيب تقول: كلامكم عن أهمية النزهة وعلى الأخلاق الحسنة والاستفادة والتربية على شرع الله تعالى، لكن إذا كان الأب غير صالحٍ والأم مستقيمة على شرع الله؛ فماذا تعمل؟ تقول: فقد لاحظت أن أبنائي بدت تصرفاتهم تكون طبقاً لتصرفات أبيهم، فهل أبين لهم خطأ أبيهم؟ أم أنفصل عنه أنا وأبنائي؟ وهذه يبدو أنها أيضاً كذلك، تقول: بعض الأمهات تتدخل في شئون ابنتها الخاصة، بحجة أنها أمها، وتدخل الأم في هذه الأمور قد يسبب للبنت بعض الإحراج، فهل هذا من حق الأم؟ وهل يجب على البنت إخبار أمها بذلك؟ بعض الأمهات -هداهن الله- تكون أخلاقها مع الناس طيبة ولسانها عذباً، ولكن مع أبنائها على العكس من ذلك، أرجو توجيه نصيحة لمثل هذه الأم؟ بعض الأمهات حينما تحدثها ابنتها بحديث تحدث به جدتها أو عمتها، رغم أن هذا الحديث قد يكون مشكلة بينها وبين زوجها، أو شيئاً من أمورها الخاصة، فما موقف الابنة في هذه الحالة؟ إذا سمحت لي معي عبد العزيز الحسن الزهراني من مكة وقد عودنا بمداخلات طيبة.
السائل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
السائل: تحية ببراعة الكبار تشوبها براعة الصغار تنطلق إلى العاصمة الحبيبة الرياض.
المقدم: الله يبارك فيك ويحييك.
السائل: أستاذي الكريم موضوعكم جد طويل ولا أظن أن حلقة واحدة أو حلقتين ستكفي هذا الموضوع الطويل والهام في مجتمعنا، لكنني أسأل وبسرعة حول التنشئة على كتاب الله ومرة في الواقع حدث هذا الأمر أمامي حينما سأل أحد الضيوف ابنة صغيرة عن سورة قصيرة، فقالت: لا أحفظ هذه الأغنية!! أيضاً الجرأة العجيبة على الآباء وتعليم الأبناء الجرأة على الآباء حتى أنهم يقولون: قم اضربني!! أو قم تكلم عليَّ! أو قم ابصق في وجهي!! وهذه أشياء فعلاً تعود الطفل على العقوق منذ نعومة أظفاره.
ما نراه الآن على القنوات الفضائية الغريبة من برامج خاصة تحث على طرائق غريبة وعجيبة في تربية الأطفال تبث باللغة العربية، وربما ببعض اللهجات المحببة، وتحث على ما يسمى بالتربية الجنسية، أريد من الدكتور أن يقدم لنا نصيحة في مثل هذه المواضيع وشكر الله لكم المقدم: شكر الله لك وجزاك الله خيراً على هذه الإطلالة الطيبة.(309/11)
حكم بقاء الزوجة مع زوجها الفاسق
المقدم: السؤال الماضي، أم معاذ تقول: لاحظت أن بعض أبنائي تكون تصرفاته تطابق تصرفات أبيه، فهل أبين لهم أخطاءه؟ الشيخ: نعم.
السؤال بالنسبة لقضية الأب إذا كان فاسقاً مقصراً في أموره الدينية ما دام الأب مسلماً لم يرتكب ناقضاً من نواقض الإسلام كسب الدين أو الاستهزاء ببعض أحكام الشريعة أو ترك الصلاة بالكلية ونحو ذلك، فيجوز للمرأة أن تبقى معه، وهنا تواجه المرأة بين بقائها مع هذا الزوج الفاسق بما فيه وبين قضية الطلاق، لا بد بالحكمة ودراسة وتأخذ رأي أهلها والعقلاء في العائلة لكي تقرر هل تستمر أو تبقى، فإذا وجدت أن مفاسد الطلاق أكبر بقيت تتحمل وتذود أطفالها ما استطاعت عن هذا الفساد، وتعلمهم الحق ولو قالت لهم: أبوكم مقصر وانصحوه، لا مانع، لكن لابد أن ينصحوه بأدب؛ لأنه وإن كان مشركاً فإن له حقاً كما تقدم.
وأما بالنسبة لتدخل الجدة في تربية الأحفاد أو تدخل الجد في تربية الأحفاد هذه قضية مشاهدة، التدخل أحياناً قد يكون حميداً وهنا في هذه الحالة نقره ونفرح به والجد والجدة لهما مسئولية وليس فقط مسئولية، بل أحياناً بعض المشكلات -يا إخوان- بعض مشكلات الجد والجدة يتقنان حلها في الأحفاد أكثر من الأبوين، وخصوصاً في قضية التعامل مع الولد، أحياناً إذا بلغوا استمالة الولد عن قرناء السوء ونحو ذلك، وأحياناً تكون العاطفة والعلاقة تجذب الولد عن شرور إلى جده وجدته فينبغي أن تغتنم هذه العلاقة بالتوجيه الجيد.
وأما إذا كان التدخل تدخلاً غير جيد من الجد والجدة وهذا يحدث ويقول: أبي يخرب عليَّ تربيتي لولدي، والبنت تقول: أمي تخرب علي تربيتي لولدي، فهنا ينبغي مراعاة الأمر؛ لأنه أب وأم، وهنا في هذه الحالة أحياناً قد لا يستطيع الأب أن يخطئ الجد أمام الحفيد، لكن إذا رجع إلى البيت حاول أن يتدارك الموضوع ويتلافاه، يعني: العملية عملية مداراة، لأن هذا أبوه وهذه أمة.(309/12)
خطورة مشاهدة الفضائيات
النقطة التي أشار إليها الأخ الكريم الذي اتصل من مكة، وهو في الحقيقة أثار نقاطاً مهمة جداً وخصوصاً أثر الفضائيات والبرامج المدبلجة والأشياء المترجمة، والأشياء الغربية، يعني: من حقوق الولد على الأب أن يجنبه الشرور، ولا أعظم من أن تضع له دشاً أو تضع له هذه الأطباق يا أخي! الآن أبلغونا أن بعض القنوات انفك تشفيرها، صارت قضية الزنا علانية، ثم ماذا نتوقع؟ أن يقع الأخ على أخته، ماذا نتوقع؟ أن يتجهوا إلى الفواحش، الجريمة الكبيرة في تركهم هكذا، ثم قال: أنا أعطيتهم كل المحتاج، أو وضعت جهاز تلفزيون لكل ولد في غرفة ووضعت هاتفاً لكل بنت في غرفتها، يعني: شاشة بهذه الطبق وهاتف وجوال.
إذاً ماذا نتوقع، إلى أين تتجه؟ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلكم راعٍ وكلكم مسئول) والله قال قبل ذلك: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] صار هذا لا يقي أهله ولا نفسه ناراً، هذا يجلب النار لنفسه ولأولاده، أنريد أن نتجه إلى الغرب بما فيه من القرف وجميع الرذائل؟! قننوا ستة عشر سنة إباحة الشذوذ، يعني إلى أين سنصل؟ لم يعد هناك خوف من الله، ولا مراقبة لله!! أين الذين يرجون الله واليوم الآخر؟(309/13)
قضية العدل بين الأبناء
بالنسبة لقضية العدل بين الأبناء؛ فإن هذه المسألة في غاية الأهمية؛ لأنها داخلة في التربية أيضاً والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بها: (اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم) أمر بها وكرر الأمر في ذلك.
ولما جاءه أب يقول: نحلت ابني غلاماً -وهبه عبداً- والأم طلبت أن أشهدك عليه يا رسول الله، اشهد لي يا رسول الله! قال: (أله إخوة؟ قال: نعم.
قال: أفكلهم أعطيت مثلما أعطيته؟ قال: لا.
قال: فليس يصلح هذا، إني لا أشهد إلا على حق) وفي رواية: (إني لا أشهد على جور) وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه جوراً، إنه ظلمٌ إذاً الذي يحدث هذا وقال: (أشهد على هذا غيري) ورفض أن يشهد، هذه قضية العدل بين الأولاد.
وهناك قصة لطيفة رواها البيهقي في شعب الإيمان: أن رجلاً كان جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم فجاء ابن له ذكر، فقبله وأجلسه في حجره، ثم جاءت ابنته -بنت نفس الأب هذا- فأخذها فأجلسها إلى جنبه.
إذاً الابن في حجره والبنت إلى جنبه، والابن قبله والبنت لم يقبلها بل أجلسها إلى جنبه فقط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فما عدلت بينهما) والحديث صححه الألباني رحمه الله.
السلف يستحبون العدل بين الأولاد حتى في القبلات، العدل مأمورٍ به يؤتى يوم القيامة مغلولاً يفكه عدله، أو يوبقه جوره وظلمه.
قضية العدل التي تجعل تسوية الأعطيات في العيديات موجودة، وللذكر مثل حظ الأنثيين على ما رجحه عددٌ من أهل العلم كـ ابن القيم رحمه الله تعالى، والتفضيل في الزيادة إذا كانت لسبب شرعي فلا بأس، هذا الولد تفوق في الدراسة، هذا الولد حفظ السور وما حفظها الآخر فيعطى جائزة والآخر لا يعطى، لكن لأجل السبب، لكن الأشياء التي ليس لها سبب لا يجوز فيها التفضيل وإعطاء واحد أكثر من الآخر قال: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) ويؤدي عدم العدل إلى الكره بين الإخوة، إلى عقد نفسية، إلى إتاحة الفرصة لأصدقاء السوء ليعطوا هذا الشخص المبخوس حقه ويجروه إلى عالم المخدرات والرذائل، قضية عدم العدل التي تسبب ألا يضروه، لا يضروا أباهم، ولذلك قال له في الحديث: (أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء؟) يبروك معاً.
وبعض الآباء -هداهم الله- يفاضلون بدون أسباب شرعية، فيقول: هذا يشبهني، فيعطيه زيادة، هذا يشبه أخواله هذا ليس تابعاً لنا، سبحان الله العظيم! ولكن يقول: هذا يطيعني يخدمني، ذاك لا يخدمني، هذا ليس سبباً للمفاوتة، بل المساواة تؤدي إلى أن الآخر يخدمك كما خدمك ذاك، وهكذا -أيها الإخوة والأخوات- ينبغي أن نتحرى العدل في أولادنا ذكوراً وإناثاً، ونسأل الله سبحانه التوفيق.(309/14)
حرمان الابن من الزواج بعد البلوغ
المقدم: الله يبارك فيك، ربما يتساءل بعض الأبناء يقول مثلاً: أصل إلى سن الزواج وأجد أن أبي لا يزوجني، بل ربما أنه زوج أخي الأكبر وتركني بحجة أنه نفذ المال وما عنده شيء، فهل فقهاً وشرعاً يجب على الأب تزويج ابنه؟ الشيخ: نعم، ذهب عدد من أهل العلم إلى أن الابن إذا خشي على نفسه الحرام فيجب على الأب أن يزوجه إذا كان الأب مقتدراً، إذا كان الأب مقتدراً والابن يخشى على نفسه الحرام يجب عليه أن يزوجه يجب، وعلى الأب إعفاف ابنه -هكذا نصه على ذلك- لكن طبعاً بعض الآباء الآن يقول يأتيه الولد ويقول: يا أبي! أنا أخاف الحرام، وأنا كذا وطبعاً العصر الذي نحن فيه لا يتحمل تأخير الزواج إطلاقاً، في الواقع الآن لا يتحمل التأخير إطلاقاً يقول: يا أبي أعطني يا أبي! زوجني، يقول: أنت ليس لك مصروف، ولا دخل، من أين ستنفق على نفسك؟! فإذا كان الابن يستطيع أن يدبر النفقة اليومية، فأنا أقترح أن الأب يتحمل النفقات الأساسية الكبيرة التي لا يطيقها الشباب والأولاد والأبناء في أول أمرهم في الغالب، فمثلاً: المهر، وليمة الزفاف فرش البيت، ثم يقول له: اشتغل واصرف على نفسك، حي وإذا لمس الأب -فعلاً- أن الابن يريد لكن ما وجد عملاً فإذا كان مقتدراً لماذا لا يعطيه مرتباً شهرياً، يعيش معه في البيت يأكل ما يأكلون منه ويشرب مما يشربون وصحيح أن الابن لا يجوز أن يعود على الاتكالية، وهذه المسألة كثير من الزوجات تقول: زوجي عالة على أهله زوجي لا يعمل زوجي كسلان زوجي شله البلوت زوجي سهرات في القهاوي، لماذا؟ أهله يصرفون عليه هذه المسألة تحتاج إلى علاج يمكن يهدده يقول: دبر نفسك!! نعم في هذه الحالة لكي يعمل، لكن عندما تلمس -مثلاً- ولداً متديناً يريد العمل ولم يجد وظيفة ساعده وأعطه.(309/15)
حق الابن في اختيار زوجته
المقدم: أحياناً ربما يرضخ الأب ويوافق ويقول: أنا سأزوجك، لكن ما في إلا بنت عمك، فما أدري هل هذا الشرط والقيد يستساغ شرعاً؟ الشيخ: هذه البنت ستعيش مع زوجها، أو هذا الابن سيعيش مع زوجته، الأصل في النكاح الاستدامة والدوام، فهل من الحكمة أن تزوجه امرأة لا يطيقها وسيجلس معها إلى آخر العمر؟ ليس من الحكمة لكن لو كانت البنت غير معيبة وجيدة، نعم ممكن أن تطلب منه أن يتزوج بنت عمه، قد تكون الأمور أيسر ولا يطلبون مهراً كثيراً بحكم القرابة، وتكون القضية ملمومة محدودة ما فيها إسراف ولا تبذير، فإذا كان يرغب نعم، وأما إذا كان لا يرغب، رآها فلم يردها، قال: أنا لا أطيق هذه البنت، فليس من الحكمة إطلاقاً أن تغصبه وربما يطلقها وربما رجعت لأهلها ومعها ولد أو ولدان، وليس هذا من الحكمة.(309/16)
حكم بعض الأسماء وأهمية متابعة الابن بعد زواجه
المقدم: هذا الأخ أبو مشاري من الباحة يريد أن يردنا إلى قضية الأسماء وأنا أعده أن أضع عن الأسماء -إن شاء الله- حلقة خاصة وقد سبق أني وضعت، يقول: هل يجوز التسمية بمثل هذه الأسماء: روز، جلنار وهي بمعنى: زهرة الرمان، كذلك مطحس وصحن ونجل ومرشوش وحطيف ومحجن يقول: كلها أسماء متداولة ومعروفة؟ هل ينتهي دورنا بتزويج أبنائنا؟ يقول: أنا لا دخل لي به أنا قمت بتزويج ابني، فماذا تريدون مني بعد ذلك، صار الولد رجلاً؟ الشيخ: أما بالنسبة للأسماء التي طرحها الأخ فهي تتفاوت، مثلاً: محجن غير حطيف، هذا حطيف من الأسماء القبيحة جداً يعني أن يسمى حطيفاً كيف يعيش؟ كيف ولد في الفصل ينادى عليه: حطيف تعال، حطيف اقعد، حطيف موجود، حطيف حاضر، بعض البنات لم تستطع أن تواصل في دراستها لأن اسمها وحش، بنت! هذه بنت يعني غداً عندما يتزوجها رجل والعلاقة بين الزوجين كيف يناديها، وحش!! ما هذه؟ ولذلك من القرارات الجيدة الجميلة التي اطلعنا عليها قرار بمنع التسمي بأسماء لكن طبعاً أناس يرتكبون خارج اللائحة، ولذلك الموظف يجب أن يكون حكيماً في هذه القضية وينصح، واحد ذهب يسمي ولده همام، قرر أن يسميه همام، في الطريق همام همام وصل الموظف قال الموظف: أيوه؟ نسي الاسم، قال: نريد أن نكتب وما تذكر إلا هيام، قال الموظف: أسرع خلفك أناس، قال: هيام، ولد اسمه هيام، ذكر اسمه هيام! فإذاً ينبغي على الموظف فعلاً هذه مسئولية الموظف الآن أنا أرى أنه يتحمل جزءاً من المسئولية أنه إذا رأى من الأسماء القبيحة هذه أن يرده يقول: ارجع اختار اسم آخر أما بالنسبة لقضية المتزوجين فلا تنتهي في نظري مسئولية الأب بعد تزويج الولد، بل عليه أن يتابع؛ لأن لديه خبرة، الآن هنا عامل الخبرة هناك فرق كبير، الأب عنده خبره في الحياة والابن ما عنده، والابن في أول الأمر ممكن مع زوجته تصير مشكلات تؤدي إلى أن تتفاقم وممكن يفكر في الطلاق بسرعة فالأب دوره دور المساندة يعني: التفقد والدليل على ذلك هذا الحديث أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: [أنكحني أبي عمرو بن العاص رضي الله عنه امرأةً ذات حسب فكان يتعاهد كنته] لاحظ الحديث، عمرو بن العاص يتعاهد كنته في فترة يمر هاه كيف ولدنا، كيف الأمور؟ هل ينقصكم شيء؟ [فيسألها عن بعلها، فتقول: نعم الرجل من رجل لم يطأ لنا فراشاً ولم يفتش لنا كنبا منذ أتينا] ما فتش عنا، فلما طال ذلك عليه، لماذا طبعاً؟ لأن عبد الله بن عمرو بن العاص منشغل بالعبادة، شاب نشيط في العبادة فكان منصرفاً عن شهوة النساء لأجل العبادة فأبوه لما طال الأمر ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم اشتكى للعالم -تدخل العالم مهم الآن- فقال: (القني به -شوف النبي صلى الله عليه وسلم إمام الأمة يريد أن يساهم في حل المشكلة، حل مشكلة- قال: القني به فلقيته بعده، فقال: كيف تصوم؟ قلت: كل يوم، قال: كيف تختم؟ قلت: كل ليلة -هذا الاجتهاد- فقال: صم في كل شهرٍ ثلاثة، واقرأ القرآن في كل شهر الحديث).
إذاً: الشاهد -أيها الإخوة والأخوات- الاهتمام بالولد بعد الزواج، أكمل المعروف يا أخي، أكمل من الإحسان.(309/17)
وقفة مع مشكلة العضل
المقدم: والحقيقة أن نحن الذين نخرب أبناءنا، كما في التدليل أو ترك المسئولية عند تزويجه، مشكلة العضل يا شيخ محمد، ماذا نقول فيها؟ الشيخ: أما بالنسبة لقضية العضل فإنها من الأمراض الاجتماعية المزمنة مع الأسف، العضل: الحبس، حبس البنت عن الكفء هذا هو العضل، أن يحبس الولي موليته عن النكاح بدون سببٍ شرعي، يأتي لها الكفء فيرده، قال بعض العلماء: إذا رد الكفء ثلاث مرات تسقط ولايته، ثم قال بعضهم: القاضي يزوجها، وقال بعضهم: ينقلها إلى الولي الذي بعده بترتيب الولاية، ينقلها إلى الولي الذي بعده ويزوجها، والله سبحانه وتعالى قد حرم العضلة وقال: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة:232] ولو كانت انفصلت عنه ثم أرادت أن ترجع إليه بعقد جديد؛ لأنها ما زالت الطلقة الأولى أو الثانية فلا يجوز له أن يقول: ما دام طلقك وأهانك ما لك رجعة، والدليل على ذلك أن معقل بن يسار كانت أخته تحت رجل، فطلقها ثم خلا عنها حتى انقضت عدتها ثم خطبها فحمي معقل -حمي يعني: جاءته النخوة الآن، جاءت النخوة كيف نطلقك ثم نعيدك إليه أبداً؟ - فقال: خلا عنها، وهو يقدر عليها ثم يخطبها!! أبداً فأنزل الله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة:232].
إذاً قضية العضل هذه قال بعض العلماء: إنها من الكبائر والشيخ رحمه الله في فتاويه قال: لا يصلي إماماً -العاضل- ويفسق، وترد شهادته، إنها قضية خطيرة، ولذلك بغض البنات تدعو على أبيها، بل عندي قصة أن بنتاً تأخرت في الزواج ومرضت مرضاً خطيراً على فراش الموت وخطر على بال الأب أن يستسمح البنت قال: سامحيني، قالت: الله لا يسامحك وماتت، وأخرى سامحت أباها عند وفاته، فالشاهد أن البنت التي تقول: بأي حق أحبس؟ ثم يتقدم السن ثم تتعدى سبعة وعشرين يقول: لا يهم فخذ القبيلة نكتفي أن يكون من بطنها، حتى تبلغ ثلاثين عاماً، ثم يقول: لا نسأل من بطون القبائل، بل نكتفي بالقبيلة، حتى تصل إلى سن الأربعين، ثم يقول: أي واحد ثم بعد ذلك يقول: كيف يتجرأ ويطرق بابي وهو ليس من قبيلة كذا، كيف يتجرأ يطرق، يا أخي! النبي صلى الله عليه وسلم زوج أسامة لمن؟ وتزوج هو من؟ يعني: يجب أن نفكر، صحيح أنك تختار من جماعتك، لكن إذا لم يوجد تبقى البنت حتى تصبح عانساً تتعرض للفتن والزنا! نسأل الله سبحانه وتعالى السلامة والعافية المقدم: الله يبارك فيك، وأحسن الله إليك، والحقيقة إن كان هناك من كلمة أختم بها فهو يجب على الآباء أن يتنبهوا بأن الأبناء قد يشبهوا زمانهم أكثر من شبههم بآبائهم وهذه كلمة عظيمة يقولها الفاروق عمر رضي الله عنه: [الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم].
لا يسعني إلا في هذه العجالة إلا أن أتقدم بالشكر الجزيل بعد شكري الله تعالى إلى صاحب الفضيلة الشيخ: محمد بن صالح المنجد إمام وخطيب جامع عمر بن عبد العزيز بـ الخبر ويمتد الشكر إلى مخرج هذه الحلقة الأستاذ هزاع الشيري وكافة زملائه الكرام لغة الإشارة الأخ الأستاذ عبد الرحمن الفهيد، تنسيق البرامج الدينية الأخ الأستاذ عبد الله السبيعي، إلى الملتقى بكم في حلقة قادمة أستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(309/18)
بطولات نادرة ترفع المعنويات
في هذه المادة قصص من البطولات والتضحيات لرجال باعوا أنفسهم لله جل وعلا، ومن أولئك الرجال: أنس بن النظر طارق بن زياد ابن فتحون ابن الجزري ألب أرسلان الذي باع ملك الروم بأبخس ثمن، وغيرهم ممن صدقوا ما عاهدوا الله عليه.(310/1)
شراء الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم
الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبعد: هناك آياتٌ عظيمة يخبر الله تعالى فيها أنه عاوض من عباده المؤمنين، فباع واشترى عن أنفسهم وأموالهم إذا بذلوها في سبيله بالجنة، وهذا من فضله وكرمه وإحسانه، قال الحسن رحمه الله: [بايعهم والله فأغلى ثمنهم] قال بعض السلف: ما من مسلمٍ إلا ولله عز وجل في عنقه بيعة وفىَّ بها أو مات عليها، ثم تلا هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة:111] فهذا هو المبيع {بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] وهذا هو الثمن: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة:111] وهذه شروط العقد: {وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة:111] وهذا الضمان لأجل العقد: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111] فلا أحد أوفى بعهده من الله، ثم طلب الاستبشار من المؤمنين: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111].
قال عبد الله بن رواحة للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة: (اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترطُ لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم، قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: الجنة، قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل، فنزلت: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة:111]) وقول الله تعالى: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة:111] أي سواءً قُتِلُوا أو قَتَلُوا، أو اجتمع لهم هذا وهذا، فقد وجبت لهم الجنة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تكفل الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا جهادٌ في سبيلي وتصديق برسلي، بأنه إذا توفاه الله أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى منزله الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجرٍ أو غنيمة).
وهذا البيع العظيم وصفه الله بالفوز العظيم، وعلى ذلك دارت رحى المعارك.(310/2)
بطولات وتضحيات خُلِّدت في التاريخ
قام المسلمون يبذلون أنفسهم في سبيل الله، وضرب الصحابة المثل العظيم للتضحية بالروح في سبيل الله، والهجوم على الأعداء، ونقض النحر للعدو، والانغماس في جيشهم، والقتال حتى الموت، حتى أن جثة أنس بن النضر لم تعرف إلا من بنانه فقط، أما بقية الجسد فقد صار أشلاء، وجدوا فيه أكثر من سبعين ضربةً من سيفٍ ورمحٍ وسهمٍ، معنى ذلك أنه ظل يقاتل ويقاتل بالرغم مما أصابه حتى تلاشى ذلك الجسد، وتحول إلى أشلاء في سبيل الله، وصار التابعون ومن بعدهم على هذا المنوال، وقدمت الأمة شهداء، وأثبتت أنها أشجع أمة في العالم، ولم يوجد فدائيون مثلما وجد في هذه الأمة؛ لأنه لا يوجد محرك عند غيرهم يحركهم للشهادة كما يوجد في هذه الأمة، وهذا أمرٌ واضح، وقضية مفهومة، وجود الباعث على الشهادة، أن الحياة ستنتهي وتمضي، وأنها لذة عابرة، فلماذا لا تنفق من أجل شيء ثمين باقٍ وهو الجنة، لأجل تلك السلعة ضحى المضحون بأنفسهم وأموالهم، وأثبت المسلمون الشجاعة الفائقة في الحروب، لقد ردت هذه الآية أشخاصاً عن الهزيمة، وشجعت أشخاصاً على تقديم الروح في سبيل الله، فكان قائد المسلمين يتلوها وهو ذاهب إلى ميدان المعركة، ومن صدق مع الله صدقه الله.(310/3)
طارق بن زياد ودخوله الأندلس
وقد دخل طارق بن زياد إلى الأندلس في ألف وسبعمائة رجل وقاتل جنود اللذريق ملك النصارى والذي جاءهم في تسعين ألف فارس يقاتلون المسلمين ثلاثة أيام واشتد في المسلمين البلاء فقال طارق: إنه لا ملجأ لكم بعد الله غير سيوفكم، أين تذهبون وأنتم في وسط بلادهم، والبحر من ورائكم محيطٌ بكم؟! وأنا فاعلٌ شيئاً إما النصر وإما الموت فقالوا: وما هو؟ قال: أقصد طاغيتهم -أي: ناحيته- فإذا حملت فاحملوا بأجمعكم معي، ففعلوا ذلك فقتلوا اللذريق وجمعاً كثيراً من أصحابه، وهزمهم الله تعالى، وتبعهم المسلمون ثلاثة أيام يقتلونهم قتلاً ذريعاً، ولم يقتل من المسلمين إلا نفر يسير.(310/4)
عبد العزيز بن زرارة وقتاله في سبيل الله
لما غزا المسلمون القسطنطينية سنة خمسين للهجرة جعل عبد العزيز بن زرارة يتعرض للشهادة، والتحمت الحرب، واشتدت المقارعة فشد على من يليه، وانغمس في جمهورهم؛ فشجرته العلوج برماحها، أي: اشتبك الجسد برماحهم، فاستشهد -رحمه الله- من كثرة رماح العدو في جسده واختلافها فيه.(310/5)
علي بن أسد يطلب الشهادة فينالها
علي بن أسد كان رجلاً مسرفاً على نفسه بالمعاصي، قتل حراماً، وصنع أموراً عظاماً، فمر ليلةً بـ الكوفة، فإذا برجل مسلم يقرأ القرآن في جوف الليل: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] فقال علي: أعد، فأعاد، ثم قال: أعد، فأعاد، ثم قال: أعد، فأعاد، فعمد فاغتسل ثم غسل ثيابه فتعبد حتى عمشت عيناه من البكاء، وصارت ركبتاه كركبتي البعير أي: من كثرة سجوده، فغزا في البحر وهو كهل يظن بأنه لا يذهب إلى الجهاد، فلقي الروم مع المسلمين فقال: لا أطلب الجنة بعد اليوم أبداً، هذا هو اليوم الذي أطلب فيه الجنة، فاقتحم بنفسه في سفنهم فما زال يضربهم وينحاز، ويضربهم وينحاز، عندما اقتحم السفينة جعل يضربهم فيهربون من موضعٍ إلى موضع، يخشون جرأته وبأسه وشجاعته؛ يقتل من يقتل، ويهرب الباقي إلى طرفٍ في السفينة، حتى انكفأت السفينة فانقلبت؛ فغرق وعليه أدراع الحديد فمات شهيداً في البحر يرحمه الله.
ورمى العدو جند المسلمين بالنصل فقال معاوية رضي الله عنه: [أما إذا فعلوها فافعلوا، فكانوا يترامون بها، فتهيأ روميٌ لرمي سفينة أبي الفادية من المسلمين -سفينة عليها قائد هو: أبو الفادية - جعل هذا الرومي نصلاً مشتعلاً في طنجرة ليرميه على سفينة المسلمين، فرماه أبو الفادية بسهمٍ فقتله قبل أن يقذف الطنجرة؛ وخرت الطنجرة المشتعلة في سفينة النصارى فاحترقت بأهلها وكانوا ثلاثمائة] فكان يقال: رمية كرمية أبي الفادية قتلت ثلاثمائة نفر.(310/6)
ابن الجزري وقتاله لعلج من النصارى
الحرب كانت بين الروم والمسلمين يوماً، وكان من النصارى رجلٌ مبارزٌ قال: يا معشر العرب! ليخرج منكم عشرون فارساً أبارزهم، فهابه الناس، وكان في عسكر المسلمين رجلٌ يعرف بـ ابن الجزري معروف بالنجدة، موصوفٌ بالشجاعة، فقال: أنا أخرج إليه وأستعين بالله عليه، وأعطي فرساً وسلاحاً فقال: لا أريد -أي: إلا ما معه- فانحدر بعد أن ودعه الرشيد ودعا له، ونزل معه عشرون فارساً ليودعوه، فلما صار في بطن الوادي قال الرومي: غدرتم يا مسلمون! طلبت عشرين فنزل واحدٌ وعشرون، فقالوا: ما يبارزك غير واحد، ونحن مودعوه وراجعون، فقال العلج: سألتك بالله أنت ابن الجزري؟ قال: نعم.
قال: كفء كريم، فرجع المسلمون، وتطاعنا حتى كلاَّ، واشتد الحر عليهما، والمسلمون والمشركون ينظرون إليهما فولى ابن الجزري كأنه منهزم فعطعط المشركون -أي: صاحوا إعجاباً- وضج المسلمون والعلج في أثره، ثم عطف ابن الجزري على العلج فجأة فاختطفه من سرجه، وما أوصله إلى الأرض إلا بعد أن حز رأسه عن جسده، فكانت مكيدة: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ} [الأنفال:16] فكبر المسلمون تكبيرة واحدة، وزجوا في القتال ففتح الله عليهم.(310/7)
ابن فتحون بطل من أبطال المسلمين
وكان ابن فتحون من أشجع المسلمين وكان المستعين يرى له ذلك المكان ويعظمه لشجاعته، حتى عرفت النصرانية بأسرها مكانته حتى أن النصراني كان إذا سقى فرسه فلم يشرب يقول له أصحابه النصارى: ما بك اشرب لماذا تخاف؟ اشرب أو رأيت ابن فتحون في الماء؟ فكان يضرب به المثل، فيخافه الأعداء، فغزا المستعين بلاد الروم، وتوافق المسلمون والمشركون صفوفه، فبرز علجٌ وسط الميدان ينادي هل من مبارز، فخرج إليه فارسٌ من المسلمين فتجاولا ساعةً فقتل المسلم؛ فصاح الكفار سروراً، وانكسرت نفوس المسلمين، ثم برز له آخر فقتل المسلم فجعل الرومي يكر بين الصفين ويقول: هل من مبارز واحد لاثنين؟! واحد لثلاثة؟! فضج المسلمون، فقيل للمستعين ما له إلا ابن فتحون، فدعاه وقال: ما ترى يصنع هذا العلج، قال: هو بعيني، قال: فما الحيلة فيه؟ قال أبو الوليد ابن فتحون: ماذا تريد؟ قال: أن يكفى المسلمون شره قال: الساعة يكون ذلك إن شاء الله، فلبس قميص كتان واسع الأكمام، وركب فرساً بلا سلاح، وأخذ بيده سوطاً طويل الطرف، وفي طرفه عقدة معقودة، ثم برز إليه، فعجب النصراني منه يخرج إليه دون سلاح ومعه هذا السوط فقط، فحمل كل منهما على صاحبه، فلم تخطِ طعنة النصراني سرج ابن فتحون، فتعلق ابن فتحون برقبة فرسه لما قطع سرجه، ونزل إلى الأرض ثم استوى على سرجه، وحمل على النصراني فضربه بالسوط على عنقه فالتوى السوط على عنق النصراني، فأخذه بيده فاقتلعه وجاء به إلى المستعين، فألقاه بين يديه.(310/8)
بطولات صاحب النقب
وهكذا لما حاصر المسلمون حصناً في إحدى غزواتهم فاستعصى على المسلمين، وكثر الأذى فيهم من رمي النصارى لهم، حتى قال قائلهم مسلمة بن عبد الملك: من يدخل النقب -وهو فتحة تلقى منها الفضلات والقاذورات- فإن كتبت له الشهادة فاز بالجنة، وإن كتبت له النجاة ذهب لباب الحصن ففتحه؟ فخرج رجل ملثم قال: أنا من سيدخل النقب، فدخل وكبر وقاتل، فسمع المسلمون صوته، فاقتحمه، فقاتل حتى وصل الباب ففتحه، وسمع المسلمون صوت التكبير فهجموا على الباب فدخلوا؛ ففتحوا الحصن؛ وانتهت المعركة على يد ذلك الرجل، ولكنه لم يعرف، فاشتهى مسلمة أن يعرفه ليكافئه، فنادى في جيش المسلمين بعد المعركة أين صاحب النقب؟ فلم يجبه أحد، فعاد الكرة فلم يجبه أحد، فقال في النهاية: إني أمرت حاجبي بإدخاله عليَّ حين يأتي، فعزمت عليه بما لي عليه من الحق -أي: الطاعة في الإمرة، حقي عليه الطاعة- فحلف عليه إلا أن يأتيه في أي وقت شاء من ليل أو نهار، فجاء رجل ذات ليلة إلى حاجب مسلمة، فقال: استأذن لي على الأمير، قال: أنت صاحب النقب؟ قال: أنا أخبركم عنه، فلما صار بين يدي مسلمة قال: إن صاحب النقب يشترط عليكم ثلاثاً: ألا تبعثوا باسمه في صحيفةٍ إلى الخليفة، وألا تسألوه من هو، وألا تأمروا له بشيء، قال مسلمة: فذلك له، فقال الرجل باستحياء: أنا صاحب النقب، اتقِ الله -يا مسلمة - أحرجتني فأخرجتني، ثم انطلق مسرعاً فلم يدر من هو، فكان - مسلمة - لا يصلي بعدها صلاة إلا دعا فيها اللهم اجعلني مع صاحب النقب يوم القيامة.(310/9)
عبد الله بن المبارك وجهاده
عبد الله بن المبارك رحمه الله كان من أولئك المجاهدين الذين كانوا لا يريدون أن يعرفوا في الغزو، مع شدة بلائهم في المعارك، فعن عبدة بن سليمان المروزي قال: كنا في سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم؛ فصادفنا العدو، فلما التقى الصفان خرج رجلٌ من العدو فدعى إلى البراز؛ فخرج إليه رجل فقتله، ثم آخر فقتله، ثم آخر فقتله، فصعب ذلك على المسلمين وشق عليهم، ودعى النصراني للبراز فخرج إليه رجل من المسلمين ملثم، خرج إليه رجل من المسلمين يتخفى، فطارده ساعة فطعن المسلم النصراني فقتله، فازدحم المسلمون على أخيهم يريدون أن يعرفوا من هو الذي أنهى هذا الطاغية، قال: فنظرت إليه فإذا هو عبد الله بن المبارك وإذا هو يكتم وجهه بكمه، فأخذت بطرف كمه فمددته فإذا هو هو، فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يشنع علينا؟!(310/10)
عبد الوهاب بن بخت وإقدامه في المعركة
وكذلك كان عبد الوهاب بن بخت رحمه الله لما انهزم الناس وانكشفوا جعل يكر على فرسه ويقول: ما رأيت فرساً أجبن منه، وألقى بيضته عن رأسه وصاح: أمن الجنة تفرون؟ يريد المسلمين، ثم تقدم في نحور العدو فمر برجل من المسلمين يقول: واعطشاه -يريد الماء- فقال عبد الوهاب: تقدم الري أمامك -إذا أردت الارتواء فإلى الأمام- يعني: في الجنة إذا قتلت، فخالط القوم فقتل وقتل فرسه.(310/11)
نبذة من بطولات القائد ألب أرسلان
وكان المسلمون مع قلة عددهم أمام الكفار يثبتون في معارك كثيرة، وكانت أكثر معارك المسلمين فيما مضى ضد النصارى، وحفظ التاريخ لنا موقفاً عظيماً لقائدٍ مسلمٍ سلجوقي تركماني هو ألب أرسلان الملك العادل أبو شجاع من عظماء المسلمين، خرج إليه طاغية الروم أرمانوت في جحافل أمثال الجبال، في نحوٍ من مائتي ألف مقاتل، لا يدركهم الطرف، ولا يحصرهم العدد، كتائب متواصلة، وعساكر متزاحمة، كلما مر ببلدٍ من بلاد المسلمين أقطعها بطارقته وقال: هذه لك يا فلان، وهذه لك يا فلان، يوزعها عليهم حتى وزع بغداد عاصمة الخلافة، وقال للنصراني الذي وهبه البلد هو يأمل أن ينتصر فيوزع البلاد كما وعد وقال لمن جعل له بغداد: استوصِ بالخليفة خيراً، استوصِ بالشيخ، ارفق بذلك الشيخ -يزدري المسلمين- فخرج إليه ألب أرسلان رحمه الله في خمسة عشر ألف فارس فقط، فقال لجنده: أنا صابرٌ في هذه الغزاة صبر المحتسبين، وملاقيهم وحسبي الله عز وجل، فلما التقى الجمعان، ورأى ألب أرسلان كثرة جند الروم، ورأى ما يحير الألباب، ويطير الصواب؛ فأرسل يطلب الهدنة، وفي النهاية عزم على القتال، وكان اليوم يوم جمعة، يريد أن تكون المعركة يوم الجمعة لالتماس دعاء الخطباء، فلما زالت الشمس صلى وقال: ليودع كل واحدٍ صاحبه، فودع كل واحد من جيش المسلمين صاحبه، وتواعدوا على الموت، ولما تواجه الفريقان، نزل السلطان فصلى وسجد لله وعفر وجهه في التراب، ودعا واستنصر، وابتهل وتضرع، وبكى ثم قال: يا أمراء! من أحب أن ينصرف فلينصرف فما هاهنا سلطان يأمر، ولا عسكرٌ يؤمر، فإنما أنا اليوم واحدٌ منكم، وغادٍ معكم، فمن تواضعه لله أعلن تخليه عن الملك في ميدان المعركة تواضعاً لملك الملوك، قالوا: نحن معك تبعناك وأعناك فافعل ما تريد، فلبس الكفن الأبيض وتحنط -أي: وضع من الطيب ما يوضع للميت- ثم قال: إني عازمٌ على الحمل فاحملوا معي، فحملوا معه حملةً صادقة، فوقعوا في وسط العدو فألقى الله في العدو الرعب، فجعلوا يقتلون منهم كيف شاءوا، فلم ينج من النصارى إلا شريدٌ أو أسير، وأنزل الله نصره على المؤمنين، وأسر طاغية الروم أرمانوت، أسره مملوكٌ من مماليك المسلمين، فلما جيء به إلى ألب أرسلان وفي عنق النصراني حبل ملك النصارى، وقائد الجيش الذي كان يوزع بلاد المسلمين وهو يسير إلى المعركة جيء وفي رقبته حبل، فقال: ما تصنعوا بي؟ قال ألب أرسلان: ما تظن أني صانعٌ بك؟ قال: لا أشك أنك تقتلني، قال: أنت أقل في عيني من أن أقتلك، اذهبوا به فبيعوه، فطافوا به جميع العسكر والحبل في عنقه ينادى عليه بالدراهم والفلوس فما يشتريه أحد من المسلمين، حتى انتهوا في آخر العسكر إلى رجل من المسلمين قال: إن بعتمونيه بهذا الكلب الذي معي اشتريته، فجاءوا بالجندي ومعه الكلب الثمن، وبملك النصارى إلى ألب أرسلان مجروراً بالحبل، فأخبروه بأن هذا يريد شراءه بالكلب، فقال ألب أرسلان: الكلب خير منه؛ لأنه ينفع، وهذا لا ينفع، لكن خذوا الكلب، وادفعوا له هذا الكلب، ثم أمر بعد ذلك بإطلاقه وجعل الكلب قريناً له مربوطاً في عنقه وأوصله إلى بلاده؛ فلما رأى الروم ما حل بملكهم عزلوه عن الملك وكحلوا عينيه -أي: غوروهما وأذهبوهما- بعد أن رأوا أنه لا يساوي شيئاً، وهكذا كان حفظ الله للمسلمين عظيماً.(310/12)
أبطال من جيش صلاح الدين
سرى سنقر من جيش صلاح الدين كان شجاعاً يقتل من أعداء الله، ويفتك فيهم، وفيه نكايةٌ عظيمة في النصارى، فمكروا به وتجمعوا له، وكمنوا له، وخرج إليه بعضهم وتراءوا له -أي: إغراءً- فحمل عليهم سرى سنقر رحمه الله حتى صار بينهم فوثب عليه بقية الكمين وأمسكوا به، وأخذ واحدٌ بشعر المسلم ورفع الآخر سيفه ليضرب رقبة المسلم؛ لأنه كان قد قتل قريباً له، فأراد الله أن تقع الضربة في يد الماسك بشعره فقطعت يده؛ فاشتد يعدو حتى عاد إلى أصحابه المسلمين، وأعداء الله يشتدون خلفه فلم يدركوه.
ومرةً من المرات في قتال صلاح الدين مع النصارى قال بعضهم لما طال القتال: إلى كم يتقاتل الكبار، وليس للصغار حظ؟ نريد أن يصطرع الصبيان، صبيٌ منا وصبيٌ منكم، فأخرج المسلمون صبياً منهم، وأخرج النصارى صبياً منهم، واشتد الحرب بين الصبيان، فوثب الصبي المسلم على الكافر فجأةً فاختطفه ورفعه وضرب به الأرض وقبضه أسيراً، وأخذه يشتد به، فلحقه الإفرنج يشترونه، فباعه بدينارين فأطلقه، وكانت تلك من نوادر المعركة.
وكانت أقدار الله عز وجل حافلةً بالأمور العجيبة في جهاد المسلمين، فجهاد المسلمين الصادقين عجائب وملاحم وأمور عظام، وكان في المسلمين في عهد صلاح الدين رجل يستعمل ما وهبه الله من البراعة في الغطس لنصرة دين الله، كان يقال له: عيسى العوام، وفي حصار عكا كان هذا الرجل يأخذ نفقات من الذهب للمسلمين، وخطابات توجيهية وعسكرية من صلاح الدين فيغوص بها قبل مراكب النصارى ثم يخرج بعد أن يغطس من الجانب الآخر إلى ساحل البلدة المحاصرة فيسلم ذلك، فخرج مرة وقد شد على وسطه ثلاثة أكياس فيها ألف دينار وكتبٌ للعسكر، وعام في البحر، فقدر الله أن يجري عليه ما أهلكه فأبطأ الخبر، وكانت عادته أنه إذا دخل البلد طار طيرٌ يعرفهم بوصوله، فأبطأ الطير؛ فاستشعر المسلمون هلاك الرجل، ولكن بعد أيام بينما الناس على طرف البحر ينتظرون قذف إليهم البحر ميتاً غريقاً فافتقدوه فوجدوه عيسى العوام، ووجدوا على وسطه الذهب وشمع الكتب، وكان الذهب نفقة للمجاهدين، فما رُؤي من أدى الأمانة في حال حياته وبعد وفاته إلا هذا الرجل في ذلك الموقف.
كانت تلك جولة في عالم الجهاد وفي معارك المؤمنين، وكيف صدقوا مع الله عز وجل وباعوا واشتروا: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111].
عباد الله إننا نتضرع إلى ربنا في هذا اليوم أن ينصر المجاهدين، وأن يعلي كلمة الدين، وأن يخذل المشركين، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
أقول قولي هذا وأستغفر الله، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(310/13)
بطولات من أرض المقدس
الحمد لله وحده، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها الإخوة لا أكتمكم أن مما بعث على النظر في هذه البطولات، والإتيان بها، والتفكير فيها قصة ذلك المسلم الفلسطيني العجيبة التي حدثت في الساعة السادسة وأربعين دقيقة من صباح الأحد الماضي، عندما قام ذلك القناص المسلم بفتح النار على حاجز عسكري إسرائيلي من جهة الشمال من مدينة رام الله وقريبة من مستوطنة عوقرا، لتسفر العملية عن قتل عشرة من اليهود، وإصابة ستة، ثلاثة منهم جراحاتهم خطيرة، أصيبت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بعدها بالذهول في أعقاب التحقيق الذي أجراه الجيش، إذ تبين أن الذي نفذ عملية الإطلاق قناص واحد استخدم بندقية قديمة من طراز كارين، وحتى التحقيق فإن هذا المجاهد المسلم قد أطلق خمس عشرة طلقة بمعدل طلقة كل دقيقة بحيث أن إطلاق خمس عشرة رصاصة أسفرت عن مقتل وإصابة خمسة عشر جندياً ومستوطنٍ يهودي.
ونقلت إذاعة إسرائيل باللغة العبرية عن عدد من المستوطنين الذين كانوا في مكان الحادث ونجوا من الإصابة أن ذلك المسلم الذي اعتلى رأس تلة تشرف على الحاجز بـ وادي الحرامية، الذي يمر به الشارع الذي يربط جنوب الضفة الغربية بشمالها، فأطلق رصاصتين أولاً على جنديين كانا في الحاجز فقتلهما فوراً، ثم أطلق ثلاث رصاصات على سيارة للمستوطنين فقتل الثلاثة الذين كانوا بداخلها، ثم توقف، فلما جاء البقية لإسعافهم شرع مرة أخرى يطلق النار عليهم حتى نفذت ذخيرته، واستمرت العملية عشرين دقيقة، وقتل أربعة آخرين، وأصيب البقية الجرحى، ثم قام ومشى على قدميه، واختفى في الجبال المحيطة بالحاجز.
إنها عملية عجيبة، ذكرتنا -فعلاً- بتلك القصص التي كانت في ماضي هذه الأمة، التي أحدثت جرحاً غائراً في معنويات اليهود، وكانت فضيحة كبيرة، وعاراً على القوات اليهودية، إن ذلك يذكرنا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من بلغ بسهم في سبيل الله فهو له درجة في الجنة) رمى بسهم في سبيل الله بلغ العدو أصاب أو أخطأ المهم أن يبلغ العدو فهو له درجة في الجنة، أبو نجيح السلمي لما سمع الحديث قال: بلَّغتُ يومئذٍ ستة عشر سهماً، ماذا لدى المسلمين من القوة؟ ماذا لديهم من الإمكانات؟ يقارعون الدبابات، والأباتشي، والإف ستة عشر بالبنادق والرشاشات، هذا ما لديهم، لكن إذا صدقوا مع الله تأتي نتائج عجيبة لا تخطر بالبال.
من الذي يخطر بباله أن تقع مثل هذه العملية؟ إنها شيء من الأحلام، هذا رجل يقتل كل هؤلاء ثم ينفذ بجلده ويسلم إنه شيء عجيب! لو صدق المسلمون مع الله فماذا ستقع من المصائب على رءوس اليهود وغيرهم من أعداء المسلمين؟ ثم هؤلاء اليوم يفعلون الأفاعيل بإخواننا، ويستهدفون طواقم الإسعاف، وصبية المدارس، ويقتل أكثر من مائة وخمسين تلميذاً داخل المدارس وحولها في المدة الأخيرة، وفي الأيام الأخيرة معدل القتل في المسلمين إحدى عشر قتيلاً يومياً، هذا في الأيام الأخيرة؛ لأن الكلب شارون يريد أكبر عدد من القتلى في المسلمين، وهذه الأمة المسكينة المغلوبة الضعيفة فيها من روح البذل والفداء، وفيها أمثلها، واتصال بالماضي، وفيها بقية من خير نريده أن يتعاظم، فيها بقية خير لا بد أن يكثر ليتحقق النصر، والنماذج التي نراها أدلة واقعية على تحقق النصر لو صدق المسلمون مع الله، وعلى أن الله يسدد عباده، وعلى أن الله عز وجل يرمي {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] ويبلغ العدو رصاص المسلمين.
عباد الله: لا زلنا مع إخواننا قلباً وقالباً، ونسأل الله تعالى أن ينصرهم على عدوهم، وأن يجمع كلمتهم على الحق، وأن يهديهم سبل السلام، ويخرجهم وإيانا من الظلمات إلى النور، وأن يجعلنا من المجاهدين الصادقين العاملين لدينه، الناصرين لشريعته.
اللهم ثبت أقدام إخواننا المسلمين، وانصرهم على القوم الكافرين، اللهم ألف بين قلوبهم، وسدد رميتهم، اللهم أيدهم بنصرك وكن معهم ولا تكن عليهم، وانصرهم ولا تنصر عليهم، اللهم أيقظ في قلوب المسلمين الحمية لجهاد اليهود، واجمع كلمة المسلمين على قتال إخوان القردة والخنازير، يا سميع الدعاء! اللهم كن مع إخواننا في الهند يا رب العالمين.
اللهم صبرهم على ما أصابهم، اللهم ارزقهم الصبر على مصابهم، اللهم اجبر مصابهم يا رب العالمين! اللهم اخذل أعداء الدين، واجعل بأسهم بينهم يا رب العالمين! اللهم اجعل تدميرهم في تدبيرهم، اللهم احصهم عددا، واقتلهم بددا.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(310/14)
تتمة نواقض الإيمان [1 - 2]
إن الله سبحانه وتعالى خلقنا لعبادته، وأمر بتوحيده، وحذر من الوقوع في الشرك بأي شكل من أشكاله، ومع ذلك ترى أناساً في هذه الأمة يأتون بأمور تناقض هذا الدين وتنافي التوحيد، وقد تطرق الشيخ في هذه المادة بشيء من البسط إلى نواقض الإيمان.(311/1)
إقامة الحجة في باب التكفير
قال تعالى: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:99].
القسم الثاني: وانظر التقسيم الدقيق لـ ابن القيم رحمه الله لقضية أتباع طريقة كفرية ما.
أولاً: الجهال بدينهم ثانياً: المتمكن من السؤال وطلب العلم ومعرفة الحق، ولكنه يترك ذلك اشتغالاً بدنياه ورئاسته ولذته ومعاشه وغير ذلك، فهو مفرط مستحق للوعيد آثم بترك ما وجب عليه من تقوى الله، فهذا حكمه حكم أمثاله من تاركي بعض الواجبات، فإن غلب ما فيه من البدعة والهوى على ما فيه من السنة والهدى ردت شهادته، وإن غلب ما فيه من السنة والهدى قبلت شهادته، ولاحظ ما قاله فلم يقل: عرف الحق ورفض لا.
إنما قال: يتمكن من البحث والتعلم، يتمكن عنده كتب، عنده مصادر، عنده مشايخ، عقل، لكنه ترك البحث في الحق وعن الحق وقال: أنا أقلد هذا وأنتهي لماذا ترك البحث والتعلم؟ للاشتغال بالدنيا، وهذا فاسق.
القسم الثالث: أن يسأل -انظر كل الكلام عن الأتباع- ويطلب ويتبين له الهدى ويتركه تقليداً أو تعصباً أو بغضاً أو معاداةً لأصحابه، فهذا أقل درجاته أن يكون فاسقاً، وتكفيره محل اجتهاد وتفصيل.
فمما سبق يتبين لنا إعذار الأئمة لمن وقع في الكفر تقليداً إن كان جاهلاً لا بصيرة له ولا فقه، أما من كان قادراً على فهم الحجة وفرط في طلبها فإنه يأثم، ولكنه لا يكفر إلا بعد قيام الحجة عليه.
وقد قلنا سابقاً: إن قيام الحجة مسألة نسبية، وإنها تختلف باختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة والوسائل، وقلنا: بعض البلدان قد يكون فيها مقرر التوحيد في المدرسة الابتدائية والمتوسطة والثانوية على جميع الطلاب والطالبات مأخوذ من الكتاب والسنة، قائم على الطريقة السلفية الصحيحة، ومفند للمذاهب الباطلة، مثل مقرر التوحيد الموجود عندنا الآن هنا هذه إذا كان أهل البدع قد درسوها وعرفوا ما فيها وعندهم عقول، فبعض المقررات الدراسية قد تكفي في إقامة الحجة عليهم، بينما بلدان أخرى يمكن أن يقرر عليه الكفر ولا يدري، يقول: هذا هو العقل.
وكذلك هناك وسائل -مثلاً- يمكن الآن في الإنترنت إقامة الحجة على أناسٍ في أقصى العالم لا يمكن للإنسان إقامة الحجة عليهم من قبل، أنت الآن ممكن أن تقيم الحجة على شخصٍ ما في نيودلهي أو البرازيل أو الأرجنتين أو أستراليا وفي آخر الدنيا، يمكن أن تقيم عليه الحجة في الإنترنت.
إذاً هناك وسائل وأشياء من الممكن أن تستعمل في إقامة الحجة، وقلنا: الدعاة مطلوب منهم جداً قضية الاشتغال بإقامة الحجة؛ لأن الله يريد إقامة الحجة على الناس {لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] واشتغال الدعاة بذلك تحقيق مقصد شرعي ومطلب رباني من الأمة أن تقوم بإقامة الحجة على الخلق ويكونوا شهداء على الناس.
وبعد أن عرفنا موانع التكفير ندخل الآن في المكفرات (نواقض الإيمان) في الكفر بأنواعه، والشرك بأنواعه، ونتحدث عن هذه القضايا العظيمة.(311/2)
من نواقض الإيمان: كفر الجحود والتكذيب
كفر الجحود والتكذيب وكذلك الاستحلال أمر معلوم تحريمه من الدين بالضرورة.
أما مسألة: كفر الجحود والتكذيب من جهة، والاستحلال والإنكار من جهة أخرى فلعل التفريق بين هذا وهذا ليس بكبير، ولذلك من المحال أن تجد هذا في كلام الأئمة.
قال الإمام ابن بطة رحمه الله: "فكل من ترك شيئاً من الفرائض التي فرضها الله في كتابه أو أكدها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته على سبيل الجحود لها والتكذيب بها فهو كافر بين الكفر".
وقال القاضي عياض: "وكذلك نقطع بتكفير كل من كذب وأنكر قاعدة من قواعد الشرع وما تواتر، كمن أنكر وجوب الصلوات الخمس".
وكذلك يقول ابن قدامة رحمه الله: "وأما إذا كان الجاحد لها ناشئاً -هذا الكلام على فريضة الصلاة- في الأمصار بين أهل العلم فإنه يكفر بمجرد جحودها" لا يقال: عندك علماء عندك عذر.
كما أسلفنا وقلنا: إنسان نشأ بين مسلمين، خطباء، وأئمة، وكتيبات، وأشرطة، ومطويات، وإذاعة القرآن الكريم، والدعاة إلى الله يتكلمون، ويدرس التربية الإسلامية في المدارس، ثم يأتي يقول: أنا ليس عندي علم أن الصلوات الخمس واجبة؟ ونقول: معذور بجهله؟ لا يمكن أبداً.
على أنه أيضاً -أضيف نقطة- بعض الذين ينشئون في الطبقات في بعض البلدان والمجتمعات ربما لا يمرون على ما يمر عليه غيرهم من عامة الناس من جهة التعرض للعلم والمعلمين، فيمكن أن يكون معزولاً تماماً بمربٍ أو مربية في بيئة محاصرةٍ لا يصل إلى سمعه الدين بالشكل الصحيح، أو بعض تفاصيل الدين بالشكل الصحيح؛ ولذلك قضية إطلاق التكفير قضية اجتهادية، تقول: فلان أقيمت عليه الحجة أو لم تقم عليه الحجة؟ أنت ممكن أن تقول: أقيمت.
وأنا ممكن أن أقول: ما أقيمت.
أنت ممكن أن تقول: والله وصلت إليه، وغالب الظن أنه سمع، معقول هذا ما سمع؟! وأنا أقول: والله إن كان سمع قد يكون سمع بشكل مشوه، لا نعلم يقيناً أن أحداً ناقشه أو كلمه أو أقام عليه الحجة.
وهذا يقول: لا، أكيد الآن في الآفاق العلم منتشر في بعض البلدان، وإن كان قليلاً، فيه نشر كبير واضح للدعوة، أكيد أنه سمع وعرف، وأين يعيش هذا؟ معزول بالمرة؟ لا يصلي الجمعة؟ لا يسمع من الخطباء؟ فالقضية إذن قد يكون فيها خيار في الاجتهاد بالتكفير هل أقيمت الحجة أم لا؟ وهناك قضايا واضحة لا ينبغي النقاش فيها.
قال ابن قدامة في مسألة جاحد الصلاة: "وأما إذا كان الجاحد لها ناشئاً في الأمصار وبين أهل العلم فإنه يكفر بمجرد جحوده".
ثم قال: "ومن اعتقد حل شيء أُجمع على تحريمه، وظهر حكمه بين المسلمين، وزالت الشبهة فيه للنصوص الواردة فيه كلحم الخنزير".
ما هي الشبهة لو قال شخص عنده شبهة في لحم الخنزير؟ وقد تذكرت رجل عنده شبهة في لحم الخنزير قال لشخص: لحم الخنزير الآن ليس بحرام.
قال: نعم! لماذا؟ قال: لحم الخنزير كان حراماً في الماضي؛ لأنه كان يأكل القاذورات، أما الآن فالخنزير أكله نظيف، فليس بحرام.
وهذا من الاستهزاء أصلاً، يعني: يصعب أن تقول: إن هذا عنده عذر فعلاً، قاذورات وما قاذورات، أنت أمامك نص: لحم الخنزير حرام، حتى لو يأكل جوافة ودرر.
فإذاً: يقول كما قال ابن قدامة رحمه الله: "وزالت الشبهة فيه للنصوص الواردة فيه كلحم الخنزير والزنا وأشباه هذا مما لا خلاف فيه كفر".
إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.(311/3)
الفرق بين التكذيب والجحود
لو قال إنسان: ما هو الفرق بين التكذيب والجحود وبين الاستحلال والإنكار؟ فيمكن أن يقال: إن التكذيب أعم من الجحود، إذ الجحود يكون باللسان، والتكذيب يكون بالقلب واللسان والعمل، فيقال: كل جحود تكذيب وليس كل تكذيب جحود، لكن كلها كفر، هذا كفر وهذا كفر، ولكن ليعلم أن ما يقولون من كفر التكذيب وكفر الجحود، قلنا: إن بعض التفريقات فنية، يعني: تسمية اصطلاحات وتقسيمات فنية؛ لتسهيل الفهم وإلا قد تكون النتيجة واحدة، لكن لتسهيل الفهم.
قال الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله: أنواع الكفر لا تخرج عن أربعة: كفر جهل وتكذيب، وكفر جحود، وكفر عناد واستكبار، وكفر نفاق.
وقال -أيضاً-: وإن انتفى تصديق القلب مع عدم العلم بالحق فكفر الجهل والتكذيب، قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس:39] وإن كتم الحق مع العلم بصدقه، فهذا كفر الجحود والكتمان، قال الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14] والجحود كثيراً ما يقترن بالعناد.(311/4)
تعريف كفر الاستحلال
وبعد أن عرفنا التكذيب والجحود، فما هو الاستحلال؟ هو: اعتقاد أن الله لم يحرم شيئاً حرمه تعالى، واعتقاد أن الله أباح الشيء الذي حرمه الله عز جل، فهذا إذاً كفر اعتقادي مختص في مخالفة النواهي باستحلالها.
ونذكر هنا: أن الإنسان قد يكفر باستحلال الحرام حتى لو لم يعمله، فلو قال: أنا أعتقد أن الزنا حلال وأنا ما زنيت ولا مرة.
فنقول: أنت كافر ولو لم تزنِ ولا مرة.
وذاك الذي زنا وهو معتقد بتحريم الزنا لا يكفر، وإنما مرتكب كبيرة، مستحق للعذاب لكنه لا يكفر.(311/5)
تعريف كفر الإنكار
وأما الإنكار فهو يقابل المعرفة كما أن التكذيب يقابل التصديق، وأما كلام الأئمة حول كفر الجاحد والمكذب والمنكر فقد أجمعوا على كفر من أنكر فريضةً من الفرائض الظاهرة المتواترة، أو كذب حكماً من أحكام الله الظاهرة المتواترة، وكلامهم هذا منتشر في كتب العقائد والأحكام.
وطرح هذه القضية في هذا الزمان مهم جداً جداً؛ لأن سوق التكذيب والجحود الآن، وسوق استحلال الحرام ومعاندة الله في أحكامه سوق رائجة، وأصبح إعلان الكفر -الآن- على الملأ في الروايات والكتب وغير ذلك أمر مشاهد وهذا شيء كبير وخطير، فلا بد من توضيح قضية أنواع الكفر للناس؛ لأنهم قد يسمعونها صباحاً ومساءً، كالذي ينكر تحريم الربا وغيره من الأحكام، والمسألة الآن مسألة لها أهمية بالغة.
قال القاضي عياض رحمه الله: ونقطع بتكفير كل من كذب وأنكر قاعدة من قواعد الشرع، وما عرف يقيناً بالنقل المتواتر من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، ووقع الإجماع المتصل عليه كمن أنكر وجوب الصلوات الخمس أو عدد ركعاتها وسجداتها.
وقال -أيضاً-: وكذلك من أنكر القرآن أو حرفاً منه أو غيَّر شيئاً منه أو زاد فيه، وكذلك من أنكر شيئاً مما نص فيه القرآن بعد علمه أنه من القرآن الذي في أيدي الناس، وهو صاحب المسلمين، ولم يكن جاهلاً به، ولا قريب عهد بالإسلام، وكذلك من أنكر الجنة أو النار أو البعث أو الحساب أو القيامة، كافر بإجماع النص عليه وإجماع الأمة على صحة نقله متواتراً.
وكذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ومن جحد وجوب بعض الواجبات الظاهرة المتواترة أو جحد تحريم بعض المحرمات الظاهرة المتواترة كالفواحش وظلم الخلق والميسر والزنا وغير ذلك، أو جحد حل بعض المباحات الظاهرة المتواترة كالخبز واللحم والنكاح، فهو كافر مرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
إذاً: لو جحد تحريم الزنا أو جحد حل الخبز يكفر.
أيها الإخوة: إن القضية ليست قضية أكل الخبز واللحم، يعني: هذه المسألة مسألة مبدأ: أن الله أحل هذا أم لا؟ بغض النظر ما هو الخبز، فإذا جاء إنسان وقال: لا، حرام.
هذا معاند، ومكذب لله، الله يقول: حلال.
ثم يأتي ويقول: حرام.
إذاً: هذا كافر، فليست القضية قضية خبز ولحم، فالقضية قضية المعاندة وإنكار الأحكام الشرعية، والإصرار على مضادة حكم الله ورسوله، وهذا التكذيب يكفر من هذا الباب.(311/6)
أنواع كفر الجحود
قال ابن القيم رحمه الله: وكفر الجحود نوعان: كفر مطلق عام، وكفر مقيد خاص.
فالمطلق: أن يجحد جملة ما أنزله الله، كأن يقول: كل هذه الشريعة لا تصلح، هذا تخلف، وهذه شريعة زمان مضى، والآن الناس طلعوا القمر وهذه تقال كثيراً، وتجد أصحاب الأدب المعاصر وغيرهم يصرخون: الشريعة موضة قديمة، انتهت.
فكفر الجحود نوعان: كفر مطلق عام، وكفر مقيد خاص.
فالمطلق: أن يجحد جملة ما أنزله الله، أو يجحد إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم، يجحد السنة كلها والقرآن.
والخاص المقيد: أن يجحد فرضاً من فروض الإسلام أو تحريم محرم من محرماته أو صفة مما وصف الله بها نفسه أو خبراً أخبر الله به، عمداً أو تقديماً لقول من خالفه عليه لغرض من الأغراض كأن يأتي إنسان ويختار شيئاً من الإسلام ويقول: هذا أنكره أنا من رأيي.
أو يقول: متابعةً للشيخ الفلاني: أو لفلان الفلاني أو لأي غرض من الأغراض.
وكفر من استحل المحرمات الظاهرة المتواترة قضية خطيرة جداً كما قال القاضي عياض رحمه الله: "وكذلك أجمع المسلمون على تكفير كل من استحل القتل أو شرب الخمر أو الزنا مما حرم الله بعد علمه بتحريمه كأصحاب الإباحة من القرامطة وبعض غلاة المتصوفة ".
وقال ابن قدامة رحمه الله: "من اعتقد حل شيء أجمع على تحريمه، وظهر حكمه بين المسلمين، وزالت الشبهة فيه للنصوص الواردة فيه كلحم الخنزير والزنا وأشباه هذا مما لا خلاف فيه كفر" لكن الأئمة وإن قالوا: إن مستحل الكبائر كافر، لم يقصروا التحريم على مستحل الكبائر فقط، بل لو استحل من الصغائر ما تواتر النقل في تحريمه يكفر.
ولذلك قال صاحب نهاية المحتاج فيما يوجب الردة: أو كذَّب رسولاً أو أحل محرماً بالإجماع وقد علم تحريمه من الدين بالضرورة، ولم يجز خفاؤه علينا كالزنا واللواط وشرب الخمر، أو نفى مشروعية مجمع على مشروعيته معلوماً ولو نفلاً كالرواتب.
إنسان يعرف أن الله شرع الرواتب فليس فيها نقاش فيجحد مشروعيتها يكفر، فالآن لا تنظر قضية كبائر وصغائر، وقضية مستحبات وواجبات، قضية مبدأ: أن الله شرع هذا، شرعه مستحباً أم واجباً وحلله أم حرمه؟ في عبادة أو في قضية خبز ولحم؟ مبدأ المضادة والمعاندة لله.
وكصلاة العيد، لو أن إنساناً أنكر صلاة العيد وهو يعلم أنها مستقرة في الشريعة تماماً، ولو كانت صلاة العيد غير واجبة على قول الجمهور يكفر، كما صرح به البغوي.
ولا بد أن نعلم أن المتواتر على نوعين: أولاً: ما علمه العامة مع الخاصة كمثل كلمة التوحيد وأركان الإسلام فيكفر جاحده مطلقاً؛ لأنه قد بلغه التنزيل.
ثانياً: ما لم يعرف تواتره إلا الخاصة وهناك أحكام في المواريث نقل فيها التواتر، لكن لا يعرفها العامة، فلو أنكرها العامي وهو لا يعلم أنها متواترة فلا بد من التفريق، فقضية التكفير ليست سهلة.
وما لم يعرف تواتره إلا الخاصة، فلا يكفر مستحله من العامة؛ لأنه لم يبلغه، وإنما يكفر من استحله وهو يعلم حرمته بالضرورة، مثل: تحريم الصلاة على الحائض إلى غير ذلك من الأمثال الكثيرة فهذا بين التواتر لا يكفي وإنما لا بد أن يكون العامي أو الشخص الذي ينكر يعلم أنه متواتر، ويعلم أنه شيء مستقر في الشريعة، وليس عنده شك أنه مشروع وموجود في الدين، ولذلك أمور الإسلام الظاهرة التي يشترك في معرفتها الخاص والعام كالصلاة مثلاً فهذا من أنكرها فهو كافر.
لكن لو جاء إنسان وجحد أن بنت الابن تستحق السدس مع البنت، أو جحد تحريم نكاح المعتدة وهو لا يعرف، وهذه مجمع عليها في الشريعة ومتواترة، لكنه أنكرها، فليس بكافر.
وخلاصة ما سبق: أن من أنكر أو جحد أو كذب خبراً من الأخبار الظاهرة المتواترة كالإيمان بعذاب القبر أو بوجود الجن -وليس تلبس الجني بالإنسي، فلو قال: الجن ليسوا موجودين، أنا أنكر وجود الجن.
معناه أنه مكذب بسورة الجن وبسورة الرحمن وسورة طه، وقد قاله الله -أيضاً- في الأحقاف، إذاً: المسألة أنه يكذب بما قال الله- كالإيمان بعذاب القبر أو بوجود الجن أو برؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة ونحو ذلك، أو أنكر حكماً من الأحكام الظاهرة المتواترة، سواء كان هذا الحكم واجباً أو محرماً أو مستحباً كقضية الصلاة والزكاة وبقية الأحكام، أو وجوب بر الوالدين، وصلة الأرحام، وما يشبه ذلك، أو تحريم الخمر والسرقة والربا إلى آخره، أو أنكر سنية الوتر أو الأضحية أو السنن الرواتب إلى آخره فإنه يكفر إذا قامت عليه الحجة، ومثله من استحل محرماً من المحرمات الظاهرة المتواترة سواء كان هذا من الصغائر أو من الكبائر كاستحلال الغيبة، واستحلال النظر إلى النساء، ونحو ذاك والله أعلم.(311/7)
من نواقض الإيمان: الشك في حكم من أحكام الله
أيضاً من المكفرات العظيمة: الشك في حكمٍ من أحكام الله عز وجل أو خبرٍ من أخباره، فمن شروط لا إله إلا الله: اليقين المنافي للشك.
وحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلق الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة) لاحظ قول: (غير شاك فيهما) وحديث أبي هريرة: (اذهب بنعلي هاتين، فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة).
وقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15].
وقوله: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} [التوبة:45] واضح جداً أن من شروط الإيمان: اليقين وعدم الشك والارتياب.
إذاً: الذي يشك في هذا الأمر يكفر، ويناقض لا إله إلا الله.
قال ابن القيم رحمه الله: كفر الشك ألا يجزم بصدقه ولا يكذبه بل يشك في أمره.
ونوضح ذلك بمثال: قال القاضي عياض: ولهذا نكفر من دان بغير ملة المسلمين من الملل أو وقف فيهم -يا أخي! اليهود والنصارى كفار أم لا؟ قال: والله أنا أتوقف- أو وقف فيهم أو شك -يقول: أنا أشك، ولست متأكداً أنهم كفار، فمن دان بملة غير ملة المسلمين أو وقف فيهم أو شك أو صحح مذهبهم -قال: هم على حق ونحن على حق- وإن أظهر مع ذلك الإسلام والشهادتين وصلى وصام وزكى فهو كافر.
إذاً: المسألة مسألة خطيرة والقضية مهمة، وقد ذكر شيخ الإسلام حكم من يكفر الكافر سواء كان كافراً أصلياً كاليهود والنصارى، أو ثبت كفره يقيناً كـ الباطنية، فقال في الرد على أهل الحلول والاتحاد، وأقوال هؤلاء، يعني: أهل الحلول والاتحاد يقولون: إن الله حل في كل المخلوقات، كل ما تراه بعينك فهو الله، تعالى الله عن قولهم، قال شيخ الإسلام: "وأقوال هؤلاء -جماعة ابن عربي وابن سبعين وابن الفارض - وأقوال هؤلاء شر من أقوال النصارى" النصارى يقولون بالتثليث، أما هذا فكل شيء عنده هو الله، يعني ملايين الأصوات بل بلايين.
إذاً: النصارى أعقل منهم.
قال: وفيها من التناقض من جنس ما في أقوال النصارى، وبذلك يقولون بالحلول تارة، وبالاتحاد أخرى، وبالوحدة تارة، فإنه مذهب متناقض في نفسه، ولهذا يلبسون على من لم يفهمه، فهذا كله كفر باطناً وظاهراً بإجماع كل مسلم، ومن شك في كفر هؤلاء بعد معرفة قولهم، ومعرفة دين الإسلام فهو كافر كما يشك في كفر اليهود والنصارى أو المشركين.
كذلك قال الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: الثالث: من المكفرات: من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم كفر إجماعاً، وقال حفيده الشيخ سليمان: فإن كان شاكاً في كفرهم أو جاهلاً بكفرهم بينت له الأدلة.
قلنا: النصارى يقول الله عنهم: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] فإن قال: أنا لا أستطيع أن أكفر النصارى، أنا متوقف، أنا لا أدري هم كفار أم لا، فإن شك بعد ذلك وتردد فإنه بإجماع العلماء على أن من شك في كفر الكفار فهو كافر.
إذ كيف تشك بكفر الكافر؟ وكذلك فإن الشك في أصول الدين كفر، فلو أن إنساناً قال: أنا أشك في الجنة والنار، أنا أشك في البعث، فقد يكون هناك بعث وقد لا يكون، تصور شخصاً من أبناء المسلمين في جامعة، قال ذات مرة: أنا أصلي احتياطاً.
قلت: كيف تصلي احتياطاً؟ قال: إذا صح أن هناك يوماً آخر وهناك حساباً نكون قد صلينا، أي: وإذا لم يصح فما خسرنا شيئاً.
هل تعرف ما معنى هذا؟ معناه أن هذا إنسان كافر بالله العظيم، خارج عن ملة الإسلام، لا تنفعه صلاته ولا صيامه ولا زكاته ولا حجه ولا شيء، وشهادته التي يقولها حبر على ورق، لأنه شك في قضية أصلية هي قضية الدين، شك فيها، وأكثر منه ذلك الأب الذي قام ينصح ولده - له ولد وعلى كلام العامة صار مطوعاً متديناً ومجتهداً في العبادة- قال: يا ولد! قال: نعم يا أبي.
قال: لا تتعب نفسك كثيراً، لا تجتهد كثيراً لماذا؟ قال: يمكن يطلع ما في شيء وهذا أكفر من الأول.
فلذلك الشك هو التردد بين شيئين، كالذي لا يجزم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ولا بكذبه، ولا يجزم بوقوع البعث ولا عدم وقوعه ونحو ذلك، فالذي لا يعتقد وجوب الصلاة ولا عدم وجوب الصلاة، أو لا يعتقد تحريم الزنا ولا عدم تحريم الزنا، وهذا كفر بإجماع المسلمين وقد قاله شيخ الإسلام رحمه الله.(311/8)
وسوسة الشيطان بالكفريات مع عدم الاقتناع بها
وهنا مسألة دقيقة: لو قال قائل: يا أخي، لا يخلو الإنسان من الوساوس، أي: يأتينا الشيطان ويوسوس لنا ويقول: يمكن الله موجود أو غير موجود واليوم الآخر وهكذا فهل نحن كفار وخارجون عن الملة؟ فنقول: فرق بين الشك المنافي لليقين وبين الوسوسة، فالوسوسة مما يهجم على الإنسان بغير اختياره، فإذا كرهها ونفاها كان ذلك صريح الإيمان عنده، فلو جاءك الشيطان وقال لك يمكن يوجد ويمكن لا.
وتقول: والله لئن ألقى من جبل ولا أن أقول الشيء الذي يوسوس به الشيطان، أنا كاره، يوسوس لي بأشياء أعوذ بالله، أشياء فظيعة.
معناه: أنت كاره لهذه الوسوسة.
إذاً: ما عليك شيء، وبالعكس هذا صريح الإيمان، اطمئن، لكن الذي يشك بدون وسوسة، هكذا عقيدته يقول: أنا أعتقد أن هذا غير موجود ويمكن أن يكون موجوداً، هذا إنسان عنده شك في قلبه، ولذلك لو وسوس الشيطان فكره ذلك فليس عليه شيء إطلاقاً، وأما إذا استكان لوسوسة الشيطان وصدقها وبنى عليها فقد كفر.
إذاً: المسألة الآن لا تحتاج إلى قضية قلق وإزعاج؛ لأن بعض الناس يأتيهم من هذه القضية فيعتبر نفسه كافراً، وهذا لا يجوز، اطمئن، ما دمت موقناً بالله وأنه الخالق الرازق المحيي والمميت، ويجب عبادته وحده لا شريك له، موقناً بالجنة وأن الله خلقها من زمان، وأن الله خلق النار من زمان، وأن البعث والجنة حق والنار حق والحساب حق وعذاب القبر حق والساعة آتية وأن الله يبعث من في القبور، ما دمت جازماً بهذا فلا يضرك لو أن الشيطان جاء وألقى لك بعض الأفكار الخبيثة التي أنت تقاومها وتكرهها وتطردها، وتقول: أعوذ بالله من الشيطان وتتفل عن يسارك ثلاث مرات، فهذه لا تضرك إن شاء الله.(311/9)
من نواقض الإيمان: الشرك في الربوبية
ومن نواقض الإيمان -أيها الإخوة- ولا شك: الشرك بالله عز وجل، ومن ذلك الشرك في الربوبية وهو أن يوصف أحد من الخلق بأي صفة من صفات الله عز وجل الذاتية أو الفعلية المختصة به سبحانه وتعالى كالخلق أو الرزق أو علم الغيب أو التصرف في الكون، حتى ولو أثبت هذه الصفات لله، فلو قال: الله يعلم الغيب وفلان يعلم الغيب مثلاً؛ فإن ذلك يعتبر من المخالفة للتوحيد مخالفة أساسية ناقضة للإيمان، وهذا الشرك يكثر لدى الفرق المنحرفة كغلاة الصوفية والباطنية حيث يعتقد أهل الرفض مثلاً في أئمتهم المعصومين الاثني عشر بزعمهم أنهم يعلمون الغيب، وتخضع لهم ذرات الكون ونحو ذلك.
وهذا ولا شك شرك في الربوبية، فمن اعتقد أن الأئمة يعلمون الغيب فهو مشرك كافر خارج عن الملة، ونوع الشرك بالتحديد والتوصيف شرك في الربوبية.(311/10)
الشرك في الخلق والرزق
وأما شرك الخلق والرزق فيقر به عامة الصوفية، وكذلك المشركون الأوائل يعتقدون بأن الله عز وجل هو الخالق الرازق لكن يدعون ويستغيثون بالأولياء من دون الله؛ لزعمهم أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، ولذلك اقتصر مفهومهم بالشرك باعتقادهم أن الأولياء يخلقون أو يرزقون من دون الله، أو باعتقاد تصرفهم في الخلق باستقلالهم.(311/11)
الشرك في علم الله
ومن الشرك في الربوبية -أيضاً- الشرك في العلم، بأن يعتقد أن بعض الناس يعلمون مثل علم الله أو يشاركون الله في العلم الذي هو مختص به عز وجل كما جاء في كتاب المجالس المؤيدية قال -وهذا في عقيدة الإسماعيلية، والمؤلف هبة الله الشيرازي - يقول: الأئمة يعلمون من أمر المبدأ والمعاد ما حجبه الله عن كافة العباد.
وكذلك يقول الكليني في الكافي وهو من أهل الرفض وفيه تدليل على أن القوم مشركون شرك الربوبية في قضية علم الله، يقول وقد نسب الكلام إلى جعفر الصادق، وجعفر الصادق من أئمة أهل السنة وهو بريء من هذا الكلام، يقول: إن جعفراً قال: ورب الكعبة، ورب البيت لو كنت بين موسى والخضر لأخبرتهما أني أعلم منهما؛ ولأنبأتهما بما ليس في أيديهما؛ لأن موسى والخضر عليهما السلام أعطيا علم ما كان ولم يعطيا علم ما يكون وما هو كائن حتى تقوم الساعة، وقد ورثناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وراثةً! وينسبون إلى الحسن بن علي رضي الله عنه أنه قال: إنا نعلم المكنون والمخزون والمكتوم الذي لم يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل غير محمد وذريته.
وهذه الفكرة -أيضاً- موجودة عند الصوفية الغلاة، ولذلك بينهم وبين أهل الرفض قرابة المذهب، أولاد عم في الأفكار والمعتقدات.
وهذا عبد الكريم الجيلي الصوفي صاحب كتاب " الإنسان الكامل " يزعم أنه كشف له عن حقائق الأمور من الأزل إلى الأبد، وأنه رأى جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة.
وهذا الشعراني صاحب الطبقات الكبرى ينقل عن شيخه الخواص أنه كان يعلم ما يكتب في اللوح المحفوظ ساعة فساعة.
ومما قاله المتصوفة: وينبغي لمن يريد: أن يعلم أو أن يعتقد بشيخه أنه يرى أحواله كلها كما يرى الأشياء في الزجاجة، وهذا الكلام في كتب التيجانية مثل كتاب " رماح حزب الرحيم في نحور حزب الرجيم ".
وكذلك فإن أهل السنة والجماعة يعتقدون أنه لا يعلم الغيب إلا الله، وهذا واضح من خلال الآيات: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [هود:123].
{قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الكهف:26] ما الفرق بين غيب السماوات والأرض له وبين له غيب السماوات والأرض؟ التخصيص، له غيب السماوات والأرض اختص به سبحانه وتعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [الأنعام:50] وأولئك يقولون: ورثناها وراثة عنه، عن محمد صلى الله عليه وسلم! كذباً، ينسبون إلى الأئمة الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم أنهم ورثوه منه وراثة: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65] والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله) لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في الغيب إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحدٌ إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله.
وكذلك لما قال عز وجل: {عَالِمُ الْغَيْبِ} [الجن:26] قال عن نفسه: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26 - 27] فإذاً: هذا بين أن الله عز وجل جعله خاصاً مختصاً بعلم الغيب، وأنه إذا أطلع رسولاً على شيء من الغيب لحكمة، مثلما أطلع الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً على بعض ما يكون عند قيام الساعة، فحدثنا به عليه الصلاة والسلام فيما يعرف بأشراط الساعة، وأطلعه على صنف محدود على شيء معين {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26 - 27] فيطلعه على أمرٍ معين وليس على كل شيء: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة:109] وقال عن نبيه: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام:50].
فإذاً: من ادعى علم الغيب لنفسه أو لغيره فهو كافر مكذب بالقرآن، وقد قال الله لنبيه: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [الأحقاف:9] فهذه الأخبار قد جاءت في القرآن الكريم بهذا عن سائر الأنبياء، وأن إبراهيم عليه السلام لم يعلم بأنه يولد له ولد من زوجته سارة إلا بعد أن جاءته الملائكة في صورة بشر فلم يعرفهم، فذبح لهم عجلاً، ولم يكن يعرف مقصدهم حتى أخبروه أنهم يريدون أن يذهبوا لتدمير قرية قوم لوط، ولما جاءوا لوطاً ساءه ذلك ولم يعلم حق هؤلاء، وظن أنه قد ابتلي بهؤلاء الأضياف وكيف يدافع عنهم، ثم ما عرف الحقيقة إلا بعد أن أخبروه أنهم ملائكة، وأنهم جاءوا لإنجائه وإنجاء أهله من قومه.
إذاً: هو المختص بعلم الغيب عز وجل، ولو قيل: إنه سبحانه وتعالى قال: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:27] فنقول: هذه في أمورٍ معينة، عند الله تعالى علم الغيب وحده، وبيده طرق الغيب لا يملكها إلا هو، فإذا شاء إطلاع أحد من خلقه من الرسل مثلاً على شيء من الغيب أطلعه عليه كأشراط الساعة، وأن بعض الصحابة في الجنة، وأحوال بعض أهل النار وأهل الجنة كما أطلعه عليها وقال: (رأيت صاحبة الهرة التي حبست هرتها في النار) أخبرنا بأمور من الغيب عن ربه عز وجل.
وأما بالنسبة للغيب فكل ما غاب عنك فهو غيب، فقد يكون في الماضي وقد يكون في الحاضر، مثل أشياء -الآن- في قاع المحيطات، وقد يكون في المستقبل، وهو الذي لا يعلمه إلا الله، فالماضي قد يعلمه بعض الناس، والحاضر يعلمه بعض الناس، ولذلك قضية الغيب للماضي والحاضر قضية نسبية، فبعض الناس يعلمون أشياء لا يعلمها آخرون من أخبار الماضي أو من أخبار الحاضر، أما المستقبل فلا يعلمه إلا الله عز وجل.
ولذلك لا بد من تمييز هذه القضايا لئلا يتسرع بعض سيئي الحكم على أشخاص آخرين بالكفر دون أن يكون هناك بنية شرعية؛ ولذلك الإمام ابن العربي المالكي رحمه الله لما علق على قضية مقامات الغيب للخلق التي لا يعلمها إلا الله، وأنه قد تفرد بعلمها، وأن من قال: إنه يعلم ما في الأرحام فهو كافر.
وعلم ما في الأرحام يشمل أنه يعلم هل هو شقي أو سعيد، ويعلم عمله ومتى يولد، وكم يوم بالضبط، هل يجهض؟ هل يموت؟ هل يولد ناقصاً أم يكمل المدة أو أنه لا يكمل المدة، أو يسقط جنيناً قبل أن يكتمل؟ كل ذلك لا يعلمه على الحقيقة إلا الله.
وبقيت قضايا معينة: مثلاً: هل هو ذكر أو أنثى مثلاً؟ هذه المسألة إذا كان فيها تجربة وقال الإنسان فيها بخبرته وتجربته، قال: من خبرتي وتجربتي أنها تحمل ذكراً.
فإن كان لهذا سبب واضح فلا نقول: هذا كافر يقول ابن العربي رحمه الله: والتجربة منها أن يقول الطبيب إذا كان الثدي الأيمن مسود الحلمة فهو ذكر، وإن كان ذلك في الثدي الأيسر -أي: مسود الحلمة- فهو أنثى، المهم عند بعض الأطباء تجربة وقد تكون صحيحة وقد تكون خطأ، وإن كانت المرأة تجد الجنب الأيمن أثقل فهو ذكر، وإن وجدت الجنب الأيسر أثقل فهو أنثى، فإذا ادعى أن هذه عادة وردت له من خلال تجربته، قال: لم نكفره ولم نفسقه، وأما من ادعى العلم في مستقبل العمر فهو كافر.
وكذلك الآن لو صورناه في الآلات بعد عمر معين ورأينا كذا لا يقال: هذا كافر؛ لأنه لا يخبر عن المستقبل إلا الله فإنه يخبر عما يراه بالأجهزة الآن، ثم قد يكون صادقاً وقد لا يكون، وقد حدث أن أخبروا رجلاً أن زوجته ستضع أنثى فذهب واشترى ملابس أنثى، ويوم ولدت جاء ذكراً، وكل الملابس التي اشتراها أصبحت لا تفيده.
إذاً: حتى هذه القضية ليس بالضرورة أنهم يخبرون بها على الوجه الدقيق، قد يخطئون وقد يقولون: لاف رجل على رجل، لم نعرف ما هو.
هذا عند الذين يصورون بجهاز الموجات.
قال صديق حسن خان رحمه الله: فمن اعتقد في نبي أو ولي أو جن أو إمام أو ولد الإمام أو شيخ أو شهيد أو منجم أو رمال أو جفار أو فاتح فأل أو برهم أو خبيث أن له مثل هذا العلم وهو يعلم الغيب فهو مشرك بالله، وعقيدته من أبطل الباطلات وأكذب المكذوبات.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: والمقصود من هذا أن يدعي معرفة علم الشيء من المغيبات، فهو إما داخل في حكم الكاهن وإما مشارك له في المعنى فيلحق به.(311/12)
الشرك في التصرف
هناك أيضاً مما يخرج من الملة وينقض الإيمان وينافي توحيد الربوبية منافاةً أساسية قضية الشرك في التصرف: الشرك في التصرف من ضمن ما تقول به بعض الفرق كـ الباطنية وتأليههم لبعض الأشخاص، فيؤوله بعض فرق الباطنية علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكذلك يؤلهون الحاكم بأمره، وهؤلاء لهم غلوٌ ظاهر، فمثلاً يعتقد بعض الباطنية أن الله يحل في الأشخاص، وأن آخر حلول له كان في علي بن أبي طالب، ذهبوا إلى ما يشبه عقيدة التثليث عند النصارى، إذ أنهم ألفوا ثالوثاً يتكون من علي ومحمد وسلمان الفارسي، ويزعمون أن العلاقة بين أطراف هذا الثالوث علاقة إيجاد، فـ علي خلق محمداً، ومحمد خلق سلمان، وسلمان خلق الأيتام الخمسة، وهم: المقداد بن الأسود، وأبو ذر الغفاري، وعثمان بن مظعون، وعبد الله بن رواحة، وقنبر بن كادان مولى علي رضي الله عنه وأنه أوكل لهؤلاء الخمسة -الأيتام الخمسة- مسئولية الكون والتصرف فيه وتصريف أموره، فـ المقداد إليه الرعد والصواعق والزلازل، وأبو ذر موكل إليه الرياح وقبض أرواح البشر، وقنبر موكل إليه نفخ الأرواح في الأجسام، وعلي بن أبي طالب وسلمان والأيتام الخمسة يتفردون بتصريف أمور الكون من الخلق والموت والحياة وهذا من أخص صفات الربوبية.
فإذاً: من يعتقد هذا فلا شك أنه كافر كفراً أكبر.
كذلك تقدم أن الإمامية الاثنا عشرية ينسبون إلى علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- من رواية جعفر بن محمد قوله: انتقل النور إلى غرائزنا، ولمع في أئمتنا، فنحن أنوار السماء وأنوار الأرض، فبنا النجاة ومنا مكنون العلم، وإلينا مصير الأمور، وبمهدينا تنقطع الحجج.
وكذلك ينسبون إليه أنه قال: انظر الاعتقاد هذا الذي يقول: كيف يكفر؟ يكفر وإذا كان هناك أكثر من الكفر شيء فهو من صاحبه.
يزعمون أن علياً قال عن الأئمة: ونحن الذين بنا تمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذننا، وبنا تمسك الأرض أن تميد بأهلها، وبنا ينزل الغيث وتنشر الرحمة.
وكذلك قالوا: إن لأئمتنا درجة سامية وخلافة تكوينية تخضع لها جميع ذرات الكون.
وهذا شرك في الربوبية.
وكذلك المتصوفة جعلوا بعض أئمتهم أو الولي عندهم أو الغوث الأعظم مساوياً لله عز وجل في بعض صفاته، يرون مثلاً: أن الولي الفلاني يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويتصرف في الكون، ولهم تقسيمات لهذه الولاية، فالولي: يعني الولاية، والولي طبقات وأنواع: فهناك الغوث المتحكم في كل شيء في العالم، والأقطاب الأربعة الذين يمسكون الأركان الأربعة في العالم بأمر الغوث، والأبدان السبعة الذين يتحكم كل واحد منهم في قارة من القارات السبع -جيد عندهم علم في الجغرافيا- وكذلك النجباء كل واحد منهم يتصرف في ناحية تتحكم في مصير الخلق، بل يزعم بعض المتصوفة أن من كرامات أوليائهم أنهم يحيون الموتى، وأن أحمد البدوي جاءته امرأة تستغيث بولدها الذي مات، فمد البدوي يده ودعا له فأحياه الله تعالى، ويزعمون أن البدوي يميت من يتعرض له من الأحياء كما فعل مع معارضيه في العراق، فقال لهم: موتوا.
فوقعوا على الأرض قتلى.
ثم قال: قوموا بإذن من يحيي الأموات ويميت الأحياء.
فقاموا.(311/13)
الاعتقاد بالأنواء والكواكب
ومما يدخل تحت دعوى تصرف المخلوقات بشئون الكون من دون الله: ما يدعيه أهل الجاهلية ومن تبعهم من الاعتقاد بالأنواء والنجوم والكواكب، وأنها تنشئ السحاب وتنزل الغيث، وأن هذه النجوم لها تأثير مباشر على الحوادث الأرضية، وأن بسببها يموت فلان ويحيا فلان، ويحدث كذا، وتقوم حرب وهكذا، فهؤلاء أيضاً مشركون شرك الربوبية.
أما أهل السنة والجماعة -المسلمون- يعتقدون أن الله سبحانه وتعالى مختص بهذه الأشياء، وأن النفع والضر، والخير والشر والخلق والرزق والإحياء والإماتة، والتصرف في شئون العالم كله بقضائه وقدره ومشيئته وأمره عز وجل، وأنه يأمر ملائكته بالأوامر المختلفة فينفذون، وقال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف:188] وقال عز وجل: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} [الجن:21] {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126] وقال سبحانه وتعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ:22].
{وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} [سبأ:22] ما لهم نصيب ولا مشاركة ولا تصرف، والحديث: (اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت) وحديث: (وإن اجتمع الخلق على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد قدره الله لك) وكذلك في الضر، قال عز وجل عن نفسه: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْر} [الأعراف:54] سبحانه وتعالى.
فإذاً: ليس لأحد من مخلوقاته شيء ما بوجه من الوجوه من ناحية التدبير والتصريف، فالكل تحت ملكه سبحانه وقهره إماتةً وخلقاً ورزقاً وغير ذلك، ونحن نعرف حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما قال بعض الناس على إثر سماء أمطرت: مطرنا بنوء كذا.
فنقل لنا عن ربه عز وجل حديثاً قدسياً: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب) رواه البخاري.(311/14)
من نواقض الإيمان: الشرك في الألوهية
وكما أن هناك شركاً في الربوبية فهناك شرك في الألوهية، على هذا قاتلت الأنبياء، فاعتقاد ألوهية غير الله عز وجل يناقض قول القلب، وينقل صاحبه من الإسلام إلى الكفر، وصرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله شرك في الألوهية، وابن القيم رحمة الله عليه عند كلامه عن الشرك، قال: الشرك شركان: شرك يتعلق بذات المعبود وأسمائه وأفعاله، وهذا شرك الربوبية، وشرك في عبادته ومعاملته، وهذا شرك الألوهية، وإن كان صاحبه يعتقد أنه سبحانه لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، والشرك الأول -وهو الشرك الذي يتعلق بالمعبود في ذاته وصفاته- نوعان: شرك التعطيل: وهو أقبح أنواع الشرك كشرك فرعون، قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23] لا يوجد: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24].
والنوع الثاني: شرك من جعل معه إلهاً آخر ولم يعطل أسماءه وربوبيته وصفاته، ما عطلها تعطيلاً كما يفعل الملاحدة والجاحدون لله كفرعون، لكن يشركون معه كشرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثلاثة، فجعلوا المسيح إلهاً وأمه إلهاً، وكذلك شرك المجوس الذين يسندون حوادث الخير إلى النور وحوادث الشر إلى الظلمة، وكذلك شرك القدرية الذين يقولون: كل يخلق أفعاله بنفسه، الله لا يخلق أفعال العباد، من الذي يخلقها؟ قالوا: كل شخص يخلق أفعاله بنفسه، فهؤلاء مشركون أيضاً بالربوبية.
كذلك مشركو الصابئة الذين يشركون بالكواكب العلويات، وأن لها أشياء في التدبير، فهؤلاء مشركون شركاً أكبر في الربوبية.
النوع الثاني: شرك الألوهية الذي يتعلق بالعبادة، وهو صرف العبادة لغير الله تعالى.
وقلنا سابقاً: إن أكثر البشر لم ينكروا توحيد الربوبية -أي: أنكروا وجود الله- لكن أشركوا معه غيره.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: ولم نعلم أن أحداً من الخلق لم يزعم أن الأنبياء والأحبار والرهبان أو المسيح بن مريم شاركوا الله في خلق السماوات والأرض، ولا زعم أحد من الناس أن العالم له صانعان متكافئان في الصفات والأفعال، لكن أين حصل الشرك؟ في الألوهية، أكثر الشرك حصل في الألوهية، ولكن ينبغي أن نعلم أن هناك شركاً في الربوبية ضربنا له أمثلة حتى لا يعلم فقط أن القضية في صرف سجود أو نذر أو خوف أو رجاء لا، والمسألة فيها حتى في الربوبية أنواع من الشرك.(311/15)
من نواقض الإيمان: كفر الإعراض
هناك أنواع أخرى من نواقض الإيمان تنافي عمل القلب، أي: هناك أشياء تنافي قول القلب وأشياء تنافي عمل القلب، فمثلاً: كفر الإعراض: هو الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به، فما هو الإعراض؟ الإعراض عن الشيء: الصد عنه: (ثم أعرض عنها) أي: تركها، ترك القبول، وقد ذكر الله عز وجل الإعراض في آيات كثيرة من كتابه: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة:31 - 32]، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف:3].
وكفر الإعراض له مظاهر، فقد يكون أحياناً عدم الاستماع لأوامر الله عز وجل وعدم المبالاة بها وعدم التفكر فيها وهو الغالب، فغالب كفر الإعراض أنه لا يسمع للشريعة أبداً، يقول: الدين على جنب، أو أبسط كلمة يقول: دع الدين على جنب.
أي مناقشة في أي قضية اقتصادية أو حياتية أو اجتماعية، قال: دع الدين على جنب.
وهذا إعراض واضح يمارسه بعض العامة: لا يدخل الدين في حياتنا ولا في عاداتنا، وكأن الدين هذا لأهل السماوات ولا ندري نحن أهل الأرض ما لنا منه؟! ثانياً: يأتي الإعراض بمعنى عدم القبول، فشيء عدم الاستماع وعدم المبالاة وشيء عدم القبول.
ويأتي بمعنى الامتناع والتولي عن الطاعة، وهذا يكون بعد الاستماع والقبول لكن يقول: لا يطيع ولا يفعل، ولذلك يأتي الإعراض -أيضاً- بمعنى ترك العمل بالكلية، وكذلك يأتي بمعنى الصدود وأيضاً ترك التحاكم إلى الله.
فإذاً: شيء يتعلق بالعلم وهو قول القلب من عدم الاستماع وعدم المبالاة، وشيء يتعلق بعدم العمل -أي: عمل القلب والجوارح- مثل عدم القبول وعدم الاستسلام، وهذا منافٍ لعمل القلب، ألَّا يعمل بالدين نهائياً ولا بشيء من الدين هذا ترك لعمل الجوارح وهذا كله إعراض.(311/16)
الإعراض المكفر والإعراض غير المكفر
ينبغي أن نفرق في مسألة الإعراض المكفر والإعراض غير المكفر؛ لأن بعض الناس يعرضون عن مسألتين: عن أشياء معينة يتولون عنها، لا يعملون بها، هل هؤلاء كفار؟ من الكافر؟ من يكفر في الإعراض؟ عرفه ابن القيم فقال: أما كفر الإعراض كأن يعرض بسمعه وقلبه عن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصدقه ولا يكذبه، ولا يواليه ولا يعاديه -إهمال- ولا يصغي إلى ما جاء به ألبتة.
وفي موضع آخر قال: العذاب يستحق بسببين: أحدهما: الإعراض عن الحجة، وعدم إرادتها والعمل بها وبموجبها، والحجة: هي الكتاب والسنة.
الثاني: العناد لها بعد قيامها، وترك إرادة موجبها.
فالآن لو جاء شخص تتناقش معه وتورد عليه شيئاً من القرآن والسنة يقول: لا، لا، لا تسمع لي ولا أسمع لك، لا تقل لي شيئاً، معرض لا يريد الاستماع أصلاً، يقول: أي شيء فيه دين لا أقبله ولا أسمع، معرض.
وهناك أناس يسمع لك لكن بعدما يسمع يرفض ولا يقبل، وأناس قد يسمع ولكن {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [النساء:46].
والإعراض المكفر على حسب ما ذكر لنا ابن القيم رحمه الله من نوع اللامبالاة، لا يسمع الحجة ولا يبحث عنها ولا يفكر فيها، وليس هذا فقط هو الإعراض المكفر، لكن هذا الذي ينافي قول القلب وإلا قد سبق الكلام على الإعراض من أنواع أخرى يتعلق بعمل القلب وعمل الجوارح ومكفر.
من صور الإعراض المكفر: الإعراض عن حكم الله عز وجل ورسوله: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:47 - 51].
إذاً: نستخلص من كلام العلماء في مسألة كفر الإعراض: أن الإعراض الناقض للإسلام على الأقل أن يعرض الإنسان عن مسألة.(311/17)
الإعراض الناقض للإسلام
ما هو الإعراض الناقض للإسلام؟ هو إعراض العقل عن الإيمان، إما أن يعرض إعراضاً تاماً عن تعلم أصول الدين مع قدرته على ذلك، يقول: لا أريد أن أتعلم الدين ولا أريد أن تسمعني آية، ولا يريد أن يتعلم درساً واحداً، الإعراض عن أصل الإيمان إعراضاً تاماً عن تعلم أصوله مع القدرة، أو عدم قبولها والانقياد لها، يقول: لا أنقاد لحكم شرعي أبداً.
سواءً قاله بلسان الحال أو بلسان المقال، أو يعرض عن العمل تماماً، كأن يقول: أنا لا أعمل شيئاً البتة، وهذا الذي يسمونه كفر التولي وترك العمل بالكلية؛ لأننا نعلم -أيها الإخوة- أن مذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان: أنه قول القلب -وهو المعرفة- وقول اللسان وعمل القلب وهو القبول والتسليم، وعمل الجوارح.
إذاً: أربعة أشياء يتكون منها حقيقة الإيمان، قول القلب: وهو المعرفة والتصديق، وقول اللسان: وهو نطق الشهادتين، وعمل القلب: وهو القبول والتسليم والاستسلام والانقياد، وعمل الجوارح: وهو التطبيق العملي للعبادات وما شابه ذلك.
فإذاً: لو أن إنساناً أعرض عن هذا بالكلية، عن أي واحد منها يكفي أن يعرض عنه بالكلية يكفر وينقض إيمانه.
قال الشافعي رحمه الله: "وكان الإجماع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ومن أدركناهم يقولون: الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزئ واحد من الثلاث إلا بالآخر".
وقال حنبل: حدثنا الحميدي وأخبرت أن أناساً يقولون: من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئاً حتى يموت ويصلي مستدبراً القبلة حتى يموت فهو مؤمن ما لم يكن جاحداً، إذا عُلم أن تركه ذلك فيه إيمان إذ كان مقراً باستقبال القبلة -الآن هذا الزعم- فقلت: هذا الكفر الصراح، هذا الكفر الصراح.
لأنه لا يعمل شيئاً، تولى عن العمل بالكلية، مثل الذين يعيشون في الخارج مسلمون بالاسم فقط لا يعرفون مسجداً ولا قبلة ولا صلاة ولا يزكون ولا يصومون ولذلك رأينا في الإنترنت أن أحدهم يقول: أنا مسلم بالاسم فقط.
فهذا الذي يقول: أنا مسلم بالاسم كافر، لماذا؟ لأنه تولى عن الدين لا يعمل بشيء منه أبداً، لا يعرف أي عبادة، لا صلاة ولا زكاة ولا صيام ولا حج، فهذا الذي يسمي نفسه مسلماً بالاسم فقط هذا إنسان متولٍ عن العمل، وهذا إنسان كافر، وقد قال الإمام أبو ثور رحمه الله لما سئل عن الإيمان: هل يزيد وينقص؟ فقال: فأما الطائفة التي زعمت أن العمل ليس من الإيمان فهؤلاء على مذهب المرجئة، ونحن نقول: الذي لا يعمل عمل الجوارح أبداً ليس بمسلم؛ لأن هذا من أنواع الإعراض الذي ذكر الله عز وجل في القرآن عند تكفير المعرضين، ونحن لا نقول: أعرض عن شيء واحد، أعرض عن صيام يوم من رمضان فلم يصمه لا.
إنما أعرض عن العمل بالكلية، ولا يعمل شيئاً، هذا إنسان غير مسلم وإن ادعى الإسلام.
فيقول: أما الطائفة التي زعمت أن العمل ليس من الإيمان فيقال لهم: ما أراد الله عز وجل من عباده لما قال لهم: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] أبو ثور ذكي يعرف كيف يناقش، يقول: يقال للذين يقولون العمل ليس شرطاً في الإيمان، ماذا أراد الله من عباده لما قال لهم: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] الإقرار فقط أم الإقرار والعمل، ماذا؟ فإن قالوا: إن الله أراد الإقرار ولم يرد العمل فقد كفروا، فإن قالوا: أراد منهم الإقرار والعمل، قيل: فإذا أراد منهم الأمرين جميعاً فلمَ زعمتم أنه يكون مؤمناً بأحدهما دون الآخر وقد أرادهما جميعاً؟؟ أرأيتم لو أن رجلاً قال: أعمل جميع ما أمر الله ولا أقر به -انظر إلى النقاش- لو أن رجلاً قال: أنا أعمل جميع ما أمر الله لكن لا أقر به، مثل ذاك الذي يقول: أنا أصلي احتياطاً أو يقول: يمكن يمكن.
فهذا قال: أنا أعمل كل شيء لكن لا أقر به، أيكون مؤمناً؟ فإن قالوا: لا يكون مؤمناً؛ لأن أعماله ليس لها أساس، والعمل بدون إقرار عمل باطل، قيل لهم: فإن أقر بجميع ما أمر الله به وقال: لا أعمل منه شيئاً.
أيكون مؤمناً؟ انظروا ولاحظوا! الله أراد إقراراً وعملاً، يقول: يقر أن الله أوجب هذا وحرم هذا، ثم أعمل.
فإن قالوا: إنه أراد الأمرين جميعاً فيقال: لو أن رجلاً قال: لا أقر لكن أعمل كل شيء.
يقال له: هذا كافر.
وإذا قال: أقر لكن لا أعمل شيئاً أيكون مؤمناً؟ فإن قالوا: نعم.
قيل لهم: فما الفرق وقد زعمتم أن الله أراد الأمرين جميعاً؟! ومثل الأعمال في الإيمان كمثل القلب في الجسم لا ينفك أحدهما عن الآخر، لا يكون ذو الجسم الحي لا قلب له، ولا ذو القلب بغير جسم، فهما شيئان منفردان، وهما في الحكم والمعنى متصلان، فلا إيمان إلا بعمل ولا عمل إلا بعقل، ومثل ذلك العلم الظاهر والباطن، أحدهما مرتبط بصاحبه من أعمال القلوب وأعمال الجوارح، فمثل العلم من الإيمان كمثل الشفتين من اللسان، لا يصح الكلام إلا بهما، تخيل لو أن رجلاً ليس له شفتين عنده لسان وليس عنده شفتين، لا يستطيع الكلام، لأنه بدون شفتين! وكذلك لأن الشفتين تجمع الحروف واللسان يظهر الكلام، وفي سقوط أحدهما بطلان الكلام، وكذلك سقوط العمل بطلان الإيمان احفظوا هذا المثل: (العمل مع الإيمان مثل الشفتين مع اللسان).
فيمتنع أن يكون الرجل لا يفعل شيئاً من أمور الدين، من الصلاة والزكاة والصيام والحج ويفعل ما يقدر عليه من المحرمات، أي محرم يتاح له لا يقصر فيه -هذا كلام ابن تيمية - مثل الصلاة بغير وضوء وإلى غير القبلة ونكاح الأمهات، وهو مع ذلك مؤمن في الباطن.
هذا الكلام يتصور؟ أبداً.
وسئل الشوكاني رحمه الله: ما حكم أعراب البادية الذين لا يفعلون شيئاً من الشرعيات إلا مجرد التكلم بالشهادتين هل هم كفار أم لا؟ وهل يجب على المسلمين غزوهم أم لا؟ فقال: من كان تاركاً لأركان الإسلام وجميع فرائضه ورافضاً لما يجب عليه من ذلك من الأقوال والأفعال ولم يكن لديه إلا مجرد التكلم بالشهادتين فلا شك ولا ريب أن هذا كافر شديد الكفر حلال الدم والمال.
إذاً الخلاصة التي نستنتجها مما سبق: أولاً: أن وجود جنس العمل شرط لصحة الإيمان، وإذا لم يوجد العمل معناه لم يوجد الإيمان، ويكون صاحبه معرضاً ناقضاً لأصل الإيمان.
ثانياً: أن الكلام عن مسألة ترك العمل بالكلية متعلق بكلام السلف عن الإيمان أنه قول وعمل لا يغني أحدهما عن الآخر.
ثالثاً: أن هذا دليل على ارتباط الظاهر بالباطن والباطن بالظاهر، وأنه لا يوجد باطن صحيح بدون ظاهر صحيح، كما أنه لا يوجد ظاهر صحيح ومقبول عند الله إلا إذا كان يوجد باطن صحيح.
انظر الذي يقول: الذي لا يعمل أبداً هذا دليل على أنه ليس في قلبه إيمان بالله، الذي لا يعمل شيئاً من الدين ماذا يوجد في قلبه؟ لو كان في قلبه إيمان لظهر في التطبيق، ولو كان التطبيق ناقصاً لكان هناك شيء اسمه عمل، أما إذا لم يكن هناك عمل بالكلية فدليل أن داخل القلب لا يوجد فيه شيء بالكلية، وإنما هو ادعاء كاذب.
إذاً: تصور الآن ما ينتج عن القول بأن الإيمان هو مجرد التصديق القلبي، وأن الكفر هو التكذيب والجحود فقط، وهذه مصيبة المرجئة، وهذه معركتنا معهم، يقولون: الإيمان هو التصديق، والكفر هو الجحود والتكذيب.
وما حال المعرض عن العمل بالكلية وما شابه ذلك؟ إذاً: هنا يتبين الفرق بين مذهب أهل السنة والجماعة ومذهب المرجئة.(311/18)
حكم تارك الأركان الأربعة
أيها الإخوة: إن مذهب المرجئة يناسب حال الكفرة -الآن- في هذا العصر، فهم يحبونه جداً؛ لأنه يتوافق مع أهوائهم، ويجعلهم مؤمنين وليس لهم من الإيمان نصيب، وهذا الكلام يقودنا إلى مسألة وهي قضية تارك الأركان الأربعة.
الآن عرفنا أن ترك العمل بالكلية كفر، فهل هناك أعمال معينة تركها كفر؟ لو أن رجلاً قام بأشياء أخرى، كبر الوالدين وصلة الرحم والصدقة على الفقراء، صادق ملتزم بالمواعيد، هل هناك أعمال معينة تركها كفر؟ نجد في كلام العلماء أنهم قد قالوا: إن تارك الأركان الأربعة كافر، ولم يخالف في مسألة ترك جنس العمل أحد -كما قلنا- وأما قضية الأركان الأربعة فإن تاركها كافر، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الأقوال في المسألة، وقال عن الإمام أحمد رواية أنه يكفر بترك واحد من الأركان الأربعة حتى الحج حتى مع الإقرار بالوجوب، وفي رواية أخرى أنه لا يكفر إلا بترك الصلاة وهي رواية عن أحمد وكثير من السلف وطائفة من أصحاب مالك والشافعي.
إذاً: ترك الأركان الأربعة بالكلية يكفر كما أن ترك العمل كله يكفر، أما لو ترك الصيام فالراجح أنه لا يكفر بترك الصيام، أو ترك الحج فالراجح أنه لا يكفر.
أما ترك الصلاة فالمسألة فيها خلاف كبير، والراجح أن تارك الصلاة بالكلية كافر حتى لو كان تكاسلاً؛ لأجل النص: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر) ولا يوجد شيء آخر منصوص على أن تركه كفر من الأعمال -لاحظ- إلا هذا ولذلك قلنا به، قال: (فمن تركها فقد كفر) والراجح -أيضاً- أن أي صلاة يتركها فهو كافر، أو ترك الصلاة في يوم أو يومين أو أسبوع؟ الحديث الراجح والله أعلم كما هو نص الحديث (فمن تركها) أي: الترك الكلي، يعني تارك الصلاة بالكلية كافر ولو أقر، لأنه قال: (فمن تركها) ولم يفرق بين الجحود وعدمه: (فمن تركها فقد كفر).
وتارك الزكاة -أيضاً- فيه نقاش كثير وخلاف كبير في قضية، وقد ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أن تارك الزكاة لا يكفر إلا إذا قاتل، كأن يقول: لا أؤدي وقاتل فهذا كافر.
فهذه هي الخلاصة في قضية ترك الأعمال.
إذاً: ترك جنس العمل كله كفر، ومن الأعمال الأخرى ترك الصلاة بالكلية -هذا وحده- كفر، والزكاة يكفر إذا قاتل؛ لأن معناه أنه مستعد أن يموت ولا يزكي، معنى هذا أين الإيمان الذي عنده؟ بعض الناس يقول: إن الجمهور يقولون: إن تارك الصلاة لا يكفر، وهذه حقيقة لا ننكرها، لا يقولون: إن ترك أصل العمل لا يكفر، فحتى الذين يقولون بعدم كفر تارك الصلاة من علماء السلف لا يقولون: إن ترك العمل بالكلية لا يكفر لا.
ترك العمل بالكلية كفر، لكن حصل خلاف في ترك الصلاة وترك الزكاة.(311/19)
اعتقاد أن بعض الناس لا يجب عليهم متابعة النبي صلى الله عليه وسلم
ومن الأمور التي توجب الكفر أيضاً: اعتقاد أن بعض الناس لا يجب عليهم اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه كارثة ومصيبة عظيمة، وذهب إلى هذا غلاة الصوفية والباطنية.
يقول الداعي الإسماعيلي طاهر بن إبراهيم الحارثي اليماني في كتابه " العقد الشريف " وقد حقق كتاب العقد الشريف المفضل الجعفي، يقول -وهو واحد من دعاة الإسماعيلية - حُجج الليل -الإسماعيليون يعتقدون أن هناك حجج الليل- هم أهل الباطن المحض المرفوع عنهم في أدوار الستر التكاليف لعلو درجاتهم.
وكلام رءوس الباطنية والإسماعيلية أشبه بالألغاز؛ لأنهم يخفون عقيدتهم عن الناس، ولذا تجد فيها غموضاً، لكن هذا النص واضح في قضية اعتقاد إسقاط التكاليف، وأن هناك أناساً من أهل الباطن، مثلا: ً العامة من أهل الظاهر وهناك مشايخ من أهل الباطن، هؤلاء المشايخ من أهل الباطن تسقط عنهم التكاليف لعلو درجاتهم، وينسبون إلى جعفر بن محمد الباقر قوله: من عرف الباطن فقد سقط عنه عمل الظاهر، ورفعت عنه الأغلال والأصفاد وإقامة الظاهر.
ويقول أحد دعاة الباطنيين: من عرف الباطن فقد عمل الظاهر، وإنما وضعت الأغلال والأصفاد على المقصرين.
وسمى التكاليف أصفاداً وأغلالاً، وقال: هذه علينا نحن العامة المقصرين، أما من بلغ وعرف هذه الدرجات التي قرأتها عليك فقد أعتقته من الرق ورفعت عنه الأغلال والأصفاد وإقامة الظاهر.
وعند هؤلاء أيضاً أن المحرمات عليَّ وعليك نحن العامة مثل الزنا وغيره، أما هم أهل الباطن -هؤلاء المشايخ الكبار- ليس عليهم بحرام، وحتى نكاح الأم ووطء الأخت ليس فيها شيء.
وقالوا بالنص: إذا وصلت إلى مقام اليقين سقطت عنك العبادة، ودليلهم قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن هؤلاء من يستحل بعض الفواحش كاستحلال مؤاخاة النساء الأجانب والخلوة بهن، زعماً منه أنه يحصل لهن البركة مما يفعله معهن، وإن كان محرماً في الشريعة، وكذلك يستحل المردان والتمتع بالنظر إليهم ومباشرتهم.
يقول: يرتقي من محبة المخلوق إلى محبة الخالق، ويأمرون بمقدمات الفاحشة الكبرى وقد يستحلون الفاحشة الكبرى، ويحتجون بقوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] ويقولون: اليقين هذا العلم والمعرفة، فإذا حصلت سقطت العبادة.
ولو تقرأ كلام بعض الصوفية في هذا الموضوع مثلما ذكره الشعراني صاحب طبقات الأولياء، والنبهاني صاحب جامع كرامات الأولياء سترى العجب العجاب، فمن ذلك ما ذكره العطار عن ذي النون المصري أنه نصح أحد مريديه بترك الصلاة، والعطار الآن ينقل القصة يقول: رجل مصري -وهو من الصوفية - نصح بعض مريديه عنده مشكلة كذا وكذا بأن يترك الصلاة، والعطار يريد أن يوقعها فقال: لو سأل الثاني: ما الحكمة في الأمر بترك الصلاة؟ ف
الجواب
إن الطريق أحياناً -أي: الموصلة إلى الله- تخالف ظاهر الشريعة، كقتل الخضر الولد بدون سبب ظاهر.
إذاً: لا إنكار بالطريقة على مثل هذه الأمور.
يقول: لو قال لك شيخ الطريقة: اعمل محرماً أو اترك واجباً فلا تستغرب، لأنه يمكن أن يكون وصل إلى الله بشيء غير الذي أنت تعرف، فإذا قلت: لماذا؟! قال: الخضر قتل الولد، نقول: الخضر قتل الولد بناء على: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82] لأنه نبي يوحى إليه، الله الذي أمره بقتله، وأنت من الذي أمرك بترك الصلاة؟ أنت الله أمرك أن تصلي لا أن تترك الصلاة.
وحكي عن العطار -نفسه هذا الصوفي- أنه كان تاركاً للصلاة، وكان يقول: إن الله رفع عني فريضة الصلاة، والشعراني في آخر كتابه الطبقات الكبرى لما ذكر مشايخه في القرن العاشر قال: وفيهم سيدي بركات الخياط رضي الله تعالى عنهم، كان رضي الله عنه من الملامتية والملامتية يظهرون المحرمات ليلوموهم بينما هم في الحقيقة يقصدون إخفاء الولاية.
فمثلاً: عندما يحلق الولي لحيته يلومه الناس، وقصد الولي أن يخفي الولاية عن الناس بلومهم، حتى لا يرائي يرتكب الزنا، أو يشرب كأس خمر، حتى لا يرائي، يخبئ الولاية عن الناس.
فيقول: وفيهم سيدي بركات الخياط رضي الله عنه، وكان من الملامتية، وقد مدحته للشيخ جمال الدين الصائغ مفتي الجامع الأزهر وجماعته فقالوا لما سمعوا مدح الشيخ هذا: لابد أن نزوره، وكان يوم جمعة، فكبر المؤذن على المنارة، فقالوا: نصلي الجمعة.
فقال: ما لي عادة بذلك.
أعاذنا الله! أنا ما لي عادة أن أصلي الجمعة، فأنكروا عليه، فقال: نصلي اليوم لأجلكم، ومنهم سيدي الشريف المجذوب -والجذبة هذه عند الصوفية شيء أساسي، أنه إذا أصابته الجذبة فهذه كرامة- رضي الله عنه كان يأكل في نهار رمضان، ويقول: أنا معتوق أعتقني ربي.
وكان يرى حلال زينة الدنيا كالحرام في الاجتناب، وكانت الخلائق تعتقده -يأتون إليه- ويعدون رؤيته عيداً.
وهذا موجود في العالم الإسلامي، يعني: الشيوخ من هذا النوع.
أيها الإخوة! التكاليف الشرعية مشروطة بالعلم والقدرة، فمتى تحقق العلم والقدرة وجب العمل، ولذلك الذي لا يستطيع لا يكلف كالطفل والمجنون.
ثم أعظم الناس درجة عند الله من هم؟ الأولياء أم الأنبياء؟ أليسو الأنبياء؟ فهل رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في يوم من عمره ترك صلاةً واحدة أو ترك صوم يومٍ دون عذر؟ ألم يكونوا أشد الناس في الشعائر والنوافل، ومن المعلوم عند العلماء أن من استحل الحرام كفر، فكيف بمن يستحل جميع المحرمات ويترك جميع الواجبات؟؟ ثم الولاية، والولاية بيننا وبين الصوفية ميدان للمعركة، الولاية متى تنال؟ وبأي شيء تنال؟ {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63] لا يفعلون المحرمات ويؤاخون النساء الأجانب والمردان.
{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] ما هو اليقين في تفسير السلف؟! قال الحسن البصري: إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلاً دون الموت.
إذاً: اليقين هو الموت باتفاق المسلمين والمفسرين.
ثم قالوا: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42 - 43] أي: أن هذا سبب لدخول جهنم: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر:45 - 47] ما هو اليقين؟ الموت {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48].(311/20)
من نواقض الإيمان: النفاق
أيها الإخوة! من نواقض الإيمان النفاق، والنفاق: إظهار القول باللسان أو الفعل، بخلاف ما في القلب من القول والاعتقاد، بأن يستر كفره ويظهر إيمانه.
وكلمة "النفاق" اسم إسلامي لم يعرفه العرب من قبل، فالإسلام هو الذي جاء بكلمة النفاق ومعناها هذا، فلم تكن موجودة عند العرب ولا يعرفونها من قبل، والنفاق كالكفر يوجد نفاق مخرج من الملة ونفاق غير مخرج من الملة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: فمن النفاق ما هو أكبر يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار كنفاق عبد الله بن أبي وغيره؛ بأن يظهر تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا ضرب النفاق الأكبر.
أما النفاق الأصغر فهو النفاق في الأعمال ونحوها.
إذاً النفاق المخرج من الملة لا شك أن النفاق الاعتقادي داخل فيه، لكن ليس هو نفاق تكذيب فقط، فمن حصر النفاق المخرج من الملة بالنفاق الاعتقادي فلعله قصد نفاق التكذيب وهو أن يظهر الإيمان وهو مكذب بقلبه، والأقرب والله أعلم تقسيم النفاق إلى أكبر وأصغر، وأن النفاق الأكبر لا يسقط بالجانب الاعتقادي فقط، وهذه مسألة مهمة؛ لأن بعض الناس يعتقد أن النفاق الأكبر الذي يخرج عن الملة فقط هو النفاق الاعتقادي (إظهار الإسلام وإبطان الكفر) فيقال: إن الله ذكر في القرآن خصالاً عن المنافقين تكفرهم -وهي أعمال- مثل: تنقيصهم للرسول صلى الله عليه وسلم وسخريتهم بالمؤمنين: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) [التوبة:66] ومناصرتهم للكفار، ومناصرة الكفار عمل.
إذاً: نعرف أن النفاق الأكبر الذي يخرج من الملة ليس فقط أن الإنسان يظهر الإسلام والقلب مكذب، فقد يكون منافقاً نفاقاً أكبر يخرج عن الملة بأشياء يعملها، مثل: مناصرة الكفار على المسلمين، فلو أن إنساناً ناصر الكفار على المسلمين فهذا كافر وعمله كفر.
أيضاً ليس كل نفاق اعتقادي مخرجاً عن الملة، أليس الرياء قلبياً؟ الرياء أليس عملاً قلبياً؟ وليس من الأشياء العملية، ليس نفاقاً عملياً كالكذب وإخلاف الوعد، ومع ذلك إذا كان الرياء يسيراً لا يكفر صاحبه.
إذاً: لابد أن ننتبه في قضية النفاق الاعتقادي والنفاق العملي إلى أنه ليس كل نفاق اعتقادي متعلق بالقلب يكفر صاحبه كيسير الرياء، وليس كل النفاق العملي لا يكفر صاحبه، فبعض النفاق العملي يكفر صاحبه هذه الخلاصة.
إذاً: النفاق ينقسم إلى قسمين: نفاق أكبر ونفاق أصغر، والنفاق الأصغر معروف كما جاء في الحديث: (آية المنافق ثلاث: إذ حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) والنفاق الأصغر نوعاً من الاختلاف بين السريرة والعلانية لكن لا يصل إلى الكفر، وذلك كالرياء الذي لا يكون في أصل العمل، ومثال ذلك: إظهار مودة أخ والكيد له بالسر، هذا نوع من النفاق لكنه ليس مكفراً، اللهم إلا إذا كان يكيد للنبي صلى الله عليه وسلم أو للمسلمين لأنهم مسلمون.
والنفاق الأكبر يدخل فيه كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن صاحبه مخلد في النار في الدرك الأسفل مثل نفاق عبد الله بن أبي وغيره بأن يظهر تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم أو جحود بعض ما جاء به، أو بغضه.
ما الفرق بين الكافر والمنافق؟ إذا كان الكافر يظهر تكذيب الرسول وأنت تقول: إن المنافق يظهر تكذيب الرسول! ممكن يظهر يعتبر من المنافقين، ف
الجواب
أن الكافر لا ينطق بالشهادتين، ولا يقول أنا مسلم، ولا يدعي الإسلام، ولا يصلي مع المسلمين، لكن المنافق يقول: أنا مسلم، وينطق بالشهادتين ويصلي مع المسلمين.
كيف صار منافقاً نفاقاً أكبر؟ بأمور كثيرة: منها: أن يظهر تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام، وعبد الله بن أبي قال شيئاً من هذا، ولذلك لا يشترط عندما نقول: منافق أكبر أنه لا يظهر منه شيء البتة، يمكن أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله أمام الناس، ويصلي مع المسلمين، ويقول: أنا مسلم.
لكن عمله وما يظهره فيه أشياء كفرية واضحة مخرجة عن الملة، فهذا يسمى منافقاً لماذا؟ لأنهم يدعون الإسلام وفي محافل ومناسبات ومحلات ومواضع يظهرون الكفر، ماذا تسميه؟ نسميه منافق، في تصريح ومقالات، وأشياء مكتوبة، وقصائد يظهر الكفر، ولما تأتيه يقول لك: أنا مسلم، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنا أصلي.
والظاهر أن بعض العلمانيين الذي يقوم الليل، أقرباؤه يقولون: يقوم الليل، ما رأيك؟ المنافق نفاقاً مخرجاً من الملة لا يشترط أن يكون مستوراً لا يعرف عنه شيء، يظهر الإسلام ويخفي الكفر لا، وحال المنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أنه ظهر منهم أشياء لكن لأنهم يقولون ويدعون الإسلام، ينطقون بالشهادتين، ويصلون مع المسلمين، ويصلون العيد، ويحضرون الجمعة لكن عبد الله بن أبي هذا، يفعل ذلك كله، لكن ظهر منه أشياء في تخذيل المسلمين، ونصرة الكفار عليهم، وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، والطعن فيه، والطعن في رسالته، والكيد له، والكيد لجماعة المسلمين كلهم، وتخذيل المسلمين في أحد وهكذا.
إذاً: النفاق الأكبر المخرج عن الملة، مثل: إنسان يدعي الإسلام وعنده أقوال وأفعال أخرى تناقض ما يقول فيعتبر منافقاً، ومن باب أولى الذي ما أظهر شيئاً أبداً، مثل رجل يبطن الكفر ويظهر الإسلام، ولم نضبط عليه لا كلمة ولا فعلاً، لكنه في الحقيقة عند الله زنديق، ولذلك قال بعض العلماء: إذا اطلع على الزنديق يقتل ولا يستتاب؛ لأننا لو استتبناه سيقول: أشهد أن لا إله إلا الله وهو يقولها أصلاً! فنقتله، وإذا كان صادقاً في التوبة تنفعه الشهادة عند الله، وهذا عند الإمام مالك يقول: الزنديق يقتل.
لماذا؟ يقول: إذا اكتشفنا وعثرنا على زندقته نقتله.
وإذا قال: أنا أقول لا إله إلا الله.
نقول: نقتلك وإذا كنت صادقاً تنفعك عند الله.
لماذا قال مالك ذلك؟ لأننا إذا قلنا: نستتيبك سيقول أشهد أن لا إله إلا الله، وهو أصلاً يقولها.
وقال آخرون: الزنديق يستتاب، فإن تاب يكف عنه، وابن تيمية رحمه الله ذكر في النفاق الأكبر قال: كنفاق عبد الله بن أبي بأن يظهر تكذيب الرسول أو جحود بعض ما جاء به، أو بغضه، أو عدم اعتقاد وجوب اتباعه، أو المسرة بانخفاض دين الرسول.
إذا انهزم المسلمون في معركة أظهر السرور؛ لأن المسلمين انهزموا، أو المساءة بظهور دين الله، لو قيل له: دخل اليوم في الإسلام ألف من الكفار.
ينغص هذا الخبر عليه، أو يقال: انتصر المسلمون في البلد الفلانية تراه ينغص، هذا منافق لماذا؟ لأنه ساءه ظهور الإسلام وانتصار المسلمين.
ونحو ذلك مما لا يكون صاحبه إلا عدواً لله ورسوله، وهذا القدر كان موجوداً في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما زال بعده، بل هو بعده أكثر منه في عهده -انظر كلام ابن تيمية الخبير في الواقع، الإنسان المعايش للناس العارف بطبقات المجتمع- يقول: بل هو بعده -النفاق بعد النبي صلى الله عليه وسلم- أكثر منه على عهده.
وهذا واضح في عصرنا جداً، فالعلمانيون هؤلاء هم المنافقون يظهرون الإسلام، لكن انظر إلى المقالات والأفعال.
إذاً: يتبين لنا أن أي مظهر من مظاهر النفاق الأكبر يحكم على صاحبه بالنفاق الأكبر ولو كان يدعي الإسلام مثل تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بغض الرسول صلى الله عليه وسلم أو بغض بعض ما جاء به من الشريعة، المسرة بانخفاض دين الرسول صلى الله عليه وسلم أو كراهية انتصار دين الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم اعتقاد وجوب تصديقه فيما أخبر، وعدم اعتقاد وجوب طاعته فيما أمر، وإيذاؤه أو عيبه أو لمزه صلى الله عليه وسلم والآن بعض الذين يكتبون في الأدب يأتي بقصيدة أو قصة ويلمز دين الإسلام ويلمز نبي الإسلام، وعندما تأتيه وتقول: أنت كذا، أنت كذا أنت كذا، هذا كفر.
يقول: أنا مسلم، انظر إلى إثباتي.
نقول: لقد أظهرت الكفر، وهذا العمل لا يحتمل، يعني: يأتي إنسان مثلاً يسب النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: أنا لا أعرف أن هذا كفر؟ أنا لم أكن أعرف أن هذا كفر؟ فإذا كانت المسألة واضحة جداً، وليس لها تبرير ولا له عذر، فهذا لا يتردد في كفره إذا كان بهذه الطريقة.(311/21)
من نواقض الإيمان: مظاهرة الكافرين ومناصرتهم على المسلمين
وكذلك مظاهرة الكافرين ومناصرتهم على المؤمنين، أو الاستهزاء والسخرية بالمؤمنين لأجل إيمانهم لا لشيء شخصي بينهم وبينه، وإنما يستهزئ بهم لأجل إيمانهم، والتولي والإعراض عن حكم الله وحكم رسوله.
كل هذه الأشياء حصلت من المنافقين، يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الله: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} [التوبة:61].
فرد الله عليهم: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:58] فإن أذاهم قد عم المسلمين في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وإذا دعوا إلى الله ورسوله يتولون ولا يأتون، ولا ينقادون، ويظاهرون الكافرين ويعاونونهم على المؤمنين، والله قال: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] والموالاة للكفار منها ما يصل إلى درجة الكفر الأكبر، ومنها ما هو دون ذلك، فإذا كانت موالاة تامة، ورضاً بدين الكفار، وتصحيحاً لمذهبهم كما قال ابن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:28] قال: لا تتخذوا أيها المؤمنون الكفار ظهراً وأنصاراً توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، وتدلونهم على عوراتهم -أي: على عورات المسلمين- وثغور المسلمين، فإنه من يفعل ذلك فليس من الله في شيء، برئ من الله وبرئ الله منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر.
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في نواقض الإسلام: الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51].
والشيخ ابن السعدي رحمه الله قال: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة:23] قال في تعليقه على الآية: وذلك الظلم بحسب التولي، فإن كان تولياً تاماً كان كفراً مخرجاً عن دائرة الإسلام، وتحت ذلك من المراتب ما هو غليظ وما هو دونه، مثل شخص لو تشبه بهم أليس نوعاً من التولي لهم؟ تشبه باللباس، لكن قد لا يكفر به، ويعتبر فسقاً وكبيرة ومعصية، لكن لا يعتبر كفراً.
فإذاً: التولي درجات، إذا كان التولي عاماً فهو كفر، وتحت ذلك درجات.
وكذلك المسرة بانخفاض دين النبي صلى الله عليه وسلم واضح من قوله تعالى في وصف المنافقين: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ} [التوبة:50] ماذا؟ {تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} [التوبة:50] وعملنا الاحتياطات، وما خرجنا، والذي خرج هو الذي أكلها: {وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} [التوبة:50] {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:48] هؤلاء الذين وصفهم الله تعالى بهذه الصفات لا شك أنهم منافقون، وكذلك هم الذين يكرهون ما أنزل الله، {كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9] {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون:70] {وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54] {وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:81].(311/22)
الفرق بين ما كره شرعاً وما كره طبعاً
لو أن إنساناً قال: نفسي عندما تأتي إلى صلاة الفجر والتكاليف الشاقة، أو لو قيل الآن: جهاد فنفسي لا تحب وتعشق هذا، بل هناك نفور، وعندي شيء في قلبي، مثلاً: أحس بثقل وبمشقة في التكاليف، فالسؤال هو: هل الإحساس بالثقل والمشقة في التكاليف يُعتبر كرهاً لما أنزل الله، ومحبطاً للعمل، ونفاقاً أكبر أم لا؟
الجواب
الكره والمشقة التي تنال الإنسان من خارج فيما يحمل عليه بإكراه، والكره ما يناله من ذاته، وهو يعاف على ضربين: الأول: ما يعاف من حيث الطبع، والثاني ما يعاف من حيث العقل والشرع، ولهذا يصح أن يقول الإنسان في الشيء الواحد: إني أريده وأكرهه، أي: أريده من حيث الطبع وأكرهه من حيث الشرع، أو أريده من حيث العقل والشرع وأكرهه من حيث الطبع.
ونأخذ مثالاً: قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ} [البقرة:216] ماذا؟ {كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] فالآن خاطب الله الصحابة، قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] هو يثبت أن بعضهم يكرهونه، لكن يكرهونه من ناحية الطبع، وأما من ناحية الشرع فهم يحبون أن يفرض الجهاد، وهذه خذها على مسألة الزوجة الثانية؛ لأن بعض النساء عندهن مشكلة في هذه القضية، لو قلت للزوجة: ما رأيك لو أن زوجك تزوج عليك؟ ما رأيك في الزوجة الثانية؟ تكرهين ذلك أم تحبينه؛ لأن بعض الأزواج يذهب يلبس ليوقع زوجته في مشكلة شرعاً، يقول: يا ويلك إذا كرهت زوجتي فأنت كافرة؛ لأن الله قال: {كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9] وعملك حابط.
فنقول: إن كرهته طبعاً فلا شيء عليها، وإن كرهته شرعاً كفرت.
فإذاً لو قالت: أنا لا أقول شيئاً فهذا شرع الله، لكني بطبعي أكرهه، هذه غيرة.
فلا تكفر المرأة، وهذا وضع طبيعي وشيء عادي عند النساء.
إذاً: إذا كان الإنسان كره شيئاً طبعاً كأن يكره أن يقوم لصلاة الفجر؛ لأجل النوم ولذة الفراش، لكنك لو قلت له: تحب صلاة الفجر أم لا؟ يقول: أحب صلاة الفجر، لكن نفسي عليها مشقة، نقول: ما عليك شيء، إذا اقتصرت على الكره الطبيعي، وإذا قال لك: أنا عقلي وقلبي يؤمن، لكن نفسي من ناحية التعب البدني، أو الغيرة -مثل ما قلنا في قضية النساء- وبذلك يا أخي يزول الإشكال -إن شاء الله- في هذه القضية مثل قضية الزوجة الثانية، والفرق بين ما كره شرعاً وما كره طبعاً، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.(311/23)
تذكرة في الحر وفصل الصيف
لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن لجهنم نفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف، وبيَّن أن شدة الحر من فيح جهنم، مذكراً العباد بشدة حرارة جهنم وشدة استعارها، وفي هذه المادة يتحدث الشيخ عن شدة فيح جهنم، ويذكر الأسباب التي تساعد على الوقاية من النار وحرها.(312/1)
شدة الحر من فيح جهنم
ذإن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
عباد الله: إن الله سبحانه وتعالى يذكر عباده في الدنيا ببعض ما يكون في الآخرة، كما يذكرهم في الصيف حرارة جهنم، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن شدة الحر من فيح جهنم، وهذا حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم يثبت ويبرهن أن ما نحس به من حرارة في هذا الصيف إنما مصدره ومبعثه جهنم، ولا شك أن هذا شيء حقيقي ليس بمجاز؛ فإنه حديث الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم الذي قال: (إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم) ومعنى أبردوا عن الصلاة، أي: أخروا صلاة الظهر عن أول وقتها حتى تنكسر شدة الحر الذي يكون من أسباب التشويش على المصلي وقلة الخشوع.
وكذلك فإنه عليه الصلاة والسلام قد أخبر في الحديث الصحيح أن لجهنم نفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف، كما استأذنت ربها، وأخبر أن ذلك أشد ما نجد من الحر وأشد ما نجد من الزمهرير؛ ولذلك فإن من عذاب جهنم شدة البرد كما أن من عذابها شدة الحر، وهذا من العجائب، لكن الغالب عليها الحر ولا شك، فإنها كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري رحمه الله: (قالت النار: ربِ أكل بعضي بعضاً، فائذن لي أن أتنفس، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فما وجدتم من برد أو زمهرير فمن نفس جهنم، وما وجدتم من حر أو من حرور فمن نفس جهنم) رواه البخاري.
وشدة الحر من فيح جهنم، وفيحها: سعة انتشارها وتنفسها، وهذا يدل على شدة استعارها، وأنه يأكل بعضها بعضاً، وأن لها وهجاً عظيماً، وأن وهج جهنم يسطع على الأرض ويصل إليها، وكيف يكون علاقة ذلك بالشمس؟ هذا علمه عند الله تعالى، ولكننا نصدق بما أخبرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم، فإن شدة الحر من فيح جهنم، والشمس ستكون في النار عذاباً لعابديها يوم القيامة كما جاء ذلك في الأثر.
أيها المسلمون: إن هذا التذكير من الله سبحانه وتعالى مما نجده من شدة الحر حري بالمؤمن أن يتفكر فيه، وأن يقوم بالأسباب التي تنجيه من عذاب النار.(312/2)
وجود العذاب بالنار في البرزخ
أيها المسلمون: إن عذاب النار ليس خاصاً بالآخرة وإنما جزء منه ولا شك في البرزخ -أيضاً- كما أنه في الدنيا، في الدنيا يصلنا من حرارتها، وفي البرزخ يكون هناك من الحرارة في القبر على المعذبين، كما جاء في حديث البراء بن عازب الذي رواه أحمد وأبو داود وهو حديث صحيح، قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فلما قعدوا حول القبر وعظهم النبي عليه الصلاة والسلام في حال المؤمن وفي حال الكافر والفاجر، فقال في الثاني وذكر موته، قال: وتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي منادٍ من السماء: أن كذب فأفرشوه من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار.
قال: فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ثم يقيض له أعمى أبكم معه مرزبة من حديد لو ضرب بها جبل لصار تراباً، قال: فيضربه ضربةً يسمعها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلين، ثم تعاد فيه الروح ويضرب هكذا فيصير تراباً، ثم يعاد فيضرب إلى قيام الساعة).
لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن حرارة النار تصل إلى الفاجر والكافر في قبره عبر هذه النافذة المفتوحة كما قال: (وافتحوا له باباً إلى النار)، هكذا كان عليه الصلاة والسلام يعظ أصحابه ويذكرهم، وقد قال الله سبحانه وتعالى مذكراً أنه لا يستوي الظل ولا الحرور، قال: {وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ} [فاطر:21] فبين أن الأشياء المتباينة كالأعمى والبصير والظلمات والنور والظل والحرور هذه أشياء لا تستوي، وكذلك لا يستوي الكفر والإيمان، وكذلك لا تستوي السنة والبدعة، وكذلك لا يستوي صاحب الدين والخارج عن الدين: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} [هود:24] وهكذا الظل والحرور.
فأما الجنة فإن فيها ظلاً ظليلاً لا ينحسر، بخلاف ظل الدنيا فإنه ينحسر بحسب حركة الشمس، ولكن ما هو ظل جهنم؟ إنه ظل من يحموم كما أخبر الله سبحانه وتعالى، فأولئك لهم ظل ظليل وهؤلاء لهم ظل من يحموم، وكذلك فإن شرابهم حار غاية الحرارة، كما قال تعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15] فهم يجدون في النار حراً من وهجها ولهيبها، وكذلك الظل الذي فيها إنه من يحموم، إنه لا يفيد شيئاً، إنه لا يخفف عمن استظل به؛ لأنه من يحموم.(312/3)
أسباب تساعد على الوقاية من حر النار
هكذا يذكرنا ربنا لنتعظ ونأخذ بالأسباب التي تساعد على الوقاية من حر النار:(312/4)
الأول: الاستعاذة من حرها
ولذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قد أرشدنا إلى أمور نتقي بها حرارة النار، فقال صلى الله عليه وسلم مذكراً بالاستعاذة من حرها، وهو من أسباب الوقاية منها كما جاء في حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في صلاته: (اللهم إني أعوذ بك من فتنة القبر، ومن فتنة الدجال، ومن فتنة المحيا والممات، ومن حر جهنم) رواه النسائي رحمه الله هذا في الاستعاذة من حرها، فماذا أيضاً؟(312/5)
الثاني: الصوم في سبيل الله
والصيام كذلك، كما جاء عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم حر جهنم عن وجهه سبعين خريفاً) رواه النسائي وكان أبو سعيد لأجل هذا الحديث ينتقي اليوم الشديد الحرارة فيصومه مع طوله وشدة حره، فمن صام يوماً في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم حر جهنم عن وجهه سبعين خريفاً، وربما صام صلى الله عليه وسلم لأجل ذلك -أيضاً- صام في يوم شديد الحر، كان يجعل الإنسان يده على رأسه من شدة الحر، صامه هو وعبد الله بن رواحة رضي الله عنه.(312/6)
الثالث: الجهاد في سبيل الله
وكذلك فإن من الأمور العظيمة التي تعين على الوقاية من حر النار: الجهاد في سبيل الله، ولو كان ذلك في فصل الصيف شديد الحرارة فإنه يجاهد ويخرج للجهاد، ولذلك فإن المنافقين لما قالوا: {لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة:81] رد الله عليهم بقوله: {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً} [التوبة:81] ولذلك فإن الجهاد في سبيل الله ماض صيفاً وشتاءً كما كان المسلمون يفعلون (وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الكسوف في يوم شديد الحر، فأطال القيام حتى جعل أصحابه يخرون من شدة الحر، فأطال الصلاة والركوع والسجود، ثم أخبرهم أنه رأى أثناء صلاته النار وفيها امرأة تعذب في هرّة ربطتها، لم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، قال: ورأيت أبا ثمامة عمر بن مالك يجر قتبه في النار، وقد كانوا يقولون: إن الشمس والقمر لا يخسفان إلا لموت عظيم، فقال: وإنهما آيتان من آيات الله) الحديث أخبرهم بما رأى في النار، بل إنه جعل ينفخ حرها عن أصحابه خشية أن تأكلهم، وأخبرهم بما رأى فيها، فخر الصحابة وراءه من شدة الحر في الصلاة التي صلاها صلى الله عليه وسلم.
إننا -أيها الإخوة- إذا ذكرنا حال المسلمين كيف كانوا يصبرون على لأواء المدينة وحرها وشدتها، ومن يصبر على حرها فإنه يؤجر من الله أجراً عظيماً، إنهم كانوا يصلون وراءه صلى الله عليه وسلم، ويعانون معاناةً شديدة، كان الرجل يأتي معه بكف من حصباء من حصى يبردها في يده، يأتي بها المسجد ليضعها موضع سجوده! ونحن تحت الأسقف وفي هذه المكيفات لا بد أن نذكر نعمة الله سبحانه وتعالى علينا، والله عز وجل قد امتن على عباده بأن جعل لهم من الأسباب ما يقيهم الحرارة فقال سبحانه: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل:81] هذه الآية في سورة النعم، وهي سورة النحل التي عدد الله فيها على عباده أنعاماً كثيرة، فإن الثياب ولا شك منها ما يقي الحر كالذي يلبس على الجلد، وكذلك يلبس على الرأس لتغطيته، ولو لم يغطِ رأسه في الحر الشديد أو لم يغطِ جسمه لاحترق جلده، وهذا مشاهد معروف، أو أصيب بضربة شمس، فإذا جعل الملابس تقي الحر فكذلك تقي البرد من باب أولى، وإنما خاطب العرب بذلك لأنهم كانوا أصحاب حر في الغالب، فجعل الله الظلال وجعل الله اللباس، وجعل لنا في هذا العصر المكيفات {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل:8] وهذه نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى ينبغي أن تذكر فلا يكفر عز وجل، بل يحمد سبحانه على ما جعل لعباده من الوسائل الواقية.
عباد الله: إننا وفي الجمع وغيرها من مواسم الازدحام في الحر نذكر كيف كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصلون معه، فيضع أحدهم طرف الثوب من شدة الحر في مكان السجود، وأخذ العلماء من ذلك جواز أن يسجد الإنسان على طرف ثوبه، وأنه لا بأس ولو كان هذا اللباس عليه أن يضع طرفاً منه على الأرض، وأنه لا يشترط أن يكون منفصلاً، ويؤخذ كذلك من تأخير الصلاة والإبراد بها في الظهر المحافظة على أسباب الخشوع.(312/7)
الرابع: الصدقات
وكذلك فإننا لا ننسى في هذا الحر الذي نذكر به حر جهنم الصدقات التي تقي حر النار، قال صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة).
ومن كرامات بعض الصالحين ما يذكرنا به هذا الحر، فقد روى ابن ماجة وأحمد عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه كان يلبس ثياب الصيف في الشتاء، وثياب الشتاء في الصيف، فسأله أحد من التابعين عن ذلك، فقال: [إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلي وأنا أرمد العين يوم خيبر فقلت: يا رسول الله! إنني أرمد العين، فتفل في عيني فقال: (اللهم أذهب عنه الحر والبرد) فما وجدت حراً ولا برداً منذ يومئذ، وقال: (لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، ليس بفرار) فأعطاها علياً رضي الله تعالى عنه، قال: ما رمدت ولا صدعت منذ مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهي وتفل في عيني يوم خيبر وأعطاني الراية].
رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وأعلى منزلته.
اللهم إنا نسألك أن تقينا حر جهنم، اللهم اجعلنا ممن أعتقت رقابهم من النار إنك أنت الرحيم الغفار.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(312/8)
الإصابة بالحمى مما يذكر بعذاب النار
الحمد لله الواحد القهار، وأشهد أن لا إله إلا هو العزيز الغفار، وأشهد أن محمداً رسول الله سيد الأبرار، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الأطهار.
عباد الله: إن من أعراض الجسم ما يذكرنا بحرارة جهنم -أيضاً- ألا وهي الحمى، التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنها بأن شدتها من فيح جهنم، كما جاء ذلك في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري رحمه الله: (إن الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء)، وهذا يبين أن هناك أموراً غيبية لا تصل إليها عقول العباد، وأن الناس فسروا الأمور بالظواهر، فسروا الأمور بالأسباب الدنيوية فقط، فإنها نظرة قاصرة، فيعتمل في الجسم من أنواع العوامل المؤدية إلى رفع الحرارة ما يرفعها، ولكن هناك ارتباط كذلك (إن الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء).
وقد حصل للنبي صلى الله عليه وسلم من ذلك شيء عظيم، فقد روى أبو سعيد الخدري قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك، فوضعت يدي عليه فوجدت حره بين يدي فوق اللحاف، فقلت: يا رسول الله، ما أشدها عليك! قال: إنا كذلك يضاعف لنا البلاء ويضاعف لنا الأجر، قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء، قلت: يا رسول الله، ثم من؟ قال: ثم الصالحون، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة يحويها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء).
وقد أصيب الصحابة لما وصلوا المدينة بالحمى، فوعك أبو بكر وبلال، ودخلت عائشة على أبيها فقالت: يا أبت، كيف تجدك؟ ويا بلال، كيف تجدك؟ وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله
وكان بلال إذا أقلعت عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلةً بواد وحولي إذخر وجليل
يتذكر حشائش مكة ونباتاتها وجبالها
وهل أردن يوماً مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وظفيل
فقالت عائشة: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها -أي: اجعلها جواً صحياً- وصححها، وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حماها فاجعلها بـ الجحفة)، فاستجاب الله دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم، ونقلت الحمى التي كانت من الأمراض المشهورة في المدينة تعتري من فيها خصوصاً الغرباء، نقلت منها فجعلت في الجحفة، حتى أنه قال القائل: إنه إذا نزل بها البعير ربما أصابته بـ الجحفة، فأما المدينة، طيبة مدينة النبي صلى الله عليه وسلم فنقلت الحمى منها، وكان المولود يولد بـ الجحفة فلا يبلغ الحلم حتى تصرعه الحمى، كما روى ذلك البيهقي في دلائل النبوة.
وهذه الحمى مكفرة للذنوب، فلا يسبها الإنسان، وليس كما يفعله بعض الناس عندما يسبون الحرارة والسخونة من الحمى، وهي حظ المؤمن من نار جهنم، وتكفر عنه سيئاته، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سبها كما ورد ذلك في الأحاديث الصحيحة، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام لأحد الصحابة: (لا تسبها فإنها تمحي الذنوب)، وذكر ابن القيم رحمه الله في علاج الحمى من الطب النبوي الآثار في علاجها، ومنها: الماء البارد على الذي أصابته الحمى في وقت السحر ثلاثة أيام متوالية، والعلاج بالتبريد معروف عند الأطباء.
ثم ذكر قصة شاعر أصابته الحمى، فلما أوشكت أن تقلع عنه قال:
زارت مكفرة الذنوب وودعت تباً لها من زائر ومودع
قالت وقد عزمت على ترحالها ماذا تريد فقلت ألا ترجعي
قال رحمه الله: تباً له؛ إذ سب ما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبه، ولو قال:
زارت مكفرة الذنوب لصبها أهلاً بها من زائر ومودع
قالت وقد عزمت على ترحالها ماذا تريد فقلت ألا ترجعي(312/9)
مراعاة المسلمين في كف الروائح الكريهة عنهم
كذلك فإننا نتذكر في هذا الفصل -أيضاً- مراعاة المسلمين لإخوانهم في كف الروائح الكريهة عنهم، فإن العرق الذي يكون من الجسم في وقت الحر رائحته شديدة في الملابس كالجوارب، وفي الجسد في الآباط وغيرها، وقد جاء في الحديث الذي رواه أبو داود عن عكرمة: أن أناساً من أهل العراق جاءوا فقالوا: يا ابن عباس، أترى الغسل يوم الجمعة واجباً؟ قال: لا، ولكنه أطهر وخير لمن اغتسل، ومن لم يغتسل فليس عليه بواجب، وسأخبركم كيف بدأ الغسل كان الناس مجهودين، يلبسون الصوف، ويعملون على ظهورهم، وكان مسجدهم ضيقاً مقارباً السقف، إنما هو عريش، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم حار، وعرق الناس في ذلك الصوف، حتى ثارت منهم رياح آذى بذلك بعضهم بعضاً، فلما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الريح قال: (أيها الناس: إذا كان هذا اليوم -يعني: يوم الجمعة- فاغتسلوا، وليمس أحدكم أفضل ما يجد من دهنه وطيبه).
ومن هنا ذهب بعض أهل العلم إلى إيجاب غسل الجمعة على من له رائحة كريهة تؤذي المصلين؛ فإنه يجب عليه أن يغتسل قبل إتيانه إلى المسجد وإلا أثم بذلك، ورأى بعضهم أن الغسل واجب في كل حال، يجب عليه الاغتسال لإتيان الجمعة.
وكان أهل العلم -أيضاً- يطلبون العلم صيفاً وشتاءً لا يصدهم الحر عن طلب العلم، فإذا كان يؤذيك حر المصيف وبرد الشتاء فمتى تطلب العلم؟ وحكي في سيرة ابن المظفر سبط ابن الجوزي رحمه الله الذي ألف الكتاب العظيم في التاريخ مرآة الزمان، كان حسن الصورة، طيب الصوت، حسن الوعظ، حتى أن أهل دمشق كانوا يخرجون إليه في يوم وعظه يوم السبت بكرة النهار، كانوا يبيتون بالجامع لتحصيل حلقة العلم ويتركون البساتين في الصيف حتى يسمعوا ميعاده، ثم يحضرون الدرس، ثم ينصرفون إلى بساتينهم، وكانوا يخرجون من البلد إلى بساتينهم في وقت الصيف لاتقاء حر الصيف، فكان إذا صار موعد الدرس رجعوا من البساتين إلى البلد، وبات بعضهم في المسجد لأجل حضور الدرس من كثرة ما يزدحمون عليه! ومما يراعى في الصيف -أيضاً- مراعاة البهائم، كيف لا وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أن امرأةً بغياً رأت كلباً في يوم حار يطوف ببئر، قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له بموطها -أي: الماء- فغفر لها) رواه مسلم رحمه الله تعالى.(312/10)
إن الله على كل شيء قدير
وأقدار الله عجيبة؛ فإنه قادر على الإتيان بالبرد في عز الصيف، وقد حكى ذلك المؤرخون من أهل الإسلام في عدد من المناسبات، قال في المنتظم: وفي اليوم التاسع من ذي الحجة صلى الناس العصر في زمن الصيف وعليهم ثياب الصيف، فهبت ريح باردة جداً حتى احتاج الناس إلى الاصطلاء بالنار، ولبسوا الفراء والمحشوات، وجمد الماء كفصل الشتاء، والله على كل شيء قدير -سبحانه وتعالى- والحمد لله الذي جعل الإسلام في العرب الذين قطنوا هذه الجزيرة التي يغلب عليها الحر، فأجسادهم تطيق الحر وتطيق البرد، ولذلك لما انطلقوا في الفتوحات ما أعجزهم الوصول إلى البلاد الحارة والبلاد الباردة، ولو كانوا من أهل البرد لربما ما أطاقوا الجهاد في بلاد الحر، وأنتم تسمعون ماذا يحصل في بلاد الغرب إذا ارتفعت الحرارة عندهم ارتفاعاً أقل مما عندنا بكثير ماذا يحصل لهم، فالحمد لله رب العالمين.
وكذلك فإن بعض السلف قد كره أن يقال: هذا يوم حار، وهذا يوم بارد ونحو ذلك؛ لأنه كلام لا فائدة منه، كما يقول بعض الناس: شيء غير معقول، أو يتأفف، فهذا لا يغير شيئاً، ولن يخبر بجديد، ولذلك كرهوا فضول الكلام، وهذا من الأمثال التي ضربوها إنما هو من المباحات على أية حال، ولكنها تذكرة للناس أن يكفوا ألسنتهم عن بعض المباح خشية الوقوع في أمور محظورة، وألا يتكلم الإنسان إلا فيما يفيد، وإنه مما لا يفيد أن يخبر عن شدة الحرارة ونحو ذلك، وهذه تذكرة أنه إذا كان بعض الكلام المباح يمسك عنه الإنسان فكيف إذا كان الكلام محظوراً ومحرماً كالغيبة والكذب والسب والشتم والفحش ونحو ذلك؟ اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى أن تبلغنا جنة النعيم، اللهم حاسبنا حساباً يسيراً، اللهم واجعل سعينا في الدنيا سعياً مشكوراً، وذنبنا مغفوراً، اللهم إنا نعوذ بك من جهنم وحرها، اللهم قنا عذاب النار، اللهم قنا عذاب النار، اللهم قنا عذاب النار {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان:65 - 66] اللهم إنا نسألك في هذا اليوم العظيم النصر للإسلام والمسلمين، اللهم ارفع البأساء عن إخواننا في كوسوفو وفي كشمير، وفي سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين، اللهم ارفع الضر عنهم، اللهم قهم شر عدوهم، اللهم إن بهم من البأساء ما لا يشكى إلا إليك وأنت على كل شيء قدير، اللهم إنا نسألك لهم النصر والتمكين على العدو الغاصب يا رب العالمين.
اللهم حرر المسجد الأقصى من أيدي اليهود العابثين، اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، اجعل بأسهم بينهم، واجعلهم وأموالهم غنيمةً للمسلمين، اللهم خالف بين قلوب اليهود والنصارى، اللهم اجعل بأسهم بينهم، اللهم اجعل ما مكروه بالمسلمين شراً ووبالاً عليهم إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، والحمد لله رب العالمين، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.(312/11)
تشريعات إلهية في النكاح
إن الله سبحانه وتعالى حث على الزواج وأمر به في أكثر من موضع من كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وذلك لما له من فضل وطمأنينة وأمان وأسرار أودعها الله فيه، وجعل الله أحكاماً لهذا الأمر حتى ينضبط، وفي هذه المادة يتحدث الشيخ عن بعض الأمور والأحكام في الزواج.(313/1)
الحث على الزواج والأمر به
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده بالنكاح في عدة آيات فقال: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا * وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء:3 - 4]، وقال تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء:20 - 21].
وقال عز وجل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19].
دلت هذه الآيات على الأمر بالتزوج وجوباً أو استحباباً بحسب الأحوال.(313/2)
الحث على تخير النساء الصالحات
وقد جاء الحث على تخير النساء الكمّل، كما جاء في الآية الأخرى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34] فهو يرشد في سورة النساء إلى توجيه الاهتمام لهذه الطائفة من النساء بقوله: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34] فهي تحفظ نفسها إذا غاب زوجها، وتحفظ نفسها إذا غابت عن العيون.
وقال عليه الصلاة والسلام: (فاظفر بذات الدين تربت يمينك) وذلك لنفعها زوجها في دينه ودنياه، ولحفظها نفسها وماله وحسن تدبيرها، ولأنها تحفظ نفسها وماله وتحسن التدبير وتنفع العائلة وتربي الأولاد تربيةً دينية.(313/3)
فساد نظرية (تعدد الزواج للمرأة الواحدة بأكثر من رجل)
لقد أباح الله للرجل أن يتزوج إلى أربع من الحرائر، ومن الإماء ما شاء بملك اليمين، فلو أنه ملك ألف امرأة ملك يمين لكان ذلك جائزاً له شرعاً لا حرج عليه فيه، وأما عندما تتزوج المرأة أكثر من رجل في وقت واحد كما يقول بعض دعاة تحرير المرأة، عندما يتشدقون بمقولتهم: إذا أبحتم للرجل أكثر من امرأة فأبيحوا للمرأة أكثر من رجل فلا شك أن هذا من فساد عقولهم وفطرهم وظلمهم وجورهم، وكل عاقل يعلم بأن هذه الحالة تؤدي إلى اختلاط الأنساب، ويجتمع في المرأة الواحدة في رحمها ماء رجل وماء رجل ثان وماء رجل ثالث وماء رجل رابع ولا يدرى لأيهم الولد، وقد أثبتت الأبحاث الطبية الحديثة أن اجتماع أكثر من ماء رجل في رحم امرأة واحدة يسبب عدة أمراض خطيرة التي تكون نتيجة لاجتماع أكثر من ماء رجل واحد في رحم امرأة واحدة، ولذلك كانت العدة أمراً مهماً للمرأة قبل الزواج الثاني بعد طلاقها، وكذلك عدة الوفاة، ولحق الزوج الميت -أيضاً- والمهم أن تتم براءة الرحم وينتهي أثر ماء الرجل الأول لكي تتزوج برجل ثانٍ، فانظر إلى حكمة العليم الخبير سبحانه وتعالى!(313/4)
الحث على العدل في الزواج والتزويج
وحث الله عباده الرجال على الاقتصار على امرأة واحدة عند الخوف من الظلم، أما عند التحري في العدل والرغبة فيه فإنه أباح لهم إلى أربع من النساء، وأمر بإيتاء النساء صدقاتهن، وأن المهر يصلح بالقليل والكثير والأموال والمنافع، وبين أن من عنده يتيمة وهو وليها ألا يظلمها، وأنه إذا رغب في نكاحها أن يقسط لها في مهرها -أي: يعدل فيه- فلا ينقصها عما تستحقه، وعما يكون لغيرها في مثل حالها.
وكذلك لا يعضلها فيحبسها عن الرجال الأكفاء، وأن المرأة الرشيدة إذا طابت نفسها له بشيء من صداقها فله أكله بلا حرج إن لم يكن بسبب حبسه لها وعضله؛ لأن عضلها ظلم، فإن بعض الرجال الظلمة يفعلونه لكي تفتدي منه بما أعطاها أولاً أو ببعضه، فيكون قد أتى إثماً عظيماً، وقد بين تعالى أن الحكمة في ذلك أنه كيف يأخذه وقد استوفى المنفعة؟ يتزوج المرأة ويدخل بها، وتكون ثيباً بعد أن كانت بكراً بسبب دخوله، ثم يريد أن يضيق عليها لتطلب هي الخلع حتى يأخذ المهر، وليس له فيها حاجة وإنما يريد أن يأتي الخلع منها هي، هو في باطن الحال يريد الطلاق لكن لكي لا يدفع شيئاً، ولكي يسترجع ما فاته يريد أن يأتي الخلع منها لكي تعطيه المال الذي أخذته منه أولاً، أخذته منه مقابل أي شيء؟ الميثاق الغليظ، الميثاق الغليظ المؤكد: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء:21] فكيف يسترجع المهر الذي أعطاها وقد أتاها وصارت ثيباً بعد أن كانت بكراً، أو صارت زوجةً ثانيةً بعد أن كانت لقبله لمن قبله؟ وهكذا إذاً: الميثاق الغليظ يجب احترامه؛ وهو التزام الزواج المتضمن القيام بجميع الحقوق التي أولها إيفاء الصداق، وإنما يدفع الإنسان نصف الصداق إذا عفا الطرف الآخر -الزوجة- عن النصف، وكذلك إذا طلقها قبل الدخول وقد سمى لها مهراً، فدلت الآيات على أن الصداق ملك للزوجة وحق لها، وأنه يتقرر كله بالدخول، وكذا بالموت لتمام وقته، فلو أنه كان موظفاً في شركة فعقد على امرأة ولم يدخل بها، ثم مات في حادث سيارة -مثلاً- فإن للمرأة الإرث من زوجها بلا شك، وعليها العدة لأجل الميثاق الغليظ المؤكد وهو عقد النكاح.(313/5)
المعاشرة بالمعروف
وقد أمر تعالى كلاً من الزوجين أن يعاشر الآخر بالمعروف؛ من الصحبة الجميلة اللائقة بحالهما، وكف الأذى، وألا يماطل أحد منهما الآخر بحقه، ولا يتكره لبذله، ويدخل في المعاشرة بالمعروف أن النفقة والكسوة والمسكن وتوابع ذلك راجع إلى العرف إذا اختلفا في تقديره وتحديده، وأنه تابع ليسر الزوج وعسره؛ لأن الله قال: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، وقد أرشد الله وحث على الصبر على الزوجات ولو كرهها الزوج، فقد يبدل الله الكراهة محبةً، وقد تتبدل طباعها، أو يرزق منها أولاداً صالحين بررة يكون فيهم خيرٌ كثير.
وقوله عز وجل: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} [النساء:20] يدل على جواز كثرة المهر مع أن الأولى السهولة فيه؛ لأن (خير النساء أسهلن مئونة) كما جاء في الحديث الصحيح، لكن قد يسهل على الغني دفع مهر لا يسهل على الفقير فعله ودفعه.(313/6)
حرمة نكاح المسلم للكافرة أو الكافر للمسلمة
وقد بين سبحانه وتعالى حرمة نكاح المسلم للكافرة والإمساك بعصمتها إلا المحصنات من أهل الكتاب وهن العفيفات، وحرم إنكاح المسلمة للكافر، ومنه المستهزئ بالدين أو الذي يسب الله ورسوله ودين الإسلام، أو الذي يستهزئ بشرع الله تعالى، أو الذي يترك الصلاة تركاً بالكلية لا يركعها أبداً فهؤلاء كفرة لا يجوز لك يا مسلم أن تزوج ابنتك من واحد منهم، وينبغي أن تتقي الله في البحث عن حاله، ونحن مقدمون على موسم زواج في الإجازات، فينبغي إتمام البحث والتقصي حتى لا تسلم امرأةً مسلمةً مصلية لرجل كافر مرتد لا يصلي، أو أنه إنسان خارج عن الدين بأحد المكفرات التي سبق بيانها في خطبةٍ ماضية.(313/7)
حكم الزواج من الزاني والزانية
ولما شاع الفساد وانتشر بين الناس، وأدت هذه المفسدات الكثيرة في الجو والأرض إلى انتشار الرذيلة والفاحشة فيما بينهم، حتى كثر السؤال عن الحمل من الزنا وما يفعل به، وهذه من الورطات العظيمة التي تؤدي إليها المعصية، ثم قام الكلام والهمس في كثير من المجالس الخاصة في قضية هذه الفتاة التي فقدت عذريتها بسبب هذه العلاقة من رجل قابلها في السوق أو على باب المدرسة أو على باب الكلية، أو أخذها من مكان واعدها فيه ونحو ذلك، صارت هذه القضية مما كثر الكلام حوله؛ ولذلك فليعلم الجميع بأن الله سبحانه وتعالى قد حرم نكاح الزانية حتى تتوب، وحرم نكاح الزاني حتى يتوب، فلا يجوز للزاني أن يتزوج امرأةً مسلمة عفيفة، ولا يجوز للزانية كذلك أن تزوج بمسلم عفيف، ولا يجوز للزاني أن يتزوج زانية حتى يتوب كل واحد منهما، لا بد أن يتوب الأطراف أولاً، وثانياً: لا بد أن يتأكد من براءة الرحم وأنه ليس فيها جنين حتى لو كان منه؛ لأن ما كان من الزاني قبل الزواج لا يجوز أن ينسب إليه، بل ينسب إلى أمه.
وهؤلاء في هذه الحالات يتحدثون عن ستر الفضيحة بسرعة العقد عليها، ولما تتبين براءة الرحم، وليعلم المسلمون بأن الله لما حرم شيئاً علم سبحانه وتعالى أن فيه من الأضرار الأمور الكثيرة، وهذا واحد منها، فهذه العلاقات المحرمة خربت بيوتاً، وشوهت سمعةً، ونشرت رذيلةً، وأفقدت عذريةً، وأنجبت للحرام أولاداً، وهكذا صارت الفضيحة بسبب الفاحشة وشيوعها، والسبب: عدم الخوف من الله، والتساهل مع البنات في خروجهن وعدم متابعة أولياء الأمور، وهذه القضية التي صارت باجتراء هؤلاء الفسقة من الشباب على حدود الله، وانتهاك الحرمات؛ حتى لربما ضاعت الغيرة على أخته من كثرة ما ولغ في الحرام!(313/8)
حكم زواج الهبة لغير النبي صلى الله عليه وسلم
عباد الله: لقد حرم الله النكاح لطرفي الزنا حتى التوبة، وكذلك فإنه سبحانه وتعالى بين أن الهبة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50]، فهذا صريح على أنه ليس للمؤمنين أن ينكحوا إلا بمهر مسمى أو مفروض بعد ذلك، ولذلك فإن فعل بعض الزانيات في بعض الجامعات عندما تهب نفسها لرجل أو طالب جامعي وتقول: وهبت نفسي لك على نكاح الهبة ليعلم أن ذلك عقد باطل، ونكاح باطل ليس في شرع الله أبداً، بل هو زناً محرم.
وكذلك فإنه لا بد من موافقة الولي، وهذا العقد الذي يكون من طرفه بقوله: زوجتك.
ففعل هذه الزانية عندما تقول: وهبت نفسي لك، ونحو ذلك من الكلام التافه الذي لا يغني ولا يقام له وزن في هذه الشريعة، كل هذا -أيها الإخوة- من تسويلات الشيطان، ورغبة بعض الناس -بزعمهم- في العثور على القضية بسهولة، وقضاء الشهوة والوطر ولم يعقدوا عقداً شرعياً، ولذلك فإن هذا النكاح باطل كما يسمونه في بعض الأماكن "نكاح الهبة" ونكاح الشغار -أيضاً- بأن يزوج كل واحد لآخر موليته، ومهر كل واحدة بضع الأخرى.
إذاً: لا يجوز أن تكون هذه مقابل هذه، ولا أن تكون هذه شرطاً لهذه، وإنما لكل واحدة مهر مستقل، وعقد مستقل، وزواج مستقل وهكذا.(313/9)
حكم زواج الرجل امرأة تبقى في بيتها
ثم إن بعض الناس يتساءل عن حكم أن يتزوج امرأةً تبقى في بيتها أو في بيت أهلها يأتيها متى شاء، فنقول: الجواب على هذا: متى تم الزواج والنكاح بالشرط الشرعي بالإيجاب والقبول من ولي الزوجة مع الزوج مع الشاهدين، وعقد هذا النكاح وأشهد عليه وأشهر فإنه نكاح صحيح، وتنازل المرأة عن النفقة أو عن السكن أو عن ليلتها هو أمر يعود إليها، فلو أنها تنازلت عنه أو عن بعضه فهو أمر يعود إليها، ولا يبطل النكاح ولا يؤثر في صحته إذا تنازلت عن مسكن أو عن ليلة من الليالي، إذا كان الرجل متزوجاً بأخرى فرضيت أن يأتيها مرةً أو مرتين في الأسبوع مثلاً، فإن هذا لا يبطل النكاح ولا يؤثر في صحته، فهي صاحبة الحق، وهي التي رضيت بأن يعطيها بعض الحق، ولذلك يبقى النكاح صحيحاً.
أما نجاحه وفشله فهذه قضية أخرى، فقد يكون اجتماعياً يكثر فيه الفشل، أما بالنسبة للحل والحرمة في عقد النكاح فإذا استوفى شروط العقد الشرعي فإنه نكاح صحيح.(313/10)
تمتيع الزوجة المطلقة
وقد ذكر الله في كتابه أنه لو تزوجها ولم يفرض لها صداقاً ثم طلقها قبل المساس بها أن لها المتعة على الموسع قدره وعلى المقتر قدره؛ أن يمتعها وجوباً إذا لم يسم لها صداقاً وطلقها قبل المساس بها، يمتعها ويعطيها مالاً على حسب حاله.
وأما تمتيع الزوجة المطلقة في غير هذه المسألة فإنه سنة مؤكدة، لكل إنسان مسلم زوج إذا طلق زوجته أن يعطيها غير المهر متاعاً، قال الله تعالى عن هذه السنة المهجورة من كثير من المطلقين، بل لا تجد في المطلقين من يطبق هذه السنة إلا القليل جداً والنادر، قال الله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241]، {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ} [البقرة:241] حتى التي دخل بها، حتى لو بقيت عنده عشرين سنة {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241]، فمع أنه أوفاها مهرها في الأول وأعطاها نفقتها كاملة طيلة عشرين عاماً، ثم طلقها فإن التمتيع بالمعروف هو سنة مؤكدة جداً؛ لأن الله قال: {حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:180]، فإذا كنت تقياً يا أيها المطلِّق فلا تنس أن تعطيها مما أعطاك الله في وداعها بعد الطلاق، وأن تقدم لها ما يجبر خاطرها الذي انكسر بالطلاق.
هذا المتاع وهذا التمتيع الذي ندر من يفعله في هذا الزمان هو شيء يدل على الوفاء، ويدل على المفارقة بإحسان؛ لأن كثيراً من حالات الطلاق تنتهي بالمضاربات والمشاتمات واللعنات والمسبات بدلاً من أن تنتهي بهذا المتاع الذي ذكره الله في كتابه فقال: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241] فأين المتقون الذين يؤدون المتاع إذا طلقوا فترجع المرأة إلى بيت أهلها إذا طلقت وفي نفسها ما يطيبها على ذلك المطلق من جبران شيء من الكسر الذي حصل للخاطر بسبب الطلاق؟(313/11)
بيان معاملة الزوجة الناشز
أيها المسلمون: شرعنا -والحمد لله- شرع شامل كامل، فيه مراعاة للنفوس والخواطر، وفيه إرضاء ومراضاة، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى أباح أن يأخذ الرجل من مهر الزوجة إذا رضيت، وأن تسقط المرأة من المهر إذا رضيت، فقال تعالى: {إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:232]، دليل على اعتبار رضا الزوجين، وأن ذلك التراضي مقيد بالمعروف {إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:232] وقد أمر الله الزوج إذا نشزت زوجته بإجراءين: الأول: إجراء على ثلاث مراحل: أن يعظها، ويهجرها في المضجع، فإن لم تعتدل ضربها ضرباً غير مبرح، يجتنب الوجه ولا يجرح ولا يكسر عظماً.
والإجراء الثاني: إذا خيف الشقاق بينهما، وخيف ألا تقبل الحالة الالتئام ولو بهذه الإجراءات الثلاثة السابقة والخطوات الثلاث والدرجات الثلاث السابقة إذا خيف ألا تقبل الحال الالتئام أن يجتمع حكمان: واحد من أهل الزوج وواحد من أهل الزوجة، فينظران في الاجتماع بينهما، إن أمكن بطريقة من الطرق إما ببذل عوض، أو إسقاط حق من الحقوق، أو بغير ذلك، فلا يعدلا عن ذلك، ولكن إذا تبين أنه لا يمكن الاستمرار في الحياة الزوجية، فلهما التفريق بينهما بخلع من الزوجة أو بتطليق من الزوج، بحسب ما يقتضيه الحال، وما يقتضيه العدل والتجرد والإنصاف من النظر من قبل هذين الحكمين.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من الوقافين عند حدودك، المطبقين لشرعك، اللهم اجعلنا ممن أحل الحلال وحرم الحرام إنك سميع مجيب، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم أوسعوا لإخوانكم يوسع الله لكم.(313/12)
صراع مع الشهوات [1 - 2]
الشهوة والشبهة هما طريقا جهنم، وفي هذه المادة تحدث الشيخ عن الشهوة وخطرها، فذكر أولاً العقوبات المترتبة على الشهوة المحرمة؛ من بعد عن الله، وسوء الخاتمة إلخ.
ثم بيَّن أن هناك قواعد وطرقاً لمواجهة الشهوة المحرمة، مع الاستدلال من القرآن والسنة على ذلك، ثم انتقل إلى ذكر نماذج لأهل العفة ونماذج لأهل الفجور ومصير الفريقين.(314/1)
تحذير من خطورة الشهوة
الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله، وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد: أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحيا الله هذه الوجوه وحرمها على النار، ونضرها بالنظر إلى المليك الغفار، في جنة المأوى ودار الأبرار، حياتنا فتن ومجاهدة وشهوات ومعركة، ميدان الشهوات كبير والصراع فيه خطير، إنها معركة الإنسان مع غريزته المستترة في أغوار نفسه، والهالكون في أغوار هذه المعركة من البشر كثير، والناجون قليل قليل، يجتمع للمنتصر في معركته إقامة المروءة صون العرض وحفظ الجاه راحة البدن قوة القلب طيب النفس إقامة الفؤاد على الدين انشراح الصدر قلة الهم والغم والحُزن عز المكانة نضرة الوجه مهابة في قلوب العباد زوال الوحشة قرب الملائكة بعد الشياطين ذوق حلاوة الطاعة طعم حلاوة الإيمان زيادة في العقل والفهم وهكذا فضائل الدنيا وعظيم فضائل الآخرة.
لقد حذرنا سلفنا من خطورة الشهوة، قال يحيى بن معاذ: "من أرضى الجوارح باللذات فقد غرس لنفسه شجر الندامات".
وقال عبد الصمد: "من لم يعلم أن الشهوات فخوخ فهو لعاب".
وقال ابن القيم رحمه الله: ولما كانت طريق الآخرة وعرة على أكثر الخلق لمخالفتها لشهواتهم، ومباينتها لإراداتهم ومألوفاتهم؛ قل سالكوها، وزهدهم فيها قلة علمهم، وما هيئوا له وما هيئ لهم فقل علمهم بذلك، واستلانوا مركب الشهوة والهوى على مركب الإخلاص والتقوى، وتوعرت عليهم الطريق، وبعدت عليهم الشقة، وصعب عليهم مرتقى عقباتها وهبوط أوديتها وسلوك شعابها، فأخلدوا إلى الدعة والراحة، وآثروا العاجل على الآجل، وقالوا: عيشنا اليوم نقد وموعودنا نسيئة، فنظروا إلى عاجل الدنيا وأغمضوا العيون عن آجالها، ووقفوا مع ظاهرها ولم يتأملوا باطنها، ذاقوا حلاوة مبادئها وغاب عنهم مرارة عواقبها، اشتغلوا عن التفكر وقال مغترهم بالله وجاحدهم لعظمته: خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به.
وقد حذرنا الله تعالى من خطر الشهوات، فقال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} [آل عمران:14] الآية، وقال عليه الصلاة والسلام: (ما تركت بعدي فتنةً أضر على الرجال من النساء) وقال: (اتقوا النساء فإن فتنة بني إسرائيل كانت في النساء).
وهنا يأتي السؤال ويقول: لماذا خلقت الشهوة أصلاً؟ ما هي الحكمة من وجودها؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية مجيباً: إن الله خلق فينا الشهوات واللذات لنستعين بها على كمال مصالحنا، فخلق فينا شهوة الأكل واللذة به، فإن ذلك في نفسه نعمة، وبه يحصل بقاء جسومنا في الدنيا، وكذلك شهوة النكاح واللذة به هو في نفسه نعمة، وبه يحصل بقاء النسل، فإذا استعين بهذه القوى على ما أمرنا كان ذلك سعادة لنا في الدنيا والآخرة، وكنا من الذين أنعم الله عليهم نعمةً مطلقة، وإن استعملنا الشهوات فيما حظره علينا بأكل الخبائث في نفسها، أو كسبها كالمظالم، أو بالإسراف فيها، أو تعدينا أزواجنا أو ما ملكت أيماننا؛ كنا ظالمين معتدين غير شاكرين لنعمته.
قال تلميذه ابن القيم: اقتضت حكمة اللطيف الخبير أن جعل فيها -أي: في النفس- بواعث ومستحثات تؤزه أزاً إلى ما فيه قوامه وبقاؤه ومصلحته، فلو لم يوجد شهوة هل كان هناك زواج وأولاد وبقاء النسل البشري؟ وقال مذكراً ليتأمل المسلم كيف جمع الله -سبحانه وتعالى- بين الذكر والأنثى وألقى المحبة بينهما، وكيف قادهما بسلسلة الشهوة والمحبة إلى الاجتماع الذي هو سبب تخليق الولد وتكوينه قال: جعل الله فينا أمرين: الشهوة والعقل، الشهوة لهذه الحكم، والعقل ليتحكم في الشهوة، ويصرفها فيما أراد الله.(314/2)
الوعيد لمن صرف الشهوة في الحرام
إذاً: الشهوة نعمة أنعم الله بها على المخلوق، وهي ابتلاء يبتلي الله بها عباده لينظر أيطيعونه أو يطيعون الشهوة، وإنما المحظور صرف الشهوة في الحرام ما هو الوعيد على صرف الشهوة في الحرام؟ ما هي الأشياء التي تجعل الإنسان يخاف من الحرام؟ لقد توعد الله تعالى أهل الفجور والفساد بالعذاب الشديد يوم القيامة، فقال: {وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان:68]، وقبل هذا العذاب في النار يتعرض الزناة والزواني للعذاب في القبر، ويحدثنا صلى الله عليه وسلم عن شيء مما يعذب به هؤلاء في قبورهم: (فقال لي الملكان: انطلق انطلق؛ فانطلقنا فأتينا على مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع، فإذا فيه لغط وأصوات، فاطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم -من مكان الجريمة، أين مكان الجريمة؟ الأعضاء التناسلية، أين هي؟ تحت، من أين يأتيهم؟ من تحت- فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا -أي: صاحوا- وارتفعوا حتى كادوا أن يخرجوا، فإذا خمدت رجعوا فيها، فقلت له: وما هؤلاء؟ قال: أما الرجال والنساء العراة الذين في مثل بناء التنور فإنهم الزناة والزواني) هذا بعض ما يتعرض له الزناة من العقوبة، فمن يطيق ذلك؟! وليعلم الشباب والفتيات الذين لم يصلوا إلى ممارسة الفاحشة أن المقدمات من النظر والكلام واللمس هي الخطوات الأولى في طريق الفاحشة، وأن الجرأة عليها تقود إلى ما بعدها
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها من الحرام ويبقى الوزر والعار
تبقى عواقب سوء في مغبتها لا خير في لذة من بعدها النار
كل شهوة تستدعي ما دونها حتى يهلك الإنسان، لقد أقسم الشيطان أمام الله تعالى أن يسعى لإغواء عباده جاهداً في ذلك، قال تعالى عنه: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:16 - 17] إنه يسعى بكل وسيلة لإضلالنا وإغوائنا وإيقاعنا في الصغائر والكبائر.
لقد أخبرنا الله عن الذين فروا في أحد أنه استزلهم الشيطان، قال تعالى: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ} [آل عمران:155] وهكذا الذين يسقطون في فخاخ الشهوة إنما استزلهم الشيطان، يستدرجك لإيقاعك في الصغيرة نظرة كلمة مغازلة ثم يقول بعد ذلك لك: استمر، ثم تقع الخسارة الكبرى ويقع الانحراف.(314/3)
سوء الخاتمة من عقوبات الشهوة المحرمة
من عقوبة الشهوات المحرمة: سوء الخاتمة، قال صلى الله عليه وسلم: (فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها).
كان السلف يخشون سوء الخاتمة، بكى سفيان الثوري ليلةً إلى الصباح، فقيل له: أكل هذا خوفاً من الذنوب؟ قال: [الذنوب أهون! إنما أبكي خوفاً من الخاتمة] إن التعلق بالشهوات واستيلاؤها على القلب من أكبر أسباب سوء الخاتمة؛ فإن هذه الأشياء التي تشغل بال الإنسان من الحرام، وانشغاله بها وانهماكه، إذا نزل به الموت سيطفو على السطح، وسيظهر على لسانه، وحين تخونه قواه وتخور يطفو ما كان مخبأً من هذه الشهوات المحرمة.
يروى أن رجلاً عشق فتى واشتد كلفه به، وتمكن حبه من قلبه حتى مرض ولازم الفراش بسببه، حتى أوشك على الهلاك، وأراد أن يراه فلم يستطع، فأسقط في يده وانتكس، وبدت عليه علامات الموت، فجعل يقول والموت نازل به:
أسلم يا راحة العليل ويا شفاء المدنفِ النحيل
رضاك أشهى إلى فؤادي من رحمة الخالق الجليل
فقيل له: يا فلان! اتق الله.
قال: قد كان.
فما أن جاوز باب داره حتى سمعوا صيحة الموت.
وآخر كان واقفاً بإزاء داره، فمرت به فتاة لها منظر جميل، فقالت: أين الطريق إلى حمام منجاب؟ وكانوا من قديم يغتسلون في الحمامات العامة، فأغواه الشيطان فقال: هذا حمام منجاب، وأشار إلى باب داره، فدخلت المسكينة وهي لا تدري ما الأمر، فأغلق الباب فأسقط في يدها، لكنها كانت ذكية، فأظهرت البشر والسرور، وقالت: يصلح أن يكون معنا ما يطيب عيشنا من طعام، فخرج وترك الدار ولم يغلقها فهربت بذكائها وحسن تدبيرها، وهكذا الفتاة لو تآمروا عليها فهي صالحة وإيمانها يدفعها للنجاة، فلما رجع ووجدها قد هربت هام وأكثر الذكر لها، وجعل يمشي في الطريق كالمجنون، ويقول:
يا رب قائلة يوماً وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجاب
فبينما هو يوماً على ذلك إذ سمع صوتاً يقول له:
هلا جعلت سريعاً إذ ظفرت بها حرزاً على الدار أو قفلاً على الباب
فازداد هيامه حتى حضرته الوفاة، فكان آخر كلامه من الدنيا:
يا رب قائلة يوماً وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجاب
ولم ينطق بالشهادة، حمانا الله من مثل هذا المصير!(314/4)
الشهوة المحرمة سبب في إخراج العبد من محبة الله
إن هذه الشهوات المحرمة تخرج العبد من محبة الله، وتخرج محبة الله من قلب هذا الضال، والضدان لا يجتمعان: محبة الشهوات ومحبة الرحمن، فإذا امتلأ القلب من محبة الشهوات فماذا يبقى له نصيب من محبة الرحمن؟ إنه خيار واحد، حدد مصيرك واختر طريقك، وإذا أردت محبة الله ولذة الإيمان فلن تحصل إلا بطرد نصيب الشيطان.
إن الذين تستغرقهم الشهوات المحرمة ويتحولون إلى عبيد لها تأمرهم فيطيعون، وتنهاهم فيخضعون، وإذا رأى الواحد هذه المرأة التي هام بها وأحبها يفعل مثلما فعل ذلك الذي أحب عزة فقال فيها شركاً وكفراً:
رهبان مدين والذين عهدتهم يبكون من حذر العقاب قعوداً
لو يسمعون كما سمعت حديثها خروا لـ عزة ركعاً وسجوداً
نعوذ بالله من الخذلان! قال ابن القيم رحمه الله في حال هؤلاء: فلو خُيِّر بين رضاه -رضا المعشوق- ورضا الله لاختار رضا المعشوق على رضا ربه، ولقاء معشوقه أحب إليه من لقاء ربه، وتمنيه لقربه أعظم من تمنيه لقرب ربه، يسخط ربه بمرضاة معشوقه، ويقدم مصالح معشوقه وحوائجه على طاعة ربه يجود لمعشوقه بكل نفيسة ونفيس، ويجعل لربه من ماله إن جعل له كل رذيلة وخسيس، فلمعشوقه لبه وقلبه وهمه ووقته، وخالص ماله، وربه على الفضلة إذا زاد شيء.
قد اتخذه وراءه ظهرياً، وصار لذكره نسياً إن قام في الصلاة فلسانه يناجيه وقلبه يناجي معشوقه، ووجه بدنه إلى القبلة ووجه قلبه إلى المعشوق، ينفر من خدمة ربه حتى كأنه واقف في الصلاة على الجمر من ثقلها عليه، فإذا جاءت خدمة المعشوق أقبل عليها بقلبه وبدنه وفرح بها، خفيفةً لا يستثقلها ولا يستطيلها، ولو نظرت في أشعار العاشقين والعاشقات وما يغني به المغنون والمغنيات لترى الأدلة على ذلك، اقرأ ما يكتبه هؤلاء من الأبيات والعبارات، وتأمل واعتبر بما يصنع الشيطان في أهل العشق والشهوة المحرمة هل يستحق هذا الهوى والغرام أن تختصر فيه الحياة كلها؟(314/5)
العقوبات الدنيوية لأهل الشهوة المحرمة
مخاطر الأمراض والأوجاع في الدنيا إن من سنة الله تعالى -أيها الإخوة والأخوات- معاقبة من عصاه في الدنيا قبل الآخرة، ولمن يأتون الفواحش عقوبة من النوع الخاص، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا) حديث صحيح وقد تحققت هذه السنة الربانية في عصر الفحش والفجور الذي نعيش فيه، فهؤلاء مصابون بالزهري والسيلان، ثم بالأخطر من ذلك بالهربز والإيدز، أعاذنا الله من هذا! يبلغ الذين ينقل إليهم مرض الإيدز يومياً على مستوى العالم عشرة آلاف، في كل دقيقة يصاب ستة دون سن الخامسة بالمرض، وفي عام ألفين لقي ما يقارب ثلاثة ملايين شخص من حاملي المرض مصرعهم، وتسبب الإيدز في إضافة ثلاثة عشر مليوناً ومائتي ألف طفل إلى قائمة الأيتام، وعدد الذين أصيبوا به في عام ألفين أكثر من أربعة وثلاثين مليون شخص، أما الآن فقد وصلوا إلى خمسين مليوناً من الأشخاص، ثلثهم من الشباب بين الخامسة عشرة والرابعة والعشرين بقي أن تعلم أن ثلاثةً (73%) من هؤلاء من الذين يعملون عمل قوم لوط! وها هو أحد المصابين به وهو السينمائي الأمريكي روك هيدسون، يقول على فراش مرض الإيدز، فراش الموت: أنا في انتظار القدر، إنه يدق بابي، أستمع إلى صوته من أعماقي، لم أكن أود أن أتعذب هكذا وأنا في هذا المرض سرطان العصر، ورغم ابتسامات الكثيرين وتهنئتي بالتماثل للشفاء، ومحاولاتهم رفع معنوياتي، إلا أنني على موعد مع القدر، إنه يدق بابي في اللحظات الأخيرة.
وها هو أحد الشباب الذي كان يعاشر أحد الفتيات بالحرام خارج البلاد، لما أراد أن يعود وجد ورقةً قد كتب عليها: مرحباً بك عضواً في نادي الإيدز.
فضاق عليه الأمر وصعق، يعودون من الإجازات فيعانون الأوجاع والالتهابات، فيعملون التحليلات ويكتشفون النتائج الفاجعات؛ فيعتزلهم الناس أشد من اعتزال الأجرب، نعوذ بالله من هذا المسلك وهذا المصير!(314/6)
الجزاء من جنس العمل
من عقوبة الشهوات المحرمة والولوغ فيها: أن الجزاء من جنس العمل، وهذه قاعدة شرعية وسنة ربانية لا تتخلف أن يجزي الله العامل من جنس عمله، انظر إلى من يطلق العنان لشهوته دون وازع أو ضابط، أتظنه يسلم؟ لا، فجزء يسير من عقوبته أن يدخل في هذه القاعدة، كما قال الشافعي:
عفوا تعف نساؤكم في المحرم وتجنبوا ما لا يليق بمسلم
إن الزنا دين فإن أقرضته كان الوفا من أهل بيتك فاعلم
من يزن يزنَ به ولو بجداره إن كنت يا هذا لبيباً فافهم
وفي رواية:
يا هاتكاً حرم الرجال وقاطعاً سبل المودة عشت غير مكرمِ
لو كنت حراً من سلالة ماجدٍ ما كنت هتاكاً لحرمة مسلمِ
من يزن يزن به ولو بجداره إن كنت يا هذا لبيباً فافهمِ
إذاً: من يتجرأ على انتهاك عرض الآخرين معرض أن يرى ذلك في ابنته أو أخته، ومن لا يبالي بمحارم الله قد تخونه زوجته، ومن تتجرأ على ذلك معرضة أن تراه في بناتها ونسلها جنبنا الله كل مكروه! فحافظ أخي وحافظي أختي على هذا العرض، واعلموا أنه قد يجازى الإنسان من جنس عمله فيقع لأهله ما أوقعه بالناس.(314/7)
من مضار الزنا
أما قبح الفاحشة وخطرها وعظيم ضررها فقد قال ابن القيم رحمه الله في فصل جامع لمضار الزنا: والزنا يجمع الشر كله؛ من قلة الدين، وذهاب الورع، وفساد المروءة، وقلة الغيرة، فلا تكاد تجد زانياً معه ورع، ولا وفاء بعهد، ولا صدق في حديث، ولا محافظة على صديق، ولا غيرة على الأهل، فالغدر والكذب والخيانة وقلة الحياء وعدم المراقبة وعدم الأنفة للحرام، وذهاب الغيرة من القلب من شعبه وموجباته.
ومن موجباته غضب الرب بإفساد حرمه وعياله، ولو تعرض رجل إلى ملك من الملوك بهذا لقابله أسوأ مقابلة.
ومنها: سواد الوجه وظلمته، وما يعلوه من الكآبة والمقت الذي يبدو عليه للناظرين.
ومنها: ظلمة القلب وطمس نوره، فتذهب حرمة الفاعل، وتسلب أحسن الأسماء من أسماء العفة والبر والعدالة، ويتصف بعكسها كاسم الفاجر، والفاسق، والزاني، والخائن، يسلب اسم المؤمن (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، فإذا زنا العبد خرج من الإيمان ولم يخرج خروجاً كلياً إلا بالكفر، ويعرض نفسه لسكنى التنور، يفارق الوصف الطيب {والطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} [النور:26] ويلزمه الوصف الخبيث {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور:26]، وقد حرم الله على الجنة كل خبيث، وجعلها مأوى الطيبين، فقال: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ} [النحل:32] {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73] والزناة من أخبث الخلق، وقد جعل الله جهنم دار الخبثاء، ويوم القيامة يميز الخبيث من الطيب، ويجعل الخبيث بعضه فوق بعض فيركمه في جهنم.
ومن عقوبات الزاني والزانية: الوحشة التي يجعلها الله في هذه القلوب الموحشة، فتعلو الوجه، ويزول الأنس هذه الوحشة التي يراها حتى أقرب الناس إليه تفوح رائحة الزنا منه ضيق الصدر وما يحصل له من الغم والهم بسبب هذه المعصية معذب يقول: في بطنها، في أحشائها ولد مني، ما هو واجبي؟ ماذا علي؟ هل علي نفقته؟ هل علي تربيته؟ هل علي أن أضيفه لاسمي؟ ماذا أفعل؟ لقد تورطت، ويعرض نفسه لفوات الاستمتاع بالحور العين في المساكن الطيبة في جنات عدن، وإذا كان الله يعاقب لابس الحرير في الدنيا بأن يحرمه منه في الآخرة، وشارب الخمر في الدنيا بأن يحرمه منه في الآخرة إلا إذا تاب، وكذلك الزاني معرض للحرمان من الحور العين.
هذا الزنا يجرئ على قطيعة الرحم وعقوق الوالدين، وكسب الحرام، وظلم الخلق، وإضاعة العيال هناك أناس ضيعوا الزوجات والأولاد بسبب السفر إلى أماكن الحرام، زوجته تستغيث وتقول: هل يجب علي أن أطلب الطلاق؟ هل يجوز لي الفراق؟ لم أعد أتحمل أأسكن؟ أأعاشر شخصاً في الفراش وأنا لا أعلم هل ينقل إلي مرضاً في هذا الوقاع أم لا؟ ما حال أولادي؟ هل انتقل إليهم المرض أم لا؟ وهكذا يكون العذاب {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال:53].(314/8)
الإباحية في أمريكا
أيها الإخوة نحن الآن في عصر الشهوات، نحن الآن في عصر تفجر الشهوات، نحن الآن في عصر الإباحية، الحياة الغربية التي طغت في هذا الزمان، تجارة الدعارة والإباحية في أمريكا رائجة جداً ثمانية مليار دولار لها أواصر قوية تربطها بالجريمة المنظمة، تجارة الدعارة بالكتب والمجلات، وأشرطة الفيديو، والقنوات الفضائية، ومواقع الإنترنت، والنوادي الليلية، وغير ذلك، تجارة الدعارة ثالث أكبر مصدر للجريمة في أمريكا، في الوقت الحاضر يوجد أكثر من تسعمائة دار سينما متخصصة للأفلام الإباحية، وأكثر من خمسة عشر ألف مكتبة ومحل فيديو تتاجر بالأفلام والمجلات الإباحية.
بعد القمار والمخدرات الفاحشة، أماكن الحرام في أمريكا أكثر من مطاعم ماكتونلد بثلاثة أضعاف، كانوا فيما مضى يحاربونها بالقوانين، لكن نجحت الاستديوهات في تخفيف المراقبة على الأفلام وتغيير مفاهيم الإباحية؛ حتى صارت كثيرٌ من الأفلام التي كانت تحت بند " X" قد أعيد تقويمها اليوم لتصبح تحت بند " R" الأخف؛ وبذلك تعرض على الكبار والصغار، وإلغاء قانون العفة في الاتصالات مما نجحوا به أولياء الشهوات هناك؛ فزالت كثير من القيود القانونية.
أمريكا أول دولة في العالم في إنتاج المواد الإباحية، تصدر سنوياً مائة وخمسين مجلة إباحية بثمانية آلاف عدد، تجارة تأجير الأفلام زادت من خمسة وسبعين مليون دولار في عام (1985م) إلى ستمائة وخمسة وستين مليون دولار في عام (1996م)! هؤلاء الناس الذين اتبعوا الشهوات وأرادوا نشرها في العالم، وترسل هذه المغلفات بألوان معينة -بزعمهم- للحماية، أنشئت هذه المواقع العجيبة، حتى أن إحدى شركات الإباحية تدعي أن أربعة ملايين وسبعمائة ألف زائر يزور موقعهم أسبوعياً!! قامت بعض الشركات بدراسة عدد الزوار في صفحات الدعارة والإباحية في الإنترنت، ففي شركة " ويب سايد ستوري" بعض هذه الصفحات يزورها مائتان وثمانون ألفاً وأربعمائة وثلاثون زائراً في اليوم الواحد حسب إحصائيات هذه الشركة المسئولة عن الإحصائيات، وهناك أكثر من مائة صفحة مشابهة تستقبل كل صفحة أكثر من عشرين ألف زائر يومياً، وأكثر من ألفي صفحة مشابهة تستقبل أكثر من ألف وأربعمائة زائر يومياً.
هناك أحد المواقع استقبلت خلال سنتين ثلاثةً وأربعين مليوناً وستمائة وثلاثة عشر ألفاً وخمسمائة زائر، وواحدة من هذه الجهات تزعم أن لديها أكثر من ثلاثمائة ألف صورة خليعة تم توزيعها على الشبكة أكثر من مليار مرة، وقام باحثون في جامعة "كارنيجي ميلُن" بإجراء دراسة إحصائية على تسعمائة وسبع عشرة ألف وأربعمائة وعشر صور من الصور استرجعت ثمانية ونصف مليون مرة من ألفي مدينة في أربعين دولة، نصف الصور المستعادة هي صور إباحية، ثلاثة (83%) من الصور المتداولة في المجموعات الإخبارية "نيوز جروبز" في الإنترنت صور إباحية، مؤسسة "زوجبي" في مارس عام (2000م) وجدت أن أكثر من (20%) من سكان أمريكا -وليس من المستخدمين في أمريكا - يزورون المواقع الإباحية.
المواقع الإباحية لا تمثل إلا (1%) من عدد المواقع الكلية في الإنترنت، لكن نحو (90%) من المشتركين في الإنترنت يدخلون على هذا الـ (1%).
مواقع الحرام تبدأ -كما يقولون هم- بفضول بريء، ثم تتطور إلى إدمان مع عواقب وخيمة؛ كإفساد العلاقات الزوجية وتبعات الشر، يغلقون الأبواب على أنفسهم الزوجات يشتكين من الأزواج، وتنتهي العملية بشراء الدش واقتناء القنوات الخليعة، وهذه الرسيفرات المبرمجة والمشفرة، والبطاقات، هذه القضية التي وجدت اليوم طريقاً للربح بثمانية عشر مليار دولار التجارة الإلكترونية (8%) منها دعارة تسعمائة وسبعون مليون دولار حجم التجارة يتوقع أن يرتفع إلى ثلاثة مليارات دولار في عام (2003م) حجم التجارة الإباحية على الشبكة لم يسبق في فترة من تاريخ العالم أن وصلت القضية إلى هذه الدرجة (63%) من المراهقين يرتادون صفحات وصور الدعارة ولا يدري أولياؤهم عنهم بأنهم يدخلون إليها أكثر مستخدمي المواد الإباحية تتراوح أعمارهم ما بين سن اثنتي عشرة سنة وسبع عشرة سنة! ثم يصدرون الإباحية إلينا {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19]، الغرب في زماننا بقيمه الفاسدة وأمراضه الخبيثة ومبادئه الذميمة لم يكتفِ بإفشاء الرذائل والمنكرات واستدعاء غضب الجبار، لكن يتمادى إلى محاولة تصدير هذه المصائب إلينا؛ ولذلك نجد جمعية مراقبة حقوق الإنسان "هيومن رايتس ووتس" تذم وتنكر أية محاولات لدول الخليج العربي لحجب الإنترنت، ويدعونها إلى الانفتاح والحرية!! أما القنوات الفضائية الإباحية التي تعرض الأفلام والأغاني الجنسية، وتعرض الدعايات الجنسية والاتصالات الهاتفية المباشرة المصورة، وما يسمى بخطوط الصداقة، والغرف الجنسية، وأفلام محاكاة الواقع بالمناظير، والغرف المظلمة، والمسارح، وحفلات الفنادق، وغرف التأجير، والشقق المفروشة، وسفن الدعارة، اليخوت الراسية على الموانئ العائمة؛ شيء هائل وشر مستطير، زد على ذلك أسطوانات الليزر المدمجة، والمجلات، وما يتبادله الطلاب في المدارس من الدسكات، وما يرسل بالبريد الإلكتروني النكت القذرة رسائل الجوال المهيجة للغرائز الكلام الفاحش لقد صار البلاء عاماً أيها الإخوة!! وما حول الشباب والصغار والكبار اليوم جنس في جنس؛ عورات مكشوفة أعمال محرمة أوحال قاذورات مستنقعات عفن قرف أشياء تدعوا أصحاب الفطر السليمة للتقيؤ والمرض والهم والغم لما آل إليه الأمر وصار إليه الحال، والله المستعان وإليه المشتكى وعليه التكلان!(314/9)
قواعد الصراع والمواجهة مع الشهوات
وهنا يأتي السؤال الكبير: كيف الخلاص من هذا الفساد الهائل والحرام الخطير والشر المستطير؟
و
الجواب
إن شريعتنا وإسلامنا وديننا الحنيف فيه العلاج لكل مشكلة ومرض ومعضلة، وهذه نصوص الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم، فتعالوا نتعرف على قواعد المواجهة، قواعد الصراع مع الشهوات، كيف نتغلب وكيف نفوز:(314/10)
القاعدة الأولى: مراقبة الله تعالى
القاعدة الأولى: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} [يوسف:23] إني أخاف الله.
إن الإيمان بالله والخوف منه صمام الأمان العاصم للعبد من مواقعة الحرام والانسياق وراء الشهوات {مَعَاذَ اللَّه} [يوسف:23] قالها يوسف عليه السلام فأعاذه الله وصرف عنه الكيد إني أخاف الله، يقولها الذين يستظلون بظل العرش في يومٍ لا ظل إلا ظل الرحمن (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله) قال الحافظ ابن حجر: والظاهر أنه يقول ذلك بلسانه؛ إما ليزجرها عن الفاحشة، أو ليعتذر إليها ويقيم الحجة، ويحتمل أن يقولها بقلبه.
وقال القرطبي: إنما يصدر ذلك عن شدة خوفٍ من الله تعالى ومتين تقوى وحياء، ولا تصدر مثل هذه الكلمة وما كان من جنسها: {مَعَاذَ اللَّه} [يوسف:23] في ذلك الموطن إلا ممن راقب الله في سره وفي علانية أمره، وخافه في الغيب والشهادة {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ} [ق:31 - 33] أين؟ أين خشي الرحمن؟ {بِالْغَيْبِ} [ق:33] إذا غاب عن الناس {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} [ق:33 - 34].
فالمؤمن إذا تربى على مراقبة الله، ومطالعة أسرار أسمائه وصفاته كالعليم والسميع والبصير والرقيب والشهيد والحسيب والحفيظ والمحيط والمهيمن؛ أثمر ذلك خوفاً من الله في السر والعلانية، وانتهاءً عن المعصية، وصدوداً عن الشهوة المحرمة قال الشعبي رحمه الله في معنى "المهيمن": المطلع على خفايا الأمور وخبايا الصدور، الذي أحاط بكل شيء علماً.
ويجب على العبد أن يتذكر لحظة عرض الشهوات عليه هذه النصوص التي جاءت في رقابة الله عليه، قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة:235] {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً} [الأحزاب:52] {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14] {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19].
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى العصيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
أيها المسلم:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عليه يغيب
فالمؤمن إذا تربى على معاني هذه الآيات السابقة وعمل بمقتضاها أصبح إنساناً سوياً، ونشأ شاباً تقياً، لا تستهويه مادة ولا تستعبده شهوة، ولا يتسلط عليه الشيطان، ولا تعمل النفس الأمارة بالسوء فيه، بل يصرخ إن دعته الشهوة: إني أخاف الله، وإذا وسوس إليه الشيطان صرخ فيه: إنه ليس لك علي سلطان.
وإذا زين له قرناء السوء شيئاً في هذا من الفاحشة أسكتهم بقوله: لا أبتغي الجاهلين.
من فوائد قول الله عن يوسف: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} [القصص:14] قال: إنما أعطاه ذلك إبّان غلبة الشهوة لتكون له سبباً للعصمة.
إن هذا العبد المتربي على الخوف من الله جل وعلا هو الذي تؤثر فيه كلمة "اتق الله" إذا قارب الحرام يوماً وجاءت "اتق الله" أثرت ونفعت، تأمل ذلك الرجل في قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة الذي قال: اللهم كانت لي ابنة عم أحب الناس إلي -لكن ما أرادته وتزوجت غيره- فأردتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين -قحط وجوع- فجاءتني، فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت، حتى إذا قدرت عليها قالت: لا يحل لك -رمت بآخر سهم في جعبتها، المرأة تحت ضغط الحاجة ولا يجوز لها أن تفعل ذلك، لكن تحت ضغط الحاجة جاءت، فلما قعد بين رجليها قالت آخر شيء يمكن أن تبذله في ذلك الحال- اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه - (اتق الله) كلمة كبيرة- قال: فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها كم أعطاها حسب الحديث؟ مائة وعشرين ديناراً، والدينار كم يبلغ غراماً من الذهب؟ أربعة وربع، مائة وعشرون في أربعة وربع يساوي قرابة نصف كيلو من الذهب، وإذا قلت: إن كيلو الذهب بحوالي أربعين ألفاً، فيكون أعطاها عشرين ألف ريال، وقام عنها وهي أحب الناس إليه وترك المال! قال: اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة شيئاً.
بسبب هذا الرجل الذي عمل هذا العمل، هذه كلمة "اتق الله" أثرت فيه، ما الذي أثر فيه؟ مراقبة الله والخوف منه (اتق الله) صار لها معنى.
لا خير فيمن لا يراقب ربه عند الهوى ويخافه إيماناً
حجب التقى سبل الهوى فأخو التقى يخشى إذا وافى المعاد هواناً
ولذلك يقوم عن الحرام ولا يأتيه، ومتى أصلح العبد قلبه وعمره بالتقوى دخل في زمرة عباد الله المخلصين، هؤلاء يحفظهم الله {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] والشيطان ممنوع من غوايتهم، لا تعمل فيهم حيله وتلبيساته؛ لأن الله قال عنه: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82 - 83] وهو الذي قال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:39 - 40] إذاً من أراد النجاة من مستنقع الشهوات فعليه أن يربي نفسه تربية إيمانية متكاملة يضمنها معاني التقوى والمراقبة والخوف من الله ورجاء الله ومحبته وهكذا، ثم يحاسب نفسه ويسائلها ويعاتبها، يتفقد قلبه ويفتش عمله، يستعرضه، ما نصيب الذكر من يومه؟ ما نصيب القرآن من قراءاته؟ ما نصيب الرقائق من مسموعاته؟(314/11)
القاعدة الثانية: احذر خائنة الأعين
القاعدة الثانية في مواجهة الشهوات في إدارة الصراع: احذر خائنة الأعين، قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] قال ابن عباس: [هو الرجل يدخل على أهل البيت بيتهم وفيهم المرأة الحسناء أو تمر به، فإذا غفلوا لحظ إليها، وإذا فطنوا غض بصره عنها، فإذا غفلوا لحظ فإذا فطنوا غض وهكذا].
قال سفيان الثوري: [الرجل يكون في المجلس في القوم يسترق النظر إلى المرأة تمر بهم، فإذا رأوه ينظر إليها اتقاهم فلم ينظر، وإن غفلوا نظر هذه خائنة الأعين].
{وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] قال: ما يجد في نفسه من الشهوة، قال العلامة الأمين الشنقيطي: فيه الوعيد لمن يخون بعينه بالنظر إلى ما لا يحل له، والعبد موقوف بين يدي الله، مسئول عن حواسه: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] إنها النظرة، السهم المسموم، رائد الشهوة، النظر المحرم يثمر في القلب خواطر سيئة، وأفكاراً رديئة، تتطور لتصبح عزائم وإرادات وأعمال، وتأمل الآية كيف ربطت بين أول خطوات الحرام وآخره، ذلك في قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] فيه ربط بين أول خطوات الحرام وهو النظر، وآخر ذلك وهو الوطء، قال ابن كثير: أمر الله عباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عنما حرم عليهم، فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر.
مشكلتنا في النظر مشكلتنا في الصور مشكلتنا في تتبع هذه الأشياء الإدمان على النظر إلى الحرام في الأسواق في المستشفيات في المكاتب الشركات على أبواب مدارس البنات في الشاشات في المجلات وهكذا، إدمان، نظر وراء نظر، والعقل يخزن في ذاكرته الصلبة، فماذا تتوقع أن تكون المستعادات إذا فتح الجهاز؟! أيها الإخوة النظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان، النظرة ألم ما بعده ألم
كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
لا تستهن بالنظر
كم نظرة فعلت في قلب صاحبها فعل السهام بين القوس والوتر
والعبد ما دام ذا طرف يقلبه في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرور عاد بالضرر
يورث الحسرات والزفرات والحرقات، يرى العبد ما ليس قادراً عليه ولا صابراً عنه، وهذا من أعظم العذاب
وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر
فترى المرأة المتزوجة في الشارع تسير، وتقلب فيها النظر، فيتعلق بها القلب، ولا يستطيع الانصراف عنها ولا التقدم لخطبتها لأنها مشغولة بزوج، ولذلك يسعى كثير من الفساق إلى تطليق المعشوقات من أزواجهن، وفي هذا قصص متعددة.
ثم مرسل النظرات يقع صريعاً لها
يا ناظراً ما أقلعت لحظاته حتى تشحق بينهن قتيلاً
ومن العجب أن لحظة الناظر سهم لا يصل إلى المنظور إليه حتى يتبوأ مكاناً في قلب الناظر!
يا رامياً بسهام اللحظ مجتهداً أنت القتيل بما ترمي فلا تصب
وباعث الطرف يرتاد الشفاء له احبس رسولك لا يأتيك بالعطب
وأعجب من ذلك أن النظرة تجرح القلب جرحاً فيتبعه جرح على جرح، ثم لا تمنعه آلام الجراحة من استدعاء تكرار النظر!
ما زلت تتبع نظرة في نظرة في إثر كل مليحة ومليح
وتظن ذاك دواء جرحك وهـ ـو في التحقيق تجريح على تجريح
فذبحت طرفك باللحاظ وبالبكا فالقلب منك ذبيح أي ذبيح
حبس اللحظات أيسر من دوام الحسرات احبس نظرك أولاً أسهل من المعاناة بعدها، وتأمل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (زنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله ويكذبه) رواه البخاري تأمل التقبيح بوصف هذه النظرة للحرام بالزنا، الشارع يريد أن يكرهنا في النظرة المحرمة، فقال: (زنا العين النظر) حتى نكره النظر إلى الأشياء المحرمة، وحتى نكره النظر إلى ما حرم الله.
إن حال من ينظر إلى الحرام كحال من يشرب من ماء البحر المالح، أفتراه يروى؟ لا، بل لا يزداد مع الشرب إلا عطشاً، فهو بهذا النظر لا يزيد شهوته إلا تأججاً وشدة، بعض الناس المساكين يظنون أن النظر يخفف من غلواء الشهوة، يظنون أن متابعة النظر تسكن من آلام النفس كلا والله!
وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر
يقول ابن الجوزي: فاحذر يا أخي -وقاك الله- من شر النظر، فكم قد أهلك من عابد، وفسخ عزم زاهد، فاحذر من النظر فإنه سبب الآفات، غير أن علاجه في بدايته قريب وسهل، فإذا كرر تمكن الشر فصعب العلاج.
إنه كأس مسكر، فاحذر هذا السهم من سهام إبليس؛ في المجلات والجرائد ومواقع الإنترنت وخادمات في البيوت.
هناك نظر يقع فجأةً، نحن الآن نعيش في مجتمع فيه كثير من التبرج والسفور، وأكثر الناس ولو حرصت ليسوا بمؤمنين، وأكثر النساء ولو حرصت لسن بمتمسكات بالحجاب، يقع النظر على الصور الواقعية الموجودة التي تمشي على الأرض، وعلى الشاشات، قال عليه الصلاة والسلام لـ جرير بن عبد الله عندما سأله عن نظر الفجأة، قال: (فأمرني أن أصرف بصري) والفجأة: البغتة، أن يقع البصر على الأجنبية من غير قصد، فلا إثم في أول الأمر، لكن يجب أن يصرفه في الحال وإلا أثم، من استدام النظر عوقب (يا علي، لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة) حديث صحيح والإتباع: أن يعقبها إياها، لا تجعل نظرةً بعد نظرة، الأولى ليست باختيارك، فجأةً، لكن الثانية حرام عليك، وبهذا يظهر لك فساد قول بعض الهازلين اللاعبين الذين يقولون: يجوز لك استدامة النظرة الأولى ما لم ترمش العين.
وليحذر العاصي المصر على المعاصي من بطش الله وأخذه الأليم الشديد؛ لأن الذي أعطى الحواس قادر على سلبها والمعاقبة بحرمانه {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} [الأنعام:46] فهدد بهذا، فالبصر نعمة من الرب، وينبغي على العبد أن يخشى الرب ولا يصرف هذه النعمة في الحرام، استعمل النعم في شكر المنعم.
وغض البصر فيه فوائد كثيرة: امتثال أمر الرب جل وعلا يمنع وصول السهم المسموم إلى قلبك يورث قلبك أنساً بالله ولذةً لا تجدها ولا يجدها من أطلق بصره في الحرام، ويقوي القلب ويفرحه، كما أن إطلاق البصر يضعفه ويحزنه، وغض البصر يكسب البدن والقلب نوراً، كما أن إطلاق البصر يكسبه ظلمة وغض البصر يورث العبد فراسةً صادقة، ويورث القلب شجاعة، ويجمع الله لصاحبه بين سلطان البصيرة والحجة وسلطان القدرة والقوة، ويسد أبواب الشيطان، ويفرغ القلب للأفكار الصالحة، لتدبر مسائل العلم.
لو أن شخصاً دائماً ينظر ويفكر، ودائماً يتصور ويتخيل، إذا رأى امرأةً في الطريق تصورها عارية، هكذا يصور له الشيطان، كيف شكلها من تحت هذا الجلباب؟ هذا كيف يفكر في مسائل العلم؟ أو كيف يدعو إلى الله؟ أو كيف يتفكر في عيوب نفسه؟ أو كيف يفكر حتى في مصالحه الدنيوية؟ هؤلاء طلاب يذاكرون في الاختبارات ويفتحون الكتب، كيف يركزون في الفصول الدراسية؟ إذا كان كل الشغل النظر وتخزين الصور في الذهن، واستعادة المناظر، قال عليه الصلاة والسلام مبيناً المنفذ بين العين والقلب، وأن الجنة لمن صدق في غض البصر (اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا اؤتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم) حديث صحيح.(314/12)
القاعدة الثالثة: مدافعة الخواطر السيئة
القاعدة الثالثة في الصراع مع الشهوات: مدافعة الخواطر السيئة الخواطر تهجم، وليس لك حيلة في منع هجومها في البداية، إنها تتسلل تسللاً وتأتيك على حين غرة فتفاجأ، بأن عندك خاطرة محرمة، ماذا تفعل؟ إذا انساق العبد معها تطورت وصارت الخاطرة فكرة، ثم تتطور الفكرة فتصير هماً وإرادة، ثم تتطور الإرادة فتصير عزيمة، ثم تتطور العزيمة فتصير إقداماً فصارت فعلاً، فتكرر فعلها فصار عادةً وكيف التخلص من العادات؟ من أصعب الأشياء.
مبدأ الخير والشر خواطر، ترتقي بعد ذلك في القلب، أول ما يطرق القلب الخاطرة، فإذا دفعها استراح، وإذا لم يدفعها قويت، وصارت وسوسة، وصار دفعها أصعب، هذه الخطرات تتردد على القلب حتى تصير مُنى باطلة {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور:39] خطرات تتحول إلى إرادات محرمة تحول بينك وبين العفة بينك وبين الطاعة بينك وبين التفكر في أسماء الله وصفاته وآياته وآلائه.
الخواطر رحمانية وشيطانية ونفسانية، شيء من الله؛ تفكر في آياته، وشيء من الشيطان؛ تفكر في الحرام، وشيء عادي؛ تفكر في هموم الدنيا، ولا بد من العلاج من المبدأ، ولا بد من استدراك القضية من البداية، أنت لم تعط إماتة الخواطر لكن أعطيت القدرة على المجاهدة ودفع هذه الخواطر، أنت إذا تأذيت منها وكرهتها فأنت بخير، ولكن إذا استروحت إليها، هذه هي المشكلة مع الخواطر -يا إخوان- إذا استروح العبد إليها صار ينساق معها هذه هي المشكلة، ولذلك اطردها من البداية، استعذ بالله من الشيطان، أشغل نفسك بالمفيد، فكر في الأشياء المفيدة، دافع الخطرة، دافعها! أصلح الخواطر، أقبل على الله وأخلص النية له.
وهكذا؛ فإنه رأس الأمر -يا إخوان- أن الإنسان يصلح خواطره، ويجعل هذه الخواطر مع الله سبحانه وتعالى عش مع ربك مع القرآن مع سيرة نبيك صلى الله عليه وسلم، يا أخي! عش مع مآسي المسلمين في فلسطين وغير فلسطين، إذا استحييت من الله ستطرد الخواطر الرديئة، إذا أجللته وخفته وآثرت الله لن تسكن قلبك هذه الخواطر الرديئة، كل قضايا الحرام والشهوات والفواحش تبدأ بخواطر، تبدأ بأفكار فدافعها، وتأمل أن الرقيب على الخواطر هو الحي القيوم الرقيب سبحانه وتعالى.(314/13)
القاعدة الرابعة: الزواج
القاعدة الرابعة: (فاظفر بذات الدين تربت يداك) (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج) مئونة النكاح القدرة على الجماع القدرة على النفقة الوجاء بالصيام إذا عجز عن النكاح.
هذا النكاح مأمور به، قال عليه الصلاة والسلام: (النكاح من سنتي، فمن لم يعمل بسنتي فليس مني، وتزوجوا -هذا أمر- فإني مكاثر بكم الأمم، ومن كان ذا طول فلينكح -هذا الأمر الثاني، أي: ذا قدرة- ومن لم يجد فعليه بالصيام؛ فإن الصوم له وجاء) صحيح سنن ابن ماجة.
لا تتم عبادة الشاب حتى يتزوج كما قال العلماء، والزواج نصف الدين، قال عليه الصلاة والسلام: (من رزقه الله امرأةً صالحة فقد أعانه على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الباقي) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب.
شهوة الفرج لا تتحصن إلا بالمرأة الصالحة، احرص عليها، خير متاع الدنيا على الإطلاق المرأة الصالحة، إنها مصالح عظيمة، يحصل بالنكاح الأجر، قال صلى الله عليه وسلم: (وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر).
المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات، والجماع مع تصحيح النية إذا نوى به قضاء حق الزوجة ومعاشرتها بالمعروف وإعفاف نفسه وابتغاء الولد، هذه حسنات في ميزانه يوم القيامة، وقد وعد الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن الناكح الذي يريد العفاف معان من ربه، قال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة حق على الله عونهم) حق على الله، هو الذي جعله حقاً على نفسه (المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء) المكاتب الذي يكاتب سيده، يدفع له أقساطاً ليحرر نفسه (والناكح الذي يريد العفاف) حديث حسن.
وعدك الله بالمعاونة يا أيها الشاب إذا أردت إعفاف نفسك بالزواج، ويا أيتها الشابة إذا قلتِ: كيف أطبق حديث (من استطاع منكم الباءة فليتزوج)؟ التطبيق: ألا تحولي بينك وبين الذي يتقدم إليك إن كان صاحب دين وخلق، وألا ترفضي لا لأجل إكمال دراسة، ولا لأجل شهادة، ولا لأجل وظيفة، ولا لأجل لهو ولعب في مقدم العمر، وبعد ذلك نتفرغ للجد كما يقول العابثون والعابثات!! يقول: خذها أول سهالة، استمتع بحياتك، العب قليلاً، بعد ذلك لاحقين على الهم سبحان الله! وإذا نصحت بعض الناس بتزويج أبنائهم قالوا: لا يزال صغيراً، لن يتحمل المسئولية! إن نقص تحمل المسئولية عنده مفسدة، لكن تركه هكذا مفسدة أكبر، أو هذه التي يتعلمها بالتدريج، إذا تزوج الشخص في بداية الزواج هناك مصاعب دائماً في الغالب، لكن تحمل المصاعب والتغلب عليها أسهل أم معاناة الحرام أسهل؟ يجب على الأب القادر مالياً أن يزوج ولده العاجز مالياً.
ثم -يا أيها المتزوج- العلاجات الآن في قضية الصراع إذا لم تندفع الشهوة بزوجة واحدة فالتعدد، والمرأة يعرض لها ما يمنع الرجل من وطئها كالحيض والحمل وغير ذلك، فالسبيل الشرعي لتسكين الشهوة هو التعدد هذا الحل، ثم هناك قضية أخرى مهمة، وهي: أن من رأى امرأةً أعجبته في الشارع في الشاشة في الإنترنت في الصورة، في أي مكان وهو متزوج فعليه أن يأتي أهله هذه وصية مهمة، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأةً فأتى امرأته زينب، مع أنه عليه الصلاة والسلام منزه عن هذه الشهوات المحرمة، لكن ليعلم العباد، وإذا وقع نظره على شيء فهو نظر فجأة، أتى زينب وهي تمعس منيئةً لها، أتى وزينب رضي الله عنها تدبغ جلداً لها، فقضى حاجته ثم خرج إلى أصحابه، فقال: (إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه) رواه مسلم.
وفي رواية لـ أحمد عن أبي كبش الأنماري قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في أصحابه، فدخل ثم خرج وقد اغتسل، فقلنا: يا رسول الله! قد كان شيء؟ قال: أجل، مرت بي فلانة فوقع في قلبي شهوة النساء -وليس شهوة هذه المرأة- فأتيت بعض أزواجي فأصبتها، فكذلك فافعلوا فإنه من أماثل أعمالكم إتيان الحلال) قال الألباني: في السلسلة الصحيحة: إسناده حسن.
الله يعلم ما يصلح النفس البشرية، وهذا وحي منقول إلينا الآن بالكتاب والسنة، المرأة الأجنبية يصورها الشيطان بأجمل مما هي عليه، ولو كانت قبيحة يراها الناظر جميلة، ولذلك قال: (تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان) ولذلك عدد من الزوجات العفيفات اللاتي ابتلين بأزواج فسقة، إذا رجع الزوج من السفر ورأت صورة هذه التي عاشرها بالحرام وكان معها، ربما رأت صورتها أقبح من الزوجة بكثير، حتى تقول له: أف لك، هذه المرأة التي ذهبت معها بالحرام؟ قارن بيني وبينها، فالشيطان يزين الحرام، فلو كان فيه قبح ستر قبحه وجمله، وهذا معنى الحديث: (إن المرأة تقبل في صورة شيطان) وإذا كانت جميلةً زادها جمالاً، وإذا كانت عادية أظهرها بأنها جميلة؛ ولذلك لا مفر من غض البصر والتحصن إلا بالزواج.
إن قال قائل: هل من العلاج أن يأخذ دواءً لكي يقلل الشهوة؟ قال الحافظ ابن حجر في الفتح: واستدل به الخطابي -أي: بحديث: (فعليه بالصوم) - على جواز المعالجة لقطع شهوة النكاح بالأدوية، وحكاه البغوي في شرح السنة، وينبغي أن يحمل -أي: كلام الخطابي - على دواء يسكن الشهوة دون ما يقطعها أصالةً.
إذاً: لا يجوز تعاطي دواء يقطع الشهوة بالكلية، وإذا كان هناك دواء يجب ألا يكون له أضرار؛ لأن بعض الأدوية لها أضرار جانبية، وقد صرح الشافعية بأنه لا يكسرها بالكافور ونحوه، وعندنا علاج أفضل من هذا وهو الصيام (فإنه له وجاء) وهذه هي القاعدة التي بعدها(314/14)
القاعدة الخامسة: الصوم
عليك بالجنة الحصينة قد لا يتيسر للعبد الزواج، فماذا يفعل؟ يؤمر بالاستعفاف، قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33] وفي أثناء البحث عن النكاح عليك بالصوم؛ لأن البحث عن امرأة سيأخذ وقتاً، العقد وتجهيز البيت سيأخذ وقتاً {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:33] الصيام جنة يقيك ألم الشهوة (يا معشر الشباب قال: ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) قال ابن القيم: فأرشدهم إلى الدواء الشافي الذي وضع لهذا الأمر، وهو النكاح، ثم نقلهم عنه عند العجز إلى البدل وهو الصوم؛ فإنه يكسر شهوة النفس ويضيق عليها مجال الشهوة، فإن هذه الشهوة تقوى بكثرة الغذاء والطعام، وكيفيته وكميته إن ابن القيم طبيب يقول: الشهوة تزيد بكيفية الطعام وكميته، فالذي يريد أن يعالج من هذه الجهة فعليه أن يراعي قضية الطعام، وعدم الإكثار منه وهو أعزب شاب لئلا يزيد في توليد الشهوة وبالتالي يعاني.
قال القرطبي: كلما قلَّ الأكل ضعفت الشهوة، وكلما ضعفت الشهوة قلت المعاصي قال عليه الصلاة والسلام: (الصوم جُنة) وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: (يدع شهوته من أجلي) فالصيام جنة ووقاية من النار وعبادة عظيمة الإثنين والخميس أيام البيض شعبان محرم صيام يوم وإفطار يوم، وهو صيام داود عليه السلام.(314/15)
القاعدة السادسة: الفرار من أهل الفحش والتفحش
حذارِ من أهل الفحش والتفحش، لقد حرم الله البذاءة ومنع الفحش، كما قال تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148] وقال عليه الصلاة والسلام: (ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا بالفاحش البذيء) إن الأشياء التي تثير الشهوات هي الألفاظ الغزلية، كلمات الأغاني، الألفاظ الفاحشة، تثير الساكن، وتحرك الكامن، تسمعها بالهاتف، بالرسائل، رسائل الجوال، نكت -بزعمهم- ما هي هذه النكت بزعمهم؟ يرسلونها بالجوال، نكت بذيئة، تثير الشهوة، وتحث على الفاحشة
الحب أول شيء يهيم به قلب المحب فيلقى الموت كاللعب
يكون مبدؤه من نظرة عرضت ومزحة أشعلت في القلب كاللهب
كالنار مبدؤها من قدحة فإذا تضرمت أحرقت مستجمع الحطب(314/16)
القاعدة السابعة: الفرار من أماكن الفتن
القاعدة التي تليها: عليك بالفرار من أماكن الفتن لا يخفى أننا نعيش اليوم -أيها الإخوة- في مجتمع مليء بالفتن إعلانات، مجلات، معاكسات، فضائيات، شبكة الإنترنت، ماذا تفعل؟ فروا إلى الله {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} [يوسف:25] هرب! هرب من المعصية، إن هذه الشهوة إذا تعرضتَ لما يثيرها فينبغي الهرب، اهرب بنفسك، طبّق القاعدة {فِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} [يوسف:25] نجِّ نفسك.(314/17)
القاعدة الثامنة: أشغل نفسك بالطاعات
أشغل نفسك بالطاعات نفسك إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ) لا تغبن {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن:9]، المؤمن لا يتحسر على شيء يوم القيامة إلا على ساعة مرت به لم يذكر الله فيها، فاحرص على ذكر الله، ما من مجلس إلا وصلِّ تصلي فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، لا تجعل بيتك قبراً من القبور، مارس فيه العبادة.
يا أيها الطالب الجامعي غرفتك غرفتك! اجعل فيها نصيباً من صلاتك افتح مصحفك أقبل على الله استغفر بالأسحار واصل الدعاء (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله).
عمرك ستسأل عنه سؤالاً عاماً (وعن عمره فيما أفناه) وسؤالاً خاصاً (وعن شبابه فيما أبلاه) بماذا أبليت الشباب؟ إن الفراغ مفسد للنفس إفساد الطاقة المختزلة بلا ضرورة، إن الولد إذا اختلى إلى نفسه وقت فراغه ترد عليه الأفكار الحالمة، والهواجس السارحة، والتخيلات الجنسية المثيرة، فلا يجد نفسه إلا وقد تحركت شهوته وهاجت غريزته أمام هذه الموجات من التأملات والخواطر، فعندئذ لا يجد بُداً من أن يلجأ إلى الحرام ليخفف من طغيان شهوته ويحد من سلطانها هذه هي العادات السيئة السرية.
إذاً: لا بد من إشغال النفس بالطاعات بكر إلى الصلوات حافظ على الجماعات دائماً انقل نفسك من عبادة إلى عبادة؛ قراءة كتاب حفظ سورة مذاكرة مادة زيارة أخ في الله حضور درس حفظ حديث دعوة إلى الله كتابة مقالة إعداد برنامج دعوي زيارة مقبرة محاسبة نفس تبكير إلى صلاة قراءة طيبة ونافعة صلة رحم زيارة الجيران، أشغل نفسك بالطاعة.
ثم الترهيب من استرسال الرجل مع شهوته، قال عليه الصلاة والسلام: (إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم، ومضلات الهوى) حديث صحيح وقال: (حفت النار بالشهوات) النار حفت بالشهوات، ليس هناك طريق إلى النار إلا بالشهوات، فإذا أردت دخول النار فأطلق لنفسك العنان وارتع في الشهوات، لا بد أن يعظ الإنسان نفسه، ولا بد أن يقاوم داعي العودة إلى الجاهلية، قاوم العودة إلى الجاهلية بعض الشباب تاب الله عليهم لكن تركوا آثاراً من الجاهلية؛ مفكرات فيها أرقام هواتف أرقام مخزنة في الجوال لا زالوا يحتفظون بها عناوين للحرام، أتلف كل شيء يتعلق بالماضي.
ثم قد تتعرض لموقف محرج تذكرك فيه امرأة بعلاقة محرمة، فماذا تفعل؟ اسمع معي هذه القصة الصحابة الذين كانوا في الجاهلية يفعلون ما يفعلون، ولما نور الإسلام قلوبهم استعلوا على شهواتهم، واستجابوا لأمر ربهم، وهذا سبب نزول قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور:3] روى الترمذي وهو حديث صحيح أن رجلاً من الصحابة يقال له: مرثد بن أبي مرثد الغنوي، كان مُهرباً في الإسلام لكن ماذا كان يهرب؟ كان يحمل الأسرى من مكة حتى يأتي بهم المدينة، يذهب إلى مكة دار الحرب في ذلك الوقت ليهرب إخوانه المستضعفين من المسلمين واحداً وراء الآخر، يهربهم إلى المدينة، وفي ليلة من الليالي بينما كان متسللاً إلى مكة مواعداً رجلاً مسلماً ضعيفاً ليحمله ويهربه إلى المدينة، وفي ظل القمر، في الظلام، رأى امرأةً بغياً يقال لها: عناق، وكانت صديقةً له -هذه في الرواية، هذه " Girlfriend" معروفة عندهم في الجاهلية- كانت صديقةً له، وكان قد وعد رجلاً أن يحمله من أسرى مكة، وإن عناقاً رأته فقالت له: هلم فبت عندنا الليلة على العادة التي كانت في السابق، فقال: يا عناق قد حرم الله الزنا.
فقالت: يا أهل الخيام، هذا الذي يحمل أسراكم.
هذه المرأة إذا دعت إلى الحرام وأبى الرجل يمكن بمكرها وكيدها -إن كيدهن عظيم- أن تنتقم من الرجل الذي يرفض دعوتها إلى الحرام.
قالت: يا أهل الخباء، هذا الذي يحمل أسراكم.
والرجل غامر بنفسه فقام الكفار في الليل يبحثون عنه، قال: فأعماهم الله ما رأوه ولا رأوا الرجل الذي كان يهربه، فلما ذهبوا حمل صاحبه وذهب به، قال: فلما قدمت المدينة أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: (يا رسول الله، أتزوج عناقاً؟ فلم يرد حتى نزلت الآية: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور:3] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تنكحها).
إذاً: أيها الإخوة: لو دعا شخصاً داعٍ من الجاهلية لا يستجيب، عليه أن يصبر.(314/18)
القاعدة التاسعة: البعد عن أسباب الوقوع في الحرام
ومن القواعد في مواجهة الشهوة المحرمة: تجنب سائر الأسباب الأخرى التي توقع في الشهوة المحرمة أصدقاء السوء: (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل) جاء في جريدة الأنباء الكويتية، يقول الشاب وعمره سبع عشرة سنة: في أول مرة شاهدت فيها هذه الأفلام كان منذ سنين حين كنت في زيارة لأحد أصدقائي، وكان في غرفته فيلم فقام بتشغيل الفيلم.
إذاً القضية هؤلاء قرناء السوء، أعطه دسكاً وأسطوانة ليزر مدمجة وفيلماً وشغل له، واستئجار استراحة، وشقق مفروشة، ويجتمعون في المقاهي، وما أدراك ما المقاهي! وهناك وهناك سهر في الليل على قنوات الإباحية، يمسك كل واحد منهم زاوية من زوايا المجلس ويجلس يرتكب الحرام، ويرى الحرام، والله مطلع عليه، لا يستحي لا من الله ولا من الناس.
إياك والتساهل في الحرام! إياك ومثيرات الشهوة! إياكم والجلوس على الطرقات! لماذا؟ يقال في حق الطريق: غض البصر؛ لأنه يمر النسوة منه، انتبه إذا دخلت البقالة، قال أحدهم: رأيت الشاب في البقالة يقلب المجلات، وينظر في صور النساء وينظر حوله، فإذا اطمأن نظر في صور المجلات ثم نظر حوله، انظر إلى ربك ستراه في قلبك إذا كنت مؤمناً لا لمجالس الاختلاط، لا للمتزوجين ولا لغير المتزوجين، لا للسفريات المحرمة، لا للذهاب إلى الحفلات الماجنة، ولا لعبور الجسر، ولا لحضور حفلات هناك.
والنساء وما أدراك ما النساء! حتى عندما تأتي للعبادة يجب عليها أن تتقي ربها؛ فلا تضع طيباً، ولا تتبرج، وصفوف النساء خلف الرجال لا للمعاكسات الهاتفية، ولا للاستجابة لهذا الغثاء، ولا للغناء الذي ينبت النفاق في القلب والشهوة انتبهوا لخطورة الخادمات، ولج علينا من باب الخادمات شر كثير، وكثير من الناس لا ينتبهون، وإذا انتبهوا لا يتعظون، وربما لدغ أحدهم مراراً من جحر واحد ولا يتألم، ويسمع أن قارعةً حصلت قرب داره ولا يتعلم بلادة حس عدم مراقبة لله ترك الخادمة الشابة الجميلة مع هؤلاء الشباب في البيوت ما معناه وهي متبرجة؟ يخرج أهله ويتركونه في البيت مع الخادمة، تخرج الزوجة وتترك الزوج مع الخادمة، ما معنى ذلك؟ ثم لا نشتكي إلا بعد ذلك، نشتكي من ماذا؟(314/19)
القاعدة العاشرة: الدعاء
أيها الإخوة لابد من الإعداد بالسلاح في هذا الصراع، وسلاح المؤمن هو الدعاء، لا يخونك في النوائب والملمات، في كل وقت وحين استعمله {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186] هل قال: وإذا سألك عبادي عني فقل: إني قريب؟ لكن ما قال: فقل؛ ليبين شدة القرب {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186] ادع ربك أن يصرف عنك السوء والفحشاء، أيهما أبلغ: {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} [يوسف:24] أو: لنصرفه عن السوء والفحشاء؟ الأولى: الفحشاء والسوء مصروفة، والثانية: يوسف هو المصروف، أيهما أبلغ؟ الأولى أو الثانية؟ الأولى، وهي التي في التنزيل؛ لأن الله إذا صرف عنك السوء والفحشاء لو بحثت عنها فلن تحصلها، لكن إذا صرفك الآن قد لا يصرفك مرة أخرى إذا عرض لك السوء والفحشاء، ولذلك يوسف دعا ودعا {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} [يوسف:33 - 34].
ما هي الأدعية؟ اللهم ثبت قلبي على دينك (اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى) رواه مسلم (اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي، ومن شر بصري، ومن شر لساني، ومن شر قلبي، ومن شر منيي) دعاء نبوي في سنن أبي داود، وهو حديث صحيح.
ولا تأمن مكر الله، بعض الناس يقولون: نحن شباب ملتزمون ودعاة، ونحن طلبة علم لا أحد فوق مستوى الشهوات، يتطرق إلى الجميع، إبراهيم عليه السلام لم يأمن على نفسه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم:35] إبراهيم يخشى أن يعبد الأصنام، يقول: {وَاجْنُبْنِي} [إبراهيم:35] إبراهيم {وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم:35] {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} [الإسراء:74].
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده(314/20)
القاعدة الحادية عشرة: عدم اليأس من عفو الله
ثم من القواعد: لا تيئس، قد يكون الشاب أو الفتى مارس الحرام ووقع في الرذيلة، فجرته نفسه الأمارة بالسوء إلى مقارفة الفاحشة، فلا يصاب باليأس والإحباط؛ لأن الله قال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53].
انتبهوا -يا إخواني- لهذا المزلق، إنه مزلق خطير جداً، يرتكب العاصون معصية واثنتين وثلاثاً، ثم تتابعوا في الحرام، وكلما خطر لأحدهم خاطرة توبة قالت له نفسه الأمارة بالسوء: إنها توبة فاسدة وكذلك الشيطان يا أخي! هذا المبدأ دمر كثيراً من الشباب لماذا تصاب باليأس والإحباط؟ لماذا تقول: فاسدة فاسدة؟ لو حصل الحرام عشرين مرة أليس هناك رب غفور رحيم؟ أليس هناك باب للتوبة مفتوح؟ البغي من بني إسرائيل غفر الله لها بسقيا كلب.
إن الشيطان يحرص على أن تيئس من روح الله، فلا تيئس مهما تكررت المعاصي، كل مرة تب إلى الله، فإن قائل قال: العادة السرية كل مرة أقع فيها، قلنا: كل مرة تب إلى الله يا أخي، ولا تيئس أبداً.
لنطبق المنهج الإسلامي في المجتمع وفي قضية علاج الشهوات أما وضع حداً للزنا؟ أما قبحه وقال: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32]؟ أما قال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]؟ أما قال: (الثيب بالثيب رجم بالحجارة)؟ أما حرَّم القذف وجعل الذي يقذف بالزنا ويشيع الفاحشة في المؤمنين عليه حد ثمانين جلدة؟ أما شرع الاستئذان حتى للصغار؟ أما شرع غض البصر؟ أما شرع الحجاب؟ لماذا أمر المرأة بالقرار في البيت؟ لماذا حرم الخلوة بها؟ لماذا حذر من الدخول على النساء؟ لماذا حرم على المرأة السفر من غير محرم؟ لماذا شرع النكاح وحث عليه؟ لماذا أمر بالاستعفاف؟ إجراءات يجب أن تطبق في المجتمع.(314/21)
نماذج مشرقة في العفة والعفاف
تعالوا إلى نماذج مشرقة من قصص الأولين في الصبر على الشهوة قال الله تعالى عن يوسف عليه السلام: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23] عندما كان صادقاً أراه الله البرهان،: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} [يوسف:24] ودعا ربه فخلصه.
كم سبب ليوسف في الوقوع في الحرام؟ أولاً: رجل؛ والشهوة مركبة في الرجال للنساء، وشاب؛ وداعي الزنا عند الشاب أكبر من الصغير والكبير، وأعزب؛ وداعي الشهوة عند الأعزب أكثر من المتزوج، وغريب لا يستحي مثل ما يستحي ابن البلد الذي يخاف الفضيحة، والمرأة ذات منصب وجمال، والعزيز لا يختار في العادة إلا أجمل النساء، والمرأة ليست آبية ولا معترضة، بل هي التي دعته وألحت وقالت: هيت لك، وأسقطت كل الحواجز النفسية، ثم هو في دارها وتحت سلطانها، ثم تهددته بالسجن، ثم لا يُشك فيه لو دخل أحد؛ لأنه عبد عندها وخادم، واستعانت بكيد النسوة، وهو مملوك عندها، ودياثة الزوج سبب، ومع ذلك ما زنا يوسف ولا وقع في الحرام لماذا؟ كان يخاف الله، والله وفقه وأعانه {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24] همه هذا هم وخاطرة، أما همها فهو فعل، وهناك فرق بين همها وهمه، ثم إن الله تعالى أعانه، فر من المعصية، استبقا الباب، شرد منها ودعا ربه واستجاب الله له، وهو صاحب دين وتقوى، ولذلك لما دخل السجن لاحظ عليه أهل السجن أنه من عباد الله المخلصين: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36].
والثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة مثال آخر، ذاك الذي هرب من الحرام لكلمة "اتق الله".
جريج العابد تعرضت له هذه الزانية المومسة وكلَّمته فأبى، فانتقمت منه لإبائه وصبر على الأذى حتى تبينت البراءة.
الربيع بن خثيم كان يغض بصره فمر به نسوة، فأطرق حتى ظن النسوة أنه أعمى، وأمر قوم امرأة ذات جمال بارع أن تتعرض للربيع بن خثيم فلعلها تفتنه، وجعلوا لها إن فعلت ألف درهم -عصابات- فلبست أحسن ما قدرت عليه وتطيبت، ثم تعرضت له حين خرج من المسجد، فأسفرت عن وجهها، فراعه ذلك المنظر، فقال لها الربيع: كيف بك لو قد نزلت الحمى بجسمك فغيرت ما أرى من لونك وبهجتك؟ أم كيف بك لو قد نزل بك ملك الموت فقطع منك حبل الوتين؟ أم كيف بك لو قد ساءلك منكر ونكير؟ فصرخت صرخةً سقطت مغشياً عليها، فوالله لقد أفاقت يوم أفاقت فبلغت من العبادة حتى ماتت يوم ماتت وإنها لجذع محترق، أثرت فيها الموعظة.
قال ابن القيم: ذكر أبو الفرج أن امرأةً جميلةً كانت في مكة وكان لها زوج، فنظرت يوماً إلى وجهها في المرآة، والمرآة والمرأة متصاحبتان، فقالت لزوجها هذه المغرورة: أترى أحداً يرى هذا الوجه ولا يفتتن به؟ قال: نعم.
وهذه مصيبة! قالت: من؟ قال: عبيد بن عمير.
قالت: فائذن لي فلأفتننه -الزوج الديوث- قال: قد أذنت لك.
فأتته كالمستفتية، دخلت المسجد وهو في ناحية المسجد، ولما اقتربت منه ظنها تستفتي، فأسفرت عن وجه كفلقة القمر، فقال: يا أمة الله، استتري.
قالت: قد افتتنت بك.
قال: إني سائلك عن شيء، فإن أنت صدقتني نظرت في أمرك.
قالت: لا تسألني عن شيء إلا صدقتك.
قال: أخبريني لو أن ملك الموت أتاك ليقبض روحك، أكان يسرك أن أقضي لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا.
قال: صدقت، قال: فلو دخلت قبرك وأُجلست للمساءلة، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا.
قال: صدقت، قال: فلو أن الناس أعطوا كتبهم ولا تدرين أتخذين كتابك بيمينك أم بشمالك، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا.
قال: صدقت، قال: فلو أردت الممر على الصراط ولا تدرين أتنجين أو لا تنجين، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا.
قال: صدقت، قال: فلو جيء بالميزان وجيء بك فلا تدرين أيخف ميزانك أم يثقل، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت، قال: اتق الله فقد أنعم الله عليك وأحسن إليك.
فرجعت إلى زوجها فقال: ما صنعت؟ قالت: أنت بطال ونحن بطالون.
فأقبلت على الصلاة والصوم والعبادة فتفرغت للعبادة وانشغلت عن الزوج، فكان زوجها يقول: ما لي ولـ عبيد بن عمير أفسد علي امرأتي، كانت في كل ليلة عروساً فصيرها راهبة.
أما عطاء بن يسار فقد خرج مع أخيه سليمان بن يسار ومع أصحابهما من المدينة، ونزلوا بـ الأبواء وضربوا الخيام، وكان هناك امرأة من الأعراب جميلة أرادت أن تفتن عطاء بن يسار الزاهد العابد، فدخلت عليه في خيمته لما ذهب أصحابه وبقي وحيداً، وكان في صلاة، فأوجز لأنه ظنها محتاجة، ثم قال: ألك حاجة؟ قالت: نعم.
قال: ما هي.
قالت: قم فأصب مني، وقد تقت ولا بعل لي.
قال: إليك عني لا تحرقيني ونفسك بالنار.
وجعل يبكي، وغشي عليه من البكاء، فرأت المرأة الرجل يبكي فتأثرت من هذا الذي وعظها وجلست تبكي، والرجل يبكي وهي تبكي، فجاء أخوه سليمان بن يسار فوجد الاثنين يبكيان ولا يدري ما القضية، فغلبته نفسه فتأثر وانخرط في البكاء، وجاء بقية أصحابهما، ودخلوا الخيمة، فرأوا عطاء يبكي، وسليمان يبكي، والمرأة تبكي، فتأثروا من المشهد، ولا يدرون ما القصة، فانخرطوا جميعاً في البكاء، وجلس الجميع يبكون ولا يدرون ما القضية! إلى أن سكنوا وهدءوا فقامت المرأة وانسحبت، وقام أولئك وانسحبوا، وآوى كل إلى فراشه تهيب سليمان أن يسأل أخاه عطاء ما السبب، ومضت الأيام، وسافرا إلى مصر، فلما ناما ليلةً بـ مصر في غرفة واحدة استيقظ عطاء يبكي، فقام سليمان على بكاء أخيه، قال: ما يبكيك يا أخي؟ فاشتد بكاؤه، قال: ما يبكيك يا أخي؟ قال: رؤيا رأيتها الليلة.
قال: وما هي؟ فأصر عليه حتى يخبره بها، فأخذ عليه عهداً من الله ألا يحدث بها في حياته، قال: رأيت يوسف النبي في النوم، فجعلت أنظر إليه، فلما رأيت حسنه بكيت -في المنام- فنظر إلي وقال: ما يبكيك أيها الرجل؟ فقلت: بأبي أنت وأمي يا نبي الله، ذكرتك وامرأة العزيز، وما ابتليت به من أمرها، وما لقيت من السجن، وفرقة يعقوب، فبكيت من ذلك، وجعلت أتعجب منه.
فقال له في المنام: فهلا تعجبت من صاحب المرأة البدوية بـ الأبواء؟ -يقول له في المنام- فعرفت الذي أراد، فبكيت واستيقظت باكياً.
وقص عليه قصة المرأة التي كانت بـ الأبواء؛ وحفظ سليمان السر، ولما مات عطاء نشره، فكانت القصة مشهورة في المدينة.
وكان سليمان بن يسار من أحسن الناس وجهاً، دخلت عليه امرأة بيته فسألته نفسه، فامتنع عليها، فقالت: إذاً أفضحك، فخرج هارباً عن منزله وترك المنزل لها.
وكان السري بن دينار بـ مصر، وفيه امرأة جميلة تفتن الناس، فجاءته وكشفت نفسها له، فقال: ما لك؟ قالت: هل لك في فراش وطيء وعيش رخي.
فأقبل عليها وهو يقول:
وكم بي معاصٍ نال منهن لذة ومات فخلاها وذاق الدواهيا
تصرم لذات المعاصي وتنقضي وتبقى تباعات المعاصي كما هيا
فوا سوءتاه والله راء وسامع لعبد بعين الله يغشى المعاصيا
أبو بكر المسكي، قيل: إن سبب تسميته بهذا الاسم أن امرأة استدرجته إلى بيتها وكان يبيع، فدخل، ثم أرادته بالحرام، فأغلقت الأبواب، ماذا يفعل؟ قال: أريد دورة المياه.
فدخل الخلاء، قيل: إنه لطخ نفسه بالقاذورات، فلما خرج قرفت منه، وفتحت الباب، ومشى، فقيل: كان رائحته مسكاً بعد ذلك.
وهذه المرأة في عهد عمر بن الخطاب، كما أن الرجال يصبرون على الحرام، كذلك النساء يصبرن، قال سعيد بن جبير: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أمسى أخذ درته ثم طاف بـ المدينة، فإذا رأى شيئاً ينكره أنكره، فبينما هو ذات ليلة يعس إذ مر بامرأة على سطح وهي تقول:
تطاول هذا الليل واسود جانبه وأرقني ألا خليل ألاعبه
فوالله لولا الله لا رب غيره لحرك من هذا السرير جوانبه
مخافة ربي والحياء يصدني وأكرم بعلي أن تنال مراكبه
ثم تنفست الصعداء، وقالت: هان على عمر ما لقيت الليلة.
لأنه أرسل زوجها في الجهاد، فضرب باب الدار، فقالت: من هذا الذي يأتي إلى امرأة مغيبة هذه الساعة؟ قال: افتحي.
فأبت، فلما عرفت أنه عمر وجهر لها بصوته، قال: أعيدي علي ما قلتِه.
فأعادت عليه، فقال: أين زوجك؟ قالت: في بعث كذا وكذا.
فأرسل إلى الأمير فرده إلى المدينة، ثم دخل عمر على حفصة، فقال: أي بنية، كم تصبر المرأة عن زوجها؟ قالت: شهراً واثنين وثلاثة، وفي الرابع ينفد الصبر.
فجعل عمر أربعة أشهر وفي رواية: ستة أشهر الأمد النهائي، لا أحد يتغيب ويرسل للجهاد إلا ويرجعه مرةً أخرى.(314/22)
نماذج مظلمة من الفحش
كما أن هناك نماذج مضيئة فهناك أيضاً نماذج مظلمة، وقصص فيها عبر حصلت في الماضي يقول ابن كثير: في عام (278هـ) توفي عبدة بن عبد الرحيم قبحه الله - ابن كثير يدعو عليه- ذكر ابن الجوزي أن هذا الشقي كان من المجاهدين كثيراً في بلاد الروم، فلما كان في بعض الغزوات والمسلمون محاصرو بلدة من بلدان الروم إذ نظر هذا المجاهد المفتون إلى امرأة من نساء الروم في حصنها في العلو فهويها، بسبب نظرة، فراسلها: ما السبيل إلى الوصول إليك؟ قالت: أن تتنصر وتصعد.
فأجابها، لأجل امرأة يترك دينه! فما راع المسلمين إلا وصاحبهم عندها، فاغتم المسلمون غماً شديداً، وشق عليهم مشقةً عظيمة، فتركوا الحصار بعد ذلك وذهبوا، فمروا عليه مرة أخرى على الحصن هذا فوجدوه مع المرأة، شاهدوه من بعد، فقالوا: يا فلان ما فعل قرآنك؟ ما فعل علمك؟ ما فعل صيامك؟ ما فعل جهادك؟ ما فعلت صلاتك؟ قال: اعلموا أني أنسيت القرآن كله إلا قوله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر:2].
وذكر ابن النجار في تاريخه أن رجلاً كان يطلب العلم يقال له: ابن السقة، كان عند الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، فسأل الشيخ مسألة وأساء الأدب مع الشيخ، فقال أبو إسحاق: اجلس فإني أجد من كلامك رائحة الكفر هذه فراسة، ما تؤول إلا فراسة، فاستغرب الحاضرون؛ طالب علم يسأل شيخاً، والشيخ يقول: اجلس إني أرى منك رائحة الكفر! وكان حافظاً للقرآن، حصل أن خليفة المسلمين أرسل هذا الرجل بعد ذلك برسالة إلى ملك الروم، فذهب وافتتن ببنت ملك الروم وطلب زواجها، وامتنعوا إلا أن يتنصر فتنصر، ورئي في القسطنطينية مريضاً وبيده مروحة يذب بها الذباب عن وجه، فسئل عن القرآن فذكر أنه نسيه إلا آية واحدة: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر:2].
قال ابن القيم: وكان بـ مصر رجل يلزم الأذان والصلاة، صعد المنارة يوماً على عادته وكان تحت المنارة دار لنصراني فاطلع فيها فرأى بنت صاحب الدار، فافتتن بها وترك الأذان، ونزل إليها وطرق الباب، فقالت: أنتم لستم من أهل هذه الأمور، أنتم مسلمون.
النصارى يعرفون أحوال المسلمين في الغالب.
قال: أريدك.
قالت: لماذا؟ قال: لأنك سلبتِ لبي.
قالت: لا أجيبك إلى ريبة أبداً.
انظر النصرانية لا تقول بالحرام، قال: أتزوجك؟ قالت: أنت مسلم وأنا نصرانية وأبي لا يزوجني منك.
قال: أتنصر.
قالت: إن فعلت أفعل.
فتنصر ليتزوجها، وصعد سطح الدار فزلت قدمه، فوقع على عنقه فمات.
أيها الإخوة إن الذي يصبرنا أشياء: الفلاح، وابتغاء رضا الله، وابتغاء الأجر: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون:5] ثناء الله يكفينا، الجنة والنعيم المقيم {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:10 - 11] خذ الدليل، الجنة مقابل حفظ الفرج: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة) رواه البخاري وهكذا اسأل هؤلاء الذين يريدون العبادات ما هي الغاية؟ الجنة ووجه الله طمأنينة وراحة البال إلى صبرنا لذة الانتصار على النفس، إذا كان أهل الحرام يجدون لذة بالحرام فأصحاب الإيمان والعبادة يجدون لذة أكبر
صبرت عن اللذات لما تولت وألزمت نفسي صبرها فاستمرت
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه فإن طمعت تاقت وإلا تسلت
إذا صبرتها صبرت، وإذا أطلقت لها العنان انطلقت رب مستور سبته شهوة فتعرى ستره فانتهك صاحب الشهوة عبد فإذا غلب الشهوة أضحى ملكاً أي عبادة شاقة لو مارستها فترة ارتحت، وذهب عناء العبادة أي شهوة محرمة مهما كانت لذيذة لو مرت ماذا يحدث؟ تنسى لذتها، إذاً هذا ينسى وهذا ينسى، لكن ما الذي يبقى في الصحائف؟ أجر ذاك ووزر هذا، لذلك شعارنا "الموت ولا الحرام".
جاء رجل إلى الشافعي برقعة كتب فيها:
سل المفتي المكي من آل هاشم إذا اشتد وجد بامرئ كيف يصنع
فكتب له الشافعي تحته:
يداوي هواه ثم يكتم وجده ويصبر في كل الأمور ويخضع
فأخذها وذهب بها، ثم ردها للشافعي وكتب عليها:
فكيف يداوي والهوى قاتل الفتى وفي كل يوم غصةً يتجرعُ
فكتب الشافعي
الجواب
فإن هو لم يصبر على ما أصابه فليس له شيء سوى الموت أنفعُ
إذاً أيها الإخوة: لا بد أن نعظ أنفسنا بالموت وما بعده
قد كان عمرك ميلاً فأصبح الميل شبرا
وأصبح الشبر عقداً فاحفر لنفسك قبرا
اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وارزقنا العفة والعفاف والصبر عن المحارم والمحرمات، واجعل بيننا وبين الحرام برزخاً وحجراً محجوراً.
والحمد لله، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(314/23)
من رحاب الشريعة
في هذه المادة تم الإجابة عن عدة أسئلة عبر قناة اقرأ الفضائية، أجاب عنها فضيلة الشيخ محمد بن صالح المنجد.(315/1)
توبة فتاة كانت تخرج مع الشباب
المقدم: الحمد لله والصلاة السلام على رسول الله.
أما بعد: المشاهدون الكرام: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
نرحب بكم مرة أخرى في برنامجكم (في رحاب الشريعة) من قناتنا الفضائية: اقرأ، مجلس علم آخر، نجلس وإياكم فيه مع مضيفنا لهذه الأمسية المباركة؛ لتطرحوا الأسئلة والاستفسارات، وعلى فضيلته الإجابات والتوجيهات، نسأل الله التوفيق حياكم الله، فلنبدأ على بركة الله.
ضيفنا لهذه الأمسية المباركة فضيلة الشيخ/ محمد بن صالح المنجد، الداعية الإسلامي المعروف، باسمكم جميعاً نرحب بفضيلة الشيخ محمد، حياكم الله يا شيخ محمد.
الشيخ: الله يحييكم.
المقدم: يا شيخ محمد في الحقيقة وقتنا نعتبره ضيقاً، وأسئلة المشاهدين الكرام كثيرة، سواء عبر الفاكس أو الهاتف وما إلى ذلك، وسنجتهد وإياكم -يا فضيلة الشيخ- على الإجابة على أكبر قدر ممكن إن أذنتم بذلك جزاكم الله خيراً.
ولعلنا نبدأ بأسئلة وردتنا، وهي في الحقيقة مجموعة أسئلة في أحد هذه الفاكسات وكلها مهمة، ولكن سنأخذ بعضها ونستأذن السائل عن البعض الآخر.
السؤال يقول: يا شيخ: هل يغفر الله لفتاة تعودت على الخروج مع الشباب، وهي الآن تريد أن تمتنع عن ذلك، وطلبت من الله عز وجل المغفرة، ولبست الحجاب، هل لها من توبة يا شيخ محمد؟ الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا إنك أنت السميع العليم، اللهم إنا نسألك الإخلاص والسداد في القول والعمل إنك سميع مجيب.
أيها الإخوة والأخوات: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وهذه فرصة طيبة أن نلتقي في هذا البرنامج، وبالنسبة للسؤال الذي طرح قبل قليل فأقول: الحمد لله التواب، الهادي إلى سبيل الصواب، هذه الفتاة المسلمة التي تسأل هذا السؤال، استيقظ ضميرها لتجد نفسها غارقة في معصية وكبيرة من الكبائر وهي تخرج مع من حرم الله الخروج معهم، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء:25] واتخاذ الأخدان هو ما يسمونه في هذا العصر بـ (واي فرند) أو الصديق، والخروج معه حرام ولا شك، بل إن مكالمته سواء كانت بالهاتف أو (التشاتنج) الذي يكون في الإنترنت هو نوع من الاتصال المحرم بين المرأة الأجنبية والرجل الأجنبي، ولذلك فإن على هذه المرأة بعدما عرفت طريق الحق أن تثبت عليه، وأن تصدق في توبتها، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التحريم:8] وإذا حسنت توبتها فندمت على ما فات، وأقلعت عن الذنب، وعزمت على عدم العودة، ومزقت دفتر هذه الأرقام المكتوبة عندها، وتخلصت من كل أثر؛ فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والله عز وجل أفرح بتوبة عبده من أحدنا إذا ضلت ناقته وعليها زاده وطعامه، ثم وجدها وقد يئس وشارف على الهلاك، وهذه المرأة والفتاة المسلمة ننصحها باتخاذ رفيقات طيبات، وصديقات يهدينها سبيل الصواب، والإقبال على الله، والانطراح بين يديه، والانكسار وإعلان التوبة والاستغفار، والإكثار من الحسنات: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].
المقدم: جزاكم الله خيراً يا شيخ وشكر الله لكم، ونسأل الله عز وجل أن يقبل توبة أختنا التائبة، ويوفقنا وإياها للالتزام بهدي الكتاب والسنة.(315/2)
حكم كشف المرأة لوجهها
المقدم: الأخت أم محمد من المدينة المنورة لها ثلاثة أسئلة لعلنا نجيب عليها سريعاً ما استطعنا.
السؤال
تقول في سؤالها الأول: إنها سيدة التزمت منذ عام بالحجاب -ونحن نقول: بارك الله لها في ذلك- تقول هي: هناك من يقول بأن كشف الوجه جائز، وأنا حائرة؛ خصوصاً أنني مقدمة على السفر وهم يقولون: إن كشف الوجه في السفر إلى خارج المملكة جائز؟
الجواب
الشيخ: مسألة كشف الوجه لا يمكن أن ننكر أنه قد حصل فيها خلاف بين أهل العلم، ومعروف الفرق بين مذهب ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما، ولكن الراجح من قولي أهل العلم وجوب ستر المرأة وجهها لعدة أدلة منها: أولاً: قول الله عز وجل: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور:31] وأعظم ما في المرأة من الزينة هو الوجه ولا شك، وبه تعرف المرأة الجميلة من القبيحة، وعندما ينظر الخاطب إلى المخطوبة ينظر إلى وجهها.
ثانياً: كذلك فإن الله سبحانه وتعالى لما قال: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] فإن الإدناء يكون من أعلى شيء إلى أسفل شيء، وهذا يستلزم الستر أيضاً، وكذلك قالت عائشة: [فخمرت وجهي عندما حضر صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه] في حديث الإفك، وهذا التخمير عندما قالت: أنها تكون مع النساء في طريق الحج كاشفات وجوههن، فإذا أقبلن على الرجال سترن وجوههن، فهذه أدلة على وجوب تغطية الوجه، خصوصاً في هذا الزمان الذي عمت فيه الفتنة وشاعت، والواجب أن نتقي الله في ذلك خاصة في السفر، فإن ربنا هنا في المملكة هو ربنا هناك خارج المملكة، قال تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام:3].(315/3)
حكم الزينة وتحديد الحاجب
السؤال
المقدم: السائلة تقول: يا شيخ! منذ أن التزمت أقوم بتحديد حاجبي بالتشقير أو بالحف، أي: بالحلق دون النتف أو النمص وهم يقولون: إن هذا أيضاً حرام، أفتونا جزاكم الله خيراً؟ الشيخ:
الجواب
أما بالنسبة للزينة فإن المرأة يباح لها اتخاذ الزينة المباحة، فإذا كانت الزينة لا يتبرج بها عند الأجانب، وإذا كانت ليست مصنوعة من مواد محرمة أو مشتقاتها، وإذا كانت لا تضر بالجلد ولا بالبشرة، ولا بجسد الإنسان، فإن هذه الزينة الأصل فيها الإباحة، ومن هذه الزينة التلوين كالحناء، وأحمر الشفاة، وصبغ وتكحيل الحاجب ونحو ذلك، ولذلك فإنه يجوز لها أن تلون وتتزين وتضع الحلي كما كانت تضعه النساء الأول، فقد كن يضعن الحناء ويلبسن الحلي من الذهب والفضة، والأحجار التي يسمونها كريمة وغير ذلك، ولكن بالنسبة لأمور معينة جاء الشرع بمنعها مثل الوشم، وبرد الأسنان، والتفليج: وهو التفريق ما بين الأسنان، والنمص: وهو نتف شعر الحاجب قصاً أو حلقاً أو حفاً بالخيط أو بغيره، وكذلك الوشم فإن هذه الأمور قد لعن صلى الله عليه وسلم من فعلتها ومن ساعدت عليها حتى الواصلة شعرها والموصولة لها، والتي تصل شعر غيرها، والتي وصلت شعرها وطلبت ذلك.
فأما بالنسبة للتشقير فقد سألنا عنه علماءنا، وسألت عن هذا شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله وشيخنا: الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله فأجازا ذلك وقال الشيخ محمد: إن التشقير تلوين.
أما بالنسبة لتحديد الحاجب بالمقص أو بالحلق فإن هذا لا يجوز، وكذلك بالمنقاش الذي تنتف به شعرها فهذا لا يجوز، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك.
أما بالنسبة لقص الشعر فإن قص الشعر جائزٌ على الراجح، وقد منعه بعض أهل العلم لكنه جائز على الراجح، ونساء النبي صلى الله عليه وسلم كن يأخذن من رءوسهن حتى يكون كالوفرة، والوفرة ما يجاوز الأذنين من الشعر، فهذا يجوز قصه، قال النووي رحمه الله: وفيه دليل على جواز تخفيف الشعور للنساء، ولكن بشرطين: أولاً: ألا تتشبه بالرجال في قصه حتى يكون قصيراً جداً.
وثانياً: ألا تتشبه بالكافرات في قصة معينة كما يسمونها -الآن- كقصة الأسد، والفأر ونحو ذلك، كما أنه لا يجوز للمرأة أن تحلق شعرها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك اللهم إلا لمداواة أو شيء خطير في البشرة يستوجب ذلك.
وأما أخذ بقية الشعر فإن الشعر الذي ينبت في مكان لا ينبت فيه عادة للمرأة كالشارب واللحية فيجوز لها أخذه على الراجح من أقوال أهل العلم، وأما شعر اليدين والرجلين مثلاً فإنه مسكوت عنه فيجوز لها أخذه أيضاً، لكن لا يجوز أن يطلع على عورة المرأة لا الكوافيرة الكافرة ولا الكوافيرة غير الكافرة، كما يفعل بعضهن من إزالة الشعور من مناطق لا يجوز إلا للزوج الاطلاع عليها.(315/4)
حكم الوشم
المقدم: الله المستعان يا شيخ: فيما يتعلق بهذه المسألة والكلام عن الزينة وما يعده الناس زينة وهو أحياناً ليس بزينة، كما تفضلت وذكرت بعض قصات الشعر المختلفة، هناك الوشم -الآن- أنا ألاحظ كثيراً من شباب وشابات المسلمين مع الأسف الشديد قد أصبح الوشم نوعاً من الزينة، ويبدو أن هناك غبش في مسألة جواز هذا من عدمه، فما هي حدود الجواز إذا كان هناك شيء جائز أو ليس بجائز، هلا تحدثت قليلاً عن هذه المسألة يا شيخ محمد؟ الشيخ: أما بالنسبة للوشم فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد لعن الواشمات والمستوشمات.
والوشم: هو غرز لون تحت الجلد بإبرة ونحوها، وقد تطورت الآن صوره وأشكاله ويسمونه الآن على التسمية الغربية (بالتاتوك) وهذا الوشم له صور كثيرة المقدم: أنا رأيت بعضها ممكن أن نعرضها عبر صفحات الانترنت.
الشيخ: ولعل هذه بعض المواقع التي تعرف في الإنترنت، هذا ولعل الأخ المخرج يبين الآن عبر هذه الشاشة بعض أشكال الوشم على الذراع، وهذا شكل آخر، ونرى النقوش من ذوات الأرواح فهذا أولاً وهو منكر يضاف إلى منكر الوشم، وهذا أيضاً أشكال التنين.
المقدم: تحول إلى لوحة.
الشيخ: نعم تحول إلى لوحة أشكال التنين، وبعضها مما لا يجوز وضعه أيضاً؛ لأن فيه شعارات لأديان الكفار، وقد سألني شخص مرة ما حكم أنني وشمت صليباً على ذراعي وكيف أتخلص منه الآن وقد تبت إلى الله؟ وهذا بطبيعة الحال هذه كلها أشكال لأشياء تتعلق بمعبودات الكفار أو أديانهم تنقش، وبعضهم قد ينقش صورة المسيح مثل النصارى، وبعض عباد القبور، وعباد الكواكب قد ينقشون أيضاً ما يعبدونه، وبعض جهلة المسلمين يقلدهم وينقش أشياء منها وهذه صورة نراها -الآن- نقش عليه صليب في وسط النقش وهذا واضح، فهذه الأشياء غرز اللون بالإبرة تحت الجلد وانحباس الدم تحته، هذه من الأشياء (المقرفة) التي يفعلها هؤلاء بزعمهم أن هذه الأمور من الزينة.
ونحن مقيدون بالالتزام بالشريعة ولذلك لا يجوز أن نتزين بما خالف الشريعة، ثم نرى الآن ألوان وأشياء جديدة خرجت، فمثلاً تجد من تغيير خلق الله ما نراه هنا أيضاً في قضية حلق الشعر من القفا والرسم عليه، هذه وجوه -الآن- يعني: مما يرى يعرض الآن وجوه مرسومة على خلفية الرأس.
المقدم: هذا الآن الرأس من الخلف وليس وجه.
الشيخ: هذا وجهه مثل قفاه، شيء واحد، وهذا نقش صورة لبعض الساسة المعروفين أو رسمها على هذا المنوال، وهذه التقليعات التي يفعلها بعض المسلمين تشبهاً بالكفار، ولا شك أنها تدل على ذوبان وفقدان الشخصية الإسلامية، ويجب علينا أن نكون نحن مسلمين، يجب أن نأخذ من الكتاب والسنة، وأن نتميز بشخصياتنا عن الكفرة، كيف يجوز لمسلم أن يفعل مثل هذا بنفسه؟! ثم أي شيء نجده من الزبالات نأخذه ونفعله ويتفاخر به شبابنا وشاباتنا مع الأسف الشديد يعتبرونها موضة وتقليعة، وتنتشر انتشار النار في الهشيم، فلعلهم يرجعون إلى الله ويتركون التشبه والحديث: (من تشبه بقوم فهو منهم) وظاهره كفره كما قال بعض أهل العلم.
المقدم: يا شيخ أنا أريد فقط أن أنبه على مسألة وردت أثناء حديث فضيلتكم أن بعض الناس ينقشون صورة المسيح عليه السلام، وهي الصورة المزعومة وليست حقيقة صورة المسيح عليه الصلاة والسلام، وإنما صورة مزعومة في أذهان الذين يزعمونها.
ثانياً: إذا تاب تائبٌ من شباب المسلمين بعد أن كان وضع هذه النقوش على جسده ماذا يفعل هل يجب عليه أن يزيلها أو ماذا يفعل؟ الشيخ: يجب عليه أن يزيلها إذا لم يكن ضرراً عليه، ومن المعلوم أن إزالة مثل هذه الأشياء تستوجب عمليات جراحية كثيراً من الأحيان، وهذه العمليات قد تكون مؤلمة جداً ويستمر الألم، ولذلك لما سألنا علماءنا عن هذه القضية كان الجواب باختصار يلزم إزالتها إذا لم يكن هناك ضررٌ على الإنسان، فإذا كان يتضرر يغطيها ويتوب إلى الله.(315/5)
مرض الإيدز سببه وبعض الأحكام المتعلقة به
السؤال
المقدم: لعلنا ننتقل إلى سؤال آخر من الأسئلة المهمة والحساسة نسأل الله العافية، مرض الإيدز انتشر -مع الأسف الشديد الآن- في بقاع كثيرة من العالم، وأصيب به رجال ونساء وأطفال لأسباب لا تخفى على الناس اليوم، وهناك بعض الأسئلة تتعلق بهذا الموضوع مثل: تزويج مريض الإيدز هل يزوج أو لا يزوج، وإجهاض الطفل أو حضانة الطفل المصابة أمه بالإيدز هل يجوز إجهاضه أو لا؟ مريض الإيدز الذي وقع في هذه المصيبة من خلال ممارسات محرمة ثم تاب إلى الله عز وجل هل توبته مقبولة؟ تفضلوا بشيء من التعليق حول هذه المسألة يا شيخ محمد.
الشيخ: أولاً: نسأل الله السلامة والعافية، وألا يبتلينا عز وجل بهذه القاذورات، وأن يباعد بيننا وبين أسبابها إنه سميع مجيب.
أقول: أيها الإخوة والأخوات: ولما صارت الشهوات ترتع، ولما حصل تقليد الكفار في الأشياء الكثيرة، وحصل التشبه بمن أهلكهم الله عز وجل من الأمم السابقة، ومنهم قوم لوط الذين بعث الله إليهم لوطاً عليه السلام لكي يدعوهم إلى التوحيد وإلى ترك هذه الرذيلة الشنيعة وهذه القاذورة، وقال لهم موبخاً كما نسمع: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء:165 - 166] فصار إتيان الذكران من العالمين في هذا الزمان شيئاً له حقوق عند الغربيين، وهناك زواج الذكر بالذكر ومحاكم تقضي بهذا، وقوانين تسن لهذا، وأناس يدخلون في البرلمانات ينتخبون لتشجيعهم لهذه الرذيلة والفاحشة الكبرى، ولما سرت هذه الفواحش في الناس في هذا الزمان ابتلاهم الله عز وجل -عقوبة لهم- بهذه الأمراض الشنيعة ومنها هذا المرض (مرض الإيدز) الذي لم يعرفوا له علاجاً وحتى الآن وهو يستشري استشراء النار في الهشيم، فأكثر من ستة وثلاثين مليوناً في القارات والبلدان قد تناولهم هذا المرض الخطير، ولذلك الآن صار عندنا أشياء جديدة لم تكن توجد عندنا من قبل، وأسئلة فقهية تتعلق بهذا الموضوع، منها: قضية تزويج مريض الإيدز، وبعض الناس الذين يفسقون، والآن في الصيف يذهبون إلى الخارج وسيرجعون، خمسة مليون سائح، يرجعون، بعضهم لم يكن فيه المرض سيرجع ويحمله كما رجعوا في السنة الماضية والتي قبلها والتي قبلها، لا يخافون الله، يذهبون إلى القاذورات يعملونها، وينظم الواحد إلى نادي الإيدز كما جاء في عمل بعضهم الذي دخلت عليه إحدى المومسات ولما بات معها قام من النوم ولم يجدها، فدخل دورة المياه ووجد بطاقة تقول له: مرحباً بك عضواً جديداً في نادي الإيدز، ثم يرجعون فيدخلونه على زوجاتهم البريئات، وهذا المرض ينتقل بالاتصال الجنسي، ثم يكون من نتيجة الجرائم أن يوجد ذلك في الأولاد، وأن يوجد من هو مصاب ومن هو حاضن للفيروس ويظهر في أولاده هو وذلك بسبب هذه المعصية، وهذا من شؤم المعصية، ينتشر في الزوجة وفي الأولاد وفي الرجل نفسه، ولذلك من الأشياء التي نشرت قريباً جداً في الحقيقة قصة مؤثرة حصلت لشاب يقول: إنه كان يعمل في إحدى الدول، جاء ليعمل وأراد المال، يريد الأجرة، يرجع إلى بلده يبني بيتاً، ذات يوم دخل عليه صديق معه امرأة قال: ظننتها زوجته من لباسها والعباءة، ثم لما خلعت العباءة وصارت تعمل الحركات القذرة عرفت أنها ممرضة في مستشفى من إحدى بلاد جنوب شرق آسيا، قال: وأغراني بالمبيت معها، ولما وقعت الكارثة، وحصلت المصيبة قامت وذهبت ولم أشعر بشيء في البداية، ثم صارت الأوجاع تنتابني، وصارت الآلام تأتيني، وصار عندي انتفاخات في أماكن معينة، فراجعت الطبيب ليتم الفحص ويتبين أنه مصاب بهذا المرض، بعد ذلك يقول: رجعت مغموماً فالمال الذي جمعته أفنيته في العلاج، نفسيتي تكدرت، يقول: الآن أنا لا أعرف ماذا أفعل وأنا أعلم أنني أقترب من الموت وقالوا لي: معك سنوات كذا كذا متوقعة، ثم يقول: تمنيت أني تزوجت وأنجبت لكن في نفسي أقول مرة أخرى وأعود ما ذنب المسكينة التي سأتزوجها؟ كارثة من جميع الجهات.
فعودة إلى السؤال مرة أخرى هذه القضية قضية تزويج المريض بالإيدز.
أولاً: إذا كان مريضاً فيجب عليه شرعاً أن يبين لهم حاله.
ولا بد أن يصارح ويقول: أنا مريض عندي كذا وكذا، فإن وافقوا فإنه يجوز أن يتزوج وإلا فلا يجوز له إخفاء أمره؛ لأن في هذا غش وتدليس للمسلمين، وهذا ينقل المرض لزوجته، فلذلك كتمان أمره غشٌ للمسلمين، ويجب أن يلجأ للعلاج؛ لكي لا يعدي وينقل المرض مرة أخرى.
المقدم: هذا حكم التزويج؟ الشيخ: نعم.(315/6)
حكم إجهاض الطفل إذا كانت أمه مصابة بالإيدز
المقدم: إجهاض الطفل المصابة أمه بالإيدز؟ الشيخ: أما بالنسبة للإجهاض فإن الجنين إذا نفخت فيه الروح فإنه لا يجوز إجهاضه؛ لأنه قتل نفس حتى ولو عرفنا أنه مصاب بالإيدز، هذا ابتلاء من الله ويصبر عليه، وبعض الناس يجهضون أولادهم بعد نفخ الروح؛ لأن الطبيب قال له: إن فيه العلة الفلانية أو المشكلة الفلانية، يا أخي أولاً: قد يكون كلام الطبيب غير صحيح فتقتل نفساً بدون شيء، هذه امرأة كانت لا تريد بنات قالوا لها بالتصوير: عندك بنت وعندها بنات من قبل، فلما جاءها الخبر اغتمت غماً شديداً، نتيجة الغم عند الولادة الرحم لم يعمل في الطلق، فخرج الولد مختنقاً، اختنق عند الولادة لما ولد وكان ذكراً، فإذاً الشخص قد يكون خاطئاً.
ثانياً: إذا نفخت فيه الروح فنصبر عليه وعلى البلوى والأجر على العلاج، والأجر على تربيته والعناية به وهو مريض، نحن لسنا على مذهب هتلر النازي الذي كان يقتل أي إنسان مريض في المجتمع ويقول: هذا عبء على المجتمع، عبء مالي وعبء صحي نقتله، هذا قد يدخل الجنة بسببه.
فإذاً هذا بالنسبة لإجهاض الذي نفخ فيه الروح وغالباً لا يعرفون الإصابة إلا بعد مضي أربعة أشهر أن هذا مصاب في الغالب.
أما بالنسبة للحضانة فالأم المصابة بهذا المرض إذا كانت الحضانة لا تنقل المرض إلى الولد، وإذا كان الولد سليماً فلا سبب لمنعها من الحضانة، وأما بالنسبة لطلب الزوجة الفرقة من زوجها المصاب أو العكس خصوصاً أن بعض النساء تفاجأ الآن أن زوجها لوث نفسه ورجع، وتكتشف من ملابسه قبل فترة تسأل جاء السؤال تكتشف ذهب إلى بلاد أوروبا الشرقية هذه الرخيصة، هي رخيصة في كل شيء يعني، حتى في عقائدها، ثم يرجع وتكتشف من خلال الملابس آثاراً نسائية على الأشياء، بعد ذلك الرجل أٌعلنت إصابته بالمرض فيحق لها شرعاً طلب فسخ النكاح منه؛ لأن هذا سبب يبيح فسخ النكاح، هذا ضرر عظيم أن ينتقل إليها المرض.(315/7)
حكم توبة المصاب بمرض الإيدز
المقدم: إنسان علم أنه مريض بهذا المرض ثم انكسر ورجع وتاب إلى الله عز وجل هل توبته مقبولة؟ الشيخ: لا شك أن الله سبحانه وتعالى يقبل التوبة عن عباده، فإذا تاب قد يقول قائل: هذا الآن في مرض الموت ما ينفعه شيء، لكن هذا كلام غير صحيح، ما دام أن الروح ما بلغت الحلقوم فإن التوبة تنفعه ما لم يغرغر، توبة العبد تقبل ما لم يغرغر: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82] فلماذا لا يغفر الله له؟ (يا عبادي إني أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم).(315/8)
حكم اشتراط الربا والتعامل به
السؤال
المقدم: جزاكم الله خيراً، نأخذ هذا الفاكس قبل أن نستقبل المكالمات، وقبل أن نجيب على الفاكس نأخذ عبد الرزاق من بلجيكا لكي لا نبقيه على الهاتف المقدم: الأخ عبد الزاق! السلام عليكم.
السائل: وعليكم السلام ورحمة الله.
المقدم: الله يحييك يا أخي.
السائل: جزاكم الله خيراً.
المقدم: ولك بالمثل.
السائل: يا أخي أنا لي سؤال؟ المقدم: تفضل يا أخ عبد الرزاق.
السائل: أنا أقطن في بلجيكا، وعندي نقود في بنك، والبنك ليس بنكاً إسلامياً، وما يؤدى لي من ربا أرسله إلى إخوتي وإخواني في أفغانستان، فهل يمكنني ذلك أم ماذا أفعل؟ المقدم: سنرى الإجابة إن شاء الله ونسمعها من الشيخ السائل: جزاكم الله عنا خيراً.
المقدم: حياك الله أهلاً وسهلاً يا أخي.
المقدم: فضيلة الشيخ: الأخ عبد الرزاق من بلجيكا كان قد سأل سؤالاً يقول: إن عنده نقوداً موضوعة في بنك ربوي وأن المبالغ التي تحصل من الربا لهذه النقود هو يرسلها إلى إخوانه في أفغانستان كما ذكر فما حكم هذا الفعل؟ الشيخ: لا يجوز لمسلم أن يطالب بالربا، ولا أن يشترطه، فلا يجوز أن يشترطه ولا أن يطالب به والمرابي ملعون، الآكل والمؤكل، وكل من يعين على هذه العملية كالكاتب.
وأما بالنسبة لرجلٍ وضع ماله في بنك ربوي لم يجد إلا هو، لم يجد لحفظ المال من الضياع والسرقة إلا هذا البنك فما حكم وضعه فيه؟ ضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، إذا لم يوجد مكان آخر حلال ولو تجارة حلال متيسرة يضعه، وأصلاً حتى بعض التجار يحتاجون إلى السيولة لدفع الرواتب وغيرها للموظفين، فإذا اضطر إلى وضعه في البنك الربوي فهذه الضرورة لا يجوز أن يأخذ ربا ويقبضه ويستلمه ويتصرف فيه، فالآن هو جعل المال في هذا المصرف الربوي إعانة لهذا البنك على الربا، ومعروف أن البنوك الربوية تقرض من أموال الناس للناس الآخرين، وتأخذ النسب الأكثر وتسلف بالنسب الأكثر وهكذا، ولذلك لو قلنا الآن وضعه في المصرف الربوي ضرورة، فأخذ -المال عليه- الربا عليه لا يجوز، فلو وضعوه له ولم يشترطه ولم يطالب به، جاء إلى الحساب فوجد الحساب زائداً على المبلغ الأصلي ماذا يفعل؟ يأخذه ويتخلص منه ولا يدخل في جيبه شيئاً ولو يسيراً من هذا المال، لا يدفع به الضرائب، ولا يدفع به الظلم عن نفسه، ولا يشتري كما يقول بعضهم يقول: نحن الربا ما نأخذه للأكل لكن للملابس والبنزين والمحروقات سبحان الله العظيم! من أين يفلسفون لأنفسهم هذه الأشياء؟! وبعض المتساهلين المفسدين يشجعونهم على هذا فيقول: شيء بسيط (5%) لا يضر.
شخص قال: هذا مصرف فيه مسلمون وكفار فقال: أنا آخذ نصف الربا، الذي هو تبع الكفار، وتبع المسلم هذا، سبحان الله العظيم! من الذي أفتاهم في هذا؟ الربا لا يجوز لا مع المسلم ولا مع الكافر فالشاهد إذا أخذه يتخلص منه بأي طريقة، وبالنسبة للمعطى له هو مالٌ ضائعٌ لا صاحب له، الحرام على الآخذ أما إذا تخلص لغيره فإن هذا بالنسبة لغيره مالٌ ضائع لا صاحب له.(315/9)
مشكلة أسرية بسبب الفهم الخاطئ للطهارة
المقدم: نأخذ هذا الفاكس سريعاً؛ لأنه يبدو أن هناك أسرة مهددة بالانهيار بسبب عجيب سيسمعه المشاهدون الكرام من خلال سؤال هذا السائل يقول: زوجتي لم تقتنع حتى الآن بأن الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر في غاية البساطة، وهي تجلس مدة لا تقل عن خمسة وعشرين دقيقة متواصلة بعد قضاء الحاجة حتى تتطهر، وفي حالة الطهارة من الحدث الأكبر ثلاث ساعات، فيقول: أرجو التوجيه والتشديد عليها؛ لأن هذا الأمر يجعلني في حيرة هل أستمر معها أم ماذا أفعل، عندي منها ثلاثة أطفال فأحياناً لا تعمل شيئاً سوى الطهارة، ويقول كلاماً كثيراً: البيت مهدد بالانهيار بسبب سوء فهم هذه المرأة لمعنى الطهارة ماذا نقول لها يا شيخ محمد؟ الشيخ: الحمد لله.
أولاً: هذه المرأة لماذا تصر على هذه الفترة الطويلة؟
الجواب
لإزالة النجاسة؛ لأنها تخشى ألا يقبل الله صلاتها ولا يقبل طهارتها وهكذا.
فنقول: بماذا كلفنا الله في النجاسة؟ أن نزيلها، والإزالة بأي وسيلة على الراجح وعلى رأس ذلك الماء، فإذا كان يكفي ثلاث غسلات لا نلجأ للرابعة والخامسة؛ لأن هذا إسراف وضياع للماء وضياع للوقت أيضاً، وإذا كان لا يحصل إلا بخمس فبخمس وهكذا، فإذا زالت عين النجاسة، ولم يعد هناك لون ولا جرم لها، ومعلوم أن علامات النجاسة: اللون، والرائحة، والطعم، لم يعد هناك جرمٌ وزال أثر النجاسة أكدنا أن العضو كله قد بلل بالماء، ماذا بقي؟ الذي يبقى تعذيب النفس، وطاعة إبليس، والله عز وجل نهى عن طاعة إبليس، ونهى أن تتبع سبل الشيطان: {لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] وهذا الشيطان يوسوس لها أن طهارتها غلط وصلاتها غلط وإلخ.
ثم هذه قضية لا تقف عند حد إزالة النجاسة والقعود فيها ساعات، بل ربما تدخل أشياء في المخرج وتعذب نفسها، ثم تعيد غسل العضو عشرات المرات، ثم تخرج من الحمام وتقف في الصلاة فتكبر عشرات المرات، وتقرأ الفاتحة عشرات المرات، وهكذا تعيش في الوسوسة، ولذلك نقول: كفى تعذيباً للنفس وتعذيباً للزوج وإهمالاً للأولاد في هذه القضية، ماذا تريد؟ طاعة الله؟! تطيعه بإزالة النجاسة على الوجه الذي أمر به سبحانه وتعالى، وقد جاء واحد من الناس وقال لعالم من العلماء: أنا أنغمس في الماء وأشك في أني قد اغتسلت، فما حكمي؟ قال: لا صلاة عليك اذهب، قال: ولم يا شيخ؟ لماذا لا صلاة عليَّ فأنا مسلم؟! قال: الذي ينغمس في الماء ينغمس من رأسه إلى قدمه ثم يشك أنه قد اغتسل فهذا مجنون؛ والمجنون مرفوع عنه القلم، وبالتالي لا صلاة عليك، فنقول: يكفي إزالة النجاسة والوضوء، والرسول عليه الصلاة والسلام ماذا قال في الطهارة وفي الوضوء؟ قال: (الوضوء ثلاثاً، فمن زاد فقد أساء وتعدى وظلم) ثلاثة أشياء: أساء، وتعدى، وظلم، والواجب إهمال الوسواس ولا بأس أن تعرض نفسها على طبيبة نفسانية تعالج لها شيئاً من هذا.(315/10)
حكم التطيب بالزعفران حال الإحداد وحكم صلاة السنن في السفر
المقدم: بارك الله فيكم.
نأخذ الأخ أبي ثنيان من السعودية حتى لا نبقيه على الهاتف تفضل يا أبا ثنيان! السلام عليكم.
السائل: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
كيف الحال يا شيخ مسعود؟ المقدم: الله يحييك يا أخي.
السائل: مساك الله بالخير يا شيخ محمد.
الشيخ: حياك الله يا أخي.
السائل: عندي ثلاثة أسئلة يا شيخ مسعود: سؤالي الأول: المرأة التي تحد ما حكم استعمال الزعفران بالنسبة لها؟ السؤال الثاني: بالنسبة للسنن الرواتب في السفر ماذا ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيها هل تصلى في السفر السنن الرواتب؟ والسؤال الثالث يا شيخ: بالنسبة للمحلات التجارية إذا أجرتها على نفس العامل بنسبة معينة طبعاً أعطيه ثلاثة أشهر مدة للتجربة فيقول: أنا والله أعطيك كل شهر أربعة آلاف ريال فما أدري هل فيها شيء؟ المقدم: سنسمع إن شاء الله.
السائل: جزاك الله خيراً يا شيخ.
سؤال الحلقة التي فاتت يا شيخ مسعود أنا سألت الشيخ عبد الله بالنسبة للوفاء بالوعد وبالنسبة لإكرام الضيف؟ فقال: إكرام الضيف سنة فما أدري هل الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) يدل على الوجوب؟ فلو يتفضل الشيخ محمد يفصل لنا في المسألة لأن الخط في الأسبوع الماضي انقطع عني.
المقدم: هذه لعلي آخذ الوقت المحدد من الإخوان وأعطيكم خبر إن شاء الله.
السائل: جزاك الله خيراً يا شيخ.
السلام عليكم.
المقدم: حياك الله يا أخي.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الأخ أبو ثنيان من السعودية كان قد سأل ثلاثة أسئلة: سؤاله الأول المرأة التي في فترة الإحداد هل لها أن تستعمل الزعفران؟ الشيخ: المرأة في الإحداد تجتنب الزينة كالحلي بجميع أنواعه، والحناء، والمكياجات طبعاً، وكذلك تجتنب الخروج من البيت إلا لحاجة، وتجعل خروجها نهاراً إذا احتاجت، مثل المستشفى والمحكمة مثلاً.
والزعفران هو من الطيب وذات الحداد لا تتطيب، ولذلك قال ابن مفلح رحمه الله في الفروع: وتجتنب الزعفران كطيبٍ.
ومعنى ذلك أن الزعفران العلماء يعدونه من الطيب، والطيب كلما يتطيب به عادة مثل العود وغيره، وليس كل ما له رائحة طيبة؛ لأن النعناع وقشر البرتقال والليمون له رائحة طيبة لكنه لا يستعمل في الطيب، إنما ما يتطيب به هو الطيب، طبعاً ما يستعمل في الطيب عند العقلاء، لأنه -الآن- يوجد طيب برائحة شمام، وطيب بروائح البطيخ وما أدراك! على أية حال كل ما عده الناس طيباً في العرف عند العقلاء فهو طيب، والزعفران عند العلماء من الطيب، ولذلك تجتنب الزعفران.
سؤاله الثاني: عن السنن الرواتب في السفر هل يصليها الإنسان؟ من السنة أن يترك الإنسان السنن الرواتب في السفر إلا سنة الفجر وقيام الليل، فإنه يصليها، أما سنة الظهر القبلية والبعدية، وسنة المغرب البعدية، وسنة العشاء البعدية فإنه يتركها ولا يصليها، لكن هذا لا يعني أنه لا يصلي أي نوافل، كتحية المسجد وصلاة الاستخارة، وركعتي الوضوء، وبين الأذان والإقامة ركعتان، فإذا دخل المسجد وكان مسافراً يصلي ولا مانع، لكن هذه السنن الرواتب بالذات غير سنة الفجر الراتبة يتركها، هذه السنة.(315/11)
قصر الصلاة في السفر
المقدم: جزاكم الله خيراً، معنا الأخ عبد الله القحطاني من السعودية السلام عليكم يا أخ عبد الله.
السائل: السلام عليكم.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله.
السائل: ممكن أسأل يا أخي؟ المقدم: تفضل حياك الله.
السائل: أخي الحبيب أريد أن أسأل الشيخ محمد -الله يحفظكم- في رجل مسافر من الدمام إلى الطائف في خمسة أيام أقل أو أكثر وسيذهب بعدها إلى جدة، أي: لديه إجازة حوالي عشرين يوماً تقريباً سيكون في سفر؟ فهل يقصر أم ماذا يفعل؟ المقدم: سنسمع الجواب إن شاء الله.
السائل: يا شيخ مسعود أريد منك ربع دقيقة بالنسبة للفتاة التي سألتك عن التوبة يا حبذا الشيخ يوجهها إذا كان لها قريب أو أحد تثق به أن يكون على علم ببعض الأمور، مثل هؤلاء الفتيات يكون قد تم تسجيل أشرطة كاسيت، أو أشرطة فيديو أو من هذا القبيل، فعندما يكون لها قريب إما أخت أو أخ قريب منها.
حتى لا تكون تحت ظرف التهديد الله يحفظك.
المقدم: جزاك الله خيراً.
السائل: بارك الله فيكم.
المقدم: جزاك الله خيراً يا أخ عبد الله، شكر الله لك يا أخي.
المقدم: جزاكم الله خيراً، الأخ عبد الله القحطاني يا شيخ محمد سؤاله شبيه بسؤال الأخ أبي ثنيان الذي سأل عن السنن قبل قليل لكنه عن الصلاة بشكل عام يقول: رجل مسافر إلى الطائف سيبقى في الطائف خمسة أيام ثم يذهب إلى جدة عنده إجازة سيوزعها بين المدن، كيف يصلي هذا الصلاة يقصر أم ماذا يفعل؟ الحمد لله عند جمهور أهل العلم مالك والشافعي وأحمد وبه كان يفتي شيخنا عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله أن المسافر إذا نوى الإقامة أكثر من أربعة أيام وعند الإمام أحمد (إحدى وعشرين صلاة) إذا نوى الإقامة أكثر من أربعة أيام في بلد يذهب إليه فإنه في حكم المقيم، وبناءً عليه فإنه يتم الصلاة لا يجمع ولا يقصر، وأما إذا سيجلس أربعة أيام أو أقل من أربعة أيام فإنه يجوز له أن يقصر، والأفضل ألا يجمع فإذا جاء إلى بلد يجلس فيه يوماً يومين ثلاثة يقصر بغير جمع، ولو جمع جاز ذلك على الراجح، وله دليل من السنة.
المقدم: جزاكم الله خيراً، إذاً: سمع الأخ عبد الله ووفقه الله في سفره وجميع المسلمين.(315/12)
الحلف بالطلاق
الأخ أحمد إبراهيم من الشارقة معنا على الهاتف نقول: السلام عليكم يا أخ أحمد.
السائل: السلام عليكم.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله.
السائل: كيف حالك يا مولانا؟ المقدم: حياك الله وأهل الشارقة جميعاً.
السائل: يعطيكم العافية.
المقدم: ممكن ترفع لنا الصوت قليلاً يا أخ أحمد.
السائل: هناك مشكلة عائلية: رجل حلف على زوجته لأنها تكثر الخروج من باب البيت، فحلف عليها بنية التهديد بالطلاق إذا خرجت من دون إذنه، فهل إذا خرجت تعتبر طالق أم أنه على حسب النية؟ المقدم: هل تذكر اللفظ ماذا قال؛ لأن هذا مهم جداً؟ السائل: إذا خرجت من البيت بدون إذني فأنت طالق.
المقدم: طيب لعلنا نسمع الإجابة إن شاء الله.
شكراً يا أخ أحمد، نجيب على الأخ أحمد يا شيخ، تفضل في الإجابة على سؤال الأخ أحمد الذي هو رجل حلف على زوجته الذي سمعناه الآن قال: إذا خرجت من البيت بدون إذني فأنت طالق هل يقع عليها الطلاق لو خرجت؟ الشيخ: أما بالنسبة للمسألة مجملة عموماً فإن قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه المسألة ملخصه: أن الحالف بالطلاق على شيء معين أن يقع أو لا يقع يرجع الأمر فيه والحكم إلى نيته، فإن قصد إيقاع الطلاق أنها طالق لو فعلت أو أنها طالق إذا لم تفعل، ثم لم تفعل أو فعلت على المسألتين، فإذا نوى المنع ولم ينو الطلاق ولم يدر في باله عندما تكلم فإنه يمين تجب فيه الكفارة، وإذا نوى أنها لو خرجت بغير إذنه فهي طالق فخرجت بغير إذنه فهي طالق تقع طلقة.
أما بالنسبة لهذا الأخ المعين الذي سأل فيرجع إلى القاضي الشرعي في الشارقة ويعرض عليه مسألته ويأخذ الجواب؛ لأن المسائل المعينة لا بد فيها من الرجوع إلى القاضي.
أما بالنسبة لفائدة في ذكر الحكم أو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فهو هذا، ثم إن خرجت ناسية للفائدة أيضاً لا يقع الطلاق، ثم أيضاً إن أراد أن يخرج نفسه من هذا المأزق فيمكن أن يأذن لها بالخروج مستقبلاً، وأما إذا خرجت يرجع إلى القاضي لينظر نتائج ما فعل، والنصيحة: ألا يلجأ الأزواج إلى هذا الأسلوب في منع زوجاتهم، عنده الموعظة بالحسنى، والشرع علمه ماذا يفعل: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34]؛ لأن تعليق الأسرة في مهب الريح بمثل هذه العبارات مصيبة كارثة.(315/13)
التفصيل في تحري دخول رمضان في البلاد الغربية
المقدم: معنا الأخ عبد العزيز من أمريكا السلام عليكم.
السائل: وعليكم السلام يا شيخ.
المقدم: حياك الله يا أخ عبد العزيز.
السائل: الله يحييك ويهديك.
المقدم: الحمد لله تسرك.
السائل: أخبارك يا شيخ محمد.
الشيخ: الحمد لله حياك الله يا أخي.
السائل: أنا أحد طلابك في المرحلة الابتدائية.
الشيخ: حياك الله.
السائل: أخبارك طيبة؟ المقدم: الله يحييك تفضل يا أخ عبد العزيز.
السائل: يا شيخ محمد بعض الطلاب المبتعثين في أمريكا هنا، يقولون: هل نصوم رمضان كل واحد تبعاً للبلد الذي ينتمي له أم هل نتحرى الهلال أو ماذا؟ ما الحكم في المسألة هذه وأشكل علينا هذا الموضوع؟ وهناك موضوع آخر بالنسبة لبعض الشباب الله يهديهم ويهدينا يأتون هنا إلى أمريكا يقعون في بعض المعاصي التي توجب النصيحة، ويعملون أعمالاً ليست من ديننا، ولا من تقاليدنا، ولا من آدابنا فنرجو منك توجيهاً ونصيحة للشباب.
المقدم: بارك الله فيك يا أخ عبد العزيز، وشكر الله لك يا أخي، ولو أنك أنت قلت: ما أنت مبسوط إلا لما رأيت الشيخ محمد.
السائل: لا انبسطنا زيادة.
المقدم: شكراً أخي عبد العزيز.
المقدم: يا شيخ محمد عندنا حوالي دقيقتين أو ثلاث نجيب خلالها على الأخ عبد العزيز والأخت أم عمر إن أذنتم الله يجزيكم الخير ويعنيكم يا شيخ.
الأخ عبد العزيز يقول: في رمضان هل يصوم الناس هناك كل مع بلده أم ماذا يفعلون؟ الشيخ: إذا كانت لديكم رؤيا شرعية فأنتم تتحرون الهلال وتثبتونه شرعاً وتسيرون على هذه الرؤية، وإذا لم يكن لديكم رؤية شرعية في البلد الذي أنتم فيه فتصومون على أوثق بلد فيه رؤيا شرعية، فمثلاً يرى هنا في المملكة يتقدم الرائي لإثبات الرؤية الشرعية، ويثبت ذلك بالطريقة المعروفة المعتمدة فبناءً عليه إذا ثبت شرعاً فيلزم المسلمين الصوم عند جمهور العلماء يلزمهم جميعاً، برؤية الرجل الثقة يدخل الشهر عند كل المسلمين.
وأما باعتبار اختلاف المطالع وهو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: لكل قوم رؤيتهم، ففتوى الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله وكذلك هيئة كبار العلماء أنه إذا كانت لديهم رؤية شرعية في بلدهم ساروا عليها، وإلا ساروا على الرؤيا الشرعية في البلد الذي يثبت فيه بالطريقة الموثوقة المعروفة، وهناك يا شيخ مسعود من يروج الآن من هؤلاء المتعفنين والمتعفنة عقولهم الذين يسمون أنفسهم بالمستنيرين لقضية أنه لا رؤية، وأن العمل بالحساب، ويخالفون نصاً واضحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته) ويقولون: الرؤية فيها أخطاء والحساب ليس فيه أخطاء، والرؤيا رؤي البشر وهذه شغل أجهزة، وكأن أجهزتهم معصومة، هذا حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام في صحيح البخاري: (صوموا لرؤيته) تضربون به عرض الحائط لأجل الأجهزة؟! سبحان الله!! وأظن قبل عامين ثبتت الرؤية شرعاً والحسابات قالت خلاف ذلك، وهذا في القرن الحادي والعشرين وليس في العصر القديم فالأولى أن نسير على الدليل.(315/14)
حكم جمع الجمعة إلى العصر والتبرع بثواب الصلاة لشخص حي
المقدم: معنا الأخت أم عمر من السعودية السلام عليكم يا أم عمر.
السائلة: السلام عليكم.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله.
السائلة: ممكن أسأل فضيلة الشيخ.
المقدم: تفضلي.
ارفعي صوتك قليلاً من أجل أن نسمع، لو سمحتي.
السائلة: أول
السؤال
نحن النساء هل يمكن أن نجمع صلاة العصر مع صلاة الجمعة حال السفر، ونقصر الصلاة أم لا؟ المقدم: سنسمع الإجابة إن شاء الله.
السائلة: سؤال ثاني: هل يمكن أن يصلي الإنسان صلاة نافلة وغيرها لشخص من الأحياء كالأقارب أو الأصحاب، يعني: كصلاة المسجد الحرام والمسجد النبوي ويهديها لشخص من الأحياء.
السؤال الثالث: المرأة المتوفي عنها زوجها وهي في عدة فهل من الضروري أنها تقضي العدة في منزلها ولا تخرج، أم هل يباح لها أنها تخرج في أوقات الضرورة.
المقدم: سنسمع إن شاء الله.
السائلة: جزاك الله خيراً.
المقدم: بارك الله فيك وحياك الله.
المقدم: الله يجزيك خيراً.
أختنا أم عمر تقول في سؤالها الأول: هل يمكن جمع العصر مع الجمعة في السفر؟ الشيخ: مذهب جمهور العلماء أنه لا يجمع العصر إلى الجمعة قالوا: لأن الجمعة ليست ظهراً والجمع قد ثبت في السنة بين الظهر والعصر، والجمعة تختلف عن الظهر في عدد الركعات، والجهر بالصلاة والخطبة، والوقت أيضاً على الراجح إذاً: لا يجمع العصر إلى الجمعة.
المقدم: بقي عندنا أقل من دقيقة نقول: إذا صلى الإنسان في مكان فاضل في الحرمين مثلاً وأهداها لشخص حي أو ميت هل يجوز هذا؟ الشيخ: هذا عمل غير مشروع أن الإنسان يصلي ويهدي ثواب صلاته إلى حي آخر، والإنسان ليس بغني عن الحسنات، ما هذا الدافع العجيب عند بعض الناس يريد يفعل ويهدي كأنه مستغنٍ هو، وأن حسناته كالجبال وما عنده سيئات، هو أحوج إليها، ويدعو للميت كما علمنا النبي عليه الصلاة والسلام: (أو ولد صالح يدعو له).
المقدم: الله يحفظكم، الحقيقة سؤال أخير المتوفى زوجها هل لا بد أن تبقى في البيت فترة العدة.
الشيخ: سبق
الجواب
أنها تبقى في البيت أربعة أشهر هجرية وعشرة أيام، ولا تخرج إلا لحاجة، وتجعل خروجها نهاراً.
المقدم: شكر الله لكم يا شيخ محمد، باسم المشاهدين الكرام نشكر فضيلة الشيخ محمد بن صالح المنجد على هذه الجلسة.(315/15)
مفسدات القلوب واتباع الهوى [1 - 2]
إن اتباع الهوى مفسد للقلب فهو عن الخير صاد، وللعقل مضاد؛ لأنه ينتج من الأخلاق قبائحها، ومن الأفعال فضائحها، ويجعل شر المروءة مدلوكاً، ومدخل الشر مسلوكاً.
وفي هذه المادة يتحدث الشيخ عن اتباع الهوى وجهاده، وأقوال العلماء فيه، وأسبابه وأضراره وعواقبه وعلاجه.(316/1)
جهاد الهوى
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: الهوى وما أدراك ما الهوى، المفسد العظيم من مفسدات القلوب، هو عن الخير صاد، وللعقل مضاد؛ لأنه ينتج من الأخلاق قبائحها، ويظهر من الأفعال فضائحها، ويجعل ستر المروءة مدلوكا، ومدخل الشر مسلوكا، والهوى مطية الفتنة، والدنيا دار المحنة، فانزل عن الهوى تسلم، وأعرض عن الدنيا تغنم، ولا يغرنك هواك بطيب الملاهي، ولا تفسدنك دنياك بحسن العوافي، فمدة اللهو تنقطع، وعارية الله ترتجع، ويبقى عليك ما ترتكبه من المحارم وتكتسبه من الجرائم.
والهوى حجاب بين العبد وربه، فيه حطت النار، واستحق به غضب الجبار، وحرم أتباعه منازل الأبرار، ولهذا عظمت منزلة مخالفته، فلم يجعل الله للجنة طريقاً غير مخالفته، ولم يجعل للنار طريقاً غير اتباعه، قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37 - 41] قيل: هو العبد يهوى المعصية فيذكر مقام ربه عليه في الدنيا ومقامه بين يديه في الآخرة فيتركها -أي المعصية- لله.
بل شرع الله له -للهوى- الجهاد، فجهاد الهوى إن لم يكن أعظم من جهاد الكفار فليس بدونه، قال رجلٌ للحسن: يا أبا سعيد! أي الجهاد أفضل؟ قال: جهادك هواك.
قال ابن القيم رحمه الله: وسمعت شيخنا يقول: جهاد النفس والهوى أعظم من جهاد الكفار والمنافقين، فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولاً؛ حتى يخرج إليهم -أي: للكفار- وبدون جهاد الهوى والنفس لا يمكن الخروج إلى جهاد الكفار، فلا بد أن ينتصر عليها أولاً.
فإذا كان هذا شأن الهوى فلابد من معرفته ليحذر ومعرفة أسبابه وطرق التخلص منه، وهذا موضوع الحديث في هذه الليلة بمشيئة الله: معنى الهوى لغةً واصطلاحاً والآيات والأحاديث الواردة فيه، وموقف التشريع من الهوى، وخطر الهوى، وما يتعلق باتباع الهوى والأهواء في التشريع وفي العقائد مما يضاد التشريع ويضاد العقائد ويضاد الأحكام الفقهية أيضاً، ونتحدث كذلك عن علاج الهوى.
ولقد تحدث الشاعر عن قوم رأى معاشرهم جنحوا بـ طبيعتهم في كل تيار في اتباع الهوى وقال عنهم:
تهوى نفوسهم هوى أجسامهم تهتك بكل دناءة وصغارِ
تبعوا الهوى فهوى بهم وكذا الهوى ملئ الهوان بأهله فحذارِ
فانظر بعين الحق لا عين الهوى فالحق للعين الجلية عاري
عار: يعني ليس عليه غطاء.
قاد الهوى الفجار بل قالوا له دأبت عليه مقادة الأبرار(316/2)
تعريف الهوى لغة واصطلاحاً
الهوى في اللغة: مصدر هويه يهواه، من باب علم أي: أحبه واشتهاه.
والهوى في الأصل: العشق في الخير أو الشر، وما تريده النفس، وجمعه: أهواء، وهوي إذا أحب.
قال ابن القيم رحمه الله في تعريف الهوى: الهوى ميل الطبع إلى ما يلائمه، وهذا الميل خلق في الإنسان لضرورة بقائه، فإنه لولا ميله إلى المطعم والمشرب والمنكح ما أكل ولا شرب ولا نكح، فالهوى مستحس لما تريده هذه النفس كما أن الغضب دافع عنه ما يؤذيه فلا ينبغي ذم الهوى مطلقاً، ولا مدحه مطلقاً، كما أن الغضب لا يذم مطلقاً ولا يحمد مطلقاً، وإنما يذم ما فيه إفراطٌ من النوعين، وهو ما زاد على جلب المنافع ودفع المضار، وهناك غضب لله وهناك غضب للنفس، ذاك محمود وهذا مذموم، وكذلك الهوى هناك هوى فيما يحبه الله عندما تصبح النفس تهوى ما يحبه الله هذا هوى محمود: (ما أرى ربك إلا يسارع في هواك) لكن الهوى المذموم أكثر، والمقصود أن الهوى من جملة السلوك الفطرية عند الإنسان، وهذا أمرٌ ضروريٌ وملازم وليس مكتسباً، ولذلك لا يذم مطلقاً ولا يمدح مطلقاً، وهنا يأتينا إشكال؛ وهو أننا وجدنا آيات في القرآن الكريم مفادها ذم الهوى مطلقاً فما هو وجه التوفيق بين هذا وبين ما تقدم؟ قال تعالى: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء:135] وقال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26] وكذلك ما جاء في السنة وكلام الصحابة والعلماء كما سيأتي.
قال ابن القيم رحمه الله في كلام له في رفع هذا الإشكال: ولما كان الغالب على متبع هواه وشهوته أنه لا يقل فيه عن حجم المنتفع به -يعني: المنتفع بهواه، أي أن الإنسان يمكنه أن يوجه الهوى توجيهاً ينتفع به منه- لكن لما كان الغالب على متبعي الهوى أنهم لا يقفون عند حد الانتفاع بل يتعدون -أطلق ذم الهوى؛ لأن الغالب هو استعماله واتباعه فيما يضر، ولذلك أطلق في عدد من النصوص ذمه بدون تفصيل لعموم غلبة الضرر، مثل الشهوة والغضب، فأنت ترى في كثير من النصوص ذم الشهوة مطلقاً، وهناك شهوة مباحة ومستحبة وهناك غضب محمود وذلك لأنها غالباً لا تنفع وإن لم تكن كلها أضرار، وبهذا يحصل التوفيق وتفهم القضية ويندر من يقصد العدل في هذه الأمور ويقف عندها؛ ولذلك لا تكاد تجد الهوى في الكتاب والسنة إلا مذموماً، وعندما ذكر الهوى في السنة بذم جيء به مقيداً، كما جاء في الحديث الذي صححه بعض أهل العلم وضعفه بعضهم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) فإذا كان هواك تبعاً لما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام كان هوى محموداً.(316/3)
الهوى في الكتاب والسنة
وعندما كان صاحب الهوى منه إما محباً للخير حاضاً عليه، وإما مريداً للشر حاضاً عليه، وتجد أن الله عز وجل يصف الهوى في أكثر الآيات للكفار: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} [الأنعام:150] {قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [الأنعام:56] {وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77] والمقصود بهذه الآيات نوع من الكفار هم أهل الكتاب: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:48] {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [الشورى:15] {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} [الفرقان:43].
وقد جاء في الحديث نسبة الهوى إلى صاحبه كما قال: (والعاجز من أتبع نفسه هواها) مع تقصيره في طاعة الله واتباعه للشهوات لا يستعد ولا يعتذر ولا يرجع بل يتمنى العفو والجنة، مع الإصرار وترك التوبة والاستغفار.
(العاجز من غلبت عليه نفسه فأعطاها ما تشتهيه).
قال الحسن: [إن قوماً لهتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا وما لقوا حسنة، ويقول أحدهم: إني أحسن الظن بربي، وكذب فإنه لو أحسن الظن أحسن العمل.
{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:23]] وجاء في الحديث الصحيح في الحوار بين حذيفة وعمر لما روى حذيفة رضي الله عنه حديث عرض الفتن على القلوب عوداً عوداً، وكيف يصبح قلب المؤمن في النهاية بعد التمحيص أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والقلب الآخر الذي نكتت فيه نكتة من المعصية على نكتة أخرى من معصية أخرى على ران يعلو القلب، قال: (والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه) فأضاف الهوى إلى القلب، وأضاف الله عز وجل الهوى دون أن ينقصه إلى الكفار لأن أهواءهم ليست على الحق بخلاف المؤمن فإن هواه موافق للحق، وهذا هو الفرق بين المؤمن والكافر، فالكافر هواه كله باطل، والمؤمن قد يرتقي هواه حتى يصير تابعاً لما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا مال إلى شيء كان ذلك الشيء سنة وطاعة وعلى أدنى الأحوال مباح فهوى المؤمن إذا ارتقى يصبح موافقاً لما في الكتاب والسنة.
ومما ورد من استعمالٍ في الهوى الذي لا يذم ما تقدم كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أغار على اللاتي يهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأقول: أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} [الأحزاب:51] وأيضاً قال الله له: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50] قالت عائشة: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك).
وفي صحيح مسلم في قضية الأسرى بعد معركة بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر وعمر -لوزيريه- مستشيراً: (ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا نبي الله! هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ بهم الفدية فتكون لنا قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله عليه وسلم: ما ترى يا بن الخطاب؟ قلت: لا والله يا رسول الله! ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم، فتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكني من فلان -نسيب لـ عمر - فأضرب عنقه، فإن هؤلاء قمة الكفر وصناديدها، قال عمر: فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت).
إذاً: مال إلى قول الصديق، وسماه هوى مع أنه أخذ به لمصلحة الإسلام في ظنه، وليس لأجل اتباع الهوى المخالف للحق، فكان ذلك الاجتهاد من النبي عليه الصلاة والسلام وصاحبه: نأخذ ما ننتفع به من المال منهم ليس لجيوبنا بل لمصلحة الإسلام، ولعل الله أن يهديهم فيموتوا على الإسلام بدلاً من أن نقتلهم على الكفر، هوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر الصديق، فنزل القرآن مصوباً لرأي عمر رضي الله عنه؛ لأنه ليس له أي مدخل في الدنيا، وإنما ضرب الرقاب إثخاناً لهؤلاء الكفار لتنكسر شوكتهم، وقدم على أخذ الأموال وإطلاق هؤلاء الذين ربما يعودون في الجيش القادم ضد المسلمين وتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة، فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطى، والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج ويكذبه) فقوله صلى الله عليه وسلم: (والقلب يهوى ويتمنى) ليس في الشر فقط بل في الخير أيضاً، ولهذا قال بعده: (ويصدق ذلك الفرج ويكذبه) ما هو المنهي عنه بالنسبة لنا الآن وأي هوى الذي ننهى عنه؟ لو نظرنا في المواضع التي نزلت في الكتاب العزيز لعرفنا أننا نهينا عن اتباع الكفار كما تقدم، وقال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:14] هل هذا مثل الذي يتبع هواه؟ {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] وهذا الاتباع فيه التقصي للشيء من كل وجه؛ لأن الاتباع في الأصل المشي خلف الشيء، فالذي يكون متبعاً لهواه يتأمل دقة العبارة في القرآن وبلاغة القرآن: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الكهف:28] إذا قلت: فلان اتبع فلاناً، أي: مشى وراءه، واحدة واحدة، حذو النعل بالنعل، فقول الله تعالى: {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:14] فكأن الهوى هو القائد وهم يسيرون خلفه فيتبعونه، فحيثما مال بهم الهوى مالوا، وحيثما قادهم انقادوا وهكذا.
وقد جاءت السنة بهذا التعبير عن أبي أمية الشعباني قال: (سألت أبا ثعلبة القشري فقلت: يا أبا ثعلبة! كيف تقول في هذه الآية: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة:105]؟ قال: أما والله لقد سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بل ائتمروا بالمعروف) هل قوله: (عليكم أنفسكم) يعني: عليه نفسه وما له دخل في الناس إذا رأى منكراً أو خطأ؟ هل هذا معنى الآية؟ كلا، ولذلك قال: (إني سألت النبي عليه الصلاة والسلام عنها -فقال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوىً متبعاً ودنياً مفترةً -تقدم على الآخرة- وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه -لا أحد يرضخ لأحد، كل واحد يرى نفسه أنه شيخ المشايخ وأعقل العقلاء وأحكم الحكماء وأذكى الأذكياء، ولا أحد يتنازل عن ذلك- فعليك بنفسك ودع عنك العوام) الآن يطبق عليك عندما لا يوجد مجال إلا هذا فسدت الدنيا وفسد الجو المحيط والبيئة وكل واحد متبع هواه والشر منتشر والدنيا مقدمة، وكل إنسان معجب برأيه فلا فائدة إذاً من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أغلقت الأبواب سيأتي وقت يمر على البشرية بهذه الطريقة وبهذه الصفات، فعليك نفسك عندئذٍ، فنحن الآن نقترب من هذه المرحلة؛ لكن -الحمد لله- ما وصلنا إليها ولا زلنا نرى نتيجة من الدعوة، ونتيجة من النصيحة، ونتيجة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهناك تأثر من بعض الناس وإن كانوا أقلية؛ لكن هذا موجود، وهناك أناس من المؤمنين سيصلون إلى مرحلة هذه حالها، قال: (فإن من ورائكم أيام صبر، الصبر فيها مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم، قالوا: يا رسول الله! أجر خمسين منهم؟ قال: أجر خمسين منكم).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى) وهو حديث صحيح فقيد الهوى بمضلات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ونفس الهوى والشهوة لا يعاقب عليه، كل إنسان في نفسه هوى وشهوة، فهل يعاقب لأن في نفسه هوى وشهوة؟ هل يطلب من كل إنسان أن يستخرج الهوى والشهوة من نفسه وينبذها خارجاً؟
الجواب
لا.
ولا يستطيع، يعني: لا يأثم على وجودها وليس مطالباً بإخراجها لأنه لا يمكن انتزاع الهوى والشهوة من النفس وإسقاطهما، ولذلك قال شيخ الإسلام: "ونفس الهوى والشهوة لا يعاقب عليها، بل على اتباعه والعمل به" إذا صار يتبع شهوته في كل شيء، ويتبع الهوى في كل شيء فالعقوبة على الاتباع لا على نفس الشهوة، وهذا كلام دقيق موزون، فإذا كانت النفس تهوى وهو ينهاها كان نهيه عبادة لله وعملاً صالحاً، وكان في جهاد: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41] ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث مهلكات: شحٌ مطاع، وهوىً متبع، وإعجاب المرء(316/4)
موقف الشريعة من الهوى
ما هو موقف الشريعة من الهوى؟ عندما خلقت النفس في الأصل جاهلة ظالمة، قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] فلجهلها تظن أن شفاءها في اتباع هواها، وإنما هو أعظم داءٍ فيه تلفها، وتضع الداء موضع الدواء، والدواء موضع الداء، وكله بسبب الظلم والجهل والهوى فيتولد بذلك عللٌ وأمراض، كيف لو أن إنساناً داوى نفسه بشيء ٍيجلب له المرض، وداء المنية كانت هي الداءُ، كيف سيكون حاله؟ فيتولد من ذلك عللٌ وأمراض، وهي مع ذلك تبلغ نفسها وتلوم ربها عز وجل بلسان الحال، وقد تصرح باللسان ولا تقبل النصح في ظلمها فتقول النفس لله: أنت قدمت علي، وأنت كتبت، وأنت كذا وأنا بريئة، وأنا مغصوبة وأنا مجبورة مع أنها تملك الإرادة في الاختيار وفيها قوة الممانعة والمداهنة.
فهاتان الخصلتان: الظلم والجهل هما أساس كل شرٍ عند الإنسان، ولا يظن ظان أن ظلم الإنسان وجهله يكون في حق غيره بل إن أول من يتضرر بهذا هي نفسه التي بين جنبيه، والتشريع إنما جاء لإصلاح الإنسان في دنياه وآخرته ولصلاحه كذلك، وأما هواه المبني على الظلم والجهل فلا يمكن أن يحقق له سعادة في الدنيا ولا في الآخرة، فإذا علمت حقيقة التضاد بين الهوى والشرع، وحقيقة الظلم والجهل في النفس، وأن والهوى مركب فيها، وأن التشريع جاء لإصلاحها فمن المتوقع أن يحدث هناك تعارض بين الشرع وبين النفس، لأنك تهوى وتجهل وتظلم، والشرع يريد صلاحاً وإصلاحاً وعدلاً فمن المتوقع أن يحدث اصطدام بين الشرع والنفس، وهذا الحق والشرع واتباع الهوى نقيضان لا يجتمعان، فحيث يأتي الأمر باتباع الشرع، يأتي النهي عن اتباع الهوى، هاتوا دليلاً من القرآن الكريم نجد فيه أن الأمر باتباع الشرع جاء مقروناً بالنهي عن اتباع الهوى، هاتوا دليلاً من القرآن الكريم؟ وهنا تصريح باتباع الشرع وأعقبه بالنهي عن اتباع الهوى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18].
والشرع يأتي مناقضاً للهوى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49] وجاء هذا التحذير للأنبياء السابقين: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26] قال الشاطبي: "حصر الأمر في شيئين: الوحي وهو الشريعة، والهوى، فلا ثالث لهما".
يعني: لا يوجد إلا شريعة وهوى ولا يوجد شيء ثالث، وإذا كان كذلك فهما متضادان، وحين تعين الحق في الوحي توجه للهوى ضده وهو الباطل، فاتباع الهوى مضاد للحق.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله في فصل تعارض العقل والنقل في الوجه السادس والستون: أخبر سبحانه أن كل حكم خالف حكمه الذي أنزله على رسوله فهو من أحكام الهوى لا من أحكام العقل، وهو من أحكام الجاهلية لا من أحكام العلم والهدى، فقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:49 - 50] فأخبر سبحانه وتعالى: أنه ليس وراء ما أنزله إلا اتباع الهوى، فإذا رغب عن اتباع ما أنزله الله سيقع حتماً في اتباع الهوى، وإذا تعدى ما أنزل الله؛ حتماً سيقع في اتباع الهوى الذي يضل عن سبيله وليس وراء حكم الله إلا حكم الجاهلين -وقد كان شيخ الإسلام يحارب في جبهة المنطق وعلم الكلام يحاربهم ويقف ضدهم فكان يقنعهم يقول يعني: غير النصوص الشرعية اتباع الهوى- فهذه الأشياء التي تخالفون إنما هي قواعد فلسفية بل هي اتباع هوى ضلال، وكل هذه الآراء والمعقولات المخالفة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هي من قضايا الهوى وأحكام الجاهلية وإن سماها أربابها بالقواطع العقلية والبراهين اليقينية -كما فعل الأشاعرة - وتحاكموا إليها، والنص إذا خالف القواطع العقلية والبراهين اليقينية يؤول ويسمى بغير اسمه.
كتسمية المشركين أوثانهم وأصنامهم آلهة، وتسمية المنافقين السعي في الأرض بالفساد، وصد القلوب عن الإيمان إصلاحاً وإحساناً وتوفيقا.
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله في نصيحة له لعموم المسلمين قال في أولها: من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يرى هذا الخطاب من المسلمين سلك الله به السبيل إلى المسلمين، وأعاذني وإياكم من طريق المغضوب عليهم والضالين آمين، قال في نصيحته: وكل من أعرض عن القرآن والسنة فهو متابعٌ لهواه عاصٍ لمولاه، مستحقٌ للنقد والعقوبة كما قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص:50] وقال تعالى في نقص الكفار: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم:23].(316/5)
اتباع الهوى يطمس نور القلب ويصد عن الحق
واتباع الهوى -والعياذ بالله- يطمس نور القلب ويصد عن الحق، كما قال تعالى: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26] فاحذروا -رحمكم الله- من اتباع الهوى والإعراض عن الهدى وعليكم بالتمسك بالحق والدعوة إليه، والحذر ممن خالفه لتفوزوا بخيري الدنيا والآخرة.
وهذه القضية -أيها الإخوة- متفقة مع فطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها، وبدون مخالفة الهوى تفسد السماوات والأرض، ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ولهذا كان من مقاصد الشرع تعبيد الناس لرب العالمين وتخليصهم من رق الهوى وأسره.
قال الشاطبي رحمه الله: المقصد الأصلي من وضع الشريعة في هذه الأحكام، إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبدٌ لله اضطراراً.
الآن نحن هل نستطيع الخروج عن الكون إطلاقاً؟! لا.
فنحن عبيد غصباً عنا من هذه الناحية، فهل يمكن أن تخرج عن نواميس الله الكونية؟ لا يمكن، فأنت رغماً عنك عبد، لكن ممكن أن تعصي الله وممكن أن تفعل المنكرات والمحرمات، والشرع جاء ليجعلك متبعاً لهدى الله اختياراً كما أنك عبدٌ له اضطراراً، فالآن الكفار عبيد لله بالاضطرار، فإذا أراد أن يمرضهم أمرضهم رغماً عنهم، وإذا أراد أن يحضرهم أحضرهم غصباً عنهم، وإذا أراد أن يميتهم قبض أرواحهم رغماً عنهم، فهم عبيدٌ رغماً عنهم، من هذه الجهة جهة اضطرار، لكن الشريعة لا تريد العبودية من جهة الاضطرار فقط، بل تريد أيضاًَ أن تكون عبداً من جهة الاختيار، فيصلي لله بنفسه، ويزكي بنفسه، ويذكر بنفسه، ويدعو بنفسه، ويترك الحرام اختياراً منه، فيؤجر، حتى يعبد الله اختياراً كما أنه يعبده اضطراراً.
فالشريعة جاءت بتعبيد النفس لله، ولذلك تجد أن الشريعة لا تأمر بأشياء تهواها النفس أصلاً، ليس هناك أوامر كثيرة في القرآن الكريم والسنة تقول: لا تنسوا الأكل، عليكم بالأكل والمأكولات، وعليكم بالشرب، يا أيها الناس! الشرب والشراب، من شرب فله كذا كذا حسنة، انكحوا ومن نكح فله كذا كذا، اشتروا وحصلوا الأموال، من حصل الأموال فله كذا، لماذا لم تأت الشريعة بنصوص من هذا النوع؟ وإنما تجد شيئاً شاقاً وثقيلاً على النفس؛ فكم من نصٍ ورد في الصلاة وكم من نص ورد في الجهاد! لأنها ثقيلة على النفس، لكن الأشياء الخفيفة التي تهواها النفس بطبيعتها هل تجد فيها آيات كثيرة؟! هل تجد آيات كثيرة تحث على الأكل والشرب والنوم والنكاح والبيع والشراء؟ لا.
لماذا؟ لأن هوى العبد معه، فلا يحتاج إلى مؤكدات ومحفزات ومرغبات فيه، لكن الأشياء التي تخالف حظ النفس كالصلاة والجهاد والصيام وإخراج الأموال والصدقات والبذل والتضحية وردت فيها النصوص الكثيرة والمرغبات؛ لأن الشريعة تريد أن يكون العبد متبعاً لمولاه لا متبعاً لهواه، وأن يكون عبداً اختياراً كما هو عبدٌ اضطراراً.(316/6)
أقوال العلماء في الهوى
قال ابن القيم رحمه الله: ولما امتحن المكلف بالهوى من بين سائر البهائم، وكان كل وقتٍ تحدث عليه حوادث جعل فيه حاكمان: حاكم العقل، وحاكم الدين، وأمره أن يرفع حوادث الهوى دائماً إلى هذين الحاكمين، وأن ينقاد لحكمهما.
والمقصود العقل المتبع الموافق للشرع وليس العقل المخالف للشرع، فالمخالف للشرع ليس بعقل في الحقيقة، وإنما سمي العقل عقلاً؛ لأنه يعقل صاحبه عما يضره.
وقال الماوردي رحمه الله في كلام نفيس له: فلما كان الهوى غالباً، وإلى سبيل المهالك مورداً؛ جُعل العقل عليه رقيباً مجاذباً، يلاحظ عثرة غفلته، ويدفع ذاكرة خطوته، وخداع حيلته؛ لأن سلطان الهوى قوي، ومدخل مكره خفي، ومن هذين الوجهين يؤتى العاقل حتى تنفذ أحكام الهوى عليه؛ قوة السلطان وخفاؤه.
أما الوجه الأول: فهو أن يقوى سلطان الهوى بكثرة دواعيه حتى يستولي عليه -أي: على العقل- مغالبة الشهوات، فيكل العقل عن دفعها، أي: أن أي إنسان واحد يمكن أن يكون عنده عقل يدفع به الشهوة، لكن إذا كثرت الشهوات سيتعب العقل من الدفع والدرء فيخف سلطانه ويقوى الهجوم فيضعف عن المنع فيقع، مع أنها واضحة في العقل أنها غلط، قال: وهذا يكون في الأحداث أكثر، وعلى الشباب أغلب، لقوة شهواتهم، وكثرة دواعي الهوى المتسلط عليهم، وإنهم ربما جعلوا الشباب عذراً لهم، وفعلاً تجد بعض الناس يقول: يا أخي! نحن شباب، وبعض الآباء أيضاً يعذرون أبناءهم الشباب بهذه فإذا عوتب بتصرف ولده الخطأ قال: هذا شاب مراهق، هذه الفترة لا بد منها، وماذا يعني لا بد منها؟ كأن يقول: لا تؤاخذ هذا الولد الشاب، فيقول الماوردي إنهم ربما جعلوا الشباب عذراً لهم، كما قال محمد بن البشير:
كلٌ يرى أن الشباب له في كل مبلغ لذةٍ عذرا
كلما أراد أن يتبع لذة محرمة هونت عليه القضية أنه شاب، يقول: مازال شاباً صغيراً اصبر عليه، الآن يلعب ويلهو في الحرام لأنه شاب.
قال: وحسم ذلك أن يستعين بالعقل على النفس النفورة.
أي: نحن في تربية الشباب لا بد أن نقوي عندهم داعي العقل الذي يعني: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] أي: طريق الخير وطريق الشر، فيعرف الحق والباطل، الطاعة والمعصية، يعرف ما يضره وما ينفعه، على الأقل يعرف الشيء الذي يضر والشيء الذي ينفع، هذا الميزان والقوة التي في النفس، وقوة العقل إذا نميناها عند الشباب يصير عنده مركز تحكم قوي وعنده مقاومة قوية، أما إذا كان داعي العقل عنده ضعيف ولا يميز بين ما يضره وينفعه وليس عنده تلك القوة والسلطان، فعند ذلك إذا اجتمعت عليه الشهوات غلبت عقله الضعيف المسكين.
قال: وحق ذلك أن يستعين بالعقل على النفس النفورة، فيشعرها ما في عواقب الهوى من شدة الضرر، وقبح الأثر، وكثرة الإجرام، وتراكم الآثام، أي: يقال له: فكر! أنت الآن عندما تذهب تتابع الفتيات بالحرام ثم تقع في الزنا والفاحشة، أليس ذلك ضرراً عليك؟ هتكت عرضاً والله يغار أن تنتهك حرماته فتسببت في إنجاب ولد حرام فضيحة عليك وفضيحة عليها، وسمعتك تتلوث، وتجلب لنفسك المرض، وتفعل وتفعل، يعني: هذه الأشياء فيها تربية، وداعي العقل، هي أن تفكر وتستعمل العقل، فكر ما حالك في القبر؟ يوم القيامة وأنت في تنور من نار، وفي عذاب الزناة، فماذا تختار؟ لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات) وأخبر أن الطريق إلى الجنة احتمال المكاره، لا يمكن اختراق الجنة إلا عبر المكاره، ولابد أن تتحمل لتصل، والطريق إلى النار اتباع الشهوات، لا أحد يصل إلى جهنم إلا على جسرٍ من الشهوات؛ لأنه قال: (حفت النار بالشهوات) الذي يدخل النار لابد أن يكون متبعاً للشهوات، حفت الجنة بالمكاره، ولن تنال إلا على جسر من التعب باتباع الهدى وترك الهوى واجتنابه.
إذاً: لابد أن نركز على هذا حتى يثمر العقل، فنقول للشباب والشابات ذكوراً وإناثاً: فكر بالعواقب والنتائج والمآلات، هذه المسألة فإذا انقادت النفس للعقل بما أُشعرت من عواقب الهوى لم يلبث الهوى أن يصير العقل مشهوراً وفي النفس مقهورا، ثم له الحظ الأوفر في الثواب الصالح وثناء المخلوقين، فالشاب يقول: أنا لو اتبعت الهدى فسأنال ثواب الله وثواب المخلصين، وإذا اتبعت الهوى يحصل علي كذا، في الدنيا فضيحة ومرض الخ، وفي الآخرة سخط الله والعذاب الأليم.
قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41].
وقال الحسن البصري: أفضل الجهاد جهاد الهوى.
وقال بعض الحكماء: أعز العز الامتناع من ملك الهوى.
وقال بعض البلغاء: خير الناس من عصى هواه بطاعة ربه.
وقال بعض الأدباء: من أمات شهوته أحيا مروءته.
وطبعاً ليس المقصود بإماتة الشهوة المباحة والمستحبة، كلا، هي توجيه وعملية تنظيم وضبط الغريزة.
وقال بعض العلماء كلاماً بليغاً: ركب الله الملائكة من عقل بلا شهوة، وركب البهائم من شهوة بلا عقل، وركب ابن آدم من كليهما فمن غلب عقله على شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته على عقله، فهو شر من البهائم.
وقيل لبعض الحكماء: من أشجع الناس وأحراهم في الظفر في مجاهدته؟ قال: من جاهد الهوى طاعة لربه، واحترس في مجاهدته من ورود خواطر الهوى على قلبه.
قد يدرك الحازم من رأى المنى بطاعة الحزم وعصيان الهوى
قال الماوردي: وأما الوجه الثاني: فهو أن يخفي الهوى مكره حتى تتموه أفعاله على العقل، يعني: ليس كل حرام يأتي إلى الإنسان واضحاً وصريحاً، الهوى يستعمل أسلوب اللف والدوران والإخفاء والتدبير والتمويه والتغريب في قالبٍ يحبه الناس.
والهوى يموه فيتصور القبيح حسناً، والضار نفعاً، وهذا يدعو إليه أحد شيئين: إما أن يكون للنفس ميلٌ إلى ذلك الشيء، فيخفى عنها القبيح لحسن ظنها، وتتصوره حسناً لشدة ميلها، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حبك الشيء يعمي ويصم) أي: يعمي عن الرشد ويصم عن الموعظة، وضبطها شيخٌ لي في النحو قرأت عليه: يعمي ويصمي.
وقال علي رضي الله عنه: الهوى عمى.
وأما السبب الثاني: فهو اشتغال الفكر في تمييز ما اشتهى، فيطلب الراحة في اتباع ما تسهل حتى يظن أن ذلك أوثق الأمرين، وأحمد الحالين، اغتراراً بأن الأسهل محمود والأعسر مذموم، فلا يعدم أن يتورط بخدع الهوى، وريبة المكر، في كل حسن ومكروه.
ولذلك قال عامر بن الطلق: الهوى يقظان والعقل غلب فهذا سبب نجاح عملية التمويل، فالهوى يقظان والعقل راقد والنفس تطلب الأسهل.
وقال سليمان بن وهب الهوى أمنع، والرأي أنفع.
وقيل في المثل: العقل الوزير الناصح، والهوى وكيل فاضح.
كيف نتغلب على السبب الأول وعلى السبب الثاني؟ التغلب أن يجعل فكر قلبه حكماً على نظر عينه، فإن العين رائد الشهوة، والشهوة من دواعي الهوى، والقلب رائد الحق، والحق من دواعي العقل.
وقال بعض الحكماء: نظر الجاهل بعينه، ونظر العاقل بقلبه، يعني أن الجاهل يبنى أنه حسن أو لا بالشيء السطحي الظاهر أمام العين، العاقل أو الذي سوف ينجو ينظر بعقله لا بعينه، ولذلك ممكن يكون أعمى وهو نادر، ثم يتهم نفسه في فوات ما أحبت وتشتيت ما اشتهت، إذاً من الطرق الكبيرة لمعالجة الهوى أن تنظر أين ميل نفسك، إذا رأيتها تميل في اتجاه معين اتهم نفسك وشك فيها أنها تريد هذا وهو محرم، أو فيه أمر لا يرضاه الله، ولذلك مالت إلى نفسك، فخالف الأصل فاتهم نفسك فيما أحبت وما اشتهت.
ثم انظر إذا صرت بين أمرين أيهما أثقل على النفس، فإن النفس عادة تريد الأسهل؛ لأن النفس عن الحق أنفر، وللهوى آثر؛ ولذلك قال العباس: إذا اشتبه عليك أمران فدع أحبهما إليك وخذ أثقلهما عليك، والثقيل يبطئ النفس وتظهر القضية بشكل أوضح مع البطء.
وقال علي رضي الله عنه: [من تفكر أبصر، والمحبوب أسهل شيء تسرع النفس إليه، وتعجل بالإقدام عليه، فيكون استدراك ولا ينفع التفكير بعد العمل، ولا الاستبانة بعد الفوز -إذاً: خرجنا الآن بأمرين فانظر ما تميل إليه نفسك فخالفه- وإذا تعرضت لأمرين فانظر أثقلهما عليك فرجح أن يكون فيه الصواب وأخفهما على نفسك فشك ورجح أن هذا فيه الخطأ والباطل].
إذا نظرنا إلى قول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] أي: اتخذ دينه هواه، لا يهوى شيئاً إلا ركبه، فهؤلاء الكفار لا يؤمنون بالله، ولا يحرمون ما حرمه، ولا يحللون ما أحله، إنما دينهم اتباع الهوى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] ذلك الكافر اتخذ دينه بغير هدى من الله ولا برهان: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] لا يهوى شيئاً إلا ركبه، ولا يخاف الله، هذه بعض عبارات المفسرين في تفسير هذه الآية، حتى كان الواحد من العرب الكفار يعبد حجراً، فإذا رأى حجراً أحسن منه طرح الأول وعبد الثاني، لماذا؟: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] أفرأيت -يا محمد- من اتخذ معبوده هواه فيعبد ما هوي من شيء دون إله الحق الذي له ملكية كل شيء {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23] فليس في علمه طريق حقٍ يسير فيه.
وحق الهوى أن الهوى سبب الهوى ولولا الهوى في القلب ما وجد الهوى
ألا ترى علم الله بالأشياء ما أكمله، ألا ترى أنه جعل الضلالة والحيرة فيمن أضله عن علم: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23] وهذا أشد شيء، ألا ترى أن العاشق من شدة إعجابه يكاد يعبد المعشوق.
ألا ترى أن أهل البدع لبس عليهم وأضلهم الله وبعضهم على علم، هل تظن أن شيوخ أهل البدع لم يطلعوا على كلام أهل الس(316/7)
التوحيد والهوى متضادان
التوحيد والهوى متضادان، كما قال ابن القيم: فإن الهوى صنم ولكل عبد صنم في قلبه حتى في هواه، وإنما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لكسر الأصنام وعبادة الله، وليس مراد الله سبحانه وتعالى كسر الأصنام المجسدة وترك الأصنام التي في القلب، بل المراد كسرها من القلب أولاً -لاحظ العبارة- الرسول عليه الصلاة والسلام بعث لكسر الأصنام، هناك أصنام في القلب، وأصنام في الواقع، فمن القصور الشديد تكسير الأصنام التي في الواقع وفي الخارج وترك الأصنام التي في الداخل، وكل واحد عنده هواه صنماً في قلبه يعبده ويتبعه، يتبع هواه، ولذلك قالوا: صنم كل إنسان هواه، وتأمل قول الخليل لقومه: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52] كيف تجده مطابقاً للتماثيل التي يهواها القلب؟ {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} [الفرقان:44] وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:175 - 176] وسنأتي على شرح هذا المثل إن شاء الله.
فاتبع هواه في إيثار الدنيا واسترضاء قومه وأعرض عن مقتضى الآيات والنذر فمثله في الخسة كمثل الكلب في أخس أحواله، وفي عدم التأثر بالمواعظ والبقاء على الضلالة، إن تحمل عليه وتزجره يلهث، أو تتركه من غير زجر يلهث، ولذلك قيل: كل حيوان يلهث من تعبٍ أو عطشٍ سوى الكلب فإنه يلهث بكل حال من الراحة والشدة والعطش والشبع والري والجوع، الكلب يلهث في كل حال، قال: وكذلك متبع هواه يلهث على غرض نفسه، ويتعطش إلى الدنيا وإلى الحظ العاجز ولا يلتفت إلى الوعظ ولا إلى غيره, فانظر حب الدنيا ما يفعل بالعلماء: {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} [الأعراف:175] عالم {فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف:175 - 176] نزول هائل جداً، من عالم إلى كلب.
كيف ولماذا؟ آتيناه آياتنا لكنه أعرض عنها وانسلخ، والسلخ الفصل التام وانظروا إلى التعبير القرآني! انسلخ بحيث لا تقع مماسة مع أي شيء انسلخ {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف:176] هذا الانحدار كيف يصبح قبيحاً جداً، فعلى الإنسان ألا يختار لنفسه أن يكون الحيوان البهيم أحسن حالاً منه، فإن الحيوان يميز بطبعه بين مواقع الضرر ومواقع المنجى، وترى بعض الحيوانات لا يأكل أشياء؛ لأنه يعلم أن هذا ضرر عليه إن أكله، والإنسان قد أعطي عقلاً فالواجب عليه أن يميز بين ما يضره وما ينفعه، وكيف يكون الحيوان البهيم أحسن حالاً منه؟ والبهيمة تصيب من لذة المطعم والمشرب والمنكح ما لا يناله الإنسان مع عيشٍ هنيءٍ خالٍ عن الحزن والهم، البهيمة لا تصوم في الحقيقة، ولا تعاني من هم ولا غم، ولذلك تساق إلى منحرها وهي منهمكة على الشهوات لفقدان العلم بالعواقب، ولا تعرف ماذا يحدث بعد الذبح؟ والآدمي لا يناله ما ينال الحيوان لقوة الفكر الشاغل، فلو كان نيل المشتهى فضيلة لما بخس منه حق الآدمي الذي هو خلاصة العالم ولأعطي الإنسان من القوة للشهوات كالبهيمة وأكثر من ذلك.
ثم لنتأمل حديث الصحيحين في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله نحن نتكلم عن الهوى في النصوص الشرعية في الكتاب والسنة، وعرفنا ماذا قال تعالى في موضوع الهوى وعرفنا قول الله: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43] ثم عرفنا من مثال الذي أخلد إلى الأرض واتبع هواه، نأتي على حديث في الصحيحين في موضوع الهوى ونتأمل الأحوال التي تتعلق بالهوى، وموقع ابن آدم منها: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) إذا تأملت السبعة كما يقول ابن القيم رحمه الله الذين يظلهم الله في العرش يوم لا ظل إلا ظله، وجدتهم نالوا ذلك الظل بمخالفة الهوى فإن الإمام العادل صار عادلاً عندما خالف هواه، وإلا لبطش وسرق ونهب وضرب، والشاب المؤثر لعبادة الله نشأ في طاعة الله، وما استطاع أن يصل إلى هذا إلا بمخالفة هواه، والرجل الذي قلبه معلق بالمساجد لولا مخالفة هواه لصار قلبه معلقاً بالمسارح والأغاني والأسواق، وصور النساء والأشكال الجميلة، وكذلك المتصدق لولا مخالفة هوى النفس الداعية للشح والبخل ما أخرج، فكيف وقد أخرج إخفاءً حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، وذلك الذي دعته المرأة الجميلة فخالف هواه مخافة لله، وهذا الذي ذكر الله خالياً ففاضت عيناه إنما أوصله إلى هذه المرحلة التي يخشع بها لهذه الدرجة مخالفة الهوى.
فلذلك كان حر الموقف بعيداً عنه، وشدة الموقف زائلة عن هؤلاء.(316/8)
أسباب اتباع الهوى(316/9)
التربية من الصغر على اتباع الهوى
هناك أسباب تنشأ منذ الصغر وتكبر مع الإنسان، فعدم التعود على ضبط الهوى من الصغر سبب في التمادي في اتباع الهوى؛ لأن الإنسان قد يلقى من أبويه صغيراً حباً مفرطاً وحناناً زائداً؛ بحيث يطغى هذا الحب والحنان على تنمية الضوابط الفطرية والشرعية التي لا بد منها لتنظيم الضرائر والنوافع ومقاومة الهوى، وكثير ما يلاحظ تفريط بعض الآباء والأمهات في هذا، من حيث ترفيه الولد وجعله يفعل ما يشاء ويرخي له العنان ليختار ما يشاء، وتلبى كل رغباته، وهذه تربية فاسدة.
يا أخي: إذا لم نحرم الأولاد من شيء أبداً، ولم نقف في طريقهم لنيل مطلوب نفسي عندهم أبداً، ونلبي كل ما يطلبون، ولا نقف عائقاً في طريق ما يشتهون، نكون قد أضررنا بهم، وربيناهم على اتباع الهوى منذ الصغر، ولذلك القضية في اتباع الهوى تنشأ منذ أن يقوم الأب بترفيه الولد وإعطائه ما يريد من البداية، يريد مالاً أعطيناه، يريد جوالاً أعطيناه، يريد دشاً ركبناه له، يريد سيارة أعطيناه، والبنت نفس الشيء تريد أن تتسلى على الدش ورسيفر والجوال، نحن تحت الخدمة.
إذاً: نحن منذ أن ننشئ أطفالنا ويكبروا ويصبحوا شباباً على مبدأ: (خذ) وبالذات إذا كان الأب مقتدراً وغنياً، بل يقول لك: أنا أقطع لقمتي لأعطي ولدي، جزاك الله خيراً، لكن ماذا تعطيه؟ لقمة يأكلها بالحلال فهذا حسن، لكن إذا قلت: أعطيه أي لعبة، فهل فكرت هل هذه اللعبة حلال أو حرام؟ يريد أن يعمل شيئاً، هل فكرت أن هذا الشيء حلال أم حرام؟ وإذا نام عن صلاة الفجر قالوا: دعوه يرتاح مسكين تعبان، فنحن الذين ربيناهم على اتباع الهوى في ذلك، وجعلناهم يمشون على هذا المبدأ منذ الصغر.
قال الشيخ محمد قطب في منهج التربية الإسلامية: والأم التي ترضع طفلها كلما بكى لكي يسكت، أو لأنها لا تطيق أن تسمعه يبكي تضره بذلك؛ لأنها لا تعينه على ضبط رغباته، ولا تعوده على ذلك الضبط من صغره فلا يتعود في كبره، ومن منا تتركه ظروفه الصعبة في حياته لرغباته يشبعها كما يشاء، وذلك فضلاً عن أن المسلم بالذات ينبغي أن يتعلم الضبط، ويتعوده منذ باكر عمره؛ لأن الجهاد في سبيل الله لا يستقيم بالنفس التي لا تستطيع ضبط رغباتها فتنساق معها، وكيف يمكن الجهاد بغير ضبط الشهوات والرغبات، حتى وإن كانت في دائرة المباح الذي لا حكم فيه في ذاته؛ لكنه قد يصبح إثماً فيما يشغل عن الجهاد المباح يصبح إثماً حينما يشغل عن الجهاد: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24] فكل ما ذكرته الآية ليس محرماً في ذاته، فالمساكن ليست حراماً في ذاتها، وتجارة تخشون كسادها ليست حراماً في ذاتها، كلا، لكنه صار فسقاً وحراماً حين أصبح سبباً في القعود عن الجهاد في سبيل الله، وحين رجحت كفته في ميزان القلب على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله، فما الوسيلة للاستقامة على دين الله إلا ضبط هذه الرغبات والاستغناء عنها حين تحول بين الإنسان وبين سبيل الله.
ألا ترون أن صحابية جليلة أخبرتنا بأنهم كانوا يُصوِّمون صبيانهم الرضع في عاشوراء، أي: على أقل يوم في السنة وإذا بكوا أعطيناهم اللعب من العهن ينشغلوا بها حتى وقت المغرب.
حتى الرضع كانوا يصومونهم في عاشوراء.
قال: والضبط مقدرة يتدرب الإنسان عليها، وعادة يتعلمها، وكلما تدرب عليها وهو صغير كان أقدر عليها، وأكثر تمكناً منها فيجدها حاضرة في أعقابه حين تفجعه الأحداث؛ لأنه متدرب، كما قال بعضهم: إنه كان يرافق شيخاً فأراد في طريقه أن يشرب من بئر فقال: اصبر إلى البئر التي تليه، فلما وصل البئر التي تليها أراد أن يشرب قال: اصبر إلى البئر التي تليها، وهكذا ثم تركه يشرب في النهاية وقال: عود نفسك أنه ليس كل ما دعت النفس مباشرة تستجيب، أحياناً احرمها من بعض الأشياء بما لا يضرها، لكن بحيث يرق ذلك في نفسك قدرة على الاستغناء عن الشيء المباح في حالة عدم وجوده.
ومن أسباب فشل أولادنا في المجتمع أنه متعود أن يلبى له كل طلب، إذا خرج المجتمع ووجد الحياة صعبة وأنه في الوظيفة يحرم من أشياء، ويخصم منه أشياء، ويطرد من أشياء ويجد كلمة غليظة فلا يتحمل العمل؛ لأنه تعود على إعطاء كل شيء على هواه، وكذلك تجد بعض أولاد الأغنياء إذا افتقر أبوه فجأة أو مات وضاعت الأموال لا يستطيع أن يعيش، متعود على مستوى ثانٍ، والبنت إذا خرجت من عند أبٍ يدللها بأي شيء إلى زوج قليل ذات اليد لا تستطيع أن تعيش، فتطلق بعد وقت قصير، لنفس السبب.(316/10)
مجالسة أهل الأهواء ومصاحبتهم
ثانياً من أصل أسباب اتباع الهوى: مجالسة أهل الأهواء ومصاحبتهم، ذلك أن العواطف والدوافع تنمو بالمجالسة وطول الصحبة، فمن لزم مجالسة أهل الهوى، وأدام صحبتهم فلا بد أن يتأثر منهم، لا سيما إن كان ضعيف الشخصية وعنده قابلية للتأثر بمن حوله دون تساؤل، ولذلك كان السلف ينهون عن مجالسة أهل الأهواء، والمقصود بهم أهل البدع الذين يتبعون أهواءهم في العبادة، وأهل البدعة أناس أصحاب عبادة لكن يتبعون أهواءهم في العبادة فلا ينضبطون بأدلة الشريعة ويخترعون عبادات ويضلون بها.
قال: أبو قلابة: لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون.
وقال الحسن بن سيرين: لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوهم.(316/11)
ضعف اليقين والمعرفة بالله
ثالثاً: من أسباب اتباع الهوى: ضعف المعرفة الحقة بالله والدار الآخرة، فإن الله أسرع الحاسبين وله الحكم عز وجل والذي لا يقدر ربه حق قدره، لا يبالي إذا أغضبه وإذا عصاه وإذا خالف أمره، ليس توقير الله وتعظيمه في قلب هذا الشخص كبيراً، ولذلك لا يبالي بمخالفته، ولذلك فإن الله عز وجل وعظ هؤلاء فقال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91] لو قدروا الله حق قدره ما اتبعوا الكفر والهوى وخالفوا وعصوا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67].(316/12)
التقصير في دعوة أهل الأهواء إلى الله
رابعاً: تقصير الآخرين بالقيام بواجبهم نحو صاحب الهوى يؤدي إلى المزيد من اتباعه؛ لأن صاحب الهوى إذا رأى استحساناً ممن حوله وسكوتاً، وعدم إنكار، وعدم اعتراض، فإنه يلجأ لذلك تماماً، ويزيد ويمضي حتى يتمكن الهوى من قلبه ويسيطر على سلوكياته وتصرفاته، ولذلك جاء الإسلام بالأصل العظيم في النهي عن المنكر وقول كلمة الحق، وأن الإنسان لا يبالي في الله لومة لائم، وأن يقول الحق ولو على نفسه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} [النساء:63] فلما يرى المبتدع أن الناس يقولون للمنكر: لا فإنه يرتدع ويكف ويخفف أو يختفي.
أما إذا جاهر وانتشر فإن البعض يتبعه، وخاصة حب الدنيا والركون إليها مع نسيان الآخرة، كما قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس:7 - 8].(316/13)
الجهل بالعواقب المترتبة على اتباع الهوى
خامساً: الجهل بالعواقب المترتبة على اتباع الهوى.(316/14)
أضرار اتباع الهوى وعواقبه
ماذا سيترتب من الأضرار والعواقب على اتباع الهوى فلابد من إدراك ذلك فإن قال قائل: ما هي أضرار الهوى وأخطاره حتى نعرف هذه العواقب؟(316/15)
اتباع الهوى أصل الضلال
فالجواب أولاً: إنه أصل الضلال {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم:23] وفي هذا ظن.(316/16)
الصد عن فهم القرآن
الثاني: أن الهوى من موانع الانتفاع بالقرآن، ولذلك قال الله عن متبعي الأهواء {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:16].(316/17)
مشقة التخلص منه
ثالثاً: والهوى يعمي ويصم، والتخلص منه صعب.
قال الشاطبي في الموافقات: مخالفة ما تهوى النفس شاقٌ عليك، وصعبٌ خروجها عنه، ولذلك بلغ الهوى في أهله مبالغ لا يبلغها غيره، وكفى شاهداً على ذلك حال المحبين، أي: صار العشاق مثل المجانين، عندما اتبعوا أهواءهم فلو تنظر في كتاباتهم وأفعالهم تجدها كأفعال المجانين، وكذلك حال من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين فقد أصروا على باطل حتى قدموا نفوسهم وأموالهم في بدر قتلاً وفي غير بدر!! لهذه الدرجة مستعدين أن يقدموا نفوسهم وأموالهم ضد الحق؛ لأن الحق يخالف أهواءهم: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم:23] {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:14].(316/18)
فساد القلب
رابعاً: اتباع الهوى يفسد القلب، ويحول بينه وبين السلامة.
قال ابن القيم رحمه الله: إن سلامة القلب لا تتم إلا لخمسة أشياء، يعني: لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله بقلب سليم، فما هو القلب السليم؟ وسليم من ماذا؟ سليم أي: سالم، قال: حتى يسلم من شرك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض الاتباع، وهذه الخمسة حجبٌ عن الله، وتحت كل واحد منها أنواع كثيرة لا تحصى أفرادها، ولذلك اشتدت حاجة العبد بل ضرورته إلى أن يسأل الله أن يهديه الصراط المستقيم.(316/19)
إفساده لما قاربه
وخامساً: أن الهوى ما قارب شيئاً إلا أفسده، فإن وقع في العلم أخرجه إلى البدعة، أي: إذا وقع الهوى في العلم صار طالب العلم مبتدعاً، وصار صاحبه من أهل الأهواء، وإن وقع الهوى في الزهد أخرج صاحبه إلى الرياء ومخالفة السنة، وإن وقع في الحكم أخرج صاحبه إلى الظلم والصد عن الحق، وإذا وقع الهوى في الحكمة خرج ذلك إلى الجور، وإن وقع في الولاية والعدل -أي: الهوى- أخرج صاحبه إلى خيانة الله والمسلمين، فيولي بهواه ويعدل بهواه، وإن وقع في العبادة خرجت عن كونها طاعة، فما قارن الهوى شيئاً إلا أفسده.(316/20)
الانسلاخ من الإيمان
وسادساً: أنه يخاف على من اتبع الهوى أن ينسلخ من الإيمان وهو لا يشعر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خشي علينا من مضلات الهوى كما في الحديث المتقدم وكذلك أخبرنا عن الذي انسلخ من آياته واتبع هواه كيف هلك.(316/21)
أنه من المهلكات
وسابعاً: أن اتباع الهوى من المهلكات، ولذلك قال: ثلاث ملهيات، وثلاث مهلكات.
ومن المهلكات هوى متبع، إذاً اتباع الهوى يؤدي إلى الهلاك.(316/22)
غلق باب التوفيق
وثامناً: يغلق عن العبد أبواب التوفيق، ويفتح عليه أبواب الخذلان، فتراه يلهج بأن الله لو وفقه لصار له كذا وكذا، وقد سد عن نفسه طرق التوفيق باتباع الهوى.
قال الفضيل بن عياض: [من استحوذ عليه الهوى واتباع الشهوات انقطعت عنه موارد التوفيق].
لكن اتبع هواه فصرف الله عنه التوفيق، لا يوفقه باتباع الهوى.
وقال بعض العلماء: الكفر في أربعة أشياء: في الغضب، والشهوة، والرغبة، والرهبة، ثم قال: رأيت منهن اثنتين: رجلٌ غضب فقتل أمه -يقول: أنا اطلعت على قصة واقعية أن رجلاً وصل به الغضب لدرجة أنه قتل أمه- ورجلٌ: عشق فتنصر.
أي: وقع في الشهوة والهوى حتى أخرجه ذلك عن الإسلام إلى النصرانية، مثلما حصل لذلك الذي كان مجاهداً مع الجيش الإسلامي وهم يحاصرون حصناً للكفار، فاطلعت امرأة من الحصن نصرانية فعشقها من أول نظرة، فدعته فطلب الدخول فأدخلته، فطلب أن يتزوجها، قالت: حتى تتنصر، فتنصر ودخل في النصرانية.
قال: وكان رجلٌ يطوف بالبيت فنظر إلى امرأة جميلة فمشى إلى جانبها ثم قال:
أهوى هوى الدين واللذات تعجبني فكيف لي بهوى اللذات والدينِ
يقول: أهوى هوى الدين أحب الدين، وفي نفس الوقت واللذات تعجبني، فكيف لي بهوى اللذات والدين؟ كيف أجمع بينهم، المشكلة أن بعض الناس يتصور أنه ممكن الجمع بينهما، وهذا من المحال، لا يمكن؛ لأنها متضادة كما قلنا في أول الدرس
أهوى هوى الدين واللذات تعجبني فكيف لي بهوى اللذات والدينِ
والمرأة تسمع فقالت: دع أحدهما تنل الآخر.(316/23)
التكبر عن الطاعة
وتاسعاً: النقصان والتلاشي في الطاعة، تلاشي الطاعة من النفس باتباع الهوى؛ لأن صاحب الهوى يعز عليه ويكبر في نفسه أن يطيع غيره، حتى لو كان خالقه، وبعض الناس الذي أوقعه في الكفر أنه لا يريد أن يستمع أي أمر ولو من الخالق، استكباراً؛ لأن الهوى تمكن من قلبه وملك عليه نفسه، فصار له أسيرا، وموقعاً له في الغرور، والإنسان ليس له قلبان في جوفه، بل إما أن يطيع ربه وإما أن يطيع نفسه وهواه والشيطان.(316/24)
الاستهانة بالذنوب والمعاصي
عاشراً: الاستهانة بالذنوب والآثام، فإن المتبع للهوى يقسو قلبه، وإذا قسا القلب استهان واستهتر بالذنوب والآثام، ولذلك قيل: إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعدٌ تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذبابٍ مر على أنفه فقال به هكذا.(316/25)
البعد عن الحق وقبوله النصيحة
الحادي عشر: يبعد عن قبول الحق والاستماع للنصيحة.(316/26)
الابتداع في الدين
والثاني عشر: الابتداع في دين الله، وذلك أن صاحب الهوى يميل إلى ما ابتدع وما استحسن ولذلك قال حماد بن سلمة: حدثني شيخٌ لهم تاب -يعني الرافضة - قال: كنا إذا اجتمعنا فاستحسنا شيئاً أو فهوينا شيئاً جعلناه حديثاً.
والابتداع هو الضلال وكل ضلال في النار، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.(316/27)
التخبط وعدم الهداية إلى الطريق المستقيم
الثالث عشر: التخبط وعدم الهداية إلى الطريق المستقيم، فصاحب الهوى لا يوفق للحق؛ لأنه أعرض عن مصدر الهداية والتوفيق، وصار مستمعاً لهواه لا للكتاب والسنة، فكيف يوفق للطريق الصحيح؟ {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23].(316/28)
إضلال الآخرين
والرابع عشر: أن من أضرار اتباع الهوى ما يتعدى للآخرين وليس فقط على النفس، ولذلك فهو يضل الآخرين ويبعدهم عن الطريق، ولذلك قال عز وجل: {وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:119] ليضلون يعني يضلون غيرهم.
إذاً: هذا من أضرار اتباع الهوى أنه يتعدى إلى الآخرين.(316/29)
فساد العقل والرأي
والخامس عشر: أن من نصر هواه فسد عقله ورأيه؛ لأنه خان الله فأفسد عليه عقله.
قال المعتصم يوماً لبعض أصحابه: يا فلان! إذا نصر الهوى ذهب الرأي.
وقال ابن القيم: وسمعت رجلاً يقول لشيخنا -يعني ابن تيمية رحمه الله- إذا خان الرجل في نقص الدراهم سلبه الله معرفة النقد.
الآن هناك أناس يميزون بين الدراهم الزائفة والدراهم الصحيحة، وكان الواحد منهم يأخذ دينار الذهب أو درهم الفضة بمجرد مسكه ووزنه في يده وصوته وهو يضرب في بعضه يعرف هل هذا صحيح أم مزور، وهذه خبرة؛ فقال: إذا خان الرجل في نقد الدراهم سلبه الله معرفة النقد.
فقال الشيخ: هكذا من خان الله تعالى ورسوله في مسائل العلم واتبع هواه فإن الله عز وجل يسلبه المعرفة والعلم.(316/30)
التضييق في القبر
والسادس عشر: أن من فتح لنفسه في اتباع الهوى ضيق عليه في قبره وفي معاده، وقد نبه الله عز وجل إلى هذا في قوله عن الذين تجردوا للحق: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} [الإنسان:12] فلما كان في الفضل الذي هو حبس النفس عن الهوى خشونة وتضييق في الدنيا جازاهم على ذلك نعومة الحرير وسعة الجنة، ولذلك قال أبو سليمان الداراني في الآية: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} [الإنسان:12] أي: بما صبروا عن الشهوات.(316/31)
الصرع عن النهوض يوم القيامة
والسابع عشر: أن اتباع الهوى يصرع العبد عن النهوض يوم القيامة إلى السعي مع الناجين، كما صرعته الدنيا بمرافقته لأهل الأهواء.
قال محمد بن أبي الورد: "إن لله عز وجل يوماً لا ينجو من شره منقادٌ لهواه" ما هو هذا اليوم؟ إنه يوم القيامة، والدليل على أن يوم القيامة له شر قوله تعالى: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ} [الإنسان:11] {يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [الإنسان:7] فالذي يتبع الهوى لا ينجو من شر ذلك اليوم.
قال محمد بن أبي الورد: إن لله عز وجل يوماً لا ينجو من شره منقادٌ لهواه، وإن أبطأ الصرعى نهضة يوم القيامة صريع شهوته أي: أن صريع شهوته أبطأ الناس قياماً من الصرع.(316/32)
ضعف العزيمة
والثامن عشر: أن اتباع الهوى يحل العزائم ويوهنها، ومخالفته تشد العزائم وتقويها، والعزيمة هي مركب العزم إلى الله والدار الآخرة، فمتى تعطل المركوب تعطل المسافر.
قيل لـ يحيى بن معاذ: من أصح الناس عقلاً؟ قال: الغالب لهواه.
ودخل خلف بن خليفة على سليمان بن حبيب بن مهلب وعنده جارية يقال لها البدر من أحسن النساء وجهاً، فقال له سليمان: كيف ترى هذه الجارية؟ فقال: أصلح الله الأمير ما رأت عيناي أحسن منها قط، فقال له: خذ بيدها، فقال: ما كنت لأفجع الأمير بها وقد رأيت شدة إعجابه بها، قال: ويحك خذها على شدة عجبي بها ليعلم هواي أني له غالب.
هذا الأمير كان عاقلاً، قال: خذها على شدة عجبي بها ليعلم هواي أني له غالب فأخذ ذلك بيدها وهو لا يكاد يصدق، أنه وهب هذه الأمة، وخرج وهو يقول:
لقد حباني وأعطاني وفضلني عن غير مسألة منه سليمان
أعطاني البدر قوداً في محاسنها والبدر لم يعطه إنس ولا جان
ولست يوماً بناسٍ فضله أبداً حتى يغيبني لحدٌ وأكفانُ(316/33)
السير إلى الهلكة
والتاسع عشر: أن مثل راكب الهوى كمثل راكب فرس حديدٍ صعبٍ جموح لا لجام له، راكب فرس منطلق بدون لجام، فيوشك أن يصرعه فرسه خلال جريه أو يسير به إلى مهلكة.
قال بعضهم: أسرع المطايا إلى الجنة الزهد في الدنيا، وأسرع المطايا إلى النار حب الشهوات، ومن استوى على متن هواه أسرع فيه إلى وادي الهلكات.
وقال بعضهم: أشرف العلماء من هرب بدينه من الدنيا، واستصعب قياده على الهوى.
وقال عطاء: من غلب هواه عقله وجزعه صبره افتضح، أي: يوم الفضيحة الكبرى.
من غلب هواه عقله: يعني الهوى تغلَّب على العقل فصار العقل فيه الفضيحة، ومخالفة الهوى مخرجة للداء عن القلب والبدن، ومتابعة الهوى مجلبة للداء في القلب والبدن، وأمراض القلب كلها إذا فتشتها كلها وجدتها من متابعة الهوى.(316/34)
العداوة بين الناس
والعشرون: أن أصل العداوة والشر والحسد الواقع بين الناس من اتباع الهوى، فمن خالف هواه أراح قلبه وبدنه وجوارحه فاستراح وأراح.
قال أبو بكر الوراق: إذا غلب الهوى أظلم القلب، وإذا أظلم ضاق الصدر، وإذا ضاق الصدر ساء الخلق، وإذا ساء الخلق أبغض القلب.(316/35)
تمكين العدو من النفس
الحادي والعشرون: تمكين الإنسان لعدوه منه، وأعدى عدوٍ للمرء شيطانه وهواه، وأصدق صديقٍ له عقله الناصح له، والملك الذي يذهب به إلى الخير، فإذا اتبع هواه أعطى بيده لعدوه، واستأسر له، كأنه سلم نفسه للعدو وصار عنده أسيراً، وهذا بعينه جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء.(316/36)
الذل والصغار والحرمان
والثاني والعشرون: أن لكل عقل بداية ونهاية، فمن كانت بدايته اتباع الهوى كانت نهايته الذل والصغار، والحرمان والبلاء بحسب ما اتبع من هواه، بل يصير له ذلك في نهايته عذاباً يعذب به في قلبه، كما قال الشاعر:
مآرب كانت في الشباب لأهلها عِذاباً وصارت في المشيب عَذاباً
مآراب كانت في الشباب لأهلها
عذاباً: جمع عذب وهو ماء طيبٌ وما يستساغ من الشراب.
مآراب: أغراض نفسية وشهوات.
مآرب كانت في الشباب لأهلها عِذاباً وصارت في المشيب عذاباً
فلو تأملت كل صاحب حال سيئة لرأيت بدايته الذهاب مع هواه، وإيثار الهوى على العقل، ومن كانت بدايته مخالفة هواه كانت نهايته العز والشرف والغنى والجاه عند الله وعند الناس.
قال أبو علي الدقاق: من ملك شهوته في حال شبيبته أعزه الله في حال كهولته، ومن ملكته شهوته في حال الشباب أذله الله في حال الكهولة.
وابن جرير الطبري رحمه الله كان من أصحاب السمت الحسن، والعبادة والطاعة والدين، وكان يغلب ويقهر هواه، ولذلك بلغ عمره الثمانين بل أكثر من الثمانين، فكان مرة في مجلس علم مع طلابه والناس، وفجأة قام قومة شديدة كأنشط ما يكون، فاستغربوا أن ابن الثمانين يقوم هذه القومة، وكأن بعضهم قال: هذا الشيخ لا تليق به هذه القومة، قال: تلك جوارحنا حفظناها في الصغر فحفظها الله لنا في الكبر.
وقيل للمهلب بم نلت ما نلت؟ يعني وصلت إلى هذه الدرجة والمستوى، قال: بطاعة الحزم وعصيان الهوى.
هذا في الدنيا لكن في الآخرة جعل الله الجنة نهاية عظيمة لمن خالف هواه، والنار نهاية شنيعة لمن اتبع هواه.
قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37 - 41].
وهذه أقوال لبعض السلف في ذم الهوى لكي تعلم كيف كان موقفهم منه.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [اقدعوا هذه النفوس عن شهواتها] والقدع: هو الكف والمنع: [اقدعوا هذه النفوس عن شهواتها] أي: كفوها وامنعوها من الشهوات.
[فإنها طلاعة تنزع إلى شر غاية، وإن هذا الحق ثقيل مريء، وإن الباطل خفيفٌ وبيء، وترك الخطيئة خيرٌ من معالجة التوبة، ورب نظرة زرعت شهوة، وشهوة ساعة أورثت حزناً طويلا].
وقال عبد الله بن مسعود: [إذا رأيت الناس قد أماتوا الصلاة، وأضاعوا الأمانة، واستحلوا الكذب، وأكثروا الحلف، وأكلوا الربا، وأخذوا الرشا، وشيدوا الزنا، واتبعوا الهوى، وباعوا الدين بالدنيا، فالنجاة ثم النجاة ثكلتك أمك!] انج بنفسك، لا يعاش بينهم.
قال أبو الدرداء: [إذا أصبح الرجل اجتمع هواه وعمله، فإن كان عمله تبعاً لهواه فيومه يوم سوء، وإن كان هواه تبعاً لعمله، فيومه يومٌ صالح] قال الزبير بن عبد المطلب:
وأجتنب الكبائر حيث كانت وأترك ما هويت لما خشيتُ
أي: فأنا مستعد أن أترك ما يدعوني إليه الهوى لأجل خشيتي لله عز وجل.
وعن علي رضي الله عنه قال: [إنما أخشى عليكم اثنتين: طول الأمل واتباع الهوى، فإن طول الأمل ينسي الآخرة، وإن الدنيا قد ترحلت مدبرة، وإن الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة؛ فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حسابٌ ولا عمل].
وقال رضي الله عنه: [إياكم وتحكيم الشهوات على العقول؛ فإن عاجلها ذميم، وآجلها وخيم، فإن لم ترها -يعني النفس- تنقاد بالتحذير والإرهاب فسوفها بالتأنيب والإرغاب فإن الرغبة والرهبة إذا اجتمعا على النفس ذلت لهما وانقادت].
وعن ابن عباس قال: [ليأتين على الناس زمانٌ يكون همة أحدهم فيه بطنه، ودينه هواه] مثل أهل البدع، دينهم أهواء، يهوى شيئاً فيتبعه ويجعله ديناً.
وعن أبي الدرداء كان يقول: [من كان الأجوفان همه خسر ميزانه يوم القيامة].
وقال رجل: العقل والهوى يصطرعان فأيهما غلب مال بصاحبه.
وقال ابن جريب:
وآفة العقل الهوى فمن علا على هواه عقله فقد نجا
والفعل علا، والفاعل عقله.
وقال عمر بن عبد العزيز: أفضل الجهاد جهاد الهوى.
وقال سفيان الثوري: أشجع الناس أشدهم من الهوى امتناعاً، ومن المحقرات التي يحقرها الناس تنتج الموبقات.
ويقولون: إن هشام بن عبد الملك لم يقل بيت شعر قط إلا هذا البيت:
إذا أنت لم تعصِ الهوى قادك الهوى إلى بعض ما فيه عليك مقالُ
قال ابن عبد البر: لو قال: إلى كل ما فيه عليك مقال، كان أبلغ وأحسن، قال ابن مفلح: وما قاله ابن عبد البر متوجه.
وقال بعض الحكماء: إنما يحتاج اللبيب ذو الرأي والتجربة إلى المشاورة ليتجرد له رأيه من هواه، يعني: لو قيل هذا حكيم كبير في السن، فلماذا يشاور؟! يقال: حتى يتجرد رأيه عن هواه.
وقال بعضهم: اعص النساء وهواك واصنع ما شئت.
قال ابن عبد البر: لو قال اعص الهوى لاكتفى، لا يوجد داعي لذكر النساء، قال: اعص الهوى، ثم إن الهوى قد يأتي من رجل وقد يأتي من امرأة، قال ابن مفلح: وصدق ابن عبد البر وكان أوجز.
لأن الهوى هو كل شيء، إذا عصيت الهوى خلصت، وقد امتدح بعضهم جماعة من الحكماء لتركهم الهوى.
وللشافعي:
إذا حار وهمك في معنيين وأعياك حيث الهوى والصواب
لم تستطع أن ترجح أيهما، ولم تعرف أيهما الهوى وأيهما الصواب
فدع ما هويت فإن الهوى يقود النفوس إلى ما يُعاب
كان يقال: إذا غلب عليك عقلك فهو لك، وإن غلب هواك فهو لعدوك.
قال عمر لـ معاوية: من أغضب الناس؟ قال: من كان رأيه رداً لهواه.
قال أعرابي: أشد جولة الرأي عند الهوى، وأشد فطام النفس عند الضبط.
وقال قائل: إن المرآة لا تريك خدوش وجهك في صداها -إذا صار فيها صدى- وكذلك نفسك لا تريك عيوبك في هواها.
قال الشعبي: [إنما سمي الهوى؛ لأنه يهوي بصاحبه]، وقال الأوزاعي: [قال إبليس لأوليائه: من أي شيء تأتون بني آدم؟ فقالوا: من كل شيء، قال: فهل تأتونهم من قبل الاستغفار؟ قالوا: هيهات ذاك شيء قُرن بالتوحيد، قال: لأبثن فيهم شيئاً لا يستغفرون الله منه، قالوا: فبث فيهم الأهواء].
هل الأهواء هم أهل البدع، وأصحاب الطرق البدعية.
سواءً كانت بدعهم في القضاء والقدر كـ الجبرية والقدرية، أو كانت بدعهم في الأسماء والصفات كـ المعتزلة والأشاعرة والجهمية قبلهم، أو كانت بدعتهم في الإيمان كـ الخوارج والمعتزلة والمرجئة، وأصحاب هؤلاء الفرق هل كل واحد منهم كل يوم يتوب إلى الله من بدعته؟ هل يستغفر الله من بدعته؟ لا، لماذا؟ لأنه يرى نفسه على حق: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:103 - 104] ولذلك تعهد إبليس أن ينشر في البشر اتباع الأهواء حتى يرى الواحد منهم نفسه على الحق، فلماذا يستغفر؟ فيستمر؛ لكن لو أن إبليس اكتفى بإيقاع الناس في الزنا والخمر والربا فقط فإن الناس سيعرفون أنها حرام، وقد يوفق أناس للتوبة، لكن إذا أوقعهم في البدع والأهواء فكل واحد يرى نفسه على صواب فلا يستغفر، إذا نصحته يقول: استغفر لنفسك أنت! وعن جعفر بن الجمرخان قال: بلغني عن أبي منبه أنه قال: إن من أعوان الخلائق على الدين الزهاد في الدنيا، وأوشكها رداً اتباع الهوى، ومن اتباع الهوى الرغبة في الدنيا، ومن الرغبة في الدنيا حب المال والشرف وإن من حب المال والشرف، استحلال الحرام وغضب الله.
وقال أبو سهل: سمعت عبد الله بن أحمد يقول: سئل أبي ما الفتوة؟ فقال: ترك ما تهوى لما تخشى لأجل خشية الله، والآخرة تترك الهوى.
وقال أبو حازم: قاتل هواك أشد مما تقاتل عدوك.
وقال ابن المبارك:
ومن البلاء وللبلاء علامة ألا ترى لك عن هواك نزوعُ
العبد عبد النفس في شهواتها والحر يشبع مرة ويجوعُ
إذا غلبت أمواج الهوى يصبح العالم مفتوناً بالدنيا، يبيع ما يدعيه من العلم، والجاهل عاشقٌ له، مستمد لفتنة عالمه، فالمقل لا يقنع، والمكثر لا يشبع، فكل قد شغله الشيطان بخوف الفقر، وقد كان من عادة السلف -هذه سنة مفقودة- المراسلة فيما بينهم، كل واحد يوصي الثاني كل فترة يرسل رسالة لأخيه يوصيه، كل واحد يوصي الآخر بالحق والصبر، وهذه من الممكن أن تحصل اليوم في بعض الناس الذين يرسلون رسائل في الجوالات، يتفقد فيها أخاه برسالة قصيرة ونصيحة موجزة.
فهذا إسحاق بن عبد المرسل الدمشقي يرسل إلى أحمد بن عاصم الأنطاكي في أنطاكيا وذاك في دمشق.
فكان في كتابه: إذا أصبحنا في جهل حيرة تضطرب علينا أمواج الهوى، فالعالم منا مفتون بالدنيا ليبيع ما يدعيه من العلم، والجاهل منا عاشقٌ لها مستمدٌ من فتنة عالمه، فالمقل لا يقنع، والمكثر لا يشبع، فكلٌ قد شغل الشيطان قلبه بخوف الفقر، فأعاذنا الله و(316/37)
اتباع الهوى في المسائل الفقهية والأحكام الشرعية
ونريد أن نعرج قليلاً على موضوع اتباع الهوى في المسائل الفقهية والأحكام الشرعية؛ لأن هذه بلية عظيمة انتشرت في أنف هذا الزمان، فتأتي تقول للناس: هذه المسألة لا تجوز، أفتى فلان من العلماء بعدم جوازها، يقولون لك: أو لا يوجد علماء غيره؟! تقول: قال مشايخنا وعلماؤنا أن الحكم في المسألة كذا وكذا.
يقولون: هناك علماء في بلاد أخرى.
وإذا قلت: هذه المسألة لا تجوز، وقد أفتى العلماء بتحريمها، يقولون: أو لا يوجد علماء أفتوا بجوازها؟! ابحث.
ويستفتي بعضهم شيخاً فإن لم يعجبه الجواب ذهب إلى آخر يستفتيه وهكذا حتى يعثر على من يقول له: افعل ولا حرج.
والمتبرعون بالفتيا التي ترضي أهواء الناس متواترون، وهذا من البلاء، ويظن البعض أنه إذا وضع بينه وبين النار شيخاً -بزعمه- نجا، بل هو هالك وشيخه معه؛ لأنه اتبعه لما يرضي هواه؛ ولأن فتواه وافقت هواه اتبعه، ولو أنها لم توافق هواه لواصل البحث عن شيخٍ آخر وهكذا(316/38)
اتباع الهوى في الفتاوى
ومسألة اتباع الهوى في الأحكام والفتاوى صارت الآن منتشرة في عصرنا، وصار هناك ممن توسد الأمر من غير أهله، وبرز على الناس، وظهر في الصحف والشاشات من يفتي للناس على هواه، فصار هناك فساد كبير، وشرٌ مستطير.
وإذا ذكر الهوى تبادر إلى الذهن أنه يتعلق بالأمور العملية من الشهوات واللذات، بينما إذا نظرنا إلى الشريعة وجدنا أن الهوى يجمع كل مخالفة في الكتاب والسنة، وقد جعل الله تعالى الهوى مضاداً للشرع، فأي شيء مضاد للشرع فهو هوى، وفي باب العلميات من العقائد بعضهم لا يشعر بأنه يخالف أصلاً، بل ربما يشعر أنه على الحق وأنت على الباطل، ولذلك سبق الكلام بأن إبليس دخل عليهم من باب اتباع الأهواء.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ولهذا كان من خرج عن وجه الكتاب والسنة من المنسوبين إلى العلماء والعباد يُجعل من أهل الأهواء" كما كان السلف يسمونهم أهل الأهواء، وذلك أن كل من لم يتبع العلم فقد اتبع هواه، والعلم بالدين لا يكون إلا بهدى الله الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم تحدث عن الطرق المبتدعة وأن أصحابها أتباع الهوى، وأن أتباع السنة أصحاب العلم والعدل والهدى، ومخالفو السنة أصحاب هوىً وجهل وظلم.
وقد قال عز وجل: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [الجاثية:18 - 19] فالشريعة معلومة وكل ذوق ووجد وتفكير ووجهة لا تشهد لها الشريعة فهي من أهواء الذين لا يعلمون، ولهذا كان السلف يعدون كل من خرج عن الشريعة في شيء من الدين من أهل الأهواء، ويجعلون أهل البدع هم أهل الأهواء، ويذمونهم، ويأمرون بأن لا يغتر بهم، وهكذا.
قال يوسف بن عبد الأعلى: قلت للشافعي: تدري يا أبا عبد الله ما كان يقول فيه صاحبنا -يريد الليث بن سعد - كان يقول: لو رأيته يمشي على الماء لا تثق به ولا تعبأ به ولا تكلمه، فقال الشافعي: فإنه والله ما قصر.
هؤلاء المبتدعة مثل بعض الصوفية يدعون كرامات وهم على ضلال، فقال الليث رحمه الله: لا تثق به ولا تعبأ به، ولو رأيته يمشي على الماء ويطير في الهواء.
لماذا؟ لأن الشياطين تساعدهم على مقاصدهم السيئة وتجعل الناس معجبين بهم، ولذلك كان شيخ الإسلام رحمه الله يذهب لمناظرتهم، يقول: كنت أدخل على الواحد منهم حوله الناس وهو في الهواء معلق، وشيخ الإسلام يعرف أن هذا تحمله الشياطين فيقول له أتباع هذا: انظر إلى شيخنا وكراماته هاهو في الهواء -مع أنه شيخ صوفي مبتدع منحرف- قال شيخ الإسلام: فأقرأ آية الكرسي فيسقط، ولذلك وإن رأيته يطير في الهواء ويمشي على الماء فلا تغتر بخوارقه، فالعادة تنخرق للمشرك والمسلم والكافر والموحد والمبتدع والمتبع، والعادة من الممكن أن تنخرق للولي وللكافر، وترى في الهند بعض الهندوس أو بعض البوذيين أو بعض السيخ أو بعض الكفرة المشركين يحصل لهم شيء عجيب، يدخل سيفاً من البطن ويخرجه من الظهر، ويدخل خنجراً في دماغه ولا يسيل منه قطرة دم، كيف هذا؟ تعينهم الشياطين، فالجني الذي كان مستعداً ليأتي بعرش ملكة سبأ من داخل قصرها، ويعبر به الجدران والنوافذ والأبواب، ويطير به من اليمن إلى الشام إلى سليمان عليه السلام، أيعجز أن يدخل السيف من البطن ويخرجه من الظهر؟! والجن عندهم قدرات.
فهؤلاء مثل أصحاب الطرق الرفاعية وغيرهم الذين تكلم عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية كـ البطائحية الذين يلفون الخرق الخضراء وغيرها، وأصحاب الطرق الذين يدعون أن عندهم كرامات، يقولون: انظروا هذا يخرق بطنه بالسيف ويضع الخنجر في دماغه ولا تحدث مشكلة، ويدخل سيخاً من جهة ويخرجه من الجهة الأخرى ولا يصير به شيء، ويمكن أن يصعد في الهواء كأنه يصعد على سلم، بل ويذهب في نفس اليوم إلى مكة ويرجع، ويقول الحُجَّاج الذين رجعوا بعد شهر وشهرين رأيناه في عرفة وفي مكة ورأيناه في الحرم.
قال شيخ الإسلام: ومن منكراتهم أنهم يمرون بالميقات ولا يحرمون منه، لأن الجني مستعجل، لا يقف لهم حتى يحرموا يذهب بهم بسرعة ويرجعهم، فيمرون بالميقات دون إحرام.
فإذاً: يقول الليث بن سعد رحمه الله: لو رأيته يمشي على الماء لا تثق به ولا تعبأ به، ولا تكلمه.
قال الشافعي: فإنه والله ما قصر.
وقال عاصم: قال أبو العالية: [تعلموا الإسلام فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام، ولا تحرفوا الإسلام يميناً وشمالاً، وعليكم بسنة نبيكم والذي كان عليه أصحابه، وإياكم وهذه الأبواق التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء، فحدثت الحسن -يعني: بكلام أبي العالية - فقال: صدق ما نطق، فحدثت حفصة بنت سيرين فقالت: أنت حدثت محمداً بهذا؟ قلت: لا.
قالت: فحدثه إذاً] تقول: هذا كلام نفيس انقله.
وقال أبي بن كعب: [عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما على الأرض عبدٌ على السبيل والسنة ذكر الله ففاضت به عيناه من خشية الله سيعذبه -يعني: إذا فعل هذا لا يمكن أن يعذب- وما على الأرض عبدٌ على السبيل والسنة ذكر الله في نفسه فاقشعر جلده من خشية الله إلا كان مثله كمثل شجرة قد يبس ورقها فهي كذلك -يعني على هذه اليبوسة- إذا أصابتها ريحٌ شديدة فتحات عنها ورقها ولتحط عنه خطاياه كما تحات عن تلك الشجرة ورقها، وإن اقتصاداً في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة، فانظروا أن يكون عملكم إن كان اجتهاداً أو اقتصاداً أن يكون على منهاج الأنبياء وسنتهم].
وكذلك قال عبد الله بن مسعود: [الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة] وقيل لـ أبي بكر بن عياش وهو رجل فاضل من المقرئين الكبار في هذه الأمة، لما حضره الموت قال لابنه: يا بني لا تعص الله في هذه الحجرة فإني ختمت القرآن فيها ثمانية عشر ألف ختمة.
هذا عند الموت، فهو يريد أن يعظ ولده، قال: لا تعص الله في هذه الغرفة.
وقيل لـ أبي بكر بن عياش: يا أبا بكر من السني؟ قال: الذي إذا ذكرت الأهواء لم يغضب لشيء منها، وهذا أصلٌ عظيم، فالسني إذا ذكرت عنده الأهواء والبدع لا يدافع عنها إطلاقاً، بل إنه يغضب منها ولا يغضب لها، وهذا أصلٌ عظيم من أصول سبيل الله وطريقه.
وكذلك فإن شيخ الإسلام قد تحدث عن بعض أهل الأهواء الذين جعلوا رسوماً وألواناً وملابس معينة، وخطوات معينة، وأشكالاً معينة لهم، وقالوا: هذه أشكال الصالحين، وابتدعوا في دين الله ما لم يأذن به الله، مثل: حلق الرأس في غير الحج والعمرة.
-وطبعاً تعود حلق الرأس في غير الحج والعمرة مكروه- وهو من فعل الخوارج سيماهم التحليق.
ولذلك قال: اتخذ طوائف من فقراء الصوفية ديناً، جعلوه شعاراً وعلامة على أهل الدين والنسك والخير؛ من شكل معين وملابس معينة وأكل معين، وقالوا: هذا هو الطريق.
وذات مرة ذهب أحد علماء هذا العصر وكان في بداية أمره يبحث عن الحق -وكان شاباً- فوجد في البلد رجلاً يدعي المشيخة ويدعي أنه من الصالحين، وأنه من أولياء الله، فقال: ماذا عندك؟ قال: أنا أوصلك إلى الله في أربعين يوماً، قال: كيف؟ قال: تأخذ هذه الأذكار وتقرؤها كل يوم، وتأكل سبع حبات عدس وتفعل كذا كذا، وبعد أربعين يوماً تصل إلى الله قال: اكتب لي بهذا ورقة؛ فكتب، قال: اختمها لي فوقع عليها، ووقع عليها، ثم ذهب ورجع بعد أربعين يوماً وقال: أنا جربت هذه الطريقة وما وصلت إلى الله، وهذا يزعم أنه يكلم الله -تعالى الله عن ذلك- يكلم الله بحبل سرواله ثم قال ذلك الشاب: أيها الناس هذا ضلال شيخكم المزعوم كتب في أوراق وقال: توصلك إلى الله في أربعين يوماً.(316/39)
اتباع الهوى بما يسمى حرية الفكر
ومن البدع التي خرجت في عصرنا من اتباع الهوى ما يعرف بحرية الفكر، وحرية العقيدة، وحرية الأديان، وحرية الاختيارات وهكذا، وهؤلاء أتباع هذا الفكر المنحرف والعقيدة الفاسدة الضالة (كل من على دينه الله يعنيه) ليس عندهم أي تمييز بين عقيدة صحيحة وفاسدة، وإسلام وكفر، وحق وباطل، وينادون بما يسمونه التعايش السلمي، فيقولون: أصحاب الأديان كل واحد يحترم الثاني، وكيف لهم ذلك والجهاد مأمور به؟ أين الجهاد في سبيل الله؟ أين إنكار المنكر؟ أين الدعوة إلى الله لتخطئة أهل الباطل؟ أين الرد على اليهود والنصارى وحلفائهم؟ وهذه البدع الجديدة لا شك أنها من اتباع الهوى، ويحتجون على ذلك بقوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] والاحتجاج بهذه الآية يرد عليه بأحد جوابين كبيرين أشار إليهما أهل العلم: الأول: أن الآية منسوخة بآية السيف: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة:36].
الرد الثاني لمن استدل بالآية هذه: أنها خاصة بأهل الكتاب إذا رضوا بدفع الجزية، فإذا وصلنا إلى بلد في الجهاد ووجدنا أناساً من أهل الكتاب وقالوا: لا نقاتلكم وادخلوا إلى بلدنا واحكموا بشريعة الإسلام، لكن نريد البقاء على ديننا، وندفع لكم الجزية، نقول: قد أجاز لكم ديننا هذا ما دمتم حكمتمونا في بلادكم، وفتحتم لنا طريقها لتحكم بالإسلام ولتدفعوا الجزية لقاء بقائكم تحت حماية المسلمين، فهذا حق لكم: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] وهذه أقوى الأجوبة على من احتج بهذه الآية؛ لأن كثيراً من أصحاب حرية العقيدة أول ما يذكر هذه الآية ويشرحها ينطلق منها بالضلال والهوى.
وقد أحدث الناس صنوفاً من الأهواء المعارضة للكتاب والسنة سموها تارة بحرية الرأي، أو حرية الفكر، وإن شئت فقدم الكاف على الفاء لتكون حرية الكفر، وهي في الحقيقة كافها قبل الفاء (كفر وليس فكر) وتارة يدخلون من باب سماحة الدين الإسلامي ونحو ذلك، ولقد رفعوا لواء حرية العقل والرأي وحرية العقيدة بهدم الدين الإسلامي، فماذا تعني حرية الرأي، أليست الإذن بقول كلمة الكفر؟! أليس حرية الرأي السماح بالطعن في الإسلام؟! أليس من حرية الرأي الاعتراض على حكم الله ورسوله؟! أليس من حرية الرأي التشكيك في دين الله عز وجل؟! كل هذه من باب حرية الرأي وليقل من شاء ما شاء، فالمجال مفتوح، والطريق واسع، والصدر رحب، ونحن نستوعب الرأي والرأي الآخر، وقد يكون الرأي الآخر كفراً وردة، وبدعة، وظلماً، وحراماً، وانحرافاً عن الدين، ويقولون: حرية الرأي، ولقد جاء الإسلام بالدعوة إلى دينٍ واحد وعقيدة واحدة، وجاء الإسلام بالجهاد في سبيل الله، وجاء الإسلام بمحو الكفر: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39] فهذا الذي يدعو إليه الإسلام ولا يدعو الدين أبداً إلى إبقاء الكفرة على ما هم عليه وترك الكفر يسرح في الأرض، وإلا فما معنى أن الله عز وجل أنزل هذا الدين؟ {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] وحينما نستعير مصطلحات الشرق والغرب ثم نلصقها بدين الله تكون مصيبة، فالمصيبة أن يأتي أناس من بني جلدتنا ويتكلمون بلغتنا ويقولون: حرية الرأي، حرية الفكر، ويأتون بأدلة من القرآن والسنة على حرية الرأي وحرية الفكر: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] ونحوه.
فمن المؤسف أن نستعير مصطلحات الشرق والغرب ثم نلصقها بدين الله ونأتي عليها بأحاديث وأدلة.
وتحت ضغط الواقع المنحرف يشتد هؤلاء على المسلمين، ويرفعون لواء هذه الجريمة المسماة: بحرية الرأي، ويفتحون الطريق للمنافقين وللمرتدين وللكفار ليطعنوا في الإسلام، وليعلنوا المخالفة لدين الله سبحانه وتعالى، وهذه انهزامية مقيتة، وبدعة جديدة، وكأن هؤلاء لم يقرءوا قول الله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] فظهر جيل لا يقر من الدين إلا بما يوافق هواه، وغزيت البيوت بهذه الموجات، وقيل: إن كل شيء معرض للنقد، وإنه ليس هناك مسلمات.(316/40)
اتباع الهوى بما يعرف بالوسطية
ومن البدع الجديدة التي ينادي بها تيار ما يعرف بالوسطية -الآن- أنه ليس هناك شيء اسمه مسلمات، فكل شيء يمكن النقاش فيه، حتى لو كان في الرفض، وهذا ما ينادي به اليوم تيار الوسطية المزعوم، فكل شيء عندهم قابل للنقاش، والميدان مفتوح، فارفع لواء الكفر والزندقة ونتناقش، ويسمحون بهذا، اطرح ما عندك، صدري يتسع للرأي والرأي الآخر، نحن نتقبل أن يقول من شاء ما شاء، وذاك الزنديق يقول على الملأ والمجال مفتوح، وقد يكون أفصح وأبلغ من الذي يرد عليه، وهذا هو التيار الوسطي.
ولذلك ما تراه اليوم من الحوارات في القنوات كله مبني على هذا، قنوات الفضائية الآن هي التي تعرض هذا الفكر، الرأي والرأي الآخر، حوار مفتوح يناقش، هذا زنديق مرتد يعرض شبهاته على العامة باسم الرأي والرأي الآخر، باسم حرية الرأي، باسم كل شيء قابل للنقاش، فماذا يبقى لنا من مقدسات؟ وأي أحكام ثابتة بقيت في الدين؛ فكل شيء معرض للنقاش، فيقولون: تحريم الخمر قابل للنقاش، تعدد الزوجات قابل للنقاش، الربا قابل للنقاش، نتناقش يمكن نتوصل إلى نتيجة، هذا كله على العامة: النساء والصغار، والكبار، والمثقفين وغير المثقفين، والذين عندهم علم والجهلة يشاهدون، فهذا باب الفتنة الكبرى التي فتح بالقناة الفضائية في هذا العصر، هذا الهوى واتباع الهوى.
ولماذا كان السلف ينهون عن مجالسة أهل البدع، ولا يقبلون بذلك.
جاء رجل يقول لـ أيوب: كلمة! قال: ولا نصف كلمة، لا تعطى الفرصة للمبتدع وإذا نوقش يناقش في مجلس خاص، وقد يقول: أنتم لا تثقون بأنفسكم، نقول: بلى نثق بالله تعالى، لكن لا نرى من الحكمة أن يسمع الجهلة والعوام شبهاتك يا أيها الزنديق، نحن نخاف على دين العامة ما نخاف على أنفسنا نحن، نحن أعلم منك وأقدر منك على الجواب، لكن ليس من الحكمة أن نعرض دين العامة للفتنة؛ ولذلك هذا الطرح الذي يحدث الآن مخطط له، يؤدي بالنهاية إلى تشكيك العوام بأحكام الإسلام.
والاستفتاء حول تعدد الزوجات، كم الذين قالوا نعم، وكم الذين قالوا: لا.
اطرح أي شيء في الاستفتاء، نعم، لا، لا أدري، أؤيد، لا أؤيد، متوقف، استفتاء!! قال عبد الله بن مسعود: [من أراد أن يكرم دينه فلا يدخل على السلطان، ولا يخلون بالنسوان، ولا يخاصمن أصحاب الأهواء].
وعن مجاهد قال: [ما أدري أي النعمتين عليَّ أعظم: أن هداني للإسلام أو عافاني من هذه الأهواء].
ودخل رجلان من أصحاب الأهواء على ابن سيرين فقالا: يا أبا بكر نحدثك بحديث؟ قال: لا.
قالا: فنقرأ عليك آية من كتاب الله؟ قال: لا.
لتقوما عني أو لأقومن، فخرجا فقال بعض القوم: يا أبا بكر وما كان عليك أن يقرأا عليك آية من كتاب الله؟ قال: إني خشيت أن يقرأا عليَّ آية من كتاب الله فيحرفانها فيقر ذلك في قلبي.
وعن سلام بن أبي مطيع أن رجلاً من أصحاب الأهواء قال لـ أيوب: يا أبا بكر أسألك عن كلمة، فولى وهو يشير بإصبعه ولا نصف كلمة، وأشار لنا سعيد بخنصره اليمنى.(316/41)
اتباع الهوى في فقه التيسير
ثم نأتي إلى مسألة فقه التيسير ومتابعة أهواء العامة ومجاراة أهوائهم.
من البدع العصرية التي خرجت ما يعرف بفقه التيسير، وفقه التيسير هو: عبارة عن اتباع الهوى، وجمع الرخص واختراعها، وهم لا يكتفون فقط بجمع الرخص التي هي زلات العلماء، فهناك -الآن- مدرسة فقه التيسير، هذه المدرسة القائمة على الحوارات على الفضائيات، وفقه التيسير يحاول أن يجمع لك أية رخصة أفتى بها، أو قالها عالم أو أحد في كتاب سابق من أي مذهب كان، وتجمع في قاموس فقه التيسير وإذا لم يجد يخترع فتوى جديدة، تناسب العصر -بزعمهم- توافق هوى الناس وتخالف الكتاب والسنة، فيقولون مثلاً: يبحث مثلاً من الذي قال: إن ربا النسيئة ربا الفضل؟ قال: هناك بعض العلماء، قبل أن يعلم الحكم يفتي بأحد نوعي الربا أنه جائز، وكان فلان يجيز أكل البرد في نهار رمضان، وكان فلان يرى بإباحة نكاح المتعة، لم يصل إليه التحريم، وكان فلان يبيح الغناء، وكان فلان كذا، فيجمعون لك هذه كلها ويجعلونها في قاموس يسمى: فقه التيسير، وإذا وردت مسألة عصرية جاء أناس فقالوا: نحن في الغرب نريد أن نشتري بيوتاً ولا يمكن أن نشتري إلا عن طريق البنوك الربوية، فالبنك يمول شراء البيت ونحن نقسط بزيادة، وهذا ربا واضح، فيقولون: هذه ضرورة عصرية، يعني: أيبقى الناس مستأجرين؟! نقول: هناك مدراء شركات مستأجرين، بل تجد (70% أو 80%) مستأجرين أين هم؟ هل كل هؤلاء مساكين يستحقون الزكاة، كل هذه البنايات والعمارات هل كل هؤلاء من أهل الزكاة؟ يقول: هذه ضرورة عصرية: الشراء عن طريق تمويل البنوك وجعلها في قاموس التيسير، وهكذا كثرت الأهواء في اتباع الرخص، ومن تتبع رخص العلماء تزندق وخرج من دينه، فإنه ما من عالم إلا وله سقطة أو زلة واحدة على الأقل؛ فإذا تتبع الإنسان هذه الرخص اجتمع فيه الشر كله، ومع طول عهد الناس بعصر النبوة والبعد عن وقت النبوة زادت الأهواء، واستولت الشهوات على النفوس، ورق الدين لدى الناس، وزاد الطين بلة ارتباط المسلمين بالغرب الذي استولى على مادياتهم وصدر إليهم الفكر الذي يعتنقونه ويرضخون له، وترك هذا الأمر أثره -مع الأسف- حتى على بعض الدعاة، أو الذين يزعمون نصرة الإسلام، ويتصدرون المجالس في الكلام، فصاروا يريدون إعادة النظر في بعض الأحكام الشرعية، يقولون: ثقيلة على الناس، الناس لا يطيقونها، ماذا تريدون؟ قالوا: نخفف، نرغب الناس في الدين، فنقول لهم: أنتم تريدون إدخال الناس من باب ثم إخراجهم من الدين من باب آخر! أنتم تريدون إدخال الناس في دين ليس هو دين الله، أنتم تريدون أن تنشروا على الناس إسلاماًَ آخر غير الذي أنزله الله، أنتم تريدون أن تقدموا للناس أحكام غير أحكاماً الشريعة التي أتى بها رب العالمين، ماذا تريدون؟ ما هو نوعية الإسلام الذي تريدون تعليمه للناس؟ وأي شريعة هذه؟ وأي أحكام؟ ومن الناس من يتطوع لمتابعتهم، ولا شك أن الناس فيهم أهل هوى وأتباع كل ناعق، يريدون يسراً ولا يريدون مشقة، ويريدون سهولة ولا يريدون تكاليف صعبة، فنقول: أفتهم بعدم صلاة الفجر؛ لأن صلاة الفجر فيها مشقة، وأفتهم بعدم الصوم في الصيف الحار؛ لأن الصوم في الصيف الحار مشقة، أفتهم بالفطر والقضاء، وأفتهم بصلاة الفجر الساعة الثامنة، فما دمت تريد أن تخفف على الناس خفف، وقل إن الربا ضرورة عصرية، وهكذا صار الإسلام الذي يقدم للناس غير الإسلام الذي أنزله الله.
لكن كيف يعني: (القابض على دينه كالقابض على الجمر) هذا الحديث ما معناه؟ إذاً: ماذا بعد أن نلغي أي أحكام ونقول: هذه يعاد النظر فيها؟ فكيف يحس الواحد أنه قابض على الجمر؟ كيف يحس أن هنا فتنة وابتلاء من الله، الله ابتلى الناس بالتكاليف وابتلاهم بالمشاق، ماذا يعني إسباغ الوضوء على المكاره؟ ماذا يعني حفت الجنة بالمكاره؟ إذا كنت تريد إلغاء المكاره من الدين، فأين الجنة هذه التي تريدون دخولها؟ الجنة حفت بالمكاره فأين المكاره؟ أنتم تريدون إلغاء المكاره كلها بحجة التخفيف على الناس وترغيبهم في الإسلام، أنتم ترغبونهم في شيء آخر غير الإسلام، ترغبون في دين آخر تشرعونه من عندكم، وهذا التمادي يجعل الداعية هذا أو المتصدر المتزعم المدعي للعلم عبداً لأهواء البشر.
يا شيخ هذه ثقيلة.
يقول: (خلاص بلاش) يا شيخ والله ما قدرت، قال: هذا مباح، وهكذا يصبح الشرع وفق أهواء الناس وشهواتهم ويعاد تشكيل دين جديد، وأحكام جديدة وفقه جديد، اسمه: فقه التيسير، وهو قائم على تمييع الشريعة ومراعاة أهواء الناس، ماذا يقول الناس؟ ما هو رأي الأغلبية؟ يجوز.
ويجب أن يقوم الدعاة إلى الله بمقاومة داعي الهوى، فالشريعة جاءت لمقاومة الهوى، وتربية الناس على تعظيم نصوص الشرع والتسليم لها وترك الاعتراض عليها، وأن النص الشرعي حاكم لا محكوم، وأنه غير قابل للمعارضة ولا للمساومة ولا للرد ولا للتجزئة ولا للتخفيض، وليذكّر العامة والخاصة بقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36] فلابد من تربية الناس على التعلق بالآخرة، وأن الدنيا دار شهوات وأهواء وظل زائل، وأن الجنة قد حجبت بالمكاره، والنار قد حجبت بالشهوات، وأن اليقين ما دل عليه الشرع، وما جاء به الشرع هو مصلحة الناس ولو جهلوا، ولو قالوا: ليس في هذا مصلحتنا، وأن من مقاصد الشريعة تعبيد الناس لرب العالمين، وأن الواحد يركب المشاق حتى يتعبد ويذلل نفسه لله.
قال الشاطبي: المقصد الشرعي من وضع الشريعة؛ إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد له اضطراراً.
إذاً: ما هو المقصد الشرعي من وضع الشريعة؟ لماذا ألزم الله الناس بالشريعة؟ الغرض من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله، وليتذكر هؤلاء القوم أن مجاراة الناس في الترخص والتيسير لا تقف عند حد، فماذا نفعل بمن تتبرم من لبس الحجاب؟ ومن يتبرم من صيام الحر في رمضان؟ ومن يتثاقل من السفر للحج لما فيه من المشقة والأمراض المعدية؟ وماذا نصنع بالجهاد الذي فيه تضحية بالنفس والمال؟ فإذا كنا نريد أن ننسلخ من أي شيء فيه ثقل فأي دين هذا الذي نريد اتباعه، والتيسير الذي يسره الله للناس ورخص فيه -هذا الشرعي أما الآخر فتيسير بدعي- التيسير الشرعي، كالمسح على الخفين والجورب للمقيم يوم وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام، هذا تيسير شرعي: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] هذا تيسير شرعي، أما أن تأتي وتقول: الربا ضرورة عصرية، فهذا كلام فارغ.(316/42)
علاج الهوى
وختاماً لهذا الموضوع فإننا نريد أن نعرف ما هو علاج الهوى؟(316/43)
الرجوع إلى الله
يعالج الهوى بعدة أمور: أولاً: الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى بدعائه عز وجل أن يوفق العبد ويقيه شر هذه الأهواء، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء) رواه الترمذي وهو حديث صحيح، وكان إبراهيم يدعو فيقول: [اللهم اعصمني بكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ومن اختلاف في الحق، ومن اتباع الهوى بغير هدى، ومن سبيل الضلال، ومن شبهات الأمور، ومن الزيغ واللف والخصومات].(316/44)
منع القلب مما يشتهي
ثانياً: لا بد من منع القلب مما يضاد الهوى من محبة الله والقرب منه عز وجل، وداء اتباع الهوى والإعجاب بالنفس لا يلائمه كما قال ابن القيم كثرة قراءة القرآن، واستفراغ الإنسان العلم والذكر والزهد وإنما يلائمه إخراجه من القلب بضده.
وفي كتاب روضة المحبين لـ ابن القيم ذكر فصلاً في علاج الهوى، قال فيه: فإن قيل كيف يتخلص من هذا من قد وقع فيه؟ فالجواب بأمور: أحدها: عزيمة حر يغار لنفسه وعليها؛ حتى تتخلص من الهوى وتقاوم الهوى، فإنك تحتاج إلى عزيمة حرٍ يغار لنفسه وعليها.
ثانياً: بجرعة صبرٍ يصبر نفسه على مرارتها تلك الساعة.(316/45)
قوة النفس
الثالث: قوة نفس تشجعه على شرب تلك الجرعة، والشجاعة كلها صبر ساعة، وخير عيش أدركه العبد بصبره.(316/46)
ملاحظة حسن العاقبة
الرابع: ملاحظته حسن موقع العاقبة والشفاء بتلك الجرعة.(316/47)
الندم والألم على ترك الطاعة
الخامس: ملاحظته الألم الزائد على نبذ الطاعة في اتباع هواه.(316/48)
المداومة على الطاعات
السادس: إبقاؤه على منزلته عند الله وبقلوب عباده، وهو خيرٌ وأنفع له من لذة موافقة الهوى.
فكر كيف تحفظ منزلتك عند الله وقدم هذا على لذة الهوى.(316/49)
إيثار العفة على المعصية وحلاوتها
السابع: إيثار لذة العفة وعزتها وحلاوتها على لذة المعصية.(316/50)
الفرح بغلبة الشيطان وكبحه
الثامن: فرحه بغلبة عدوه وقهره له، ورده خائباً بغيظه وهمه حيث لم ينل منه، والله تعالى يحب من عبده أن يراغم عدوه ويغيظه، فإبليس عدو لله، والله يحب أن تغيظ عدوه عز وجل وترده خاسئاً وهو حسير، كما قال تعالى: {وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة:120] وعلامة المحبة الصادقة مغايظة أعداء المحبوب ومراغمتهم.(316/51)
معرفة الغاية من الحياة
التاسع: التفكر في أنك لم تخلق للهوى، وإنما خلقت لأمر عظيم لا ينال إلا بمعصية الهوى، كما قيل:
قد هيئوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل(316/52)
التأمل في عواقب الهوى
العاشر: أن ينظر بقلبه في عواقب الهوى فيتأمل كم أفاتت معصيته من فضيلة، وكم أوقعته في رذيلة، وكم أكلة منعته أكلات، وكم من لذة فوتت لذات، وكم من شهوة كسرت جاهاً ونكست رأساً، وقبحت ذكراً، وأورثت هماً، وأعقبت ذلاً، وألزمت عاراً لا يطفئه الماء غير أن عين صاحب الهوى عمياء.(316/53)
التأمل في الحال بعد قضاء الشهوة
الحادي عشر: أن يتصور العاقل انقضاء غرضه ممن يهواه، ثم يتصور حاله بعد قضاء الوطر وما أفاده وما حصل له، فالآن لو دعا داعي الهوى للزنا بامرأة أو لذة محرمة مع أمرد، فليتخيل هذا المدعو إلى الحرام نفسه بعد المعصية، فليتخيل نفسه بعد الزنا وبعد الفاحشة كيف سيكون حاله، سيكون نادماً حزيناً كئيباً ضيق الصدر، يكره نفسه، فما دام أن النهاية سيئة فأنت ممكن أن تتدارك نفسك.
فأفضل الناس من لم يرتكب سبباً حتى يميز بما تدني عواقبه
الثاني عشر: أن يتصور ذلك في حق غيره حق التصور ثم ينزل نفسه تلك المنزلة.(316/54)
مخالفة النفس
الثالث عشر: أن يتفكر فيما تخالفه نفسه من ذلك ويسأل عنه عقله ودينه.
من العلاجات ما ذكره ابن مسعود: من أنه إذا دعاه داعي الهوى وقال اذهب للزنا بامرأة، قال ابن مسعود: إذا أعجب أحدكم امرأة فليذكر مناتنها.
تذكر ما في مناتنها من البول، وما في أنفها مما تعافه النفس، وهذا أحسن من قول أحمد بن الحسين:
لو فكر العاشق في منتهى حسن الذي يفديه لم يفده
لو فكر العاشق في هذا الشخص الذي عشقه وشكل المعشوق بعد سبعين سنة.
لو فكر العاشق في منتهى حسن الذي يفديه لم يفده(316/55)
الأنفة من ذل الهوى
الرابع عشر: أن يأنف لنفسه من ذل طاعة الهوى؛ فإنه ما أطاع أحدٌ هواه قط إلا وجد في نفسه ذلاً، ولا يغتر بصولة أتباع الهوى وكبرهم فهم أذل الناس، قد جمعوا بين فصيلتي الكبر والذل، فلو قال: هؤلاء أتباع الهوى يسافرون بسيارات (شبح) وأنا قبل يومين جاءني واحد في سيارة اسمها (فياجرا) ويقال: هذه من المستجدات، فالآن يركبون هذه بثياب فخمة وشكل حسن، ويذهبون إلى أماكن المعصية، وبعض الناس يفتن بهذا فنقول: لا يضرك صولة أهل المعصية.
أن يأنف من ذل نفسه من ذل طاعة الهوى، ولا يغتر بصولة أتباع الهوى وكبرهم فهم أذل الناس، قد جمعوا بين فصيلتي الكبر والذل.(316/56)
الموازنة
الخامس عشر: أن يوازن من تدعوه نفسه للهوى بين سلامة الدين والعرض والمال والجاه، ونيل اللذة المطلوبة.
فإنه لا يجد بينهما لذة البتة، فليعلم أنه من أسفه إذا باع هذا بهذا.(316/57)
الابتعاد عن قهر الشيطان
السادس عشر: أن يأنف لنفسه أن يكون تحت قهر عدوٍ؛ فإن الشيطان إذا رأى من العبد ضعف هزيمة وهمة، وميلاً إلى هواه طمع فيه وصرعه، وألجمه بلجام الهوى وساقه حيث أراد.(316/58)
أن يعلم مكائد الشيطان
السابع عشر: أن يعلم أن الشيطان ليس له مدخل على ابن آدم إلا من باب هواه، فإنه يضيق به من أين يدخل عليه حتى يفسد عليه قلبه وأعماله، فلا يجد مدخلاً إلا من باب الهوى، فيسري معه سريان السم في العظم.(316/59)
أن يعلم أن الهوى سور جهنم
الثامن عشر: أن الهوى هو سور جهنم المحيط بها، فحول جهنم هوى، فمن وقع فيه وقع فيها، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (حفت النار بالشهوات) ولما خلق الله جهنم قال لجبريل: اذهب فانظر إليها.
قال في الحديث: (اذهب إلى النار فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فجاء فنظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها فإذا هي يركب بعضها بعضا، فقال: وعزتك لا يسمع بها أحدٌ فيكفر، فأمر بها فحفت بالشهوات، وقال لجبريل: ارجع فانظر إليها، فرجع إليها فإذا هي قد حفت بالشهوات، فرجع إليه فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد) قال الترمذي: حديث حسن صحيح.(316/60)
أن يعلم أن مخالفة الهوى تورث القوة
التاسع عشر: إن مخالفة الهوى تورث العبد قوة في بدنه وقلبه ولسانه.
قال بعض السلف: الغالب لهواه أشد من الذي يفتح المدينة وحده، وفي الحديث الصحيح: (ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) وكلما تمرن العبد على مخالفة هواه اكتسب قوة إلى قوته.(316/61)
تغليب العقل على الهوى
والعشرون: أن الله سبحانه وتعالى جعل في العبد هوى وعقلاً، فأيهما ظهر توارى الآخر.
كما قال أبو علي الثقفي: من غلبه هواه توارى عنه عقله.
فانظر عاقبة من استتر عنه عقله وظهر عليه خلافه.
العقل والهوى يتنازعان، فالتوفيق قرين العقل، والخذلان قرين الهوى، والنفس واقفة بينهما فأيهما غلب كانت النفس معه، النفس تتفرج على حلبة الصراع بين العبد والهوى وتتبع الغالب.(316/62)
المحافظة على سلامة القلب
الواحد والعشرون: أن الله سبحانه وتعالى جعل القلب ملك الجوارح، ومعدن معرفته ومحبته وعبوديته، وامتحنه بسلطانين وجيشين وعونين وعدتين، فالحق والزهد والهدى سلطان، وأعوانه الملائكة، وجيشه الصدق والإخلاص، ومجانبة الهوى، والباطل سلطان، وأعوانه الشياطين، وجنده وعدته اتباع الهوى، والنفس واقفة بين الجيشين ولا يسلم جيش على الباطل إلا من ثغرة القلب، فهي تعاكس القلب وتصير مع عدوه.(316/63)
أن يعلم أن اتباع الهوى رق وغل
الثاني والعشرون: أن الهوى رقٌ في القلب، وغلٌ في العنق، وقيد في الرجل، ومتابعه أسير؛ لأنه يكون في رقه، فمن خالف الهوى عتق من الرق وصار حراً، وخلع الغل من عنقه، والقيد من رجله، وصار بمنزلة رجل شاهدٍ لرجل بعد أن كان فيه شركاء متشاكسون.
رب مستور فدته شهوة فتعرى جسره فانتهكا
صاحب الشهوة عبدٌ فإذا غلب الشهوة أضحى ملكا
وقال ابن المبارك:
ومن البلاء وللبلاء علامة أن لا ترى لك عن هواك نزوعُ
العبد عبد النفس في شهواتها والحر يشبع مرة ويجوعُ(316/64)
إجابة الدعوة
والثالث والعشرون: أن مخالفة الهوى تقيم العبد في مقام من لو أقسم على الله لأبره، فيقضى له من الحوائج من رب العالمين أضعاف أضعاف ما فاته من هواه، فهو كمن رغب عن بعرة وأعطي بدلاً منها ذُرة، ومتبع الهوى يفوته من مصالحه العاجلة والآجلة، والعيش الهنيء الشيء الكثير لو تركه للهوى؛ فإن ترك الهوى كان أسهل بكثير، وما يفوت بالهوى ليس بشيء بالنسبة لما يبقى من عز الطاعة، وتأمل يوسف عليه السلام لما قوت على نفسه لذة الحرام مع امرأة العزيز، وخالف هواه، ماذا أعقبه الله؟ بسط الله تعالى له نساءً وخدماً ومجداً وعزاً في السلطان بعد خروجه من السجن، لما قبض نفسه عن الحرام بسط الله له يده في السلطان فصار عزيز مصر.
ومن الرؤى والمنامات الصالحة لـ سفيان الثوري ما رآه عبد الرحمن بن مهدي بعد موت سفيان الثوري -وهم علماء من زمان العلماء، وهؤلاء طلاب عند العلماء وأهل العبادة والزهد والورع والعلم والدين إخوة في الله، الواحد يشتاق للآخر جداً، وإذا مات صعب عليه وتمنى لو يراه في المنام، تمنى لو يكون له خبراً عن حاله- وعبد الرحمن بن مهدي لما مات سفيان الثوري رآه في المنام فقال له: ما فعل الله بك؟ قال: لم يكن إلا أن وضعت في لحدي حتى وقفت بين يدي الله تبارك وتعالى، فحاسبني حساباً يسيراً ثم أمر بي إلى الجنة، فبينا أنا أجول بين أشجارها وأنهارها لا أسمع حساً ولا حركة إذ سمعت قائلاً يقول: سفيان بن سعيد؟ فقلت: سفيان بن سعيد، قال: تحفظ أنك آثرت الله عز وجل على هواك يوماً؟ -تحفظ أنك يوم من الأيام قدمت الله على هواك؟ - قلت: إي والله، فتأخذني النثار من كل جانب، والنثار ما يلقى على العروس عادة أو على الحضور قال: فأخذني النثار من كل جانب.(316/65)
أن يعلم أن مخالفة الهوى توجب شرف الدنيا والآخرة
الرابع والعشرون: أن مخالفة الهوى توجب للعبد شرف الدنيا وشرف الآخرة، وعز الظاهر وعزة الباطن، ومتابعة الهوى تصيره عبداً ذليلاً محتقراً عند الله وعند الناس، ويوم القيامة إذا نودي آخر الجمع: يا أهل الكرم ليقم المتقون؛ فيقومون إلى محل الكرامة، وأتباع الهوى ناكسو رءوسهم في حر الهوى وعرقه وألمه بينما المتقون في ظل العرش.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يكفينا دواعي الهوى، وأن يخلف عنا سبل الردى، وأن يجعل التوفيق لنا رائداً، والعقل لنا مرشداً، وأن يجعلنا ممن يتعظون، ومن الذين يتعلمون قبل أن يعملوا، وكذلك فإن هذا الأمر وهو اتباع الهوى جدير بأن يدرس ويفكر فيه وأن يكون العبد على حزن، والله منه نسأل أن يوفقنا لكل خير.(316/66)
لغتنا الجميلة هل نعود إليها؟ [2]
شاع لدى الكثير من أهل الإسلام التقليل من قيمة اللغة العربية، وقيمتها، وأهميتها، وسعتها.
وأصبح التفاخر بالتحدث باللغات الأجنبية الأخرى.
وأنها لغات العلم والتقدم، وأصبح الناس يلوكون بألسنتهم هذه اللغات، وذلك لأنهم لم يدركوا دور اللغة.
إن لغتنا الأصيلة هي أم اللغات، وأشرفها، وأوسعها، والمتقدم يسود بكل ما يملك، فهكذا كنا فمتى نعود.
هذا هو ما تحدث عنه الشيخ، ذاكراً ميزات اللغة العربية، موضحاً حكم تعلم اللغة الأجنبية.(317/1)
سيادة اللغة للأقوى
عباد الله: لما كنا سادة وقادة، كان العالم لنا تبعاً، وكانت لغتنا هي اللغة السائدة، وكانوا يتعلمونها رغماً عنهم، ولا يمكن لهم تقدمٌ إلا بتعلمها، أقبلوا عليها يتعلمونها زرافات ووحدانا، وجاءوا من إيطاليا وغيرها إلى الأندلس ليتعلموا اللغة العربية في الأندلس، وبعثوا البعثات إليها.
يقول بعض المستشرقين: إن أرباب الفطنة والتذوق من النصارى سحرهم رنين الأدب العربي، فاحتقروا اللاتينية، وصاروا يكتبون بلغة القوم القاهرين.
حتى قال أحد القساوسة من النصارى: وا أسفاه! إن الجيل الناشئ من المسيحيين لا يحسنون أدباً أو لغةً غير الأدب العربي واللغة العربية، وإنهم ليلتهمون كتب العرب ويجمعون منها المكتبات الكبيرة بأغلى الأثمان.
وكتب الفارو مقران في عام (854م) إلى أحد أصدقائه رسالة يقول فيها: إننا لا نرى غير شبان مسيحيين هاموا بحب اللغة العربية، يبحثون عن كتبها، ويقتنونها، ويدرسونها في شغف، ويعلقون عليها، ويتحدثون بها في طلاقة، ويكتبون بها في جمال وبلاغة، ويقولون عليها الشعر في رقة وأناقة، يا للحزن! مسيحيون يجهلون من كتابهم وقانونهم ولاتينيتهم، وينسون لغتهم نفسها، ولا يكاد الواحد منهم يستطيع أن يكتب رسالة معقولةً لأخيه مسلِّماً عليه، وتستطيع أن تجد جمعاً لا يحصى يظهر تفوقه وقدرته وتمكنه من اللغة العربية.
ثم انقلب الزمان وتغير الحال وانعكست القضية، حق لهم أن يتركوا لاتينيتهم لأجل العربية؛ لأنها أقوى وأعلى وأثمن وأبلغ وأقوى، ولكن هل يحق لنا أن نترك عربيتنا لإنجليزيتهم وهي الأضعف والأتفه والأدنى والأضيق؟! ليس عيباً عليهم أن يتعلموا عندنا في الأندلس، ولكن العيب عندما نستخدم لغتهم وهي الأضعف.(317/2)
المؤامرة على اللغة
علم أعداء الإسلام أن اللغة العربية هي الجزء المشترك من كيان الأمة، وهي الوطن المعنوي الواحد لحركة اللسان المعبرة عن حركة الفكر والوجدان، وأن مقياس رقي الأمم وانحطاطها في رقي اللغة وانحطاطها؛ هجموا على اللغة العربية، وأخذوا تراثنا ومخطوطاتنا إلى مكتباتهم وجامعاتهم، عندما أدركوا أن اللغة تربط بين المسلمين وتوحد بينهم، كان المسلم ينتقل من المغرب إلى أقصى المشرق وهو يتكلم باللغة العربية الفصحى، وكل واحد يفهمه، كلهم يفهم بعضهم بعضاً؛ لأن اللغة واحدة، فلما احتل الكفار الدولة الإسلامية، وقسموها شنوا الحرب على اللغة العربية الفصحى، وفرضت لغة الغزاة على الشعوب الإسلامية المغلوبة.
أولاً: جعلوا لغتهم هي اللغة الإجبارية في المدارس، من المرحلة الابتدائية إلى الجامعية فما فوق، واعتبروها اللغة الأساسية في البلاد مع إهمال اللغة العربية، حتى ينشأ جيلٌ من أبناء المسلمين يتكلم بلغة الغزاة ويهجر لغته الأصلية، وصار طالب العمل والوظيفة لا يستطيع أن يجد وظيفة إلا إذا كان يتقن لغة الغزاة اتقاناً جيداً، حتى صارت الأجيال في بلاد المسلمين لا تحسن النطق بالعربية وتجيد لغات الغزاة، وابتعدت الأجيال عن الدين نتيجة لذلك، حتى صار الواحد يفتح المصحف ولا يحسن تلاوته، ولا قراءة حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فضلاً عن مقطوعة شعرية، أو قصة كتبت بالعربية.
انظروا إلى حال المسلمين في شمال أفريقيا، ماذا فعلت بهم فرنسا وأفريقيا؟ والشعوب الإسلامية في روسيا والصين لقد دمرت اللغة العربية تدميراً تاماً فهم يتكلمون فرضاً باللغة الروسية.
وهكذا في كثير من البلدان أزيحت اللغة العربية عن مسرح الحياة، ثم قاموا بعد ذلك بشن الهجمات، ومن ذلك محاولة نشر اللهجات العامية الإقليمية، والتشجيع على أن تكون اللهجة العامية هي التي تكتب بها العلوم والآداب والمعاملات، وأن العامية سهلة وتجيدها كل المستويات، والفصحى قواعد صعبة وألفاظ معقدة، هكذا خيَّلوا لنا؛ فصارت اللغة العامية هي الدارجة الباهية، حتى نصير مثل الألمان والإنجليز والفرنسيين، الذين انفصلوا بلغات مختلفة عن اللغة اللاتينية الأم هكذا كان المخطط، وأعطيت اللهجة العامية صيغة اللين والسهولة، ووصفت بأنها القادرة على التعبير عن كل أفكار أفراد المجتمع، وفتح المستشرقون الباب للدراسات، ونشروا الأبحاث في المجلات، وقاموا بتلك الحركة الخبيثة لترك الفصحى إلى العامية، فقام وليم جيمس، وسلدن مور وغيرهما من هؤلاء الأخباث الأنجاس ولويس ماسنيون، وبعضهم أسماؤهم على شوارع في بلاد المسلمين، قاموا بالدعوة إلى العامية، وتلقفها من المحسوبين على المسلمين من أمثال: لطفي السيد وعبد العزيز فهمي وتوفيق الحكيم وسلامة موسى وزكي نجيب محمود، وغيرهم فقاموا بإشاعة اللهجة العامية، وهدم اللغة العربية، وتغيير قواعد اللغة العربية، وتغيير الخط العربي، وتغيير قواعد الإملاء، وحذف بعض القواعد، وأيدهم نصارى العرب من أمثال سعيد عقل وأنيس شريحة ولويس عوض، ولا غرابة أن يتشجع نصارى العرب ويتحمسوا إلى هذه الفكرة، وسُخّرت الأفلام والمسلسلات والمقالات والمجلات لهذه الأغراض الخبيثة، وأثيرت النعرات القومية، فإذا كان المسلمون من أصل هندي أثاروا قضية الحضارة الهندية القديمة، وآدابها ولغتها السنسكريتية، ونبشوا قبور المقبرة السنسكريتية وأخرجوا العظام البالية؛ ليقولوا: هذه لغتكم الأصلية، وأثاروا النعرة البربرية في أبناء المغرب العربي، والقومية الطورانية في أبناء تركيا المسلمين، والنعرة القبطية في أبناء مصر، وأحيوا أمجاد الفراعنة وآثارهم لقطع الشعب عن أصالته العربية الإسلامية، وفي بلاد الشام أثاروا الحضارة الفينوقية، والقومية الكردية في الأكراد، وغير ذلك؛ لتقطيع أوصال الأمة، وفرض أتاتورك على المسلمين في تركيا كتابة اللغة بالأحرف اللاتينية، ومنع الأذان بالعربية، والكتابة بالعربية، والتدريس بالعربية، واللباس الذي يميز المسلمين, فصار حالهم كما ترون اليوم لا يقدر المسلم أن يفتح القرآن ويقرأ، ولا يفهم بعضنا بعضاً إذا التقينا في الحج، وإنما يكون الكلام مع المسلم بالإشارات.
ذهبت اللغة العربية، وقام طه حسين وأذنابه ومن معه بحركة إلغاء الإعراب، وإشاعة قاعدة: سَكِّنْ تسلم، وإلغاء الحركات الإعرابية، كرفع الفاعل، ونصب المفعول به كيف سيعرف المسلم معنى قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]؟ الله: لفظ الجلالة مفعول به مقدم منصوب هو الذي يُخشَى، والعلماء: فاعل فهم الذين يَخشَون، {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة:124] من الذي ابتلى؟ إبراهيمَ: مفعول به مقدم، ربُّهُ: فاعل مؤخر، فإذا ألغينا الحركات الإعرابية كيف سنفهم من الذي ابتَلى؟ ومن الذي ابتُلِي؟ ومن الذي يَخشى؟ ومن الذي يُخشى؟ وقام سوق السخرية بمدرسي اللغة العربية، وأصبحت رواتبهم من أدنى الرواتب إن لم تكن أدناها، ويظهر مدرس اللغة العربية في الأفلام بمظهر الحزن والسخرية، وتطلق النكت المضحكة اللاذعة للسخرية، وقُلّلت حصص اللغة العربية، وحذفت في بعض المدارس بالكلية، مع أن قواعد اللغة الإنجليزية تدرس في الجامعات، فالتخصص -علمي أو أدبي- تدَّرس فيه قواعد اللغة الإنجليزية، واللغة العربية حذفت بالكلية، بل إنه وصل الحال المزري أن تدرَّس في بعض الجامعات حصص قليلة للغة العربية وتدرِّس قواعد اللغة العربية باللغة الإنجليزية، فلا يقال: هذا فاعل، وإنما يقال: هذا ( Object) وهذا ( Subject ) وهذا (
الجواب
dverb ) وهذا ( pronouns ) وهكذا تدرس قواعد اللغة العربية باللغة الأعجمية، ولما قام بعض المخلصين بتعريب المصطلحات والكلمات، قامت السخرية بالترجمة، أو بالتعريب، وقالوا: أتريدون؟ ترجمة الـ ( Sandwich ) إلى شاطر ومشطور وبينهما طازج؟ سبحان الله! من الذي قال أن هذه ترجمة ( Sandwich )؟ ما هو الشاطر؟ أليس السكين؟ والمشطور هو الشطيرة؟ كيف تكون ترجمة ( Sandwich ) سكين وشطيرة؟ عندنا كلمة واحدة نقولها شطيرة أو فطيرة، وإذا كان ( Sandwich ) هو اسم الشخص الذي اخترع الفكرة، ( Bantlwoni ) ( وبنطلوني) اسم الذي فصَّل هذا أول ما فصّله، فبأي شيء يتبجحون علينا والقضية قضية أسماء؟! وأشيعت المفردات الأجنبية في كتب اللغة العربية والمدارس العربية والجامعات العربية، مع أن لها بدائل واضحة وسهلة، أدخلت كلمة ( Biology ) مع أننا بسهولة نقول: علم الأحياء، و ( Ficology ) مع أننا بسهولة نقول: علم وظائف الأعضاء، و ( Sociology ) مع أننا نقول بسهولة: علم النفس، وهكذا لكنَّ رنين الكلمة الذي يوحي بالتقدم والحضارة عند المنهزمين من أبناء جلدتنا صاروا يرطنون بهذه الألفاظ في كلامهم؛ ليدللوا على أنهم متقدمون وحضاريون ومواكبون للمخترعات والمكتشفات والحضارة الغربية.
نعم.
لو قالوا أسماء الأشخاص، وأسماء البلدان، وأسماء الأدوية التي لا حيلة فيها لقبلنا ذلك، وقلنا: نأخذ الأعلام كما هي.(317/3)
الحفاظ على اللغة العربية
أيها الإخوة: يقول الشافعي رحمه الله تعالى في تعليقه على تسمية التُجّار بالسماسرة، والسماسرة ليست لغة عربية، قال: سمى الله الطالبين من فضله في الشراء والبيع تُجّاراً، ثم سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما سمى الله به من التجارة بلسان العرب، والسماسرة اسم من أسماء العجم، فلا نحب أن يسمي رجلٌ يعرف العربية تاجراً إلا تاجراً، لا نحب أن نسمي التاجر إلا تاجراً، ولا ينطق بالعربية فيسمي شيئاً بالأعجمية.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: وما زال السلف يكرهون تغيير شعار العرب حتى في المعاملات، وهو التكلم بغير اللغة العربية إلا لحاجة، فمن فقه العالم أن يراعي قضية الحاجة، كما نقل ذلك عن مالك والشافعي وأحمد، بل قال مالك: من تكلم في مسجدنا بغير العربية أخرج منه.
يقول محمد بن أحمد الخوارزمي البيروني: والله لئن أُهجى بالعربية أحب إليَّ من أن أُمدح بالفارسية.
لقد رُميت اللغة العربية بسهام الأعداء والأبناء، فوصفوها بالصعوبة ونعتوها بالغموض والجمود، وحاولوا تهميشها في واقع الحياة، وتباهوا برطانة الأعاجم، وعزف كثير من الطلاب عن دراسة اللغة العربية، وتبرموا من مناهجها الدراسية، وانحدر مستوى مادة القواعد العربية والنحو والصرف، وكثرت الأخطاء في كلام الخطباء والكتاب، حتى أنك لا تكاد ترى رسالة في دائرة أو شركة إذا كتبت بالعربية إلا وهي مملوءة بالأخطاء.
وادُّعي أن اللغة العربية لا تصلح لمواكبة التطور العلمي والتقني، وقال القائلون: ارحموا أولادنا وأطفالنا كيف لا تصلح؟! هل تعجز اللغة العربية عن اختيار اسم لمخترع من المخترعات؟!
وسعت كتاب الله لفظاً وغايةً وما ضقت عن آي به وعظاتِ
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلةٍ وتنسيق أسماءٍ لمخترعاتِ
أنا البحر في أحشائه الدرُّ كامنٌ فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي
وقام فريق منا يلوون ألسنتهم بالإنجليزية والأعجمية لتحسبوه من الحضارة والتقدم، وما هو من الحضارة والتقدم في شيء، كيف يفلح قومٌ يتكلمون بغير لغتهم، ويفكرون بغير لغتهم، ويدرسون بغير لغتهم، ويكتبون بغير لغتهم؟!(317/4)
أثر اللغة العربية على الإنجليزية
ثم هذه الإنجليزية التي يتفاخرون ويتظاهرون ويتمظهرون بها، دقق في ألفاظها سترى أثر اللغة العربية فيها، وسترى أنهم نقلوا منَّا الكلمات بالنص، وبعضها بتغيير طفيف، فمثلاً: كيس في اللغة العربية وفي الإنجليزية ( cais ) وقط ( Cat ) كاف ( Kiev ) صك ( Sheet ) يقول الناس اليوم: (شيك) وهي كلمة عربية، كفن ( Coffin ) قطن ( Cotton ) وكَفَرَ باللغة العربية أي: غَطّى وستر، وسمي الكافر كافراً؛ لأنه يُغطّي حقيقة التوحيد بالكفر، وعندهم ( Caver )، كذلك كلمة صِفر ( Cipher ) والمسلمون هم الذين اخترعوا الصفر وبذلك أسدوا للاتينيين نعمة عظيمة، وكانوا يكتبون الأرقام الطويلة المكتوبة الآن على الساعات بالأرقام اللاتينية، وإذا أراد أن يكتب رقماً طالت كتابته، فلما اخترع الصفر اختصرت لهم الأرقام.
يقول الواحد منا: سنذهب إلى (السِّيف) وإلى الشاطئ، وهو يظن أنها كلمة إنجليزية مع أن ( Seif ) هي شاطئ في اللغة العربية، وقد جاء في حديث أبي هريرة في البخاري: (حتى إذا أتينا سيف البحر) أي: شاطئ البحر وماذا يقول الإنجليزي عن السكر؟ أليس ( Sugar ) وماذا يقولون عن التعريفة؟ ( Tariff ) وماذا يقولون عن الكوب؟ ( Cup ) وعن الكأس ( Glass ) وقومنا يقولون: هات القلص، وهم أخذوها منَّا (كأس وكوب) والله قد ذكر الكوب والكأس في القرآن الكريم، فهم أخذوها منا، ويقول الأطباء: ( Serb ) وهم قد أخذوها منا أي: شراب.
ويقولون: اللغة العربية ليست لغة علمية وتقنية.
ولكن انظروا إلى الألفاظ المتعلقة بالعلوم في لغتهم، فمثلاً: (
الجواب
lgebra) أليست من ألفاظ الرياضيات والألفاظ العلمية؟ من أين أخذوها؟ أخذوها من عندنا نحن.
كذلك: (
الجواب
lgorithm) أي: العلامة الخوارزمي، ويقولون: (
الجواب
lphabetical Order ) وليس عندهم ألف، لكنهم يقولون عن نظام ترتيب الحروف: (
الجواب
lphabetical) لأنهم أخذوا الألف منا نحن، كذلك أشعة (ألفا، بيتا) كلمات علمية، من أين أخذوها؟ أليست الألف والباء حروفنا نحن؟ ثم يتباهى المتفرجون الذين يقلدون الغرب منَّا باستعمال كلماتهم، وإذا صدق أن الإنفلونزا هي أنف العنزة، لأنه يسيل دائماً، فواعجباً لما يستعمل الناس اليوم من الكلمات الأجنبية كقولهم (استيشن) أي: يكفي، وكذلك يستعمل الطلاب في الجامعات (كويز سكاشن)، ثم يجمعون جمع تكسير وجمع تشويه، والذين يعملون في المطارات، وهذه رحلة عليها ( OVER ) ألا تستطيع أن تقول كلمة بالعربية بدلاً من (كنكشن)؟ ألا تستطيع أن تقول بدلاً منها كلمة بالعربية؟ ألا يوجد في اللغة العربية كلمات مرادفة؟ انتهينا من الأسماء وأسماء المخترعات، وسلمنا بأخذها كما هي، لكن هذه هي الكلمات التي نقولها طلاباً وموظفين وأطباء ومدراء، ويتكلم العربي مع العربي في الشركة باللغة الإنجليزية.(317/5)
أثر فرض المستعمر لغته على الشعوب المستعمرة
يقول مصطفى صادق الرافعي رحمه الله: هل أعجب من أن المجمَّع العلمي الفرنسي يؤذن في قومه بإبطال كلمة إنجليزية كانت في الألسنة من أثر الحرب الكبرى -أي: العالمية- ويوجب إسقاطها من اللغة جملة، وهي كلمة: (نظام الحصر البحري) وكانت مما دخل على الفرنسيين من النكبات مع نكبة الحرب العظمى، فلما ذهبت تلك النكبات رأى المجمَّع العلمي الفرنسي أن الكلمة الإنجليزية نكبة على اللغة الفرنسية يجب التخلص منها، ورآها كأنها جندي دولة أجنبية في أرض دولة مستقلة بشارته وسلاحه وعلمه.
ثم يقول الرافعي رحمه الله وهو من كبار الأدباء الذين أنجبتهم مصر أرض الكنانة: ما ذلت لغة شعب إلا ذلوا، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار، ومن هذا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضاً على الأمة المستعمَرة، ويركَبَهُم بها، ويشعرهم عظمته فيها، فيحكم عليهم أحكاماً ثلاثةً في عمل واحد: أما الأول: فحبس لغتهم في لغته سجناً مؤبداً.
وأما الثاني: فالحكم على ماضيهم بالقتل محواً ونسياناً.
وأما الثالث: فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يضعها، فأمرهم من بعدها لأمره تبع.
إن اللغة هي صورة وجود الأمة بأفكارها ومعانيها، وهي عمقها وعاطفتها وتفكيرها، فهي نسبٌ للعاطفة والفكر، حتى أن أبناء الأب الواحد لو اختلفت ألسنتهم، فنشأ منهم ناشئ على لغة، ونشأ الثاني على أخرى، والثالث على لغة ثالثة؛ لكانوا في العاطفة كأبناء ثلاثة آباء، وإنك ترى الواحد منا اليوم -مع الأسف- الكلمة الأجنبية أسبق إلى لسانه من الكلمة العربية، وإذا أراد أن يلقي تراجعاً، وقف فترة يفكر ويبحث عن الكلمة العربية المرادفة، ويعصر ذهنه، لأن مفردات الثروة اللغوية ضعيفة، فإن اللغة الفرنسية مفرداتها حسب القاموس تقريباً خمسة وعشرون ألف كلمة، واللغة الإنجليزية بالمصطلحات وبالمولدات وبالأشياء الجديدة وما أكثرها! مائة ألف كلمة، وكلمات اللغة العربية: أربعمائة ألف كلمة، فإنك تجد للسيف أسماء عدة، حتى الكلب له في اللغة العربية أسماءً عدة، وعندهم الكلمة الواحدة تحتمل معاني كثيرة لا علاقة ولا رابطة بينها وبينها.
يذهب أولادنا إلى الخارج لدراسة اللغة الأجنبية في الخارج، وتقول له: يوجد هنا تدريس لغة أجنبية.
فيقول: لا، أنا أريد أن أسكن مع عائلة أجنبية في الخارج لأتعلم اللغة وأصبح طليق اللسان بها.
وفتح باب الهجرة إلى الغرب مثل كندا وغيرها؛ لامتصاص عقول المسلمين وعصارة المسلمين لصالحهم وتقدمهم، وإذابة المهاجرين المسلمين في مجتمعاتهم، إنها أهداف مزدوجة.
ذهب رجل مسلم مع زوجته المحجبة وأولاده إلى السفارة الأجنبية، يطلب الهجرة، فقال له الملحق في تلك السفارة بصراحة نحن لا يهمنا لا أنت، ولا زوجتك المحجبة، لا نطمع فيك ولا في زوجتك المحجبة، ولا في أولادك الذين عندهم شيء من الثقافة المشرقية، لكننا نسمح لك، لأن أحفادك لنا، ولأننا نوقن أن أحفادك لنا نحن وهكذا حصل، فماذا سيفعل الذي يترك بلاد المسلمين والعرب إلى الغرب؟ وبعضهم مضطر إلى هذا، فيذهب إلى هناك ويعلم ولده حصة في اللغة العربية في مركز إسلامي، أو معهد إسلامي، ويبقى الولد سنوات وهو يتهجى الكلمات ولسانه طلقٌ بلغة القوم، وإذا طلبت من الواحد من أولاد المبتعثين الذين عاشوا سنين في الخارج أن يتكلم بالعربية، كأنه يكسر أحجاراً، قال أحد الدعاة لبنت صغيرة من بنات هؤلاء: قولي لي حكاية في اللغة العربية.
فقالت: كانت هناك بنت، (بنت هناك كانت، وكان لها ثنتين قطز، الجمع) ثم تخلت عن العربية ولم تستطع أن تكمل الحكاية باللغة العربية، هذا هو حال أولاد المسلمين في الخارج، إنها مأساة.
جاءني رجل يسأل عن مشكلة اجتماعية، ويعترف بأنه ارتكب جرماً عظيماً عندما تزوج من امرأة أمريكية في الخارج، وقال لي: انظر إلى هذا، وكان بجانبنا رجل من الصالحين يقرئ ولده القرآن، وقال: ولدي الصغير لا يستطيع أن يقرأ مثل هذا، وهو عربي، والآن عرفت الجريمة التي أجرمتها في حق ولدي.
ولما تركنا أولادنا أمام التلفزيون مستمعين طيلة الوقت، صار الولد عاجزاً عن تركيب الجمل والتعبير، كان الأولاد في السابق يجتمعون أمام البيوت وفي الحارات، ويؤلفون قصصاً، ويتكلمون، أما الآن فإن أولادنا أمام الشاشات وألعاب الكمبيوتر، والقدرة على الكلام تلاشت، يصاب الولد بالارتباك في تفكيره وحركة أصابعه، ولم يحسن إمساك القلم بعد، ونحن ندرسه بلغتين في الروضة، ويكتب مرة من اليمين إلى الشمال، والحصة التي بعدها من الشمال إلى اليمين، فيبقى في غاية الارتباك.
يأتي العمال البنغاليون الذين قدموا إلينا، وجلسوا عشر سنين وخمس عشرة سنة، ولم يتعلموا من اللغة إلا شيئاً يسيراً، والواحد منا إذا ذهب إلى الخارج تعلم رغماً عنه، وفي مدة يسيرة (ستة أشهر) يتقن اللغة الإنجليزية والألمانية، والألماني في الشارع في ألمانيا يرفض أن يكلمك باللغة الإنجليزية ولو كان يعرفها، بل يفرض عليك أن تتكلم بالألمانية، ولائحات الشوارع واللافتات كلها بالألمانية، ولا مجال للغة الدخيلة، ولا اللغة الأجنبية عندهم، والفرنسي لا يتكلم معك بالإنجليزية، ويعتبره غزواً ثقافياً وعيباً، ونحن يأتي أخونا المسلم من الهند يعيش بيننا، ولا يتعلم إلا (أنت فيه روح، أنا فيه روح، خلي يولي) عبارات عجيبة! ويعود إلى بلده وهو لا يحسن العربية، ولا يتكلم بالعربية، ولا يكتب بالعربية، بل الأعجب من ذلك أن يأتي العامل البنغالي إلينا وهو لا يعرف لا الإنجليزية ولا العربية، لا يعرف إلا لغته الأصلية، فيرجع من عندنا وقد تكلم باللغة الإنجليزية، لأننا عودناهم، وانظر إلى أسماء الشركات (دسكو، مسكو، فسكو) وأسماء المحلات، والألفاظ التي حدثت، نعجز عن أن نقول (للتلفون) هاتف! أو للبيجر نداء! أو عن الراديو مذياع! ونحو ذلك، عندنا كلمات لكننا نحن كلمناهم وعودناهم، ورضخنا للأجنبي نتكلم معه، ولو ذهبنا إلى بلده، فلن يعترف بلغتنا إنها هزيمة وضعف ومصيبة كبيرة، وأهل العلم كانوا يرون تعزير من يروج الأشعار باللهجة العامية لقد صارت عندنا عقدة الأجنبي عقدةً عظيمةً.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى الحق رداً جميلاً، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من أهل العربية وأهل كتابه المبين، ومن أهل سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(317/6)
ميزات لغتنا الأصلية
الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، أنزل القرآن بلسان عربي مبين، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين عباد الله: إن هذه القضية من القضايا الأساسية المهمة التي ينبني عليها توحد شخصية الأمة، وفهم الكتاب العزيز، والسنة النبوية الشريفة، إنها قضية دين ومبدأ ومصير، وليست قضية هامشية، ولا جانبية، ولا فرعية.
أيها المسلمون: ما عرفنا ميزات لغتنا، ضيعنا لغتنا، لم نعرف ميزات اللغة في ثراء ألفاظها، لم نعرف ميزة الاشتقاق في هذه اللغة، إنها ميزة عظيمة فالكلمة جذر الكلمة ثم أسرة هذا الجذر، تأخذ الفعل الماضي والمضارع واسم الفاعل واسم المفعول، والصفة المشبهة، واسم الزمان، واسم المكان، واسم الآلة، واسم التفضيل، كله من كلم جذر واحد، لكن هل هذا عندهم في لغاتهم الأجنبية مثل ما عندنا؟ كلا والله! ليس عندهم ذلك.
فنحن نقول: دَرَسَ يَدْرسُ مَدْرَسةَ دَارِس مُدَرِّس، وكلها من جذر واحد، وهم يقولون: ( School - Student Wilson ) كلمات مختلفة.
ولغتنا أسهل في التعلم، وإن قالوا: عندنا اختصارات، فنقول: ونحن عندنا اختصارات، عندنا (باب النحت) في اللغة، فنحن نقول: الحمدلة، الدمعزة، البسملة، الحوقلة، وإن قالوا: إن المصطلحات العلمية تقتضي الاختصار بالأحرف، فنحن نقول: ونحن ماذا يضيرنا لو استعملنا (ص.
ب) لصندوق البريد، و (س.
ت) للسجل التجاري، و (ن.
ق) لنصف القطر في الهندسة، وهكذا استعملنا من سائر المختصرات إذا كان ولا بد أن نختصر.
وانظروا إلى تكامل حروفنا في مخارجها وتوزعها على المخارج، من أقصى الحلق إلى الشفتين في الأمام، وأطراف اللسان، واللسان ذاتها الحروف موزعةً عليها توزيعاً عجيباً، ولذلك نحن نستطيع أن ننطق سائر الحروف التي لديهم من كمال مخارجنا، ونقول: (تي وبي) لكن هل منهم من يستطيع أن ينطق بسهولة (ع، ح، غ، ق، ص، ط)؟ لا يستطيعون إلا بصعوبة، فمخارجنا أكمل من مخارجهم، ولقد قلت للعلج الذي درسني اللغة الإنجليزية مرةً: هل تستطيع أن تتنحنح؟ فقال: نعم، وتنحنح، وظهر حرف الحاء في نحنحته، فقلت له: وهل تستطيع أن تقول: محمد؟ فقال: (مهمد) وهو قد أتى قبل قليل بالحاء في نحنحته، وهو عاجز أن يقولها في كلمة.
وفي لغتنا كمال الحروف، فعندنا المفرد والمثنى والجمع، أما اللغة الإنجليزية فليس فيها المثنى، وعندنا أنتَ وأنتِ للدلالة على المذكر والمؤنث، وهم يقولون: ( You ) ولا تعرف هل يخاطب رجلاً أم امرأة، ويقولون: دكتور و ( Teacher ) ولا تعرف هل هو رجل أو امرأة، ونحن عندنا تاء التأنيث، والألف المقصورة للتأنيث، وعندنا علامات التأنيث للتفريق بين الذكر والأنثى، فلا تعجب أن يكون أولئك فيهم ظاهرة الخنوثة في لغتهم وفي أخلاقهم!(317/7)
حكم تعلُّم اللغة الأجنبية
أيها الإخوة: سيطول الكلام ولم ينفصل بعد في ذكر مزايا اللغة العربية ومقارنتها باللغة الأجنبية، ولا أرى أن الوقت يتسع لذلك، ولكنني سأختم بمسألة: إذا قال قائل: هل تريد أن تقول بتحريم دراسة اللغة الأجنبية؟ ف
الجواب
كلا -أيها الإخوة- لأننا نعرف يقيناً أننا في مرحلة استضعاف، ونقدِّر عصرنا حق قدره، ونعرف أن المراجع والجامعات والابتعاث ولغة الخطابات والشركات والكمبيوتر (الحاسب الآلي) كل ذلك باللغة الإنجليزية، ونعرف أننا نحتاج إلى تعلمها، وأننا لن نتمكن من اقتباس العلوم إلا بذلك، وعندنا الدليل على جواز تعلم اللغة غير العربية للحاجة.
روى الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده، قال زيد: (ذُهِبَ بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعجب بي، فقالوا: يا رسول الله! هذا غلامٌ من بني النجار معه مما أنزل الله عليك بضع عشرة سورة، فأعجب ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا زيد! تعلم لي كتاب يهود، فإني والله ما آمن اليهود على كتابي.
قال زيد: فتعلمت كتابهم، وما مرت بي خمس عشرة ليلة حتى حذقته، وكنت أقرأ له كتبهم إذا كتبوا إليه، وأجيب عنه إذا كتب -أي: إليهم).
إذاً: تعلم اللغة الأجنبية للحاجة جائز، ولكن الحاجة تقدر بقدرها، فإذا لم يوجد حاجة لتدريس الأطفال في الروضات فلا ندرسهم، وعلينا أن نقدر المرحلة التي يدرسون فيها، ولا مانع عندنا من أخذ الحكمة من أي مكان، ثم قد ذكرنا أن العلماء قالوا: لا بأس بالكلمة بعد الكلمة، فلو أن أحد الناس قال مرة ( Ok ) لا ننكر عليه ونقول جريمة وحرام، لكن أن تصير اللغة عادة لأهل المصر في المكاتب وفي الشوارع وفي البيوت، فتجد العرب يتكلمون مع العرب باللغة الإنجليزية دون داعٍ يصبح ذلك عادةً ومظهراً، فهذا الذي ينبغي إنكاره أيها الإخوة.
ثم ينبغي نشر اللغة العربية والكتب الشيقة السهلة للطلاب، واستخدام وسائل العرض الحديثة والمكافآت والحوافز، ومجامع اللغة العربية تعمل، وتتخذ القرارات على مستويات عليا في تعميم إنتاج المجامع العربية، وقد وجدت تجارب جيدة، لكنها لم تعمم، وكذلك ينبغي أن تعقد الدورات والدروس في المساجد وغيرها، وحتى الأب يدرب ولده وهو يمشي معه في الشارع، ويقول: اعرب لي كذا، وإذا كان الأب لا يحسن شيئاً فكيف سيربي ولده على اللغة العربية في كل جملة تمر عليه؟ إذا كانت تبدأ بفعل فابحث عن الفاعل وارفعه، وعن المفعول وانصبه، وإذا بدأت باسم فهو المبتدأ فارفعه، وابحث عن الخبر وارفعه كذلك.
ويجب أن نستخدم اللغة في كل شي، كإشارات الشوارع، ولوحات الدكاكين، والملصقات والمنتجات، ووصفات الأدوية، وغير ذلك، وكلما وجدنا سبيلاً لإشاعة اللغة أشعناها، وإذا وجدت الحاجة لدراسة اللغة الأجنبية درسناها، ولكن أن ننقل العربية إلى لغة كوريا آكلي الكلاب، فإن هناك مشروعاً لنقل اللغة الإنجليزية والمصطلحات العالمية أولاً بأول إلى اللغة الكورية، وهكذا يفعل اليابانيون وغيرهم، ونحن سادة الدنيا، ونحن أفضل أهل الأرض، وديننا أفضل الأديان، ولغتنا أفضل اللغات.
اليهود أحيوا العبرية وهي ميتة، ونبشوها من القبور عظاماً بالية، ويكتبونها على صدورهم وسيارات الإسعاف، وكل شيء تجده عندهم مكتوباً، لأنهم يريدون قومية مستقلة، ولغة مستقلة، ونحن أولى بذلك منهم.
اللهم إنا نسألك أن ترينا الحق حقاً وترزقنا اتباعه، وأن ترينا الباطل باطلاً وترزقنا اجتنابه.
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، اللهم وفق أبناءنا في اختباراتهم وامتحاناتهم، واجعلها عوناً على طاعتك يا رب العالمين، وجنبهم فيها المحرمات يا أرحم الراحمين، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.(317/8)
الغيظ المكتوم بين الظالم والمظلوم [2]
إذا وقع الظلم فتلك مصيبة تتدارك بحلول وضعها الشرع، وهذه الحلول منها ما هو بيد الظالم، ومنها ما هو بيد المظلوم، وتختلف الحلول في الأجر رتبة ودرجات، وهي مهمة يجب التعرف عليها، وفي هذه المادة تعرف بعض ذلك، فتابعها لعل الله أن ينفعك بها.(318/1)
موقف المظلوم من الظالم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، أشهد أن لا إله إلا هو الحي القيوم، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون.
الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، والحمد لله ولي المتقين، وناصر المظلومين والمستضعفين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
أيها المسلمون! لقد تحدثنا في الخطبة الماضية عن الظلم وحكمه وشدته، وأثره وعقوبته في الدنيا والآخرة، وتتمة الموضوع اليوم عن موقفنا من الظلم، ماذا يكون، وكيف ينبغي أن يكون؛ سواء بالنسبة للمظلوم أو بالنسبة للظالم أو بالنسبة لبقية الناس.
فاعلموا -رحمكم الله تعالى- أن الله عز وجل قال في كتابه: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى:40 - 43].
لقد تضمنت هذه الآيات أمرين: الأمر الأول: الانتصار من الظالم، والثاني: عفو المظلوم.
وقد عنون البخاري رحمه الله تعالى بكليهما في صحيحه، فقال: باب الانتصار من الظالم، لقوله جل ذكره: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً} [النساء:148] وقال عز وجل: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى:39] قال إبراهيم رحمه الله: كانوا يكرهون أن يستذلوا، فإذا قدروا عفوا.
أي: أن الله مدح المؤمنين بأن فيهم قوة للانتصار ممن ظلمهم واعتدى عليهم، ليسوا بالعاجزين ولا الأذلين؛ بل يقدرون على الانتقام ممن بغى عليهم، ومع هذا إذا قدروا عفوا، كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم؛ فعفا عنهم مع قدرته على البطش بهم ومؤاخذتهم ومقابلتهم بمثل صنيعهم.
وكذلك عفا النبي صلى الله عليه وسلم عن غورث بن الحارث الذي أراد الفتك به لما اخترط سيفه عليه والنبي صلى الله عليه وسلم نائم، فاستيقظ عليه الصلاة والسلام، فوجد السيف مصلتاً فوق رأسه، فانتهر الرجل، فخاف وهاب وارتعش، فوقع السيف من يده، وأخذه النبي صلى الله عليه وسلم في يده، ودعا أصحابه، ثم أعلمهم بما كان من أمره وأمر هذا الرجل وعفا عنه.
وكذلك عفا صلى الله عليه وسلم عن زينب أخت مرحب اليهودي الخيبري الذي قتله محمد بن مسلمة رضي الله عنه، والتي سمت الشاة يوم خيبر، وأكثرت السم في الذراع، فأخبره الذراع عليه الصلاة والسلام أنه مسموم، فدعاها فاعترفت، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما حملك على ذلك؟ قالت: أردت إن كنت نبياً لم يضرك، وإن لم تكن نبياً استرحنا منك، فأطلقها صلى الله عليه وسلم وعفا عنها).
ولكن لما مات بشر بن البراء صاحبه من جراء أكله السم، قتلها به صلى الله عليه وسلم قصاصاً، والآيات والأحاديث في عفو المظلوم عن الظالم كثيرةٌ، ولكنه ندبٌ لمن قدر على رد المظلمة وعن الانتقام أن يعفو، العفو مع القدرة قوةٌ في حسن وحسنات يأخذها الذي عفا من الله يوم القيامة، والله يعطي بلا حساب.
وإذا أصر على الانتقام فلا بأس بذلك وهو مباح، ومن عدل الله في البشرية أن أباح لهم القصاص، وأباح لهم أن ينتقموا بمقدار ما ظلموا، فبعد أن ذكر الله تعالى المرتبة الأولى التي هي العفو مع القدرة ذكر المرتبة الثانية وهي جواز الانتقام، فقال عز وجل: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:41] أي: ليس عليهم جناح في الانتصار ممن ظلمهم إذا أرادوا الانتقام، ولا حرج عليهم في ذلك، سواء كان الظلم كثيراً أو قليلاً، ولو كان ظلم الضرة لضرتها جاز للزوج أن يمكن المظلومة من أخذ حقها ولو كان كلاماً، كما جاء في سنن النسائي وابن ماجة من حديث خالد بن سلمة الفأفاء عن عبد الله البهي عن عروة قال: قالت عائشة رضي الله عنها: ما علمت حتى دخلت عليّ -أي: فلانة من ضراتها- بغير إذن وهي غضبى، ثم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: حسبك إذا قلبت لك ابنة أبي بكرٍ درعها، ثم أقبلت عليّ فأعرضت عنها حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (دونك فانتصري) فأقبلت عليها حتى رأيت ريقها قد يبس في فمها ما ترد عليّ شيئاً، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه.(318/2)
دعاء المظلوم على ظالمه
وأما الدعاء على الظالم فإنه جائز، وهو من باب القصاص والانتصار فلا بأس أن يدعو المظلوم على الظالم، ولكن إذا رأى أن من المصلحة له وللظالم ألا يدعو عليه دعاءً تحصل به كارثةٌ على الظالم دون منفعةٍ للمظلوم.
وأرى ألا يدعو عليه وأن يؤخر ذلك إلى الآخرة ليأخذ حقه أو يعفو ويأخذ من الله أجراً عظيماً؛ لأنه هو الأفضل في حقه، وحديث: (من دعا على من ظلمه فقد انتصر) رواه الترمذي وفيه ضعف.(318/3)
جواز أخذ المظلوم ما له من الظالم إذا وجده
ومن باب انتصار المظلوم أخذ ماله وحقه من الظالم إذا وجده، كما عنون عليه البخاري رحمه الله: باب قصاص المظلوم إذا وجد مال ظالمه، وقال ابن سيرين: يقاصه وقرأ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126] وقال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى:40] لكن يشترط في القصاص واسترجاع الحق واسترداد ما أخذه الظالم أن يكون مماثلاً لما أخذه وألا يعتدي.
ولذلك قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى:40] قال: الظالمون هم المبتدئون بالمعصية أو المجاوزون الحد في الانتقام، كمن زاد في السب، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (المستبان ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتدِ المظلوم) أي أن إثم ما قالاه جميعاً على البادئ، لأنه هو الذي بدأ إلا إذا اعتدى المظلوم، وزاد في السب، فعند ذلك يكون إثمه عليه، والحديث رواه مسلم رحمه الله في صحيحه.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً} [النساء:148] قال: لا يحب الله أن يدعو أحدٌ على أحد إلا المظلوم على الظالم.
ولو قال: اللهم انصرني عليه، وخذ لي حقي منه، فهو أحسن من الدعاء عليه بأمورٍ لا يستفيد منها المظلوم، كما إذا دعا عليه بشلل أطرافه ونحو ذلك، إلا إذا كان عدواً للإسلام وظالماً للناس لو قعد أو شُلًَّ لاستراح الناس منه، فهو يدعو عليه لمصلحة المسلمين.
أما لحقه الشخصي فإن الأفضل أن يدعو عليه بمثل قوله: اللهم انصرني عليه، وخذ لي حقي منه، فهو أحسن من الدعاء عليه بأمورٍ لا يستفيد منها المظلوم.
وكذلك من نزل بمن لم يضيفه، والضيافة واجبة وللضيف حقه، فمن نزل بمن لم يضيفه، فله أن يقول بين الناس: فلانٌ منعني الضيافة، فيكون من جواز الجهر بالسوء من القول، لأنه مُنِعَ حقه، ولذلك فلا بأس أن يُفشيه بين الناس انتصاراً ممن ظلمه بمنعه حقه، وهو الضيافة، ولكن لو سكت فهو أفضل وأحسن.(318/4)
المظلوم بين درجة العفو العليا وحقه في الانتقام
والآيات الأخيرة التي سنذكرها في آيات الظلم هي الآيات التي ذكرها الله مجتمعةً في سورة الشورى، يقول تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى:42] أي: إنما الحرج والعنت على الذين يبدءون بالظلم.
وأما عفو المظلوم فإنه مريحٌ لقلبه {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى:43] أي: من صبر على الأذى وستر السيئة، فإنه يكون قد فعل أمراً مشكوراً، وفعلاً حميداً، له عليه ثوابٌ جزيل، وثناءٌ جميل من الله تعالى؛ كما في الكلمات الحكيمة: صِلْ من قطعك، وأعط من حرمك، واعفُ عمن ظلمك.
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: إذا أتاك رجلٌ يشكو إليك رجلاً فقل: يا أخي! اعفُ عنه؛ فإن العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمل قلبي العفو، ولكن أنتصر كما أمرني الله عز وجل، فقل له: إن كنت تحسن أن تنتصر فانتصر؛ لأن بعض الناس لا يحسن الانتصار، بل يظلم ويتجاوز في الانتقام، فيقول الفضيل: أوصه فقل له: إن كنت تحسن أن تنتصر وتأخذ حقك فقط فافعل، إن كنت تحسن أن تنتصر فانتصر، وإلا فارجع إلى باب العفو، فإنه بابٌ واسع، فإن من عفا وأصلح فأجره على الله، وصاحب العفو ينام على فراشه بالليل، وصاحب الانتصار يقلب الأمور.
وصاحب العفو ينام على فراشه بالليل هادئاً مطمئناً لا يخشى أنه تجاوز، ولا يحتاج إلى التفكير في شيء، لأنه لم ينتقم أصلاً، وصاحب الانتصار يُقلب الأمور، ويكون قلقاً، ويقول في نفسه: هل يا تُرى تجاوزت؟! هل يا تُرى اعتديت؟! ونحو ذلك، وهذه المرتبة مرتبة العفو هي التي تليق بالأكابر، وهي التي ينبغي أن تكون مرتبة الدعاة إلى الله والعلماء والقدوات بين الناس كما جاء عند الإمام أحمد، عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلاً شتم أبا بكر والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعجب ويتبسم، فلما أكثر رد عليه أبو بكر بعض قوله، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام، فلحقه أبو بكر فقال: يا رسول الله! كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت، فقال عليه الصلاة والسلام: إنه كان معك ملكٌ يرد عنك، فلما رددت عليه بعض قوله وقع الشيطان، فلم أكن لأقعد مع الشيطان، ثم قال: يا أبا بكر! ثلاثٌ كلهن حقٌ: ما من عبدٍ ظلم بمظلمةٍ فأغضى عنها لله عز وجل إلا أعزه الله بها ونصره، وما فتح رجلٌ باب عطية يريد بها صلةً إلا زاده الله بها كثرة، وما فتح رجلٌ باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله عز وجل بها قلة).
وقد روى هذه القصة الإمام أبو داود أيضاً فقال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه، وقع رجلٌ بـ أبي بكر فآذاه فصمت عنه أبو بكر، ثم آذاه الثانية فصمت عنه أبو بكر، ثم آذاه الثالثة فانتصر منه أبو بكر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انتصر أبو بكر، فقال أبو بكر: أوجدت عليَّ يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نزل ملكٌ من السماء يكذبه بما قال لك، فلما انتصرت وقع الشيطان، فلم أكن لأجلس إذ وقع الشيطان) والحديث صحيحٌ بطرقه كما في السلسلة الصحيحة.
قال ابن كثير رحمه الله: وهذا الحديث في غاية الحسن في المعنى وهو مناسبٌ للصديق رضي الله عنه، لأنه في المقام العالي، فهو الذي لو وزن إيمان الأمة بإيمانه لرجح إيمانه؛ فاللائق به أن يعفو، وألا يرد، وهكذا شأن الكبار.(318/5)
ما يجب على الظالم
أما ما يجب على الظالم فإنه ينبغي عليه أولاً أن يتقي الله تعالى ويحذر من الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، وليس ظلمةً واحدة.
الظلم ظلمات يوم القيامة؛ بمعصية الظالم لربه، وظلمه لأخيه، وفتح باب الظلم للناس.
الظلم ظلمات لأنه ربما يمرض المظلوم؛ بل قد يموت كمداً وقهراً.
فعلى الظالم أن يتقي الله تعالى.
انظروا ماذا كان يفعل عمر رضي الله عنه الذي حمى أرضاً للمسلمين من أراضي أهل المدينة؛ سوَّرها وحماها، وجعلها محمية لأجل مصلحة المسلمين لرعي إبل الصدقة وإبل بيت المال وشياه بيت المال التي تُؤخذ من أصحاب بهيمة الأنعام من الزكوات، وكذلك خيل الجهاد في سبيل الله، وجعل هذه المحمية مصلحة لعموم المسلمين، ومع ذلك كان يخشى رضي الله عنه، فقد روى البخاري رحمه الله عن أسلم مولى عمر: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل مولى له يُدعى هنياً على الحمى فقال: [يا هني! اضمم جناحك عن المسلمين -انتبه أيها الغلام القائم على المحمية واكفف يدك عن ظلم المسلمين- واتقِ دعوة المظلوم فإن دعوة المظلوم مستجابة، وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة -أي صاحب القطعة القليلة من الإبل وصاحب الغنم القليلة أدخلهما في المرعى المحمي- وإياي ونعم ابن عوف ونعم ابن عفان -خصهما بالذكر لكثرة أموالهما، والنعم الإبل، وكانا من مياسير الصحابة، فقال للغلام: إذا لم يتسع المرعى إلا لأحد الفريقين فأدخل أصحاب الغنم القليلة والإبل القليلة لأنهم أولى- قال عمر: فإنهما -أي: ابن عفان وابن عوف - إن تهلك ماشيتهما يرجعا إلى نخلٍ وزرع -عندهما عوض من أموالٍ أخرى- وإن رب الصريمة ورب الغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتيني ببنيه، فيقول: يا أمير المؤمنين يا أمير المؤمنين؛ أفتاركهم أنا لا أبا لك -أتظنني أتركه في تلك الحالة- فالماء والكلأ أيسر علي من الذهب والورق -فربما يكون هناك مصارف أولى للمجاهدين والبعيدين ونحو ذلك- قال عمر: فالماء والكلأ أيسر علي من الذهب والورق، وايم الله إنهم ليرون أني قد ظلمتهم -بعض الناس يرون أني قد ظلمتهم بأرض المحمية- إنها لبلادهم؛ قاتلوا عليها في الجاهلية، وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله -فهو يحتاج إلى أرض المحمية لخيل الجهاد- ما حميت عليهم من بلادهم شبراً] رواه البخاري رحمه الله.
فليتق الله الظالم وليضع نصب عينيه دعوة المظلوم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى معاذاً فقال: (اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) رواه البخاري.
وأخبر في الأحاديث الأخرى أنها ترفع على الغمام، ويقول الله: لأنصرنك ولو بعد حين، ثم على الظالم أن يتحلل من المظلوم، كما قال عليه الصلاة والسلام: (من كانت له مظلمة لأخيه -في عرضه أو شيءٍ غير العرض كالمال وغيره- فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم؛ إن كان له عملٌ صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه) رواه البخاري.
وأوضح ذلك رواية مسلم: (المفلس الذي يأتي يوم القيامة بأشياء كبيرة من العبادات والحسنات، ويأتي وقد شتم هذا ظلماً، وقذف هذا ظلماً، وأكل مال هذا -أي: ظلماً- وسفك دم هذا -أي: ظلماً- وضرب هذا -أي: ظلماً- فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته أخذ من سيئاته، فطرحت عليه، ثم طرح في النار).(318/6)
على الظالم ردُّ الحق أو مثله إن كان له عوض
كيف يتحلل الظالم من المظلوم؟ قال العلامة السفاريني: حق الآدمي إما يكون مما ينجبر بمثله من الأموال والجراحات وقيم المتلفات أولا -أي: إما أن يكون هناك عوض لحق الآدمي المغصوب أو لا يكون له عوض، فإن كان له عوض فلا بد من رده- فإن غصب مالاً رده، وإن تلف رد مثله، وإن غصب شيئاً استعمله رده ورد الفرق، فإن تلف رد مثله كمن سرق سيارة واستعملها ونحو ذلك أو غصب بيتاً وسكن فيه رده ورد الفرق مع التوبة إلى الله عز وجل.(318/7)
ماذا يفعل الظالم إن كان الحق مما ليس له عوض؟
ولكن إذا كان لا ينجبر؟ ليس له مثيل كمن قذف شخصاً، أو فعل الفاحشة غصباً أو اغتاب أو نم، فهذه ليست معوضة بقيمة مادية، فعليه أن يندم ويقلع عن الذنب، فالذي اغتاب عليه أن يستغفر للمغتاب، والذي قذف عليه أن يكذب نفسه، والذي زنا بزوجة غيره عليه أن يحسن إلى ذلك الزوج، وإذا اغتابه استغفر له ودعا له بظهر الغيب، ولا يحتاج إلى إخباره؛ لأنه لو أخبره لربما زادت العداوة، والشريعة لا تأمر بهذا، وربما يسكت الذي اغتيب يوم القيامة إذا رأى في صحيفته استغفار الذي اغتابه، فيسكت عن المطالبة بالحق، ولعل ذلك هو السبب الذي قيل من أجله: إن عليه أن يُكثر من الاستغفار لمن اغتابه ولا يخبره -كما قال ابن المبارك: لا تؤذه مرتين- ويدافع عن عرضه في المجالس التي يُهاجم فيها، فكما أنه هاجمه يدافع عنه.
هذا الذي اغتاب، وأما الذي قذف أو زنى بزوجة غيره، فهل يلزمه الاعتراف وطلب التحلل، فالجواب يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فإن كان الاعتراف أصفى للقلوب في قضية القذف اعترف له بأنه قذفه وطلب المسامحة، وإن كانت المسألة ستزيد شراً يكتفي بتكذيب نفسه عند من قذفه من الحاضرين والدعاء للذي قذفه.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: سُئلت مرةً عن رجلٍ تعرض لامرأة غيره فزنى بها، ثم تاب من ذلك، وسأله زوجها وحقق معه، فطلب أن يحلف، فإن حلف على نفي الفعل كانت يمينه غموساً، وإن لم يحلف قويت التهمة، وإن أقر جرى عليه ما يجري عند القاضي، وجرى من الشر أمرٌ عظيم، قال: فأفتيته أن يضم إلى التوبة فيما بينه وبين الله تعالى الإحسان إلى الزوج بالدعاء والاستغفار أو الصدقة عنه ونحو ذلك مما يكون ذاباً إيذاءه له في أهله، فإن الزنا له تعلق بحق الله تعالى وحق زوجها، وليس هو مما ينجبر بالمثل كالدماء والأموال، بل هو من جنس القذف، والفقيه الذي يجمع النفوس لا يفرقها.
فعند ذلك إذا لم يعلم الزوج فعليه أن يتوب التوبة العظيمة بينه وبين الله مع الإحسان إلى من ظلمه، وإذا علم طلب منه أن يحلله، وأما الذي يغصب فإنه يرد المغصوب، فإن مات صاحب المال، رده إلى ورثته، ولكن يبقى شيء، وهو حق صاحب المال في الانتفاع به في المدة التي غصب فيها المال، فماذا يفعل؟ فإنه يحسن إلى ذلك الرجل بالدعاء له والصدقة عنه ونحو ذلك؛ لعل هذا الرجل إذا جاء يوم القيامة ورأى في صحيفته استغفاراً وأجراً من الذي غصبه المال يسكت عن المطالبة بحقه، ولا يقول: رب ظلمني بأخذ مالي، وحرمني من الانتفاع منه في بقية عمري؛ أداه إلى ورثتي لكنه حرمني من الانتفاع به بقية عمري، فلعله يسكت إذا رأى في صحيفته استغفاراً وحسناتٍ من الذي ظلمه، هذا شيءٌ مما يتعلق بأحكام تحلل الظالم من المظلوم، نسأل الله تعالى أن يعافينا.
اللهم عافنا من الظلم، وباعد بيننا وبين الظلم يا رب العالمين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، وأفسحوا لإخوانكم يفسح الله لكم.(318/8)
موقف الناس من الظالم والمظلوم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً رسول الله الصادق الوعد الأمين، صلى الله عليه وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
ها قد عرفنا -أيها الإخوة- ما هو موقف المظلوم، وما هو موقف الظالم؛ فما هو موقف بقية الناس؟ قال صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقال رجلٌ: يا رسول الله! أنصره إذا كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره؟! قال: تحجزه عن الظلم فإن ذلك نصره) رواه البخاري.
وعن البراء قال: (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبعٍ -ومنها- ونصر المظلوم).
وقال صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه) أي: لا يتخلى عنه ولا يتركه إلى الظالم، ولا يتركه إلى من يؤذيه؛ بل ينصره ويدفع عنه الظلم.
إذاً لا بد من الوقوف بجانب المظلوم، فيأثم من عرف بالمظلوم وقدر على نصرته ولم ينصره، لأن نصرة المظلوم واجب، وحرام على من رأى أخاه المسلم مظلوماً وهو قادرٌ على نصرته أن يتركه ويسلمه ولا يمنع عنه الظلم.
ويجب كذلك كف يد الظالم كما قال أبو بكر رضي الله عنه في الحديث الحسن الذي رواه الترمذي: يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] وإني سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقابٍ منه) والأخذ على يديه إذا لم يفد معه القول، فإذا قدر وقوي على منعه ولو بالقوة منعه.
ولا شك أن على صاحب السلطان من هذا الواجب النصيب الأكبر، وعلى كل صاحب سلطةٍ -مثل رجل الأمن مثلاً- واجبٌ عظيم في هذا المجال، وإذا نصر المظلوم نصره الله يوم القيامة، والمحتسب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر إذا نصر المظلوم ينصره الله يوم القيامة.(318/9)
على الناس ألا يعينوا الظالم
وأما إعانة الظالم فهي من المصائب العظيمة، فمن الواجب على الناس أن يقولوا للظالم: يا ظالم! ويعرفوه بأنه ظالم ويمتنعوا عن إعانته، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من أعان الظلمة لا يرد عليه الحوض، فالذي يُعين الظلمة يحرم من ورود حوض النبي صلى الله عليه وسلم، كما جاء ذلك في الحديث الصحيح، وينبغي على الناس كذلك ألا يقلدوا الظلمة في الظلم، ولا يقولوا: إن ظلم الناس ظلمنا، وإن أحسنوا أحسنا ويوطنوا أنفسهم إن أحسن الناس أن يحسنوا وإذا أساء الناس أن يتجنبوا إساءتهم.
وعلينا بدعاء الله تعالى كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (واجعل ثأرنا على من ظلمنا) حديثٌ حسن رواه الترمذي، وكان يقول عليه الصلاة والسلام: (وانصرني على من يظلمني وخذ منه بثأري) رواه الترمذي وهو حديثٌ حسن، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: (اللهم إني أعوذ بك أن أظلم أو أظلم) وهذا من دعائه عند خروجه من البيت.(318/10)
على الناس ألا يتعصبوا على الباطل
وبعض الناس تأخذه العصبية فيعين صاحبه أو قريبه أو من هو من قبليته على الطرف الآخر، وانظروا إليهم في حوادث السيارات، وكيف يفعلون في وقوفهم بغض النظر عن الظالم والمظلوم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من أعان قومه على ظلمٍ فهو كالبعير المتردي ينزع بذنبه) رواه أبو داود وهو حديثٌ صحيح.
ولينظر المسلم -أيها الإخوة- في ميتة المظلوم، وبعض الناس يحتقرها، لكنها عظيمة عند الله، روى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما امرأةٌ فيمن كان قبلكم تُرضع ابناً لها، إذ مر بها فارسٌ متكبرٌ عليه شارةٌ حسنة، فقالت المرأة: الله لا تمت ابني هذا حتى أراه مثل هذا الفارس على مثل هذا الفرس، قال: فترك الصبي الثدي، ثم قال: اللهم لا تجعلني مثل هذا الفارس، قال: ثم عاد إلى الثدي يرضع، ثم مروا بجيفة حبشية أو زنجية تجر فقالت: أعيذ ابني بالله أن يموت ميتة هذه الحبشية أو الزنجية، فترك الثدي فقال: الله أمتني ميتة هذه الحبشية أو الزنجية! فقالت أمه: يا بني سألت ربك أن يجعلك مثل هذا الفارس فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، وسألت ربك ألا يميتك ميتة هذه الحبشية أو الزنجية، فسألت ربك أن يميتك ميتتها، فقال الصبي: إنك دعوت ربك أن يجعلني مثل رجلٍ من أهل النار، وإن الحبشية أو الزنجية كان أهلها يسبونها ويضربونها ويظلمونها فتقول: حسبي الله! حسبي الله!) رواه الإمام أحمد، ورجاله ثقات، وأصل القصة في الصحيح.(318/11)
المؤمن كيس فطن لا يَخدع ولا يُخدع
وكل ما تقدم لا يمنع الإنسان أن يكون فطناً وألا يُخدع بشخصٍ يدعي الظلم، فالمؤمن لا يخدع ولا يُخدع، وليس كل من تظاهر بأنه مظلوم كان كذلك، كما في الحديث الصحيح الذي رواه مالك في الموطأ أن رجلاً من أهل اليمن أقطع اليد والرجل قدم، فنزل على أبي بكر الصديق أثناء خلافته، فشكا إليه أن عامل اليمن -أمير أبي بكر الصديق على اليمن - قد ظلمني، فكان يصلي من الليل فيقول أبو بكر: وأبيك ما ليلك بليل سارق، ثم إنهم فقدوا عقداً ل أسماء بنت عميس -امرأة أبي بكر الصديق - فجعل هذا الرجل المقطوع اليد والرجل يطوف معهم -يبحثون عن العقد- ويقول: اللهم عليك بمن بيّت أهل هذا البيت الصالح، فوجدوا الحلي عند صائغٍ زعم أن الأقطع جاءه به، فأخذوه فاعترف به الأقطع أو شهد عليه به، فأمر به أبو بكر الصديق فقطعت يده اليسرى وقال أبو بكر: [والله لدعاؤه على نفسه أشد عندي عليه من سرقته].
فكذلك المؤمن لا يُخدع، ويأخذ الأمر بالظاهر، ويحمل أمر الناس على أحسنه، لكن إذا ظهرت الريبة تعامل المعاملة الصحيحة.
نسأل الله تعالى أن يعيذنا من الظلم، اللهم انصرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من بغى علينا، وخذ بثأرنا منه يا رب العالمين، اللهم إن اليهود قد ظلموا المسلمين، اللهم صب عليهم سوط عذابك، الله اجعل أموالهم وديارهم إرثاً للمسلمين.
اللهم عجل بالانتقام منهم يا رب العالمين، اللهم أفشل خططهم، اللهم أفشل خططهم، اللهم كما أفشلت خطتهم فأفشلها مراراً وتكراراً يا رب العالمين.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.(318/12)
مصيبة عام 2000 [2]
لقد بلغ اليهود والنصارى من التمكن المادي ما لا يخفى، وهم يعدون للاحتفال بمسيحهم المزعوم، والمسلمون غافلون عما قد ينتج عن ذلك من أحداث، وفي هذه المادة تحدث الشيخ عن أحكام تهم المسلم تجاه المكر اليهودي، وحكم أعيادهم والتعامل معهم.(319/1)
المستقبل للإسلام
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فقد تحدثنا في الخطبة الماضية عن بعض اعتقادات اليهود والنصارى المتعلقة بقرب نهاية الألفية الثانية, وكيف بنوا بعض ما سيفعلون على أساطير وعلى عبارات أخذوها من العهدين القديم والجديد بزعمهم, بعضها مما حرفوه وبعضها مما أُسيء فهمه، أو يساء تطبيقه من قبلهم, ولا يخلو من هذا أو هذا وإلا فإن المستقبل للإسلام, وقد أخبرنا الله عنهم أنهم قد حرفوا كتبه فقال: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79].
وإذا كانوا يعتمدون على أمور محرفة، وتنبؤات كهنة وعرافين وغير ذلك, فإننا ولله الحمد لا نعتمد إلا على ما هو صحيح كل الصحة، مما جاء في القرآن والسنة النبوية الصحيحة, واليهود والنصارى يحركون بالأساطير ويتحركون إلى عالم الحقيقة، ويزيدهم افتتاناً ما حصل لهم من القوة المادية في هذا الزمان, ويستعملون النبوءات لنصرة دينهم, و {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد:38] {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:21].
ومهما طغى هؤلاء فإنه سيأتي الوقت الذي يقصم الله فيه ظهورهم, لأن الله قد كتب على اليهود الذل حيث قال سبحانه: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} [آل عمران:112].
وهذا الاستثناء المذكور في الآية: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران:112] قد قام لهم في هذا الزمان؛ فإذا انقطع ذلك الحبل رجعوا مرة أخرى إلى ما كانوا فيه من الذل والمسكنة ولا شك, فهذه المرحلة بالنسبة لهم مرحلة عابرة، وهؤلاء القوم في هذا الزمان يأتون بتلك النبوءات التي لا ندري عن مصادرها الحقيقية, ويعملون على تحقيقها، ويؤسسون الجمعيات واللجان والمؤسسات لتجعل من هذه النبوءات واقعاً, فبأي شيء قابلنا نحن المسلمين هذه الاستعدادات من قبلهم.(319/2)
اليهود يعملون بجد لتحقيق أهدافهم وأساطيرهم
إن عدداً من المسلمين، بل الأكثر لا يدرون شيئاً عما يحيكه اليهود والنصارى من المؤامرات, وعدد آخر من المسلمين اتجهوا إلى الاستسلام للواقع بهذا الذل الذي صاروا فيه, وبعضهم صار يعتمد على أخبار آخر الزمان في الهروب من الواقع البائس الذي يعيش فيه, ويقرأ بعض المسلمين تآليف فيها مجازفات علمية، وتطبيقات سخيفة على الواقع, ثم يتم الهروب من الواقع البائس عبر هذه الأشياء المقروءة، كالكتاب المسمى بـ عمر أمة الإسلام وقرب ظهور المهدي عليه السلام , فيكون قصارى الأمر الاكتفاء بمعرفة قرب نهاية العالم وظهور المهدي.
ويا ترى ماذا فعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي قال لهم: (بعثت أنا والساعة كهاتين) وقال: (إن كادت لتسبقني) ماذا فعلوا عندما عرفوا قرب قيام الساعة: هل توقفوا عن العمل؟ هل توقفوا عن الدعوة؟ هل توقفوا عن الجهاد؟ هل استسلموا؟ كلا.
وإنما قاموا يعملون بجد ونشاط لنشر الإسلام في الأرض وهذا هو واجبنا.
أما الاستسلام والقول بأننا ننتظر المهدي عليه السلام ونقعد, فليس هذا لعمر الله من دين الإسلام في شيء, والأئمة العظام كالإمام أحمد رحمه الله وغيره من أئمة أهل السنة رووا أحاديث المهدي, ولم ينقل عنهم حتى تحري تطبيقها والتنقيب عن زمانها, وبعض المسلمين اليوم مشغولون غاية الشغل بقضية وقت ظهوره، أو وقت نهاية العالم وخرابه, فنقول: بأي شيء تعبدنا الله؟ أليس بعبادته والعمل لدينه؟ ألا نستحي ونخجل عندما نرى الكفار الذين لا مستقبل لهم في منظورنا الشرعي يعملون ويجتهدون في تحقيق نبوءات محرفة, ونحن عندنا الأصول ونسكت ونقعد!! أيها الإخوة: لقد سبق الكلام عن شيء من أساطير هؤلاء والتي من أهمها قيام دولتهم التي يعبرون عنها بحسب ما عندهم للاستعادة الأبدية لأرض كنعان من قبل شعب اليهود, وقد تحقق لهم قيام هذه الدولة بغض النظر عن صحة النبوءات والأقوال التي عندهم, لكنهم عمدوا على تحقيق هذه النبوءات في الواقع, ثم احتلال القدس وجعلها عاصمة موحدة لدولتهم؛ لأن في التلمود نصاً يقول بزعهم: أن القدس ستتوسع في آخر الزمان حتى تصل إلى دمشق , وسوف يأتي المنفيون ويقيمون خيامهم فيها, وكذلك هي عندهم المكان الذي سيفيض الخير من السماء, ومنها يوزع على بقية العالم, فقام هؤلاء اليهود بتطبيق ذلك عملياً بغض النظر عن صحة هذه النصوص كما قلنا, لكنهم عملوا هذا هو الشاهد.
وكذلك أعادوا ويعيدون بناء هيكل سليمان المزعوم الذي سيقيمونه على أنقاض المسجد الأقصى, وهذه هي المرحلة الثالثة، مرحلة بناء الهيكل الذي يقول فيه أحد طواغيتهم المعاصرين: لا قيمة لإسرائيل بدون القدس، ولا قيمة للقدس بدون الهيكل.
فإذا أقاموا الدولة ثم احتلوا القدس -وهم الآن على أعتاب إقامة الهيكل- فإنهم قد نجحوا في إقناع النصارى أن مصلحتهم أن تقام دولة يهود، وأن يتخذوا القدس عاصمة لهم, وراجت هذه القضية جداً حتى ساند النصارى اليهود في قضية احتلال القدس، وجعلها بالتدريج عاصمة ومسكناً لهم.
ومن الأمور التي اشتبكت بين اليهود والنصارى في القضية: أن الإنجيليين يقولون: بأن المعركة الأخيرة ستكون في سهل صغير في فلسطين الذي يسمى بـ سهل مجيدو وينسبون إليه حصول معركة هرمجدون المشهورة عندهم, ويروجون الآن أنها بين النصارى والمسلمين، وينشرون الأفلام السينمائية الكثيرة التي أنتجت حول هذا الموضوع, وبنى اليهود السور، وقضية الشمعدان السباعي، والتابوت الذي يقولون بأنه لا يعرف مكانه إلا نفر قليل منهم في أثيوبيا , والمذبح قد عمل, والبقرة الحمراء قد ولدت، وخيمة العهد قد نسجت, وهكذا قاموا بتنفيذ النبوءات التي لديهم, ولسنا ننكر أن بينهم تيارات متعارضة فعندهم هؤلاء الذين يسمون بالأصوليين بالإضافة إلى العلمانيين وبينهم تضاربات, يعملون على خطين ولكن في النهاية المسلمون هم الضحية وهم المستهدفون, فالأصوليون يريدون إعادتها بالقوة, وهدم الأقصى وبناء الهيكل بالقوة وطرد المسلمين بالقوة من القدس , وأما الآخرون فإنهم يرون إقامة ذلك بالسلام وكذلك يهدفون إلى احتلال منطقتنا اقتصادياً والهيمنة عليها تكنولوجياً، وفي النهاية الهدف هو السيطرة على المسلمين.
قال ابن القيم رحمه الله معلقاً على بعض ما لديهم: "ومن تلاعبه بهم -أي: من تلاعب الشيطان باليهود- أنهم ينتظرون قائماً من ولد داود النبي, إذا حرك شفتيه بالدعاء ماتت جميع الأمم, وأن هذا المنتظر بزعمهم هو المسيح الذي وعدوا به, وهم في الحقيقة إنما ينتظرون مسيح الضلالة الدجال, فهم أكثر أتباعه, والأمم الثلاث تنتظر منتظراً يخرج في آخر الزمان فإنهم وعدوا به في كل ملة" إذاً: كل من المسلمين والنصارى واليهود ينتظرون منتظراً في آخر الزمان, لكن اليهود والنصارى يعملون لنصرة هذا الذي سيخرج فيهم كما يزعمون, والمسلمون مع الأسف قاعدون لا يعمل منهم إلا النفر القليل, وبعضهم كما قلنا يخدرون أنفسهم بالقراءة في بعض نبوءات المستقبل, وتطبيقات سخيفة للنصوص على الواقع, فأين ما أمر الله به من العمل للإسلام والقيام بحمله، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف:44].
إن هناك خشية من شن المتطرفين من اليهود -وكلهم متطرفون ولكن في اتجاهات شتى- بهجمات على المساجد الإسلامية في نهاية الألفية, والقيام بتدمير المسجد الأقصى؛ لإقامة الهيكل، والعلمانيون منهم يخشون من ذلك؛ لأنه يؤدي في نظرهم إلى تفجير المنطقة، وقيام حرب ليست محسوبة النتائج بالنسبة لهم, وهم يفضلون أن يهيمنوا بالسلم -بزعمهم- هيمنة اقتصادية ومالية وتقنية، ولذلك فقد حذر هؤلاء من بني قومهم من القيام بشيء من العنف، ليس لأجل سواد عيوننا, وإنما لأنهم يرون أن هذا استعجال, وما الذي سيحدث؟ الله أعلم بذلك.
هل سينتصر الأصوليون والإنجيليون من اليهود والنصارى ويحققون ما يقولون عنه بالقوة، ويهدمون الأقصى، ويقيمون الهيكل؟ الله أعلم بذلك.
وإذا حدث فهو شر في الظاهر، ولكنه قد يكون خيراً من جهة اشعال جذوة الجهاد في سبيل الله، وقيام المسلمين بالحمية حينئذٍ, أو أن الذي سيحدث هو أن يكسب العلمانيون منهم الجولة في قضية السيطرة على الموقف بالسلام والتعايش بين أهل الملل كما يقولون، وهؤلاء الذين ينادون بالإخاء العالمي, والسلام العالمي, والملة الإبراهيمية, ويريدون تحطيم عقيدة: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] وتحطيم عقيدة: (ما من يهودي ولا نصراني يسمع بي ثم لا يؤمن بي إلا أدخله الله النار) وتحطيم عقيدة: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود:17].
فهؤلاء على أي حال يريدون تحطيم المسلمين سواء كان بالعنف أو باللين, ونحن ينبغي علينا أن نعود إلى ربنا وأن نقوم بحقه علينا, وأن نعلم ماذا يريد أولئك القوم أن يفعلوا وأن نعد أنفسنا إعداداً عقدياً وإيمانياً وعلمياً ونفسياً لأي طارئ.(319/3)
احتفال النصارى بالعيد الألفي
أيها الإخوة: إن هذه الألفية التي سيحتفلون بها هي عيدهم وليس لنا به شأن على الإطلاق, ولكن مع الأسف! يشارك كثير من المسلمين الكفرة بالاحتفال في الأعياد, وإذا كنا نرى مشاركة أبنائنا وبناتنا في عيد الحب (الفلنتاين) أو في (الهلوين) أو في رأس السنة أو في غير ذلك من أعياد الكفار, فكيف سيكون الحال في هذا العيد القادم الذي هو عندهم عيد ألفي, عيد كبير وعظيم وضخم, قد حشدوا له من الإمكانات العظيمة لنقله وتعميمه على العالم، وإذا كان كثير من المسلمين قد اغتروا ببهرج أعداء الله وخاصة النصارى في أعيادهم الكبرى، كالكرسمس، وعيد رأس السنة الميلادية, ويحضرون احتفالات النصارى بها في بلادهم ويسافرون إليهم, وبعض المسلمين ينقلونها إلى بلادهم ويقيمونها، فإن البلية الكبرى والطامة العظمى -أيها الإخوة وهذا هو الشاهد الكبير من الموضوع- ما يجري حالياً من استعدادات عالمية على مستوى النصارى للاحتفالات الكبرى بنهاية الألفية الثانية، والدخول في الألفية الثالثة، وإذا كانت الأرض تعج باحتفالات النصارى في رأس كل سنة ميلادية فكيف سيكون احتفالهم بنهاية هذه الألفية؟! إن هذا الحدث سيحولونه إلى مناسبة ضخمة جداً، لن يحتفلوا به في قبلة ديانتهم الفاتيكان؛ بل سينقلونه إلى بيت لحم في بلاد المسلمين, وسينتقل إليها أئمة النصارى من جميع الأنواع: الإنجيليون منهم، والمعتدلون بزعمهم، والعلمانيون؛ لإحياء تلك الاحتفالات الألفية التي تنشط جميع الوسائل المرئية والمسموعة للحديث عنها في هذه الأيام, إن هؤلاء الملايين الذين يتوقع حضورهم إلى ذلك المكان برئاسة يوحنا بولس الثاني، كبير الشرك النصراني في هذا الزمان، إلى موقع الاحتفال بتعميد المسيح بزعمهم، حيث عمده يوحنا المعمدان -أي: يحي عليه الصلاة والسلام- في نهر الأردن سيشارك فيه كثير من المسلمين مع الأسف الشديد، بل إن الحجوزات من قبل المسلمين في هذه المناسبة قائمة على قدم وساق، سينتظرون نهاية الشهر الكريم أو قبل نهاية الشهر الكريم للانطلاق إلى تلك الاحتفالات الشركية والكفرية التي حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم منها أشد تحذير, وأخبر الأمة أنها ستتبع من كان قبلها من اليهود والنصارى حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب ستدخله هذه الأمة وراءهم.(319/4)
حكم هذه الأعياد في الشريعة الإسلامية
إن هذه الأعياد التي جاء التحذير منها في الكتاب العزيز وفي السنة النبوية والتي اعتنى الشارع الحكيم اعتناء بالغاً بتبيين بطلانها، وتحريم احتفالنا معهم بها, سيخالف هذا الحكم كثير من المسلمين، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لكل قوم عيد وهذا عيدنا أهل الإسلام) فكيف يجوز لنا أن نشارك غيرنا باحتفال شركي, احتفال هو من ميزات تلك الأمة الضالة التي أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عنهم بقوله: (اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضُلاّل).
أيها المسلمون! إن القضية تحتاج بحق إلى استعداد عقدي لتلك المواجهة, وإن المسألة تحتاج منا بحق إلى وقفة جادة في طريق التشبه بالكفار لقطعه, فقد أصبح التشبه بالكفار من أمراض المسلمين في هذا الزمان, نسأل الله عز وجل أن يرزقنا اعتقاد صحيحاً, وأن يباعد بيننا وبين التشبه بالضالين والمغضوب عليهم, وأن يجعلنا سلماً لأوليائه وحرباً على أعدائه, نعادي من عادى الله، ونوالي من والى الله, أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(319/5)
حكم مشاركة الكفرة في أعيادهم
الحمد لله معز من أطاعه، ومذل من عصاه, وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له, شرع لنا من الدين ما رضي به سبحانه وتعالى، وصلى الله وسلم على محمد بن عبد الله, وأشهد أنه رسول الله، صاحب لواء الحمد، والمقام المحمود، والشفاعة العظمى يوم الدين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: إن ربنا عز وجل قد قال في محكم تنزيله: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجا} [المائدة:48] وقال سبحانه وتعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج:67] أي: عيداً يختصون به, ولذلك فإنه لايجوز لنا مطلقاً أن ندخل في أعيادهم ونحضرها ونهنئهم بها, أو نقبل تهنئتهم لنا بأعيادنا, وكذلك ليس لنا أن نشاطرهم فرحة، ولا أن نشاركهم بهدية، ولا أن نهنئهم تهنئة، ولا أن نقبل منهم تهنئة, ولا أن نحضر لهم مجلساً لعيدهم أبداً, لأنه رمز كفرهم، وقضية الأعياد، قضية عقدية دينية وليست قضية عامة من قضايا العادات والتقاليد, وإن ظن ذلك بعض من لا علم لديه.
عباد الله: إن المسلم الغيور ليحذّر أهله وأطفاله من أي نوع من أنواع الفرح أو المشاركة بأعياد أولئك القوم, ونحن نعلم أننا في آخر الزمان، وأن طغيان الكفرة قد حصل, ورقة الدين عند المسلمين قد حصلت, ولكن لا يجوز لنا الاستسلام أبداً, لقد ألف علماؤنا الكتب الكثيرة في بيان تحريم مشابهة الكفار في أعيادهم -كتباً مستقلة أو فصولاً في كتب- وقد ألف شيخ الإسلام رحمه الله كتابه العظيم، إقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم , وألف الذهبي رحمه الله رسالته: تشبيه الخسيس بأهل الخميس ويقصد بأهل الخميس أولئك الضلاّل من النصارى الذين يحتفلون به، وما حدث من تشبه بعض المسلمين بهم في ذلك المقام.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه بعد أن عد أموراً من احتفالاتهم: وإنما عددت أشياء من منكرات دينهم لما رأيت طوائف من المسلمين قد ابتلي ببعضها، وجهل كثير منهم أنها من دين النصارى الملعون هو وأهله -ويقصد الدين المحرف طبعاً- ولست أعلم جميع ما يفعلونه، وإنما ذكرت ما رأيت من المسلمين يفعلونه وأصله مأخوذ عنهم.
وبعض أعيادهم تحول في العصر الحاضر إلى اجتماع كبير له بعض خصائص عيدهم القديم، يشارك كثير من المسلمين في ذلك دون علم, أعياد مأخوذة من الكفرة، كأولمبيات اليونان، ومهرجانات الفرس، وكثير من المسلمين يتشبهون في قضية المهرجانات بتلك الأعياد المجوسية، مع أن هذه اللفظة جاءت من قبل أولئك المجوس الكفرة، هي أعيادهم يطلقون عليها مهرجانات.
وكما قلنا -أيها الإخوة- فإن أولئك النصارى الذين قد أعدوا العدة لاحتفالهم الكبير في هذا الوقت قد ملئوا الدنيا ضجيجاً, ويريدون منا أن نشاركهم باسم الإنسانية تارة، وباسم العولمة تارة وباسم الكونية تارة، وباسم التآخي بين الأديان تارة، وباسم الانفتاح على الطرف الآخر وتلقي ثقافته تارة, وباسم السِلم العالمي تارة، وباسم الملة الإبراهيمية تارة، وهكذا يريدون أن يضيعوا تميّز المسلم بعقيدته, يريدون أن يفقدونا المبدأ المذكور في قوله تعالى: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال:42] فيريدون منا أن نضيع البينة، وأن نفقد البينة وأن نغتر وننخدع.
إن هذه الاحتفالات التي ستنقل بالصوت والصورة الحية من أقصى الأرض إلى أدناها ستقوم بها وسائل إعلامهم، وهي أقوى وأقدر مما عند المسلمين بكثير, وستشارك في ذلك القنوات الفضائية، ستنقل مناسبات الكفر كعيد ميلاد المسيح الذي يسمى بالكرسميس في الخامس والعشرين من ديسمبر، وبعده بقليل عند الأقباط, يجددون فيه الذكرى بزعمهم، ويقدمون الهدايا في العيد، كانوا يسمونها باسم القديس نيكولس ثم حَلَّ البابا نويل محل القديس نيكولس، فتنتشر هدايا الأطفال في المتاجر والمحلات ويُدخلها المسلمون.
أطفالهم يعرفون جيداً من هو بابا نويل وهداياه فلا حول ولا قوة إلا بالله, ونصارى فلسطين من القديم يجتمعون ويتجاورون ليلة عيد الميلاد في بيت لحم؛ لإقامة قدّاس منتصف الليل, ومن شعائرهم احتفالهم بأقرب يوم أحد ليوم الثلاثين من نوفمبر, وهو عيد القديس أندرواس بزعمهم, أول أيام قدوم المسيح عليه السلام عندهم, ويصل العيد ذروته بإحياء قداس منتصف الليل، وتزين الكنائس، ويغني الناس أغاني عيد الميلاد، تباً لهم يدخلون المعازف وآلات اللهو في دور عبادتهم، ويتقربون إلى الله بزعمهم بالأغاني والموسيقى والاعتقادات الباطلة, كإحراق كتلة من جذع شجرة عيد الميلاد.
ثم يحتفظون بالجزء غير المحروق, يقولون: إن ذلك يجلب الحظ, وعيد رأس السنة تحتفل به الطوائف عندهم، تنقل الاحتفالات وستستحوذ على معظم الأخبار والبرامج التي تبث، والنصارى في تلك الليلة لهم خرافات كثيرة, وهم الذين يوصفون بصناع الحضارة الحديثة، ولكن يقولون: الذي يحتسي آخر كأس من قنينة الخمر بعد منتصف تلك الليلة سيكون سعيد الحظ، وإن كان عازباً فسيتزوج الأول من رفاقه في تلك السهرة.
ومن الشؤم دخول منزل ما يوم عيد رأس السنة دون أن يحمل المرء هدية، ويعتقدون بأن كنس الغبار إلى الخارج ليلة يوم رأس السنة يكنس معه الحظ السعيد, وأن غسل الثياب والصحون في ذلك اليوم من الشؤم, وغير ذلك من الاعتقادات الباطلة.(319/6)
التحذير من مشاركة النصارى في احتفالاتهم
أيها المسلمون! لقد جاءت الأخبار بأن الأقمار الصناعية تستعد لبث احتفالات ذلك اليوم بدءاً من الثالث والعشرين من ديسمبر ويمتد حتى التاسع من يناير, بزعمهم أو بزعم النصارى العرب أنهم سيأخذون في الحسبان احتفالات الأرمن واحتفالات المسلمين بعيد الفطر.
إذاً هم سيؤخرون مدة الاحتفال أو يطيلون مدة الاحتفال لكي يستطيع المسلمون بعد الصيام وعيد الفطر أن يشاركوهم في ذلك، وستقوم شركات التكنولوجيا المتطورة بتقديم أحدث إنتاجها من عروض الليزر على جدران الأبنية العالية، وستقام الشاشات الرقمية العملاقة التي ستنقل احتفالات العالم لحظة بلحظة على مدار الساعة، وهكذا تقدم تلك الاحتفالات على الملأ, وسيراها أبناء المسلمين وأطفالهم ويقولون: نراعي وجود خيمة إفطار رمضانية، ونمنع شرب الخمر حولها, وبعد ذلك ماذا سيحدث في الليل إذا انتهى الإفطار؟ وماذا سيحدث بعد عيد الفطر؟ وقد وصلت أسعار وجبات العشاء في ذلك اليوم إلى مبالغ خيالية ومما يتوقعون حدوثه أيضاً: ازدياد حالات الانتحار إلى عشرة أضعاف في رأس السنة وبعض طوائف النصارى يعدون العدة لعمل ما في أرض فلسطين وقد باعوا ممتلكاتهم وذهبوا إلى هناك، ولعلهم يريدون القيام بهجوم أو انتحار جماعي، ولكل مذهب كفر طريقة يعبر بها عن احتفالاته أو عن إتيانه هذه المناسبة لديه.
أيها الإخوة: إننا سنرى ونسمع -إن عشنا- أموراً كثيرة من الكفر والضلال، ومن الخنا والفجور، والفحشاء والسكر والعربدة, ونسأل الله أن يحفظنا ويحفظ بلادنا وسائر المسلمين من كل سوء.
اللهم اجعلنا في بلادنا آمنين مطمئنين, اجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً بعقيدته ودينه, اللهم ارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر, اللهم إن نعوذ بك من التشبه بالكفار, ونعوذ بك من الخزي في دار البوار يا عزيز يا غفار, اللهم اغفر ذنوبنا واغسل حوبتنا إنك سميع الدعاء.
اللهم إنا نسألك في مقامنا هذا، في هذا الموقف العظيم، والساعة العظيمة، واليوم المبارك أن تخزي الروس والنصارى يا رب العالمين، اللهم ابطش بهم، اللهم أنزل بهم عذابك الذي لا يرد عن القوم المجرمين, أنزل بهم بأسك، وفرق شملهم، وشتت جمعهم، وزلزل الأرض من تحتهم، وأنزل عليهم عذاباً من فوقهم, وأرنا فيهم عجائب قدرتك, اللهم قتّلهم تقتيلاً، وشردهم تشريداً، اللهم قض دولتهم، اللهم اهدم ملكهم، اللهم اهزم جيوشهم، اللهم إنهم فتكوا بإخواننا في الشيشان وأنت على كل شيء قدير, اللهم إنك العزيز الجبار وهم لا يعجزونك, اللهم إنهم لا يعجزونك، اللهم فخذهم أخذ عزيز مقتدر, اللهم انصر إخواننا المستضعفين في الشيشان، واجمع كلمتهم على الحق والإيمان يا رحيم يا رحمن, اللهم سدد رميتهم، ووحد صفوفهم، واجمع كلمتهم على التوحيد يا أرحم الراحمين.
عباد الله: بعد كل ما سمعنا يجب علينا وعلى كل فرد منا أن يُحذر مما سيحتفل به النصارى واليهود، وأن يستعمل التوعية في تحذير إخوانه من مكرهم، إن هذا واجب علينا، وعلينا التصدي لأي محاولة منهم لإدخالنا في احتفالاتهم، وأن نكون على يقظة تامة ووعي كامل بما سيفعلونه, إنهم يوزعون أناجيلهم ويدعوننا لكفرهم ليلاً ونهاراً , ويريدون أن نشاطرهم في احتفالاتهم ولكننا أصحاب عقيدة، وأصحاب مبدأ، وأصحاب دين، إننا مسلمون أولاً ونسأل الله أن يثبتنا على ذلك إلى آخر الحياة.
فهذه المسئولية مسئوليتنا جميعاً ونحن على مقربة من شهر رمضان نسأل الله عز وجل أن يرزقنا بلوغه، وأن يتم علينا النعمة بصيامه وقيامه, وأن يجعلنا قبله وبعده من التائبين ومن عتقائه من النار, سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(319/7)
الأسئلة
أيها الإخوة: إن هذه الألفية التي سيحتفلون بها هي عيدهم وليس لنا به شأن على الإطلاق, ولكن مع الأسف! يشارك كثير من المسلمين الكفرة بالاحتفال في الأعياد, وإذا كنا نرى مشاركة أبنائنا وبناتنا في عيد الحب (الفلنتاين) أو في (الهلوين) أو في رأس السنة أو في غير ذلك من أعياد الكفار, فكيف سيكون الحال في هذا العيد القادم الذي هو عندهم عيد ألفي, عيد كبير وعظيم وضخم, قد حشدوا له من الإمكانات العظيمة لنقله وتعميمه على العالم، وإذا كان كثير من المسلمين قد اغتروا ببهرج أعداء الله وخاصة النصارى في أعيادهم الكبرى، كالكرسمس، وعيد رأس السنة الميلادية, ويحضرون احتفالات النصارى بها في بلادهم ويسافرون إليهم, وبعض المسلمين ينقلونها إلى بلادهم ويقيمونها، فإن البلية الكبرى والطامة العظمى -أيها الإخوة وهذا هو الشاهد الكبير من الموضوع- ما يجري حالياً من استعدادات عالمية على مستوى النصارى للاحتفالات الكبرى بنهاية الألفية الثانية، والدخول في الألفية الثالثة، وإذا كانت الأرض تعج باحتفالات النصارى في رأس كل سنة ميلادية فكيف سيكون احتفالهم بنهاية هذه الألفية؟! إن هذا الحدث سيحولونه إلى مناسبة ضخمة جداً، لن يحتفلوا به في قبلة ديانتهم الفاتيكان؛ بل سينقلونه إلى بيت لحم في بلاد المسلمين, وسينتقل إليها أئمة النصارى من جميع الأنواع: الإنجيليون منهم، والمعتدلون بزعمهم، والعلمانيون؛ لإحياء تلك الاحتفالات الألفية التي تنشط جميع الوسائل المرئية والمسموعة للحديث عنها في هذه الأيام, إن هؤلاء الملايين الذين يتوقع حضورهم إلى ذلك المكان برئاسة يوحنا بولس الثاني، كبير الشرك النصراني في هذا الزمان، إلى موقع الاحتفال بتعميد المسيح بزعمهم، حيث عمده يوحنا المعمدان -أي: يحي عليه الصلاة والسلام- في نهر الأردن سيشارك فيه كثير من المسلمين مع الأسف الشديد، بل إن الحجوزات من قبل المسلمين في هذه المناسبة قائمة على قدم وساق، سينتظرون نهاية الشهر الكريم أو قبل نهاية الشهر الكريم للانطلاق إلى تلك الاحتفالات الشركية والكفرية التي حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم منها أشد تحذير, وأخبر الأمة أنها ستتبع من كان قبلها من اليهود والنصارى حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب ستدخله هذه الأمة وراءهم.(319/8)
موقف المسلم من أعياد الكفار
السؤال
ما هو موقفنا من أعياد الكفار القادمة في احتفالات عام (2000)؟
الجواب
هذه المسألة سبق ذكرها في الدرس لكن نعيد الإجمال والتأكيد على بعض النقاط لأهميتها, فأقول: الحمد لله وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن هذه الأعياد القادمة وهي الاحتفالات الألفية قد يقدم فيها بعض الكفار على أعمال تتعلق بعقيدتهم في عام (2000) مثل اعتداءاتهم على مقدسات المسلمين، كالمسجد الأقصى وغيره, أو إقامة صروح كفر يعتقدون إقامتها في هذا الوقت, أو انتظار غائب يعتقدون أنه يأتي وينزل في هذا الوقت, والعلمانيون منهم -إن صح التعبير- لا يريدون أن تحدث مفاجآت وينقلب السحر على الساحر كما يقولون، وتحدث مواجهات بين المسلمين والكفار ليست محسوبة النتائج، فلا يريدون عمل مواجهة بالقوة؛ لكنهم يريدون إغراقنا بمعتقداتهم وأعيادهم, وإشراكنا في احتفالاتهم رغماً عنا, حين يغرقون المناطق في العالم بما ينقلون في فضائياتهم في العالم بشعائر احتفالاتهم وطقوسهم، وتلك المظاهر من البهجة والسرور التي يظهرونها، بالإضافة إلى الفحش والمنكرات، والرقص والحفلات الغنائية، والفرق العالمية والموسيقية، وعروض الليزر والأنوار الكثيرة، والألعاب النارية ونحو ذلك من هذه الأشياء.
لكن البعض منهم يمكن أن يعملوا أعمالاً فيها استعمال للقوة أو انتحار جماعي لبعض فرقهم الدينية، بناءً على أسس يعتقدونها إذا ما جاء المسيح أو ما حصل ما ينتظرونه، أو أن يعملوا انتحاراً جماعياً, لكن الغالب أن هذا العيد سيمضي عندهم بقضية مجون وخلاعة، وكفر وشرك، وإظهار المعتقدات الباطلة، والكنسية، والطقوس، والوثنية وغيرها, ونحن ينبغي أن نستعد لأي مفاجأة لكن اتجاههم العام الآن يشعر بهذا، إغراق العالم بأجواء الاحتفالات.
وأكثر منه إحداث مواجهة عسكرية مع المسلمين مثلاً، لأنه ربما لم يأت الوقت المناسب بزعمهم لذلك, لكن الله غالب على أمره ولا يعلم الغيب إلا الله، والله عز وجل يفعل ما يشاء، يمكن يحدث أي شيء، ولذلك فالمسلم يجب أن يكون مستعداً نفسياً بجميع أنواع الاستعداد, وعلى رأس ذلك التسلح بالإيمان والتوحيد، منافاة للشرك والكفر ومعادة أهله، والابتعاد عن التشبه بهم, فما هو موقفنا من أعيادهم القادمة في الاحتفالات الألفية؟ أولاً: اجتناب حضورها, لما جاء من الأدلة الكثيرة المانعة من ذلك وفي دين الإسلام، وما جاء فيه من الأدلة وقد قال عمر رضي الله تعالى عنه: [لا تتعلموا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم فإن السخطة تنزل عليهم].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وهذا عمر نهى عن تعلم لسانهم، وعن مجرد دخول الكنيسة عليهم يوم عيدهم، فكيف بفعل بعض أفعالهم أو فعل ما هو من مقتضيات دينهم! أليس موافقتهم في العمل أعظم من الموافقة في اللغة؟! أو ليس عمل بعض أعمال عيدهم أعظم من مجرد الدخول عليهم في عيدهم! وإذا كان السخط ينزل عليهم يوم عيدهم بسبب عملهم فمن يشاركهم في ذلك العمل أو بعضه أليس قد تعرض لعقوبة ذلك، واستجلب سخط الجبار عليه؟ وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: [من بنى في بلاد الأعاجم وصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت وهو كذلك حشر معهم يوم القيامة] والشاهد عند قوله: [حشر معهم] وعلق عليه ابن تيمية فقال: وهذا يقتضي أنه جعله كافراً بمشاركتهم في مجموع هذه الأمور، أو جعل ذلك من الكبائر الموجبة للنار وإن كان الأول ظاهر لفظه.
وإذا قلنا لا نحضر، فإن ذلك يقتضي أيضاً ألا نشاهد، قال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:72] قال المفسرون: أعياد الكفار لا نحضرها ولا نشاهدها لا بأشخاصنا، ولا بالصوت والصورة المنقولة، وهذا الذي قلناه قبل قليل وأحذرك أن تترك نساءك وأطفالك يرون الاحتفالات المنقولة فضائياً؛ لأن هذا فيه إدخال الفرح على نفوس الأطفال بمناسبة الكفر, والأعياد الشركية والانجذاب والتعلق بذلك, ولذلك أولادك يمكن أن يعجبوا بالكفار واحتفالاتهم وأعيادهم، بل يطلبون منك أن تأتي لهم بشجرة عيد ميلاد, أو تأتي لهم بحلويات خاصة مما يفعلونه, أو بابا نويل! ما يأتي به بابا نويل، هذا كله يمكن أن يحدث نتيجة المشاهدة, وتركهم يشاهدون ذلك عبر القنوات، وهذه القضية يجب الاهتمام بها أشد الاهتمام.
ثم إننا نجتنب موافقتهم في أفعالهم، قال شيخ الإسلام رحمه الله: لا يحل للمسلمين أن يتشبهوا بهم في شيء مما يختص بأعيادهم، لا من طعام ولا لباس، ولا اغتسال ولا إيقاد نيران، ولا تبطيل عادة.
لا نأخذ إجازة ولا نعطل الأعمال، ولا نغلق الدكاكين ولا المحلات، ولا الشركات ولا المؤسسات، لا في المعيشة ولا في العبادة ولا يحل فعل وليمة، ولا الإهداء ولا بيع ما يستعان به على ذلك, لا تبيع لهم الديك الرومي بمناسبة أعيادهم، ولا شجرة ميلاد، ولا زينات وأضواء وأنوار من النوع الذي يستخدمونه، وكذلك لا تبيعهم حلويات من النوع الذي يستعملونه، وهو شيء مثل العكاز وشيء مثل غيره من الأشياء المعروفة لديهم.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: ولا بيع ما يستعان به على ذلك، ولا تمكين الصبيان ونحوهم -صبيان المسلمين- من اللعب الذي في الأعياد، ولا إظهار زينة، وبالجملة ليس لهم أن يخصوا أعيادهم بشيء من شعائرهم، بل يكون يوم عيدهم عند المسلمين كسائر الأيام.
قال الذهبي رحمه الله: فإذا كان للنصارى عيد، ولليهود عيد، كانوا مختصين به، فلا يشركهم فيه مسلم كما لا يشاركهم في شرعتهم ولا قبلتهم.
وقد ذكر ابن التركماني الحنفي رحمه الله: النكيرة والتحذير ممَّن يوسع النفقة على عياله في أعياد النصارى، وأن من لم يتب فهو كافر مثلهم فيما نقل عن بعض علماء الحنفية.
وقال بعض أصحاب مالك: من كسر يوم النيروز بطيخة فكأنما ذبح خنزيراً.
فإذا كان عندهم يوم النيروز يأكلون فاكهة معينة فجاء مسلم وفعل مثلهم بقصد التشبه، فكأنما ذبح خنزيراً.
بل قال مالك: "يكره الركوب معهم في السفن التي يركبونها لأجل أعيادهم؛ لنزول السخط واللعن عليهم, فالله يسخط ويغضب وينزل اللعنة على هؤلاء الذي جعلوا له ولداً وزوجة، وجعلوه ثالث ثلاثة, والله عز وجل لا يرضى الكفر" وسئل ابن القاسم عن الركوب في السفن التي تركب فيها النصارى إلى أعيادهم فكره ذلك؛ مخافة نزول السخط عليهم بشركهم الذي اجتمعوا عليه.
وكذلك فإننا لا نهدي لهم ولا نعينهم على عيدهم ببيع أو شراء كما تقدم، حتى قال أبو حفص الحنفي: من أهدى فيه بيضة إلى مشرك تعظيماً لليوم فقد كفر بالله تعالى.
ومعلوم أن هؤلاء الكفرة المشركين من النصارى من ضمن ما يفعلونه من طقوسهم صبغ البيض (الملون) , فالذي يبيعهم بيضاً ليصبغونه فهو مشارك لهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وكره ابن القاسم للمسلم أن يهدي للنصارى شيئاً في عيدهم مكافأة لهم، ورآه من تعظيم عيدهم وعوناً لهم على مصلحة كفرهم، ألا ترى أنه لا يحل للمسلمين أن يبيعوا من النصارى شيئاً من مصلحة عيدهم، لا لحماًَ ولا إداماً ولا ثوباً، ولا يعارون دابة، ولا يعاونون على شيء من عيدهم, لأن ذلك من تعظيم شركهم ومن عونهم على كفرهم، وينبغي نهي المسلمين عن ذلك.
وابن التركماني قال: فيأثم المسلم بمجالسته لهم وبإعانته لهم بذبح وطبخ وإعارة دابة يركبونها لمواسمهم وأعيادهم.
لو قال لك نصراني: أوصلني إلى مكان الاحتفال فلا يجوز لك ذلك, أو يقول: أعرني سيارتك أحضر حفلة عيد الميلاد، فلا يجوز لك أن تعيره سيارتك, ومع بالغ الأسف فإن كثيراً من المسلمين من الباعة يتساهلون في هذه القضية، ويبيعون على الكفار هدايا من الأعياد من الزهور والعطور حتى بطاقات التهنئة، كالكرسميس يبيعونها عليهم، وبعض ألبستهم التي تفعل في أعيادهم، وشجرة عيد النصارى, وهدايا بابا نويل , وحلويات على شكل صليب أو على شكل عكاز كما يفعلونه، وبعض المتاجرين يرون أنه من باب استغلال أرباح الموسم، والنصارى الآن يشترون, بع واربح وإنما يأكلون في بطونهم ناراً، وسيصلون سعيراً, وهذا من إعانتهم على عيدهم، وإسهام لإظهار شعائرهم وإشهارها.
ثم إنه يجب ألا نعين أي مسلم يتشبه في عيدهم كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: وكما لا نتشبه بهم في الأعياد فلا يعان المسلم المتشبه بهم في ذلك, بل يُنهى عن ذلك, فمن صنع دعوة مخالفة للعادة في أعيادهم لم تجب دعوته.
لو أن مسلماً قال: ليلة رأس السنة عندي حفلة, فلا يجوز لك حضورها ولا إتيانها، ويجب أن تنهاه عنها, قال: من صنع دعوة مخالفة للعادة.
لماذا طول العام لم يصنع الاحتفال فلما كان على ليلة (2000م) فعل هذه الحفلة؟ لماذا خصها في هذا اليوم ولو كان مسلماً؟ قال: ومن أهدى من المسلمين هدية في هذه الأعيادة مخالفة للعادة في سائر الأوقات غير هذا العيد لم تقبل هديته.
جاء إليك شخص بمناسبة عام (2000) وقال: هذه هدية فهو يقصد هذا التاريخ وهذا العيد, فلا تقبل هديته وترد عليه وتقول له: لا أقبل، هديتك مردودة عليك, لأنك أهديتني بمناسبة أعياد الكفار, اتق الله.
أيها الإخوة: المشكلة أن هؤلاء القوم سيحاولون التنسيق ما بين أعيادنا وأعيادهم، ويقولون: نضع خيمة رمضانية إلى جانب الكنيسة، أنتم تسهرون في ليلة في رمضان ونحن في أعياد, ونحن نهنئكم على رمضان، وأنتم تهنئوننا على الأعياد ونحن ممكن أن نحضر معكم الإفطار, ونأتي على مائدة رمضان، أنتم تحضرون معنا عشاء عيد الميلاد: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9].
فلا تطع هؤلاء الكفرة فيفتنوك عما أنزل على نبيك صلى الله عليه وسلم.
قال شيخ الإسلام: لم يتقبل هديته خصوصاً إن كانت الهدية مما يستعان بها على التشبه بهم، ولا يب(319/9)
إن أكرمكم عند الله أتقاكم
إن الله سبحانه وتعالى يرضى عن عباده بقدر ما في قلوبهم من التقوى والخشية، فأكرم الناس أتقاهم لله عز وجل وأخشاهم له، أما اختلاف الناس إلى شعوب وقبائل فهو من أجل أن يتعارفوا فيما بينهم ويتواصلوا، وقد كانت الجاهلية قديماً -أيضاً- وحديثاً تبني أسسها ودعائمها على التمييز بين البشر وتعبيد العباد للعباد، ولكن جاء الإسلام ليهدم هذا الأساس الجاهلي ويضع للناس ميزاناً للتفاضل بينهم، وهو ميزان التقوى.(320/1)
ما يستنبط من قوله: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
الجواب
=6000394> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
الجواب
=6000493> يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
الجواب
=6003602> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أحمد الله إليكم -أيها الإخوة- الذي وفقنا وإياكم لحضور مجالس الذكر والانتفاع بمائدة القرآن، فإن مثل هذه الحلق من الأشياء التي يرضى الله عز وجل عن أصحابها، ويحفها بملائكته جل وعلا، ويسطرها لهم في صحائف حسناتهم إن شاء الله تعالى، لما في هذه الحلق من زيادة العلم والدين وزيادة الإيمان في قلوب المؤمنين: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4].
وقد تكلمنا- أيها الإخوة- في المرة الماضية عن بعض آفات اللسان أثناء تفسير سورة الحجرات، وكانت هناك أسئلة كثيرة، ولذلك سنقتصر الكلام في هذا الدرس على قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ثم نجيب بعد ذلك على الأسئلة.
ونسأل الله عز وجل ألا نتجاوز إن شاء الله الساعة الثامنة حتى لا نطيل على الإخوة، ومن أراد من الإخوة أن يذهب فله ذلك، فلا يشعر بالإحراج والأمر متسع إن شاء الله، وبإمكانه أن يسمع المحاضرة بعد ذلك.(320/2)
الفائدة الأولى: المطابقة في تمثيل المغتاب بآكل الميتة
ذكرنا -أيها الإخوة- في التعليق على قول الله جل وعلا: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} [الحجرات:12] أن هذا مثل، وقلنا: إنه مثل ضربه الله جل وعلا للذي يغتاب الناس وينهش أعراضهم، مثله ربنا بالذي يأكل لحم إنسان ميت.
وهذا المثل الذي ضربه الله سبحانه وتعالى فيه مطابقة من حيث التمثيل فهو تمثيل بديع جداً، فكما أن الإنسان عندما يموت لا يحس بمن ينهش لحمه لغياب روحه عن جسده، فكذلك الشخص الذي يُغتابُ ويُنهشُ عرضُه غير موجود، ولا يستطيع الدفاع عن نفسه، لأنه غائب كما أن الميت لا يستطيع الدفاع عن نفسه، لأن روحه قد فارقت جسده.
وكما أن الميت يعجز عن رد آكله، فكذلك الذي يغتاب يعجز عن رد من يغتابه.
والذين يأكلون لحوم البشر يتفكهون ويتلذذون بأكلها حسب مزاجهم الفاسد، كذلك أصحاب المزاج الفاسد من البشر الذين يغتابون الناس أيضاً يتلذذون ويتفكهون بنهش أعراض البشر.(320/3)
الفائدة الثانية: تحريم الغيبة
أيضاً يؤخذ منه فائدة تحريم الغيبة، لأن أكل لحم الموتى حرام، بل هو كبيرة من الكبائر، ولاحظ أن المثل يشمل أشياء كثيرة جداً، ليست البلاغة هي الموجودة فيه فقط، وإنما -أيضاً- الحكم، لأن المشبه يأخذ حكم المشبه به، فالمشبه به هنا أكل لحم الموتى، وأكل لحم الموتى حرام، وهو كبيرة من الكبائر، ولذلك أيضاً الغيبة حرام، وقال بعض العلماء: إنها كبيرة من الكبائر، لأن الله مثلها وشبهها بأكل لحم الميت وهو من الكبائر، والفائدة الأخرى أيضاً: تشنيع هذه الصورة في نفوس المؤمنين، فمن فوائد هذا التشبيه أن نفس الإنسان المسلم تكره سماع الغيبة وتكره الاغتياب، لأنها تسمع هذا التمثيل البشع: {يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12].
فهذه الأمثال- أيها الأحبة- لا يعقلها إلا العالمون، والله أمرنا أن نتدبر الأمثلة، فقال تعالى: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم:25] لعلهم يتفكرون، لأولي الألباب {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43].
تجد العجب العجاب في كتابة الذين يكتبون عن الأمثال مما فتح الله عليهم مثل ابن القيم رحمه الله تعالى عندما يفسر آيات فيها أمثال.(320/4)
ما يستنبط من قوله: (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ)
وفي قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12].
ثلاثة أشياء متوالية، فيها تصحيح عجيب لسلوك الإنسان، كيف ذلك؟ يقول أحد أهل العلم في التفسير: تأمل كيف أن الله عز وجل حرم الظن السيئ بالمؤمنين، فالظن الجزاف الذي لا يعتمد على شيء حرمه الله جل وعلا، ثم لما حرم هذا الظن، حرم سلوك السبيل الذي يؤكد هذا الظن، وهو: التجسس، لأن الإنسان عندما يتجسس، فإنما يحاول أن يؤكد ظناً عنده؛ فحرم الله سوء الظن، وحرم السبيل لتأكيد هذا الظن، وهو التجسس، وحرم الغيبة التي هي التكلم بما تأكد له من التجسس.
حرم الله ثلاثة أشياء متوالية: حرم الله سوء الظن -غير الظن الذي هو على قرار- ثم حرم سلوك السبيل لتأكيده وهو التجسس، ثم حرم التكلم عنا المسلم بما فيه حتى لو علمه وتيقن به، وذلك بتحريم الغيبة، وهذا كله لحماية أفراد المجتمع المسلم من جميع الآفات والشرور.(320/5)
ما يستنبط من قوله: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى)
ثم قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] الذكر والأنثى هما- كما نعلم- آدم وحواء، وهذه الآية تفسرها آية في مطلع سورة النساء وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} [النساء:1].
(نفس واحدة) هي: آدم، (خلق منها زوجها) من هذه النفس التي هي آدم خلق حواء، (وبث منهما) من هذا الرجل والمرأة (رجالاً كثيراً ونساء).
والناس من جهة الذكر والأنثى أنواع كما أنهم من جهة اللون أنواع، ففيهم الأبيض والأسود والأسمر والحنطي إلى غيره، كذلك من جهة الشكل الخارجي، فهناك الطويل والقصير والسمين والنحيل، فكذلك من جهة الذكر والأنثى الناس أربعة أصناف: فمنهم من خلقه الله عز وجل من ذكر وأنثى، وذلك مثل عامة البشر تقريباً، ومنهم من خلقه الله بلا ذكر ولا أنثى، وهو آدم عليه السلام، ومنهم: من خلقه الله تعالى من أنثى بلا ذكر وهو عيسى عليه السلام خلقه الله من أنثى بلا ذكر، ومنهم من خلقه الله من ذكر بلا أنثى كحواء، فقد خلقها الله من ذكر بلا أنثى.
وهناك كلام مهم للعلامة الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان عند تعليقه على قول الله عز وجل: {مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات:13] فإنه وضح الفوارق بين الذكر والأنثى، ووضح ما ينبني عليها من الأحكام الشرعية التي جعلت الطلاق والقوامة بيد الرجل، والحمل ورعاية الأبناء الصغار عند المرأة، فليراجع فإنه كلام جميل.(320/6)
قوله: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ)(320/7)
معنى الشعب والقبيلة
{شُعُوباً وَقَبَائِلَ} [الحجرات:13] الشَّعبُ هو: الحي العظيم من الناس، الجماعة الكثيرة من الناس تسمى شعباً؛ مثل مضر وربيعة، فهما شعبان من شُعُوب العرب، والقبائل دون الشعوب في الاتساع والكثرة، مثل بني بكر من ربيعة وتميم من مضر، تميم قبيلة من شعب مضر، وبنو بكر قبيلة من شعب ربيعة، وأهل اللغة يصنفون هذه الأسماء من حيث القلة والكثرة ومسمياتها كالتالي، يقولون: أولاً: الشعب، وأصغر منه القبيلة، وأصغر من القبيلة العمارة، وأصغر من العمارة البطن، وأصغر من البطن الفخذ، وأصغر من الفخذ الفصيلة، وبعضهم قال: وأصغر من الفصيلة العشيرة.
فمثلاً: إذا جئنا إلى نسب الرسول صلى الله عليه وسلم، فإننا نجد أن خزيمة شعب خرجت منه كنانة، وهي قبيلة من قبائلهم، وخرجت من كنانة قريش وهي عمارة من عمائر كنانة، وخرج من قريش بنو قصي وهم بطن من بطون قريش، وخرج من هذا البطن فخذ وهم بنو عبد مناف، وخرج من هذا الفخذ بنو هاشم، وهم فصيلة الرسول صلى الله عليه وسلم.(320/8)
نبذة عن الشعوبية
هناك كلمة مشتقة من هذه الكلمة ترد أحياناً في كتب المؤرخين المسلمين وهي كلمة" الشعوبية "، الشعوبية -أيها الإخوة- مذهب من المذاهب الضالة التي دفع أصحابها ضغائنهم الموجودة في قلوبهم ونفوسهم على الإسلام وأهله إلى كراهية العرب وبغضهم والتنقص منهم، وذكر معايبهم ومثالبهم، وقد ألف بعض الشعوبيين مصنفات في هذا، ومن بينهم أبو عبيدة الخارجي-وليس هو أبا عبيدة بن الجراح الصحابي المعروف- صنف كتاباً في مثالب العرب ونقائصهم، وكذلك ألف ابن غرسية رسالة فصيحة في تفضيل العجم على العرب.
أصحاب هذا الاتجاه يسمون بالشعوبيين وهم طائفة ضالة، ومن كره العرب بلا استثناء، فقد كفر، لأن منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن كرههم بلا استثناء يكفر، لأن معنى ذلك أنه كره الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد رد عليها بعض علماء الأندلس وغيرهم من علماء المسلمين.(320/9)
الحكمة من تعدد الشعوب والقبائل
لماذا خلق الله الشعوب والقبائل؟ ولماذا خلقنا من ذكر وأنثى؟ ما هي الحكمة من جعلنا شعوباً وقبائل؟ يقول الله عز وجل: {لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13] فالتعارف هو الحكمة التي من أجلها جعلنا شعوباً وقبائل: {لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13].
ومعنى {لِتَعَارَفُوا}: لكي ينتسب كل إنسان لأبيه، فيعرف أن فلاناً هو فلان بن فلان بن فلان من القبيلة الفلانية، أو العائلة الفلانية، ولذلك حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من انتساب الإنسان لغير أبيه، أو انتساب المولى لغير مواليه تحذيراً شديداً، فقال في الحديث الصحيح الذي يرويه أبو داود عن أنس رضي الله عنه وأرضاه: (من ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه، فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة) الذي يدعي أنه ابن فلان، ويسمي أباً له غير أبيه، وينتسب إليه، فهذا يقول فيه صلى الله عليه وسلم: (فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة).(320/10)
ثمرات التعارف بين الشعوب والقبائل
ومن نتائج هذا التقسيم إلى شعوب وقبائل: أولاً: صلة الأرحام حتى يكون الناس بينهم قرابات ويتزوج بعضهم من بعض: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} [الفرقان:54] جعل بينهم زواجاً ومصاهرةً وأنساباً، فالرجل يخرج منه ابنه، فهذا نسب، والرجل عندما يتزوج يصبح بينه وبين أهل زوجته مصاهرة، فهذه من الفوائد، فعندما يتعلم الإنسان الأنساب، يستطيع أن يعرف أرحامه، فيصلهم، ولذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتعلم الأنساب في الحديث الصحيح بقوله: (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأةٌ في الأثر) حديث صحيح.
الآن لما صارت القضية فيها نسب وشعوب وقبائل، صار تعلم النسب واجباً، أوجب بعض أهل العلم تعلم النسب، لماذا؟ حتى يصل الإنسان رحمه، ويعرف من أبوه، ومن عمه، ومن جده، من هم أقارب الجد؛ والفروع والحواشي والأصول.
الأصول هم: الأب والجد وإن علا، والفروع هم: الابن وابن الابن وإن نزل، والحواشي: العم والعمة والخال والخالة وأولادهم، فيتعلم الإنسان الأصول والفروع والحواشي حتى يصل رحمه، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، والذي يصل رحمه يكون محبوباً في العائلة بخلاف الإنسان الذي لا يصل رحمه، وهذا من النقاط المهمة التي يقع بسببها تقصير كثير من الدعاة إلى الله عز وجل.
قد يقول الإنسان: أنا مشغول، ويترك أقاربه وأرحامه ولا يصلهم، ولا يعرف أخبارهم مع أنهم بقليل من الصلة قد يتأثرون به ما لا يتأثرون من غيره نتيجةً للقرابة الموجودة بينهم وبينه، يذهب ليدعو فلاناً البعيد مع أنه لا يعرف عنه شيئاً، ويترك أقاربه، والله قد قال لنبيه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] ويترك أقاربه مع أنهم بقليل من الجهد قد يتأثرون منه، ولا يتأثرون من غيره، لأن بينه وبينهم صلة وقرابة ومساهمة وعلاقة، فلا بد من استغلال هذه العلاقة في الدعوة إلى الله عز وجل والتأثير على هؤلاء الأقارب.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (مثراة في المال) ففيها قولان لأهل العلم: أحدهما: أن الله عز وجل ببركة صلة الرحم يبارك لك في مالك ويثريه لك وينميه ويبقيه ويكثره.
القول الثاني: أن الإنسان إذا وصل رحمه، فإنهم قد يوصون إليه ببعض مالهم عند الموت للصلة الحسنة بينهم وبينه، وهم من غير الأقارب الذين حدد الله لهم نصيبهم في الإرث لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا وصية لوارث).
فقد يوصي الإنسان لقريبه البعيد، لأن بينه وبينه علاقة حميدة في صلة، أو شيء من ذلك، فقد تعود عليه المنفعة، لكن الإنسان عموماً إذا وصل رحمه، فلا يكن قصده المال، وإنما رضا الله عز وجل، والقيام بحقوق هؤلاء الأقربين.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم (منسأة في الأثر) فمعناه يزيد عمره زيادة مكتوبة في اللوح المحفوظ ومقدرة عند الله عز وجل.
توضيح المسألة: الإنسان إذا لم يصل رحمه، فقد يعيش أربعين سنة، فإذا وصل رحمه، عاش ستين سنة، ويكون مقدراً عند الله أن فلاناً إذا لم يصل رحمه فسيكون عمره كذا، فلو وصل رحمه -وكونه سيصل أو لا يصل مكتوب عند الله عز وجل- فسيزاد له في عمره، ولو لم يصل رحمه فسيبقى عمره كذا عند الله عز وجل، فصلة الرحم منسأة في الأثر، أي تطيل العمر.(320/11)
ما يستنبط من قوله عز وجل: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)(320/12)
ذم الفخر بالأنساب
ثم يقول الله عز وجل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] هذه قاعدة عظيمة جليلة من قواعد المجتمع الإسلامي يوضحها الله جل وعلا هنا في هذه السورة العظيمة، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو الذي شرحت سنته كتاب الله وفصلته وبينته- يقول في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: (إن الله قد أذهب عنكم عُبِّية الجاهلية -العبية هي: الكبر، أي: إن الله قد أذهب عنكم بهذا الدين وبهذا القرآن الكبر الذي هو سمة من سمات أهل الجاهلية -وفخرها بالآباء، مؤمنٌ تقي وفاجرٌ شقي-أي: هناك قسمان: مؤمنٌ تقي وفاجرٌ شقي- أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوامٍ إنما هم فحمٌ من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن).
(ليدعن رجال فخرهم بأقوامٍ إنما هم فحم من فحم جهنم) بعض المسلمين آباؤهم كفار جاهليون، ومع ذلك يتفاخرون بآبائهم، وآباؤهم جاهليون وكفار، وهم فحمٌ من فحم جهنم، فكيف يتفاخر الإنسان المسلم بأبٍ له، أو جدٍ له من أهل الكفر؟ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم مهدداً هذا الصنف الذي لا يرعوي ولا ينزجر: (أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن).(320/13)
من أكرم الناس؟
وكذلك سأله صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة -كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري رحمه الله عن أبي هريرة -: (من أكرم الناس؟ قال: أكرمهم أتقاهم).
لاحظ أن جواب الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن من قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] (قالوا: يا نبي الله! ليس عن هذا نسألك؟ قال: فأكرم الناس يوسف نبي الله بن نبي الله بن نبي الله بن خليل الله) فيوسف عليه السلام أكرم الخلق من ناحية النسب لأنه يوسف بن يعقوب بن إسحاق؛ وإسحاق ابن خليل الله، وخليل الله هو إبراهيم، وهو في ترتيب أولي العزم من الرسل بعد الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة، لأن أفضل أولي العزم الخمسة الرسول صلى الله عليه وسلم ويليه إبراهيم.
(فقالوا له: ليس عن هذا نسألك؟ قال: فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: نعم، قال: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا).
فكان الجواب الأول من جهة الأعمال الصالحة: (أكرمهم أتقاهم)، وكان الجواب الثاني من جهة النسب الصالح: (نبي الله بن نبي الله بن نبي الله بن خليل الله) فلا يمكن أن يكون نسب أعلى من هذا، ونلاحظ-أيها الإخوة- أن هذا النسب ليس عربياً، وكان الجواب الثالث: معادن العرب، وهي أصولهم التي ينتسبون إليها ويتفاخرون بها، فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: تسألوني عن الأشياء التي تتفاخرون فيها من النسب والأصل والحسب، فهذا جواب ما تسألونني عنه، فالرسول صلى الله عليه وسلم ربط هذا المفهوم الجاهلي بالمفهوم الإسلامي في قوله: (خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) فالرسول صلى الله عليه وسلم وضح لهم أنه ليس المقصود في هذا كرم الأصل وكرم النسب فقط؛ بل قال: (خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) أي أن أشرف الناس من جمع ثلاثة أوصاف: أنه كان شريفاً في الجاهلية، أي: من قبيلة عظيمة، ثم دخل في الإسلام -الشرف الحقيقي- فانضم شرف الإسلام إلى ذلك الشرف الأول، ثم انضم إلى الشرف الأول والثاني الشرف الثالث وهو الفقه في الدين، فمن كان ذا حسب مثل الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم أفضل الناس حسباً ونسباً، حتى الجاهليون كانوا يعظمون نسب الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم انضم إليه شرف الإسلام، وانضم إليه شرف الفقه في الدين، فمن نال هذه الثلاثة مع بعضها، فقد حاز الشرف كله، والذي يلي هذا في المرتبة من كان شريفاً في الإسلام وفقيهاً، ولم يكن ذا شرف في الجاهلية، فهو يلي الأول في المرتبة، وهو أحسن ممن كان شريفاً في الجاهلية شريفاً في الإسلام ولم يكن عنده فقه في الدين، أي أن: من كان شريفاً في الإسلام وفقيهاً في الإسلام، ولم يكن ذا شرف في الجاهلية هو أحسن من الذي يكون شريفاً في الجاهلية شريفاً في الإسلام ولكن لم يتفقه في الدين.
وقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم نعرة الجاهلية بأنها منتنة، فقال: (دعوها فإنها منتنة).
ولما جاء أبو هند أحد الصحابة يخطب من بني بياضة ابنتهم ولم يكن حسيباً نسيباً يكافئهم في النسب، رفضوا أن يزوجوه، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لهم: (يا بني بياضة! أنكحوا أبا هند وانكحوا إليه) أي: أعطوه ابنتكم، وتزوجوا منه فأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بتزويجه وهو غير مكافئهم في النسب، فهو ليس مثلهم، وربما كان أقل منهم في الدرجة وفي النسب، ولكن الإيمان لا يمنع الزواج، وهذا فيه قضاء على الجاهليات التي تكون بين الناس في قضية القبيلي والخضيري، هذا من قبيلة، وهذا له أصل، والناس يضعون العقبات، قد يكون في الرجل دين وخلق وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه) فيضعون هذه العراقيل الجاهلية والعقبات الجاهلية أمام هذا الشاب الذي يريد الزواج، ويمنعونه من الزواج لهذه الحجة التافهة.
وقد قال أهل العلم: إن الكفاءة في النسب لا تشترط، فإذا جاءك شاب ذو دين وخلق وهو نسيب، وشاب ذو دين وخلق وهو غير نسيب، فقدم الأول، ولا مانع من هذا، إنما المذموم أن يتقدم إليك شاب يريد الزواج وهو ذو دين وذو خلق، ولكنه ليس نسيباً، أو ليس من قبيلة معروفة أو عائلة لهم مكانة سامية، فتمنعه، وتزوج ابنتك إنساناً فاجراً، أو إنساناً -والعياذ بالله- من أصحاب الكبائر، أو إنساناً عاجزاً، وذاك إنسان تقي وورع، تتركه لأجل أنه ليس نسيباً وتزوج هذا، فهذا- لعمر الله- فيه خراب المجتمعات، إذا صار المقياس في التزويج قضية النسب فقط، فهذا فيه خراب للمجتمعات.(320/14)
أهل البيت النبوي
نتعرض هنا لآل الرسول صلى الله عليه وسلم، الرسول صلى الله عليه وسلم له رحم من فاطمة وعلي؛ وهؤلاء آل الرسول صلى الله عليه وسلم ونسله.
وهناك كلام طويل للعلماء واختلاف حول من هم آل الرسول صلى الله عليه وسلم بالضبط.
ولكن آل الرسول صلى الله عليه وسلم لهم حقٌ علينا، إذا ثبت لديك أن هذا فلان من سلالة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيجب عليك أن توقره وتحترمه، لأن له نسباً موصولاً بالرسول صلى الله عليه وسلم، لكن إذا ثبت هذا، فإن الدعاوى في هذا كثيرة، وكل واحد يقول: نحن من أصل نرجع إلى الرسول، نحن نرجع إلى الحسن، ونحن من آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يكون منهم كثير دجالون كذابون يريدون أن يصلوا إلى قلوب الناس، ويسرقون منهم التوحيد، ويوقعونهم في شرك الصوفية وغيرها.(320/15)
مقارنة بين تقي ونسيب
ويحكى أن بعض الشرفاء في بلاد خراسان كان أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك المجتمع وكان فاسقاً ظاهر الفسق، وكان هناك مولىً أسود تقدم في العلم والعمل، فأكب الناس على تعظيمه، فاتفق أن خرج هذا المولى الأسود من بيته إلى المسجد، فاتبعه خلقٌ كثيرٌ يعظمونه ويأخذون عنه العلم، فلقيه الشريف سكراناً، الشريف لقي هذا الرجل في الطريق وهو سكران فكان الناس يطردونه عن طريق المولى هذا الرجل العالم، فغلبهم هذا السكران بقوة وتعلق بأطراف الشيخ، وقال له: يا أسود الحوافر والمشافر! يا كافر ابن كافر! أنا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذل وأنت تجل! وأهان وأنت تعان! فهم الناس بضربه، فقال الشيخ: لا تفعلوا، هذا محتملٌ منه لجده -فأنا أتنازل عن حقي في السب والشتيمة من أجل جده الرسول صلى الله عليه وسلم- ولكن أيها الشريف! بيضتُ باطني وسودتَ باطنك -يقول: أنا بيضت باطني وأصلحت نيتي وأنت سودت باطنك- فرأوا بياض قلبي فوق سواد وجهي فحسنتُ، ورأوا سواد قلبك فوق بياض وجهك فقبحتَ، وأخذتُ سيرة أبيك -يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم- وأنت أخذت سيرة أبي، فرآني الخلق في سيرة أبيك، ورأوك في سيرة أبي، فظنوني ابن أبيك، وظنوك ابن أبي، فعملوا معك ما يعمل مع أبي، وعملوا معي ما يعمل مع أبيك.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء) فاحترام العلماء من الواجبات.
ولذلك يقول الشاعر:
ولا ينفع الأصل من هاشمٍ إذا كانت النفس من باهلة
وباهلة: قبيلة من قبائل العرب، وكان فيها أشياء تشينها، منها: أنهم كانوا يغلون عظام الميتة ويشربونها، كان يفعلون أشياء تشين بالنفس، ولذلك كانوا في الجاهلية مذلين من قبل العرب، كانت أذل قبيلة هي باهلة، حتى قيل لأعرابي: أترضى أن تدخل الجنة وأنت من باهلة؟ قال: لا، إلا ألا يعلم أهل الجنة أني من باهلة.
وقبيلة باهلة دخلها الإسلام، ودخل الإسلام صحابة كبار من قبيلة باهلة، فمن الخطأ الاعتقاد السيئ في قبيلة باهلة، وهو شيء جاهلي، وحين جاء الإسلام، صار الانتساب للإسلام، فإذا كان من قريش رجل فاجر فهو ذليل، ولو كان من باهلة وهو مسلم تقي، فهو عزيز، ولذلك قال الله عز وجل لنوح عليه السلام: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] مع أنه ولد نوح لصلبه، يقول له: إنه ليس من أهلك، لأنه كفر: {قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود:43] وذكره الله مع الكافرين، فقال الله عز وجل يعلم نوحاً، ويعلم المؤمنين من بعده إلى قيام الساعة: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] فنفى الله عن نوح هذا الولد، وجعله يتبرأ منه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] وكذلك إبراهيم عليه السلام، فكما أنه ما نفعت نبوة نوح ابن نوح، كذلك ما نفعت نبوة إبراهيم أبا إبراهيم، فهذا آزر أبو إبراهيم مات على الكفر، والله عز وجل يوم القيامة- كما في حديث البخاري - معنى الحديث يقول: (يقول إبراهيم لله عز وجل: لا تخزني يوم يبعثون فيقول الله: إني لا أدخل الكفار إلى النار، فإذا هو بذيخ ملتطخ، فيؤخذ بقوائمه، ثم يلقى في النار) أي: يمسخ الله عز وجل آزر هذا بشكل ضبع متلطخ بقذارته، ثم يؤخذ هذا الضبع المتسخ من قوائمه ويوضع في النار، فهذا مصير أبي إبراهيم، يمسخ ضبعاً متسخاً، ثم يؤخذ به ويلقى في النار.(320/16)
ميزان التقوى وأهميته
إن جنسية المسلم عقيدته، والمكانة في الدين ليست بالحسب والنسب، وإنما هي بالتقوى، ويجب أن يكون هذا هو المقياس الصحيح والميزان الحق في عقول الناس، ويجب أن نعلم الناس هذا المقياس، لأنه ينبني عليه أشياء كثيرة.
والناس الآن يتعاملون فيما بينهم بموازين عجيبة، يقولون: هذا كذا، وهذا كذا؛ مع أنه مسلم، بل قد يكون أفضل منهم علماً وتقوى.
أحد الناس أخبرني بقصة أن أحداً من الناس عنده خادم هندي في البيت، ولكنه رجل مسلم يطيع الله عز وجل ويقوم الليل ويعمل الصالحات، وصاحب البيت عاصي، وفي يوم من الأيام خصم صاحب البيت من المعاش على هذا، أو آذاه في شيء، فدعا عليه الهندي، فاستجاب الله دعوته، فالقضية ليست قضية هندي وعربي أو كذا، بل القضية قضية تقوى وإيمان، فكلما ازدادت التقوى وازداد الإيمان، قرب العبد من الله عز وجل، ولذلك يقول الشاعر:
فقد رفع الإسلام سلمان فارسٍ وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب
الإسلام رفع سلمان الفارسي، ووضع الكفر الشريف أبا لهب، فـ أبو لهب شريف، وهو عم الرسول، لكن وضعه الكفر، وذكر عن سلمان أنه كان يقول:
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيسٍ أو تميمِ
بعض الناس يقول: أبي كان وكان، فهو يفتخر بعظام ناخرة وعظام بالية، وافتخار الرجل بأبيه كافتخار الكوسج بلحية أخيه، والكوسج: هو الإنسان الذي لا تنبت له لحية، فالذي يفتخر بأبيه افتخاره مثل: افتخار الكوسج بلحية أخيه، وافتخار هذا لا ينفعه.
وأعجب شيءٍ إلى عاقلٍ أناسٌ عن الفضل مستأخرة
إذا سئلوا ما لهم من علا أشاروا إلى أعظمٍ نخرة
إذا قلت له: ماذا صنعت؟ قال: جدي كان كذا وأبي كذا، صحيح ذاك جدك عليه رحمة الله، لكن ماذا فعلت أنت؟ وهل سينجيك أبوك يوم القيامة؟ واشتهر عن علي رضي الله عنه وأرضاه أنه قال:
الناس من جهة التمثيل أكفاء أبوهمُ آدم والأم حواء
نفسٌ كنفسٍ وأرواحٌ مشاكلةٌ وأعظمٌ خلقت فيهم وأعضاءُ
فإن يكن لهم من أصلهم نسب يفاخرون به فالطين والماء
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهمُ على الهدى لمن استهدى أدلاءُ
وقدر كل امرئٍ ما كان يحسنه وللرجال على الأفعال سيماءُ
وضد كل امرئ ما كان يجهلهُ والجاهلون لأهل العلم أعداءُ
واختتم الله الآية بقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] أي: عليم بنياتكم وعليم بأعمالكم وخبير بما تفعلون، وخبير بمراتبكم عنده؛ ودرجات الجنة ليست بدرجات القبائل؛ وإنما هي بحسب الأعمال والتقوى.
وفقني الله وإياكم لأن يجعلنا ممن يتقيه، فيجعلنا من الأكرمين، ويدخلنا جنة النعيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(320/17)
الأسئلة(320/18)
حكم قراءة الحائض للقرآن ومسها للمصحف
السؤال
هل يجوز قراءة القرآن للمرأة الحائض؟
الجواب
مجرد القراءة من غير مس، رخص فيها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
والعلماء منهم الشيخ: ابن باز لما سئل عن المرأة التي تدرس أو الطالبة إذا كان عندها اختبار: ماذا تفعل؟ فقال: لهذه الضرورة لا بأس أن تمسك المصحف بخرقة أو بعازل وتقرأ فيه لضرورة الامتحان، أو لضرورة التدريس، ولكن -كما نبه بعض أهل العلم- غلاف القرآن من القرآن، أحدهم يقول: هذا غلاف، فهو عازل، وليس هو كذلك، لأن غلاف القرآن من القرآن، ولذلك يجب أن يأتي بشيء منفصل عن القرآن حتى يجوز للحائض أن تمسك المصحف وأن تقبضه.(320/19)
حكم إزالة شعر اللحية والشارب للمرأة
السؤال
ما هو النمص؟ وهل إزالة شعر الشارب واللحية بالنسبة للمرأة جائزة أم لا، وكذلك شعر القدمين والرجلين؟
الجواب
النمص هو إزالة الشعر، والرسول صلى الله عليه وسلم لعن النامصة والمتنمصة، النامصة: التي تزيل شعر حاجب المرأة، الكوافير التي تزيل شعر حاجب المرأة تسمى نامصة.
المتنمصة هي: التي تطلب إزالة شعر حاجبها، تذهب إلى هذه المزينة، فتقول لها: اعملي لي كذا، والرسول صلى الله عليه وسلم لعن النامصة والمتنمصة.
ونفصل في قضية الشعور: الشعر ثلاثة أقسام: قسم أمر الله بإزالته، وقسم أمر الله بإبقائه، وقسم مسكوت عنه، فالقسم الذي أمر الله بإزالته مثل: شعر العانة وشعر الإبط، فهذا أمر الله بإزالته، وشعر أمر الله بإبقائه كشعر اللحية، فهو شعر أمر الله بإبقائه.
ويدخل في الشعر الذي أمر الله بإبقائه شعر الحاجبين للمرأة، وشعر مسكوت عنه كشعر اليدين وشعر الرجلين وشعر الفخذ والصدر والدبر، هذا الشعر مسكوت عنه إلا من ألحق من العلماء إزالة شعر الدبر بحلق العانة، لأن المقصود إزالة ما يمكن أن تتعلق فيه النجاسة، فألحق بعضهم شعر الدبر بشعر العانة في إزالته، فالشعر المسكوت عنه يحل للإنسان أن يبقيه أو يزيله، ليس هناك إشكال.
بقي شعر المرأة على وجهها، هل يعتبر إزالة غير شعر الحاجبين تغييراً لخلق الله أم لا يعتبر تغييراً؟ أي: إذا نبت للمرأة شارب، أو لحية -وقد يحدث هذا- فهل يجوز لها أن تزيله أو لا يجوز؟ هذه مسألة جاء فيها أقوال مختلفة لأهل العلم، فمنهم من حرم الأخذ نهائياً مثل ابن جرير الطبري قال: يحرم على المرأة أن تزيل ما اتصل بحاجبيها، يعني: إذا اتصل الحاجبان مع بعض، أو اتصل بشعر الرأس، يحرم عليها أن تزيله، وكذلك الشارب واللحية إذا نبتت، لأن هذا تغيير لخلقة الله سواء أذن الزوج أو لم يأذن.
النووي رحمه الله على العكس من ذلك، يقول: يجوز للمرأة أن تحلق أو تزيل شعر شاربها وشعر اللحية إذا نبت لها، بل قد يستحب ذلك إذا أدى إلى الأذى، وابن حجر رحمه الله رأيه مثل رأي النووي، لكن يقيد ذلك بإذن الزوج، أي: لو أذن لها الزوج بإزالة شعر الشارب، أو شعر اللحية، جاز لها ذلك، وإن لم يكن بإذنه فلا يجوز لاحتمال التلبيس، أي: أنها قد تزيله في فترة، فيأتي الزوج ويرى المرأة بهذا الشكل وهي مزيلة للشعر، فيتزوجها ويرغب فيها على أساس هذا الشكل، فبعدما يتزوجها يراها في شكل آخر، فهذا فيه تدليس، ففي هذه الحالة لا تجوز الإزالة، فـ ابن حجر يقيدها بإذن الزوج.
الشيخ عبد العزيز يقول: إذا نبت للمرأة شعر اللحية أو الشارب فإنها تأخذه، لأن فيه مثلة، المثلة هي: التشويه، يقول: يجوز لها أن تأخذ هذا الشعر، لأن فيه تشويه وأذى، وقد يتسبب -باحتمال تسعين في المائة- في أن الزوج يكرهها لهذا المنظر، وأصلاً هذا ليس مكان النمو الطبيعي لشعر المرأة، فحلقه ليس من تغيير خلق الله، لأن خلق الله أصلاً أنه ليس لها شعر، هذا رأيه، وأنا أذكر آراء العلماء ولست مرجحاً.(320/20)
حكم قطع الصلاة لمن دعته أمه
السؤال
يقول: ما حكم من قطع صلاته إذا نادته أمه، هل يجوز، أم لا يجوز؟
الجواب
بعض العلماء أخذ الحكم من قصة جريج العابد من بني إسرائيل حين نادته أمه، فلم يرد عليها ثلاث مرات، ثم دعت عليه، قالوا: يجوز للإنسان المصلي أن يقطع صلاته إذا نادته أمه أو أبوه في صلاة النافلة، فإذا كنت تصلي أي صلاة غير الفرض، ونادتك أمك أو أبوك، فتجيبهما وتقطع الصلاة، وخصوصاً إذا خشيت أن يغضبوا، وإذا كان المصلي في آخر الصلاة أكملها، لكن إذا كان في أول الصلاة ويخشى غضب أبيه أو أمه إذا تكرر النداء، فعند ذلك يجوز له أن يقطع الصلاة ويذهب ويجيب أباه وأمه، ثم يعود ويبدأ الصلاة من جديد؛ فهذا من حق الوالدين، فقد بلغ حق الوالدين على الأبناء أن أجيز للمصلي الابن أن يقطع الصلاة من أجل إجابة والديه.(320/21)
حكم انتهاء الصلاة بتسليمة واحدة
السؤال
هل يجوز للإمام أن يسلم في انتهاء الصلاة تسليمة واحدة؟
الجواب
حديث التسليمة ضعفه بعض أهل العلم، وصححه بعضهم، فلو ثبت عند أحد منكم الحديث واقتنع بصحته، فيجوز له أن يسلم تسليمة واحدة.(320/22)
التوفيق بين حديث: (اختلاف أمتي رحمة) وقول الله: (وأصلحوا بين أخويكم)
السؤال
كيف نوفق بين ما جاء في سورة الحجرات من أن الإصلاح بين المتخالفين سبب من أسباب الرحمة، وبين ما يروى مما اشتهر بين المسلمين أنه من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اختلاف أمتي رحمة)؟
الجواب
السائل أراد تضعيف الحديث بقوله: (يروى) لأن (يروى) من ألفاظ التضعيف، لكن هذا الحديث ليس بضعيف، بل هو باطل، فإن من أقسام الضعيف حديث باطل، ثم إن التوفيق إنما يكون في الأحاديث الصحيحة إذا تعارضت، وهذا حديث لا يصلح للمعارضة أصلاً، لأنه ليس صحيحاً بل هو باطل، بل الاختلاف شر، والله عز وجل حذر من سبل التفرقة حيث قال: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] فاتضح من ذلك أن التفرق مذموم في القرآن والسنة.(320/23)
عود الضمير في قوله تعالى: (وتعزروه وتوقروه وتسبحوه)
السؤال
ذكرت ضمن كلامك آية في توقير الرسول صلى الله عليه وسلم وهذه الآية: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح:9] فهل هنا الضمير يعود على الله أم على الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لأنه في آخر الآية يقول الله عز وجل: {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفتح:9]؟
الجواب
أهل التفسير اختلفوا في تفسير هذه الآية؛ فبعض أهل العلم قالوا: إن الضمير في قوله تعالى: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} يرجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والضمير في قوله تعالى: {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفتح:9] يرجع إلى الله عز وجل.
والتعزير هنا بمعنى النصرة والتأييد.(320/24)
تغيير المنكر في المدارس
السؤال
في إحدى المدارس المتوسطة، وفي الصف الذي أنا أدرس فيه تحدث بعض التصرفات الشاذة لبعض الطلبة في الصف عند خروج المدرس، وهذه الأعمال لا ترضي الله، وأنا أتألم عندما أرى هذا الشيء، فهل أخبر عنهم من يهمه الأمر، أم لا؟
الجواب
طبعاً يا أخي: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه) فعليك أن تنصحهم وتحذرهم بأنك ستخبر الإدارة، فإن لم يرجعوا عن تصرفهم، فلتذهب إلى من يوثق بدينه من المدرسين، لأنه قد تخبر أحد المدرسين فلا يفعل شيئاً، فتحر من يوثق بعلمه ودينه من المدرسين أو من الإدارة، وليكونوا من الذين في قلوبهم غيرة على الإسلام والمسلمين وعلى المنكرات، وتخبره بهذا.(320/25)
كفارة التائب من تعليق التمائم
السؤال
هل على التمائم كفارة؟
الجواب
إذا علق أحد الناس تميمة، ثم تاب فما عليه كفارة، إنما الكفارة هي التوبة إلى الله عز وجل منها، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من تعلق تميمةً فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعةً فلا ودع الله له).
وهذا تحذير شديد من تعليق التمائم، ولو على الأطفال الصغار، ولو كانت من القرآن في أصح أقوال أهل العلم، لأنها تؤدي إلى امتهان القرآن عند دخول الخلاء، ولأنها تفضي إلى تعليق ما ليس بقرآن، ربما علق أحدهم دعاء، أو آية الكرسي، لكن بعضهم يعلق دعاء فيه توسل بالصالحين، وهكذا تتطور القضية.(320/26)
ترك الجدال إذا لم يكن فيه فائدة
السؤال
كيف تجادل الذي يجادلك في السنة ويقول: إنها بدعة، ويقول لك: قال الله وقال رسوله، أو قال الشيخ على الأقل؟
الجواب
{ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] فإذا صار الجدال عقيماً لا ينفع، فالسكوت في هذه الحالة هو المطلوب.(320/27)
الحكمة في الدعوة
السؤال
تقول السائلة: إن لها أختاً ملتزمة، ولكن عندما أقول لها: افعلي كذا، تقول: نعم، لكن بغير رضا، فماذا أفعل لها؟
الجواب
الإنسان في نفسه كبرياء، إلا من عصم الله فإنه لا ينزعج، ولا بد من الحكمة في الدعوة، ومن الدعوة إلى الله الموعظة الحسنة والأسلوب الحسن حتى لو كان الشيء صحيحاً، فإنك قد تنفر الناس بأسلوبك الخاطئ، وكثيراً ما يحدث هذا، يكون المدعو إليه شيئاً حسناً، لكن طريقة الدعوة تجعل الناس ينفرون من هذا الكلام الذي تقوله.(320/28)
قصة محاولة نبش القبر النبوي
السؤال
يقول: سمعت أن قبر الرسول صلى الله عليه وسلم قد حاول بعض الناس نبشه في عهد بعض الخلفاء، أرجو أن تذكر هذه القصة؟
الجواب
أنا لا أعرف هذه القصة، لكن ذكر ابن تيمية رحمه الله في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم أن بعض الناس في عهد بني أمية بنوا على قبر الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة، فـ عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد لما تولى الخلافة أزال هذه الأشياء من فوق القبر، أو قال: إنها لما أزيلت، بدت قدم ففزع عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، فقال له عروة بن الزبير: لا تجزع يا أمير المؤمنين، هذه قدم عمر بن الخطاب.(320/29)
درجة حديث (مطل الغني ظلم)
السؤال
ما رأيك في حديث: (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته)؟
الجواب
في المرة الماضية قلنا: أنه ضعيف، وهو حديث حسن في صحيح الجامع.(320/30)
كتب ينصح بقراءتها
السؤال
أريد أهم كتب ابن القيم رحمه الله؟
الجواب
كتب ابن القيم كلها طيبة وفيها فوائد كثيرة، ولكن من الكتب الطيبة جداً كتاب الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، وكتاب: زاد المعاد، ولطلبة العلم كتاب: مفتاح دار السعادة.(320/31)
حكم دخول المرأة المسجد حائضاً
السؤال
ما حكم من تدخل المسجد لحضور حلقة العلم، وبها الدورة الشهرية؟ هل عليها إثم؟ وسمعت من بعض المدرسات أنه يجوز.
الجواب
لا يجوز دخول الحائض إلى المسجد، وذكره الشيخ عبد العزيز قال: لا بأس أن تجلس خارج المسجد وتسمع الدرس أو المحاضرة.(320/32)
حكم تأخير صلاة العشاء
السؤال
يقول: ما حكم تأخير صلاة العشاء إلى التاسعة أو العاشرة مساءً على سبيل الأفضلية؟ وما حكم جهر المرأة بالصلاة إذا كانت في بيتها لوحدها ولا يسمعها أي رجل؟
الجواب
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يؤخر بعض الصلوات، ويعجل بعض الصلوات، فمن الصلوات التي كان يؤخرها صلاة الظهر وصلاة العشاء، فيقول: (أبردوا بالصلاة) أي: صلاة الظهر حتى تميل الشمس، وذلك من شدة الحر، وأخر صلاة العشاء مرةً إلى نصف الليل، وبين الحكم في تأخيرها، لكن الآن في المساجد الصلوات مؤقتة، ويصعب أن تؤخر الصلاة إلى نصف الليل، أو إلى قرب نصف الليل، أما بالنسبة للمرأة التي لا تجب عليها صلاة الجماعة، فلا بأس أن تؤخر صلاة العشاء، ويكون ذلك أكثر أجراً لها.
أما حكم جهر المرأة، فالمرأة مثل الرجل في الصلوات الجهرية والسرية، وليس هناك تخصيص، فيجوز لها أن تجهر في الجهرية وتسر في السرية، وذلك عند عدم سماع الأجانب لها.(320/33)
حكم خروج الرجل بعد الأذان من المسجد
السؤال
إذا دخل المسلم المسجد هل يجوز أن يخرج منه قبل أداء صلاة الفريضة؟
الجواب
حديث أبي هريرة في صحيح البخاري: إنه رأى رجلاً خرج بعد الأذان، فقال: (أما هذا فقد عصى أبا القاسم) لذلك لا يجوز للإنسان أن يخرج بعد الأذان، ولو دخل المسجد وكان المؤذن قد أذن، فلا يجوز له أن يخرج إلا أن يكره على الخروج أو لضرورة.(320/34)
نصيحة لمن ينام عن صلاة الفجر
السؤال
يقول: إني لا أقوم الفجر، فماذا أفعل؟
الجواب
قضية القيام لصلاة الفجر مشكلة، لكن من الأسباب، فنرجو أن يسامحه الله عز وجل، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، صلاة الفجر مع الجماعة في المسجد واجبة، وما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب، فلو كان القيام لصلاة الفجر لا يمكن أن يتم إلا إذا نمت، فيجب عليك أن تنام مبكراً، وتأثم إذا نمت متأخراً، إذا كنت تعلم أنك لو نمت متأخراً فلن تقوم إلى الصلاة، لذا فإنك تأثم لو نمت متأخراً، حتى ولو كان ذلك السهر في طلب العلم، وعليك أن تعمل بالأسباب.
مثلاً: توصي أحداً من الجيران أن يدق عليك بالهاتف، وهناك الآن خدمة الساعة المنبهة، فلا بد من اتخاذ الأسباب، فإذا اتخذ الأسباب ولم يقم إلى الصلاة، فالله عز وجل لا يعاقب النائم.(320/35)
معنى كلمة: الوحي
السؤال
وردت كلمة: الوحي فما المقصود؟
الجواب
المقصود: القرآن والسنة، لأن الحديث وحي من الله، الشافعي رحمه الله بين أن الوحي هو: القرآن والسنة.(320/36)
إجزاء غسل الجنابة عن الوضوء
السؤال
هل يجزئ غسل الجنابة عن الوضوء؟
الجواب
نعم.(320/37)
خروج الريح لا يوجب الاستنجاء
السؤال
إذا خرج الإنسان منه ريح فهل يجب عليه الاستنجاء؟
الجواب
لا، خروج الريح لا يوجب الغسل ولا الاستنجاء.(320/38)
مشكلة ثوران الشهوة عند الشباب
السؤال
أنا عندما تأتي شهوتي أفعل شيئاً فما حكم ذلك؟
الجواب
قد يشير السائل إلى استخدام العادة السرية، والأرجح من كلام العلم أنها محرمة لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المعارج:29 - 31].
ولا شك أن ممارستها تسبب أضراراً، وينصح كل شاب بالزواج، بل قد يجب عليه وجوباً.
وإن كان غير مستطيع للزواج، فعليه أن يذهب مع الدعاة للعلم والتعلم والدعوة حتى لا يجد لحظة فراغ، فلا يستلقي على السرير إلا وينام من التعب، وعليه بالأعمال الصالحة فهي من أعظم العلاجات.(320/39)
بم تدرك صلاة الجماعة؟
السؤال
يقول: إذا أدرك المصلي التسليمة الثانية، فهل أدرك الصلاة؟
الجواب
الصلاة لا تدرك إلا بالركوع، أي أن أجر صلاة الجماعة ما يدرك إلا إذا أدرك الركوع، والتسليمة الثانية سنة والأولى فرض على التحقيق، فإذا سلم الإنسان التسليمة الأولى، حل من الصلاة لأن تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم، فالتسليمة الأولى تعتبر التسليم، ويؤيد هذا القول الأحاديث الواردة في التسليمة الواحدة، فلذلك من أدرك التسليمة الثانية لا يعتبر من الذين أدركوا الصلاة، فإذا دخلت المسجد ووصلت الصف، وسلم الإمام التسليمة الأولى فلا تجلس ولا تصل معهم، بل تنتظر إلى الجماعة التي بعدها.(320/40)
حكم لبس السلاسل الفضية والساعات المزينة للرجال
السؤال
ما حكم لبس السلاسل للرجال؟ وإن لم تكن من ذهب؟
الجواب
يعني: لو كانت من فضة.
أجاب على هذا الشيخ عبد العزيز بن باز جزاه الله خيراً، يقول: هذا ليس بمعتاد من فعل الرجال، ولذلك لا يجوز وفيه تشبه بالتزين، وإنما يكون التزين بهذه الأشياء للنساء.
ويستثنى من هذا الحكم الخاتم لورود النص به، وأما الساعة فيجب أن ندقق فيها، والمفروض أن يكون الغرض من لبس الرجل للساعة هو المعرفة للوقت، لا لشيء آخر.
فإذا اشترى أحد الناس ساعة جميلة ومزخرفة، فهل يجوز له لبسها أم لا؟ إذا كان لبسه لها للزينة، وليس لمعرفة الوقت، فعند ذلك يكون هذا فيه تشبه بالنساء، وهذا حكمه معروف.
فلذلك ينبغي للرجال أن يتنبهوا لهذا، والمسألة تحتاج إلى زيادة تفصيل.(320/41)
درجة حديث (من أدرك تكبيرة الإحرام أربعين يوماً)
السؤال
يقول: ما مدى صحة حديث: (من أدرك تكبيرة الإحرام أربعين يوماً، كتبت له براءتان: براءة من النفاق، وبراءة من الشرك)؟
الجواب
الحديث هذا حسن كما في صحيح الجامع: (من أدرك تكبيرة الإحرام أربعين يوماً، كتبت له براءتان: براءة من النفاق، وبراءة من الشرك) أي: من أدركها أربعين يوماً في الصلوات المفروضة المتتالية.(320/42)
شكوى الصحابة لا تنقص من قدرهم
السؤال
كأني سمعتك تقول: إن بعض الصحابة قد سخر بعضهم من بعض، فإذا كان الأمر كذلك، فإن ذلك ينافي رضوان الله عليهم؟
الجواب
أنا لا أعتقد ذلك، فقد ثبت أن أبا ذر رضي الله عنه وأرضاه قال: يا بن السوداء، لبعض الصحابة، فاشتكى منه، فالصحابة من البشر، فهذا لا ينقص من قدرهم شيئاً.(320/43)
أحاديث الآحاد هل تفيد القطع؟
السؤال
ذكرت أن أحاديث الآحاد ظنية لا يقينية، فهل هذا يعني عدم الجزم بها؟
الجواب
إنما قلت: بعض أهل العلم الذي قالوا: إن أحاديث الآحاد ظنية يخالفهم علماء آخرون، لكن أنا بنفسي أوجه قول هؤلاء، وأوضح ما هو مقصودهم بالفعل، إذا قالوا: إن أحاديث الآحاد تفيد الظن لا القطع، فإنهم لا يعنون أنه لا يعمل به، أنا دافعت عمن يقول بهذا القول أنه لا يعني أنه لا يعمل به، وإذا وجد الحديث الصحيح المعروف فإنه يجب العمل به.
أما من حيث المسألة فهل حديث الآحاد يفيد الظن أو القطع؟ فحديث الآحاد قسمان: قسم اتفقت عليه الأمة واشتهر واستفاض، كما في أحاديث الآحاد التي في الصحيحين، فهي تفيد القطع، لأن الأمة تلقت الصحيحين بالقبول.
أما الأحاديث الأخرى التي صححت الآن، وما استفاض عمل الأئمة فيها، فهي تفيد الظن، بعضهم يصححها، وبعضهم يضعفها.(320/44)
علامة الأخوة في الله
السؤال
كيف أعرف أن أُخُوَّتي مع أَخي أُخُوَّة في الله؟
الجواب
هذا سؤال مهم أيها الإخوة، لأن بعض الناس يؤاخون أشخاصاً، لكن أخوتهم ليست أخوة في الله.
إذا أردت أن تعرف هل هذه الأخوة في الله أم لا، فاسأل نفسك: لماذا أنا آخيت فلاناً؟ هل آخيته لإيمانه وتقواه، ولأعمال صالحة؛ لخشوعه في الصلاة، ولطلبه للعلم، ولدعوته إلى الله عز وجل، أم أنك آخيته لظرافته، أو شكله، أو خفة دمه؟ فإذا كان شيء من الطرف الثاني هذا، فاعلم أنك على خطأ.(320/45)
كيفية معاملة أهل الكفر
السؤال
كيف تكون معاملة من ينتسب إلى الباطنية، أو إلى مذاهب خارجة عن الإسلام؟
الجواب
أيها الإخوة إن قضية الولاء والبراء، الولاء بيننا وبين المؤمنين والبراء بيننا وبين الكفار، تعني أن الإنسان لا يتودد إليهم، ولا يبدي لهم البشاشة بلقياهم، ولا يتحبب إليهم، ويقطع الصلة بيننا وبينهم، لأنهم قطعوا حبل الله، لكن هذا لا يعني الإساءة إليهم، وأن أسبهم في المجامع وألعنهم بما فيهم، فإن فيه مفاسد أكبر من السكوت، ولذلك يقول الله عز وجل: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] فسب الكفار جائز لا حرج فيه، لكن إذا أدى سب الكفار إلى مفسدة أكبر مثل: أن يسبوا الله، أو يسبوا الدين أو النبي، فعند ذلك لا يجوز سبهم، فلا بد أن نفهم أن عدم الإحسان لا يعني الإساءة، وأنه إذا توفرت مفاسد كبيرة على شتمك له، فلا تسبه، ولا تشتمه، فالإنسان المسلم الداعية إلى الله حكيم في أفعاله، والحكمة تقتضي أحياناً إخفاء العداوة.(320/46)
ضرب الطبل في الشعر
السؤال
ما هو حكم ضرب الطبول في الشِّعر؟
الجواب
ورد النهي الكوبة في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، والكوبة هي الطبل، فلا يجوز.(320/47)
مع ملتزم مبتدئ
السؤال
لدي شخص بدأ بالالتزام، فما هي المراحل التي يجب أن يتبعها باستمرار؟
الجواب
هذا يحتاج إلى جواب طويل، لكن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها، فإذا كان هناك إنسان بدأ في الالتزام، فاحرص على جلب المصالح إليه، وتكثيرها، ودرء المفاسد عنه وتقليلها، فعليك ببناء الإيمان في نفسه وإبعاده عن الأجواء السامة وإزالة الشرك والجاهلية من قلبه.(320/48)
صلة الأرحام والمحاذير الموجودة
السؤال
الذي يريد أن يصل أقاربه، ولكنهم كثرة، فماذا يفعل إذا كان خائفاً من الفتنة؟
الجواب
إذا تبين أنه أراد أن يزور رحمه ويصلهم، وعندهم بنات، وهو لا يمكن أن يخالطهم حتى يجلسن معه، فهذا في الشريعة لا يجوز، لا يعني الأمر بصلة الرحم أن يتعدى حدود الله وينتهك محارم الله عز وجل.
ويمكنه أن يتصل بهم على الهاتف، ويبلغهم السلام عن طريق فلان وفلان، وذلك إذا لم تتمكن من دخول البيت بطريقة شرعية، وإذا دخلت تعرضت للفواحش، فهناك وسائل أخرى لصلة الرحم، إذ ليست الصلة مقصورة فقط على الزيارة، فهناك الاتصال والمراسلة وإرسال السلام مع الناس، وإهداء الهدايا إليهم والطعام فكل ذلك من الصلة والإحسان إليهم، أما أن تجلس إذا دخلت عندهم مع ابنة عم أو ابنة خال متكشفة ومتبرجة، فهذا ليس من صلة رحم.(320/49)
مراعاة المصالح الشرعية في جرح الأشخاص
السؤال
أحياناً يطلب مني أن أتكلم عن شخص، والكلام الذي سأقوله قد يكون فيه سلبيات هذا الشخص، فهل يجوز لي أن أتكلم؟
الجواب
حدود الكلام متعلقة بالمصلحة الشرعية، فإذا كان هناك مصلحة شرعية في كلامك، فلتتكلم، إذا لم يكن هناك مصلحة شرعية، فلا تتكلم.
وإذا تكلمت عن فلان، فتكلم فقط في الجانب الذي يريده السائل.
فلو أن إنساناً مثلاً سألك عن فلان: أريد أن أشغله عندي في المعمل، أو في الدكان فتكلم فيما يتعلق بأمانته وبراعته في العمل، ولا تقل: إن هذا الرجل له علاقة بفتاة، فإنه لا دخل لهذه القضية بهذه، أنت فقط تتكلم جرحاً وتعديلاً في الجانب الذي يتعلق به السؤال.
أحد الناس سألك وقال لك: أنا أريد أزوج ابنتي على فلان، فبماذا تنصح؟ فتكلم له عن الجانب الذي يخص الزواج؛ دينه وخلقه، بعض الناس يتكلم ويعدد كل السلبيات وكل الأمور التي لا تهم، لا بد من مراعاة المصالح الشرعية.
رجل أراد أن يزوج ابنته لرجل كان فاجراً ثم تاب إلى الله عز وجل، فلا تقل له: كان يفعل، وكان يعمل، فقد تغيرت حاله وتاب إلى الله عز وجل.(320/50)
هل تعلم العلوم الطبيعية جهاد؟
السؤال
هل تعلم العلوم الطبيعية الدنيوية جهاد في سبيل الله؟
الجواب
العلم الدنيوي مثل الرياضيات والفيزياء، الشيخ ابن باز ينبه إلى قضية كل الناس يخطئ فيها فيقول: كل الآيات والأحاديث التي تتكلم عن العلم مثل قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران:18] إنما يقصد بها العلم الشرعي.
إذا وجد حسن النية في العلوم الدنيوية وكان فيها منفعة للمسلمين فهي جهاد في سبيل الله.(320/51)
حكم قول المدرسة للطالبة: يا شقية! يا كسلانة!
السؤال
هل تأثم المعلمة عندما تقول للطالبة: يا شقية يا كسلانة؟
الجواب
الشيخ عبد الرزاق عفيفي عضو الإفتاء، يقول: هذا يعتمد على النية، فإذا كان قصد المعلمة من هذا الكلام تحفيز الطالبة من أجل الدراسة جاز، أما إذا كان قصدها الاستهزاء والسخرية، فذلك لا يجوز.
بل لو نظرت إلى شكل فلان وحدثتك نفسك عنه بسخرية واستهزاء، لكنك ما أظهرت هذا الكلام فإن ذلك يعتبر استهزاءً وسخرية.
يقول الشيخ عبد الرزاق: ولا يجوز أن تسخر وتستهزئ لا في نفسك ولا في ظاهرك.
نكتفي بهذا القدر من الأجوبة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
سبحانك الله وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(320/52)
ابن القيم العالم الرباني
علماء الأمة هم وجهها الذي به تقابل الأجنبي، وهم المنارة التي تعتز بها على الخارجي، وقد هيأ الله لهذه الأمة علماء حفظ بهم الدين، وأحيا بهم سنة سيد المرسلين، فكان الحديث عنهم جزءاً من العلم، والعلم بأحوالهم حافزاً إلى الطلب، ومن هؤلاء العلماء العلامة ابن القيم، فتمتع بالحديث عنه وعن علمه وسيرته، كما تتمتع بالقراءة في كتبه العذبة(321/1)
نبذة مختصرة عن سيرة ابن القيم الشخصية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أيها الإخوة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته في هذه الليلة سنتكلم عن ابن القيم -رحمه الله تعالى- علمٌ من أعلام المسلمين الذي كان له فضلٌ عظيمٌ في نصرة هذا الدين، وفي نشر سنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وهو الذي تكلم وناظر وألف في تبيانه للإسلام، حتى غدت مؤلفاته منابع خير يتلقى منها من بعده، فأصبح الناس عالةً على كتبه، وهذا الرجل مغموط الحق عند الكثيرين، مجهول الحال عند أغلب المسلمين، ولعلنا في هذه النبذة التي نقدمها عن حياته ومنهجه وأسلوبه نكون قد قمنا بشيء بسيط من الواجب نحو هذا العلم الضخم من أعلام المسلمين.
أما ابن القيم -رحمه الله تعالى- فكنيته أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أيوب بن سعد بن حريز بن مكي الزرعي الدمشقي المشتهر بـ ابن قيم الجوزية رحمه الله.
ولد في السابع من شهر صفر من سنة 691هـ، وذكر بعضهم أن ولادته كانت بـ دمشق، وكان والده -رحمه الله- ناظراً ومشرفاً على مدرسة الجوزية التي أنشأها وأوقفها -رحمه الله تعالى- ولأن أباه كان مشرفاً على هذه المدرسة، فكان المشرف يسمى قيماً، فاشتهر ابنه بـ ابن القيم -رحمه الله-؛ ولذلك يقال على سبيل الاختصار: ابن القيم، وإلا فإن اسمه، محمد، وكنيته أبو عبد الله، ولقبه شمس الدين، ويخطئ من يقول: ابن القيم الجوزية، وإنما الصحيح ابن قيم الجوزية، أو اختصاراً ابن القيم، وخلط كثيرون بينه وبين ابن الجوزي، وترتب على هذا الخلط إشكالات، منها: أن نسبت كتبٌ لـ ابن القيم هو منها بريء، مثل: كتاب دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه وهو كتابٌ منحرفٌ في العقيدة، وكذلك كتاب أخبار النساء لـ ابن الجوزي، وكان أبوه -رحمه الله- وأخوه وابن أخيه من المشتهرين بالعلم والفضل.
نشأ -رحمه الله- في جوٍ علمي، وله من الأولاد عبد الله الذي ولد سنة 723هـ، وكانت وفاته سنة 756هـ، وكان ولداً مفرطاً في الذكاء، فقد حفظ سورة الأعراف في يومين، وصلى بالقرآن سنة 731هـ، وأثنى عليه أهل العلم بأمورٍ كثيرة منها: غيرته في أمر الله، وذكر ابن كثير -رحمه الله- أن هذا الولد قد أبطل بدعة الوقيد بجامع دمشق في ليلة النصف من شعبان، حيث كانت توقد نيران في ليلة النصف من شعبان وهي بدعة، أبطلها ولد ابن القيم -رحمه الله- وله ولدٌ آخر اسمه إبراهيم كان علامةً نحوياً فقيهاً شرح الألفية.(321/2)
حياة ابن القيم العلمية والعملية
برع ابن القيم -رحمه الله- في علوم كثيرة لا تكاد تحصى، وهي سائر علوم الشريعة، مثل: التوحيد، والتفسير، والحديث، والفقه، والأصول، والفرائض، واللغة، والنحو، وكان من المتفننين، وتفقه في المذهب، وبرع وأفتى ولازم شيخ الإسلام ابن تيمية، وكان عارفاً في التفسير لا يجارى، وسمع الحديث، واشتغل بالعلم، وقال عنه الذهبي -رحمه الله-: "عني بالحديث ومتونه ورجاله، وكان يشتغل بالفقه ويجيد تقريره".
وقال ابن ناصر الدين -رحمه الله-: "كان ذا فنون في العلوم".
وقال ابن حجر: كان جريء الجنان، واسع العلم، عارفاً بالخلاف ومذاهب السلف.
وقد رحل رحلات لكنها ليست بالكثيرة، فمثلاً رحل إلى مصر، فقال في بعض كتبه: وقد جرت لي مناظرة بـ مصر مع أكبر من يشير إليه اليهود بالعلم والرياسة، والسبب الذي لم يشتهر من أجله ابن القيم في الرحلة أنه قد نشأ بمدينة دمشق، وكانت عامرةً بالعلماء، وبالمكتبات، وبالمدارس، وأتى إليها طلبة العلم والعلماء من كل حدب وصوب؛ فلم يعد هناك داعٍ كبيرٍ للرحلة، وخيركم من يأتيه رزقه عند عتبة بابه.(321/3)
أسفار ابن القيم وتأليفه للكتب فيها
وقد حج -رحمه الله- حجات كثيرة، وجاور في بيت الله الحرام، وقال عنه تلميذه ابن رجب: "حج مرات كثيرة، وجاور بـ مكة، وكان أهل مكة يذكرون عنه من شدة العبادة وكثرة الطواف أمراً يتعجب منه وقد ذكر رحمه الله في بعض كتبه أشياء مما حصلت له في مكة، فقال في قصة تأليف كتابه مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة قال في مقدمته: "وكان هذا من بعض النزل والتحف التي فتح الله بها علي حين انقطاعي إليه عند بيته، وإلقاء نفسي ببابه مسكيناً ذليلاً، وتعرضي لنفحاته في بيته، وحوله بكرة وأصيلاً" فكان هذا الكتاب قد ألفه في مكة -رحمه الله تعالى.
وقال عن استشفائه بماء زمزم: "لقد أصابني أيام مقامي بـ مكة أسقامٌ مختلفة، ولا طبيب، ولا أدوية- كما في غيرها من المدن- فكنت أستشفي بالعسل، وماء زمزم، ورأيت فيها من الشفاء أمراً عجيباً".
وقال في مدارج السالكين عندما تكلم عن موضوع الرقى: لقد جربت في ذلك من نفسي وغيري أموراً عجيبةً، ولا سيما في المقام بـ مكة، فإنه كان يعرض لي آلاماً مزعجةً؛ بحيث تكاد تنقطع مني الحركة، وذلك في أثناء الطواف وغيره، فأبادر إلى قراءة الفاتحة، وأمسح بها على محل الألم، فكأنه حصاة تسقط، جربت ذلك مراراً عديدةً، وكنت آخذ قدحاً من ماء زمزم، فأقرأ عليه الفاتحة مراراً فأشربه، فأجد به من النفع والقوة ما لم أعهد مثله في الدواء، والأمر أعظم من ذلك، ولكن بحسب الإيمان وصحة اليقين، والله أعلم.
وهذا السفر مع بعده عن الأولاد والوطن، لم يكن يشغله عن طلب العلم والتأليف والنظر، فهو وإن سافر فإنه لا يحمل من الزاد إلا أمراً يسيراً، وكانت مكتبته في صدره رحمه الله، ومن العجيب أنه قد ألف كتباً حال سفره منها: مفتاح دار السعادة، وروضة المحبين، وزاد المعاد، وبدائع الفوائد، وتهذيب سنن أبي داود ألفها في حال السفر، وليس في حال الإقامة، وكان -رحمه الله- مغرماً بجمع الكتب، فإنك تجد -مثلاً- في كتابه اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية قد رجع إلى أكثر من مائة كتاب، وفي أحكام أهل الذمة ذكر نحو ثلاثين كتاباً، وكذا في كتابه الروح، وهذا يعني أنه كان عنده مراجع كثيرة، وكان يهتم بكتبه، وقد حصل عنده من الغرام بتحصيل الكتب أمراً عظيماً؛ حتى أنه جمع منها ما لم يجمع غيره، وحصل منها ما لم يحصل لغيره؛ حتى كان بعض أولاده من الذين أتوا من بعده يبيعون منها بعد موته دهراً طويلاً غير ما أبقوه لأنفسهم للإفادة منه، وكذلك كان ابن أخيه قد صار عنده شيئاً من مكتبته، وكان لا يبخل بإعارتها.(321/4)
أعمال ابن القيم رحمه الله
تولى ابن القيم -رحمه الله- أعمالاً عديدةً، منها: الإمامة في المدرسة الجوزية، والتدريس في المدرسة الصدرية، والفتوى، والتأليف.
وقد تعرض -رحمه الله- للسجن بسبب فتاوي رأى أن الحق فيها، مثل: مسألة طلاق الثلاث بلفظ واحد، ومثل: إنكار شد الرحال إلى قبر الخليل؛ حيث يقول ابن رجب -رحمه الله-: وقد حبس مدة لإنكاره شد الرحال إلى قبر الخليل؛ مع أن شد الرحال إلى قبر الخليل من البدع المحدثة، ولا يشرع شد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، وكل شد رحل لزيارة مكان عبادة، أو قبر من القبور، أو مسجد من المساجد، فإنه بدعةٌ من البدع، فما بالك بما يحدث اليوم من بعض الناس بزيارة أماكن المغضوب عليهم في رحلات سياحية، مثل: مدائن صالح التي أهلك الله قومها ومن كان فيها، والنبي عليه الصلاة والسلام لما مرَّ بها مرَّ مطأطئ الرأس، حزيناً، مسرعاً، خائفاً من عذاب الله، واليوم يشدون الرحلات السياحية إلى تلك الأماكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(321/5)
أخلاق ابن القيم وتواضعه
وأما عن أخلاق ابن القيم -رحمه الله- فقال ابن كثير: كان حسن القراءة والخلق، كثير التوجه، لا يحسد أحداً ولا يؤذيه، ولا يستعيبه، ولا يحقد على أحد، وبالجملة كان قليل النظير في مجموعه، وأموره، وأحواله، والغالب عليه الخير والأخلاق الفاضلة؛ ولهذا الطبع المتأصل في نفسه تجده يقول -مثلاً- في بعض كتبه: من أساء إليك، ثم جاء يعتذر عن إساءته، فإن التواضع يوجب عليك قبول معذرته حقاً كانت أو باطلاً، وتكل سريرته إلى الله عز وجل- كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين.
وأما عن تواضعه، فإنه كان أمراً عجيباً، وقد ذكر العلامة الصفدي -رحمه الله تعالى- ميميته الرقيقة التي يتحدث فيها ابن القيم عن هضمه لنفسه، ويفي بتواضعه من خلال أبيات تلك القصيدة، فيقول:
بُني أبي بكرٍ كثيرٌ ذنوبه فليس على من نال من عرضه إثمُ
بُني أبي بكرٍ جهولٌ بنفسه جهولٌ بأمر الله أنَّى له العلمُ
بُني أبي بكرٍ غدا متصدراً يعلم علماً وهو ليس له علمُ
بُني أبي بكرٍ غدا متمنياً وصال المعالي والذنوب له همَّ
بُني أبي بكرٍ يروم مترقياً إذا جنت المأوى وليس له عزمُ
بُني أبي بكرٍ لقد خاب سعيه إذا لم يكن في الصالحات له سهمُ(321/6)
عبادة ابن القيم وزهده
وأما عن عبادته وزهده، فإن من يقرأ مؤلفاته -رحمه الله- يخرج بدلالة واضحة، وهو: أنه كان عنده من عمارة القلب باليقين، والافتقار إلى الله عز وجل، والعبودية أمراً عظيماً، وتجد في ثنايا كلامه من إنابته إلى ربه، والحاجة إليه عز وجل ثروةً طائلةً، فكان من العلماء العاملين الذين كانوا من أهل الله وخاصته.
قال ابن رجب رحمه الله: وكان -رحمه الله- ذا عبادة وتهجد وطول صلاة إلى الغاية الوسطى، وتأله ولهج بالذكر وشغف بالمحبة والإنابة والاستغفار، والافتقار إلى الله، والاطراح بين يديه على عتبة عبوديته، لم أشاهد مثله في ذلك، ولا رأيت أوسع منه علماً، ولا أعرف بمعاني القرآن والسنة منه، وليس هو المعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله، ولقد امتحن وأوذي مرات، وحبس مع الشيخ تقي الدين في المرة الأخيرة في القلعة منفرداً عنه، لم يفرج عنه إلا بعد موت شيخه ابن تيمية -رحمه الله-، وكان في مدة حبسه منشغلاً بتلاوة القرآن والتدبر والتفكير، ففتح الله عليه من ذلك خيراً كثيراً.
وحج مرات وجاور بـ مكة، وكان أهل مكة يذكرون عنه من شدة العبادة وكثرة الطواف أمراً يتعجب منه.
وقال تلميذه ابن كثير: لا أعرف في هذا العالم في زماننا أكثر عبادة منه، وكان له طريقةً في الصلاة يطيلها جداً، ويمد ركوعها وسجودها، ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان فلا يرجع، ولا ينزع عن ذلك رحمه الله تعالى.
وقال ابن حجر: كان إذا صلى الصبح، جلس مكانه يذكر الله حتى يتعالى النهار، وكان يقول: هذه غدوتي لو لم أقعدها سقطت قواي، وكان يقول: بالصبر والفقه تنال الإمامة بالدين.(321/7)
ابن القيم وشيخه ابن تيمية
لقد حدثت حادثة في حياته -رحمه الله تعالى- كان لها أثراً عظيماً، وهي: التقاؤه بشيخ الإسلام أحمد بن عبد السلام ابن تيمية -رحمهما الله تعالى- لقيه في سنة 712هـ، وهي السنة التي عاد فيها الشيخ ابن تيمية من مصر إلى دمشق، ولازمه حتى مات ابن تيمية رحمه الله سنة 728هـ، وهذا يعني أنه لازمه ستة عشر عاماً.(321/8)
ابن القيم قبل لقائه بابن تيمية
ذكر ابن القيم -رحمه الله- أنه كان في مبدأ أمره مفتوناً بعقيدة الأشاعرة في الصفات، وبكلام بعض النفاة، وكان له سقطات، فلما خالط شيخ الإسلام، اهتدى على يديه، ولذلك يقول ابن القيم في نونيته:
يا قوم والله العظيم نصيحة من مشفقٍ وأخٍ لكم معوانِ
جربت هذا كله ووقعت في تلك الشباك وكنت ذا طيرانِ
حتى أتاح لي الإله بفضله من ليس تجزيه يدي ولساني
فتىً أتى من أرض حران فيا أهلاً بمن قد جاء من حرانِ
من الذي جاء من حران؟ ابن تيمية -رحمه الله- لأن ابن تيمية حراني.
فالله يجزيه الذي هو أهله من جنة المأوى مع الرضوان
أخذت يداه يدي وسار فلم يرم حتى أراني مطلع الإيمانِ
ورأيت أعلام المدينة حولها نزل الهدى وعساكر القرآنِ
ورأيت آثاراً عظيماً شأنها محجوبةً عن زمرة العميانِ
ووردت كأس الماء أبيض صافياً حصباؤه كلآلئ التيجانِِ
ورأيت أكواباً هناك كثيرةً مثل النجوم لواردٍ ظمآن
ورأيت حول الكوثر الصافي الذي لا زال يشخب فيه من زابانِ
نحن نعلم أن نهر الكوثر الذي في الجنة يصب في الحوض عبر ميزابين، فيستشهد ابن القيم رحمه الله تعالى بهذا الحديث يأخذ منه تعبيراً لكي يقول للناس: إن ابن تيمية أخذ بيدي حتى أوردني الحوض الصافي الذي يشخب فيها ميزابان الكتاب والسنة.
ميزان سنته وقول إلهه وهما مدى الأيام لا ينيانِ
والناس لا يردونه من الآلاف أفرادٌ ذوو إيمانِ
إلا من أنعم الله عليه، وإلا فإن كثيراً من الناس قد تخبطوا وضلوا، وأرادوا الحق فلم يصلوا إليه.(321/9)
اعتناء ابن تيمية بتلميذه ابن القيم
لقد اعتنى ابن تيمية -رحمه الله تعالى- بتلميذه اعتناءً كثيراً، وكان يخصه بمزيد من التعليم والتنبه لأحواله والتربية العميقة.
ويقول ابن القيم رحمه الله: قال لي شيخ الإسلام رضي الله عنه، وقد جعلت أورد عليه إيراداً بعد إيراد، آتي بشبهة، وأقول: أريد الجواب عليها، ثم آتي بشبهة، وأقول: أريد الجواب عليها، فقال له نصيحة: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة، فيتشربها فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليك، صار مقاماً للشبهات.
قال ابن القيم: "فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بهذه".
وقال في مدارج السالكين: "قال لي شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- مرةً: العوارض والمحن هي كالعوارض والبرد، فإذا علم العبد أنه لا بد منها -لا بد من الابتلاء، ولا بد من المحنة- لم يغضب لورودها، ولم يغتم ولم يحزن، وإنما يعلم أن هذا ابتلاء من الله يريد الله به أن يزيد له في حسناته، ويكفر به عنه من سيئاته، ويرفع له في درجاته، فيحمد الله على المحنة".
ويرشد ابن تيمية -رحمه الله- تلميذة إلى ترك التوسع في المباحات، يقول ابن القيم: قال لي يوماً شيخ الإسلام في شيء من المباح: هذا ينافي المراتب العليا، وإن لم يكن تركه شرطاً في النجاة -أي: أن التوسع في المباحات جائز، لكن تركها أولى؛ لأنها تصرف العبد عن الانشغال بما هو أهم وأفضل- وقد وفى ابن القيم -رحمه الله- لشيخه وفاءً عظيماً، فإنه قد ظل يشاركه في أعماله وأحواله حتى آخر لحظة من حياته؛ حتى أنه امتحن وأوذي بسبب شيخ الإسلام، ودخل معه السجن، وجعل في زنزانة منفردة عن شيخ الإسلام، أفرد ابن القيم حتى مات شيخه رحمه الله تعالى.(321/10)
طريقة ابن القيم في التفقه
وأما مذهب ابن القيم -رحمه الله- فإن كثيراً من أهل العلم ينسبونه إلى المذهب الحنبلي، ولكنك إذا دققت في أقواله وفتاويه، وجدت أنه -رحمه الله- يسير على طريقة السلف في اتباع الأدلة، فيدور مع الدليل حيثما دار؛ سواءً كان الدليل في مذهب أحمد، أو في مذهب الشافعي، أو في غيرها، وكان عنده منهجٌ عظيمٌ- ينبغي لكل طلبة العلم أن يقتدوا به- حيث كان يبحث عن الدليل وينشده مع احترام الأئمة، فلا هو بالذي يقول: هم رجال ونحن رجال؛ بل كان يبحث عن الدليل وينشد الدليل مع احترام الأئمة، فأينما وجد الدليل ذهب إليه كان القائل به من كان، فكانت قاعدته مناشدة الدليل مع احترام الأئمة، وكثيراً ما كان يفتي بخلاف المذهب.
ومن اللطائف التي حكاها -رحمه الله- عن شيخه، شيخ الإسلام ابن تيمية أنه كان يدرس في مدرسة لرواد الفقه الحنبلي، وكانت المدارس في ذلك الوقت توقف عليها أوقافاً حتى يصير منها صرف على المدرسة، وطلبة المدرسة، ورواتب للمدرسين، وثمن الكتب والمعيشة وهكذا، فقال بعضهم لشيخ الإسلام ابن تيمية مرةً- وكان شيخ الإسلام مجتهداً يدور مع الدليل ولا يتعصب لمذهب- قالوا له: أنت تأخذ من وقف هذه المدرسة وواقفها شرط أنها للحنابلة، فقال شيخ الإسلام رحمه الله: إنما أتناول ما أتناوله منها على معرفتي بمذهب أحمد لا على تقليدي لهم، وأنا عالم بمذهب أحمد عارف به وبأصوله.(321/11)
محاربة ابن القيم للتعصب والتقليد الأعمى
لقد استخدم ابن القيم -رحمه الله- أسلوبه الجميل في محاربة التقليد الأعمى، فيقول في فتنة التعصب والتقليد التي ذبحت كثيراً من المسلمين حتى صار بينهم اقتتال، وتفرقوا في المسجد الواحد، فصار لهم في بعض الأحوال والأوقات الماضية أربعة محاريب يصلي كل أصحاب مذهب في محرابه منفصلين، وكان بعضهم لا يزوج أفراداً من المذهب الآخر، وهذا كله نتيجة التعصب الذي ذمه الله ورسوله؛ ولذلك تجد المجددين من أهل العلم ينهون عن التعصب ويحذرون منه، يقول ابن القيم رحمه الله: تالله إنها فتنة عمت فأعمت، ورمت القلوب فأصمت، ربا عليها الصغير، وهرم فيها الكبير، واتخذ لأجلها القرآن مهجوراً، وكان ذلك بقضاء الله وقدره في الكتاب مسطوراً، ولما عمت البلية، وعظمت به الرزية، بحيث لا يعرف أكثر الناس سواها- أكثر الناس لا يعرفون إلا التعصب، ولا يعدون العلم إلا التعصب- فطالب الحق من مظانه لديهم مفتون، ومؤثره على سواه عندهم مغبون، نصبوا لمن خالفهم في طريقتهم الحبائل، وبغوا له الغوائل، ورموه عن قوس الجهل والبغي والعناد، وقالوا لإخوانهم: إنَّا نخاف أن يبدل دينكم، أو أن يظهر في الأرض الفساد.
ولذلك كان ابن القيم يدعو في كتبه دائماً إلى اتباع الدليل، وكان يقول للناس: إذا رأيتم عَلَمَ السنة فاذهبوا إليه.
ويقول في جواب على سؤال نفاة القياس، وهو متحمس لإظهار السنة ومتابعة الدليل: الآن حمي الوطيس، وحميت أنوف أنصار الله ورسوله لنصر دينه وما بعث به رسوله، وآن لحزب الله ألا تأخذهم في الله لومة لائم، وألا يتحيزوا إلى فئة معينة، وأن ينصروا الله ورسوله بكل قول حق قاله من قاله، ولا يكونوا من الذين يقبلون ما قاله طائفتهم- يقبلون قول الفريق الذي يتعصبون له- وينبذون كتاب الله وسنة نبيه.(321/12)
منهج ابن القيم في التأليف والفتوى
كان له -رحمه الله- مؤلفات كثيرة؛ فكان منهجه في التأليف الاعتماد على الكتاب والسنة؛ ولذلك تجد كتبه طافحة بذكر الأدلة، وكان ينعى على من يرد الكتاب والسنة من أصحاب الطواغيت الأربعة القائلين بالمعقول ومقدمي القياس والذوق والسياسة، يقول: إن من الناس الذين يقدمون آراءهم على الكتاب والسنة أربع طوائف، فمنهم: الطائفة الأولى: المتكلمون الذين يقدمون العقل على النقل: يقدمون العقول وآراءهم على نصوص القرآن والسنة.
الطائفة الثانية: المتكبرون، الذين إذا تعارض القياس والحديث، قدموا القياس على النص.
الطائفة الثالثة: المتكبرون المنتسبين إلى التصوف، الذين إذا تعارضت عندهم أذواقهم ومواجيدهم -وهي من الشيطان- قدموها على نصوص الكتاب والسنة.
الطائفة الرابعة: الولاة والأمراء الجائرون، الذين إذا تعارضت عندهم الشريعة والسياسة قدموا السياسة ولم يلتفتوا إلى حكم الشريعة.
وكذلك كان -رحمه الله تعالى- يقدم أقوال الصحابة على من سواهم، وكانت مؤلفاته تتسم بالسعة والشمول، وكان يسير على نهج الجود بالعلم، فإذا سئل عن مسألة، أجاب عنها وأكثر بما يشبع السائل، ويجيبه جواباً شافياً، ولذلك يقول: لا يكن جوابك للسائل بقدر ما تدفع به الضرورة، مثل: نعم، ولكن عليك أن تجود بالعلم، وأشبع رغبة السائل، وأجبه ولو بأكثر مما سأل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ماء البحر هل هو طاهر أم لا؟ أجاب عليه الصلاة والسلام: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) فالسائل سأل عن مسألة واحدة، فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم عن مسألتين: الأولى: طهارة ماء البحر.
الثانية: حل ميتة البحر، وهذا من الجود بالعلم، وكان يستطرد في مؤلفاته، فيذكر فوائد عظيمة، وكان يعرض كثيراً من محاسن الشريعة وحكمة التشريع، وهذا يدل على عمقه وذكائه -رحمه الله- وكان يعنى بالاستدلال والعلل، وكانت كتاباته حيوية تفيض بالمشاعر الفياضة.(321/13)
ثناء العلماء على حسن تأليف ابن القيم
وكان أسلوبه جذاباً.
يقول العلامة الشوكاني رحمه الله: وله من حسن التصرف مع العذوبة الزائدة وحسن السياق ما لا يقدر عليه غالب المصنفين؛ بحيث تعشق الأفهام كلامه، وتميل إليه الأذهان، وتحبه القلوب؛ حتى قال ابن حجر -رحمه الله-: إن مؤلفات ابن القيم مرغوبة عند جميع الطوائف، ولو كانوا ممن يعادون ابن القيم فكانوا يقبلون على كتبه -رحمه الله- وكان حسن الترتيب يسوق الأمور بسياقات حسنة، حتى في مؤلفاته كان تضرعه وابتهاله إلى الله يظهر، فمثلاً يقول رحمه الله في كتاب أعلام الموقعين عن رب العالمين بعد أن شرح قول الله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً} [إبراهيم:24] قال ابن القيم بعد ذلك: فهذا بعض ما تضمنه هذا المثل العظيم الجليل من الأسرار والحكم، ولعلها قطرة من بحر بحسب أذهاننا الواقفة، وقلوبنا المخطئة، وعلومنا القاصرة، وأعمالنا التي توجب التوبة والاستغفار، وإلا فلو طهرت منا القلوب، وصفت الأذهان، وزكت النفوس، وخلصت الأعمال، وتجردت الهمم للتلقي عن الله ورسوله، لشاهدنا من معاني كلام الله وأسراره وحكمه ما تضمحل عنده العلوم، وتتلاشى عنده معارف الخلق.
انظر! يقول هذا وهو من هو -رحمه الله- في سعة علمه وتواضعه؟ وقال في فاتحة كتابه روضة المحبين: والمرغوب إلى من يقف على هذا الكتاب أن يعذر صاحبه، فإنه ألفه في حال بعده عن وطنه، وغيبته عن كتبه، فما عسى أن يبلغ خاطره المكدود، وسعيه المجهود، مع بضاعته المزجاة- أي: القليلة- التي حقيقٌ بحاملها أن يقال فيه: تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه، يقول: وهاهو المؤلف -أي: نفسه- قد نصب نفسه هدفاً لسهام الراشقين، وغرضاً لأسنة الطاعنين، فلقارئه غنمه، وعلى مؤلفه غرمه، وهذه بضاعته تعرض عليك، وموليته تهدى إليك، فإن صادفت كفئاً كريماً لها لم تعدم منه إمساكاً بمعروف، أو تسريحاً بإحسان، وإن صادفت غيره، فالله تعالى المستعان وعليه التكلان.
وقال في فاتحة كتاب زاد المعاد، وكتاب زاد المعاد آخر طبعة طبع فيها الآن خمسة مجلدات ألفها ابن القيم -رحمه الله- في السفر بسبب أن رجلاً سأله عن مسألة في الحج، فتعجب ابن القيم أن رجلاً من المسلمين لا يدري عن حكم هذه المسألة، فكان ذلك دافعاً لتأليف كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد.
يقول في مقدمة الكتاب: "وهذه كلماتٌ يسيرةٌ، لا يستغني عن معرفتها من له أدنى نعمة إلى معرفة نبيه صلى الله عليه وسلم وسيرته وهديه، اقتضاها الخاطر المكدود على عجره وبجره- أي: اقتضاه خاطري على عيوب خاطري- مع البضاعة المزجاة مع تعليقها في حال السفر لا الإقامة، والقلب بكل وادٍ منه شعبة، والهمة قد تفرقت شذر مذر".
اهـ.
قارن بين هذا الكلام وبين ما يكتبه الناس -اليوم- الذين ما رسخت أقدامهم في العلم، ولا نبتت لهم ريش العلم يطيرون به، يكتب الواحد على غلاف الكتاب: شرحه وحققه وهذبه ونقحه وبسطه.
إلى آخره!! ويصف نفسه بألقاب المديح وهو لا يصل إلى مقدار أنملة ابن القيم -رحمه الله- في العلم، ومع ذلك صار عامة كثير من الناس الذين يتطفلون على العلم في هذا الزمان يمدحون أنفسهم في كتبهم، وعلى الغلاف تجد: ألفه المدقق الفهامة البحاثة، وهو من هو لا يساوي شيئاً بجانب علمائنا، وهؤلاء يقولون: هذه كلمات يسيرة، وهي خمس مجلدات!! وكان في تأليفه -رحمه الله- يقع له أمور مثل ما وقع له في تأليف كتاب تحفة المودود بأحكام المولود وهو كتاب، عظيم لا يُعرف أنه قد جمع في أحكام المولود مثل هذا الكتاب.
له في تأليفه قصة لطيفة جداً وهي: أن ولد ابن القيم وُلد له ولد -أي: صار لـ ابن القيم حفيد- بمعنى أنه صار جداً، فالعادة أن الجد يهدي لحفيده هدية، فـ ابن القيم -رحمه الله- لما جاءه هذا الحفيد، ما كان عنده شيء من متاع الدنيا يهديه لحفيده، حيث كان فقيراً، فصنف هذا الكتاب وأعطاه لابنه، وقال: أتحفك بهذا الكتاب إذ لم يكن عندي شيء من الدنيا أعطيك، تكلم فيه عن العقيقة وأحكامها، وحلق شعر المولود، وختانه، وتسميته، والأسماء القبيحة والأسماء الحسنة، وأمور كثيرة جداً حتى تعرض لدقائق المسائل، مثل: إنسان لم يعق عنه أبوه وقد كبر، فهل يعق عن نفسه، أو لا؟ في مباحث أخرى مبسوطة داخل هذا الكتاب.(321/14)
مع مؤلفات ابن القيم
ومؤلفات ابن القيم -رحمه الله- أحصاها بعض من ترجم له ستة وتسعين كتاباً تقريباً، أما المؤلفات المطبوع منها الآن فلا تصل إلى الثلث.(321/15)
تعرض مؤلفات ابن القيم للحرق
ومن الأسباب العجيبة ولله عز وجل في خلقه شئون وحكم، حصل أن بعض الأمراء الذين استوطنوا دمشق في القرن الماضي -التاسع عشر- منذ مدة قريبة، كان ذا سلطان ومال، جعل يجمع مؤلفات ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ويحرقها؛ لأنه كان فيه عداوة لـ ابن تيمية وابن القيم، فكان يجمع مؤلفات ابن تيمية وابن القيم ويحرقها، وابن تيمية وابن القيم في دمشق، فحصل من هذا الرجل أن بلغ به من العداوة والبغض لأولياء الله أن يأتي بالكتب ويحرقها ويشتريها بنقوده من مالكها، إذا رآها مخطوطة، اشتراها ليحرقها، فإذا لم يتمكن من إقناع المالك بحرقها اشتراها منه، وربما التمس وسائل أخرى لإتلافها بدافع الانتصار لمذهبه؛ لأن هذا الشخص كان من غلاة الصوفية، فاستخدم هذا الأمير سلطانه وماله في حرق كتب الذين تصدوا للصوفية، ومن أهمهم: ابن تيمية وابن القيم، ومع ذلك فإن الله قيض لهذا الإمام العظيم من ينشر كتبه في هذا الزمان، ومن قدر الله أن أعداء الإسلام لما غزو بلدان المسلمين اصطحبوا معهم بعد رجوعهم إلى بلدانهم كثيراً من المخطوطات؛ ولذلك تجد الآن مخطوطات لكتب ابن تيمية في لاهاي في هولندا، وتجد مخطوطات ابن القيم في ألمانيا وباريس وفي جامعة في أمريكا.
وهكذا، ولعلها حكمةٌ من الله أن يحفظها أولئك الكفرة حتى يأتي من يطبعها من أبناء المسلمين، وقضية أن يعدو أهل الباطل على كتب أهل الحق فيحرقوها، هذه قضية طويلة؛ ولذلك تجد بعض الطوائف الضالة التي حكمت بعض بلدان المسلمين في بعض الأزمان والأوقات، كانوا يأتون إلى المكتبات العامة، فيخرجون المخطوطات التي تتكلم عن طوائفهم، وتبين باطل هذه الطوائف، فيحرقون هذه الكتب، ولكن الله ناصر دينه.(321/16)
كلام الكوثري على ابن القيم وبيان خطئه في ذلك
ومع الأسف! لقد ظهرت عداوة لـ ابن القيم -رحمه الله- ليس في حياته فقط والتي سجن وأوذي في مواضع عديدة، ولكن بعدما مات، ففي هذا القرن ظهر في مطلعه شخصٌ غريبٌ، كان متخصصاً في شتم ابن القيم وشيخه ابن تيمية -رحمهما الله- وهو الكوثري، حيث يقول: ولقد سئمت من تتبع مخازي هذا الرجل المسكين الذي ضاعت مواهبه في البدع!! يقصد ابن القيم.
وقال: ابن قيم الجوزيه لم يكن غير شيخه في المعنى، بل هما قماش واحد، ذاك ظهارته وهذا بطانته، ذاك يسود وهذا يبيض، عمله جله تسويق بضائع شيخه بحيث تروج؛ حتى أن ابن القيم يقلده في كل شيء، وليس له رأيٌ خاصٌ قطعاً على سعة علمه.
ويقول: هذا ابن القيم نسخة كربونية عن ابن تيمية!! ولذلك تصدى بعض أهل العلم لهذه الفرية، وبينوا أن ابن القيم شخصية مستقلة وليس تابعاً ابن تيمية ابن القيم ذكي عميق محقق مدقق ليس بالسهل أن يقلد أي أحد؛ ولذلك إذا نظرت -مثلاً- إلى كتبه وإلى من نقل عنه، تجد أنه نقل عن طائفة كثيرة من أهل العلم غير ابن تيمية، وفي كتب ابن القيم مباحث مثل: تأليفه لبعض الكتب ما جمع مثل ابن تيمية مثل: كتابه القيم مفتاح دار السعادة، وزاد المعاد، وحادي الأرواح، وبدائع الفوائد لا يعرف أن لـ ابن تيمية مثل هذه المؤلفات.
وكذلك من الأمور الدالة على أن ابن القيم ليس نسخة كربونية عن ابن تيمية: أنه قد خالف شيخه في أمور، مثل: بعض أحكام الرضاعة، إذا قطع الرضيع الرضاعة بتنفس هل تعتبر واحدة، أو اثنتين؟ وفي عدة الآيسه، وفي اشتباه الأواني، وفي مسألة فسخ الحج إلى عمرة نقل قول ابن عباس، ثم قال: وأنا إلى قوله- أي: إلى قول ابن عباس - أميل مني إلى قول شيخ الإسلام.
فإذاً لم يكن مقلداً لـ ابن تيمية، ولا نسخة عنه، ولكن من الطبيعي أن يستفيد التلميذ من الشيخ، ويأخذ عنه علماً غزيراً كما حصل، والحقيقة أن ظهور ابن تيمية -رحمه الله- في ذلك الوقت الذي فشت فيه البدع سواءً بدع في العقائد؛ كبدع الجهمية والأشاعرة والمرجئة، وبدع الصوفية، وبدع التعصب المذهبي بدع كثيرة جداً ظهرت قيض الله لها شيخ الإسلام، فكشف زيغ تلك البدع، وأظهر الحق، وقيض له تلاميذ، مثل: ابن القيم رحمه الله ساروا على نهجه في كشف الباطل، وإظهار الحق للناس؛ ولذلك لا شك أن لكل منهما جانبٌ عظيمٌ من جوانب التجديد لهذا الدين، ومع ذلك- سبحان الله! - كأن الله يريد أن يرفع منزلة هذا الرجل، ويعظم أجره بعد موته، فظهر له أعداء تكلموا عنه؛ حتى قال المسكين - الكوثري - في كتابه السيف الصقيم في الرد على ابن الزكيم، قال: يعيره بجده لأمه، ولا ندري من أين اخترع هذه التسمية، يقول: كافر ضال مضل.
زائغ مبتدع وقح كذاب حشوي جاهلي مهاتر خارجي غبي من إخوان اليهود والنصارى من محاربين الدين والخلق!! هذا يقوله الضال الكوثري في ابن القيم -رحمه الله تعالى- وهذه عبارة عن صرير باب وطنين ذباب حيلة عاجز، وحجة عجائز، وابن القيم -رحمه الله- لا يضيره شيء، قال الشاعر:
ما يضر البحر أمسى زاخراً أن رمى فيه غلامٌ بحجر(321/17)
أسلوب ابن القيم رحمه الله ونُبذ من قدرته على التعبير
نتعرض الآن- أيها الإخوة- لبعض الأمور في أسلوب ابن القيم رحمه الله تعالى، وهذا أمرٌ مهمٌ جداً، فمثلاً: تجد هذه الحلاوة في الأسلوب، والقدرة على التعبير، والجمال والجلال في أسلوب ابن القيم رحمه الله يستخدمه في عرض حقائق التوحيد على الناس، فمثلاً: اسمع إليه يقول في وصف الله عز وجل، وبيان وحدانيته وقدرته سبحانه وتعالى: "قد أحاط بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً، ووسع كل شيء رحمةً وحكمةً، ووسع سمعه الأصوات، فلا تختلف عليه، ولا تشتبه عليه؛ بل يسمع ضجيجها باختلاف لغاتها، على تفنن حاجاتها، فلا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلقه كثرة المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين ذوي الحاجات".
الآن الناس يدعون الله، منهم من يدعو الله باللغة العربية، ومنهم من يدعو بالإنجليزية، ومنهم من يدعو بالأردية، ومنهم من يدعو بلغات كثيرة جداً، ومنهم من يطلب شفاء مريض، ومنهم من يطلب رحمة ميت، ومنهم من يطلب رزقاً، ومنهم من يطلب ولداً، ومنهم من يطلب نجاحاً، ومنهم من يطلب أشياء كثيرة، وهم يطلبون في وقت واحد ويلحون إلحاحاً، والله عز وجل لا تغلطه، انظروا الواحد إذا أمسك بسماعتي هاتف لا يستطيع أن يتابع في نفس الوقت، والله عز وجل يسمع أصوات البشر كلهم بلغات مختلفة، وحاجاتهم مختلفة، ويعلم ماذا يقولون، ولا يتبرم بإلحاح الملحين:
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حي يسأل يغضبُ
والإنسان يتبرم بالإلحاح؛ والله عز وجل يريد من عباده أن يلحوا عليه بالدعاء، فعندما يأتي لنا رجل مثل: ابن القيم -رحمه الله- يبين لنا هذه المسألة، يزداد الذين آمنوا إيماناً.
وكذلك يقول عند قوله تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] يغفر ذنباً، ويفرج هماً، ويكشف كرباً، ويجبر كسيراً، ويغني فقيراً، ويعلم جاهلاً، ويهدي ضالاً، ويرشد حيراناً، ويغيث لهفاناً، ويفك عانياً، ويشبع جائعاً، ويكسو عارياً، ويشفي مريضاً، ويعافي مبتلىً، ويقبل تائباً، ويجزي محسناً، وينصر مظلوماً، ويقصم جباراً، ويقيل عثرةً، ويستر عورةً، ويؤمن روعةً، ويرفع أقواماً، ويضع آخرين، لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع له عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.
إذاً- أيها الإخوة- نحن نحتاج -حقيقة- إلى علماء نشعر عندما نقرأ لهم بأن إيماننا بالله يزداد نحتاج إلى أهل علم عندهم بلاغة في التعبير والأسلوب؛ حتى نقبل على قراءة هذا الكلام النابع من ذلك القلب الحي انظر إلى ابن القيم رحمه الله مثلاً يقول: تبارك وتعالى، أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأحق من حمد، وأولى من شكر، وأنصر من ابتغي، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأعفى من قدر، وأكرم من قصد، وأعدل من انتقم حكمه بعد علمه، وعفوه بعد قدرته، ومغفرته عن عزته، ومنعه عن حكمته، هو الملك الذي لا شريك له، والفرد فلا ند له، والغني فلا ظهير له، والصمد فلا ولد له ولا صاحبة له، وكل ملك زائل إلا ملكه، وكل ظل قالص إلا ظله، وكل فضلٍ منقطع إلا فضله، لن يطاع إلا بإذنه، ولن يعصى إلا بعلمه، يطاع فيشكر، ويعصى فيغفر، كل نقمةٍ منه عدل، وكل نعمةٍ منه فضل، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حال دون النفوس، وأخذ بالنواصي، وسجل الآثار، وكتب الآجال، فالقلوب له مفضية، والسر عنده علانية، والغيب عنده شهادة، عطاؤه كلام، وعذابه كلام {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
هذا إبداع- أيها الإخوة- شيء يزيد الذين آمنوا إيماناً هذه كلمات سطرها ابن القيم رحمه الله في كتابه العظيم الفوائد.(321/18)
دقة استنباطات ابن القيم وأمثلة عليها(321/19)
كلام ابن القيم عن قوله تعالى: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا)
وإذا جئت إلى دقة استنباطه من كتاب الله، لوجدت أمراً عجيباً، خذ مثلاً كلام ابن القيم رحمه الله في روضة المحبين عن قول الله عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [لأعراف:175 - 176] يقول ابن القيم رحمه الله: "تأمل قوله تعالى: {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} [الأعراف:175] فأخبر أن ذلك إنما حصل له بإيتاء الرب له لا بتحصيله هو- أي: أن الله عندما يؤتي أحدنا علماً، أو بصيرة، فليعرف أن الله هو الذي أعطاه، وليس العبد هو الذي أخذ بنفسه وبقدرته وبذكائه {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} [الأعراف:175]، ثم قال: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف:175] ولم يقل: فسلخناه؛ بل أضاف الانسلاخ إليه أي: إلى هذا العبد المذموم، وعبر عن براءته منها بلفظة الانسلاخ، أي: أنه انسلخ، يصور ابن القيم الدقة في التعبير فهذا العبد انسلخ من الآيات بالكلية، وهذا شأن الكافر، أما المؤمن ولو عصى الله؛ فإنه لا ينسلخ من الدين، ثم قال ابن القيم: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف:175] ولم يقل: فتبعه، والفرق أن أتبعه تعني: تبعه وأدركه ولحقه؛ ولذلك قال الله عن فرعون: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:60 - 61]، ولذلك يقول ابن القيم: فأتبعه الشيطان، أي: وصل إليه الشيطان واستحوذ عليه، وكذلك قال: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} [الأعراف: 176] أي: سكن إليها ونزل بطبعه إليها، فكانت نفسه أرضية سفلية لا سماوية علوية إلى آخر كلامه رحمه الله.(321/20)
استنباطات ابن القيم من قوله تعالى: (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل.
ولما أتى رحمه الله مثلاً إلى قول الله عز وجل: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة:266] هذا المثل ضربه الله للمرائين يوم القيامة، قال تعالى: {جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} [البقرة:266] هذا المثل لأناس لهم أعمال جاءوا يوم القيامة محتاجين إليها جداً، فوجدوها هباءً منثوراً {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} [البقرة:266] فيقول ابن القيم رحمه الله: {جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} [البقرة:266] ذكر الله في هذه الآية أشرف أنواع الثمار وأكثرها نفعاً، فإن منهما القوت والغذاء، والدواء والشراب، والفاكهة والحلو والحامض، ويؤكلان رطباً ويابساً.
ثم يقول: وهذه الجنة- أي: البستان- فيها أنهار تجري، وهذا أكمل وأعظم، وهل فقط فيها نخيل وأعناب؟ لا، بل فيها من كل الثمرات.
ثم يقول: -وهذا الرجل أصاب جنته إعصارٌ فيه نارٌ فاحترقت، وقبل أن تحترق قد كبر سنه- يقول ابن القيم رحمه الله: انظر مدى تعلق قلب الرجل بهذا البستان، لو كان عنده جنة، أو بستان ليس فيه نبات ولا زرع فإنه لا يحزن عليه؛ فإذاً قلبه متعلق -أولاً- بالبستان؛ لنفاسة ما في البستان من النخيل والأعناب وأنواع الثمرات، وفيه أنهار تجري، وهذا الرجل قد أصابه الكبر.
يقول ابن القيم رحمه الله: إذا كبر ابن آدم، اشتد حرصه، لأن ابن آدم يشيب ويشب معه اثنتان: الحرص وطول الأمل.
يقول: أصابه الكبر، فالآية تعبر عن معانٍ قد لا نفقهها إذا قرأناها لأول مرة، لكن عندما يأتي مثل: ابن القيم رحمه الله يبين لنا، يقول: تعلق أول شيء قلبه بسبب نفاسة البستان، وبسبب أنه كبر سنه، فعجز عن الكسب والتجارة، واشتد حرصه بطبيعة كبر السن، وثالثاً: له ذرية ضعفاء، فهو حريص أن يبقى هذا البستان للذرية، وهؤلاء الذرية ليسوا أقوياء، لكنهم ضعفاء يحتاجون إلى من يكد عليهم، ورابعاً: أن نفقته عليهم- أي: هو أبوهم- فإذا تصورت هذه الحادثة من تعلقه بالبستان أشد ما يكون، وهو في هذا التعلق أصابه إعصار فيه نار فاحترقت، كيف يكون وضع الرجل؟ هذا مثل المرائين يوم القيامة يأتون بأعمال أمام النار، الواحد يحتاج لكل عمل، وعندهم أعمال، ولكن شبَّه حال احتياجهم للأعمال يوم القيامة بحال هذا الشيخ الكبير في السن، وأصاب أعمالهم إعصار الرياء فأحرقها، وأفلسوا وهم في أشد الحاجة، وفي وقت عصيب أشد ما تكون الحاجة إلى هذه الأعمال.(321/21)
آية ضيافة إبراهيم وفقه ابن القيم فيها
خذ مثلاً قول الله عز وجل: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:24 - 27] هذه الآيات استنبط ابن القيم رحمه الله منها خمسة عشر أدباً من آداب الضيافة.
أولاً: أنه وصف ضيفه بأنهم مكرمون.
ثانياً: قال: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ} [الذاريات:25] فلم يذكر استئذانهم، ففي هذا دليل على أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان قد عرف بإكرام الضيفان، فبقي منزله مضيفة مطروقاً لمن ورده لا يحتاج إلى الاستئذان.
ثالثاً: قوله {سلامٌ} بالرفع، وهم قالوا: {سلاماً} وهذه جملة فعلية دالة على التجدد والحدوث والتغير، لكنه قال: سلامٌ، وهذه جملة اسمية، والجملة الاسمية تدل على الثبات فليست متغيرة، فكان رد سلامه أفضل من سلامهم.
رابعاً: أنه حذف المبتدأ من قوله: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الذاريات:25] فإنه لما أنكرهم ولم يعرفهم، احتشم من مواجهتهم بلفظ الضيف، أي: ما قال: سلامٌ أنا لا أعرفكم أنتم غريبون عليَّ، وإنما قال سلامٌ وربطها بقوله: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الذاريات:25] أي: سلام على قوم لأول مرة أراهم.
خامساً: أنه بنى الفعل للمفعول وحذف فاعله، فقال: {مُنْكَرُونَ} [الذاريات:25] ولم يقل: أنا أنكرتكم، فهناك فرق بين أن تقول: سلام قوم غير معروفين، وهذه ألطف من أن تقول: سلامٌ عليكم قوم أنا لا أعرفكم.
سادساً: أنه راغ إلى أهله لكي يأتي بالطعام، والروغان هو الذهاب في اختفاء.
سابعاً: أنهم ما شعروا به إلا وقد جاءهم بالطعام مع أنه عجل مشوي، وهذا يدل على أنه كان مشغولاً بإكرام الضيف، ما ذهب واشترى وذبح واشتوى فانظر السرعة! {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] ولم يقل: ثم جاء، معناها أشياء مجهزة، يأتي إليه الضيف فيجد الطعام جاهز فيقول ابن القيم رحمه الله: يذهب في اختفاء بحيث لا يشعر به الضيف، فيشق عليه ويستحي، فلا يشعر به إلا وقد جاءه بالطعام، بخلاف من يسمع ضيفه، ويقول له: مكانكم حتى آتيكم بالطعام، فيقول له: لا.
ليس هناك داعي أن تأتي بالطعام، وبعد ذلك يحلف عليهم.
ثامناً: أنه ذهب إلى أهله، فجاء بالضيافة، فدل على أن ذلك كان معداً.
تاسعاً: {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] دل على خدمته للضيف بنفسه، ولم يقل: فأمر لهم بعجل سمين، مثل أن يكون عند أحدهم خدم، فمن آداب الضيافة أن يأتي لك بالأكل بنفسه، ولا يقل للخادم: هات الطعام؟ بل يأتي بالطعام بنفسه؛ لأن في هذا زيادة في الإكرام.
عاشراً: أنه جاء بعجل كامل ولم يأت ببعضه.
الحادي عشر: أنه سمين لا هزيل، ومعروف أن ذلك من أفخر أموالهم.
الثاني عشر: أنه قربه إليهم ولم يقربهم إليه.
الثالث عشر: أنه قال: {أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:27] وهذا في غاية التلطف في العرض.
الرابع عشر: أنه إنما عرض عليهم الأكل، لأنه رآهم لا يأكلون.
الخامس عشر: فإنهم لما امتنعوا من الأكل، خاف منهم ولم يظهر لهم، لأن الإنسان إذا لم يمد يده على الطعام فمعنى ذلك أن في نفسه شيئاً، فإبراهيم لم يقل: لماذا لم تأكلوا؟ إذن أنتم تريدون الشر؛ بل سكت، فالله أمرهم أن يقولوا له: لا تخف، نحن ملائكة لا نأكل؛ جئنا لغرض كذا وكذا.
ومسألة استنباط ابن القيم من الآيات مسألة عجيبة؛ حتى أنه قال في كتاب الجواب الكافي: وفي هذه القصة- التي هي قصة يوسف- من العبر والفوائد والحكم ما يزيد على ألف فائدة لعلنا إن وفق الله أن نفردها في مصنف مستقل.(321/22)
فقه الواقع عند ابن القيم
كان ابن القيم -رحمه الله- لديه إلمام تام بواقعه وعصره، ما كان يعيش بين الكتب منزوياً لا يدري عن شيء؛ بل كان لديه اطلاع جيد، وكان يعرف البدع وأهل الأهواء في عصره، وكان في عصره هجوم للنصارى على بلاد المسلمين، وهجوم للتتر، وكان رحمه الله يعرف مخططات النصارى في بلاد المسلمين، انظر إليه وهو ييقول في كتابه الجواب الكافي -هذه مسألة مهمة جداً وهي أن نعلم كيف كان العلماء من قبل عندهم تكامل، لم يكونوا مغمضي الأعين عما يحدث في الواقع؛ بل كان لديهم حس ومعرفة، وإلمام واطلاع- يقول: "وإذا أراد النصارى أن يُنصِّروا الأسير المسلم، أروه امرأة جميلة منهم، وأمروها أن تطمعه في نفسها -وصارت هي التي تدخل عليه السجن- حتى إذا تمكن حبها من قلبه، بذلت له نفسها إن دخل في دينها، يقول ابن القيم رحمه الله تعليقاً: فهناك {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] " هذا ابن القيم رحمه الله كان يعرف عن مخططات النصارى، وهذه سمة يفتقدها ويفتقر إليها كثير من أصحاب النيات الطيبة في هذا الزمان، فإنهم قد يقرءون في كتب العلم الشرعي، والأصول الشرعية، لكنهم لا يدرون شيئاً عن مخططات العلمانية، والماسونية، والشيوعية، والمذاهب الإلحادية الهدامة، لا يدرون عنها شيئاً، فقط علمهم بالقديم أما الجديد فلا.
وأيضاً هناك طائفة أخرى على الضد من ذلك يتوسعون في معرفة الطوائف، ومعرفة المذاهب الفكرية الجديدة، ومعرفة المخططات والاستعمار وغير ذلك، لكنهم لا يعرفون أبداً ما هو مسطر في كتب السلف، لكن عندما يأتي واحد مثل: ابن القيم ويقول هذا الكلام، وعنده علم شرعي زائد، وإلمام بالواقع، وشيخه ابن تيمية رحمه الله الذي درس على يديه، وكان يعرف مخططات التتر، ويكتب عنهم، ويحذر منهم، ويجعل الأمة تنهض نهضة عامة لتنتصر على التتر، ويقسم أيماناً أن المسلمين سينتصرون على التتر، وكان ابن تيمية يوزع حلوى النصر قبل أن تقوم المعركة، ويقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، ويعرف المخططات، ويعرف خطر النصيرية في الجبال، فيذهب إليهم ابن تيمية رحمه الله ومعه جيش الإسلام فيؤدبهم علماء أجلاء عرفوا الواقع، وكان عندهم علم بالشريعة، فحصل الخير العظيم بوجودهم.(321/23)
موقف ابن القيم من أهل البدع
وكان أيضاً مما فعله ابن القيم -رحمه الله- تصديه لتيارات الصوفية المنحرفة من أصحاب وحدة الوجود والحلول والاتحاد الذين يقولون: الله في كل مكان في الشارع في الخلاء، وأن المخلوقين جزء من الله.
كما قال قائلهم:
وما الكلب والخنزير إلا إلهنا وما الله إلا راهبٌ في كنيسته
كان ابن القيم -رحمه الله- ممن تصدوا للتيارات المنحرفة، ويقول -مثلاً- فاضحاً لهم: سئل الشبلي من المتصوفة متى تستريح؟ قال: إذا ما رأيت له ذاكراً -أي: إذا ما رأيت أحداً يذكر الله، أستريح- لماذا؟ قال: لأني أغار، فلذلك لا أريد أحد يذكر الله -فهذا من الضلال والعياذ بالله- ثم قال: مات ابن له، فقطعت أمه شعرها، فدخل هو الحمام ونور لحيته -يعني: أزال اللحية حتى ذهب شعر هذا الضال- فقيل له: لماذا فعلت هذا؟ قال: إنهم يعزونني على الغفلة، ويقولون: آجرك الله، ففديت ذكرهم لله على الغفلة بلحيتي.
وابن القيم رحمه الله يذكر هذا ويسطره، ويقول: هذه ضلالاتهم فانظروا كيف عملوا! وقال: ونظير هذا ما يحكى عن فلان أنه سمع رجلاً يؤذن، فقال: طعنة وسم الموت، لأنه لا يريد أن يسمع لفظ الجلالة، وسمع كلباً ينبح، فقال: لبيك وسعديك، وسمع الشبلي مرة رجلاً يقول: جل الله، فقال: أحب أن تجله عن هذه ويا عجباً ممن يعد هذا في مناقب رجل! يقول ابن القيم: عجيب أن هذا يعد في مناقب فلان وفلان، ويزين به كتابه وهكذا، وكذلك تكلم على سمنون -وهو من المتصوفة - وكان من غروره أن قال:
وليس لي من هواك بدٌ فكيف ما شئت فامتحني
يقول: يا ألله! مثلما تريد أن تعمل فيَّ أنا مستعد، وأنت فقط اعمل الذي تريد، ويقول: اللهم اجعلني سقف البلاء على خلقك، إذا أردت أن تنزل بلية على الخلق أنزلها عليَّ فأنا مستعد أن أتحمل، فابتلاه الله بحصوة في الكلية، أو بعسر البول، فكان يقفز مثل القرد من الألم، ويطوف على صبيان المكاتب، ويقول: ادعوا لعمكم الكذاب.(321/24)
نبذة عن إغاثة اللهفان تبين تصدي ابن القيم للتصوف المنحرف
كتاب ابن القيم رحمه الله إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان فيه ذكر كثير، ورد كبير على الصوفية وعلى طرقهم المنحله، فقال في إحدى القصائد التي نقلها عن مبلغ علم الصوفي بالشريعة:
إن قلت قال الله قال رسوله همزوك همز المنكر المتغالي
أو قلت قد قال الصحابة والألى تبعوهمُ في القول والأعمالِ
أو قلت قال الآل آل المصطفى صلى عليه الله أفضل آل
أو قلت قال الشافعي وأحمد وأبو حنيفة والإمام العالي
أو قلت قال صحابهم من بعدهم فالكل عندهم كشبه خيالِ
كل هؤلاء لا يعجبون الصوفية، ولا يأخذون بهم لا بالكتاب ولا بالسنة، ولا بأقوال الأئمة، وإنما يأخذون كما قال:
ويقول: قلبي قال لي عن سره عن سر سري عن صفا أحوالي
عن حضرتي عن فكرتي عن خلوتي عن شاهدي عن واردي عن حالي
عن صفو وقتي عن حقيقة مشهدي عن سر ذاتي عن صفات فعالي
هذا هو كلام الصوفية.
دعوى إذا حققتها ألفيتها ألقاب زور لفقت بمحالِ
تركوا الحقائق والشرائع واقتدوا بظواهر الجهال والظلال(321/25)
نبذة من النونية في ذم التأويل
وكذلك تجد ابن القيم -رحمه الله- عندما يرد على الأشاعرة المنحرفين في مسائل الصفات، يهزأ بهم بما يشعر السامع بضلالهم فعلاً، ليس بالسب والشتم، وإنما انظر إليه وهو يقول في النونية المسماة بـ الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية، هذه القصيدة بلغت ستة آلاف بيت، نظمها من البحر الطويل، كلها منافحة عن الكتاب والسنة، ودعوة للكتاب والسنة، ورد على المبتدعة، تقرأ وأنت تشعر أن الرجل يتكلم من قلبه، وليس شاعراً يؤلف من خياله، فانظر مثلاً وهو يرد على الجهمية في الاستواء؛ لأن الجهمية قالوا: استوى بمعني: استولى، قال:
أمر اليهود بأن يقولوا حطة فأبوا وقالوا: حنطةً لهوان
اليهود قال الله لهم: قولوا: حطة، بمعنى: اللهم حط عنا ذنوبنا، فأضافوا النون، وقالوا: حنطة! استهزاءً وسخرية.
وكذلك الجهمي قيل له: استوى فأبى وزاد اللام للنكران
أي: قال: استولى.
ثم يقول ابن القيم:
نون اليهود ولام جهمي هما في وحي رب العرش زائدتان(321/26)
كلام ابن القيم عن المرجئة من النونية
وقال في المرجئة الذين يقولون: من قال: لا إله إلا الله إيمانه صحيح، ومهما فعل فهو مسلم، وإذا ارتكب كبائر فهي معاصي لكنه لا يكفر مهما فعل، لأنه قال: لا إله إلا الله، وهذه العقيدة خطيرة، لأنه يمكن أن يقول أحدهم: لا إله إلا الله ورجله فوق المصحف، وتقول: هذا مسلم، وهو ينقض لا إله إلا الله، ولا إله إلا الله لها شروط، وليست كلمة تقال هكذا يقول ابن القيم رحمه الله:
وكذلك الإرجاء حين تقر بالـ ـمعبود تصبح كامل الإيمانِ
على زعم المرجئة.
فارم المصاحف في الحشوش وخرب الـ ـبيت العتيق وجد في العصيانِ
واشتم جميع المرسلين ومن أتوا من عنده جهراً بلا كتمانِ
وإذا رأيت حجارةً فاسجد لها بل خِرّ للأصنام والأوثانِ
وأقرَّ أن الله جل جلاله ووحده الباري لذي الأكوانِ
وأقرَّ أن رسوله حقاً أتى من عنده بالوحي والقرآن
فتكون حقاً مؤمناً وجميع ذا وزرٌ عليك وليس بالكفرانِ
ثم يقول:
هذا هو الإرجاء عند غلاتهم من كل جهمي أخي الشيطانِ
يقول: هذه عقيدة المرجئة تكفر وتفعل ما تريد، لكن المهم أن تقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فتصبح مسلماً.(321/27)
مقتطفات متفرقة من حياة ابن القيم(321/28)
مميزات مؤلفات ابن القيم
تتميز مؤلفات ابن القيم رحمه الله بأنه يأتي بالوجوه العظيمة سواءً كان في البيان، أو في الرد، بل إنه أحياناً يأتي في مسألة يقول: استدل المخالفون بكذا، ويأتي بعشرين وجه، إذا قرأتها تقول: الآن اقتنعت، وتقول: مستحيل أن أحداً يرد عليها، ثم يقول ابن القيم: أما الجواب عن الوجه الأول، كذا وكذا، والجواب عن الوجه الثاني كذا وكذا، والجواب على الوجه الثالث كذا وكذا، فينسفها كلها بعد أن تكون قد اقتنعت بها.(321/29)
حث ابن القيم على طلب العلم
كذلك مثلاً: كان يبين فضل العلم، ويريد أن يقول للناس: يأ يها الناس! اهتموا بالعلم، ولا تهتموا بجمع الأموال، ولا تشغلكم الدنيا عن العلم، فمثلاً يقول: العلم أفضل من المال لعدة وجوه: أولاً: أن العلم ميراث الأنبياء، والمال ميراث الملوك والأغنياء.
ثانياً: أن العلم يحرس صاحبه، وصاحب المال يحرس ماله، فالذي عنده مال يسهر على حراسة المال، لكن العلم هو الذي يحرس صاحبه من الوقوع في الضلال، والزيغ والبدع وهكذا.
ثالثاً: أن المال تذهبه النفقات، والعلم يزكو مع الإنفاق، ويزداد ويرسخ.
رابعاً: أن صاحب المال إذا مات يفارقه ماله، والعالم يدخل معه علمه في قبره.
خامساً: أن العلم حاكم على المال، والمال لا يحكم على العلم، فالعلم يحكم في المال الزكاة تحكم في العلم المواريث تحكم في العلم النذور تحكم في العلم وهكذا، لكن المال لا يحكم في العلم.
سادساً: أن المال يحصل للمؤمن والكافر، والبر والفاجر، والعلم النافع لا يحصل إلا للمؤمن.
سابعاً: أن العالم يحتاج إليه الملوك فمن دونهم، وصاحب المال يحتاج إليه أهل العدم والفاقة العالم الحقيقي لا يقف على أبواب السلاطين، جاء سليمان بن عبد الملك إلى مكة ليحج، فسأل هو وولداه على مسألة في الحج، ودخل على عطاء بن أبي رباح الرجل الأسود الأعمى الأفطس الأعرج المشلول -دخل عليه سليمان بن عبد الملك، فوجد عطاء يصلي، وأطال في الصلاة ولم يعبر سليمان الخليفة، وانتظر سليمان حتى فرغ عطاء من الصلاة، فسأله، فما التفت إليه عطاء وإنما أجابه على السؤال ووجهه إلى القبلة، فلما خرج سليمان قال لأبنائه: يا بني! اطلبوا العلم فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود، هذا عطاء بن أبي رباح العبد الأسود لما كان صغيراً وجد مشوهاً، وكان فيه هذه العيوب الخلقية، فقالت له أمه- والأم تحب الولد-: يا بني! اطلب العلم، فإن شكلك ومنظرك لا يمكن أن ينظر إليك الناس؛ لكن اطلب العلم، فطلب العلم من صغره، فصار قاضي مكة، وكان يأتي إليه الأجلاء يطلبون عنده العلم، وكان من خلقته أنه مرة كان يدعو الله، ويقول: اللهم اعتق رقبتي من النار، فمرت به عجوز، فقالت: وأي رقبة لك يا بني، بمعنى أن رأسه داخل في جسده، هذا الرجل أصبح قاضي مكة، إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين.
ثامناً: المال يدعو إلى الطغيان والفخر، والعلم يدعو إلى التواضع والعبودية.
تاسعاً: غنى العلم أجل من غنى المال غنى المال أمر خارجي عن الإنسان لو ذهب في ليلة لأصبح الإنسان فقيراً، لكن لم نر أن عالماً نام ثم استيقظ في الصباح ووجد نفسه ليس عنده علم، لكن يمكن أن تجد شخصاً مليونيراً نام في الليل، ورأى في البورصة تحققت أحلامه فيقوم اليوم الثاني وعليه ديون الدنيا.
إذن عندما يأتي أحد الناس ويقول: هذه أوجه التفاضل بين العلم والمال، فالعاقل يقتنع حقيقةً.(321/30)
حث ابن القيم على ذكر الله
عندما يتكلم ابن القيم -رحمه الله- عن الأذكار مثلاً يقول: إن العبد مطالب أن يذكر الله ولو ذكره في أربع مواطن لدل على صدق العبد: 1 - عند النوم.
2 - أول ما يستيقظ من النوم.
3 - في الصلاة.
4 - عند الأهوال والشدائد، لأن الإنسان عند الشدائد يذكر أقرب شيء لنفسه، فلو كان يذكر الله أول ما تحصل له الشدة، فهذا يدل على أنه مرتبط بالله عز وجل.(321/31)
تفاؤل ابن القيم
وهذا الرجل مما يمتاز به أنه من العلماء العاملين، فمثال ذلك: أنه يدعو الناس إلى التفاؤل -كما وردت به السنة- ونبذ التشاؤم، وهذه قصة وقعت له، يقول في آخر كتاب مفتاح دار السعادة: وأخبرك عن نفسي بقضية من ذلك، وهي أني أضللت بعض الأولاد يوم التروية بـ مكة وكان طفلاً، فجهدت في طلبه والنداء عليه في سائر الركب إلى وقت يوم الثامن، فلم أقدر له على خبر، فأيست منه، فقال لي إنسان: إن هذا عجزٌ، اركب وادخل الآن إلى مكة فتطلبه، فركبت فرساً، فما هو إلا أن استقبلت جماعةً يتحدثون في سواد الليل في الطريق، وأحدهم يقول: ضاع لي شيء فلقيته، والتفاؤل هو أنك تسمع قولاً، أو ترى شيئاً حسناً فتتفاءل منه، فقد يجري الله بقدره بهذا التفاؤل أن يحدث لك ما تريده أنت، فـ ابن القيم يبحث عن الولد، فيقول: فسمعت إنساناً يقول: ضاع لي شيء فوجدته، ثم قال: فلا أدري انقضاء كلمته أسرع أم وجد الطفل مع بعض أهل مكة في محملة عرفته بصوته.(321/32)
مساهمة ابن القيم في حلول المشاكل الاجتماعية والأمراض النفسية
ولـ ابن القيم -رحمه الله- إسهام كبير في حلول المشاكل الاجتماعية والأمراض النفسية، فمثلاً: كلامه في الوسوسة موجود في إغاثة اللهفان وغيره، وهو كلام عظيم جداً، والوسوسة مرض خطير، وأيضاً: مرض الهوى والعشق وهو مرض قاتل وخطير جداً؛ ولذلك ألف ابن القيم رحمه الله كتاب الجواب الكافي لعلاج هذا المرض، وهذا الكتاب عبارة عن سؤال وهو: ماذا تقول سادة العلماء أئمة الدين برجل ابتلي ببلية، وعلم أنه إذا استمرت عليه، أفسدت عليه دنياه وآخرته، وقد اجتهد في دفعها عن نفسه بكل طريق، فما يزداد إلا توقداً وشدةً، فما الحيلة إلى دفعها؟ وما الطريق إلى كشفها؟ رحم الله من أعان مبتلى، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه أفتونا مأجورين؟ فيذهب ويصنف كتاباً في علاج هذا المرض؛ من أجل سؤال، ثم ينصحه فيقول: أولاً: ما أنزل الله داءً إلا وأنزل له دواء، وشفاء العي السؤال، ثم يتكلم عن الرقية، ثم يتكلم عن الدعاء وأهمية الدعاء في علاج مرض العشق والهوى، وكيف يكون الدعاء صادقاً، ودعاء الله بأسمائه الحسنى، وموانع الدعاء، وشروط الدعاء، وآداب الدعاء، وحسن الظن بالله، وإيثار الآخرة على الدنيا، ويتكلم عن عذاب القبر، وأن على المسلم أن يرجو الله، ويتكلم عن أضرار الذنوب؛ لأن العشق والهوى يملأ الإنسان بالذنوب، ويقول: الذنوب مثل السم في الجسم وينتج عنها حرمان العلم والوحشة والقلق والمهانة عند الله وعند الخلق، والذل، وإفساد العقل والقلب، والدخول تحت اللعنة، ويتكلم عن عقوبة العصاة في الآخرة، وحدود الله في العصاة في الدنيا الزنا واللواط، ويتكلم عن الحدود، وعن عاقبة قوم لوط، وكيف فعل الله بقوم لوط، ويتكلم عن خطورة عشق الصور، وماذا تودي بالإنسان؟ وأنها تقذف به إلى الشرك، فكان هذا منهجه في علاج مشكلة الهوى والعشق.(321/33)
شهرة ابن القيم بضرب الأمثال
كان -رحمه الله- مشهوراً بضرب الأمثال، فمثلاً يقول في قضية التوكل: ينبغي أن يوكل المرء أمره إلى الله، ويشعر أنه إذا وكل أمره إلى الله كأنه دخل حصناً حصيناً، والأعداء لا يستطيعون أن يصلوا إليه، وكذلك حال الإنسان في الإنفاق وهو يتوكل على الله وينفق، يقول: مثل ملك قال لأحد رعيته: إذا أنفقت، أعطيك بدل الذي أنفقته من خزائني أضعافه، فإذا علم صدق الملك، ووثق به، واطمئن إليه، وعلم أن خزينة الملك لا تنفذ، فما الذي يمنعه من الإنفاق، ثم يمثل المتوكل بحال الطفل الرضيع، الذي لا يعرف من الدنيا إلا ثدي الأم، فلا يهتدي إلا إليه ولا يقبل على غيره، وكذلك ينبغي أن يكون المتوكل على الله مثل الطفل الذي يقبل على ثدي أمه.
ومن أمثاله أيضاً: يقول: السنة شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمراتها، فمن كانت أنفاسه في طاعة، فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت في معصية، فثمرته حنظل، وإنما يكون الجذاد يوم المعاد، ثم يقول: إن هذه الشجرة ينبغي أن تسقى بماء الإخلاص والمتابعة لتكون الثمار طيبة في الآخرة.
وعندما يتكلم ابن القيم في مدارج السالكين عن منازل من أعمال القلوب، تنذهل وتندهش حقيقةً من القدرة التي أوتيها هذا الرجل -رحمه الله تعالى- فمثلاً عندما يتكلم عن المحبة يقول: الحمد لله الذي جعل المحبة إلى الظفر بالمحبوب سبيله، ونصب طاعته والخضوع له على صدق المحبة دليله، وحرك بها النفوس إلى أنواع الكمالات إيثاراً لطلبها وتحصيله، والمحبة هي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال، تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبداً واصليها إلى آخره.(321/34)
قدرة ابن القيم على التحليلات النفسية
ابن القيم -رحمه الله- صاحب فكر مدقق، وكان يفكر في الواقع حتى يربط بين الحيوانات وبين البشر، وله تحليلات نفسية جميلة جداً لا ترقى إليها إلا كبار العقول في هذه المسألة.
يقول: من الناس نفوسهم حيوانية لا هم لهم إلا في الأكل والشرب، وليس عندهم اهتمام بالشريعة.
ومن الناس نفوسهم كلبية لو صادف جيفة تشبع ألفاً، وقع عليها، وكلما أتى واحد نبح، لا يريد أن يأتي إليها.
ومن الناس طبعه طبع الخنزير يمر بالطيبات فلا يلوي عليها، لكن إذا وقع على قيء جاء عليه، يقول: هذا مثله مثل إنسان يرى في الناس أشياء طيبة وخصال طيبة، ثم يرى بعض العيوب فينسى كل الأشياء الطيبة ويأتي على العيوب.
ومنهم على طبيعة الطاووس ليس له إلا التزين والتطيب والتريش، وليس له وراء ذلك من شيء.
ومنهم من هو على طبيعة الجمل أحقد الحيوانات وأغلظها كبداً.
ومنهم مثل: العقرب والحية لا يستريح إلا إذا نفث سمه في غيره؛ ولذلك إذا ما آذى أحداً من الخلق، يظل متوتراً طيلة اليوم، حتى يؤذي واحداً من الخلق فيستريح، مثل: العقرب الذي يفرغ سمه في الناس.
وكذلك يقول: انظر إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (السكينة والوقار في أهل الغنم، والخيلاء والفخر في أهل الإبل) يحلل تحليلات؛ فمثلاً: الغنم والبقر وغيرها ترى رأسها إلى أسفل، والجمل رأسه إلى فوق ورقبته طويلة لا تجد البعير رأسه في الأرض، ولذلك البادية الأعراب أصحاب الإبل عندهم كبر وخيلاء وفخر، وأهل الغنم -أحياناً- تجد عندهم نوعاً من السكينة والتواضع.
وكذلك يقول: من الناس من نفوسهم حمارية، لم تخلق إلا للكد والعلف، وليس عندهم بصيرة، صمٌ بكمٌ عميٌ؛ لذلك ضرب الله الذي لا ينتفع بالعلم مثل الحمار يحمل أسفاراً.
وقال: من الناس من طبيعته فأرية فاسدٌ بطبعه، مفسدٌ لما جاوره، مثل: الفأر.
ولما تكلم عن النمل، قال -رحمه الله-: ومن عجيب أمرها أن تقتل الملوك الظلمة المفسدة، ولا تدين بطاعتها، وتأتي بمجموعات وتتعاون، وكل نملة تجتهد في صلاح العامة غير مختزنه شيئاً من الحب لنفسها.
ثم يتكلم عن الحمام، فيقول: القيمون على الحمام يعتنون بأنسابها اعتناءً عظيماً، فيفرقون بين ذكورها وإناثها حتى لا يحصل اختلاط في النسب، والقيمون على الحمام لا يحفظون أرحام نسائهم، ويحتاطون كما يحفظون أرحام حمامهم ويحتاطون، ويتكلم عن الحمام وعن مشابهة طباع الحمام لطباع النساء منها: من لا ترد يد لامس، وأخرى لا تنام إلا بعد طلب حثيث، وأخرى لا تمكن منها ذكراً إلا زوجها، وأخرى إذا غاب زوجها رضيت بأي أحد، وأخرى لا تمتنع على أحد، ومنها من إذا طارت البيضة أفسدتها، وذكر أموراً كثيرة جداً تدل على فقهه بالواقع رحمه الله.(321/35)
وفاة ابن القيم رحمه الله
كانت وفاة ابن القيم رحمه الله تعالى ليلة الخميس، الثالث عشر من شهر رجب، وقت أذان العشاء سنة 751هـ بعد أن أكمل ستين سنة رحمه الله تعالى.
اللهم اغفر لهذا العلم من أعلام المسلمين، اللهم وسع له في قبره ونوره له، واجعله له روضةً من رياض الجنة آمين.(321/36)
ابن جرير الطبري [2،1]
العلماء ورثة الأنبياء في إقامة الحق على العباد وتبيينه، ونشر الهدى والتحذير من الزيغ والضلال.
وفي هذا الدرس تناول الشيخ شخصية أحد علماء أهل السنة الكبار، والمشهور بشيخ المفسرين، وهو ابن جرير الطبري فذكر اسمه وكنيته، حياته ونشأته، رحلته في طلب العلم، كتبه ومؤلفاته، زهده وذكاؤه، صفاته الخَلْقية والخُلقية، موته ورثاؤه مواضيع كثيرة من حياة هذا الإمام المجتهد تجدها في طيَّات هذا الموضوع.(322/1)
فضل العلم والعلماء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فقد قال الله سبحانه وتعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، وقال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب)، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم معلماً، وسار العلماء الربانيون على نهجه عليه الصلاة والسلام في تعليم الأمة، وتعلم هذا العلم، وهذه الأمة -ولا شك- تفتخر بماضيها وحاضرها.
وهؤلاء العلماء الذين كانت لهم أيادٍ بيضاء على هذه الأمة بتوفيق من الله سبحانه وتعالى لا بد أن يتعرف عليهم أبناء هذا الدين، ليكونوا لهم قدوة ولينسب الفضل إلى أهله، ويعرف الفضل لذويه، ولا شك أن هذا من العدل ومن حسن العهد الذي هو من الإيمان، وإذا كانت الأمم الكافرة تبجل عظماءها، وتعقد الذكريات السنوية لحياتهم إحياءً لذكراهم وترجمة لهم وذكراً لمناقبهم وأطوار حياتهم وشرح مآثرهم، بل يسمون ما لديهم من المدارس والجامعات والمؤسسات بهؤلاء العظماء؛ فإن أمة الإسلام أولى بأن تحفظ الجميل لأهله، ونحن لسنا بحاجة إلى بدع ولا أعياد، ولا احتفالات لهؤلاء، فإن العلماء رحمهم الله تعالى قد عرفوا الفضل لأهله، فسطروا تواريخ هؤلاء العلماء وسيرهم وحياة كل واحدٍ منهم، وذكروا مآثرهم ومناقبهم وفضائلهم ومصنفاتهم وتلاميذهم وشيوخهم، كلها مسطرة بحيث أن المسألة لا تحتاج إلا إلى جهد في القراءة والاطلاع للتعرف على مآثر هؤلاء العلماء، ولكن يبقى أنه لا بد من نشر فضائل هؤلاء العلماء في الدروس وغيرها مما يلقى على الناس، حتى يتعرف الناس على علمائهم، ولا شك أننا أمة لنا ماضي وحاضر، وأننا ممتدون عبر الأجيال، ونحتاج إلى ربط الماضي بالحاضر، ولسنا مقطوعين عما مضى أو أبناء هذا الزمان فقط؛ ولذلك يشعر الإنسان بالتآلف والاتصال عندما يقرأ في سير هؤلاء العلماء.
وحديثنا هذه الليلة عن الإمام المفسر العلم الكبير أبي جعفر الطبري رحمه الله تعالى والذي عاش ما بين عام: (224هـ - 310هـ) في الدولة العباسية، حيث عاصر عدداً من خلفائها، فإنه ولد في خلافة المتوكل، وبعده المنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي والمعتمد والمعتضد والمكتفي ومات في خلافة المقتدر، ولا شك أن هذا العصر ليس مثل عصر هارون الرشيد الذي يعتبر أوج الدولة العباسية، ولكن من جهة الحركة العلمية لا شك أنه عصر نشط للغاية، ومزدهر جداً؛ لأن معظم العلوم الشرعية كانت قد أسست، والمذاهب الفقهية قد ظهرت، والتدوين والتصنيف قد نشط جداً، ففي هذا العصر كان قد جمعت الصحاح والسنن.
وفي القرنين الثالث والرابع بلغت العلوم الشرعية والمذاهب الفقهية درجة كبيرة من الاستقرار والانتشار والتوسع، وصنفت الكتب في المسائل، وكانت هذه الفترة التي تلت فترة التأسيس تتطلب أدوات كثيرة لمن يطلب العلم من هذه المصنفات والمشايخ المنتشرين في طول البلاد وعرضها.
عاش ابن جرير الطبري رحمه الله في القرن الثالث والرابع، وظهر في هذه الفترة كبار العلماء، مثل: الشافعي رحمه الله (204هـ)، وأحمد بن حنبل (241هـ) وداود الظاهري (270هـ)، وخرج بعدهم طلابهم كـ المزني والبويطي وابن سريج والمروزي وأبو حامد وابن المنذر والقفال الشاشي والاصطخري من فقهاء الشافعية وتلاميذ الشافعي، وتلاميذهم كانوا قد ظهروا في تلك الفترة أيضاً، وفي المذهب الحنفي عرف الجصاص والخصاف والطحاوي وأبو الحسن الكرخي، وفي المذهب المالكي إصبغ وأبو بكر الأبهري والقاضي أبو الفرج، وفي مذهب الإمام أحمد رحمه الله عرف أبو بكر المروزي والأثرم وإبراهيم الحربي والخلال والخرقي وهؤلاء كلهم من أعلام المذهب الحنبلي.
وفي هذه الفترة كانت بلدان العالم الإسلامي تعج بالإنتاج الوفير وتخريج فطاحل العلماء في شرق الدولة الإسلامية من بخارى وسمرقند، وفي فارس التي من مدنها شيراز وخراسان وأصبهان، والطبرستان التي ينتسب إليها الطبري رحمه الله، وهمدان، وكذلك في العراق في بغداد والبصرة والكوفة، والشام في دمشق والقدس وبيروت، وفي الحجاز في مكة والمدينة، وفي اليمن في صنعاء وزبيد، وفي مصر في القاهرة والاسكندرية، وفي المغرب في القيروان ومراكش، وفي الأندلس في أشبيلية وقرطبة وطُلَيطُلة، كل هذه المدن الإسلامية في الشرق والغرب والوسط كانت تعيش في فترة ازدهار علمي كبير.
ولا شك أن هذا كان من أسباب خروج علماء فطاحل، فإذا كان الجو العلمي مهيأ، والعلم منتشر ومزدهر، وإذا كانت المصنفات كثيرة، وإذا كانت الوسائل والسبل مفتوحة؛ فلا بد أن يخرج علماء كبار، فإذا قارنا ذلك بحالنا في هذه الأيام؛ لعرفنا لماذا نحن متخلفون في هذا الجانب عن الركب كثيراً، ولماذا لم يظهر علماء كبار كثر في هذا الزمان؟ فإن حركة البحث العملي وانتشار العلم والعلماء -الجو العلمي- لا يقارن مطلقاً بما كان عليه في الماضي، ولكن عندما يوجد ولو في إحدى الجامعات جو علمي نشط، وحركة بحث وتأليف ورسائل ومشايخ وعلماء، فعند ذلك تتهيأ الفرصة لخروج علماء، وهذه مسألة مهمة أن الأمة تحتاج إلى علماء، ولا بد لها منهم، فلماذا لم يتخرج علماء كبار أو كثر؟ ولماذا لا زالت الأمة فيها عجز كبير جداً في قضية العلماء حتى أن العلماء الكبار الثقات معدودون على أصابع اليدين؟ فالأمة تحتاج إلى علماء كثر، فأعداد المسلمين في العالم كثر للغاية أكثر من أي وقت مضى، ومع ذلك العلماء أقل من أي وقت مضى، ولا شك أن من الأسباب تهيئة الجو العلمي؛ لأن العلماء لا يخرجون من فراغ، ولكن لا بد من وجود جو علمي يخرجون من خلاله، ولذلك فإن احتساب بعض الناس الأجر في تهيئة الأجواء العلمية لخروج العلماء؛ يكون فيه أجر عظيم حتى لو لم يكونوا هم بأنفسهم علماء.(322/2)
الطبري اسمه وكنيته ونسبه ومولده
هو محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري رحمه الله تعالى يكنى بـ أبي جعفر، وعرف بذلك واتفق المؤرخون عليه مع أنه لم يكن له ولد يسمى بجعفر، بل إنه لم يتزوج أصلاً، ولكنه تكنى التزاماً بآداب الشرع الحنيف، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يطلق الكنى على أصحابه، وكان يكني الصغار، ويقول: (يا أبا عمير ما فعل النغير) ونحوها، وذلك لإشاعة روح المسئولية والتحمل عند الصغير والشعور بشعور الكبير، وهذا لا شك أنه يساعد في نضج الطفل ونموه، ونقله من عالم الطفولة إلى عالم الرجولة، ولعله يكون لنا وقفة في عدم زواج ابن جرير رحمه الله.
وأما نسبه إلى طبرستان فإنه لا خلاف فيه أيضاً عند المؤرخين، وطبرستان ولاية كبيرة في بلاد فارس تقع بين جرجان والديلم على بحر قزوين وتظم قرى كثيرة، ومن قرى طبرستان قرية آمل التي ولد بها أبو جعفر الطبري رحمه الله، ولذلك أحياناً يقال في نسبه: الآملي نسبة إلى آمل البلد التي تقع مدينة في طبرستان.
وأيضاً ينسب إلى بغداد، فيقال: البغدادي؛ لأنه سكن بغداد واستوطن بها، ونشر فيها علمه.
وإذا قيل: هل أبو جعفر الطبري عربي أم لا؟ بعض المؤرخين ذكر أنه عربي، وبعضهم ذكر أنه ليس بعربي، وقد سكن بلاد الفرس -بلاد الأعاجم- قبائل من العرب بعد الفتوحات الإسلامية، سكنت بأكملها في خراسان ونيسابور وطبرستان، يتكلمون الأعجمية، ولكن أصولهم عربية نتيجة أن القبائل العربية نزحت أو ذهبت واستقرت في تلك البلدان، وكان هذا لعله من خطط الخلفاء الراشدين في نشر الإسلام في تلك الأصقاع، وأن يوجد هناك مجموعة من العرب المسلمين، وقد حمل العرب الإسلام في البداية ونشروه، فلا عز لهم إلا به.
فمهما قيل عن الطبري رحمه الله هل هو عربي أو ليس بعربي فالمسألة: (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى) فـ الطبري رحمه الله عربي اللسان، عربي العلم من جهة اللغة، ولا فرق بينه وبين أي عربي من ناحية اللغة العربية الفصحى، فمن طالع تفسيره يعرف مدى تضلع الرجل في علم اللغة العربية.
ولد رحمه الله -كما سبق ذكره- في عام (224هـ) وقيل في غيرها، ولعل سبب الاختلاف هو عندما قال: كان أهل بلادنا يؤرخون بالأحداث دون السنين، يقولون: العام الذي حصل فيه زلزال كذا أو حرب كذا أو طاعون كذا ونحو ذلك، فكان القدامى يؤرخون بالأحداث أكثر من تاريخهم بالأعداد والأرقام والسنين، فأُرخ مولدي بحادث كان في البلد، فلما نشأت سألت عن ذلك الحادث، فاختلف المؤرخون، فقال بعضهم: كان في آخر سنة (224هـ)، وقال بعضهم: بل كان في سنة (225هـ).
والفرق يسير، والمشهور في ولادته سنة (224هـ).(322/3)
نشأة الطبري وطلبه للعلم
نشأ الطبري رحمه الله نشأة جيدة للغاية؛ لأنه تربى في أحضان والده، وأبوه رحمه الله كان قد تفرس فيه الذكاء والنباهة والحفظ من البداية، ولعل من الأسباب أيضاً: أن أباه رأى رؤيا في المنام أن ولده أبا جعفر كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومع الولد مخلاف مملوء بالأحجار، وأنه يرميها بين يديه -بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام- فلما قص والد أبي جعفر الرؤيا على صديق له، عبرها له بأن ابنه إن كبر نصح في دين الله وذب عن شريعة الله، فازداد أبوه حرصاً عليه في طلب العلم، وربما أنه كان يقص هذه الرؤيا على ولده، لكي يستشعر الولد ذلك وتكون حافزةً له في طلب العلم.
وهذه النشأة لا شك أنها ساعدته كثيراً في طلب العلم، ففي آمل نشأ وترعرع في كنف أبيه، وهيأ له الأسباب، ولذلك حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وصلى بالناس إماماً وهو ابن ثمان سنين، وكتب الحديث وهو ابن تسع سنين، ووهب نفسه للعلم في مقتبل شبابه، وظهرت عليه ملامح النبوغ ومخايل التفتح والذكاء الخارق والملكات الممتازة، وأدرك أبوه طبيعة ولده.
الآن عندنا أولاد أذكياء في المجتمع الإسلامي، ما عقمت نساء المسلمين أن يلدن أذكياء وحفاظاً نابغين، لكن أين الوسط الذي يحتضنهم؟! وأين الموجهين الذين يوجهونهم لطلب العلم؟! وأين الحرص عليهم منذ نعومة أظفارهم؟! فيوجد إهمال كبير للأطفال في مجتمعنا، وغاية ما يفعله الأب أن يسلم ولده للمدرسة، ثم لا يتابع الولد في غمرة انشغالاته، وقد يكون الولد نابغة فعلاً وحافظ وذكي للغاية ولكن لا يوجد توجيه، وربما يذهب نبوغ الولد في الألعاب واللهو، وربما يتوجه إلى الشر بعد فترة، ويستخدم ذكاءه في الشر، ويصبح من كبار المجرمين؛ لأن كبار المجرمين أذكياء، ولكن انحرفوا بسبب عدم وجود التربية.
فمن الفروق بيننا وبينهم: أن الأب إذا رأى ولده غير عادي كان يهتم به، ويعتبره امتداداً له، ولو كان الأب ليس بعالم وليس بنابغة ولا مشهور ولا معروف بالعلم، لكنه يعرف أن ولده هذا امتداد له في المستقبل يرفع به رأسه، ويكسب به أجراً من ربه.
ولذلك مثل والد أبي جعفر لما أحس أن ولده شخصية غير عادية، وأن فيه نبوغ وحفظ غير طبيعي؛ فإنه سعى لتهيئة كل الأسباب ليتوجه الولد للعلم، فالطفل في أول أمره لا يعرف مصلحته، فإذا ما وُجِدَ توجيه ودفع إلى حفظ القرآن والسنة، وإلى حفظ المتون وإلى غشيان حلق العلم، وإلى ثني الركب عند العلماء، فإن الولد لن يتعلم، فالاعتناء بالأولاد الصغار في الماضي كان ينشئ العلماء.
الاعتناء بالصغار من أكبر ما يستفاد من طفولة العلماء، فحياة العلماء في مرحلة الطفولة ينبغي أن نستفيد منها في اعتنائنا بأولادنا، ولو كان الواحد فينا أمياً أو عامياً أو كان نصف متعلم أو طويلب علم، أو لم يرتق إلى مرتبة طالب علم أصلاً، فإن ولده ربما يكون هو عالم المستقبل، فإذا كان التعامل مع الولد بهذه النفسية والتوجه؛ فلا شك أن النتيجة ستكون عظيمة.
وعلى طريقة العلماء يبدأ الولد عند الكُتَّاب حفظ القرآن يحفظ أشياء من السنة، ويحفظ متوناً، وبعد ذلك يلزم بعض الحلق التي تناسب سنه، وقد كان يوجد في كل بلد حلق يتوجه إليها الصغار، ثم إذا شبَّ أخذ العلم عن أهل بلده، ثم انطلق في أرجاء المعمورة راحلاً مرتحلاً في طلب العلم.(322/4)
رحلة الطبري في طلب العلم
بعد أن بلغ الطبري رحمه الله مبلغاً في أول شبابه بدأ رحلته العلمية إلى البلدان المجاورة في بلاد فارس، وتنقل بين مدن طبرستان، كانت عادتهم، أولاً: يأخذ عن مشايخ بلده، وإذا انتهى؛ يبدأ فيما حوله من البلدان، فاتجه بعد ذلك أبو جعفر إلى الري وما جاورها ليأخذ عن علماء الحديث واللغة والتفسير، يتنقل كالنحلة من شيخ إلى شيخ من عالم إلى آخر، فأول ما كتب الحديث ببلده، ثم بـ الري وما جاورها وأكثر عن الشيوخ.
وأكثر في أول أمره عن شيخين، هما: محمد بن حميد الرازي، والمثنى بن إبراهيم الأبلي، ويقول: كنا نكتب عند محمد بن حميد الرازي فيخرج إلينا في الليل مرات، ويسألنا عم كتبناه ويقرؤه علينا، وكنا نمضي إلى أحمد بن حماد الدولابي، وكان في قرية من قرى الري، بينها وبين الري قطعة نأتي إلى الشيخ محمد بن حميد الرازي نجلس عنده، ثم نمضي إلى الدولابي، وإذا انتهينا من درس الدولابي؛ يكون قد حان موعد درس الرازي وبينهما مسافة -أي: قريتين- قال: ثم نغدو كالمجانين حتى نصير إلى ابن حميد فنلحق مجلسه نغدو كالمجانين -أي: من السرعة في العدو للحاق بدرس الشيخ، فمن شيخ في قرية، إلى شيخ في قرية، ثم العودة إلى الشيخ الأول بهذه السرعة، كل ذلك ينم عن وجود دافع قوي للتحصيل؛ حتى أن الواحد لا يكاد يلحق في حضور كل هؤلاء، فيكون وقته مزدحماً بدروس العلماء، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب مال) منهوم في العلم لا يشبع منه، ومنهوم في الدنيا لا يشبع منها، وإذا كان الطبري رحمه الله عنده هذه النهمة في طلب العلم؛ فلذلك لن يهدأ له بال حتى يطوف ويحصل، ومن شيخ إلى شيخ، ومن حلقة إلى حلقة، ومن درس إلى درس.
وهكذا امتدت الحياة لهذا الإمام رحمه الله ليذهب إلى أمصار مختلفة، ويأخذ الحديث من أفواه الأئمة مباشرة.(322/5)
ابن جرير وطلب العلم في العراق
بعد ما انتهى ابن جرير من الري ذهب إلى بغداد، ليلحق بالإمام أحمد رحمه الله؛ ليأخذ عنه الحديث، لكن الذي حصل أن الإمام أحمد رحمه الله توفي سنة (241هـ) قبل أن يصل ابن جرير إلى بغداد، ففاته الإمام أحمد رحمه الله، لكنه أقام في مدينة السلام حاضرة العلم والعلماء في ذلك الوقت، يأخذ عن محدثيها الحديث، والفقه عن فقهائها على مختلف المذاهب، وبعد أن انتهى من بغداد انحدر إلى البصرة، فسمع الحديث من محدثي البصرة من محمد بن موسى الحرشي، وعماد بن موسى القزاز، ومحمد بن عبد الأعلى الصنعاني، وبشر بن معاذ، ومحمد بن بشار بندار، ومحمد بن المعلّى.
بعدها انتقل من البصرة إلى واسط، فسمع من شيوخ واسط، ثم انتقل إلى الكوفة، فأخذ عن كبار علماء الكوفة: من أبي كريب محمد بن العلاء الهمداني، وهناد بن السري المحدث المشهور، وإسماعيل بن موسى وغيرهم يقال: إنه سمع من أبي كريب مائة ألف حديث، وأخذ القراءات عن سليمان الطلحي.
بعد أن جمع علم البصرة والكوفة وواسط رجع إلى بغداد ثانية فإنه لم يرتو منها بعد، لكن الإنسان يأخذ أهم الموجود، ويريد أن يلحق علماء البلد الآخر، فإذا انتهى رجع إلى ما كان قد تركه في البلد الأول؛ خشية أن يفوته علماء البلد الثاني، أو يموت أو يذهب قبل أن يلحق على علمه.
أقام بـ بغداد مدة، فدرس علوم القرآن عامة وعلم القراءات خاصة، وتلقى فقه الشافعي على الزعفراني، وكتب عنه كتاباً في الفقه، ودرس في بغداد على أبي سعيد الاصطخري، وعرف أبو جعفر الطبري في بغداد في هذه الفترة وبدأ يشتهر، وأقر له أهل العلم بالفضل، وبدأ نبوغه يظهر.
فإذاً: يظهر الإنسان بعلمه بعد مرحلة التأسيس، وليس هناك ظهور قبل التأسيس، وكان عمر رضي الله عنه يقول: [تفقهوا قبل أن تَسُودُوا أو تُسَوَّدُوا] لأن الإنسان إذا صار في منصب أو صار سيداً قبل أن يتفقه؛ فإن هذا المنصب سيمنعه عن الطلب من عدة جهات.
أولاً: ربما يستحي وهو في هذا المنصب أن يجلس مع الصغار ليطلب العلم.
ثانياً: أن المنصب له أشغال كثيرة، ولو تزوج وولد له أولاد أو صار في منصب صار في شغل في تجارة في وظيفة لها أشغال ومتطلبات، فلن يكون عنده وقتاً كافياً لطلب العلم، بخلاف ما لو كان منذ أول أمره قبل الارتباطات والمسئوليات يطلب العلم، فإذا صار سيداً أو صار في مكانة، ثم لم يتفقه افتضح بين الناس؛ لأنه ليس عنده شيء يعطيه ربما يسأل ربما يؤتى إليه، أو ربما يجعل حكماً في قضية، أو ربما يلجأ إليه في شيء ما عنده علم، فيفتضح بين الناس، وربما يحكم بشيء مخالف للشرع، أو يتاجر مثلاً في أشياء وهو ما فقه علم البيوع، فيرتكب محرمات في أثناء التجارة.
على أية حال، لا بد من مرحلة التأسيس والتفقه من الصغر، ثم إن النبوغ بين الناس والاشتهار بالعلم يكون بعد أن يؤسس نفسه.
بدأ الطبري رحمه الله يعرف بالعلم في بغداد بعدما رجع إليها في المرة الثانية، فبدأ يتكلم ويذكر اسمه في المجالس، وبدأ الإنصات لأقواله، والواحد إذا صار في درس الشيخ، فإن طلاب الشيخ ليسوا سواء، فهناك المعيد الذي يعيد الدرس بعد الشيخ، لمن يحتاج إلى إعادة لما كتب، أي: الذي جاء متأخراً وفاتته الحلقة.
تلاميذ الدرس رتب: هناك تلاميذ متقدمون، وهناك متوسطون وهناك مبتدئون، وهؤلاء التلاميذ المتقدمون لا شك أنهم قد يسألون عن أشياء مما ذكره الشيخ، أو من بعض المسائل، ويكون لهم رتبة فينبغون، وطريقة الحلق تساعد على نبوغ الطالب وتدرجه من مرحلة إلى مرحلة، وتبوئه مكانه الصحيح بين طلبة العلم.(322/6)
الطبري وطلبه العلم في الشام ومصر
لم يكتف الطبري رحمه الله بهذه الرحلة، وإنما رحل إلى الشام وكان فيها من أهل العلم من فيها، وذهب إلى السواحل والثغور من مدن الأجنان للحروب التي كانت مع الدولة البيزنطية، وأخذ القرآن برواية الشاميين، عن العباس بن الوليد المقرئ البيروتي وأقام بـ بيروت، حيث كانت بيروت حاضرة من حواضر العلم، ويكفي أنه كان يوجد فيها الأوزاعي التي فيها إلى الآن حي يعرف بحي الأوزاعي نسبة إلى ذلك العالم الأوزاعي الذي كان في بيروت، وهو من كبار علماء الشام رحمه الله تعالى.
فجلس في بيروت فترة من الزمن، ثم ذهب بعد ذلك إلى مصر، وكان مشتاقاً للقاء علمائها، وكان فيها من العلماء كبار، فقد أخذ فيها مذهب مالك على أبي محمد عبد الله بن وهب، وأخذ فيها على يونس بن عبد الأعلى، وأخذ فيها على محمد وعبد الرحمن وسعد أبناء عبد الحكم، ودرس فيها فقه الشافعي على الربيع بن سليمان المرادي، وإسماعيل بن يحيى المزني، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، بين مذهبي مالك والشافعي أقام في مصر فترة ثم رجع إلى الشام.
أقام بـ الشام فترة ثم رجع إلى مصر، يلحق بالعلماء قبل أن يموتوا، يحصل أشياء، ثم يرجع يقضي ما فاته في البلد الأول وهكذا.
ذهب إلى مصر مرة ثانية سنة (256هـ) والتقى بـ يونس بن عبد الأعلى الصدفي، وأخذ عنه قراءة حمزة وورش، وكذلك فإنه درس بـ مصر العروض وأصبح عروضياً، يعرف بحور الشعر وأوزانه، فكان لا بد من التعامل باللغة العربية والشواهد من أشعار العرب، خصوصاً في التفسير، حيث أن هذا القرآن نزل بلغة العرب، فتعرف أي معنى استعمله العرب لهذه الكلمات.
بعد ذلك دب فيه الحنين إلى وطنه، فترك مصر، ورجع إلى وطنه.(322/7)
العودة إلى طبرستان ثم الرحيل إلى بغداد
بعد هذه الرحلة الطويلة يحن الإنسان إلى أهله وبلده وأقربائه، وفي الطريق مر بـ بغداد وكتب فيها شيئاً ثم عاد إلى طبرستان، عاد رجلاً آخر يختلف تماماً عن الشخص الذي خرج منها، رجع صاحب علم وتجربة وخبرة، فالأسفار تربي الشخص على أشياء كثيرة، ثم إن الترحال في هذه البلدان كما قال الشاعر:
تغرب عن الأوطان في طلب العلا وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفريج هم واكتساب معيشة وعلم وآداب وصحبة ماجدِ
فلا شك أن هذه الأسفار كانت تصقل شخصيات هؤلاء العلماء، غير الفوائد العلمية الكثيرة التي كانوا يحصلونها، وهي الهدف الأساسي من الرحلة، فهنا يمكن أن يشعر الإنسان أو يشم شيئاً من فرح أهله به بعدما رجع ولدهم إليهم بهذه المنزلة العظيمة والعلوم الجليلة التي حصلها، ولما مكث بـ طبرستان فترة أشبع فيها ما حصل له من الحنين إلى أهله وبلده، رجع إلى البلد التي يمكن أن يفيد فيها الآن أكثر، وهي بغداد حاضرة العلم في ذلك الزمان، ومقصد ومهوى أفئدة كثير من طلبة العلم، فاشتهر اسمه في العلم، وشاع خبره بالفهم والتقدم، ولكنه لم ينس بلده طبرستان وأهله وأقربائه، فرجع مرة ثانية في سنة (290هـ) فمكث قليلاً، ثم رجع إلى بغداد، وهنا حط رحاله وألقى ترحاله واستقر فيها، وانقطع عن التدريس والتأليف في بغداد إلى أن ودع الحياة.(322/8)
مرحلة التصنيف والتدريس عند الطبري
إن التسلسل التاريخي للعالم تجد أنه يبدأ يدرس ويصنف بعدما يرحل ويجمع ويحفظ، فتكون حياة العالم فيها مراحل: الطفولة التي هي حفظ القرآن والسنة ومتون في اللغة والمواريث والمصطلح ثم بعد ذلك يأخذ عن مشايخ البلد، ثم مشايخ البلاد التي جاورها يرحل ويجمع ويحصل ويحفظ ويكتب وينسخ، ثم يرجع بعد عشرين سنة أو ثلاثين سنة إلى بلده أو إلى البلد التي فيها جو علمي وطلبة علم كثيرين، ويجلس فيها ويكون له درس أو دروس، تكون المرحلة الأخيرة من حياة العالم التدريس والتصنيف، وهذا هو الخط العام لحياة العلماء التدريس والتصنيف.
رجع إلى بغداد رحمه الله بعدما اكتملت شخصيته العلمية، وحصل ما حصل، وجمع ما جمع، واستقر فيها إلى سنة (310هـ) حيث توفي باذلاً وقته للعلم، فاتحاً بابه لطلبة العلم، عاكفاً على تصنيف كتبه ومؤلفاته.
صار الطبري رحمه الله بتوفيق الله تعالى ثم بفضل ذلك الأب الذي دفعه للعلم منذ صغره، ثم بهذه النهمة والجمع والترحال صار موسوعة ودائرة معارف، فهو صاحب عقل منظم، كان يمتاز بالتنسيق، وأنت لا تجد مؤلفاً من المؤلفين المكثرين إلا وعنده جانب التنسيق والترتيب ناضجاً، ولذلك يستطيع أن يصنف، فالتصنيف يحتاج إلى عقلية ترتب وتنسق.
وكان مدرساً في غاية الجودة في التدريس، ولذلك كان عنده طلاب كثيرين، الطالب إذا أحس أن الشيخ يعتني به؛ ويحسِّ خلقه معه، يفتح صدره له؛ ويقبل الطلاب عليه، والمجاهد ينفع الأمة بالجهاد، والغني ينفع الأمة بالمال، والعالم ينفع الأمة بالتدريس والتصنيف، وهناك طلاب يُعتبرون صدقات جارية لأنه يعلم من بعده، والأجر للمعلم الذي علَّم الطالب الأول، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الأمة أجراً، وكذلك المصنف يطلق عليه (ولد العالم المخلد) فالإنسان إذا اعتنى بتربية ولده، وعاش ولده صالحاً يدعو لأبيه؛ ينتفع الأب بدعاء ولده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ابن آدم؛ انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) فالولد الصالح طيلة حياته يدعو لأبيه ويعمل أعمال بر لأبيه، وتكتب أعماله مثل أجورها في صفحة أبيه، هو الذي رباه، وإذا انتهى الولد انتهى مورد الأجر بهذا الأب، لكن يعتبر تصنيف العالم يعتبر ولداً مخلداً؛ لأنه طيلة وجود هذا الكتاب يكون الأجر يدر على مؤلفه ومصنفه.
فتأمل الآن مثلاً كتاب مثل كتاب تفسير الطبري الذي هو أساس الكتب، وأعظم كتاب في التفسير على الإطلاق باعتراف علماء الأمة، وكل من بعد ابن جرير عالة عليه في التفسير، كما أن أعظم كتاب في الحديث هو صحيح البخاري، فأعظم كتاب في التفسير هو تفسير الطبري، طيلة رجوع العلماء وطلبة العلم والناس إلى هذا الكتاب، فإن ابن جرير يجري عليه عمله في قبره إن شاء الله، ويصل إليه مداد الأجر وافراً وهو في قبره، فتصنيف العالم ولده المخلد.
ولم يكف ابن جرير رحمه الله عن التعلم وهو في مرحلة التصنيف والتدريس، فالإنسان دائماً في تعلم فوائد جديدة، والعجيب في شخصية هذا الرجل أنه كان صاحب همة عالية جداً.
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسامُ
إذا كانت النفوس كبار الهمم عالية، تعبت في تحقيق مطلوبها الأجسام، فاستمر ابن جرير رحمه الله حتى بلغ السادسة والثمانين من عمره لم تفتر عزيمته، ولم يخف نشاطه، ولم يجف قلمه حتى مات وهو في السادسة والثمانين وحتى في مرحلة الشيخوخة بدأ بتصنيف عدة كتب، وقطع في كل منها شوطاً ولم يتمها، كـ فضائل علي وفضائل أبي بكر وفضائل عمر وفضائل العباس والموجز في الأصول وتهذيب الآثار وهو من أعظم كتب الحديث لكنه لم يتمه، كذلك ألف في الأصول كتاب الآذر، ولكنه لم يخرج منه شيئاً، وأراد أن يعمل كتاباً في القياس فلم يعمله، لكن خذ الكتب التي عملت كـ التفسير وتاريخ الطبري مثلاً.
يقول أبو القاسم الحسين بن حبيش الوراق: كان قد التمس مني أبو جعفر أن أجمع له كتب الناس في القياس -لأن التصنيف يحتاج فيه العالم إلى اطلاع على مصنفات ومؤلفات من كتب قبله في نفس الموضوع- فجمعت له نيفاً وثلاثين كتاباً، فأقامت عنده فترة مديدة، ثم كان من قطعه للحديث بشهور ما كان، فردها علي، وفيها علامات عليه بحمرة قد علم عليها، أي: قد اطلع، وعلم بعلامات.
قبيل مرض الوفاة كانت الهمة متجهة للتصنيف وزيادة التأليف، وهذه الهمة الجبارة لا شك أنها وليدة ذلك الإيمان القوي الحافز والدافع، ونتيجة التربية، ونتيجة ما قذف الله في قلب هذا الرجل من حب العلم، والنهمة التي رزقها الله إياها، إذا رزق الله طالب العلم نهمة في الجمع؛ فإنه لا يقف عند حد.
لم يؤلف الطبري رحمه الله في فنٍ واحدٍ، أو كان متخصصاً في فن واحد فقط، بل جمع مختلف العلوم الشرعية واللغوية وغيرها، فهو إمام في اللغة إمام في التاريخ إمام في الحديث إمام في التفسير إمام في القراءات وهكذا.
سمع ابن جرير الحديث من كثيرين، بعضهم من شيوخ البخاري ومسلم، وحدث عنه خلائق، وهو من جهة أجيال المحدثين يعتبر من جيل الترمذي والنسائي، مع العلم أن جيل الترمذي بعد جيل البخاري، وجيل البخاري بعد جيل ابن المديني، وجيل ابن المديني بعد جيل يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي وهكذا، فالإمام أحمد من جيل وعلي بن المديني ويحيى بن معين من هذه الطبقة، والطبري رحمه الله -كما قلنا- برع في جميع الفنون: فقه مقارن اختلاف العلماء تاريخ لغة نحو صرف عروض بيان مناظرات طب جبر رياضيات نظم شعر، وهكذا كله بعد التفسير، والحديث، والعقيدة والأصول.(322/9)
أقوال أهل العلم في الطبري
قال الخونساري: له مصنفات مليحة في فنون عديدة، تدل على سعة علمه وغزارة فضله، وكان من الأئمة المجتهدين.
قال الخطيب البغدادي: وكان أحد أئمة العلماء يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه بمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظاً لكتاب الله تعالى، عارفاً بالقراءات، بصيراً بالمعاني، فقيهاً في أحكام القرآن، عالماً بالسنن وطرقها، صحيحها وسقيمها، ناسخها ومنسوخها عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المخالفين في الأحكام ومسائل الحلال والحرام عارفاً بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في التاريخ وهو تاريخ الأمم والملوك، وكتاب في التفسير لم يصنف أحد مثله، وكتاب سماه تهذيب الآثار لم أر سواه في معناه إلا أنه لم يتمه، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة واختيار من أقاويل الفقهاء وتفرد بمسائل حفظت عنه.
ونقل ياقوت الحموي وصفه عن أبي محمد عبد العزيز بن محمد الطبري قال: كان أبو جعفر من الفضل والعلم والذكاء والحفظ ما لا يجهله أحدٌ عرفه، لجمعه من علوم الإسلام ما لم نعلمه اجتمع لأحدٍ من هذه الأمة، ولا ظهر من كتب المصنفين وانتشر من كتب المؤلفين ما انتشر له.
وهذا توفيق من الله، هناك علماء صنفوا لكن مصنفاتهم ذهبت، أحرقت واندثرت ولم يهتم بها أحد، أولادهم باعوا كتبهم، وتاجروا بها، وهناك مذاهب انقرضت وكانوا فقهاء كبار أيام ما كانوا، لكن لم تخدم مذاهبهم، والله سبحانه وتعالى يهيئ من يشاء لمن يشاء، فبعض العلماء مذاهبهم حملت وسارت بها الركبان، وصنفت فيها المصنفات، وبعض العلماء مذاهبهم اندثرت، أو بقيت منها أقوال في كتب الفقه مثلاً، وبعض المصنفات اندثرت وماتت، وبعض المصنفات حية، وابن جرير رحمه الله من هذا الصنف من العلماء الذين كتب الله لهم ولمصنفاتهم القبول والانتشار، وما يوجد أحد من العلماء في ذلك الوقت انتشر له مثلما انتشر لـ ابن جرير رحمه الله على تنوع ما ألف فيه من فنون العلم.
وقال ابن خزيمة وهو الإمام المحدث المشهور إمام أهل السنة: "ما أعلم تحت أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير ".
ويقول الذهبي: الإمام العلم الفرد الحافظ أبو جعفر الطبري، أحد الأعلام، وصاحب التصانيف، كان ثقة صادقاً حافظاً رأساً في التفسير، إماماً في الفقه والإجماع والاختلاف، علامة في التاريخ وأيام الناس، عارفاً بالقراءات وباللغة وغير ذلك.(322/10)
مؤلفات الطبري
مؤلفات الطبري كثيرة جداً، ومن المؤلفات التي عرفناها جامع البيان عن تأويل آي القرآن، المعروف بـ تفسير الطبري وقد طبع مرات عديدة، وتاريخ الأمم والملوك المعروف بـ تاريخ الطبري، واختلاف علماء الأمصار في أحكام شرائع الإسلام، والخفيف في أحكام شرائع الإسلام في الفقه وهو مختصر كتاب: لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام المعروف بـ اختلاف الفقهاء في علم الخلاف، وهو كتاب واسع اختصره في كتاب الخفيف، فإذاً: اللطيف والخفيف هما كتابان للطبري في الفقه.
وكتاب تهذيب الآثار وتفصيل الثابت عن رسول الله من الأخبار هذا كتاب في الحديث طبع منه أربعة مجلدات وبقي منه بقايا وهو من الكتب العظيمة.
كذلك ألف كتاب آداب القضاة، وآداب النفوس، والقراءات وتنزيل القرآن، والبصير في معالم الدين، وفضائل علي، وفضائل أبي بكر، وفضائل عمر، وفضائل العباس، وكتاب في تعبير عبارة رؤية في الحديث، ومختصر مناسك الحج، ومختصر الفرائض، والموجز في الأصول، والرمي بالنشاب حتى الرمي بالقوس وطريقة الرمي يقال: إنه للطبري رحمه الله، والرسالة في أصول الفقه، والمسترشد وكتاب اختيار من أقاويل الفقهاء، هذه بعض الكتب التي ألفها صاحب القلم السيال والنفس الطويل ابن جرير رحمه الله تعالى.
يقول الخطيب البغدادي راوياً: إن محمد بن جرير مكث أربعين سنة يكتب في كل يوم أربعين ورقة، وإذا ضربت أربعين سنة في إنتاج كل يوم أربعين ورقة يكون الناتج ستمائة ألف ورقة؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمد في عمره ستة وثمانين سنة، اطرح منها الطفولة والجمع والترحال والرحلات إلى أن استقر بـ بغداد أربعين سنة هذه فترة تدريس وتصنيف، كل يوم يؤلف أربعين ورقة هذه ستمائة ألف ورقة.
يقول ياقوت الحموي: وحدث عبد الله بن أحمد بن جعفر الفرغاني في كتابه المعروف بكتاب الصلة وهو كتاب وصل به تاريخ ابن جرير -أي: كمل مما انتهى إليه ابن جرير في التاريخ - أن قوماً من تلاميذ ابن جرير حصلوا أيام حياته منذ بلغ الحلم إلى أن توفي وهو ابن ست وثمانين، ثم قسموا عليها أوراق مصنفاته، فصار منها على كل يوم أربع عشرة ورقة، وهذا شيء لا يتهيأ لمخلوق إلا بحسن عناية الخالق.
تصنيف الطبري ليس كما يقولون كلام حشو، هذا لا يأتي إلا بعد جمع غزير، ما كان إنتاج الطبري بالغث.
الآن تجد بعض المُحْدَثِين الجدد يؤلف المجلدات، لكن إذا نظرت في الزبدة أو العلم الحقيقي إذا أخرجت العبارات الإنشائية والكلام الذي فيه ما فيه، يمكن أن يصفى لك مختصر كتاب فيه أوراق.
أما ابن جرير رحمه الله فكان كتابه زبداً، ليس فيه حشو، كان علمه المصنف في الكتب سميناً محيطاً بموضوع البحث.
وبعض الكتب عادت عليها عواجل الدهر وحوادث الأيام، ونكبات التاريخ، واحترق ما احترق، وتلف ما تلف، وغرق ما غرق، وضاع ما ضاع، فقد القسم الأكبر، وما وصلنا الآن هو الأقل مما تركه ابن جرير رحمه الله، لكن يكفي تفسير الطبري ثلاثين مجلداً، وتاريخ الأمم والملوك ثمانية مجلدات، وقطعتين من اختلاف الفقهاء، لكن -مع الأسف- المستشرقين هم الذين اهتموا بـ تاريخ الطبري وبمؤلفاته، تهذيب الآثار فيها مسند عمر ومسند علي ومسند عبد الله بن عباس وله فيها مسانيد أخرى للصحابة كثيرة.
ولنعلم أن ابن جرير رحمه الله لم يكن يحبس نفسه بين أربعة جدران، لا يعلم عن العالم، ولا يساهم في شيء، لا.
كان محتكاً بالحياة والمجتمع والأمة والأحداث، ولم يكن في برج عاجٍ فقط يصنف، كان له طلاب ثم هذه الرحلة الطويلة التي رحلها أكسبته خبرة وتجارب في الناس والأحوال والأحداث.
رزق رحمه الله بطلاب وتلامذة أقوياء، كان يملي عليهم ويحدثهم ويقرئ القرآن والقراءات، ويصلي إمام بالجماعة، ويقصده الناس لسماع قراءته وتجويده، والصلاة خلفه، فالرجل لم يكن مثل بعض الناس الآن لا تعرف عنهم شيئاً ألبتة إلا من كتبهم، إنما لا تاريخ، لا سيرة، لا حياء، لا إيمان، لا دروس، لا خطابة، ولا مساهمة في حل مشكلات الناس، لم يكن الطبري رحمه الله كذلك، كان إماماً مدرساً مصنفاً مناظراً له أتباع، أخذوا علمه، وحملوا فقهه، ونشروا مذهبه، وكان يحنو على تلاميذه وطلابه ويعاملهم معاملة كريمة.(322/11)
ذكاء ابن جرير الطبري وحفظه
كان رحمه الله صاحب ذهنٍ وقاد، ووهبه الله عز وجل ذكاءً عظيماً، وكان والده قد اكتشف فيه هذا الذكاء منذ صغره، فاعتنى به، وخصص له بعد ذلك لرحلته في طلب العلم موارد أرض أنفقها على ولده، لتكون عوناً له على الرحلة والسفر والتفرغ لطلب العلم.
ومما يدل على ذكائه رحمه الله ونبوغه أنه تعلم علماً كاملاً في ليلة واحدة، وهو علم العروض، وهو العلم المتعلق بأوزان الشعر، فإنه قال: لما دخلت مصراً لم يبقَ أحد من أهل العلم إلا لقيني، وامتحنني في العلم الذي يتحقق به، فجاءني يوماً رجل، فسألني عن شيءٍ من العروض، ولم أكن نشطت له قبل ذلك، وتفرغت لفهمه، فقلت له: علي قول ألا أتكلم اليوم في شيء من العروض، فإذا كان في غدٍ؛ فصل إلي، وطلبت من صديق لي العروض -كتاب العروض - للخليل بن أحمد، فجاء به، فنظرت فيه ليلتي، فأمسيت غير عروضي، وأصبحت عروضياً، فتعلمه في ليلة واحدة.
وقد سبق أن ذكرنا أنه حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وصلى بالناس إماماً وهو ابن ثمان سنين، وكتب الحديث وهو ابن تسع سنين، ولا شك أنه كان حافظاً غاية في الحفظ.
وقال عنه تلميذه: كان أبو جعفر من الفضل والعلم والذكاء والحفظ ما لا يجهله أحد عرفه، لجمعه من علوم الإسلام ما لم نعلمه اجتمع لأحد من هذه الأمة ولا ظهر من كتب المصنفين، وانتشر من كتب المؤلفين ما انتشر له، كان يتكلم في حدود علمه عن شيخه رحمه الله تعالى.
وقال أبو الحسن عبد الله بن أحمد بن المفلس الفقيه لما ذكر فضائل العلماء: "والله إني لأظن أبا جعفر الطبري قد نسي مما حفظ إلى أن مات ما حفظه فلان طول عمره".
أي: أن الأشياء التي نسيها أبو جعفر تعادل الأشياء التي حفظها فلان طيلة حياته.
وقال ثعلب: قرأ علي أبو جعفر الطبري شعر الشعراء قبل أن يكثر الناس عنده بمدة طويلة.
أي: أنه قبل أن يشتهر كان قد انتهى من قراءة شعر الشعراء على ثعلب -اللغوي المشهور- فقال أبو العباس ثعلب يوماً: من بقي عندكم يسأل الطلاب؟ -أي: في الجانب الشرقي من النحويين- فقال أحدهم: ما بقي أحد، مات الشيوخ، فقال: حتى خلا جانبكم؟ قلت: نعم، إلا أن يكون الطبري الفقيه، فقال لي: ابن جرير؟ قلت: نعم.
قال: ذاك من حذاق الكوفيين، قال أبو بكر: وهذا من أبي العباس كثير.
يقول: هذه الشهادة منه شيء عظيم؛ لأنه كان شديد النفس، شرس الأخلاق، وكان قليل الشهادة لأحد بالحذق في علمه، فإذا شهد لـ أبي جعفر؛ فمعنى ذلك أنه فعلاً مبرز وعظيم في هذا الجانب.
وكان أبو كريب محمد بن العلاء الهمداني قريباً من هذا في الشدة وعدم الانبساط، قال أبو جعفر: حضرت باب داره -دار أبي كريب - مع أصحاب الحديث، فاطلع من باب خوخةٍ له - أبو كريب كان من كبار المحدثين لكن لم يكن منبسطاً مع الطلاب- وأصحاب الحديث يتوسلون إليه ليدخلوا؛ ليحدثهم، فقال: أيكم يحفظ ما كتب عني؟ فالتفت بعضهم إلى بعض: من الذي يحفظ ما كتب عن الشيخ في الفترة الماضية؟ ثم نظروا إلي -يقول الطبري - وقالوا: أنت تحفظ ما كتبت عنه؟ قلت: نعم.
فقالوا للشيخ: هذا فسله، فقلت: حدثتنا في كذا بكذا، وفي يوم كذا بكذا، وأخذ أبو كريب في مسألته يسأله عن الدقائق إلى أن عظم في نفسه، فقال له: ادخل إلي، فدخل إليه وعرف قدره على حداثته ومكنه من حديثه، وكان الناس يسمعون به، فيقال: إنه سمع من أبي كريب أكثر من مائة ألف حديث، فـ الطبري رحمه الله ما استعد لهذا الموقف، ولكنه كان يحفظ المرويات.(322/12)
صفات الطبري الخَلْقية وعاداته
بالنسبة لصفات الطبري الخَلْقِية وعاداته رحمه الله فقد كان أسمراً يميل إلى الأدمة، أعين -أي: واسع العينين- نحيف الجسم، طويل القامة، فصيح اللسان، أسود الشعر، وبقي السواد في شعر رأسه ولحيته إلى الوفاة، وظهر فيه بعض الشيب ولم يغيره، وكان يأكل الخبز من الدقيق الأبيض بعد غسل القمح أو نزع قشره؛ لأن مذهبه أن الشمس والنار والريح لا تطهر نجساً، وكان يأكل العنب والتين والرطب، ويشرب حليب الغنم التي ترعى بعد أن يصفى ويوضع على النار، حتى يذهب منه جزءٌ، ويصنع الثريد من الخبز، ويضاف إليه الصعتر -وهو الذي يعرفه الناس الآن بالزعتر- وحبة البركة والزيت، وكان يأكل الحصرم في وقته، وهذا من اعتداله رحمه الله في أكله، وكان يأكل اللحم الأحمر الصرف بعد أن يطبخه بالزبيب، ويتجنب اللحم السمين، ويقول عنه: إنه يلطخ المعدة، كما كان يتجنب السمسم والعسل، وكان يتجنب أكل التمر، ويظن أن التمر يلطخ المعدة، ويضعف البصر، ويفسد الأسنان، ويفعل في اللحم كذا وكذا، يعني هذا من مرئياته وتجاربه الخاصة.
ومن اللحم اللطيف لحم الكتف الذي كان يأكله النبي صلى الله عليه وسلم، ومن اللحم الغليظ لحوم العضلات ولحم الفخذ مثلاً، ولما عاتبه أحد أصحابه وهو أبو علي الصواف، وقال له: أنا آكل التمر طول عمري ولا أرى إلا خيراً وأنت لماذا لا تأكل التمر؟ فرد عليه الطبري فقال: وما بقي على التمر أن يعمل بك أكثر مما عمل، قال: انظر إلى نفسك، وكان الصواف قد وقعت أسنانه، وضعف بصره، ونحف جسمه، وكثر اصفراره، وكان الطبري رحمه الله يتجنب الثلج؛ لأنه يؤذي الحلق، وكان يداوي نفسه ويتعالج بالأدوية، ويعتمد على كتاب فردوس الحكمة الذي ألفه علي بن زين، وسمعه منه مباشرة وكان يصف الأدوية من هذا الكتاب للناس.
ومن آداب الطبري في الأكل: أنه كان إذا تناول اللقمة سمى ووضع يده اليسرى على لحيته ليقيها من الدسم، فإذا حصلت اللقمة في فيه أزال يده، ويتناول الطعام لقمة لقمة من جانب واحد من القصعة، وكان من وجوه القوم في مدينة السلام، وقال عنه محمد بن إدريس الجمال: حضرنا يوماً مع أبي جعفر الطبري وليمة، فجلست معه على مائدة، فكان أجمل الجماعة أكلاً وأظرفهم عشرة، كان قدوة رحمه الله حتى في طعامه.
وكان الطبري إذا جلس لا يكاد يسمع له تنخم ولا تبصق ولا يرى له نخامة، وإذا أراد أن يمسح ريقه؛ أخذ ذؤابة منديله -طرف المنديل- ومسح جانبي فيه.
والآن بعض الناس تراه في المجلس يتنخم ويبصق، ويأتي بجميع الأصوات ويتجشأ في عرض المجلس، وهذا مخالف للأدب.
وقال هذا الرجل الذي يصفه: ولقد حرصت مراراً أن يستوي لي، مثل ما يفعله، فيتعذر علي اعتياده، أي: يمكن أن يحصل لي بعض المرات بتكلف، إنما ما استطعت أن يصبح لي عادة، قال: وما سمعته قط لاحناً ولا حالفاً بالله عز وجل، لغته مستقيمة وما كان يحلف بالله تعالى هيبة من القسم.(322/13)
تنظيم الوقت عند الطبري
من الأمور المهمة والمهمة جداً لطالب العلم حتى وللعالم، وكان يفعله ابن جرير رحمه الله هو تنظيم الوقت، فكان يجمع بين التدريس والتصنيف والنوم والعبادة، فكان ينام قيلولة الظهر قبل الظهر، ويصلي الظهر ثم يبدأ بالتصنيف إلى العصر، ثم يخرج فيصلي العصر، ويجلس في المسجد يدرس القرآن، إلى المغرب، ثم يجلس للفقه والدرس والمذاكرة بين يديه إلى صلاة العشاء الآخرة، ثم يدخل إلى منزله، فإذا دخل منزله بعد المجلس، فلا يسمح لأحدٍ بالدخول عليه، لاشتغاله بالتصنيف إلا في أمرٍ مهم، مع المحافظة على حزبه من القرآن الكريم، وكان يقرأ كل ليلة ربعاً أو حضاً وافراً.
قال ابن كامل: وقد قسَّم ليله ونهاره في مصلحة نفسه ودينه والخلق كما وفقه الله عز وجل، فأنت إذا نظرت إلى تنظيم الوقت تجده أنه يعتمد على الصلوات، وهذه ميزة في الصلوات الخمس، والله سبحانه وتعالى لما شرع لنا الصلوات كان من ميزتها تنظيم الوقت؛ لأنه يصبح عندك محطات في اليوم والليلة، بين الظهر إلى العصر، من العصر إلى المغرب، من المغرب إلى العشاء، بعد العشاء، قبل الفجر، بعد الفجر، الصلوات محطات تعين على تنظيم الوقت، وكان العلماء رحمهم الله يستغلون ذلك.
فهذا أبو جعفر رحمه الله عنده قيلولة وراحة بدن، وإن كان لا يكثر من ذلك، وعنده تدريس، وعنده تصنيف، وعنده عبادة، فتقسيمه لوقته من أروع ما يكون، ما كان رحمه الله يفتح بابه لكل طارق، ويجعل وقته نهباً لكل من يأتي؛ لأن بعض الشباب الآن مثلاً وقته غير محدد في شيء، فهو ملك للآخرين، فقد يضيع في أي شيء، في لهو أو في نوم، فإذا طُرِقَ عليه الباب؛ خرج معه، إذا أتاه شخص في أي وقت تحدث معه، وأسهب وأطال وذهب الوقت.
إن الذي يحافظ على وقته يحتاج إلى شيء من الحزم، وذلك ليس من الكبر والتطاول على عباد الله، ولا سوء الأدب مع الخلق وردهم، أو الصلف معهم، لا.
وإنما شيء من الحزم، هذا عامل مهم جداً في تنظيم الوقت.
يقول: وكان إذا دخل منزله بعد المجلس، فلا يسمح لأحد بالدخول عليه لاشتغاله بالتصنيف إلا في أمر مهم.
هل التصنيف والتدريس كانا يمنعانه من العبادة؟ كلا، كان عنده وقت للعبادة وقيام الليل وقراءة حزب من القرآن الكريم يومياً، وهذا عامل مهم جداً؛ لأن بعض الناس ربما يكون له شيء من الجلد في القراءة وطلب العلم، لكن يقسو قلبه بسبب ضعف الصلة بالله تعالى.
فالمهم كما يتضح من برنامج أبي جعفر الطبري اليومي هناك موازنة وتوزيع الأوقات على المهمات، وتوزيع الأوقات على الواجبات، والأخذ من كل شيء بشيء ونصيب، فيعمل في جميع مجالات الخير؛ تدريس، نفع الخلق، حق الطلاب الموجودين، التصنيف للأجيال المستقبلة، العبادة لحظ نفسه وعلاقته بربه، والنوم لحظ جسده، ترتيب رائع.(322/14)
صفات الطبري الخُلقية
بالنسبة لصفاته الخُلقية رحمه الله؛ كان على جانب عظيم من مكارم الأخلاق، أكسبته محبة الناس والمشايخ والتلاميذ، فيصف تلميذه أخلاق أستاذه يقول: كان أبو جعفر ظريفاً في ظاهره، نظيفاً في باطنه، حسن العشرة لمجالسيه، متفقداً لأحوال أصحابه، مهذباً في جميع أحواله، جميل الأدب في مأكله وملبسه، وما يخصه في أحوال نفسه، منبسطاً مع إخوانه حتى ربما داعبهم أحسن مداعبة، وربما جيء بين يديه بشيء من الفاكهة، فيجرى في ذلك المعنى ما لا يخرج من العلم والفقه والمسائل حتى يكون كأجد جدٍ وأحسن علم، وكان يتمسك بما عليه أهل السنة والجماعة كما سيأتي.
ومما حصل من حسن خلقه مع خصومه أنه كان يحضر عند داود بن علي الظاهري يسمع منه، ويناقشه في العلم، حتى حضر مرة عنده وناقشه في مسألة من العلم، فضاق أحد أصحاب داود وكلمه كلاماً فضاً، فقام الطبري من مجلسه، وبدأ بتصنيف كتاب للرد على داود ومناقشة مذهبه، وأخرج منه مائة ورقة، فلما مات داود؛ قطَّع الطبري كتابه، فقام محمد بن داود للرد على أبي جعفر، وتعسف عليه وأخذ في سبه، إلى أن جمعتهم المصادفة في منزلٍ، فلما عرفه الطبري؛ رحب به، وأخذ يثني على أبيه ويمدحه، ويصفه بالصفات الكريمة؛ مما حمل ابن داود على تقطيع كتابه، فقطع الكتاب وأتلفه ومزقه؛ بسبب حسن استقبال أبي جعفر له، وثنائه على أبيه، فامتص غضبه ونقمته، وحوله من عدو له إلى صديق.(322/15)
زهد الطبري وعفته
كان الطبري رحمه الله فيه زهدٌ وورع وخشوع وأمانة، وصدق نية، وأفعاله كانت حقائق، وكان عازفاً عن الدنيا، تاركاً لها ولأهلها، مترفعاً عن التماسها كما تجد ذلك في كتابه آداب النفوس.
ومن زهده وعدم جريه وراء الدنيا وتعلقه بها، يقول صاحبه الفرغاني: أرسل الوزير العباس بن الحسن إلى ابن جرير يقول: قد أحببت أن أنظر في الفقه، أي: أريد كتاباً يناسبني في الفقه، وسأله أن يعمل له مختصراً، فعمل له أبو جعفر بن جرير كتاب الخفيف، وأنفذه إلى الوزير، فوجه إليه بألف دينار، والدينار أربع غرامات وربع من الذهب، اضربها الآن في خمسين ريالاً تقريباً للغرام، يساوي مائتين وخمسة وعشرين ألف ريال، فلم يقبلها، فقيل له: تصدق بها، فلم يفعل.
وأراد الخليفة المقتدر أن يكتب كتاباً في الوقف، تكون شروطه متفق عليها بين العلماء -الوقف فيه اختلافات كثيرة بين الفقهاء والمذاهب الأربعة، فأراد هذا الخليفة عمل كتاب فيه شروط الوقف، تجمع فيها ما اتفقت عليه المذاهب- فقيل للخليفة: لا يقدر على استحضار ذلك إلا محمد بن جرير الطبري لسعة علمه بأقوال الفقهاء، فطلب منه ذلك، فكتب له كتاباً في الموضوع، فاستدعاه الخليفة إليه وقرب منزلته عنده، وقال له: سل حاجتك، فقال: لا حاجة لي، قال: لا بد من أن تسألني حاجة أو شيئاً، فقال: أسأل أمير المؤمنين أن يتقدم أمره إلى الشرطة حتى يمنعوا المتسولين يوم الجمعة أن يدخلوا إلى مقصورة الجامع؛ لأن ذلك يشوش على المسلمين، ويجعل أمر المسجد مضطرباً، ودخول المتسولين إلى مقصورة الجامع يجعل الأمر مشوشاً ويطغى طلب هؤلاء للدنيا في مكان العبادة.
وقال أبو بكر بن كامل قال لنا أبو جعفر: لما وردت مصر في سنة (256هـ) نزلت على الربيع بن سليمان الفقيه، فأمر من يأخذ لي داراً قريباً منه، وجاءني أصحابه -أصحاب الربيع - وقالوا: تحتاج إلى قصرية -أي: أنت الآن نزلت في بلد، ماذا تحتاج من الأثاث في المنزل حتى تكون مرتاحاً وتسكن في البيت- تحتاج إلى قصرية، وزير، وحمارين، وسدة، فقلت: أما القصرية فإنه لا ولد لي لأنه لم يكن متزوجاً رحمه الله- وما حللت سراويلي على حلال ولا حرام قط، وأما الزير فمن الملاهي، وليس هذا من شأني، وأما الحماران، فإن أبي وهب لي بضاعة أستعين بها في طلب العلم، فإذا صرفتها في ثمن حمارين؛ فبأي شيء أطلب العلم! قال: فتبسم، فقلت: إلى كم يحتاج هذا؟ فقالوا: يحتاج إلى درهمين وثلثين -أي: ثمن هذا المتاع- فأخذوا ذلك مني، وعلمت أنها أشياء متفقة، وجاءوني بإجانة -إناء تغسل فيه الثياب- وحب -وعاء ماء وهو المسمى بالزير- وأربع خشبات قد شدوا وسطها بشريط، وقالوا: الزير للماء، والقصرية للخبز، والحماران والسدة تنام عليها من البراغيث، فنفعني ذلك وقد كثرت البراغيث، فكنت إذا جئت؛ نزعت ثيابي وعلقتها على حبل قد شددته واتزرت، وصعدت إلى السدة خوفاً منها -من هذه البراغيث- فالرجل يسافر في طلب العلم، ويتحمل النفقات، وينزل في أماكن قد لا تناسب ولكن لطلب العلم.
وقال الفرغاني: رحل ابن جرير من مدينة آمل -اسم لمدينة في طبرستان التي ينسب إليها الطبري أو الآملي - لما ترعرع وأذن له أبوه بالسفر، وكان طول حياته ينفذ إليه بالشيء بعد الشيء -يرسل له نفقات- فأين ما كان الولد مسافراً يرسل إليه بنفقة ليستعين بها على الرحلة، فسمعت أبا جعفر الطبري يقول: أبطأت عني نفقة والدي، واضطررت إلى أن فتقت كمي القميص، فبعتهما.
لكي يطلب العلم.(322/16)
عفة لسان الطبري
وأما بالنسبة لعفته في لسانه ونظافة ذلك، فإنه كان رحمه الله عفيف اللسان، يحفظه عن كل إيذاء، والنبي صلى الله عليه وسلم قال لـ معاذ: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ فأخذ بلسانه، وقال: كف عليك هذا -ثم قال له في آخر الحديث- وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم) وقد سبق أن ذكرنا قصة داود بن علي الظاهري عندما ناقشه ابن جرير الطبري في المجلس، ذاك يأتي بحجة والآخر يرد على حجة الآخر، وابن جرير رد أثناء المناقشة ووقف الكلام على داود، فما استطاع أن يأتي داود برد، فشق ذلك على أصحاب داود، فشيخهم أحرج وأفحم في المناقشة، فقام رجل من تلاميذ داود وتكلم بكلمة موجعة لـ أبي جعفر، لماذا أفحم شيخه؟ فأعرض عنه ولم يرد عليه {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63] وترفع عن جوابه، وقام من المجلس، وصنف كتاباً في هذه المسألة والمناظرة، أدب المناظرة وأدب الحديث نتيجة الموقف؛ شيء رائع ومفيد، أما أن ندخل في مهاترات مع شخص قليل الأدب؛ فهذا ليس من أخلاق أهل العلم.
وقال أبو بكر بن كامل: "سألت أبا جعفر عن المسألة التي تناظر فيها هو والمزني، فلم يذكرها".
رفض أن يحدث بها؛ لأنه كان أفضل من أن يرفع نفسه، أو أن يذكر ظفره على خصم في مسألة.
وكان أبو جعفر يفضل المزني، فيطريه ويذكر دينه، مع أنه فاق المزني وأفحمه.
وتناظر الطبري مع عبد الله بن حمدان في الدينور -بلد ينسب إليها فيقال: الدينوري- عند رجوعه إلى طبرستان، وأغرب أبو جعفر عليه ثلاثة وثمانين حديثاً، أي: أتى له بثلاثة وثمانين حديثاً لا يعرفها ابن حمدان، وأغرب عليه ابن حمدان بثمانية عشرة حديثاً فقط، مع محافظة الطبري على أدب المناظرة وحفظ اللسان ويكتفي بالقول: هذا خطأ من جهة كذا ومثلي لا يذاكر به فيخجل -أي: الآخر- وينقطع.(322/17)
عفة الطبري في سؤال الآخرين
وكان الطبري عفيف النفس أكثر من ذلك، فهو مع زهده لا يسأل أحداً مهما ضاقت به النوائب، وينفق على نفسه مما تنتجه أرضه في قريته التي تركها له أبوه بـ طبرستان، ويعف عن الناس، ومما يدل على عفة نفسه الأبية هذه الأبيات التي وصف بها نفسه، فقال:
إذا أعسرت لم يعلم رفيقي وأستغني فيستغني صديقي
حيائي حافظٌ لي ماء وجهي ورفيقي في مطالبتي رفيقي
ولو أني سمحت ببذل وجهي لكنت إلى الغنى سهل الطريقِ
وهذا الخُلق عظيم؛ العفة عن سؤال الآخرين والترفع عن مد اليد للآخرين، وعدم الطلب من الآخرين، كما كان الشافعي رحمه الله يقول:
أمت مطامعي فأرحت نفسي فإن النفس ما طمعت تهونُ
وأحييت القنوع وكان ميتاً ففي إحيائه عرضي مصونُ
ولما تقلد الخانقان الوزارة، وجه إلى أبي جعفر الطبري بمال كثير؛ فأبى أن يقبله، فعرض عليه القضاء؛ فامتنع، فعاتبه أصحابه، فقالوا: لماذا لا تقبل القضاء وأنت تعدل، وذلك أحسن أن يتولاها شخص يجور فيها؟ وقالوا له: لك في هذا ثواب، وتحيي سنة قد درست وذهبت واندثرت، وطمعوا في أن يقبل ولاية المظالم، فانتهرهم، وقال: قد كنت أظن أني لو رغبت في ذلك؛ لنهيتموني عنه، فما بالكم تطلبون مني! فانصرفوا خجلين، وهذا من ورعه رحمه الله، لا يريد أن يدخل في القضاء؛ خوفاً أن يجور في حكم، أو يرتكب ظلماً.
وفي قضية التعفف والطلب من الناس وعدم مد اليد إلى الآخرين حصلت قصة عجيبة جداً ولطيفة للغاية، جمعت بين أربعة من المحمدين أحدهم الطبري في طلب العلم، كان من الرحلات الجميلة أن يترافق طلبة العلم للدراسة والسماع في بلدٍ من البلدان.
اجتمع أربعة من كبار العلماء في ذلك الوقت هم: محمد بن جرير الطبري، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن هارون الروياني، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة إمام التوحيد، جمعتهم الرحلة في طلب العلم بـ مصر، كانوا مجتمعين في مكان واحد، فلم يبق عندهم شيء ألبتة، وأضر بهم الجوع، فاجتمعوا ليلة في منزل كانوا يأوون إليه، فاتفق رأيهم تحت وطأة الجوع الشديد على أن يستهموا ويضربوا القرعة، فمن خرجت عليه القرعة سأل لأصحابه الطعام.
ما كانوا يسألون حتى أضر بهم الجوع، فليس في البيت شيء مطلقاً، ولا يوجد عند أحدهم قرشاً، ولا يرضى أحدهم أن يذهب ويسأل الناس طعاماً، ويقول: أعطونا رغيفاً أو أسلفونا رغيفاً فهم في غاية العفة، لكن ما هو الحل؟ أن يبقوا على هذه الحالة إلى أن يموتوا من الجوع؟ فخرجت القرعة على محمد بن إسحاق بن خزيمة رحمه الله تعالى، فقد كان من أولياء الله الصالحين، فقال لأصحابه: أمهلوني حتى أتوضأ وأصلي صلاة الاستخارة فاندفع في الصلاة يدعو الله تعالى، فإذا هم أثناء صلاة ابن خزيمة بالشموع وبرجل من قبل والي مصر يدق الباب، ففتحوا الباب، فنزل عن دابته، فقال: أيكم محمد بن نصر؟ فقيل: هو ذا، فأخرج صرة فيها خمسون ديناراً فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن جرير؟ فقالوا: هو ذا، فأخرج صرة فيها خمسون ديناراً فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن هارون؟ فقالوا: هو ذا، فأخرج صرة فيها خمسون ديناراً فدفعها إليه، ثم قال: أيكم محمد بن إسحاق بن خزيمة فقالوا: هو ذا يصلي، فلما فرغ دفع إليه الصرة وفيها خمسون ديناراً، ثم قال: إن الأمير كان قائلاً بالأمس -نوم القيلولة- فرأى في المنام خَيّالاً يقول: إن المحمدين -الأربعة كل واحد اسمه محمد- طووا كشحهم جياعاً في بلدك، فأنفذ إليهم هذه الصرار وأقسم عليكم إذا نفذت فابعثوا إلي أمدكم، يقول: الأمير يقسم عليكم بالله إذا انتهت أن تعلموه ليزيدكم.
انظر! ما سألوا أحداً، ولا خرج محمد بن إسحاق بن خزيمة إلى الشارع يسأل الناس، لكن بصلاحهم وإخلاصهم؛ أرى الله سبحانه وتعالى الأمير رؤيا فيها قائل يقول له في المنام: أعط الصرار لهؤلاء، فرزقهم الله.
وكان الطبري رحمه الله تعالى يكره البطر من الغني، والمذلة من الفقير، وكان يقول في شعره:
خلقان لا أرضى طريقهما بطر الغنى ومذلة الفقرِ
فإذا غنيت فلا تكن بطراً وإذا افتقرت فته على الدهرِ
وقال عبد العزيز بن محمد: كان إذا أهدى إليه مهدٍ هدية مما يمكنه المكافأة عليه، قبلها وكافأه، وإن كانت مما لا يمكنه المكافأة عليه -الهدية عظيمة لا يمكن أن يكافئ بمثلها- ردها واعتذر إلى مهديها.
ووجه إليه أبو الهيجاء بن حمدان ثلاثة آلاف دينار، فلما نظر إليها، عجب منها، ثم قال: لا أقبل ما لا أقدر على المكافئة عنه، ومن أين لي ما أكافئ عنها؟ فقال: ما لهذا مكافئة إنما أراد التقرب إلى الله عز وجل، فأبى أن يقبله ورده إليه.
وكان أبو الفرج الأصفهاني يختلف إلى الطبري ليقرأ عليه كتبه، فطلب الطبري حصيرة لغرفة صغيرة له، فدخل أبو الفرج وأخذ قياس الطول والعرض للغرفة، وعمل لها الحصير متقرباً بذلك له، فلما جاء به ووقع موقعه الحصير، أخذ الطبري أربعة دنانير ودفعها إلى أبي الفرج، فأبى أن يأخذها، وأبى أبو جعفر أن يأخذ الحصير إلا بها، وأهدى إليه جاره أبو الحسن المحرر فرخين؛ فأهدى إليه ثوباً.
إذاً: شيء لا يقدر أن يكافئ بمثله؛ يرفض أن يأخذه أصلاً.
وأهدى أبو علي محمد بن عبيد الله الوزير إلى أبي جعفر برمانٍ، فقبله وفرقه في جيرانه، ولم يأخذ منه شيئاً، فلما كان بعد أيام؛ وجه إليه بوعاء فيها عشرة آلاف درهم، وكتب معها رقعة وسأله أن يقبلها، وقال الوزير لمن حملها: إن قبلها وإلا فاسألوه أن يفرقها في أصحابه ممن يستحق، فلما دخل عليه وأوصل إليه الرسالة، قال أبو جعفر رحمه الله: يغفر الله لنا وله، اقرأ عليه السلام، وقل له: ارددنا إلى الرمان -الرمان كان أحسن- أهون من عشرة آلاف درهم، فقال له الرسول: فرقها في أصحابك على من يحتاج إليها ولا تردها، فقال الوزير: هو أعرف بالناس إذا أراد ذلك، وأجاب عن الرسالة، وبعد مدة جاءه مال ضيعته التي كان يعيش من ورائها فاشترى به بضاعة، وأرسلها إلى الوزير وفيها ما قيمته أربعون ديناراً من الذهب.(322/18)
تواضع الطبري وعفوه
وأما تواضعه وعفوه رحمه الله تعالى؛ فإنه كان يدعى إلى الوليمة فيمضي إليها ولا يتكبر، ويُسأل في الوليمة، فيجيب ويكون حضوراً مشهوداً من أجله.
إذا كان في الوليمة أبو جعفر الطبري، تجد الناس يتقاطرون، ويعظم مقدار الوليمة، وصاحب الوليمة يسر بإتيان أبي جعفر.
ووصفه عبد العزيز بن محمد، فقال: كان جميل الأدب في مأكله وملبسه، منبسطاً في أحوال نفسه، منبسطاً مع إخوانه حتى ربما داعبهم أحسن مداعبة.
ومن مداعباته لأصحابه وإخوانه وطلابه: كان أحد أتباع الطبري اسمه أبو الفرج بن الثلاج يتعسف في كلامه، وقال عن طعام يقال له: طباهجة -طعام يصنع من بيض وبصل ولحم- فبدل أن يقول: طباهجة، قال: طباهقة، فلما سئل؟ قال: ألا ترى أن العرب تجعل الجيم قافاً، فقال أبو جعفر: فأنت إذاً أبو الفرق بن الثلاق! لأنه أبو الفرج بن الثلاج، فصار يعرف بأبي الفرق بن الثلاق ويمزح معه بذلك.
وكان الطبري رحمه الله لا يحمل حقداً ولا ضغينة؛ وله نفسٌ رضية، يتجاوز عمن أخطأ معه، ويعفو عمن أساء إليه.
قال أبو بكر بن كامل: لما حضرت أبا جعفر الوفاة فسألته أن يجعل كل من عاداه في حل، لأجل شخص كان قد عادى الطبري ووقع فيه، ففعل وقال: كل من عاداني وتكلم فيَّ فهو في حل إلا رجل رماني ببدعة، لأنهم اتهموا أبا جعفر الطبري بأنه متشيع، وأنه ليس من أهل السنة.
فإنه رحمه الله تعالى بريء من بعض الأشياء التي رمي بها، وما من عالم إلا وله كبوة، أو يخطئ في أشياء، ومر معنا في حياة الأئمة شيء كثير.(322/19)
عقيدة الطبري وردوده على الآخرين
وأما من جهة عقيدته رحمه الله؛ فإنه كان سلفياً واضح السلفية، ويعلن مخالفته لـ أهل الاعتزال، ورد على القدرية، ورد على الروافض، وتبرأ ممن سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولما جاء إلى بلد منتشر فيها سب الشيخين أبي بكر وعمر ألف كتاباً في مناقب أبي بكر الصديق، وألف كتاباً في مناقب عمر بن الخطاب، وكان سلطان البلدة يؤيد السب، ومع ذلك ألف الطبري الكتابين، فلما علم بذلك سلطان البلدة؛ أرسل بطلب ابن جرير الطبري للحبس، كيف يخالف مذهب السلطان؟ وكان هناك رجل في المجلس وقد علم أن السلطان يطلب ابن جرير ليحبسه، فذهب وأخبر الطبري، فانتهز الطبري الفرصة وخرج من البلد كما فعل موسى عليه السلام: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص:20 - 21] ولما علم السلطان بذلك الذي سرب الخبر؛ ضربه ألف سوط بسبب ذلك، وقدر الله أن يحضر هذا الشخص إلى الطبري بعد أن صار شيخاً مسناً، فأكرمه الطبري واعترف له بالفضل، وكان وفياً معه.
ومن ردوده أيضاً تأليفه لكتاب في حديث غدير خم والرد على من لمزه وضعفه، وكان رحمه الله وسطاً، لا مع النواصب ولا مع الروافض، لا هو بالذي يغلو في أهل البيت، ولا هو بالذي يعادي أهل البيت.
ومن المواقف التي حصلت له: موقفه مع طبيب نصراني ذمي: كان الطبري رحمه الله يعاني من ذات الجنب، مرض كان يعتاده يذهب ويأتي، وينقض عليه أحياناً، فيعالج نفسه منه ويتداوى، فلما علم الوزير علي بن عيسى بمرض الطبري؛ بعث له طبيباً نصرانياً ليعالجه، فسأل الطبيب أبا جعفر عن حاله، ما هو برنامجك اليومي؟ ماذا تفعل؟ وسبق أن ذكرنا البرنامج اليومي لـ أبي جعفر الطبري، وكيف كان وقته كله في التدريس والتصنيف والعبادة فأخبره بحاله، فعرَّفه حاله، وما استعمل لأجل العلاج وأخذه لعلته، وما انتهى إليه في يومه ذاك، فقال الطبيب: ما عندي فوق ما وصفته لنفسك شيئاً، أي قال: ما شاء الله عليك! أنت تفهم المرض وتفهم الدواء؛ لأنه -كما ذكرنا- كان حاذقاً بالطب، وعنده كتاب في الطب قد قرأه على مؤلفه، وكان يأخذ منه الوصفات والأدوية، وكان معتدلاً في طعامه، ويأكل الثمار في أوقاتها، ومع ذلك كان وقته ممتلئلاً بهذه الطاعات، فقال الطبيب: ما عندي فوق ما وصفته لنفسك شيئاً، ثم قال العبارة الخالدة: "والله لو كنت في ملتنا؛ لعددت من الحواريين الذين هم رسل المسيح عليه السلام".(322/20)
الطبري ومنهجه في التفسير
اشتهر ابن جرير الطبري رحمه الله بأنه إمام المفسرين؛ لأنه ألف كتابه المشهور في التفسير، وتفسير الطبري من أنواع التفسير بالمأثور، وهو أسلم أنواع التفسير وأقربه إلى الحق؛ لأنه نقول عن السلف؛ أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة والتابعين، فبدأ الطبري رحمه الله بكتابة هذا التفسير وقال في المقدمة: فإن من قسيم ما خص الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الفضيلة، وشرفهم به على سائر الأمم من المنازل الرفيعة، وحباهم به من الكرامة السنية، حفظه ما حفظ جل ذكره وتقدست أسماؤه عليهم من وحيه وتنزيله.
حفظه الله عز وجل وجعله دلالة على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم، وعلى ما خصه به من الكرامة علامة واضحة، وحجة بالغة إلى أن قال: فجعله لهم في دجا الظلام نوراً ساطعة، وفي سدف الشبه شهاباً لامعاً، وفي مضلة المسالك دليلاً هادياً، وإلى سبيل النجاة والحق حاديا، {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:16].
ولقد بَيَّنَ رحمه الله أهمية مكانة القرآن في المقدمة وأهمية التفسير.
يقول ياقوت الحموي في معجم الأدباء: وكتاب التفسير -يعني للطبري - كتاب ابتدأه بخطبة ورسالة التفسير، تدل على ما خص الله به القرآن العزيز من البلاغة والإعجاز والفصاحة التي نافى بها سائر الكلام، ثم ذكر من مقدمات الكلام في التفسير، وفي وجوه تأويل القرآن، وما يعلم تأويله، وما ورد في جواز تفسيره، وما حضر من ذلك، والكلام في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنزل القرآن على سبعة أحرف) وبأي الألسنة نزل، والرد على من قال: إن فيه أشياء من غير الكلام العربي، وتفسير أسماء القرآن والسور وغير ذلك مما قدمه، ثم تلاه بتأويل القرآن حرفاً حرفاً - الحموي يذكر منهج الطبري في التفسير- فذكر أقوال الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من تابع التابعين، وكلام أهل الإعراب من الكوفيين والبصريين وجملاً من القراءات، واختلاف القراءة فيما فيه من المصادر واللغات والجمع والتثنية، والكلام في ناسخه ومنسوخه، وأحكام القرآن -فقه الحلال والحرام- والخلاف فيه، والرد عليهم من كلام أهل النظر فيما تكلم فيه بعض أهل البدع، والرد على مذاهب أهل الإثبات ومبتغي السنن إلى آخر القرآن انظر إلى هذا التفسير فقد حوى كل هذه الأشياء الآثار والقراءات ووجوه الإعراب والموازنة بين الآراء، والترجيح الذي عند ابن جرير، الناسخ والمنسوخ، والأحكام وما تتضمنه من الأحكام الفقهية، يسوق الخلافات ويرد على أهل البدع بمذهب أهل السنة والجماعة، ولذلك فكتاب ابن جرير في التفسير هو أساس كتب التفسير كلها، فكل من جاء بعد ابن جرير فهو عالة عليه في التفسير، ولا يوجد في الإسلام تفسير مثله ألبتة.
اتجهت همة المستشرقين إلى طبع عدد من كتب الطبري رحمه الله وإخراجها، إلا أن هذا التفسير والحمد لله تعالى قد نشره رجل مسلم، فتولى آل الحلبي أصحاب المطبعة بـ مصر مصطفى بن محمد البابي الحلبي طباعة هذا الكتاب، يقول كلاماً مؤثراً ومهماً في مقدمة الطبعة: إني طالما رأيت علماء الغرب المسيحيين مولعين بالبحث عن الكتب الإسلامية القديمة العهد، ومجتهدين في الحصول على ما فيها من العلوم، ويسمى المشتغل منهم بذلك مستشرقاً -أي: دأبه البحث عن الكتب الشرقية- ومن أهم ما كانوا يجدون في البحث عنه تفسير القرآن للإمام محمد بن جرير الطبري، حتى إن الواحد منهم إذا سمع بوجود قطعة من التفسير المذكور في بعض دور الكتب، يستخدم كل وسيلة للاطلاع عليها، وهم كفرة، لكن روح البحث العلمي يجعل الواحد منهم ينفق أموالاً طائلة؛ ليحصل على قطعة من تفسير الطبري، ونسخ ما يهمه منها، ولا يبالي بصرف الوقت والمال في سبيل ذلك، وكنت -هذا موقف مسلم متحرق- يقول: وكنت أذوب خجلاً وأسفاً عندما أرى بعض الكتب العربية سبقنا أهل أوروبا إلى طبعها ونشرها، ولم يصل إلينا إلا من أيديهم شيء مخجل يؤسف له، كتبنا كتب أهل السنة وكتب علمائنا نحن المسلمين لا تصل إلينا إلا من طريق الكفار هم الذين أخذوا المخطوطات واعتنوا بها وجعلوا لها دوراً، وجعلوا لها مكتبات، وجعلوا لها مواداً حافظة وقائمين عليها، وهم الذين نشروا وحققوا كثيراً منها.
قال: وكنت أذوب خجلاً وأسفاً عندما أرى بعض الكتب العربية سبقنا أهل أوروبا إلى طبعها ونشرها، ولم يصل إلينا إلا من أيديهم، بعد فترة من الزمن كدسوها وبعد ذلك أخرجوها لنا -حجبوها عنا فترة طويلة، ومنها ما نشر إلا مؤخراً في هولندا وألمانيا وغيرها من البلدان- مع أننا أحق بالمسابقة في نشر كتبنا، ولم يجئ هذا إلا من تساهل أفراد الأمة الإسلامية في ما هم أحق به، ولما كنت ممن وفقني الله لنشر بعض الكتب محبة في الخير وتسهيل السبيل إليه، بادرت بطبع كتاب تفسير الإمام محمد بن جرير الطبري الذي مضى على وفاة مؤلفه ألف وإحدى عشرة سنة محبة في نشر العلم، وخوفاً من أن يسبقنا الأوروبيون لطبعه وإظهاره للعالم، فالحمد الله الذي جعل ظهور تفسير ابن جرير الطبري على أيدي المسلمين وليس على أيدي المستشرقين.
الطبري رحمه الله تعالى له منهج خاص في تفسيره حيث يذكر الآية أو الآيات من القرآن ويذكر القول في تأويل قول الله تعالى، ويذكر الآية والتأويل -يعني: التفسير- ثم يعقبها بذكر أشهر الأقوال التي أثرت عن الصحابة والتابعين من سلف الأمة في تفسيرها، ثم يورد بعد ذلك روايات أخرى متفاوتة الدرجة للثقة والقوة في الآية كلها أو في بعض أجزائها، بناءً على خلاف في القراءة، أو اختلاف في التأويل -يعني: التفسير- ثم يعقب على كل ذلك بالترجيح بين الروايات، واختيار أولاها بالتقدمة، وأحقها بالإيثار، ثم ينتقل إلى آية أخرى، فينهج نفس النهج عارضاً ثم ناقداً ثم مرجحاً، فطريقة الطبري رحمه الله ما كانت سرداً، وإنما كان فيها تنقيح وتحقيق، وهو من كتب التفسير بالمأثور الملتزم باللغة العربية، مع أن الرجل قيل: إن أصله فارسي، فمن العجائب أن يخرج علينا بهذا الكتاب وهذا المشرب الصافي الذي لا يختلف عن أي عربي فصيح.(322/21)
فقه الطبري
أتقن الطبري رحمه الله المذاهب، وليس فقط مذهب الشافعي كما يعدونه شافعياً ويذكرونه في كتب طبقات الشافعية، لكنه رحمه الله تعالى لم يحصر همته في مذهب معين، ويمكن أن يقال: إنه مجتهد، وصل إلى رتبة الاجتهاد وغير متقيد بمذهب معين، وقد تفقه أكثر شيء على فقه الشافعي، لكنه مجتهد لا يحصره مذهب معين، وشيوخه في الفقه لا يحصرون، فقد درس المذهب الشافعي والحنفي والظاهري والمالكي من مذاهب الفقهاء والأئمة وبعض الذين اندثرت مذاهبهم كذلك كان رحمه الله تعالى.
درس المذاهب جميعها في الفقه، وفقه الشافعي على الخصوص، واتخذ مذهباً له أفتى به في بغداد عشر سنين، وأحصى المسائل واستجلى الغوامض، وأمعن في التثقيف والتدقيق، ولم يلبث أن أدى به البحث والاجتهاد إلى مذهب انفرد به وأودعه في كتبه المطولة والمختصرة.
إذاً: تطور أمره إلى أن صار له مذهب مستقل، لا يمكن أن يقال: إنه شافعي تماماً، وإنما هو مجتهد يأخذ ما أدى إليه اجتهاده، ويمكن أن يقال: كان هناك مذهب يقال له: المذهب الجريري نسبة إلى ابن جرير الطبري؛ لأنه كان في النهاية صاحب مذهب مستقل، وله أصوله وقناعاته في أصول الفقه التي أقام عليها هذا المذهب.(322/22)
تاريخه المشهور بتاريخ الطبري
أما بالنسبة للتاريخ فقد ذكرنا أشهر كتبه هو تاريخ الأمم والملوك، وهذا الكتاب عندما أراد ابن جرير رحمه الله تعالى أن يؤلفه كان شيئاً أعجب من العجب، قال لتلاميذه: تنشطون لتاريخ العالم -نكتب جميعاً- من آدم إلى وقتنا هذا تاريخ العالم، فقالوا: كم قدره؟ فذكر نحو ما ذكره في التفسير، أي: يحتاج إلى ثلاثين ألف ورقة، فأجابوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه، فقال الطبري: إنا لله وإنا إليه راجعون! ماتت الهمم.
فاختصره في نحوٍ مما اختصر به التفسير، أي: في ثلاثة آلاف ورقة، فـ تفسير الطبري الآن عشرين مجلداً وهو عُشُر الكتاب الأصلي الذي كان يتمنى أن يكتبه، وتاريخ الطبري الذي عندنا هو عشر الكتاب الأصلي الذي كان يتمنى أن يكتبه، يقول: إنا لله! ماتت الهمم، أي: كانت همته أن يكتب التاريخ في ثلاثين ألف ورقة، ويكتب التفسير في ثلاثين ألف ورقة.
بالنسبة لـ تاريخ الطبري رحمه الله فإنه تضمن الحديث عن الزمان في ضوء العقيدة الإسلامية، والأقوال في قدر جميع الزمان، وأن الله تعالى خلق الزمان والليل والنهار، وهو القادر على فنائه، ولا يبقى إلا الله، هو الأول والآخر والظاهر والباطن.
وتحدث الطبري رحمه الله عن ابتداء الخلق، وأن أول ما خلق الله القلم، وخلق السماوات والأرض في ستة أيام، وخلق إبليس وأخباره، ثم القسم الأول تاريخ العالم قبل الإسلام بدأه بخلق آدم ونزوله من الجنة، وقصته مع إبليس، وهبوطه إلى الأرض، والروايات الواردة في ذلك، والأحداث التي وقعت في زمن آدم، وقتل قابيل هابيل، والروايات الواردة، وموت آدم، وسنه حين مات، ثم أولاد آدم إلى نوح وإبراهيم ولوط وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وأيوب وشعيب ويوسف وإلياس وموسى وداود وسليمان وصالح ويونس وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وعرض لأخبار أممهم من خلال تاريخ أنبيائهم، وأرخ بصفة خاصة لبعض الأمم، مثل: ملوك الفرس -العهد الساساني- وعلاقتهم بالعرب والروم، وملوكهم في عهد النصرانية إلى الإسلام، واليهود وأنبيائهم وقصصهم وتاريخهم وملوكهم ودولهم، وأخيراً العرب، وتحدث عن عاد وإهلاكهم، وثمود وعتوهم، وجرهم وهم أصهار إسماعيل عليه السلام، وأخبار العرب بالجاهلية، وملوك اليمن وعلاقتهم بـ الحبشة ثم بالفرس، وأشهر حكماء العرب، وأجداد النبي عليه الصلاة والسلام الذين يرجع إليهم نسبه الشريف من عدنان إلى عبد المطلب، وطائفة من أخبار النبي عليه الصلاة والسلام قبل البعثة، وحال قريش ومكة، ثم بعد ذلك بدأ في نسب النبي عليه الصلاة والسلام وأخباره وأخبار آبائه وأجداده وأنسابه وأزواجه يعني: السيرة النبوية.
هذا قسم ضخم من الكتاب، ثم تاريخ العالم بعد الإسلام ابتداءً من نزول الوحي العهد النبوي، البعثة النبوية، السيرة، العهد الراشدي، العهد الأموي، العهد العباسي، وطبعاً الطبري رحمه الله مات في خلافة بني العباس.
وكان له مصادر في تاريخه، لكن هنا ملاحظة مهمة: وهي أن الطبري رحمه الله ينقل روايات في التاريخ فيها أحياناً كذابين أو متهمين بالرفض، كذلك بعض الأخبار التي في بعض الروايات التي في تفسيره إسرائيليات أو أخبار ساقطة، وهو ألفه على مذهب: (من أسند فقد حمل) أي: أنا أتيت لك بالإسناد وحملتك التبعة، وأنت فتش وأنت أنا جمعت لك ورتبت وصنفت وهيأت، وأنت يا أيها الباحث بعد ذلك انتق وفتش، فلا يقال: لماذا وضع إسناداً فيه رجلاً وضاعاً؟ لماذا وضع إسناداً فيه رافضياً؟ لماذا وضع إسناداً فيه كذا؟ يقال: لأن الطبري رحمه الله من طريقته الجمع، لكنه جيد للغاية في التصنيف والترتيب.(322/23)
موت الطبري رحمه الله في بغداد
عاش الطبري رحمه الله حياة مباركة إلى أن بلغ ستة وثمانين عاماً في سبيل العلم ونشره، واستوطن في آخر عمره بغداد، وأقام بها والتف حوله الطلاب والعلماء يملي الكتب ويصنف، ويعبد الله حتى أسلم روحه إلى بارئها في السادس والعشرين من شوال عام (310هـ) في خلافة المقتدر بالله العباسي ودفن بـ بغداد.
قال ابن كثير: ولما توفي اجتمع الناس من سائر أقطار بغداد، وصلوا عليه بداره، ومكث الناس يترددون إلى قبره يصلون عليه، ورؤيت له منامات صالحة، ورثي بمراثٍ وقصائد جميلة.
وقال ابن الأعرابي رحمه الله وهو من أئمة أهل السنة في اللغة:
حدث مفظع وخطب جليلٌ دق عن مثله اصطبار الصبورِ
قام ناعي العلوم أجمع لما قام ناعي محمد بن جريرِ
فهوت أنجمٌ لها زاهراتٌ مؤذنات رسومها بالدثورِ
وتغشى ضياءها النير الإشراق ثوب الدجنة الديجورِ
وغدا روضها الأنيق هشيماً ثم عادت سهولها كالوعورِ
الروض: الزهر صار هشيماً.
يا أبا جعفر مضيت حميداً غير وانٍ في الجد والتشميرِ
بين أجر على اجتهادك موفور وسعي إلى التقى مشكورِ
مستحقاً به الخلود لدى جنة عدنٍ في غبطة وسرورِ
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يغفر له ويرحمه، وأن يعلي درجته ومنزلته، ونسأله سبحانه أن ينفع الأمة بعلمه، وأن يجعلنا ممن شملهم برحمته وفضله، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(322/24)