لا يخطب على خطبة أخيه
السؤال
هذا سؤال يقول: تقدم رجل إلى أهل بيت يخطب ابنتهم فقالوا: نفكر، ثم تقدم خاطب آخر بعده بأيام، يعني: لا يدري عن الأول تقدم شخص آخر، فهل يجب على أهل هذا البيت أهل البنت إخبار الثاني بأن الأول متقدم حتى يذهب ولا يأتينا حتى ننتهي من الأول؟
الجواب
فكان جواب الشيخ/ ابن عثيمين: لا يجب عليهم ذلك، وإذا رأوه أنسب يجوز لهم أن يزوجوه؛ لأن الثاني لا يدري عن الأول، كل واحد تقدم من جهة، فحسب الأنسب، ليس بلازم الأول إذا رأوا أن الثاني أنسب أو الثالث أنسب فليزوجوه.
ثم سألته حفظه الله: هل المحرم في الخطبة على الخطبة هو في حالة الموافقة على الأول؟ أم يشمل فترة التردد؟ يعني: هل يحرم على الخاطب الثاني أن يتقدم إذا وافقوا على الأول؟ ولو كانوا مترددين فيه ولا زال تحت البحث فإنه يحرم على الثاني إذا علم أن الأول متقدم أن يتقدم؟ الجواب: فكان جوابه حفظه الله: يشمل كل فترة خطبة الأول وتقدمه وبحثهم عنه والسؤال حتى يرفضوه، فإذا قالوا: لا.
هنا يتقدم الثاني، أو يُعلم من طول المدة التي ما ردوا له فيها خبراً أنهم رفضوه لأنه أحياناً لا يقولون: لا بل يسكتون لا يريدونه فيسكتوا، وتظل المسألة شهراً وشهرين أو ثلاثة أو أربعة أو ستة فيكون من الواضح أنهم لا يريدونه من الحال والقرائن فعند ذلك يجوز له أن يتقدم.(244/21)
لا يجوز عرض أختين على خاطب في وقت واحد
وهذا شخص سألنا سؤالاً عجيباً! يقول: هل يجوز أن يرى أختين في نفس الوقت ويختار واحدة منهما؟
الجواب
فيقول الشيخ/ ابن عثيمين حفظه الله: لا يجوز ذلك، وإذا لم تعجبه الأولى يطلب النظر إلى الثانية، أما أن يقول: أروني بناتكم وأنا أختار، فهذا لا يصح، العائلة لا ترضى أصلاً بهذا، يقولون: نحن لسنا معرضاً تجارياً، نضع بناتنا سلعاً تأتي أنت وتنظر وتختار على كيفك.(244/22)
حكم وضع العدسات الملونة
السؤال
جاء من امرأة، ما حكم وضع العدسات الملونة على العينين؟
الجواب
سألته للشيخ/ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله فقال: إذا كان للتجميل فلا يجوز ذلك.(244/23)
صفات القرين الصالح
ثم نأتي إلى مشكلة أخرى، يقول: إنني شاب حديث عهد بالاستقامة أرى من حولي أناساً كثيرين على خير وصلاح، فأحتار من اتخذ منهم قريناً، فأرافق هذا تارة وهذا تارة وأشعر بالتشتت.
فما هي صفات القرين الصالح الذي لو وجدته رافقته؟ وما هو الحل لهذه المشكلة؟
الجواب
هذا الواقع صحيح، فالإنسان لابد له أن يتعلم، فمثلاً: إذا استقام شخص على الشريعة وهو في البادية استقام على الملة المحمدية واستقام على الدين لا بد له من أناس يعلمونه، لا بد من قرين يربيه، لا بد من شخص طيب يسير معه، لا بد من قدوة يتأثر به، والقدوة الحية مهمة، وإذا قال شخص: يا أخي! الرسول صلى الله عليه وسلم قدوة فيكفينا هذا، فنقول: هذا قدوة ونعم بها وهي أعظم قدوة، لكن القدوة الحية لها أثر، ألم تروا إلى الحديث الصحيح: لما جاء قوم مجتابو النمار، أي: مقطعةٌ ثيابهم، ومعنى جاب في اللغة يعني: قطع، ولذلك يقول الله عز وجل: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} [الفجر:9] قطعوه من الوادي وأتوا به فبنوا به، فالرسول صلى الله عليه وسلم قدوة، كلمهم فما تحرك أحد، كلمهم وانتظر أن واحداً من الناس يقوم فما قام أحد مع أنه قدوة عليه الصلاة والسلام، فلما قام ووعظ الناس على المنبر وتكلم جاء رجل بصرة كادت كفه أن تعجز عنها بل قد عجزت ثم تتابع الناس، لماذا تتابع الناس؟ لأنهم رأوا القدوة أمامهم، شخص أتى بصرة كبيرة كادت كفه أن تعجز عنها، فتتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة، صفيحة ذهب عندما تسطع عليه الشمس صلى الله عليه وسلم، فالآن انظروا القدوة مع الرسول صلى الله عليه وسلم كيف أثرت، وهناك أناس استفادوا من أبي بكر وعمر مع وجود الرسول صلى الله عليه وسلم، لذلك نقول: القدوة مهمة من الناحية التربوية، ولكن لما كان الناس الذين فيهم خير واستقامة كثيرين والحمد لله فكان لا بد لسالك طريق الاستقامة الذي يريد التربية وطلب العلم أن ينتقي الأفضل طبعاً بلا شك، ولذلك لا بد أن يعلم ما هي الصفات التي إذا توفرت في شخص يلازمه، فنقول: إن لذلك صفات عدة، نذكر منها سبع صفات، فنقول: الأولى: أن يكون هذا الذي تريد أن تصاحبه ذا عقيدة صحيحة، هذا أول شيء يجب أن يكون اعتقاده صحيحاً، ينبغي أن يكون اعتقاده اعتقاد أهل السنة والجماعة في جميع الأبواب في الإيمان في الأسماء والصفات في القضاء والقدر، يجب أن تكون عقيدته صحيحة فلا يكون من الخوارج ولا من المرجئة ولا من الأشاعرة ولا من الماتريدية ولا من الصوفية ولا من أصحاب الحلول، كل هذه المعتقدات الباطلة ينبغي أن يكون صاحبك هذا متبرئاً منها تمام التبرؤ، بل إنه يجب أن يكون عنده علم بعقيدة أهل السنة والجماعة وأن يلتزمها في نفسه وأن تبنى عليها تصرفاته.
فمثلاً: لا بد أن يكون عنده ولاء وبراء يوالي المسلمين المؤمنين أهل السنة والجماعة حتى ولو كانوا في آخر الدنيا، لو كان هناك شخص من أهل السنة والجماعة في الصين فإنني أشعر تجاهه بولاء له ولو كان أخي في البيت ملحداً أو كافراً أو مبتدعاً فإنني أشعر ببغض له انطلاقاً من قضية العقيدة.
ولذلك -أيها الإخوة- تجدون في الواقع بعض الناس عقيدتهم منحرفة هؤلاء لا يجوز مخالطتهم نهائياً، بعض الناس عندهم عقيدة صحيحة لكن لا يوالون ولا يعادون من أجلها.
اسمعوا مني هذه النقطة المهمة جداً: بعض الناس عقيدتهم صحيحة من ناحية العقيدة، فمجمل العقيدة عندهم صحيح، لكن لا يوالي من أجلها ولا يعادي عليها، ولذلك يمكنه أن يتعاون مع أشعري ومع مرجئ ومع صوفي ومع خرافي ومع مبتدع، يقول: نتعاون معهم في الدعوة، نقول: هذا ضلال وانحراف، ولا يجوز هذا مطلقاً، وإنما قامت دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم على تجريد التوحيد وعلى العقيدة الصحيحة، ما قامت على خزعبلات ولا كفريات وشركيات وبدع وضلالات، فهذا أمر غير مقبول، ولا بد أن يكون لنا مواقف من أهل البدع، لا بد أن نفاصلهم، فأهل البدع والضلالات لا نصادقهم أو نسكت عنهم ونقول: لمصلحة الدعوة، كلا وألف كلا، إن هذا أمر خطير، بل يجب أن نعلن الدعوة الصحيحة، وأن نقول لهم: إما أن تلتزموا معنا بهذه العقيدة أو تفارقونا.
الثاني: أن يكون صاحب سنة، ما معنى صاحب سنة؟ يعني: يلتزم بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم في الكبير والصغير، ويعتمد السنة مبدأً يسير عليه وطريقاً، ولا نقصد بالسنة أمور الفرعيات فقط، يعني: يلتزم السنة في كيفية الصلاة وكيفية الوضوء.
ليس هذا فقط هذا مهم، لكن لا بد أن يكون صاحب سنة أي: منافياً للبدع ولأهل البدع محارباً لهم صاحب سنة، والسنة ضد البدعة.
ويشمل كذلك: أن يعتمد على الدليل الصحيح من أقوال أهل العلم الذين يأخذ بأقوالهم، فينظر الدليل الصحيح ما يوافق أقوال العلماء من الدليل الصحيح فيتبعه ويأخذ به، فهو إذاً ليس مقلداً تقليداً أعمى، بل هو صاحب سنة يرعى الدليل وينظر دليل العالم هل هو موجود وصحيح فيأخذ بقول العالم، لا يفتح الكتاب والسنة ثم يقول: أنا أجيب من عندي، فهذا ضلال، وإذا لم يكن عنده شروط هذا الاستنباط أو معرفة الأحكام لا يفعل هذا، لكن عندما يأتي في مسألة من المسائل الفقهية يريد أن يعرف الحكم، فإنه يعرف الدليل، فهو إذاً ليس متعصباً لمذهب من المذاهب، ولا لطريقة من الطرق، ولا لشيخ من الشيوخ، وإنما متجرد لله عز وجل، يعبد الله على بصيرة، ما معنى بصيرة؟ يعني الدليل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108].
ثالثاً: أن يكون صاحب علم شرعي، يهتم بالعلم الشرعي، أي: يهتم بالتعلم، وحلقات العلماء، والقراءة في كتب العلم، ويهتم بأقوال أهل العلم ولا يستنبط أقوالاً من عند نفسه، بل يأخذ من أقوال العلماء وأقوال السلف يحرص عليها ويحرص على حلق العلم وعلى طلب العلم، ولا يكون إنساناً جاهلاً فإنك لا تستفيد منه، أو يكون إنساناً فقط عنده علم ببعض المذاهب وبعض القضايا العامة ويقول: هذا داعية، ماذا تستفيد منه؟! إذا ما كان صاحب علم شرعي مؤسس فليس بقرين يصلح أن تقتدي به.
رابعاً: أن يكون صاحب عبادة وتقوى وورع، فإنه قد يكون إنساناً بالإضافة إلى ما تقدم قد يكون عنده أشياء من المعاصي أو الكبائر أو أنه إنسان يرتكب المنكرات والمعاصي فلا خير لك حينئذ في صحبته، فلا بد أن يكون إنساناً تقياً وورعاً، صاحب عبادة، بعيداً عن الشبهات، وقافاً عند حدود الله، يفعل الواجبات ويجتنب المحرمات، تظهر آثار الطاعة عليه.
خامساً: أن يكون حسن الأخلاق، لأنك لا بد أن تتأثر به، فإذا كان عنده حدة، وسريع الغضب، وينتقم لنفسه، ويجادل بالباطل، وهو إنسان عاق لوالديه، وهو يستعمل السباب والشتائم، فعند ذلك سيكون تأثرك به سلبياً، فلا بد أن يكون على خلق حسن.
سادساً: أن يكون مهتماً بالدعوة إلى الله وهداية الناس وأحوال إخوانه المسلمين، ينبغي أن يكون عنده إلمام بهذا، وليس متقوقعاً على نفسه أن يكون إنساناً داعية، يخرج ويذهب ويتنقل من مكان إلى آخر يدعو وينير للطريق يهدي هداية الدلالة والإرشاد ويهتم بأحوال المسلمين من إخوانه ولو كانوا في أطراف الأرض.
سابعاً: أن يكون صاحب منهج في التربية، يعرف كيف يربي الناس، يعرف كيف يأخذهم درجة درجة، يعرف الأوليات، عنده مفهوم التدرج واضح، تستطيع أن تستفيد منه في التربية.
وقد تقول لي: هذه أين تتوفر، هذا كالكبريت الأحمر؟ أقول لك: الحمد لله النماذج موجودة، لكن قد تقل عند أناس وتكثر عند أناس، أو بعضها يقل عند شخص ويكثر عند آخر، فسددوا وقاربوا، وانتق الأشخاص.
هذه القضية خطيرة وحساسة، ينبغي أن تنتقي الشخص الذي تقتدي به، تنتقي الشخص الذي يوجهك ويربيك وليس أي واحد من الشارع، لا بد أن تتفرس فيه وتتأمل في أحواله وتسمع له وتنظر وترى تقول: هل هو صاحب عقيدة، هل يظهر شيئاً من المفاصلة، هل يظهر شيئاً من الولاء والبراء، هل هو صاحب سنة، كيف منهجه في الفقه، كيف يعتمد على الدليل أم يقلد تقليداً أعمى، هل يهتم بالعلم أم هي مسائل عامة هكذا، هل هو صاحب منهج واضح وعنده أشياء تتدرج وينتقل من مرحلة إلى أخرى، فيتضح لك: أهو قائم على الحماس وعلى الكلام الفاضي، أو أنه إنسان عنده أساسيات يأخذ الناس بالأسس، وهكذا تتبين عند ذلك من هو الشخص الذي تقتدي به وترتضيه لك قدوة ومربياً ومن لا.(244/24)
من بقي عنده مال لكافر
وهذه مجموعة من الأسئلة يقول: لو صار عنده مال لكافر ولم يدر أين هو صاحب المال.
فماذا يفعل؟ مثلاً: عندك عامل فلبيني كافر عمل لك عملاً وما حاسبته مباشرة مع أنه المفروض أن تحاسبه: (أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) بعد ذلك ذهب وما عرفت مكانه.
فماذا تفعل؟ هل تتصدق بها نيابة عنه؟ قد تقول لي: الصدقة لا تصل الكفار، يعني: لا ينتفعون بها في الآخرة لأنهم في جهنم خالدين فيها.
وسألت شيخنا عبد العزيز بن باز حفظه الله عن هذه المسألة فقال: نعم.
يتصدق بها نيابة عنه لأنها تنفعه في الدنيا.
الكفار فإن الله عز وجل يعطي في الدنيا أموالاً وأولاداً، صحة: نملي لهم ليزدادوا إثماً أي: نعطيهم، فيقول الشيخ: إذا ما عرفت الكافر هذا فتصدق بها نيابة عنه يصل أجرها إليه لكن في الدنيا.(244/25)
مسافر صلى خلف إمام لا يدري هل هو مسافر أم مقيم
السؤال
دخل رجل مع إمام في جماعة في مسجد في قرية على الطريق لا يدري هل الإمام مقيم أو مسافر، وصلى ركعتين وسلم الإمام، فصاحبنا هذا لا يدري هل الإمام مقيم فيكمل ركعتين بعده في صلاة العصر مثلاً، يعني: لا بد للمسافر المأموم أن يتم وراء الإمام المقيم، أو هو إمام مسافر تكفيه الركعتان؟ فكان السؤال الذي وجهته للشيخ/ عبد العزيز حفظه الله، فلما سلم مع الإمام من الركعتين تبين له أن الإمام مقيم، يعني: لو تبين أن الإمام مسافر لا يتم؟
الجواب
قال الشيخ: إن لم يطل الفصل صلى ركعتين ليتمها، إذا ما طال الفصل قام وأتى بركعتين وسلم، وقد تقول لي: سأل الحاضرين، قال: الإمام هذا مقيم أم مسافر، فصار هناك كلام، فهل هذا يمنع من إتمام الركعتين؟ لا يمنع لأن الكلام لمصلحة الصلاة فلا يضر بها، لذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لما سلم من الركعتين كما ورد في البخاري من صلاة الظهر قال له الناس: (قصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: لم تقصر ولم أنس) ثم تبين له وصار هناك نقاش في المسألة وأخذٌ وعطاء وهناك أناس خرجوا خارج المسجد، ثم قام فأتى بالركعتين الباقية لما تأكد أنه صلى ركعتين فقط، ثم سلم، ثم سجد للسهو ثم سلم، فالمناقشة التي حصلت؛ لأنها لمصلحة الصلاة ما قال: ما دام حصل كلام بطلت الصلاة وإنما أكمل، ولذلك الشيخ حفظه الله حدثني عنه الثقة قال: صليت وراء الشيخ قبل عشرين عاماً فكان على الشيخ سجود سهو بعد السلام، فسلم ثم أراد أن يسجد فالناس ما سلموا، فقال لهم: سلموا، ثم سجد للسهو ثم سلم، فقوله هنا: سلموا، لمصلحة الصلاة ليعلم الناس لأنه لا بد من التبليغ، قال: سلموا، ثم سجد للسهو ثم سلم.(244/26)
حكم الصلاة في الحمام للضرورة
وهذا سؤال أيضاً يقول: غلام نصراني أسلم سراً يخشى الفتنة في دينه إذا علم أهله بإسلامه، وهو طالب صغير في مدرسة، ما عنده مكان يصلي فيه، فإذا خاف أن يكتشفوا أمره فقد يرحلوا به إلى ديار الكفر مثلاً أو يفتنونه في دينه وهو إنسان لا يستطيع الثبات فلا زال صغيراً، فكان السؤال الذي وجهته للشيخ حفظه الله: هل يجوز أن يصلي في الحمام؟
الجواب
فقال الشيخ: الظاهر أنه لا حرج إذا لم يجد مكاناً آخر، إذا صلى أمامهم قد يكشفونه ويفتن في دينه، قال الشيخ: إذا لم يجد مكاناً آخر فلا حرج، ولكنه قد يجد مكاناً آخر وقد يجد في بعض الصلوات مكاناً وبعض الصلوات الأخرى لا يجد، فلذلك إذا كان يستطيع أن يجد فلا بد أن يصلي؛ لأن الصلاة في الحمام منهي عنها، نهى عن الصلاة في المقبرة والحمام، لكن إذا ما وجد لا يترك الصلاة.(244/27)
امرأه تشكو زوجها
ننتقل إلى سؤال آخر وإلى مشكلة أخرى.
تقول: تزوجت من رجل كان يظهر في البداية الخير والاستقامة، قدم لي هدايا ولاطفني ولاطف أهلي، سألنا عنه قالوا: إنسان طيب وأخلاقه طيبة، وبعد الزواج تبين ما يلي: إنه تارك للصلاة، يستهزئ بي وبديني وبحجابي، حتى إنه أعطاني مهلة لأنزع الحجاب وأكشف على إخوانه، وأقدم الضيافة لأصحابه الرجال الأجانب، وينزع عني الحجاب بالقوة، وحرمني من المناسبات الطيبة ولقاء أخواتي في الله وحضور المحاضرات الدينية، مزق كتبي وكسر الأشرطة الإسلامية التي لدي، ويضربني دائماً ويشتمني ويهينني حتى أمام أهله، ويقول: أنا أخذتك من الشارع، ومرة انفرد بي في غرفة وضربني حتى سال الدم وأسقطت مرتين إحداهما طفل له أربعة أشهر دفناه، والإسقاط نتيجة الضرب.
يسافر إلى الخارج إلى بانكوك والفليبين، ولديه خطابات من نساء هناك وصور بين أوراقه، يسافر للبلاد البعيدة للفاحشة وللقريبة لشرب الخمور، ويتذرع بأن لديه أعمالاً وأشغالاً في تلك البلاد، وهو يتعاطى المخدرات ولا ينفق علي وأعطاني مرة مائة ريال وقال: هذا مصروف سنة، اشتريت كثيراً من أغراض البيت من مالي الخاص، حتى الحلويات أوفرها من الضيافة عند الناس الآخرين لأجل أولادي، يستهزئ بالدين ويقول: ما عليك مني إذا ربي يهديني هداني، مالك دخل أنا ربي يحاسبني، أنا في النار ما عليك مني، أنا قلبي نظيف، البيرة التي أشربها فيها واحد في المائة كحول، وإذا سألته: لماذا كان سكران؟ قال: كنت أمثل عليك، إذا رآني أصلي وأدعو ربي قال مستهزئاً: أنت شحاذة ما عندك إلا الشحاذة من الله، ويطلق في كل شيء ووقت وأنا أظن أني أعيش معه بالحرام.
هذه -أيها الإخوة- جمعتها من أكثر من سؤال ورد في نفس المشكلة تقريباً، هناك رجال تجار لا يخافون الله منتشرون في المجتمع لا يعرفون حدود الله ولا عندهم أدنى اهتمام ولا أدنى احترام ولا أدنى ذرة من إيمان أو خشية من الله عز وجل، ولذلك عندما تقع امرأة مسلمة في براثن مثل هؤلاء الأشخاص فإن طامات كثيرة تحدث وبلاوي، وهذا نموذج من النماذج، وأسئلة نتلقاها بالأوراق وبالهاتف وأشياء نقرؤها من هذا القبيل، وهذه المشكلة تتحمل المرأة منها جزءاً لا بأس به، لأن كثيراً من الفتيات اللاتي يتقدم إليهن أشخاص لا يحسن لا هن ولا أولياء أمورهن مع الأسف السؤال عن الشخص المتقدم، حيث يقولون في البداية: سألنا عنه قالوا: إنسان طيب وأخلاقه طيبة ويصلي في المسجد؟ من أين أتت هذه الأشياء؟ أيها الإخوة! الوعي مهم وهذا من الوعي فهذا زواج وهذا عمر وهذه عيشة، وإذا كان الرجل كافراً فالعقد باطل، العقد فاسد والدليل: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10] لا تحل مسلمة لكافر ولا كافر لمسلمة، لا يجوز وهذا حرام، فالعقد غير صحيح، ولذلك هذه المرأة كان زوجها بالصفة التي ذكرت لا يصلي نهائياً ويستهزئ بالدين فهو كافر، ولذلك تأخذ أغراضها وتذهب إلى بيت أهلها مباشرة، قد تقول: أهلي ردوني قالوا: تصرفي أنت وزوجك ما لنا دخل، لسنا على استعداد أن نصرف عليك، كما يحدث عند البعض، تبحث قد تكون موظفة، تستأجر بيتاً لوحدها، تخرج من عنده، قد يكون لها من يؤويها من قريب أو صديق، تخرج من عنده، لو ما استطاعت ولم تجد تتحجب منه ولا يجوز لها أن تمكنه من نفسها لأنه رجل أجنبي كافر والعقد باطل.
أما لو كان فاجراً أو فاسقاً لكنه مسلم فإنها تصبر عليه وتنصحه حتى يهتدي وهي تقيم عليه الحجة في جميع الأحوال، متهاون بالصلاة أو فاجر فقط يجب عليها أن تقيم الحجة فإذا أصر على كفره تركته وإذا أصر على فجوره ما تحملته تذهب إلى القاضي وتشكو أمرها إليه، وهؤلاء الأولاد الذين يتربون في مثل هذا البيت كيف سينشئون؟ وماذا سيتعلمون؟ هناك مشاكل كثيرة -أيها الإخوة- موجودة في الواقع، وحتى لا نطيل بذكر هذه القضية فقط سبق أن تكلمنا في محاضرة لعلها -إن شاء الله- تكون متوفرة قريباً بعنوان: المرأة المسلمة على عتبة الزواج، ذكرنا فيها بعض النقاط المتعلقة بهذه المسألة، فالحذر الحذر يا أيتها الفتاة من الشخص المتقدم، وأنت يا ولي الأمر من أب أو أخ ينبغي أن تتقي الله في هذه البنت التي سوف تسلمها للرجل، من هو؟ اسأل عنه ودقق وابحث، فإن الخطأ لو حدث قد يستهلك إصلاحه دهراً طويلاً وربما لا يصلح وربما تكون قد ارتكبت جريمة كبيرة بإسلامك المرأة لهذا الشخص.(244/28)
حكم الطعام المصنوع لمناسبة ظهور أسنان الطفل أو مشيه
هذا سؤال يقول: ما حكم الطعام المصنوع لمناسبة ظهور أسنان الطفل أو مشيه؟ بعض الناس عندهم عوائد إذا طلعت أسنان الولد أو مشى صنعوا وليمة، يعني: حبوباً أو أنواعاً من الحليب أو أشياء من الحلويات.
أجابني على هذا السؤال الشيخ/ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله فقال: إذا لم يعتقد أنها سنة ولم يوهم أنها سنة فلا بأس بذلك، إذا ما اعتقد أن هذه سنة لأنه ما ثبت ولا أوهم الناس أنها سنة فجائز، ولا بأس بذلك، من عوائد الناس فهي جائزة.(244/29)
حكم من جامع زوجته بحائل ولم ينزل
وهذا سؤال آخر يقول: جامع زوجته بدون إنزال بحائل -غطاء بلاستيكي- مثلاً.
فما حكم الاغتسال؟ يقول الشيخ/ عبد العزيز بن باز أول ما سمع
السؤال
حيلة فاجرة لإسقاط كفارة الصيام والاغتسال، ثم قال بعد ذلك: لو كان ما هو قصده لإسقاط الكفارة والاغتسال جامع بهذا الحائل وليس قصده أنه فعل ذلك في نهار رمضان ولا شيء بل عمله بشكل عادي فقال: فلا بد من الاغتسال حتى ولو وضع حائلاً لا يقول: والله ما مس الختان الختان ولا أنزل لأنه عندي حائل، بل يجب عليه الاغتسال.(244/30)
الانضباط بأنظمة الشركة التي تعمل فيها
وهذا سؤال يقول: عمل في شركة أو مؤسسة يحتاج إلى رجلين، وظفت عليه الشركة أربعة.
هل يجوز أن يقسموا مدة العمل بينهم بحيث يبقى اثنان نصف الدوام والاثنان الباقيان يذهبان من هنا ومن هنا، يعني: على أساس أن العمل يحتاج لاثنين فقط، هذا موجود في بعض الدوريات وفي بعض الشركات وبعض النوبات، يكون في النوبة أربعة يكفي واحد أو اثنان لأداء العمل، فيقول بعض الإخوان سألوا: هل يجوز أنه نوزع علينا النوبات هذه والباقي يذهبون.
فسألت عن هذا الشيخ/ ابن عثيمين فقال: إذا أذنت الشركة أو أذن المسئول المباشر إن كان مفوضاً، لأنه أحياناً يكون المسئول الذي عليهم طيباً فيقول لهم: اذهبوا لكن ما عنده تفويض لهذا الشيء، فإذا كانت الشركة أذنت والمسئول المباشر مفوض بهذا الأمر فلا بأس أن يجعلوا واحداً أو اثنين حسب حاجة العمل وإلا وجب عليهم جميعاً أن يكونوا عند العمل، هذا دوام مشروط تأخذ عليه راتباً لا يصح أن تتلاعب.(244/31)
حكم وضع المباخر أمام المصلين
السؤال
وسألني بعض الإخوان عن حكم وضع المجامر في المساجد على حاملات المصاحف بين الصفوف أثناء الصلاة -ليس أثناء الخطبة- أثناء الصلاة نضع مجامر -يعني: هذه المباخر- هل يدخل هذا في النهي عن استقبال النار في الصلاة؟
الجواب
فقال الشيخ/ عبد العزيز بن باز حفظه الله: الأحوط ألا توضع، لا توضع مبخرة فيها جمر أثناء الصلاة.(244/32)
امرأة زوجها يبذر راتبه في الخمور
السؤال
وهذه سائلة تقول: زوجها يبذر راتبه في الخمور.
هل يجوز لها أن تأخذ منه خفية لتوفره لأولادهما في المستقبل؟
الجواب
فقال الشيخ/ عبد العزيز حفظه الله: نعم.
يجوز لها أن تأخذ بغير علمه وتوفره وهي مأجورة، يقول الشيخ: ولو استطاعت أن تأخذه كله فلتفعل؛ لأنه إنسان يبذر هذه الأموال في الحرام.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والله تعالى أعلم.
سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.(244/33)
كتب يُنصح بها طالب العلم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فهذه فرصة طيبة أن نلتقي معاً في هذا المكان، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل اجتماعنا هذا على طاعة وخير، وأن يجعل تفرقنا بعده على مغفرة وبر، ونسأله سبحانه وتعالى ألا يجعل فينا شقياً ولا محروماً من الأجر.
موضوعنا في هذه الليلة كما تعلمون الحلقة الثانية من شكاوى وحلول، أو مشكلات وحلول، وسوف نتطرق هذه الليلة -إن شاء الله- إلى بعض المشكلات أو الشكاوى التي اشتكى منها أو يشتكي منها بعض الإخوة ولعلنا نجيب إجابةً مقنعة ووافية -إن شاء الله- على هذه المشكلات والتساؤلات، وأيضاً يوجد لدينا بعض الأسئلة المتراكمة لمحاضراتٍ ماضية نريد قراءة الإجابة عليها.
السؤال
إن في نيتي البداية في الإقبال على الكتب الإسلامية بالذات، فكيف أبدأ، خاصةً وأنني أرغب تأسيس نفسي تأسيساً متنوعاً، أي: في علوم الإسلام مثل: التفسير والحديث والفقه والسير.
فبماذا تنصحون؟
الجواب
كثرت الكتب الإسلامية في الساحة، وصرت تدخل معارض الكتاب فتحتار ماذا تشتري، ومن كثرة الكتب يصاب بعض الناس بهيبة في القراءة فلا يقرءون، أو أنهم يتهيبون من هذه الكثرة فيقعون في حيرةٍ واضطراب.
والحقيقة أيها الإخوة: أن الإنسان لا بد أن يسأل مجرباً قد قرأ في هذه الكتب، وأكبر المجربين هم علماء الإسلام الذين بينوا فوائد بعض الكتب، وشرحوا مزاياها، وكذلك يعرف قدر الكتاب بالآتي: أولاً: من ثناء العلماء عليه.
ثانياً: من استفاضة خبره بين المخلصين أنه كتاب جيد، وعموم النفع به، وانطلاق ألسنة المخلصين بالثناء عليه وعلى محتواه، أو من شهرة مؤلفه بالخير والوعي والعمق في معالجة المشكلات.
ومن تجربة الإنسان الشخصية أيضاً فإنه يقرأ ثم يتبين له الغث من السمين والرطب من اليابس.
وهذه مجموعة من الكتب المقترحة في كل فنٍ من الفنون ليجمعها طالب العلم ويقرأ بها على فترات بحسب نشاطه وإقباله: ففي التفسير مثلاً: يقرأ المبتدئ في كتاب: زبدة التفسير من فتح القدير؛ الكتاب الأصلي للشوكاني، والاختصار للأشقر، وهذا كتاب مختصر جداً مجلد واحد، يجمع الكلمة إلى معناها مع شيء بسيط في أسباب النزول، وفوائد أخرى، فإذا أراد أن يتوسع أكثر فإنه يقرأ مثلاً في تفسير العلامة الجليل عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله؛ فإنه كتاب وافٍ وواسع، ولكنه ليس فيه الأسانيد التي يمل منها بعض الناس، وإنما الكلام متصل في شرح الآيات بأسلوب مبسط.
وإذا أراد أعلى من ذلك فإنه يقرأ في تفسير العلامة ابن كثير رحمه الله؛ وهو قد يكون أجل مصنفٍ في التفسير، ولاقى قبولاً في هذه الأمة من المتقدمين والمتأخرين من بعد كتابته، وهو تفسير سلفي يمتاز بشرح آيات الكتاب العزيز وفقاً لمنهج أهل السنة والجماعة، وهو تفسيرٌ أثريٌ يمتاز بإيراد الأحاديث والآثار عند تفسير الآية، وأظن بأنه أجود من كل المختصرات التي اختصرته، ولذلك إذا وجد الإنسان طاقةً في قراءته فلا يعدل إلى غيره مع استصحاب كتاب سيد قطب رحمه الله في ظلال القرآن؛ وهو كتاب مهم في بيان التصورات الإسلامية المأخوذة من الآيات مع عرض لبعض المشكلات العصرية على ضوء القرآن الكريم، وكون وجود بعض الملاحظات فيه لا يحط أبداً من شأنه العظيم، ولا يستغني عنه أبداً مسلم يعيش في هذا العصر بالذات.
وفي الحديث: لا بد أن يقرأ المبتدئ في كتب الأذكار التي جمعت الأحاديث التي تتكلم عن وظائف اليوم والليلة، مثل كتاب: صحيح الكلم الطيب، ويحفظ هذه الأحاديث الموجودة في هذه الأبواب، أو كتاب: عمل المسلم في اليوم والليلة بشكل أوسع، وكذلك كتاب: صحيح الترغيب والترهيب، وكتاب: رياض الصالحين؛ فإنه كتاب عظيم، والناس عندهم مشكلة وهي أنهم ينظرون بعين النقص إلى بعض الكتب؛ لأنها منتشرة جداً ومع أن الكتاب مهم ولو أنه منتشر جداً، بل إن انتشاره الكبير في كثير من الأحيان يدل على جودته، وإقبال الناس عليه يدل على شيء مما وضع الله لمصنفه من القبول في الأرض، وهذا كتاب: رياض الصالحين للإمام النووي رحمه الله، ولو تيسر أن يقرأ طالب العلم مختصر صحيح البخاري للإمام الزبيدي رحمه الله ومختصر صحيح مسلم للإمام المنذري رحمه الله مع شرحٍ مبسط على الأقل للكلمات الصعبة فإنه قد يكون مر على طائفة ضخمة من الأحاديث ويستفيد فائدة كبيرة من القراءة في هذه الكتب.
وإذا احتاج إلى معرفة صحة الأحاديث من ضعفها فإن العلماء قد صنفوا في بيان الأحاديث المشتهرة على الألسنة مصنفات كثيرة، وكذلك صنف العلامة الألباني حفظه الله تعالى مجموعة هامة جداً من الكتب في هذا الباب؛ منها كتاب: السلسلة الصحيحة، والسلسلة الضعيفة، وإرواء الغليل، وصحيح الجامع، وضعيف الجامع الصغير، وصحاح السنن الأربعة التي عزلها، وهذا لا يعني أن طالب العلم لا يقرأ في الكتب الأصلية كالكتب الستة، ولكن عند الحاجة لمعرفة صحة الحديث وكثير من طلبة العلم ليست لديه المقدرة على أن يميز بنفسه في الأسانيد ويحكم بنفسه فلا بد أن يلجأ لمثل هذه الكتب.
وبالنسبة للكتب في مجال العقيدة فهناك كتب مبسطة مثل: شرح لمعة الاعتقاد للشيخ محمد بن صالح العثيمين، وأعلام السنة المنشورة للحكمي رحمه الله تعالى؛ وهو كتاب نفيس، وقد صدر في طبعة محققة، وشرح العقيدة الواسطية بهوامش للشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ ابن سعدي وغيرهم، وشرحها كذلك للشيخ الفوزان حفظه الله، وكتاب فتح المجيد؛ وهو كتاب مهم جداً في العقيدة، وهو للعلامة عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، وسلسلة عمر الأشقر حفظه الله في العقيدة؛ وهي سلسلة موسعة ومبسطة في نفس الوقت وهي مهمة جداً، ويقرأ طالب العلم القواعد المثلى في الأسماء والصفات للشيخ ابن عثيمين، وشرح العقيدة الطحاوية، وكتاب: معارج القبول للحكمي والمنهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى؛ هذه بعض الكتب المتعلقة بالعقيدة.
وفي الفقه: فإن كتاب مثل: الروضة الندية للعلامة صديق حسن خان، وسبل السلام للعلامة الصنعاني، ونيل الأوطار للعلامة الشوكاني، وزاد المعاد لـ ابن القيم رحمه الله، والجمع بين منار السبيل لـ ابن ضويان، وإرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل هو أيضاً خطوة جيدة وموفقة -إن شاء الله- في دراسة الفقه، بالإضافة إلى كتاب فقه السنة مع تمام المنة في التعليق عليه، وإذا أراد التوسع فيلجأ لمثل كتاب المغني لـ ابن قدامة رحمه الله، والمجموع في شرح المهذب، ولـ ابن قدامة رحمه الله سلسلة مهمة مثل كتاب: العدة، والكافي، ثم المغني.
وفي مجال الأخلاق وتزكية النفس: فإن القراءة في مثل كتاب تهذيب موعظة المؤمنين، والجواب الكافي لـ ابن القيم رحمه الله، والفوائد له أيضاً، وتهذيب مدارج السالكين؛ من الأمور النافعة.
وفي أصول التفسير: رسالة مبسطة للشيخ محمد بن صالح العثيمين، ورسالة في أصول التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وفي علوم القرآن: لو أخذ فضائل القرآن لـ محمد موسى نصر، والصحيح المسند للوادعي، وعلوم القرآن للصباغ والقطان والزرقاني ثلاثة كتب، والتفسير والمفسرون للذهبي، ومنهج المدرسة العقلية للرومي، واتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر له أيضاً؛ فإنه يكون قد ألم بطائفة جيدة من علوم القرآن.
وهناك كتب موسعة: مثل كتاب البرهان للزركشي رحمه الله.
وفي علوم الحديث والمصطلح: لو قرأ نخبة الفكر مع شروحها، والسنة ومكانتها في التشريع للسباعي رحمه الله، وقواعد التحديث للقاسمي؛ فإنه أيضاً قد يكون أخذ بطائفة جيدة من المصطلح.
وفي أصول الفقه: لو قرأ في كتاب الأصول من علم الأصول للشيخ ابن عثيمين، والواضح في أصول الفقه للأشقر، والبدعة للهلالي من الكتب المبسطة، ولو أراد التوسع بعد ذلك فيقرأ مثل كتاب الاعتصام للشاطبي رحمه الله، وروضة الناظر لـ ابن قدامة رحمه الله.
وفي السير والتراجم وهي مسألة مهمة، وعنوان مهم جداً ليربط المسلم ماضيه بحاضره فإنه لو قرأ في السيرة النبوية لـ ابن كثير؛ وهي جزء من البداية والنهاية، والرحيق المختوم(244/34)
حكم تخليل اللحية
السؤال
حكم تخليل اللحية، وإذا نسي الإنسان أن يخلل لحيته ماذا يفعل.
فهل يعيد الصلاة أم لا؟
الجواب
أما بالنسبة لتخليل اللحية فذكر أهل العلم وفصَّل ابن قدامة رحمه الله في المغني في المسألة في نقطتين أساسيتين، بعد أن نعلم الدليل: (أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ كفاً من ماء فيجعله تحت الحنك فيدلك به لحيته ويخلل لحيته بالماء) يأخذ كفاً من ماء فيجعله في أسفل الحنك ويدخله في شعر اللحية.
وذكر أهل العلم: أن الإنسان إذا كان ذا لحية كثيفة فإن التخليل في حقه يكون مستحباً، وإذا كان ذا لحيةٍ خفيفة بحيث يرى جلده من وراء الشعر فإنه يجب عليه أن يوصل الماء إلى هذا الجلد.
وجواباً على السؤال الذي طرح: قال صالح رحمه الله سُئل أبي، يعني: الإمام أحمد عن رجل نسي أن يخلل لحيته ثم صلى.
هل يعيد الصلاة؟ فقال: لا يعيد.
فصلاته صحيحة كما أفتى الإمام أحمد رحمه الله.(244/35)
حكم نتف اللحية
وسئل أيضاً الإمام أحمد رحمه الله عن رجل قد بلي بنتف لحيته وليس يصبر عنها؟ هذا سؤال وجهه بعض الإخوان قال: أحياناً أنسى وأنتف من اللحية وأنا أفكر أو أكون ساهماً ببصري.
فما هو الحكم؟
الجواب
إن صبر عن ذلك فهو أحب إليَّ، يعني: ينبغي عليه ألا يقرب لحيته لقوله صلى الله عليه وسلم: (أعفوا اللحى، وفروا اللحى، أرخوا اللحى، أرجوا اللحى، خالفوا المشركين، خالفوا المجوس) ولكن قد يغفل الإنسان أحياناً ويسهو فينتف من لحيته شعيرات فينبغي أن يتنبه لنفسه وأن يقلع عن هذا العمل.(244/36)
المتأخر عن صلاة الجنازة يقضي التكبيرات
السؤال
دخلت في صلاة الجنازة في التكبيرة الثالثة.
فماذا أفعل؟
الجواب
قال صالح رحمه الله وسألته، يعني: وسألت أبي عن الرجل يفوته التكبير على الجنازة.
أيقضيه؟ قال: نعم.
فأفتى الإمام أحمد رحمه الله: بأن من دخل في صلاة الجنازة وفاتته تكبيرات فإنه يدخل مع الإمام فيكبر التكبيرة الأولى فيقرأ الحمد، ثم يكبر التكبيرة الثانية فيقرأ الصلاة الإبراهيمية، ثم يكبر التكبيرة الثالثة فيدعو للميت، ثم يكبر التكبيرة الرابعة فيسكت هنيهةً كما بين الإمام أحمد رحمه الله ثم يسلم.
إذاً.
المتأخر عن صلاة الجنازة يقضي التكبيرات.(244/37)
حكم الرجل الذي يصلي وراء الإمام ولا يسمع قراءته
السؤال
نكون في بعض المساجد في صلاة الجمعة فلا نسمع صوت الإمام في الصلاة في القراءة في صلاة الجمعة؛ إما لانقطاع مكبر الصوت، أو بُعد الصوت، أو تداخل الأصوات أحياناً، أو عدم وضوح الصوت خارج المسجد لشيء في المكبرات، فنحن لا نسمع قراءة الإمام في صلاة الجمعة.
فماذا نفعل؟
الجواب
وقد وجدت أن الإمام أحمد رحمه الله سئل: عن الرجل يكون خلف الإمام يوم الجمعة، ولا يستمع قراءة الإمام.
فماذا يفعل؟ قال: إن شاء قرأ؛ إذا شاء المصلي أن يقرأ فليقرأ، ما دام أنه لا يسمع قراءة الإمام فهو يقرأ، مثل: أحياناً يكون الإنسان في صلاة التراويح في الحرم فتتداخل الأصوات، أو يكون الصوت ضعيفاً جداً؛ فلا يسمع ماذا يقرأ الإمام، فلو أنه سكت ربما كان عرضةً للوساوس، أو انشغال الذهن وانصرافه عن الصلاة، فلو قرأ في نفسه فلا حرج، ولو أنه خلف الإمام ما دام لا يسمع قراءة الإمام.(244/38)
لكي تعيش حياة زوجية سعيدة
وهذه عدة أسئلة في الحقيقة عن العلاقات الزوجية، وعن المشاكل الموجودة في الحياة الزوجية، وأكثر هذه الأسئلة من النساء؛ وهي عبارة عن شكاوى كثيرة جداً تحتاج إلى درسٍ أو أكثر لإيضاح علاجها، وكنت قد تمهلت في الكلام عن هذا الموضوع ريثما تتجمع لديَّ الشواهد من الواقع، مع البحث في هديه صلى الله عليه وسلم في معاشرة أزواجه حتى أتطرق لهذا الموضوع، فاجتمع لديَّ قدرٌ كافٍ لدرسٍ أو أكثر في موضوع المعاشرة الزوجية أو الحياة الزوجية والمشكلات في الحياة الزوجية، ولكن ليس هذا موضع ذلك، ونظراً لمحدودية الوقت وضرورة الكلام عنه فإنني سأذكر هنا خمسة وعشرين سبباً، أو نصيحةً للزوج ليحافظ على علاقةٍ جيدة لزوجته، ثم نتكلم عن الموضوع بالتفصيل مع الأدلة في درسٍ قادم إن شاء الله، والتركيز في هذه النصائح على الزوج؛ لأنك إذا أخذت المشكلات فإنك ستجد أن أكثرها من الزوج، وهذا لا يعني أن الزوجة ليست منها مشاكل، بل كثير من الزوجات لديهن مشاكل ومتسببات في مشكلات كثيرة، ولكن أخصص هذا الكلام للرجال بهذه النصائح: أولاً: احرص على توفير حاجيات البيت باستمرار، ولا مانع في الاعتراض على بعض الكماليات تعليماً للزهد وتصدقاً بقيمتها.
ثانياً: اجعل لزوجتك وأولادك نصيباً من وقتك؛ في الملاعبة، والملاطفة، والقصص الهادفة، والنزهة البريئة.
ثالثاً: راعِ شعور زوجتك وظروفها الصحية وخصوصاً عند معاشرتها في الفراش.
رابعاً: إياك وإذلال الزوجة وطلب الأشياء التافهة منها لمجرد إظهار سلطتك عليها وإرغامها على التنفيذ.
طبعاً: كل نقطة من هذه هي عبارة عن مشكلات واقعية قد أتت إليَّ يوماً من الأيام.
خامساً: إذا ظلمت زوجتك، وأسأت معاملتها لا تستغل الأحاديث في منعها من البوح لأحد ولكن اطلب المسامحة.
بعض الناس يضرب زوجته ويهينها ثم يقول: الأحاديث تنهى عن أن المرأة تفشي أخبارها التي بينها وبين زوجها للناس ليس هناك داعٍ أن تقولي لأهلك فقد تأثمين، بينما المفروض أنه يطلب المسامحة.
سادساً: تجنب إهانة زوجتك بحضرة أهلها أو أمام الآخرين عموماً.
سابعاً: لا تشعر زوجتك مطلقاً بعدم الثقة بها؛ من خلال إخفاء جهاز الهاتف أو الإقفال عليه أو فصل الحرارة، أو إزالة النقود من المنزل بالكلية مثلاً، إلا إذا كان هناك دافع شرعي لهذا العمل.
ثامناً: إياك وأكل حقوق الزوجة المالية كإرغامها على بيع ذهبها، أو مماطلتك في إرجاع ما اقترضته منها، ولا تجبرها على شراء أغراض البيت من مالها الخاص.
ثامناً: احذر العقوبات السيئة كالضرب المستمر، أو تمزيق أغراضها الشخصية كالدفاتر والكتب أو الثياب ونحوها.
تاسعاً: إياك والاستجابة لضغط الأهل، مثل: الوالدين في بعض الأسر بحملها على معصية كمصافحة أخيك، أو الجلوس في جلسة مختلطة وإرغامها على كشف الوجه.
عاشراً: لا تتكلم بما يحدث بينك وبين زوجتك من الأمور الخاصة أمام إخوانك ولو كانوا في غاية الاستقامة، ولو كنت تثق بهم جداً، فلا يجوز نشر أسرار الاستمتاع، اللهم إلا في بعض الحالات الضرورية جداً كأن يأخذ الإنسان حكماً شرعياً من عالمٍ من العلماء، أو مشكلة لا يستطيع أن يحلها بنفسه فيضطر إلى أخذ آراء شخص ثقة فيها.
الحادي عشر: لا يجوز الاستمتاع بالزوجة أمام الأولاد المميزين في الفراش، وكذلك احذر ممارسة بعض الأوضاع الشاذة المأخوذة من بعض الأفلام السيئة.
الثاني عشر: لا بد أن تشعر أنك مكلف بمتابعة زوجتك في عبادتها كإيقاظها لصلاة الفجر، وقراءاتها في كتب العلم، وتنفيذها للأحكام الشرعية كإخراج زكاة الحلي.
الثالث عشر: لا تكلف زوجتك رهقاً بكثرة الولائم خصوصاً إذا صارت متعبةً من الحمل أو المرض وتكلف شيئاً ما بشراء الطعام الجاهز من السوق أحياناً.
الرابع عشر: مكنها من شراء الثياب لها في حدود المعقول، ولا تتذرع دائماً بالإسراف إذا أرادت شراء شيء مهم، وخصوصاً في لباسها في المناسبات غير المتكررة.
الخامس عشر: تجنب قدر الإمكان إظهار الاختلاف معها في تربية الأطفال أمام الأطفال أنفسهم، وتحمل خلافها لك في الرأي أمامهم ثم تفاوض معها فيما بينك وبينها.
السادس عشر: احرص على النظافة الشخصية خصوصاً إذا أردتها بعد الرجوع من عملك مباشرةً.
السابع عشر: إياك ومعاقبة زوجتك بمنعها من بعض الطاعات كجلسات العلم مع أخواتها، أو سماع الكتب والأشرطة إلا إذا صار خروجها من البيت شيئاً غير محمود فلك منعها عند ذلك أو التخفيف.
الثامن عشر: تجنب ذكر شيء من أخطاء الماضي أمامها -أخطاءك أنت- خصوصاً المحرمات التي يقع فيها بعض الأزواج في ماضيهم قبل الزواج لا داعي لذكرها للزوجة، ولا تعيرها بأخطائها هي الماضية إذا حسنت توبتها.
التاسع عشر: تجنب إيذاء زوجتك بالألفاظ مثل: أنا أخذتك من الشارع، أنتِ لا تفهمين شيئاً، أو أنتِ بقرة، أو أنتِ هندية، ونحو ذلك، فبعض الناس يقولها لزوجته.
العشرون: انتبه لإشباع رغبتها، وإعفافها في المعاشرة، وتذكر قوله صلى الله عليه وسلم: (أحب لأخيك ما تحبه لنفسك).
الحادي والعشرون: إياك وعدم العدل بين الأولاد خصوصاً زيادة أولاد إحدى الزوجتين على أولاد الزوجة الأخرى في الأعطيات، أو الهبات، أو إدخال أولاد إحدى الزوجتين في مدارس خاصة وترك أولاد الأخرى في المدارس العادية.
الثاني والعشرون: حاول ألا تعيب لباسها وطعامها قدر الإمكان، أثنِ على ما كان جيداً واسكت عن الباقي وهي ستفهم.
الثالث والعشرون: تجنب انتقاد أهلها أمامها؛ فإنه غالباً يثيرها عليك.
الرابع والعشرون: إذا دعيت إلى وليمة خارج البيت فتأكد أن في البيت طعاماً يكفيهم.
الخامس والعشرون: إذا أوصلت أهلك لزيارة أناس وذهبت إلى شغلٍ لك فلا تتركهم في بيت الناس إلى ساعة متأخرة من الليل فتحرج أهلك وتضايق الناس.
هذه خمس وعشرون نصيحة لطرد بعض المنغصات في الحياة الزوجية.(244/39)
سؤال عن دم الاستحاضة
السؤال
امرأة انقطعت عنها العادة لمدة سنة وثلاثة أشهر ثم جاءها في شهرٍ دمٌ متصل.
فماذا تفعل؟
الجواب
أجاب الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله تعالى على هذه المسألة بقوله: تجلس عادتها والباقي دم استحاضة، فمثلاً: لو أن هذه المرأة كانت تحيض عشرة أيام في الشهر ثم انقطعت عنها العادة هذه فترة طويلة جداً، ثم جاءتها العادة وجاءها الدم شهراً متصلاً فماذا تفعل؟ تجلس عشرة أيام لا تصلي ثم تغتسل والباقي استحاضة.(244/40)
أكثر مدة الحيض
السؤال
ما هي أكثر مدة للحيض؟
الجواب
في بعض أقوال أهل العلم: خمسة عشر يوماً.
لحديث: (تمكث إحداكن نصف دهرها لا تصلي).(244/41)
لا يجوز التصدق من مال الأيتام
السؤال
امرأة عندها أيتام ولها راتب تقاعد لزوجها يأتيها هي ويأتي للأولاد.
هل يجوز أن آخذ من مال التقاعد الذي هو للأيتام وأتصدق لهم عن أبيهم؟
الجواب
أجاب الشيخ عبد العزيز حفظه الله لما سألته، قال: لا يجوز الصدقة فيهم، وهي تتصدق من نصيبها فقط إن أرادت.(244/42)
مسألة ظهور عورة الإمام في الصلاة
السؤال
رأيت شقاً في ثوب الإمام يظهر منه الفخذ أو جزء من العورة بشكل دائم في الصلاة وأنا في الصلاة.
فماذا أفعل؟ فهو لا يستطيع أن يتكلم في الصلاة، يقول: غطِّ عورتك مثلاً، ولا يستطيع أن يكمل وهو يعلم أن إمامه قد فقد شرطاً من شروط الصلاة وهو ستر العورة.
فماذا يفعل؟
الجواب
سألت الشيخ حفظه الله فقال: إن كان لا يمكنه التقدم لستره مثل: طرح شيء عليه فيقطع الصلاة وينبه الإمام.(244/43)
حكم تطويل أحد الأظافر
السؤال
ما حكم تطويل أحد الأظافر لاستخدامه في الأشياء الدقيقة؟
الجواب
فسألت عن هذا الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله فأجاب: إذا زاد عن أربعين يوماً وجب قصه؛ لأن الحديث في صحيح مسلم: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت للصحابة في الأظفار وشعر العانة والإبط أربعين يوماً لا يزيدون عليها) وبناءً على هذا الحديث: لا يجوز للإنسان أن يبقي أظفاره أكثر من أربعين يوماً بدون قصها، ولا يجوز له أن يترك شعر العانة أكثر من أربعين يوم بدون حلقه أو قصه، وكذا شعر الإبط.
والمستحب له أن يأخذه كلما دعت الحاجة إلى أخذه؛ لأن الناس يتفاوتون فمن الناس أظفارهم تطول بسرعة، ومن الناس شعورهم تنمو بسرعة ومن الناس شعورهم تنمو تدريجياً أو بشكل منخفض، فلذلك يأخذ الإنسان منها كلما دعت الحاجة إلى الأخذ، ولا يزيد عن الأربعين يوماً في جميع الحالات.(244/44)
حكم شراء الحبحب على السكين
السؤال
ما حكم شراء الحبحب على السكين؟
الجواب
أجاب الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله وكذا الشيخ محمد بن صالح العثيمين على هذا السؤال: بأنه جائز ولا بأس به.
يعني يقول له: أشتري منك على السكين الكيلو بريالين أو بثلاثة ريالات؛ هذا بيع صحيح ولا بأس به.(244/45)
تصورات ومفاهيم غائبة عن المجتمع المسلم
هذه شكوى: هناك عدد كبير من المستقيمين والمستقيمات الملتزمين بشرع الله والملتزمات، ولكننا إذا دققنا في أحوالهم لوجدنا أن هؤلاء الإخوة والأخوات يعيشون الإسلام عيشةً سطحية؛ فهم يلتزمون في الظاهر مثلاً باللحية وتقصير الثوب والمرأة بالحجاب، ولا يستمعون الأغاني، ولا يشاهدون المسلسلات، ولا يكذبون، ولا يسرقون، ولا يقعون في الفواحش؛ هذه صورة الالتزام.
ونجد أيضاً في نفس الوقت: أن هؤلاء النوعيات ليس لهم أثرٌ في الواقع كبير؛ بسبب أنهم لا يحملون التصورات والمفاهيم الإسلامية، يعني: أن هذا الشخص فقط: اللحية والثوب، أو الحجاب، ولا يقترف المنكرات، ويفعل الواجبات؛ ويؤدي الصلاة في المسجد في أوقاتها، لكن ليس وراء ذلك شيءٌ آخر.
فيقول
السؤال
ما هي التصورات التي من المهم أن يكتسبها كل شخصٍ مستقيم على شرع الله؟ بالإضافة إلى التزامه في المظهر طبعاً، وعدم مقارفة المنكرات أو المعاصي والمحرمات مع فعل الواجبات.
ما هي التصورات المهمة أن المسلم يتشربها؟
الجواب
إليكم سبعةً وأربعين تصوراً من التصورات المهم أن يكسبها الشخص المسلم؛ سواء بالقراءة، أو بسماع الأشرطة، أو بأن يتربى مع إخوانه عليها، وهذا أهم شيء أن يحدث، التربية الجماعية على التصورات والمفاهيم الإسلامية: أولاً: مفهوم خيرية هذه الأمة.
لماذا هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس؟ لكي يعتز بالانتساب لها.
الثاني: مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ حكمه، وسائله، ضوابطه.
الثالث: أضرار المعاصي.
الرابع: مداخل الشيطان وخصوصاً على الصالحين والحيل النفسية.
الخامس: صور الانحراف في الحياة العامة، أو ما يمكن أن نعبر عنه: بنقد الواقع على ضوء الإسلام؛ وهذا عمل مهم جداً.
لا يعرف الإسلام من لا يعرف الجاهلية، وحذيفة كان يسأل عن الشر حتى لا يقع فيه.
سادساً: أننا مكلفون بجميع نصوص الشريعة.
سابعاً: مفهوم التعاون على البر والتقوى؛ صوره، وأشكاله.
ثامناً: مفهوم المسئولية؛ كيف ننشئها؟ وما هي أهميتها؟ تاسعاً: مفهوم البذل والتضحية والعطاء.
عاشراً: مفهوم الأخوة الإسلامية؛ معناها حقوقها آدابها الانحراف والغلو الذي قد يحدث فيها.
الحادي عشر: مفهوم العزلة الشعورية عن أهل المنكر ونحن نعيش بينهم، وهذا مهم حتى يحافظ الإنسان على التزامه وهو يدعو إلى الله وسط أهل المنكرات.
الثاني عشر: الآثار التربوية لتوحيد الأسماء والصفات.
الثالث عشر: فوائد دراسة التاريخ الإسلامي.
الرابع عشر: مفهوم الوقت وأهميته، وكيف نستغله؟ الخامس عشر: مفهوم الإيجابية وخطورة السلبية.
السادس عشر: مفهوم سد الثغرة.
السابع عشر: جنسية المسلم عقيدته.
الثامن عشر: المنافقون؛ خطورتهم وأساليبهم.
التاسع عشر: تميز المسلم عن الكفار وأهل الفسق.
العشرون: المستقبل لهذا الدين.
الحادي والعشرون: مفهوم الجماعية، وأهميته في تحقيق الواقع في الإسلام.
الثاني والعشرون: وجوب مفاصلة أهل الكفر والبدع والمنكرات.
الثالث والعشرون: العبادات الفردية، ووسائل تقوية الصلة بالله.
الرابع والعشرون: مفهوم لا إله إلا الله، ومعنى الشهادتين.
الخامس والعشرون: مفهوم العبادة الواسع، واحتساب الأجر في جميع الأفعال.
السادس والعشرون: الأخلاق الإسلامية، وكيفية اكتسابها؟ السابع والعشرون: أهمية الصحبة الصالحة، وأضرار رفقة السوء.
الثامن والعشرون: مفهوم الابتلاء العام، وأن الله خلقنا ليبلونا أينا أحسن عملاً، وما هي شروط العمل الصالح؟ التاسع والعشرون: الصبر على المحن والفتن في الدين.
الثلاثون: أهمية العلم الشرعي؛ فضله وسائل اكتسابه المنهج والمزالق.
الحادي والثلاثون: الولاء والبراء.
الثاني والثلاثون: أهمية الدعوة إلى الله؛ حكمها ووسائلها.
الثالث والثلاثون: الانتباه من تحول العبادات إلى عادات، وكيف نحافظ على أثر العبادات، ونمنع تحول عبادتنا إلى عادات ليس لهذا أثر.
الرابع والثلاثون: مفهوم القدوة؛ أهميتها الاستفادة منها.
الخامس والثلاثون: الاستشارة وعدم الفوضى.
السادس والثلاثون: الجدية في الالتزام بهذا الدين.
السابع والثلاثون: تنقية الالتزام، وأهمية أن يخلع المسلم على عتبة الإسلام جميع أردية الجاهلية.
الثامن والثلاثون: اقتضاء العلم بالعمل.
التاسع والثلاثون: أعمال القلب: المراقبة الإخلاص الصبر الخوف الرجاء المحبة إلى آخره.
الأربعون: مفهوم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه).
الحادي والأربعون: الأوليات وتقديم الأهم، والواجبات أكثر من الأوقات.
الثاني والأربعون: الدقة والتثبت.
الثالث والأربعون: منهج التلقي، وتقديم قول الله ورسوله على قول كل أحد.
الرابع والأربعون: الالتزام بالدليل وعدم التعصب.
الخامس والأربعون: الالتزام بالسنة.
السادس والأربعون: دارسة مبسطة عن أسباب اختلاف العلماء حتى لا يتذبذب الشخص، ويقول: ما بالهم اختلفوا؟ وماذا نفعل؟ ونحن متحيرون ومضطربون.
السابع والأربعون: أهمية الوعي بالواقع، والانتباه لمواجهة كيد أعداء الإسلام.
ومن الأمور المهمة في طرح هذه المفهومات والتصورات: حسن عرضها، وعدم تكديسها، وأهمية تطبيقها في الواقع.
وكل مفهوم من هذه المفهومات يحتاج إلى درسٍ لشرحه أو أكثر، ونحن أجملناها هنا وهناك غيرها، وهذا على سبيل المثال حتى نعلم -أيها الإخوة- أن الاستقامة على شرع الله والالتزام ليست مسألة سهلة، وليست قضية مظاهر، وحتى نعلم أيضاً: لماذا يوجد هناك كثير من الإخوان الملتزمين بشرع الله ليس لهم أثر في الواقع؟ لماذا؟ لأنه فارغ من التصورات الإسلامية، ليس عنده ما يعطيه لغيره، لو جلست مع واحد قال: لا تسمع الأغاني، لا تنظر إلى المحرمات، صل في المسجد، لا بد من اللحية، فهذه أشياء معينة محدودة، فلا تجد الناس يتأثرون به، ولا تجد له وزناً في الواقع، ما الذي يعطيك الوزن في الواقع؟ وما الذي يعطيك الأثر في الواقع؟ إن هي إلا التطبيق العملي للتصورات الإسلامية، وهذا مما يفيد أهمية معرفة هذه التصورات بأدلتها وواقعها في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة، والمسلمون والانطلاق لتطبيقها في الواقع، وإلا أصبحت شخصاً فارغاً هامشياً ليس لك دورٌ ولا تأثير.(244/46)
حكم بيع السلع التي اشتريت بالتقسيط قبل انتهاء المدة
السؤال
رجل اشترى سيارة بالأقساط ولا يزال عليه أقساط منها.
هل يجوز له أن يبيعها لشخص آخر بمبلغ معين على أن يكمل الشخص الآخر الأقساط للشركة؟ زيد اشترى سيارة بخمسين ألف ريال بالأقساط؛ كل شهر يدفع كذا، هل يجوز أن يبيعها إلى عمرو من الناس، مثلاً: بعشرين ألف ريال نقداً بعد أن استعملها فترة على أن يتكفل الشخص الثاني الذي هو عمرو في هذه الصورة بتسديد باقي الأقساط على الشركة؟
الجواب
فكان جواب الشيخ محمد بن صالح العثيمين على هذا السؤال: لا بأس بذلك إذا كانت الأقساط الباقية معلومة، يعني: الشيء الذي يسدده الشخص الثاني للشركة معلوم كم هو، ويلتزم بتسديده.(244/47)
حكم لبس الثوب الأبيض للعروس
السؤال
ما حكم لبس الثوب الأبيض في الأعراس للعروس؟
الجواب
فسألت عنه كلاً من الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله فقال: أفتي بأنه لا بأس به إذا لم يكن أمام غير المحارم ولا يشف عما لا يجوز للمحارم أن ينظروا إليه، ويدخل في ذلك طبعاً عموم النساء؛ لأن المرأة لها عورة أمام أختها أقصد أمام أختها المرأة.
وأجابني كذلك الشيخ محمد بن صالح العثيمين عن هذا السؤال: لا بأس لبس الثوب الأبيض في الأعراس للمرأة، لا بأس إذا لم يشبه ثياب الرجال، ولا ثياب الكافرات.
فسألته: ما معنى: أنه لا يشبه ثياب الكافرات؟ فقال: أي: لا يكون من خصائص الكفار.
فسألته: إذا كان تصميمه قد جاء من الكفار، لكنه انتشر في بلاد المسلمين، ولم يصبح خاصاً بالكفار؟ فقال: يزول حكم التشبه، ويجوز لبسه.
لكن طبعاً: لبس الثوب هذا ينبغي أن يكون خالياً من المحاذير الشرعية، مثل: أن يكون ضيقاً، أو يجسد منطقة العورة، أو يكون له ذيل طويل يسحب ثلاثة أمتار ويرفعها ويحملها وراءها شخص أو أشخاص؛ فهذا طبعاً من الكبر والاختيال، فالمرأة رخص لها شبر أو شبران تسحب على الأرض حتى لو جاءت الريح لا تنكشف قدماها من أسفل الثوب، وأما هذه السحبة الطويلة الموجودة في بعض تصميمات أثواب الأعراس فهي غير جائزة؛ لأن فيها الاختيال والكبر، أو هي الإسبال عند المرأة، الرجل يسبل إذا نزل عن الكعبين، والمرأة تسبل إذا زادت عن الشبر والشبرين وصارت تسحب بشكل طويل على الأرض فهذا إسبال في حقها لا يجوز.(244/48)
حكم بيع الأشرطة في المسجد بسعر التكلفة
السؤال
حكم بيع الأشرطة في المسجد بسعر التكلفة دون ربح، والثمن المتحصل يشترى به أشرطة جديدة تباع وهكذا؟
الجواب
فكان جواب الشيخ محمد بن صالح العثيمين على هذا السؤال: لا يجوز البيع في المسجد، ولو كان بهذه الصفة، يمكن أن يوضع خارج المسجد ويباع، لكن داخل المسجد فلا، ولو كان مشروعاً خيرياً.
وأجابنا كذلك الشيخ محمد ناصر الدين الألباني عن نفس السؤال بنفس الجواب، إلا أنه قال: إذا كان يوجد مكتبة في المسجد، وكان بابها من خارج المسجد ليس من داخل المسجد فإنه ربما يجوز البيع فيها، لكن إذا كانت المكتبة داخل المسجد وبابها في المسجد فإن حكمها حكم المسجد ولا يجوز البيع فيها.(244/49)
مندوب مشتريات في شركة يأخذ عمولة من البائع حتى يتعامل معه
السؤال
جاء مندوب مشتريات: وهو إنسان موظف في شركة يذهب يشتري لهم قطعاً من السوق فيذهب إلى الدكان يقول: أعطني (محولاً) فسعر (المحول) مائة ريال، فيشتري المحول ويقول لصاحب الدكان: لا بد أن تعطيني حلاوة، لا بد أن تعطيني مبلغاً لكي أشتري من عندك ولا أشتري من عند غيرك، يعني: يقول: ترى أنني سوف أشتري (المحول) من عندك أو من عند غيرك، هذه مائة ريال للشركة هات فاتورة بمائة ريال باسم الشركة لكن لابد أن تعطيني عشرة ريالات من عندك وإلا سوف أذهب أشتري من عند غيرك، فأعطني عشرة ريالات خاصة لي، وهذه مائة الشركة وهذه فاتورة باسم الشركة بالمائة ريال.
فما حكم هذا العمل؟
الجواب
أجاب الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله: لا يجوز ذلك، وهو وكيل موظف في الشركة وهو يشتري على أساس أنه للشركة وليس له، فلا يجوز أن يأخذ شيئاً، ولو أخذ تخفيضاً فيذهب التخفيض للشركة ليس له هو؛ وهذا أمر متفشٍ جداً اليوم بين مأموري المشتريات فإنهم يذهبون إلى الدكاكين ويشترون للشركة؛ وهو موكل، ومؤتمن، فيأخذ منهم يقول: هات أتعابي، أو هات نقوداً لأني اشتريت من عندك والفاتورة باسم الشركة.
أنا أسألكم الآن: شخص صاحب بيت يحتاج مواد للبناء ذهب إلى مكان بيع مواد البناء، فقال له: كم تبيع لي مثلاً كذا حديد؟ فقال مثلاً: أبيعك بعشرة آلاف ريال، فالمشتري يشتري لنفسه، هو صاحب البيت، قال: أعطني خصماً وإلا أشتري من عند غيرك، فأخذ مثلاً: تسعة آلاف وخمسمائة.
فما هو الحكم؟ الجواب: هذا جائز.
لأنه هو صاحب الشأن، وهو يشتري لنفسه، ولذلك هو المستفيد، ولذلك فإذا أخذ التخفيض له فلا بأس، لأنه هو صاحب الشأن.(244/50)
العادة السرية وعلاجها
السؤال
أنا شاب في العشرين من عمري وقد هداني الله إلى الطريق المستقيم فالحمد لله على ذلك، وقد كنت أفعل من قبل هذه العادة السيئة، ثم منَّ الله عليَّ وتركتها، وفي هذه الإجازة الصيفية عدت إليها، وكلما تبت وجزمت بعدم العودة لم أقدر وعدت إليها ثانيةً، مع العلم أني عملت بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم بالصيام، وحاولت الزواج ولم أستطع لظروفي؟ وهذا سؤال أيضاً يقول: أمنيتي في الحياة أن أتوب من عمل هذه العادة التي أصبحت مدمناً عليها، حتى أنني أتوب كثيراً وأعود إليها، مع أني أعبد الله وأذكره وإن كنت مقصراً.
والآن أريد الحل والطريق إلى التوبة النصوح التي ليس بعدها رجعة بأمثل السبل وأيسرها؟ وهذا سؤال يقول: كنت في الجاهلية أعمل فواحش ولما رأيت أحد الذين كنت معهم في هذه الفاحشة وما زلت أرافقه حتى كاد أن يوقعني في هذا الذنب، فتركته وذهبت لأعمل هذه العادة.
فما هو الحكم؟ وكيف أتخلص منها؟ هذه أسئلة كثيرة جداً عن موضوع: العادة السيئة؟
الجواب
وهذه حقيقةً مشكلة من المشاكل التي تحتاج إلى معالجة، واعلموا -أيها الإخوة- أن كل مشكلة لها علاجان: علاج علمي، وعلاج عملي: فالعلاج العلمي: أولاً: أن تعرف حكم هذه المسألة.
ثانياً: أن تعرف الأضرار المترتبة عليها.
فلو عرفت الحكم وعرفت الأضرار هذا جزء من الحل.
ثم العلاجات العملية التي يمكن أن تتخذ.
وأنا أجمل لهؤلاء السائلين شيئاً من هذين العلاجين: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كلامٍ له عن حكم الاستمناء، وهذا الكلام بعد الكلام على قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:5 - 6]، واستنباط الإمام الشافعي رحمه الله ومن تبعه من أهل العلم: أنه لا يجوز استعمال هذه العادة؛ لأن الله تعالى أمر بحفظ الفرج إلا عن الزوجة وملك اليمين وهذا لم يحفظها لما وقع في هذه العادة.
فقال شيخ الإسلام رحمه الله وكذلك من أباح الاستمناء عند الضرورة: فالصبر عن الاستمناء أفضل فقد روي عن ابن عباس: [أن نكاح الإماء خيرٌ منه، وهو خير من الزنا] فإذا كان الصبر عن نكاح الإماء أفضل، فالحر لا يصح أن يتزوج أمة إلا إذا عجز تماماً فإذا كان الصبر عن نكاح الإماء أفضل فعن الاستمناء بطريق الأولى أفضل.
لا سيما وأن كثيراً من العلماء أو أكثرهم يجزمون بتحريمه مطلقاً؛ وهو أحد الأقوال في مذهب الإمام أحمد، واختاره ابن عقيل في المفردات، والمشهور عن أحمد أنه محرم إلا إذا خشي العنت، والثالث: أنه مكروه إلا إذا خشي العنت، فإذا كان الله قد قال في نكاح الإماء: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [النساء:25] ففيه أولى، الصبر في هذا، وذلك يدل على أن الصبر عن كليهما ممكن؛ لأن الله لا يأمر بالصبر عن شيء إلا إذا كان الصبر في طاقة البشر ويستطيعون أن يجاهدوا أنفسهم فيه.
فإذا كان قد أباح ما يمكن الصبر عنه فذلك لتسهيل التكليف.
كما قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:28].
والاستمناء لا يباح عند أكثر العلماء سلفاً وخلفاً؛ سواء خشي العنت أو لم يخش ذلك.
وكلام ابن عباس وما روي عن أحمد فيه إنما هو لمن خشي العنت، والآن بعض الناس يقولون: ما هو العنت؟ لأن هذا مهم في معرفة حكم المسألة.
يقول شيخ الإسلام: لمن خشي العنت -وهو الزنا واللواط- خشية شديدة خاف على نفسه من الوقوع في ذلك، لأن بعض الناس يقول: أنا خشيت العنت، هو جالس في بيته ما عنده أحد يقول: أنا خشيت العنت، لا.
المقصود: أن الشخص يخشى أن يقع في الفاحشة خشيةً حقيقية ويكون سبيل الوصول إليها سهلاً جداً فهو يخشى على نفسه.
هذا الذي رخص بعض أهل العلم له الاستمناء، فأبيح له ذلك؛ لتكسير شدة عنته وشهوته.
ويقول شيخ الإسلام: وأما من فعل ذلك تلذذاً، أو تذكراً، أو عادةً، بأن يتذكر في حال استمنائه صورة كأنه يجامعها فهذا كله حرام لا يقول به أحد؛ لا أحمد ولا غيره، وقد أوجب فيه بعضهم الحد، والصبر عن هذا من الواجبات لا من المستحبات.
انتهى كلام شيخ الإسلام من فتاويه في المجلد العاشر.
ومن الأشياء المهمة في علاج هذه القضية: معالجة الأفكار والخواطر التي تطرأ في بال الإنسان، كل عمل اختياري يقوم به الإنسان هذا يأتي من الخواطر والأفكار، أي عمل تعمله الآن أول شيء يبدأ بالمرحلة الأولى وهو خاطرة تأتي في الذهن فإذا وقفت الخاطرة في الذهن وانشغل الذهن بها تتحول إلى فكرة؛ لأن الذهن بدأ يفكر فيها، ما طردها مباشرة بل بدأ يفكر فيها، ثم إن هذه الفكرة تتحول إلى تصور، يعني: تتصور المسألة الآن بشكل كامل في ذهنك، وهذا التصور ينشئ الإرادة؛ إرادة الفعل، وهذه الإرادة تتطور إلى عزيمة وهي الرغبة المشددة في الشيء، وهذه العزيمة تؤدي إلى الوقوع في الفعل، وإذا تكرر الوقوع في الفعل صار عادةً.
كلما عالجت الموضوع في مراحله الابتدائية كان أسهل في التخلص، وعدم الوقوع في الفعل، وكلما استمريت في هذه الخطوات يكون الحل أصعب، ولذلك لا بد للإنسان أن يعالج خواطره من البداية فيحرص على ألا يخطر بباله إلا الخير، وهذه الأعمال الحسنة التي نعملها هي عبارة عن لمة من الملك، والأعمال السيئة التي نعملها عبارة عن لمة من الشيطان فهي من الشيطان، فأي شيء خير تفعله دلك عليه الملك المرافق لك أو أوعز به إليك، وأي عمل شر تفعله فإن الشيطان قد أوعز به إليك كما ورد في الحديث الصحيح.
يقول ابن القيم رحمه الله: فإذا جعل العبد فكره في ربه أنه مطلع عليه، ناظر إليه، عليمٌ بخواطره وإراداته وهمه، فحينئذٍ يستحيي منه، ويجله أن يطلع منه على عورة يكره أن يطلع عليها مخلوق مثله.
إن كلام ابن القيم مهم جداً، يقول: هذه الأفكار الرديئة في ذهنك افرض أن شخصاً الآن يستطيع أن يقرأ ماذا يدور بأفكارك من هذه الخواطر السيئة.
ماذا تشعر أمامه؟ ستشعر بالخجل الشديد.
فإذا علمت أن الله مطلعٌ على أفكارك وخواطرك فكيف ينبغي أن يكون شعورك؟ هذا هو البداية: الحياء من الله عز وجل، وبقدر هذه المنزلة يبعد العبد عن الأوساخ والدناءات والخواطر الرديئة والأفكار الدنيئة، والخواطر والوساوس تؤدي إلى التفكير فيأخذ الفكر في التذكر، فيأخذه التذكر إلى الإرادة، فتأخذه الإرادة إلى الجوارح والعمل، وقد خلق الله النفس شبيهة بالرحى؛ الدائرة التي لا تسكن، ما هو الرحى؟ الطاحون الذي يطحنون فيه الحب، فالنفس البشرية شبيهة بهذا الطاحون.
فيقول ابن القيم في تشبيه جميل: وهذه النفس شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تسكن ولا بد لها من شيء تطحنه، فإن وضع فيها حباً طحنته، وإن وضع فيها حصى طحنته، فمن الناس من تطحن رحاه حباً يخرج دقيقاً ينفع به نفسه وغيره وأكثرهم يطحن رملاً وحصىً وتبناً ونحوه فإذا جاء وقت العجن والخبز تبين له حقيقة عجينة.
الله أكبر! جماع هذه التفسيرات، وهذه التحليلات النفسية لعلمائنا في غاية الأهمية.
يقول: الإنسان حسب الخواطر التي فيه؛ إن كان يغلب على ذهنه خواطر الخير دائماً إيعازات الخير فهو على خير عظيم، وإن كان الغالب على فكره وخواطره أنها شر فحالته حالة شر حالة سيئة، ولذلك أنت تأمل حالة بعض الناس، لو قلت له الآن: بماذا تفكر؟ ما هي الأفكار؟ هذا الذهن الإنسان مسئول عنه عن الخواطر عن هذا الفكر عن هذا العقل، لو قلت لواحد الآن: أنت يومياً بماذا تفكر؟ فبعض الناس يقول لك: أنا نفسي تراودني بالفاحشة، وبالسرقة، وبالرشوة، وأنا أفكر بالكذب، وأنا أفكر في الشهوات، فتحصل أن عامة ما يفكر به من الخواطر هي أشياء سيئة، ولذلك هذا الرجل على شفا هلكة، وأحياناً تجد بعض الناس يفكر: كيف أدعو فلاناً من الناس؟ كيف أدخل إلى قلبه؟ يفكر في مسألة علمية في حكم شرعي يفكر في تربية نفسه وأهله في مشكلات أولاده، إذا كان هذا الذي يفكر به الإنسان من الخير والصلاح فإنه على خير عظيم.
يقول ابن القيم رحمه الله: ودفع الخواطر أسهل من إصلاح الأفكار وإلا أصبحت الخاطرة فكراً جوالاً، وإصلاح الأفكار أسهل من إصلاح الإيرادات، وإصلاح الإرادات أسهل من تدارك فساد العمل، وتدارك ذاك أسهل من قطع العوائق وهي قطع العادات، وإياك أن تمكن الشيطان من بيت أفكارك وإرادتك فإنه يفسدها عليك، فإنه يفسدها عليك فساداً يصعب تداركه، ومثل ذلك كمثل صاحب رحى يطحن فيها جيد الحبوب فأتاه شخص معه حمل تراب وبعر وفحم وغثاء ليلقيه في الطاحون؛ فإن طرده استمر في طحن ما ينفع، وإن مكنه أفسد الحب وخرج الطحين فاسداً.
يقول: إذا كنت تفكر في أفكار جيدة وجاءتك فكرة خبيثة إذا تركت الشيطان يلقيها في ذهنك وتفكر فيها صرت مثل صاحب الذي يطحن الحب فجاء واحد أثناء الطحن بغثاء وبعر وفحم وطين وألقاه في الطاحون فيفسد عليه الحب، فاجتهد في دفع الخواطر.
نعود الآن إلى المسألة: يقول الإنسان: كيف أتخلص الآن من هذه العادة السيئة؟ واضح من كلمة عادة أنها وصلت بالمرحلة الأخيرة، فالسؤال ليس كيف أدفع خاطرة عمل هذه العادة؟ السؤال: كيف أتخلص من العادة السيئة؟ معناها: أنها صارت عادة؛ صارت الآن في أسوأ مرحلة، فالآن تدارك الموضوع صعب لكن لو قلت لك: من البداية ابدأ أول ما تأتيك الخاطرة بعمل العادة، تعوذ بالله من الشيطان، وفكر بالأشياء النافعة، فإن غلبت نفسك الأمارة بالسوء وتحولت إلى فكرة فاجتهد في قراءة شيء تدفع به تلك الفكرة، أو سماع شيء، وإذا صارت عزيمة أو إرادة فاخرج من المكان وامش منه لتعمل عملاً مفيداً كالتبكير للصلاة في المسجد، أو زيارة أخ في الله، أو حضور درس مفيد لتقطع على نفسك الوقوع فإذا باشرت العمل وبدأت فيه فمراقبة الله تجعلك تقف ولا تس(244/51)
حكم حلق زوجة الأب عانة الولد المجنون
السؤال
هل يجوز لزوجة الأب أن تحلق عانة الولد البالغ المعتوه؟ يعني: مجنون.
الجواب
فسألت عن ذلك الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله فقال: ما أعلم فيه شيئاً، الأصل أنه يحرم حتى على الرجل لكن ما دامت الحاجة موجودة فلأجل الحاجة يجوز، لكن بشرط عدم وجود فتنة فتحلق هي أو حلاق آخر، وإذا كانت تعرفه فهي أولى به.(244/52)
أشخاص يجمعون مالاً ثم يشترون به سلعة ثم يبيعونها لأحدهم
السؤال
جماعة لهم صندوق يضعون فيه أقساطاً ويشترون بعد فترة بالمال الموجود في الصندوق سيارة ويبيعونها على واحد منهم بربحٍ ثم يقتسمون الربح بما فيهم المشتري؟
الجواب
فكان جواب الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله: إذا كانوا يقتسمونه بنسبة حصصهم فلا أعلم مانعاً ولو كان المشتري منهم.(244/53)
الطبيب لا يعلم الغيب
السؤال
رجل فحص عند الطبيب هو وامرأته وقال الطبيب: إن الولد الرابع لهما يأتي مشوهاً.
فهل يدع الرجل الزواج من تلك المرأة لهذا السبب؟
الجواب
فأجاب الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله: لا يترك الزواج، لا يمنع الزواج هذا ولو قال الطبيب ذلك فليس الطبيب عالم غيب.(244/54)
إذا كان الميت كافراً فهل يعزى أهله؟
السؤال
هل تجوز التعزية إذا كان الميت كافراً؟
الجواب
فأجاب الشيخ حفظه الله: يعزي أهل هذا الميت الكافر، لكن لا يدعو له ولا يستغفر له، يعني: يمكن أن يقول لهم مثلاً: اصبروا، أو يقول: هذا نهاية كل حي، أو يقول: إن لله ما أخذ ولله ما أعطى، لكن لا يقول: اللهم اغفر له وارحمه وعافِه واعف عنه؛ لأنه لا يجوز الدعاء للكافر.(244/55)
حكم قول (صدق الله العظيم) بعد التلاوة
السؤال
حكم قول: (صدق الله العظيم) بعد التلاوة؟
الجواب
قال الشيخ ابن باز حفظه الله: ليس لها أصل وهي أقرب للبدعة، لم يرد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يختم بصدق الله العظيم ولا الصحابة فهي أقرب للبدعة.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا وإياكم على طاعته، وأن يفقهنا في دينه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(244/56)
صدأ النفوس
في هذه الخطبة تحدث الشيخ عن أحوال الصحابة رضوان الله عليهم مع الفقر، مبيناً كيف صبروا على ذلك ولم يفتنوا في دينهم بسبب الفقر، ثم تكلم عن أحوالهم وقد فتحت لهم الدنيا على مصراعيها، وأتتهم الأموال من كل حدب وصوب، فلم يتغيروا أبداً، وإنما أدوا حق الله في شكر تلك النعم، وهذا بخلاف ما عليه المسلمون اليوم الذين أغناهم الله فتكبروا وتجبروا، وطغوا وأفسدوا إلا من رحم ربك.(245/1)
ما الفقر أخشى عليكم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: إن فتنة المال من الفتن العظيمة التي وقع فيها المسلمون، وفتنة الجاه من الفتن الكبيرة التي أودت بكثير من أخلاق المسلمين، هذه الفتنة التي عظم رسول الله صلى الله عليه وسلم شأنها فقال: (إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال)، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يخشى على أصحابه الفقر، (لا الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم) تنشغلون بالدنيا وبالأموال، فتفتنون فيصبكم ما أصاب الأمم من قبلكم.
أيها المسلمون: مالنا نرى اليوم كثيراً من الناس إذا أصابتهم نعمة من الله كفروا، وإذا وسع الله عليهم شيئاً من معيشتهم نسوه سبحانه وتعالى، وإذا أعطاهم الله وظيفة أو جاهاً تكبروا على عباد الله.
ما هو السبب الذي يجعل كثيراً من النفوس تصاب بهذه المصيبة الكبيرة؟ أو رجل يزاد له في دخله شيء أو يتجر تجارة أو تكثر أمواله بوجه من الوجوه، فتخرب نفسه ويتعالى على عباد الله، ويقطع الرحم، ويتكبر في الأرض، ويفسد فيها ويعلو علواً كبيرا؟!(245/2)
الصحابة وحالهم مع الفقر
لا بد لنا من رجعة إلى حال الصحابة رضوان الله عليهم، وعلى رأسهم نبي الله صلى الله عليه وسلم، لنرى كيف عاشوا قبل أن تفتح عليهم الدنيا، وكيف كانوا وصاروا بعد أن فتحت عليهم الدنيا.
إن الصحابة رضوان الله عليهم كثيراً منهم قد أدرك الحالين: حال الفقر وحال الغنى، فكيف كان حالهم في وقت الفقر وكيف صار حالهم في وقت الغنى، هل تغيرت نفوسهم؟ هل اضطربت أحوالهم؟ هل رجعوا وارتدوا على أعقابهم؟ كان حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قبل الفتوحات حالاً شديداً، قال صلى الله عليه وسلم: (لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، وأخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة مالي ولـ بلال من طعام -ليس لي ولـ بلال طعام- إلا شيء يواريه إبط بلال)، قالت عائشة: (ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام بر ثلاث ليال تباعاً حتى قبض) ما شبعوا من طعام البر ثلاث ليالٍ متوالية، ما مر عليهم، وقالت: (ما أكل آل محمد صلى الله عليه وسلم أكلتين في يوم إلا إحداهما تمر) وقالت: (كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه ناراً إنما هو التمر والماء، إلا أن نأتي باللحيم -واللحيم تصغير لحم- من الجيران أو الصحابة الذين يهدون إلى النبي صلى الله عليه وسلم) قالت لابن أختها عروة: (يا بن أختي! إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار)، قال قتادة: (كنا عند أنس وعنده خباز له بعد ذلك، قال: ما أكل النبي صلى الله عليه وسلم خبزاً مرققاً ولا شاة مسموطة حتى لقي الله).
كان أهل الصفة فقراء، ليس لهم مأوى فينامون في المسجد، يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإضافتهم ويأخذ معه بعضاً منهم إلى بيته، ويدخل النبي صلى الله عليه وسلم على أهله فيقول: (عندكم طعام؟ فيقولون: لا.
فيقول: إني إذاً صائم).
ولما أراد الصحابي أن يتزوج لم يجد مهراً ولا خاتماً من حديد، ليس له إلا إزاره يواري به عورته، لو أعطاه للمرأة لم يغنِ عنها شيئاً وبقي هو بغير ثياب.
عن عائشة قالت: (دخلت امرأة معها ابنتان لها تسأل -محتاجة ومسكينة- فلم تجد شيئاً عندي غير تمرة) -يا أيها المسلمون! اتعظوا! بيت النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه إلا تمرة- فأعطيتها إياها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها، ثم قامت فخرجت فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا فأخبرته فقال: من ابتلي بهذه البنات بشيء كن له ستراً من النار) فقم بتربيتهن -يا أبا البنات- واحفظهن يحفظك الله في الدنيا والآخرة.
كان الصحابة يقدم عليهم إخوانهم من سائر النواحي فقراء مطاردين مشردين، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (يا معشر المهاجرين والأنصار! إن من إخوانكم قوماً ليس لهم مال ولا عشيرة، فليضم أحدكم إليه الرجلين والثلاثة) هذا شيء يسير جداً من حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ما شبعوا من التمر إلا بعد معركة خيبر، أما غير ذلك فلم يكونوا يرون الطعام إلا يسيراً، وكانت خفافهم مشققة وثيابهم مرقعة رضوان الله عليهم، يجاهدون في سبيل الله ولو لم يجدوا في طريق الجهاد إلا ورق الشجر.(245/3)
الصحابة وحالهم مع الغنى
وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم ومحاربة أهل الردة بدأت الفتوحات شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، بدأت الفتوحات فانهالت الأموال على الصحابة لما فتحوا المدائن وهي مستقر كسرى وعاصمة مملكته، ومكان كرسيه وعرشه، أخذوا تاج كسرى وهو مرصع بالجواهر، وبساطه منسوج بالذهب واللآلئ ومصورة فيه جميع ممالك كسرى، بأنهارها وقلاعها وأقاليمها، وكان كسرى إذا جاء يدخل تحت تاجه، ويجلس على عرشه وتاجه معلق بسلاسل الذهب، لأنه لا يستطيع حمله على رأسه من ثقله وكثره ما فيه من الذهب والجواهر المرصعة، وملابس كسرى مرصعة بالجواهر، لما قاتل الصحابة الفرس فهزموهم وأخمد الله نار المجوس وجدوا تاج كسرى وبساطه واللآلئ والجواهر، ووجدوا دوراً مليئة بأواني الذهب والفضة، ووجدوا كافوراً كثيراً جداً ظنوه ملحاً خلطوه بالعجين فصار العجين مراً، فعرفوا أنه ليس بملح.
لما قسم سعد الغنائم حصل الفارس اثنا عشر ألفاً وكانوا كلهم فرسان، كانوا في معركة بدر ليس معهم إلا فارس، وبعضهم يتعاقبون بعيراً وبعضهم مشاة حتى عقلة البعير لا يجد، وبعث سعد أربعة أخماس البساط إلى عمر، فلما نظر إليه عمر قال: [إن قوماً أدوا هذا لأمناء، فقال علي: إنك عففت فعفت رعيتك، ولو رتعت لرتعوا، ثم قسم عمر البساط على المسلمين، فأصاب علياً قطعة من البساط فباعها بعشرين ألفاً].
توالت الأموال على الصحابة، غنائم جهاد، وأعطيات، وعمر يعدل ويقسم على المسلمين، وعمر كيف كان حاله؟ الصحابة بعد الفتوحات والغنائم -يا أيها المسلمون- كيف صار حالهم؟ لما فتحت عليهم الدنيا كيف كان حالهم؟ خليفتهم كان في إزاره اثنتا عشرة رقعة، وفي ردائه أربع رقع كل رقعة مختلفة عن الأخرى وكان باستطاعته أن يأكل لحماً مشوياً كل يوم، ولكنه كان يأكل زيتاً وكان يأكل خبزاً وملحاً، ويرفض أن يأكل من الطعام الهنيء، ورفض أن يجلس على الفراش الوثير، ونام في المسجد، حتى دخل مرسول من الكفرة فرآه في المسجد قال: عدلت فأمنت فنمت يا عمر.
كيف كان حال الصحابة بعد أن صاروا أمراء على البلدان، هل طغوا وبغوا؟ هل غيرتهم الأموال؟ هل غيرتهم الدنيا؟(245/4)
خباب يحكي حال الصحابة
روى البخاري رحمه الله عن أبي وائل قال: عدنا خباباً -وخباب أصابه ما أصابه في مكة، أحرق ظهره بأسياخ الحديد ومع ذلك عاش حتى رأى الفتوحات- قال خباب: هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نريد وجه الله، ما أردنا مالاً ولا شيئاً من الدنيا فوقع أجرنا على الله تعالى من مكة إلى المدينة، فمنا من مضى ولم يأخذ من أجره شيئاً -هذا خباب يتكلم بعد أ، تدفقت الأموال- فمنا من مضى ولم يأخذ من أجره شيئاً، منهم مصعب بن عمير الذي مات قبل الفتوح فوفى الله له أجره كاملاً، لم يأخذ منه شيئاً في الدنيا، قال خباب: منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد وترك نمرة فإذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه وإذا غطينا رجلاه بدا رأسه، فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه، ونجعل على رجليه شيئاً من الإذخر، ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها، ومنا من جاءته الأموال، أينعت له الثمرة فهو يقطفها، هذا الصحابي يذكر نفسه ويذكر الحاضرين، ويذكر هذا الحديث ما كان عليه الصحابة من الصدق في وصف أحوالهم، يقول: منا من مات في فتح البلاد فتوفر له ثوابه كاملاً، ومنا من بقي حتى نال من طيبات الدنيا حتى خشينا أن حسناتنا قد عجلت لنا، وأن أجر الطاعة قد جاءنا منه شيء في الدنيا، وأنه نقصنا من الآخرة شيء، ولذلك كان عمر يتجنب هذا ويقول: إن قوماً قال الله فيهم: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف:20].
روى البخاري بإسناده عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: أتي بطعام وكان صائماً - عبد الرحمن بن عوف من كبار الأغنياء، قال لما قرب إليه الطعام، فنظر إلى الطعام الشهي- قال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني -هذا من تواضع عبد الرحمن رضي الله عنه، مع أنه أفضل من مصعب - وكفن في بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه وإن غطت رجلاه بدت رأسه.
وأراه قال: وقتل حمزة وهو خير مني ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا قد عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام، ما تغيرت نفوسهم والله، ولا تبدلت، ولا بطروا، ولا أشروا، وإنما تواضعوا لله، كانوا يذكرون على الطعام إخوانهم القتلى قبل الفتوحات.(245/5)
فضالة بن عبيد وحاله أثناء الإمارة
عن عبد الله بن بريدة: أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رحل إلى فضالة بن عبيد - فضالة بن عبيد هذا صحابي جليل، وهو بـ مصر صار أميراً على مكان- فقدم عليه وهو يمد ناقة له، الأمير يسقي الناس مديداً من الماء، فقال: إني لم آتك زائراً وإنما أتيتك لحديث بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجوت أن يكون عندك منه علم، فرآه شعثاً -المسافر القادم رأى أمير البلد شعثاً متفرق الشعر- فقال: مالي أراك شعثاً وأنت أمير البلد؟! قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهانا عن كثير من الإرفاه، يعني: التدهن والتنعم -وشبابنا اليوم بالكريمات والشعر بالاستشوار وصالونات الحلاقة، وهذا أمير البلد فضالة بن عبيد شعره متفرق، والتنعم والدعة ولين العيش خطير على الأمة إذا تفشى فيها، هل يرجى منها الجهاد أو الوقوف أمام الأعداء؟ كلا والله- ورآه حافياً، فقال: مالي أراك حافياً؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نحتفي أحياناً - أحياناً نحتفي لنشعر بالخشونة، هذا الأمير يحتفي، ما تغيرت أحوالهم بل بقوا على إيمانهم، إنهم تربية محمد صلى الله عليه وسلم، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، حتى لما جاءتهم الدنيا ما تغيروا.(245/6)
أبو هريرة بعد تولي الإمارة
عن محمد قال: [كنا عند أبي هريرة فتمخط فمسح في ردائه، وقال: الحمد لله الذي تمخط أبو هريرة في الكتان] هذا بعد الفتوحات، وصار أبو هريرة أميراً وقال: [الحمد لله الذي تمخط أبو هريرة في الكتان، لقد رأيتني وإني لأخر فيما بين منزل عائشة والمنبر مغشياً علي من الجوع، فيمر الرجل فيجلس على صدري فأرفع رأسي فأقول: ليس الذي ترى إنما هو الجوع] أي: يظنه مصروعاً فيه جني، فيجلس على صدره ليرقيه ويقرأ عليه فيقول أبو هريرة: ليس هناك جنون ولا جن ما هو إلا الجوع- قال أبو هريرة: [والله إني كنت لأعتمد بكتفي على الأرض من الجوع، وكنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، لقد رأيتني وإني لأخر ما بين المنبر والحجرة من الجوع مغشياً علي فيأتي الآتي فيضع رجله على عنقي، يرى أن بي الجنون وما بي إلا الجوع].
ماذا صار حال أبي هريرة بعدما صار أميراً؟ عن ثعلبة بن أبي مالك القرضي قال: أقبل أبو هريرة في السوق -صار أميراً على البلد في عصر الفتوحات- يحمل حزمة حطب وهو يومئذ خليفة لـ مروان، فقال: أوسعوا الطريق للأمير، أو في رواية يقول: طريق للأمير، طريق للأمير، طريق للأمير، والأمير يحمل حزمة من الحطب على ظهره.
فهل تغيرت أحوالهم بعد الأموال والمناصب؟ ما تغيرت أحوالهم، فكيف حال المسلمين اليوم؟ تأتيه وظيفة أو يصبح موظفاً بعد أن كان طالباً، أو ينجح في شيء من التجارة، انظر إليهم في فسقهم وماذا يفعلون؟ انظر إلى حالهم لتعلم فتنة المال.(245/7)
الصحابة ينفقون أموالهم في سبيل الله
كان عند أنس خباز يخبز له، وربما صنع له لونين من الطعام، وخبزاً حوارياً -يعني: نقياً منخولاً- يجيء إليه الضيوف يكرم الضيوف يأتي بالخباز يصنع ويطبخ لهم، هذا في عصر الفتوحات، قال قتادة: [كنا نأتي أنس وخبازه قائم ويقول: كلوا -وهذا إكرام للضيف- يقول: كلوا أنتم كلوا فما أكل النبي صلى الله عليه وسلم خبزاً مرققاً ولا شاة مسموطة -وهي الذبيحة الصغيرة الطرية التي تشوى- حتى لقي الله عز وجل].
كل ما تقدم من الأحاديث في صحيح البخاري أو هو حديث صحيح، وقال عروة: [بعث معاوية مرة إلى عائشة بمائة ألف درهم فقسمتها ولم تترك منها شيئاً، فقالت بريرة خادمة عائشة: أنت صائمة فهلا ابتعت لنا منها بدرهم واحد من المائة ألف من أجل طعام الإفطار، فقالت عائشة: لو ذكرتيني لفعلت] وتصدقت بسبعين ألف درهم وإنها لترقع جاني درعها رضي الله عنها.
وزار أبو هريرة قوماً فأتوه برقاق فبكى قال: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا بعينه.
ومن أعظم الأحوال خطبة عتبة بن غزوان في صحيح مسلم، وهو أمير البصرة قال في خطبته للناس: [ولقد رأيتني سابع سبعة -أسلم سابع واحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم- مالنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا، فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك، فأتزرت بنصفها وأتزر سعد بنصفها، فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميراً على مصر من الأمصار، وإني]-الآن هذا الكلام يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، قاله الأمير في الخطبة بعد أن بين حاله السابق- ثم قال: [وإني أعوذ بالله أن أكون عظيماً وعند الله صغيراً] أعلم القوم بأول حاله وآخره إظهاراً للتواضع وتحدثاً بنعمة الله وتحذيراً من الاغترار بالدنيا.
أيها المسلمون: هل يكون في هذا الحال وفي هذا الوصف عظة للمتعظ، وعبرة للمعتبر، ومانعاً لنا من الكبر إن أصابنا شيء من الدنيا، أو نعمة المال أو التجارة، أو المناصب والوظائف؟! هذا حال الصحابة ربما أتاهم من المال أكثر مما أتانا، لكن ما تغيروا رضي الله عنهم، بل بقوا على حفظ العهد الذي عاهدوا به محمداً صلى الله عليه وسلم.
اللهم إنا نعوذ بك من فتنة المال ونعوذ بك من فتنة الجاه ونعوذ بك من فتنة المحيا والممات، اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(245/8)
حال الأمة اليوم مع الأموال والثراء
الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير إنه على كل شيء قدير، وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد السراج المنير سيد الزاهدين وإمام العابدين وسيد ولد آدم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه إلى يوم الدين.
أيها المسلم: إذا رأيت الغني يصف حاله أيام فقره، ويذكر نعمة ربه، فهذا فيه خير كثير.
قال غني لأولاده: كنا أيام الفقر في الحر ينزع أحدنا ثوبه ينقيه وينفضه من القمل، القمّل التي كانت تعلق به، وإذا رأيت الغني يقول: ورثت هذا كابراً عن كابر، فاعلم أن الخير من نفسه منزوع، وأن نصيبه من الرحمة والتواضع مفقود.
وتلك قصة الثلاثة الذين أنعم الله عليهم؛ هذا بقطيع من الإبل، وهذا بقطيع من البقر، وهذا بقطيع من الغنم، وزال من كل واحد عيبه؛ زال الصلع، وزال العمى، وزال البرص، فماذا قال الأول والثاني: ورثته كابراً عن كابر، والأعمى قال: خذ ما شئت، هذا مال الله أعطاني إياه، خذ منه ما شئت، ما أمنعك من شيء منه أبداً.(245/9)
عدم المبالاة من أي باب جمع المال
أيها المسلمون: إن من أشراط الساعة أن يفيض المال، ففي بعض بلدان المسلمين فاض المال، فهل شكروا نعمة الله أم ماذا فعلوا بالمال؟ فجروا وطغوا وبغوا وكفروا بنعمة الله، ولذلك يستحقون ما أصابهم من خوف، ويستحق المسلمون ما يصيبهم من جوع وفقر وسلب نعمة وتحول عافية وزوال، وسيسيرون في الطريق حتماً إن استمروا على ذلك، ثم إن الناس لم يعودوا يبالون أكلوا من الحلال أو من الحرام، قال صلى الله عليه وسلم: (ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال أمن حلال أمن حرام) حديث صحيح رواه البخاري وغيره.
وفي رواية: (يأتي على الناس زمان لا يبالي الرجل من أين أصاب المال من حلال أو حرام) وهؤلاء الناس اليوم لا يبالون، يظلم، أو يأخذ راتب عمال، أو أسهم بنوك، أو شركات محرمة، لا يبالون بما أخذوا من حلال أو من حرام، غصب أموال، أخذ حقوق أيتام، وهكذا، صدق نبي الله صلى الله عليه وسلم، وصار الجشع والشرة في الناس عظيماً، يتنافسون على الدنيا ويتقاتلون وقد يشتكي الابن أباه في المحكمة، (يا أبا ذر! أترى أن كثرة المال هو الغنى، إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب، من كان الغنى في قلبه فلا يضره ما لقي من الدنيا، ومن كان الفقر في قلبه فلا يغنيه ما أكثر له في الدنيا، وإنما يضر نفسه شحها) قاله صلى الله عليه وسلم، وقال صلى الله عليه وسلم (اثنتان يكرهما ابن آدم -اسمع أيها الفقير، أو يا صاحب الدخل المحدود، أو الذي لا يكفيه راتبه اسمع- (اثنتان يكرههما ابن آدم: يكره الموت والموت خير له من الفتنة، ويكره قلة المال وقلة المال أقل للحساب).
ولذلك الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، لأن أصحاب الجد محبوسون يحاسبون على الأموال، فلا تجزع إذاً إذا فاتك شيء من الدنيا.
المهم -أيها المسلمون- أننا إذا أصابتنا نعمة من الله حمدنا الله وشكرناه وعرفنا حقه في نعمته، وإذا ابتلينا صبرنا ولم نجزع لفوات شيء من الدنيا، الدنيا ملعونة ملعونة ملعونة، هل نريد أكثر من هذا؟!! الدنيا ملعونة، هكذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً أو متعلماً).(245/10)
وقفة مع المسافرين
أيها المسافر: اتق الله سبحانه وتعالى وأنت تستعد لسفرك، واجعل نيتك في السفر إرضاء الله وصلة الأرحام وتعليم الجهال ودعوة الأهل والأقارب إلى الله، اصطحب معك من الكتب والأشرطة المفيدة ما تستعين به على هداية أهلك ونشر الخير بينهم في البلاد التي ستذهب إليها، ومن السنة السفر صباح الخميس إن تيسر، وأذكار السفر لا تنساها، وجمع الصلاة وقصرها في طريق السفر من السنة، وصلاة النافلة في السيارة والحافلة والطائرة في السفر من السنة، والتدبر في آيات الله في الأرض وإعانة الرفيق، وإذا قعدت في بلد أكثر من أربعة أيام فقول الجمهور أنك تتم الصلاة، لا تسافرن امرأة بغير محرم، واصطحب معك في طريق البر إذا سافرت من الأشرطة النافعة ما يقطع الطريق وأنت تذكر الله عز وجل.
أكثر من سماع القرآن ودع سماع الأشعار، واذكر الله تعالى عند كل مرتفع وكل منخفض، كبره إذا ارتفعت وسبحه إذا انخفضت، سبحان الله إذا انخفضت تنزيهاً له عن النقائص والعيوب، واعلم أن دعاء المسافر مستجاب، وعجل الرجوع إلى أهلك إذا قضيت حاجتك، هكذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا تطرق أهلك ليلاً إلا بخبر مسبق، والنقيعة: الطعام الذي يصنعه المسافر إذا رجع من سفره شكراً لله وحمداً على السلامة من السنة، وبيع وشراء الأموال: كثير من الناس يحتاجون إلى بيع وشراء العملات وهم في السفر في البلدان التي يسافرون إليها، تذكر أنه يشترط لبيع وشراء العملات الحلال أن تكون يداً بيد، تسلم ريالات وتستلم دينارات، تسلم دولارات وتستلم ليرات، تسلم جنيهات وتستلم ريالات، وهكذا يداً بيد، في أي مكان، سوق بيضاء أو سوداء ينبغي أن يكون التسليم يداً بيد، حتى يكون البيع والشراء جاهزا، ولا تعمل شيئاً فيه مضرة لعموم المسلمين، لقوله صلى الله عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار) واتق الله واحذر من أماكن الفحش، واعلم بأنك موقوف عند الله وسائلك عن البلد الذي سافرت إليه لأي شيء سافرت؟ وماذا فعلت في السفر؟ وكم أنفقت من المال؟ أنت مسئول عند الله.
يقولون لك في تعليمات السفر: اركب وسائل النقل العامة، واحذر من سيارات الأجرة الخاصة حتى لا تكون عرضة للنهب وعمليات السلب، وضع جواز السفر والجواهر والحلي في قسم الأمانات في الفنادق، ونحن نقول: اهتم بحفظ الدين الذي هو أهم من حفظ الأموال وحفظ جوازات السفر، حفظ الدين الذي قصر فيه المقصرون وفرط فيه المفرطون.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا في هذا اليوم من عتقائك من النار، اللهم لا تفرق جمعنا هذا إلا بذنب مغفور وعمل مبرور، اللهم اجعل فيما سمعنا حجة لنا لا حجة علينا، اللهم إنا نسألك أن ترفع البلاء عن المسلمين، اللهم انصر المستضعفين، اللهم ارفع سيف الذل والبغي عن عبادك الصالحين، اللهم انصر المجاهدين واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم دمر اليهود ومن شايعهم، اللهم من ولاهم على ظلمهم أو كان معهم في فسقهم وبغيهم فدمره تدميراً وخذه أخذ عزيز مقتدر إنك أنت العزيز الجبار، نسألك بكل اسم هو لك أن ترحمنا وتجعلنا من عتقائك من النار.(245/11)
عالم الأرواح
ما حقيقة الروح؟ كيف تنظر إليها الشريعة؟ ما علاقتها بالإنسان؟ ما حقيقة تعلقها بالجسد وانفصالها عنه؟ هذه المادة محاولة جادة للإجابة عن هذه الأسئلة، وخطوة في طريق فقه هذه المسألة، ابتداءً من تعارف الأرواح وتناكرها، ثم علاقة الملائكة بالروح أثناء الموت وبعده، ومصير الروح بعد الموت، وبيان تلاقي الأرواح مع بعضها.(246/1)
حقيقة الروح وبعض أحكامها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فإن علم الروح قد اختص به الله سبحانه وتعالى كما جاء في صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث بـ المدينة وهو يتوكأ على عسيب، فمر بنفرٍ من اليهود، فقال بعضهم: سلوه عن الروح، وقال بعضهم: لا تسألوه لا يسمعكم ما تكرهون؛ فقاموا إليه، فقالوا: يا أبا القاسم! حدثنا عن الروح؛ فقام ساعة ينظر، وفي رواية: رفع بصره إلى السماء، قال ابن مسعود رضي الله عنه: فعرفت أنه يوحى إليه، فتأخرت عنه حتى صعد الوحي، ثم قال: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85]) فالروح من أمر الله سبحانه وتعالى، ولذلك كان الذي يشابه صنعة الله ويحاول تقليدها في عمل ذوات الأرواح من التماثيل والصور إنساناً ملعوناً عند الله تعالى: (لعن الله المصورين) ثم إنه يكون له بكل صورة صورها نفساً يعذب بها في جهنم، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم، انفخوا فيها الروح، فلا يستطيعون ذلك؛ فيعذبون بالنار ويعذبون بالتكليف بما لا يطيقون ولا يستطيعون.
وأمر الروح أمر معظم في الشريعة، فلا يجوز تعذيب الأرواح المعصومة ولا أرواح البهائم، ولذلك قال: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة)، وجاء في الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه أنه خرج من منزله، فمر بفتيان من قريش نصبوا طيراً يرمونه -يتدربون على رميه بالسهام من بعيد- وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا -أي: خوفاً من الصحابي- فقال ابن عمر: (من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً).
أي: هدفاً لرميه، رواه البخاري رحمه الله وغيره.(246/2)
عالم الأرواح بين التآلف والاختلاف
نحن نعيش في عالم الماديات والمحسوسات قد غابت عنا أمور كثيرة من شأن الأرواح وما يحدث لها، مع أنه حق وواقع، فتعالوا بنا ننتقل من عالم الأسواق والسلع والطائرات والمراكب والملابس والأطعمة والأدوية وسائر الماديات إلى عالم الأرواح لنأخذ جولة في ذلك العالم العجيب، لعله يكون في ذلك رقة تصيب قلوبنا، وتنقلنا من هذا الواقع الذي نعيشه يومياً إلى عالم آخر مختلف تمام الاختلاف ذكره لنا الله في كتابه وذكره نبيه صلى الله عليه وسلم، وشهد به الواقع؛ لنتعلم شيئاً عن أمر هذه الروح العجيبة لقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن (الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) كما جاء في الحديث الصحيح، وهو عجب من العجب! فإنك ترى الإخوان في الله على بعد ما بينهما، أحدهما في المشرق والآخر في المغرب، يعيشان كأنهما معاً من التقاء الروحين، بما حدث من التقارب بسبب الأخوة في الله، وتشاكل الطباع وتناسبها.(246/3)
أنواع تعلق الأرواح بالأجساد
ثم إن الله عز وجل يقبض الأرواح عند النوم فيكون لها تعلقٌ بالأجساد من نوع يختلف عن حال اليقظة؛ لأن الأرواح تتعلق بالجنين حينما يرسل الملك لينفخ الروح، فإذا خرج إلى الدنيا وصار إنساناً يمشي أو يبكي ويبحث ويأكل الطعام صار لها تعلق آخر، فإذا نام صار لها تعلق آخر، فإذا مات صار لها تعلق آخر فإذا بعث صار لها تعلق آخر، وهكذا يتقلب الإنسان مع روحه في أطوار مختلفة: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق:19] أي: حال بعد حال.
وقد نام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في السفر بعدما تكفل بلال بإيقاظهم لصلاة الفجر فغلبه النوم، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم وقد طلع حاجب الشمس، فقال لأصحابه: (إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها عليكم حين شاء، يا بلال! قم فأذن بالصلاة) الحديث، ولذلك يقول المسلم حينما يقوم من فراشه إذا اضطجع قبل ذلك: (باسمك ربي، وضعت جنبي وبك أرفعه، فإن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)، فإذا استيقظ فليقل: (الحمد لله الذي عافاني في جسدي، ورد عليَّ روحي، وأذن لي بذكره) حديث صحيح يدل على أن الروح تخرج من الجسد عند النوم، ولكن يبقى لها معه تعلق واتصال، ولذلك يستمر في التنفس والحياة، وإلا فلو كان خروجاً كلياً كخروجها عند الموت لكان لجسده شأن آخر فيما يحدث له من البلى والفناء إلا عجب الذنب الذي يُركب منه الخلق يوم القيامة.(246/4)
عمل الملائكة عند الموت
لقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ملك موكل بقبض الأرواح يرسله الله تعالى إلى من شاء، لا يحبسه حابس ولا جدار، يدخل على الفقراء والأغنياء والملوك فيقبض أرواحهم، أرسله إلى موسى فشمه شمة فقبضت روح موسى كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد شيء حصل بينهما، يرسله الله إلى الأنبياء وغيرهم ليقبض الأرواح، وله ملائكة يعاونونه، ويحضر عند الموت ملائكة الرحمة وملائكة العذاب بحسب حال المحتضر، وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن جهة خروج الروح تكون من قبل الرأس لا من غيره، وقد قال في الحديث الصحيح لما دخل على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (إن الروح إذا قبض تبعه البصر، فضج ناس من أهله، فقال: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون) فيكون خروج الروح من الجهة العلوية، والبصر يتبع الروح، ولذلك تجد الميت شاخصاً ببصره إلى الأعلى إلى جهة أعلى الرأس مكان خروج الروح.
هذه الأرواح تجعلها الملائكة في أكفان من الجنة إذا كان أصحابها من أهل الجنة، وفي أكفان من النار إذا كان أصحاب الأرواح من أهل النار.(246/5)
مصير أرواح الشهداء
أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن أمورٍ عجيبة تتعلق بالروح، ومن ذلك ما يكون للشهداء، قال صلى الله عليه وسلم: (أرواح الشهداء في طير خضر تعلق من ثمر الجنة) الطير تأكل من ثمر الجنة، وأرواح الشهداء في أجوافها.
وكذلك جاء في الحديث الصحيح عن مسروق قال: (سألنا الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله عن هذه الآية: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] قال: أما إنا قد سألنا عن ذلك، فقال: أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل -قناديل معلقة بالعرش تأوي إليها أرواح الشهداء- فاطلع إليهم ربهم اطلاعة -فهنيئاً لمن اطلع الله عليه- فقال: هل تشتهون شيئاً؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ -ففعل ذلك بهم ثلاث مرات- فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب! نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أنهم ليس لهم حاجة تركهم) حديث صحيح.
هذه الروح جاء في الحديث الصحيح أنها تصعد وتهبط، وأنها تهوي وتتلقى (تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم، فقالوا: هل عملت من الخير شيئاً؟ قال: لا، قالوا: تذكر! قال: كنت أداهم الناس فآمر فتياني أن يُنظروا المعسر ويَتجوزوا عن الموسر.
قال الله عز وجل: تجوزوا عنه، تجوزوا عنه) هذا لفظ مسلم رحمه الله تعالى.(246/6)
خروج الروح من البدن
الروح في البدن لها عند خروجها قعقعة وشنشنة واضطراب في نفس المحتضر؛ ولذلك لما أرسلت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيها، فأرسل إليها معزياً (إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده إلى أجل مسمى فمرها فلتصبر ولتحتسب) فأقسمت عليه أن يأتيها وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبر بقسم المقسم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام معه الصحابة: معاذ وأبي وعبادة، فلما دخلنا ناولوا الصبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وروحه تقعقع في صدره -الروح تضطرب في الصدر عند الاحتضار- قال: حسبته قال: كأنها شنة -القربة القديمة- فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم تأثراً لحال الصبي الذي يحتضر.
فقال له عبادة: ما هذا يا رسول الله؟ قال: (الرحمة التي جعلها الله في بني آدم، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء).
إن هذه الروح يا عباد الله تتأثر بشيء عظيم عند الموت وهو شهادة أن لا إله إلا الله كما جاء في الحديث الصحيح أن عمر رضي الله عنه مر بـ طلحة وهو حزين، فسأله عن سبب حزنه؟ فأخبره طلحة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إني لأعلمٍ كلمة لا يقولها أحد عند موته إلا كانت نوراً لصحيفته، وإن جسده وروحه ليجدان لها روحاً عند الموت رحمة وفرجاً وتنفيسا، فلم أسأله حتى توفي -يقول طلحة حزيناً- قال عمر: أنا أعلمها، هي التي أراد عمه عليها -لا إله إلا الله- قال طلحة: صدقت).
عباد الله: إن هذه الروح تصعد وتنزل، وتتصل وتنفصل، وتخرج وتذهب وتجيء، وتتحرك وتسكن، كما ورد ذلك في الأحاديث الصحيحة والآيات التي جاءت من عند ربنا، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تصعد إلى السماء، ويصلي عليها كل ملك لله بين السماء والأرض إذا كان صاحبها طيباً من الصالحين، وتُستقبل استقبالاً عظيماً، وتفتح لها أبواب السماء، ويشيعها من كل سماء مقربوها إلى السماء التي بعدها، يعرجون معها تكريماً وتشريفاً، ويفتح لها باب السماء الثانية والثالثة وهكذا، حتى تنتهي إلى السماء التي فيها الله عز وجل ليقول الله لها: صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة -يكون فراشه من الجنة- وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، هكذا تشرف روح المؤمن.
أما العبد الفاجر صاحب الكبائر، والمصر على الصغائر، الذي ليس له حسنات ماحية، ولا أمور مكفرة لهذه السيئات فأي استقبالٍ يستقبله؟ إن روحه تصعد إلى السماء بعد أن يستلمها ملائكة العذاب، فتغلق أبواب السماء دونها، ويقول الله: كذب عبدي، ويرد إلى الأرض فيطرح طرحاً من الأعلى إلى الأسفل يهوي من السماء إلى الأرض: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31].(246/7)
عودة الروح إلى البدن
عباد الله! إن لهذه الروح شأناً إن هذه الروح التي تخرج عند الموت تعود إلى الجسد ليقع العذاب والنعيم على الجسد والروح معاً، إنها ترجع للسؤال تعاد روحه في جسده ليأتيه الملكان فيجلسانه ليسألانه عن هذه الأمور المذكورة في الذكر الذي ينبغي أن يردد صباحاً ومساء: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً.
عباد الله! دلت الأحاديث والنصوص على أن الروح تعود إلى البدن ليقع العذاب أو النعيم على هذه الروح التي تكون في البدن في القبر كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، ولذلك نعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن إنساناً لو أُحرق حرقاً بالنار وذر رماداً في يومٍ عاصفٍ عند البحر لجمعه الله وأوقع العذاب أو النعيم على روحه وبدنه، وكذلك لو تخطفته الطير.(246/8)
الأدلة على عذاب القبر
دلت النصوص على عذاب القبر ونعيمه، ومنها: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير)، وقبل ذلك قول الله: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] وعذاب البرزخ مذكور في القرآن والسنة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الكفار يعذبون، وأنهم يعذبون عذاباً تسمعه البهائم، لا يسمعه الجن ولا الإنس، وقد شهد الواقع بذلك أيضاً، حتى قال بعض أهل العلم: لهذا السبب يذهب الناس بدوابهم إذا مغلت -أكلت التراب مع البقل- فأصابها شيء في بطنها إلى قبور اليهود والنصارى والمنافقين كـ الإسماعيلية والنصيرية والقرامطة من بني عبيد وغيرهم الذين بأرض مصر والشام، فإن أصحاب الخيل التي أصابها هذا الداء كانوا يقصدون قبورهم، فإذا سمعت الخيل عذاب القبر أحدث ذلك لها فزعاً وحرارة تذهب بذلك المغل الذي حدث لها في بطنها، وقد ذكر بعض أهل العلم وهو الحافظ عبد الحق الإشبيلي رحمه الله في شرحه لـ صحيح مسلم، لما وصل مع الطلاب إلى الحديث الذي فيه عذاب القبر أخبرهم بالقصة التي حدثت أن دابة أتت إلى قبرٍ من القبور فألصقت أذنها به ثم تراجعت إلى الوراء، ثم ذهبت إلى القبر فألصقت أذنها به ثم تراجعت إلى الوراء، فعلت ذلك مراراً، ومن يسأل بعض الرعاة الذين ربما يرعون حول المقابر أو يمرون ببهائهم على المقابر لسمع من ذلك أحداثاً عجيبة.(246/9)
الأعمال التي تنفع الإنسان في قبره
عباد الله: إن الذي ينفع الإنسان في قبره هو عمله الصالح، ولذلك جاء في الحديث الصحيح إن شاء الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الميت إذا وضع في قبره يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه، فإن كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه، والصيام عن يمينه، والزكاة عن شماله، وفعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان عند رجليه، فيؤتى من قبل رأسه، فتقول الصلاة: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى من يمينه، فيقول الصيام: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى من يساره، فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل -لا يمكن الاختراق من هذه الجهة- ثم يؤتى من قبل رجليه، فيقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان: ما قبلي مدخل.
فيقال له: اجلس، فيجلس قد مثلت له الشمس وقد أخذت بالغروب، فيقال له: ما هذا الرجل الذي كان فيكم؟ ما تقول فيه وما تشهد به عليه؟ فيقول: دعوني حتى أصلي -لأنه كان متعوداً على إدراك صلاة العصر، لا يضيعها حتى تغيب الشمس- فيقولون: إنك ستصلي، أخبرنا عما نسألك عنه، ثم يجيبهم بعد ذلك عن هذه الأسئلة التي طرحوها عليه) حديث حسن، رواه ابن حبان رحمه الله تعالى.
وكذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن المؤمن إذا حضره الموت حضرته ملائكة الرحمة)، قال في الحديث الصحيح: (عند صعودها إلى السماء يقول أهل السماء: روح طيبة جاءت من قبل الأرض، صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه، فينطلق به إلى ربه عز وجل، ثم يقول: انطلقوا به إلى آخر الأجل، وإن الكافر إذا خرجت روحه من نتنها -وذكر الراوي لعناً يحصل- ويقول أهل السماء: روح خبيثة جاءت من قبل الأرض، ويأمر بها إلى آخر الأجل) رواه مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه.
عباد الله: إن هذه الأشياء التي تقع على الروح وإن كنا لا ندركها فإنها واقعة حقاً حقاً؛ لأن ذلك قد جاء في الأخبار الصحيحة من أنها تبلغ الحلقوم، وأن الإنسان يغرغر إذا بلغت الروح الحلقوم إنها جاءت الأخبار بأنها تصعد إن الأخبار قد جاءت بأن العذاب والنعيم يقع، ولو أن إنساناً قال لك: لقد نبشت قبراً بعد وفاة صاحبه الكافر فوجدت بدنه سليماً، إنهم يحنطون أجساد موتاهم ويجعلونها في توابيت، وربما جعلوها في المتاحف والمزارات، ولا نرى قبضاً ولا هصراً ولا عصراً، بل نرى صدور هؤلاء الأموات سليمة لم يحصل لها شيء؟! نقول له: لقد خرجت المسألة الآن من عالم المحسوسات وصارت في عالم الغيب، ونحن لا نطلع عليه ولا نرى ولا نحس، ولكن العذاب واقع ولا بد على مثل هؤلاء الكفار، نسأل الله السلامة والعافية.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وثبتنا في قبورنا، اللهم ارحمنا فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض إنك على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(246/10)
أماكن أرواح الصالحين بعد موتهم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين، لا إله إلا هو يفعل ما يشاء، أشهد أنه الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أن محمداً رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، هو الرحمة المهداة، والبشير النذير، والسراج المنير، أرسله الله إلينا، علمنا فأحسن تعليمنا، وأدبنا فأحسن تأديبنا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله! إن هذه الروح يكون لها مواقف شتى في أمكنة مختلفة قد جاءت في الأحاديث الصحيحة، فإن قلت يا عبد الله: أين تكون الأرواح إذا خرجت؟ فإن النصوص قد جاءت بأن منها ما يكون في حواصل طير خضر تسرح في الجنة، وجاء في بعض النصوص بأنها تكون عن يمين آدم وعن يساره أرواح أيضاً، فعن يمينه أسمدة (وهي أرواح المؤمنين)، وعن شماله أفئدة (وهي أرواح الذين كتب الله عليهم العذاب)، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن شخص بعد الموت محبوس على باب الجنة، فقال: (رأيت صاحبكم محبوساً على باب الجنة) وفي الحديث الصحيح: (ومنهم من يُحبس في قبره بسبب الدين، ومنهم من حبس في قبرة في غلة غلها)، ومن الأرواح ما يكون مقره عند باب الجنة كما جاء في حديث ابن عباس: (الشهداء على بارق) ما هو بارق؟ (قال: نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرةً وعشياً) حديث صحيح.
إذاً: الأرواح منها أرواح في مراتب عليا تسرح في الجنة في مراتب عليا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ومنها ما يكون على بارق -نهر بباب الجنة- يخرج رزقهم من الجنة إليهم بكرة وعشياً، ومنها ما يكون في قناديل، أو منها ما يكون آوياً تحت العرش يأوي إلى تحت العرش كما جاء في الحديث أيضاً عن أرواح المؤمنين أنها معلقة، أنها تكون تحت العرش، ومن الأرواح ما يكون محبوساً في الأرض لا يرفع إلى الملأ الأعلى، ومنها ما يكون محبوساً في تنور من نار يأتيهم النار من أسفل فيضجون ويصيحون، وهؤلاء هم الزناة والزواني، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حالهم في الحديث الصحيح (أرواح الزناة والزواني تحبس في تنور من نار يعذبون إلى أن تقوم الساعة) هذا عذابهم في البرزخ، وكذلك أكلة الربا الذين رآهم النبي صلى الله عليه وسلم يسبحون في نهر الدم ويلقمون الحجارة، ويسبحون والحجارة في بطونهم في نهرٍ من دم منتن كما كانوا يأكلون الربا في الدنيا.
عباد الله! إذاً الأرواح أحوال مختلفة في أماكن مختلفة، ولكن يبقى لها اتصال بالبدن، ولو كانت تطير وتسرح في أنهار الجنة في أعلى عليين فإنه لا يزال لها تعلق بالبدن في الأسفل في الأرض لتنعم أيضاً.
ولا تقل: كيف يكون الشيء في مكانين في وقت واحد؟ ف
الجواب
هذا في الدنيا، أما عالم الغيب -أمر الآخرة- فهو أمر مختلف تماماً، نعم تكون في مكانين في وقت واحد، وتكون متصلة بالجسد وهي في أعلى عليين.(246/11)
تلاقي أرواح المؤمنين بعد موتهم
أرواح الأنبياء والصدقين والشهداء والصالحين معاً، فإن قلت يا عبد الله: هل تتلاقى أرواح المؤمنين بعد موتهم؟ فاسمع
الجواب
في الحديث الصحيح الذي رواه النسائي رحمه الله، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حُضِر المؤمن أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء، فيقولون: اخرجي راضية مرضية عنك إلى روح الله وريحان ورب غير غضبان، فتخرج كأطيب ريح المسك، حتى أنه ليناوله بعضهم بعضاً -الملائكة تناول الروح، يناوله بعضهم بعضا إكراماً للميت- حتى يأتون به باب السماء، فيقولون: ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض! فيأتون به أرواح المؤمنين فلهم أشد فرحاً به من أحدكم بغائبه يقدم عليه -ترحيب حار من المؤمنين بروح أخيهم الذي قبض حديثاً فجاءته روحهم- فيسألونه: ماذا فعل فلان؟ -ممن تركتهم وراءك في الدنيا؟ - فيقولون له: دعوه أي: يستريح- فإنه في غم الدنيا -كان في لأوائها ونصبها ومرضها وحزنها وغمها وهمها وعقوق أولادها وعصيان أزواجها- فإذا قال-مجيباً لهم عن السؤال الذي طرحوه: أين فلان؟ ما حال فلان؟ - فإذا قال: أما أتاكم؟ -فلان مات الذي تسألون عنه مات- فيعلمون حينئذٍ، قالوا: ذهب به إلى أمه الهاوية) ما جاءنا، إذاً ذهب إلى مكان آخر، فما هو المكان الآخر؟ أمه الهاوية.
إذاً: تتلاقى أرواح المؤمنين ويتساءلون فيما بينهم، وقد جاء عن أبي هريرة أيضاً رفعه قال: (إن المؤمن ينزل به الموت ويعاين ما يعاين، فيود لو خرجت نفسه -لله يحب لقاءه- وإن المؤمن يُصعد بروحه إلى السماء فتأتيه أرواح المؤمنين فتستخبره عن معارفهم من أهل الأرض، إذا قال: تركت فلاناً في الأرض، أعجبهم ذلك -اطمأنوا، ربما يصلح حاله أو يزداد صلاحاً إذا كان صالحاً- وإذا قال: إن فلاناً قد مات، قالوا: ما جيء به إلينا أين؟ إلى أمه الهاوية) حديث حسن.(246/12)
تلاقي أرواح الأحياء مع أرواح الأموات
أما تلاقي أرواح الأحياء مع الأموات فإن بعض أهل العلم قد فسروا قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42] فسروه بذلك، بتلاقي أرواح ما يقتضي تلاقي أرواح الأحياء مع الأموات، ومنهم من قال غير ذلك، وعلل بعض أهل العلم الرؤيا التي يراها الإنسان في نومه لميتٍ مات ويتحدث معه ويخاطبه ويكلمه بأنه من نتيجة تلاقي روحه لما خرجت وهو نائم وجالت وتجولت مع روح ذلك الميت.
أما ما نُقل عن السلف في مسألة الرؤى التي رئيت للصالحين من موتاهم والأحاديث التي حدثوا بها فهي كثيرة جداً ومستفيضة، قال سفيان بن عيينة: رأيت سفيان الثوري بعد موته يطير في الجنة من نخلة إلى شجرة، ومن شجرة إلى نخلة، وهو يقول: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61] فقيل له: بم أدخلت الجنة؟ قال: بالورع.
وقال صالح بن بشر: لما مات عطاء السلمي رأيته في منامي، فقلت: يا أبا محمد! ألست في زمرة الموتى؟ قال: بلى.
قلت: فماذا صرت إليه بعد الموت؟ قال: صرت والله إلى رب غفور شكور وخير كثير.
ورئي الفضيل بن عياض بعد موته، فقال: لم أر للعبد خيراً من ربه.
وقال أبو بكر بن أبي مريم: رأيت وفاء بن بشر بعد موته، فقلت: ما فعلت يا وفاء؟ قال: نجوت بعد كل جهد.
قلت: فأي الأعمال وجدتموها أفضل؟ قال: البكاء من خشية الله عز وجل.
وقال عبد الله بن عبد العزيز: رأيت أبي في النوم بعد موته كأنه في حديقة، فقلت: أي الأعمال وجدتها أفضل؟ قال: الاستغفار أي بني.
وقال سهيل أخو حزم: رأيت مالك بن دينار بعد موته، فقلت: أبا يحيى! ليت شعري ماذا قدمت به على الله؟ قال: قدمت بذنوبٍ كثيرة محاها عني حسن الظن بالله عز وجل.
وقال عمار بن سيف: رأيت الحسن بن صالح في منامي، فقلت: قد كنت متمنياً للقائك، فماذا عندك فتخبرنا به؟ فقال: أبشر! فإني لم أر مثل حسن الظن بالله شيئاً.
ورأى الشيخ/ محمد الصالح -علامة القصيم - شيخه عبد الرحمن بن ناصر السعدي في منامه، فقال له: ما أكثر ما نفعك عند الله تعالى؟ فقال: حسن الخلق.
وكان السعدي رحمه الله من المشهورين بحسن الخلق.
وهذه قصة تأكدت من صحتها بنفسي، والذي يخبرك به الناس عما رأوه من حال أقاربهم بعد الموت في المنامات أشياء كثيرة جداً، فهذا عالم الأرواح بهذه الأسرار التي لا يعلمها إلا الله، وما علمناه نحن شيء يسير: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85] وإن ما يحدث لهم الآن تحت الأرض وفي أعلى عليين وفي أسفل سافلين حوادث كثيرة جداً أكثر من الأحداث التي تحدث على وجه الأرض.
كم مات من الناس من قبلنا من آدم إلى الآن؟ كلهم لهم قصص وأحداث الآن تدور رحاها، تحت الأرض وفي أعلى عليين وفي أسفل سافلين، أحداث كثيرة جداً تحدث ونحن عنها في غفلة، فاستعدوا يا عباد الله، ولنستعد ولنأخذ العدة بما نحن عليه الآن لما سنكون عليه بعد الموت.
نسأل الله السلامة والعافية، ونسأل الله زاداً نافعاً يبلغنا مآلاً صالحاً.
اللهم اغفر لنا يا رب العالمين، وتب علينا إنك أنت أرحم الراحمين، اللهم عجل فرجنا، وثبت أمننا، اللهم ارزقنا إيماناً صالحاً، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم من أراد بلدنا هذا بشر فكده، اللهم من أراد المسلمين وبلادهم بسوء فدمره واجعله عبرة للمعتبرين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(246/13)
عبادة المرأة المسلمة في رمضان
على المرأة المسلمة أن تستغل المواسم التي جعل الله فيها خيراً كبيراً في حصاد الحسنات، وإن مما يضاعف الحسنات لدى المرأة المسلمة تقوية عزيمتها في جوانب العبادة والطاعة، وأن تحرص على فعل الخير والطاعة من صدقة وصلاة، ونوافل، وتجنب كل ما يخدش الصيام، فعند ذلك لا يفوت أجرها بإذن ربها.(247/1)
شكر الله على نعمة الأمن والسلامة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أيتها المستمعات المسلمات: السلام عليكن ورحمة الله وبركاته.
نحن في هذا اللقاء من وراء حجاب مع موضوع بعنوان "عبادة المرأة المسلمة في رمضان" وقبل أن نتكلم عن جوانب هذه العبادة في رمضان، أود أن أقول في بداية هذا الكلام: إن شهر رمضان لهذه السنة قد جاء بعد ظروف عصيبة، وأيام شديدة مرت علينا، وإن مجيء هذا الشهر بعد هذه المحنة مباشرة، وبعد انقضاء هذه الأيام العصيبة له مدلولات معينة، وإن طعم شهر الصوم بعد هذه الفتنة يختلف عن الرمضانات الماضية.
أيتها المسلمات: ينبغي أن نتعلم من مجيء هذا الشهر مباشرة بعد الأزمة شكر الله سبحانه وتعالى على ما منَّ به علينا من السلامة، وعلى ما من به علينا من زوال الخوف الذي سلَّطه علينا في الأيام الماضية، ونتعلم بأن نعم الله يجب أن تشكر، وأن كفران النعم يؤدي إلى مثلما أدت إليه الأحداث الماضية، وما حل بأقوام من حولنا من المصائب العظيمة لهي دليل على أن نقمة الله تحل بالمكذبين والكافرين بنعمته عز وجل: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل:112].
وهذا الشهر الكريم، شهر تضرع إلى الله ورغبة إليه، فكيف إذا كان بالإضافة إلى الصوم، وبالإضافة لما ينبغي أن يكون في هذا الشهر من التبرع، كيف إذا كان الأمر يوجب تضرعاً خاصاً آخر مما حصل ومن نتيجة ما جرى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام:43] فينبغي أن تكون العبادة في هذا الشهر وشكر النعمة فيه أعلى بكثير من الأشهر الماضية؛ لأن الله قد هزَّ القلوب، ولأن الله قد ابتلى، ولأن الله قد أحل بأقوام من الكافرين والظالمين أنواعاً من نقمته، ونحن ينبغي أن نخاف الله عز وجل في أن يصيبنا مثلما أصابهم أو أشد.
أيتها المسلمات: إن موسم العبادة عندما يأت في هذا الوقت بعد هذه المصيبة التي حصلت والتي لا زالت آثارها تتتابع حتى الآن، إننا نتعلم من خلال هذا أن الله سبحانه وتعالى يبتلينا بالشر كما يبتلينا بالخير، فينظر كيف نعمل، فلذلك إذا كنا نتوب إلى الله في الرمضانات الماضية فإن توبتنا في هذا الشهر ينبغي أن تكون أكثر، وإذا كنا نعبد الله في الرمضانات الماضية ونقوم فإن قيامنا وعبادتنا ينبغي أن تكون أكثر وهكذا.(247/2)
إخلاص المرأة في رمضان
من أوجه العبودية التي تتمثل في حياة المرأة المسلمة في شهر الصيام أنها تتعلم الإخلاص لله عز وجل، كما قال الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)، وقال: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) فتتعلم المرأة أن تحفظ هذا السر الذي بينها وبين الله سبحانه وتعالى بالابتعاد عن هذه المفطرات، وأن ترعى الأمانة والعهد الذي بينها وبين الله في إكمال هذا الصوم من الفجر إلى الغروب، ولا تنقض عهد الله بأي نوع من أنواع المفطرات التي تفسد الصوم.
وكذلك فإن تعلم هذا الإخلاص من شهر الصوم وشهر الصبر ينعكس على الأعمال الأخرى التي لا بد أن يبتغى فيها وجه الله، سواءً كانت هذه الأعمال دعوة أو طلب علم أو أعمالٍ خيرية أو نحو ذلك.(247/3)
المرأة المسلمة وتعلم أحكام الصوم
ومن الأمور المستلزمة للعبادة في رمضان أن تتعلم المرأة الأحكام الفقهية التي لا تستقيم عبادتها إلا بها، خصوصاً في هذا الشهر وهذه المناسبة التي تجتمع فيها أحكام كثيرة، وخصوصاً بالنسبة للمرأة المسلمة، فهي لا بد أن تتعلم من أحكام الحيض ما تعلم به متى يجب عليها أن تصوم، ومتى يجب عليها أن تفطر، ومتى تطهر من مثل نزول الطهر عليها، أو إذا انقطع الدم أن تحتشي بشيءٍ، فإذا خرج نظيفاً تعلم أنها قد طهرت بذلك، وكذلك أن تعلم الفرق بين الحيض والاستحاضة، وأن ما زاد عن خمسة عشر يوماً من العادة فإنه استحاضة، وأحكام النفاس، وأنه لا حد لأقله، فلو أنها طهرت بعد عشرين يوماً من الولادة فإنها تبدأ في الصيام إذا كانت في رمضان مثلاً، وكذلك لا يجوز الزيادة عن أربعين يوماً على القول الراجح، فإذا انتهت وكانت نهاية الأربعين في رمضان فإنها تغتسل وتصوم.
وينبغي عليها أن تعلم أحكام النية، من تبييت نية الصيام من الليل ولو قبل الفجر بلحظة، فإذا طهرت قبل الفجر عليها أن تنوي لكي تأتي للصوم عبادة صحيحة، وتبدأ به كما أمر الله، قال عليه الصلاة والسلام: (لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل).
وكذلك فإنه ينبغي عليها أن تتعلم -مثلاً- ماذا يجب عليها أن تفعل إذا حاضت أو طهرت أثناء اليوم في رمضان.
وكذلك لا بد أن تعلم أنها لو كانت تتوقع الحيض في اليوم القادم فلا يجوز لها أن تنوي الإفطار غداً؛ لأن الحيض قد يتأخر، فتكون لم تبيت النية فتقع في إشكال كبير، فينبغي لها ألا تقطع نية الصوم حتى ترى الدم، فتعلم أن الصيام قد بطل وأنها الآن يجب عليها أن تفطر، وقد ذكرنا طائفة كثيرة من أحكام الصيام في محاضرة بعنوان "خلاصات لأحكام الصيام" يمكن الرجوع إليها إذا شاءت المرأة المزيد.(247/4)
امتثال المرأة أوامر الله ورسوله في الصوم
كذلك فإن من العبودية في هذا الشهر أن تعلم المرأة أنها تأتمر بأوامر الله ورسوله في الصوم والإفطار، فإذا قال الله لها: صومي؛ فتصوم، وإذا قال الله لها: أفطري؛ فتفطر، وإذا حاضت -مثلاً- فإن الصيام ينقطع ولها الأجر على ما مضى من الصيام، ولم تذهب القضية هباءً منثوراً، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، ومن الإحسان أن تصوم، فإذا نزل عليها الدم أثناء النهار تفطر، ولذلك فإنها تؤجر على الإحسان في عملها، وبطلان الصوم شيء، وبطلان الأجر شيء آخر، فلا ينبغي عليها أن تخلط بين هذا وهذا، خصوصاً وأن بعض النساء يشعرن بالضيق من مجيء العادة الشهرية أثناء شهر الصوم، وقد تلوم إحداهن نفسها، أو تندب حظها، وتقول: يا ليت هذه العادة لم تكن، أو لماذا كانت؟ ونحو ذلك، ولماذا لا أكون مثل الرجل الذي يصوم الشهر كله، وأنا أضطر للإفطار ثم أقضي؟! فنقول: إن من أنواع الرضا بالقضاء: الرضا بالقضاء الشرعي، والله سبحانه وتعالى قد قدَّر على المرأة أن تحيض، وأوجب عليها أن تفطر، وتقضي بعد ذلك، ورضي لها بهذا ديناً، فينبغي أن ترضى بما رضيه الله لها، وما دامت لم تفعل محرماً فلماذا تلوم نفسها، ولماذا تندب حظها، ولماذا تعنف هذه الخواطر التي تأتيها في نفسها؟ فنقول: ينبغي أن ترضى بما رضي الله لها، وهذه قسمة الله ومشيئته، وله في ذلك حكمة عظيمة سبحانه وتعالى.(247/5)
حياء المرأة في رمضان
من الأمور المرتبطة بذلك أيضاً أن تعلم المرأة أنه لا حياء في الدين، وأنه لا ينبغي أبداً أن تجعل من الإحراجات التي تحصل لها بسبب الحيض مانعاً لها من أداء الصيام في هذا الشهر العظيم، فمثلاً: بعض النساء تتحرج من إخبار أهلها أنها قد بلغت فتستمر على الإفطار لتثبت لهم أنها لم تبلغ مثلاً، وهذا خطأ عظيم، وجريمة كبيرة، بل يجب عليها أن تصوم في وقت الطهر، وتفطر في وقت العادة.
وكذلك أن تستحي فتصوم في وقت العادة أمامهم؛ كي لا يشعروا أن العادة قد جاءتها، فتصوم من حيث يجب عليها أن تفطر؛ فتكون مخالفة لأمر الله سبحانه وتعالى، فالواجب عليها إذاً ألا تتحرج من هذا الأمر؛ لأنه شيء كتبه الله على بنات آدم (وإن حيضتك ليست في يدك).
ولذلك نقول لكثير من السائلات اللاتي يسألن عما مضى من الصيام ويقلن: إن الإحراج قد أدى بنا إلى أن نصوم أوقات العادة، ولم نقض فيما مضى من حياتنا المبكرة في فترة البلوغ؟ فنقول: إن هذا ذنب يحتاج إلى استغفار، ويجب المبادرة إلى قضاء ما مضى من أيام العادة التي لم تقض، وإذا مرَّ رمضان الذي بعده ولم تقض فإن عليها بالإضافة إلى قضاء ما مضى كفارة إطعام مسكين عن كل يوم لم تقضه من أيام الرمضانات الماضية التي جاء بعدها شهر رمضان ولم تقض.
ومن الأمور المتعلقة بالحيض: أن بعض النساء يعمدن إلى أخذ الحبوب التي تؤخر الدورة لكي يتسنى لهن الصيام، ولكي يشعرن أنه لم يفتهن شيءٌ من شهر الصوم.
فنقول: إن هذه الحبوب التي أفتى أهل العلم بأن أخذها جائز إذا لم تكن تضر، وإنني أشك بأنها تضر، والأمر عند الأطباء على العموم أقول: بأن عدم أخذها هو الأولى والأكثر أجراً، وهو اللائق برضى المرأة بحالها، وهذا حال أمهات المؤمنين، ونساء الصحابة والتابعين، فإنهن لم يأخذن شيئاً من الأدوية التي تؤخر الحيض أو تمنعه، وإنما كانت إحداهن إذا طهرت صامت، وإذا حاضت أفطرت، وترضى بذلك وتقضي بعده، والحمد لله رب العالمين.
ومن وجوه عبودية المرأة في شهر رمضان ما يحدث من مقاومتها لنفسها لامتناعها عن الطعام والشراب والنكاح، فيكون لهذا منعاً للنفس عن مألوفاتها، وهو تعويد وترويض لكف النفس عن الشهوات المحرمة في ليالي رمضان وأيام الشهور في غير رمضان، وذلك أنها إذا تعودت على الامتناع عن الطعام والشراب والنكاح في نهار رمضان فإنه يجب عليها بالتالي أن تمتنع عن المحرمات الأخرى كالغيبة، والنميمة، والغناء، وأنواع الفسق والفجور، والتكشف، ونزع الحجاب أو التقصير فيه، وسائر المحرمات، فهذا شهر تتعود فيه النفوس، ويسهل فيه ترك ما كان مألوفاً في السابق.(247/6)
حضور المرأة صلاة القيام في رمضان ومجالس الذكر
ثم إن من أوجه عبادة المرأة المسلمة في رمضان، ما يحدث من صلاة التراويح والقيام التي تحضر المرأة إلى المسجد للصلاة، وكان عمر رضي الله عنه يخصص إماماً للنساء يصلي بهن، وإذا أتت إلى المسجد فصلت مع المسلمين فهذا أمر حسن، وإذا صلت في بيتها فهذا أحسن، وفي كل منهما خير، وفي حضور المرأة بالشروط الشرعية إلى المسجد من نزول الرحمة، وتغشّي السكينة، وحف الملائكة، ونزول المغفرة التي تحصل للمستمعين، والتأمين على الدعاء، والخشوع أثناء القراءة، وتعلم الصلاة، وتصحيح أخطاء القراءة التي كانت تقع فيها، فلما سمعت الإمام يقرؤها بشكل صحيح تعلمت أن ما كانت تقرؤه خطأ فتصحح الخطأ، أقول: في هذا فوائد، ولكن إذا صلت في البيت، وقرأت في المصحف فإن ذلك لا بأس به، [كان ذكوان مولى عائشة يصلي بها من صحائف في يده] رواه أبو داود في كتاب المصاحف بإسناد صحيح.
كذلك يتسنى للمرأة من أنواع العبودية حضور مجالس الذكر في المساجد، فإن كثيراً من المساجد قد يكون فيها أنواع من الدروس التي يكون فيها تعليماً لأمورٍ من الشريعة ما تستنير به في أمور العبادة، وتتعلم به من أحكام الدين، فينبغي أن تحضر تلك المجالس بوعي، وتفتح ذهنٍ، واستعداد للتقبل، حضوراً شرعياً خالياً من الزينة المحرمة، والأطياب المحرمة، وأي مظهر من المظاهر التي لا يرضى الله للمرأة أن تظهر بها أمام الرجال، خصوصاً وأننا نرى من ذلك أموراً كثيرة من حضور بعضهن مع السائق بمفردها، أو أن تكون غير محتشمة معه، فإذا نزلت من السيارة فإنها تلبس وتستكمل حجابها لتدخل المسجد.
واعجباً لها! إذا جاءت إلى المسجد فإنها تستكمل الحجاب، وفيما عدا ذلك تراها مقصرة فيه، إضافة لما كان يبدو منها من الزينة والمكياج أو العطورات وهي تسير، خصوصاً وأنه يحصل عند دخول المسجد وعند الخروج منه بالذات نوع من اختلاط النساء بالرجال، فينبغي الحذر من ذلك؛ لأن هذا يسبب فتنة، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن من أشد أنواع الفتن فتنة الرجال بالنساء.
وتتمكن في حضور مجالس الذكر من
السؤال
فينبغي عليها أن تهتم به وتوجه ما يدور في ذهنها من الأسئلة إلى الموثوق بهم من أهل العلم وطلبة العلم؛ حتى يجاب عن سؤالها، وتزول حيرتها، وتستطيع كذلك من مجالس الذكر الالتقاء بالأخوات المسلمات الطيبات اللاتي هن زينة في الرخاء، وعدة في البلاء، التقاءً طيباً مفيداً قائماً على التعاون في تلخيص الأشياء المفيدة، وتبادل المنافع الشرعية، وإنني أنبه على ما يحصل في بعض المساجد من التشويش الدائم من قبل النساء في أقسام النساء في المساجد عند التقاء بعضهن ببعض، وكأن المسجد قد جعل مجلساً عاماً تحصل فيه هذه الجلسات التي يدور فيها الكلام بصوت عالٍ يصل إلى الرجال، فأقول: إن هذا الأمر ينافي العبادة المطلوبة من المرأة في رمضان.(247/7)
الرخص الشرعية للمرأة في رمضان
وإن من الأمور أيضاً التي تعبد المرأة ربها في رمضان، ما رخص الله من أنواع الترخيصات، وما يظهر من رحمة ربها بها في هذا الشهر كثيرٌ جداً، فمن ذلك: أنها إذا كانت حاملاً أو مرضعاً فيجوز لها الإفطار بعذر الحمل والرضاعة، والله خلق الرحمة في قلب الأم بالولد، ومن علمه سبحانه وتعالى بذلك فإنه قد أباح لها أموراً كثيرة، وخلقها باستعدادات طبيعية لتواجه ما فطرت عليه من الرحمة والشفقة بالأولاد، فإذا كانت حاملاً أو مرضعاً فإنه يجوز له الفطر وليس عليها إلا القضاء على القول الراجح من أقوال أهل العلم، قياساً على المريض الذي يشق عليه الصوم، والذي قال الله بشأنه: {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184]، فإذا كانت لا تستطيع أبداً أن تصوم ففدية طعام مسكين، وإذا كانت تستطيع أن تصوم ولكن الحمل والرضاع عذر مؤقت كالمرض المؤقت فليس عليها إلا القضاء فقط.
الخلاصة: أنها إذا كانت لا تستطيع الصوم أبداً كما قرر الأطباء وعلم من حالها ذلك، فإن الآية في حقها تنطبق كما انطبقت في حق المريض الذي لا يرجى برؤه، والكبير في السن، فالكبير في السن العاجز يطعم عن كل يومٍ مسكيناً، كما قال الله: {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184].
وأما المريض الذي يرجى برؤه والحامل والمرضع التي يتوقع زوال عذرها فليس عليهم إلا القضاء فقط، بشرط ألا يتعدى رمضان الذي بعده إلا لعذر، كأن تكون المرأة حاملاً ثم تضع في رمضان وتصبح نفاساً، ثم ترضع وقد تحبل مرة أخرى مباشرة في رضاعها فيكون عذرها مستمراً لأكثر من سنة، فلا تستطيع أن تقضي ما عليها من رمضان الفائت قبل رمضان الآتي، فتكون معذورة في تأخير القضاء من رمضان الماضي إلى ما بعد رمضان الآتي؛ لأن الحمل استمر مرة أخرى، والرضاع الذي بعده قد استمر، وهذا من رحمة الله بها، فتحمد الله عليها.
وكذلك فإن هذا التأخير في القضاء الذي وسع لها إلى رمضان القادم يراعى فيه أمر آخر وهو حق الزوج، وحق الزوج عظيم أوصت به الشريعة، وحث على أدائه الله ورسوله، كما حثَّ الله ورسوله على أداء الرجل حق زوجته عليه، ولذلك فإن عائشة رضي الله عنها كانت تؤخر قضاءه إلى شعبان من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنعها من القضاء إلا الشغل برسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذا يبين الحق العظيم للزوج، فمن مراعاة المرأة لزوجها أن تحرص على خدمته، وعلى تهيئة جو العبادة الطيب في بيته، وأن تعينه على العبادة في ذلك؛ من إيقاظه للسحور، وصنع طعام السحور له، وكذلك تجنيبه نفسها، فإنه يجب عليها أن تمتنع عن زوجها، وأن تحرص على سلامة صومه، ولذلك فإن بعض الرجال يتمادون في الاستمتاع بالزوجات في نهار رمضان، بحيث يؤدي إلى إفساد الصوم من حدوث الإنزال أو الجماع ونحوه، وتكون الكارثة العظيمة والكفارة الشديدة لمن وقع في الجماع، والمرأة عليها من كفارة الجماع مثلما على زوجها إذا كانت مطاوعة له ومختارة، فأما إذا كانت مكرهة أو مهددة تهديداً تعلم أنه سينفذه فيها، فإن الإثم والكفارة عليه، وليس عليها إثم ولا كفارة، ولكنها مسئولة عن التحرز من الأحوال التي يقترب فيها منها زوجها أثناء اليوم من رمضان، ولذلك كان لزاماً عليها أن تتجنب التزين له مثلاً، والاقتراب منه إذا كانت تعلم أن زوجها لا يملك نفسه، وأن تهرب منه إذا حاول إفساد صومه بواسطتها.
ولتعلمي -أيتها المرأة المسلمة- أن خدمتك في بيتك أمر عظيم، له أجر جليل، وإنني أعلم أن كثيراً من النساء يتعبن في هذا الشهر كثيراً بسبب حصول العمل الشاق في البيت، فالولد يحتاج إلى خدمة، والبيت يحتاج إلى تنظيف، والأكل والطعام يحتاج إلى طبخ، والزوج يحتاج إلى خدمة أيضاً، ووقت الإفطار قد يحين بسرعة، وهي مسئولة عن تجهيز الطعام للإفطار أو السحور ونحو ذلك.
ولذلك فإن المرأة تتعب في شهر الصوم ربما أكثر من غيره من الشهور؛ لكثرة الأعمال المتزاحمة فيه، والمشقة الزائدة والتعب الناتج عن ترك الطعام والشراب، ولذلك: "فإن المعونة تنزل على قدر المئونة" وإن الله يساعد المرأة المسلمة ويعينها سبحانه وتعالى إذا كانت طائعة له في القيام بهذه الواجبات كلها.
إن تحمل انفعالات الزوج في رمضان التي تنتج من سوء خلقه وضيق نفسه نتيجة التعب والعمل والصيام، مع أنه يجب عليه أن يضبط نفسه إن تحمل هذه الأمور التي تصدر عنه من العصبية الزائدة مثلاً إنه أمر -فعلاً- محل تقدير، ومحل تسجيل من الملائكة الحفظة لأجر هذه المرأة التي تتحمل كل ذلك.(247/8)
المرأة في رمضان والاقتصاد في الطعام
إن من أوجه عبودية المرأة في رمضان أيضاً -وقبل أن نقول: الصدقة نقول بالنسبة للطعام ما دمنا قد تكلمنا عن الطعام- إن إطعام الطعام من شعائر الإسلام، (أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام) نقول: إطعام الطعام شيء طيب، ولكننا في نفس الوقت نقول: أولاً: لا يصلح أن تمكث المرأة في المطبخ طيلة الوقت لكي تعد أنواع الطعام والشراب في رمضان، وكأن رمضان هو شهر لاستعراض المهارات المتعلقة بالطبخ، وتنويع المطعومات والمشروبات، فليس لأجل هذا فرض الصوم، فإنما فرض لعل الناس يتقون، فرض: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] وليس: لعلكم تشبعون، أو لعلكم تصابون بالتخمة، ولذلك فعلى المرأة أن تنصح زوجها بعدم التكثير من ألوان الطعام والشراب، وخصوصاً أن بعض الرجال قد لا يهمهم التنويع الشديد، وإنما مصدر التنويع يأتي من المرأة في الغالب، ولذلك نقول: اقتصدي واعملي ما يفي بالغرض، ولا تتعدي الحد، ولا تسرفي فإن الله لا يحب المسرفين.
ونقول أيضاً بالنسبة لإطعام الطعام: بعض الناس يطبخون طعاماً فيرسلونه إلى أناس عندهم طعام كثير، ولا يتحرون في إرسال الطعام إلى الفقراء حقاً أو المساكين، أو العزاب الذين لا زوجات يطبخن لهم من الجيران، بعضهم قد يكون أعزباً لا زوجة له، فينبغي أن يتفقد أحوال هؤلاء كالطلاب والموظفين العزاب وغيرهم، هذا أولى من تبادل الأطعمة مع الجارات، وكل واحدة تعرف من ألوان الطبخ ما تعرف، وأنا لا أقول: إن تبادل المطعومات مع الجارات شيء محرم! كلا.
إنه أمر ولكن انتبهن إلى إيصال الطعام لمن يستحقه ويحتاج إليه أكثر، بدلاً من إعطائه لأشخاص هم أغنياء عنه، وحرمان الناس الذين يحتاجون إليه حقاً.
وكذلك أنبهك -أيتها الأخت المسلمة- بأن حديث: (من فطر صائماً فله مثل أجره) أي: أشبعه، فمن أشبع صائماً فله مثل أجره، أقول: قد تتخيل بعض النساء أن الزوج الذي اشترى الطعام بنقوده هو الذي أخذ الأجر، وأنها مجرد طباخة، فأقول: كلا ألست تعلمين أن الله يدخل في السهم الواحد ثلاثة نفر في الجنة؟ الذي يبريه ويناوله ويرمي به كلهم مأجورون، وأنت تساهمين في تفطير الصائم عندما يحضر لدى زوجك عددٌ من الضيوف، أو يرسل الزوج طعاماً لبعض الفقراء أو المساكين أو الذين ضاقت أمورهم، فتكونين أنت داخلة في هذا الحديث إن شاء الله من جهة عملك وخدمتك في إعداد طعام الإفطار: (من فطر صائماً فله مثل أجره).
وكذلك فإنني أقول: إنه لا بد من مراعاة إيقاظه للصلوات، خصوصاً صلاة الظهر وصلاة العصر، وكذلك الفجر لمن ينام متأخراً، وفي رمضان يفوت الناس صلاة العصر أكثر من أي صلاة أخرى، فينبغي عليك -أيتها المسلمة- أن تراعي أهل بيتك من الرجال الذين تجب عليهم صلاة الجماعة في المسجد، أن يخرجوا إلى الصلاة، وأنك راعية في بيت زوجك ومسئولة عن رعيتك، ومن المسئولية حثهم على الصلاة وإيقاظهم لها، وإنني أعلم أن بعض الأزواج من الذين لا يخافون الله تماماً يمنع زوجته من إيقاظه، ويقول لها: اتركيني حتى أستيقظ ولا تقتربي مني أو تزعجيني ونحو ذلك، فنقول: عليكِ بالنصيحة والتلطف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تفعلين شيئاً فيه مفسدة أكبر من المصلحة، لكن عليك باستمرار النصيحة، وحثَّ الرجال على العبادة ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.
وأشدد وأكرر أيضاً على مسألة الإكثار من الطعام، ووضعه ورفعه، طوال الليل والمائدة موضوعة مثل البوفيه، الذي يأتي إليه الناس ويأكلون عدة مرات، كما قال ذلك الرجل معاتباً قومه الذين يكثرون الأكل في رمضان: إنكم تأكلون الأرطال، وتشربون الأسطال، وتنامون الليل ولو طال، وتزعمون أنكم أبطال؟!! كلا، كلا، فليست هذه ببطولة.(247/9)
صدقة المرأة المسلمة في رمضان
كذلك فإن من أوجه العبودية في رمضان: الصدقة، فإذا كان رسولك صلى الله عليه وسلم قد قال: (يا معشر النساء، تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار) فإذا كان الأمر بالصدقة عاماً، فالأمر به أو فعله في رمضان آكد وأقوم وأكثر أجراً، ولا شك في مضاعفة الأجر في مواسم الطاعة العظيمة كشهر رمضان، فإن الحسنة تتضاعف في المكان الفاضل، والزمان الفاضل.
فأقول إذاً: تحركي بما تستطيعين أو تجودين به من الصدقات في أنواع البر المختلفة، والذي حصل من النساء -ولله الحمد- الآن تفتح كبيرٌ لها، وإسهامات عظيمة في التجميع والإيصال والحمد لله، وأنبه في هذه المناسبة إلى أن على النساء تمحيص جمعيات البر؛ لأن بعضها جمعيات سوء، وبعضها جمعيات صلاح وتقوى بعضها أسس على تقوى من الله ورضوان، وبعضها أسس على شفا جرف هار، فعليك بتمييز الجمعيات الطيبة وإشهارها والإعلان عنها، والنصيحة بالتبرع لها، والمساعدة فيها، والتحذير من الجمعيات السيئة، وعدم إعانتهم بشيء إذا كانوا يريدون قصداً سيئاً، أو يخفون أهدافاً سيئة، واحذري من القيل والقال وعليك من التأكد والتثبت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6].
أيتها الأخت المسلمة! إن زكاة مالك مهم، فإن الناس كثيراً لا يعتادون إخراج الزكاة في رمضان، فعليك بإخراج الأموال الزائدة عندك، وإذا كانت لديك أراضٍ معدة للبيع فأخرجي زكاتها، وإذا كان لك تجارة أو حصة في دكان أو عروض تجارة، فتقوم عروض التجارة عند حلول الحول، ويخرج (2.
5%) من قيمتها الحالية في السوق، وما لديك من الحلي الملبوس والمدخر والمعار وغيره، فأخرجي زكاته على القول الراجح من أقوال أهل العلم المستند للدليل، وهو قوله عليه الصلاة والسلام للمرأة لما قال لها: (أتؤدين زكاة هذا؟ قالت: لا.
قال لها: أيسرك أن يسورك الله سوارين من نار يوم القيامة؟) فعليك معرفة ثمن الحلي عند حلول الحول بالتقريب، فأكثر، وكذلك إذا كان عندك حلي للبنات تخرجين زكاة كل بنت على حدة، تعامل كل بنت بنصاب منفصل، فلو كانت البنت عندها أربعين غراماً لا يجب عليها، والبنت الثانية عندها خمسون غراماً لا يجب عليها، لكن لو أن البنت الواحدة عندها تسعين غراماً مثلاً أو مائة يجب عليها، وأنت تلاحظين زكاة ذهب بناتك أنت، وتخرجينها بالنقود أو من نفس الذهب، أو ببيع قطعة منه، أو يتبرع الزوج عنك بعلمك، كل ذلك جائز والحمد لله.
وبعض النساء اعتدن على إعطاء أسر قد أغناها الله، كانوا قبل ذلك أيتاماً وأرامل لكن الآن أغناهم الله، فلا يجوز الاستمرار في إعطائهم وقد أعطاهم الله، ولم يصبحوا من أهل الآية الكريمة، {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60]، فينبغي البحث عن المستحقين الآخرين.(247/10)
المرأة واستغلال تعمير الحلقات بذكر الله وإصلاح البيوت في رمضان
كما أن عليكِ -أيتها الأخت المسلمة- في هذا الشهر العظيم أن تجتنبي ما حرم الله من أنواع الحرام، كالغيبة والنميمة، وإنني أحذر من خطورة اجتماعات ما بعد صلاة التراويح، فإنني ألاحظ أنه يحدث في البيوت في الاجتماعات كثيرٌ من اللغط والأمور المحرمة، وقول الزور، وانزلاق اللسان سهل جداً، ولذلك فاجعلي من هذه المجالس مجالس ذكر وطاعة، لقد كثرت الكتيبات الطيبة، والأشرطة الطيبة، فلخصي، وقدمي، وانتقي، وانفعي غيرك، واملئي هذه المجالس بذكر الله عز وجل.
وأقول أيضاً: إنه يجب انتهاز فرصة رمضان لإصلاح البيوت، فاستعيني بالله على إخراج وسائل المنكر من البيت، والحث على إخراجها، ومنع دخولها إلى البيت، لكي تكتمل العبادة، لأنه ما معنى أن يطاع الله في النهار ويعصى في الليل وهو رب الليل والنهار؟! ولذلك بما أن النفوس مشحونة بالعبادة وبالإيمان مشحونة بالزاد الأخروي الآن فانتهزي الفرصة في القضاء على وسائل الإفساد في البيت، وعلى تطهير البيت من جميع المحرمات، خصوصاً أن نفس الزوج قد تكون مهيئة، ونفوس الأقارب تكون مهيئة، فانتهزي هذه الفرصة لكي تحافظي على بيتك، وتخرجي ما يمكن إخراجه، أو كل ما هو من أدوات المنكر، وتدخلي فيه كل شيء طيب من الأشياء التي تزيد في إيمان أهل البيت، وتسبب الفقه في الدين، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين).
وأقول كذلك: إن المرأة المسلمة قد تسأل مثلاً عن حكم ذوق الطعام أثناء طبخه في رمضان.
أقول: إن ذلك جائز ولكن لا أجيز لك أن تبتلعيه، بمجرد ما تذوقين بطرف اللسان فإنك تلفظيه إلى الخارج.
أكتفي بهذه النصائح من بيان بعض أوجه عبادة المرأة المسلمة في رمضان، على أن نتابع الكلام في أمور أخرى تتصل بمواضيع النساء في مرة قادمة إن شاء الله، أسأل الله لي ولكن التوفيق والسداد والإخلاص، والأجر العظيم، والمغفرة والرحمة، والسلام عليكن ورحمة الله وبركاته.(247/11)
كيف تكون مجالسنا إسلامية؟ [1]
إن الناظر إلى مجالس الناس اليوم يجد فيها أنواعاً من المنكرات والمخالفات الشرعية؛ من غيبة ونميمة، واستهزاء بالدين وأهله، وكلام في أعراض الناس، وأكل للحومهم، وهمز ولمز وتنابز بالألقاب، وكذب وبهتان وسخرية، وفسوق وتعيير وسب وشتم، ومدح ومجاملات ونفاق ومداهنة، كل ذلك وغيره موجود في مجالس الناس اليوم.
إذاً: لابد من تغييرها إلى مجالس ذكر لله تعالى، ومجالس نصح وإرشاد وتذكير هذا ما تحدث عنه الشيخ حفظه الله، ثم تكلم عن بعض آداب المجالس.(248/1)
حال مجالس الناس اليوم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة: لو ألقينا نظرة سريعة على مجالس المسلمين اليوم لوجدنا أنها -وبكل صراحة ووضوح- عبارة عن اشتغال بالدنيا وما فيها، فضلاً عن الاشتغال بالمحرمات والآثام وكبائر الذنوب.
أيها الإخوة: لا بد من الاهتمام بالمجالس؛ لأنها ذات أثر كبير، ولو ألقيت الضوء على أنواع مجالس الناس اليوم لرأيت الجالسين فيها قد اشتغلوا بالدنيا بتفاصيلها، فهم إن كانوا تجاراً فإنك ترى أخبار المقاولات والبضائع والأسعار والبيع والشراء والزبائن ومشاكل العمل، هذا أمر طاغٍ على مجالسهم، وإذا تأملت في مجالس الموظفين وجدت أمر الدوام ومشاكل المراجعين وأخبار الصحف والأنظمة والترقية والبدلات والتنقلات والعلاوات والانتدابات هي الشغل الشاغل للجالسين فيها.
وإذا تأملت في مجالس طلاب المدارس والجامعات؛ وجدتهم مشتغلين بتفاصيل الدراسة والأسئلة والامتحانات والدرجات والشهادات والتخرج والوظائف.
وإذا تأملت في مجالس النساء وجدتهن مشتغلات بالموضات والملابس والأكلات والزيجات والحفلات والأعراس، وحال الأسواق والمحلات إلى آخر ذلك من أنواع المجالس اليوم.
أيها الإخوة: لقد عم الانشغال بالدنيا والحديث عنها في المجالس حتى قست قلوب المسلمين، فإن من أسباب قسوة قلوب المسلمين اليوم أحوال مجالسهم ومنتدياتهم، والله تعالى قد توعد الذين قست قلوبهم، فقال عز وجل: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22] (فويل) كلمة تهديد ووعيد، لذلك كان لا بد من البحث عن أسباب قسوة القلوب لعلاجها وإزالتها.
هل كان هذا حال مجالس الصحابة؟! هل كانت هذه الأشياء هي التي تشغل نفوس الصحابة ومجالس الصحابة والسلف الصالح؟! كلا أيها الإخوة.(248/2)
بعض المنكرات الموجودة في المجالس
إننا لا نحرم ولا نتكلم عن تحريم هذه الأمور مطلقاً؛ فإنه لا بأس أن تتكلم النساء في مجالسهن عن أخبار الزيجات مثلاً، أو يتكلم الموظفون عن المشاكل التي تواجههم في وظائفهم، أو يتكلم التجار عن المشاكل التي يواجهونها ويتبادلون الخطرات هذا أمر لا بأس به، وإن الإسلام لم يحرم هذا، ولكن المذموم والمحذور الذي نتكلم عنه هو أن يكون شغل الجالسين من أول المجلس إلى نهايته هو الكلام عن الدنيا، وعن هذه الأشياء، لدرجة أنك لا تسمع في هذه المجالس آية واحدة ولا حديثاً واحداً، ولا حتى كفارة المجلس ولا ذكراً لله بأي صورة من الصور.
هذه الحالة الخطيرة التي نتكلم عنها الآن الشغل الشاغل للناس في المجالس هو الدنيا، هذا إذا كان الكلام مباحاً فالاشتغال في هذا المباح من أول المجلس إلى نهايته مذموم شرعاً، فكيف إذا كان الكلام في المجالس عن الأمور المحرمة شرعاً، والوقوع في كبائر الذنوب؟! كيف إذا كانت المجالس مجالس غيبة ونميمة ونهش أعراض الناس وأكل لحومهم؟! قال الله تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} [الحجرات:12].
كيف إذا كانت المجالس مجالس كذب وبهتان وسخرية؟! والرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يعضه بعضكم بعضاً) والعضه: هي الكذب والبهتان والنميمة كما ذكر العلماء.
كيف إذا كانت مجالسنا اليوم مجالس سخرية بعباد الله عز وجل وتنابز بالألقاب والله يقول: {لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات:11]؟! ويقول: {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات:11] كيف إذا كانت مجالسنا اليوم مليئة بالفسوق والتعيير والسباب والشتائم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (المستبان شيطانان يتهاتران ويتكاذبان) حديث صحيح؟! كيف إذا كانت مجالسنا اليوم مجالس مدح ومجاملات ونفاق ومداهنة ورسول الله عليه الصلاة والسلام يصف مدح الرجل في وجه أخيه بأنه كقطع عنقه، وقال الله تعالى قبل ذلك: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم:32]؟! كيف إذا كانت مجالسنا اليوم مجالس سخرية بالدين واستهزاء بالمتمسكين به، وانتقاص من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مظهره وأخلاقه وآدابه؟! كيف إذا كانت المجالس اليوم مجالس استهزاء بشريعة الإسلام وأحكام الدين؟! يقول أحدهم في مجلس: تريدون أن ترجعوا بنا إلى شريعة العين بالعين والسن بالسن؟! تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
أيها الإخوة: ما فتئت مجالس المسلمين اليوم تعج بالاستهزاء والانتقاص من دين الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا حول ولا قوة إلا بالله! أيها الإخوة: مجالسنا فيها استهزاء بعباد الله بشتى الصور، فتجد رجلاً يقلد إنساناً في صوته أو عادة من عاداته، فيقول: هذا فلان كأنه كذا هذا فلان كأن كلامه كذا كأن مشيته كذا كأن ثوبه كذا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: (ما أحب أني حكيت إنساناً وأن لي كذا وكذا) لو أعطيت كذا وكذا من الدنيا لا أحكي حال إنسان، قال العلماء في شرحه: أي: لا أذكر إنساناً وأقلده بحركاته وهيئاته على سبيل التنقص.
وقصة هذا الحديث أن عائشة لما قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (حسبك من صفية أنها كذا وكذا -تعني: أنها قصيرة- فقال عليه الصلاة والسلام: لقد قلتِ كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) أي: لخالطته مخالطة يتغير بها طعمه وريحه لشدة نتنها وقبحها، فكيف بالألفاظ اليوم التي تنطلق في مجالس المسلمين؟! أيها الإخوة: مجالسنا فيها كثير من المحرمات والمخالفات للشريعة، فتجد -مثلاً- اثنين يتناجيان وثالث موجود، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا كانوا ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث)، وعللها بقوله: (لأجل أن ذلك يحزنه) وتجد اليوم أن المناجاة مرض واقع في مجالس المسلمين، حتى في طريقة الجلوس في المجالس تجد فيها انكشاف العورات، فتجد بعض الرجال الذين لا يلبسون تحت ثيابهم لباساً سابغاً يرفع إحدى رجليه على الأخرى ويجلس جلسة ينكشف منها فخذه، و (الفخذ عورة) كما قال عليه الصلاة والسلام، ثم يأتي هذا الرجل ويجادل، ويقول: متى كان الرجل له عورة؟ هل نحن نساء حتى تنبهونا إلى هذه المسألة؟ سبحان الله على جهل المسلمين بأحكام العورات! والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (يا جرهد! غط فخذك فإن الفخذ عورة).
وحتى في طريقة الأكل والشرب في المجالس مخالفات كثيرة في الأكل والشرب باليسرى مثلاً، إلى عدم التسمية إلى غير ذلك، حتى في طريقة النقاش والحديث من الأمور التي تخالف قواعد الإسلام وآدابه من رفع للصوت، وحدة وغلظة، ومقاطعة في الحديث، ويسبق الصغير الكبير في الحديث، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كبر كبر) أي: ابدأ بالأكبر.(248/3)
ذكر الله تعالى في المجالس وفضله
هذه مقتطفات من بعض المنكرات التي تعج بها مجالسنا اليوم، وإذا كان عدم ذكر الله تعالى والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم في المجلس ففيه وعيد عظيم ولو كان المجلس كله كلاماً مباحاً، لذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ما اجتمع قوم في مجلس فتفرقوا ولم يذكروا الله ويصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم إلا كان مجلسهم ترة عليهم يوم القيامة) أي: حسرة وندامة، وفي رواية صحيحة: (وإن دخلوا الجنة) لما يرون من الثواب الذي فاتهم بعدم ذكر الله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجالسهم التي كانت في الدنيا.
بل قال عليه الصلاة والسلام: (ما اجتمع قوم فتفرقوا عن غير ذكر الله إلا كأنما تفرقوا عن جيفة حمار، وكان ذلك المجلس عليهم حسرة) مثل جيفة الحمار، منتنة مؤذية ورائحة عفنة هكذا يتفرق الناس إذا لم يذكروا الله في مجالسهم، فأعيدوا معي شريط الذكريات -أيها الإخوة- لتسترجعوا حال مجالسكم هل كان في أي منها ذكر الله وصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كل مجلس يجب أن يكون فيه ذكرٌ لله وهل تسمعون في مجالس اليوم آية أو حديثاً، أو وصية أو حكماً شرعياً أو تذكرة؟ إلا من رحم الله.
إذاً: لا بد من الانتباه إلى السلبية الخطيرة اليوم، بل إنك تجد المسلمين يضحكون على أنفسهم في هذه الآيات والأحاديث التي يعلقونها في مجالسهم، تجد لوحات مخطوطة بخطٍ جيد مزخرفة معلقة في المجالس، فيها أمر الله للمسلمين بالتقوى، أو الإخبار بأن الله مطلع ويعلم كل شيء، بل إن بعضهم يعلق كفارة المجلس في مجلسه، وإذا قام لا يذكر هذه الكفارة، ويخالف صراحة هذه الآيات المعلقة على الجدار.
أيها الإخوة: أية حالة وصلنا إليها اليوم؟! نعلق الآيات والأحاديث على الجدران ثم نخالفها بتصرفاتنا وأفعالنا وأقوالنا، إذاً: ما هي فائدتها؟! ومن هنا رأى بعض العلماء عدم جواز تعليقها إذا كانت هذه هي حال المجالس، لأن فيه استهزاءً بما ذكر في هذه اللوحات والملصقات، ومن أجل هذا صار بعض العقلاء من المسلمين اليوم ينفرون عن مجالسة الناس، وعن الجلوس والحديث معهم، وترى أحدهم يقول: مالي وللناس، لماذا أجلس معهم وهذه هي أحوالهم وهذه هي أحاديثهم؟ فهذا الرجل على صواب فيما يفعل، إذا لم يكن عنده قدرة على التغيير، فإنه لا بد من هجر أماكن المعاصي والفسوق.
بدلاً من أن تكون مجالسنا مجالس ذكر لله، يتحقق فيها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ما اجتمع قوم على ذكر فتفرقوا عنه إلا قيل لهم: قوموا مغفوراً لكم)، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (ما جلس قوم يذكرون الله تعالى فيقومون حتى يقال لهم: قوموا قد غفر الله لكم ذنوبكم وبدلت سيئاتكم حسنات).
هذا الحديث ليس خاصاً بحلق الذكر في المساجد، وإنما في جميع الحلق في المجالس.
ولذلك يعجبك الرجل عندما تجلس في المجلس أن يقول لواحدٍ من أهل الخير: يا فلان، حدثنا عن آية كذا حدثنا عن حديث كذا سمعت مرة حديثاً ما هو هذا الحديث وما معناه؟ ما هي قصة النبي الفلاني؟ ما حكم الشيء الفلاني؟ هؤلاء الناس الذين يصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم مفاتيح للخير مغاليق للشر، هؤلاء كثير منهم ليس عندهم علم شرعي، لكنهم حريصون على التعلم والاستزادة، وصبغ مجالسهم بالخير والذكر والأشياء التي ترضي الله عز وجل.
إنك عندما تسمع هذه الندرة من المسلمين اليوم يسألون في هذه المجالس؛ فإن قلبك يهتز فرحاً من بقية الخير الموجود في الأمة، نسأل الله أن يكثره.(248/4)
آداب المجالس
أيها الإخوة: مجالسنا فيها آفات تحتاج إلى إصلاح، ولابد من معرفة الآداب، ومعرفة طرق الإصلاح حتى نتمكن من الوصول بهذه المجالس إلى الجادة المستقيمة، وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم آداباً كثيرة للمجلس منها: قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما) فلا يجوز لك أن تدخل المجلس فتجلس بين اثنين إلا بعد أن تستأذن منهما؛ فإن أذنا لك وإلا فاجلس حيث ينتهي بك المجلس.
وكذلك من السنة أن يجلس الإنسان حيث انتهى به المجلس، ولا يأتي ويقيم إنساناً ويجلس مكانه، لأن هذا فيه نهي صريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (لا يقيم الرجلُ الرجلَ من مجلسه فيجلس مكانه) لذلك كان ابن عمر -كما ورد في البخاري - إذا قام له إنسان من مجلسه لم يجلس فيه، بل يرفض ويذهب إلى مكان آخر ليجلس فيه.
وقال عليه الصلاة والسلام موضحاً أدباً آخر: (المجالس بالأمانات) أحياناً يدعوك إنسان إلى مجلس عنده، ويكون في هذا المجلس كلام خاص أو سر من أسرار هؤلاء القوم، فلا يجوز لك أن تذهب وتفشي أسرارهم، قد يتكلم عن أحوال بيته أو أسرته الداخلية، فلا يجوز لك أن تذهب في مجلس آخر وتفشي سر هذا الرجل وأهل بيته، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (المجالس بالأمانات) فيلزم فيها الستر على ما يقال ما دام لا يضر المسلمين.
وكذلك يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (خير المجالس أوسعها) لذلك يستحب توسيع المجلس؛ لأنه أكرم للضيف، وأصون لحاله، وأروح له في قيامه وقعوده وسيره، ويختلف هذا باختلاف أحوال الناس على غناهم وفقرهم، فإنه متى كان مستطيعاً فيستحب له توسعة مجلسه، والتفسح في المجالس أمر مطلوب إذا كان ضائقاً بالرجال وليس فيه مكان لداخل، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} [المجادلة:11] لا بد من إيجاد الفسحة في القلب قبل إيجاد الفسحة في المكان، ومتى وجدت الفسحة في القلب لأخيك المسلم ومحبته فإنك سوف تفسح له تلقائياً، أما لو أبغضته وأبغضت أن يضايقك نوعاً ما؛ فإنك لن تفسح، ولو أفسحت فلن يكون عن طيب نفس وخاطر منك.
كذلك لا بد من ذكر كفارة المجلس إذا قام الإنسان، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه -حصلت منه أخطاء وزلات في الكلام- فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك) ماذا تريدون أكثر من هذا؟ هذا من رحمة الإسلام أيها الإخوة، يعطيك مجالاً لتصحيح الأخطاء يعطيك مجالاً لغفران الذنوب التي حصلت منك، هذه كلمات قليلة تقولها فتمحى الذنوب لعمر الله إنه لفضل عظيم! {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} [البقرة:243] الله يتفضل علينا بهذه الكفارات البسيطة، ونحن لا نأبه لها ولا نرعوي ولا نهتم بها.
وفقنا الله وإياكم للقيام بحقه في المجالس، وأن يجعل من مجالسنا مجالس خير وذكر له عز وجل، وصلى الله على نبينا محمد.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مالك يوم الدين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى سبيله القويم.
أيها الإخوة: ومن آداب المجلس كذلك: ما كان يفعله صلى الله عليه وسلم كما ورد في الحديث الحسن: (كان إذا لقيه أحد من أصحابه فقام معه فلم ينصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف عنه، وإذا لقيه أحد من أصحابه فتناول يده ناوله إياها فلم ينزع يده منه حتى يكون الرجل هو الذي ينزع يده منه، وإذا لقي أحداً من أصحابه فتناول أذنه ناوله إياها فلم ينزعها حتى يكون الرجل هو الذين ينزعها عنه) رواه ابن سعد بإسناد حسن عن أنس، وهو في صحيح الجامع.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤدباً غاية الأدب، يحترم ضيوفه ويحترم جلساءه، إذا قام إنسان من المجلس لينصرف يقوم النبي صلى الله عليه وسلم يودعه، ويأخذ بيده ليصافحه، ولا يترك الرسول صلى الله عليه وسلم يد الضيف حتى ينصرف الضيف ويكون الضيف هو الذي ينزع يده من يد النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الرسول جالساً في مجلس فأراد رجل أن يسر إليه بحديث، وأتى ليأخذ بأذن نبي الله صلى الله عليه وسلم، كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يعطيه أذنه وينصت حتى يفرغ الرجل، ولا يرجع الرسول صلى الله عليه وسلم رأسه ويبعد أذنه حتى يبعد ذلك الرجل فاه ويبعد رأسه الانتظار من الأدب، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يجب على الأمة كلها أن تتأدب معه، يفعل هذه الأفعال ليعلمنا آداب المجالسة وآداب الحديث.
بقي في هذا الموضوع بقية هامة: كيف ننتهز المجالس لتكون مجالس خير؟ ماذا يجب على الدعاة إلى الله وعلى الناس أن يفعلوا لكي يحولوا مجالسهم إلى مجالس خير؟ ما هو الموقف الصحيح للمسلم من المنكرات والاستهزءات وشتم الدين ونحو ذلك مما يحدث في المجالس؟ هذا ما سيكون بإذن الله تعالى موضوع خطبتنا القادمة، لأنني أحس وربما تحسون معي أن الاهتمام بأمر المجالس له دور عظيم، وله خطورة كبيرة، إذا صلح مجلسك صلحت أنت وصلح جلساؤك، وسترجع من المجلس إلى بيتك وأنت ممتلئ إيماناً وفائدة وعلماً خرجت به من ذلك المجلس فينعكس هذا على أهلك؛ لذلك كان لا بد من زيادة التوضيح والتعرض لمسائل هامة في هذا.
نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لذلك.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك، واجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين.
اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وفرج همومنا، ونفس كروبنا، واجعل مجالسنا مجالس خير يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك يوماً قريباً تعز فيه دينك، وتقر أعيننا فيه بنشر الإسلام والسنة يا رب العالمين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(248/5)
كيف ينظم المسلم وقته؟
الوقت هو الحياة، لكنَّ كثيراً من الناس يقضون هذا الوقت فيما لا نفع منه، أو لا يحسنون ترتيب أوقاتهم وبرمجتها حسب الأولويات والمهمات، وفي هذا الدرس وضع الشيخ النقاط على الحروف، من خلال البرامج والخطط المتبعة في تنظيم الوقت والوسائل المعينة على استغلاله دون أن تذهب دقائقه وساعاته حسرات، إضافة إلى ذكر بعض مضيعات الوقت لتلافيها.(249/1)
الوقت هو الحياة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلىآله وصحبه أجمعين.
وبعد: أحييكم بتحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل مجلسنا هذا مجلس ذكر تحفه الملائكة، وتغشاه الرحمة، وأن يجعلنا وإياكم في ديوان المذكورين عنده.
الوقت هو الحياة، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع) وفي الحديث الآخر: (اغتنم خمساً قبل خمس ومنها حياتك قبل موتك) فبما أن الوقت هو الحياة، فيكون المعنى: اغتنم وقتك هذا الذي هو حياتك قبل أن يأتيك الموت فتنقطع عن الدنيا، ويكون ليس عندك ثمة وقت تشغله في طاعة من الطاعات.
ولذلك يجب على المسلم أن تكون عنده غيرة شديدة على وقته، ويجب أن يتضايق جداً إذا ضاع شيء من أوقاته فيما لا ينفع، ويجب أن تظهر عليه علامات الأسى والأسف والندم إذا تفلتت منه أوقات بغير فائدة، وهذا هو شأن عباد الله العقلاء، ولكن من الخلق من يقول: لا ندري كيف نقضي أوقاتنا، ولا ندري كيف نمضي هذا الوقت، ولا ندري كيف نقتله، ولذلك تسمع منهم عبارات زهق وطفش وضيق وملل ونحو ذلك.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى "الغيرة غيرتان: غيرة على الشيء وغيرة من الشيء، فالغيرة على المحبوب حرصك عليه، والغيرة من المكروه أن يزاحمك عليه، فالغيرة على المحبوب لا تتم إلا بالغيرة من المزاحم" إذا أردت أن تحافظ على وقتك؛ يجب أن تغار على هذا الوقت، وتغار من الأشياء التي تزاحم الاستفادة من هذا الوقت.
ثم قال رحمه الله: "وكذلك يغار المسلم على أوقاته أن يذهب منها وقت في غير رضا محبوبه وهو الله عز وجل، فهذه الغيرة من جهة العبد غيرة من المزاحم المعوق القاطع له عن مرضاة محبوبه.
إن الزوجة تغار من الزوجة الأخرى؛ لأنها زاحمتها فيه، ويصبح الوقت ذا قيمة عندما يكون هناك هدف، وعندما تكون هناك رسالة يصبح وقت الإنسان ثميناً جداً، والناس الذين ليس لديهم رسالة؛ يعيشون في الدنيا بغير هدف، فأوقاتهم لا قيمة لها، ولذلك لا يشعرون بالوقت وهو يمضي.
ونحن المسلمين أصحاب رسالة وهدف، لذلك يجب أن يكون لوقتنا أهمية كبيرة جداً في إحساسنا وشعورنا، أرأيت الطالب عندما يبقى على الامتحانات أسبوع؛ كيف تكون قيمة الوقت عنده كبيرة جداً، لأن هناك هدفاً حاضراً يشتغل من أجله الآن، فإذا انقضت الامتحانات وجاءت العطلة، وجدت الوقت عنده لا يكال بأي كيل، ويذهب هكذا هدراً، وتقفز إلى قائمة أوقاته فترات الراحة والاستجمام والتسلية والنوم.
لماذا لا نشعر أننا في سباق نحو الآخرة؟ لماذا لا نستشعر الأهداف والمسئوليات التي أنيطت بنا؟ {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] وقال الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:119].
فلأننا أصحاب رسالة وأصحاب هدف وأصحاب مسئوليات.
قد رشحوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
أن تكون مثل هؤلاء الحيوانات الذين يسرحون ويمرحون بلا هدف، أوقاتهم ليس لها أي قيمة، فقد يتساءل كثير من الناس: هذا اليوم وهذه الليلة أربع وعشرون ساعة كيف ننظم هذا الوقت؟ كيف نستغله؟ كيف نوفر الأوقات؟ كيف نحصل على مزيد من الوقت؟ إن المسلم العاقل الفطن يقول: أريد وقتاً زيادة؛ لأن عندي أشياء كثيرة أريد أن أعملها، والفارغ البطال يقول: لا أدري كيف أمضي الوقت، ويتمنى ذلك العاقل لو اشترى وقت البطال بأغلى الأثمان، ويقول: يا ليت عندي وقت فلان لكي أعمل أعمالاً إضافية كثيرة أريد أن أعملها.
ويجب أن ينطلق المسلم في تفكيره في استغلاله لوقته من واقعه ووضعه وإمكانياته، وليس بناءً على شطحات من الخيال، ولا على توهمات ولا على أوضاع ماضية، فمثلاً: ليس من الصحيح أن يفكر في الطالب الجامعي وهو يريد أن يجدول وقته بظروف المرحلة الثانوية، أو يفكر في الموظف وهو يريد أن يجدول وقته بناء على معطيات المرحلة الجامعية وهكذا.(249/2)
أهمية الترتيب والتخطيط وصرف الوقت لذلك
ومن الأساليب التي توفر الوقت: اصرف وقتاً في البداية، ما معنى هذا الكلام؟(249/3)
الترتيب
إن توفير الوقت يتطلب أحياناً صرف وقت كبير في بداية الأمر، ولكن الإنسان سيستريح فيما بعد، ويوفر أوقاتاً كثيرة كان سيقضيها في البحث عن أشياء ضائعة في الأكوام غير المرتبة من الكتب والأغراض الشخصية، فمثلاً: طالب العلم يحتاج في البداية إلى ترتيب مكتبته أو عمل فهرسة لها وتصنيف الكتب ووضعها في أدراج وتقسيمات معينة ويحافظ على هذا الترتيب، ليس أن يرتب في البداية ثم يهمل بل يحافظ على هذا الترتيب، هذه العملية تأخذ وقتاً كبيراً، ولكنها توفر عليه أوقاتاً تضيع عادة في البحث عن كتاب ضائع وسط أكوام الكتب الملقاة بعضها فوق بعض، وكذلك الذين يضعون ثيابهم بعضها فوق بعض ثم يحتار: أين النظيف من المتسخ؟ وبعض الناس من طبيعتهم أنهم لا يحبون الترتيب، ويقولون: نحن ضد الروتين كما يقولون، ولذلك فإنهم غير مستعدين أن يسيروا على أي خطة، ويتضايقون إذا حددوا بأشياء معينة، ولذلك يريد أن يكون الواحد منهم سبهللاً يمشي فارغاً بدون هدف.
وبعض الناس يتركون للآخرين ترتيب الوقت لأشياء معينة، فتجد الطالب مثلاً يترك للمدرسة ترتيب جدول الحصص وكذلك في الجامعة، وكذلك الموظف في الشركة وقته محدود بنظام الشركة، لكن اسأل هؤلاء ماذا يعملون في النصف الآخر من يومهم بعد أن يخرجوا من المدرسة أو الجامعة أو الشركة؟ أجبروا على نظام معين وخطة معينة في الجامعة أو في الشركة ولكن في بقية النهار والليل ماذا يفعلون؟(249/4)
الجدولة والتخطيط وشروطهما
لا بد أن يكون المسلم واعياً، لا بد أن يكون مخططاً لكل ما يريد أن يفعله، فعلى سبيل المثال: إن إنفاق عشر دقائق مثلاً في أول كل يوم في كتابة مذكرة صغيرة بما ينبغي أن تفعله في هذا اليوم، أو مثل ذلك في آخر كل يوم بما تنوي أن تفعله في اليوم التالي، يوفر عليك عناءً كبيراً، ويجنبك نسيان ما يجب أن تفعله في المستقبل، وإذا كان بعض الناس ذوي ذاكرة طيبة؛ فلا بأس أن يجدولوا أعمالهم في أذهانهم، ولكن كثيراً من الناس من سريعي النسيان ينبغي أن يعمد إلى الكتابة، ولئن كان وأهل الدنيا يجعلون جداول زمنية لإنهاء مشاريعهم ومقاولاتهم، فتجد المقاول يعمل جدولاً زمنياً دقيقاً ومرتباً لمراحل العمل، فيقسم المراحل ويجعل لكل مرحلة وقتاً معيناً يجب أن تنتهي فيه هذه المرحلة، وتكلفة هذه المرحلة، والعمال في هذه المرحلة، والمواد المستخدمة في هذه المرحلة، وهكذا يعملون بدقة لكي يكسبوا مالاً في النهاية.
نحن المسلمين أصحاب الرسالة يجب أن نكون أشد من هؤلاء تخطيطاً ودقة في تصريف أوقاتنا، واسأل نفسك هذين السؤالين قبل أن ترتب أي جدول أو تنظم أي خطة: أولاً: هل هذه الأعمال التي تريد أن ترتبها هي من مرضاة الله؟ ثانياً: كيف تقوم بها على خير وجه؟ بعض الناس يأتون بلائحة من الأعمال، ويتفننون جيداً في الطريقة المثلى للقيام بكل عمل، فعندهم كفاءة عالية في أداء الأعمال، لكنهم لا يسألون أنفسهم قبل هذا: هل هذا العمل أصلاً مجزي ومثمر؟ مثلاً يستطيع إنسان أن يرقص بشكل صحيح وكفاءة عالية ويستطيع أن ينظم جدول طيران إلى مكان من أمكنة الفسق بأقصر وقت وأقل تكلفة، فهذا تنظيم ممتاز وتنفيذ رهيب، لكن هذا العمل أصلاً هل هو من طاعة الله؟ فيحتاج أن نفكر من هذين المنطلقين.
وفائدة الجدولة ووضع الجداول كبيرة، وخصوصاً أنها تشعر الشخص الذي ينظم وقته بأي انحراف في صرف الأوقات، وتنبهه لأي ضياع في هذه الأوقات؛ لأنه يسير على خطة، فهو يشعر من خلال تنفيذ الخطة بأي انحراف، بخلاف الذين يسيرون على غير خطة -عشوائياً- لا يشعر بالأوقات الضائعة.(249/5)
أسباب فشل تنفيذ الخطط والبرامج
كثير من الإخوان يقول: لقد جربنا فوضعنا، ولكننا فشلنا في تنفيذها، وتحمسنا في بداية الأمر لأيامٍ معدودات ثم تعبنا، فأطلقنا الأمور على عواهنها.
لهذا الفشل أسباب: منها: أن بعض الناس يلجأ إلى تخصيص كل دقيقة في اليوم، وهذا مستحيل ولا يمكن، فيكون هذا من أسباب الفشل.
لا بد أن يجعل الإنسان في خطته أولاً الأشياء المهمة، وثانياً: يجعل أوقات فراغ للأمور التي تطرأ عليه، وكذلك لا بد من التدرج في تنفيذ هذه الجداول والخطط، وليس بهجمة حماسية تنتهي بالفشل الذريع، ويجب أن يأخذ المسلم بعين الاعتبار وهو ينفذ خطة وضعها أن الأشياء الطارئة المهمة من مرضاة الله وطاعته ليست مضيعة للوقت وليست فشلاً لهذا البرنامج، فمثلاً: قد يسير الإنسان على تخطيط معين في هذا اليوم، فجأة في منتصف الجدول يأتيه أحد إخوانه يقول: سيارتي تعطلت أريد أن تذهب معي إلى الورشة مثلاً، هذا العمل قد يستغرق ساعة من الزمن، وهذه الساعة قد تجعل هذا الجدول مختلاً، وبعض الناس قد يتضايقون ويقولون: فشل الجدول وفشلت الخطة، نقول: كلا.
لأن المسلم يعمل الأقرب من الطاعات إلى الله عز وجل، والمثالية الزائدة في جدولة الأوقات قد تجعل الشخص كالآلة لا يتفاعل مع الناس، ولا يحس بكثير من المشاعر النبيلة.
والمثالية الصرفة قد تجعل الشخص يتعامل مع الناس بجفاء، فليس المطلوب مثلاً أن يكون الإنسان دقيقاً جداً، فيكون ذلك الشخص الذي طلب مرة منه أحد إخوانه موعداً فقال له هذا الشخص المثالي: كم يستغرق الموعد؟ كم تريد؟ قال: ربع ساعة، قال: حسناً، فلما جاء الوقت المحدد قعد معه فتكلم وتكلم، فلما انتهت هذه الدقائق؛ نظر في ساعته، فلما رآها انتهت قام مباشرة دون كلام ولا سلام وخرج من المجلس وصاحبه لم يكمل كلامه بعد، إن مثل هذه الأشياء المثالية جداً قد تجعل بعض الناس بغيضين إلى بعض.
وقد يتساءل كثير من الإخوان: نحن نضع برامج وجداول ولكن تأتينا أشياء طارئة كثيرة فما هو التصور تجاه هذه الطوارئ؟ فنقول: نحن مسلمون لدينا علاقات أخوية وروابط اجتماعية، والأشياء الطارئة في هذه الجوانب موجودة بشكل واضح، ونحن دعاة إلى الله عز وجل، وحياة الداعية وأيامه مملوءة بالمفاجأة والأحداث، ولكن ينبغي أن تعلم أيها الأخ المسلم أن الأشياء الطارئة والمهمة لا تعني أن الخطة والجدول فاشل، فإن المهم إرضاء الله في كل لحظة؛ وتقديم ما يحبه الله وليس المهم هو أن ينجح الجدول (100%) فلو أنك تسير على جدول مثلاً ثم بلغك موت قريب لك فماذا تفعل؟ أو جاءك ضيف مثالي فماذا تفعل؟ يجب أن تقوم بحق الضيف، وتذهب للتعزية وحضور الدفن ونحو ذلك.
ومن أسباب الفشل في تنفيذ الجداول: عدم تعود الناس على هذه الأشياء المحددة، فالنفس تكره التحديد النفس تريد الانطلاق بلا حدود، ولذلك فإن النجاح في تنفيذ هذه الخطط يعتمد على تعويد النفس على الالتزام والدقة، وهذا أمر تكرهه النفس، والتعويد أمر صعب، ولكن إذا جاهد الإنسان نفسه من البداية فإن النهاية تكون سعيدة، وإذا جاهد الإنسان نفسه في أن يتعود على أمور معينة، فإن هذه الأمور تصبح طبيعية في النهاية وسهلة، بل إنه يفعلها لا شعورياً دون أن يحس بأي كلفة.(249/6)
خطوات التعود على العادات الطيبة
لكي يتعود المسلم على العادات الطيبة فلا بد له من خطوات منها: أن ينطلق في البداية بقوة للتعود على شيء معين وبحكمة، فينطلق بحماس في تنفيذ هذه العادة والتعود عليها وتضبطه الحكمة، وأن ينتهز أقرب فرصة للتعود؛ لأن الإنسان إذا جلس يسوف ويقول: سأتعود في المستقبل؛ فإنه لن يتعود، وقد تضيع الفرصة منه نهائياً، ويكون الفشل أشد مرارة في نفسه من لو أن الفكرة لم تخطر بباله أصلاً.
ويمكن للمسلم أن يستعين للتعود على هذه العادات بالآخرين، وهذا ما يؤكد أهمية التربية الجماعية، فإن الإنسان قد يصعب عليه أن يتعود لوحده، لكن إذا التزم مع إخوة له على عادة معينة؛ إن الأمر يصبح سهلاً؛ لأن الجماعة تسهل على الفرد، وقضية أن يلتزم شخص داخل جماعة أسهل من أن يلتزم شخص لمفرده، لأن بعضهم يشجع بعضاً.
ومن النصائح في قضية التعود على العادات عدم عمل أي استثناء في البداية حتى تصل العادة، وإلا فإن حليمة سترجع إلى عادتها القديمة، مثلاً: لو شعر الإنسان ببركة الوقت بعد صلاة الفجر وأن الله قد بارك لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في بكورها، فأراد أن يتعود على عدم النوم بعد صلاة الفجر وعلى استغلال الوقت بعد صلاة الفجر، قد يتحمس في اليوم الأول فلا ينام بعد الفجر، ويستغل الوقت في قراءة قرآن وذكر ومذاكرة وعمل، لكن الخطر يكمن في أن بعض الناس في اليوم الثاني أو الثالث أو الرابع في التعود في الأيام الأولى المبكرة، قد ينام متأخراً نوعاً ما، فيأتي ويقول: هنا أريد استثناء، اليوم نستثني ننام بعد الفجر، وغداً سيكون هناك استثناء آخر وتتعدد الاستثناءات وهكذا تفشل قضية التعود.(249/7)
وسائل توفير الوقت(249/8)
توفير الوقت بتحديد مواعيد الأشياء الثابتة في كل يوم
ومما يعين المسلم على تنظيم أوقاته تحديد مواعيد الأشياء الثابتة في كل يوم، فمثلاً: تحديد موعد النوم موعد الوجبات موعد الزيارات موعد الجلسات موعد المذاكرة وهكذا.
إن دين الإسلام يساعد المسلم على تنظيم وقته بشكل عظيم، فانظر مثلاً إلى الصلوات الخمس، فهي عبارة عن خمسة حدود يومياً موضوعة في اليوم خمس محطات تساعدك في تنظيم الوقت، ولذلك تجد مواعيد المسلمين بعد العصر بعد العشاء بعد المغرب بعد الفجر قبل المغرب بكذا، أما مواعيد الكفار فليس عندهم هذه الأشياء التي تساعدهم في تحديد وتنفيذ المهمات، لكن المسلم تعوده الصلوات الخمس أن يذهب إلى المسجد في هذا الوقت وفي هذا الوقت فهناك أوقات ثابتة يومياً، وهذا من فوائد دين الإسلام.
كذلك لا بد من تخصيص وقت للمشاوير، نحن نجد أن المشاوير التي نذهب بها يومياً تأخذ وقتاً من حياتنا، ولذلك لا بد أن يفكر الإنسان قبل أن يخرج في مشوار ما ماذا سيفعل؟ وإذا كان عنده أكثر من حاجة يشتريها يفكر قبل أن يخرج ما هي جميع الحاجات، ثم يفكر في الطريقة المثلى التي يسلكها في مشواره حتى يأتي بجميع الحاجات في أقل وقت، بعض الناس لا يفكرون، يذهب يشتري شيئاً ويرجع للبيت ثم يتذكر شيئاً آخر ويذهب ويشتري ويرجع وهكذا، وبعض الناس لا يفكر في الطريق، فيذهب هكذا ويشتري ثم يذهب هكذا ويشتري ثم يرجع إلى المكان الأول ويشتري وهكذا.
والتخطيط الجيد عموماً يستلزم ثلاثة عناصر، وهي عبارة عن ثلاثة أسئلة يسألها الإنسان نفسه: ما هي الأشياء التي أشتريها؟ متى أذهب؟ كيف وما هي طريقة المشوار؟(249/9)
توفير الوقت بتوزيع المهمات
من الأمور التي تساعد على توفير الأوقات وإن كان لطبقة معينة من الناس: قضية توزيع المهمات، وخصوصاً المطلعين بالمهام التربوية والعلمية، أو مثلاً الأب مع أولاده، إذا أراد الأب أن يقوم بكل شيء في البيت سيستهلك وقتاً كثيراً، ولكن لو استعان بأولاده مثلاً فوزع عليهم المهام، فإنه سيرتاح إلى حد بعيد، وكذلك المربي فإنه إذا وزع المهمات على إخوانه فإنه سيوفر لنفسه وقتاً كثيراً بالإضافة لما يسببه هذا التوزيع من ازدياد ثقة هؤلاء بأنفسهم وتدريبهم على القيام بالأمور الجديدة، وفي نفس الوقت الذي يفرغ وقتاً يستطيع فيه القيام بأمور أخرى هو، أو يزيد كفاءته في أمور يفعلها أصلاً، فلنفرض أن طالب علم مثلاً يدرس في حلقة تجويد وأخرى في التفسير وثالثة في الفقه وهكذا وهو منشغل، هذا الرجل لو درب أحد إخوانه على القيام بأمر حلقة التجويد مثلاً، فإن هذا سيفرغه للقيام بشيء آخر مهم، أو زيادة تفرغه لتحضير حلقات التفسير والفقه وهكذا.
لا بد أن نشير هنا إلى قناعة موجودة عن بعض المعلمين، وهي أنه يريد أن يفعل كل شيء بنفسه، لأنه يعتقد أن الآخرين سيفعلونه بكفاءة أقل أو يفشلون فيه، فلا يوزع المهمات عليهم، ويستشهد بالمقولة المشهورة: "ما حك جلدك مثل ظفرك فتول أنت جميع أمرك".
ونحن نقول: هذا المثل قد يكون صحيحاً فيما هو من شئونه الخاصة، أو فيما يجزم أن غيره لن يستطيع القيام به من خلال التجربة مثلاًً، فأما ما كان من الأمور التي يستطيع أن يفعلها الآخرون؛ فلا يمكن الاستشهاد بمثل هذه المقولة.(249/10)
توفير الوقت بدفع المال
ومن وسائل توفير الوقت دفع المال، إذا استطعت أن توفر وقتاً بدفع المال فافعل، وفي المثل المشهور: الوقت من ذهب، ولكن هذا المثل خطأ؛ فإن الوقت لا يقدر بأي قيمة، فالذهب لو خسرته يمكن بعد عدة صفقات أن ترجعه أو تسترجع أكثر منه، لكن الوقت إذا ذهب كيف تسترجعه! هيهات هيهات! ولا يمكن رجوع الوقت ولا شراؤه.
ولذلك تجد أنت على سبيل المثال أجهزة الهاتف بعضها مثلاً بالأزرار وبعضها مثلاً بالقرص، ولا شك أن الهاتف الذي بالأزرار يأخذ وقتاً أقل في الاتصال إذا كان مصمماً بالطريقة الفورية لدق الأرقام، فإذا كنت تستطيع أن تستعمل هذا فاستعمله؛ فإنه يوفر لك على المدى البعيد وقتاً، وبعض الهواتف فيها أزرار لإعادة المكالمة تلقائياً إذا استطعت أن توفرها فافعل، لا تتوانَ في شراء جهاز لزوجتك في البيت مثل الغسالة أو الموقد أو أي وسيلة من وسائل الراحة العصرية التي توفر لزوجتك وقتاً، إذا استطعت أن تدفع نقوداً لتشتري وقتاً فافعل.
فهذا محمد بن سلام البيكندي شيخ البخاري رحمهما الله المتوفى سنة [227هـ] كان في حال طلب العلم جالساً في مجلس الإملاء والشيخ يحدث ويملي، فانكسر قلم محمد بن سلام وهو يكتب، طبعاً الشيخ لن ينتظر واحداً من الطلبة حتى يأتي بقلم، وهذا صاحبنا من الطلبة المواظبين المجدين الذين يعرفون قيمة الوقت، فأمر محمد بن سلام البيكندي أن ينادى: قلم بدينار قلم بدينار، والقلم يساوي أقل من دينار، فتطايرت إليه الأقلام، لأن الناس يريدون الدينار، فدفع مالاً ليوفر وقتاً.
وستجد في المقابل من الناس الفارغين البطالين من هو مستعد أن يعطي من وقته ويضيع مالاً لذلك.(249/11)
قتل مضيعات الوقت في مهدها
ومن الأمور التي تساعد على استغلال الوقت والمحافظة عليه: قتل مضيعات الأوقات في مهدها، فهناك أمور تضيع الأوقات.
قال ابن القيم رحمه الله: إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها.
إذا أنت مت انقطعت عن الدنيا، ولكن إذا اشتغلت بالأشياء التي تضيع الوقت بلا فائدة فإنك تكون قد انقطعت عن الله والدار الآخرة، ولا بد أن يكون عندنا مفهوم واضح للأشياء التي تضيع الوقت، فليس من ضياع الوقت ما كان في طاعة الله، لذلك قد تكون مساعدة الوالدين وشراء الأغراض لهما، أو الذهاب بالولد إلى العيادة ومساعدة أخ في الله في إصلاح سيارته مثلاً لا يمكن أن نعتبره مضيعة للوقت؛ لأنه من طاعة الله.
ولذلك بعض الناس عندهم مفاهيم غريبة في خسارة المال أو ضياع الوقت، يقول: والله نحن ضيعنا من وقتنا العام الماضي عشرة أيام في الحج، ونحن خسرنا عشرة آلاف ريال في الحج، فليس هذه خسارة، كيف تسميها خسارة؟! ليس من إضاعة الوقت مثلاً الصبر على التربية اللازمة لإقامة المجتمع المسلم، ومن لا يقبل بذلك فهو متهور، يريد اختصار ما لا يمكن اختصاره؛ لزعمه أن طريق التربية بطيء وهو مضيعة للوقت، ولذا تجد أكثر هؤلاء شعارهم العنف؛ لأنهم يريدون تغيير كل شيء بالقوة وبأسرع طريقة، ولسنا نعني هنا أنه لو حانت فرصة طيبة أن تستغل.
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإن فساد الرأي أن تترددا
ما هي الأشياء التي تستهلك الأوقات؟ ذكر ابن القيم رحمه الله أشياء الإسراف فيها مضيعة للوقت، وهي: النوم والأكل والكلام، إذا زادت عن حدها صارت مضيعة للوقت.(249/12)
النوم
النوم مثلاً نعمة من نعم الله لولا النوم لعشنا في شقاء، لأن الإنسان مطلوب منه أن يعطي جسده حقه (وإن لجسدك عليك حقاً) ولكن ليس معنى هذا أن ينام الإنسان الساعات الطويلة المتواصلة، أذكر أنني أيقظت شخصاً في وقت الظهر أو العصر، فقلت له: منذ متى أنت نائم؟ فقال: نمت من قبل مغرب اليوم الماضي وهكذا فإن بعض الناس ينام الساعات الطويلة جداً ويستغل وقته في النوم، وبعض الناس يعتقد أنه لا بد أن ينام ثمان ساعات، مع أن هذه المسألة كما أثبت أهل الطب أن الأجسام تختلف، فبعض الناس يحتاجون ثمان ساعات فعلاً وبعض الناس تكفيهم ست ساعات، وبعض الناس تكفيهم أقل، وبعض الناس تكفيهم أكثر، والمسألة تعتمد كثيراً على التعود وعلى طبيعة جسم الإنسان، وعلى نوع الوظيفة التي يقوم بها وهكذا، وبعض مشاهير الدعاة كانوا ينامون أربع ساعات فقط في اليوم، ليستغل في الأوقات الأخرى في طاعة الله، فهو يعلم أنه يسابق بالخيرات.
ومن الأمور المهمة في النوم: القيلولة، لقوله عليه الصلاة والسلام: (قيلوا فإن الشياطين لا تقيل) فالوقت الذي يكون الشيطان فيه سارحاً يمرح المفروض أننا نحن نكون في نوم، ولا نتأخر في السهر؛ فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قد كره السهر بعد العشاء الآخرة إلا للعلم أو الأشياء المهمة أو الضيف مثلاً، الآن انعكست عندنا الآية فالوقت الذي يكون المفروض فيه أن ننام نستفيق، والوقت الذي ينبغي أن نكون مستفيقين ننام وهكذا.
صحيح أن طريقة الحياة المعاصرة تجبرنا على أشياء من الاستيقاظ، مثلاً: الآن في قضية الدوام والحصص تجد أن الحياة مصممة على أنك تستيقظ في وقت القيلولة، ولكن لو استطعت أن تقيل فافعل، ولو استطعت أن تنظم جدولك بحيث تنام في وقت القيلولة؛ فافعل.(249/13)
وجبات الطعام
من الأمور المضيعة للوقت كذلك: وجبات الطعام، سواء أثناء الوجبات على المائدة كما يحصل عندما يجتمع أناس على طعام فيطول الكلام في أشياء غير مفيدة، والأكل الذي كان يمكن أن يلتهم في عشر دقائق لا يفرغ منه إلا في نصف ساعة أو ساعة إلا ربع أو أكثر، وقد يكون تضييعاً لمواعيد الطعام كما يقع مثلاً لبعض طلاب الجامعات، فإنه لا يلتزم مثلاً بأوقات المطعم؛ فيضطر بعد ذلك أن يذهب بعيداً ليشتري طعاماً وينفق في ذلك وقتاً ومالاً.(249/14)
الاجتماعات على غير فائدة شرعية
ومن الأمور التي تضيع الوقت وتستهلكه الاجتماعات على غير فائدة شرعية، قال ابن القيم رحمه الله: الاجتماع بالإخوان على قسمين: أحدهما اجتماع على مؤانسة الطبع وشغل الوقت، فهذا مضرته أرجح من منفعته، وأقل ما فيه أنه يفسد القلب ويضيع الوقت.
فمن أكبر الأشياء التي تضيع الوقت النقاشات غير المفيدة أو غير الهادفة في بعض المجالس، مثل: النقاش ليثبت كل شخص من المتناقشين أنه على الصواب وأن الآخر على الخطأ من غير أدلة وتجرد، واجتماع الناس هكذا على حب التسلية وتمضية الوقت ينبغي أن ينتبه لها المسلم جيداً، فبعض الشباب لا يرد أحداً طلب منه أي طلب وإن كان تافهاً أو كان سيضيع عليه شيئاً أهم، فيأتي شخص يطرق عليه الباب، ويقول له: تعال معي، نريد أن نذهب فيخرج معه، يتصل له شخص بالهاتف، فيذهب معه وهكذا.
والحل: لا بد أن نتعلم الاعتذار المهذب عن كل عمل يصرفنا عن الغاية التي نسعى إليها، ولا بد أن نعتذر بلباقة عن كل انشغال يشغلنا به الفارغون، صحيح أنه قد يأتيك وشخص وتعتذر وقد يضغط عليك ويطلبك عدة مرات، والفوضويون يتخذون القرارات لحظياً ويمرون على من يعرفون ويقولون: تعال معنا وهكذا.
فليحذر العاقل هؤلاء البطالين، فما لم تكن تلك الروحة مهمة كشيء طارئ، مثلاً قيل لك: شخص توفي وهو يدفن الآن، فعليك أن تذهب إليه، قيل لك: إن فلاناً في المستشفى الآن وهذا وقت الزيارة، فعليك أن تذهب، فإنه من طاعة الله، كذلك تلبية حاجة الأبوين إذا طلب منك فعل ذلك.
يقول ابن الجوزي رحمه الله: لقد رأيت خلقاً كثيراً يترددون معي فيما اعتاده الناس من كثرة الزيارة، ويسمون ذلك التردد خدمة ويطيلون الجلوس، ويدلون فيه أحاديث الناس وما لا يعني، ويتخلله غيبة، فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء؛ كرهت ذلك، وبقيت معهم بين أمرين: إن أنكرت عليهم وقلت: لا أذهب معكم، وقعت وحشة، وإن تقبلته منهم ضاع الزمان.
فيقول رحمه الله: فصرت أدافع اللقاء جهدي -كلما أتى واحد من هؤلاء البطالين- أؤجل الموعد، فإذا غلبت -صار لا بد أن يدخل عندي- قصرت في الكلام لأتعجل الفراق، وبعضهم قد يلجأ إلى أساليب جيدة، فإذا أتاه شخص وهو مشغول؛ فإنه يقف، فيشعر الآخر بأنه لا يريد أن يقعد؛ فينصرف.
ويقول ابن الجوزي رحمه الله متابعاً: ثم أعددت أعمالاً لا تمنع من المحادثة، ولكن لا بد منها لأوقات لقائهم، لئلا يمضي الزمان فارغاً، فجعلت من الاستعداد للقائهم قطع الكاغد -لدى ابن الجوزي كتابات وتصنيفات ومصنفات يريد أن يكتبها- وبري الأقلام، وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لا بد منها ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم؛ لئلا يضيع شيء من وقتي.
انظروا كيف يحافظ العلماء على أوقاتهم، ولا بد من تعويد الآخرين على احترام وقتك، بعض الناس لأنه متسيب وليس عنده ثبات؛ فيأتي إليه الأشخاص الآخرون ببساطة وسهوله؛ لأنه ليس عنده ما يوقفهم عند حدهم، وتعويد الآخرين على احترام وقتك يكون بالتلميح أحياناً أو بالتصريح إذا لم يفهموا، وخذ على ذلك هذا المثال: دخل أناس على رجل من السلف فقالوا: لعلنا شغلناك، فقال: أصدقكم كنت أقرأ فتركت القراءة لأجلكم.
أي: إذا أردتم الصراحة فقد شغلتموني، لقد كنت أقرأ وعندما أتيتم تركت القراءة لأجلس معكم.
وكان ابن المبارك رحمه الله قد افتقده أحد أصحابه مرة، فقال: مالك لا تجالسنا؟ فقال ابن المبارك: أنا أذهب فأجالس الصحابة والتابعين.
أي: أنه يقرأ في سيرهم وتواريخهم وهكذا.
وعدم الحزم في مواجهة مضيعي الأوقات مشكلة، وبعض المزورين لا يصبر على الوحدة ومتى لأن المزور؛ طمع الزائر، ولذلك تجد بعض الناس يعلقون على أبوابهم، مثلاً: الرجاء ممنوع الإزعاج، لكن هذه اللافتة تصبح ليست ذات معنى؛ لأنه لا يرد أي طارق ويفتح لكل أحد ويضيع الوقت.
وهنا ننبه إلى مزلق نفسي خطير، بعض الناس يظهرون الانشغال، وكلما جاء أحد يقول: أنا مشغول لا تكلمني، وهكذا ليس عندي وقت، ويمشي بسرعة في الممرات والطرقات، ويتظاهر أنه إنسان قد بلغ القمة في الانشغال، وإذا حاول أحد أن يستوقفه ابتعد، هذا قد يكون فيه شيء من الكبر والغرور والتظاهر بالانشغال.
لقد رأيت من أهل الفضل من أعلم أنه في غاية الانشغال بالعلم وانقطاع عن الناس، لكن إذا أتيته تجده كأنه متفرغ لأجلك، والناس طرفان: منهم من يستقبلك ويلبي طلباتك وهو مشغول على قدر وسعه وطاقته، ومنهم من يظهر نفسه أنه مشغول وهو فارغ، وهذا شيء خطير، فالمتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور، وبعض الناس عندهم عقدة، فيريد أن يظهر أنه منشغل وهو فارغ.
كانت الجارية تأتي وتذهب بالرسول صلى الله عليه وسلم ليقضي لها حاجتها، فيذهب معها ويقضي لها حاجتها وهو الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان مشغولاً، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان عنده من الوقت ما يداعب به أهله ويلاعب به الصبيان ويقضي حوائج الناس، ولم يقل لأحد إذا أتاه: أنا مشغول، ابعد عني لا تكلمني.(249/15)
المكالمات الهاتفية
ومن مضيعات الوقت المكالمات الهاتفية، فإنها أحياناً تجعل الشخص يستمر في الكلام ساعات أحياناً، وخصوصاً النساء اللاتي لا يجدن سبيلاً في رؤية بعضهن، فيكون الهاتف هو سلوتهن وعزاؤهن في تكليم بعضهن بعضاً، وهناك مشاكل زوجية كثيرة موجودة تحصل بسبب مصروف فواتير الهاتف؛ لأن الزوجة تتكلم كثيراً مكالمات خارجية ثم تقع الخلافات بين الزوجين، فضلاً أن تكون هناك تكليفات مادية، كما يجب أن تنتبه الزوجة إلى أن المسألة فيها ضياع وقت لها.(249/16)
وسائل اللهو
ومن مضيعات الأوقات: وسائل اللهو من البرامج والمسلسلات والجرائد والمجلات والألعاب والمباريات والمسابقات وغيرها، فإنها كثيراً ما توقع في المحرمات ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهذا حدث عنه ولا حرج، كيف يضيع مسلسل في تلفزيون أوقات المسلمين، أو كيف تضيع هذه المجلات الفارغة التافهة المنتشرة في الأسواق أوقات المسلمين والمسلمات، هذا شيء في غاية العجب! ولذلك تجد فيها من التنويع والتذليل والتحكيم والزخرفة أشياء تجلب الناس، فيضيع ساعات طويلة وهو ينقل التلفزيون من محطة إلى أخرى، ويفتح الجريدة والجريدة التي تليها والمجلة وهكذا تضيع منهم ساعات طويلة في هذه الأشياء، وهذه مسألة تحتاج إلى كلام منفصل عن الآثار السيئة لهذه الملهيات على الناس حيث إنها تحتاج إلى محاضرات وخطب منفصلة.
وبعض الناس تكون هوايتهم تضييع الأوقات في الحمامات عند الاستحمام، فتجده يقضي أوقاتاً طويلة وهو يستحم، مع أن الاستحمام لا يأخذ وقتاً، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع، لم يكن يغتسل بالصاع ساعات! ولكن تجد بعض الناس الآن يمكن أن يجلسوا في دورات المياه والحمامات ساعات طويلة جداً، ورحم الله جد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عندما دخل الخلاء قال لأحد أولاده: اقرأ هذا الكتاب، وارفع صوتك بالقراءة لكي أسمعك.
يقول ابن الجوزي: ولقد شاهدت خلقاً كثيراً لا يعرفون معنى الحياة، فمنهم من أغناه الله عن التكسب بكثرة ماله، فهو يقعد في السوق أكثر النهار ينظر إلى الناس، وكم تمر به من آفة ومنكر، ومع ذلك ينظر ويتضرر ولا ينكر، مع أن الله أغناه بما عنده من الملايين وهو يستطيع أن يعيش حتى لو ما فتح دكاناً، وقد تجد معه صبياً في الدكان وعنده من يقوم بأعماله وتجاراته إلا أنه يذهب ويجلس أمام الدكان، مثلما يحدث في بعض المناطق حينما تدخل أسواقهم، فتجد هذا يهش في الذباب وينظر في الغادي والرائح، وذلك الصبي يدير الدكان وهو جالس ينظر.
ومضيعات الأوقات كثيرة، ولكن ذكرنا بعضها؛ لكي تجتث من أصلها، وإذا قضيت عليها توفرت أوقات كثيرة.(249/17)
صفات الوقت الضائع
ما هي صفات الوقت الضائع؟ وكيف تحس أن هذا وقت ضائع؟ الوقت الضائع في غير فائدة هو الوقت الذي تحس بعد مضيه بشعور سيئ، مثل: النظر إلى التلفزيون، فأنت قد تكون سعيداً ومبسوطاً وفرحاناً وأنت تنظر وتستمتع إلى هذه البرامج، لكن بعد انتهاء البث وإغلاق هذا الجهاز، سيحدث عندك شعور بالضيق، ولذلك ليست السعادة في أن يتلهى الإنسان.
وانظر إلى أحوال الناس الذين يلهون بالنظر إلى التلفزيون ويقرءون هذه المجلات الفارغة التافهة، ويلعب من هنا وهنا، ومع ذلك يفكر إنه مبسوط في أثناء اللعب واللهو، لكنه بعد اللعب واللهو يصبح متضايقاً ولا يدري ماذا يفعل؟ لكن المسلم حاله: (أرحنا بالصلاة يا بلال) لا يرتاح فقط أثناء الصلاة لكنه يرتاح بعد أداء الصلاة، أما أولئك فتجد عندهم من الإمكانيات في بيوتهم وفي سفرياتهم أشياء عجيبة، لكنه يرجع من السفر متضايقاً جداً؛ لأنه انبسط أثناء اللهو لكن بعد اللهو يشعر بالضيق.
يقول أحد الكتاب الأمريكيين: إن (95%) من برامج التلفزيون لا يختلف العقلاء أنها مضيعة للوقت، فإن قلت لي: كيف أستغل وقتي؟ أقول لك: هناك بعض المشاوير التي لابد منها، وبعض فترات الانتظار ليس من سبيل إلى التخلص منها، مثلاً: مسافة الطريق أثناء السفر بالطائرة أو بالسيارة والانتظار أمام عيادة الطبيب هذه فترات انتظار ضائعة انتظار لابد منها، فعندما ترى بعض الناس المخلصين الواعين يستغلون أوقات السفر مثلاً في سماع الأشرطة الإسلامية المفيدة؛ فإنك تعرف أن هؤلاء عقلاء يعرفون كيف يستغلون أوقاتهم، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الحسن: (ما من راكب يخلو في مسيره بالله وذكره إلا كان ردفه ملك، ولا يخلو بشعر ونحوه -من هذه الأهازيج والأغاني- إلا كان ردفه شيطان) معه طيلة الطريق.
ويفرح المرء المسلم عندما يركب طائرة، فينظر إلى إخوان له لا يعرفهم، قد فتح بعضهم مصحفاً، وبعضهم يقرأ في كتاب علم، بينما الفساق والبطالون ينظرون إلى المحرمات ويتأففون ويذهبون بأبصارهم يميناً وشمالاً وينظرون في ساعاتهم، انظر هذا يقرأ القرآن ويستغل وقته أثناء السفر في الطائرة أو معه كتاب علم يفتحه، انظر الآن بعض الغربيين عندهم كتاب اسمه كتاب الجيب، فتجدهم دائماً يأخذونه معهم، كذلك نحن المسلمين نحتاج إلى تطوير كتاب الجيب الإسلامي؛ حتى يستغله المسافرون والذين ينتظرون في الأماكن العامة فيستفيدون من وقتهم بالقراءة.
وعندما تجد رجلاً عند عيادة الطبيب في المراجعات أو في المطار ينتظر وصول قادم أو ينتظر في صالة المغادرة لمسافر تجده قد فتح كتاباً أو يسمع شيئاً مفيداً؛ فإنك تحس أن هذا الرجل يعرف قيمة الوقت ويحسن استغلاله، أو على الأقل يفتح ورقة يبسطها على طاولة الطائرة مثلاً ويدون فيها أفكاراً مهمة، أو يحضر فيها موضوعاً يريد أن يفيد به مسلمين آخرين، أو على الأقل يدون أسئلة خطرت في ذهنه حتى إذا جلس مع أهل العلم سألهم إياها لئلا تضيع من ذهنه.
وأنت يا أخي المسلم تعجب من بعض الكفار حينما تراهم في الصباح يجرون أو يقودون الدراجة، تجده يضع في أذنيه سماعات مشبوكة بمسجل صغير يسمع فيها موسيقى "الإف إم" مستغلين بذلك أوقاتهم.
ولقد سمعت مرة من الإخوة يقول: وأنا أقلب المذياع وقعت على جزء من مقابلة مع موسيقار مشهور يقول في المقابلة: إنه تعرض لي أحياناً وأنا أسير في الطريق أو وأنا أركب الحافلة في ذهني لحن معين فيقول: كي لا أضيع هذا اللحن مني أو أنساه؛ فإنني أصطحب معي مسجلة صغيرة في جيبي أسجل ذلك اللحن مباشرة قبل أن أفقده.
إذا كان هؤلاء التافهون يصل بهم استغلال الوقت في الأمور السيئة إلى هذه الدرجة؛ فنحن أصحاب الرسالة أولى وأحرى من هؤلاء الفارغين.(249/18)
حال السلف مع الوقت
لقد ضرب سلفنا رحمهم الله تعالى أمثلة عجيبة في الاستفادة من أوقاتهم، فهذا أبو نعيم الأصفهاني المتوفى سنة [430هـ] كان حفاظ الدنيا قد اجتمعوا عنده، وكل يوم نوبة واحد منهم، يقرأ ما يريده إلى قبيل الظهر على الشيخ، فإذا قام إلى داره ربما يُقرأ عليه في الطريق جزءٌ وهو لا يضجر.
وكان سليم الرازي شافعياً فنزل يوماً إلى داره ورجع فقال: لقد قرأت جزءاً في طريقي.
وقال الحافظ الذهبي رحمه الله في ترجمة الخطيب البغدادي كان الخطيب يمشي وفي يده جزء يطالعه.
وكان ابن عساكر رحمه الله كما يقول عنه ابنه: لم يشتغل منذ أربعين سنة إلا بالجمع والتسمية حتى في نزهته وخلواته، يصطحب معه كتب العلم والمصحف يقرأ ويحفظ.
وكانوا يحرصون على استغلال الوقت في عمل أكثر من شيء في نفس الوقت، فقد كان بعضهم إذا حفي عليه القلم واحتاج إلى بريه يحرك شفتيه بذكر الله وهو يصلح القلم، أو يردد مسائل يحفظها لئلا يمضي عليه الزمان وهو فارغ ولا دقيقة.
وكان أبو الوفاء علي بن عقيل رحمه الله يقول: إنني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري؛ حتى إذا تعطل لساني عن المذاكرة وتعطل بصري عن المطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا منصرف، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره.
أي: هو الآن لا يجد كلاماً ولا شيئاً يقرؤه، فيأخذ راحة وفي أثنائها يشغل فكره.
يقول ابن القيم رحمه الله: وأعرف من أصابه مرض من صداع وحمى وكان الكتاب عند رأسه، فإذا وجد إفاقة؛ قرأ فيها، فإذا غلب؛ وضعه، انظر حتى حال المرض، إذا وجد خفة؛ فتح الكتاب وقرأ، وإذا اشتد عليه أرجع الكتاب عند الوسادة.
وأنتم لو نظرتم إلى حال علمائنا في هذا العصر؛ لوجدتم من استغلالهم لأوقاتهم أموراً عجيبة، فأنت مثلاً عندما تتصل بالشيخ/ ابن عثيمين لتسأله، فإنك تجد أنه يجيب على الهاتف من خلال المكبر ولا يرفع السماعة، وأنت تسأله تسمع صوت الأوراق وهي تقلب، فهو يتكلم ويقرأ ويجيب ويراجع في هذا الوقت، وتجد أيضاً أنهم مع محافظتهم على أوقاتهم يحددون أوقاتاً معينة، فهذا الوقت للقراءة، وهذا الوقت للتدريس، وهذا الوقت للإجابة على الهاتف، وهذا الوقت للنوم، وهذا الوقت للذهاب إلى العمل وهكذا.
وعندما تتأمل إلى حياة شيخنا/ عبد العزيز بن باز رحمه الله، هذا الرجل الذي فقد بصره وله من العمر تسعة عشر عاماً، لوجدت في استغلاله لوقته أمراً عجيباً، فإنه يسأل ويناقش حتى على الطعام، بل وحتى عند المغسلة وهو يغسل يديه وفي المجلس وفي الطريق إلى المسجد وبعد الخروج منه، حتى إنه ربما أعاد ذكراً فاته لسؤال أجاب عليه.
كان في ذهني مسألة وهي: إذا انتهى الأذان؛ وفاتني متابعته، فماذا أفعل؟ هل فات وقت الترديد أم لم يفت؟ هل أعيد الأذان بعد ما انتهى مع أني ما انتبهت من البداية؟ فكانت المسألة في نفسي ليس عندي فيها جواب، حتى حضرت مرة بجانب الشيخ حفظه الله وهو يجيب على مكالمة، وأثناء الكلام أذن المؤذن، وقريباً من انتهاء المؤذن؛ انتهت المكالمة، فانتبه الشيخ فجلس يردد الأذان من أوله حتى وصل إلى الموضع الذي وقف عنده المؤذن، ثم سألته، فكان هذا العمل جواباً على سؤالي، وهو أن المؤذن لو أذن وانتهى وأنت الآن انتبهت، فإنك تردد الأذان، أو انتبهت في حي على الصلاة؛ فإنك تأتي بها من أولها ثم تقف حيث وصل وتردد معه.
وكذلك إذا تأملت في حاله مثلاً وهم يسألونه في الحلقة وبعد الحلقة، حتى إنه لو ركب في سيارته، فإنهم لا يزالون يسألونه والسيارة تتحرك، بل ربما أنه قد أركب معه السائل في السيارة، فيجيب على سؤاله، ويعرض عليه كاتبه الأوراق والمسائل وتقرأ عليه المعاملات والفتاوي في السيارة، وربما سمع شيئاً وهو على الغداء، ويذكر الله حتى بين لقمتين، وشاهدت من علمائنا من يسأل حتى وهو يبحث عن نعاله بين نعال الناس.
وكان الشيخ/ محمد بن صالح بن عثيمين في مرحلة الطلب يدرس على شيخه عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله كان وقد يكون الشيخ/ عبد الرحمن مدعو لوليمة أو دعوة فيذهب للدعوة، فيماشيه الشيخ/ ابن عثيمين في الطريق حتى يصل إلى مكان الدعوة ثم قد يدخل معه وقد يرجع، ولكنه لو رجع فقد استفاد استفادة عظيمة.
وهؤلاء العلماء محافظون على وقتهم جداً، ومنهم علامة العصر في الحديث الشيخ/ الألباني رحمه الله، فإن بعض الناس قد يقول عن بعض المشايخ وهم يحددون أوقاتهم، يقول: الشيخ ناشف، الشيخ لا يعطينا وجهاً، وفي الحقيقة أن الشيخ يحافظ على وقته، وإلا لو استمر يتكلم مع الناس لذهبت عليه أمور كثيرة.(249/19)
تنظيم الوقت وقضية التسويف
ومن الأمور الضارة بمسألة تنظيم الوقت واستغلاله: قضية التسويف، والتسويف داء كبير يحرم من خيرات كثيرة دنيوية وأخروية، والتسويف عادة يحدث للمهمات الضخمة والصعبة، فالناس يؤجلون ويسوفون عندما تكون المسألة صعبة، فلذلك يجد في نفسه دافعاً للتأخير، والناس أمام المهمات الكبيرة أحد شخصين: يقول: هذه المهمة يجب عملها، ولكنها صعبة وشاقة؛ لذلك سأؤجلها قدر المستطاع.
وبعض الناس يقول: هذه مهمة ثقيلة ولكن يجب أن أقوم بها، فلأنفذها الآن وأرتاح، وهذا هو الرجل المضبوط الذي عندما تأتيه مهمة صعبة يقول: هذه صعبة لكن لابد أن أعملها وأرتاح منها.
والتسويف عادة يحدث في المهمات التي ليس لها بداية محددة أو نهاية محددة أي: مسألة مفتوحة، ولذلك بعض العوام يخطئون في قضية حكم الحج الآن، فعندهم الحج مسألة صعبة خصوصاً الذي لم يحج، فهو يقول: ماذا سيحدث هناك؟ سوف يتكلف للذهاب للحج شيئاً كثيراً، فلذلك تجد بعض الناس يؤخرون الحج، ويسوفون إلى السنة الآتية إلى التي بعدها وهكذا، فهم يؤخرون الحج لصعوبته هذا شيء، والشيء الآخر: يظنون أن الحج ليس على الفور وإنما هو على التراخي، والحقيقة غير ذلك، فإن الإنسان لو صار عنده استطاعة للحج هذه السنة فإنه يجب عليه أن يحج هذه السنة ولو لم يحج هذه السنة؛ فإنه يأثم؛ لأن الحج ليس على المزاج فمتى ما أردت أن ححجت تحج، لا.
إذا ملكت الاستطاعة من الزاد والراحلة وأمن الطريق إلى آخره؛ فيجب عليك أن تحج هذه السنة التي استطعت فيها مباشرة وليس لك أن تؤخر، قال عليه الصلاة والسلام: (عجلوا الخروج إلى مكة، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له من مرض أو حاجة) وقال: (من أراد الحج فليتعجل؛ فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة وتعرض الحاجة) حديثان صحيحان.
إذا كانت المهمة كبيرة وليست قابلة للتجزئة؛ فلابد من التحمس لفعلها وعدم تسويفها، ومما يعين على ذلك: التفكر في أهمية الأجر والثواب فيه، فمثلاً: عندما تفكر في أجر الحج، فعند خروجك من بيتك تقصد البيت الحرام؛ فإن لك بكل خطوة تخطوها راحلتك حسنة، تمحو سيئة وترفع درجة، وأما حلقك لرأسك فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة، وأما رميك الجمار فإنه مذخور لك، وأما مسح الحجر الأسود والركن اليماني فإنهما يحطان الخطايا حطاً، وأما وقوفك بـ عرفة فإن الله يباهي بك الملائكة، وترجع من الحج وقد خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك، عندما يتأمل الإنسان هذه المسألة يهون عليه الأمر ولا يسوف المهمات الكبيرة.
أما إذا كانت المهمة قابلة للتجزئة، فحاول أن تجزئ العمل الكبير إلى أجزاء صغيرة، وهذا تجده يفي كثيراً، وهو علاج للتسويف بحيث تستطيع أن تعمل عدة خطوات في البداية بسهولة فيسهل عليك الباقي، مثلاً: لو أن إنساناً كلف ببحثٍ في الجامعة مثلاًً وهذا البحث كبير فعليه أن يجزيء هذا البحث إلى أجزاء صغيرة جداً، فيكون: أولاً: إيجاد الموضوع.
ثانياً: البحث عن المراجع.
ثالثاً: توفير المراجع.
رابعاً: قراءة المراجع.
خامساً: وضع علامات على الأشياء التي تريد أن تنقلها.
سادساً: نقل هذه الأشياء ببطاقات.
سابعاً: ترتيب البطاقات.
ثامناً: تبييض المسودة.
تاسعاً: طباعة البحث وتغليفه وهكذا.
هذه المهمة أمكننا أن نجزئها إلى أجزاء، هذه الأجزاء تساعدك وتسهل لك إكمال البحث، لكن لو قلت: هذا البحث سوف أتمه من أوله إلى آخره فقد لا تستطيع، ثم تسوف وتقول: بعد ذلك ويقترب موعد تسليم البحث وأنت لم تعمل شيئاً بعد، وإذا كانت مشكلتك التسويف فلا تسوف في حلها، ولا بد أن تعلم -أيها الأخ المسلم- الفرق بين التسويف والتريث، فالتريث يعني: أن تنتظر الفرصة المناسبة فقد تكون الإمكانات والأدوات غير متوفرة ولم يحن الوقت المناسب بعد، بينما التسويف أن تدفع الأمر مع استطاعتك أن تعمله الآن، والحاجة إليه قد قامت، ووقته قد حان، ولكنك تتعذر بأعذار واهية، تقول: ليس عندي وقت ولا أستطيع أن أفعله لوحدي، سوف أنتظر غيري ليساعدني، سأحاول سأحاول وهكذا، يدفع الناس المهمات التي لا يقومون بها، ومعظم الأزمات في الأوقات تحدث عندما تؤجل الأشياء المهمة إلى آخر لحظة، فيكلف إصلاح الوضع عند ذلك طاقات كثيرة.
وبعض الناس يشغلون أنفسهم بقضايا تشعرهم أنهم يستفيدون مع أنهم غفلوا عن أمور أساسية كثيرة، فيتهرب من الشيء المهم ويؤجله ويشغل نفسه بأشياء تافهة وجانبية، فلو أن إنساناً عنده غداً امتحان، فبدل أن ينشغل به مثلاً تجده يرتب الطاولة والخزانة والكتب، وينشغل بهذه الأشياء، ويقنع نفسه بأنه يفعل شيئاً مهماً بينما هو قد غفل عن الشيء الأساسي.(249/20)
تحديد أوقات نهائية لإنهاء المشروع
ومن الأمور المساعدة في تنظيم الوقت وعدم التسويف تحديد أوقات نهائية لإنهاء المشروع، كتحديد وقت لقراءة كتاب مثلاً، تقول: لابد أن أنهي هذا الكتاب في تاريخ كذا، لكن هذا التاريخ ينبغي أن يكون مناسباً لطول الكتاب أو قصره وصعوبته وسهولته وهكذا، ولو أن الإنسان عجز عن الالتزام بأوقاته المحددة أمام نفسه، فإن من العلاجات أن يستعين بشخص آخر.
إن الشخص قد يصعب عليه أن يلتزم بوقت ما بمفرده، افرض مثلاً أنك قررت أن تحفظ جزءاً من القرآن في خلال أسبوع، لكنك فشلت، حددت وقتاً آخراً، قلت: آخر وقت هو الأسبوع القادم يوم الجمعة، لكنك فشلت، ومددت الوقت ثلاثة أيام وفشلت فمن الأساليب أن تلتزم مع آخرين في هذا الحفظ، وهذا ما يؤكد أهمية التربية الجماعية مرة أخرى، وهناك خدعة إبليسية يقع فيها بعض الناس، فبعض الناس يقول: أعمل الشيء كاملاً (100%) وإلا لا أعمله، ولذلك أحياناً يستطيع أن يعمل (70%) من العمل، لكن بحجة أنه لم يكمله إلى آخره، تراه يترك الموضوع.
وبعض الناس يستطيع مثلاً أن يوفر المراجع ويقرأها، ويخطط للأشياء التي يريد أن يكتبها وينقلها، لكن لأنه لم يجد -مثلاً- أدوات معينة أو أوراقاً أو طباعة أو ملفات أو شيئاً من هذا القبيل؛ فتجده يترك العمل، مثلاً: أحدهم يبحث في عشرين مرجعاً فما وجد إلا خمسة عشر مرجعاً يقول: لا يوجد فائدة نقفل، فبعض الناس عندهم هذه المشكلة النفسية يقول: إما أن أعمله كله أو أتركه كله، ونحن نعلم القاعدة: ما لا يدرك كله، لا يترك جله أو بعضه.(249/21)
استغلال الوقت في النافع والمفيد والأهم
الآن نحن عرفنا كيف نوفر الأوقات، ولكن السؤال الأهم: ماذا نعمل في هذه الأوقات التي وفرناها؟ نقول: أعظم الربح في الدنيا أن تشغل نفسك في كل وقت بما هو أولى بها وأنفع لها في معادها كما قال ابن القيم رحمه الله: إن أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته.
بعض الناس يقول: هل الأفضل أن أستغل وقتي في الصلاة أو في قراءة القرآن أو حفظ العلم، أو في الدعوة، أو مساعدة أخ مسلم ماذا أفعل؟ أحياناً يضطرب الإنسان في تحديد الشيء الذي يملأ به وقته، فنقول: اسمع هذا الكلام للإمام ابن القيم رحمه الله يقول: فأفضل العبادات في وقت الجهاد الجهاد، وإن آل ذلك إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار، والأفضل في وقت حضور الضيف مثلاً القيام بحقه أي: إذا جاء أحدهم ضيف، تجده يقول: والله إنًّ قراءة القرآن أنفع لي، فالحرف بعشر حسنات، وهذا الضيف دعه يذهب إلى الفندق أو المطعم وهذا أحسن له وأحسن لي، نقول: لا.
(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه).
لو جاء لزوجتك وأولادك حق عليك في شراء حاجيات يريدونها؛ فلا تقل: أريد أن أنزل إلى السوق فإن فيه مفاسد وهذه الأشياء مادية فاتركني أذهب إلى الصلاة أفضل لي.
والأفضل في أوقات السَّحَر الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر والاستغفار، والأفضل في وقت استرشاد الطالب وتعليم الجاهل الإقبال عليه، فالرسول عليه الصلاة والسلام ترك خطبة الجمعة لكي يعلم أعرابياً جاء يسأل عن دينه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرسي، فقعد عليه في أصل المنبر وعلمه.
فالأفضل في كل وقت بحسب الشيء القائم في ذلك الوقت.
فإذا أذن المؤذن أيهما أفضل قراءة القرآن أو إجابة المؤذن وقراءة القرآن الحرف فيه بعشر حسنات إلى سبعمائة ضعف؟ يبقى الأفضل ترديد الأذان، والأفضل في أوقات الصلوات الخمس إقامتها على وجهها الصحيح، والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج المساعدة بالجاه أو البدن أو المال وإغاثة اللهفان ولو أدى ذلك إلى ترك الأوراد والأذكار وقراءة القرآن، وليس الأفضل في وقت الوقوف بـ عرفة شراء البيبسي والبارد والتسكع والتجول في الشوارع وبين المخيمات؛ ليأخذ فكرة عن الحج وعدد الحجاج، يدخل في بعثة الحج الفلانية ويطلع في البعثة الطبية الفلانية ويحضر من هنا، والوقت الآن وقت تفرغ للعبادة والدعاء.
والأفضل في العشر الأواخر من رمضان الإقامة في المسجد والخلوة والاعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم، حتى لو كان تعلم علم فالاعتكاف أولى.
وعند مرض المسلم الأولى عيادته، وعند موته الأفضل حضور الجنازة والتشييع، وعند فساد الناس الأفضل الاشتغال بإصلاحهم ودعوتهم إلى الله عز وجل.
إذاً: عرفنا أنه إذا توفرت عندنا الأوقات؛ فإننا نشغلها بالأهم في كل وقت، ومن الأشياء المهمة معرفة الأولويات ما هو الأولى؟ ما هو الذي نقدمه على أي شيء؟ مثلاً في طلب العلم:
وإذا طلبت العلم فاعلم أنه حمل فأبصر أي شيء تحمل
وإذا علمت بأنه متفاضل فاشغل فؤادك بالذي هو أفضل
العلم إن طلبته كثير، والعمر في تحصيله قصير، فقدم الأهم فالأهم، لو أتيت تريد أن تنهي العلم لا يمكن، ينتهي عمرك ولا ينتهي العلم فماذا تفعل؟ تشتغل بالأهم، ومن شغل نفسه بغير المهم أضر بالمهم.(249/22)
أمثلة على الفوضوية في طلب العلم(249/23)
الاشتغال بعلم الكلام
ومن أمثلة ضياع العمر: الاشتغال بعلم الكلام كما ندم على ذلك جماعة من القدماء منهم الرازي الذي يقول:
نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبالُ
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقال
في بحثنا: أي في علم الكلام.
أنت يمكن أن تندم بسبب انشغالك بالأشعار أو تفاصيل القصص والتواريخ، لكن لا يمكن أبداً أن تندم إذا انشغلت انشغالك بالتفسير أو علوم السنة، ومعرفة معاني الأحاديث، فمعرفة معاني كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم أجل ما صرفت فيه أوقات طلبة العلم.(249/24)
الاشتغال بالأدوات أكثر من الانشغال بالهدف
بعض الناس يشتغلون بالأدوات أكثر من انشغالهم بالهدف، فيشتغل باللغة أكثر مما يشتغل فيما هو الهدف من دراسة اللغة، وهو الوصول إلى فهم القرآن والسنة، وبعضهم يقول: أنا أستغل وقتي وأقرأ ست ساعات في اليوم، فإذا نظرت في أي شيء يقرأ؛ وجدت أن خطة الشيطان في اشتغاله بالمفضول عن الفاضل قد تحققت، واللازم في طلب العلم طلب المهم، فرب واحد يأتي على حديث يحفظ له اثنا عشر طريقاً أو عشرين طريقاً مثل: (من أتى الجمعة فليغتسل) لكنه ينشغل بذلك عن معرفة آداب الغسل.(249/25)
عدم إكمال الأشياء
من الفوضوية في طلب العلم عدم إكمال الأشياء، وهذه نقطة مهمة، مثلاً: أحياناً تجد أحدهم يبحث في مسألة: هل الصوم في كفارة اليمين لمن عجز عن الإطعام متتابع أم متفرق؟ فيبحث وأثناء البحث لم يصل للمسألة لكنه وقف على مسألة أخرى، مثلاً النفاس: هل هو أربعون يوماً أو أكثر، فينشغل في هذه المسألة، وبينما هو يقرأ وجد حديثاً فأراد أن يعرف هل هو صحيح أم ضعيف؟ فبحث عنه فلم يجده فتتبع رجال الحديث فإذا به يجد رجلاً لا يدري كيف ينطق اسمه، هل لُهَيعة أم لَهِيعة؟ فذهب يبحث في كتب ضبط الأسماء، وكان الكتاب غير موجود، فيستعيره، وهكذا يظل يتنقل من مكان إلى آخر بدون أن يكمل ولا مسألة من المسائل، وهذه مسألة حاصلة يقع فيها كثير من طلبة العلم.(249/26)
متابعة جميع الأشياء الجديدة
من الفوضوية في طلب العلم متابعة جميع الأشياء الجديدة، فبعض طلبة العلم مغرمون بكل شيء جديد ظهر في السوق، فتراه يتابعه ويقرؤه، لكن متى تقرأ في فتح الباري ومجموع الفتاوي، وتفسير ابن كثير، والمغني إذا أنت كلما ظهر كتاب في السوق ذهبت وراءه.(249/27)
الانشغال بالفرعيات عن الهدف الأساسي
من الفوضوية في طلب العلم الانشغال بالفرعيات عن الهدف الأساسي، فقد يجتمع بعض طلبة العلم لمناقشة موضوع معين في جلسة علمية مثلاً، فيتفرغ هو وأصحابه في مناقشة إحدى المواضيع الفرعية وقتاً غير محدد، فينتهي الوقت ولم يقوموا بمواضيع تلك الجلسة، لذلك ترى بعض العلماء يضعون قوانين في جلسات العلم، مثلاً: تسمع دروس الشيخ/ ابن عثيمين في شرح كتاب النكاح، تجد قانون الشيخ في كل حديث يشرحه ممنوع أكثر من ثلاثة أسئلة، فلو سأل الأول والثاني والثالث وجاء الرابع يسأل يقول: لا.
اقرأ الحديث الذي بعده؛ لأنه لو افتتح باب الأسئلة.
فإن الشيخ لن يشرح كتاب النكاح ولا في عشرين سنة.
فإذاً: ينبغي ألا نتسرع ونحن قد شرعنا في دراسة موضوع أساسي.(249/28)
عوامل تحديد الأولويات
مما يساعد على معرفة الأولويات أن تعرف أن الأمور أقسام: هناك أشياء مهمة وملحة، مثل: أحدهم قام من النوم وبقي على انتهاء وقت الصلاة شيء بسيط، فلابد أن يصلي الآن فهو شيء مهم وملح، أو مثلاً: ولدك مريض جداً، لابد أن تذهب الآن إلى الدكتور فهو شيء مهم وملح.
وهناك أشياء مهمة لكنها ليست ملحة، مثلاً: شخص يريد أن يقرأ كتاب شرح العقيدة الطحاوية، هذا شيء مهم، لكن ليس عليه أن يقرأه الآن، أو مثلاً: يعمل كشفاً طبياً كل عام على جسمه، هو شيء مهم لكن ليس الآن مهم أن يعمله.
وهناك أشياء ملحة لكنها غير مهمة، مثلاً: اليوم خميس وغداً جمعة، فاكتشف أحدهم أن ثيابه كلها متسخة، هذا شيء ليس بمهم، لكنه ملح ولابد أن يغسلها، فأنت إن عرفت هذه الأشياء تعرف كيف تقدم الأولويات، وعندما تزدحم عليك الأعمال والأشغال؛ فهناك نظرية لطيفة تقول: إن من الأشغال لها (80%) هذه نظرية جيدة، أي: إذا صار عندك أشياء كثيرة في ذهنك واضطربت الأولويات عندك وما تدري ماذا تفعل؟! فمن القواعد المهمة أن تتذكر أن (20%) من الأشياء التي في ذهنك هي التي لها (80%) من الأهمية، و (80%) من الأشياء التي تريد أن تفعلها لها (20%) من الأهمية، فقدم الأهم فالمهم.
كذلك أن يعرف طالب العلم ماذا يفعل في كل وقت؟ وكيف يخطط في كل وقت لأي وظيفة؟ يقول ابن الجوزي رحمه الله: لما كانت القوة تكل فتحتاج إلى تجديد، وكان النسخ والمطالعة والتخطيط لابد منه مع أن المهم الحفظ، وجب تقسيم الزمان على أمرين: فيكون الحفظ في طرفي النهار وطرفي الليل، ويوزع الباقي بين عمله في النسخ والمطالعة وبين راحة البدن وأخذ لحظة، ولا ينبغي أن يقع الغبن بين الشركاء، فإنه متى أخذهم فوق حقه أثر الغبن وبان أثره.
وقد يكون هناك عمل علمي لابد أن ينزل منزلته في الوقت الملائم له، فمن الأعمال العلمية ما يصلح له كل وقت لخفته ويسر القيام به كالفهرسة، فيفهرس في أي وقت، وكذلك القراءة العابرة والكتابة والنقل من مكان إلى آخر، ولكن من الأعمال العلمية ما لا يكتمل حصوله على وجهه الأتم إلا في أوقات تصفو فيها الأذهان، وتنشط فيها القرائح والأفهام، فيحتاج إلى وقت فيه فراغ وسكون المكان.
يقول الكناني رحمه الله: أجود الأوقات للحفظ الأسحار، وللبحث الأبكار، وللكتابة وسط النهار، وللمطالعة وللمذاكرة الليل، وأجود أماكن الحفظ الغرف وكل موضع بعيد عن الملهيات، وليس بمحمود الحفظ بحضرة النبات والخضرة والأنهار وقوارع الطرق وضجيج الأصوات؛ لأنها من خلو القلب غالباً.
لذلك تجد البعض عندما يذاكر وقت الامتحانات تراه يذهب إلى الحدائق، أو يفرش على قارعة الطريق ويضع الترمس والشاي لكي يذاكر، وهو لا يمكن أن يذاكر في الحديقة وهو يرى الخضرة والمناظر والطيور تغرد، والسيارات في الشارع، فلا يمكن أن تركز، ولابد أن تجلس في مكان يحدك لا تنظر فيه إلى أشياء.
وكذلك ينتبه في محاسبة النفس على الأوقات الضائعة، واعلموا أن الوقت لا يضيع بالساعات وإنما يضيع بالدقائق، بعض الناس لو قلت له: تعال نضيع الوقت، يقول: لا.
لكن يمكن أن يضيع الدقائق ولو جمع بعضها إلى بعض لصارت في النهاية ساعات، أعطيكم مثالاً: بعض الشباب يقفون خارج المسجد يتكلمون، ولو قال لهم أحد الناس: يا إخوة تفضلوا معنا إلى البيت، قالوا: لا.
نحن مشغولون، ويقفون يواصلون الكلام وهكذا تمضي نصف الساعة وهم يتكلمون.
ومن هذه المحاسبة تنطلق هذه النقطة الأخيرة في موضوعنا: أن يسأل الإنسان نفسه عن كل وقت ذهب، كيف مضى؟ كيف فعلت فيه؟ ماذا أنتجت؟ فإنه عند ذلك تستبين له الأمور {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وأن يحفظ علينا أوقاتنا، وأن نستغلها في طاعته ومرضاته.
وصلى الله على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(249/29)
ماذا تفعل في الحالات التالية؟
المواقف التي يمر فيها الإنسان كثيرة، منها في أمور دنياه العادية ومنها في أمور عبادته ومعاملاته، ومنها مواقف محرجة تتطلب حسن التصرف.
وفي هذا الدرس بيان لتلك المواقف مع الحلول الخاصة بها.(250/1)
مواقف دنيوية طارئة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: نسأل الله تعالى أن يجعل لقاءنا لقاءً نافعاً، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
محاضرة هذه الليلة عن أمور متنوعة من المناسبات والأوقات التي يواجهها المرء المسلم في حياته، ويريد أن يعرف لها جواباً، وكيف يتصرف فيها، فيمكن أن نسمي محاضرتنا هذه بعنوان: ماذا تفعل في الحالات الآتية؟ وأمهد لهذا العنوان بمقدمة من الأمور الدنيوية ولعلكم لا تعجلون عليًّ أو تستغربون من إيراد بعض هذه الأشياء، لكن نريد أن نوضح شيئاً من المقصود، وفيها فائدة أيضاً.
أهل الدنيا في الأمور الدنيوية يجيدون كثيراً ويستعدون، ويأخذون الحيطة ويتأهبون لكافة الطوارئ والحوادث، ونحن المسلمون بطبيعة الحال نأخذ الحكمة أنَّى وجدت، لكن الفرق بيننا وبينهم أنهم يهتمون بدنياهم فقط ونحن نهتم بدنيانا وبآخرتنا، وإذا نظرت إلى الحالات الطارئة التي يمكن أن تحدث عند الذين قد تمرسوا بأمور الدنيا، ولنأخذ مثالاً على ذلك: الحالات الطارئة في الإسعافات الأولية ونحوها؛ فإنك ستجد أموراً كثيرة، كل مناسبة وكل حادثة فيها تفصيل وتأصيل وطريقة معينة ووسائل وخطوات تتبع، يحرصون عليها حرصاً كبيراً، فمن ذلك مثلاً: لو أصيب شخص؛ فإنهم يتكلمون عن أسلوب سحب المصاب بواسطة رجل أو اثنين أو ثلاثة بواسطة الكرسي أو النقالة أو البطانية ونحو ذلك.
وإذا أصيب بنزيف ظاهري يتكلمون عن أهمية وقف النزيف وسد الجرح، وإذا وجد في حالة إغماء وفي فمه قيء، فيقولون لك: اخفض رأس المصاب، وأدر رأسه يميناً أو يساراً؛ حتى لا تترك للقيء فرصة للدخول في المسالك الهوائية، وتجنب لمس الحرق بأصابع اليد العارية، وتجنب إدخال أمعاء المصاب أو أحشائه داخل البطن إذا كانت بارزة للخارج.
وإذا جئت إلى قضية الحريق والحرائق فإنهم يقولون لك: ينبغي على الأسرة أن تتدرب على حالة إخلاء البيت، وإن الإطفائيين كثيراً ما يعثرون على ضحايا أكثرهم من الأطفال رابضين تحت الأسرة أو تحت الخزائن أو وراء الأبواب المقفلة كانوا يحاولون الاختباء من الدخان أو النار.
ويقول لك أصحاب الدفاع المدني: ينبغي أن يكون لكل غرفة مخرجان باب ونافذة مثلاً، وأنك لا تضيع الوقت في أمور تافهة عند حدوث حريق كارتداء ملابس أو البحث عن نقود أو ذهب، وأنه ينبغي عليك أن تتحسس الباب في المبنى المحترق قبل فتحه، فإن كان حامياً فتخرج إلى النافذة أو بارداً فتفتحه بحذر، وإذا كان المخرج عابقاً بالدخان؛ فإن عليك أن تزحف على صدرك قريباً من الأرض ويسمونها المنطقة الآمنة، وإذا التقطت النيران ثيابك؛ فانزعها فوراً، وإن لم تتمكن؛ فانبطح على الأرض، والتف حول نفسك حتى تنطفئ، ولا تركض مذعوراً؛ فإن النيران ستنتشر إلى بقية الثياب والجسد.
ويقولون لك أيضاً: في حالة حدوث تراشق بالنيران؛ فإن عليك أن تنبطح أرضاً، وأن تلصق جسدك ووجهك ويديك بالأرض، وعند حدوث أعمال عنف ولا يمكنك الفرار؛ فانبطح وغط وجهك ويديك، وابتعد عن النوافذ الزجاجية ونحوها.
وإذا ابتلع شخصٌ شيئاً وقف في حلقه، فإنهم يبينون لك كيفية التعامل مع هذه الحالة الطارئة، فإذا علق في حلقه قطعة من الطعام أو سدادة بلاستيكية مثلاً، ولم يستطع السعال لإخراجها أو شرب الماء؛ فإن عليك أن تقف خلفه، وتطوق خصره بذراعيك، وتضع قبضتك من ناحية الإبهام فوق سرته وتحت قفصه الصدري، وتضغط إلى الأعلى بقوة، وتكرر العملية حتى تخرج هذه السدادة، وإذا وقعت لك؛ فإن عليك أن تضغط بطنك إلى زاوية غير حادة تحت عظم الصدر؛ كي تجعل الرئتين تقذفان هذه السدادة.
ويقولون لك أيضاً: إذا وجدت شخصاً مختنقاً فعليك أن تنقله إلى مكان متجدد الهواء، وأزل الأربطة، وفك الأزرار حول العنق والصدر، ونظف الفم والأنف والمسالك الهوائية من أي مواد غريبة، وضع وجهه إلى الأعلى ورأسه إلى الخلف، وارفع فكه السفلي، وأغلق فتحتي أنفه بيدك، وخذ نفساً عميقاً، ثم ضع فمك في فم المصاب، وانفخ بقوة بحيث تجعل صدر المصاب يتحرك، ثم ارفع رأسك؛ حتى يتمكن المصاب من رد الهواء بنفسه، وافعل ذلك اثنتي عشرة مرة في الدقيقة حتى يعود إلى تنفسه الطبيعي.
وفي حوادث السيارات وغيرها يتعلمون كيف تتلافى شخصاً مسرعاً أمامك؟ وكيف تمسك المقود بقبضتين بيدين متوازيتين وتخفف السرعة؟ وكيف تنحرف إلى الاتجاه الآخر، وتخرج عن الطريق إذا استطعت، وتخفف الصدمة بصدم شجرة أو سياج، وإذا لم تستطع فتدير جانب سيارتك للاصطدام، لأن الصدمة الجانبية أهون من الصدمة الخلفية، وهكذا.
وحتى قضايا الطبخ وما يتعلق بحالات الطوارئ لربة البيت، فيعلمونها كيف تفعل إذا زاد الملح في الطعام؛ بأن تقطع قطعاً من البطاطس تجعلها في الطعام لكي يخفف الملح، وهكذا.
هذه الأمور الدنيوية لها ترتيب ولها أصول ولها قواعد ولها خطوات معينة تتبع وإرشادات.(250/2)
مواقف في العبادات والمعاملات
إن المواقف التي يتعرض لها المرء المسلم في عباداته ومعاملاته لكثيرة، فما هو الفقه الذي استعد به المسلمون لمواجهة الحالات التي قد تطرأ لهم في عباداتهم ومعاملاتهم؟(250/3)
وقوع حائل بينك وبين الحج والعمرة
إذا نظرنا في الشريعة أيها الإخوة! سنجد أن هناك كثيراً من الأمور قد ذكرت في آيات وأحاديث فيها تنبيه للمسلم إذا حدث له الموقف الفلاني ماذا يفعل، وكيفية صلاة الخوف مثالٌ على ذلك، وقول الله سبحانه وتعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] يدل المسلم على أنه إذا ذهب إلى الحج أو العمرة، ثم لم يستطع الدخول لحائل حال بينه وين الحرم، فماذا عليه أن يفعل وقد أحرم وتلبس بالعبادة؟ يأتي الجواب من لدن حكيم خبير: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] وتأتي السنة لتبين أن هناك إجراء وقائياً يمكن أن تفعله، بأن تشترط فتقول عند النية في الإحرام: فإن حبسني حابس؛ فمحلي حيث حبستني.(250/4)
وقوع منكر في مجلس من المجالس بوجودك
وكمثال آخر ورد في الكتاب العزيز، لو كنت -أيها المسلم- في مجلس من المجالس، ورأيت أمراً منكراً، أو دار النقاش حول قضية تخالف الدين وهي منكر من المنكرات، فما هو موقف المسلم في ذلك المجلس الذي حدث فيه هذا المنكر ويستهزأ فيه بآيات الله؟ يأتيك الجواب والخطوات في هذه الآيات الكريمة، قال الله عز وجل: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68] وفي آية النساء يأتي التوجيه أشد، فيقول الله عز وجل: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء:140].
فإذاً عليك أيها المسلم إذا كنت في مجلس، ودار حديث من بعض الناس فيه لمزٌ للدين واستخفافٌ ببعض الأحكام، أو استهانة واستهزاء، فعليك أن تنكر المنكر وتنهاهم وتنهرهم، فإن استجابوا فالحمد لله، وإن لم يستجيبوا فالواجب عليك أن تقوم من ذلك المجلس، ولا يجوز لك أن تواصل الجلوس فيه.(250/5)
لو ناب المسلم في الصلاة شيء
وفي الأحاديث الشريفة أمثلة كثيرة نريد أن نستعرض بعضها؛ لنبين ما هو موقف المسلم في الحالات التي تطرأ عليه في عباداته ومعاملاته؟ لو ناب المصلي شيءٌ في الصلاة، فماذا يفعل؟ قال صلى الله عليه وسلم للصحابة لما حصل شيءٌ في الصلاة فصفقوا، قال: (ما لي رأيتكم أكثرتم التصفيق؟ من نابه شيءٌ في صلاته؛ فليسبح، فإنه إذا سبح التفت إليه، وإنما التصفيق للنساء) وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا استؤذن على الرجل وهو يصلي؛ فإذنه التسبيح، وإذا استؤذن على المرأة وهي تصلي؛ فإذنها التصفيق) هذا الإرشاد يبين للمسلم ما يفعله إذا طرأ عليه طارئ في صلاته، ولو لم يكن عنده علمٌ بهذا الأمر لتخبط فيما يفعل.(250/6)
دخلت المسجد والإمام يصلي
إذا دخلت إلى المسجد فوجدت الإمام يصلي فهل تدخل معه في صلاته مباشرةً إذا كان في سجود أو جلوس؟ أو أنك تنتظر لترى ماذا يفعل؟ يتخبط بعض الناس في هذا الأمر فيأتي الجواب منه عليه الصلاة والسلام بقوله: (إذا جئتم الصلاة ونحن سجود، فاسجدوا ولا تعدوها شيئاً، ومن أدرك الركعة؛ فقد أدرك الصلاة) وقال: (إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام على حالٍ؛ فليصنع كما يصنع الإمام) فيتبين لك أن فعل بعض الناس إذا جاءوا للمسجد؛ فوجدوا الإمام جالس؛ أنهم يقفون ينتظرون ماذا سيفعل الإمام، هل سيكون التشهد الأول أو الأخير؟ إن فعلهم هذا غلط، فينبغي عليهم أن يدخلوا مع الإمام مباشرةً في أي وضع كان عليه الإمام، ثم إن الأجر لم يذهب حتى لو لم تحسب تلك الركعة، لأنهم أدركوا الجزء الأخير منها.(250/7)
الصلاة بحضرة قضاء الحاجة أو العشاء
لو أن إنساناً أراد أن يصلي ثم حضره قضاء الحاجة، وأقيمت صلاة الجماعة، هل يضغط على نفسه ويلحق الجماعة؟ أو أنه يذهب إلى الخلاء ولا يبالي، ولو فاتت الجماعة؟ يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد أحدكم أن يذهب إلى الخلاء، وأقيمت الصلاة؛ فليذهب إلى الخلاء) فإذاً يقدم قضاء الحاجة حتى يزول ما في نفسه، ويحضر الصلاة بخشوع ولو فاتته الجماعة.
كذلك لو أنه وضع العشاء وأقيمت الصلاة، فالحديث واضح قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أقيمت الصلاة وأحدكم صائم؛ فليبدأ بالعشاء قبل صلاة المغرب، ولا تعجلوا عن عشائكم) وقال مبيناً أيضاً: (إذا وضع عشاء أحدكم، وأقيمت الصلاة، فابدءوا بالعشاء ولا يعجل حتى يفرغ منه) وقال: (إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدءوا بالعشاء) وبذلك تعلم أن هذا الحكم هو لمن حضر طعامه وقت الصلاة، وليس بالذي يتعمد تحضير الطعام وقت الصلاة، لكن اتفق أن حضر طعامه وقت الصلاة فماذا يفعل؟ يقدم الطعام حتى يحضر الصلاة وقد فرغ قلبه وحضر باله، فلا يعود متعلقاً بطعام أو شيء من الدنيا سواءً فاتت الجماعة أو لم تفت الجماعة، ولو قال إنسان: آكل لقيمات وألحق، أو يجوز لي أن آكل حتى أنتهي وأفرغ من العشاء ومن طعامي كله؟ فنقول: الحديث واضح في الفراغ من الطعام، وأنه لا يعجل عن عشائه.
وترى الناس إذا أقيمت الصلاة؛ يسرعون حتى وهم يعلمون السنة في ذلك، لكن لأن العجلة متأصلة في النفس البشرية عجلةٌ من الشيطان، فهم يخالفون السنة، وهي قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون -في عجلة- وائتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا).(250/8)
الحدث أثناء الصلاة
وقد يقع إنسانٌ في أمر محرج في صلاته مثل: أن يحدث وهو في الصلاة، فماذا يفعل في هذه الحالة وقد أحدث في الصلاة في الجماعة؟ قال صلى الله عليه وسلم مبيناً لك أيها المسلم ماذا تفعل في هذه الحالة الطارئة: (إذا أحدث أحدكم في صلاته؛ فليأخذ بأنفه ثم لينصرف) يأخذ بأنفه كهيئة الرعاف، كأنه أصابه رعاف ولينصرف، والناس الذين يعلمون أو لا يعلمون لا يستطيعون القطع بأنه أحدث في المسجد، فهو آخذ بأنفه، حتى الذي يعلم الحديث يحتمل لديه أن يكون هذا الشخص لديه رعاف أو أنه قد أحدث في صلاته وانصرف، هذا لدفع الحرج الذي يحدث للشخص وهو في المسجد.(250/9)
انقطاع النعل
إرشادٌ آخر منه صلى الله عليه وسلم لمن انقطع نعله، لو أن إنساناً يمشي فانقطع نعله، فماذا يفعل يا ترى؟ سبحان الله ما أعظم هذا الدين الذي لم يترك شيئاً إلا وبينه! قال عليه الصلاة والسلام: (إذا انقطع شسع أحدكم؛ فلا يمش في نعل واحدة، حتى يصلح شسعه، ولا يمش في خف واحد، ولا يأكل بشماله الحديث) وقال: (إذا انقطع نعل أحدكم؛ فلا يمش في الأخرى حتى يصلحها، فإما أن يحفيهما جميعاً أو ينعلهما جميعاً) ذلك لأنه قد ورد في الحديث الصحيح: (إن الشيطان يمشي في النعل الواحدة) والمسلم ينبغي عليه أن يخالف الشيطان، ولا ينبغي له أن يشابه الشيطان، فلأجل ذلك لا يمشي في نعل واحدة -في فردة واحدة- إما أن يصلحها فيمشي بهما جميعاً، أو يحفي رجليه جميعاً.(250/10)
الأكل من طعام الآخرين وخاصة اللحم
مسألة أخرى: قد يدخل إنسان على أخيه المسلم فيضع له طعاماً، فيدخل حرجٌ في بعض الناس هذا اللحم من أي شيء هو؟ وهذا الدجاج من أي بلد هو؟ فماذا يفعل؟ هل يسأل أو لا يسأل؟ قال صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم، فأطعمه من طعامه؛ فليأكل ولا يسأل عنه، وإن سقاه من شرابه؛ فليشرب ولا يسأل عنه) فهو لا يسأل من أين اكتسبت المال الذي اشتريت به هذا الطعام؟ ومن أين أتيت بهذا اللحم؟ وهل هو مذبوحٌ أم لا؟ لأن الأصل في المسلم السلامة، والسؤال يورث الضغينة والشك، وإذا سألته ودققت معه معناها أنك تتهمه وترتاب فيه، ولذلك قمت بالسؤال، فهذا السؤال لا ينبغي إلا إذا قويت الشبهة، فالتحري عند ذلك لا بأس به، وهذا الحديث يحل إشكالات كثيرة ويزيل حرجاً كبيراً يقع في نفوس بعض الناس.(250/11)
مصلون يأتون مسجداً متأخراً في الصلاة
ومسألة أخرى: وهي أن الإنسان قد يصلي في مسجد، ثم يأتي إلى مسجد آخر فيجدهم قد تأخروا في الصلاة، فهم لا زالوا يصلون وهو يريد حاجة، هل يدخل وينتظر أم أنه ينضم معهم؟ قال صلى الله عليه وسلم: (إذا دخلت مسجداً؛ فصل مع الناس وإن كنت قد صليت) ولما رأى رجلين قد اعتزلا الناس في المسجد لم يصليا مع الناس، قال: (إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما الإمام؛ فصليا معه، فتكون لكما نافلة والتي في رحالكما فريضة) فيعلم إذاً أن الإنسان إذا جاء إلى مسجد من طريق سفر مثلاً وقد صلىأو لأي أمر من الأمور، فوجد الناس يصلون؛ فليصل معهم ولو كان قد صلى فريضته.(250/12)
الرؤى والأحلام
عندما يقوم بعض الناس من النوم وقد رأى بعضهم رؤى وأحلاماً، فإنهم يتحيرون ويضطربون في هذه الرؤى والأحلام، كيف يكون موقفهم وماذا يصنعون؟ هل يتكلمون بها أو لا يتكلمون؟ وهل يعبرونها أو لا يعبرون؟ فيأتي الجواب في هذه الأحاديث، يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم الرؤية الحسنة؛ فليفسرها وليخبر بها، وإذا رأى الرؤية القبيحة؛ فلا يفسرها ولا يخبر بها) وقال: (إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها؛ فإنما هي من الله؛ فليحمد الله عليها وليحدث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره؛ فإنما هي من الشيطان، فليستعذ بالله، ولا يذكرها لأحد؛ فإنها لا تضره) وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها، فإنما هي من الله؛ فليحمد الله عليها وليحدث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره، فإنما هي من الشيطان، فليستعذ بالله من شرها، ولا يذكرها لأحد، فإنها لا تضره) وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها؛ فليبصق عن يساره ثلاثاً، وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثاً، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه) وقال: (إن الرؤيا تقع على ما يعبر به، ومثل ذلك مثل رجلٍ رفع رجليه، فهو ينتظر متى يضعها، فإذا رأى أحدكم رؤيا؛ فلا يحدث بها إلا ناصحاً أو عالماً) وقال صلى الله عليه وسلم: (رؤيا المؤمن جزءٌ من أربعين جزءاً من النبوة، وهي على رجل طائر ما لم يحدث بها، فإذا تحدث بها؛ سقطت، ولا تحدث بها إلا لبيباً أو حبيباً) وقال عليه الصلاة والسلام: (إذا حلم أحدكم؛ فلا يحدث الناس بتلاعب الشيطان في المنام).
إذاً: إذا كانت الرؤيا حسنة، فإنك تحمد الله وتفسرها وتعبرها، أو تخبر بها عالماً يفسرها لك، أو ناصحاً يخبرك بوجهها الحسن، ولا تخبر بها حاسداً، وإذا رأيت رؤيا سيئة فعليك بالأمور التالية: أولاً: تتفل عن يسارك ثلاث مرات.
ثانياً: تتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثلاث مرات.
ثالثاً: تتعوذ بالله من شر ما رأيت ثلاث مرات.
رابعاً: إذا أردت أن تواصل النوم؛ فغيّر الجنب الذي أنت عليه، فإذا كنت على اليمين، فانقلب على الشمال.
وظاهر الحديث أنه لا ينقلب على ظهره، وإنما ينقلب على الجنب الآخر، ولو كان شمالاً كما فسره بعض أهل العلم.
خامساً: لا تخبر بها أحداً من الناس.
سادساً: لا تفسرها لنفسك؛ فإنها لا تضرك.(250/13)
رجل نظر إلى امرأة فأعجبته فوقعت في نفسه
إذا مشى إنسان في طريق أو في سوق فوقعت عيناه على امرأة أجنبية، وقد تكون هذه المرأة متبرجة وفيها جمالٌ، ويبقى في نفسه من أثر هذه النظرة، فماذا يفعل الشخص المتزوج؟ يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم المرأة التي تعجبه؛ فليرجع إلى أهله؛ حتى يقع بهم فإن ذلك معهم) وقال: (إن المرأة إذا أقبلت؛ أقبلت في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته؛ فليأت أهله، فإن الذي معها مثل الذي معها) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم امرأة أعجبته؛ فليأت أهله؛ فإن ذلك يرد ما في نفسه).
طبعاً إطالة النظر ومواصلته حرام، لكن لو أن إنساناً من نظر الفجأة علق في ذهنه شيء أو في نفسه شيء؛ فعليه أن يأتي أهله فيقع على أهله، فإن هذا الوقوع يرد ما في نفسه، ويقضي شهوته بالحلال ووطره، ويذهب ما علق في نفسه من تلك الرؤية.(250/14)
الشك في الصلاة
ومن الأمور التي تطرأ على الناس في العبادات: الشك الذي يحدث لهم في الصلاة، فإذا طرأ عليك الشك فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر اثنتين صلى أو ثلاثاً؛ فليلق الشك وليبن على اليقين) فإذا شك هل صلى اثنتين أو ثلاثاً؛ فليجعلها اثنتين وليصل الثالثة، وإن شك أنه صلى ثلاثاً أو أربعاً فليجعلها ثلاثاً ويصلي رابعة وهكذا، ثم ليسجد السهو، فإن كانت التي صلاها في الحقيقة هي الرابعة فقد أدى ما عليه، وإن كانت التي زادها هي خامسة؛ فإن ما حصل من سجدتي السهو تكون قد شفعت له صلاته، وهو معذور في هذه الزيادة؛ لأنه شك فبنى على اليقين، وإذا كانت التي صلاها فعلاً هي الثالثة فسجدتي السهو تكونان ترغيماً للشيطان، فعلى جميع الحالات فيها فائدة، أما لو رجح الزيادة؛ فإنه يعمل على ما ترجح لديه، فإن شك شكاً مستوي الطرفين؛ فإنه يبني على اليقين وهو الأقل.(250/15)
الفزع من النوم
وقد يحدث لإنسان أن يفزع من النوم مفجوعاً فماذا يفعل إذا قام مفجوعاً من نومه؟ قال صلى الله عليه وسلم: (إذا فزع أحدكم من النوم؛ فليقل: أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون؛ فإنها لن تضره) فهذا الدعاء فيه علاجٌ للفزعة التي تصيب الإنسان إذا قام من نومه (أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون، فإنها لن تضره) وهو موجود في صحيح الجامع حرف الهمزة إذا فزع.(250/16)
الجلوس بين الشمس والظل
قد يكون الإنسان جالساً في مجلس في الشمس أو في الظل، فتأتي عليه الشمس إذا كان جالساً في الظل، فيصبح بعضه في الشمس وبعضه في الظل، أو يكون جالساً في الشمس، فتقلص عنه الشمس ويأتيه الظل، فيصبح بعضه في الظل وبعضه في الشمس، فماذا يشرع له أن يفعل إذا انتبه لنفسه وهو في هذه الحالة؟ قال صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أحدكم في الشمس، فقلص عنه الظل وصار بعضه في الظل وبعضه في الشمس؛ فليقم) يقم من هذا المكان لأنه مجلس الشيطان كما ورد في الحديث الصحيح: (الشيطان مجلسه بين الضحى والظل) بين الشمس والظل، فهو يقوم من هذا المكان؛ لأنه مجلس الشيطان وينتقل إلى مكان آخر.
لو لم يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا كيف كنا سنعرفه؟!(250/17)
الإحساس بالحدث في الصلاة
ومن الأمور المتكررة عند كثير من الناس أن يطرأ عليه إحساس أنه قد أحدث في صلاته وأنه قد خرج منه ريح، أو يحس بحركة في بطنه فيقلق ويضطرب ولا يدري ماذا يفعل وهو في الصلاة، هل يترك الصلاة لأنه أحدث فعلاً أو أنه يواصل وهذه أوهام؟ فما هو الضابط الذي يضبط لك يا أيها المصلي أمرك فتواصل الصلاة بناءً على أنها وسوسة وأوهام، أو تنصرف بناءً على أنك قد أحدثت فعلاً؟ قال صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أحدكم في الصلاة فوجد حركةً في دبره أحدث أو لم يحدث فأشكل عليه فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً بأذنه -يسمع صوتاً حقيقياً- أو يجد ريحاً -يجد ريحاً يشمه بأنفه فعلاً-) فعند ذلك يعلم أن صلاته قد فسدت وأن عليه أن يذهب ليعيد الوضوء، لكن لو أنه سمع بتحرك أشياء في بطنه، وشك وشعر بحركة في الدبر، لكنه ما سمع صوتاً بأذنه ولا وجد ريحاً بأنفه، فماذا يفعل؟ عليه أن يواصل صلاته، والشيطان يتلاعب بالشعرات التي في دبر ابن آدم، فهذه حرب من الشيطان على المصلين لكي يوهمه أنه أحدث، ولذلك أرشدنا الشارع إلى أمور نقطع بها هذا الشك وهذه الوسوسة وهو ما جاء في هذا الحديث.(250/18)
النعاس في المسجد أو أثناء خطبة الجمعة
لو أن إنساناً جالس في المسجد؛ فأصابه نعاس، أو جالس يستمع إلى خطبة الجمعة فنعس، فما هو الإجراء الذي يفعله في هذه الحالة؟ قال صلى الله عليه وسلم: (إذا نعس أحدكم وهو في المسجد؛ فليتحول من مجلسه ذلك إلى غيره) وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا نعس أحدكم يوم الجمعة؛ فليتحول إلى مقعد صاحبه، وليتحول صاحبه إلى مقعده) فيتبادلان الأمكنة، وإذا كان الإمام يخطب فيشير إليه -أي صاحبه- إشارة انتقل إلى مكاني وأنتقل إلى مكانك، وينبغي على الآخر أن يفهم الإشارة وأن يكون فقيهاً في هذه المسألة، وأن يعلم أن أخاه قد أصابه نعاس وأنه يطبق السنة الآن فيفسح المجال له ويتحول صاحبه مكانه، وهكذا يتبادلان المحلات؛ حتى يكون ذلك سبباً في طرد النعاس والمواصلة في الاستماع إلى خطبة الجمعة، هذا إرشاد نبوي وسنة مهجورة عند كثير من الذين ينعسون في خطب الجمعة في المساجد ولا يفطنون لها ولا يطبقونها.(250/19)
إصابة الأهل بالوعك
لو أصاب أهلك وعكٌ فماذا كان صلى الله عليه وسلم يفعل في مثل هذه الحالة؟ كان صلى الله عليه وسلم إذا أخذ أهله الوعك؛ أمر بالحساء -المرق المعروف- فصنع ثم أمرهم فحسوا -شربوا من هذا الحساء- وكان يقول: (إنه ليرثو فؤاد الحزين ويسرو عن فؤاد السقيم كما تسرو إحداكن الوسخ بالماء عن وجهها) وهذا من الطب النبوي.
ومن إحسانه ومعاملته بالمعروف لأهله صلى الله عليه وسلم، فيصنع لهم هذا الحساء إذا مرضوا.(250/20)
كذب أحد الأولاد من أهل بيتك
إذا كذب أحدٌ من الأولاد من أهل بيتك، فما هو الإجراء الذي تفعله؟ قال الراوي: (كان صلى الله عليه وسلم إذا اطلع على أحد من أهل بيته كذب كذبةً؛ لم يزل معرضاً عنه حتى يحدث توبة) فهو يهجره بالكلام ويقاطعه؛ حتى يتوب إلى الله من هذه الكذبة، وهذا يدل على خطورة الكذب، وهذه طريقة لمواجهة هذا الأمر في أهل البيت.(250/21)
حصول نعمة أو خبر سار
لو تجددت لك نعمة، أو أخبرت بخبر سار، أو رأيت منظراً أفرحك، أو جاءتك عطية أو هدية أو ترقية أو زيادة في المرتب، فماذا تفعل؟ لو أنبئت بأنه ولد لك ولد، أو سلم مسافر كنت قلقاً عليه، فماذا تفعل؟ (كان صلى الله عليه وسلم إذا جاءه أمرٌ يسر به؛ خرَّ ساجداً شكراً لله تعالى) وهذه من السنن المهجورة أيضاً، قلَّ من الناس الذين إذا تجددت لهم نعمة أو وصلهم خبرٌ سار يسجدون لله تعالى، سجود الشكر يكون على أي هيئة؟ إلى أي اتجاه؟ بوضوء أو بغير وضوء؟ يشرع أن يسجد شكراً لله تعالى، فإذا توضأ ولبس وسجد للقبلة فهذا أحسن، وتصح كيفما كان، هذه سجدة الشكر التي هي من شكر النعمة.(250/22)
مجيء مبلغ من المال إليك
قد يأتي لك مبلغ من المال من شخص ما أو جهة، هل تأخذ هذا المبلغ أو لا تأخذه؟ قال صلى الله عليه وسلم: (إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مستشرف ولا سائل؛ فخذه) جاءك المال وأنت لا تتطلع إليه ولا تسأله، جاءك هكذا عطية دون أن تبحث عنه أو تتطلع إليه أو تسلك السبل لتحصيله من شخص؛ فخذه، هذه نعمة من الله، ولا يعتبر أخذ المال في هذه الحالة أمراً دنيئاً أو أنه ينزل من قدر المرء، لا، خذ المال، (وما لا فلا تتبعه نفسك) أما إذا كنت إنساناً تسأل وتقدم معاريض، وأعطوني وهاتوا، فهذا من الأمور الدنيئة؛ لأنه لا ينبغي للإنسان أن يذل نفسه بطرق الأبواب، وإنما يكسب رزقه بعمله وتعبه وكده وجهده، ولا يكون من الذين يطرقون الأبواب ويلفون على الناس وعلى فلان وفلان يسأل أموال الناس.(250/23)
الأوامر من المدير أو الرئيس في العمل أو الأمير
لا يخلو إنسان أن يكون مرءوساً بطريقة من الطرق سواءً كان موظفاً أو غير ذلك، فلو أمر بأمر وهو في وظيفته، فما هو موقفه؟ هذه الأوامر التي تأتي في العمل مسألة مهمة جداً ينبغي أن تعرض على الشرع ويكون للإنسان فيها موقف حاسم وحازم، قال صلى الله عليه وسلم: (السمع والطاعة حق على المرء المسلم فيما أحب أو كره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية؛ فلا سمع عليه ولا طاعة) الأمير الشرعي إذا أمر بأمر؛ وجب تنفيذه إذا كان في غير معصية الله، فإن كان في معصية الله فلا سمع ولا طاعة، ولا يجوز له التنفيذ مطلقاً، ولن ينفعه عند الله عز وجل صاحبه هذا الذي أمره بهذا الأمر، بل إنه سيكفر بعضهم بعضاً ويلعن بعضهم بعضاً.(250/24)
صعوبة الصلاة في الأماكن المزدحمة
في الزحام الشديد الذي تتلاصق فيه الأجساد في الصلاة في المسجد مثل المسجد الحرام مثلاً، في حالات الزحام الشديد، لا يتسنى للإنسان أن يسجد؛ لأن المسافة التي بينه وبين الذي أمامه ضيقة جداً، فكيف يفعل؟ قال أهل العلم كما ورد في الحديث الصحيح: يسجد على ظهر صاحبه، أخبر الصحابة أنهم لما كانوا في حال الزحام الشديد كان بعضهم يسجد على ظهر الذي أمامه، ولا يمنعه صاحبه الذي أمامه أن يسجد على ظهره، فإن لم يتمكن، فعليه أن ينتظر حتى يقوم الذي أمامه ثم يتراجع هو ويسجد، ولو فاته مع الإمام ما فاته؛ فإنه معذور بشدة الزحام، فلنفترض أنك تصلي في الحرم في حال زحام شديد، أمامك مباشرة أشخاص ملتصق بعضهم ببعض، كبر الإمام للركوع ولا تستطيع أن تركع، كبر الإمام للرفع من الركوع وأنت لم تركع بعد، كبر الإمام للسجود وأنت لم تستطع أن تسجد، وكبر للرفع من السجود وأنت لم تسجد بعد، وكبر للسجدة الثانية، وكل ذلك وأنت واقف مكانك من الزحام لا تستطيع أن تعمل شيئاً، فماذا تفعل؟ تنتظر حتى يقوم الإمام ويقوم الناس معه، ثم بعد ذلك تتأخر، تركع وترفع وتسجد وترفع ثم تقوم وتتابع الإمام وصلاتك صحيحة.(250/25)
لو أصبت بمصيبة
لو أصبت بمصيبة، ما هو أول ما ينبغي عليك أن تفعله؟ موت قريب أو عزيز، أو حصول حريق، أو ضياع مال إلى آخره.
كثير من الناس تطرأ عليهم الصدمة ولا يتنبهون لما ينبغي عليهم أن يفعلوه في هذه الحالة، وتأخذهم روعة الصدمة فلا يأتون بالأذكار المشروعة، والله سبحانه وتعالى قال: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156] وفي السنة قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم اؤجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها) هذا ما علم الصحابة.
نحن أيها الإخوة نعلم هذه الأشياء تماماً، لكن عند التطبيق، عند حدوث المسألة في الواقع سيتخلف العلم النظري عن المناسبة التي حصلت فيها، فينبغي على المسلم أن يتمالك نفسه وأن يجمع أمره وأن يربط جأشه وأن يأتي بهذه الأذكار الواردة في هذه الأمور، طبعاً هذا الموضوع: ماذا تفعل في الحالات الآتية.
يدخل فيه أشياء كثيرة من الأذكار إذا سمعت نهيق حمار وصياح ديك، وإذا نزل مطر أو رأيت برقاً أو سمعت رعداً إلى آخره، لكن هذا موضوع يطول ومحله في كتب الأذكار، ولذلك لم ندرجه في هذه المحاضرة.(250/26)
أقيمت الصلاة وأنت تصلي سنة أو تحية مسجد
يسأل كثير من الناس يقولون: ندخل المسجد نصلي تحية المسجد أو السنة فتقام الصلاة، فماذا نفعل؟ العلماء لهم في ذلك أقوال وأشهرها وأقواها والله أعلم قولان: الأول: قطع الصلاة في أي مكان أنت فيه لظاهر حديثه صلى الله عليه وسلم: (إذا أقيمت الصلاة؛ فلا صلاة إلا المكتوبة) وأخذ بهذا أهل الظاهر وعدد من أهل العلم.
القول الثاني: إذا كنت قد أتيت بركوع الركعة الثانية فلم يبق لك من صلاتك إلا شيء بسيط، لأن الركعة الثانية قد أنهيت ركوعها، فإذاً أتمه بشكل خفيف ثم سلم وادخل مع الإمام.
وكلا هذين القولين قد ورد في فتوى سماحة الشيخ جواباً على سؤال لهذا الموضوع، فإما أن تقطع في أي وقت أقيمت الصلاة، أو أنك إذا كنت بعد ركوع الركعة الثانية تتم خفيفة، أو قبل ركوع الركعة الثانية تقطع الصلاة.(250/27)
نسي الإمام تكملة آية ولم يفتح عليه
يقول بعضهم: إذا نسي الإمام تكملة آية ولم يعرف أحدٌ من المأمومين تكملتها ولم يفتح أحد على الإمام، فماذا يفعل الشخص؟ هل يكبر عند هذا الموضع الذي جهله ويركع، أم أنه ينتقل إلى سورة أخرى ويقرأ آيات منها؟
الجواب
هو مخير إن شاء كبر وأنهى القراءة في هذا الموضع، وإن شاء انتقل إلى مكان آخر وقرأ آيات من هذه السورة أو من سورة أخرى، ويراعي ترتيب الآيات بطبيعة الحال في السورة الواحدة، فهو مخير إن شاء فعل هذا وإن شاء فعل هذا، كذا أفتى سماحة الشيخ، والفتوى موجودة في كتاب فتاوى إسلامية.(250/28)
صلاة الوتر أثناء أذان الفجر
يقع لبعض الناس أنه يصلي الوتر وأثناء صلاة الوتر يؤذن الفجر، فماذا يفعل؟ قال أهل العلم: يتم وتره ووتره صحيح وصلاته صحيحة ولا شيء عليه.(250/29)
الإمام يغفل عن الفاتحة في إحدى الركعات
وقد يقع لإمام وهو يصلي بالناس صلاةً سريةً مثلاً أن يغفل عن سورة الفاتحة في أحد الركعات ويقرأ بدلاً منها مثلاً التحيات، وعندما يجلس للتشهد يقرأ بدلاً من التحيات الفاتحة، فينتبه لنفسه أنه قد قرأ في أحد الركعات أو في الركعة الأخيرة بدل الفاتحة التشهد مثلاً، فماذا ينبغي عليه أن يفعل؟ يأتي بركعة، يقوم إلى الركعة الخامسة بالنسبة للناس؟ طبعاً الناس سوف يسبحون، فماذا يفعل؟ يشير إليهم أن يقوموا ليبين لهم بالإشارة أنه لم يخطئ ولم يسه وإنما قام للخامسة لأن هناك ركعة باطلة وقعت له في صلاته، فيشير إليهم ليقوموا معه فيكملوا فيقومون معه، ينبغي عليهم أن يكونوا فقهاء وأن يقوموا معه إذا أشار إليهم ليعلمهم أنه جازم، أو أن المسألة الآن ليست مسألة شك وإنما عنده ركعة فاسدة.(250/30)
المأموم ينسى قراءة الفاتحة
ويقع الشيء نفسه أحياناً للمأموم وراء الإمام فينسى قراءة الفاتحة ويقرأ بدلاً منها التحيات، ثم ينتبه بعدما يجلس وهو يتابع الإمام، فماذا يفعل؟
الجواب
تجزؤه الركعة مادام خلف إمامه، كمن نسي أو جاء والإمام راكعاً فركع مع الإمام، تحسب له الركعة مع أنه ما قرأ فيها الفاتحة، فهذا مثل هذا وهو قول أكثر أهل العلم.(250/31)
تذكر صلاة فائتة في صلاة حاضرة
يحدث للإنسان أن يكون في صلاة حاضرة فيتذكر أثناء هذه الصلاة أن هناك صلاة فاتت عليه نسي أن يقضيها وهو أثناء الصلاة، فمثلاً هو يصلي العصر فتذكر أن صلاة الظهر قد فاتت عليه وأنه لم يقضها، فماذا يفعل؟ المسألة فيها أقوال، والأحوط إذا كان الوقت متسعاً أن يتم العصر نفلاً، ثم يصلي الفائتة التي هي الظهر، ثم يصلي الحاضرة وهي العصر لكي يرتب الصلوات؛ لأن الترتيب واجب، فيخرج من الخلاف، وأما إن كان الوقت ضيقاً لا يكفي إلا للصلاة الحاضرة، فعليه أن يصلي الحاضرة ثم يصلي بعدها الفائتة ولا إعادة عليه للحاضرة.
ومن صلى صلاة حاضرة وأنهاها وبعدما أنهاها تذكر أن عليه فائتة، فماذا يفعل؟ يكفيه أن يصلي الفائتة ولا يجب عليه إعادة الحاضرة وراءها.(250/32)
اكتشاف حائل في عضو من أعضاء الوضوء أثناء الوضوء
يحدث لإنسان وهو يتوضأ أن يكتشف أثناء وضوئه وجود حائل في إصبع أو في عضو من الأعضاء، وحك هذا يأخذ وقتاً طويلاً؛ فيذهب لإزالته وربما استعمل مزيلاً حتى ينشف بعض أعضائه السابقة، فماذا يفعل؟
الجواب
إذا عرض له أمرٌ وهو في وضوئه مثل اكتشاف طلاء في أحد الأعضاء، فإنه إذا أزاله يواصل الوضوء ولو أخذ وقتاً في إزالته، أو واحد يتوضأ فانقطع الماء من الصنبور فهو ينتظر فترة ليأتي الماء، فأتى الماء فيواصل وضوءه وطهارته صحيحة ولو جفت بعض أعضائه؛ لأنه كان منشغلاً بعملٍ من ضمن الطهارة، لكن لو أنه مثلاً نودي لطعام أثناء الوضوء فترك الوضوء وذهب يأكل، فإذا انتهى يعيد الوضوء من أوله.
ومسألة جفاف الأعضاء هذه مسألة نسبية لأن الإنسان قد يكون في جو فيه هواء شديد فتنشف بسرعة، ربما لا يتم غسل الرجلين إلا وقد نشف وجهه، وقد يكون في جو رطب فيبقى الماء عليه فترة طويلة، فيصعب أن يحكم بجفاف الأعضاء في قضية الموالاة.(250/33)
نسيان التسمية في أول الوضوء
يحدث لبعض الناس أن ينسى (باسم الله) في أول الوضوء، فلا يذكر إلا في أثناء الوضوء، فماذا يفعل؟ يسمي أثناء الوضوء (باسم الله) فقط، أما (باسم الله في أوله وفي آخره) فهذا في الطعام إذا نسي التسمية في أوله، فلو أنه ما ذكر إلا بعد الوضوء كلياً فإن وضوءه صحيح.(250/34)
جرح في أحد أعضاء الوضوء
يحصل لإنسان أن يطرأ عليه جرح ولا يمكن أن يغسل مكان الجرح، وهذا الجرح في أحد أعضاء الوضوء، وكذلك لا يستطيع أن يضع عليه لاصق؛ لأن الجرح لابد أن يجف مثلاً واللاصق يضر بالجرح، فماذا يفعل؟ لا هو يستطيع أن يمسح عليه، ولا يستطيع أن يغسله، فماذا يفعل؟ يتوضأ ويتيمم عن ذلك المكان الذي لا يستطيع غسله ولا المسح عليه، فإذا كان لا يستطيع أن يمسح عليه؛ لأنه لابد أن يبقى مكشوفاً أو عليه غطاء لكن غير مستمسك لا يستطيع أن يمسح، لو مسح لذهب الغطاء، شيء بسيط مثل الجبيرة غطاء غير مستمسك، فإن عليه أن يتيمم عن هذا المكان مع الوضوء.(250/35)
حكم تأخير باقي المال عند البائع
ذهبت لتشتري سلعة، قال لك البائع: إن ثمنها ثلاثين ريالاً، بحثت في جيبك فلم تجد إلا خمسين ريالاً، ماذا تفعل؟ إذا أعطيته الخمسين وليس عنده صرف فيبقى لك عنده عشرون، فهل يجوز أن تعطيه الخمسين إذا احتجت إلى فكة من شخص؟ بشكل آخر: احتجت إلى صرف وعندك خمسون ريالاً والشخص الآخر ما عنده إلا ثلاث عشرات، هل يجوز لك أن تعطيه الخمسين وتأخذ الثلاثين والعشرين فيما بعد؟
الجواب
لا يجوز، هذا من الربا؛ لأن هذا النقد متماثل ولابد أن يكون يداً بيد، خمسون بخمسين، فإذا صرفت خمسين بثلاثين وعشرون إلى مابعد، معناها أنك خالفت شرط التقابض في العقد، وجعلت جزءاً من الصرف متأخراً عن مجلس الصرف، فتقع في الربا، فكيف تفعل في هذه الحالة التي يتعرض لها الناس كثيراً؟ الجواب: يضع الخمسين رهناً عند هذا الرجل الذي عنده الفكة، ويأخذ منه الثلاثين ديناً، ويذهب ويشتري ويقضي أموره، ثم يعود فيسدد الثلاثين التي عليه ويأخذ الخمسين المرهونة، هذا هو الحل الشرعي لهذه القضية، أما أن يدفع خمسين للفكة ويأخذ ثلاث عشرات والعشرين بعدين، فهذا من الربا ولا يجوز.(250/36)
رجل توفي في سفينة في البحر
رجلٌ في سفينة مع أناس توفي في البحر، فماذا يفعل أهل السفينة وقد توفي صاحبهم؟ قال الإمام أحمد رحمه الله: ينتظرون حتى يجدوا له موضعاً مثل جزيرة يدفنونه فيها أو يقدمون إلى البلد أو الساحل أو الشاطئ، فإن تأخروا وخشي على الجثة أن تتغير؛ غسلوه وكفنوه، وصلوا عليه وثقلوه بشيء ويلقوه في الماء، حتى لا يكون طافياً وإنما يلقى إلى أسفل، فيكون كأنه دفن في قاع الماء.(250/37)
الشرب وإقامة الصلاة أثناء الطواف والسعي
قد يكون الإنسان في حال الطواف أو السعي فيعطش، هل يجوز له أن يشرب؟ وقد يكون في أثناء الطواف والسعي فتقام الصلاة، فإذا صلى من أين يبدأ ويعيد؟ إذا عطشت أثناء الطواف والسعي؛ فإنه يجوز لك أن تتوقف لتشرب الماء وطوافك وسعيك صحيحان، وإن أقيمت الصلاة أثناء الطواف صل مع الجماعة، فإذا انتهت الصلاة تبني على ما تقدم، افرض أنك أنهيت ثلاثة أشواط وأنت في نصف الرابع فابن على ما تقدم أي: أنك تعتبر الثلاثة صحيحة والآن ستأتي بالرابع، فمن أين ستأتي به بعد انتهاء الصلاة؟ من الحجر مرة أخرى، ترجع إلى الحجر وتبدأ من بداية الرابع من جديد، هذا هو الأحوط.
وأما بالنسبة لموالاة الطواف فهي شرط من شروط الطواف، لو أن واحداً مثلاً طاف ثلاثة أشواط وذهب للنوم، أو استراح فترة طويلة، أو تحدث مع شخص، فالموالاة شرط لصحة الطواف، وهذه الموالاة لم يأت في الشرع تحديد لها، بربع ساعة أو عشر دقائق، فإذاً هي مسألة عرف علماء البلد الحرام، بعضهم قال: نصف ساعة مثلاً عرفاً أنها لا بأس، أكثر يمكن أنه لابد أن يعيد الطواف كله من جديد، أما السعي فلا يشترط له الموالاة، فلو أنه سعى مثلاً ثلاثة أشواط، ثم استراح فترة ثم واصل السعي، فيبني على ما مضى وسعيه صحيح.(250/38)
تبين جهة القبلة أثناء الصلاة
لو أن إنساناً يصلي لوحده أو مع الجماعة، ولنفترض أنه يصلي مع الجماعة إلى جهة يظنونها جهة القبلة، وفي أثناء الصلاة تبين لهم أو لبعضهم أن الجهة التي يصلون إليها ليست هي جهة القبلة، فماذا يفعلون؟ إذا استبان لهم كلهم الاتجاه الصحيح استداروا جميعاً بإمامهم إلى المكان الصحيح والاتجاه الصحيح للقبلة، وما مضى من صلاتهم صحيح، أحدهم مثلاً يصلي إلى اتجاه يظنه القبلة صلى ركعتين وبقي له ركعتان، فتبين له خطأ اتجاهه، يعدل نفسه ويكمل الصلاة على ما مضى من صلاته وتبقى له ركعتان، فإن كانوا جماعة استداروا كلهم، فإن تبين لبعضهم أنه على خطأ والبعض الآخر يظن أنهم على اتجاه صحيح، فماذا يفعلون؟ الذين تبين لهم يستديرون إلى القبلة، والذين تبين لهم أن مكانهم صحيح يبقون على مكانهم، هل يستمر بعضهم بالاقتداء ببعض؟ هذه مسألة محل خلاف، وقد ذكر ابن قدامة رحمه الله في المغني أن اقتداء بعضهم ببعض صحيح على رواية، ولو خالف بعضهم بعضاً في الاتجاه، ونقل رواية أخرى أن الاتجاه لو كان متخالفاً تماماً، فإن الذين يترجح لديهم القبلة هكذا يصلون مع بعض والآخرين يصلون مع بعض ولا يقتدي بعضهم ببعض، فإن كان واحد مقلداً لا يدري، رأى بعضهم اتجه هكذا وبعضهم اتجه هكذا، وهو لا يرجح لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، فماذا يفعل؟ هذا يقلد من يثق به، ينظر أي الجماعة أوثق علماً بالقبلة وأعرف بالأحوال والاتجاهات والأماكن وأعقلهم وأشدهم مقدرة على التخيل مثلاً فيقلده في اتجاهه ويتوجه مثلما توجه.(250/39)
الشك في الإمام هل هو مقيم أم مسافر وأنت تريد الصلاة
لو أنك دخلت مسجداً في خط سفر في محطة من محطات البنزين مثلاً، فوجدت جماعةً يصلون ولا تدري هل هم من المقيمين في المحطة، أو أن إمامهم مسافر فماذا تفعل؟ تعمل بما ترجح لديك من القرائن مثل: ثياب هذا الإمام هل هو شخص مقيم أو أن هيئته هيئة مسافر، فإذا رجحت أنه مقيم وأنت مسافر ماذا تفعل؟ تأتم وتتم بإجماع العلماء، قال ابن عباس: مضت السنة أن يتم المسافر خلف المقيم.
وإن ظننته مسافراً فصليت وراءه قصراً، دخلت معه وصليت ركعتين وبعد الصلاة إن تبين لك أن الركعتين هذه التي صليتها معه هي الثالثة والرابعة وأنه مقيم، فعليك أن تقوم وتأتي بركعتين أخريين لأنه لابد أن تتم الصلاة.(250/40)
طرأ عليك طارئ وأنت تصلي
لو طرأ عليك وأنت تصلي طارئ، أنت واقف فعجزت عن القيام، فتقعد أثناء الصلاة وصلاتك صحيحة، ولو كنت مريضاً قاعداً فاستطعت القيام أو الركوع والسجود، ولم تكن تستطيع من أول الصلاة؛ فتأتي بما استطعت الآن وصلاتك صحيحة تبني على أولها.(250/41)
انقطاع مكبر الصوت وأنت تصلي وراء الإمام
أنت تصلي وراء الإمام فانقطع مكبر الصوت، أو حصل عندك نعاس مثلاً فسبقك الإمام بركن أو أكثر، ثم انتبهت أو رجع الصوت، وعرفت أن الإمام قد سبقك، فماذا تفعل؟ عليك أن تلحق به، وهذه الحالة يمكن أن يتصورها في عدة أحيان في أن المأموم يتخلف عن إمامه فقد يأخذ وقتاً في خلع الثوب، أو قرأ الإمام آية فيها سجدة ولم يسجد الإمام بل ركع، أو آية فيها كلمة (سجد) لكن ما فيها سجدة في القرآن، فبعض الناس يظنون أن هذه سجدة، فالإمام قال: الله أكبر للركوع، فظن المأموم أنه سيسجد الآن فسجد فلما قال الإمام: سمع الله لمن حمده، انتبه المأموم، فقام فإذا بالإمام يكبر للسجود، فقد فاته مع إمامه الركوع والرفع منه، فماذا يفعل المأموم في هذه الحالة؟ يلحق بإمامه فيركع يقول: سبحان ربي العظيم، ويرفع ثم يسجد ويتابع الإمام وهو معذور في هذا الخطأ الذي حصل، لكن لو أنه تعمد أن يتخلف عن الإمام يقول: أدعو في السجد والإمام يرفع، فهذا قيل إن صلاته باطلة وهو آثم على جميع الحالات.(250/42)
بقيت في الصف لوحدك لانسحاب صاحبك
لو أنك أحرمت بالصلاة وراء الإمام ومعك شخص بجانبك، فحصل للشخص الذي بجانبك عارض فانسحب من الصلاة بقيت لوحدك في الصف، فماذا تفعل؟ تحاول أن تدخل في الصف الذي أمامك، فإن لم تستطع تحاول أن تتقدم وتصلي عن يمين الإمام، فإن لم تستطع فصلاتك صحيحة ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.(250/43)
الإمام أحدث في الصلاة
إمامٌ يصلي بالناس فأحدث في الصلاة، ماذا يفعل؟ ينسحب ويقدم آخر، فيصلي ويكمل بهم، فإن لم يقدم شخصاً فصلوا كلهم فرادى فصلاتهم صحيحة، فإن قدم بعضهم إماماً صلوا وراءه وصلى الآخرون لوحدهم فصلاة الجميع صحيحة والحمد لله.(250/44)
تذكر أنه مسح على جوربيه بعد انقضاء مدة المسح
إمام يصلي بالناس فتذكر أنه مسح على جوربيه بعد انقضاء مدة المسح، وهذه مسألة تحدث الآن، يمكن واحد في الصلاة يصلي فيتذكر أنه قد مسح لكن بعد انقضاء مدة المسح، طافت أربعة وعشرين ساعة على أول مسح بعد الحدث، فماذا يفعل؟ يخرج من الصلاة؛ لأنه تبين أن وضوءه غير صحيح.(250/45)
نزل المطر والناس خارجون لصلاة الاستسقاء
خرج الناس لصلاة الاستسقاء أو أرادوا الخروج فنزل المطر، فإذا لم يكونوا قد خرجوا فلا يخرجوا؛ لأن الشيء الذي يريدون الصلاة من أجله قد حصل، فإن خرجوا؛ فيصلون شكراً لله تعالى كما ذكر ذلك ابن قدامة رحمه الله في كتابه المغني.(250/46)
رجل لم يقل: سبحان ربي العظيم في ركوعه
رجلٌ ركع ورفع رأسه ثم تذكر أنه لم يقل سبحان ربي العظيم، فهل يعود للركوع أم لا؟ فلا يعود إليه، ولو كان يعلم أنه لا يجوز له العودة وعاد بطلت صلاته، لأنه قد دخل في الركن الذي بعده، وهذا واجب سقط بالنسيان، فتسجد بدلاً منه سجود السهو.
وكذلك الإمام لو نسي التشهد الأول وقام إلى الثالثة واعتدل وبدأ في الفاتحة، فقالوا: سبحان الله، فنزل.
إذا كان عالماً أن نزوله لا يجوز بطلت صلاته، هذا عند أحمد والشافعي ولذلك إذا استوى وبدأ في الفاتحة لا ينزل، ذلك واجب يجبر بسجود السهو، وأما هو الآن قد شرع في ركن فلا يتركه.(250/47)
إمام أخطأ في الصلاة ولا يعرف ما هو الخطأ
إمام يصلي بالناس فأخطأ في الصلاة، قالوا: سبحان الله، سجد، اتضح أنها سجود، قام اتضح أنها ليست بقيام، ركع اتضح أنه ليس بركوع، هو نسي الجلسة بين السجدتين مثلاً وهو يقوم ويتخبط ويركع ويسجد، الناس: سبحان الله! سبحان الله! سبحان الله! فكيف تحل هذه المشكلة؟
الجواب
ينبه الإمام بذكر الركن الذي تركه، فإن كان نسي السجود وتخبط يقول أحد المأمومين: سبحان ربي الأعلى، فهو قد أتى بذكر من أذكار الصلاة وليس بكلام أجنبي، فيتنبه الإمام إلى أن الذي فاته سجود فيسجد، أو يقول المأموم: رب اغفر لي، فينتبه الإمام إلى أن الذي فاته الجلسة بين السجدتين فيجلس، أو يقول: التحيات لله، فيتبين له مثلاً أنه التشهد الأخير، فيجلس ويأتي به وهكذا.(250/48)
لبس جورب القدم اليمنى قبل اليسرى
رجلٌ توضأ للصلاة ويريد المسح على الجوربين، غسل أعضاءه فلما وصل إلى رجله اليمنى غسل رجله اليمنى ولبس الجورب، ثم غسل الرجل اليسرى ولبس الجورب، وهذه رأيناها في المساجد الآن في الشتاء بعضهم يغسل الرجل اليمنى ثم يلبس الجورب ثم يغسل الرجل اليسرى ويلبس الجورب، هل يجوز له المسح على الجوربين؟ لا، لماذا؟ لأنه لم يلبس الأول على طهارة، لأنه لبس الجورب الأيمن على القدم اليمنى ولم ينته بعد من الطهارة؛ لأن رجله اليسرى لم تغسل بعد، فما هو الحل إذاً؟ هل لابد أن يعيد الوضوء أو يعيد نزل كلا الجوربين؟
الجواب
لا، وإنما يكفيه بعدما غسل اليسرى ولبس الجورب الأيسر ثم انتبه أو نبه يخلع جورب اليمنى ثم يلبسه مرة أخرى فقط؛ لأنه لما لبسه مرةً أخرى لبسه على طهارةٍ كاملة.(250/49)
الباب يدق وأنت تصلي
قد يطرأ على المصلي شيءٌ في صلاته كدق باب أو مرور حية أو عقرب أو مار بين يديه، فماذا يفعل؟ أما الحية والعقرب فتقتل في الصلاة ولا تبطل الصلاة: (اقتلوا الأسودين في الصلاة الحية والعقرب) رواه أبو داود وهو حديث صحيح.
المار بين يديه يدفعه، فإن أبى؛ فليقاتله ولا تبطل صلاته.
إذا طُرق الباب وهو في الصلاة يتقدم أو يتأخر لفتحه خطوات ولا تبطل صلاته.
سقط رداؤه عليه أن يرفعه ويغطي كتفيه ولا تبطل صلاته، أو انحل مئزره فيتداركه فيعقده ولا تبطل صلاته.(250/50)
حكم السلام على المصلي ورده
لو سلم على المصلي أثناء الصلاة فهل يرد السلام؟ نعم، بالإشارة، وتكون بطن الكف إلى الأسفل.(250/51)
انكشاف عورة الإمام في الصلاة
رجلٌ رأى إمامه قد انكشفت عورته في الصلاة، أو هناك شق في ثوب الإمام، ماذا يفعل؟ يستره، فإن لم يمكن ستره، فيتكلم في صلاته ويخرج من الصلاة ويقول للإمام: إن العورة مكشوفة، أو إنه يجب عليك أن تغطي ما انكشف منك، يضحي لأجل مصلحة الجماعة ومصلحة الإمام وهو قد رأى هذا الشيء أمامه ولا يمكنه السكوت وهو يعلم أن صلاة الإمام الآن غير صحيحة بالنسبة لهذا المأموم.(250/52)
مواقف محرجة
ونختم هذه الجولة في بعض ما يطرأ على الناس من الأحكام والأشياء بذكر التصرف الشرعي في الحالات التي يحدث فيها إحراج للشخص.
فقد يطرأ على بعض الناس ثقلاء أو ظلمة، فيسألونهم أسئلة أو يقومون معهم بأشياء تحرجهم، فما هو الموقف الشرعي في مثل هذه الحالات؟ هل يكذب؟ طبعاً إذا اضطر إلى الكذب ولم يكن هناك مجال غير الكذب فإنه يكذب إذا كان سينقذ معصوماً أو ينقذ مال امرئ معصوم، أو ينقذ نفسه من الهلكة، إذا اضطر إلى ذلك: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} [النحل:106] ولكن في التعاملات التي هي أدنى من هذا فما هو موقف الإنسان؟ هذه أمثلة من حياة بعض السلف تبين كيف كانوا يتخلصون من الورطات في المواقف التي يكون فيها شيء من المشكلات، تبين سرعة بديهتهم، وتقدم حلول في مثل هذه الحالات التي تحدث وتطرأ على الشخص ولا يريد فيها الكذب، فكيف يفعل؟(250/53)
رجل يصيب بالعين
ذكر ابن القيم رحمه الله أمثلة في كتابه العظيم إغاثة اللهفان، فمن ذلك: أن علي بن سيرين كان رجلاً يصيب بالعين، فرأى بغلة شريح فأراد أن يعينها، ففطن له شريح فقال شريح أمام العائن: إنها إذا ربضت لم تقم حتى تقام، فقال رجل: أف أف، زهد فيها وغير رأيه، وسلمت بغلته وإنما أراد أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقيمها، يعني: لم تقم حتى تقام: حتى يقيمها الله سبحانه وتعالى.(250/54)
الإشارة إلى المروحة
وقال أبو عوانة عن أبي مسكين: كنت عند إبراهيم وامرأته تعاتبه في جارية له: أنت جاريتك تعطيها وتعمل معها، وعنده ضيوف وبيده مروحة، فقال إبراهيم: أشهدكم أنها لها، فلما خرجنا قال: علام شهدتم؟ قلنا: أنك جعلت الجارية لها، قال: أما رأيتموني أشير إلى المروحة إنما قلت لكم: اشهدوا أنها لها وأنا أعني المروحة.(250/55)
أسلوب في صرف الزائر الثقيل
وكان حماد رحمه الله إذا جاءه من لا يريد الاجتماع به وضع يده على ضرسه وقال: ضرسي ضرسي، فيتركه هذا الثقيل أو هذا الإنسان الذي ليس من مصاحبته خير ويخرج من هذا الإحراج.(250/56)
ترك نعله ثم عاد
وأحضر الثوري إلى مجلس الخليفة المهدي، فأراد أن يقوم، فما رضي له الخليفة أن يقوم حتى حلف بالله أن يعود، فترك نعله وخرج، ثم رجع فلبسها وذهب ولم يعد، فقال المهدي: ألم يحلف أنه يعود؟ فقالوا: إنه عاد فأخذ نعله.(250/57)
ليس المروزي هاهنا
وسئل أحمد رحمه الله عن المروزي، وقد كان من نجباء تلامذة أحمد، جاء أحدهم يسأل عنه يريد أن يأخذه من المجلس، والإمام أحمد يرى أن من مصلحة التلميذ البقاء الآن لحضور بقية الدرس، فماذا يقول؟ لو قال هنا أخذه وراح، خصوصاً إذا كان من جنود السلطان، وإذا قال: ليس موجوداً كذب، فوضع أحمد رحمه الله إصبعه في كفه وقال: ليس المروزي هاهنا، وما يصنع المروزي هاهنا؟ فذهب السائل، فالحيلة قد تكون حيلة شرعية واجبة أحياناً، وقد تكون مباحة، وقد تكون محرمة، وكثير من الناس يتوصلون بالحيل إلى إبطال حق أو إحقاق باطل، تستخدم تورية في إحقاق باطل أو إبطال حق أو أكل أموال الناس ظلماً، أو يطلب منه القاضي اليمين فيوري في اليمين يقول: أنا حلفت ما كذبت، ويمينك على ما صدقك به صاحبك، فأي حيلة فيها إبطال حق أو إحقاق باطل أو أكل أموال الناس ظلماً أو تضييع واجبات أو ارتكاب محرمات، فهي من حيل اليهود لعنة الله عليهم، يستحلون محارم الله لأجل الحيل، حرم الله عليهم الشحوم فأذابوها وباعوها وأكلوا ثمنها، قالوا: الشحوم إذا أذبناها ما صارت حراماً، وترى اليوم حيل الناس في تحليل الخمور والربا لا تعد ولا تحصى ومنهم الذين يضلون الناس بغير علم في تحليل الربا وما حرمه الله سبحانه وتعالى.(250/58)
والله ما رأيته ومن حيل أهل اللغة
وقد يقع إنسان مظلوم يضيق عليه في مناسبات محرجة ويريد أن ينجو من الكذب، فماذا يفعل؟ لو حلفك ظالم أنك ما رأيت فلاناً وأنت رأيته، لكن لو أنك اعترفت لربما وصل إليه وبطش به، أو بطش بك أنت، حلفك أنك ما رأيته، فقلت: والله ما رأيته، وأنت تقصد أنك ما ضربت رئته، لأن رأى في لغة العرب تأتي بمعنى نظرت إليه وأبصرته وتأتي بمعنى قطعت رئته، فتقصد أنت المعنى الثاني وهو المعنى البعيد وهو صحيح في اللغة وهذه تورية.
فإن حلفك ألا تكلم فلانا، قال: احلف بالله ألا تكلم فلانا، فقل: والله لا أكلمه، وتنوي أي: لا تجرحه، لأن كلم يكلم يمكن أن تكون من الكلام ويمكن أن تكون من الكلم وهو الجرح، كلم أي: جرح، وهو أيضاً معنى بعيد فتقصده أنت وهو صحيح في اللغة من أجل النجاة من هذا الظلم.
ولو حلفه واحدٌ ظلماً ألا يطأ زوجته، حلف والله لا أطأها ويقصد ألا يطأها برجله، ولو حلفه ظالم أنه لا يعلم مكان فلان، يقول: لا أعلم، قال: والله لا أعلم، يحلف ويقصد أنه لا يعلم أين هو على وجه التحديد، فإذا كان هو يعلم أنه في بيت فهو لا يعلم في أي غرفة هو، فإذا كان في غرفة هو لا يعلم في أي موضع هو بالضبط، فهو يسأله الآن أين فلان؟ يقول: لا أعلم، وهو يقصد معنى صحيحاً، فهو لا يقول إنه لا يعلم في أي غرفة هو مثلاً.(250/59)
مخرج لمن أكره على قول: (كفرت بالله)
وذكر ابن القيم رحمه الله كذلك مثالاً آخر لمن أكره على الكفر وقيل له: قل كفرت بالله، فيقول: كفرت باللاهي، ويقصد: لها يلهو فهو لاهٍ اسم الفاعل، كفرت باللاهي ليس بالله سبحانه وتعالى، وإنما باللاهي، اللاهي اسم فاعل من لها يلهو، فإن قالوا له: سكن وقل كفرت بالله، فيتأول وجهاً صحيحاً من أوجه اللغة وهو حذف الياء عند السكون على معتل الآخر بالياء مثل قول الله عز وجل: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72] هي أصلها قاضي، لكن يجوز الوقوف عليها مع حذف الياء، فيقصد أيضاً كفرت باللاه أي: الذي يلهو اسم الفاعل من لها يلهو، وبطبيعة الحال فإن الإنسان إذا وصل إلى درجة أنه يعذب ليعترف على فلان أو فلان ممن يؤذون بسببه؛ فإنه يتذكر قصة الراهب مع الغلام، لما قال له في قصة أصحاب الأخدود: فإن ابتليت فلا تدل علي، فينبغي إذاً للإنسان أن يذب عن عرضه وعن إخوانه ما قدر على ذلك وما استطاع أن يدفع عن نفسه وعن غيره الظلم.
الحالات الطارئة كثيرة، ونحن قد ذكرنا بعضاً من هذه الحالات تحت عنوان: ماذا تفعل في الحالات الآتية.
وهذه أمثلة.
والمقصود أن يطلع المسلم على أحكام دينه، وأن يقرأ في كتب العلم، حتى إذا واجهته مسألة يعرف الجواب ويعرف كيف يتصرف، ولا يصلح أن نكون من أهل الدنيا، دائماً نبدع في الأشياء الدنيوية ونعرف المخارج والطرق والأساليب، وإذا جئنا إلى الأمور الشرعية فيحدث الشيء في المسجد فيضطرب كل الناس لا أحد عنده جواب، كل واحد يقول قولاً عن جهل، يقول بغير علم، أو يقع لك شيء في أي محل، في أي مكان، في طهارة، في صلاة، في استقبال قبلة، في بيع، في شراء، في وكالة، في قسم يمين، وأنت لا تعرف كيف تتصرف، فليس هذا من صفات وسمات المسلم الجاد.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم للفقه في دينه واقتفاء سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يجنبنا الحرام ويباعد بيننا وبينه، وأن يرزقنا الحلال، وأن يغنينا بحلاله عن حرامه وبفضله عمن سواه والله تعالى أعلم.(250/60)
الأسئلة(250/61)
وصول أجر كفالة اليتيم
السؤال
هل يصل أجر كفالة اليتيم إلى الميت؟
الجواب
يصل إليه إن شاء الله لأنه من الصدقات.(250/62)
موقف المسلم مما يحدث لإخوانه المسلمين في العالم
السؤال
ما الموقف الصحيح للمسلم مما يحدث لإخوانه المسلمين في العالم؟
الجواب
لابد أن يتبصر المسلم لما يحدث لإخوانه المسلمين في العالم فينتبه: أولاً: من تضليلات إعلام الكفرة في شأنهم والأخبار المغلوطة المنقولة عنهم، وكثيرٌ من هؤلاء يقولون في أخبارهم: (ومما يجدر ذكره) ويضع وراءها سماً.
ثانياً: أن يناصرهم، أو يجمع تبرعات لهم، أو يدعو لهم بظهر الغيب، أو يدافع عنهم في المجالس؛ لأن بعض الناس مضللون، فينبغي إذاً أن يسعى في نصرتهم وأن يرد عن أعراضهم، وأن يدعو الله سبحانه وتعالى أن يظهرهم على أعدائهم.
اللهم أظهر أولياءك على أعدائك يا رب العالمين.(250/63)
حكم الابتسامة لغير المسلمين من الأساتذة
السؤال
هناك أساتذة غير مسلمين ما حكم الابتسامة؟
الجواب
لا بأس، لكن لا يكون فيها تنازل عن شيء من دينك.(250/64)
حكم الضحك لأعمال يقوم بها غير المسلمين على سبيل الضحك
السؤال
ما حكم الضحك لأعمال يعملونها على سبيل الإضحاك؟
الجواب
إذا كان فيها كذب أو فيها استخفاف بالموجودين فلا تضحك؛ لأن المسلم لا يزري بنفسه ولا بإخوانه، فلو استهزأ مدرس كافر بأحد الطلاب المسلمين في الفصل قاموا في وجهه، وبعض ضعاف النفوس من الطلبة المسلمين يضحكون على نكتة المدرس الذي استهزأ بأخيهم، المفروض أن يقوموا بوجه المدرس.(250/65)
حكم استعمال حبوب منع الحمل
السؤال
استعمال حبوب منع الحمل؟
الجواب
أجاز العلماء ذلك بثلاثة شروط: أولاً: ألا يكون المانع ضاراً.
ثانياً: موافقة الطرفين، عند استعمال حبوب منع الحمل لابد من موافقة الزوج والزوجة، ولا يجوز للزوج أن يجبرها على استعمال المانع وهي لا تريد، ولا يجوز للزوجة أن تستعمل حبوب منع الحمل من حيث لا يعلم زوجها.
ثالثاً: ألا تستخدمه أكثر من سنتين، حتى يرضع الأول ويأخذ حقه.(250/66)
سجلت اسمي في أوراق الكفالة ولم أدفع
السؤال
وزعت أوراق عن كفالة يتيم سجلت اسمي وعنواني ولم أدفع، هل علي إثم؟
الجواب
ما عليك إثم، ولكن الأفضل لك أنك تلتزم بما كتبت إن كنت مستطيعاً، وإن وجدت مجالاً أحسن للإنفاق؛ فأنفق في المجال الأحسن والحمد لله، أنت ما دخلت في دائرة إلزام نفسك بهذا، ما نذرته، إنما هو ملء قسائم (أشياء مبدئية).(250/67)
العين لا تدمع والبكاء في القلب
السؤال
عيني لا تدمع من خشية الله لكن قلبي يبكي من الداخل؟
الجواب
هذا طيب! إذا كان قلبك يخشع من الداخل، لكن جرت العادة أن يكون لبكاء القلب أثر على العين، فإذا لم تجدها فاتهم نفسك، فربما تظن أن قلبك حيّ وهو ليس كذلك.(250/68)
حكم ما أفطرته في رمضان قبل عامين عمداً
السؤال
أفطرت في رمضان قبل عامين عمداً وهي أيام كثيرة ولا أعرف بالتحديد عددها وقد تاب الله علي، فماذا أفعل؟
الجواب
قلت: قد تبت إلى الله، وأسأل الله أن يتوب عليك، فعليك أن تقدر هذه الأيام التي أفطرتها، واقضها قبل مجيء رمضان الآتي، فإن لم تفعل فاقضها وعليك كفارة عن التأخير، وقدرها بما يغلب على ظنك بأنها كذا وليس بأكثر، وأخرج كفارة إطعام مسكين عن كل يوم تقضيه عن التأخير، ولو تكررت رمضانات فكفارة واحدة تكفي.(250/69)
نقاش حول حكم فقهي
السؤال
كنت في مجلس دار فيه نقاش حول حكم فقهي، وكان معظم الموجودين يحاولون إقناعي بأن الحكم هو حلال، وكنت أنا ممن يرى أنه حرام وكنت أعرف الدليل فيه، ولكنهم كانوا يقولون: نترك كلام فلان وفلان من العلماء ونأخذ كلامك؟
الجواب
إذا كان فعلاً فلان وفلان من العلماء قالوا به؛ فإنك تراجع نفسك؛ لأنك قد تكون مخطئاً أو متصوراً أن هذا الدليل يدل عليها وهو لا يدل، أو قد لا يكون صحيحاً، أو لا تعلم معنى الدليل، فتراجع نفسك، أما لو كانوا يكذبون يضعون أسماء علماء من عندهم، فابق على ما أنت فيه من الذي تعلمه أنه حق.(250/70)
حكم المنكرات الموجودة في عملي
السؤال
في عملي كثير من المنكرات ولا أستطيع تغييرها؟
الجواب
إذا كنت تتأثر بذلك وتضعف، فيجب عليك ترك العمل، وإلا فعليك أن تنكر بيدك إذا استطعت، فإن لم تستطع فبلسانك أو بالقلم أو بالرسالة، فإن لم تستطع فبقلبك وذلك أضعف الإيمان.(250/71)
خروج الريح دائماً بعد الوضوء
السؤال
يتكرر معي الريح دائماً وخاصة بعد الوضوء؟
الجواب
إذا كان ذلك يستمر فتوضأ وضوءاً واحداً بعد الأذان، وصل به كل ما شئت من الصلوات وقراءة القرآن إلى الأذان الذي بعده، وبعد الأذان الذي بعده تتوضأ مرة أخرى، وهكذا وضوء واحد للصلاة بعد الأذان ولا تبال بما خرج منك.(250/72)
حضر الطعام وأقيمت الصلاة
السؤال
إذا جاء رمضان وضعت سفرة طويلة وأقيمت الصلاة؟
الجواب
طبعاً حسب الحديث ستأكل، ولذلك ننصح إخواننا أن يضع شيئاً لا يعجله من تمر ولبن، أو شيئاً بسيطاً حتى يستطيع أن يفطر ويدرك الصلاة.(250/73)
مصيبة الدين: الضلال بعد الهدى
بدأ الشيخ درسه بقصص أتته على شكل أسئلة فيها برهان كبير على أن السبب الفاعل في الانتكاس هو عدم التخلص من ذكريات الماضي المؤلمة ورواسبه.
ثم تحدث عن طائفة من أسباب الانتكاس التي تكون من ذات الفرد أو من المجتمع والوسط الذي يعيش في داخله، وعرض جملة من المظاهر التي تظهر على المنتكس؛ سواء في بداية الانتكاس أو نهايته، ثم بعد ذلك تحدث عن العلاج، وكيف يمكن للشخص أن يبتعد عن هاوية الانحراف عن صراط الله المستقيم.
وختم موضوعه بكلمات لابن القيم موجهة إلى كل من يريد العودة ولكنه يسوِّف.(251/1)
رسائل تثبت أهمية خلع رواسب الجاهلية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فهذا هو الجزء الثاني من الكلام على ظاهرة التراجع عن التمسك بشرع الله عز وجل والنكوص عن طريق الله وترك الاستقامة التي يكون عليها بعض المسلمين أحياناً ثم يتركونها.
وقد كان الدرس الماضي بعنوان: (لا ترتدوا على أدباركم) وهذا الدرس أو الجزء الثاني من الكلام بعنوان: (مصيبة الدين: الضلال بعد الهدى) لماذا يحدث؟ تكملة الأسباب، وكيف يحدث؟ وما هو العلاج؟ سبق أن تكلمنا أيها الإخوة على بعض الأسباب الذاتية أو الشخصية التي تحمل بعض الناس علىترك لطريق الاستقامة، ومن الأمور التي ذكرناها سابقاً: مسألة أهمية أن يخلع الإنسان على عتبة الإسلام جميع ملابس الجاهلية وهو يدخل طريق الاستقامة، على عتبة هذا الطريق يخلع جميع ملابس الجاهلية وأن يتخلص من كل ما علق به في ذلك المجتمع الآثم الذي كان يعيش فيه، وهاهنا أمثلة واقعية وردت في بعض الأسئلة نؤكد فيها هذا المعنى أو هذه النقطة التي كثيراً ما أودت بتمسك بعض المستقيمين إلى الهاوية، وأسوقها إليكم مختصرة قريباً مما وردت:(251/2)
شاب يعود للانتكاسة في الصيف
يقول: أنا شاب قد التزمت مع رفقة صالحة ولله الحمد والمنة، ولكنني ألتزم معهم في فترة الدراسة فقط، وفترة العطلة أذهب من المنطقة التي أنا موجود فيها إلى منطقة أخرى حيث أقع في قراءة القصص الغرامية والكتب الجنسية، وذلك لأنني شابٌ قد حببت لي القراءة فأنا أقرأ جميع ما يقع تحت يدي صالحاً كان أو سيئاً، وعندما أعود إلى أصحابي الصالحين أحس بأنني قد أخطأت وأذنبت ولا بد لي من توبة، ولكنني لا أستشعر الندم في قلبي فماذا أفعل؟ إذاً: هذا شخص الآن هو يستقيم فترة معينة من السنة، ثم في نهاية السنة في العطلة الصيفية يترك الاستقامة ويقبل على أشياء من المنكرات مثل قراءة القصص المحرمة.(251/3)
شاب لم يستطع ترك المسلسلات
وشخص آخر يقول: أنا شاب لم أستطع الامتناع عن مشاهدة المسلسلات اليومية مع أني شابٌ مستقيم ولا أزكي نفسي، ولكني لا أجد أن هناك تحريماً لهذه المسلسلات لأنهم لا يمثلون عراةً يعني: السبب الذي من أجله يبيح لنفسه أن يشاهد هذه المسلسلات أن الممثلين في المسلسلات لا يمثلون عراة.
فانظر إلى هذه الشبهة، يعني: كشف المرأة وجهها ورأسها وشعرها وذراعيها ويديها كل هذا ليس بعورة، واختلاط الرجال بالنساء وهذه الأشياء السيئة الموجودة في كثير من المسلسلات ليست حراماً.(251/4)
شاب لم يفارق رفقة السوء
ويقول آخر: أنا شاب صالح إن شاء الله تعالى وفي الطريق المستقيم، أذهب مع أصحابي الطيبين إلى الفوائد وغيرها من الأشياء الهادفة، ولكن في حارتنا شبابٌ غير صالحين لهم بعض المعاصي الظاهرة مع أنهم يصلون، أذهب معهم إلى الملعب للكرة وأذهب إلى مجالسهم مجاملة لهم، فانصحوني.
فإذاً: هذا رجل مازال على علاقة بأصحابه الأول ويزاول معهم اللعب ويحضر مجالسهم، والمجالس هذه طبعاً فيها أشياء كثيرة لا ترضي الله، لماذا يحضر المجالس؟ مجاملة لهم.(251/5)
شاب اهتم بغيره وأهمل نفسه
ويقول آخر: أنا شاب في الثانية والعشرين من عمري، أدرس في المرحلة الجامعية، أصرف أغلب وقتي في الدعوة إلى الله وأهتم بإخواني وأحاول تقوية إيمانهم وأنسى نفسي، حتى أصبحت ضعيفاً في دراستي وفي إيماني، ماذا أعمل؟ أنا في حيرة من أمري، وأفكر دائماً في ترك زملائي الطيبين وعدم الاهتمام بهم، أرشدوني.
هذه المشكلة طبعاً سببها عدم التوازن، إن لنفسك عليك حقاً ولإخوانك عليك حقاً فهذا الشخص لم يستطع أن يوازن بين حق نفسه وحق إخوانه، فهو يصرف كل وقته إليهم، ولا يجد وقتاً يقرأ القرآن مثلاً لنفسه أو يذكر الله لنفسه أو يعمل الطاعات الفردية لنفسه، أو يذاكر، ولذلك فهو مقصر في الدراسة، فلما وجد نفسه على شفا هلكة ومستواه الدراسي قد تردى وجد بأن الحل أن يترك الناس الطيبين؛ لأنه لا بد أن يعدل من وضعه الدراسي، السبب إذاً عدم الموازنة.(251/6)
شاب وشابة وقعا في المحادثات الهاتفية
وهذا آخر يقول: أنا شاب في الثانية والعشرين من عمري، وحدث أني تعرفت على فتاةٍ بواسطة الهاتف، وقد قويت علاقتي بها وأنا معها منذ سنتين وليس بيننا شيءٌ إلا الذي يكون بين الأصدقاء عادة من حديث، كما أنني أقوم على تلبية حاجاتها ومساعدتها في الدراسة وغيرها -يشرح الكلمات الصعبة ويحل لها المسائل- وأنا لا أدري ما حكم عملي هذا؟ وإني أرغب وهي أن ننهي هذه العلاقة لأننا نحس في صدورنا أنها غير صحيحة، مع العلم أن علاقتنا سامية للغاية.
المفروض بما أن هذا الإحساس من زمان يحدث أنه لا بد أن تنهى هذه العلاقة، يعني: سبحان الله العظيم! رجل أجنبي يتكلم مع امرأة أجنبية في الهاتف ماذا نتوقع وماذا ننتظر ولمدة سنتين، يعني: كأنه يكلم أخته وهي تكلم أخاها، هذه الأشياء العجيبة التي تقع اليوم في واقع بعض الناس تنبئ عن سطحية في فهم معنى الاستقامة، وأنه لا بأس من إقامة العلاقات مع النساء الأجنبيات في الهاتف، والشيطان يضحك ويلبس ويقول له: العلاقة السامية وأنت تساعد، وهذه أخوة في الله.
سبحان الله العظيم! انظر إلى الشيطان كيف يستغل المداخل وكيف يلعب بعقول الكثيرين حتى يوقعهم، ولا نستغرب إذا حدث وكان في بعض الأشياء أن تنتهي المسألة بالعلاقة أو بالملاقاة وما يحدث بعدها من سبل الشيطان، نسأل الله السلامة.(251/7)
شاب يخشى الوقوع على محارمه
وهذا آخر يقول: إنه يحب إحدى محارمه حتى يخاف أنه يقع فيها بالزنا فما هي النصيحة؟ طبعاً هذا أيضاً من ضعف الإيمان، ولذلك كثيراً ما نقول: إنك حتى لو كانت هذه البنت أو هذه المرأة إحدى محارمك وإنك تحس بالفتنة من جلوسك معها فلا تجلس معها، ولا يجوز لك أن تخلو بها؛ لأن بعض الناس قد يحدث معهم مثل هذا الانتكاس الفطري لأن فطرة الواحد مستحيل أن تجعله يميل إلى أخته أو بنت أخيه مثلاً لأنهم من أبٍ واحد أو من أم واحدة أو أشقاء، لكن عندما يصل الانتكاس الفطري إلى هذه الدرجة فيجب عليه أن يعاملها كأنها شبه امرأة أجنبية عنه، لئلا يقع في ورطة.(251/8)
شباب ما زالت عندهم رواسب من الماضي
وهذا يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: أنا شاب بدأت طريق الالتزام بقوة والحمد لله، ولكن لا زالت عندي بقايا من الماضي وهي خصلة الكذب رغم معرفتي الكبيرة بأحاديث هذا الموضوع، فما هو الحل؟ إذاً: مازالت المشكلة بقاء آثار من الماضي.
وهذا آخر يقول: باسم الله والصلاة والسلام على محمد رسول الله وبعد: فإني شاب تبت إلى الله، ولكن أصبحت أمامي مشكلة وهي فتنة النظر، أرجو أن تعلمني الدواء الشافي لهذا المرض؟(251/9)
خطورة عدم اجتثاث رواسب الجاهلية
هذه طائفة من الأمثلة أيها الإخوة ذكرنا في المرة الماضية أن هذه الرواسب التي تبقى في نفس هذا الشخص المستقيم الذي فتح عينيه على النور وسلك الطريق، وأصبح له زملاء طيبون، هذه الرواسب هي التي تثور في المستقبل، تبقى مثل:
أرى خلل الرماد وميض جمر وأخشى أن يكون لها ضرام
فإن النار بالعودين تذكى وإن الحرب مبدؤها كلام
الواحد أحياناً يرى الظاهر طيباً؛ لكن تحت الظاهر هناك أشياء تتفشى وأشياء تنتشر، وأشياء تقوى لأنها لم تجتث من الأصل، هذه مشكلة الكثيرين، وهي مشكلة خطيرة فعلاً أن الداء لم يجتث من الأصل، لم تعالج المشاكل كلها، لم يتخلص الشخص من آثار الماضي، فهو الآن يبدأ الحياة الجديدة ولا زالت معه الآثار السلبية السابقة؛ فلا تلبث بعد فترة من الزمن مع نوعٍ من الفتور والانشغالات الدنيوية والبرود الإيماني ونقص الإيمان أن تظهر هذه الأشياء ظهوراً قوياً مثل البركان، فيتفجر ويكون بداية السقوط وينتهي الشخص.
فإذاً: التفتيش عن هذه الأمور من سلبيات الماضي، واجتثاث المنكرات الماضية من جذورها، وألا يبقى في حياتك الجديدة أي أثر من الماضي وأي داء من الماضي هذه المسألة مهمة جداً، ينبغي أن تقف على العتبة وتتخلص وتطرح جميع الأشياء الماضية.(251/10)
من أسباب النكوص الذاتية(251/11)
خوض غمار المعركة بدون عدة
ومن أسباب النكوص أو من أسباب التردي: الوقوف في مواقف صعبة لا يستطيع الإنسان أن يتحملها، وأعني بهذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيح الذي يقول فيه: (لا ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه، قالوا: وكيف يذل نفسه يا رسول الله؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيق) فأحياناً الواحد يتخذ شكلاً من أشكال التصادم أو المواجهة أو المجابهة أو الدخول في معمعةٍ لم يعمل لها حساباً ولم يستعد لها ولم يتهيأ بحماسٍ أجوف مجرد عن الإيمان القوي؛ فلا يلبث ألا يتحمل جو الفتنة التي دخل فيها ثم بعد ذلك ينهار لأنه لم يستطع المقاومة.
وبعض الشباب والمستقيمين عندهم هذه النفسية؛ نفسية الدخول في أجواء الفتنة، هو يريد أن يلقى العدو، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، ولكن إذا لقيتموهم فاثبتوا) بعض الناس يتعمد أن يلاقي العدو فيعرض نفسه لأجواء من البلاء لا يطيقها، ثم بعد ذلك ينهار، وهذه تجارب كثيرة حدثت في تاريخ الدعوات تبين هذا الأمر الذي كشفه الرسول صلى الله عليه وسلم.(251/12)
اتهام النفس بالنفاق
ومن الأسباب الذاتية الداخلية للانهيار والانتكاس والانحراف ما يعبر عنه هذا السائل فيقول: هناك معصية أنا واقع فيها شغلت قلبي وتفكيري حتى شعرت بأني منافق، وهممت بترك الصالحين بسببها، ألا وهي تأخير صلاة الفجر إلى طلوع الشمس -أعاذكم الله- وقد حاولت أن أجاهد نفسي إلا أن النوم أثقل، والنفس أضعف، بماذا تنصحني؟! ويقول آخر: أحمد الله الذي هداني للصراط المستقيم، ولكن يحدث أن تحصل مني بعض المعاصي وأتضايق من نفسي وأتهم نفسي بأني منافق وإلا لما عملت هذه المعاصي، وبعد حينٍ أرجع إلى الله سبحانه وأستغفره ولكن يحصل ذلك مني من فترة إلى أخرى، ماذا أفعل؟! يقول الآخر: إنني شاب هداني الله بعد ما كنت ضالاً وبدأت أعمل الصالحات، ولكني أحيانا أفعل بعض المعاصي والتي تكون في غيابٍ عن أعين الناس، وحينما أذهب إلى الصلاة وأكون في الصف الأول أو أعمل عملاً صالحاً أمام الناس تحدثني نفسي بأني منافق! يقول الآخر: أنا شاب مسلم دخلت مع زملاء مستقيمين قبل ثلاث سنوات ولكن حدثت لي بعض المشكلات جعلتني أنسى الله وأفعل المعاصي بدون إحساس -على حد تعبيره- وأفكر أن أترك الشباب الطيبين لأن حياتي أصبحت حياة لا يعيش فيها شابٌ مسلم، دلني على طريق النجاة؟! فماذا نلاحظ من مجموع هذه الأسئلة أيها الإخوة؟ الذي نلاحظه قضية اتهام النفس بالنفاق، واتهام النفس بالنفاق أحياناً يكون لها أسباب حقيقية وأحياناً يكون لها أسباب وهمية، فمثلاً: أحياناً يقبل الشخص على الله.
ويسلك طريق الاستقامة يصاحب الناس الطيبين، وبعد فترة يحصل عنده ضعف إيماني فيقع في معصية من المعاصي، أو يتكرر منه وقوع هذه المعصية وهو لا يزال مع إخوانه الطيبين لا يزال يطلب العلم الشرعي لا يزال يمارس الدعوة إلى الله لا يزال يمارس الواجبات الشرعية، ولكن هذا الوقوع في المعاصي جعله يعيش في جو من التناقض، كيف يكون مع هؤلاء طيباً فإذا خلا بنفسه أصبح إنساناً يقع في المعاصي، كيف يمارس هنا الدعوة إلى الله ويطلب العلم ثم في بيته يقع منه شيء من المنكرات.
فإذاً يقول لنفسه: أنا عندي ازدواج في الإيمان بين الطاعة والمعصية، إذاً أنا منافق أظهر شيئاً وأبطن شيئاً آخر، إذاً أنا لا أستحق أن أكون في هذا الوسط الطيب، إذاً أنا لا بد أن أظهر على حقيقتي، هذه الوساوس من الشيطان هكذا يفعل، لا بد أن أظهر على حقيقتي، لا بد أن أكشف أمري للناس، إن هؤلاء الأطهار لا يصلح أن يكون بينهم واحدٌ ملوث من أمثالي، لا بد أن أفارقهم، إنني سبب نكبة وسبب فشل بينهم، إنني عنصر لا بد أن أبتر وهكذا؛ فتكون النهاية ترك الحياة الطيبة والاستقامة.
هو يظن أنه يقصد خيراً وأنه يريد أن يظهر على حقيقته وأنه لا ينافق، لكن النهاية ما هي؟ من الذي كسب؟ الذي كسب هو الشيطان؛ لأن الأمور قد تردت، أنت صحيح أنك تعمل المعاصي وأنت ما زلت في الجو الطيب، لكن هذا الجو الطيب يا أخي يساعدك على البقاء إلى مستوى معين وعدم التردي، إذا كان الجو الطيب لا يحملك على ترك المعاصي فهو يحملك على البقاء في مستوى معين من الطاعات، إذاً هذا الجو الطيب له فائدة، ومن الخسارة الكبرى أن تترك هذا الجو الطيب، ولا تترك الشيطان يلعب بك، ويوسوس لك حتى تترك طريق الاستقامة.
ومشكلة اتهام النفس بالنفاق مشكلة كبيرة، مع العلم بأن هؤلاء الناس الذين يفكرون لا يفرق بين النفاق الاعتقادي والنفاق العملي؛ هناك أشياء من النفاق العملي كبعض المعاصي: إذا وعد أخلف إذا اؤتمن خان إذا حدث كذب إذا عاهد غدر إذا خاصم فجر، لكن هذا النفاق العملي لا يعني أنك منافق مثل عبد الله بن أبي ومثل غيره من المنافقين، وأنك يجب أن تتميز عن الصف المسلم، لا.
الفرق كبير، فإذاً لا بد من أن يعالج الشخص نفسه من هذه الوساوس.(251/13)
من أسباب النكوص الخارجية
الآن ننتقل إلى طائفة من الأسباب الخارجية عن هذا الشخص الذي يسلك طريق الاستقامة، وهي طائفة من الأسباب الخارجية التي تكون سبباً للنكوص والارتداد على الأعقاب، وعندما نسرد هذه الأسباب ينبغي أن تضعوا نصب أعينكم أننا عندما نعرض هذه الأسباب فإننا لا نقدمها كعذر لهذا الشخص المنتكس أو الناكص على عقبيه أو المتردي أو المتراجع، أو التارك للصراط المستقيم، لكن نحن الآن نبين الأسباب سواء كان محقاً أو غير محق، طبعاً هو ليس محقاً؛ لأنه ليس هناك شيء يحمل الإنسان على ترك الاستقامة مهما كان الأمر، كل هذه أسباب من الشيطان ليوقع الذين آمنوا في حباله، فيتركوا طريق الله عز وجل.(251/14)
من الأسباب: سوء التربية
ما هو المقصود بقولنا: يكون السبب أحياناً سوء التربية؟ قد يطالب الجديد في عالم الاستقامة بتكاليف عالية ونوافذ شاقة منذ البداية، يعني: مثلاً يطالب بقيام الليل، بصيام النوافل، بقراءة كتب ضخمة ليتناقش مع غيره فيها، فلما يطالب بهذه المستويات العالية من الأداء أو من العبادات لا تستطيع نفسه أن تقوم بها؛ لأنه الآن دخل في طريق الاستقامة فهو لا يزال غضاً طرياً، لا يزال عوده لم يشتد بعد، فإذاً من الخطأ أن يطالب هذا الشخص من البداية بتكاليف عالية، لأنه إذا رأى هذا الأمر من البداية فإنه سيكون سبباً للرجوع وسبباً لترك الطريق المستقيم، وسيقول في نفسه: هذه من البداية هكذا، أنا لا أستطيع أن أستمر بهذا المستوى فيترك.
وقد يأخذه الحماس في البداية فيقبل على هذه الطاعات والعبادات والتكليفات، ويركب هذه الموجة العالية، ولكن في منتصف الطريق تخف حماسته ويبرد إيمانه فيرى نفسه لا يستطيع المواصلة فيسقط، يرى أنه لا يستطيع أن يتحمل الأعباء فيقول تبعاً لذلك: ما دام أنني لا أستطيع أن أتحمل هذه التكليفات إذاً أنا لا أستطيع الاستقامة، لأنه عرف الاستقامة وفتح نفسه عليها أنها بهذا المستوى، إذاً مادام أنه لا يستطيع أن يصوم دائماً الإثنين والخميس، ولا يستطيع أن يقوم كل ليلة، ولا يستطيع مثلاً أن يتصدق بجزءٍ من ماله، ولا يستطيع أن يقرأ القرآن في كل سبعة أيام مرة، ولا يستطيع ولا يستطيع فيترك الاستقامة، لأن تعريف الاستقامة عنده هي هذه الأشياء العالية.
فإذاً ينبغي مراعاة هؤلاء الجدد في عالم الاستقامة وألا يطالبوا مطلقاً بمثل هذه الأشياء العالية، وأن يترفق معهم ويرفق بهم، ولو أنهم تحمسوا لأدائها من أنفسهم فلا بد أن ينصحوا ويقال له: يا أخي تمهل، لا تقسو على نفسك، لا تكلف نفسك فجأة بكل هذه الأشياء فقد لا تتحمل.
ويدخل في ذلك أيضاً المطالبة بمستوياتٍ عالية من الزهد، يعني: مثلاً شخص يعيش في بيئة منعمة، أهله أهل غنى، أو فتاة تعيش في بيئة مرفهة، وعندهم خيرٌ كثير، فهو متعود وهي متعودة على مستويات عالية من الترف والبذخ والإنفاق على النفس، فعندما يأتي هذا الشخص أقول له من البداية: يا أخي لا بد أن تتخلى عن جميع الزينة وعن جميع هذه الملابس، ولا بد أن تلبس لباساً عادياً جداً، ولا بد أن تكون الملابس فيها تواضع، ورثاثة في الهيئة، والبذاذة من الإيمان وو إلخ، وهو الآن قريب الدخول في طريق الاستقامة، فعندما أطالبه بهذا النوع أو هذا المستوى العالي من الزهد، فإنه لن يتحمل وبالتالي سينفض يديه ويترك طريق الاستقامة.
إنسان كان في فواحش ومنكرات؛ من غير المناسب أن أطالبه بهذا المستوى من الزهد، لأعلمه أولاً أن الزهد هو ترك الحرام، انتبهوا معي أيها الإخوة، أعلمه في البداية أن الزهد الآن المطلوب منك هو ترك الحرام، فإذا ترك الحرام واستقام على الطريق فبعد ذلك يطالب بمستويات أعلى من الطاعات.(251/15)
عدم ملء وقت الفراغ بالطاعات
وأحياناً يكون سبب النكوص والتراجع: عدم ملء وقت المستقيم بالطاعات والأعمال الشرعية والمهمات المناسبة له؛ فيشعر أنه إنسان عنده فراغ كثير، وأنه غير منتج في المجتمع الإسلامي الذي يعيش فيه، فينسحب منه ويذهب إلى مقبرة الوحدة حيث تكون نهايته هناك وتنتهشه كلاب الشهوات من كل جانب، ما هو الخطأ الذي حصل؟ أن هذا الرجل أو هذه المرأة لم تُشغل في الطاعات، لم تملأ وقتها بأشياء نافعة؛ حلق ذكر، جلسات طلب علم، الذهاب في طاعة الله، الدعوة إلى الله، من بر الأرحام، الصدقات، الذهاب إلى المقابر، صلاة الجماعة في المسجد، أشياء كثيرة جداً، نشاطات إسلامية نافعة تفيد المجتمع، فإذاً عدم ملء واستغلال وقت الفراغ يوجد عن الشخص أوقاتاً كثيرة، لا يجد ما يشغله فيها فيشغلها في معصية الله ثم يسقط.(251/16)
عدم تفقد الأخوة لأخيهم المستقيم حديثاً
ومن الأسباب الخارجية: عدم تفقد الإخوة في الله لأخيهم المستقيم، وعدم سؤالهم عن حاله وعدم معرفتهم بواقعه، فقد تصيبه مصائب ويقع في مشكلات نفسية أو عائلية أو عاطفية أو مالية، فعندما يرى أنه لا أحد يسأل عنه ولا أحد يهتم به وبأموره يأتيه الشيطان فيقول له: إنه لن ينفعك إلا نفسك ومجهودك الذاتي، ولن ينفعك الآخرون بشيء، هؤلاء الذين تسميهم إخوة في الله لن ينفعوك بشيء، إنهم لا يسألون عنك ولا عن أحوالك، لو أنهم كانوا حريصين عليك لتفقدوك، لم يزرك أحد عندما مرضت في المرة الفلانية والمرة الفلانية، وعندما وقعت في مأزق لم يهب أحد لنجدتك ولم يمد أحدٌ يد العون لك، إنهم يستخفون بك ولا يكترثون، دعك منهم ومن طريقهم، فيترك الاستقامة.
وهذه النفسية تكون موجودة عند الكثيرين، وقد تكون موجودة عند النساء لأن المرأة حساسة بشكل أكبر من الرجل، وعاطفية بشكل أكبر، فإذا لم تجد أحداً من أخواتها في الله تسأل عنها وتتحسس واقعها فإنها لا تلبث أن تترك ذلك المجتمع الطيب وتقول: إنهن لا خير فيهن لم يسألن عني، وهذا ليس عذراً، نفترض أن هذا الشيء حصل وهذا الشيء خطأ، لا بد أن يسأل المسلمون عن إخوانهم المسلمين، وأن يتفقد المسلمون أحوال إخوانهم المسلمين، لكن لو حصل لك يا أخي هذا الموقف، لو أن إخوانك من حولك تشاغلوا عنك أو غفلوا عنك وعن مشكلاتك، وغالباً أن بعض الناس لا يصرحون بمشكلاتهم ولا يقول: ساعدوني، وينتظر من الآخرين أن يكتشفوا ذلك بأنفسهم، عند ذلك يقول: إذاً لماذا أبقى مع هؤلاء الناس، كونهم لم يسألوا عنك لا يبرر لك عند الله ترك طريق الاستقامة، يعني: عندما يسألك الله يوم القيامة لماذا تركت الاستقامة وتركت التمسك بالدين فلن يكون جواباً: إن باقي إخواني لم يسألوا عني، هذا ليس بجواب وليس بعذرٍ مقبول.(251/17)
أخذ الاستقامة جملة واحدة
وأحياناً يكون من الأسباب: إرادة بعض الدعاة ممن بدأ الاستقامة أن يلتزم دفعة واحدة، يشترط عليه: أنه من الآن بين يومٍ وليلة لا بد أنه يتغير ويصبح شخصاً مستقيماً، وقد يحصل هذا فعلاً ويستقيم ذلك الشخص من أول يوم أو من أول أسبوع، ولكنه لا يلبث أن ينتكس مرة واحدة كما بدأ مرة واحدة، لماذا؟ لأن نفوس الناس ليست مهيأة إلى الانتقال بسرعة، بل إن مجتمعات المسلمين اليوم تكثر فيها المعاصي، ومن الصعب على الشخص أنه يترك فجأة وينتقل مباشرة بين يومٍ وليلة، فعندما يطالب بترك المنكرات فجأة والاستقامة فجأة، فإنه قد يسقط فجأة كما بدأ فجأة.
وقد يستدل البعض على عدم خطأ هذا الأمر؛ لأن هناك أناساً قد استقاموا فجأة وأكملوا الاستقامة، فنقول: إن هذا الاستدلال غير صحيح، والناس مراتب وطاقات وهمم، صحيح أن فلان فجأة استقام وأكمل إلى آخر عمره، لكن لا يعني أن هذا العمل الذي فعله يستطيع الآخرون كلهم أن يفعلوه.(251/18)
الاعتقاد أن أهم ما في الاستقامة هو الظاهر
ومن الأخطاء التي تحصل وتسبب الانهيار أو التراجع: أن يظن بعض الدعاة إلى الله أن المهم هو إيصال الشخص رجلاً كان أو امرأة إلى مرحلة الاستقامة الظاهرة، أن يستقيم بشكله، مثلاً المهم أن هذا الرجل يعفي لحيته ويقصر ثوبه، أو أن هذه المرأة تلتزم بالحجاب الكامل، هذا هو المهم، فإذا وصل هذا الرجل أو هذه المرأة إلى هذه المرحلة انتهى المقصود وحصل المأمول وتحقق الهدف، هذا خطأ، وكون هذا الشخص أو هذه المرأة تترك الالتزام بعد أن وصلت أو وصل إلى هذا الالتزام الظاهري غير صحيح؛ لأن هناك أموراً تربوية كثيرة لا بد من تحصيلها ولا بد من تحقيقها وتوفيرها حتى يستقيم الشخص فعلاً، وإلا فإن الأشياء الظاهرة ليست هي كل شيء، كما أنه من غير الأشياء الظاهرة فإن هذا لا يعتبر كمالاً مطلقاً، فإذاً الترك الذي يحصل لمن استقام ظاهرياً؛ لأنه انتهى المقصود من الأمر ومن الدعوة إلى الله خطأ كبير:
فالفرد إن يترك يضع في عصرنا ترك الشباب أساس كل الداء
إخوانكم لا شيء أغلى منهم لا شيء يعدلهم من الأشياء
لا تتركوهم للضياع فريسة ترك الشباب أساس كل الداء(251/19)
الهجران غير الصحيح
ومن الأسباب: الهجر في غير موضعه: أحياناً يحدث هجر لإنسان من الناس له علة معينة في نفسيته قد يكون له فيها يد، وقد يكون لا يد له في إصلاحها، فيترك هذا الشخص ويهجر لهذه العلة أو السلبية التي في نفسه أو يخاف ويخشى على الآخرين منه فيترك ويهجر فتسوء أحواله أكثر وينتقل من الإيمان إلى المعصية، وينقلب حرباً على الدعوة إلى الله ناقماً في نفسه على هؤلاء الذين هجروه وتركوه، وقد يدفعه الشيطان إلى سلوك سبيل الانتقام.(251/20)
الانتكاس إذا رأى خطأ ممن اتخذه قدوة له
ومن الأسباب التي تنبني على أخطاء أساسية في التصورات والتي تسبب الانهيار والانتكاس والتراجع: أن يرى هذا الشخص واقعاً خاطئاً لمن اتخذه قدوة له، إنسان التزم بشرع الله، واستقام على طريق الله، ورأى من جعله قدوة، قال: هذا هو أحسن واحد وهذا الذي أقتدي به، وأتعلم منه وأتشبه به، هذا القدوة في يومٍ من الأيام فعل خطأً أو وقع في منكر أو معصية من المعاصي، أو أخطأ في التعامل معه مثلاً فماذا يحدث؟ يتزلزل كيان ذلك المسكين، لأنه لا يفرق بين الإسلام وبين تصرفات المسلمين، فيقول: هذه هي الاستقامة التي أريد أن أصل إليها، هذه النهاية لا بد من رفض ذلك كله جملة وتفصيلاً، من أين أُتي هذا الرجل؟ أُتي من سوء تصرفه، يتصور أن هذا القدوة أو هذا الشخص أو هذا الشيخ أو هذا المطوع أو هذا الإمام أنه هو الإسلام، فإذا رأى عليه ثغرة أو رأى عليه سلبية من السلبيات أو أنه وقع في منكر فمعنى ذلك أن هذا هو الإسلام، الإسلام في نظره هو ذلك الشخص، فإذا انهار هذا الشخص انهار الإسلام، الاستقامة في نظره يمثلها هذا الرجل، فإذا انهار ذلك الرجل انهارت الاستقامة، فلا بد أصلاً أن يتربى الناس على التفريق بين الإسلام وبين تصرفات المسلمين، لا بد أن يربى الناس على التفريق بين طريق الاستقامة وبين المستقيمين، هؤلاء -رجالاً أو نساء- قد يقعون في أخطاء إذاً هم بالنسبة لي آخذ منهم الحق فقط، وإذا وقعوا في أخطاء أنا ما عليَّ منهم، أنا ما زلت ممسكاً بالطريق أسير عليه.(251/21)
المعاملة السيئة ممن حوله
ومن الأسباب الخارجية: المعاملة السيئة التي يلقاها ضعيف الإيمان ممن حوله من الوسط الذي يعيش فيه، فيقول: هذه معاملة هذه أخلاق هذا أسلوب أنا أخاطب به؛ فإذاً ليس هذا هو الطريق الصحيح، إذاً هذا هو طريق الاستقامة الذي ألاقي فيه هذه المعاملة، إذاً لا بد أن أتركه لأني لم أرتح فيه.
هؤلاء الأشخاص الذين لقيت منهم سوء المعاملة ليسوا هم الصراط المستقيم، وليسوا هم سبيل المؤمنين، هؤلاء ناس يسلكون سبيل المؤمنين، لكن ليس هم الطريق نفسه، فتركك للجميع خطأ ظاهر، وسوء في التصور.
ليت هؤلاء الذين تركوا الاستقامة لهذا السبب ولهذا المنطلق يفهمون أن الإسلام لا يتحمل أخطاء المسلمين وليس مسئولاً عنها، وليتهم يعرفون أن الحق لا يعرف بالرجال وإنما يعرف الرجال بالحق، إذاً نعود فنكرر فنقول: إن التربية لا بد أن تكون من البداية على اتباع الحق وليس على اتباع الرجال، اتباع الطريق المستقيم وليس تقليد الآخرين إذا أخطأوا قال: هذا هو الإسلام، وهذا هو الدين، وهذه الاستقامة، ليس فيهم خير.(251/22)
كثرة رؤيته للمنتكسين
ومن الأسباب: كثرة رؤية هذا الضعيف للناكصين وانسحابهم من طريق الاستقامة الواحد تلو الآخر، فيشجعه ذلك على أن ينسحب هو أيضاً إن كان في نفسه قابلية لذلك، والطيور على أشكالها تقع، وقد يريد هو أن يتخلص ويترك هذا الطريق، لكن لا يريد أن يتركه لوحده، هو ينتظر من يشجعه فإذا بدأ هذا قد يتفلت واحد آخر وثالث ويحصل هناك تشجع نفسي على الانسحاب، فيقلد الآخرين، وهو أيضاً ينسحب من طريق الاستقامة.(251/23)
مظاهر من نكص عن طريق الاستقامة
هذا الرجل الذي وقع في هذه المشكلة وهو يريد أن يترك طريق الاستقامة وأن يعود إلى الضلال بعد الهدى الذي كان عليه، دعونا الآن نأخذ جولة في أعماق هذا الشخص المتزلزل ما هو وضعه؟ ما هي حالته؟ ما هي أحاسيسه؟ بماذا يفكر الآن وبماذا يشعر؟(251/24)
إظهار عدم الارتياح من الصالحين
إنه الآن يفكر في التبريرات والأعذار التي يقدمها لترك طريق الاستقامة، ماذا يقول لإخوانه من حوله؟ فبعض هؤلاء يبدأ بافتعال المشاكل وإثارة أجواء من عدم الارتياح مع الآخرين في النقاش وفي غيره، يظهر على سلوكه وعلى نقاشه أنه غير مرتاح، وأنه يتأفف وأنه يتضجر وأنه لا يعجبه شيء، وأن أسلوبهم غريب، وتتعالى أصواتهم ويكون دائماً هو الطرف المشاغب، وهو الذي يثير المشاكل في الأصل؛ لأنه يريد أن يتوصل من خلال إثارة المشاكل وافتعال هذه الأشياء إلى إيجاد المخرج الذي يخرج منه، وقد يصل به الأمر إلى الكذب والادعاء واتهام الأبرياء ليجد لنفسه المخرج المزعوم.
والبداية في العادة لمثل هؤلاء الاعتذار عن المشاركة في أعمال الخير، فيتخلف عن حلق الذكر وعن الاجتماعات الطيبة والمناسبات الإسلامية مبرراً ذلك بأشياء، يقول: أنا مشغول مع أهلي، إن والدي يحتاج إلي، أنا عندي مسئوليات أسرية، أنا عندي أعمال تجارية، وأنا عندي انشغالات، تبريرات لترك الأشياء الطيبة، وإذا كان الشاب يظهر تركه للتمسك بالدين أحياناً بأن يقصقص لحيته أو يحلقها مثلاً، أو يسبل ثوبه، فإن الفتاة تظهر ذلك عادة بالتخفف من حجابها أو إظهار زينتها أو شيءٍ من عورتها التي أمرها الله بسترها، هذه البداية.
طبعاً البداية أصلاً في القلب حاصلة؛ لأن القرار قد اتخذ بأن يتراجع الشخص عن هذه الأحكام الشرعية وعن هذا الطريق المستقيم، لكن متى يظهر وكيف يظهر؟ يظهر غالباً على الشكل الخارجي، فيبدأ كما ذكرت لكم بأن يخفف من مظهره الإسلامي فيطول ثوبه تدريجياً، وتقصر لحيته تدريجياً، والمرأة تبدأ تخفف من حجابها، يكون مثلاً كذا طاقة فوق بعض، فالآن هو يخف ويصبح شفافاً حتى يزول، كان المكياج من أول لا يظهر، الآن بدأ يظهر، الكعب العالي جداً يلبس، أشياء من الزينة ظاهرة.(251/25)
الاعتذار عن أفعاله باختلاف العلماء
ومن مظاهر بداية التفلت كذلك: كثرة الانقطاع عن صلاة الفجر وعدم الحرص على أداء الجماعة في المسجد، وهؤلاء الأشخاص في العادة يحاولون أن يبرروا أفعالهم عن علمٍ أو عن جهلٍ، تبدأ التبريرات والأعذار تنطلق من هذه النفس الأمارة بالسوء فمثلاً يقول: إن العلماء قد اختلفوا في هذا، وهناك آراء أخرى، وهناك من يجيز هذا الأمر، وهذا قال بعض العلماء إنه مكروه، وهذا ليس محرم قطعياً، تبدأ الأعذار الآن تظهر لك.
أين كان هذا الكلام من أول، الآن بدأت الأعذار تظهر، وبدأ التأليف على العلماء وأن بعضهم يقول، وأنه قرأ في كذا، واحد ينام عن الصلاة يقول: يا أخي في حديث من نام عن صلاةٍ أو نسيها فوقتها إذا ذكرها، فأنا لا بأس أن أنام عن الصلوات، كيف أنت تجبرني على هذا، انظر كيف يستخدمون الأحاديث على حسب الهوى، وعلى حسب ما تطلبه النفس الأمارة بالسوء.(251/26)
التهرب من لقاء الصالحين
ومن الناس من يجيد التخطيط لترك الوسط الطيب الذي يعيش فيه، ويتسلسل في الانحراف تدريجياً، ويظهر هذا بأن يتحاشى رؤية إخوانه الطيبين المستقيمين، ويتهرب منهم بشتى الوسائل، فهو يتجنب أن يرد على الهاتف إذا شعر بأن الذي يتصل به أحد إخوانه الطيبين، أو يغلقه ولا يرد ولا ينبس ببنت شفة إذا عرف من المتكلم، وإذا طرق طارقٌ بابه يقول لأهله: قولوا له غير موجود، أو هو نائم، أو مشغول، هذا التهرب في كثيرٍ من الأحيان يكون عن تحرج، يعني: كيف يقابل إخوانه السابقين بهذه النفسية المتغيرة، وبهذا الوضع المتغير، وبهذا الظاهر المختلف عن ظاهر الاستقامة، وهذا التحرج هو الذي يدفعه في الغالب إلى التحاشي وعدم مقابلة إخوانه المسلمين.
هذا الوضع في الحقيقة مع سوئه إلا أنه أهون من غيره، فبعض الناس يتحاشون أن يرى أي أثرٍ يربطه بواقعه السابق عن عداوة وبغض وكراهية لأصحابه وإخوانه السابقين لشخصياتهم ولما يحملونه من دينٍ وخلقٍ ومبادئ ومثل إسلامية، ولو أنه رضي أن يجلس مع أحد أصحابه الطيبين القدامى فإنه يتحاشى أن يفتح معهم أو يتحدث معهم في أي موضوعٍ يتعلق بمناقشة حالته السيئة وبتردي وضعه ويقطع الطريق على من يريد ذلك، إما بإنهاء المحادثة، أو تغيير الموضوع، أو الانصراف، هذه أشياء قد تقع الآن عملياً.
وبالإضافة إلى الانقطاع عن لُقيا إخوانه الطيبين والانقطاع عن الالتزام في شخصه ومظهره، فإنه يبدأ كذلك في ترك أمورٍ أخرى من الدين، فقد يبيع كتب العلم التي كان يمتلكها.
سبحان الله العظيم! الواحد لا بد أن يخشى على نفسه؛ لأن هذه أشياء قد تقع ويرى بعينه هذا الواقع، يكون عند الشخص كتب قد اشتراها واقتناها ليتفقه في الدين ويتعلم، فيقول مثلاً: ضعها في المسجد ودع المسلمين يستفيدون منها، وهو الذي كان جديراً وحرياً به أن يقرأ فيها ويستفيد منها، {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:16] هؤلاء الذين استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.(251/27)
تيئيس الصالحين من عودته للاستقامة
هذا كله وصف لنفسية هذا الشخص وحالته، وكيف الآن يتردى من مستوى إلى آخر، قد يكون من تصرفاته العجيبة أن ييئس أصحابه الطيبين من عودته إلى طريق الاستقامة، كأن يدخن أمامهم عمداً، أو يتصل بواحدٍ منهم فيقول: حاول أن تنسى رقم هاتف منزلي، وقد تتطور الأمور أكثر، فيجد رفقة سيئة، يلتحق بمعسكر أهل الكفر والفسوق والعصيان، بالإضافة إلى أنهم يسعون أصلاً لضمه إليهم عداء لله ولرسوله ولدينه ولعباده الصالحين، وقديماً أيها الإخوة لما قاطع الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة كعب بن مالك لأنه تخلف عن الجهاد واثنين من الصحابة، فلما عزل ذلك الشخص عن المجتمع المسلم ما الذي حصل؟ سبحان الله! إنك لتعجب وأنت تقرأ رواية كعب بن مالك كيف وصل الخبر إلى ملك الأنباط فأرسل رسولاً إلى المدينة يقول لـ كعب: إنا سمعنا أن صاحبك قد جفاك، وإن الله لم يجعلك بأرض هوان، فالحق بنا نواسك.
تستغرب عندما تعلم أنهم قوطعوا خمسين يوماً، قبل فترة جاءت الرسالة من ملك الأنباط إلى كعب بن مالك يقول: سمعنا أنه تغير وضعك وأن أصحابك قد جفوك، تعال عندنا ونحن سنكرمك، فانظر إلى مدى حرص أهل الجاهلية على التقاط هؤلاء الناس، وعلى استغلال وتحين الفرص، وكانت الرسالة تأخذ وقتاً للوصول، ولكن انظر إلى الاستغلال الذي يتم عن طريق أهل النفاق، يوصل الخبر بسرعة وتأتي الرسالة بسرعة.
يقول كعب بن مالك: وإذا بسائل من الأنباط يسأل يقول: أين كعب بن مالك، فدلوني عليه، فلما قرأ الرسالة طبعاً الشخص الذي تربى على الأصول الإسلامية الصحيحة يرفض هذه المهاترات ويرفض هذه المساومات الخسيسة، ولذلك قال كعب رضي الله عنه: وهذا أيضاً من البلاء، فرميتها في التنور فسجرتها، قوله: هذا أيضاً من البلاء، أي: من الامتحان الذي يمتحنني الله به، الشيطان يريد أن يرجعني إلى أهل الكفر، أخذ الرسالة وألقاها في الفرن فاحترقت.
وبعض هؤلاء المتساقطين يسقط بهدوءٍ دون أن يثير وراءه غباراً فيتوارى وينزوي في عالم النسيان وينتهي أمره، أما بعضهم فإذا أعمى الله قلبه فإنه يسقط وقد أصبح حرباً على الإسلام وأهله، وعلى دين الله، غاية همه الآن أن ينتقم وأن يفرق صف المسلمين، وأن يشكك كل من يريد الاستقامة، ويأخذ على نفسه العهد بهذا، إن من أعمى العمى الضلال بعد الهدى!(251/28)
أحوال من تاب ثم انتكس
هؤلاء أيها الإخوة! الذين يتخلفون والذين يتركون طريق الاستقامة أحوالهم أحوالٌ وأنواع، فمنهم من يعود فعلاً إلى ما كان عليه، وربما أكثر مما كان عليه؛ لأن التوبة تدفع إلى مزيد من الأعمال الصالحة، ومنهم من يعود ثم يرجع ثم يعود ويرجع وهكذا، ومنهم من يتمنى العودة ولكنه لا يعود، ومنهم من يذهب بغير عودة.
وهذا شخص يقول في إحدى أسئلته: لي زميلٌ كان مستقيماً ثم رجع إلى فسقه، فنصحته فيستقيم ولكنه يعود مرة أخرى وينكص ويتردى، ثم ينصحه مرة أخرى فيعود ولكنه لا يلبث أن يتردى، فهناك بعض الناس عندهم قضية (يرجع إذا ذكر، وبعد ذلك ينسى مرة أخرى، ثم يعود وينسى وهكذا).
وهذا آخر يقول: شابٌ في الخامسة عشرة من عمره يسير مع إخوة له صالحين؛ لكنه بين حينٍ وآخر تأتيه هفوات حتى أنه يتغير تغيراً مشيناً في مظهره وفي كلامه، ثم يعود ويصبح من أحسن الشباب الموجودين، هذا أحد الأسئلة التي جاءت مرة في مناسبة من المناسبات يقول: ثم يعود ويصبح من أحسن الشباب الموجودين، ثم يعود لأفعاله القبيحة ويتصرف تصرفات كأنه ليس شاباً مستقيماً على الإطلاق.
فإذاً هذه المرحلة التي تكون في سن الشباب المبكر، يقع منهم هذا التذبذب كثيراً، وترى أنه يستقيم وينتكس وهكذا، حتى يكبر ويكون عنده نوع من النضج فيستقر على حالٍ معينة، قد يستقر على الاستقامة وقد يستقر على الانتكاس.
وهذا آخر يقول: كنت شاباً ضائعاً وكتب الله لي الهداية على يد أحد الإخوان، وبعد مضي فترة من الزمن إذا بهذا الذي كانت هدايتي على يده قد انحرف، وكان السبب أنه قد ارتكب خطأً كبيراً، ولقد حاولت معه كثيراً ولكن دون جدوى، مع العلم أن أخي هذا حافظ لمعظم القرآن، وكان يعلم منه الصدق والإخلاص في دعوته، أرجو النصيحة.
وهذا آخر يقول: أحد أصحابي في يوم من الأيام ينصحني بترك المنكرات وعدم إسبال الثوب وغيره حيث إنه كان مستقيماً في ذلك الوقت، وقد تراجع وهو الآن يدخن، ويعزف العود ويغني ويمثل بلحيته، وأود أن أنبهه ليعود إلى الحق، ماذا يفعل؟! واحد يقول: هداني الله على يد هذا الشخص ثم هذا الشخص سافر إلى الخارج ورجع وهو متغيرٌ كلية وتارك للصلاة.
الانتقال من داعية إلى الله إلى كافر تارك للصلاة مرتد عن دين الله، ولذلك هذه قضية القلب قضية خطيرة، والله عز وجل مقلب القلوب، وقد ذكرنا لكم قصة ذلك الرجل الذي وصل إلى مستوى كبير من العلم ولكن أضله الله عز وجل على علمه، فإذاً هذا شيء يدفع الإنسان فعلاً أن يفتش في نفسه، وأن يتحسس، وأن يحاول أن يتخلص من جميع هذه الشرور والآفات التي قد تأتي في نفسه، ولذلك كان من الدعاء المأثور: (اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور) ما معنى الحور بعد الكور؟ يعني: إني أعوذ بك من النقصان بعد التمام والكمال، وهذا يحدث كثيراً.(251/29)
علاج الضلال بعد الهدى
والآن نبدأ بذكر طائفة من العلاجات التي قد ينفع الله بها إذا ما تنبه إليها:(251/30)
الوقاية بالتربية خير من العلاج
أولاً: عند الأطباء قاعدة تقول: الوقاية خير من العلاج.
وهذه القاعدة قاعدة إسلامية، ما هي الوقاية؟ الوقاية طبعاً هي سلوك سبيل التربية الإسلامية القوية الصحيحة، أي واحد لا يتربى على منهج الله تربية صحيحة فإنه معرض بنسبة كبيرة إلى الانهيار؛ لأن نفسه لم تتأسس على تقوى من الله ورضوان، بل إنها مؤسسة على شفا جرفٍ هار قد ينهار به في نار جهنم في أي لحظة.
ولذلك أيها الإخوة: لا بد من تربية إيمانية تهتم بأعمال القلب، تهتم بارتقاء القلب إلى مستويات إيمانية عالية عن طريق ذكر الله عز وجل والإقبال عليه بالتوبة والإنابة والاستغفار، والخوف من الله، ومحبة الله، ورجاء الله عز وجل، وغيرها من الأشياء.
ولا بد من أن تكون التربية علمية قائمة على منهاجٍ صحيح من الكتاب والسنة، غير قائمة على التقليد، وقد ذكرنا لكم قبل قليل حالات من الانتكاسات التي كان سببها تخريب الرجال، ولا بد أن تكون هذه التربية فيها وعيٌ يستطيع فيها المسلم أن يعرف الشر وأهل الشر ومصدر الشرور حتى يتحاشاها ويتجنبها، لا أن تدخل عليه من تحت ثيابه وهو لا يدري؛ لأنه مغلق العينين فاقد الوعي.
ولا بد أن تكون هذه التربية متأنية متسلسلة ترتقي بالمسلم إلى كماله تدريجياً، وكثير من هؤلاء المتراجعين لا تظهر عليهم الأعراض الظاهرة للانتكاس والنكوص والتراجع من البداية لأن البداية كانت في القلب، إنك عندما ترى شخصاً قد تغير شكله وسمته الإسلامي إلى سمتٍ غير إسلامي، لا تظن أن التغير حدث الآن لما رأيت الظاهر تغير، لا، إنه حدث قبل فترة، إن نفسه كانت تراوده إن هذا القرار قد جاء بناء على مقدمات حصلت في نفسه، وتغيرات حصلت في قلبه.
فإذاً لا بد أن ينتبه المسلمون لإخوانهم، لا بد من الرصد والتحليل للتصرفات وطريقة الكلام، وخفايا الإشارات والعبارات، فإن الفتنة تكون في البداية بذوراً، وبعد ذلك تنمو وتظهر على سطح الأرض، النبتة أيها الإخوة في بدايتها لا تكون ظاهرة على سطح الأرض، فإذا رويت بذرة الفتنة بماء الشيطان، ووضع لها السماد الشيطاني؛ فإنها لا تلبث أن تظهر على سطح الأرض، وأن تشق طريقها إلى الخارج، فأنت ترى شجرة الفتنة قد ظهرت على سطح الأرض الآن، لكن في الحقيقة أن الأمر من السابق يحدث، وأن المسألة لها وقت، ولها زمن حدثت فيه، ليست وليدة لحظتها وساعتها، وإنما هي نتيجة تفاعلات نفسية، النفس الأمارة بالسوء من السابق.
فإذاً من واجب الإنسان المسلم الداعية إلى الله أن يتحسس هذه الأشياء في نفوس إخوانه والناس من حوله قبل أن تحدث وتظهر وتطفح على السطح، لا بد أن يغوص هو إلى الأسفل ليرى ماذا يحدث هناك، لا بد أن ينقب عن الجذور ليرى ماذا يتم هناك، كيف تعالج المشكلة أساساً قبل أن تكبر وأن تستفحل، ولا بد من قلع بذور الفتنة، وإلا فإن هذه الشجرة تنمو في أصل الجحيم ويخرج طلعها كأنه رءوس الشياطين.(251/31)
التماس الأعذار له حدود
والملاحظ هنا أن بعض الناس إذا طرأ عليه نوعٌ من التغير في سمته الإسلامي فإن بعضاً ممن حوله يلتمسون له أعذاراً شتى بناء على حسن الظن، وأنه ربما كذا وربما لا تقلق يا أخي يمكن أنه مشغول، يمكن فعلاً عنده كذا، الظن الطيب شيء طيب، لكن عندما تكون هناك دلائل قوية فإن إغماض العينين عن المشكلة هو في الحقيقة غفلة عظيمة، وهو في الحقيقة استهتار بما يحدث، والمؤمن موصوف في القرآن والسنة بأنه إنسان ذو بصيرة، من غير المعقول أن هذا الشخص فيه تغيرات شتى وأنت تقول: لعله كذا ولعله كذا، وفي النهاية يسقط سقوطاً ذريعاً وتندم على جميع هذه الأشياء التي كنت تلتمسها له.
بعض الناس لا يريدون أن يحسوا بالواقع السيئ، ويعز عليه أن فلاناً من إخوانه يحدث له أشياء، فيبدأ يعتذر له بأعذار ولا يعالجه ولا ينتبه إليه ثم تكون النهاية، فحسن الظن يكون إلى درجة معينة، لكن بعد ذلك لا بد أن تكون المواجهة والصراحة والجدية في العلاج واستدراك ما فات، فليس كل تأخرٍ عن صلاة الفجر سببه النوم الذي لا ذنب للشخص فيه.
ليس كل واحد يتأخر مرات عن صلاة الفجر تقول: والله يمكن أنه مسكين معذور نومه ثقيل، قد يكون قد يكون هذه بداية النهاية.
وليس كل تخلف عن حلق الذكر والعلم سببه انشغال الشخص بوالديه أو بطاعاتٍ أخرى.
وليس كل إسبالٍ في الثوب أو طولٍ فيه سببه عدم انتباه الشخص إلى تفصيل الخياط أو أن الثياب الأخرى كلها متسخة.(251/32)
تذكيره بالله وبما كان منه في الماضي
لنعلم يا إخواني أن علاج هذه المواقف هو في غاية الصعوبة والحساسية، وأنه شديد، لماذا؟ لأنه كما ذكرنا لكم من أعمى العمى الضلال بعد الهدى، ويوجد فرق بين شخصٍ عرف الحق وتركه وشخصٍ لم يعرف الحق أصلاً، أيهما أسهل؟ الذي لا يعرف الحق أصلاً هو في الغالب أسهل، لأنه إذا عرض عليه وأقنع بطريقة صحيحة فإنه يتقبل، لكن واحد عرف الحق وعرف الأدلة ثم استقام عليها فترة من الزمن وتذوق حلاوة الإيمان فترة من حياته، هذا الرجل إذا تراجع كيف السبيل إلى إرجاعه؟ وماذا تقول له؟ الآن لو أنك رأيت عاصياً ما عرف الحق ولا أحد ذكره من قبل فقلت له: يا أخي اتق الله عذاب النار والجنة كذا، وأنت إذا استقمت لك من النعيم كذا وكذا، وإذا فجرت واستمريت على العصيان ينتظرك عذاب القبر، وذكرته بعظمة الله فإن الرجل قد يتفاعل معك ويتغير ويترك المنكر، لكن واحد يعرف هذه الأمور كلها ومرت عليه كلها، بل إنه ربما كان يمارسها في الدعوة إلى الله في يوم من الأيام، ماذا تقول له الآن؟ أنت تقول: كذا، يقول: أنا عارف، وقد يضحك بك ويستهزئ بك وأنت تكلمه، لأنه يعلم هذه الأشياء، وهذه المصيبة، هذه الخطورة؛ ولذلك بعض الناس يستكثرون من حجج الله عليهم، وبعد ذلك ماذا تقول له، وبماذا تذكره؟ بالنار، هو يعرف تفاصيل عذاب جهنم، وربما يعرف أكثر منك، تذكره بعذاب القبر وهو يعرف تفاصيل عذاب القبر، ماذا تقوله له الآن؟ إنه يعرف كل شيء ويفهم كل شيء، وربما كان يجيد الكلام في الماضي عن المواضيع التي أنت تكلمه الآن فيها أكثر منك، فهنا يقع في نفس الشخص المخلص حيرة شديدة، كيف يبدأ؟ وماذا يقول؟ ومن أين تكون نقطة الإصلاح؟ قد يكون من الخير أيها الإخوة أن يركز مع هذا الرجل على جوانب التذكير بالله، وأعمال القلوب، ومحبة الله، وخوف الله، لأنه لن يرده شيء مثلما ترده هذه الأمور، أعني: أن بيان الأحكام ليس فيها رجاء كبير أن ترده لأنه عارف بأدلة الأحكام أكثر منك، لكن ما هو الشيء الذي يمكن أن يؤثر في الناس؟ لا تزال الأشياء الترقيقية والتذكيرية والتي فهيا ربط بالله عز وجل يمكن أن تكون هي الطريق، مع أنه قد يكون يعلمها، لكن {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] التذكير هو بداية العلاج، فهذا رجل في حالته من الممكن أن نشبهه أحياناً بحالة الشخص الذي قد وقع في غيبوبة بسبب حادث وهو الآن راقد على السرير في المستشفى، وأهله من حوله وهم يحاولون أن يعيدوه إلى وعيه، فأمه تصرخ وتقول: يا فلان فلان! أنا أمك، أنا فلانة تذكرني، أبوه يقول له: يا فلان! يا ولدي! أنا فلان تذكرني، إخوانه يقولون له: نحن فلان وفلان إخوانك ألا تذكرنا؟! أما تذكر خالك فلاناً وعمك فلاناً، بيتنا في المكان الفلاني، أصدقاؤك فلان وفلان في المدرسة، هذا يحدث الآن في مثل حوادث السيارات وغيرها، يقع في غيبوبة ويبدأ يفتح عينيه تدريجياً، وأحياناً يغلقها ويعود للغيبوبة، ثم يفتحها تدريجياً ويعود لغيبوبة، ماذا يفعل من حوله؟ إنهم يحاولون أن يذكروه بأقرب الأشياء إليه، حتى يحاول أن يستعيد وعيه شيئاً فشيئاً، ولذلك يقول الأطباء لمن حوله من أقربائه: داوموا على تذكيره وتنبيهه، داوموا على أن تصل الأصوات إلى أذنيه، ربما أنه يرجع إلى وعيه، يتذكر شيئاً فشيئاً.
هذا الشخص ممكن نقول أنه في مثل هذه الحالة، فإنك تهزه وتنبهه على أشياء في الماضي، هذه قضية مهمة، تذكير الشخص بأموره التي كانت في الماضي، ما تذكر كذا، كيف كنت تمارس كذا، تلك الأيام وتلك المجالس، ما حصل في المجلس الفلاني كذا من ذكر الله، ما حصل في المجلس الفلاني من الفوائد، وتحاول بشتى الأشياء أن يستيقظ هذا الرجل من الغيبوبة التي هي فعلاً غيبوبة؛ غيبوبة المعاصي والفسق تحتاج إلى واحد ينفض ويهز هزاً شديداً.(251/33)
التودد إليه وإزالة شبهته أو شهوته
ومن العلاجات المهمة: أن يقوم عدد محدود من أصدقائه السابقين ممن كان يرتاح إليهم كثيراً بالتودد إليه، ليس بالتردد عليه فقط بل بالتودد إليه وزيارته ومساعدته، وأن يكون كلامهم بعين الشفقة والعطف، لأنه مسكين يحتاج إلى المساعدة ويمر بظرفٍ سيئ.
وقد تكون البداية الناجحة: أن يستخرج واحدٌ من هؤلاء الأسباب التي دعت هذا الشخص لأن يتغير، فإن كانت الأسباب شبهة أو شبهات فتزال بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وإن كانت شهوة من الشهوات فينصح ويوجه بما هو مناسبٌ عن موضوع التوبة، وآداب التوبة، وسعة رحمة الله ومغفرة الله لعله يرجع؛ لأن غالب الناس إما أنه ينكص على عقبيه بسبب شبهة أو بسبب شهوة، فلا بد إذاً من تكملة العلاج واستخراج السبب، لماذا صار كذا؟ وكثير من هؤلاء لا تدري ماذا تتكلم عنه؛ لأنك لا تعرف لماذا حدث لهم هذا الشيء؟ ما هي المشكلة؟ أساس البلاء من أين؟ لا بد من استخراج أساس البلاء.
وقد يكون في بعض الأحيان تدخل شخصٍ بعيدٍ نسبياً عن هذا الرجل لكن له مكانة في قلبه ذو فائدة إيجابية، خصوصاً إذا صار هذا المسكين إلى حالٍ لا يطيق فيها رؤية أحدٍ من المقربين إليه في السابق، فقد يشكو إلى البعيد أو يبث إلى البعيد أموراً لقيها من زملائه لا يستطيع أن يشكيها إليهم لأنه يعتبر أو يعتقد أنهم السبب، فلو جاءه شخصٌ آخر ينصحه أو يفتش في قلبه فقد يبوح له بسبب المشكلة التي لا يستطيع هو أن يقولها لهؤلاء الناس المقربين منه.
وإذا كان هذا الشخص يرفض المقابلة وجهاً لوجه نهائياً، ويرفض أن يكلمه أحد فربما يكون من المناسب كتابة الرسائل المؤثرة المشحونة بالتذكير بالله، وبأخوته في الله، ومن الأشياء التي قد تعيد إليه وعيه وصوابه.
ويستحسن أن تكون مثل هذه الأمور مواضيعٌ مسجلة أو مكتوبة سبق لهذا الشخص أن تأثر بها، فعن طريق هذه الأشياء التي تذكره وتربطه بالماضي، وتصل الخيط مرة أخرى ربما تكون هي بداية الرجوع.(251/34)
عدم مجابهته على أنه عدو ضال
ومن الأخطاء العظيمة في علاج هذا الأمر: مجابهة الشخص على أنه كافرٌ أو مرتد، لا يسلم عليه، ولا ينظر إليه، وتجب مقاطعته وعدم زيارته، وألا يدعى إلى أية مناسبة، وألا تجاب دعوته، هذه من الأخطاء العظيمة؛ لأن هذا الشخص مسكين، كما يقول أحد السلف: أخي المذنب أحوج إلي من أخي المطيع، ذاك محتاج إليه فعلاً، يحتاج أن أمد إليه يد العون، ولذلك فإننا ننبه إخواننا في الله على خطورة الاستقبال السيئ الذي قد يستقبل به هذا الشخص إذا تغير، فأنت إذا تغير عليك لا تتغير عليه؛ لأن تغيرك عليه قد يقطع الخيط الأخير الذي قد يكون أملاً في رجوعه.
وهناك حديثٌ لطيف وجميل جداً: هو أن أحد الأعراب جاء وسأل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعطيه عطايا والرسول صلى الله عليه وسلم أعطاه شيئاً، فقال له: أحسنت إليك، قال: لا أحسنت ولا أجملت، فالصحابة هموا ليفتكوا به، واحد يقول للرسول صلى الله عليه وسلم هذا الكلام، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: دعوه، فدخل إلى بيته عليه الصلاة والسلام فأخرج عطايا أخرى وأعطاها للرجل، ثم سأله مرة أخرى: أحسنت إليك، قال: نعم جزاك الله خيراً ومن أهل ومن عشيرة.
الآن هؤلاء الأعراب هذه أخلاقهم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم للأعرابي: أنت قلت ما قلت بالأمس وسمعك أصحابي، ولو أنك غداً قلت لهم هذا الكلام الذي قلته لي الآن أمام الناس الذين قلت لهم العكس، هذا طبعاً علاج حكيم من الرسول صلى الله عليه وسلم لنفوس أصحابه حتى يشفي صدورهم من حال أخيهم المخطئ، فمن الحكمة أن يشفي صدورهم من حاله، حتى لا يبقى في نفسهم شيء عليه.
ففي اليوم التالي جاء الأعرابي وسأله الرسول صلى الله عليه وسلم فقال الرجل: جزاك الله من خيرٍ ومن أهلٍ ومن عشيرةٍ، أنت أعطيتني وأكرمتني، فالصحابة سروا بهذا الكلام، فقال عليه الصلاة والسلام: (مثلي ومثل هذا كمثل رجلٍ له ناقةٌ شردت عليه) الآن أنت الآن اربط بين الموضوع الذي نتكلم فيه وهذا المثل النبوي، نتكلم الآن في موضوع شخص شرد عن الحق، كيف يرجع، كيف يعاد يقول عليه السلام: (مثلي ومثل هذا كمثل رجل له ناقة شردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً، فقال لهم: خلوا بيني وبين ناقتي، فإني أرفق بها منكم وأعلم، فتوجه بين يديها -يعني: بحيث أنها تراه- فأخذ من قمام الأرض فردها حتى جاءت واستناخت وشد عليها رحلها واستوى عليها، وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار) لأنه سب الرسول صلى الله عليه وسلم.
فأنتم الآن أيها الإخوة انظروا معي في هذا العلاج الرفيق، وكيف يعاد الشارد، لا يعاد الشارد بالعدو والجري وراءه، والإصرار والرجل لا يريد، وإنما تكون القضية برفق وبهدوء، وبتقديم الأشياء الجذابة التي تعيده، وإذا عاد لا يلقى عليه فجأة هذا الرحل، وإنما يعاد فيبرك ويستريح ويعاد إليه الرحل ويشد عليه، ثم يركبه صاحب الناقة عند ذلك.
إذاً: المسألة خطوات وحكمة ورفق وعلم، والرجل قال: فإني أرفق بها منكم وأعلم.(251/35)
تدارك الشر قبل استفحاله
ومن الإشكالات التي تحدث في هذا الأمر طول المدة، فإن هذا الرجل الذي رجع أو الذي سقط أو هوى في الرذيلة إذا طال عليه الأمد وهو في مرحلة الانتكاس فإنه يستمرئ المعصية ويعتاد جو الفتنة، ويذهب شيئاً فشيئاً تأنيب ضميره له، وكلما استمر الوقت أكثر كلما قلت فرصة الرجوع أكثر، فإذاً لا بد أن يكون العلاج من البداية، وألا يأتي العلاج متأخراً جداً وقد انتهت القضية وصار في نقطة اللا عودة.(251/36)
استغلال نقطة الحنين إلى الماضي
ومن الأمور المعينة على العلاج التي يجب أن يتنبه لها: أن كثيراً من هؤلاء المنتكسين في كثيرٍ من الأحيان يكون له نوع حنينٍ من الماضي، مهما كان هذا الرجل، ومهما تغير وساءت أحواله فإنه في الغالب يكون له نوع حنينٍ إلى الماضي وإلى رفقته الطيبة السابقة، وقد يحدث نفسه بالرجوع ولكن قد يسوف يقول: فيما بعد، أنا ناوٍ أن أرجع، أنا سوف أعود أنا سوف، وقد تمنعه اعتباراتٌ شخصية من ذلك، نضرب مثالاً حدث: هذه الرواية الله أعلم بصحتها ولها أسانيد فيها الواقدي، والواقدي متروك عند علماء الحديث، لكن لها أكثر من طريق الله أعلم بصحتها ولكنها مشهورة في كتب التاريخ، وساقها ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية بعدة طرق: هذه قصة جبلة بن الأيهم: وكان من ملوك النصارى في جزيرة العرب، جاء وأسلم ويقال: إنه كان يطوف بالكعبة على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فجاء رجل من فقراء المسلمين فوطئ على إزار أو رداء جبلة بن الأيهم، فـ جبلة ملك هو يرى نفسه ملكاً من الملوك فكيف يطأ هذا الفقير الصعلوك على إزاره، فلطمه لطمة ذهبت بعينه أو بأنفه، فرفع الأمر إلى عمر فقال عمر: لا بد من القصاص لا بد من القصاص، قال: كيف يقتص مني لهذا الصعلوك؟ فـ عمر قال: هذه شريعة الله، قال جبلة: آتيك في الصباح فيقال: إنه في الليل جمع أصحابه وكان أتى في حاشية وسرى بهم في الليل وهرب، وارتد عن دينه وذهب إلى ملك الروم فاستقر عنده، وأكرمه ملك الروم وأغدق عليه وأعطاه أشياء كثيرة، هذا الرجل قيل وردت عنه أبيات تبين لنا نفسية مثل هذا الشخص، لأن تحليل النفسيات وفهم النفسيات في مثل هذه الحالة مهمة جداً، يقول وهو يعترف بخطئه وندمه، يعبر عن حالته بهذه الأبيات:
تنصرت الأشراف من عار لطمة وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنفني فيها اللجاج ونخوة وبعت بها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني رجعت إلى القول الذي قاله عمر
ويا ليتني أرعى المخاض بقفرة وكنت أسيراً في ربيعة أو مضر
ويا ليت لي بـ الشام أدنى معيشة أجالس قومي ذاهب السمع والبصر
أدين بما دانوا به من شريعة وقد يصبر العود الكبير على الدبر
الرجل هذا يتحسر ويتندم ويقول: يا ليتني كنت راعي غنم، يا ليتني كنت خادماً، يا ليتني كنت ذاهب السمع والبصر، فقط أني أعيش في ديار المسلمين وأدين بما دانوا به من الشريعة، وقد يصبر العود الكبير على الدبر؛ الدبر وهو مرض يصيب الحيوانات في ظهرها، والحيوان الكبير طبعاً ليس له إلا الصبر على هذا المرض الذي إذا جاء في ظهره، يعني يقول: يا ليتني ما فعلت الذي فعلت، وأخذت قول عمر، ويا ليتني رجعت إلى الحق، كثيرٌ من الناس الذين يتراجعون وينكصون نفسياتهم شبيهة جداً بنفسية جبلة بن الأيهم، ولكن يمنعهم من العود اعتباراتٌ شخصية لا بد من مراعاتها وإزالتها، ولو قدر الله سبحانه وتعالى أن هذا الشخص عاد مرة أخرى واستجاب للعلاج فإن من الأمور المهمة في بداية عودته أشياء مهمة جداً: إظهار الفرح باستقباله وعودته، وعودة العلاقات الطبيعية معه إلى الوضع الطبيعي جداً، وعدم إظهار أي نوعٍ من التغيرات، أو إعادة البحث فيما مضى من صفحته السوداء، وذلك كي ينسى تلك الفترة وتطوى طياً بالكامل، ولكن لو قدر الله أن الرجل يستمر في انتكاسته وفي ضلاله ويستمر على الباطل الذي هو عليه ويتردى، فلو قضى الله عليه بذلك فلا يمكن لو حاول جنود الأرض والسماوات أن يعيدوه على ما كان عليه فلا يعود.
الله عز وجل يقول: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23] قسم الله الخلق إلى أشقياء وسعداء وكتب الكتاب وقدر الأقدار وانتهى الأمر، قد لا يعود برغم جميع الجهود التي تبذل، وهنا يكون وضعه درساً وآية من آيات الله يخوف الله بها عباده المؤمنين على أنفسهم أن ينكصوا وأن يتراجعوا ويسقطوا.(251/37)
عدم رد السبب في الانتكاس إلى الوسط المعايش
وأخيراً: قد يسبب هذا الوضع حالة من حالات الخوف والذعر بين إخوانه أكثر مما ينبغي، قد يسببه زهد من حول هذا الشخص من إخوانه في الله وفي نظرتهم إلى ذلك الوسط الذي يعيش فيه، وقد يستدل البعض بانحراف ذلك الشخص على سوء الوسط الذي يعيشون فيه، ولكن ينبغي أن نعلم أن الله قد كتب على أناس الضلال، وكتب عليهم الشقاوة فماذا نملك لهم؟ بعض الناس يخاف على نفسه، وقد يحدث له من شدة الخوف نفس الشيء.
واحد قد يرى هذا فيتملكه الخوف الشديد والذعر ويحس أنه سيسقط وفعلاً يسقط، ولذلك لا بد أن نتأمل هذه الآية: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة:115] قال الشيخ السعدي رحمه الله في التفسير: إن الله تعالى إذا امتن على قومٍ بالهداية وأمرهم بسلوك الصراط المستقيم، فإنه تعالى متمم لهم إحسانه، ويبين لهم جميع ما يحتاجون إليه، وتدعو إليه ضرورتهم، فلا يتركهم ضالين جاهلين بأمور دينهم.
ويحتمل أن المراد بذلك: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة:115] فإذا بين لهم ما يتقون فلم ينقادوا له عاقبهم بالإضلال جزاء لهم على ردهم الحق المبين، والأول أولى.
وختاماً: فهذه كلمات من كلام ابن القيم أسوقها في ختام هذا الموضوع إلى ذلك الشخص الذي كان مستقيماً فانحرف وتلوث بالمعاصي، فرجع إلى نفسه رجعةً تذكر فيها حلاوة الماضي وطعم الإيمان الذي فقده، فتشوقت نفسه للرجوع، نسوق له كلام ابن القيم رحمه الله، اسمعوا هذا الكلام فهو في غاية الجودة في التعبير عن المقصود، يقول على الرجل الذي انتكس ويريد العودة: وصاحب هذا المشهد يشهد نفسه كرجلٍ كان في كنف أبيه، يغذيه بأطيب الطعام والشراب، ويلبسه أحسن الثياب، ويربيه أحسن التربية، ويعطيه النفقة، وهو القيم بمصالحه كلها، فبعثه أبوه يوماً في حاجةٍ له فخرج عليه في طريقه عدو فأسره وكتفه وشد وثاقه، ثم ذهب به إلى بلاد الأعداء فسامه سوء العذاب، وعامله بضد ما كان يعامله به أبوه، فهو يتذكر تربية والده وإحسانه إليه الفينة بعد الفينة، فتتهيج من قلبه لواعج الحسرات كلما رأى حاله، ويتذكر ما كان عليه وكل ما كان فيه، فبينما هو في أسر عدوه يسومه سوء العذاب، ويريد ذبحه في نهاية المطاف، إذ حانت منه التفاتة نحو ديار أبيه -الآن هذه مرحلة تذكر الشخص المنتكس الماضي ويريد الرجوع- فرأى أباه منه قريباً فسعى إليه وألقى نفسه عليه، وانطرح بين يديه يستغيث: يا أبتاه! يا أبتاه! يا أبتاه! انظر إلى ولدك وما هو فيه، ودموعه تسيل على خديه، قد اعتنقه والتزمه، وعدوه في طلبه حتى وقف على رأسه -الولد الآن عند أبيه والعدو يسعى يطالب به حتى وقف عند رأسه- وهو ملتزمٌ بوالده ممسكٌ به فهل تقول إن والده يسلمه مع هذه إلى عدوه ويخلي بينه وبينه؟! فما الظن بمن هو أرحم بعبده من الوالدة بولدها، ومن الوالد بولده، إذا فر عبدٌ إليه وهرب من عدوه إليه وألقى بنفسه طريحاً ببابه يمرغ خده في ثرى أعتابه باكياً بين يديه، يقول: يا رب يا رب ارحم.
وصلى الله على محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(251/38)
مقومات النصيحة الناجحة [2، 3]
النصيحة: هي إحسان إلى المنصوح بصورة الرحمة له، والنصيحة قد جاءت الأدلة عليها من الكتاب والسنة، لكن هناك فرق بين النصيحة والتشهير، وبين النصيحة والغيبة، فالنصيحة لها شروط لا بد من تواجدها عند النصيحة، حتى تكون مقبولة ويكون لها أثر في نفس المنصوح.(252/1)
تعريف النصيحة
الحمد لله، أحمده سبحانه وتعالى وأثني عليه الثناء الجميل بما هو أهل له، وصلى الله وسلم وبارك على محمد عبد الله ورسوله الداعي إلى صراط الله المستقيم، الذي أرسله الله رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً، فأدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده.
أيها الأخوة: موضوعنا لهذه الليلة موضوع مهم، ويكفي في التدليل على أهميته حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (الدين النصيحة) يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الدين بأنه النصيحة.
وهذا الموضوع -أيها الإخوة- يتكون من ثلاثة أركان: 1 - الكلام على الناصح.
2 - الكلام على المنصوح.
3 - الكلام على النصيحة.
لأن أركان هذا الموضوع ثلاثة: ناصح، ومنصوح، ونصيحة.
وقبل أن نبدأ في الكلام على الأركان الثلاثة لهذا الموضوع فلا بد من مقدمة يكون فيها تعريف النصيحة وأهميتها ومجالاتها.
فأقول وبالله التوفيق وأسأله سبحانه وتعالى أن يقينا الزلل ويجنبنا الباطل والوقوع فيه.
أيها الإخوة: كلمة نصيحة مأخوذة من الفعل العربي نصح، قال ابن منظور في لسان العرب: نصح أي: خلص، والناصح أي: الخالص من العسل وغيره، العسل إذا كان صافياً يسمى ناصحاً أي: خالصاً، ويقال: نصحاً ونصيحة في المصدر، وتقول: نصحت فلاناً ونصحت له، تقول: نصحته ونصحت له، ونصحت له أفصح؛ لأن القرآن ورد بهذا، فقال عز وجل عن نبيه نوح عليه السلام: {وَأَنْصَحُ لَكُمْ} [الأعراف:62].
ويقال: انتصح فلان أي: قبل النصيحة، وقال ابن حجر رحمه الله: النصح هو تخليص الشيء من الشوائب والغش.
فكأنه شبه الناصح بأنه يخلص المنصوح من الغش، ويخلصه من الشوائب التي علقت به وبحاله، كما يخلص العسل من الشمع والشوائب، ومنه قول الله عز وجل: {تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:8] ما هي التوبة النصوح؟ التوبة الخالصة من شوائب الرياء، والذنوب، والإصرار، وعدم الندم إلى آخره، فالتوبة النصوح من هذا الباب.
النصح هو الخياطة، والمنصحة هي الإبرة، والمعنى: أن الإنسان يلم شعث أخيه يلم ما ظهر من أخيه من عيوب بالنصيحة، كما أن الإبرة تلم الثوب المهتري الذي يراد رتقه، فتأتي هذه الإبرة فتلم شعث هذا الثوب، فكذلك الناصح يلم شعث أخيه وما ظهر منه من العيوب.
قال ابن الأثير رحمه الله: النصيحة كلمة يعبر بها عن جملة، وهي: إرادة الخير للمنصوح له، ذكرنا التعريف في اللغة وهذا هو التعريف في الشرع.
وقال ابن الأثير رحمه الله: فلا يمكن أن يعبر عن هذا المعنى بكلمة واحدة غير كلمة النصيحة، أي: بلغ من جماع هذه الكلمة وبلاغتها أنه لا يمكن التعبير عن هذا المعنى بكلمة واحدة إلا كلمة النصيحة.
وقد جاءت هذه اللفظة في القرآن الكريم بصيغ شتى: جاءت بصيغة الفعل، وجاءت بصيغة الاسم والمصدر، فمن ذلك أن الله ذكر هوداً عليه السلام بصيغة الوصف، فقال: {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ} [الأعراف:68] بصيغة الوصف، وذكر نوحاً عليه السلام بصيغة الفعل، فقال عز وجل عن نوح عليه السلام: {وَأَنْصَحُ لَكُمْ} [الأعراف:62] أنصح فعل، والفعل يدل على تكرار الحدوث، أي: عندما تقول: أنصح، يعني: أستمر في النصيحة نصيحة بعد نصيحة، وإذا قارنا بين نوح وهود فمن كان أكثر نصحاً لقومه في التكرار؟ نوح؛ لأن الله قال في القرآن: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} [نوح:8 - 9] بالليل والنهار سراً وعلانية، فكان دائماً يكرر، فلذلك جاء التعبير عن دعوة نوح ونصيحته لقومه من شأن الدال على تكرار الحدوث، بينما جاء عن هود عليه السلام بالمصدر الدال على حدوثه حيناً بعد حين، وفترة بعد فترة، وهذه المسألة هي من الأهمية بمكان، فإن الله عز وجل أبلغنا أنها كانت وظيفة الرسل، فقال عن نوح عليه السلام: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:62] وظيفة نوح والرسل هي النصيحة بدليل هذه الآية.
وكيف استطاع إبليس لعنه الله أن يخدع أبانا آدم وأمنا حواء عن طريق النصيحة، ما هو الدليل؟ {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21] قال: أنا ناصح وأريد النصيحة هذه {شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120] أنا ناصح، فما تبعاه إلا بعد أن قاسمهما {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21] فانظر إلى عمق القضية، وكذلك كيف اقتنع فرعون ومن معه في بيته بأن تأتي أخت موسى لهم بأمه؟ لم يقتنع إلا بعدما دخلت عليه الأخت من باب النصيحة، أن هذه المرأة التي ستأتي بها ناصحة، فقالت أخت موسى لما عجزت النساء عن إرضاع موسى عليه السلام فجلس يتلوى ويبكي قالت لهم: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص:12] فعند ذلك اقتنعوا وأتي بأم موسى فصارت ترضع ابنها وتأخذ الأجر.
لقد جعل الله النصيحة حيلة العجزة، وعذر القاعدين للضرورة، ورافعة للحرج عنهم في حالة قعودهم، الناس الذين لم يستطيعوا الجهاد بسبب المرض أو الشيخوخة جعل الله عز وجل النصيحة عذراً لهم في القعود، إذا قعدوا ما عليهم حرج بشرط أن ينصحوا، قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:91] ما عليهم حرج في حالة {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:91].
وعن أبي رقية تميم بن أوس الداري -وهو صحابي جليل كني بابنته؛ لأنه لم يكن له غيرها- قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) رواه مسلم.
لقد عظم الرسول صلى الله عليه وسلم النصيحة فجعلها هي الدين، لماذا؟ لعظمها، قال صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة) عرَّف الدين بأنه نصيحة؛ لأن النصيحة هي جل الدين، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (الحج عرفة) هل الحج كله عرفة؟ لا.
لكن لعظم عرفة في الحج وهو أعظم ركن في الحج، فقال: (الحج عرفة) كذلك هنا قال: (الدين النصيحة) فإن قلت: يا أخي، ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم لما سأله الصحابة: لمن يا رسول الله النصيحة؟ قال: لله، كيف تكون النصيحة لله؟ قد يقول بعض الناس: هل يحتاج الله إلى نصح؟ كيف ينصح العبد ربه؟ فنقول: إن الله تعالى لا يحتاج إلى نصيحة، ولكن النصيحة لله كما قال العلماء: تكون بالإيمان به إيماناً كاملاً بأسمائه وصفاته من غير التعرض لها بأي نوع من أنواع التحريف أو التعطيل أو التشبيه، وطاعة أوامر الله عز وجل والانتهاء عما نهى عنه، وتعظيم حرماته وهكذا، هذه هي نصيحة العبد لربه.
فإن قلت: وما نصيحة العبد لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأقول لك كما قال أهل العلم في شرح الحديث: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وتعظيم حقوق الرسول صلى الله عليه وسلم، والإحسان إلى أهل بيته وإلى ذريته، والقيام بسنته والذب عنها، وتميز صحيحها من سيقيمها، ونشر السنة بين الناس، هذه نصيحة المؤمن لرسوله صلى الله عليه وسلم.
فإن قلت: ما معنى قوله عليه الصلاة والسلام: ولكتابه؟ كيف تكون النصيحة للقرآن؟ النصيحة للقرآن هي الإيمان بأنه كلام الله تعالى منزل غير مخلوق، والإيمان بمحكمه ومتشابهه، والعمل بالمحكم وتطبيقه في الواقع، وتلاوته حق التلاوة وهكذا، هذه هي النصيحة للقرآن.
أما النصيحة لأئمة المسلمين: فإن كانوا أبراراً يتقون الله عز وجل فإن نصحهم بطاعتهم واتباعهم وتأييدهم، ونصرتهم والجهاد معهم، والقيام بحقوقهم وعدم شق عصا الطاعة عليهم وهكذا.
والنصيحة لعامة المسلمين إرشادهم وتعليمهم وتفقيههم بأمور دينهم.
فانظر رحمك الله كيف جمع هذا الحديث أمور الدين كله، والآن تعلم -يا أخي- كيف كان الدين والنصيحة.(252/2)
أثر النصيحة في المجتمع الإسلامي
أثر النصيحة في المجتمع الإسلامي أثر عظيم جداً، أولاً: تسقط الواجب عن القائم بالنصيحة، فإن النصيحة واجبة، فإذا قام الإنسان بها فقد سقط الواجب عنه.
ثانياً: فيها تحقيق معنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جزء من النصيحة.
ثالثاً: تنظيف المجتمع من المحرمات والمنكرات والسلبيات والموبقات، هذه كلها من نتائج النصيحة.
رابعاً: القيام بحقوق الأخوة الإسلامية لا يتحقق إلا إذا قمنا بواجب النصيحة.
خامساً: النصيحة تعبر عن تكامل المجتمع المسلم، فهي مظهر من مظاهر المجتمع المسلم، الآن عندما نقول: إن المجتمع المسلم مجتمع عظيم، وعندما نقارن بين المجتمع المسلم والمجتمعات الأخرى، تبرز النصيحة معلماً بارزاً من معالم المجتمع الإسلامي، دلونا على أي مجتمع يطبق النصيحة؟ بالعكس تلقى المجتمعات الأخرى غير الإسلامية مجتمعات أنانية، لا أحد ينصح أحداً، ولا أحد يعلم أحداً، وإذا علم أحد مصلحة في أمرٍ كتمها وأخفاها وصار انتهازياً ينتفع هو منها ويخفيها عن الآخرين، ولا أحد يصلح خطأ الآخر ودعوى الحرية الشخصية تسير في تلك المجتمعات، ولا أحد ينكر على أحد أي شيء؛ لأن كل شخص حر في نفسه، ولهذا استشرى الفساد وعم في المجتمعات الأخرى.
أما المجتمع الإسلامي فمن أهم ميزاته وعناصر تكوينه وبروزه وثباته واستمراريته: النصيحة، تصور الآن لو طبقنا النصيحة تطبيقاً صحيحاً، هل يكون هناك منكر في المجتمع؟ لو طبقنا النصيحة تطبيقاً صحيحاً هل يتخلف المسلمون؟ لا يمكن، فما وقع الآن من تقصير وإهمال في النصيحة أدى إلى هذا التخلف الذي عليه المسلمون.
النصيحة لا تنطلق إلا بشعور بالمسئولية، أي: متى فرط المسلمون بالنصيحة؟ لما فقدوا الشعور بالمسئولية، وعندما تشعر بالمسئولية عن أفراد المجتمع، وتشعر بالمسئولية عن حقوق الله التي فرضها عليك، عندئذ تقوم وتنصح، لكن إذا لم يكن عندك شعور بالمسئولية فلن تنصح، ولذلك الناس الذين لا يشتغلون بالدعوة ولا بالنصح، مسئوليتهم وشعورهم بالمسئولية ميتان، لذلك لا يقومون بحقوق النصيحة.
وانظر معي إلى هذا الحديث العظيم الصحيح عن جرير بن عبد الله قال: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم) رواه البخاري، وزاد مسلم في صحيحه: (على السمع والطاعة فيما استطعت، والنصح لكل مسلم) فبايع صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله، وكان من سادات قومه، كان ملكاً متوجاً فيهم -كبيراً فيهم- جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فبايعه على السمع والطاعة، وهذا شيء عظيم جداً، والصلاة والزكاة من أركان الدين، والنصح لكل مسلم، اشترط الرسول صلى الله عليه وسلم في البيعة النصح، لأهميته، وقرنه بالسمع والطاعة، والصلاة والزكاة دلالة على عظم النصح.
ولذلك كان جرير بن عبد الله قد انتصح نصحاً عظيماً من هذه البيعة، فقام بواجب النصيحة على أتم وجه، فكان يكثر النصح كما أشار شراح السير في ترجمة جرير بن عبد الله راوي هذا الحديث، أنه كان يكثر النصح جداً، ويبذل النصيحة لكل أحد، حتى في البيع والشراء، حتى قيل: إن غلامه اشترى له فرساً بثلاثمائة درهم، فذهب جرير بن عبد الله إلى البائع، وقال له: إن فرسك خير من ثلاثمائة فجعل يزيده حتى بلغ به ثمانمائة درهم.
ووقع في صحيح البخاري -أيضاً- وخطب جرير، وهو جزء من الحديث، فقال: (أما بعد: فإني أتيت النبي صلى الله عليه وسلم قلت: أبايعك على الإسلام؟ فشرط عليّ النصح لكل مسلم، فبايعته على هذا، ورب هذا المسجد إني لناصح لكم ثم استغفر الله ونزل).(252/3)
حكم النصيحة
إذا أردنا أن نعرف ما حكم النصيحة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حق المسلم على المسلم ست) وذكر منها: (وإذا استنصحك فانصحه) فانصحه: أمر، ضع صيغة الأمر التي تدل على الوجوب أصلاً، ضعها وزد عليها، كلمة (حق) في بداية الحديث: (حق المسلم على المسلم) والحق كما ذكر ابن حجر رحمه الله لا بد أن يؤدى، فرجح ابن حجر رحمه الله أن النصيحة واجبة؛ أولاً: لأن الأمر يقتضي الوجوب.
ثانياً: لأن الكلمة في البداية كلمة حق، أي: لا بد أن تؤدى، لأنه حق: (حق المسلم على المسلم)، وقال في دليل الفالحين: "حكمها الوجوب على قدر الحاجة إذا أمن على نفسه".
وقال ابن حجر رحمه الله: هل ينصح للكافر؟ فقال: ينصح الكافر بدعوته إلى الإسلام، ويشار عليه بالصواب إذا استشار -مثلاً-: لو جاءك كافر وقال لك: أشتري سيارة كذا أو كذا؟ فيشار عليه بالصواب، لأن هذا من عموم النصيحة، وهذا من باب دعوته إلى الله عز وجل وتأليف قلبه فيما لا يترتب عليه ضرر بالمسلمين، وهذا الشرط واضح.(252/4)
مجالات النصيحة
هنا يقودنا الحديث إلى الكلام عن مجالات النصيحة، الآن فهمنا من الكلام السابق أن النصيحة في الدين تعني: أن يأتي أحد ينصحك ويقول لك: يا فلان! اتق الله، هذا منكر، هذا لا يجوز، أو يا أخي! أدلك على باب من أبواب الخير: لو تطبع الكتاب الفلاني، أو مثلاً: لو تبني مسجداً في هذا المكان، لو تتصدق بكذا وكذا، أنت ميسور الحال وهكذا، هذه نصائح في الدين.(252/5)
النصيحة في الأمور الشرعية وتعديها إلى غيرها
هل النصائح فقط في الأمور الشرعية، أم أنها تتعدى إلى أكثر من هذا؟ الحقيقة أنها تتعدى إلى أكثر من هذا، فمن النصيحة للمسلم بالإضافة إلى ما ذُكِرَ سابقاً، نصيحة المسلم بالأخطار التي تحيط به، إذا أحسست بأن أخاك المسلم في خطر فعليك أن تنصحه فوراً، وتنبهه على هذه الأخطار المحدقة به، وكيف السبيل إلى النجاة منها؟ الدليل: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [القصص:20] أي: من آخر المدينة مع طول المسافة (يسعى) يشتد بالمشي {قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20] فالنصيحة هنا ماذا ترتب عليها؟ وماذا تطلبت من هذا المؤمن الذي كان يخفي إيمانه لما علم بالمؤامرة وبالتخطيط لقتل موسى؟ ماذا استشعر هذا المسلم الذي يخفي إيمانه من واجب النصيحة؟ أن يأتي من أقصى المدينة مع طول المسافة ويشتد ويسعى في المشي حتى يأتي إلى موسى وينبهه إلى الخطر، يقول له: انتبه احذر {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ} [القصص:20] دله أولاً على الخطر، ثم دله على السبيل، فاخرج من هذه المدينة ولا تختبئ؛ لأنهم سوف يبحثون عنك ويمسكوك: {فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص:20 - 21] وخرج إلى مدين إلخ آخر القصة فانظر رحمك الله إلى الفقه العظيم الذي فقهه أولئك المؤمنون الأوائل من هذه القضية.(252/6)
النصيحة في الأمور الدنيوية
كذلك يدخل في مسألة النصيحة نصيحتك لأخيك المسلم في جميع الأمور الدنيوية، كأن يريد أن يشتري سيارة ويستشيرك فتشير عليه بالصواب، أو يريد أن يشتري بيتاً في أي موقع فتشير عليه بالصواب، هل هذا الثمن معقول أو غير معقول؟ تنصحه، أو أنه قال لك: أريد الزواج من فلانة بنت فلان، كيف بيت فلان؟ تنصحه، وهل أدخل في هذه الوظيفة أم لا أدخل؟ أشتري السلعة الفلانية أم لا أشتريها؟ إذاً أيها الإخوة: المسألة واسعة وكبيرة جداً، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح كما في صحيح الجامع: (ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه) يقول لك شخص: والله أنا أشير عليك يا فلان أنك -مثلاً- تستثمر أموالك في المشروع الفلاني، وهو يعلم أن الرشد في غيره، وهو يعلم أن الصحيح أو الأكثر ربحاً والأنفع أن يستثمر في مجال آخر، فقد خانه، والخيانة عظيمة، والخائن يرفع له لواء يوم القيامة يقال هذا غدرة فلان بن فلان.(252/7)
الرد على من يقول: إن النصيحة تدخل في الحريات الشخصية
أيها الإخوة: تبرز شبهة، وهي أن بعض الناس يقول: إن النصيحة تدخل في الحريات الشخصية؟ فيقول لك: لماذا يا فلان تطرق بابي؟ أو لماذا توقفني -مثلاً- في المسجد، أو في الطريق أو في الوظيفة وتقول لي: يا فلان! اتق الله لا تفعل هكذا، هذا لا يجوز، هذه حياتك فيها الأمر الفلاني خطأ، وبيتك فيه الأمر الفلاني خطأ، شخصيتك فيها الخلق الفلاني خطأ، يجب أن تغيره، تصورك في القضية الفلانية ليس صحيحاً، فيأتي هذا يقول: مالك ولي؟ هذه حياتي وأنا حر فيها، وبيتي أنا حر فيه، وشخصيتي أنا حر فيها، وأخلاقي أنا حر فيها، وتصوراتي أنا أتصور ما أراه مناسباً وأنا حر في تصوراتي؟! نقول: إن الحرية الشخصية مكفولة في الإسلام، وإلا لماذا جعل القصاص في الإسلام؟ ولماذا جعل حد السرقة؟ ولماذا جعل حد القذف؟ لو قال شخص لشخص: يا زاني! وذاك بريء، يجلد ثمانين جلدة حد القذف، لماذا يجلد علىالقذف؟ لأن هذا من باب احترام وإرساء قواعد الحرية الشخصية في النظام الإسلامي، الإسلام يريد من المسلم أن يكون إنساناً حراً مكفول الحرية، لا أحد يستطيع أن يعتدي عليه، لكن هل يرضى الإسلام أن ينطلق الناس في حرياتهم الشخصية فيتجاوزون الحدود، ويقعون في المحرمات، ويعصون الله تعالى، وينتهك كل واحد حرمات الآخر، ويتلاعب كل شخص على الآخر، وتهدم البيوت بهذه المنكرات بحجة الحرية الشخصية؟ كلا! ولذلك إذا كان هناك شخص مقيم على منكر، وقال: أنا حر في نفسي، نقول له: هذه ليست حرية، وإنما هي عبودية للأهواء، أي: هذا يتبع هواه، وصار عبداً لهواه ولم يصر حراً.(252/8)
سبب عدم قبول الناس النصيحة
السؤال
لماذا لا يقبل الناس النصيحة؟
الجواب
بعضهم لا يقبلون النصيحة لهوى، وبعضهم يدعي الحرية الشخصية، وهذا كلام غير صحيح، هل هناك مانع يمنع الناس من قبول النصيحة؟ الحقيقة أن هناك أسباباً كثيرة: منها: أن الناصح لم يحسن في عرض النصيحة، فيمس كبرياء الناس ويواجههم مواجهة عنيفة بأسلوبه الحاد، فيسبب عدم قبول النصيحة، فإذاًً النصيحة تعتمد على شخصية الناصح، وعلى الأسلوب والطريقة التي ينتهجها لإيصال النصيحة.
إذاً: لابد من استعراض هذه الأشياء والتركيز عليها، لماذا يرفض كثير من الناس النصيحة؟ أحياناً يُؤلف كتاب وينشر، فيقوم شخص بالرد على أشياء في هذا الكتاب، أو على أشياء في مقالة، حتى هؤلاء السيئين الذين ينشرون المقالات التي فيها خلط السم بالدسم، عندما يرد عليهم وينشر الرد، تجد عناوين الكتب رد على رد، وتقرأ فيها: بالإشارة إلى رد فلان على مقالتي، وبالإشارة على رد فلان على كتابتي أو على كتابي فإني أقول، ويبدأ بالهجوم المعاكس للعملية، فلماذا لا يقبل النصيحة؟ ذكرنا الآن جانب الهوى وهو جانب كبير جداً، وسبق أن تطرقنا إلى هذا الموضوع في درسين سابقين.
أفاد رجل مسن بأنه ترك الصلاة في فترة ماضية من عمره، لماذا ترك الصلاة؟ قال: لأني كنت أتوضأ مرة في مواضئ مع الناس، فدخل رجل علي وأنا أتوضأ، وقال لي أمام الناس: أنت يا جاهل! أنت لا تدري ما دينك، هذا وضوء أم إهمال، قال: ففوجئت بهذا الأسلوب، ليس فقط سأترك الوضوء الصحيح بل لا أصلي أيضاً، والحقيقة أن هذه المسألة تقع كثيراً، مثلاً: ينصح شخص آخر في الصلاة فيقول له هذا المنصوح: هل أنا أصلي من أجلك؟ ما رأيك أن أترك الصلاة، ماذا ستفعل؟ الذين يفعلون هذه الأفعال لا يقدرون الحق قدره، لأن من المفروض أولاً: أن يتخلوا عن أهوائهم ويتبعوا الحق، ثانياً: يجب أن يكون الحق عندهم أغلى من الأسلوب، قد يكون الأسلوب التي عرضت به القضية غير صحيح، لكن هنا نقول: أنت تتبع الحق أم تتأثر بالأسلوب؟ هل عندك الأغلى الأسلوب أم الحق؟ الحق أغلى، فلو كان الأسلوب خاطئاً فعليك أن تتبع الحق.(252/9)
الفرق بين النصيحة والتشهير
نبدأ بالكلام عن الركن الأول من أركان النصيحة، وهو ما يتعلق بالناصح، كثيراً من الناس تختلط عليهم الأمور، فلا يفرقون بين النصيحة أو التأنيب، وبين النصيحة والغيبة، ويعتدون في أساليبهم على الناس اعتداء سيئاً، فنحن الآن سنتكلم عن الفرق بين النصيحة والتأنيب أو التشهير.
ذكر ابن القيم رحمه الله مباحث جليلة في الفروق بين النصيحة والتشهير في كتابه الروح، وهي مهمة ينبغي الرجوع إليها، فمن المباحث الفروقية التي ذكرها في هذا الكتاب، يقول: النصيحة: هي إحسان إلى المنصوح بصورة الرحمة له، أي: أنت تتكلم وأنت تريد أن تتحدث بلهجة الراحم بهذا الشخص، والشفقة عليه، والغيرة له وعليه، فهو إحسان محض، إحسان نقي ليس فيه شوائب، يصدر عن رحمة ورقة، ومراد الناصح بها وجه الله ورضاه.
وأما المؤنب أو المشهر فهو رجل ليس قصده الله والدار الآخرة، وليس قصده الإحسان، وإنما قصده التعيير والإهانة وذم من أنبه وشتمه في صورة النصح.
أي: هذا شتم لكن نصيحة، فهو يقول: يا فاعل كذا وكذا، يا مستحق للذم والإهانة في صورة الناصح المشفق، كيف تمشي هذه؟ كيف تركب؟ وعلامة هذا الرجل المؤنب -انظر ابن القيم رحمه الله يضع فرقاً دقيقاً- يقول: علامة هذا المؤنب أنه لو رأى عاصياً في معصية فإنه يؤنبه في نفس المجلس ولو رأى عاصياً آخر في نفس المعصية، لكنه يحبه ويحسن إليه -أي: بينه وبينه مصالح مشتركة أو أن بينهم ميول ومحبة وإحسان- فإنه لا يعرض له، ولا ينصحه كما نصح الأول، مع أنها نفس المعصية، لا ينصحه ولا يقول له شيئاً، ويطلب له وجوه المعاذير، يقول: يمكن كذا ويمكن كذا، يلتمس له أعذاراً، فإن غلب ولم يلق عذراً قال: وأنا ضمنت له العصمة؟ أي: ليس هناك أحد معصوم؛ والإنسان معرض للخطأ، ومحاسنه أكثر من مساوئه، عنده حسنات كثيرة والحمد لله، والله غفور رحيم ونحو ذلك، فيا عجباً كيف كان هذا لمن يحبه دون من يبغضه! وكيف كان حظ ذلك منك التأنيب في صورة النصح، وحظ هذا منك رجاء العفو والمغفرة وطلب المعاذير.
ومن الفروق بين الناصح والمؤنب: أن الناصح لا يعاديك إذا لم تقبل نصيحته، بعض الناصحين إذا لم يقبل المنصوح نصيحته لا يكلمه ولا يسلم عليه ولا يعرفه، ويشتمه ويسبه ويذكره بالسوء، لماذا لم يسمع كلامي؟ أما الناصح الحقيقي فيقول للمنصوح الذي لم يقبل: وقع أجري على الله قبلت أو لم تقبل، ويدعو له بظهر الغيب، ولا يذكر عيوبه ولا يبينها بين الناس ويشهر به.
أيها الإخوة: إن من الصدق في الأخوة أن يقال للرجل في وجهه ما يكره، فإن كان على وجه النصح فهو حسن، فقد قال بعض السلف لبعض إخوانه: إنك لا تنصحني حتى تقول في وجهي ما أكره؛ لأن هذا إحسان أن تخبر أخاك المسلم بالعيب الذي عنده، هذا إن كان على وجه الإحسان، صحيح أن ذاك شيء يكره لكن تنصحه، وإن كان على وجه التوبيخ بالذم فهو قبيح مذموم، وقيل لبعض السلف: أتحب أن يخبرك أحد بعيوبك؟ فقال: إن كان يريد أن يوبخني فلا.
ومن الأدلة على عدم جواز التوبيخ في النصيحة من غير حاجة، لأن هناك حالات تكون فيها التوبيح لغير حاجة، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه البخاري: (إذا زنت الأمة فتبين زناها -بالحمل وما أشبه ذلك- فليجلدها -أي: سيدها- ولا يثرب) لا يثرب، أي: لا يعيب ولا يوبخ ولا يعيرها بذنبها؛ لأن الحد قد أقيم عليها، والحد إذا أقيم على أحد فهو كفارة له، فلماذا بعد ذلك يقال: فلانة زانية، وقد أقيم عليها الحد وطهرت من هذا الذنب؟ يدخل في ضمن التشهير، النصيحة أمام الآخرين، ولذلك قيل: النصيحة بين الملأ فضيحة، ومنها كذلك: أن بعض الناس الذين يؤنبون أبناءهم في المجالس أمام الضيوف، أو المدرس الذي يؤنب الطالب في الفصل أمام الناس، أو الزوج الذي يؤنب زوجته أمام أقربائه أو المحارم، فيقول: أنتِ طبخك فيه كذا وهكذا ينزل فيها تأنيباً وشتماً وتعييراً أمام الناس، هل هذه نصيحة؟ لا يمكن أن تسمى نصيحة، وإنما هذا تشهير وهو محرم، ولذلك قال الشافعي رحمه الله في أبياته المشهورة:
تعمدني بنصحك في انفرادي وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتني وعصيت قولي فلا تغضب إن لم تعطَ طاعة
انصحني منفرداً لا تنصحني بين الناس، إذا لم أطعك فلا تستغرب، الشافعي رحمه الله يتكلم بلسان عامة الناس وإلا فهو رحمه الله يقبل النصح حتى من الشخص الذي يشهر به، يأخذ النصيحة منه، ولذلك تجنب التشهير في النصيحة أمر مهم، ولهذا كانت النصيحة بالقدوة من أعظم وسائل النصح؛ لأنها خالية من التوبيخ والتشهير، وقد ذكرنا سابقاً هذه القصة اللطيفة، ولو أنه ليس لها إسناد كما ذكر الشيخ الألباني حفظه الله، ولكن لا يؤخذ منها أحكام ولا أشياء شرعية، ولذلك كما ذكر العلماء لا بأس بذكر هذه القصص التي لا يعرف حالها إذا كان فيها فوائد، فتذكر للعبرة والعظة لا لأخذ الأحكام، أما ما عرف كذبه فهذا شيء آخر، القصة هي: أن الحسن والحسين رضي الله عنهما دخلا على رجل يتوضأ، وكان هذا الرجل وضوءه سيء جداً والله لا يقبل الصلاة إلا بوضوء صحيح، فهما الآن في حيرة ينبهون هذا الرجل الذي هو أكبر منهما في السن إلى الطريقة الصحيحة من غير جرح كبريائه أو أحاسيسه أو هو رجل أكبر في السن، فكيف يفعلون؟ فنظر الحسن إلى الحسين نظرة ذات معنى، ثم تقدم من الرجل، فقال له: يا عم! أنا وأخي قد اختلفنا أي واحد وضوءه أحسن، أنا أقول: وضوئي أحسن، وهو يقول: وضوءه أحسن، أنا أقول وضوئي موافق لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقول وضوءه أقرب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من وضوئي، فالآن جئنا إليك تحكم بيننا، فتقدم الحسن فتوضأ وضوءاً كاملاً فأسبغ الوضوء واتبع السنة، فلما انتهى الحسن تقدم الحسين فتوضأ وضوءاً لا يقل حسناً عن وضوء أخيه، ولما رأى الرجل المنظر، قارن بحال نفسه وفهم، قال: والله أنتما على صواب وأنا على خطأ.
انظر إلى هذا الأسلوب الحكيم الدقيق الذي ينم عن ذكاء وفطنة لطريقة النصيحة، وقارن بين هذا وبين حال ذلك الرجل الذي ذكرنا قصته سابقاً والذي ترك الصلاة كلها لأن رجلاً شهر به بين الناس وهو يتوضأ.
المشكلة أن الناس البعداء عن الإسلام بالذات الواحد منهم كالبالونة، منتفخ ومنتفش، لا يريد أن يقترب أحد منه، له كرامته وهذا شيء تضخم مع الأسف، كرامته ومشاعره وأحاسيسه، ولذلك يريد شيئاً بسيطاً، ويثور عليك ويزبد؛ لأن الناس الذي يعيشون في الجاهلية وهم بعيدون عن شرع الله، الواحد منهم لا يعرف شيئاً اسمه أخوة ولا نصيحة، ولا يعرف شيئاً اسمه قبول الحق أو الابتعاد عن الهوى.
أحياناً تكون النصيحة أمام الناس أو بين الجماعة لا بد منها، كأن يكون شخص في ظرف معين، لا يمكن إلا أنك توجه النصيحة أمام المجموعة، ولا يوجد وقت أنسب من هذا الوقت، ولو أنك لم تنصحه فات الوقت، فمثالاً: ما رواه مسلم من حديث سليك الغطفاني: أنه دخل المسجد والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب، فجلس من غير أن يصلي ركعتين، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم -والناس جلوس يستمعون إلى الخطبة-: (أركعت ركعتين؟ قال: لا، قال: قم فاركعهما) لماذا لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: الآن نتركه يجلس وبعد الصلاة سوف أنصحه بانفراد؟ لأنه لو سكت فعل المحظور، ولو جلس من غير أن يصلي ركعتين فات وقتهما وكيف يقضيهما بعد ذلك؟ لا يمكن، لأن الركعتين وقتهما عند دخول المسجد، فلذلك أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقوم ويصلي الركعتين.
كذلك الرجل الذي كان يتخطى رقاب الناس والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب -شخص يؤذي المسلمين ويتخطى رقاب العالم بدون حياء وبدون هيبة وبدون أي شيء- فقال صلى الله عليه وسلم: (اجلس فقد آذيت) قالها أمام الناس، لماذا؟ لأن الجرم فضيع، ولأن هذا الرجل كان يؤذي الناس، ولو سكت عليه وقال: أنصحه بعد الصلاة، ماذا يترتب على هذا؟ أذية للمسلمين.
أحياناً -أيها الإخوة- يكون الذنب عظيماً، ويكون لا بد من تعظيمه في عيون الناس، ولا بد من تسليط الأضواء على هذه القضية التي حدثت، مثال: ابن اللتبية رجل من الصحابة، ويخطئ كالبشر، جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالصدقات والزكوات، فقال: (يا رسول الله! هذا لكم وهذا أهدي إليّ، فغضب الرسول غضباً شديداً وصعد المنبر، وجمع الناس وقال: أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فينظر أيأتيه أم لا) فكل ما جاء نتيجة استخدام عامل في شيء من الفوائد أو العوائد فإنه يرجع إلى صاحب الحق أصلاً: (أفلا قعد في بيت أبيه وأمه) هذا تقريع؛ لأن القضية خطيرة، والمسألة تحتاج إلى نشرها بين الناس حتى يتعظوا بها، فقد يكون هناك سلبية في جرح شعور الشخص، لكن المصلحة أكبر من المفسدة، ومع هذا يجب على الإنسان أن يكون حكيماً حتى عندما ينصح بين الناس في المجلس.
وقصة عبد الله بن المبارك من أجمل القصص في هذا الموضوع، كان عبد الله بن المبارك جالساً وحوله أصحابه، فعطس رجل في المجلس ولم يقل: الحمد لله، فالآن لو أتى شخص وقال له: أنت ما عندك علم وأنت جاهل، لماذا لا تقول: الحمد لله، تعطس مثل البهيمة، قد يقول قائل هذا، الآن لو سكت عنها ذهب الوقت، فماذا يفعل عبد الله بن المبارك حتى يصل إلى مقصوده من إبداء النصيحة من غير جرح لكبرياء ذلك الرجل؟ فقال عبد الله بن المبارك على هيئة السؤال للرجل الذي عطس، ماذا يقول الرجل إذا عطس؟ فقال الرجل: الحمد لله، فقال ابن المبارك: يرحمك الله، فحصلت القضية وانتهت بسلام، وأدينا الغرض، الرجل حمد الله وشمتناه، وصار المقصود بدون أن تحدث مضاعفات و(252/10)
شروط الناصح
أيها الإخوة: لابد لكل ناصح من الشرط الأول والأخير: أن يتجرد في نصيحته لله عز وجل، وألا تكون نصيحته ردة فعل، كأن يقول: أنا والله كرهت هذا الإنسان، أو يقول: أنا بيني وبينه كذا، هل هذا يجعلني أن أجرح فيه على سبيل النصيحة؟ حتى لو ذكرت في وجهه قلت: أنت كذا وأنت كذا، لا نصحاً لله ورسوله، ولا قياماً بحقوق الأخوة وإنما لأني أكرهه وأبغضه، بيني وبينه شيء، فجاءت نصيحتي هنا كردة فعل لما أكنه في قلبي من عداوة وبغضاء لهذا الرجل، هذه ليست نصيحة، فلا بد إذاً من التجرد لله عند النصح، لا أحد معصوم، وكثيراً ما تكون نصائحنا ردة فعل، أي: أنا ليس ببالي أن أكلم فلاناً عن نقطة معينة.
أو عيب معين فيه، حتى إذا حدثت مشكلة بيني وبينه وسوء تفاهم، فذاك الوقت أُظهر نصائحي وأستعرض النصائح عليه، لماذا أظهرتها الآن؟ لماذا أخفيتها الوقت ذاك كله؟ لأنه صار بيني وبينه سوء تفاهم، فالآن أنشر معايبه وأنصحه، وأكون الناصح الأمين، والمخلص الغيور.
فالدليل على صدق هذا من كذبه، أين كانت هذه الأشياء من قبل؟ هل ظهرت الآن أم أنك متكاسل في النصيحة؟ عندما ظهرت العداوة بدأت الآن تنصح.
كذلك يجب أن يكون الهدف من النصيحة هو تعليم المنصوح وتصويبه، وليس أي شيء آخر كتجريحه أو تحطيم نفسيته، ويجب الابتعاد عن أسلوب الأستاذية في النصيحة والتواضع للمنصوح، بعض الناس عندما ينصح ينصح كأنه شيخ كبير، وذاك أصغر تلميذ عنده، فتراه يتعالى ويتعالم ويتعاظم عليه، ويجلس كأنه شيخ وذاك طالب صغير، والآن يوجه إليه من فوق إلى تحت، فمن كانت هذه نفسيته في النصيحة، فإن أسلوبه يكون فظاً جافاً وغليظاً، وليس فيه رقة، لأنه الآن يتعاظم عليه، فينبغي الابتعاد عن أسلوب الأستاذية -إن صحت التسمية والإطلاق- عند تقديم النصيحة، وإنما تقدمها بتقديم أخ ناصح مشفق رحيم، يريد الخير لأخيه، لا يتعاظم ولا يتعالى ولا يتكبر عليه، ولذلك تجد كثيراً من المنصوحين لا يقبلون النصيحة؛ لأنه يشعر بأن الناصح متكبر ومتعالٍ ومتعاظم، فهذا يكون سداً في وجه قبول النصيحة.
كذلك أن يكون الناصح عاملاً بما ينصح، ومن الكلام الحسن في هذا ما ذكره ابن حجر رحمه الله في آخر كتاب الإيمان في صحيح البخاري وهو يشرح كتاب الإيمان، قال ابن حجر رحمه الله: ختم البخاري كتاب الإيمان بباب النصيحة، البخاري لما صنف الصحيح بدأ بالوحي، ثم الإيمان، وآخر شيء في كتاب الإيمان: باب النصيحة وجاء فيها أحاديث.
طريقة التصنيف عند البخاري رحمه الله لها مدلولات، وهذا من عظمة صحيح البخاري.
قال ابن حجر رحمه الله: مشيراً إلى أنه عمل بمقتضاه - البخاري نفسه عمل بمقتضى النصيحة- كيف؟ بالإرشاد إلى العمل بالحديث الصحيح من السقيم، يعني: البخاري ماذا فعل في هذا؟ صحيح البخاري عبارة عن نصيحة يقدمها البخاري للأمة ينصحهم فيها بالمحافظة على الحديث الصحيح وطرح الحديث السقيم، كما أنه جمع الصحيح في جامعه واستبعد الضعيف والموضوع، انظر كيف الفطنة، وانظر إلى الدقة في ترتيب هذا المصنف العظيم، وكذلك عقب باب النصيحة بكتاب العلم، لما دل عليه حديث النصيحة، أن معظمها يقع بالتعلم والتعليم، وهذه مسألة مهمة جداً، يمكن أن يوجد فينا شخص ليس عنده أسلوب، لا يستطيع أن ينصح ماذا يصنع؟ يتعلم كيف ينصح، يسأل ويرى الناصحين كيف ينصحون، وهذا مهم جداً إذا أردت أن تعرف وتريد أن تكون ناصحاً جيداً، فانظر إلى الناصحين الناجحين الذين لاقت نصائحهم قبولاً في أوساط الناس، كيف نصحوا؟ وما هي عوامل النجاح عندهم؟ فالنصيحة تعليم.
ومن شروط الناصح: ألا يحتقر أخاه المسلم عند نصحه، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) يكفي المسلم من الشر احتقار أخيه المسلم، وكثيراً من الناصحين تخرج نصائحهم بقالب الاحتقار للشخص الآخر، فالشخص الآخر عندما يشعر أنه محتقر، ومهان وذليل، يرفض النصيحة وقد يطأطئ ويهز رأسه، يعني: أنه جيد، وبعضهم يقول: جزاك الله خيراً، لماذا؟ نتيجة أسلوب الاحتقار الذي تعرض له.
ولذلك فإنه يجب تجنب تجريح الشخص في النصيحة، هذا كلام مهم، مثل الاستهزاء باسم المنصوح، ما علاقة اسمه بالنصيحة وكونه وقع في اسمه -مثلاً- عيب نتيجة جهل من أبيه أو من جده، ما ذنبه في أن تعيب اسمه أو تعيب شيئاً في شخصيته أو طبائعه، أو سجاياه، أو طريقة كلامه ومشيته، أو شكله، أو ملابسه إلى آخر ذلك؟ هذا خلط، عندما تنتقد هذه الأشياء، أنت تخلط النصيحة بأشياء ليس لها علاقة بالنصيحة، شخص -مثلاً- تريد نصحه في قضية الكذب، فتقول: أنت يا صاحب الأنف الطويل، لماذا تكذب؟ ما علاقه أنفه في عملية الكذب، أو أنت يا أعرج فيك كذا وكذا، هذا يقع كثيراً وهو استهزاء بكلام المنصوح، أو طريقة مشيته، أو شكله، أو سجاياه وطبائعه، فهذه من الأشياء التي تسبب رفض النصيحة.
كذلك يجب تجنب الكلمات الجارحة التي تخدش كبرياءه وتجرح شعوره، أو أن تستهزئ به وتسخر منه، ويدخل في هذا عدم إطلاق عبارات اليأس، مثل أن تقول لإنسان تنصحه: أنت لا خير فيك، ولا فائدة، أنت لا يفيد النصح معك ونحو هذا يقع كثيراً، هذه العبارات تثبط الشخص، وتكون ذات مردود سلبي على المنصوح، فتجعله لا يقبل النصيحة.
كذلك أيها الإخوة: عند النصيحة يتنبه إلى الفرق لماذا وقع في الخطأ؟ أنا أريد أن أنصح شخصاً -مثلاً- يحلق لحيته، أرى قبل أن أنصح، هذا الشخص الذي يحلق لحيته هل هو جاهل بالحكم أم أنه عالم بالحكم ومصر عليه؟ وأنظر إلى هذا الذي يطيل ثوبه هل هو جاهل بالحكم أم أنه عالم بالحكم ويصمم ويصر عليه؟ هذه النقطة أهميتها في درجة الشدة أو اللين في النصيحة، عندما تنصح شخصاً جاهل بالحكم يختلف عندما تنصح شخصاً يعلم بالحكم ويعاند ويصر على خلافه، أما إذا عاملت الناس معاملة واحدة، الجاهل مثل المتعلم، والذي يعرف مثل الذي لا يعرف، يكون عندك اختلال في ميزان النصيحة، فينبغي أولاً أن تقول: يا أخي أنت تعلم حكم المسألة الفلانية؟ هل عندك فكرة عن حكم هذا الشيء؟ فهنا يقول لك: والله ما عندي معرفة، لكن عندي كذا، فهنا يفرق، أما لو كان معانداً فعند ذلك تذكره بآيات فيها مثلاً الشدة والعذاب وعاقبة هؤلاء المعاندين إلى آخره، أما أن تذكر له آيات المعاندين -مثلاً- والأحاديث التي فيها التخويف والتهديد لإنسان ما بدا منه عناد ولا بدا منه شيء وإنما هو رجل جاهل يجهل الحكم فهذا خطأ، فلذلك ينبغي وضع هذه النقطة أمام أذهاننا ونحن ننصح الناس، وهذا من الأهمية بمكان.
كذلك أيها الإخوة: عدم المبالغة بالنصيحة، أحياناً يضخم الخطأ، يريد أن ينصح شخصاً في شيء فيضخم الشيء، فتسمعه يقول: هذه كبيرة من الكبائر، وهذه مسألة خطيرة، وأنت ذهبت في ستين داهية، هذا التضخيم أو التهويل له أثر سيئ سلبي؛ لأن الشخص ذاك، إذا نصحه أي ناصح بعدها حتى لو كانت خطيرة أو عظيمة، وهذا كل شيء قال: خطيرة وعظيمة، فإذاً يقول: هذا والله كل شيء عنده خطير وعظيم، أي: كل الأشياء مثل بعض ولا يبالي، وقد يؤدي إلى عدم الاعتراف بالخطأ؛ لأنه فعلاً لا يرى أن الخطأ عظيم، فأنت عندنا تنصحه وتعظم وتكبر الخطأ هو شيء صغير، فيقول: هذا رجل ما عنده ميزان لتقييم الأمور، فينبغي أن يكون النصح على قدر الخطأ، أما تكبير الخطأ وتهويل فهو إما أن يؤدي إلى رفض النصيحة، أو عدم الاعتراف بالناصح، وعدم أخذ كلامه مأخذ الجد، أو تدفع على التمرد على الناصح وعدم الاستجابة له، أو التقاعس أي: كل شيء خطير فيتقاعس عن التغيير وهكذا.
كذلك ينبغي للناصح أن يتوخى الأوقات المناسبة للنصيحة، فلا ينصح شخصاً وهو غضبان، أو جيعان أو نحو ذلك ينبغي أن يتوخى الأوقات المناسبة.(252/11)
اختيار الوسيلة المناسبة للنصيحة
كذلك أيها الإخوة: نذكر نقاط مهمة، أرجو التركيز عليها: لا بد للناصح -أيها الإخوة- أن يختار القنوات المناسبة لإيصال نصيحته، أحياناً لا يكون من المناسب أنك تكلمه شفهياً، نعم.
تكتب كتابة حتى لو كان جارك، أو أخوك أو أبوك، أحياناً لا يكون مناسباً أن تكلمه شفوياً لأي علة من العلل، أو مثلاً إذا كلمته شفوياً يمكن أن يثور عليك أو يقاطعك ولا يجعلك تكمل الكلام، أو لا يعطيك فرصة أن تنصح، فإذا كتبت رسالة وأعطيته إياها فسيأخذ الورقة ويقرأها، فحينئذٍ تكون الكتابة أفيد من النصيحة الشفوية، وأحياناً يكون إعطاء كتاب أفيد من أنك تكتب أنت، أو تنصح بنفسك، أحياناً قد يكون من المناسب أن تعطيه شريطاً لواعظ أو خطيب أو محاضر أو فقيه أو عالم، فيأخذه فينتصح به -وسيلة غير مباشرة- وأحياناً لا يكون من المناسب مطلقاً أن يشعر هذا الرجل أن لك ضلع في الموضوع، أو أنك داخل فيه حتى بشيء بسيط؛ لأنه قد يوجد حساسية بينك وبينه، فإذا حس أنك وراء الموضوع يشق الأوراق ويرمي الكتب ويهمل كلامك وهكذا، أو أنك تخشى -من سوء الظن- أنك إذا نصحته، يقول: هذا الآن يتصيد عيوبي، هذا لأننا اختلفنا بالأمس، فيكون من المناسب أن تصل النصيحة عبر شخص آخر، تذهب لشخص فاعل خير، تقول: يا أخي! هذا فلان أريد أن أنصحه في كذا، لكن أخشى أن يسيء الظن أخشى من أشياء، ويمكن أن يسمع كلامك أحسن مني، أو عندك قدرة على التعبير وقدرة على المناقشة أكثر، فأرجو أن تنصحه بكذا وكذا، فيكون وصول النصيحة عبر شخص آخر أكثر تأثيراً وأنفع وأجدى.
وبعض الناس مع الأسف الشديد بسبب حساسيات معينة أي شيء يأتيه من شخص المهم أنه فلان بن فلان فلا يهمه الشيء الذي يقوله، وأي شيء يأتيه منه يرميه على جنب، أحياناً تصل العلاقات إلى هذه الدرجة، وإذا لم يعلم بالشخص صاحب النصيحة يكون أولى، وممكن أن تكون النصيحة موقعة باسم فاعل خير، أو ناصح، بعض الناس ليس عنده اتباع للحق أو لا يتبع الحق، عنده من الذي ينصح؟ فلان آخذ منه، وفلان لا آخذ منه، فلذلك يكون ارتباط النصيحة باسم معين عند بعض الناس وسيلة لإسقاطها وعدم أخذها، فيكون تجريده عن الاسم أو أي سمه أو صفة تدل على الناصح مناسب، ففي هذه الحالة تتبع هذه الطريقة.
كذلك لا بد أن يضع الناصح نفسه مكان المنصوح قبل أن ينصح، أحياناً الشخص يأخذ أشياء من بعض كتب علم النفس، أو بعض كتب علم التعامل التي يكتبها الغربيون، فيها حكم وأشياء طيبة، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، قبل أن تنصح ضع نفسك مكان المنصوح ضع نفسك مكان شخص يسمع الغناء متشبع به، عاش عليه فترة من الزمن، دائماً معه ليلاً ونهاراً، في سيارته وفي البيت، ضع نفسك مكان هذا الرجل، ثم تخيل أنك ألقيت الكلام الذي تريد أن تقوله، فهل يكون هذا الكلام مجدياً أم لا؟ كثير من الأحيان يزور الشخص في نفسه كلاماً -أي: يضمر في نفسه كلاماً- يقول: فلان هذا أريد أن أكلمه بالكلام الفلاني كذا وكذا، والدليل كذا وكذا إلخ، فيذهب سريعاً يهاجم فلان كذا وكذا، ولو أنه وضع نفسه مكان المنصوح لغيَّر أشياء كثيرة في النصيحة، فلذلك من القواعد الأساسية في النصيحة: ضع نفسك مكان المنصوح، قبل أن تنصحه.
كذلك أيها الإخوة: أحياناً الناصح يكون له سلطة أو مسئولية على المنصوح، فلا ينبغي هنا أن تحمله سلطته أو مسئوليته على إساءة النصيحة، كالأب الذي عنده ولد، والمدرس الذي عنده طالب، والزوج الذي عنده زوجة؛ والناس الذين عندهم مسئولية وسلطة على من تحتهم، فلا تحملنهم هذه القوة والصلاحية التي عندهم على إساءة النصيحة، الواحد أحياناً تكون عنده قوة ويكون عنده سلطة، فتراه يسيء ولا يفكر بتحسين النصيحة، ولا يفكر بالأسلوب، يقول: هذا فلان هين هذا فلان نقهره هذا اتركه عليّ أنا أكسر رأسه، أنا لماذا هذه الأشياء؟ لأنه يستخدم السلطة أو المسئولية التي لديه في الإساءة، فلا يفكر في شكل النصيحة، كيف ينبغي أن تكون، فلذلك ترى كثيراً من الأبناء يكرهون آباءهم، وكثيراً من الزوجات يكرهن أزواجهن، وكثيراً من الطلاب يكرهون مدرسيهم، لماذا؟ لأن ذاك عنده سلطة يستخدمها ويسيء في النصيحة.
على الناصح ألا ييئس من تكرار نصيحته ينصح مرة واثنتين وثلاثاً وعشراً، ويغير في الأسلوب، مرة يأتي من هذا الطريق، وأخرى يأتي من هذا الطريق، وينوع، نفس النصيحة، والقالب، والأسلوب، والكلمات، والألفاظ، فينبغي أن يكرر ولا ييئس، وإذا يئس فشل، الناصح استمر في النصيحة فهذا طريق النجاح، ومتى يئس فشل، وأحياناً يكون ما بينك وبين النجاح إلا آخر محاولة، فأحياناً يقف الناصح قبل النهاية في شيء بسيط فيضيع الجهد كله، مع أنه لو واصل قليلاً لوجد النتيجة، لكن بسبب اليأس القاتل الذي يغرس أحياناً في نفسه نتيجة الصد والابتعاد من قبل المنصوحين، فإنه في النهاية يتثبط وييئس، ولنا عبرة بنبي الله نوح عليه السلام، هذا النبي العظيم الذي ضرب القدوة العظيمة في الدعوة إلى الله تسعمائة وخمسين سنة {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت:14] ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، وما ترك وسيلة إلا ونصح بها هؤلاء الناس، مع أنه ما استجاب له إلا أربعون أو سبعون.
إذاً النتيجة قليلة ومع ذلك استمر في النصيحة حتى آخر لحظة، وهو مستمر إلى أن قال الله له: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36] هنا قال نوح: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح:26] ودعا عليهم؛ لأن الله أوحى إليه {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود:36]، لم يعد هناك أمل في الاستمرار، لن يؤمن أكثر من الذين آمنوا.
وذكرنا أن الله عز وجل لما قص قصة نوح أتى بالنصيحة بالفعل، فقال عن نوح: {وَأَنْصَحُ لَكُمْ} [الأعراف:62] صيغة الفعل الدالة على تكرار الوقوع والحدوث.
ويقول ابن القيم رحمه الله في أبيات طريفة يرد بها على هؤلاء الصوفية الذين جعلوا ذكر الله طنطنة ومزامير، فقال:
وتكرار ذا النصح منا لهم لنعذر فيهم إلى ربنا
أي: حتى نقيم الحجة، وحتى نعذر أمام الله أننا قد قدمنا ما علينا.
فلما استهانوا بتنبيهنا رجعنا إلى الله في أمرنا
فعشنا على سنة المصطفى وماتوا على تنتنٍ تنتنا
لأن هذا شغل هؤلاء الناس.
كذلك من الآفات التي تعتري الناصح: أن بعض الناصحين من كثرة ممارسة النصيحة وتعوده على النصيحة تصبح عنده مناعة أنه ينصح من قبل الآخرين.
نعم يحصل هذا، فهو الداعية والناصح، وهو الذي يوجه ويعلم، وينبه ويحذر، والذي إلخ، فهذا الرجل باستمراره بهذا العمل -وهو عمل طيب ولا شك- يتكون عنده في نفسه نوع من المناعة ضد النصائح التي توجه له من الآخرين؛ لأنه يرى نفسه أنه الناصح، فكيف يأتي أحد ينصحه؟ أحد الإخوة يحكي لي قصة واقعية حصلت مع أحد أقربائه، أنه رأى شخصاً يغلظ على إنسان في النصح، فقال: يا بن الحلال! أرفق به، فقال: مالك شغل أنا كذا وكذا، فقال له: يا بن الحلال! اذكر الله، قال: أنا أذكر الله، ذاك يقول: أنا الذي أذكر الله؟!! لأنك عندما تقول لشخصٍ: الله يهديك، يقول: أنا الله الذي يهديني؟!! أنت الله يهديك وأنت الذي كذا، أو يقول: تعود أنت غصباً عنك، فهذه العبارة تنطلق منه، يعني: هو ناصح فكيف يأتي أحد ينصحه وينتقده.
إذاً ينبغي أن ينتبه خصوصاً في مسألة من المسائل وهي: أن الناصح أو الداعية يكون غالباً إلمامه أو مجال نصحه في الأشياء الشرعية غالباً، فقد يتفوق على عامة الناس في الأشياء الشرعية، لكنه في الأشياء الحياتية أو الدنيوية قد لا يكون عنده خبرة، مثلاً ليست عنده خبرة بالسيارات، ولا بالطرق ولا بالملابس، ولا بالآلات، فنتيجة لهذه النقطة التي ذكرناها آنفاً، يأتي شخص -مثلاً- ويقول للناصح أو للداعية: هذه سيارتك فيها كذا، المفروض أنك تفعل كذا، قال: اذهب، أنت لا تفهم، أو يقول له: هذا الطريق أقصر، ويقول: لا؛ لأنه يظن أنه مادام أنه ينصح في الأشياء الشرعية فالأشياء الأخرى التي عامة الناس يفهمون فيها أكثر منه لا يسمع لهم فيها، وهذه نقطة سيئة قد تؤدي إلى الغرور، صحيح أنك تفهم في أمور الدعوة وفي طرق كسب الناس، وكيف تصل إلى قلوبهم، لكن قد لا تفهم في العلوم، وقد لا تفهم أشياء في حاجات من متاع الدنيا، فإذا جاء شخص يريد أن ينصحك فتقبل نصيحته وافسح له المجال، ولا يلزم أن يكون كل إمام مسجد خبيراً بالميكرفونات أكثر من الناس الذين وراءه، ولذلك تجد بعض هؤلاء ما دام أنه إمام المسجد فهو الذي سوف يتحكم بالميكرفونات وبالصوت، وهو الذي يعلم بالأجهزة أكثر من الموجودين، وهذا غير صحيح.
ولذلك كثيراً ما يشتكي بعض الناس من هذه النوعية، يقولون: هذا فلان لم يترك شيئاً، يقول: كل شيء هو يفهمه أكثر منا، عنده علم بالحديث على عيني ورأسي، عنده علم بالفقه ما اختلفنا، عنده كذا، لكن لما آتي على قضية ليست في تخصصه فيقول: لا.
أنا رأيي كذا، فهذا من الأشياء السيئة في التربية والدعوة والنصيحة.
فنسأل الله تعالى أن يهدينا رشدنا، وأن يلهمنا الحق، وأن يجعلنا من أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم المقتدين به المتأسين به.(252/12)
شروط النصيحة
النصيحة لها شروط وآداب، ومن شروط النصيحة:(252/13)
من شروط النصيحة: أن تكون مبنية على الدليل
إننا نلاحظ كثيراً من الناس قد ينصح في أمرٍ خطأ، قد يأمر بمنكر أو ينهى عن معروف من باب النصيحة وإنما أتي من جهله؛ لأنه لم يعرف الأمر على وجهه، ولم يعرف دليل ما يأمر به، فالدليل مهم من عدة جهات.
أولاً: أنك تعرف أن نصيحتك في محلها أو لا.
ثانياً: أنه يدعم نصيحتك عند المنصوح، عندما تقدم الكلام بدليل يكون له من الوزن والقيمة ما لا يكون للكلام عندما يكون خالياً من الدليل، وهذا صحيح وأمر مشاهد ومعروف بالتجربة؛ لأن الناس الذين لديهم عقل ووعي لا يقبلون الأمور بغير أدلة، وقد يناقشون ويعترضون، فإذا لم يكن الدليل فيما تقدمه لهم، فإن هذه النصيحة ستكون نصيحة ناقصة، والدليل بعمومه سواءً كان من الكتاب أو من السنة، أو من أقوال الصحابة، أو من الإجماع أو قياس صحيح إلخ.(252/14)
من شروط النصيحة: الإيجاز
أيها الإخوة: إن الناس يملون إذا سمعوا كلاماً مكرراً ومعاداً ومطولاً، فإنهم يحبون في الغالب أن تعطيهم زبدة الكلام كما يقولون، ولذلك تسمع كثيراً من الناس يقولون: فلان الخطيب أو المحاضر أو الناصح تكلم نصف ساعة أو ساعة ولم نعلم ما هي الزبدة، فالإيجاز في النصيحة من الأشياء التي تجعل النصيحة مقبولة ولها أثر في النفوس.(252/15)
من شروط النصيحة: الوضوح
الوضوح في النصيحة أمر مطلوب؛ لأنك إذا عرضت القضية مشوشة متداخلة لا يعرف أولها من آخرها فإن الناس لن يتأثروا؛ لأنهم لم يفهموا ماذا تقصد، ولذلك إعداد النصيحة قبل عرضها من الأمور المهمة، أن تركز فكرك وتجمع الشتات المبعثر من الأفكار والكلام قبل عرضه على الناس ليكون واضحاً، تقدم شيئاً واضحاً.
لقد كانت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم من أهم صفاتها الوضوح -الكلام الذي كان صلى الله عليه وسلم يقوله للناس من أهم صفاته أنه كان كلاماً واضحاً- لذلك لا تجد الناس انصرفوا من مجلس من مجالسه عليه الصلاة والسلام من غير فهم، وإنما كان صلى الله عليه وسلم أحياناً يطرح عليهم موضوعاً وينتظر منهم السؤال عن هذا الموضوع (الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟) وهكذا لكن عندما يفسر الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يجيب عن سؤال، أو ينصح إنساناً تكون النصيحة في غاية الوضوح، تصل إلى شغاف القلوب فتمس تلك الضمائر فيحييها الله عز وجل، فتتأثر بهذا الكلام الذي تسمعه.
كذلك فإن من الأمور المهمة في النصيحة: أن تكون خاليةً من التكلف والتفاصح والتعاظم، وهذا أمر تطرقنا إليه في كلامنا عن الناصح.(252/16)
من شروط النصيحة: أن تكون بعيدة عن سوء الظن
والنصيحة لابد أن تكون بعيدة عن سوء الظن، لأن كثيراً من الناس نصائحهم ليست نصائح، وإنما هي عبارة عن اتهامات مبنية ومؤسسة على سوء الظن، فعندما يحس الشخص الآخر بأنك تتهمه وتسيء الظن به فلن يعتبر هذه نصيحة ولن يستجيب مطلقاً، ولذلك إذا انتقد الإنسان فإنه ينتقد في شيء مؤكد مثبت يبني عليه نصيحته، أما أن يخمن ويظن ويسيء في الظن، ثم يقدم الكلام على أنه نصائح، فإنها أمور تجرح المشاعر وتؤذي الآخرين، ولا يمكن لهذه النصيحة أن تكون ناجحة.(252/17)
من شروط النصيحة: أن تكون خالية من ألفاظ التفسيق والتجهيل
ينبغي أن تكون النصيحة خالية من ألفاظ التفسيق والتجهيل والتشهير إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك، لأن الإنسان مجرد أن يسمع في نصيحتك: يا فاسق! يا كافر! يا ضال! وتتلو هذه الجمل ألفاظ جارحة، فإنه سيصد تلقائياً عن تقبل نصيحتك، وإن كان ما يفعله حقيقةً فسق أو جهل أو ضلال أو كفر، فإنه ليس من الحكمة أن تتهمه بهذا مباشرة.(252/18)
من شروط النصيحة: الحكمة عند طرح النصيحة
لا بد أن يراعي الإنسان الحكمة عند طرح النصيحة؛ لأن النصيحة أحياناً تؤدي إلى تفرق الشمل، أو تؤدي إلى منكر أكبر من المعروف الذي تحمله في طياتها، فلذلك على الإنسان المسلم أن يكون حكيماً ويقدر أبعاد الأمور عندما ينصح، قد يكون من الحكمة أن تؤخر النصيحة إلى مستقبل قريب؛ لأن هذا الوقت ليس وقت طرحها، فمن القواعد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: أن الإنسان لا يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر إذا كان سيؤدي إلى منكر أكبر منه، أو يضيع معروفاً أكبر من المعروف الذي يدعو إليه.
ولقد نهى الله عز وجل الصحابة رضوان الله عليهم عن سب آلهة المشركين، مع أن سب آلهة المشركين من الأمور المشروعة؛ لأنها آلهة زائفة، ومع ذلك فقد نهى الله عز وجل صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم في ظرفٍ من الظروف ووقت من الأوقات عن سب آلهة المشركين، لماذا؟ يقول الله عز وجل: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] لأن سب آلهة المشركين ستؤدي إلى أن يسب الكفار الله عز وجل، وسب الكفار لله عز وجل منكر عظيم جداً، فلذلك إذا علمت أن الشخص الآخر سيسب الدين، أو يسب الرب عز وجل جراء النصيحة التي ستنصحه بها، فإنه في هذه الحالة لا يستحسن أن تنصح، وتؤخر أو تتخذ وسيلة أخرى تتلافى بها هذه السلبية.(252/19)
من شروط النصيحة: مراعاة الأسلوب الحسن
النصيحة من أهم ما فيها هو الأسلوب، وقد ركز القرآن الكريم على الأسلوب في النصيحة تركيزاً كبيراً، فقال الله تعالى لموسى وهارون عندما أرسلهما إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] فما هي صفة القول؟ ما هي صفة النصيحة التي أمر الله موسى وهارون أن يقدمانها لفرعون؟ {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
والعجيب أن الكثير من المسلمين لا يلتزمون بهذه الصفة القرآنية للنصيحة، في الوقت الذي استفاد منها من أعداء الإسلام، فأنت إذا نظرت -مثلاً- إلى طريقة المبشرين بالدين النصراني المحرف وأسلوبهم، تجد أن الأسلوب يعتمد اعتماداً كبيراً على اللين والعاطفة، واستثارة المكامن الحساسة في النفس المخاطبة، فوصلوا إلى نجاحٍ عظيم بسبب حسن أسلوبهم، فصارت النتيجة إدخال كثير من الناس في النصرانية أو إبعادهم عن الإسلام، يتدسسون إلى المسلمين تدسساً رفيقاً بلين ولطف فيصلون إلى ما يريدون الوصول إليه من الأهداف المدمرة لعقائد المسلمين وأخلاقهم.
نحن ورَّاث العلم النبوي والطريقة المحمدية، نحن الأحق والأجدر باتباع اللين في الأسلوب، وإذا نظرت إلى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وجدت نصيحته عليه الصلاة والسلام تتصف اتصافاً كاملاً بهذه الصفة، نحن الآن نتكلم تحت عنوان النصيحة بين اللين والشدة، وحديث معاوية بن الحكم السلمي في صحيح مسلم معروف، عندما جاء في الصلاة وتكلم وشمت الرجل الذي عطس من الصحابة، والصحابة ينظرون إليه شزراً، ويضربون بأكفهم على أفخاذهم يسكتونه، فماذا قال الرجل رضي الله عنه بعدما دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم ونصحه؟ قال: (فوالله ما كهرني -أي: ما نهرني- ولا ضربني ولا شتمني، ثم قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس) وهكذا ولذلك هذاالرجل بقيت مؤثرة في نفسه هذه اللمسة النبوية في النصيحة حتى أخبر بها طائفة من الناس.
ومن هنا نعرف مدى نجاح الناصح بأشياء كثيرة: منها: ما هو موقف المنصوح من النصيحة؟ وما هو الأثر الذي تركته النصيحة في نفس المنصوح؟ فهذا الصحابي رضوان الله عليه أثرت نصيحة الرسول صلى الله عليه وسلم في نفسه أثراً بالغاً، لذلك يقول الرجل: فوالله ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه صلى الله عليه وسلم، لماذا؟ لهذا الأسلوب الفذ الذي اتبعه الرسول صلى الله عليه وسلم.
أيضاً قصة الأعرابي الذي بال في المسجد.
أحياناً يضطر الناصح إلى شيء من الشدة، أو يكون الشخص المنصوح يحتاج إلى شيء من الشدة، وإذا ما شددت عليه في القول قد لا يتأثر؛ لأن بعض النفوس يدخل إليها من باب الشدة والتقريع، ومعرفتها تعتمد على الفقه الذي يتكون عند الناصح -الداعية إلى الله عز وجل- من كثرة مخالطته وخبرته بالناس ومعاشرته لهم.
أحياناً تضطر إلى نوع من الشدة؛ كأن تكون النفسية التي أمامك من النوع الذي يتأثر بالشدة، أو يكون الموضوع أو الخطأ الذي حصل خطأً كبيراً لا يمكن للإنسان أن يسكت عنه أو يؤخره، فمثلاً: شخص أمامي يسب الدين ويستهزئ بالإسلام وبصفات الله عز وجل، ويتنقص من الرسول صلى الله عليه وسلم، فهل أقول له: يا أخي! لو سمحت لو تكرمت؟ لا يمكن؛ لأن الموقف لا يسمح باستخدام اللين، اللين هو الأساس والقاعدة، لكن ليس هو المطرد في جميع الأساليب، وإذا اضطر الإنسان أحياناً إلى استخدام الشدة فإنه من المناسب أن يخلط مع أسلوب الشدة شيئاً من اللين، ويستخدم شيئاً من عبارات التلطيف، والناظر في رسائل الشيخ/ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى كالرسائل الموجودة في تاريخ نجد لـ ابن غنام رحمه الله، يجد فيها استخداماً جيداً لأسلوب اللين مع الشدة، فتجد الشيخ في رسائله أحياناً يشتد على المرسل إليه الخطاب أو النصيحة شدةً بالغة في أمر يتعلق بالشرك، أو الموقف من المشركين والمنافقين، أو الموقف من القبور، أو الموقف من غلاة الصوفية، لكنه لا يلبث أن يتبع تلك الجملة الشديدة بجمل تلطيفية جيدة تخفف من وقع الشدة الوقع السلبي على نفس المنصوح، ولو كان الوقت مناسباً لذكرنا لكم أمثلة، ولعل الوقت يتاح إن شاء الله للكلام على رسائل مؤثرة.
كذلك النصيحة بين اللين والمداهنة، يفهم الناس أحياناً قول الله تعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:44] فهماً معوجاً خاطئاً، كيف؟ يفهمون أن اللين في الأسلوب، أي: اللين في المضمون يفهمون أن اللطف مع الناس، أي: أنك تميع لهم كثيراً من القضايا الإسلامية التي تنصحهم بها، وهذه فكرة خطيرة تؤدي إلى انزلاقات ومنعطفات تجنح بالداعية عن الصراط المستقيم، إذا فهم هذا الداعية أن قول الله عز وجل مثلاً: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:44] أي: أنه يلين في الحق، بمعنى: أنه إذا سئل عن حكم شرعي -مثلاً- فتجده يفهم أن من اللين أن يميع الحكم ويفهم الناس بأن المسألة فيها سعة وفيها مجال وهي محرمة بالنص الواضح القاطع، فتجده من فهمه المعوج للين ينحرف في عرض الأحكام والمبادئ والتصورات الإسلامية القاطعة، ويعرضها بأسلوب مهزوز، ركيك أسلوب فيه من التميع ما يشوه المنظر، أو ما يشوه نظرة هذا الشخص لهذه الأحكام وهذه التصورات.
وهذه -أيها الإخوة- من المسائل التي تجعل النصيحة قبيحة فعلاً، لأنها تؤدي إلى سلبيات ونتائج عكسية كثيرة، فينبغي أن نفهم أن اللين في الأسلوب لا يعني اللين في الحق، كوني أتلطف مع شخص فأعرض له حكماً شرعياً، حكم الغناء -مثلاً- يمكن أن أعرضه بأسلوبٍ لين، لكن لا يمكن مطلقاً وليس من الصحيح أن أقول: والله يا أخي! عموماً الغناء فيه أقوال، واختلف بعض العلماء فيه، وإذا كانت الموسيقى هادئة فإن الأمر فيه سعة وهكذا بعض الناس يفهم اللين.
مثلاً التهاون في الأحكام التي تتعلق بمظهر المسلم، أو الموقف من الكفار، تقول: والله لا بأس إذا كان وإذا كان وإذا كان، وتخرج القضية عن الإطار الإسلامي الصحيح.(252/20)
النصيحة بين التملق والتشهير
أحياناً تخرج النصيحة عن كونها نصيحة إلى كونها تشهير، فتجد عبارات التجريح منهالة على الشخص المنصوح، وقد نسي الناصح الفكرة تماماً ونسي الموضوع، وبدأ الآن يجرح في الشخص المنصوح، فتخرج النصيحة عن كونها نصيحة إلى أن تصبح تشهيراً وتجريحاً، وأحياناً تخرج النصيحة عن كونها نصيحة إلى أن تصبح تملقاً وتزلفاً، فتجد هذا الشخص عندما يكون مع مديره -مثلاً- في العمل أو مع إنسان مسئول عنه، ويحتاج الوقت إلى نصيحة -يحتاج إلى أن ينصح هذا المسئول أو أن ينصح هذا المدير- فتجد النصيحة فيها من التميع والانحراف في مضمونها لذات الشخص أو لأجل هذا الشخص أو لمنصب هذا الشخص ما يجعلها تملقاً وتزلفاً، وتجد العبارات تنطلق بالمدح والثناء وتصحيح وضع هذا الشخص وتطمينه أنه بخير، مع أنه منغمس إلى آذانه في أوحال المعاصي والأخطاء.
فينبغي -أيها الإخوة- أن نعدل: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام:152] وأن نحق الحق وألا نميل يميناً أو يساراً ونحن نعرف دين الله عز وجل وننصح الناس.
النصيحة عبادة ومسئولية، فإذا انقلبت إلى تجريح أو تشهير أو تملق أو تزلف فقد خرجنا بدين الله تعالى عن الطريق الصحيح إلى أغراض أخرى شخصية ومطامع دنيوية، لا تلبث أن تميت قلب الناصح.(252/21)
النصيحة بين التدرج وعدمه
أحياناً يكون من الحكمة في النصيحة أن تتدرج أثناء عرضها، شخص -مثلاً- يرتكب مجموعة من المنكرات وأنت ترى أن تنصحه في أكبر هذه المنكرات، تبدأ بالمنكر الأكبر مثلاً، لا يعني هذا تدرجك في عرض النصيحة عليك أن تنصحه في هذه المسألة أولاً، وبعد فترة من الزمن تفتح معه موضوعاً آخر، وبعد فترة ثالثة تفتح موضوعاً ثالثاً وهكذا هذا لا ينافي صراحة الإسلام، ولا ينافي عرض الحق على الناس، لأنك لا تلغي هذا المنكر من حسبانك أو تهمله تماماً، وإنما تؤجله إلى وقته المناسب وفي نيتك أنك ستطرحه في يومٍ من الأيام عندما ترى الوقت مناسباً بدون دخول الهوى في الموضوع؛ لأنه إذا دخل الهوى فإن الوقت المناسب لن يأتي أبداً، وأحياناً يتطلب أن تنصح الشخص بجميع ما فيه، مثلاً: أنا وجدت شخصاً في طريق وهو مسافر، ولن أجد هذا الشخص مرة أخرى، أو يغلب على ظني أني لن ألقاه مرة أخرى، ولن يكون عندي الوقت أصلاً حتى أتدرج معه؛ لأني لم أمكث معه فترة طويلة من الزمن، فوجدت عليه منكراً من المنكرات في مظهره، فلا بأس أن أكلمه مباشرة، لأن هذا هو الوقت الوحيد، واتبع قاعدة: قل كلمتك وامشِ، تقول له: يا أخي! هذا الذي تفعله -مثلاً- في مظهرك يخالف الإسلام، فأحياناً يكون التدرج حكمة، وأحياناً يكون تمييعاً للفكرة الإسلامية، وأحياناً يكون عرض النصيحة بشكل يمس جميع الأشياء الواقعة في هذا الشخص من المنكرات تهوراً ومنفراً، وأحياناً يكون حلاً بل هو الحل الوحيد.
فإذاً: على الداعية إلى الله الناصح أن يميز في المواقف والأوقات والأحوال، بين ما هو مناسب في التدرج وعدمه.(252/22)
النصيحة بين التلميح والتصريح
إن من الحكمة أن تكون النصيحة بأسلوب التلميح وليس بأسلوب التصريح، فأسلوب التلميح من الأساليب الناجحة إذا أحسن استخدامه، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يستخدم هذا الأسلوب، وكان يقول مثلاً: (ما بال أقوامٍ يفعلون كذا وكذا) لم يكن يصرح بأسمائهم، والشخص يعرف بينه وبين نفسه وهو يقارن الكلام المعروض أنه من هذا النوع أم لا، أم أنه مقصود بالكلام أم لا، "ما بال أقوام" من الأساليب المهمة في النصيحة التي فيها تلافٍ كبير لقضية التشهير والتجريح، أو التأثر السلبي من أصحاب النفوس المفرطة في الحساسية.
وقد يكون التلميح استعماله خاطئ عندما لا يفهم الشخص الآخر ماذا تقصد، فبعض الناس يلمح ويستخدم شطارته في التلميح، ولكن هذا التلميح يؤدي إلى عدم وضوح الفكرة أبداً عند الشخص المنصوح، لا يفهم ماذا تقصد من كثرة التلميحات صارت النصيحة عبارة عن ألغاز ومعميات لا يمكن فكها ولا حلها ولا فهم المقصود منها، فإذاً لكل ميدان رجال، ولكل مقام مقال، فلا بد من استخدام التلميح لأنه أسلوب جيد في بعض الأحيان، لكن إذا كان الشخص لم يفهم من التلميح، فهنا ينبغي المصير إلى التصريح الذي يوضح القضية؛ لأنه ما فهم ولا تلقى الفكرة ولا وصلت مداركه إلى فهم المغزى، فلذلك يكون استخدام التصريح في هذه الحالة بأسلوبه الشرعي وحدوده وآدابه الإسلامية من الأمور المفيدة.
والإكثار من التلميح قد يكون ذو سلبية في بعض الأحيان، فمثلاً تجد في بعض المجالس ناصح يقول: بعض الناس يفعلون كذا، وبعض الناس كذا، وبعض الناس كذا، هذه طريقة ليست ناجحة دائماً، بل إنها قد تسبب كراهية للناصح؛ لأنها عبارة عن لمز من طريق خفي، إذا تكررت تصبح إيذاءً، والمنصوح يشعر بأنك تغمزه بنوع من الإيذاء، ففي هذه الحالة لا يكون من الحكمة في النصيحة استخدام نقطة بعض الناس وبعض الناس، كما يفعل البعض.(252/23)
النصيحة بين التعميم والتخصيص
النصيحة بين التعميم والتخصيص، هذه من النقاط المهمة وقد ذكرنا لها مثالاً قبل قليل وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما بال أقوام) بأسلوب التعميم، وأحياناً كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخصص في النصيحة ويذكر اسم الشخص أو صفاته ويبين ويوضح بحسب ما تقتضيه المصلحة.(252/24)
أمور تساعد على تقبل النصيحة
من الأمور المساعدة على تقبل النصيحة ما يلي:(252/25)
ذكر إيجابيات الشخص المنصوح
أولاً: ذكر الإيجابيات والثناء على الحسنات للشخص المنصوح، كل شخص مهما كان شريراً فإن فيه جوانب خير وفيه إيجابيات، فإذا أردت يا أخي الناصح أن تكون نصيحتك ذات وقع حسن، فعليك أن تذكر في ثنايا الكلام وطيات الحديث شيئاً من إيجابيات الشخص الذي يقف أمامك يستمع النصيحة، وشيئاً من مزاياه الطيبة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يستخدم هذا الأسلوب مع الكفرة، حيث كان يستميل قلوبهم بتلك الألفاظ الحسنة التي فيها ذكر لبعض سجاياهم، حتى مع المسلمين كان صلى الله عليه وسلم يستخدم هذا الأسلوب، كان يقول: (إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة) لأن هذا الرجل فعلاً فيه هاتان الخصلتان، والرسول صلى الله عليه وسلم قال لـ أشج عبد القيس وكان من عظماء قومه يتألف قلبه ويستميله ويثني على ما فيه من الخصال الحميدة لأهداف متعددة، حتى يستأنس هذا الشخص ويميل قلبه ويقتدي الآخرون بهذه الصفات الحميدة التي عند هذا الرجل.
إذاً: استخدام عبارات الاستمالة في النصيحة من الأمور المشجعة على قبولها، فمثلاً عندما تقول: يا أخي! مثلك لا يخفى عليه أن هذا الأمر كذا وكذا، أو تقول مثلاً: أنت يا أخي! في مقام أعلى من أن ترتكب هذا الأمر، أو أنت -مثلاً- أوعى من أن يصدر منك هذا الفعل السيئ، أو تقول له معنى قول الشاعر:
ولم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام
تقول: يا أخي! أنت الحمد لله عندك ميزات وعندك قدرات وإمكانيات، وعندك كمال في جوانب كثيرة، وعندك استعداد لتكمل النقص في نفسك في الجوانب الفلانية، فهلا أكملت النقص في هذه الأشياء، والحمد لله أن الله أعطاك قدرات ومواهب وأعطاك إمكانية واستطاعة لتتلافى هذه الأشياء، وتؤسس في نفسك الخصال الحميدة الفلانية، وتمنع هذه الأخلاق الرديئة من البروز والظهور بصبرك على نفسك، وبقوة نفسك وشخصيتك تستطيع أن تفعل كذا وكذا، هذه من العبارات التي تستمال بها قلوب الناس.
وأحياناً يقول الإنسان: هذه أساليب مكشوفة، أو يقول: هذه كلمات رخيصة وأساليب ممزوجة ومكشوفة وليس هناك داعٍ لاستخدامها.
الحقيقة أن هذا ليس بصحيح على إطلاقه، لأنك أحياناً قد تستخدم هذا الأسلوب مع بعض الناس، مثلاً -يا أخي- أنت لا يتناسب مع مكانتك أن تفعل كذا، لكن لو استخدم معه هذا الأسلوب فإنه يتأثر به تأثراً إيجابياً مع أنه هو يستخدمه، هذا يلاحظه الشخص أحياناً على نفسه، فلذلك لا يقول الناصح: والله هذه أساليب مكشوفة، وهذه القضايا مستهلكة، لا.
هذه أشياء مهمة، حتى مع أن المنصوح يعرفها لكنها ذات أثر عليه.(252/26)
ذكر نقاط الاتفاق
من الأمور المساعدة على تقبل النصيحة: إذا أردت أن تنصح فتكلم أولاً على نقاط الاتفاق حتى يصل المنصوح معك إلى نوع من الاستئناس يجعله مهيئاً لتقبل النصيحة، مثلاً: أريد أن أكلم شخصاً عن منكر يقع فيه، لو أننا عندما نكلمه نذكر له المنكر مباشرة، أو الشيء الذي نخالفه فيه، نخالفه في فكرة، نخالفه في تصور، شخص يحمل فكرة منكرة أو تصوراً خاطئاً، مثلاً شخص متعصب لرجل من الرجال لو جئته مباشرة وقلت له: التعصب مذموم، وأنت متعصب وتأخذ بأقوال فلان من غير دليل وترمي بأقوال الناس الآخرين ما عندك تمييز، فإذاً: عرض نقطة الاختلاف مباشرة من الأمور التي تصد عن قبول النصيحة، لكن لو عرضت نقاط الاتفاق في البداية يحس الشخص الآخر بأنه قريب منك جداً، فعندما تعرض نقطة الاختلاف فيما بعد يكون وقع العرض عليه وقعاً إيجابياً أو على الأقل فيه مجال للتقبل بخلاف ما لو عرضت نقطة الاختلاف في البداية، وهذا نستفيد منه حتى في المناقشات الفقهية التي فيها اختلاف في الأحكام، هذه من الأمور المهمة، عندما أقول للشخص: يا أخي! إن الله يقول: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال:1] لا يمكن أن يختلف معي في هذه المسألة يا أخي! الله يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65]، ويقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] يا أخي! هل أنت تتفق معي في أنه إذا صح الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم يجب المصير إليه وأن هذا الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم حجة؟(252/27)
معرفة الناس في مراتبهم وطبقاتهم
من الأمور المساعدة على تقبل النصيحة: معرفة الناس في مراتبهم وطبقاتهم، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة أن ينزلوا الناس منازلهم، فنصح الصغير ليس كنصح الكبير، الصغير أحياناً لو شددت عليه في الكلام يسمع ويطيع، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (واضربوهم عليها لعشر) لكن لا يمكن أن تضرب شخصاً عمره إحدى وعشرون سنة أو ثلاثون سنة على الصلاة، هل تعتقد أن هذا أسلوباً ناجحاً؟ لكن يمكن أن يؤثر الضرب في شخص عمره عشر سنوات إحدى عشر سنة اثنا عشر سنة، يمكن أن يؤثر الضرب فيه ويحمله على الصلاة.
فإذاً نصح الكبار ليس مثل نصح الصغار، ونصح أرباب المنزلة أو الجاه أو المال ليس مثل نصح من ليس عنده هذه الأشياء، فإنزال الناس منازلهم ومعرفة طبقاتهم ومراتبهم من الأمور المساعدة على تقبل النصيحة.
نصح المثقف ليس مثل نصح العامي، ونصح الجاهل ليس مثل نصح المتعلم وهكذا.(252/28)
نقد الفكرة دون التعرض لقائلها
أيضاً من الأمور المساعدة على تقبل النصيحة: نقد الفكرة نفسها دون التعرض لقائلها نقد الفكرة تصويباً أو تخطئة من الأمور المؤثرة بينما لو تعرضت للقائل فإن النفوس ستتجه من محبي هذا القائل إلى الدفاع عنه، فتخرج القضية عن كونها نصيحة في تعديل فكرة من الأفكار إلى كونها تجريح وتعديل فلان من الناس.
فإذاً: الناصح عندما ينصح يحاول أن ينقد الفكرة لا أن ينقد الشخص الذي يقول الفكرة بالدرجة الأولى؛ لأن الناس إذا نقدت الأشخاص أمامهم وفيهم حب لهؤلاء الأشخاص فإنهم يرفضون نصيحتك، لكنك لو عرضت الفكرة من دون أن تقول: قال فلان؛ لأن نسبة الكلام إلى القائل من الأمور التي تحمل الشخص على رفض الفكرة أو النصيحة التي توجهها إليه.
وسبق أن تكلمنا عن هذا الفرق بين النصيحة والغيبة، ولكن أحياناً يضطر الناصح إلى أن يتكلم على الناس، أو إذا كانت الفكرة لا يمكن تعريفها إلا بذكر الشخص، مثلاً: السلف كانوا يذكرون الجهمية ونقد فكرة الجهمية، هذه الفكرة لا يمكن أن تعرف إلا بهذا الاسم، والجهمية نسبة إلى الجهم بن صفوان الذي اخترع الفكرة وهكذا.
فأحياناً يكون ذكر الاسم لتحذير الناس من رجل مبتدع أو منحرف انحرافاً خطيراً، أو يخشى عليه من حب الرئاسة مثلاً، أو أن يتأثروا به تأثراً سلبياً يكون من الأمور المطلوبة.
كذلك لا بد أن نعلم أن لكل نفس باباً وإليها طريق، فهذا يدخل إليه من باب الثناء مثلاً، وهذا يدخل إليه من باب العاطفة، وهذا يدخل إليه من باب التسلسل الفكري، وهذا يدخل إليه من باب التهديد والتخويف، وهذا يزعجه التطويل ويحب الاختصار، وهذا يؤثر فيه الشرح والبيان وهكذا فالناس أنواع.
وانتقاء الأسلوب المناسب لكل شخص منهم مطلوب، وأحياناً تكون هناك عبارتان تؤديان نفس المعنى، فعبارة تجد لها مكانة في النفس، والأخرى تكون مرفوضة.
هذه قصة تروى عن أمير في الماضي رأى رؤيا، فأتى بأحد رعيته أو حاشيته لكي يعبرها له، فقال له: إن تعبير رؤياك أن أهلك سيموتون كلهم، فضربه وحبسه وطرده، ثم عرض الرؤيا على شخص آخر، فقال له: إن معنى هذه الرؤيا: أن الله سيطيل في عمرك حتى تكون آخر أهلك موتاً انظر الفرق! المعنى: أنهم سيموتون قبله، لكن ذاك قال: معناه أن أهلك كلهم يموتون، وهذا قال: إنها ستطول بك الحياة حتى تكون آخر أهلك وفاةً، نفس المعنى، ونفس المؤدى، لكن طريقة التعبير اختلفت، فأكرمه وكافأه وأثنى عليه.
قد تكون الكلمة أحياناً لها عكس معناها، ونفس الكلمة لها معنى ولها معنى معاكس، ونعرف هذا باختلاف الأحوال والقرائن التي تقترن بها أثناء عرضها، مثلاً: إذا خرجت مع زميل لك من العمل آخر الدوام وأنت مرهق جداً، فوصلته بسيارتك إلى باب بيته، فإذا نزل من الباب ماذا يقول؟ تفضل معنا، معناها: مع السلامة، صحيح هذا معناها، وأحياناً يكون معناها: تفضل، إكرام صحيح يقصد بها هذه الكلمة، وأحياناً يكون معنى تفضل أي: مع السلامة؟ حسب الواقع.
كذلك أحياناً يكون شخص يتكلم فيأتي آخر يريد أن يدخل في العرض بالكلام، فيقول له مثلاً: لا أريد أن أقطع كلامك، ويأتي بالكلام الذي وراءه، كيف وهو قد قطع كلامه؟ انظر العبارات! وأحياناُ يطيل الزائر الزيارة، فجاء صاحب البيت وتململ، فذاك يريد أن يستأذن من أجل أن يمشي، فيقوم صاحب البيت يجامل ويقول: اجلس عندنا، وهو يريد أن يمشي، اجلس عندنا معناها: امش بسرعة.
إذاً ينبغي انتقاء الكلمات حتى يكون الأسلوب ناجحاً، هذه النصيحة مثل العرض تعرض بضاعة أو سلعة، لكن هناك فرق بين من يعرض السلع الدنيوية ومن يعرض السلع الأخروية، إذا كان هؤلاء أصحاب علم التسويق يزينون السلعة ويحرصون حرصاً شديداً على أن تظهر السلعة بأجمل منظر للمستهلك، فلماذا نحن الدعاة إلى الله المسئولون عن الإسلام المكلفون من الله سبحانه وتعالى بنشر الدين لا نستخدم أساليب الجذب الشرعية لتسويق الفكرة الإسلامية بين الناس إن صح التعبير؟(252/29)
اقتران النصيحة بالموعظة
كذلك من عوامل نجاح النصيحة: اقترانها بالموعظة التي فيها تذكير بالله، وتذكير بالجنة والنار لها نماذج كثيرة في عهد السلف رضوان الله عليهم، ومن بعدهم من الصلحاء الناصحين والعلماء.
خطاب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز، وخطاب سفيان الثوري إلى هارون الرشيد من النصائح المؤثرة جداً، وتجد فيها مواعظ كثيرة وتذكير بالله عز وجل، ولذلك ترى أثر خطاب سفيان الثوري على هارون الرشيد وخطاب الحسن البصري على عمر بن عبد العزيز كان قوياً جداً لاقتران هذه النصائح بالموعظة، وأنا أسوق لكم الآن نموذجاً واحداً من النصائح التي حصلت في بلاد الأندلس.
لما بنى عبد الرحمن الناصر مدينته الخالدة الزهراء في الأندلس تفنن في بنائها وجعلها من أعاجيب المدن في العالم، وكان مما بناه فيها الصرح الممرد، اتخذ قبته قراميد من ذهب وفضة حتى أنفق عليها من خزينة الدولة مالاًَ عظيماً، وكان في قرطبة عالمها الفقيه الجريء المنذر بن سعيد، فهاله انهماك الخليفة الناصر في بناء الزهراء وما أنفقه من أموال الدولة عليها، وكان الناصر يحضر صلاة الجمعة في الجامع، ويستمع إلى خطبة قاضيه منذر بن سعيد، فوقف الخطيب يخطب الجمعة، وكان مما بدأه في تقريع الناصر على إنفاقه الأموال وانهماكه في بناء الزهراء أن تلا قول الله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:128 - 135] ثم وصل ذلك بقول الله تعالى: {مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء:77] ثم أخذ يذم تشييد البنيان والإسراف في الإنفاق حتى خشع القوم وبكوا وضجوا، ثم التفت إلى الناصر وقال له أمام الناس يومئذ: ما ظننت أن الشيطان أخزاه الله يبلغ بك هذا المبلغ، ما ظننت أن الشيطان يضحك عليك ويوصلك إلى هذه الدرجة، ولا أن تمكنه من قيادتك هذا التمكين، سلمت قيادتك للشيطان مع ما آتاك الله وفضلك به على العالمين، حتى أنزلك الله منازل الكافرين، فاقشعر الناصر من قوله، وقال: انظر ماذا تقول، كيف أنزلتني منازلهم؟ فكر كيف تتحدث، كيف تضعني منازل الكافرين؟ قال: نعم أليس الله تبارك وتعالى يقول: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} [الزخرف:33 - 34] هذه لمن؟ فوجم الخليفة ونكس رأسه ملياً ودموعه تجري على لحيته خشوعاً لله تبارك وتعالى وندماً على ما فعل، ثم أقبل بعد انتهاء الخطبة والصلاة على قاضيه المنذر بن سعيد، فقال له: جزاك الله خيراً يا قاضي عنا وعن المسلمين، وكثَّر في الناس أمثالك، فالذي قلت والله لهو الحق، وقام من مجلسه ذلك وهو يستغفر الله، وأمر بأن ينقض سقف القبة وأن تكون قراميدها تراباً.
فإذاً اقتران النصيحة بالموعظة، كالتذكير بالله عز وجل، وذكر الجنة والنار وعذاب القبر، وذكر الأشياء الإيمانية المؤثرة، والتذكير بعظمة الله وصفاته من الأمور التي تجعل النصيحة ذات وقع على الناس، وتوجيهها إلى الكبار ونصحهم وهزهم بهذه الآيات له أثر كبير أيضاً.(252/30)
هل يشترط في النصيحة أن تكون شفوية؟
قد يظن الناس أن النصيحة هي النصيحة الشفوية فقط، ولكن كثيراً ما تكون النصيحة المكتوبة أجدى وأنفع من النصيحة الشفوية مثلما وقع في خطاب الحسن البصري وسفيان الثوري رحمهما الله تعالى.
أحياناً تكون النصيحة عبارة عن شريط يحمل في طياته تبيين مسائل وتصورات ومفاهيم، وتبيين أخطاء ومنكرات، فيكون هذا الشريط من وسائل النصائح المؤثرة، ويؤثر هذا كثيراً في حالات، منها: أن يكون بينك وبين المنصوح سوء تفاهم أو علاقات غير حسنة، فكونك تأتي وتكلمه شفوياً هذا قد يسبب نوعاً من الأخذ والعطاء والجدل والمراء في الموضوع، فعندما تكتب له كتابة أو تعطيه شريطاً يتضمن ما تريد أن تكلمه عنه فإنه يزيل هذه السلبية، أو إذا كان الشخص من طبيعته المراء والجدال، ولا يمكن أن تكلمه بكلمتين -مثلاً- إلا ويدخل بينهما كلمة من عنده، ففي هذه الحالة يكون نصحه عن طريق الكتابة إليه وهي من الأمور المناسبة، لأنه ليس من المعقول أن شخصاً يأتيه خطاب أو كتاب فيه نصيحة فيقرأ سطرين ويغلق ثم يرد عليهما، لا يمكن أن يفعل هذا، بل تجده يسترسل في القراءة إلى الأخير، فتأتيه الفكرة كاملة واضحة مستتمة، بخلاف ما إذا ناقشته بنفسك وتحول الموضوع إلى جدل وأخذ وعطاء.
كذلك يكون استخدام هذا الأسلوب مناسباً إذا كنت لا تريد أن يعرف المنصوح من الذي نصحه، فأحياناً يكون ذكر الاسم فيه حساسية معينة قد لا يقبل الشخص، وإذا لم يعرف اسمك يقبل، فلذلك يكون عدم ذكرك للاسم بطريق الكتابة من الأساليب الطيبة، وهذه الأشياء يكون لها تأثير بإذن الله إذا أخلص الإنسان النية ولو بعد حين، فقد حدث مرة من المرات أن أحد الناس الذين هداهم الله عز وجل كانت له أخت لا تتحجب، فكان مسافراً على عجل فأهدى لها شريطاً عن الحجاب، وكان سفره طويل وبعيد، فرجع بعد فترة طويلة ووجد أن أخته قد تحجبت، فسألها قال: سبق أن تكلمنا في هذا الموضوع تكراراً، لكن ما هو السبب؟ فقالت: أتذكر ذلك الشريط الذي أهديتني إياه مرة من المرات كان هو السبب المؤثر في نفسي فتحجبت، وأحياناً كما تقول الحكمة: وما السيل إلا اجتماع النقط.
ومن الأمور التي ينبغي الانتباه لها أنه لا يشترط أن تكون النصيحة مؤثرة، بمعنى أن بعض الإخوة عندما قرأ العنوان قال: النصيحة المؤثرة، بمعنى: كيف نبكي الناس ونجعلهم يتأثرون إلى درجة البكاء، لا.
لا يشترط في النصيحة أنك إذا نصحت إنساناً لا بد أن يبكي لا يشترط في النصيحة المؤثرة الناجحة أن يبكي المنصوح، لا.
ولكن أن تتبين نجاح النصيحة من عدمها بالأثر الذي لاقته في نفس المنصوح، فبعض الناس يظن أن المنصوح إذا لم يبك ولم تذرف عيناه بالدموع أنه لم يتأثر، لا.
قد يكون هناك رجل يملك نفسه ويملك عاطفته ولا يستجيش بسهولة وتنطلق منه العبرات ويتأثر، فإذاً: التأثر الشكلي -البكاء- ليس من علامات النجاح، بل إن بعض الناس قد يبكي عند سماع نصيحة أو موعظة، ولكن إذا فارق المجلس انتهى كل شيء، فالعبرة بالمادة والأسلوب الذي يلقى على نفس ذلك الشخص فيتأثر بإذن الله.
كذلك: ينبغي معرفة التوقيت الصحيح للنصيحة وخصوصاً إذا كانت النصيحة تهدف إلى علاج الأخطاء.
فينبغي كما يقول بعض الكتاب الإسلاميين ألا تكون النصيحة بعد الخطأ بفترة طويلة، فينسى الشخص المخطئ خطأه ويصبح التعليق بارداً جداً، بل إنه لا بد من الضرب على الحديد وهو ساخن؛ لأن الحديد إذا كان ساخناً فإنه يسهل تشكله، فتأخير النصيحة على الأخطاء إلى أمد بعيد له عدة سلبيات، منها: إشعار المذنب بأن ما فعله كان صحيحاً، وإلا لماذا لم يعترض علي؟ إذا تأخرت النصيحة على الخطأ فترة طويلة فإن الشخص يطمئن إلى واقعه ويرضى بالواقع، ويقول: لو كان خطأ لاعترضوا علي.
ثانياً: إذا جاءت النصيحة متأخرة يكون في نفس المنصوح شيء من الشيطان، ما الذي دفع الناصح أن ينصح الآن بعد هذه الفترة هذا بلا شك دافع شخصي، لماذا تأخر وجاء الآن يبلغني النصيحة عن الموضوع؟ هناك حاجة شخصية، لو كان يريد أن ينبه لنبه من قبل، لكن الآن بعد أن صارت مشكلة بيني وبينه ظل يتصيد الأخطاء ويفكر في الماضي، فأخرج لي مجموعة من النصائح.
ثالثاً: برود الحدث وعدم وجود القابل النفسي للاستجابة، هذه بعض السلبيات التي تترتب على تأخير النصيحة عن الأخطاء، ولكن قد يكون من المصلحة أحياناً التأخير خاصةً إذا كانت نفس المنصوح أو المخطئ مضطربة جداً بحيث أنه لا يقبل أي كلام، فتأخير النصيحة حتى تهدأ نفسه وتستقر الأمور وتتضح المواقف من الأشياء المهمة.(252/31)
آداب المنصوح وواجباته
ننتقل أخيراً إلى المنصوح: (المؤمن مرآة أخيه) كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم، وصديقك من صدَقك لا من صدّقك، من أعطاك الصدق في نفسه لا من صدّقك؛ الذي كلما أتيت له بكلامٍ قال: صادق، صادق، صادق، فصديقك من صدَقك لا من صدّقك.
الحرص من المنصوح على النصيحة أمرٌ مهم، لأن العين كما قال الشاعر:
العين تبصر منها ما دنا ونأى ولا ترى نفسها إلا بمرآة
فالشخص يرى ما أمامه في الآخرين، سواء كان قريباً أو بعيداً، لكنه لا يرى نفسه إلا بمرآة حقيقية، ولذلك انظر إلى بلاغة الوصف النبوي عندما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (المؤمن مرآة أخيه) لماذا كان مرآة؟ لأنه يعكس له صورته وعيوبه ومحاسنه بالنصائح.
قال عمر بن عبد العزيز: [من وصل أخاه بنصيحة له في دينه ونظر له في صلاح دنياه، فقد أحسن صلته وأدى واجب حقه].
وقال بعضهم: من نصحك فقد أحبك، ومن داهنك فقد غشك، ومن لا يقبل بنصحك فليس بأخ لك.(252/32)
البحث عن الناصح
أيها الإخوة: من الأمور المهمة للمنصوح أن يبحث عن الناصح، يأخذ إخوانه المقربين والناس الذين حوله فيسألهم: يا أخي فلان! ماذا تجد علي؟ بصرني بعيوبي، هل لك ملاحظات؟ إذاً طلب النصيحة يدل عليها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وإذا استنصحك) زيادة الألف والسين والتاء تدل في اللغة العربية على الطلب، استنصحك: طلب النصيحة، استكتب طلب الكتابة، استشار طلب المشورة وهكذا.
فمن صفات المؤمن أنه يطلب النصيحة من الآخرين، هذا من أول واجبات المنصوح أنه يبحث عن الناصح الأمين.(252/33)
طلب النصيحة
ثانياً: أن يكون هو الذي يطلب النصيحة، لا ينتظر حتى يأتيه الناس وينصحونه، ولو أن كل شخص فينا طلب النصيحة من الآخرين فإن الأخطاء تقل إلى درجات متدنية جداً.(252/34)
تقبل النصيحة
ثالثاً: تقبل النصيحة من الأمور المهمة، بل هو عماد القضية كلها وأساسها.
فهذا موسى عليه السلام لما جاءه الرجل قال له: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20] ماذا فعل موسى عليه السلام؟ {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص:21] مباشرةً، لم يقل: أنا أستطيع أن أدبر أموري ونفسي، وأستطيع أن أختفي وأنا ماهر: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص:21] لأن ذلك الرجل كان قد اطلع على أحوال القوم وتبصر بالأمور التي لم يعرفها موسى عليه السلام، فلذلك قال: {فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص:20 - 21] بادر بتنفيذ النصيحة فوراً.
وبعض الناس من المنصوحين يتقبلون النصيحة بالقول، يقول: جزاك الله خيراً، ما قصرت، وأنا مخطئ، وإلى آخره، وكلامك صحيح، لكنه عملياً لا يطبق، هذه هي المشكلة.
والرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نبحث عن الناصح حتى في الأشياء التي قد تبدو ليست ذات أهمية، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال في الرؤيا -إذا رأى الإنسان رؤيا في المنام- ألا يقصها إلا على واد أو ناصح أو ذي علم، لماذا يقص الرؤيا على الناصح؟ حتى لا يؤول له الرؤيا بتأويل سيئ فتقع كما أخبر، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الرؤيا على رجل طائر تقع على ما تعبر به) فإن عبرها بسوء وقعت كما أخبر، وإن عبرها بشيء حسن وقعت كما يقول، هذه من العجائب التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم.
إذا رأيت رؤيا فلا تقصها إلا على واد -بينك وبينه مودة- أو ناصح، أو إنسان عنده علم يفسر لك الأمور، فنطلب الناصح حتى في تفسير الرؤى.
وهناك قصة مهمة جداً لكن لن نستعرضها الآن وإنما سنشير إليها إشارة: ذات مرة في موسم الحج كان عمر رضي الله عنه مع الناس، فقام أحدهم وقال: والله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة، والله لئن مات عمر لأبايع فلاناً أو فلاناً، فغضب عمر رضي الله عنه غضباً شديداً لما بلغه الكلام وهمَّ أن يقوم وينصح ويكلم الناس، ويأمر ويؤنب هذا الشخص على فعلته ويبين القضية؛ لأن القضية خطيرة، فجاءه عبد الرحمن بن عوف، قال: يا أمير المؤمنين! انتظر حتى تقدم المدينة فإن فيها من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وعلماء الناس وفقهائهم من إذا سمع الكلام أداه كما سمعه وعرفه وفهمه، فأخذ عمر رضي الله عنه بنصيحة عبد الرحمن وانتظر حتى قدم المدينة فتكلم، فكان لكلامه وقعٌ طيب وأثرٌ كبيرٌ على الناس.
والقصة في الصحيح ولعلنا نقف عندها وقفات في المستقبل إن شاء الله.
كذلك كان عمر رضي الله عنه يوماً مع أصحابه، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين! اتق الله، فقال بعض الحاضرين لذلك الرجل: أتقول لأمير المؤمنين اتق الله؟! فقال عمر: [دعوه فليقلها، لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نقبلها] عبارة ذهبية.
فإذاً: لا يستهين الإنسان أن ينصح من هو أعلى منه، ولا يستهين المنصوح الكبير أن يطلب النصيحة ممن هو أدنى منه، فرب طالب علم أسدى لعالم نصيحة غالية، ورب مربٍ تلقى نصيحة ممن يربيه، وأب تلقى نصيحةً من ابنه لا تقدر بثمن، فإن بعض أذهان الناصحين قد تنقدح على معان وأمور لا تخطر ببال المنصوح أبداً، حتى ولو كان أعلى قدراً وأجل وأعلم، فلذلك لا يحمل المنصوح الأعلى منزلة ومرتبة أن يطلب النصيحة ممن هو أدنى منه.
شبهة: بعض الناس المنصوحين يقول: إذا أنا قبلت كلام فلان فهذا يعتبر مطعن في شخصيتي، لماذا؟ يقول: هذا يدل على ضعف شخصيتي.
أيها الإخوة: هذا على العكس تماماً، ليعلم كل منصوح بأنه إذا قبل النصيحة فإنه سيكون له في نفس ناصحه مكانةً عظيمة، يقول الشافعي رحمه الله: ما نصحت أحداً فقبل مني إلا هبته -خفت منه وعظم في عيني- واعتقدت مودته، ولا رد أحدٌ علي النصح إلا سقط من عيني ورفضته.
إذاً لا بد أن يكون صدر المنصوح واسعاً ويتقبل خصوصاً من الناس الذين يصلون في المساجد، وبعض الناس ينصحون من بعض المصلين، فتجده تأخذه العزة بالإثم ويرفض النصيحة، ويقول: أنت أفهم مني؟ وهذا دين جديد، وأنت مبتدع إلخ بدون أن يقيس ويعرف الكلام وأدلة الكلام.
كذلك من آداب المنصوح: أن يتيح الفرصة للناصح لإبداء النصيحة ويشجعه لإكمال كلامه واستفراغ المزيد مما عنده، لأن بعض الناس يقطع الكلام على الناصح ولا يريد أن يسمع أكثر من كذا.
من الآداب أن يستزيد ويستفرغ ما عند هذا الناصح ويشجعه على إتمام النصيحة، ويشعره بأنه غير متحرج أبداً، وأن هذا لا يعتبر نقداً ولا تجريحاً وأنه يطلب منه أن يكمل كلامه.(252/35)
الدعاء للناصح في ظهر الغيب
كذلك من آداب المنصوح: أن يدعو للناصح في ظهر الغيب، وأن يقول له: جزاك الله خيراً، لأن الله قال: {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} [الرحمن:60] هذا يحسن إليك بالنصيحة فأنت أحسن إليه، (من صنع لأخيه معروفاً فقال له: جزاك الله خيراً، فقد أجزل في الثناء).
فإذاً هذا المنصوح إذا سمع النصيحة يقول للناصح: يا أخي جزاك الله خيراً، وواجبك أديته، وأنت مثاب إن شاء الله، وأنت مأجور على نصيحتك لي وهكذا.
هذه طائفة من النقاط المتعلقة بالنصيحة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، لأن استماع القول واتباع أحسنه من صفات المؤمنين، فنسأل الله أن يجعلنا كذلك.(252/36)
الأسئلة
هذه أسئلة عرضت على سماحة العلامة عبد العزيز بن باز فأجاب عليها جزاه الله خيراً.(252/37)
حكم التشقير
السؤال
امرأة تسأل عن التشقير؟
الجواب
التشقير هو: صبغ يباع في الأسواق يرشوه على جزء من الحاجب بلون البشرة، بحيث يظهر للذي ينظر في الحاجب أنه نحيف، أي: كأنه منتوف ولكنه ليس كذلك؛ لأنه مصبوغ من الأعلى مثلاً أو من الحواف بصبغ مشابه للون البشرة، فبعض النساء سألن عن هذا، فتوجهت بهذا السؤال للشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله فقال: لا حرج في هذا؛ لأنه ليس نتفاً، إلا أن يكون الصباغ أسود فإنه منهي عنه، أما إذا كان غير ذلك فإنه لا بأس به.(252/38)
تجميل ما تشوه من الإنسان
السؤال
امرأة انكسر الجزء الأعلى من أحد نابيها، فتريد حك الآخر ليصبح بنفس الطول؟
الجواب
قال الشيخ ابن باز: الظاهر أنه لا بأس به؛ لأنه ليس بتفليج، والتفليج تفريق الأسنان أو وشرها لأجل الحسن، وإنما نهي عنه لأنه نوع من المثلة، أي: الآن صار عندها نوع من التشوه، فهذا ليس تحسيناً وإنما حصل تشويه، وليس من أصل الخلقة، أي: لم يخلق سنه مكسور، فإزالة المثلة في هذه الحالة ليس بداخل في التفليج، ولكن ذكر الشيخ ابن عثيمين عند سؤالي له إضافة أخرى، قال: لكن هنا تلبس المكسور أولى من أنها تزيل من الأسنان، تلبس سنها شيئاً معدنياً بحيث يصبح في نفس الطول.(252/39)
وضع اليد على الصدر لمن يصلي قاعداً
السؤال
المصلي المريض الذي يصلي قاعداً أين يضع يديه؟
الجواب
السنة للمصلي قاعداً أن يتربع كما ورد في الحديث الصحيح، فيقول الشيخ عبد العزيز: يضعها مثل الصحيح على صدره قبل الركوع وبعد رفعه من الركوع.(252/40)
حكم قول كفارة المجلس في الهاتف
السؤال الثاني: هل يشرع قول كفارة المجلس بالهاتف؟
الجواب
إذا تكلم شخصان في الهاتف، فإذا انتهوا هل تقال كفارة المجلس أم لا؟ فكان جواب الشيخ: ما أعلم هذا، أي: لا يعلم بأن هذا يقال في المحادثات الهاتفية، ولكن قال الشيخ: إذا كان لوحده، أي: أنا تكلم عليَّ شخص في الهاتف فرددت عليه ثم أغلقت السماعة، فإذا أردت أن أقوم من المجلس الذي تكلمت فيه فأقول دعاء المجلس ولو كنت وحدي؛ لأني تكلمت وحصل مني كلام في المجلس، فأقول دعاء المجلس: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(252/41)
حكم الصفرة والكدرة
السؤال
لو اتصلت الكدرة أو الصفرة بأول الحيض فهل تعتبر منه أم لا؟
الجواب
من المعلوم أن الكدرة إذا اتصلت بالحيض من آخره فإنها تعتبر من الحيض، فإذا كانت المرأة يخرج منها كدرة في بداية الحيض قبل الدم متصلاً به، فيقول الشيخ: تعتبر منه كما أنها تعتبر منه في آخر الحيض، كذلك تعتبر من الحيض إن جاءت في أوله.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل والفقه في الدين.
وصلى الله على نبينا محمد.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(252/42)
من هم أولياء الله؟
تجد في هذا الدرس تعريفاً بأولياء الله، مع ذكر بعض صفاتهم، فولاية الله لها مقتضيات وثمرات.
كما تحدث الشيخ عن الكرامات التي تحدث لأولياء الله سواء في الكتاب والسنة، أو من واقعنا المعاش، كما بين الفرق بين الكرامة التي تحدث لولي الله وبين الخوارق التي تحدث للسحرة والمشعوذين، وذَكَرَ الضابط في ذلك.(253/1)
تعريف بأولياء الله
الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله، محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: يقول الله جل وعلا في تعريف أوليائه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] وقد ورد حديث عظيم القدر، شريف المنزلة، قال العلماء: إنه أجل حديث في الأولياء، قالوا: إنه أشرف حديث روي في ذكر الأولياء وهو حديث رواه الإمام البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه) رواه البخاري رحمه الله تعالى.
وفي رواية: (وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته).
هذا الحديث العظيم يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه عن ربه عز وجل: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) ومعنى: (آذنته بالحرب) أي: أعلنت أني محارب له؛ لأنه يحارب أوليائي فأنا أحاربه، وأنا خصمه، وويل لمن كان الله تعالى خصمه، ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله تعالى بالمحاربة، والله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإن حضروا لم يدعوا؛ لهوانهم على الناس، ولم يعرفوا؛ لأنهم ليسوا بأصحاب سمعة ولا شهرة، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل غبراء مظلمة أنقياء أتقياء؛ لأن قلوبهم منيرة بذكر الله تعالى، فإذا دخلوا في الفتن خرجوا منها أحسن من الذهب الأحمر.
أرأيت الخام إذا أريد استخلاص الذهب منه، فإنه يدخل في الفرن ويحمى عليه، وينفخ لتتطاير هذه الشوائب وما غطاه من الخلائف، ثم يصبح ذهباً أحمر نقياً لا شيء فيه، فكذلك أولياء الله، إذا فتنوا خرجوا من الفتنة وهم أقوياء أنقياء، فأولياء الله عز وجل تجب موالاتهم وتحرم معاداتهم، كما أنه يجب معاداة أعداء الله وتحرم موالاة أعداء الله، فكذلك تجب موالاة أولياء الله.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1] وقال عز وجل: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56] فهم الغالبون باللسان والبيان والحجة، وهم الغالبون بالسيف والسنان ولو بعد حين، والله تعالى وصف أحباءه الذين يحبهم ويحبونه، بأنهم أذلة على المؤمنين، إذا قال قائلهم أولياء الله، نقول: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63].
من هم أولياء الله؟ {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة:55].
من هم أولياء الله؟ {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54] هؤلاء أولياء الله تعالى، هؤلاء الذين من أهانهم أو أخافهم فقد بارز الله بالمحاربة، وبدأه بالمحاربة، وعرض نفسه لسخط الرب وانتقامه، والله أسرع شيء إلى نصرة أوليائه، أفيظن الذي يحارب الله أن يقوم له ويقاومه؟ أويظن الذي يحارب أولياء الله أن يعجز الله تعالى؟ أويظن الذي يبارز الله أن يفلته ويفوته؟!! كيف والله يثأر له في الدنيا والآخرة، ولذلك لا يكل الله نصرة أوليائه إلى غيره، بل هو الذي ينصرهم عز وجل.(253/2)
معاداة أولياء الله محاربة لله
لنعلم -أيها الإخوة- أن جميع المعاصي محاربة لله تعالى، ولذلك قال الحسن البصري رحمه الله: [ابن آدم! هل بمحاربة الله من طاقة؟ فإن من عصى الله فقد حاربه، لكن كلما كان الذنب أقبح كان أشد محاربة لله] ولهذا سمى الله أكلة الربا وقطاع الطريق محاربين لله ولرسوله؛ لعظيم ظلمهم للعباد، وسعيهم بالفساد في البلاد.
وكذلك معاداة أولياء الله تعالى، قيل: إن آكل الربا يعطى يوم القيامة سيفاً أو رمحاً ويقال له: حارب ودافع، والله تعالى يحاربه، فكيف وأنّى تكون له الغلبة؟! ولذلك قال الله في أكلة الربا: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} [البقرة:279] فإن لم تتركوا أكل الربا.
{فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] حرب الله عليهم ما يصيبهم به من الآفات وأنواع الانتقام، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الربا وإن كثر فإن عاقبته إلى قل) أي: يصبح في النهاية قليلاً منزوع البركة، تذهب الأموال من حيث لا يدري صاحبها، وآكل الربا لا يبارك له في ماله، فسرعان ما يذهب ويضمحل، والحرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا بما يقام عليه من التعزير والتنكيل، ومن خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا وأهل الصلاح من الحكام الذين يحاربون أكلة الربا، {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279].
والذي يعادي الله تعالى يحاربه الله أيضاً، ولذلك فإن أشد الناس محاربة من الله هم الذين يقعون في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم رأس الأولياء، هم قمة الأولياء، فهم أشد خلق الله بعد الأنبياء ولاءً لله تعالى، والله تعالى يحبهم، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يؤذي أصحابه: (أن عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) وقال عليه الصلاة والسلام: (الله الله في أصحابي) حذرنا من الوقوع فيهم، وقال: (إذا ذكر أصحابي فأمسكوا) لا تتكلموا فيهم، لا تتخذوهم غرضاً، من يؤذيهم يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي يؤذيهم يوشك أن يأخذه الله، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) ولذلك فإن من أعظم الناس جرماً الذين يقعون في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فيقولون: ارتدوا، ويقولون: إنهم سفكوا الدماء بالباطل، وإنهم غصبوا علياً حقه، وإنهم كفروا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنهم ظلمة وفسقة، ونحو ذلك من الألفاظ البذيئة، والشتائم العجيبة التي يلحقونها بالصحابة، فلا شك أن الذي يسب الصحابة أول واحد ينطبق عليه هذا الحديث وهو قوله تعالى: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب).
ولذلك ترى الذين يحاربون الصحابة يحاربهم الله في الدنيا بأن يوقع بأسهم بينهم، وأن يجعل أمورهم فتنة واختلاطاً، وأن يجعل فيهم القتل والحرب، فلا يزال أمرهم في اضطراب ونظمهم في اختلال، وأمرهم إلى زوال، فلا تقوم لهم قائمة، ولذلك لا يستقر لهم حال أبداً؛ لأنهم سبوا أولياء الله تعالى، وهم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: (وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) لما ذكر الله تعالى أن معاداة أوليائه هي معاداة ومحاربة له، ذكر صفات هؤلاء الأولياء الذين تحرم معاداتهم وتجب موالاتهم، والموالاة هي النصرة والقرب، الولاية هي النصرة والقيام بالحق والدفاع والذب.(253/3)
أولياء الله على قسمين
أولياء الله عز وجل على قسمين: منهم من تقرب إليه بأداء الفرائض، وهذا يشمل فعل الواجبات وترك المحرمات، ومنهم من تقرب إليه بعد الفرائض بالنوافل، فلذلك ارتقى منزلة أخرى بعد منزلته الأولى بأداء الفرائض، ثم صار في هذه المنزلة العظيمة، فإذاً هم على درجتين.(253/4)
أصحاب اليمين
الأولى: المتقربون إلى الله بأداء الفرائض، وهذه درجة المقتصدين أصحاب اليمين، ولا شك أن أداء الفرائض أفضل الأعمال عند الله كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [أفضل الأعمال أداء ما افترضه الله، والورع عما حرم الله، وصدق النية فيما عند الله عز وجل].
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: [أفضل العبادة أداء الفرائض واجتناب المحارم، وذلك لأن الله عز وجل إنما افترض على عباده هذه الفرائض ليقربهم منه، ويوجب لهم رضوانه ورحمته].
ولا شك أن هذه الفرائض أنواع، فمنها بدني كالصلاة: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19]، (وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)، (إن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت).
وكذلك عدل الراعي في الرعية، سواء كانت رعية عامة أو خاصة، ومنها الرعية الخاصة: عدل آحاد الناس في أهله وولده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) والعدل بين الأولاد، وكان السلف يحرصون عليه حتى في القُبَل، إذا قبل هذا الولد يقبل الآخر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين سبحانه وتعالى) فأيدي البشر تتفاوت بالقوة والعطاء، وتجد أن كثيراً من الناس يمينهم أقوى من شمالهم، وبعضهم شماله أقوى من يمينه، ويعطي بيمينه، والله تعالى كلتا يديه في القوة سواء، وهما سواء في العطاء، والخير كله في يديه، سحاء الليل والنهار؛ والسحاء هو المهطال الذي يهطل ويتواصل في النزول والانصباب، يعطي سبحانه وتعالى، يعطي والخير في يديه، ومنذ أن خلق السموات والأرض وهو ينفق على عباده، منذ أن خلق العباد ينفق عليهم، ومع ذلك لم ينفذ مما عنده شيء، لأن خزائن السموات والأرض بيديه، إنما أمره لشيء إذا أراد أن يقول له: كن، فيكون، هؤلاء المقسطون عند الله على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم بين أهليهم وما ولوا من أنواع الولايات؛ سواء كان في وظيفة، أو كان في أسرة، أو كان في تجارة، فإنه إذا تولى ولاية صار هناك أناس تحته يعدل بينهم، فاتصف بصفة من صفات أولياء الله تعالى.(253/5)
السابقون المقربون
والدرجة الثانية من أولياء الله: وهي درجة السابقين المقربين، الذين تقربوا إلى الله بعد الفرائض بالاجتهاد في نوافل الطاعات والالتفات عن دقائق المكروهات من خلال الورع الذي يحجبهم عن الشبهات، ولا يظنن الظان أن القيام بالواجبات والامتناع عن المحرمات أمر سهل، فمن هو الذي يفعل هذا الآن؟ من الذي لا يرتكب محرماً من المحرمات؟ ولذلك فإنه لا يمكن الوصول إلى رتبة الأولياء إلا بالإكثار من التوبة، بحيث لو أن الإنسان عمل معصية يسرع إلى التوبة منها، وهذا أمر في غاية الأهمية.(253/6)
وجوب محبة أولياء الله
ثم إن من صفاتهم كما تقدم: أنهم أذلة للمؤمنين، يعاملون المؤمنين بالذلة واللين وخفض الجناح، ويعاملون الكفرة بالغلظة والشدة والعزة؛ وذلك لأن أولئك المؤمنين يحبون الله، فهم يحبونهم لأجله، لا يحبون الشخص لشخصه، ولا لشكله، وإنما يحبونه لأجل محبته لله، ولذلك ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى قاعدة مهمة في الجمال في كتاب الاستقامة، لعلنا سنأتي إلى تفصيلها إن شاء الله، قال ما معناه: لو أن الشخص يحب لجماله لكان يوسف أفضل من كل الأنبياء، ولكن لا يحب الشخص لشكله ولا لجماله ولا لماله، ولكن الأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) فمن صفات هؤلاء الأولياء الذين يدافع الله عنهم، وينصرهم وينتصر لهم، من صفاتهم أنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين.
ولذلك فإن هؤلاء لا يغلظون للمؤمنين، ومن الصفات السيئة أن تجد الشخص يقع في أهل الإيمان والتوحيد، ويقع في أعراض الدعاة إلى الله، يقع في أعراض أهل العلم؛ يسب ويشتم، ويرمي بأنواع السباب والمعايب أهلَ التوحيد والدين، والذين قاموا بواجب الدعوة والأمر والنهي، فهذا لا يمكن أن يكون من أولياء الله بحال، بل سرعان ما يخبو أمره وينطفئ، ويحدث انتقام الله منه، ويرى ذلك بأم العين في الدنيا قبل الآخرة.
والمتأمل في الواقع يعرف أن هذا أمر حاصل؛ لأن سنة الله تعالى في الحياة ماضية، وقد تكفل الله بالدفاع عن أوليائه، ولذلك فإنك لا تكاد ترى من يقع في أهل الإيمان والدين ونصرة الشريعة إلا والله منتقم منه ولو بعد حين.
قال الله عز وجل في صفات الأولياء: {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] ما داموا قد أحبوا حبيبهم وهو الله عز وجل فلا يخافون في سبيله شيئاً، فيعملون بمرضاته، رضي من رضي وسخط من سخط، ولذلك فمن الأمور المهمة أن الإنسان يحب أولياء الله، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاني ربي عز وجل -في المنام- فقال لي: يا محمد! قل: اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، والعمل الذي يبلغني حبك) هذا الحديث رواه الإمام أحمد رحمه الله والترمذي وقال: حسن صحيح.
وقال: سألت محمد بن إسماعيل -يعني البخاري - عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث حسن صحيح.
إذاً إذا كان الإنسان عنده إيمان ويقين ودين، ويريد أن يتصف بصفات الولاية، فعليه أن يسأل الله محبة أوليائه، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم ارزقني حبك وحب من ينفعني حبه عندك) لأن هناك أناساً محبتهم تضر عند الله، وأناساً محبتهم تنفع عند الله، ولذلك يقول: (اللهم ارزقني حبك، وحب من ينفعني حبه عندك، اللهم ما رقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب -الإنسان يحب المال، يحب الزوجة، يحب الشهوات- اللهم ما زويت عني مما أحب -ما حرمتني من النعم- فاجعله فراغاً لي فيما تحب) وهذا الحديث رواه ابن المبارك رحمه الله في كتابه الزهد، وسنده صحيح، وحسنه الترمذي رحمه الله تعالى.
وهذه الدرجة التي ليس لأصحابها همٌّ إلا ما يقربهم من محبوبات الله تعالى، ومن الأشخاص الذين يحبهم الله عز وجل، قال بعض السلف: العمل على المخافة قد يغيره الرجاء، والعمل على المحبة لا يدخله الفتور.
وهذه عبارة بالغة بليغة، (العمل على المخافة) إذا عملت من أجل الخوف فقط، فقد يعتريك الفتور إذا حصل لك رجاء، فالإنسان الذي يعمل فقط خوفاً من العذاب، هذا إذا جاء يوم من الأيام وتأمل فحصل له شيء من الرجاء أو مر به شيء مما فيه ذكر رجاء الله تعالى وثوابه؛ حصل له شيء من الفتور؛ لأن الدافع للعمل هو الخوف، فإذا حصل شيء من الرجاء خفّ للخوف فإذا كان الدافع للعمل هو الخوف الذي قد خف خفَّ العمل أيضاً لكن إذا كان الدافع للعمل هو محبة الله، فأي شيء يخففها؟ لا شيء، ولذلك كان الدافع للعمل إذا صار فيه محبة أقوى منه إذا صار من الخوف، ولذلك المحبة هي الرأس والخوف والرجاء الجناحان، وإذا قطع الرأس لا يطير الطائر أصلاً ولا يمشي ولا يتحرك.
من الناس من يعبد الله خوفاً، ومن الناس من يعبد الله رجاءً، ومن الناس من يعبد الله محبة، والمؤمن ينبغي أن تجتمع فيه هذه الثلاثة بدون أن ينتفي شيء منها، لو انتفى شيء منها معنى ذلك أنه قد وقع في خطر عظيم، فإذا صار الدافع للعمل محبة الله، فلا تخف، فيستمر العمل، إذا كان الدافع هو الخوف، يمكن أن يخف إذا عرض عارض رجاء في الفكر أو السماع، أو قراءة شيء مما فيه سعة الرحمة والتوبة، حصل للخوف نقص، ففتر العمل.
وكذلك قال بعضهم: إذا سئم البطالون من بطالتهم فلن يسأم محبوك من مناجاتك وذكرك.
فالبطالون الذين يسعون في الدنيا بالبطالة يسأمون ولا بد، فإما أن يحصل عندهم شيء من الملل من كثرة ما يفعلونه ومن تشابه ما يفعلونه؛ لأن هذه الأشياء التي في الدنيا من الملهيات والألعاب والنعيم، لا بد فيها من آفات، فالأكل إذا أكثر منه مرض، والشهوة إذا أكثر الوقوع فيها مرض واضمحلت قوته، وهذه الألعاب الموجودة لو أكثر منها لأصابه الملل، ولكن مناجاة الله تعالى وذكره لا يحصل فيها ذلك إذا كانت موافقةً للسنة، ومن ذلك قال: (فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى).
ومن أحب الله لم يكن عنده شيء آثر من هواه، ومن أحب الدنيا لم يكن عنده شيء آثر من هوى نفسه، والمحب لله تعالى أمير مؤمر على الأمراء، زمرته أول الزمر يوم القيامة، ومجلسه أقرب المجالس فيما هنالك، والمحبة منتهى القربة والاجتهاد، ولم يسأم المحبون من طول اجتهادهم لله عز وجل؛ يحبونه ويحبون ذكره ويحببونه إلى خلقه، وهذه الصفة مهمة جداً؛ أعني تحبيب الله إلى الخلق.(253/7)
طريقة تحبيب الله إلى الناس
ليست المسألة فقط أن الإنسان يحب الله، وإنما أيضاً إتقان الصنعة وإتقان العبادة وإتقان الولاية أن يحبب الله إلى الخلق، قد يسهل على الإنسان أن يحب الله، فإذا تأمل في نعم الله أحب الله، لكن أن يحبب الله إلى الخلق فهذه مسألة لا يقوم بها إلا الدعاة إلى الله، وليس كل الدعاة إلى الله، بعض الدعاة إلى الله ينجحون في تحبيب الرب إلى الخلق، ولذلك فالداعية إلى الله عز وجل يمارس هذه الوظيفة فيعمل جاهداً لأجل تحبيب الله إلى خلقه، فإذا أوصلتهم إلى محبة الخالق فاتركهم وهم سيكملون الطريق، فإذاً التحبيب إلى الخلق بالمشي بالنصائح بين العباد، كما قال بعض السلف: يحببونه إلى خلقه، يمشون بين عباده بالنصائح، ويخافون عليهم من أعمالهم يوم تبدو الفضائح، أولئك أولياء الله وأحباؤه وأهل صفوته، أولئك الذين لا راحة لهم دون لقائه.
وقبل ذلك فهم في تعب ووصب في مرضاة الله، {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8].
وكيف نحبب الناس إلى الله؟ بأشياء كثيرة: منها: شرح أسمائه وصفاته وربط ذلك بالواقع.
ومنها: تعداد نعم الله تعالى وذكر آلائه، فإن الناس قد جبلوا على محبة من أحسن إليهم، وذلك إذا توالت النعم وتفطن الإنسان لها.
إن النعم متوالية لكن التفطن للنعم هو الذي يغيب عن البال، فإذا تفطن الإنسان أن نعم الله عليه متوالية فإنه يحبه، أرأيت لو أن شخصاً أعطاك اليوم مائة، وأعطاك غداً ألفاً، وأعطاك بعده عشرة آلاف، وأعطاك بعده مائة ألف، وأعطاك بعده سيارة، وأعطاك بعده بيتاً، وأعطاك وظيفة، أي شعور يكون له في قلبك وقد ازداد إحسانه معروفه إليك، ولا تزال أياديه متوالية في مصلحتك؟ لا شك أن محبته تعظم، إن الناس إذا أحسن إليهم ولو بشربة ماء أحبوا من أحسن إليهم، فكيف إذا تفطن العبد لنعم الله المتوالية؟ الصحة نعمة متوالية حتى يمرض، المال نعمة متوالية حتى يفتقر، الشباب نعمة متوالية حتى يشيخ ويهرم، وهكذا نعمه متوالية، وحتى لو حرم من نعمة فإنها تأتي بدلها نعمة أخرى، فلو حرم من نعمة الصحة فإن نعمة الابتلاء في تكفير السيئات ورفع الدرجات حاصلة، ولذلك فالعبد لا يزال يتقلب في أطباق نعمة الرب عليه ولكن قليل هم المتفطنون لذلك.
المحب لا يجد مع حب الله عز وجل للدنيا لذة، ولا يغفل عن ذكر الله طرفة عين؛ لأن غاية مناه أن يجد لذة العبادة، غاية ما يرجو أن يحس بحلاوة الاتصال، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أرحنا بالصلاة يا بلال) وقال: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) قرة العين وراحة البال وهدوء النفس جعلت في الصلاة، لأنها كانت صلة بينه وبين ربه صلى الله عليه وسلم، فكان يقوم ويناجيه، وكلما أحس العبد باللذة ازداد في العبادة وازداد في القيام، وازداد في الركوع والسجود وازداد في الصيام، وهكذا.
وقال بعض السلف: لا يكاد يمل القرب إلى الله تعالى محب لله عز وجل، ولا يكاد يسأم من ذلك.
وقال بعضهم: المحب لله طائر القلب كثير الذكر متسبب إلى رضوانه بكل سبيل يقدر عليها من الوسائل والنوافل، دوماً دوما وشوقاً شوقاً.(253/8)
كثرة قراءة القرآن
ومن أعظم ما يتقرب به إلى الله تعالى، لمن يريد الوصول إلى مرتبة الولاية: كثرة تلاوة كلامه، وسماعه بتفكر وتدبر وتفهم، قال خباب رضي الله عنه لرجل: [تقرب إلى الله ما استطعت، واعلم أنك لم تتقرب إليه بشيء هو أحب إليه من كلامه] ألا ترى أن الرجل إذا وصله خطاب ممن يحبه حباً جماً قرأه مرات كثيرة، واحتفظ به، ولا يزال يخرجه بين آونة وأخرى يقرأ فيه لأنه كلام الحبيب، ولذلك فهو إليه باشتياق مستمر، فكيف بكلام الرب إذا كان الإنسان محباً له؟! فإنه لا يزال يقرأ كلام الرب، ويتصفحه ويطالع فيه، ويسمعه ويعرف معناه، وهكذا يبقى القرآن هو لذة قلوب العارفين، وهو محرك ألسنتهم بالتلاوة، ولذلك كان بعض السلف ينعى على من لم يحفظ القرآن، ويقول لصاحب له: أتحفظ القرآن؟ قال: لا.
فقال: واغوثاه بالله، مريد لا يحفظ القرآن فبم يتنعم؟! أي: الذي يريد الله تعالى لا يحفظ كلامه فبم يترنم؟ فبم يناجي ربه عز وجل؟ وإذا واطأ اللسان القلب كان ذلك أفضل الأعمال؛ لأن موافقة اللسان للقلب هي حقيقة التدبر والتفكر، قال الله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل:6] قيل: أشد مواطأة من القلب للسان.
وإذا ذكر العبد الله تعالى ولو بغير القرآن، فإنه أيضاً مما يوصله ذلك إلى الولاية، لذلك يقول الله عز وجل: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه) وقال الله عز وجل أيضاً: (أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه) رواه الإمام أحمد، وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي، هذا معنى قوله الله عز وجل: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152].(253/9)
مقتضيات ولاية الله
أيها الإخوة! ولاية الله هي المنزلة العظيمة التي يدافع الله عن أصحابها، ولا شك أن لها مقتضيات، فمن مقتضيات الولاية كما قلنا: محبة الله ومحبة أوليائه، والذي يعاديهم ليس من أولياء الله قطعاً، وقد قال بعض السلف: إن الذين يتحابون في الله تعالى يجتمعون على غير أرحام بينهم، ولا على أموال يتعاطونها فيما بينهم، وإنما يجتمعون على طاعة الله، ولذلك ربما يلتقي الواحد بالآخر بمكان في الحرم عند الكعبة أو في المسجد أو في غيره، يحس بانجذاب خاص لهذا الشخص؛ ذلك لأن الصلة بالله تقرب بينهم، ولذلك سرعان ما يتداخلون، والأرواح جنود مجندة، وتجد الشخص إذا أراد أن يتداخل مع آخر ربما يحتاج إلى وقت طويل، من حصول سلام وكلام وموعد ولقاء واستئناس ودعوة على طعام ومشاركة وسفر حتى تحصل الخلطة المؤدية إلى المحبة، أما إذا كان من أولياء الله بمجرد أن يرى الواحد الآخر ما هي إلا كلمات ومجالسة حتى يحس أنه صاحب له منذ زمن بعيد، وهؤلاء لا شك أنهم يكونون يوم القيامة في مجالس عن يمين الرحمن يغبطهم من يغبطهم بقربهم من الرب عز وجل.(253/10)
من ثمرات الولاية تسديد الله لوليه
ومن ثمرات الولاية: أن الله عز وجل يسدد الولي للحق والصواب، وهذا معنى قوله في الحديث: (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها) لا شك أنه إذا وصل إلى هذه المرتبة فإن الله تعالى يسدده في جميع حواسه، فلا ينظر إلا إلى ما يحب الله، ولا يستمع إلا إلى ما يحب الله، ولا يمشي إلا إلى ما يحب الله، من جلسة ذكر، أو حلقة علم، أو مكان وعظ، أو صلة رحم، أو حج أو عمرة، ونحو ذلك من أنواع المماشي التي هي في طاعة الله عز وجل، وكذلك لا يبطش إلا في مرضاة الله؛ من جهاد، أو إزالة منكر، أو نصرة مظلوم ونحو ذلك، وكذلك يستمع إلى ما يحب الله؛ من كتابه وذكره، وسنة رسوله، وعلم شريعته ونحو ذلك، والنظر في المصحف من العبادات، وكذلك النظر في الأمانات لتمييزها لأصحابها، والنظر في كتب العلم والفقه ونحو ذلك من أنواع النظر الذي هو من العبادات.
ولا شك أيضاً أن من أعظم ما تؤدي إليه الولاية: أن يستجيب الله دعاء الولي، وهذا ما سوف نخصص له الدرس القادم إن شاء الله تعالى، وهو: إجابة دعوة الأولياء وكرامات الأولياء عند رب العالمين.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يسلك بنا سبيل الولاية وأن ينعم علينا بهذه الرتبة الشريفة، وأن يجعلنا ممن دافع عنهم وناصرهم، وأن يجعلنا من المتحابين فيه، والذين يلتقون ويجتمعون على نصرة شريعته.(253/11)
ولاية الله لها جانبان
فولاية الله سبحانه وتعالى مرتبة في الدين عظيمة، لا يبلغها إلا من قام بالدين ظاهراً وباطناً، ولهذه الولاية -أيها الإخوة- جانبان: جانب يتعلق بالعبد: وهو القيام بالأوامر واجتناب النواهي، ثم التدرج في مراتب العبودية بالنوافل.
وجانب يتعلق بالرب سبحانه وتعالى: وهو محبة هذا العبد ونصرته وتثبيته على الاستقامة.
وأما ما يظهر على يدي هذا العبد من عجائب الأمور، فهذا شيء إضافي وليس من شروط الولاية، ولذلك يسأل بعض الناس فيقول: هل يشترط أن يظهر على يدي الولي كرامات؟ ف
الجواب
أنه لا يشترط، فقد يكون ولياً من أولياء الله تعالى ومع ذلك لا يظهر على يديه شيء من الكرامات، ولذلك فإن القرآن قد اشتمل على تعريف الولي في قول الله عز وجل: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] هذا من جهة الله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس:63 - 64] هذا من جانب الرب، فالعبد الذي آمن بالله عز وجل وصدق به وبما جاء من عنده، والتزم بالشرع باطناً وظاهراً، وداوم على ذلك هو ولي الله عز وجل الذي يحبه وينصره ويبشره برضوانه، وعند فراقه للدنيا، يرتفع عنه الخوف والحزن، والعبد عليه أن يحفظ الله عز وجل بحفظ حقوقه والقيام بأوامره، واجتناب نواهيه، والرب سبحانه وتعالى يحبه على ذلك وينصره ويؤيده ويرعاه، والله سبحانه وتعالى يتولى من تولاه، ولا يتخلى عز وجل عمن نصره ووالاه.(253/12)
البشرى لأولياء الله
والآية تقول إن لأولياء الله بشرى: {لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس:64] فما هي هذه البشرى؟ أولاً البشرى في الحياة الدنيا تكون بأشياء: منها أولاً: إعلام الولي بأن الله معه في نصره وتأييده كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51].
ثانياً: إعلام الولي بما أعده الله عز وجل له في الآخرة من النعيم والرضوان، كما قال تعالى: {وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [البقرة:25].
ثالثاً: رعاية الله عز وجل لوليه بتوفيقه وحفظ جوارحه عن المعاصي كما جاء في الحديث: (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به،) الحديث.
رابعاً: تبشير الملائكة له عند النزع الأخير وخروج الروح، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30].
خامساً من البشارات للولي في الدنيا: ما يراه المؤمن في النوم، أو يرى له من الخير، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لم يبق بعدي من النبوة إلا المبشرات، قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة) رواه البخاري رحمه الله.
وقال عليه الصلاة والسلام في تفسير البشرى: (الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له) هذا تفسير البشرى، رواه الترمذي وهو حديث حسن.
سادساً مما أعد الله للولي في الدنيا: استجابة الدعوة، وهذا الذي تضمنه الحديث الذي سبق شرحه: (ولئن سألني لأعطينه).
سابعاً: ما يجريه الله عز وجل على يدي الولي من العجائب مما هو فوق قدرة البشر، كما وقع لمريم عليها السلام، وأصحاب الكهف، والغلام مع الساحر، والصبي الذي خاطب أمه في قصة الأخدود إلى غير ذلك، وكما قلنا هذا الأخير لا يشترط للولي بمعنى: ولياً إلا إذا وقع له ذلك، فقد يقع وقد لا يقع.
والبشرى للولي في الدنيا بتبشير الملائكة له عند خروج نفسه برحمة الله تعالى قد وردت به آيات، فهذا من معنى قول الله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس:64].(253/13)
وقفة مع كرامات الأولياء
وبالنسبة للكرامات التي قد تقطع لبعض أولياء الله تعالى في الدنيا، فإنه لا بد من الحديث عنها؛ لأن بعض الناس لا يستطيع أن يفرق بينما يقع من الخوارق على يد الساحر والكاهن والدجال، وبينما يقع من هذه الخوارق على يدي أولياء الله تعالى.
والكرامة يعرفها أهل السنة: بأنها أمر خارق للعادة، يظهره الله عز وجل على أيدي أوليائه، ليست مقرونة بدعوى النبوة، وهي ولا شك خارقة للعادة، وقد ذهب فيها الناس إلى ثلاثة مذاهب: فمنهم من أجاز وقوعها بدون حد، حتى قال قائلهم: كل ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي.
وهذا مذهب الأشاعرة وغيرهم، وهذا مذهب باطل، إذ كيف تستوي معجزات الأنبياء مع كرامات الأولياء، ومعلوم أن الأنبياء أفضل وأعلى وأزكى وأرفع عند الله تعالى، ثم إن النبي يحتاج للمعجزة لأجل إظهار الحق وإثباته للكفرة والمعاندين.
ومن الناس من ذهب إلى إنكار الكرامات بالكلية.
وهذا مذهب المعتزلة وآخرين وافقوهم، ولا شك أن هؤلاء الذين احتكموا إلى عقولهم وأنكروا الكرامات، لا شك أنهم من المصادمين لمذهب أهل السنة وهو القول الثالث الوسط، وهو إثبات وقوع الكرامات للصالحين وجواز وقوعها، لكنها لا تصل إلى درجة معجزة الأنبياء.
قال ابن تيمية رحمه الله: ومع هذا فالأولياء دون الأنبياء والمرسلين، فلا تبلغ كرامات أحد قط إلى مثل معجزات المرسلين، كما أنهم لا يبلغون في الفضيلة والثواب إلى درجاتهم.
وقال رحمه الله: فإن آيات الأنبياء التي دلت على نبوتهم أعلى مما يشتركون فيه هم وأتباعهم، مثل: الإتيان بالقرآن، ومثل: إخراج الناقة من الأرض، ومثل: قلب العصا حية، وشق البحر، إلى آخر ما قال رحمه الله تعالى.
فالخلاصة: إثبات كرامات الأولياء وجواز وقوعها، ولكنها لا تصل إلى درجة معجزات الأنبياء.
ولا يعني إثبات الكرامات المبالغة في قبولها والأخذ بها من كل طريق أتت، أو إثباتها للفسقة والمجرمين، ولذلك فلا بد أن نعرف من هم الأشخاص الذين تظهر على أيديهم الخوارق، ومتى تسمى كرامات ومتى لا تسمى، فلا بد من ملاحظة عدة أمور بالنسبة لكرامات الأولياء؛ لأنه ليس كل من ظهر على يده فعل عجيب يدل على أنه ولي.
فإذاً الأولياء الذين قد يجري الله على أيديهم بعض الكرامات؛ هم أناس صالحون ملتزمون بالشريعة ظاهراً وباطناً، آمنوا بالله عز وجل وبما أمرهم أن يؤمنوا به، ولا يدعون لأنفسهم مكانة زائدة على أفراد الأمة، ولا يزكون أنفسهم، فلا يقولون: نحن أفضل الناس، ونحو ذلك، وهؤلاء يخفون الكرامات ولا يظهرونها ولا يقولون للناس: حصلت على أيدينا كذا، وحصل على أيدينا كذا، ولا يتفاخرون بها.
ومن الناس من يظهر على أيديهم أشياء من العجائب، لكنهم قوم فسقة استخدموا الشياطين واستخدمتهم الشياطين، إما عن طريق السحر أو غير ذلك، ولذلك فإن الله عز وجل عندما وصف المؤمنين بقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] لا شك أن هؤلاء لا يدخل فيهم السحرة، ولا الكهنة، ولا الكفرة، ولا المشعوذون ولا المشركون، لا يدخلون في المؤمنين ولا في الولاية، ولذلك فإن أهل العلم بينوا أنه ليس كل من طار في الهواء أو مشى على الماء يكون ولياً من أولياء الله تعالى، وبعض الصوفية -كما تقدم- ادعوا الكرامات، وألصقوا بأنفسهم أشياء كثيرة من هذا المقام، وكان بعضهم يقول: إن طائراً يحملني في كل ليلة ويدخلني الجنة، ومنهم من كان يدعي علم الغيب، ومنهم من يدعي أنه يذهب ويطوف بالكعبة ويرجع في ليلته، ومنهم من يدعي أنه سقطت عنه التكاليف، ومنهم من يأتي المزابل والنجاسات ويتمرغ بها، ويدعي أشياء من الأحكام الخاصة لنفسه، وقد زعموا للخضر أشياء كثيرة في مقابلاتهم له، وفي عصرنا بالغ بعض الناس الذين لا يحسنون معرفة الأسانيد ولا نقل الأخبار الصحيحة في إثبات قصص في بعض ميادين الجهاد للشهداء ليست بصحيحة بسبب اندفاعهم العاطفي، وعدم معرفتهم لمبدأ التثبت ونقل الأخبار، والتصديق بالشائعات والزيادة عليها، ولا ينكر أن لبعض الشهداء كرامات عند الله ولا شك، وأن بعض الشهداء من أولياء الله تعالى، ولكن فرق بين إمكان حصول شيء وبين وقوعه فعلاً.
وكذلك فإنه لا بد أن يعاد القول في ضوابط الكرامات(253/14)
الضابط في أصحاب الكرامات
أولاً: أن يكون صاحبها مؤمناً وتقياً.
وثانياً: ألا يدعي صاحبها الولاية، لا يقول: أنا ولي.
وكذلك أن يكون عالماً بالدين وبأحكام الشريعة، عارفاً بالله تعالى وليس جاهلاً، وأن يلازمه الخوف على نفسه، وألا يترك واجبات، ولا يفعل محرمات، وألا تكون الكرامة مخالفة لأمر من أمور الدين، فلو رأى في المنام شخصاً في صورة نبي أو ملك يقول له: قد أبحت لك الخمر، أو أسقطت عنك التكاليف ونحو ذلك فليعلم أنه شيطان.
وكذلك فإن منهم من يقول: إنني رأيت النبي عليه الصلاة والسلام في الحقيقة، وصافحته وأخرج يده لي من القبر، ونحو ذلك، فلا شك أن مثل هذا مخرف من المخرفين.
لقد وقعت حكايات لبعض السلف والعلماء تدل على وعيهم وفقههم، وعدم انطلاء حيلة الشيطان عليهم، فحكى عياض عن الفقيه أبي ميسرة المالكي أنه كان ليلة في محرابه يصلي ويدعو ويتضرع، وقد وجد رقة فإذا المحراب قد انشق وخرج منه نور عظيم، ثم بدا له وجه كالقمر يقول له: تملأ من وجهي -يا أبا ميسرة - فأنا ربك الأعلى، فبصق فيه وقال: اذهب يا لعين، عليك لعنة الله؛ لأنه يعلم أن الله لا يرى في الدنيا، وأن هذا لا بد أن يكون شيطاناً من الشياطين.
وكذلك ما يحكى عن عبد القادر الجيلاني رحمه الله أنه عطش عطشاً شديداً، فإذا سحابة قد أقبلت وأمطرت ونودي: يا فلان! أنا ربك أحللت لك المحرمات، فقال: اذهب يا لعين، فاضمحلت السحابة، فقيل له: بم عرفت أنه إبليس؟ قال: بقوله: قد أحللت لك المحرمات، فبذلك يعلم أن الكرامة التي تدعى وتكون مصادمة للشريعة ليست بكرامة.(253/15)
كرامات من الكتاب والسنة
لكن هل وقعت كرامات صحيحة في الكتاب والسنة وأخبار الصالحين؟
الجواب
نعم.
فمن ذلك ما أخبر الله تعالى عنه في القرآن الكريم، في سارة زوجة إبراهيم الخليل، قال الله عز وجل: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود:71 - 73].
فهذه المرأة سارة لا شك أنها من أولياء الله قد أكرمها الله بكرامة، وهي أنها حاضت وهي عجوز وولدت، مع أن بعلها شيخ كبير.
وكذلك الذي عنده علم من الكتاب في قصة سليمان عليه السلام وكان رجلاً مسلماً عالماً من الصالحين: {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} [النمل:40] قيل: إنه كاتب لسليمان كان عابداً عالماً من أولياء الله تعالى، وقيل: إنه كان يعلم اسم الله الأعظم، سأل الله به، فبصلاحه وبسؤاله أعطاه الله مطلوبه، ونقل ذلك العرش من اليمن إلى الشام بطرفة عين.
وكذلك من الكرمات التي وقعت: ما جاء عن مريم عليها السلام كما قال قتادة في قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} [آل عمران:37] قال: [حدثنا أنه كان تؤتى بفاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، فعجب من ذلك زكريا] وعلى أية حال كان عندها رزق في المحراب، وجود الرزق في المحراب: {أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:37] هذه كرامة بحد ذاتها ولا شك.
كذلك ما حصل للثلاثة (أصحاب الغار) لما دعوا الله تعالى بأعمالهم، فخرجت الصخرة من موضعها التي انطبقت عليهم فهي كذلك من كراماتهم.
وقصة الرجل الذي سمع صوتاً في سحابة، يقول: اسق حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب، فأفرغ ماءه في حرة، فالرجل تتبع السحاب ونظر أين نزل المطر في بستان، فجاء إلى صاحب البستان وسأله عن اسمه؟ فأخبره باسمه، فتطابق عنده الاسم الذي سمعه منه مع الاسم الذي سمعه من السحاب، فسأله عن قصته، فأخبره بأن هذه الأرض يأخذ ثلث ما يخرج منها فيتصدق به، ويأكل هو وعياله الثلث، ويرد الثلث زرعاً وإصلاحاً وبذراً ونحو ذلك.
كذلك من الكرامات الثابتة في السنة: الكرامة لـ جريج العابد الزاهد الذي كان يعبد الله في صومعة، فتسلطت عليه زانية فلما أبى أن يستجيب لها أتت راعياً فأمكنته من نفسها، فلما حملت ووضعت اتهمت جريجاً أنه الذي فجر بها، فجاء بنو إسرائيل في عهده فكسروا صومعته بالفئوس والمساحي، ثم لما رأى ذلك مسح رأس الصبي وقال: من أبوك؟ فقال: أبي راعي الضأن، فبهتوا عند ذلك وأرادوا أن يبنوها له ذهباً أو فضة، فقال: أعيدوها طيناً كما كانت.
وكذلك سارة حصل لها موقف آخر -زوجة إبراهيم الخليل- لما أخذها الجبار، وأرد أن يؤذيها ويأخذها بالحرام، فأصابه الله بالشلل، فقال: سلِ الله أن يطلق يدي ولا أضرك، ففعلت، فانطلقت يده، فعاد فقبضت يده، ثلاث مرات، حتى قال لمن معه: إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان، وأعطاها هاجر خادمة لها، وخلَّى سبيلها.
وكذلك ما حصل من الرجل صاحب الخشبة الذي أعيته الأمور في الرجوع إلى صاحبه لرد الدين في الوقت المحدد، فأخذ خشبة ونقرها فجعل فيها المال، وألقاها في الماء، ثم جاء إلى صاحبه بعد ذلك، فقال له صاحبه: إن الله قد أدى عنك الذي بعثت به في الخشبة، فانصرف بمالك راشداً.
هذا بعض ما حصل لمن قبلنا.(253/16)
كرامات حدثت للصحابة
أما ما حصل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، فقد كان لأصحابه كرامات، فمثل أسيد بن حضير وعباد بن بشر كانا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة ظلماء حندس؛ -يعني: شديدة الظلمة- فلما خرجا أضاءت عصا أحدهما فجعلا يمشيان بضوئها، فلما تفرقا أضاءت عصا الآخر.
وهذا الحديث صحيح.
جاء عن أنس (أن أسيد بن حضير الأنصاري ورجل آخر من الأنصار تحدثا عند النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة لهما، حتى ذهب من الليل ساعة، وليلة شديدة الظلمة، ثم خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقلبان؛ أي: يرجعان إلى البيت وبيد كل واحد منهما عصية، فأضاءت عصا أحدهما لهما حتى مشيا في ضوئها، حتى إذا افترقت لهما الطريق، كل واحد إلى بيته، أضاءت للآخر عصاه، فمشى كل واحد منهما في ضوء عصاه حتى بلغ أهله).
وفي رواية عن أنس: (أن رجلين خرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة، فإذا نور بين أيديهما حتى تفرقا، فتفرق النور معهما).
فهذه الأحاديث الصحيحة في كرامة بعض صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وأسيد بن حضير نفسه هو صاحب كرامة نزول الملائكة: (لما كان يقرأ سورة البقرة وفرس له مربوطة في زاوية البيت، ويحيى ولده مضطجع بجانبها، فجال الفرس جولة حتى خشي على ولده يحيى، فأمسك عن القراءة، ثم قرأ فجالت الفرس فرفع رأسه فإذا بشيء كهيئة الظلة فيها مصابيح، تقبل من السماء فهالني فسكت، قال أسيد: فلما أصبحت غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: اقرأ أبا يحيى، وهكذا ثلاث مرات، ثم قال عليه الصلاة والسلام: تلك الملائكة دنوا لصوتك، ولو قرأت حتى تصبح لأصبح الناس ينظرون إليهم).
وكذلك خبيب بن عدي لما أسروه بـ مكة، رأت امرأة من المشركين بين يديه قطفاً من عنب وما بـ مكة ثمرة، وإنه لموثق في الحديد.
وهذا الحديث أخرجه البخاري رحمه الله، فمن كرامات خبيب بن عدي أن الله عز وجل رزقه بهذا الرزق وهو موثق اليدين سجين في مكة ولا يوجد في مكة ثمرة من هذا العنب.
وكذلك قصة أويس القرني وما كان من كرامته في إجابة دعوته.
وكذلك كان لبعض السلف رحمهم الله تعالى كرامات من جهة إجابات دعوتهم.
وكان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه له كرامات في فراسته وصدق ظنه، ومن الكرامات المشهورة لـ عمر رضي الله عنه، أن عمرو بن العاص لما فتح مصر أتى أهلها إلى عمرو بن العاص حين دخل، شهر الأشهر العجم، قالوا: أيها الأمير! إن لنيلنا هذا سُنَّة لا يجري إلا بها، قال: وما ذاك؟ قالوا: إذا كان اثنتي عشر خلون من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر من أبويها، فأرضينا أبويها أي: أعطيناهم المال وأرضيناهم وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون ثم ألقيناها في هذا النيل، هذا لكي يفيض النيل، وإلا لا يفيض، فقال لهم عمرو: إن هذا مما لا يكون في الإسلام، إن الإسلام يهدم ما قبله، فأقاموا (بؤنة وأبين ومسرى) وهي أشهر كانت عندهم، والنيل لا يجري قليلاً ولا كثيراً، حتى هموا بالجلاء والذهاب من هذه الأرض، فلما رأى ذلك عمرو كتب إلى عمر بن الخطاب، فكتب عمر جواباً إلى عمرو بن العاص يقول فيه: إنك قد أصبت بالذي فعلت، وإن الإسلام يهدم ما قبله، وإني قد بعثت إليك ببطاقة داخل كتابي هذا، فألقها في النيل، فلما قدم كتاب عمر إلى عمرو أخذ البطاقة ففتحها، فإذا فيها من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر أما بعد: فإن كنت إنما تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك، قال: فألقى البطاقة، فلما ألقى البطاقة أصبحوا يوم السبت وقد أجراه الله ستة عشر ذراعاً في ليلة واحدة، وقطع الله تعالى تلك السنّة عن أهل مصر إلى اليوم، فلم يعودوا أبداً لإلقاء جارية في النيل، وهذه القصة سندها رجاله ثقات، وقد ذكرها الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة.
ومن كرامات عثمان رضي الله عنه الخليفة المقتول ظلماً أن جهجاه الغفاري أخذ عصا عثمان التي يتخصر بها فكسرها على ركبته، فوقعت في ركبته الآكلة؛ الآكلة مثل الدود، أكلت ركبته محل الموضع الذي كسر عصا عثمان عليه.
وهذا سنده رجاله ثقات أيضاً.
وكذلك سعد رضي الله عنه، فإنه كان مجاب الدعوة، ولذلك لما اتهمه رجل قال: أنه لا يعدل في الرعية، ولا يقسم بالسوية، ولا يغزو في السرية -أي: لا يخرج للجهاد- قال سعد: [اللهم إن كان كاذباً فأعم بصره، وعجل فقره، وأطل عمره، وعرضه للفتن]، قال الراوي: فما مات حتى عمي، قال: فكان يلتمس الجدران، وافتقر حتى سأل الناس، وأدرك فتنة المختار الكذاب فقتل فيها.
والقصة وردت في الصحيح، كيف أنه كان يغمز الجواري في الطرقات، ويتعرض للنساء في الشوارع، ويقول: مفتون أصابتني دعوة سعد.
وكذلك لما ظلمته امرأة في ادعاء أرض دعا عليها أن الله يعمي بصرها ويقتلها في أرضها، فأعمى الله بصرها ووقعت في بئر في أرضها فماتت.
وأما خالد بن الوليد رضي الله عنه، فإن من كراماته أنه لما كان في الحيرة، أتي له بسم فقال: ما هذا؟ فقالوا: سم ساعة، تأخذه من هنا وتموت، قال: باسم الله ثم ازدرده.
وسنده حسن.
وهذه القصة قيل: إنها وردت في تحدٍ حصل بين خالد وأحد المشركين، أو أحد الكفار النصارى، وأن خالداً قد شربه توكلاً على الله تعالى لإظهار اليقين لهم، ولم يضره ذلك.
وعمران بن حصين جاء في الأحاديث الصحيحة: (أن الملائكة كانت تسلم عليه) ثبت ذلك في صحيح مسلم، أن الملائكة كانت تسلم على عمران بن حصين.
وأما حجر بن عدي فإنه عبر مع جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نهر دجلة بلا سفينة بعد فتح القادسية حتى أن الفرس لما رأوهم يعبرون النهر من غير سفينة قالوا: دبوان، دبوان، أي: شياطين، شياطين، وهربوا، قال: فدخلنا عسكرهم، فوجدنا من الصفراء والبيضاء -يعني: من الذهب والفضة- وأصبنا أمثال الجبال من الكافور، وأصبنا بقراً فذبحناها فجعلناها في القدور، وأخذنا من ذلك الكافور ونحن نحسبه أنه ملح وطرحناه في اللحم، فلما أكلنا وجدناه مراً، فقلنا: ما أمر ملح الأعاجم.
فلم يدروا أنه كان كافوراً، لما رأوا هذه الكمية الكبيرة الهائلة، لم يتوقعوا ذلك.
ومن كرامات أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الثابتة قصة سفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم، لما ركب في البحر -سمي سفينة لأنه كان يحمل الأمتعة في الأسفار- فركب مرة في البحر فانكسرت، فركب لوحاً منها فطرحه في أجمة فيها أسد -ألقاه في غابة فيها أسد- فقال سفينة رضي الله عنه: يا أبا الحارث -وهي كنية الأسد عند العرب- يا أبا الحارث! أنا سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فطأطأ رأسه وجعل يدفعني بجنبه أو بكتفه حتى وضعني على الطريق، فلما وضعني على الطريق، همهم فظننت أنه يودعني.
رجاله ثقات.
وممن أثبته الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى في سير أعلام النبلاء.
وكذلك فإن زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها لما جيء لها بمال، أمرت أن يصب ويطرح عليه ثوب، ثم قالت للجارية: أدخلي يديك فاقبضي منه قبضة فادفعي بها إلى فلان، وإلى فلان، من أبنائها وذوي رحمها، فقسمته حتى بقيت منه بقية، فقالت لها برزة: غفر الله لكِ، والله لقد كان لنا في هذا حظ، أي: لو تركت لنا شيئاً، قالت: ولكم ما تحت الثوب، قالت: فرفعنا الثوب فوجدنا تحته خمسة وثمانين درهماً، وهذا مع أن المال كان أقل مما أنفقت لما طرح في البداية.(253/17)
كرامات حدثت للتابعين
وكذلك فإن السلف رحمهم الله تعالى كانت لهم كرامات مثل أبي مسلم الخولاني رحمه الله، كان إذا استسقى سقي، كان معروفاً بإجابة الدعاء في الاستسقاء، ولذلك فإنهم كانوا يخرجون به فيستسقي لهم، فيسقون.
وذكر كذلك من كرامات بعض جيوش المسلمين التي غزت القسطنطينية، كسرت بعض مراكبهم وألقاهم الموج على خشبة في البحر وكانوا خمسة أو ستة، قال: فأنبت الله لنا بعددنا ورقة لكل رجل منها، فكنا نمصها فتشبعنا وتروينا، فإذا أفنينا أنبت الله لنا مكانها أخرى حتى مر بنا مركب فحملنا.
ولا شك أن هذه الكرامات تدل على أن هناك من أولياء الله تعالى من يكرمه الله عز وجل بأن يخرق العادة له، ويكون في هذا كرامة له في الدنيا قبل الآخرة، وإلا فما عند الله لا شك أنه أبقى وأعلى، وقد ساق ابن رجب رحمه الله جزءاً من أخبار الكرامات التي حصلت لبعض السلف مما يدل على أن الكرامات ثابتة.
ومنها: أن أبا مسلم الخولاني رحمه الله مر به صبيان يطاردون ظبياً، فقالوا: ادعُ الله لنا أن يحبس لنا هذا الظبي، فيدعو الله حتى يمسكوه بأيديهم.
ودعا على امرأة أفسدت عشرة امرأة بذهاب بصرها فذهب بصرها في الحال، فجاءته فجعلت تناشده الله وتطلب إليه، فرحمها ودعا الله فرد عليها بصرها.
وكذلك وقع رجل في أبي هريرة رضي الله عنه، فنزلت حية من السقف -وهذه القصة التي قالها الحافظ الذهبي رحمه الله إسنادها كالشمس- تطرد وراءه كرامة لـ أبي هريرة بعد وفاته رضي الله عنه لما وقع فيه هذا الرجل بالسوء.
وهذه القصص الكثيرة والكثيرة جداً يؤخذ منها أيها الإخوة: أن الله تعالى يبشر أولياءه في الدنيا قبل الآخرة، والمهم أن الإنسان يسلك سبيل الولاية والصراط المستقيم، ومن الكتب المهمة في هذا الموضوع كتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، الذي كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو الموجود في المجلد الحادي عشر من مجموع الفتاوى، وأيضاً هو مطبوع مستقلاً.
ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل طاعته، وأن يرزقنا التمسك بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً.
والله تعالى أعلم.(253/18)
الأسئلة(253/19)
الصوفية وإنشاء الأضرحة
السؤال
الجهل يملأ قريتنا بسبب تغلغل الصوفية فيها لدرجة أنه في خلال ثلاث سنوات تم إنشاء أربعة أضرحة لمشايخهم كما يزعمون، وعندما ننصح أهل البلد يكون الرد: لا تحاربوا أولياء الله، ويستدلوا بالآية، وعندما نقف لهم بالمرصاد يهددوننا.
فما هو الحل مع هؤلاء المبتدعة؟
الجواب
طبعاً هؤلاء الصوفية درجات، أما نسبتهم فقيل إلى نسبة الصوف؛ لأنه كان شعار المتزهدين في ذلك الوقت، وقيل: إنه نسبة إلى الصحراء كما قال ذلك الشاعر:
فتى تصافى فصوفي حتى سمي الصوف
وقيل غير ذلك، ومهما كان الأمر فإن هذه الطريقة طريقة بدعية، فلم يكن صلى الله عليه وسلم صوفياً ولا أبو بكر ولا عمر ولا الخلفاء الأربعة ولا الصحابة وما كانوا متصوفة ولا صوفية، ولا كان عند الصحابة طريقة قادرية، ولا جيلانية، ولا طريقة عيدروسية، ولا طريقة بدوية ولا رافعية ولا شاذلية، فكل هذه الطرق التي ابتدعها هؤلاء المبتدعة، وأما الصوفية طبعاً درجات في الانحراف، فمنهم: الذين يكون بدعتهم في الأذكار، كأن يقيدوا أذكاراً بعدد معين ما ورد في السنة، أو بمكان معين أو بكيفية معينة ما وردت في الشريعة، فبدعتهم تقف عند حدود الأذكار، مثل: بعض الصلوات، يقولون: هذه الصلاة النارية، ويبتدعون في الصلوات أذكاراً معينة، أو في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يبتدعون في كيفيات معينة في الأذكار، ويتبعون أذكاراً معينة ويواصلون عليها وهذه الصمدية، ونحو ذلك مما يسمونه، أو مثلاً يذكرون الله بالاسم المفرد كأن يقولون: (الله، الله) (حي، حي، حي) أو (هو، هو، هو).
فهؤلاء قوم لا يعقلون، ولذلك فإن الذكر بالاسم المفرد بدعة من البدع، لا يوجد شيء اسمه ذكر باسم مفرد، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال (الله، الله، الله) يذكر الله هكذا، كما يقول بعضهم حتى المسجد يقول: الله، والجدار يقول: الله، وكل شيء يقول: الله، والأشجار تقول: الله، ويقول: ما ترى بعينك، يقول: الأشجار تقول: الله، والسماء والأرض تقولان: الله، ويسمع كل شيء، وربما يكون الشيطان فعلاً يسمعهم من هذا حتى يصدق فعلاً أن هذه طريقة، وربما يكون إحياءً نفسياً، وبعضهم يقول: جرب هذا الذكر، ويكتبوا: يا لطيف أربعة آلاف وأربعمائة وأربعة وأربعين مرة، ويقول: اذكر هذا ويقول: هذه وصفة وهذا وكان بعض أهل الدعوة والعلم في عصرنا وهو الشيخ محمد المصري رحمه الله قد سمع بأن أحد الصوفية يزعم أنه يوصل من يريد إلى الله عز وجل مباشرة، يجعله يتصل بالله، فذهب إليه، فقال: أنا سمعت أنك توصل من يريد بالله عز وجل؟ قال: طبعاً هذا أكيد، قال: وما هو المطلوب؟ قال: لا بد أن تجلس عندي أربعين يوماً، قال: أنا مستعجل وعلى سفر ولا يمكن، أنا أكثر شيء أستطيع أن أجلس عندك ثلاثة أيام، فالمهم في الأخير حتى لا يكون هذا ما عنده علاج، وافق له على ثلاثة أيام ثم أعطاه أشياء معينة، أذكاراً معينة، كتب له كتابة فيها البدعي وغير البدعي، وقال: هذه في ثلاثة أيام تواظب عليها في الأوقات الفلانية، وفي الظلمة وفي كذا، وتحت السنة لازم تحت السنة، قال: اكتب لي توقيعك عليها حتى لا يعارضني أحد في أن هذه الأذكار هي من عندك أنت شخصياً، فكتب له توقيعاً عليها، ثم جاءه بعد ثلاثة أيام فقال: ما حصل لي شيء، ما وصلت ولا أحد كلمني ولا فقال: أنت يمكن عندك قسوة قلب، أو أنك ما طبقت الوصفة كما ينبغي ونحو ذلك.
فقال: أشهد لله العظيم أنك كذاب، ومثل هؤلاء المقصود كان إثبات عجز هذا الرجل وغيره الذين يقولون أنه يوصل إلى الله تعالى مباشرة، أي: تكلم الله مباشرة، نعطيك أوصافاً وأوراداً وبعضهم كان يدعي الكرامات، واحد منهم كان يلقب بـ الحاروني كان يزعم أنه يتصل بالله، بذكر يرفع السماعة ويكلم فيه، وبعضهم يقول: أن الشيخ الفلاني ضرب الشيخ الفلاني من دمشق إلى بغداد بالحذاء، بينهم ثأر فضربه من هناك.
وبعضهم طبعاً يزعم أنه من أهل الخطوة، وأنه ينتقل من بلد إلى بلد، المسافات الشاسعة، لكن فعلاً قد ثبت لدى شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره أن بعض هؤلاء فعلاً يذهبون إلى مكة بالاستعانة بالجن، يذهبون في ليلة من بلد بعيد ويرجعون، وربما حكوا قالوا: رأينا كذا ورأينا كذا، وقال شيخ الإسلام رحمه الله: ومن منكراتهم: أنهم يمرون بالميقات ولا يحرمون منه، الجني لا ينزل في الميقات يحرم، فيأخذه مباشرة.
فهؤلاء كما قلنا بدعهم في الأذكار، وبعضهم بدعهم تصل إلى الشرك وادعاء الكرامات والكفر، ووحدة الوجود، وكان بعضهم يقول: كل ما ترى بعينك فهو الله، ليس في الجبة إلا الله، فرعون كان محقاً لما قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] لكن موسى ما فطن لها؛ لأن كل شيء في هذه الدنيا جزء من الله، تعالى الله عن قولهم.
المهم هؤلاء الذين يعملون الأضرحة، هؤلاء طبعاً يؤلهون أصحاب الأضرحة، أي: يثبتون لهم أشياء من التوحيد التي لا تجوز إلا لله، مثل: طلب شفاء المريض، مثل: طلب الزرق، طلب نزول المطر، إذا قحطوا قالوا: عليكم بقبر البدوي، قبر أبي العباس المرسي يعني: مجرب ونافع، وقبر فلان لكذا، وهذه المرأة التي لا تحمل تحمل إذا جاءت عنده، وبعض هؤلاء المشركين كان لهم بدعاً قبيحة، وبعض هؤلاء الذين في الأضرحة على ثلاثة أقسام: إما أناس من أهل التوحيد الذين لا يرضون هذا المنكر أبداً كما عبدت النصارى المسيح والمسيح منهم براء، ومن هؤلاء الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله تعالى، وهذا من أئمة أهل السنة.
وذكر فضله شيخ الإسلام رحمه الله وأثنى عليه، فـ عبد القادر من أئمة أهل السنة لكن الناس غلوا فيه حتى جعلوه إلهاً بعد موته يطلبون منه شفاء المرض، ويطلبون منه المغفرة، ويطلبون منه الشفاعة عند الله، وغير ذلك.
وكما فعل الغلاة بـ الحسين، وكما فعلوا بـ زينب، وكما فعلوا بكذا، وحتى ما يفعله كثير من المشركين عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن المقبورين: من يكون من المشركين الكفار، ولكنهم ألهوهم وجعلوهم أولياء، مثل البدوي الذي كان تاركاً للصلاة، متعاطياً للخمور متعاطياً للمحرمات، وكان أيضاً والغاً في النجاسات؛ لأن بعض هؤلاء الرءوس كانوا لا يتنزهون من النجاسات، وربما لا يغتسلون، طبعاً اتصال برهبنة في النصارى، مسألة الصوفية اتصال بين النصارى والصوفية وموجودة، وصلة بين التصوف المنتشر كذلك قائمة وحقيقية، فبعض هؤلاء كانوا لا يصلون كـ البدوي وربما فعل الأشياء السخيفة كما حدث أنه مرة وقف على جدار فبال على الناس وهم يمشون في الطريق، فهموا به وأخذوه، قال: أنا مالكي، ونحن المالكية نقول: بول كل ما أكل لحمه فهو طاهر، قال: الناس يغتابوني، أي: يأكلون لحمي، إذاً بولي طاهر.
ولذلك فإن مثل هذا الرجل الذي يطاف عند قبره بالملايين في السنة، وربما يذبحون، يطوفون بالقبر ويحلقون الشعر ويذبحون الذبيحة، ويأتون من القرية ببقرة يذبحونها عنده، فهؤلاء الذين ذكرهم يبنون المساجد على هذه الأضرحة ويجعلون لها سدنة.
النوع الثالث من الذين في القبور: من الدواب، حمار أو كلب أو تيس، يدفنونه مثلما يفعل بعضهم في فتح باب رزق بالنسبة له، كما حصل لأحدهم أنه دفن حماراً ثم هب إلى القرية يقول: الولي فلان مات وأوصاني بقبره، وقد دفنته، وجاءوا إلى القبر وجعلوه هو المسئول عن هذا القبر وما يأتي إليه من أموال.
إذاً هؤلاء الناس ماذا يفعل الإنسان بهم؟ إن كان له سلطة أنكر المنكر بيده، وإن لم يكن له سلطة فليس إلا المناصحة وإقامة الحجة والبيان، فإن لم يستطع أنكر بقلبه، وشكى أمره إلى الله تعالى، وحاول أنه يدعو من الناس من يرجى فيهم التقبل؛ لأن بعضهم إذا دعاهم كادوه وضيقوا عليه، يدعو من يرجو فيهم التقبل، حتى إذا زادوا كان هناك تياراً يحارب هذه الشركيات.(253/20)
حكم احتساب ما يدفعه للمكوس على أنه زكاة
السؤال
ما حكم احتساب ما يدفعه للمكوس على أنه من الزكاة؟
الجواب
هذا لا يجوز، وليس بصحيح أنه يدفعه؛ لأنه لم يدفعه إلى أحد من الأصناف الثمانية، فإن الله قال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} [التوبة:60] أسلوب حصر: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] فإذا جعلت للمكوس فلا يكون قد أدى الزكاة إلى أهلها، وكذلك لا يجوز أن يستفيد من الربا لدفع المكوس أو الضريبة؛ لأن الربا لا يجوز الاستفادة منه ولو في دفع الشر عن نفسه.(253/21)
جعل الدين زكاة على المدين
السؤال
له دين عند فقير ولا يستطيع أن يرد الدائن عليه.
فهل يجوز اعتبار ذلك من الزكاة؟
الجواب
لا يجوز إسقاط الدين للزكاة، واحتساب الزكاة من الدين المعدوم؛ لأن هذا مال لا يرجى عودته، فيفتدي نفسه وماله بالزكاة ويقول: أسقطه عنك مقابل الزكاة، لا يجوز فإنه مال رديء، قال الله: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267] لا تأخذ تمراً رديئاً، تمراً فيه سوس إلا على كراهية وعلى إغماض منك إذا أخذته، فكيف تجعل هذا المال الرديء الشبه معدوم زكاة؟ ثم أنت لما أعطيته المال، أعطيته بأي نية؟ أعطيته بنية قرض، فكيف الآن تجعلها زكاة؟! ولا بد للزكاة من نية عند الإعطاء، ثم إن الله قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] فهي صدقة تأخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(253/22)
مهلا أيها الزوجان!
هذه رسالة إلى كل زوج وزوجة فيها حلول كثير من المشاكل الزوجية، وقد ضُمنت عدة أسباب للمشاكل الزوجية منها: الإهمال وعدم الإحساس بالمسئولية حب التسلط سوء الظن الرتابة في الحياة، وكذلك تدخل الأقارب والجيران بين الزوجين بغرض الإفساد إلخ.(254/1)
مقدمة عن المشاكل الزوجية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فأحييكم -إخواني- بتحية الإسلام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ونقول في مطلع هذا الدرس: الحمد لله الذي جعل لنا من أنفسنا أزواجاً لنسكن إليها وجعل بيننا مودة ورحمة، هذا الزواج الذي هو نعمة من الله سبحانه وتعالى أنعم بها على عباده يحصل من ورائها منافع عظيمة ومصالح جمة، ولولاه لوقع الناس في حرج عظيم، بل لربما هلك الجنس البشري بدون هذا الزواج، والله الذي خلق الرجل وخلق المرأة وهو أعلم بهما سبحانه وتعالى شرع هذا الزواج وأمر به وحث عليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج وعلم الأمة أحكام الزواج وآدابه.
سبق لنا -أيها الإخوة- أن تكلمنا في محاضرة سابقة بعنوان: رسالة عاجلة في المشكلات الزوجية عن نصف هذا الموضوع أو عن جزء منه، ونحن نريد أن نكمل -إن شاء الله- هذا الموضوع في هذا الدرس؛ ولأن الموضوع يتكلم عن المشكلات وعما يحدث بين الزوج وزوجته من الأمور التي تعكر صفو الحياة الزوجية ويحدث بسببها شقاء عظيم قلنا: مهلاً أيها الزوجان! ليقف كل واحد منهما متأملاً متدبراً حياته وعيشته مع الطرف الآخر، ويقف وقفة تصحيح وتأمل في وضعه مع زوجته، وتقف الزوجة موضع تصحيح وتأمل لوضعها مع زوجها، ولعل كل واحد إذا سمع عن شيء من المشكلات في هذا الدرس ليست عنده ولا يعاني منها فليحمد الله على العافية، ويسأل الله المزيد من فضله.
فإنكم ربما تسمعون -أيها الإخوة- من غرائب الأحداث والأخبار التي تحصل في المجتمع والتي نريد أن نذكرها ونقف عندها ونلقي مزيداً من الضوء عليها؛ لأن المشكلات موجودة بالفعل ولأن هذه المشكلات من الخطورة بحيث تهدد كيان هذا المجتمع.
وكثرة حوادث الطلاق وتفشي الأخبار السيئة عن هذا الموضوع هو الذي يجعل لزاماً تكرار الكلام فيه وبسط الكلام والتوسع من أجل لمس الأوتار الحساسة في هذه القضية.
فقد تكلمنا في المحاضرة الماضية الجزء الأول عن أمور منها: الموقف من الزوج الكافر المستهزئ بدين الله التارك لفرائض الله الذي يرتكب الفواحش، ومسألة الخيانات، والزوج الذي يقاوم الخير، والزوجة الفاسقة الفاجرة في المقابل، وتكلمنا عن المراحل التي تمر بها العلاقة الزوجية وعن بعض المشكلات مثل: معايرة الزوجة والسب والشتم وقضية العناد والزوج البخيل والمرأة الجبانة وهكذا من المشكلات إنما كان هذا تلخيصاً لبعض النقاط التي أوردناها في المرة الماضية.
ونقول إجابة على سؤال طرح في المحاضرة الماضية ما هو الموقف من الزوج الفاجر؟ أما الزوج الكافر فلا يجوز للمرأة المسلمة أن تبقى معه أبداً، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10].
وأما الزوج الفاجر الذي يرتكب الكبائر وتسبب هذه الكبائر مشكلات كثيرة للزوجة وشقاءً ونكداً وتعاسة، فإن المرأة تضطر للموازنة بين الأمور ومعرفة المصالح والمفاسد للتقرير في استمرارها مع هذا الرجل الفاجر من عدم الاستمرار، فقد تضطر المرأة لاحتمال أدنى الضررين من أجل درء مفسدة أكبر، هب أن امرأة -مثلاً- اكتشفت أن زوجها له علاقة بالهاتف -مثلاً- ببعض النسوة وعندها منه أولاد، وهذا الرجل بفجوره ينغص حياة زوجته، ولكن هذه المرأة قد توازن فترى أن تركها لزوجها قد يوقعه في فواحش وأن معصيته الآن قد وصلت إلى درجة معينة وقد تزداد سوءاً لو فارقته، وأن الأولاد من جهة أخرى قد يضيعون، ومهما حاولت فيه لم تر تحسناً فماذا تفعل؟ فنقول: ربما كان صبرها عليه ودعائها له مع البلية التي فيه هو أخف الضررين، ومع الألم النفسي الذي يعتري المرأة من سماع أحاديثه وفسقه وفجوره، وهو يواعد هذه ويتكلم مع هذه ويطلب من هذه أن تخرج معه، إن هذا الوضع يشكل ضغطاً نفسياً كبيراً على المرأة ولكن ماذا تفعل؟ وقد يكون السبب أنها انتقلت من بيت دين وخير إلى رجل لم يسألوا عنه ولم يتحروا، فاكتشفت بعد سنوات من الزواج وبعد أن أنجبت أولاداً وبناتاً أن له علاقات معينة، وقد يظلمها ويضربها ولا تطيقه.
وهذه امرأة تشتكي من وجع يدها من الضرب ثلاثة أشهر وهي تتحسر ولكن ماذا تملك أن تفعل والمرأة ضعيفة في الغالب، فهذا جواب سريع على السؤال الذي طرح في المرة الماضية عن الموقف من الرجل الفاجر.
وأما المشكلات التي سنتكلم عنها في هذه الليلة فإن النظر في أنواع المشكلات يرجعها إلى أسباب عدة: فمن الأسباب ما يكون في الزوج والزوجة داخلياً مثل: أولاً: الإهمال وعدم الإحساس بالمسئولية.
ثانياً: التسلط.
ثالثاً: التدخل فيما لا يعني.
رابعاً: سوء الظن.
خامساً: عدم التوافق النفسي.
سادساً: اعتقادات فاسدة.
سابعاً: وسوسة.
ثامناً: فارق التعليم.
تاسعاً: فارق الطبقة الاجتماعية.
عاشراً: عدم القناعة بالأمور المادية.
الحادي عشر: الغيرة المذمومة.
الثاني عشر: الرتابة في الحياة.
الثالث عشر: عدم الصراحة والصدق.
الرابع عشر: فارق السن.
وهناك عوامل خارجية تسبب المشكلات، مثل: أولاً: تدخل الأقارب.
ثانياً: تأثير الجيران.
ثالثاً: الأفلام والمجلات.
رابعاً: الجلسات المختلطة المحرمة.
فهذه بعض العوامل الأخرى التي تسبب المشكلات الزوجية.
وسنضرب لكل واحدٍ من هذه العوامل بأمثلة، ونضيف إليها أيضاً من العوامل: الأول: عدم معرفة الشخص الصحيح الذي يلجأ إليه عند حصول الإشكالات، فيتم الذهاب إلى العرافين والدجالين والسحرة الذين يسرقون أموال الناس وينهبونها، ويغفل عن دور المصلحين والدعاة وأئمة المساجد وغيرهم من طلبة العلم في دورهم في فض مثل هذه المنازعات.(254/2)
الإهمال وعدم الإحساس بالمسئولية من قبل الزوجين
ونبدأ مستعينين بالله تعالى في تبيان أمثلة لهذه المشكلات وما هي النصائح فيها.
تقول امرأة: زوجي يعمل أعمالاً حرة ولا يرجع أحياناً إلا في الساعة الثالثة أو الرابعة ليلاً، ولا يأتي على وجبة الغداء ولا نراه إلا نادراً، ونصحته، فقال: هذا شغلي، فإذا أردتني هكذا وإلا مع السلامة، وهي تقول له: انتبه لأهلك ولأولادك أنا امرأة شابة، إذا مرض الولد ماذا أفعل هل آخذه بسيارة الأجرة لوحدي؟ وهو مع ذلك مهمل في البيت، وتقول: إن بإمكاني أن أطلب الطلاق ولكن ماذا يفعل أطفالي؟ كم إجازة تأتي وتذهب ولم أر أهلي، وإذا ذهبت إلى أهلي فترة لا يسأل عني ولا يأتي لأخذي، وأقول له وأنصحه: نظم وقتك وانتبه لنا ولا أقول لك لا تعمل ولكن بالحدود؛ ولا فائدة.
فنقول: هذه المشكلة واضح فيها جانب الإهمال وإن على هذا الزوج أن يتقي الله سبحانه وتعالى في زوجته وأن يعلم بأن هذه المشاغل الدنيوية لن تنفعه عند الله يوم القيامة ما دام على هذا التفريط في حق زوجته، وأنه ينبغي لمثل هؤلاء الأشخاص هزة قوية توقظهم من غفلتهم وسباتهم.
وهذه حالة مشابهة: امرأة تقول: لا يهتم بي ولا بابنتي لا يسأل عنا، كل يوم مع أصحابه من الشباب، وربما يحضر حلقات علم -يعني: فيه خير- ويقرأ ويطلع، ولكن معاملته مع الناس غير معاملته معي، بعد زواجنا ذهبنا للعمرة فأخذت عمرة لإحدى قريباتي ولا زال يعيرني بها إلى الآن، هو متدين في نفسه ولكن معاملته شيء آخر، يسجل كل أخطائي ولا ينسى منها شيئاً، أقول له في الإجازة: خذنا مكاناً للترويح أو للعمرة فيرفض، ضربني ثلاث مرات وهو يعلم أنني حامل في الشهر الثاني، وسوء معاملته تزداد ويأخذني إلى أهلي يوماً كاملاً يرميني عندهم، وبعد يومين يرجع لأخذي، وكلما أرجعني أبي إليه أعادني وتركني عند أهلي، ولا يسأل عن ابنته بالأيام إذا صارت عند أهلي، ويترك الناس يصرفون على العائلة، وربما فضحني وتكلم عني ونقل الكلام لأهله، ولا يريد بيتاً ولا يتحمل مسئولية، ويعيش مع أهله الآن تاركاً لي عند أهلي ولا يسأل عن بنته.
وربما تهدد أبي وقال: لولا أن المحاكم مقفلة في العطلة لكان لي معكم شأن آخر، وربما نصحه أهله ولكنه لا يستجيب -وهي حامل الآن- وتقول: هل يجوز لي الإجهاض مع هذه الحالة التي أنا فيها.
مرة أخرى نقول: إن بعض الناس يظنون أن التدين في جوانب معينة، كأن يكون محافظاً على الصلوات، ملتزماً بالسنن، له أصحاب طيبون وربما يمارس الدعوة إلى الله ويطلب العلم، ولكن الدين -أيها الإخوة- لا بد أن يشمل الجوانب الأخرى الحساسة في الحياة، لابد أن يدخل الدين بنوره وهداه وأحكامه إلى البيت وإلى العلاقة بين الزوجين، وإلى تربية الأولاد وإلى الاهتمام بالأسرة، أما أن يكون مظهراً التدين خارج البيت فإذا رجع انقلب وحشاً كاسراً، أو رجلاً مهملاً شريراً، فهذا ليس من الدين في شيء.
فنقص التصور عن الدين ونقص التصور عن وجوب دخول الدين والإسلام في كل صغيرة وكبيرة هو الذي يُبرز لنا هذه المشكلات، ومثل هؤلاء يحتاجون إلى تذكير بالله، وتبيان بأن هذا ظلم والله لا يحب الظلم ولا يرضى به، وربما محقت سيئات عمله هذا كثيراً من أعماله الحسنة التي يعملها خارج البيت.
ونذكِّر هنا باعتنائه صلى الله عليه وسلم بأهله، وكيف كان وضعه عليه الصلاة والسلام داخل البيت، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل هو وزوجته كما جاء في صحيح البخاري وصحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء بيني وبينه تختلف أيدينا عليه، فيبادرني حتى أقول دع لي دع لي، قالت: وهما جنبان) فكان يداعب زوجته صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل معها في أعمق مكان في البيت وفي أخص شيء، ولا زالت العلاقة موجودة بهذه اللطافة وهذا الحسن في المعاشرة، ضرب لنا مثلاً صلى الله عليه وسلم بحياته، فهلا تأسينا به! ومن أسباب المشكلات كذلك: إهمال الزوج الإصلاحات داخل البيت، فيترتب على ذلك أمور كثيرة من نقص الأشياء المهمة والحاجية وحصول ضيق في العيش بسبب عدم إقدام الرجل على تفقد ما ينقص البيت، وربما جلست ورقة الأغراض في جيبه أياماً ولا يحرك ساكناً، وربما تعطلت أشياء تحتاج إلى إصلاح وهو لا يأتي بمن يصلحها.
وهذا لا شك أنه يسبب ضيقاً للزوجة التي تعمل في البيت وتتعطل عندها الأشياء، فكيف إذا كانت الأشياء تسبب روائح كريهة ونحو ذلك من الأمور التي لا تطاق، والزوج خارج البيت يتنقل والزوجة تعاني من هذه المشكلات.
وفي المقابل يوجد زوجات ذوات طلبات كثيرة مرهقة للزوج ومزعجة، مرهقة مالياً وجسدياً، فنقول لهؤلاء النساء: اتقين الله سبحانه وتعالى في أزواجكن، ولا تكلف امرأة منكن زوجها مالا يطيق، وإن هذا من الأمور التي تخالف واجب المرأة نحو زوجها، ولنأخذ مثالاً: رجل يعود إلى البيت بعد العمل منهكاً متعباً يريد الراحة ويصعد الدرجات، فإذا بزوجته تقول له: انزل ينقصنا حزمة من الشيء الفلاني، مع أن حسن التصرف يقتضي أن تعد المرأة ما يحتاج إليه البيت وما يحتاج إليه الطعام حتى يأتي بها الرجل في أثناء عودته، أو تتصل به لتخبره بدلاً من أن تنزله أكثر من مرة أحياناً ليشتري الأشياء وقد جاء في حينه من العمل، وهذه من الأمور التي تسبب التضايق، نعم.
قد يحدث ذلك أحياناً، ولكن إذا تكرر دائماً بحيث ينزل الرجل ويشتري الأغراض وهو في مثل هذه الحال فهذا يكون شيئاً مزعجاً.(254/3)
عدم توفير حاجات البيت
ومن المشكلات أيضاً التي تنتج عن الإهمال وعدم الشعور بالمسئولية، هذه حالة امرأة لا يوفر لها زوجها الطعام في البيت وقد ينام الأولاد على جوع والزوجة توفر من مالها الخاص لشراء الحاجيات ولا يوجد صابون ولا غسيل ولا منظف ولا ملابس كافية للأطفال ولا يشتري للطفل إلا حذاء واحداً في فترة طويلة، وقد تكبر قدم الطفل ويحتاج إلى حذاء ولا يوجد له حذاء، وهو لا يربي أولاده ولا يراقبهم، يأكل ويذهب للعمل وهي تخرج إلى الشارع لمراقبة الأولاد والبحث عنهم، وقد يمنعها الطبيب من الوقاع لمرض أثناء الحمل وهو يرغمها على ذلك ولا يراعي ظرفها الصحي، ويقول لها: إن الملائكة تلعنك، تمشي في البيت ودمعتها على خدها ويقول لها مُهيناً هاتي حذائي وهو تحته، وإذا طلب منها كأس ماء فلا بد لها أن تقف طيلة الوقت حتى يشرب هو من باب الإذلال، وكيف يكون لهذه المرأة نفسية أن تتزين لزوجها، وهذا الإهمال قد يتعدى إلى صحة المرأة، فقد تحتاج إلى عمليات جراحية أو أخذ إلى الطبيبة ونحو ذلك وهو لا يفعل، ومع ذلك يتهددها بالزواج بأخرى، ويقول: أنت امرأة عاقة وعاصية لا تعملين في البيت ولا تقضين الحاجات، وتنعكس هذه المشاكل على الأطفال.
وهذا مثل واقعي آخر لما ينتجه الإهمال، إنها مخالفة صريحة لقوله صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) فهل يكون هذا الزوج متقياً لله سبحانه تعالى وعنده خير لزوجته وهو يتعامل مثل هذا التعامل؟ وماذا يكون الوضع؟ من الأشياء التي تسببها المشكلات الزوجية وسوء المعاملة من قبل الزوج: إعطاء فكرة سيئة عن أهل الدين إذا كان هو ممن ينتسب إلى التدين، فماذا يقول أهل زوجته عندما يرونه -مثلاً- يرميها عندهم ويأخذ نقودها إذا كانت موظفة وربما يتهمها في عرضها وهذا أمر خطير جداً وقذف وأنتم تعلمون حد القذف في الشريعة، وإذا جاءته للتفاهم قال: اذهبي أنا لا أتفاهم معك أنا أتفاهم مع أبيك، وإذا جاء أبوها قال للأب: هذا شيء خصني ما دخلك أنت بيني وبين زوجتي، فلا هو يتفاهم معها ولا هو يتفاهم مع أبيها، وتبقى المسكينة معلقة.
فأقول: إن مثل هذه الحالة تسبب ولا شك أخذاً سيئاً لفكرة لا تليق أبداً على المتمسك بدينه، ويحق للناس أن يتكلموا عند ذلك في أشياء، وربما كان هذا الرجل من الذين يصدون عن سبيل الله.(254/4)
الجفاف والغلظة في معاملة الزوجة
وبعض الأزواج يطلب من زوجته عمل المستحيل، فقد يكون ليس له إلا ثوب واحد وبقية ملابسه في الغسيل مثلاً وهو يطلب منها أن يكون هذا الثوب جاهزاً ونظيفاً مع أنه يلبسه هو، وقد يكون من النوع البخيل الذي لا يشتري لنفسه ثياباً، فماذا تفعل المسكينة من أجل إرضائه؟ وبعض الزوجات قد تريد أن تضحك في وجه زوجها أو تلاطفه ولكن سوء المعاملة لا يساعدها على ذلك، وربما اضطرت أن تستخدم حاجيات أختها لعدم توفير الحاجات لها.
والجفاف والغلظة في المعاملة الزوجية لا ترضاه الشريعة أبداً، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الله إذا أراد بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق، والجفاءُ والغلظةُ ينافيان الرفق، وكون الرجل يغلظ تشبهاً بأبيه أحيانا، فبعض الرجال يغلظ مع زوجته، يقول: هكذا يفعل أبي في البيت، فيفعل مثله، فهل كون أبيه قاسياً مع أمه يتعامل معها بغلاظة، هل يكون مبرراً لأن يقلده الولد في المعاملة مع زوجته؟ هذا لعمر الله من التقليد الأعمى المضر: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] وهذا سبب آخر من الأسباب التي تؤدي إلى تفاقم المشكلات الزوجية.
كون الرجل ليس عنده اهتمام بالأطفال فلا يأخذهم في نزهة ولا في ترويح مباح مما يضايق الزوجة ويضايق الأطفال.
ومن المشكلات الأخرى أن يكون الرجل قد نُزعت منه الرحمة تجاه زوجته وأولاده، فقد يهينها أمام الناس، بل في السوق والشارع، وقد يضربها وهي حامل، وهذا رجل وقع بينه وبين زوجته خلاف فطردها من البيت الساعة الثانية عشرة ليلا، توسلت إليه وقبلت رجله دون فائدة، مع أنها قد أحسنت إليه وساعدته في شراء أثاث للبيت وسيارة له، وربما باعت ذهبها من أجله ولكنه لا يقدر ذلك.
وتوفير الأشياء ينبغي أن يكون باقتصاد، فإن الاقتصاد من النبوة، بعض النساء -مثلاً- تهتم بالتموين في البيت وقبل أن تنفذ الأغراض بقليل تطلب أشياء، وهذه حكمة فإنه ليس من الصحيح أن تنتظر دائماً حتى ينتهي كل شيء ثم تطلب، ويتأخر هو في الطلب ثم يعاني البيت من نقص أشياء، فلا ينبغي للزوج عند ذلك أن يقول لها مثلاً: الشيء موجود عندك، صحيح عندها ولكن الذي عندها لا يكفيها إلا فترة قليلة، فينبغي أن يراعي ذلك، وفي المقابل لا تكون هي من النوع الذي يكثر الطلبات وربما تفسد الأشياء في البيت وهي لا تحسن حفظها ولا طهيها ولا تخزينها، وعدم اكتراث الرجل بالأشياء التي يحتاج إليها بيته كأن يقول: نسيت، لا تكلميني الآن، لا شك أن هذه الأمور منافية للمعروف الذي أمر الله به في المعاشرة فقال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19].
وبعض الزوجات قد تضطر إلى الذهاب إلى الجيران لاستلاف الأشياء وهذا أمر سيئ، وماذا يقول الجيران عن صاحب البيت الآخر، وبعض الجيران من مضايقتهم لجيرانهم يستلفون منهم كل شيء (يعني: ابتداءً من إلى) تدق الباب عندكم طماط؟ نعم.
دق الباب: عندكم خبز؟ نعم.
عندكم كذا؟ عندكم كذا؟ ما هو السبب؟ قد يكون السبب سوء إتيان الرجل بأغراضه إلى البيت، وقد يكون السبب طبعاً سيئاً في هؤلاء الناس أنهم يريدون الاعتماد على الآخرين، الرسول صلى الله عليه وسلم علَّم أصحابه أنه لو سقط سوط أحدهم من يده ألا يقول للآخر ناولني إياه، كلما كان الرجل في استغناء عن الناس كلما كان في عز، وفي مكانة محفوظة ومحترمة أكثر.(254/5)
تسريب الأسرار البيتية إلى الخارج
ومن المشكلات المتعلقة بالحياة الزوجية: تسريب الأسرار البيتية إلى الخارج، بعض الناس علاقتهم بإخوانهم أخص من علاقتهم بزوجاتهم، وهذا ليس عليه انتقاد في الظاهر وفي المبدأ، لكن في الأمور الداخلية يجب أن تبقى علاقة الرجل بالرجل كرجل، وعلاقته بزوجته شيء آخر، فلا يصح أن ينشر بين الرجال أو يخبر شخصاً من الأشخاص دون مصلحة شرعية بما يحدث بينه وبين زوجته من أسرار الاستمتاع وغير ذلك، ولا يجوز لها هي أن تخبر أخواتها أو صديقاتها -مثلاً- ما يحدث بينها وبين زوجها من الخصوصيات وأسرار الاستمتاع كذلك، وهذا حرام، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام مرة وقال: (لعل رجلاً يدخل بيته ويستتر بستر الله؟ قالوا: نعم.
ثم لعله أن يأتي الناس فيخبرهم بما يقع بينه وبين زوجته، فسكتوا، وقال للنساء مثل ذلك فسكتن، فقامت امرأة على ركبتيها متطاولة ليسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إنهم ليتحدثون وإنهن ليتحدثن، فنهاهم صلى الله عليه وسلم أن يفعلوا، وأخبرهم أن مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانه في الطريق فقضى حاجته والناس ينظرون إليهما).
فأن يكون لك علاقة خاصة مع صديق أو أخ في الله فهذا لا يعني أن تسرب الأسرار الخاصة إليه وتخبره وتبوح له بكل شيء، لكن قد يضطر الرجل أن يسأل عالماً أو طالب علم عن شيء من هذه الأشياء الخاصة في مشكلة لا بد لها من حل، هذا لا بأس به، ولكن أن تأخذنا العلاقات الأخوية الفضفاضة بحيث أنها تستوعب كل شيء حتى القضايا الخاصة والمعلومات الدقيقة والأشياء الحساسة التي من المفترض أن تكون أسراراً، فهذا لا يجوز.(254/6)
التدخل فيما لا يعني
ومن المشكلات كذلك: عدم معرفة كل من الزوجين لحدوده ووظيفته، فبعض الناس مثلاً يقول: زوجتي شريكتي في الحياة إذاً لا يصح أن أخفي عليها أي شيء، فيخبرها بأسرار له، قد تكون بينه وبين أخ له مسلم، أو بينه وبين أهله لا يصح أن تطلع عليها هي، وهذا عكس الحالة الماضية، وفي هذه الحالة نقول له: إن أسرار المسلمين أمانة عندك فلا يجوز أن تسربها إلى زوجتك بحجة أنها شريكة في الحياة لا يصح أن يخفى عليها شيئاً، فلكل مقام مقال، ولكل حال التصرف المناسب فيه، فأحياناً قد يخبرها عن أمور مالية، إخبارها عنها يسبب مشكلة، وقد يقول واحد: لا بد أن أخبرها إلى أين أذهب دائماً، ومع من أجلس، وماذا أعرف، وماذا أقرأ، أن تخبرها ماذا تقرأ لا يضر، ولكن بعض الناس قد يتعدون ذلك ليخبر زوجته عن كل خصوصية حتى فيما يتعلق بزملائه وأصدقائه مما يسبب حرجاً لإخوانه في الله، ويسبب ثرثرة من المرأة فتخبر صديقاتها الذين لا يخبرهم أزواجهم في المقابل عن مثل هذه الأمور، فيرجع الزوجات إلى الأزواج، فيقلن: سمعنا من فلانة أنك تفعل كذا وكذا -ما شاء الله- ولماذا لم تخبرنا؟ والسبب أن زوجاً من الأزواج قد باح بأسرار أخيه.
نوضح الأمر بمثال: نفرض أن مجموعة من الناس اتفقوا على أن يقوموا بأمر معين من الأمور المتعلقة بطلب العلم على سبيل المثال، أو نشاط من نشاطات الدعوة إلى الله، اتفقوا على دعوة شخص أو على القيام بأمر من الأمور في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ليس من المناسب أن تعرف الزوجة كل تفصيل يتعلق بهذا الأمر، فيأتي واحد ويتوسع ويخبر زوجته بكل شيء يفعله، فهذه الزوجة تخبر صديقاتها، فتذهب صديقتها إلى زوجها فتقول: ما شاء الله! أنت تفعل كذا وكذا ونحن لا ندري، لماذا تخفي عنا؟ ولماذا تفعل كذا؟ وهذا الرجل من باب الإخلاص والرياء كتم المسألة ما أحب أن يقول لزوجته: والله أنا سأدعو فلاناً وفلاناً، وأنا أحفظ كذا وكذا، وأنا أقوم بكذا وكذا، من باب الإخلاص كتم الأمر، وصاحبه سرب القضية، فذهبت امرأته فأخبرت المرأة الأخرى فجاءت المرأة الأخرى لزوجها معاتبة.
مثلاً: هل كل ما فعل الزوج في الصدقات يرجع ويقول لزوجته: اليوم والله رأيت واحداً وتصدقت عليه، واليوم أنا فعلت كذا وكذا، لا.
في بعض العبادات تخفى حتى على الزوجات، وهناك بعض الأشياء ليس من المناسب إخفاؤها عن الزوجة أبدا، وما الذي يحدد ذلك؟ الحكمة التي ينبغي أن يتمتع بها الزوج وتتمتع بها الزوجة، وحتى الزوجة ليس من المناسب أن تخبر زوجها عن مشكلات عائلية موجودة عندها هي، فتخبر زوجها دائماً عن المشكلات التي تحدث بين أبيها وأمها، ليس من المناسب ذلك.
فإذاً يسأل العبد الله أن يرزقه الحكمة في مثل هذه الأمور، وبعض الزوجات تظن أنه بما أن زوجها لا بد أن يعلم أين تذهب هي ومع من تجلس، فهي كذلك لا بد أن تعلم أين يذهب هو بالضبط ومع من يجلس، وهذا قياس مع الفارق، فإن الزوج مسئوليته عن زوجته أكبر من مسئولية الزوجة عن زوجها، والزوج يحق له أن يعرف أشياء عن زوجته في ذهابها ومجيئها ليس بنفس الدرجة التي يحق لها هي أن تعرف عن زوجها؛ إلى أين ذهب وماذا يفعل بالضبط، فالرجل هو المسئول في البيت: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228] الرجل هو القوام: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:34] فلا يصح للمرأة أن تخلط وتقول: لماذا أنا أخبرك بما أفعل؟ وأنت يجب أن تخبرني بماذا تفعل، لماذا يجب أن أستأذنك في الخروج من البيت؟ وأنت استأذني في الخروج من البيت، هذه مهزلة، فهناك فارق بين الرجل والمرأة يجب أن يراعى، فالتي تعاند ولا تبلغ زوجها بهذه الحجة امرأة مخطئة، ينبغي أن تتقي الله سبحانه وتعالى وأن تخبره بما تريد أن تفعل.
ومن الأشياء التي تسبب مشكلات أيضاً: عدم مراعاة الأزواج مسألة إتيان الزوجة، فبعضهم إذا تزوج يريد أن يدخل بزوجته من أول يوم ليثبت أنه رجل، أو أن أهله يريدون هذا، وهذه المسكينة ما عمرها تعرفت برجل ولا جلست مع أجنبي، فيكون من الصعوبة بمكان فعل هذا الأمر، وعدم الحكمة فيه يؤدي إلى مشاكل، وربما إلى كره من أول يوم، يستمر الكره طيلة العمر ربما بسبب موقف حصل في أول يوم.(254/7)
أهمية استئذان الأبناء عند الدخول على الآباء
وأيضاً من الأشياء التي يخطئ بعض الأزواج في موضوع إتيان الزوجة فيها عدم تطبيق قول الله عز وجل: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور:58] هذه الثلاث المرات: بعد الفجر، ووقت القيلولة، وبعد العشاء وقت النوم، حتى لا يطلع الطفل على شيء لا يناسب أن يطلع عليه، فلا يجوز أن يهجم على مخدع أبيه وأمه ويدخل دون استئذان، هذا إذا كان مميزاً، أما الكبير فمفروغ منه، لكن الذي لم يبلغ الحلم، بعض الناس من سوئهم أنه ربما يأتي زوجته أمام أولاده المميزين، وربما أتاها في وقت الحيض، وربما أتاها في الدبر وملعون من أتى امرأته في دبرها، وربما أتاها في موضع لا يجوز أن يأتيها فيه أصلاً بسبب مشاهدة بعض الأفلام السيئة والهيئات الشاذة التي لا يجوز لرجل بحال أن يكون وضعه مع زوجته فيها هكذا، والسبب في ذلك تقليد الكفرة وعدم مراعاة حرمات الله عز وجل والنظر إلى ما لا يجوز من هذه الأشياء المنتشرة المرئية والمطبوعة التي سببت كثيراً من مشكلات الحياة الزوجية.(254/8)
عدم الاهتمام بالجانب التعبدي لكلا الزوجين
ومن الأمور المهمة أيضا: عدم متابعة الرجل لزوجته والعكس في القضايا التعبدية، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حث على متابعة الرجل لزوجته في قيام الليل والعكس، فقال: (رحم الله امرأً قام من الليل فأيقظ أهله فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فأيقظت زوجها فإن أبى، نضحت في وجهه الماء) إذا كان هذا في قيام الليل وهو سنة، فكيف يكون الحال في مسألة المتابعة في قضية الفرائض؟ هذه المسألة ينبغي أن تكون موجودة ويحصل بها اهتمام، بعض الأزواج يذهب إلى صلاة الفجر ويجلس في المسجد بعد الصلاة إلى طلوع الشمس ولم يوقظ زوجته إلى الصلاة.
وإنني أذكر بهذه المناسبة أنني سألت قبل فترة بسيطة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله عن هذه المسألة: رجل ذهب إلى المسجد لصلاة الفجر وبعد الصلاة قعد يذكر الله يريد أن ينتظر طلوع الشمس ليصلي ركعتين ويرجع بأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة كما هو الحديث الحسن في هذا الموضوع، فتذكر وهو جالس في المسجد أنه لم يوقظ زوجته لصلاة الفجر وأنها لم تستيقظ، فكان
السؤال
هل يأثم الرجل لو جلس وأكمل إلى ارتفاع الشمس وصلى ركعتين للأجر العظيم يأثم لو جلس؟ فقال الشيخ: نعم.
يأثم كيف لا وهو يضيع واجباً من أجل سنة؟ بعض النساء -المرأة بما جعل الله فيها من العطف والحنان- قد تقدم إرضاع الولد وتنظيفه إلى آخره على وقت الصلاة ولا تحس أحيانا.
كذلك بعض النساء تأخذها الرحمة بزوجها تقول: دعه جاء من العمل، جاء وقت صلاة العصر لابد أن يستيقظ ويصلي العصر ويذهب إلى المسجد، تقول: لا.
دعه ينام، مسكين مسيكين دعه ينام ولا يذهب إلى الصلاة، ولا يستيقظ إلى الصلاة وهذا خطأ، فإن الرحمة أن تأمره بالصلاة وليست الرحمة به أن تتركه ينام عن الصلاة.(254/9)
عدم مراعاة الزوج لمسألة النظافة الشخصية
ومن الأشياء التي تنغص وتكدر صفو الحياة الزوجية أيضاً: عدم مراعاة الزوج لمسألة النظافة الشخصية، فقد يأتي من العمل ورائحة العرق منبعثة من ثيابه وجسده، وبعد ذلك يريد زوجته في الفراش دون أن يتنظف ولا يغتسل ولا يتطيب ونحو ذلك، وقد تكون حاملاً أو فيها وحام وتتضايق من هذه الأشياء، وقد لا تستطيع مصارحته أو لا تجرؤ على أن تقول: قم وتنظف ومع ذلك يقول: أنت ستلعنك الملائكة، لكن هنا أمور لا بد من مراعاتها، فهذه أمثلة على مثل ذلك.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشتد عليه أن يرى منه الريح، أي: كان من أشد الأشياء عليه أن تشم منه الرائحة القذرة أو الوسخة أو الكريهة، كما ورد في الحديث الصحيح: (يشتد عليه أن يرى منه أثر الريح) أثر الريح يعني: الرائحة الكريهة، في العرق أو في الملابس والجسد ونحو ذلك.(254/10)
إجراءات الزوج التعسفية في عقوبة الزوجة
ومن الأشياء السيئة في العلاقة الزوجية: الإجراءات التعسفية في عقوبة الزوجة، كيف ذلك؟ هذا رجل إذا حصل خلاف بينه وبين زوجته يقول: اذهبي إلى غرفة نوم الأولاد بسرعة ولا أرى وجهك في الغرفة هنا، وتجلس يوماً يومين ثلاثة أسبوعاً أسبوعين وربما شهراً في غرفة الأولاد، هذا عنده عقاب، وإذا جاءت تسترضيه قال: ما الفائدة أنت دائماً تخطئين وتعتذرين، روحي مع السلامة، سبحان الله! أنت تريدها أن تشعر بالخطأ، فها قد شعرت بالخطأ الآن وجاءت تعتذر إليك وتسترضيك ثم تقول: ما الفائدة واذهبي؟ إذاً: متى ستقبل لها عذراً؟ ومتى ستنتهي هذه العقوبة؟ والله عز وجل لما قال للزوج: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34] ماذا قال في آخر الآية؟: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء:34] فإذا جاءت المرأة إليك طائعة وقالت لك: ماذا تريد، ونفذت كلامك، فهل بقي لك عذر أمام الله لكي تبغي عليها وتستمر في العقوبة معها بعد أن فعلت ما تريده لك؟ ومسألة التعسف والعنف: أريد أن أربيك، أريد أن أعلمكِ، والمرأة قد تكون في وضع من الحمل أو النفاس لا تطيق ذلك، إن هذا مخالف لقول الله عز وجل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] وبعض الأزواج قد يصل به السوء أو سلبيته في العقوبة أن يعاقب زوجته بمنعها من طاعات.
فأقول: أيها الزوج! إياك أن تعاقب زوجتك المستقيمة على خلاف بينكما بحرمانها من طاعات مثل جلسات العلم أو مركز تحفيظ القرآن، أو القراءة في كتب، أو سماع أشرطة، فهذه ليست عقوبات شرعية على الإطلاق، عاقبها كما أمر الله سبحانه وتعالى، لكن أن تحرمها من طاعات، لا.
إلا إذا كان قيامها بأمر من الطاعة يسبب تفويت طاعة أعلى من ذلك، فلنفرض أن زوجة -مثلاً- عندها حلقات علم بلا عدد، حلقة في الصباح وحلقة في المغرب وتحفيظ القرآن وهنا تدريس وعند جاراتها وعند كذا، وترتب على هذا في النهاية عدم القيام بحق الزوج وتضييع الأولاد، البيت غير مرتب الطعام غير جاهز الملابس غير نظيفة، ففي هذه الحالة لا بد أن الزوج يحد من نشاط زوجته ولو كان نشاطاً دعوياً؛ لأنه يترتب عليه من المفاسد تضييع أشياء أهم، والله عز وجل ما كلف المرأة أن تذهب داعية خارج البيت وتدور على بيوت الناس وتأمر وتنهى لا، وإنما عندها أولويات لا بد أن تقوم بها، فمن أولوياتها: القيام بحقوق الزوج الأولاد البيت، قد تطلب العلم في البيت، لا يلزم أن تحضر هنا وهنا وهنا وتذهب في هذه المحاضرات وهذه المراكز وهذه المناسبات وتلك الجلسات في البيوت، ليس مفروضاً عليها هذا، إن حصل فالحمد لله هذا شيء طيب بالحدود المعقولة، ولكن أنها تحضر كل مناسبة ويترتب على ذلك تضييع لحقوق الزوج فليس هذا من قيامها بالحق الذي هو عليها بالإطلاق.
ولا بد أن يكون عند الزوج مراعاة لمشاعر زوجته، وأن يكون عنده إحساس مرهف تجاه هذه الأشياء، وإليكم هذا الحديث العظيم! هذا حديث ينبغي أن نتوقف عنده لنتبين كيف كان صلى الله عليه وسلم دقيقاً في مراعاة شعور زوجته، وإننا عندما نسمع هذا الحديث نقف بإجلال واحترام لشخصية هذا النبي العظيم صلى الله عليه وسلم الذي لم تشغله هموم الدولة والغزو والجهاد وتجهيز الجيوش، ونشر الدعوة في العالم، وإرسال الرسائل إلى كسرى وقيصر، ومتابعة الأمور العظيمة لم تشغله عن مراعاة مشاعر أو شعور زوجته بشيء دقيق جداً واسمع معي هذا الحديث.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعلم إذا كنتِ عني راضية وإذا كنتِ عليَّ غضبي، قالت: فقلت: من أين تعرف ذلك؟ فقال: أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا ورب محمد -يعني: إذا أتيت لتقسمي قلت: لا ورب محمد- وإذا كنت قلت: لا ورب إبراهيم قالت: قلت: أجل والله يا رسول الله! ما أهجر إلا اسمك) فقط الاسم وإلا المكانة في قلبي ما زالت كما هي فقط الاسم.
فهذه الملاحظة الدقيقة تبين ذلك، ومَنْ مثل الرسول صلى الله عليه وسلم في مشاغله ومهماته وواجباته التي عليه؟ لا أحد، لكنه مع ذلك كان يقوم بهذا الدور مع زوجاته رضي الله عنهن.(254/11)
إهمال الرجل حق زوجته الشرعي في المبيت
ومن المشكلات: عدم إعطاء الرجل زوجته حقها الشرعي في المبيت، وربما هجرها في الفراش سنين طويلة، لا يأتيها ولا ينفق عليها ولا يعفها، والمرأة لها حاجة كالرجل فهذا لا يجوز؛ ولذلك تكلم العلماء عن أكثر مدة يجوز للرجل فيها أن يترك زوجته دون مبيت ودون إتيان، والحق أن ذلك يختلف باختلاف النساء فلسن سواءً في ذلك، وربما كان هذا سبباً من أسباب انحراف النساء، لأنك أحياناً إذا نظرت في امرأة يدخل عليها رجال أجانب -والعياذ بالله- أو تذهب مع رجال أو هكذا، تجد من الأسباب أحياناً أن زوجها لا يعطيها حقها في الفراش، فهي لما عدمت الحق في الحلال ذهبت تبحث عنه في الحرام.
وهذا حديث آخر يبين هذا الأمر، عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: (آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة أي: في هيئة رثة لا تدل على أنها امرأة متزوجة- فقال لها: ما شأنك؟ فقالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما، فقال له: كل فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل فأكل، فلما كان من الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال سلمان: نم، فنام، ثم ذهب يقوم قال: نم، فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليا فقال له سلمان: إن لربك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان -وزاد الترمذي - وإن لضيفك عليك حقاً) والحديث عند البخاري وغيره.
فهذا يبين أن الإخوة في الله يتعاهدون بينهم في التنبيه على النقص الذي يكون عند بعضهم، وأن مبيت الرجل عند أخيه قد يكشف له شيئاً من العيوب التي تحتاج إلى علاج.(254/12)
تعيير أحد الزوجين للآخر بذنوب الجاهلية
ومن الأمور السيئة في العلاقات الزوجية تعيير أحد الزوجين للآخر بذنوب كان يعملها في جاهليته، هذا رجل يقول: مرة من المرات أخطأت -ما عرف أنه أخطأ إلا بعد ذلك- وصارحت زوجتي بأمور كنت أفعلها أيام الطيش، وبعد مدة حصل خلاف بيننا فذهبت إلى بيت أهلها، وإذا أردت أن أعيدها ترفض وتذكرني بما فعلت بالماضي تقول: أنت عملت كذا وأنت فعلت، الآن هذا رجل تاب إلى الله واستقام وربما وثق فيك وأباح لك بشيء المفروض ألا يقوله لكن قاله لك، فهل هذه الثقة بعد هذه التوبة تكون سبباً أو تؤدي إلى أن تعيريه بشيء فعله؟ ونفس الشيء بالعكس يقال للزوج بالنسبة لزوجته.(254/13)
سرعة الغضب
ومن الأمور المنغصة للحياة الزوجية: سرعة الغضب ودائماً تسمع تقول: فلان عصبي وفلانة عصبية وهكذا، ويتسبب على ذلك إشكالات عظيمة، وإذا كان عصبياً وثار فالله المستعان على ثورانه، وإذا غضب لا يكلمها بالأيام حتى تقبل رجله، ويغضب لأتفه الأسباب، وربما إذا تبول الولد أو أخطأ في دروسه انصب الغضب على الزوجة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول للصحابي: (لا تغضب لا تغضب ردد ذلك مراراً) قال: أوصني، فقال له: لا تغضب، قال: أوصني، فقال له: لا تغضب، قال: أوصني، فقال له: لا تغضب.
فكانت هذه الوصية البليغة من الرسول صلى الله عليه وسلم بالامتناع عن الغضب عند حصوله، لو حصل غضب بين الزوجين ماذا يفعل الغاضب؟ يتعوذ من الشيطان ويتوضأ، وإذا كان قائماً فليقعد ويذكر الله حتى يزول عنه هذا الحال.(254/14)
التهديد بالطلاق باستمرار
ومن المشكلات كذلك: التهديد بالطلاق باستمرار، بعض الأزواج دائماً يهدد زوجته بالطلاق، أي خطأ قال: سأطلقك، سأطلقك، سأطلقك، يا أخي! أنت الآن تذهب إلى أعمق شيء، المفروض أن الواحد يهدد زوجته بالطلاق، إذا استعصت الأمور في النهاية حاول وحاول، أما إذا عصتك في كل شيء وإذا قصرت معك تقول سأطلق سأطلق فهذه مصيبة، وأسوأ من ذلك أن يقول إذا غضب: إذا خرجت من البيت فأنت طالق، إذا رفعت السماعة فأنت طالق، إذا كلمت فلاناً فأنت طالق، إذا أكلت أنت طالق، وبعد ذلك أكيد أنه سيقع الطلاق؛ لأن المرأة إذا قيدت بجميع الأشياء في النهاية ستقع في شيء من هذه الأشياء ويحصل الطلاق.
وبالمناسبة: الطلاق المعلق على شرط أسوأ، يعني: في بعض الأحيان هو شيء في حسمه لا يمكن علاجه، لأنه إذا قال: إن خرجت من البيت فأنت طالق، فإذا خرجت تطلق سواءً كانت طاهراً حائضاً حاملاً أتاها ما أتاها في جميع الحالات، بخلاف الطلاق السني الذي لا يقع إلا في طهر لم يجامعها فيه، وكذلك الطلاق المعلق بشرط إن قال: إذا خرجت فأنت طالق لا يمكن أن يسحب كلامه، فإذا واحد قال لزوجته: إن خرجت فأنت طالق، ثم ندم وقال: أنا أسامحها وأسحب الكلمة فقال: سامحتك، ولو سامحها فلو خرجت فهي طالق شرعا، كلمة: إن خرجت فأنت طالق، لا ينفع فيها الرجوع ولا المسامحة، انتهت المسألة وخرجت الكلمة فلا حل، فننبه هؤلاء الأزواج الذين يقولون هذا الكلام إلى أن يترووا ويتقوا الله سبحانه وتعالى في عدم الإقدام على مثل هذه الأشياء ويخربون بيوتهم بأيديهم.(254/15)
الوسوسة وسوء الظن
ومن الأمور المسببة للمشكلات في العلاقة الزوجية: الوسوسة، وبعض الناس يبتلون بوسوسة قوية تجعلهم يظلمون الناس، وهذا رجل مصاب بالوسوسة فإذا رجع إلى البيت قال لزوجته: كلمت أحداً في الهاتف؟ من كنت تكلمين؟ ومن الذي واعدته؟ انظروا تصل إلى القذف بأنها واعدت رجلاً، وإذا جاء ينام في الليل يقفز فجأة من الفراش ويقول: مع من كنت نائمة في هذا الفراش قبلي؟ وهي بريئة مسكينة، ثم بعد ذلك يقول: أنا هذه المرة سأستر عليك -انظر اخترق وقذفها- وقال: أنا هذه المرة سأستر عليك وأنا متحملك إلى الآن مع أنك أنت كذا وكذا من الأشياء التي هي منها بريئة، فهذه الوسوسة -والعياذ بالله- مرض لو لم ينج الله منه صاحبه يَهلك ويُهلك.
ومن المشكلات كذلك: سوء الظن وشك كل من الزوجين في الآخر، وهذا سيتسبب عنه ولا شك هدم الحياة الزوجية، وينبغي أن تكون العلاقة قائمة على حسن الظن، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12].
وهناك فرق بين الشيء عندما يكون له قرائن وعندما لا يكون له قرائن على الإطلاق، ويُساء الظن، فهذا -والعياذ بالله- من سوء النفس أن يصل إلى هذه الدرجة.(254/16)
معاقبة الزوج لزوجته أمام الناس
ومن الأمور في عدم مراعاة الزوجة أن بعض الناس يعاقب زوجته أمام الخادمة، فيضربها ويشتمها أمام الخادمة ويصل به السوء أنه ربما انتصر للخادمة على زوجته، وقف في صف الخادمة، وكيف يكون شعور الخادمة وهي ترى الزوجة مطرودة من غرفة النوم إلى الصالة، والخادمة معززة مكرمة في غرفة وعندها سرير تنام عليه وهذه الزوجة في الأرض أو على قطعة من الأثاث؟ ومن المشكلات كذلك: أن بعض الناس من تسلطهم يرغم زوجته أن تتناقش معه في موضوع يريده، لا بد أن تتناقشي معي ولو كانت لا تحسن النقاش، فهذا رجل تشاجر مع زوجته بسبب نقاش يتعلق في قضية من القضايا السياسية ثم بعد ذلك ضربها في نهاية النقاش، فأين السياسة إذاً في معاملة الزوجة؟ يزعم أنها لا بد أن تكمل النقاش معه، وهذا هو الاستبداد بعينه.
ونسينا أن نذكر نقطة تتعلق بالنقطة التي قبل هذه، وهي قضية أن نضرب مثالاً على سوء الظن، نقول: هذه امرأة تضع يدها في جيب زوجها وتتفقد ما عنده من النقود، فإن كانت النقود التي في جيبه قليلة أخذت من نقودها وأضافت إلى نقود زوجها، في يوم من الأيام دخل البيت فوجد يد زوجته في جيبه، الله أكبر! هنا وقعت الواقعة كيف؟ أخذها واتهمها بالسرقة وأنها سبب نقص النقود في الأيام الماضية، مع أن المسكينة هي قصدها الخير، فنقول هنا: عدم التروي والتفكير في الأمور يوقع في هذه المشكلات، وفي المقابل هناك زوجات عندهن حب استطلاع مذموم، فهي تريد أن تعرف ماذا في جيب زوجها وماذا يوجد في أوراقه الخاصة، وهذا خطأ، فنقول للزوجة: ليس من شأنك أن تعرفي كم أموال الزوج، ليس من حقك أن تعرفي هذا، إذا أخبرك فالحمد لله، وإن لم يقل لك؛ فليس من الضرورة أن تعرفي كم عنده من أموال، وكم يوجد في جيبه، وماذا يوجد في أوراقه الخاصة، وأن تقرئي في مفكرة الهاتف، ليس من شأن الزوجة أن تفعل هذا.
فلتتق الله الزوجة في حب الاستطلاع الذي يكون قاتلاً في أحيان كثيرة.(254/17)
كثرة الشكاية
ومن الأمور التي تتعلق بالزوجة من السلبيات: كثرة الشكاية، والرسول عليه الصلاة والسلام وضح أن من أسباب دخول النساء النار: (أنهن يكفرن العشير ويكثرن اللعن -وفي رواية- وتكثرن الشكاية) التأفف والتشكي باستمرار، وبعض الزوجات قد تتأفف وتشتكي من الأشياء التي يحضرها زوجها، ولا يعجبها شيء، وتنتقد نقداً لاذعاً، وتستقل الأشياء وتعتبر أنها قليلة وأنه ما أعطاها، فهذا ناتج من من عدم القناعة، والقناعة كنز، فلتتق الله المرأة في عدم كثرة التشكي من الأشياء التي لا تستوجب الشكاية.
وبعض الناس يقصرون في تعليم زوجاتهم، وربما قال عند الناس: عفواً زوجتي أمية أو جاهلة ونحو ذلك، طيب علمها، قال الراوي قاسم بن محمد: (إن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنها اشترت نمرقة، فلما رآها صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخل، فعرفت في وجهه الكراهية فقلت: يا رسول الله! أتوب إلى الله وإلى رسوله ما أذنبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال هذه النمرقة -ما ضرب ولا قاطع ولا هجر في المضجع، أول شيء أنكر المنكر- ما بال هذه النمرقة؟ فقلت: اشتريتها لتقعد عليها وتتوسدها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وقال: إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة، هذه للبخاري وفي مسلم: فأخذته فجعلته مرفقين فكان يرتفق بهما في البيت).
يعني: شقت الصورة حتى لم تعد صورة بعد ذلك بهذا الشق، فهذا كان تعليمه صلى الله عليه وسلم.
ومن تعليمه: عن عائشة رضي الله عنها قالت: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر فقال: يا عائشة! استعيذي بالله من شر هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب) رواه الترمذي وهو حديث حسن صحيح، وأخرجه الإمام أحمد وإسناده قوي، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم زوجته (استعيذي بالله من شر هذا فهذا هو الغاسق إذا وقب) يعلمها التفسير ويعلمها التعوذ والدعاء.
ومن تكليف ما لا يطاق: أن يطالب الرجل زوجته بزيارة زوجة صاحبه وقد لا ترتاح لها، فبحكم صداقته هو مع ذلك الرجل فلا بد أن يرغم زوجته على زيارة زوجة الآخر، والأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف، والمرأة طبعاً لا بد أنها تحسن إلى زوجة صديق زوجها قدر الإمكان، ولكن على الزوج ألا يكلفها بزيارة أناس لا ترتاح لهم، والتوسط أمر مهم.
ومن المشكلات أيضاً أن بعض العلاقات الاجتماعية بين الزوجة وزوجة صديق تتسبب أن تطلع إحداهما الأخرى على أسرار زوجية، أو تُري كل واحدة صورة زوجها للأخرى فتقع فتنة، أو يقول الرجل لصاحبه إن زوجتي مطيعة وفيها وفيها صفات فيقع في السامع شيئاً تجاه زوجته هو، يقول: يا خسارة على أن زوجتي ليس فيها مثل هذه الصفات! فهذا الحسد الذي يثار من قبل بعض الناس -يدرون أو لا يدرون- ينبغي أن يمتنعوا عنه.(254/18)
عدم تقدير مستوى الزوج المعيشي
ومن الأمور التي ينبغي أن تراعيها الزوجة: أنها تنتقل أحياناً من بيت غنى وتدليل وترفيه إلى بيت زوجها الذي قد يكون قليل ذات اليد، قد يكون طالباً أو موظفاً مستوراً، فيجب على الزوجة أن تراعي الفارق، وهذا قدر الله: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً} [الزخرف:32] فإذاً هذه قسمة الله في هذا الرجل.
فكون البنت كانت عند أهلها مدللة وأن أباها كان يشتري لها كل يوم (آيسكريم) وأنه وأنه لا يعني أنها الآن إذا انتقلت إلى بيت زوجها ترهقه شططا، وفي المقابل ينبغي على الزوج أن يقدر أن المرأة كانت في بيت نعمة، فكل ما يستطيع أن يأتي به إليها من الأشياء المباحة شرعاً فليوفره لها.
ومن الأمور التي تسيء العشرة: أن بعض الرجال يقول لزوجته: يا ليت عندي زوجة شعرها كذا، يا ليت عندي زوجة لونها كذا، وهذا لا شك من المنكر، فإنه بهذه الطريقة يستثير حفيظة زوجته عليه، ويشعرها بأنه غير مقتنع بها ونحو ذلك.
ولنتوقف هنا ونأخذ قصة واقعية عن رجل وقع بينه وبين زوجته خصومة وفراق، فسألت هذا الرجل ما هي سلبياتك أنت في نظرك؟ يعني: بعض الناس الآن يقول: أنا صار بيني وبين زوجتي مشكلة وخلافات وهي فعلت كذا وكذا، والمرأة ستقول نفس الشيء عن زوجها فعل كذا وكذا ولا يمكن أن نعيش مع بعض، طيب السؤال للزوج: ما هي سلبياتك في نظرك؟ فسينتقل ذهنه بهذا السؤال من التفكير في عيوبها هي إلى التفكير في عيوبه هو، وعندما يقال لها نفس الكلام: ما هي سلبياتك أنتِ في نظرك؟ فتنتقل من التفكير بعيوبه هو إلى التفكير بعيوبها هي، وهذه أحدى طرق الإصلاح بين الزوجين المتخاصمين.
فقد يقول لك: والله -يا أخي- أنا عندي حدة، أنا إنسان عصبي، أنا إنسان غير مستقر، أرد عليها مباشرة، لا أشاورها على الإطلاق، قلت لها: فقدت ثقتي فيك مرة مثلاً، لا أهتم بنظافتي الشخصية وهكذا، فهذا يسبب أن الرجل يفكر بواقعية أكثر، أن المشكلة إن لم تكن كلها مني فقد يكون نصفها مني، فتعود الواقعية إلى الحياة مرة أخرى.(254/19)
الاعتقادات الفاسدة
ومن الأشياء التي تسبب المشكلات أيضاً: الاعتقادات الفاسدة، عند بعض العوام اعتقادات فاسدة في قضايا تتعلق بالأشياء الزوجية أو عادات سيئة، فمثلاً: من الاعتقادات الفاسدة: أن بعض الناس يظن أنه إذا كان الزوج منبطحاً ومرت المرأة من فوقه أنها قد قطعت نسله، فيا ويلها إن خطرت من فوقه مرة وهو منبطح على الأرض، هذا هو المنكر الأكبر بزعمهم، لو فعلت ذلك فسيحصل لها من البلاء ما الله به عليم.
ومن بعض عادات الناس مثلاً: أن الرجل لا يأكل مع زوجته، ويرى أنه عيب حتى لو كان لوحده وعليها أن تأكل المخلفات بعده وهو ليس بصحيح، وأحياناً يعيش مع أهله وإخوانه وأبيه في بيت واحد ويكون المطبخ مشتركاً، هذا سيسبب مشكلة لأن المرأة لن تطبخ كما تريد، الشيء الذي في البيت لا بد أن تأكل منه، فليحرص الرجل أن يوفر في هذه الحالة إذا استطاع على الأقل ولو وقت أن تدخل زوجته المطبخ لتطبخ فيه ما تريد، فأقول: من بعض العادات أن بعض الناس يرون أن اجتماعهم عزة، وأن ذبيحتهم واحدة وأنه لا يسمح للأولاد بالاستقلال عن الأسرة، ولا يكون له شيء مستقل حتى المطبخ لا بد أن يكون مشتركاً، وهذا يسبب ضيقاً، الاجتماع طيب وأن يكون أولاد الرجل تحت نظره وأحفاده موجودون، نعم.
ولكن لا يمنع أن يكون هناك جزء من البيت مستقل، على الأقل المرأة مستقلة فيه مع زوجها تأخذ راحتها في البيت، بدلاً من أن تقول: لا أستطيع أن أطلع إلا بالحجاب، ولا أستطيع أن أتنقل في البيت لأن إخوان زوجي موجودون دائماً في الصالة وفي المجلس وأنا محبوسة دائماً، صحيح أن ضيق يد الرجل أحياناً يكون سبباً في عدم الاستقلال ببيت، لكن ينبغي للمرأة أن تصبر حتى يفتح الله على زوجها، ولكن إذا كان الزوج يستطيع أن يوفر شيئاً في هذا فليفعل.(254/20)
غموض الزوج
ومن الأمور التي تسبب النكد في الحياة الزوجية: صمت الزوج المطبق وغموضه، فبعض الأزواج تعيش معه زوجته في غموض تام طيلة الوقت، لا تدري عن أخباره إلا من خارج البيت، الأطفال يسألون: أين أبونا؟
الجواب
لا ندري، لو حدث له شيء لا تعرف أين تسأل عنه، فالرجل يعيش في غموض تام، صحيح أن الواحد قد لا يترك خبراً في البيت إلى أين سيذهب، لكن أن يعيش مع زوجته في غموض دائم هذا خطأ.
وكثرة خروجه وغيابه عن البيت من الأمور التي تسبب المشكلات، فبعضهم دائماً في عزائم وولائم ويترك أهله في البيت دون طعام، وأحياناً يأخذ زوجته ويضعها عند أهلها إلى ساعة متأخرة من الليل، وينسى حتى يرجع إلى البيت يريد أن ينام فإذا وضع رأسه تذكر: أين المرأة؟ وهو وضعها في بيت أبيها، نقول: عند بيت أبيها تهون، لكن إذا وضعها عند أناس آخرين قال: لا أتأخر عليك، فتأتي الساعة العاشرة والحادية عشرة إلى الساعة الواحدة ليلاً وهو ما أتى والمرأة متضايقة في بيت أولئك الناس، والناس أيضاً يتضايقون لأنهم يريدون أن يناموا وهو غير مكترث.
ومن المسألة التي نفعلها نحن كثيراً ونقر بها ونقع فيها: أننا أحياناً نترك أزواجنا وأولادنا في السيارة ونقف نتكلم مع شخص من الأصدقاء مدة طويلة، والأطفال متضايقون في السيارة ونحن نتكلم ونتكلم، وقد يكون الجو حاراً وغير مناسب، فينبغي أن ننتبه إلى مثل هذه المسائل.(254/21)
كلام أحد الزوجين في أهل الآخر بانتقاد أو ذم
ومن الأشياء التي تسبب أيضاً الضيق من الطرفين: كلام كلٍّ من الزوجين في أهل الآخر على سبيل الانتقاد، فلا شك أن الزوج إذا تكلم في أهل زوجته قال: أنت أهلك كذا وكذا وأمك كذا وأبوك فلان كذا، وماذا سيحدث؟ لا شك أنه سيوغر صدر زوجته عليه، والمرأة بطبيعة الحال ستدافع عن أهلها وهو سيزداد، أو العكس هي تنزل في أهلك تقول: هؤلاء فيهم وفيهم، نقول: هؤلاء أهله ولا زال بينه وبينهم روابط، ووشائج القربة ما انقطعت، فسيدافع عنهم وكل سيتعصب لأهله؛ هو ينتقد أم زوجته وزوجته تنتقد أمه، وهو ينتقد أخاها وهي تنتقد أخاه وهكذا حتى تصبح المسألة في نكد مستمر.(254/22)
رتابة الحياة
ومن الأشياء التي تسبب المشكلات أيضاً: الأشياء التي تقع فيها مشكلات رتابة الحياة وعدم دخول عناصر التشويق أو التغيير، فأحياناً تكون الزيارات أو بعض السفريات المباحة أو الشرعية من الأشياء التي تجدد العلاقة الزوجية، أو ترك الزوجة تذهب لأهلها فترة من الزمن تجدد وتغير الروح في البيت وفي الحياة الزوجية، وينبغي أن نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الجانب الترويحي، وإليكم هذا الحديث العظيم وأنتم تعرفونه: عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وهي جارية حديثة السن، فقالت: (لم أحمل اللحم ولم أبدن، فقال لأصحابه: تقدموا فتقدموا، ثم قال: تعالي أسابقك، قالت: فسابقته فسبقته على رجلي، فلما كان بعد -وفي رواية- فسكت عني حتى إذا حملت اللحم؛ مضت سنوات وبدنت ونسيت ما مضى خرجت معه في سفر مرة فقال لأصحابه: تقدموا فتقدموا، ثم قال: تعالي أسابقك، ونسيت الذي كان وقد حملت اللحم فقلت: كيف أسابقك يا رسول الله! وأنا على هذه الحال؟ فقال: لتفعلن، فسابقته فسبقني فجعل يضحك وقال: هذه بتلك السبقة) صلى الله عليه وسلم.
والله إننا إذا تأملنا في حاله عليه الصلاة والسلام مع زوجته لندهش فعلاً من حال هذا النبي الكريم في مشاغله الكثيرة، ثم بعد ذلك يراعي حاجة الزوجة في الترفيه، ويفعل هذا الأمر الذي بعضنا الآن لو ذهب إلى منطقة بر لا يرى أحداً أبداً يقول: لا.
كيف أفعل هذه، يا أخي! رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله فهل أنت أفضل أم رسول الله؟ مكان الفتنة لا يجوز -أصلاً- أن تذهب بزوجتك إليه فضلاً عن أن تسابقها فيه أو تضاحكها فيه، وهذا صلى الله عليه وسلم أيضاً من ملاطفته لزوجته تقول عائشة: (كنت أشرب وأنا حائض -أي: من إناء النبي- فيضع فاه على موضع فيَّ فيشرب وأتعرق العرقة من اللحم آكل وأنا حائض، ثم أناوله النبي فيضع فاه على موضع فيَّ) رواه مسلم في صحيحه.
بعض الناس يقول: هذه حائض نجسة لا أحد يأكل معها.
وهذه عائشة تقول: (كان أناس من الحبشة يلعبون بحرابهم في المسجد، فسترني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنظر إليهم، سترها بجسده وقال: تريدين أن تنظري؟ قلت: نعم.
فما زلت أنظر حتى كنت أنا أنصرف، حتى شبعت بل وقالت: ما بي نظر ولكن ليرى نساءه قدري عنده).
قالت عائشة في الحديث الذي رواه البخاري: [فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن] تعني: المرأة تحتاج إلى نوع من الترفيه.
وأظن أننا سنتوقف هنا ولم يكتمل الموضوع بعد من أجل الصلاة وبعد الصلاة إن شاء الله بقي موضوع ربما عشر دقائق سنكمله، وإذا توفر وقت سنجيب عن بعض الأسئلة والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
ونكمل أيها الإخوة! في آخر ما يتعلق بأسباب المشكلات الزوجية ومن ذلك ما يقع بين الزوج وأهل الزوجة، وما يقع بين الزوجة وأهل الزوج.(254/23)
تحميل الزوجة أخطاء أهلها
فمما يكون أحياناً سبباً للمشكلات الزوجية: أن تقع مشكلة بين الزوج وأهل زوجته، نتيجة علاقات تجارية فاشلة -مثلاً- وحصلت قطيعة بعدها ومخاصمة بين الزوج وأهل زوجته، فينعكس ذلك على العلاقة بينه وبينها وهذا خطأ، فإن الإنسان الملتزم بحدود الله لا يخاصم على الماديات ويوالي ويعادي عليها، ويطالب حقه بالطريقة المشروعة ولا يجعل هذا الأمر ينتقل للعلاقة بينه وبين زوجته.(254/24)
أهل الزوجة قد يكونون سبباً في المشاكل الزوجية
ومن الأمور كذلك موقف أهل الزوجة الخاطئ، فإن بعض النساء إذا ذهبت إلى بيت أهلها نتيجة خلاف، فإن من المفروض أن يكون الأب أو الأم أو الإخوة حكماء في استقبال أختهم وبنتهم، فيهدئون الأمور ويطلبون العودة إلى زوجها والصفح عما بدر منه وهكذا، لا أن يزيدوا الأمور تعقيداً فيقولون: لا ترجعي إليه، وهذا لا يستاهل وكذا وكذا إلى آخره، وقد يكون الخلاف من الأشياء العادية التي تحصل بين الزوجين في العادة.
وأعرف أباً من حكمته أنه إذا جاءته ابنته إلى البيت سأل عن السبب، فإذا عرف بأن المسألة من الأخطاء المحتملة العادية قال: لا تدخلي بيتي أبداً ترجعين إلى بيت زوجك في الحال، أما أن يكون موقفه فيه من السلبية كما حصل مع بعض الآباء مرة، فإن زوجاً قد تأخر خارج البيت ولم يذهب إلى البيت إلا الساعة الحادية عشرة والنصف ليلاً، فلما طرق الباب رفضت الزوجة أن تفتح له الباب، لماذا؟ لأنه تأخر، لماذا تأتي الساعة الحادية عشرة والنصف ارجع، -سبحان الله! هذا بيته لكن هذا من السفه الذي يكون أحيانا عند بعض الزوجات- وهو يحاول استرضاءها وتهدئة الأمور ومع ذلك ترفع جميع المناشدات، فذهب المسكين إلى أهلها في هذه الساعة المتأخرة وطرق الباب على أبيها، وقال له: الموضوع كذا وكذا فذهب الأب معه إلى البيت فطرق الباب فرفضت البنت أن تفتح الباب وقالت: السبب أنه رجع متأخراً ولماذا يرجع متأخراً؟ فهنا التفت الأب إلى الزوج وقال: نعم.
معها حق، لماذا ترجع متأخراً؟ فطبعاً في هذه الحالة يكون الموقف سلبياً لا يؤدي أبداً إلى انفراج في الأوضاع.
وأحياناً بعض أهل الزوجة يعبئون الزوجة تعبئة نفسية ضد زوجها، كأن يقول -مثلاً- أخوها: أنت مثل الدجاجة تسمعي كل كلام زوجك حرفياً، لا تسمعي كلامه وخالفيه، وإذا عمل لك شيئاً فنحن بجانبك، فهذا من جنس هاروت وماروت، الذين يريدون أن يفرقوا بين الرجل وزوجته، وبلغ من السوء بامرأة تريد أن تفصل بين أخيها وزوجته أن عرفته بمومسة ليقع في حبالها وتفسد علاقته بزوجته.
وهنا قد يسأل البعض سؤالاً فيقول: هل يجوز لي شرعاً أن أمنع زوجتي من الذهاب إلى أهلها إذا كان يحصل من هذه المشكلات، وقد أجاب عن هذا الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله فقال: الأصل أنه لا يجوز للرجل أن يمنع زوجته من أهلها وصلة رحمها، ولكن إذا لاحظ الزوج أن زوجته كلما رجعت إلى أهلها رجعت منقلبة عليه فله أن يمنعها عند ذلك، الآن المفسدة واضحة.
وبعض الناس الزوجة أحياناً قد لا يكون عندهم ذوق في التعامل، فيأتون إلى بيت ابنتهم ويأخذون من البيت متاعاً وأكلاً ونقوداً وملابس تضايق الزوج في النهاية؛ فلأنهم يأخذون أغراض بيته ثم يوقعون ابنتهم في مشاكل مع زوجها ويقولون: لا نرضى عنك حتى تعطينا كل ما نطلب، وهي تحت ضغط أمها أو نحو ذلك تعطيها فتعطيهم، فالمرأة تكرم أهلها، نعم.
ولكن هي راعية في بيت زوجها ومسئولة عن ماله وعن ممتلكاته، فلا يجوز أن تفرط فيها.
وبعض الأحيان يكون من أسباب المشكلات: أن الزوج يهتم بضيوفه ولا يهتم بضيوف زوجته، ومن الأسباب: أن بعض الناس يحتسبون الأجر في إكرام ضيوفهم الرجال، ولا يحتسبون الأجر في إكرام ضيوف نسائهم، مع أن الأمر ربما في إكرام ضيوف زوجتك يكون أقرب إلى الإخلاص من إكرام ضيوفك؛ لأنك لا تظهر في الصورة، فكما أنك تريد إكرام ضيوفك فأكرم ضيوف زوجتك.
ومن المشاكل المشهورة: المشكلات بين الزوج وأم زوجته، ودائماً تقع هذه القضايا كثيراً إلا من عصم الله سبحانه وتعالى، فهذه تشتكي من زوج ابنتها، وتغيرت على ابنتها، وتكلم الناس الخارجين عن ابنتها وسيلة للضغط على ابنتها لتخاصم زوجها، وهي تراعي أمها ولا فائدة، والزوج يراعي أم زوجته ولا فائدة، وما حرم زوجته من أمها رغم المشكلات ولا فائدة، ويقبل رأس أم زوجته ولا فائدة، السبب: قد تكون أم الزوجة ليست راضية عن هذا الزوج في مبدأ الأمر، ولكن الأب زوّجه بالبنت وبقي السخط مستمراً إلى آخر الحياة، وهذا حرام لا يجوز.
وبعض الزوجات قد يخطئن في تدخيل أمها أو أبيها في كل شيء، فترجع إلى أمها في الأشياء المصيرية والقرارات وتجعل أمها وصية عليها وعلى حياتها وتسرب أسرار البيت ونحو ذلك، فهذا يسبب للزوج تضايقاً كثيراً، وبعض الأزواج سيئو التعامل مع أمهات زوجاتهم، فيتهم عمته بأنها استغلالية وأن الواحد إذا أرخى لها الحبل ركبته، وأن أهلك أيتها المرأة غير ملتزمين، ويقع فيهم في أشياء من الغيبة كثيرا.
وفي المقابل هناك مشكلات بين الزوجة وأهل الزوج، فمن المشكلات -مثلاً- أن الإنسان عندما سمى ولده باسم أبيه تبرأت الزوجة من الاهتمام بالولد، كيف تسمي ابني على اسم أبيك أنا لا أقبل، والآن هو يطعمه ويفكه ويغسله ويلبسه ثم جاء الولد الثاني فاهتمت بالولد الثاني، وهذا من الفجور من هذه المرأة.
وبعض النساء قد تكون سيئة الخلق مع أهل زوجها، فإذا جاءوا إلى البيت تتركهم وتذهب، أو تطالب بزيارتهم، فإذا قيل لها: هيا لزيارتهم رفضت سبحان الله! أنت التي اقترحت الذهاب، أو تحرض زوجة أخي زوجها وتقول: ما جاءنا من عندكم إلا خراب البيوت ونحو ذلك، وأحياناً تقول الزوجة: أم زوجي تهينني وتريدني أن أخدمها فقد تكون محقة قد تكون أم الزوج المخطئة، وأغسل الملابس وأكنس البيت وأطبخ لضيوفها هي، وأنا عندي ثلاثة أولاد والرابع في بطني وأنا ضعيفة، والمشكلة أن الزوج يقول: أمي فوق كل شيء، وهذا صحيح ولكن بحدود، فلا يعني هذا أن ترهق أمك زوجتك؛ لأن أمك فوق كل شيء، وليست الزوجة شرعاً مكلفة بخدمة أمك، فإذا كانت أم الزوج سيئة تطرد البنت وتلعنها أو تقول: أنت بنت شارع، أنت بنت زنا ونحو ذلك , وهذا شيء موجود في المجتمع ولا حول ولا قوة إلا بالله! وأحياناً قد يكون الاسم سبب مشكلة كما ذكرنا.
وتأمل هذه المشكلة: ولد أم الزوج تريد أن تسميه -مثلاً- زيداً، وأم الولد تريد أن تسميه محمداً، والآن الولد له اسمان في البيت، إذا جاءت جدته التي هي أم أبيه قالت: يا فلان! تعال، وأمه تقول: يا فلان! تعال، له اسمان في البيت، وأحياناً يكون النزاع بين الزوجة وأهل زوجها بسبب مشكلات مادية، كبيت ونحوه، وهذه أم زوجة سكنت في بيت زوجها مع أن زوجها له بيتان، فقالت الزوجة: لا أسكن معك حتى تطلع أمك من البيت الثاني، وتركت وهجرت وسافرت، وبقي الأولاد في بلد بعيد عند جدتهم والزوج يعمل في بلد آخر والأم في بلد ثالثة، ويتصل الأب على أولاده يقول: ماذا أحضر لكم معي إذا قدمت؟ يقولون: هات لنا معك دواء القمل لا أحد يعتني، لا الأب موجود ولا الأم موجودة.(254/25)
الجيران السيئون والمشاكل الزوجية
والجارات السيئات يكن في بعض الأحيان أيضاً من أسباب المشكلات، فتكون زوجة مطيعة لزوجها في أمان الله مع زوجها تتعرف على جارة سيئة تدخل بيتها فتبدأ المشاكل، تقول هذه الجارة السيئة: أنت ضيعت عمرك، دعيه يشتغل في البنت، دعيه يذوق المعاناة، وإذا سكتت البنت في الليل اقرصيها حتى تستيقظ وتوقظ الأب حتى يسكتها وهكذا، هذا طبعاً من اللؤم والخبث، وتصل المشاكل إلى الخارج أحياناً، هذا أخذ راتب زوجته ما دفع المهر، ردت عليه فأخذت من جيبه، اكتشفها فبلغ الشرطة، اتهمها بالسرقة، وكَّلت محامياً وهكذا.
وهذا غيض من فيض، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا وإياكم شرور أنفسنا، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.
اللهم اجعلنا من السعداء في الدنيا والآخرة، وأصلح ذرارينا وأهلينا يا رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.(254/26)
وصايا للأطباء والطبيبات
الطب مهنة إنسانية عظيمة تكتمل صورتها عندما ينظمها الإسلام ويحصنها من المفاسد والعيوب، وهنا وصايا متنوعة لأهل الطب تعالج كثيراً من القضايا المتعلقة بالطب أو الأطباء أنفسهم وكيفية التعامل مع المرضى على نور من الله وبصيرة.(255/1)
تقوى الطبيب لله سبحانه وتعالى
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذه فرصة طيبة أن نلتقي في هذا المكان وفي هذا المستشفى لنتحدث عن بعض المسائل التي تهم الطبيب المسلم، هذه الثغرة في المجتمع التي سدها تتطلب إيماناً بالله واحتساباً للأجر، وعلماً شرعياً ودعوةً إلى الله سبحانه وتعالى، وتذكراً وتذكيراً، فالطبيب المسلم صاحب رسالة، ولما ميزناه بقولنا: المسلم؛ علمنا بأنه صاحب رسالة شرعية إسلامية قبل أن تكون مهمةً طبية أو علاجية ونحو ذلك، وقد سبق أن تحدثنا في محاضرة سابقة بعنوان (رسالة إلى الطبيب المسلم) عن بعض الأمور المتعلقة بالطب والأطباء، ونستكمل إن شاء الله الكلام عن بعض هذه الأمور التي تهم الأطباء والطبيبات، وقد ذكرنا في المحاضرة الماضية أموراً منها: أن الطبيب ينبغي أن يتقي الله سبحانه وتعالى في عمله، وتقوى الله عز وجل هي الضمان لعدم انحراف الطبيب عن مهمته، والله عز وجل قد كرر الأمر بالتقوى في آيات كثيرة وهي وصية الله للأولين والآخرين: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] وتقوى الله سبحانه وتعالى هي التي تدفع الطبيب إلى عدم ممارسة الطب وهو لا يتقنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تطبب ولم يعلم منه طب؛ فهو ضامن) وتقوى الله سبحانه وتعالى هي التي تجعل الطبيب يتقن عمله، ولا يقدم وصفةً أو علاجاً إلا وهو متأكدٌ منها، وتقواه تمنعه من أن يجعل نفسه متاجراً مع شركات الأدوية لتجريب الأدوية في مرضى دول العالم الثالث كما يقولون.
وتقوى الله سبحانه وتعالى هي التي تجعل الطبيب المسلم لا ينظر إلى المرأة الأجنبية أكثر من نظر الفجأة، إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك في حالات الكشف الطبي والعلاج؛ إذا لم يتيسر من يقوم بذلك من النساء، والله عز وجل قد قال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30].
وقد ذكر العلماء ترتيباً معيناً للمرأة المسلمة إذا أرادت أن تتطبب، فقالوا: تقدم الطبيبة المسلمة ثم الطبيبة الكتابية فالكافرة ثم الطبيب المسلم ثم الطبيب الكافر، والطبيب المسلم لا يكشف إلا ما تدعو الحاجة إلى كشفه في عورات النساء والرجال، وإذا كشف على امرأة للضرورة فبحضرة محرمها من الزوج أو غيره، وإذا احتاج ولم يوجد؛ فلا يجوز أن يكشف بخلوة إطلاقاً، بل لا يجوز أن يخلو بها حتى لو كان بغير كشف.
تقوى الله سبحانه وتعالى هي التي تجعل الطبيب المسلم يحس بالحرج، وهو يأمر بالكشف أو يغض بصره، وليس يتقدم دون حياء ولا خجل طالباً من المريض الكشف وبسرعة، والطبيب المسلم عند فحص مواضع الضرورة من قبل المرأة لمريض من الرجال، أو الرجل لمريضة من النساء؛ فإن أمكن الفحص بالوصف فقط؛ فلا يجوز النظر ولا اللمس، وإذا كان يكفي النظر فلا يجوز اللمس، وإذا كان لابد من اللمس؛ فمن وراء حائل، ولو فرضنا أنه لابد أن يكشف عن الموضع من غير حائل، فإنه لابد أن يقدر الضرورة بقدرها، فلا يتعدى المكان ولا الوقت اللازمين للفحص، ولا يدعها تكشف أمامه حتى تصل إلى مكان المرض، بل تكشف من وراء الستارة حتى تصبح جاهزة للكشف على موضع الضرورة، وهناك أمورٌ لا يصح مطلقاً -يتنافى مع التقوى تماماً- كشفها، مثلما يحدث من التساهل في فحص المرأة لحالة فتاق عند الرجل بموضع العورة المغلظة مثلاً.
وهناك كثيرٌ من الحالات التي لا يعتبر الإسلام مسئولاً نهائياً أبداً عن حدوثها؛ لأنها وجدت في حال انحراف، فلابد من تصحيح الأصل، وليس أن نقول: وقعنا في ورطة ونحن في ضرورة، نقول: من قواعد الضرورة أنه يجب السعي إلى إزالتها، وليس أن نبقى باستمرار في حالة ضرورة، وفحص المرأة المتدربة للمرأة المريضة أهون من فحص المرأة المتدربة لرجل مريض، ولذلك نقول ونوصي دائماً: إنه في حالة التدريس؛ يجب السعي باستمرار إلى حصول الفصل التام ما أمكن ذلك بين الرجال والنساء، وينبغي السعي لإيجاد التخصص في علاج النساء من قبل النساء وعلاج الرجال من قبل الرجال، وحالات الضرورة التي تستدعي تدخل الاستشاري مثلاً أو غيره لها أحكامها.
ومن الأمور التي تجعل الطبيب المسلم لا يتعدى الضرورة، فيصحب بالقفاز مثلاً إذا لم توجد الحاجة للفحص باليد مباشرةً لاشك أن هذا منبعه تقوى الله سبحانه وتعالى، ولذلك فإننا نشعر بالعار عندما نسمع عن امرأة تُلزم أو طبيب رجل يُلزم طالبات الطب بالكشف على رجل، في أمور يستطيع أن يفعلها رجل آخر، كأخذ درجة الحرارة ونبض القلب ونحو ذلك، مع أن بإمكان المرأة أن تتدرب على امرأة وليس على رجل أجنبي.
وهنا يطالعنا بعض الناس في قضية الامتحانات وهل تعتبر ضرورة أم لا؟ فنقول: إن بعض العلماء يرى أنها لا تعتبر ضرورة مطلقاً، وأن المرأة إذا لم تجد امرأة في المستقبل تتعالج عندها، فإنها تتعالج عند رجل للضرورة، فلا الرجل يأثم ولا المرأة تأثم، وكذلك إذا قلنا: إن المرأة تكشف على المرأة وتتدرب عليها؛ سداً للحاجة في المستقبل للرجال؛ فإن هذا أمرٌ وجيه وحسن نستبدل به حالات كثيرة من كشف الرجال على النساء، ولا أقول جميع الحالات؛ لأن الواقع يثبت أن هناك حالات تستدعي تدخل الرجل ونقول: هذه الضرورة والضرورة تقدر بقدرها، على أن بعض أهل العلم يرى أنه في حال الامتحانات إذا اضطرت المرأة أن تكشف على رجل؛ فإنها تكشف بالنظر دون اللمس، وأضافوا قيداً آخر وهو أمن ثوران الشهوة من الفاحص والمفحوص، وهذه مسألة تدرس بالممارسة.
ولكننا نعيد الكرة لنقول: لماذا تجعل المرأة المسلمة في حالة حرج عندما تجبر على الكشف على الرجال؟ وما هي الضرورة لاختلاط الطبيبات بالأطباء؟ أو قل طالبات الطب بالطلاب في التدريب العملي إذا أمكن أن يجعل لكل منهم قسم مستقل، والواقع يشهد بأن هناك مفاسد وعلاقات محرمة نشأت بين الطالبات والطلاب، وضبطت أوضاع محرمة بسبب الاختلاط، بل إن بعض طالبات الطب ممن لا يخفن الله تنشأ لهن علاقة خاصة مع بعض الدكاترة مع كثرة المحادثة التي تكون تحت ستار أخذ المعلومات، واختلاط بعض الدارسات مع الدكاترة في أوقات خارج التدريب العملي بزعمها الاستزادة من العلم ونحو ذلك، أو لكي يعرف أنها مهتمة، وأنها تسأل شفوياً بدل أن تتصل بالهاتف، كل هذه المبررات التي تؤدي إلى مفاسد شرعية واضحة، ولو اضطرت الأحوال إلى أن يكون الذكور والإناث في مكان واحد، فلا أقل من أن تكون النساء خلف الرجال مع غاية النقاب والحشمة، وأن يراعي هذا الطبيب أو المتخصص الذي يدرس وجود المرأة في الفصل، فلا يأتي بحالات فيها صور انتصاب ونحوها مما يخدش الحياء ويعرضه على مسامع ومرأى من النساء الموجودات في الفصول الدراسية، وبعض الأحوال التي حدثت تثبت أن الفصل بين النساء والرجال ممكن، لكن الذي يحول بين هذا وحدوثه وجود رجل لا يخاف الله، كمسئول عن الصالات من النصارى ونحوهم من الذين لا يهمهم إحداث الفصل بين النساء والرجال.
وتقوى الله سبحانه وتعالى هي التي تجعل الطبيب المسلم لا يخلو بالمرأة أبداً، ولا يقال إن وجود عين سحرية من الخارج يزيل الخلوة، أو أن الباب المفتوح يزيل الخلوة، وهو يجلس في زاوية الغرفة والممر خالٍ والغرفة نائية، بل ينبغي إذا حدثت الحاجة لهذا ولم يوجد شخص ثالث في الغرفة؛ أن يكون الوضع أمام المارين، وإذا كانت الغرفة زجاجية؛ فيكون الزجاج من الأعلى إلى الأسفل بحيث يكون الأمر لا يخفى مطلقاً، ولا يقال أيضاً بالاكتفاء بالكاميرات الإلكترونية للمراقبة، فإنها قد تتعطل لأي سبب، أو لا يكون المراقب حاضراً لأي سبب، أو يكون فاسقاً يريد نشر الفاحشة في الذين آمنوا.
وتقوى الله سبحانه وتعالى هي التي تجعل الطبيب المسلم لا يخلو بالمرأة الأجنبية ولو كان لدقائق أو دقيقة أو ثوانٍ في مصعد المستشفى، وهناك حالات تحدث أحياناً، أنه يدخل مجموعة في مقعد ثم يخرج مجموعة في أحد الطوابق فلا يبقى إلا رجل وامرأة في مقعد، وهنا تقوى الله سبحانه وتعالى هي التي تدفع الرجل للخروج من المصعد؛ حتى لا يخلو بالمرأة في هذا الوقت الباقي، ثم يواصل الصعود بعد ذلك.
وبعض الناس يظن أن مس يد المرأة الأجنبية من وراء حائل جائز بإطلاق، وهذا لا يجوز بل الأصل أنه حرام، ولا يجوز إلا للضرورة، وتقوى الله سبحانه وتعالى هي التي تجعل الطالبة المسلمة إذا كانت دراستها تفرض عليها ترك الحجاب أن تقدم الدين والحجاب ولاشك في ذلك.(255/2)
الإخلاص لله سبحانه وتعالى
والطبيب المسلم والطبيبة المسلمة من صفاتهما أيضاً: الإخلاص لله سبحانه وتعالى، والإخلاص لله هو الذي يدفع الطبيب والطبيبة لاحتساب الأجر في العلاج قبل أخذ المال، احتساب الأجر في زيارة المريض لأن فيها أجراً عظيماً، الأجر في زيارة المريض قبل أن يكون الوضع معالجة وواجباً يومياً زيارة مقررة وتفقداًَ روتينياً ونحو ذلك، فالطبيب الذي يخلص لله سبحانه وتعالى يطلب الأجر والاطمئنان على أخيه المسلم، ولذلك فهو يقف ويسأل عن الحال ويلاطف ويرفع المعنويات، ويحتسب الأجر الذي ورد في الحديث الصحيح كما جاء عن سويد عن أبيه قال: (أخذ علي بيدي فقال: انطلق بنا إلى الحسن بن علي نعوده، فوجدنا عنده أبا موسى الأشعري، فقال علي لـ أبي موسى: عائداً جئت أم زائراً؟ فقال: عائداً، فقال علي: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من مسلمٍ يعود مسلماً غدوةً إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، ولا يعوده مساءً إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة).
الطبيب المسلم من إخلاصه أنه يبقى خارج الدوام ويتبرع بوقته ولو بغير مقابل ولا راتب وخصوصاً في الحالات الطارئة، وكذلك في أوقات الكروب والأزمات، ويتقدم ليقدم ما عنده وينفع المسلمين.
والطبيبة المسلمة من إخلاصها أنها تحتسب الأجر في المجيء خارج الدوام؛ لتوليد النساء عندما لا يكون هناك إلا طبيب رجل، فتحتسب الأجر وتبتغي وجه الله؛ لإنقاذ أختها المسلمة من الحرج، باطلاع رجل أجنبي على عورتها المغلظة.(255/3)
حاجة الطبيب للفقه والعلم
كذلك فإنه لابد للطبيب المسلم من الفقه والعلم (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) الطبيب المسلم يدرس من أحكام الفقه ما يعينه على أداء رسالته الطبية والعلاجية ولا ينسى عبادته مع الله سبحانه وتعالى، وبعضهم قد يقدم المهنة على العبادة، فيضيع صلوات بدون مبرر شرعي.(255/4)
تعلم أحكام الصلاة والوضوء والنجاسة
الطبيب المسلم من فقهه أن يعلم أحكام الصلاة وأحكام النجاسات، والوضوء للمس عورة المريض، ويحتاط لنجاسة العينات، وفي حالة الجمع بين الصلاتين لا يفعل ذلك إلا إذا كان مضطراً من حيث توقيت العملية، فإذا كان يمكن أن يوقتها بحيث يصلي كل صلاة في وقتها فلا يجوز أن يجعلها في وقت يضطر فيه لجمع الصلاتين، وإذا كان يمكن لطبيب آخر أن يدخل فيساعده ويسانده ريثما يؤدي الصلاة ثم يرجع لإتمام ما بيده؛ فإنه لا يجوز له أن يجمع الصلاتين وهكذا.(255/5)
عدم إكراه المريض على الطعام والشراب
الطبيب المسلم من فقهه أنه لا يكره المريض على الطعام والشراب؛ لأنه يعلم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب؛ فإن الله يطعمهم ويسقيهم) وهذا مجرب في الواقع العملي، فإن بعض المرضى يتركون من الطعام ما لو امتنع عنه وهو صحيح لهلك، الله هو الذي يتولى حفظ قواهم ويصبرهم على الجوع والعطش، وهذا لا يعني عدم وضع الأشياء اللازمة للمريض مثل المغذي ونحو ذلك، بل هذا من الأمور المهمة التي يفعلها الطبيب بحسب الحاجة والمصلحة.(255/6)
تلقين المحتضر الشهادة
ومن فقهه أنه يلقن المحتضر الشهادة إذا عرف أنه يحتضر، ويأمره بها قائلاً: قل لا إله إلا الله، فقد عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأنصار، فقال: (يا خال! قل لا إله إلا الله) فإن لم يتأكد الطبيب أن المريض في حالة احتضار، وخشي إن لقنه الشهادة أو أمره بها أن يصاب بإحباط نفسي، أو تزداد حالته سوءاً أو يضيق صدره ونحو ذلك؛ فإنه يردد على مسمعه ذكر الله وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، ويأمر المريض بعموم الذكر إذا كان تخصيص أمره بالشهادة يسبب له أضراراً، أو يقول له: اذكر الله، فيقول المريض تلقائياً: لا إله إلا الله.
والطبيب من فقهه أنه إذا حدثت الوفاة؛ سعى أولاً: إلى إغماض عيني الميت؛ لأن الروح إذا قبض تبعه البصر.
وثانياً: يغطيه بثوب يستر جميع بدنه.
وثالثاً: يعجل بتجهيزه ودعوة أوليائه لأخذه، وعدم تأخيره في الثلاجة، وعدم إبقائه على السرير بين المرضى؛ فذلك يؤذيهم، وكذلك أن يخبر بما رأى عليه من علامات حسن الخاتمة كأن مات وهو يذكر الله، أو مات في عمل صالح، أو مات برشح الجبين وتهلل الوجه ونحو ذلك؛ لأن من السنة الثناء على الميت الصالح والشهادة له بالخير.(255/7)
دراسة الطب النبوي
والطبيب المسلم من فقهه وعلمه الشرعي أنه يدرس الطب النبوي؛ لأنه مسلم، ونبيه صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأشياء تتعلق بالطب، فلا أقل من أن يلم بأشياء منها، فمن ذلك مثلاً: أنه يعلم الارتباط بين الأسباب والتوكل على الله، وأن الأخذ بالأسباب الشرعية لا ينافي التوكل على الله، وهو لا يعتمد على الأسباب فيقع في شرك الأسباب، ولا يترك الأسباب الشرعية؛ فيقع في التواكل والتفريط، وهو يعلم القواعد في الحمية الشرعية، وتبريد الحمى بالماء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا حم أحدكم، فليرش عليه الماء البارد ثلاث ليالٍ من السحر) ويعلم علاج العسل لاستطراق البطن.(255/8)
عدم نفي ما وصفه النبي عليه الصلاة والسلام من أمراض
والطبيب المسلم من فقهه وعلمه أنه لا ينفي بجهلٍ أثر ما وصفه النبي عليه الصلاة والسلام من أمراض ولو كانت بعض النفوس تتقزز منه، مثل وصف بول الإبل لمرض الاستسقاء، فإنه قد ثبت في صحيح مسلم أنه عليه الصلاة والسلام قد وصف بول الإبل في علاج مرض الاستسقاء كما جاء في رواية مسلم: (فلما أصاب القوم عظمت بطونهم وارتهشت أعضاؤهم) وهذا من أعراض مرض الاستسقاء.
وكذلك لا ينفي الطبيب المسلم بجهل أثر الحجامة كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يحتجم في الأخدعين والكاهل، وأوصى بالحجامة يوم السابع عشر والتاسع عشر والحادي والعشرين، وإذا كانت يوم الإثنين والخميس فهو أحسن كما جاءت الوصية بذلك في الأحاديث الحسنة والصحيحة، وتكون على الريق وليس على الشبع كما جاءت الوصية بذلك في الأحاديث الصحيحة.
والطبيب المسلم يعلم أيضاً أنه يوجد في الطب النبوي علاج لمرض عرق النسا وهو ألية شاة أعرابية تذاب ثم تجزأ ثلاثة أجزاء، ثم يشرب على الريق في كل يوم جزء.(255/9)
عدم إنكار أثر الرقية الشرعية في الشفاء
والطبيب المسلم لا ينكر أثر الرقية الشرعية في الشفاء من الأمراض الجسدية والنفسية، ولا ينفي صرع الجن الإنسي، وأثر القرآن في شفاء ذلك، ويعلم أيضاً أهمية العلاجات الدينية الشرعية في الشفاء من الأمراض النفسية كالوسوسة وغير ذلك، وأن من الأذكار الشرعية ما يعالج كثيراً من الأمراض النفسية، ومع الأسف أنه يوجد في كتب الأطباء الكفرة شيء يقال له: (باي بلفافي) ولا يوجد ما يقابل ذلك في الكتب فيما يتعلق بالعلاج بالقرآن والأذكار الشرعية، وكثيرٌ من الأمراض النفسية لها علاقة مباشرة بقضية الإيمان بالقضاء والقدر، بحيث لو أنها شرحت من قبل الطبيب المسلم شرحاً جيداً لتركت آثاراً لا يستهان بها في نفس المريض النفسي، ذلك لأن كثيراً من الأمراض النفسية سببها في الحقيقة المصائب، فبعض الناس نفوسهم ضعيفة لا تقوى أمام المصائب، فإذا حصلت له مصيبة؛ أصيب بالانهيار والإحباط، أو أصابته حالة الاكتئاب والحزن ونحو ذلك من الأمراض النفسية المعروفة لدى الأطباء النفسانيين، فنقول: الطبيب المسلم يعتني بذلك وعلمه وفقهه يقودانه إلى استخدام هذه الأشياء الواردة في الكتاب والسنة واستخدام هذه الأشياء في العلاج.(255/10)
فقه جراحات التجميل
وكذلك فإن من الأمور الشرعية المتعلقة بقضايا العلاج الفقه في قضية جراحات التجميل ما يجوز منها وما لا يجوز، فإن الشيطان من طرقه أنه سيأمرهم ليغيروا خلق الله: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:119] وتغيير خلق الله من الأشياء المنتشرة في عالم جراحات التجميل.
من فقه الطبيب المسلم أنه يفرق بين إزالة عيب حدث لإرجاع ما كان إلى ما كان عليه، مثل جراحات الحروق، ويفرق الطبيب المسلم في عمليات جراحة التجميل بين إزالة الضرر كالإصبع الزائد الذي يمنع الشخص من الكتابة والسلام والتصرف، وبين عمليات أخرى لا يقصد بها إلا التجميل مثل تصغير الثدي والأنف وليس فيها أي مصلحة بدنية.
الطبيب المسلم يفرق بين حالات وشر الأسنان وبردها بالمبرد وتفليجها وتفليقها وهو المنهي عنه لما لعن النبي عليه الصلاة والسلام الواشرات والمستوشرات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله، وبين عمليات تقويم الأسنان المباحة التي لا حرج فيها، وهو يفرق بين تفليج الأسنان وبين إزالة سن من الأسنان يسبب ضرراً للشخص.(255/11)
قواعد شرعية مهمة
وكذلك فإن من القواعد الشرعية أن الطبيب يسعى لإزالة المرض وهذا لاشك أنه بدهي، ومن فقه الطبيب أن يعلم أن الجسد فيه حق لله وحق للعبد، وأنه لا يجوز لأحد أن يتصرف في حق غيره إلا بإذنه، وأنه إذا اجتمع شيء فيه حق لله وحق للإنسان؛ فلا يسقط حق الله بمجرد إسقاط الإنسان لحقه.
ومن فقه الطبيب أن يعلم أنه إن أمكن تحصيل المصالح كلها فالحمد لله، فإن تعذر حصل المصلحة الأعلى، وأنه يحصل أعلى المصلحتين إذا تعارضتا، فإذا تعذرت المفاضلة جاز الاختيار، وأن يعلم الطبيب المسلم أنه يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، وأن الضرر ضرورة تقدر بقدرها، وأن الضرر لا يزال بمثله.
وكذلك لا تنقلب الرخصة التي أنشأها الشرع للطبيب أو الجراح لممارسته عمله على أجسام الناس إلى حق إلا برضى المريض، ويستثنى من ذلك حالات الضرورة والاستعجال، يعني: لا يجوز للطبيب أن يتصرف في جسد المريض إلا بإذنه، لكن هناك حالات جراحة تستوجب التدخل كالتصرف في بدن المريض استئصالاً أو عمل شيء معين لا يمكن أخذ موافقة المريض عليها، لأن الحالة تستدعي تدخلاً عاجلاً، ففي هذه الحالة يتدخل وهو محسن، وما على المحسنين من سبيل.(255/12)
الهدف هو رد الصحة المفقودة ما أمكن
كذلك من فقه الطبيب المسلم أن يعلم أن من هدف الصحة الموجودة رد الصحة المفقودة ما أمكن، وإزالة العلة أو تقليلها قدر الإمكان، وتحمل أدنى المفسدتين بإزالة أعظمهما، وكذلك أنه يجب ألا يصل بعلاجه لإزالة علة بأن يوجد علة أخرى أعظم وأكثر، فمن ذلك أن بعض الأطباء قد يفرط في إعطاء المريض مثلاً إبر (المورفين) للتسكين، صحيح أن إزالة الألم شيء طيب، لكن إذا كان يترتب عليه أن يتحول المريض إلى مدمن للمخدر، فإن هذا لا يجوز مطلقاً، وإذا كانت العلة لا يمكن علاجها؛ امتنع الطبيب عن العلاج.(255/13)
علاج من ليس مريضاً
بعض الأطباء يضحكون على المرضى يريدون أخذ المال، فيعلم أنه لا يمكن أن يعالج هذا المرض، فيعالجه لأخذ المال، والقاعدة في هذا أن الطبيب إذا عرف أنه لا يمكنه إزالة العلة بالعلاج؛ فإنه لا يجوز له أن يعالج إلا إذا كان العلاج لشيء نفسي، كأن يرفع معنويات المريض بدلاً من إخباره بأن حالته ميئوس منها مثلاً.(255/14)
عدم تجريب العلاجات
وكذلك بالنسبة للأدوية لا يجوز للطبيب أن يجرب الأدوية في أجساد الناس، وإنما يعطي الدواء المعروف بأثره الإيجابي، ولا يجوز أن يجرب دواءً بما تخاف عاقبته، وإنما إذا أراد أن يجرب دواءً؛ يجرب دواء ليس له أضرار جانبية سلبية؛ لأنه في بعض الحالات قد لا يوجد لديه علاج معروف للمرض لكنه يجرب علاجاً، فلا يجوز أن يجرب علاجاً إلا وهو متأكد أنه لا يحدث أضراراً سلبية.
وكذلك فإن من قواعد الشرع الشرعية في العلاج أن يعالج الأسهل فالأسهل، فلا ينتقل من الدواء البسيط المعتاد إلى الدواء المركب إلا إذا تعذر استعمال الأول، وكذلك لا يقوم بإجراء عملية فيها إيذاء وشق وإيلام وتشويه لما يمكن أن يعالج بالأدوية، ويحدث عند بعض أطباء النساء والولادة من إجراء العمليات القيصرية والتساهل فيها، بعضهم خبثاً حتى لا تكون المرأة المسلمة في إنجاب دائم متواصل، وهذا حصلت له حالات من بعض أطباء الكفار في نساء المسلمين، أو أنه يرى الشق أسهل، أو أنه ينظر إلى أن العملية أقل ألماً، لكن لا ينظر إلى أن العملية تسبب تفويت مقصد من مقاصد الشارع وهو كثرة النسل، فهو من قلة فقهه ينظر إلى الأقل ألماً، ولا ينظر إلى مقاصد الشرع الأخرى في قضية تكثير النسل على سبيل المثال.
وينبغي أن يفرق في فشل العلاج بين المجتهد المخطئ وبين المقصر والمهمل، فالطبيب إذا بذل جهده ووسعه ثم فشل العلاج أو مات المريض؛ فإنه لا يتحمل مسئولية لأن الله يقول: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة:91] بخلاف ما إذا كان مفرطاً ومهملاً.(255/15)
الطبيب من شهداء الله في أرضه
يجب أن الطبيب يستشعر مسئوليته في أنه من شهداء الله في أرضه، والله يقول: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2] ويقول الله عز وجل: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ} [الزخرف:19] وسينبني على شهادة الطبيب أشياء عظيمة كترك المريض للصلاة قائماً، أو ترك المريض استعمال الماء في الطهارة، أو ترك المريض للصيام، أو لجوء المريض إلى رخصة للضرورة، أو وضع جبائر، تأمل أنه لو وضع الجبيرة أكثر من موضع الحاجة، فصار المريض يمسح على الجزء الذي لا داعي لوجود الجبيرة عليه وهذا خلل في الطهارة، من الذي يتحمل ذلك إذا غفل المريض؟ إن الطبيب هو الذي يتحمل ذلك، فبضعهم يجعل لفات أو يزيد في وضع الجبيرة أكثر مما يحتاج؛ مما يترتب عليه الإخلال بطهارة المريض، وسيترتب على كلام الطبيب انتقال المريض من الماء إلى التيمم كما قلنا، أو أنه يستعمله في جزء من البدن دون آخر، أو سيترتب عليه أنه يدفع كفارة، وسيترتب على كلام الطبيب ترك الجمعة والجماعة، وسيترتب على شهادته وإجازاته التي يعطيها أن هذا الشخص لا يعمل وعمله فيه أجر، فإذا أعطاه إجازة غير صحيحة؛ فهو متسبب إلى أن يأكل مالاً بغير حل، فالطبيب إذاً شهادته عظيمة.
ومن شهادته أشياء ينبني عليها الطلاق بين الزوجين، والتصرفات في مرض الموت، فإذا قرر الطبيب أن هذا المرض مرض موت؛ فإن تصرفات المريض المالية كالهبات مثلاً لبعض الورثة لا تقبل، أو تطليق الزوجة في مرض الموت بقصد حرمانها من الميراث.
وسينبني على تقرير الطبيب التفريق بين الزوجين أو منع المعاشرة، أو ثبوت المهر كاملاً وعدم ثبوته، أو رد المهر، وسينبني على تقريره معرفة هل في الرجل عيب يمنع الوطء أو الاستمتاع، كأن يكون عنيناً مثلاً.
وسينبني على تقرير الطبيب معرفة هل هذا المرض يمكن علاجه أو لا يمكن علاجه، فلابد من فسخ العقد والنكاح.
وسينبني على كلام الطبيب أحقية الزوجة في طلب الطلاق مثل قضايا العقم عند الرجال، ولذلك يقول العلماء: يُسأل طبيب مسلم ثقة خبير بفنه عالم بمجاله وتخصصه.(255/16)
الطبيب داعية إلى الله
والطبيب المسلم أيضاً يراعي الله سبحانه وتعالى، فمن وظيفة الطبيب المسلم أنه داعية إلى الله عز وجل، وليس طبيباً فقط، فالطبيب الداعية يعلم الناس الخير، ومن الناس المرضى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته، وحتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في البحر، ليصلون على معلم الناس الخير).
فالطبيب يعلم المريض أولاً أن الشفاء من الله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] وأن الله هو الطبيب كما جاء في الحديث الصحيح، ولا يلتفت إلى دعاوى العلمانيين الذين يقولون: إن تعليمك للمريض أمور الدين هو استغلال للمريض في مرضه لطرح آرائك الشخصية، نقول: هذه ليست آراء شخصية، هذا دين يجب تبليغه على الطبيب المسلم قبل أن يكون طبيباً.
ويعلم المريض كذلك عدم الشكاية، لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم السائب قال: (ما لك تزفزفين؟ قالت: الحمى لا بارك الله فيها، فقال: لا تسبي الحمى فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد) رواه مسلم.
فيعلمه عدم لعن المرض أو سب الحمى.
ويعلمه كذلك الرضى بالقضاء والقدر (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء؛ شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له).
الطبيب داعية إلى الله يعلم المريض عدم تمني الموت؛ لأن المريض تحت وطأة الألم قد يتمنى الموت ويدعو به، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا يتمنين أحدكم الموت، ولا يدعو به من قبل أن يأتيه، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً) حديث صحيح، وفي الحديث الآخر يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يتمنين أحد منكم الموت لضر نزل به، فإن كان لابد متمنياً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي).
والطبيب الداعية يعلم المريض ما يحتاج من الأحكام الشرعية، فيبين له من أحكام الطهارة واستقبال القبلة والصلاة، ويعطيه من فتاوى العلماء ما يبين له طريق العبادة، يعينه على التيمم بالتراب؛ إذا لم يوجد الماء، ويعينه على الوضوء والقيام بذلك، وكثيرٌ من المرضى الجهال يتركون الصلاة أثناء مرضهم، فالطبيب يعلم المريض أنه يجب أن يصلي على حسب حاله، ويوجهه للقبلة إن أمكن ذلك، وإذا سألت وقلت: كيف يتوجه المريض إلى القبلة وهو على فراشه؟ فنقول: يكون مستلقياً على ظهره ووجهه ورجلاه إلى القبلة، بحيث لو أوقف لصار متوجهاً للقبلة، هذه طريقة استقبال القبلة للمريض على فراشه، ويأمره بالصلاة في أوقاتها ويذكره بذلك؛ لأن المريض قد تنسيه آلام المرض الصلاة، بل يوقظه للصلاة، وكثير من الأطباء لا يبالون بنوم المريض، حتى لو لم يكن لحاجة وضرورة؛ فإنهم يتركون المرضى ينامون عن الصلوات وعن صلاة الفجر، مع أن بعض المرضى يمكن أن يقوم للصلاة ومرضه ليس بذاك الذي يجعله ينام عن الصلاة.
وهو يعلمه كذلك الترتيب في قضاء الصلوات.
ويعلمه أن إزالة النجاسة من الثياب بقدر الاستطاعة، فإن لم يكن ممكناً صلى ولو كان في ثوبه نجاسة وعليه آثار الدماء.
وكذلك يعلمه أن من أغمي عليه لأيام طويلة؛ فإن الصلاة تسقط عنه.
ويعلمه أنه لو لم يتمكن من الصلاة بالوضوء أو التيمم؛ فإنه يصلي بغير وضوء ولا تيمم، لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16].
وكذلك فإن الطبيب الداعية إذا أتاه كافرٌ يعالجه؛ فإنه يدعوه إلى الإسلام، وبالذات إذا حضرت الكافر الوفاة كما جاء في حديث أنس رضي الله عنه قال: (كان غلامٌ يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه يعوده، فقعد عند رأسه، فقال: أسلم، فنظر الغلام اليهودي إلى أبيه وهو عنده، فقال له الأب: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار).
والطبيب الداعية لا يفصل بين أمور المهنة وواجبات الدين، فهو مسلم قبل أن يكون طبيباً، وإذا كان أصحاب الجمعيات التبشيرية كـ منظمة أطباء بلا حدود وغيرها، يعطون المسلمين الدواء بيد والصليب باليد الأخرى، ويعطونهم مع إبرة تخفيف الألم تأليه يسوع وهم كفار على الباطل، أفلا يكون هذا دافعاً للطبيب المسلم وهو على دين الحق أن يبلغ دين الله سبحانه وتعالى؟ الطبيب الداعية يتخذ المواقف الصحيحة عندما تأتي حالات تكشف عن جرائم أو فواحش، فإذا كانت القضية الشرع فيها أن يستر؛ ستر ولم ينتهك أو يفشي أسراراً أو يشهر، وإذا كانت القضية لابد من تبليغها إلى الجهات المسئولة لأخذ الحق الشرعي وإقامة القضية والدعوى في المحكمة؛ فلابد أن يبين، وفي بعض الحالات يطلع الطبيب على أشياء لابد فيها من تنبيه الزوج على أمور تتعلق بزوجته، فهنا يستخدم الحكمة والكلمات المناسبة في ذلك، ويفرق بين ما إذا كان هذا الذي أمامه تائباً أو مصراً غير مبالٍ بالمعصية.
وكذلك من ضمن هذه الأشياء التي ينبغي أن يكون عنده حكمة فيها هذه الحالة: رجل عقيم قام بالتحليل؛ فلم يوجد في مائه حيوانات منوية على الإطلاق، ثم رجع وأخبر الطبيب أن زوجته حامل، وطلب إعادة التحليل، فخرجت نفس النتيجة السابقة وتأكد الطبيب، هل يخبر الطبيب الرجل أم لا؟ سبق أن ذكرنا أنه لابد للطبيب أن يتفقه في دين الله، وأن يرجع إلى أهل العلم والذكر ليسألهم، فهذه حالة من الحالات لابد من الرجوع مثلاً إلى أهل الذكر وسؤالهم، فيقال: إن التحليل يثبت أنه لا يوجد هناك أي احتمال لأن يلقح هذا الرجل وزوجته حامل، فهل يخبر أو لا يخبر؟ أما الدليل الشرعي فيقول: الولد للفراش، ولم أضرب هذا المثال لذات المثال، بل لأقول وأبين وأنبه وأؤكد على أهمية الرجوع إلى أهل العلم في مثل هذه القضايا، وكثير من قضايا الطب من النوازل التي ينبغي البحث فيها ليس لعالم وإنما لمجموعة علماء.(255/17)
إخلاص الطبيب ومراقبته لله
الطبيب الداعية والمخلص لا يحتاج إلى قسم المهنة؛ ليردعه عن الإخلال بوظيفته ومهمته؛ لأن مراقبة الله هي الضمان، لقد جرت العادة منذ عهد أبقراط أن يبدأ الطبيب حياته المهنية بترديد قَسم يلتزم بآدابه في ممارسة الطب، ونحن نعلم أن قضية السلوك المهني لا تحل بقَسم، وإنما الذي يحلها فعلاً هي مراقبة الله عز وجل، فإذا كان القَسم غير شرعي؛ لا يجوز له أن يقسم أصلاً، ولكن نؤكد على أن مراقبة الله (والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس) هذا هو الضمان الحقيقي لقيام الطبيب بمهمته على الوجه الصحيح.
الطبيب المخلص يعمل لمصلحة المسلمين وإن تعارض ذلك مع مصلحته الشخصية، فمثلاً: الطبيب يسعى لمنع الأمراض، وإن نتج عن ذلك قلة المرضى وبالتالي قلة المراجعين لأصحاب العيادات الخاصة، وشعاره هو: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268] فبعض الأطباء يشعرون بالسرور إذا انتشرت الأمراض في البلد؛ لأن الناس سيراجعونهم ويأخذون الأموال، لكن الطبيب المخلص يشعر بالألم إذا انتشر المرض بين الناس، ولو كان ذلك لا يجر عليهم منافع.
كذلك من الإخلاص ألا ينزلق الطبيب المسلم وراء الغرور المهني عند نجاحه في بعض الأعمال؛ لأن ذلك يحبط الأعمال ويزيل الأجر.
عن أبي رمثة قال: (انطلقت مع أبي نحو النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أبي: أرني هذا الذي بظهرك) أي: خاتم النبوة، خاتم النبوة كان مجموعة عظام على هيئة حلقة بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل فيه أوصاف أخرى (فإني رجل طبيب) طبعاً هذا ما فهم أن هذا خاتم نبوة وليس بعلة ولا مرض، وإنما رأى هذا فقال: أنا طبيب دعني أكشف عليك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم في غاية الحكمة والتوضيح: (الله الطبيب، بل أنت رجل رفيق، طبيبها الذي خلقها) حديث صحيح.
لما رأى أبو رمثة خاتم النبوة وكان ناتئاً، فظنه ورم تولد من الفضلات ونحو ذلك، فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم بإخراجه من هذا إلى غيره، يعني: أن يقول: ليس هذا علاجٌ بل كلامك يفتقر إلى العلاج، حيث سميت نفسك طبيباً والله هو الطبيب، وإنما أنت رفيق ترفق بالمريض وتتلطف به، فهذا من الأسلوب الحكيم البديع، وذلك لأن الطبيب الحقيقي هو العالم بحقيقة الداء والدواء والقادر على الصحة والشفاء، والذي يملك ذلك هو الله عز وجل، ففي حالة طلب الشفاء يذكر المسلم نفسه أن الله هو الطبيب المداوي الحقيقي.
وكذلك فإن الطبيب من إخلاصه أنه لا يستغل طبه لامتيازات ومنافع شخصية، كأن يحصل على تخفيضات من المحلات، أو أن يأخذ شيئاً ليس من حقه، أو يعتدي على حق غيره، أو يستغل قضية أن الناس يخافون من الطبيب ويخشونه، أو أنه يقول: إذا عالجتك تنشر إعلاناً في الجريدة فيها دعاية لنفسه، أو تقول: اشكر الدكتور فلاناً كما يفعل بعض الناس، لو جاءت من المريض فذلك من عاجل بشرى المؤمن، لكن أن الطبيب يشترط عليه أنه يشكره خطابياً أو يكتب في الجريدة، فليس هذا من الإخلاص في شيء.(255/18)
الطبيب آمر بالمعروف ناهٍ عن المنكر
وكذلك فإن الطبيب آمرٌ بالمعروف ناهٍ عن المنكر، ولذلك فهو ينكر الاختلاط والتبرج المتفشي الموجود الآن في عالم الطب في المستوصفات والكليات وغيرها: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) ونحن ما أوتينا إلا من قضية التواكل وإلقاء المسئولية على الآخرين، وكل واحد يقول: ليس من شأني هذا ولا من تخصصي، أنا مجرد معالج، فيرى المنكر أمامه فلا يغيره، بل ربما يساعد في المنكر، كأن يأتيه شخص يقول: إنني أريد السفر إلى الخارج إلى بلاد الفسق والفجور، وأريد أن تعطيني إبرة مناعية للأمراض الجنسية، فإذا علم الطبيب أن هذا الرجل سيذهب إلى الفجور، فلا يجوز أن يعينه على ذلك بإعطائه مثل هذه الإبر التي يساعده بها على أن يقع في الحرام، ولو جاءه مريض مصاب بمرض جنسي، يساعده ولو كان فاسقاً ويعالجه لأجل عدم انتشار المرض عند الأصحاء والأبرياء، فلو جاءك فاسق أصيب بمرض نتيجة فواحش فلك أن تعالجه، ولكن تنصحه لعله أن يتوب، أما أن تعطيه من الأسباب ما يقويه على الفاحشة ويشجعه عليها، فهذا لا يجوز لك بأي حال من الأحوال.(255/19)
الطبيب صاحب أمانة
الطبيب المسلم صاحب أمانة: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] فقد يخبر الطبيب المريض لأسباب عن أسرار خاصة به، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (المجالس بالأمانة، إذا حدث رجل بحديث ثم التفت فهي أمانة) فلا يجوز له أن يفشي أسرار المريض إلا إذا كانت القضية تستدعي تبليغ الشرع ووصول القضية إلى المحكمة، فهذا أمرٌ آخر، لكن الأشياء التي لا تستدعي ذلك، لا يحوز للطبيب إفشاؤها بأي حال، سواءً كان ذلك متضمناً في قَسم المهنة أو ليس بمتضمن، فإن الطبيب صاحب أمانة، والله عز وجل يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] وقد يحمله المريض وصايا، أو يحمله المحتضر وصية وهو على فراش الموت، أو يطلب له أن يستسمح له من أشخاص أو يعتذر إليهم، أو يقول: أنا أخذت من فلان كذا، أو لفلان دين، أو لفلان عندي مال ولفلان عندي حق، فعلى الطبيب أن ينقل ذلك بأمانة، وأن يخبر أولياء الميت وورثته بما أخبره به المريض.(255/20)
الطبيب صاحب خلق حسن
وكذلك فإن الطبيب المسلم صاحب خلق حسن، وأقرب الناس مجلساً من النبي عليه الصلاة والسلام أصحاب الأخلاق الحسنة الذين يألفون ويؤلفون.
ومن أخلاق الطبيب الرحمة وهو يرحم خلق الله ويرأف بهم، وهذه الصفة مهمة لأطباء الطوارئ؛ لأن بعضهم من كثرة الحالات يتأفف وربما يقسو على المرضى ويجابههم بوجه خشن، ويضيق صدره بهم، فربما تلفظ على بعض المرضى بألفاظ لا تليق بطبيب مسلم، فينبغي أن نتعامل معهم من دافع الرحمة وهي الخلق المهم من أخلاقيات الطبيب، وإذا حضر الطبيب المريض أو الميت؛ فإنه يدعو له بخير، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حضرتم المريض أو الميت؛ فقولوا خيراً؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون).
ومن أخلاقيات الطبيب أنه لا يظهر الابتهاج، وكذلك طالب الطب لا يظهر الابتهاج إذا جاءت حالة نادرة فرحاً بها أمام المريض المسكين، ومن الرحمة كذلك أن يتجنب دفع المريض للقيام بحركات وتصرفات معينة؛ لأجل أن يبين لطلاب الطب أعراض المرض، كأن يجعله يجري مثلاً في الممر؛ ليظهر لهم أشياء تتعلق بنبضه أو إعيائه ونحو ذلك كما يفعله بعض الذين يدرسون الطب، فيقولون: من أجل تدريس الطلاب يرهقون المريض وربما يؤخرون علاجه، لا، يجب أن يعطيه العلاج الذي يحتاجه الآن، يقول: نستدعي أولاً الطلاب ليرون المريض ثم نعطيه العلاج، والمريض يحتاج إلى العلاج، وهذا ليس من الإنسانية في شيء ولا من الرحمة.
وكذلك ينبغي عدم إشعار المريض بأنه حقل تجارب أمام طلاب الطب، ولابد أن يسارع الطبيب إلى النجدة من هذه الرحمة الموجودة لديه.
وكذلك من أخلاقيات الطبيب أنه يتلطف في حال الكشف، فعندما يرى المريض أو المريضة متحرجاً من الكشف فلا يقسو عليه أو يأمره بالكشف ونحو ذلك، وإنما يراعيه ويسايسه في قضية الحرج هذه لأنها مسألة شرعية، وليس من شعور أشد على المريض من أن يرى من حوله من طلاب الطب يتناوبون عليه، كل واحد يقول: تفضل اكشف، فيقول له الآخر: تفضل اكشف أنت، ويتعلمون عنده وهو يئن تحت وطأة المرض وألم المرض.
وكذلك من حسن أخلاق الطبيب أن يتلطف في إخبار المريض عن مرضه، وإذا لم ير من الحكمة والمصلحة أن يخبره عن الحقيقة؛ فلا بأس أن يكتمها أو يؤخرها، لكن إذا كان المريض على وشك الموت ومرضه مميت، فلابد أن يبين له الطبيب أشياء تتعلق بوضعه حتى يتهيأ للموت، قد تكون عنده وصايا أو أشياء يريد الإخبار بها، فلا يقول: لا نخبره مطلقاً، فيموت المريض فجأة دون أخذ احتياطاته.
وكذلك إخبار المرضى بالعمليات الجراحية التي تكون في العادة خبرها شديد الوطأة عليهم.
وكذلك من أخلاقيات الطبيب ألا يعطي المريض كومة أدوية لا داعي لها لتكلفه، وإنما يعطيه الدواء النافع الذي يعلمه بخبرته، ولا ينساق وراء إحساس بعض المرضى أن الطبيب ليس بجيد إلا إذا أعطى كومة من الأدوية، ولذلك بعض الأطباء يصفون علاجاً، ثم يقول المريض: عندي حرارة، فيكتب، ثم يقول له: عندي كحة، فيكتب، ثم يقول له: عندي صداع، فيكتب، فأين أنت؟ إما أنك لم تكشف عليه كشفاً جيداً ولم تسأله وهذا تقصير، أو أنك تكتب أشياء لا داعي لها، وينبغي أن يكون الطبيب صريحاً صادقاً مع المريض.
ثم إن من إتقان الطبيب أن يكتب الدواء بعناية؛ لأن بعض الصيادلة لا يحسنون قراءة الوصفات، فيعطون المرضى أدوية غير مطلوبة، فلا أقل من أن يحسن الطبيب خطه، ولا نحتج بأن كل الصيادلة يقرءون جميع هذه الخطوط الرديئة التي تعود الأطباء على كتابة الأدوية بها، بل إن بعض من جربوا في الصيدليات، أثبتوا أنهم يعطون الدواء غير الصحيح؛ بسبب جهلهم أولاً ثم بسبب عدم إتقان الطبيب كتابة اسم الدواء ثانياً.(255/21)
الطبيب صاحب عقيدة صحيحة
الطبيب المسلم صاحب عقيدة صحيحة وكما قلنا: إنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإذا رأى بعض المرضى يعلقون تمائم وعزايم، أو يذهبون للعرافين والكهان، من الواجب عليه أن يبين حرمة ذلك: (من علق تميمة فقد أشرك) والذي يأتي الكاهن والعراف لا تقبل له صلاة أربعين يوماً، فإن صدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد.
قد تحدث أمام الطبيب منكرات من أهل المريض أو الميت مثل: النياحة، أو شق الثوب وشد الشعر، فلابد من دورٍ في إنكار المنكر والنهي عن النياحة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (النائحة إذا لم تتب قبل موتها؛ تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب) وفي حديث صحيح آخر: (النياحة على الميت من أمر الجاهلية، وإن النائحة إذا لم تتب قبل أن تموت؛ فإنها تبعث يوم القيامة على سرابيل من قطران، ثم يغلى عليها بدروع من لهب النار).
كذلك فإن الطبيب المسلم لا ينسى ذكر الله، فعند شروعه بالعلاج يقول: باسم الله، يستعين بالله على العلاج، ويتجنب الأدوية المحرمة مثل التي فيها كحول مسكر، ويتجنب كذلك ما يحبط المريض نفسياً، فلابد أن يأتيه بنفسية التفاؤل كما جاء في الحديث (أصبح بحمد الله بارئاً) فهذا هو التفاؤل للمريض، وكذلك إتيانه بما يشتهيه إن كان لا يضره، وأن يدعو للمريض (اللهم رب الناس أذهب البأس، واشف أنت الشافي، لا شافي إلا أنت شفاءً لا يغادر بلاءً ولا سقما).
كذلك من وظائف الطبيب أن يخبر المريض بأضرار ما حرمه الله كأضرار الخمر إن وجده مدمن خمر، أو التدخين إن وجده مدمن تدخين، أو المخدرات إن وجده مدمن مخدرات، وأضرار الفواحش إن وجده صاحب فواحش، وكذلك فإنه إذا قام بعمليات التجميل، كما قلنا: لا يقع في المنكرات، ويعمل عمليات شد الوجه ونحو ذلك، وإنما يصح أن يأتي من عمليات التجميل بما فيه إزالة التشويه الخلقي غير المألوف، أو إزالة ما في بقائه ضرر، أو إزالة ما فيه تشبه بالرجال كاستئصال بصلات شعر اللحية والشارب للمرأة، فهذا لا بأس به، أو إزالة التشويه الحاصل لحادث أو حريق.
كذلك فإن من المهم الاعتناء بتثقيف المرضى، والتعاون مع إدارة المستشفى في جعل مكتبات أو رفوف فيها كتب وأشرطة لنفع المرضى بدلاً من تسكعهم في الأسياب.(255/22)
الحذر من الوقوع في علاقات عاطفية مع المرضى
ومن الملاحظات أيضاً: الحذر من وقوع الطبيب في علاقات عاطفية مع بعض المرضى، وفي حالة وقوع المريض في حالة تعلق عاطفي مع طبيب، فمن واجب الطبيب أن يجعل المريض تحت رعاية أحد زملائه الآخرين، وهذه قضية خطيرة قد توصل إلى العشق والهلاك: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:28] ولا ينسى أن يستر عوراته سواءً كانت الأسرار التي أخبر بها أو التي اطلع عليها الطبيب أو العورة، فإذا مر بجانب سريره فوجده مكشوف العورة؛ غطاها وسترها (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة) والطبيب مستشار مؤتمن، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (المستشار مؤتمن) فلابد له من الإخلاص في بذل المشورة، والمرضى دائماً يستشيرون الأطباء، وهنا لابد أن يشير بالأمانة فيما يراه يُصلح حال المريض.(255/23)
تجنب تجريح الطبيب لزملائه
كذلك من أخلاقيات الطبيب أن يتجنب تجريح زملائه، فإذا جاءه مريض بدواء لا يقول له: من هذا المجنون الذي وصف لك هذا الدواء؟ أو من هذا الجاهل ونحو ذلك؟ ويشتم ويسب في بقية الأطباء؛ حتى يخبر هذا المريض بأنه هو الطبيب الفاهم المتقن، ولا يترفع الطبيب عن مشاورة زملائه؛ لأن كثيراً من قضايا العلاج تحتاج إلى رأي جماعي.
وليس من الأخلاق في شيء أن يتعصب الطبيب للمدرسة التي درس فيها، فبعضهم يتعصب للمدرسة الكندية، وبعضهم يتعصب للمدرسة الألمانية ونحو ذلك، ولاشك أن هذا التعصب أسوأ من تعصب أصحاب المذاهب الفقهية، لأن أصحاب المذاهب الفقهية إذا تعصبوا في قضية شرعية، وهؤلاء يتعصبون في قضايا دنيوية، وأولئك يتعصبون لشيوخ من العلماء وهؤلاء يتعصبون للكفار، وهذه التعصبات للمدارس الطبية تنشئ الفرقة والتعالي، وتحدث الضغائن والأحقاد.(255/24)
حسن اختيار التخصص الطبي
وينبغي كذلك على طلاب الطب تقوى الله سبحانه وتعالى، وانتقاء التخصصات التي تكون بعيدة عن المنكرات قدر الإمكان والتخصص الذي يحتاج إليه المسلمون أكثر، وانتقاء التخصص ينبغي أن يكون مبنياً على أمور منها: أولاً: التخصص الأبعد عن المنكرات.
ثانياً: التخصص الذي يحتاج إليه المسلمون أكثر.
ثالثاً: أن يقدم المصلحة العامة على مصلحته الخاصة؛ لأن بعض التخصصات قد لا يكون فيها مناوبات أو فيها رواتب أعلى، لكن يقدم الشيء الذي فيه مصلحة للمسلمين على الشيء الذي فيه مصلحة شخصية له.
وكذلك فإن للطبيب إسهامات أكثر من مجرد العلاج، له إسهامات في المجتمع يستطيع أن يحاضر ويخاطب وينصح، بل يستطيع أن يزرع في الأطفال أحياناً مفاهيم إسلامية عليا.
وكذلك فإن الطبيب الذي يخشى الله سبحانه وتعالى يسارع ويبادر في إنكار المنكر، والعودة بعالم الطب إلى واقعه الإسلامي الصحيح، وينبغي أن تتكاتف الجهود لأجل ذلك، ويحس كل واحد بمسئولياته بدلاً من حالة الموت التي نعيشها الآن، والتي سوغت استشراء وانتشار هذه المنكرات.
وختاماً نسأل الله سبحانه أن يعيننا أجمعين على القيام بأمر الشريعة والدين، وأن يرزقنا سلوك الصراط المستقيم والبعد عن المحرمات، إنه سميع مجيب، وأسأله عز وجل أن يعينكم معاشر الأطباء على القيام بما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن يوفقكم لبذل الخير والإحسان إلى الخلق، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير، والحمد لله رب العالمين.(255/25)
الأسئلة(255/26)
انتقاد الطب النبوي
السؤال
بعض الناس يطرحون هذه الأيام أن ما ورد في الطب النبوي هو آراء خاصة للنبي عليه الصلاة والسلام وليست وحياً؟
الجواب
هذا خطأ، الأصل أن ما أخبر به عليه الصلاة والسلام فهو وحي إلا إذا دل الدليل والقرينة على أنه من رأيه الشخصي، وإلا فكل ما يقوله فهو وحي له صلى الله عليه وسلم، ولذلك هذه الدعوة توصل في النهاية إلى عدم اعتماد أحاديث صحيحة واردة في الطب النبوي، والله سبحانه وتعالى رحيم بخلقه، ومن الرحمة أن يخبرهم بعلاج بعض الأمراض في كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.(255/27)
حكم النظر إلى وجه الممرضة أو الدكتورة
السؤال
ما حكم النظر إلى وجه الممرضة أو الدكتورة أثناء الكلام معها في شئون العمل؟
الجواب
الأصل أنه لا يجوز ذلك، والأمر بغض البصر واجب، وبعض الناس يقولون: لا يمكن وإحراج، نقول: تحمل الإحراج من أنك لا تتحمل العذاب.(255/28)
حكم لبس العدسات الملونة للتجميل
السؤال
ما حكم لبس العدسات الملونة للتجميل؟
الجواب
أفتى أهل العلم بعدم جواز ذلك، فإذا احتاجت فلتلبس عدسات شفافة، ولا تلبس العدسات الملونة.(255/29)
حكم إجراء عمليات قيصرية بدون حاجة
السؤال
بعض الأطباء يعمد إلى إجراء عمليات قيصرية لرفع رصيد العمليات التي يقوم بها حتى يكتب له ذلك في مجال الخبرة والترقية؟
الجواب
طبعاً هذا من الخيانة كما ذكرت، ومن العمليات المحرمة التي يقوم بها بعض الأطباء ربط المبايض، فإذا كان هذا لغير الضرورة، والضرورة معناها أن المرأة لو حملت تموت، فقيامه بعمليات ربط المبايض حرام؛ لأنه يخالف مقصد الشارع بتكثير النسل، وقد يموت أولادها وقد تطلق أو يؤخذ منها أولادها، فيكون قد جنى عليها ولو وافقت، ما دامت عملية ربط المبايض حرام لغير ضرورة فلا يجوز القيام بها.(255/30)
دخول المسجد بجهاز النداء
السؤال
بعض الأطباء يدخل بجهاز النداء الفيجر إلى المسجد دون أن يسكته؟
الجواب
هذا من إيذاء المصلين وإذهاب الخشوع، فلابد له من أن يجعله على وضعية لا يصدر فيها صوتاً.(255/31)
حكم الهبة من قبل المخرف
السؤال
إذا أعطى المخرف هبة؟
الجواب
لا تقبل هبته.(255/32)
حكم لمس عورة المرأة للطفل
السؤال
لمس عورة المرأة للطفل؟
الجواب
لا بأس، فإذا كان الطفل عمره سنتين فإنه لا حكم لعورته؛ بمعنى أن لمس عورته لا يبطل الوضوء.(255/33)
موت مريض نتيجة خطأ من الطبيب
السؤال
إذا مات المريض نتيجة خطأ من الطبيب فما حكم ذلك؟
الجواب
إن كان مفرطاً فعليه الدية، والكفارة عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، والدية يسلمها لأهله، ويجب أن يعترف، وليس أن تطوى القضية، وتلملم الأوراق، وتسحب المسألة، لابد أن يؤدي الحق إلى أهله في الدنيا قبل أن تقوم الساعة.(255/34)
حكم إلزام المريض بعدم الإنجاب لأمراض وراثيه
السؤال
هل يلزم المريض الذي عنده أمراض وراثية بعدم الإنجاب؟
الجواب
لا، لا يمكن منعه من ذلك شرعاً.(255/35)
حكم إخبار بعض الأطباء بنوعية المولود أثناء الحمل
السؤال
يخبر بعض الأطباء الحوامل بما عندها من ولد أو بنت؟
الجواب
أقول: ينبغي ترك ذلك؛ لأجل عدم إيقاع الناس في أوهام تتعلق بتوحيد الربوبية، فتعتدي على توحيد الربوبية، فيظنون أن الطبيب يعلم ما في الغيب، مع أن الطبيب لا يعلمه قبل الزواج ولا يعلمه قبل الوقت ولا يعلمه قبل التخلق، على فرض أنهم استطاعوا أن يعلموه بعد مرحلة معينة من الحمل؛ فإنهم لا يعلمون قبل ذلك، وبناءً عليه يكون علم الأطباء ناقصاً، فالله يعلم ما في الأرحام، ليس فقط في الشهر الرابع أو الخامس، لكن الله يعلم من أول الحمل وقبل الحمل وقبل الزواج، والأطباء لا يعلمون ذلك، الله يعلمه هل هو شقي أم سعيد، والأطباء لا يعلمون ذلك، الله يعلم رزقه والأطباء لا يعلمون ذلك، الله يعلم أجله والأطباء لا يعلمون ذلك.
بعض الناس يظن أننا استطعنا أن نصل إلى الذكورة والأنوثة في الشهر الفلاني، نقول: أين أنت من علم ما في الأرحام الذي يشمل هذا كله، فعلم الأطباء قاصر عن هذا ولاشك.(255/36)
حكم الأذان في أذن المولود
السؤال
ما حكم الأذان في أذن المولود؟
الجواب
هو لولي الولد، الطبيب يرشده إلى ذلك، ويسلمه الولد؛ لأجل أن يؤذن في أذنه.(255/37)
حكم إسقاط الجنين
السؤال
ما حكم إسقاط الجنين؟
الجواب
إذا كان هناك خشية على حياة الأم فيسقط الجنين، أما شق بطن المرأة الحامل إذا ماتت فقال بعض العلماء: إذا كان يغلب على الظن حياة الجنين فيجوز، وإلا فلا يجوز؛ لأنه اعتداء على الميت، ولا يجوز الاعتداء على الميت.(255/38)
إخلال النساء بواجبات المنزل
السؤال
إذا ترتب على بذلنا للوقت في مستشفى النساء الإخلال بواجبات المنزل ماذا يقدم؟
الجواب
لاشك تقدم واجبات المنزل.(255/39)
خلوة في المصعد
السؤال
إذا فوجئت بطبيب داخل المصعد لوحده؟
الجواب
لا تدخل المصعد بل تنتظر.(255/40)
حكم استخدام حبوب منع الحمل
السؤال
ما حكم استخدام موانع الحمل؟
الجواب
موانع الحمل يشترط فيها ثلاثة شروط: أولاً: ألا تكون ضارة.
ثانياً: ألا يزيد استعمالها عن سنتين.
ثالثاً: أن تكون بموافقة الزوجين.(255/41)
خارج المستشفى متحجبة وداخله كاشفة
السؤال
بعض الممرضات تأتي المستشفى وهي متحجبة ومتنقبة وعليها القفازات والجوارب السود، ثم بعد ذلك ترى في الأقسام وقد كشفت النقاب وهذه الزينة فما حكم ذلك؟
الجواب
طبعاً هذا من عدم الخوف من الله سبحانه وتعالى، هل خوف الله فقط خارج المستشفى وداخل المستشفى يتهاون في شرع الله! طبعاً هذا لا يجوز.(255/42)
كيفية التوفيق بين علم الطب وعلم الشرع
السؤال
كيف يكون التوفيق بين التعمق في فهم علوم الطب والتعمق في الفقه الشرعي؟
الجواب
لابد أن تكون للطبيب قراءات خارجية وليس فقط أن يكون مقتصراً على قراءته في كتب الطب، ولتكن هذه القراءات الخارجية هي قراءة في الأمور الفقهية اللازمة التي يحتاجها.
ونتوقف عند هذا الحد، والموضوع بقي فيه أشياء وأمور أخرى لعل الفرصة تتاح إن شاء الله للحديث عنها في درس قادم، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا وإياكم للخير وأن يأخذ بأيدينا إلى طريق الحق والصواب، وأن يحسن خاتمتنا أجمعين، ويرزقنا الفوز بجنات النعيم والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(255/43)
ولاية الله ومقتضياتها
إن مسألة الولاء لله سبحانه وتعالى هي مسألة المسائل ورأس الأحكام، فهي من القضايا الخطيرة في الولاء والبراء بل هي رأسها، وكل مسألة في الولاء والبراء إنما هي فرع هذه المسألة، ولقد تحدث الشيخ عن هذه الولاية لله ومقتضياتها وبعض مسائل الاعتقاد التي أصبحت نسياً منسياً عند كثير من المسلمين.(256/1)
الولاء لله رأس المسائل والأحكام
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، قال سبحانه: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام:14] سبحانه وتعالى عما يشركون، سبحانه وتعالى عما يوالون من دونه من أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، سبحانه وتعالى عما يشركون في حكمه، وفي حلاله وحرامه، سبحانه وتعالى عما اتخذ من دون الله ولياً يعادى من أجله، ويوالى فيه.
أيها الإخوة: إن الولاء لله سبحانه وتعالى هي مسألة المسائل ورأس الأحكام، وهي قضية خطيرة من قضايا الولاء والبراء وهي رأسها، وكل مسألة في الولاء والبراء إنما هي فرعٌ عن هذه المسألة وهي موالاة الله عز وجل.
الولاية لله والخضوع له سبحانه وتعالى هي الأساس الذي تقوم عليه تصرفات المسلمين من عبادات ومعاملات واتخاذ المواقف من الآخرين، وهذه المسألة التي لو تحطمت في نفوس المسلمين؛ لأصبحوا كفاراً مرتدين، ولا ينفعهم عند ذلك عملٌ صالحٌ أبداً.
ولما كان من أسباب تقهقر المسلمين في هذا العصر تخلخل العقيدة في نفوسهم، كان لا بد من الكلام باستمرار على قضايا العقيدة الهامة والخطيرة، ومسألة الولاية لله سبحانه وتعالى، لو كانت متحققة فعلاً في نفوس المسلمين اليوم لما وصلوا إلى الحالة التي هم عليها الآن.
إن كثيراً من المسلمين قد ارتدوا عن دين الله، ووالوا أعداء الله، وعقدوا معهم الأحلاف، وأطاعوهم في الحلال والحرام، واستوردت القوانين في بلاد المسلمين، يحكمون فيها كفراً ورِدةً عن دين الله؛ بسبب عدم مولاة الله عز وجل.
وولاية الله جاءت في القرآن في آياتٍ عديدة: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف:196] {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257].(256/2)
من مقتضيات الولاء لله: اتخاذ الله سبحانه وتعالى حكماً
أيها الإخوة: ولاية الله لها مقتضيات: فمنها: اتخاذ الله سبحانه وتعالى حكماً، يقول الله عز وجل: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً} [الأنعام:114] لا يمكن أن أتخذ غير الله حكماً يحكم في الأمور {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40] فلمن الحكم؟ لله عز وجل.
إن الذين يتحاكمون إلى غير الله ذمهم الله في القرآن ذماً شديداً، ووصفهم بأنهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به، فمن الذي يحلل؟ ومن الذي يحرم؟ ومن الذي له هذا الحق؟ كيف كفر اليهود والنصارى؟ أليس لأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، يطيعونهم في الحلال والحرام؛ ولذلك كان التحاكم إلى شريعة غير شريعة الله من الكفر الصريح البواح، والذي يعتقد أن شرع غير شرع الله أفضل من شرع الله فهو كافر، والذي يعتقد أن شرع الله مساوٍ لشرع غير الله وهو يأخذ بشرع الله فهو كافر، حتى لو حكم شرع الله ما دام يعتقد أن شرع غيره أفضل، أو أن شرع غيره مثل شرع الله وهو يحكم بشرع الله فهو كافر، ومن اعتقد بأن شرع الله أفضل من شرع غيره لكن يجوز الأخذ بالأمرين فهو كافر.
هذه المسائل الخطيرة من مسائل الاعتقاد قد أصبحت اليوم نسياً منسياً عند كثير من المسلمين.(256/3)
من مقتضيات الولاء لله: إفراد الله بالنسك
من مقتضيات الولاء لله: إفراد الله بالنسك: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162 - 163] فالذي يشرك مع الله في العبادة ليس يوالي الله عز وجل مطلقاً، إذ كيف يشرك معه وهو يواليه، وإفراد الله بالولاية جاء التعبير عنها في القرآن أحياناً بمعنى الاتباع، فقال سبحانه وتعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف:3] فولاية الله تقتضي اتباع الله عز وجل، وتقتضي -أيضاً- نصرة الله سبحانه وتعالى، قال عز وجل: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً} [الأنعام:14] أغير الله أنصر؟ أغير الله أعلي كلمته؟ لا.
فنصرة الله من مقتضيات ولاية الله عز وجل.(256/4)
من مقتضيات الولاء لله: تولية الله في جميع الشئون والأحوال
من مقتضيات ولاية الله إذا كانت ولايتك لله صحيحة فلا بد أن تتمسك بدين الله، وتترك ما أحدث الناس في الدين من البدع.
قال ابن القيم رحمه الله: التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس، وترك ما أحدثوه وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد التوحيد.
تجريد التوحيد من مقتضيات الولاية لله تجريد التوحيد بجميع أنواعه تجريد التوحيد من جميع أنواع الشرك أكبره وأصغره.(256/5)
من مقتضيات الولاء لله: الانتساب إلى الله وحده
من مقتضيات الولاية لله: الانتساب لله وحده، وترك الانتساب إلى ما سواه، قال ابن القيم رحمه الله في المدارج، في صفات هؤلاء الذين يوالون الله فأصبحوا غرباء، ومن صفاتهم قال: وترك الانتساب إلى أحدٍ غير الله ورسوله، لا شيخ، ولا طريقة، ولا مذهب، ولا طائفة، بل هؤلاء الغرباء منتسبون إلى الله بالعبودية وحده، لا ينتسبون إلا إلى الله ورسوله فقط، لا ينتسبون إلى أحد من الناس، ولا طريقة من الطرائق، ولا جماعة من الجماعات، ولا طائفة من الطوائف، إنهم ينتسبون لله وحده، يفردون الله بالانتساب إليه.(256/6)
من مقتضيات الولاء لله: نسف الولايات السابقة
من مقتضيات هذه الولاية أيضاً: أن تنسف الولايات السابقة التي كانت في عهد الإنسان قبل أن يدخل في ولاية الله، كانت القبائل في الجاهلية كل فرد ينتسب إلى قبيلته، يواليها ويعادي من أجلها، وينصرها وإن كانت ظالمة، فلما أسلم هؤلاء تغيرت ولاياتهم، وصارت ولاية الصحابة لله وحده، ولذلك كان أحدهم يدخل في المعركة ضد قبيلته؛ لأن القبيلة كافرة وقد صار هو في معسكر أهل الإسلام وأهل التوحيد، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشدد ويؤكد في مناسبات كثيرة على نسف جميع الولايات الأخرى وإبقاء الولاية لله وحده، ينسف قضايا التعصب للعرق والنسب والقبيلة والطائفة، وهذا الحديث مثال على ذلك: روى البخاري رحمه الله، عن جابر قال: (غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد تاب معه أناس من المهاجرين حتى كثروا، وكان من المهاجرين رجلٌ لعاب -أي: يجيد اللعب بالحراب- فكسع أنصارياً -ضربه على قفاه- فغضب الأنصاري غضباً شديداً حتى تداعوا -تجمعوا واحتشدوا- وقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين -تحزبت كل طائفة، كل واحد يقول: يا أصحابي! يا للمهاجرين! والثاني يقول: يا للأنصار- فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما بال دعوى الجاهلية، ثم قال: دعوها فإنها منتنة) فكل ولاية لغير الله نتن وقذارة تلطخ التوحيد وتدمره، وتبعثره وتفرقه: (دعوها فإنها منتنة).(256/7)
من مقتضيات الولاء لله: محبة أحباب الله
من مقتضيات الولاية لله سبحانه وتعالى: أن تحب أحباب الله أن تحب أولياء الله سبحانه وتعالى، وتعادي من عادى الله، ومن أبغض الله، ولذلك عقل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بشكلٍ عجيب، فكان أحدهم يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول له: يا رسول الله! إنك لأحب إليَّ من نفسي، وإنك لأحب إليَّ من أهلي ومالي، وأحب إليَّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك.
أيها الإخوة: تصوروا مقدار هذه المحبة للرسول صلى الله عليه وسلم محبة أولياء الله على رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متمثلاً في الصحابة، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك، فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت ألا أراك، أنت ترفع مع النبيين وأنا قد لا أراك، ولو أني قد أدخل الجنة، لكن قد لا أراك، أنا أخشى من هذا يا رسول الله! أنا لا أطيق على فراقك حياً وبعد أن يبعثك الله، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن عنده جوابٌ في المسألة، حتى نزل جبريل بهذه الآية: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} [النساء:69 - 70] هذا فضل الله، ليست الأموال، ولا السيارات، ولا الأراضي، ولا العقارات، ولا الجاه والمنصب {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} [النساء:70] معية الرسول صلى الله عليه وسلم والصالحين في الجنة، هذا الصحابي مثال لبقية الصحابة.
ولذلك كان أحدهم يترك أخاه وأباه وعائلته وقبيلته وعشيرته ويلتحق بركب المسلمين، لا يواد الكفار ولو كانوا أقرب الناس إليه، بل كان الأمر يصل ببعضهم أن يقتل أباه الكافر؛ لأنه يعادي الله عز وجل.
قال ابن حجر رحمه الله في الإصابة في ترجمة عامر بن عبد الله بن الجراح وهو أبو عبيدة رضي الله عنه، قال: نزلت فيه: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ الآية} [المجادلة:22] قال ابن حجر: وهو فيما أخرج الطبراني بسندٍ جيد عن عبد الله بن شوذب قال: جعل والد أبي عبيدة يتصدى لـ أبي عبيدة يوم بدر، فيحيد عنه -الابن يحيد عن الأب- فلما أكثر من التصدي له، قتله - أبو عبيدة - لأن الأب كافر يعادي الله، وأبو عبيدة مؤمن يوالي الله لا يجتمعان، حتى لو كان هذا من صلب هذا، فقصده فقتله، فأنزل الله هذه الآية: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22].
هذا المستوى الرفيع في الولاية التي تحققت في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي أوصلهم إلى ما أوصلهم إليه من محبة الله لهم، ونصرة الله إياهم، كان أحدهم يترك أهله وأقرباءه، ويؤاخي رجلاً بعيداً عنه بعيداً عن نسبه وبلاده، يؤاخي بلالاً الحبشي، وسلمان الفارسي، يؤاخي هؤلاء يسكن معهم يأكل معهم يجاهد معهم يتعلم معهم، ويترك الكفرة من الأب والابن وغيرهم من أقرب الناس، والمرأة تترك زوجها: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10] هذا الحكم مهم جداً في هذا العصر؛ لأنه قد يوجد معك في بيتك مرتدٌ عن دين الله، لما ابتعد الناس هذا الابتعاد الشديد عن الدين، وانسلخوا عن التوحيد، وابتعدوا عن الله عز وجل، لا بد أن نشعر بمعاني المفاصلة التي كان يشعر بها صحابة رسول الله.(256/8)
من مقتضيات الولاء لله: تحمل الأذى في سبيل الله
ومن أجل ذلك -أيها الإخوة- كان من مقتضيات الولاية لله: تحمل الأذى في سبيل الله؛ لأن هذه الولاية ستكلفك أشياء عظيمة؛ قد تكلفك حياتك قد تكلفك مالك وابتعادك عن أرضك، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والترمذي عن أنس: (لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد -من أجل الله، من أجل الولاية في الله؛ لأني أوالي الله- وأخفت في الله وما يخاف أحد -لا أحد أوذي مثلما أوذي الرسول صلى الله عليه وسلم- ولقد أتت عليَّ ثلاثون من بين يومٍ وليلة، ومالي ولـ بلال طعامٌ يأكله ذو كبدٍ إلا شيءٌ يواريه إبط بلال) شيء يسير جداً، خلال ثلاثين يوماً والرسول صلى الله عليه وسلم لا يجد طعاماً، من أجل ولاية الله حوصر الصحابة في الشعب، كان أحدهم يأكل جلد بعيرٍ قديم قد ارتد رشاش بوله عليه يأخذه فينقعه في الماء يغسله فيأكله، أكلوا أوراق الشجر حتى تقرحت أفواههم وشفاههم لماذا؟ من أجل ماذا؟ من أجل أي شيء؟ من أجل ولاية الله سبحانه وتعالى، هذه المعاني التي تميعت عند المسلمين اليوم.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، وارزقنا ولايتك ونصرتك يا أرحم الراحمين.
وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله الذي لا إله إلا هو سبحانه وتعالى، له الأسماء الحسنى فادعوه بها، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي والى في الله وعادى في الله، وجمع الأمة على سبيل الله، وجاهد في الله حق جهاده، وعلَّمنا معاني الولاء والبراء، حتى تركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
ومن أجل الولاية في الله تغرب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأوطان، ولاقوا في أسفار الهجرة الأَّمرين، تحملوا ألم الغربة والفقر، وعدم وجود المأوى من أجل الله سبحانه وتعالى، وهذا مثالٌ من الأمثلة: روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي موسى رضي الله عنه قال: (بلغنا مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بـ اليمن في أدنى الجزيرة، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي أنا أصغرهم، في ثلاثة وخمسين أو اثنين وخمسين رجلاً من قومي) هجرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله عز وجل من اليمن قاصدين الرسول صلى الله عليه وسلم (فركبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي في الحبشة) ركوب البحر كان خطيراً في ذلك الوقت، تحملوا هذا الخطر، لعب الموج بهم ثم ألقاهم في أرض الحبشة (فوافقنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأصحابه عنده -وكان جعفر قد هاجر من مكة إلى الحبشة بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم- فقال جعفر لـ أبي موسى) لأخيه في الدين لصاحبه في الطريق الذي لم يره من قبل، جمعه وإياه في أرض الغربة الولاية في الله، ما رآه من قبل، مجرد ما التقى به أحس أنه وإياه شيٌ واحد، هذه الولاية في الله، الانصهار في بوتقة الأخوة التي تجمع الناس على طريق الله.
فقال جعفر: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا هاهنا وأمرنا بالإقامة فأقيموا معنا، قال: فأقمنا معه حتى قدمنا جميعاً إلى المدينة بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها فوافقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر فأسهم لنا -أعطانا من غنائم خيبر مع أنهم لم يشهدوا فتح خيبر وكانوا فقراء- فكان أناس من الناس يقول لنا -أي: لأهل السفينة، المهاجرين- نحن سبقناكم بالهجرة، قال: فدخلت أسماء بنت عميس -وهي ممن قدم معنا- على حفصة زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم بنت عمر، في يوم من الأيام دخل عمر على حفصة وأسماء بنت عميس عندها، فقال عمر: من هذه؟ فقالت حفصة: أسماء بنت عميس، فقال عمر: الحبشية هذه، البحرية هذه، فقالت أسماء: نعم، فقال عمر: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم، فغضبت -وقالت كلمة تركتها الآن- ثم قالت: كلا والله، كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم، ويعظ جاهلكم، وكنا في دار أو في أرض البعداء والبغضاء -في أرض الحبشة - وذلك في الله وفي رسوله صلى الله عليه وسلم وأيم والله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباٌ حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن كنا نؤذى ونخاف -في هذه الهجرة كنا نؤذى ونخاف في أرض بعداء وبغضاء؛ لأن أهل الحبشة كان أكثرهم كفار- وسأذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأسأله ووالله لا أكذب ولا أزيد على ذلك، قال: فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي الله! إن عمر قال كذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس بأحق بي منكم، وله وأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أصحاب السفينة هجرتان -أجر هجرتين- قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتونني أرسالاً يسألونني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيءٌ هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) امرأة تخرج تتغرب في أرض بعداء وبغضاء، تؤذى وتخاف من أجل أي شيء؟ لماذا تعمل هذا العمل؟ ومن الذي يقوى على هذا العمل؟ أيها الإخوة: إنها الهجرة لله سبحانه لتحقيق ولاية الله ومحاولة لتكوين المجتمع الذي يرضاه الله سبحانه.(256/9)
من مقتضيات الولاء لله: تحديد المواقف من الناس في ذات الله
والولاية لله كذلك تعني اتخاذ المواقف في ذات الله، وتحديد المواقف من الناس في ذات الله، ووضع الإمكانيات المادية وغيرها في سبيل الله.
مثال: قصة إسلام ثمامة رضي الله عنه، لما أسلم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، يا محمد! ما كان على الأرض وجهٌ أبغض إليَّ من وجهك، فلقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليَّ، والله ما كان من دينٍ أبغض إليَّ من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إليَّ، والله ما كان من بلدٍ أبغض إليَّ من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إليَّ.
هذا كله تم في لحظات الإسلام، هذا الفرق بين إسلام الأوائل، وإسلام الناس اليوم في لحظات يدخل في دين الله تقوم مقتضيات الولاء والبراء في نفسه، فيحب رسول الله، ودين رسول الله، وبلد رسول الله أكثر من أي شيءٍ آخر، ثم استأذن رسول الله في العمرة فشجعه عليه الصلاة والسلام عليها، فماذا قال لما ذهب إلى كفار قريش في مكة؟ اتخاذ المواقف، تحديد الموقف من أعداء الله، ووضع الإمكانيات لنصرة الله وولايته لله، قال: ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة، وكانت اليمامة تصدر الحنطة إلى مكة، حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضع إمكانيات البلد كلها موطنة في سبيل الله، وولايته ونصرته، مَنْ من الناس اليوم يضع إمكانياته في سبيل الله؟ مَنْ من الناس يستشعر هذا؟!(256/10)
من مقتضيات الولاء لله: عدم اتخاذ أعداء الله أولياء
من مقتضيات الولاية لله: عدم اتخاذ أعداء الله أولياء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] وهناك كثير من المسلمين اليوم يسارعون في موالاة الكفار ومصادقتهم وعقد الاحلاف للنصرة فكيف يجتمعان في قلب عبد؟ وفي العصر الحديث في بلاد الهند لما أتاها النصارى فاستعمروها وكان فيها كثيرٌ من المسلمين، قال العلامة صديق حسن خان رحمه الله، وكان ملكاً في جزء من أرض الهند أو السند كتب مؤلفاً وهو العبرة فيما جاء بالغزو والشهادة والهجرة، يقول فيه عن شيء من أشكال الولاية للكفرة، قال: وأما القوم الذين في بلاد الإسلام والمسلمين ويدعون أنهم من رعية النصارى، ويرضون بذلك ويفرحون به، وإنهم ليتخذون لسفنهم بيارقة، وهي التي تسمى رايات مثل رايات النصارى، إعلاماً منهم بأنهم من رعاياهم، فهؤلاء قومٌ أشربوا حب النصارى في قلوبهم، ويعتقدون بأن النصارى أقوم للبلاد في حفظها من المسلمين، فإن كان القوم المذكورون جهالاٌ يعتقدون دين الإسلام وعلوه على جميع الأديان، وأن أحكامه أقوم الأحكام وليس في قلوبهم مع ذلك تعظيم للكافر وأربابه، فهم باقون على أحكام الإسلام، لكنهم فساق مرتكبون لخطبٍ كبيرٍ يجب تعزيرهم عليه وتأديبهم وتنكيلهم، وإن كانوا علماء بأحكام الإسلام، ومع ذلك صدر منهم ما ذكر، فيستتابوا، فإن رجعوا عن ذلك وتابوا إلى الله وإلا فهم مارقون، فإن اعتقدوا تعظيم الكفر؛ ارتدوا وجرى عليهم أحكام المرتدين.
فهذه المظاهر إظهار شعارات النصارى، والتشبه بهم في ملابسهم وحضور أعيادهم وتهنئتهم بمناسباتهم، دلالة على ولايتهم من دون الله وتوليهم.
أتحب أعداء الحبيب وتدعي حباً له ما ذاك في إمكان
كيف تحب أعداء الله وتحب الله؟ لا يمكن أن يجتمعان في قلب عبد، وكثير من المسلمين يعظمون اليهود والنصارى، ويعظمون الكفار يعتقدون أن الكفار أحسن من المسلمين، وأنهم أفضل من المسلمين في نواحٍ كثيرة.
يقول النووي رحمه الله في الروضة في باب الردة ما لفظه: "ولو قال معلم الصبيان أن اليهود خير من المسلمين بكثير، من أجل ماذا؟ لأنهم يقدرون حقوق معلمي صبيانهم كفر".
الذي يقول: إن اليهود أحسن من المسلمين بكثير، لماذا؟ يقول: لأن اليهود يعطون معلمي الصبيان الحقوق والمسلمين لا يعطونهم، فهو كافر.
واليوم وُجِدَ من المسلمين من ذهب إلى بلاد الكفار وقال بعد عودته: وجدتُ إسلاماً بلا مسلمين، وجد هناك إسلاماً بلا مسلمين، هو المسكين يظن أن الإسلام هو النظافة والترتيب وتنظيم الأعمال والإنتاج، يظن أن هذا هو الإسلام، لا حول ولا قوة إلا بالله، مسخت العقيدة نسأل الله السلامة.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى أن ترزقنا ولايتك، اللهم اجعلنا ممن يوالي فيك ويعادي فيك، اللهم اجعلنا ممن يحب أولياءك ويبغض أعداءك، واجعلنا ممن أمرتهم على التوحيد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.(256/11)
أحوال الناس يوم القيامة
هذه المادة وصف متقن تبين حال كل صاحب طاعة، وكل صاحب معصية يوم القيامة، ذلك اليوم الذي نعجز عن وصفه إلا بآيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.(257/1)
شدة الموقف يوم القيامة
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإنَّ الله قد أنذرنا يوماً لا ريب فيه، وأنذرنا يوم المعاد، وأنذرنا يوماً يجعل الولدان شيباً، ذلك هو يوم الحشر، ويوم القيامة، ذلك اليوم الذي تبيض فيه وجوهٌ وتسود وجوه، ذلك اليوم المشهود يوم الحسرة يوم تبدل الأرض غير الأرض، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30] {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]، إنه يومٌ كان مقداره خمسين ألف سنة، هذا اليوم العظيم أنذرنا الله تعالى به في كتابه، وجاءت الأخبار في سنة النبي صلى الله عليه وسلم بأهواله، قال كما في صحيح البخاري: (يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً الشدة في ذلك اليوم وما يصيب الناس، فيذهبون إلى الأنبياء، نبياً بعد نبي، قال عليه الصلاة والسلام: (يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيدٍ واحد، فيسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون وما لا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه؟ ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعضٍ: ائتوا آدم، فيأتون آدم) الحديث، وفيه طواف الناس على الأنبياء، وعلى أولي العزم من الرسل بالذات، يرجون الخلاص من تلك الوقفة، {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] والشمس فوق رءوسهم على قدر ميلٍ قد صهرت أجسادهم، وصار العرق يتصبب حتى يذهب في الأرض سبعين ذراعاً، فيغرق الناس من العرق، ويتمنون الفكاك من ذلك اليوم ولو إلى النار، يطوفون على الأنبياء نبياً بعد نبي حتى ينتهي الأمر إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
في ذلك اليوم العظيم (ينادي منادٍ: ليذهب كل قومٍ إلى ما كانوا يعبدون، فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم، وأصحاب الأوثان مع أوثانهم، وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم، حتى يبقى من كان يعبد الله من بر أو فاجر، وغبرات من أهل الكتاب، ثم يؤتى بجهنم تعرض كأنها سراب، فيقال لليهود: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزير ابن الله، فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولداً، فما تريدون؟ قالوا: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا فيتساقطون في جهنم -هذا مأوى اليهود في النهاية- ثم يقال للنصارى: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولداً، فما تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا؟ فيقال: اشربوا، فيتساقطون في جهنم) الحديث رواه البخاري رحمه الله تعالى.
في ذلك اليوم العظيم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى شيئاً إلا شيئاً قدمه، ثم ينظر أشأم منه فلا يرى شيئاً إلا شيئاً قدمه، ثم ينظر تلقاء وجهه فتستقبله النار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من استطاع منكم أن يقي وجهه حر النار ولو بشق تمرة فليفعل).
لقد بلغ ذلك اليوم من أهواله في نفوس الصحابة مبلغاً عظيماً، حتى قال أنس رضي الله عنه: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي يوم القيامة، فقال: أنا فاعل، قلت: يا رسول الله! فأين أطلبك؟ قال: اطلبني أول ما تطلبني على الصراط، قال: قلت: فإن لم ألقك على الصراط؟ قال: فاطلبني عند الميزان، قلت: فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال: فاطلبني عند الحوض، فإني لا أخطئ هذه الثلاث المواطن) رواه الترمذي وهو حديث حسن.(257/2)
أصناف أهل الخير يوم القيامة
في ذلك الموقف وفي ذلك اليوم العظيم ينقسم الناس إلى طوائف، ويصنف الناس إلى أصناف، فتعالوا بنا نستعرض بعض أصناف الناس يوم القيامة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم في حملة القرآن: (يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة وآل عمران -وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال- كأنهما غمامتان، أو ظلتان سودوان بينهما شرقٌ، أو كأنهما حزقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما) والظلة: السحابة، والشرق: ضياء ونور، ومعنى حزقان من طير: أي جماعتان، قال عليه الصلاة والسلام: (اقرءوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة) أي: السحرة، رواه مسلم رحمه الله.
أما أصحاب الصيام فيقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك).
وأما أهل الحج فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: في رجلٍ كان واقفاً معه بـ عرفة فأوقفته ناقته -أوقعته من فوقها- فمات، فقال عليه الصلاة والسلام: (اغسلوه بماءٍ وسدرٍ وكفنوه في ثوبين، ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه، فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبياً).
وأما أهل الجراحات في سبيل الله، فيقول عليه الصلاة والسلام: (من قاتل في سبيل الله من رجلٍ مسلم تواق ناقة -ولو مقدار حلب ناقة- وجبت له الجنة، ومن جرح جرحاً في سبيل الله أو نكب نكبةً فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت، لونها الزعفران، وريحها كالمسك) قال الترمذي: حديث صحيح.
وأما المؤذنون فيقول عليه الصلاة والسلام: (المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة) رواه مسلم (إذا ألجم الناس العرق طالت أعناقهم لئلا ينالهم ذلك الكرب والعرق، هم رؤساء الناس أو من رؤسائهم وسادتهم يوم القيامة أطولهم أعناقاً حساً ومعنى) كما جاء في صحيح مسلم.
وعندما يعرق الناس والشمس فوق الرءوس في ذلك الكرب العظيم، يكون هناك أناسٌ في ظل الله تعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما ورد في الصحيح: (سبعةٌ يظلهم الله يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمامٌ عادل، وشابٌ نشأ في عبادة الله، ورجلٌ ذكر الله في خلاء ففاضت عيناه، ورجلٌ قلبه معلقٌ بالمسجد، ورجلان تحابا في الله، ورجلٌ دعته امرأة ذات منصب وجمالٍ إلى نفسها، فقال: إني أخاف الله، ورجلٌ تصدق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه).
وكذلك فإن ممن يكون في الظل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي) رواه مسلم، وكذلك: (من أنظر معسراً أو وضع له، أظله الله يوم القيامة تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله) رواه الترمذي وهو حديثٌ صحيح.
ولذلك كان أبو قتادة يطلب غريماً له، فتوارى عنه الغريم هارباً، ثم وجده، فقال الغريم: إني معسر، فقال: آلله، قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة، فلينفس عن معسرٍ أو يضع عنه) رواه مسلم، وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلمٍ كربة فرج الله عنه كربةً من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة) رواه البخاري، من ستره حساً بتقديم اللباس للعاري، وستره معنىً بأن ستر عليه فلم يفضحه، وهو يستحق الستر، وهو له أهلٌ.
وكذلك في ذلك الموقف العظيم: (ما شيءٌ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلقٍ حسن) رواه الترمذي وأبو داود وهو حديثٌ صحيح، أما: (من عال جاريتين -بنتين صغيرتين، أو أمتين مملوكتين- حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو، وضم أصابعه صلى الله عليه وسلم) رواه مسلم.
فهذا يا آباء البنات! بعض ما ورد في أجر تربية البنات والإحسان إليهن، فلا تجزع إذا ولدت لك امرأتك بنتاً أخرى، وأنت تشتهي أن يكون المولود ذكراً، وكذلك: (من شاب شيبةً في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة) رواه الترمذي وهو حديث صحيح، فالذي يشيب من المجاهدة يشيب رأسه من عظمة الله يشيب رأسه وهو ملتزمٌ بأحكام الشريعة.
وكذلك: (من كظم غيظاً وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق، حتى يخيره في أي الحور شاء)، وفي رواية: (قادرٌ على أن يُنْفذه دعاه الله عز وجل على رءوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره الله من الحور العين ما شاء) وهو حديث صحيح في الترمذي وغيره، فالذي يكف عن إمضاء الغيظ وهو قادرٌ على إنفاذ وعيده وبطشه، فالله يدعوه على رءوس الخلائق، ويشهر أمره، ويثني عليه، ويباهي به، هذا الذي يقال في حقه كذا وكذا، صدرت منه هذه الخصلة العظيمة، هذا جزاء من يكظم غضبه ونفسه الأمارة بالسوء.
أما من ترك اللباس تواضعاً لله وهو يقدر عليه: (دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها) رواه الترمذي وهو صحيح، الذي يترك لبس الثياب الحسنة المرققة، عظيمة القيمة تواضعاً لله، لا بخلاً ولا رياءً؛ ليقال: زاهد، فإن الله يشهره ويناديه ويخيره من حلل أهل الإيمان أيها شاء، يختار ويلبس، هذه بعض أصناف المؤمنين من أصحاب الأعمال الصالحة.(257/3)
أصناف أهل السوء يوم القيامة
أصناف بعض أصحاب أهل السوء، وأهل الشر من أهل الجرائم والكبائر، ما حالهم يوم الدين؟(257/4)
حال القاتل يوم القيامة
قال صلى الله عليه وسلم: (يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده -القاتل يحمل رأسه بيده، وأوداجه تشخب دماً- يقول: يا رب! هذا قتلني، حتى يدنيه من العرش) يحاكمهم الله يوم القيامة وأول ما يقضي بين الناس يوم القيامة في الدماء، الذي اعتدى على إنسانٍ بقتلٍ أو جراحة، وحديث: (القاتل والمقتول) صحيح رواه الترمذي وغيره.(257/5)
حال مانع الزكاة يوم القيامة
أما مانع الزكاة، فقد قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام: (من آتاه الله مالاً فلم يؤدِ زكاته مُثل له ماله يوم القيامة شجاعاً أقرعاً -ثعبانٌ عظيم سقط شعره لكثرة سمه- له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهجمتيه -أي: بشدقيه- ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} [آل عمران:180] الآية).(257/6)
حال عاق والديه يوم القيامة
وقال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثةٌ لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه) تأمل في معنى: لا ينظر الله يوم القيامة إليهم! ليسوا محل نظر الرب ليسوا موضع نظر الرب ليسوا بأهلٍ لنظرة من الرب، (لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه) وما أكثر أهل العقوق في هذا الزمان، العاق لوالديه بالباطل، ثم قال: (والمرأة المترجلة، والديوث) والديوث: الذي لا غيرة له على أهله، وما أكثرهم في هذا الزمان، لا غيرة لهم على أهاليهم، لا فيما تخرج به البنات والنساء إلى الشوارع، ولا فيما يلبسون، ولا فيمن يكلمون بالهاتف، ولا مع من يخرجون ديوث يقر الخبث في أهله، لا ينظر الله إليه يوم القيامة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما من رجلٍ من القاعدين يخلف رجلاً من المجاهدين في أهله فيخونه فيهم -الخائن في أهل المجاهد- إلا وقف له يوم القيامة، فيأخذ من عمله ما شاء، فما ظنكم) رواه مسلم.(257/7)
حال المرائي يوم القيامة
وكذلك حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم في حديثٍ عظيم: (إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية، فأول من يدعى به رجلٌ جمع القرآن) وفي رواية مسلم: (تعلم العلم وعلَّمه)، وكذا القرآن: (ورجلٌ يقتتل في سبيل الله، ورجلٌ كثير المال، فيقول الله للقارئ: -يعرف كل واحدٍ نعمته عليه- ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب! قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار -وفي رواية: تعلمت العلم وعلَّمته وقرأت فيك القرآن- فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: إن فلاناً قارئ -وفي رواية: تعلمتَ ليقال: عالم- وقرأت القرآن ليقال: قارئ، فقد قيل ذاك، ويؤتى بصاحب المال، فيقول الله له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب! قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم، وأتصدق، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت -الرجل يقول: ما تركت من سبيلٍ تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك- يقول الله: بل أردت أن يقال: فلانٌ جوَّاد، فقد قيل ذلك، ويؤتى بالمقتول في المعركة، فيسأله الله ثم يبين نيته، أردت أن يقال: فلانٌ جريء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة) {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16] هذه عاقبة المرائي يوم القيامة.(257/8)
حال من ادعى إلى غير أبيه يوم القيامة
وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح أيضاً: (من ادعى إلى غير أبيه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً) قيل الصرف: الفريضة، والعدل: النافلة، وقيل العدل: الفريضة، وقيل: التوبة، وقيل: الفدية.(257/9)
حال أهل الغدر يوم القيامة
وأما أهل الغدر الذين يخونون، قال عليه الصلاة والسلام: (لكل غادرٍ لواء عند استه يوم القيامة) والاست: الدبر، عند دبره في أقبح موضع يرفع له لواء، وفي رواية لـ مسلم: (يعرف به يقال: هذه غدرة فلان بن فلان)، وفي رواية لـ مسلم أيضاً: (يرفع له بقدر غدره) يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامةٍ) وذلك لأن غدره عامٌ، فكل من عقد عقداً، ثم خان العقد وغدر بالمعقود له فإنه غادر: (كل من خدع غيره وهو آمن من جهته فإنه غادر) والذين يغيرون عقود العمال بعد وصولهم ويأخذونها منهم فيتلفونها وينقصون قدرها، فهم من هؤلاء الغادرين، (وكذلك من أمنه صاحبه فجاءه من جهته، وهو يأمنه جاءه بشرٍ فهو غادر)، وكذلك الذين يتلاعبون بالأموال العامة ويسرقون منها، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الغلول فعظمه، وعظم أمره كما في صحيح مسلم، ثم قال: (لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعيرٌ له رغاء، يقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك، لا ألفينَ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرسٌ له حمحمة -صوت الفرس- فيقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء، يقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك، لا ألفينَ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفسٌ لها صياح، فيقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاعٌ تخفق -والمراد بها الثياب المغلولة من الغنيمة قبل القسمة- فيقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامتٌ -وهو المال من الذهب والفضة- فيقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك) هذه عاقبة السرقة من أموال المسلمين العامة، وكذلك يقول عليه الصلاة والسلام في هذا الموضوع أيضاً: (إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة) رواه البخاري، وفي رواية للترمذي: (ورب متخوضٍ فيما شاءت به نفسه من مال الله ورسوله ليس له يوم القيامة إلا النار) حديث حسن صحيح.
قال الشُّراح: (يتخوضون في مال الله) أي: يتصرفون في مال المسلمين بالباطل، وقوله: (من مال الله) أقيم مقام المضمر إشعاراً بأنه لا ينبغي التخوض في مال الله ورسوله بمجرد التشهي، والتصرف في مال الله بما لا يرضاه، أي: يتصرفون في بيت المال، ويستبدون بمال المسلمين، فيما شاءت أنفسهم، أي: فيما أحبته والتذت به، كما قال المباركفوري رحمه الله في تحفة الأحوذيشرح جامع الترمذي: "فالحذر الحذر رحمكم الله من الاعتداء على مال المسلمين العام، لا تأخذ منه شيئاً فإن الله بالمرصاد يوم القيامة".
نسأل الله تعالى أن يسلمنا أجمعين من أهوال موقف ذلك اليوم العظيم، وأن يسترنا بستره، وأن يعفو عنا بعفوه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(257/10)
حال مغتصبي الأراضي يوم القيامة
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهد أن محمداً رسول الله الأمين بعثه الله رحمةً للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وذريته أجمعين إلى يوم الدين.
عباد الله: إن ذلك الموقف العظيم ينقسم فيه الناس أقساماً، ويصنفون أصنافاً، وقد تقدم لكم بعض أصنافهم وحالهم في ذلك الموقف، ومنهم: الذين يظلمون في الأراضي، قال صلى الله عليه وسلم: (من أخذ شبراً من الأرض ظلماً، فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين) رواه البخاري.
يجعل في عنقه طوقٌ عظيم.
ولـ أبي يعلى بإسنادٍ حسن: (من أخذ من طريق المسلمين شبراً جاء يوم القيامة يحمله من سبع أرضين) وقال عليه الصلاة والسلام: (أعظم الغلول عند الله يوم القيامة ذراع أرضٍ يسرقه رجلٌ، فيطوقه من سبع أراضين حتى يقضى بين الناس) (يحفره) كما جاء في رواية، وفي رواية (يحمله) يطوقه في عنقه يوم القيامة إلى الأرض السفلى، شبر واحد غصبه إلى الأرض السفلى، كم من الأمتار ذلك العمق يوضع حول عنقه يوم القيامة، يكلف بحفره وحمله، شبر واحد يأخذه من أرض المسلمين، أو من أرض جاره هكذا يكون عقابه يوم القيامة.(257/11)
حال الحالف بالله كاذباً يوم القيامة
وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثةٌ لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم، رجلٌ حلف على سلعة لقد أعطي بها أكثر مما أعطى وهو كاذب، ورجلٌ حلف على يمينٍ كاذبة بعد العصر -وهو وقت صعود الأعمال- ليقتطع بها مال رجل مسلم، ورجلٌ منع فضل ماءٍ -عن محتاج إلى الماء وعنده زيادة- فيقول الله يوم القيامة: اليوم أمنعك فضلي، كما منعت فضل ما لم تعمل يداك).
وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: (من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلمٍ، لقي الله وهو عليه غضبان) فما بالك اليوم بالذين يحلفون عند القضاة بالباطل، يدخلون المحاكم ويحلفون في مجلس القضاء، بالله العظيم، وهو كذاب فيما حلف، ماذا تُرى يكون أمره يوم الدين؟(257/12)
حال الشحاذين يوم القيامة
وهؤلاء الشحاذين الذين يسألون الناس بغير حقٍ إذا كان لهم ما يغنيهم، كيف يكون حالهم يوم القيامة؟ قال صلى الله عليه وسلم: (ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم)، وقال: (من سأل وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه -كيف تكون؟ - كدوشٍ خدوشٍ -أي: ندب وجراحات في وجهه، مجرحاً في وجهه- مسألته في وجهه يوم القيامة) حديث صحيح.(257/13)
حال المتكبرين يوم القيامة
أما المتكبرون والمختالون، والذين يرون لأنفسهم فضلاً عظيماً يقول عليه الصلاة والسلام: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر) النمل الصغار، الجزاء من جنس العمل، كما انتفخ وانتفش في الدنيا، يأتي يوم القيامة كمثل الذرة: النملة الصغيرة (في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، فيساقون إلى سجنٍ في جهنم يسمى بولس، تعلوه النار يسقون من عصارة أهل النار، طينة الخبال) روه الترمذي وهو حديث حسن صحيح.(257/14)
حال النائحة يوم القيامة
أما النائحة التي تصرخ عند المصيبة وتصيح، تشق ثوباً أو تقطع شعراً وتشده، قال صلى الله عليه وسلم: (النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربالٌ ثوب طويل من قطران -مادة سوداء لزجة- ودرعٌ من جرب) يوم القيامة مقداره خمسين ألف سنة، كما ورد في حديث مسلم هذا.(257/15)
حال لابس ثياب الشهرة يوم القيامة
وأما الذي يلبس ثوب الشهرة لترتفع إليه أبصار الناس، ويشيرون إليه بأصابعهم، فما شأنه؟ قال صلى الله عليه وسلم: (من لبس ثوب شهرةٍ ألبسه الله يوم القيامة ثوباً مثله، ثم تلهب فيه النار)، وفي لفظٍ: (من لبس ثوب شهرةٍ في الدنيا، ألبسه الله ثوب مذلةٍ يوم القيامة، ثم ألهب فيه ناراً) حديث حسن، وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثةٌ لا يكلمهم الله يوم القيامة: المنَّان -الذي لا يعطي شيئاً إلا منه- والمنفق سلعته بالحلف الفاجر، والمسبل إزاره) أي: الذي تعدى إزاره كعبيه، رواه مسلم رحمه الله، وقال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذابٌ أليم، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرار، قال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟! قال: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب) وما أكثرها في الباعة اليوم، رواه مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه، فإن جر ثوبه خيلاء فقد استحق الوعيد الشديد، بأن لا ينظر الله إليه يوم القيامة، كما جاء في صحيح البخاري وغيره.(257/16)
حال مصوري ذوات الأرواح يوم القيامة
أما الذين يصورون الصور ذوات الأرواح سواءً كانت مجسمة أو غير مجسمة، قال عليه الصلاة والسلام: (من صوَّر صورةً في الدنيا كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ)، وقال عليه الصلاة والسلام في هؤلاء: (إنهم يعذبون -الذين يصورون الصور- يقال لهم: احيوا ما خلقتم) هذا في غير ما صور للضرورة والحاجة الشرعية.(257/17)
حال شر الناس عند الله يوم القيامة
وقال صلى الله عليه وسلم: (شرّ الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره) اتقاء فحشه ينفر عنه الناس، لا يطيقونه، وكذلك: (إن من أشر الناس عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه ثم ينشر سرها) ينشر سرها وهو كناية عن الجماع، ويتحدث بما كان بينه وبين زوجته، كما جاء في الحديث الصحيح.
وأما الذي لا يعدل بين زوجاته ويجور ويظلم ولا يقسم بالعدل والميزان والقسطاس المستقيم، فقد قال صلى الله عليه وسلم في شأنه: (إذا كان عند الرجل امرأتان، فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط) أي: مائل، رواه الترمذي وهو حديث صحيح، والجزاء من جنس العمل.
وقال صلى الله عليه وسلم: (تجد من شر الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه) خداعاً للإطلاع على أسرار الطائفتين فيما حرم الله، وأما الذي يأتي للإصلاح بينهما فليس داخلاً في هذا الوعيد، والذي يكذب في المنام متوعدٌ بوعيدٍ يوم القيامة.
قال صلى الله عليه وسلم: (من تحلم بحلمٍ لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل) (ومن استمع إلى حديث قومٍ وهم له كارهون أو يفرون منه صب في أذنه الآنك -وهو رصاصٌ مذاب -يوم القيامة-) (ومن صوَّر صورة عذب وكلف أن ينفخ فيها وليس بنافخ) رواه البخاري، فلا تكذب بمنامك، ولا تخبر بخلاف ما رأيت، فإن هذا وعيده عظيمٌ لمن فعل ذلك، (من قام برجلٍ مقام سمعةٍ ورياء فإن الله يقوم به مقام سمعة رياء يوم القيامة) كمن قام إلى رجلٍ من أهل المال والجاه يتظاهر عنده بالصلاح والتقوى، ليعتقد ذلك فيه ويعطيه من المال والجاه، قام الله به يوم القيامة مقام المرائين وفضحه على رءوس الخلائق.
عباد الله: اللعانون لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة، وما أكثر الذين يذكرون اللعن، وهذا الحرمان لهم كما ورد في صحيح مسلم.
إن ذلك الموقف يوم القيامة شأنه عظيم جداً، حتى أن الله يسألنا فيه عن ألوان النعيم، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن أول ما يسأل عنه يوم القيامة -أي: من النعيم- أن يقال له: ألم نصح لك جسمك ونرويك من الماء البارد) فإذا كان الله سيسألنا يوم القيامة عن الماء البارد فكيف يكون الحال إذاً؟ كل مجلسٍ نجلسه في الدنيا لا نذكر الله فيه يكون على من جلس فيه حسرة يوم القيامة، وما أكثر مجالس لعب الورق اليوم، وما أكثر مجالس اللهو المحرمة، حتى قال صلى الله عليه وسلم: (من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفله بين عينيه) وأصناف الناس كثيرة، فيما دق من الذنوب وصغر، وفيما عظم وكبر، نسأل الله السلامة والعافية.
وهؤلاء المعاندون الجبارون الذين يبطشون ويظلمون، وهؤلاء الذين يتسلطون على عباد الله تعالى هؤلاء الكفرة المجرمون وغيرهم، الذين ينتفشون اليوم في العالم يكونون أخفض عند الله منزلةً يوم القيامة من سائر الناس، (يخرج عنقٌ يوم القيامة من النار يقول: وكلتُ بكل جبارٍ عنيد) فلا يحزننا إذاً ما نراه من تسلط الكفرة اليوم واستيلائهم على مقاليد الأمور في العالم، يفعلون ما يشاءون يسرحون ويمرحون، فإنها دنيا قصيرة، ثم تكون العاقبة يوم الدين.
اللهم إنا نسألك أن تأخذهم أخذ عزيزٍ مقتدر، اللهم أفشل خططهم، اللهم فرق شملهم، واجعل بأسهم بينهم، وصب عليهم سوط عذاب، اللهم أفشل ما كادوا به للإسلام وأهله، اللهم اجعلهم عبرةً للمعتبرين يا رب العالمين، انصر الإسلام والمسلمين، انصر في سبيلك المجاهدين، اللهم إنا نسألك أن تجعل فرج المسلمين قريباً، عجل فرجنا يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك المغفرة والرحمة للحاضرين، اللهم اكتب مغفرتك ورحمتك لنا أجمعين، واعف عنا في ذلك المشهد العظيم، لا تفضحنا على رءوس الخلائق وأنت الرحمن الرحيم، فإليك اتجهنا، وعليك اعتمدنا، وعليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(257/18)
اكتسب حسنة بالأخلاق الحسنة
إن هذه التربية التي ننشدها هي سياج أمني يقي الفرد المسلم من الشرور التي تقذف به خارج طريق الاستقامة، وتُزل قدمه عن الصراط المستقيم، هذه التربية التي تخبرنا الأيام والأحداث أنه لابد منها، ولابد أن تكون قائمة على الكتاب والسنة، ومن الأشياء التي تكلم عنها الشيخ: التربية على الأخلاق؛ أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم وأخلاق السلف الصالح.(258/1)
نماذج من سوء الخلق
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الإخوة: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وتحية طيبة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلها ليلة خير وبركة.
أيها الإخوة: إن هذه التربية التي ننشدها هي سياج آمن يقي الفرد المسلم من الشرور التي تطيح به عن طريق الاستقامة، وتزل بقدمه عن الصراط المستقيم، هذه التربية التي تخبرنا الأيام والأحداث أنه لا بد منها، لا بد أن تكون هذه التربية قائمة على منهاج الكتاب والسنة، تربيتنا على العقيدة الصحيحة، وعلى العبادة والإخلاص، وعلى العلم الشرعي، وعلى الأخلاق الإسلامية، وتربيتنا على المجاهدة والمصابرة، والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى والصبر على الأذى في سبيل الله.
ومن هذا المنطلق نتحدث الليلة عن جانب من الجوانب المهمة في التربية، التربية على الأخلاق، الأخلاق الإسلامية، الأخلاق المذكورة في الكتاب والسنة، أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم، أخلاق الأنبياء والسلف الصالح، أخلاق الصحابة والعلماء والصالحين والمجاهدين.
إن في واقعنا أزمة أخلاق، وإن كثيراً من المشكلات الموجودة في المجتمع نتيجة سوء الخلق، نعم، هذه ظاهرة واضحة، فأنت ترى -أيها الأخ المسلم- أن سوء الخلق يدمر العلاقات الزوجية، ومنهم من لا تذكره زوجته بخير أبداً، وهو أو غيره لا يشعر بمودة زوجته له على الإطلاق، ومنهم من تذكره زوجته بعد وفاته بالخير العميم، وتشعر نحوه بشعور مكين من الروابط التي قامت بينه وبينها بهذه الأخلاق الإسلامية.
وإنني أوقن أنما جاء امرأة مصعب بن عمير لما تبلغت بوفاة زوجها فلم تتمكن من أن تملك نفسها، لقد صبرت على خبر موت الأب والأخ، ولكن موت الزوج كان وقعه عليها عظيماً، ذلك أن مصعباً الداعية المجاهد رضي الله عنه قد ضرب مثلاً عظيماً في تضحيته وجهاده في الدعوة إلى الله، وضرب مثلاً عظيماً في خلقه مع زوجته في بيته، وأكثر المشكلات الزوجية اليوم عائدة إلى سوء الخلق، وأكثر حالات السعادة الزوجية منبعها حسن العشرة والأخلاق الحسنة.
سوء الخلق مصيبة كبيرة حتى بين المصلين في المساجد، فإنك ترى في بعض التعاملات وبعض الحركات ما ينبئك أن هذه الجموع من المصلين تحتاج إلى تربية عميقة على هذه الأخلاق الفاضلة، لكي يعرف الناس التعامل مع بعضهم حتى داخل أروقة المساجد.
إن بين الطلاب والمدرسين نماذج من سوء الأخلاق، فمن جهة بعض المدرسين تجد تعدياً وظلماً، ومن جهة بعض الطلاب تجد استفزازاً وتحدياً، وقلة أدب ووقاحة، وبين الموظف والمراجع كثير من سوء الخلق، فتجد هذا يضغط عليه أو يعطيه من الكلام السيئ ما يثير حفيظته، وتجد ذاك يسيء في الخدمة أو التعامل، ويرمي المعاملات والأوراق، ويؤخر ويسوف ويظلم ويعذب المراجع، وهكذا.
وكثيراً ما تسمع في بعض الدوائر والأماكن من أنواع السباب والمشاتمات بين الموظفين والمراجعين ما ينبئك على أن هناك أزمة أخلاق في المجتمع.
وبين الجار وجاره كثير من الحالات التي فيها سوء خلق، من أنواع الأذية من الأصوات العالية، أو رمي القاذورات، ونحو ذلك من الإساءات المتعمدة التي تكون بين شخصيات مختلفة من الجيران رجالاً ونساءً، بين سائقي السيارات في الشوارع تلمح هذا النمط من الأخلاق المتدنية، التي تعبر عن ظلم وتعدٍ وتحدٍ، وكل منهم يريد أن يكسر أنف الآخر بطريقة سياقته لسيارته، وهكذا سوء الخلق، حتى بين بعض الطلبة المنتسبين للعلم، سوء أدب، شيء من سوء الأدب مع العلماء في طريقة الخطاب والسؤال والمناقشة وهكذا أو التهجم والاتهام ونحو ذلك.
وكثير ممن انفض عنهم طلبتهم أتوا من هذا الباب، باب سوء الخلق، وإن مخططات أعداء الإسلام تركز على سوء الخلق وإفساد الأخلاق تركيزاً كبيراً، سواء كان هؤلاء من اليهود أو الماسونيين أو المبشرين بدين النصرانية وغيرها، هؤلاء مخططاتهم قائمة على نزع الأخلاق كما قال رئيسهم في مؤتمرهم: إن مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله، وبالتالي فلا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، وبذلك تكونون أنتم بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية.
ونحن مسلمون لنا منهاج ولنا كتاب ولنا مراجع، لنا أمور نحتكم إليها ونرجع إليها، الكتاب والسنة، وإذا تأملت -يا أخي المسلم- كتاب الله سبحانه وتعالى لوجدته يذكر هذا الجانب بجلاء، الحث على الخلق الحسن ويعدد أنماط الأخلاق الحسنة، التي ينبغي على المسلم أن يتخلق بها، فأنت تجد في كتاب الله مثلاً: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:18 - 19]، {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:9 - 10]، {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} [الإسراء:26 - 27]، {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} [الإسراء:29].
ويقول -أيضاً- في خلق آخر ذميم: {وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} [الإسراء:37] ومدح الله قوماً فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63] هذا من حسن أخلاقهم، وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:1 - 3]، {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]، {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} [النساء:148]، {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40].
جمع الله مكارم الأخلاق في آية واحدة موجهة لرسوله صلى الله عليه وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] قال مجاهد: يأخذ العفو من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تخفيف، مثل قبول الأعذار، والعفو، والمساهلة، وترك الاستقصاء في البحث والتفتيش عن حقائق بواطنهم والعرف هو المعروف، وأعرض عن الجاهلين مثل قول الله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63].(258/2)
خلقه صلى الله عليه وسلم
وأما رسولنا صلى الله عليه وسلم فقد دعا إلى مكارم الأخلاق بقوله وفعله، وكان قدوة حتى إن الله مدحه في كتابه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] فأكد أنه قد تخلق بالأخلاق الحسنة بهذه المؤكدات في الآية، وإنك: أكدها بإن، لعلى: أكدها باللام، خلق: هذه النكرة تفيد التفخيم، تفخيم شأنه وحاله وخلقه صلى الله عليه وسلم، ثم وصف هذا الخلق بأنه عظيم، وهذا أمر رابع.
وفي الصحيحين عن هشام بن حكيم أنه سأل عائشة رضي الله عنها: (كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: كان خلقه القرآن، فقال: لقد هممت أن أقوم ولا أسأل شيئاً) لأن الجواب كان معبراً ودقيقاً، أي أن تصرفاته عليه الصلاة والسلام كانت ترجمة حية لأوامر الله ونواهيه المذكورة في القرآن، وعن سبب بعثته يقول عليه الصلاة والسلام: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق) هذه هي الشخصية العظيمة المتصفة بالخلق العظيم ((وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)).
قالت عائشة رضي الله عنها: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً، ولا صخاباً في الأسواق -لم يكن يرفع صوته في مجامع الناس- ولا يجزي بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح) وقالت: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده شيئاً قط إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا ضرب خادماً ولا امرأة) وجاء -أيضاً- في الحديث الصحيح: (ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فقال: لا) أي: ما سئل شيئاً من متاع الدنيا المباح، إذا كان ميسوراً أعطى، وإذا كان معسوراً ليس عنده وعد بالخير في المستقبل.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط، وما قال لشيء صنعته لم صنعته، ولا لشيء تركته لم تركته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً، ولا مسست خزاً ولا حريراً ولا شيئاً كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت مسكاً قط ولا عطراً كان أطيب من عرق النبي صلى الله عليه وسلم) حديث صحيح.
وعن عمرو بن العاص قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بوجهه وحديثه على أشر القوم يتألفهم بذلك، فكان يقبل بوجهه وحديثه علي حتى ظننت أني خير القوم، فقلت: يا رسول الله! أنا خير أو أبو بكر؟ قال أبو بكر، فقلت: يا رسول الله! أنا خير أو عمر؟ فقال: عمر، فقلت: يا رسول الله! أنا خير أو عثمان؟ قال: عثمان، فلما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فصدقني، فلوددت أني لم أكن سألته) حديث صحيح.
وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، قال: (ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالوا: (يا رسول الله! إنك تداعبنا، قال: نعم غير أني لا أقول إلا حقاً) هذا نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم في أخلاقه وألفاظه وتعاملاته.
أما في تواضعه فكان عجباً من العجب.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن امرأة من الأنصار ومعها صبي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: إن لي إليك حاجة، فقال: اجلسي في أي طريق المدينة شئت أجلس إليك) وفي رواية لـ مسلم: (فخلا معها في بعض الطريق حتى فرغت من حاجتها) وليس المقصود أنه اختلى بها الخلوة المحرمة، وإنما في الطريق، ابتعد شيئاً ما عن الناس حتى لا يسمعوا كلامها؛ لأنها تريد أن تقول له شيئاً خاصاً.
وعن أنس رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعى إلى خبز الشعير والإهالة السنخة، ويجيب عليه الصلاة والسلام) والإهالة السنخة هي الدهن المتغير الرائحة من طول المكث، ليس خبيثاً ولا متعفناً، لكن حصل له تغير في رائحته من طول مكثه، ما كان يستحقر هذه الأشياء، ولو كانت بسيطة كان يلبي الدعوة: (لو دعيت إلى كراع لأجبت).
جاء أعرابي يوماً يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فأعطاه صلى الله عليه وسلم ثم قال له: (أحسنت إليك؟ قال الأعرابي: ولا أجملت -لا أحسنت ولا أجملت- فغضب المسلمون وقاموا عليه، ثم قام صلى الله عليه وسلم ودخل منزله فأرسل إليه -إلى الأعرابي- وزاده شيئاً فقال له: أحسنت إليك؟ قال: نعم.
فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنك قلت ما قلت آنفاً، وفي نفس أصحابي من ذلك شيء، فإن أحببت فقل بين أيديهم حتى يذهب ما في صدورهم عليك، قال: نعم.
فلما كان الغد جاء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه، فزعم أنه رضي أكذلك؟ -يقول للأعرابي أكذلك؟ أمام الناس- قال: نعم.
فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثلي ومثل هذا كمثل رجل له ناقة شردت عليه فأتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً، فناداهم صاحبها) -الآن لاحظ التطابق بين المثل أو هذه القصة والأعرابي- فقال لهم: (خلوا بيني وبين ناقتي فأنا أرفق بها منكم وأعلم، فتوجه لها بين يديها فأخذ من قمام الأرض فردها حتى جاءت واستناخت، وشد عليها رحلها واستوى عليها، وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار).(258/3)
أحاديث في الحث على حسن الخلق والتحذير من سوء الخلق
وهذا القرآن العظيم فيه دستور للأخلاق، وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ذكر كثير للأخلاق الحسنة، والتحذير من الأخلاق السيئة، وعلماؤنا قد اهتموا بهذا الموضوع اهتماماً كبيراً، لذلك تجدهم قد أفردوا الأخلاق بمؤلفات مثل كتاب: مكارم الأخلاق لـ ابن أبي الدنيا، ومساوئ الأخلاق للخرائطي، ولا تكاد تجد مصنفاً في الحديث إلا وتجد فيه من أبواب الأدب: الأخلاق والبر والصلة، وأفرد البيهقي رحمه الله الآداب بكتاب مستقل وغيره، وألف ابن عبد القوي منظومة الآداب وشرحها السفاريني في كتابه العظيم: غذاء الألباب شرح منظومة الآداب، وتجد كتباً مستقلة في بيان شمائله صلى الله عليه وسلم، ككتاب الشمائل المحمدية للترمذي، والشمائل المحمدية لابن كثير، وكتاب أخلاق النبي لـ أبي الشيخ، وخصص ابن القيم رحمه الله جزءاً من كتابه زاد المعاد لبيان أخلاقه صلى الله عليه وسلم.
وتجد الأحاديث فيها ذكر حسن الخلق والحض عليه والحث، قال صلى الله عليه وسلم: (البر حسن الخلق) ما هو البر؟ تعريف البر: البر حسن الخلق، وقال: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) وقال: (أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وحسن الخلق، وعفة مطعم) وقال: (إن الناس لم يعطوا شيئاً خيراً من خلق حسن) وقال: (عليك بحسن الخلق وطول الصمت، فوالذي نفسي بيده ما تجمل الخلائق بمثلهما) وقال: (ما عمل ابن آدم شيئاً أفضل من الصلاة، وصلاح ذات البين، وخلق حسن) وقال عليه الصلاة والسلام: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً الموطئون أكنافاً) الكنف هو الجانب، والمقصود: أن من يصاحبهم لا يناله منهم أذى، (الذين يألفون ويؤلفون) يحبون ويأنسون، (ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف) وقال: (إن أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً) (إن أحبكم إلي وأقربكم مني في الآخرة مجالس أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني في الآخرة أسوأكم أخلاقاً، الثرثارون المتفيهقون - أي: المتكبرون- المتشدقون - الذي يكثر الكلام من غير احتراز-)، وقال: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم) وقال: (خيركم إسلاماً أحاسنكم أخلاقاً إذا فقهوا) وقال: (خير الناس ذو القلب المخموم، واللسان الصادق، قيل: ما القلب المخموم؟ قال: هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد، قيل: فمن على أثره؟ قال: الذي يشنأ الدنيا ويحب الآخرة، قيل: فمن على أثره؟ قال: مؤمن في خلق حسن).
والله يحب مكارم الأخلاق ويكره الأخلاق السيئة، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى جميل يحب الجمال، ويحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها) وقال: (إن الله كريم يحب الكرم، ويحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها).
وجاءت أحاديثه عليه الصلاة والسلام بجملة من الأخلاق الحسنة، انظر إليه عليه الصلاة والسلام واستمع لقوله وهو يقول: (صل من قطعك، وأحسن إلى من أساء إليك)، (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا، وإذا غضب أحدكم فليسكت) وقال: (من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين ما شاء) حديث صحيح.
وقال: (من كان سهلاً ليناً حرمه الله على النار) وقال: (المؤمنون هينون لينون كالجمل الألف الذلول -الذي يقاد بسهولة- إن قيد انقاد، وإذا أنيخ على صخرة استناخ) وقال: (من كف غضبه ستر الله عورته).
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم مبيناً ومؤكداً على أخلاق معينة يركز عليها في حديثه: (إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة) وقال: (التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة) وقال: (التؤدة والاقتصاد والسمت الحسن جزء من أربعة وعشرين جزءاً من النبوة) وقال: (التأني من الله والعجلة من الشيطان) وهذا تركيز على خلق التأني.
وفي أحاديث أخرى يركز على الحياء، فيقول: (إن لكل دين خلقاً وخلق الإسلام الحياء) (استحيوا من الله حق الحياء) ويقول لأحد الصحابة: (أوصيك أن تستحي من الله تعالى كما تستحي من الرجل الصالح من قومك) وقال: (الحياء خير كله، الحياء من الإيمان) وقال: (الحياء لا يأتي إلا بخير).
ويركز على خلق ثالث وهو الرفق فيقول: (إن الله تعالى رفيق يحب الرفق، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف) وقال: (عليك بالرفق إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه) وقال: (عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش) وقال: (ما أعطي أهل بيت الرفق إلا نفعهم) وقال: (من يحرم الرفق يحرم الخير كله).
وهناك أخلاق مذمومة نهى عنها وحذر منها، فقد جاء في الحديث الصحيح: (كان أبغض الخلق إليه الكذب) رواه البيهقي وغيره عن عائشة رضي الله عنها، وقال عليه الصلاة والسلام في ذم خلق آخر: (يا عائشة! إن شرار الناس الذين يكرمون اتقاء شرهم) ليس الدافع لإكرامهم إلا أن الإنسان يريد أن يتقي شرهم.
وهذا الخلق له أهمية في الأخلاق الاجتماعية، وفي العلاقات الزوجية، وفي تعاملات الناس، وفي كل شيء، حتى إنه عليه الصلاة والسلام قال: (ثلاثة يدعون الله عز وجل فلا يستجاب لهم: رجل كانت تحته امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها) قيل في هؤلاء الثلاثة: لا يستجاب دعاؤهم في خصومهم، وليس المعنى: أنه لا يستجاب دعاؤهم على الإطلاق، وهذا الحديث لا يعني -أيضاً- أنه إذا كانت المفاسد في الطلاق أكثر أنه يطلق، ولكن المرأة إذا ساء خلقها جداً فإن المصلحة في تطليقها؛ لأنها نكد، ولذلك لما جاء إبراهيم عليه السلام إلى بيت ابنه ولم يكن إسماعيل موجودا، ً طرق الباب فخرجت زوجته فسألها عن إسماعيل فقالت: خرج، فقال: كيف عيشكم؟ قالت: نحن بشر وضيق وذمت في عيشها، هذا لمن؟ لرجل غريب لا تدري من هو ذمت زوجها وحياتها معه، فعلم أنها امرأة سوء، فقال لها أن تقول لزوجها إذا رجع: أن يغير عتبة بابه، فعلم إسماعيل أن أباه يوصيه بتغيير هذه الزوجة.
وفي المقابل أن من الصفات التي تشترط للموافقة على الزوج أن يكون حسن الخلق، ولذلك يقول في الحديث الصحيح: (من أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه) فخص الخلق حتى لا يتعب زوجته بعدما يتزوجها.
أما الأخلاق فهي سجايا وطبائع في النفس، هذه الأخلاق الحسنة عرفها العلماء فقالوا: بذل الندى، وكف الأذى، واحتمال الأذية، وقالوا: بذل الجميل وكف القبيح، وقالوا: التخلي عن الرذائل والتحلي بالفضائل.(258/4)
أركان حسن الخلق وسوء الخلق
واعلموا -أيها الإخوة- أن حسن الخلق يقوم على أربعة أركان، أي: أن منشأ الأخلاق الحسنة الفاضلة في هذه الأمور الأربعة، ما هي؟ قال ابن القيم: أولاً: الصبر.
ثانياً: العفة.
ثالثاً: الشجاعة.
رابعاً: العدل.
فأما الصبر: فهو حبس النفس، بأن يحبس النفس عن الأخلاق السيئة، ويصابر صاحبه على الأخلاق الحسنة.
والعفة: تحمل على اجتناب الرذائل والقبائح من الأقوال والأفعال، وتمنع من الفحشاء.
وأما الشجاعة: فتحمل على عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق والشيم، والبذل وكظم الغيظ، (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).
وأما العدل: فهو يحمل على اعتدال الأخلاق والتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط.
وأما الأخلاق السافلة فهي مجتمعة في أربعة أركان: الجهل، والظلم، والشهوة، والغضب.
فأما الجهل فيري صاحبه الحسن قبيحاً والقبيح حسناً، وهذا لجهله.
والظلم يحمل صاحبه على وضع الشيء في غير موضعه، فيغضب في موضع الرضا ويرضى في موضع الغضب، ويجهل في موضع الأناة، ويبخل في موضع البذل، ويحجم في موضع الإقدام، ويقدم في موضع الإحجام، ويلين في موضع الشدة، ويشتد في موضع اللين، ويتواضع في موضع العزة، ويتكبر في موضع التواضع.
وهكذا.
وأما الشهوة: فإنها تحمل على الشح والبخل والجشع والنهم والدناءات كلها.
وأما الغضب: فيحمل على الحسد والحقد والعدوان، وحب الاعتداء على الآخرين، والكبر.
وكل صنفين من هذه الأخلاق الرديئة يتكون منه أخلاق إضافية سيئة، وجماع الأخلاق السيئة على أمرين: إفراط النفس في الضعف، وإفراطها في القوة.
فيتولد من إفراطها في الضعف: المهانة والخسة واللؤم والذل، ويتولد من إفراطها في القوة: الظلم والعنف والحدة والطيش، ويتولد من تزوج أحد الخلقين بالآخر أولاد غية كثيرون، فإن النفس قد تجمع قوة وضعفاً، فيكون صحابها أجبر الناس إذا قدر، وأذلهم إذا قُهِر، جبان عن القوي جريء على الضعيف، فالأخلاق الذميمة يولد بعضها بعضاً كما أن الأخلاق الحميدة يولد بعضها بعضاً، ولذلك كل شخص يكتشف خلقاً طيباً فليتوقع أنه سوف ينتقل إلى خلق آخر.
وينبغي أن نتنبه -أيها الإخوة- أن الأخلاق مسألة دقيقة، وأحياناً يكون بين الخلق الذميم والمحمود شعرة واحدة، فالخلق المحمود بين طرفين ذميمين، كل خلق محمود في الغالب بين طرفين ذميمين، فالجود: الكرم، بين طرفين ذميمين ما هما؟ بين البخل والتبذير، لاحظ أن الكرم خلق محمود بين خلقين مذمومين وهما البخل والتبذير، فإذا أمسك فهو بخيل وإذا صرف بانفتاح فهو مبذر، والوسط كريم.
والتواضع وسط بين الذل والكبر، فالإنسان إذا تواضع لدرجة أنه صار يصبر على الضيم، أو يرضى بالأشياء السيئة، ولا يعترض على أي شيء، فإنه عند ذلك لا يكون متواضعاً أبداً، وإذا زاد تجبر وتكبر، فالتواضع بين الذل والمهانة من جهة، وبين الكبر والعلو من جهة، فهو وسط بينهما.
والحياء وسط بين الوقاحة والجرأة من جهة، وبين العجز والخور، فبعض الناس يكون جريئاً وقحاً، ليس عنده حياء، وبعض الناس يظن أن عنده حياء ويستكين لكل شيء فيكون عاجزاً خواراً، يظن أن هذا حياء وهو العجز والخور، وإذا تجرأ وزاد عن الحد دخل في الوقاحة، والحياء رتبة بينهما.
والأناة خلق محمود بين طرفين ذميمين ما هما؟ الطرف الأول هو: الاستعجال، والطرف الثاني التفريط والإضاعة، فبعض الناس يظن نفسه متأنياً لكنه في الحقيقة أنه فرط وأضاع وانتظر حتى ذهبت عليه الفرصة، وبعض الناس متعجل جداً ومتسرع، والأناة وسط بينهما فهو لا متسرع ولا هو ينتظر الفرص، يسكت عن الفرص حتى تفوت عليه، فهو يتمهل ويتروى ولكن يقتنص الأشياء المحمودة فلا تفوت عليه.
والشجاعة خلق محمود بين طرفين مذمومين، ما هما؟ الجبن والتهور، فهناك أناس متهورون متسرعون إقدامهم غير محمود، وهناك أناس جبناء، والشجاعة بينهما، والسعيد من عرف كيف يسير.
والقناعة: خلق بين الشح والحرص من جهة، وبين الخسة والإضاعة من جهة، فبعض الناس يضيق على نفسه وعلى أهله ويظن أنه قنوع، بينما هو يعيش في خسة ويضيع أهله ومن يقوت، وبعض الناس يكون عنده حرص وشح، والقناعة وسط بينهما.
والرحمة وسط بين القسوة والضعف، وبعض الناس يكون قاسي القلب (لا يرحم الله من لا يرحم الناس) وبعضهم يكون ضعيفاً ذليلاً، ومن ضعفه يظن أنها رحمة وليست برحمة، فتراه لا يذبح شاة، ولا يؤدب ولداً، ولا يقيم حداً، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم الناس ذبح بيده الشريفة ثلاثاً وستين ناقة، وأقام الحد -قطع اليد- على رجال ونساء سرقوا، ورجم بالحجارة من زنى وهو محصن، ومع ذلك فهو أرحم الناس بأمته.
وطلاقة الوجه والبشر، بين التقطيب والتعبيس من جهة وتصعير الخد، وبين إذهاب الهيبة وزوال الوقار، فأنت إذا قطبت وعبست في وجه كل أحد فهذا خلق مذموم، وإذا كنت كلما رأيت أحداً في الشارع تضحك له في كل مكان وكل مجال، فماذا يعني ذلك؟ إذهاب هيبتك وزوال وقارك.
ولذلك أيها الإخوة: الإنسان يحتاج إلى عقل حتى يتخلق بالأخلاق الحسنة، وأحياناً يزيد الناس في شيء فيصلون إلى المذموم من جهة، أو ينقصون منه فيصلون إلى المذموم من الجهة الأخرى.
وهذه قضايا تلاحظ بالتأمل والتفكير.(258/5)
كيف نغير أخلاقنا السيئة ونستبدلها بأخلاق حسنة؟
ونأتي الآن إلى الجزء المهم من الموضوع، أو الجزء الأهم من الناحية العملية، وكل ما فات فهو تقدمة مهمة لهذا الأمر، وهو: كيف نغير أخلاقنا السيئة ونستبدلها بأخلاق حسنة؟ كيف نتخلق بالأخلاق الحسنة؟ للإجابة على هذا السؤال نبدأ بمقدمة: هل الأخلاق مسألة موروثة أم مكتسبة؟ هل الأخلاق تأتي بالوراثة أم يمكن اكتسابها؟ الحقيقة أيها الإخوة: أن الأخلاق موروثة ومكتسبة، هناك أخلاق موروثة يجبل عليها الإنسان، قد يجبل على خصال حميدة أو يجبل على خصال غير حميدة، وقد يكون أبو الإنسان حليماً فيخرج الولد حليماً، وقد يكون والد الإنسان كريماً فيخرج الولد كريماً، وقد يكون الأب بخيلاً فيخرج الولد بخيلاً، يطبع على خصلة موروثة فيه، في جبلته، ونلاحظ على الأطفال أشياء من هذا، تجد ولداً كلما جاء إليه طفل يطلب منه لعبة أعطاه إياها، أي: أنه يعطي ألعابه للأطفال، وطفل كلما جاء مثيل له يأخذ لعبة ضربه وأخذها منه ومنعه من أخذها، فهي قضية موروثة.
ولكن هذه الأشياء الموروثة هل هي قابلة للتغير أم أنها طابع قد ختم به على صاحبها فلا يمكن تغييره أبداً؟
الجواب
هناك مجال للتغيير في الأخلاق الموروثة، ولذلك أمرنا بالمجاهدة.
أما الأخلاق المكتسبة فأمرها سهل، فهي أسهل من الأخلاق الموروثة في كثير من الأحيان، لأنك الآن تتعلم وتتعود وتكتسب، لكن الأخلاق الموروثة والطبائع تغييرها أصعب، والإنسان يصعب عليه أن يغالب طبيعته، ولكننا لا نستسلم لهذه الصعوبة، رغم أن هذه قضية قد تكون موروثة لكن لا بد أن نغير، والله لم يكلفنا بمستحيل.
الأخلاق منها ما هو جبلي موروث، ومنها ما هو كسبي يمكن أخذه.
فالدليل على أن الأخلاق منها ما هو جبلي ما ورد في الحديث الصحيح: (إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم والأناة) فهذان الخلقان جبل عليهما هذا الرجل، وهذا رجل جاهلي أصلاً، جبل على هذين الخلقين: الحلم والأناة.
وأما الدليل على أن الأخلاق يمكن أن تكون مكتسبة، فهو حديثه عليه الصلاة والسلام (إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم) وفي حديث آخر: (ومن يتصبر يصبره الله) فدل ذلك على أن الصبر والحلم خلقان يمكن اكتسابهما إذا تعود الإنسان عليهما، ما معنى الحلم بالتحلم؟ يعني أن تعود نفسك على الحلم وتراغم نفسك على الحلم، وتحملها على هذا الخلق، وبعد فترة يصبح هذا الأمر فيك ملكة وسجية، فتكتسب هذا الخلق.
وأيضاً في دعاء الاستفتاح يقول عليه الصلاة والسلام: (اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت) معنى ذلك: أن الأخلاق المحمودة سؤالها من الله عز وجل ممكن، وكذلك الأخلاق المذمومة يمكن أن يسأل الإنسان ربه أن يصرفها عنه فتصرف.
فإذاً: هذه الأخلاق المكتسبة تنال بالتخلق والتكلف حتى تصير سجية وملكة.(258/6)
وسائل تغيير الأخلاق السيئة واكتساب الأخلاق الحسنة
ونأتي الآن إلى الجزء المهم من الموضوع، أو الجزء الأهم من الناحية العملية، وكل ما فات فهو تقدمة مهمة لهذا الأمر، وهو: كيف نغير أخلاقنا السيئة ونستبدلها بأخلاق حسنة؟ كيف نتخلق بالأخلاق الحسنة؟ للإجابة على هذا السؤال نبدأ بمقدمة: هل الأخلاق مسألة موروثة أم مكتسبة؟ هل الأخلاق تأتي بالوراثة أم يمكن اكتسابها؟ الحقيقة أيها الإخوة: أن الأخلاق موروثة ومكتسبة، هناك أخلاق موروثة يجبل عليها الإنسان، قد يجبل على خصال حميدة أو يجبل على خصال غير حميدة، وقد يكون أبو الإنسان حليماً فيخرج الولد حليماً، وقد يكون والد الإنسان كريماً فيخرج الولد كريماً، وقد يكون الأب بخيلاً فيخرج الولد بخيلاً، يطبع على خصلة موروثة فيه، في جبلته، ونلاحظ على الأطفال أشياء من هذا، تجد ولداً كلما جاء إليه طفل يطلب منه لعبة أعطاه إياها، أي: أنه يعطي ألعابه للأطفال، وطفل كلما جاء مثيل له يأخذ لعبة ضربه وأخذها منه ومنعه من أخذها، فهي قضية موروثة.
ولكن هذه الأشياء الموروثة هل هي قابلة للتغير أم أنها طابع قد ختم به على صاحبها فلا يمكن تغييره أبداً؟
الجواب
هناك مجال للتغيير في الأخلاق الموروثة، ولذلك أمرنا بالمجاهدة.
أما الأخلاق المكتسبة فأمرها سهل، فهي أسهل من الأخلاق الموروثة في كثير من الأحيان، لأنك الآن تتعلم وتتعود وتكتسب، لكن الأخلاق الموروثة والطبائع تغييرها أصعب، والإنسان يصعب عليه أن يغالب طبيعته، ولكننا لا نستسلم لهذه الصعوبة، رغم أن هذه قضية قد تكون موروثة لكن لا بد أن نغير، والله لم يكلفنا بمستحيل.
الأخلاق منها ما هو جبلي موروث، ومنها ما هو كسبي يمكن أخذه.
فالدليل على أن الأخلاق منها ما هو جبلي ما ورد في الحديث الصحيح: (إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم والأناة) فهذان الخلقان جبل عليهما هذا الرجل، وهذا رجل جاهلي أصلاً، جبل على هذين الخلقين: الحلم والأناة.
وأما الدليل على أن الأخلاق يمكن أن تكون مكتسبة، فهو حديثه عليه الصلاة والسلام (إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم) وفي حديث آخر: (ومن يتصبر يصبره الله) فدل ذلك على أن الصبر والحلم خلقان يمكن اكتسابهما إذا تعود الإنسان عليهما، ما معنى الحلم بالتحلم؟ يعني أن تعود نفسك على الحلم وتراغم نفسك على الحلم، وتحملها على هذا الخلق، وبعد فترة يصبح هذا الأمر فيك ملكة وسجية، فتكتسب هذا الخلق.
وأيضاً في دعاء الاستفتاح يقول عليه الصلاة والسلام: (اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت) معنى ذلك: أن الأخلاق المحمودة سؤالها من الله عز وجل ممكن، وكذلك الأخلاق المذمومة يمكن أن يسأل الإنسان ربه أن يصرفها عنه فتصرف.
فإذاً: هذه الأخلاق المكتسبة تنال بالتخلق والتكلف حتى تصير سجية وملكة.
ما هي وسائل تغيير الأخلاق السيئة واكتساب الأخلاق الحسنة؟ إليكم -أيها الإخوة- خمس عشرة وسيلة من وسائل اكتساب الأخلاق الحسنة والتخلص من الأخلاق الذميمة، وهذا مبحث مهم وهذا هو لب الموضوع، وهذا هو الأمر الذي لا بد منه، والسعي في فهمه وتطبيقه.(258/7)
العلم والتأمل بما دل عليه القرآن والسنة
أولاً: العلم والتأمل بما دل عليه القرآن والسنة من الأخلاق الحسنة، وما حذر من الأخلاق السيئة.
فأول شيء المسألة العلمية: أن تعلم ما هي الأخلاق الحسنة وما هي الأخلاق السيئة؟ وقد ذكرنا طرفاً من هذا أول الدرس، ذكرنا أمثلة من الأخلاق الحسنة التي أمر بها القرآن والسنة، وأمثلة من الأخلاق السيئة التي نهى الله عنها في كتابه ونهى رسوله صلى الله عليه وسلم.
لكن لو أن الإنسان تفكر في هذه الآيات: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً} [المعارج:19] {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف:54] {وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً} [الإسراء:11]، {كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 - 7]، {إِنَّ الْأِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات:6] أي جحود وكفور! فيظهر لك هنا أن الله عز وجل ذكر أخلاقاً مذمومة في الإنسان، منها: العجلة، والجدال، والطغيان، والجحد، والهلع، وفسره بقوله: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} [المعارج:20 - 21].
لو تأملنا في الأخلاق السيئة وتعرفنا على الأخلاق السيئة اجتنبناها، وإذا تعلمنا الأخلاق الحسنة شرعنا في اكتسابها.(258/8)
المجاهدة
ثانياً: المجاهدة.
إن من أعظم وسائل تغيير الأخلاق السيئة إن لم تكن هي أهمها على الإطلاق، كيف يكتشف الإنسان أن لديه خلقاً سيئاً؟ إذا حصلت حادثة -مثلاً- غضب، وقال كلمة سيئة، أو أتى بتصرف غير صحيح، يعرف أن عنده خلقاً سبباً: سوء غضب، أو فحش في الكلام، فماذا يفعل في المواقف التي يستثار فيها؟ ينبغي أن يكبت نفسه، ويمسك نفسه، ويصبر عن أن يتكلم بكلمة فحش، أو يأتي بتصرف غير لائق بالمسلم.
وإذا دعي إلى الإنفاق فإن النفس تقول له: أحجم، اتركها لأولادك، الظروف لا تسمح الآن بالإنفاق، الآن لا بد أن نوفر، فالمجاهدة أن يحمل نفسه على الإنفاق، ويرغمها على الإنفاق، ويعطي بسخاء، فيزول هذا الشح من نفسه ويحل محله الكرم والسخاء والجود، إذا هو أدمن هذه العادة وهي الإنفاق في سبيل الله ومقاومة النفس، فمجاهدة ومقاومة النفس هي الأساس، والله وعد خيراً فقال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] وكثير من الشباب والناس عموماً يحاولون ويجاهدون أنفسهم، فشخص يقول لك: أنا إنسان حمقي سريع الانفعال، شديد الغضب، وأحاول في نفسي وأجاهد نفسي، لكنني أفشل أحياناً، فهذا الفشل شيء مفهوم؛ لأن هذه الجبلة التي عندك لا يمكن أن تغيرها بين عشية وضحاها، فهي ستنجح أحياناً وسوف تفشل أحياناً، هذا أمر مفهوم واضح.
ولذلك فإن اليأس بسبب الفشل في بعض الأحيان لعملية المجاهدة شيء مذموم يحتاج إلى تغيير، ولا بد أن يكون الأمل في نفوسنا ونحن نحاول أن نغير أخلاقنا.(258/9)
الأخذ بالأسباب الشرعية
ثالثاً: الأخذ بالأسباب الشرعية لإزالة الأخلاق السيئة، وللحمل على الأخلاق الحسنة.
مثال: الرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا بأشياء عند الغضب؛ لأن الغضب شيء مذموم، وهناك إرشادات شرعية، في أوامر شرعية: أولاً: أن يسكت، قال: (ومن غضب فليسكت) إذاً إذا غضبت فلتسكت.
ثانياً: يتعوذ بالله من الشيطان، كما ورد في حديث المستبان، أو حديث المستبين.
كذلك ثالثاً: قال: (ومن كان قائماً فليقعد).
ورابعاً: قال: (أمرنا أن نتوضأ).
فصار عندك أربعة إجراءات شرعية عند الغضب، ما هي؟ أولا: ً السكوت، ثانياً: الاستعاذة بالله من الشيطان، ثالثاً: تغيير الحالة، فإن كنت قائماً فلتقعد، وإذا كنت قاعداً هل تقوم؟ لا؛ لأن القيام هذا يشجع على الاعتداء وعلى البطش، وإنما تغير من الحالة إلى الحالة التي هي أدنى منها، ورابعاً: توضأ، لأن الغضب حرارة شيطانية فيكسره بالوضوء.
إذا غضبت فاعمل الأشياء الأربعة وشرط وعهد أنك تتخلص من الغضب في ذلك الموقف أبداً.
ولذلك فمن رحمة الله أن الشريعة جاءت رحمة للعباد ومصلحتنا في اتباع الشريعة، فإذا غضبت فاسكت، واستعذ من الشيطان، هذه إجراءات نبوية وإرشادات ينبغي الأخذ بها.(258/10)
التدرج
رابعاً: من وسائل تغيير الأخلاق واستبدالها بأخلاق حسنة: التدرج.
فالناس يختلفون في مدى استعدادهم للتغيير، الناس عندهم استعداد للتغيير، لكن أين لب الموضوع؟ النسبة في التغير، فلان يمكن أن يتغير بسرعة، وفلان يمكن أن يتغير ببطء، وهذا أمر ملاحظ في التربية، فهناك أناس يرتقون بسرعة وأناس يرتقون ببطءٍ شديد، والإنسان حتى لا يصاب باليأس لا يقال له: أنت اليوم جبان، غداً نريدك شجاعاً وإلا فأنت فاشل في تربية نفسك، لا.
هذه سجايا، إذا أردت أن تغير بين عشية وضحاها فأنت تصادم طبيعة النفس، أنت تصادم قضاء الله في الناس، والله عز وجل من حكمته في خلقه أنه جعل تغيرهم في الأخلاق ليس سريعاً.
فإذا أردت التغيير بين عشية وضحاها فأنت تصادم الأمور الطبيعية وستفشل، وهذا لا يعني أنه إذا كان عندك استعداد للتغير السريع ألا تتغير، تغير بسرعة، لكن التدرج في هذه الأمور يختلف الناس فيه سرعة وبطئاً، قال الشاعر:
ومكلف الأشياء فوق طباعها متطلب في الماء جذوة نار
هل تجد في الماء شعلة نار؟ لا تجد، فعكس طبائع الأشياء، لا يمكن.
ولذلك نقول: هذه الفقرة ترك المثاليات، لأن بعض الناس الذين يريدون تغيير الأشياء السيئة قد يكون عنده مثالية في النظرة فيفشلون، ولذلك نحن نطمح للشيء المثالي، ولو لم نصل إليه بسرعة.(258/11)
عدم إشغال النفس بتتبع الأخلاق السيئة
خامساً: عدم إشغال النفس بتتبع الأخلاق السيئة فقط.
فبعض الناس يقول: أنا الآن سأبحث عن عيوبي، ليس عندي بخل، أو غضب، أو فحش في القول، أو جبن، أو تهور إلى آخره، فهو الآن يريد أن يجتث هذه الأشياء واحدة واحدة، فيشغل نفسه بتتبع الأخلاق السيئة فقط، دون أي شيء آخر، وينسى قضية العبادات التي تزكي النفس، فالعبادات لها أثر، لذلك قال الله: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج:19 - 22]، {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون:5]، {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون:8]، {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:19] فإذاً الصلاة والصدقة، وحفظ الفرج، والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، هذه أشياء تعين على التخلص من الأخلاق السيئة، فبعض الناس أحياناً ينشغل بالأخلاق السيئة فقط، وينسى أن يشتغل بعبادات وأشياء تعينه على التخلص من الأخلاق السيئة.
ما مثال هذا؟ ذكر ابن القيم رحمه الله مناقشة لطيفة مع شيخه ابن تيمية، ذكرها في مدارج السالكين، ضمن النقاش يقول: مثال الشخص الذي ينشغل بالأشياء السيئة فقط، ويغفل عن الأشياء الأخرى وأن يسير إلى الله، يقول: مثله مثل إنسان مسافر في طريق سفر، في أرض فيها حيات وعقارب، فإذا قال: أنا أريد أن أبحث عن كل حية وعقرب وأقتلها حتى لا تنهشني، فإذا انشغل في تتبع الحيات والعقارب فقط، فهل سيصل؟ قد لا يصل، وقد يغلب من حية أو عقرب تنهشه فيهلك، لكن ماذا يكون الوضع الصحيح؟ قال: يمشي ويتحاشى الشر، فإن عرض له شيء فليقتله ويواصل المسيرة، وإذا تصدى لك شيء فصار أمامك ولا تستطيع أن تمشي فاقتله وأكمل المسيرة، فإذاًَ الاشتغال بالتنبيش في الأخلاق والعيوب السيئة فقط، هذا يمكن أن يستهلك من الإنسان وقتاً طويلاً جداً فيذهل عن الدعوة وطلب العلم والعبادة والتربية الإيمانية، وأشياء أخرى، تكون مساعدة جداً في التخلص من الأخلاق السيئة، ولذلك يمكن للإنسان أن يتربى تربية إسلامية بالعبادة، فيكتشف أن خلقاً سيئاً قد زال منه دون أن ينشغل أصلاً بتتبع أصل الخلق السيئ ومحوه وإزالته، لكن لو ظهر الخلق السيئ فينبغي عليك أن تجاهد نفسك في تلك اللحظة والحالة للتخلص منه، وهذه مسألة دقيقة تحتاج لشيء من التأمل والتفكير.
ولذلك نحن مطالبون بتزكية النفوس، ليس باجتثاث الأخلاق السيئة والبحث عنها فقط، وإنما بالعبادات والتعلم والأشياء الأخرى، وهذا معنى قول الله عز وجل في وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] هب أن داعي الجهاد قد قام ورفعت راية لا إله إلا الله حقاً حقاً، وقام المسلمون يجاهدون ثق بأن الجهاد إذا حصل سوف يقضي على كثير من الأخلاق السيئة في نفوسنا، وإن لم نتعنَّ نحن التنبيش عنها أصلاً والانشغال باجتثاثها من جذورها.
يمكن أن تذهب إلى رحلة حج وترجع وقد تغيرت فيك أخلاق سيئة؛ لأن هناك أشياء مثل المناسك والناس والزحام عندما تراها، ويعلم أن هذا سفر فإنه يصبر على أشياء كثيرة، لكن هذا لا يعني أن الإنسان -مثلاً- لا يبحث عن آفاته مطلقاً، ولكن المقصود ألا ينشغل بذلك عن بقية الوسائل التي تزكي نفسه.(258/12)
المحاسبة
سادساً: المحاسبة.
المحاسبة أمر مهم، والنفس اللوامة التي تلوم نفسها على ما يحصل منها من الأشياء، هذا أمر مهم في التخلص من الأخلاق السيئة واكتشافها الأخلاق السيئة، ولا بد أن يحاسب الإنسان نفسه أشد من محاسبة الشريك لشريكه، كما قال بعض السلف: والمحاسبة ليست مسألة جداول وأرقام كما يفعله بعض المبتدعة في محاسبة النفس، يأخذون جداول وفيها: هل فعلت كذا؟ وهل فعلت كذا؟ وفيها أرقام، ويجمع الأرقام وإذا حصلت على كذا فأنت بخير، وإذا ارتحت فأنت، هذه ليست طريقة السلف في المحاسبة، وليس هو التطبيق الصحيح لقول الله عز وجل: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18].
التعود على محاسبة النفس على المواقف والأخطاء، إذا وقعت في خطأ فتعزم على التصحيح في المستقبل وتستفيد من هذا الخطأ للمستقبل، ولنأخذ لكم مثالاً جيداً: ابن حزم رحمه الله له كتاب جيد، كتاب مختصر ولكن فيه فوائد كثيرة، اسمه: الأخلاق والسير في مداواة النفوس، وهو ليس شيئاً كاملاً لا يمكن أن يوجد فيه ثغرات، لكنه كتاب مفيد وفيه تأملات عميقة، كتاب الأخلاق والسير، الآن نأخذ مثالاً: كيف تكون المحاسبة؟ يضرب مثلاً يقول: العجب خلق سيئ، فكيف تحاسب نفسك محاسبة تخلصك من العجب؟ -اسمع معي ماذا يقول! - يقول: من امتحن بالعجب فليفكر في عيوبه، فإن أعجب بفضائله فليفتش ما فيه من الأخلاق الدنيئة، فإن خفت عليه عيوبه جملة -لم ير عيباً فيه- حتى يظن أنه لا عيب فيه، فليعلم أن مصيبته إلى الأبد، وأنه أتم الناس نقصاً وأعظمهم عيوباً وأضعفهم تمييزاً، وضعيف العقل؛ لأن العاقل هو من ميز عيوبه بنفسه فغلبها وسعى في قمعها، والأحمق هو الذي يجهل عيوب نفسه، قال: واعلم يقيناً أنه لا يسلم إنسي من نقص حاشا الأنبياء، فمن خفيت عليه عيوب نفسه فقد سقط.
-لا يمكن أن يوجد فينا نحن المجتمعين هنا شخص لا عيب فيه، هذا مستحيل- وما أدري لسماع عيوب الناس خصلة، يعني: لو أنت فكرت في استماعك لعيوب الناس ما فائدته؟ لا يمكن أن تجد إلا فائدة واحدة، وهي الاتعاظ بما يسمع المرء منها فيجتنبها ويسعى في إزالة ما فيه منها بحول الله تعالى وقوته.
ثم يقول للمعجب: ارجع إلى نفسك، فإذا ميزت عيوبها فقد داويت عجبك، لأنك إذا تفطنت في العيوب وظهرت لك أمامك في لائحة العيوب، فكيف ستعجب بنفسك وقد ظهرت أمام عينيك لائحة عيوبك، ولا تمثل بين نفسك وبين من هو أكثر عيوباً منك، هذه مسألة مهمة، أي: لا تقل: هناك أناس أسوء مني وأتعس مني، وأكثر عيوباً مني، يقول: إذا فعلت ذلك فسوف تستسهل الرذائل، وتكون مقلداً لأهل الشر.
ثم يقول: فإن أعجبت بعقلك ففكر في كل فكرة سوء تحل بخاطرك، فإنك تعلم نقص عقلك حينئذٍ، ولو كان عقلك كاملاً لما جاءت فيه هذه الخواطر السيئة، وإن أعجبت بآرائك فتفكر في سقطاتك واحفظها ولا تنساها.
كل إنسان معه سقطة أو سقطات، وأخطأ أخطاء شنيعة، فكر في هذه الحالات فيزول إعجابك بنفسك فإنك إن فعلت ذلك فأقل أحوالك أن يوازن سقوط رأيك بصوابك، فتخرج لا لك ولا عليك، والأغلب أن خطأك أكثر من صوابك، وهكذا كل أحد من الناس بعد النبيين صلوات الله عليهم، وإن أعجبت بعملك إذا صار الإعجاب من جهة العمل، فتفكر في معاصيك.
افرض أنك مثلاً شاهدت إنساناً ملهوفاً محتاجاً يستغيث فأعنته، فقدمت له خدمة عظيمة جداً وقام على رجليه، فقد يدخل في نفسك عجب بالعمل، تقول: أنا اليوم لو مت على هذا العمل فأنا من أهل الجنة، قد يأتي في بالك عجب بالعمل، فماذا تفعل؟ يقول: تفكر في معاصيك وفي تقصيرك، وفي معاشك ووجوهه، فوالله لتجدن من ذلك ما يغلب على خيرك، ويغطي على حسناتك، فليكن همك حينئذ، وأبدل من العجب تنقصاً لنفسك.
وإن أعجبت بعلمك، فاعلم أنه لا خصلة لك فيه، فكيف تزيل العجب بالعلم؟ أن تعتقد أنه موهبة من الله وهبك إياها ربك، فلا تقابلها بما يسخطه، فلعله ينسيك ذلك بعلة يمتحنك بها، ولقد أخبرني عبد الملك بن طريف وهو من أهل العلم والذكاء، واعتدال الأحوال وصحة البحث، أنه كان ذا حظ من الحفظ عظيم، لا يكاد يمر على سمعه شيء يحتاج لاستعادته، يحفظ من مرة واحدة، وقيل: إنه ركب البحر فمر به هول شديد في البحر، أنساه أكثر ما كان يحفظ، وأخل بقوة حفظه إخلالاً شديداً.
يقول ابن حزم: وأنا أصابتني علة فأفقت منها وقد ذهب ما كنت أحفظ إلا ما لا قدر له، فما عاودته إلا بعد أعوام، أي: ما استرجعت المحفوظات هذه بعد هذا الهم وهذه الكربة أو العلة إلا بعد أعوام.
والذي يعجب بعلمه -أيضاً لإذهاب العجب من نفسه- فعليك أن تعلم أن ما خفي عليك وجهلته من أنواع العلوم أكثر بكثير مما تعلم، فالذي أعجبت بنفاذك فيه أكثر مما تعلم منه، فاجعل مكان العجب استنقاصاً لنفسك واستقصاراً لها فهو أولى.
وسيلة أخرى: تفكر فيمن كان أعلم منك، تجدهم كثيرين، وشيء آخر: كم علمت من العلم الذي عندك، لو صار عندك عجب، فكر كم في المائة من العلم الذي تعلمته نفذته وطبقته، فيسقط عجبك بالكلية.
وإن أعجبت بشجاعتك فتفكر فيمن هو أشجع منك، ثم انظر في تلك النجدة التي منحك الله إياها فيما صرفتها؟ فإن كنت صرفتها في معصية فأنت أحمق، لأنك بذلت نفسك فيما ليس ثمناً لها، وإن كنت صرفتها في طاعة فقد أفسدته بالعجب، فصرت الآن بين النارين، ثم تأمل هذه الشجاعة كيف ستزول عنك إذا بلغت من الكبر عتيا، وصرت من عداد العيال والصبيان في الضعف.
وإن أعجبت بجاهك ومنصبك ومكانتك في الشركة والمؤسسة -مثلاً- فتأمل في مخالفيك وأندادك ونظرائك من الناس الذين لهم وجاهات، وتأمل في خستهم وما وصلت بهم وجاهاتهم من معصية الله عز وجل؟ ولذلك لما جلس ابن السماك رحمه الله يعظ الرشيد مرة دعا بحضرته بقدح فيه ماء ليشربه - الرشيد - فقال له: يا أمير المؤمنين! لو منعت هذه الشربة بكم كنت ترضى أن تبتاعها؟ -كم تعطي من ملكك لتبتاع الشربة؟ - فقال الرشيد: بملكي كله -أي: أموت إذا لم أشرب- قال: يا أمير المؤمنين! فلو منعت خروجها منك -أي: أنه صار عندك حصر بول- بكم كنت ترضى أن تفتدي من ذلك؟ قال: بملكي كله، قال: يا أمير المؤمنين! أتغتبط بملك لا يساوي بولة ولا شربة ماء، فعلمه التواضع وعدم العجب بالخلافة والملك.
وإذا فكر الإنسان في نفسه وطبائعه وتولد الأخلاق، فإنه سوف يقف على يقين بأن الفضائل هي ما منحه الله للإنسان، وأنه لولا الله لعجز وهلك، ويسأل الله ألا يكله إلى نفسه طرفة عين، يقول: قد تتغير الأخلاق الحميدة بالمرض والفقر والخوف والغضب والهرم، فأنت الآن تلاحظ أن كبار السن يصير عندهم نوع غضب أكثر، وحدة أكثر، وتراه يثور لأتفه الأسباب، تأمل إذاً نعمة الله عليك، يقول: لقد أصابتني علة شديدة وتولدت علي ربواً شديداً في الطحال، وولد علي ذلك من الضجر وضيق الخلق وقلة الصبر أمراً حاسبت نفسي فيه، إذ أنكرت تبدل خلقي، واشتد عجبي من مفارقتي لطبعي، وصح عندي أن هذا المرض يولد من هذه المفاسد أشياء كثيرة.
فإذاً: الإنسان بالتأمل والمحاسبة، ومناقشة النفس، يمكن أن يزيل أخلاقاً سيئة من نفسه.(258/13)
التحويل والتوجيه
سابعاً من وسائل تغيير الأخلاق: التحويل والتوجيه.
مثلاً: شخص عنده غضب أو عنده حدة، أو طمع وفخر وعلو وخيلاء، كيف يحول هذه الأخلاق ويوجهها لكي يستثمرها في الأشياء الطيبة؟ بعض الناس من المشكلات التي يواجهونها في تغيير الأخلاق السيئة أنه يريد أن يجتث الخلق بالكلية، فلا يريد أن يكون عنده خيلاء أبداً، ويكون حاله مثل حال أهل البلدة، أهل بلدة تفجر النهر عليهم وصار يجري باتجاههم وهم يعلمون أنه سوف يغرق زروعهم وثمارهم ومبانيهم فقالت طائفة نبني سدوداً، ونجعل هذا السد يوقف الماء المتدفق، لكن هؤلاء الناس لم يكن على حسبانهم أن يكون الماء متدفقاً بشدة فيهدم السد، وأناس آخرون قالوا: أفضل شيء أن نذهب إلى منبع النهر فنسده، ولا نجعل فيه مجالاً؛ لأن الماء يخرج منه وينبع، ولا خلاص إلا بقطعه من ينبوعه، فلما ذهبوا لسده تعذر عليهم، وأبت الطبيعة النهرية إلا الجريان، فكلما سدوه من موضع نبع من موضع آخر، فأشغلهم منع النهر عن الزروع والثمار والعمران التي كانوا فيها، وفرقة ثالثة رأت ما حل بالأولى من الدمار، وما حل بالثانية من ضياع الأعمال، فأخذوا في حفر مجارٍ للنهر في أماكن يتوجه إليها، فصاروا يحفرون لهذا النهر مجاري وسواقي وفروعاً فتحول النهر عن قريتهم التي كان سيدمرها إلى هذه المجاري ومن المجاري إلى أراضي زراعية قابلة للزراعة، فنبت فيها أشياء كثيرة، فانتفعوا ونجوا من المهالك.
ما علاقة هذا بموضوعنا؟ علاقته أن بعض الناس يقولون: لا بد أن نجتث هذا الخلق اجتثاثاً، ثم لا يمكنهم ذلك ويفشلون، وقد ينشغلون بأشياء عن القضايا الأخرى مثل الطاعات، فالحدة -مثلاً- نستخدمها عندما تنتهك محارم الله، لاحظ معي هذا التحويل، يستخدم الحدة عندما تنتهك محارم الله، ويجعل الطمع في الخيرات والمسابقة فيها وتحصيل الثواب، فبدل أن كان طمعه في الدنيا صار في الآخرة، فالطمع لا زال موجوداً لا يمكن اجتثاثه من النفس، لكن حولناه من الطمع في الدنيا إلى الطمع في الأعمال الصالحة.
الفخر قد يصعب اجتثاثه من النفس بالكلية، لكن بدلاً أن يكون فخراً بالجاهلية وفخراً بالآباء والأجداد وفخراً بالقبيلة فليكن فخراً بالإسلام:
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
فالفخر لا يزال موجوداً في نفسك، لكن حولته إلى فخر بشيء حسن، وهو الفخر بالإسلام.
القهر: الإنسان يحب أحياناً أن يرغم أنوف الناس، يحب أن يكون له العلو والغلبة، فلماذا لا يحول هذا القهر إلى قهر للأعداء، وقهر المنافقين والعلمانيين، وقهر أعداء الله والرد على اليهود والنصارى، والرد على أهل الشبهات فيقهرهم بالحجة، فيصرفه إلى مجرى نافع ومفيد.
الخيلاء: أن يكون عندك خيلاء؟ نعم.
ممكن، لكن حول الخيلاء إلى الأشياء الطيبة -مثلاً- الخيلاء على أهل الباطل، مثل الخيلاء في الحرب، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن بلبس الحرير ومشية الخيلاء في الحرب، وقال: (هذه مشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن) وصار الصحابي يتبختر ويتمايل، ويلبس الحرير أمام صفوف الأعداء، فإذاً: حولنا الخيلاء من شيء سيئ على عباد الله المستضعفين إلى الخيلاء على الأعداء وفي الحرب، فإذاً: هناك خيلاء لكنه يرضي الله ورسوله.
ومن تأمل هذا الباب وجد أن فيه مواءمة وملاءمة لطبيعة النفس، واستفادة وتحصيل أرباح وعدم انشغال بأمور هي أقل جدوى، وهذه المسألة مهمة في التربية، لا يدركها ولا يتفطن لها إلا من وصل فعلاً إلى قناعة بالطرق السليمة في توجيه الأخلاق وتهذيبها.(258/14)
التصعيد
ثامناً: التصعيد.
ما هو التصعيد؟ هو تحويل تطلعات الشخص من الأشياء الدنيئة إلى الأشياء العالية، ومن الأشياء الصغيرة التافهة إلى كبار الأمور، فمثلاً يقول الله عز وجل: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه:131] لا تشغل نفسك بالصغائر والتراهات، وجمع الأموال والركض وراء الدنيا؛ لأن هذه أشياء تبلى، والزهرة تموت وتذبل، هذه فتنة نفتنهم فيها، وقال: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131] صعد في نفسه الاهتمام من الأشياء الدنيئة وهي زهرة الحياة الدنيا، وما متعنا به أزواجاً منهم إلى: ((وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى)) ولذلك التربية من الأشياء التي فعلها عليه الصلاة والسلام في نفوس أصحابه الدالة على عظم تربيته لهم، أنهم كانوا أناساً هممهم تافهة كانوا منشغلين في الجاهلية بالخمر، والنساء، والحروب، ودفن البنات، والنوادي، والمنتديات، والكلام الفارغ التافه، ليس عندهم هدف، فصاروا بعد الإسلام قادة في العالم، فكان منهم الفاتحون والقدوات والعلماء والحكماء، لقد نقل الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة من اهتمامات دنيئة في الجاهلية إلى معالي الأمور والتطلع نحو قيادة العالم.
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
أنت إذا كان عندك أهداف وطموحات تسعى لها حسب طموحاتك، بعض الناس يقول: أنا أريد أن أكون مدير الشركة، هذه طموحاتي، أنا أريد أن أكون دكتوراً، فتنصرف أعمالهم في هذا الشيء، ولو أنهم وضعوها في طلب العلم وفي الجهاد وفي الدعوة، لاهتدى على أيديهم خلق كثير وحفظ آيات وأحاديث بمعانيها وتعلم أحكام، وجاهد في الله فأبلى بلاءً حسناً، فيكون قد صعدت في نفسه الاهتمامات بالأشياء الدنيئة إلى مستوى عالٍ في الاهتمام بالأمور العظيمة.
وهذا الأمر فيه وسائل مثل التشويق والتحبيب والتحسين والتزيين والممارسة، انظر -مثلاً- في قول الله عز وجل لما حدثت حادثة الإفك وتكلم في عائشة من تكلم، وكان ممن تكلم غلام لـ أبي بكر اسمه مسطح بن أثاثة، تكلم في عائشة، وعندما نزلت براءة عائشة غضب أبو بكر ومنع وقطع النفقة عن مسطح عقاباً له، فنزل قول الله عز وجل: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] فـ أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما رأى المسألة فيها ألا تحبون أن يغفر الله لكم قال: [بلى يا رب! أنا أحب أن تغفر لي] انتقلت القضية في نفسه من الانتقام من هذا الشخص إلى شيء أعلى وهو الحلم والعفو عمن ظلمك والإحسان لمن أساء إليك، فارتفعت المسألة بهذا الأسلوب وهو ألا تحبون أن يغفر الله لكم.(258/15)
الإبدال
تاسعاً: الإبدال.
وهو من وسائل تغيير الأخلاق السيئة، انظر إلى كل خلق ذميم وضع بدلاً منه عكسه، كما ذكرنا في الشجاعة والتهور، وكما ذكرنا في التسرع والتأني، وفي البخل والكرم، ومثل إلى آخره، أبدل كل خلق ذميم وحاول أن تأخذ عكسه، فأبدل الجبن ليصبح مكانه شجاعة، والكرم بدل البخل، والتواضع بدل الكبر، والحياء بدل الوقاحة والجرأة غير المحمودة وهكذا.(258/16)
قراءة سير الصالحين
عاشراً: قراءة سير الصالحين في أخلاقهم.
أخلاق الأنبياء والصحابة والصالحين والعلماء؛ لأن هؤلاء قدوة حسنة -وهذا جانب القدوة- فأنت إذا قرأت في أخلاقهم عن عالم من العلماء ونظرت إلى ترجمته تجد مثلاً نسبه وولادته ونشأته وطلبه للعلم ورحلاته، ولابد أن تجد جانباً اسمه: أخلاقه، اقرأ هذه الأخلاق، فإنها تحملك على التشبه بهؤلاء الكرام:
إن التشبه بالكرام فلاح(258/17)
ملازمة أصحاب الأخلاق الحسنة
الحادي عشر: ملازمة أصحاب الأخلاق الحسنة من الأحياء والاحتكاك بهم.
تخيلوا لو أنا وضعنا جباناً في وسط قوم شجعان ماذا يحصل له؟ ولو وضعنا بخيلاً في وسط قوم كرماء ماذا يحصل له؟ يتأثر من الوسط الذي هو فيه، وهذا يؤكد لنا أهمية التربية الجماعية، وأن الناس الذين يريدون ويتربون داخل بيوتهم دون اختلاط بالطيبين لن يستفيدوا كثيراً.(258/18)
تكثير الدوافع للتخلق بالخلق الحسن
الثاني عشر: تكثير الدوافع لهذا التخلق بهذا الخلق الحسن، والابتعاد عن الخلق السيئ.
كلما كثرت دوافعك لشيء تحمست له أكثر، فمثلاً: بعض الناس يعمل عملاً في شفقة، من باب الرحمة، أي أنه صار عنده رحمة بالأمر فتفاعل مع الحدث، وبعض الناس يعمله من باب الإنسانية في التعامل، وبعض الناس يعمل هذا التصرف من باب العادة؛ لأنه متعود على هذا الشيء، وبعضهم يعمله تقليداً للآخرين، وبعضهم يعمله ابتغاء الأجر وابتغاء الجنة، ولتكفير السيئات، ولتعليم الآخرين يكون قدوة {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] ولتربية نفسه.
إذاً: كلما كثرت دوافعك للتخلص من الخلق السيئ صار حماسك لهذا أكثر، فكثر الدوافع وتفطن وأنت تعمل كل عمل، حاول التغيير، وما هي دوافعك لهذا؟ لتنال الأجر ورضا الله والجنة، وتكون قدوة للآخرين، وتربي نفسك على هذا الأمر وهكذا.(258/19)
التأمل في الحوافز الأخروية
الثالث عشر: التأمل في الحوافز الأخروية في مصير أصحاب الأخلاق الحسنة، ومصير أصحاب الأخلاق السيئة.
بمعنى آخر: الترهيب والترغيب، قال عليه الصلاة والسلام: (أثقل شيء في الميزان الخلق الحسن) (أثقل شيء في ميزان المؤمن الخلق الحسن) (إن الله يبغض الفاحش المتفحش البذيء) (إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) (إن حسن الخلق ليبلغ درجة الصوم والصلاة) (إن المؤمن ليدرك بحسن الخلق درجة القائم الصائم) وفي رواية: (القائم بالليل الظامئ بالهواجر) (ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة) ماذا تشعر إذا أنت قرأت أحاديث الترغيب هذه؟ تشعر بحافز ودافع لهذا العمل، فيكون هذا لك معين على التخلص من الأخلاق السيئة، مثلاً خذ هذا الحديث: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) مثلاً حديث: (من كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة) هذا في الآخرة.
وفي الدنيا من الترغيبات يقول عليه الصلاة والسلام: (صلة الرحم، وحسن الخلق، وحسن الجوار، يعمرن الديار، ويزدن في الأعمار) فإذاً: من باب التكثير والتوسيع عليك في الدنيا أن تحسن الخلق، وإذا أردت وسيلة أو من أسباب زيادة العمر فحسن خلقك؛ لأن حسن الخلق من أسباب زيادة العمر.
في المقابل أحاديث الترهيب: (البذاء من الجفاء والجفاء في النار) البذاء: فحش القول، والجفاء: الغلظة وسوء الخلق، (البذاء من الجفاء والجفاء في النار) قال عليه الصلاة والسلام: (وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل) حديث صحيح.(258/20)
الدعاء
الرابع عشر: الدعاء.
(اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء) حديث صحيح.(258/21)
جهود المربين
المسألة الخامسة عشرة، وهي الختام في هذا: جهود المربين.
إن ما ذكر في الماضي كان تربية فردية، هذه الأشياء التي أنت تفعلها لنفسك، هذه تربيتك الفردية.
من وسائل تحسين الأخلاق التربية الجماعية وجهود المربين الموجهة إلى الشخص، وهذا الكلام الآن من صعيد إلى صعيد آخر، لا شك أن تغيير الخلق يعتمد على مجهود الشخص الفردي أصلاً، ولكن هناك -أيضاً- عوامل أخرى خارجية وهي جهود المربين نحو هذا الشخص، فالمربي عليه أن يعطي كل إنسان نفسيته ما يلائمها فتهدأ.
انظر مثلاً إلى هذا الجانب التربوي، المربي صلى الله عليه وسلم ماذا فعل لكي يهدئ النفوس ويراعي الجوانب، ففي البخاري عن عمرو بن تغلب: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بمال أو سبي فقسمه، فأعطى رجالاً وترك رجالاً، فبلغه أن الذين ترك عتبوا -الذين ما أعطاهم عتبوا- فحمد الله ثم أثنى عليه ثم قال: أما بعد: فوالله إني لأعطي الرجل وأدع الرجل، والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي، ولكني أعطي أقواماً لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وآكل أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير منهم عمرو بن تغلب).
هذا المربي يقول كلاماً له أثر، قال: (عمرو بن تغلب فوالله ما أحب أن لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمر النعم) فأعطى الجزعين مالاً أصلح به نفوسهم، وأعطى عمرو بن تغلب ثناءً كان أحب إليه من عطاء المال الكثير، فأصلح نفسه.
نفس الموقف حصل بعد حنين، مسلمة الفتح، الناس الذين أسلموا يعطيهم النبي صلى الله عليه وسلم مائة، مائة من الإبل، يتألف قلوبهم، ويزيل الحواجز والعداوات بالإعطاء، والأنصار الذين جاهدوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم وخرجوا من المدينة وتعبوا ما أعطاهم شيئاً، فتكلم بعضهم، وقالوا: يعطي قريشاً ولا زالت سيوفنا تقطر من دمائهم، أي: يعطي هؤلاء من غنائم حنين مائة، مائة من الإبل ونحن ما لنا شيء، فلما سمع عليه الصلاة والسلام ذلك، بلغته المقولة فجمعهم: فسأل: ماذا حصل؟ وماذا قيل؟ فقال فقهاؤهم: يا رسول الله أما أولو العلم فينا ما قالوا شيئاً، وأما بعض أحداثنا -صغار السن- فقد قالوا هذه الكلمة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم كلمته المؤثرة جداً لدرجة أنهم قد بكوا حتى اخضلوا لحاهم، (ألا ترضون أن يذهب الناس بالشياء والبعير وترجعون برسول الله إلى رحالكم؟ ثم قال صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر للأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار).
هذه كلمات لكن الأنصار طابت أنفسهم، وقالوا: بلى رضينا، أي: رضينا بهذا القسم العظيم بأن يذهب الناس بالشياء والبعير ونحن نرجع بأكبر غنيمة وأعظم شيء معنا في الدنيا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، نرجع به، رضينا برسول الله حظاً وقسماً ونصيباً.
أيضاً من وسائلهم: استغلال الحوادث، فلو رأيت -مثلاً- أمامك ظلماً، يمكن أن تربي ولدك أو صديقك أو متبوعك بهذه الحادثة، فتقول: انظر إلى الظلم ماذا جر من العواقب الوخيمة، هذا الشخص الذي يتربى معك يكره الظلم، لأنك استغللت الحادثة في تفهيمه أن هذا الظلم عاقبته وخيمة، أو رذيلة من الرذائل أو فضيحة من الفضائح.
وإذا رأيت مشهداً جيداً، رأيت مشهداً فيه عدل، فلفت نظر من معك إلى هذا المشهد، فاستغليت الحدث والتعليق عليه، ومشاهد الشجاعة أو الجبن.
كذلك من وسائل المربين: ضرب الأمثال، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يربي الناس على الكرم وعدم البخل، والإنفاق وعدم التقتير، وعدم المنع والشح، يقول -مثلاً-: يضرب لهم أمثلة، يقول: المنفق عليه درع وكلما أنفق ازداد حتى صار سابغاً لجميع أعضاء جسمه، ومثل البخيل عليه درع، كلما بخل ازدادت الحلقات حبساً على أجزاء جسده، فضرب المثل هذا من عمل المربين، ومن عملهم -أيضاً- ضرب المثل بأصحاب الأخلاق الفاضلة، أما ترى إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (أرأف أمتي بأمتي أبو بكر -مثلاً- وأصدقهم حياءً عثمان) فقد لفت نظرنا واستخدم شخصيات تميزت بأخلاق معينة حتى يحمسنا نحن الأمة الذين نتربى على أحاديثه بأن نكون عندنا رأفة، ويكون عندنا حياء، بأن نقتدي بـ أبي بكر في رأفته وبـ عثمان في حيائه.
وكان يقول: (إن موسى كان رجلاً حيياً ستيراً لا يرى من جلده شيء إستحياءً منه) يضرب لنا مثلاً من الواقع، شخصية تميزت بالحياء، فتتحمس النفوس.
فهكذا تكون جهود المربين.
إذاً: من عوامل تصحيح الأخلاق السيئة واستبدالها بأخلاق حسنة -وهذا واجبنا جميعاً- أن نربي أنفسنا ونربي غيرنا.
والحقيقة أيها الإخوة أن الكلام في موضوع الأخلاق كلام طويل، ونظراً لكثرة المشاكل الموجودة في الواقع والعلاقات، والإخوة الذين ساءت علاقتهم ببعضهم، والأزواج والناس والجيران، فالأمر يحتاج إلى تأكيد ويحتاج إلى زيادة كلام وعرض وإيضاح، ولذلك يحتمل أن يكون هناك درس آخر بعنوان: شجرة أخلاق المسلم، نذكر فيها ونعدد الأخلاق الإسلامية ما هي؟ وما أدلتها وأمثلتها؟ يعني بأي شيء تتخلق؟ إذا نحن عرضنا الأخلاق وأهميتها في القرآن والسنة، وقدوتنا الرسول صلى الله عليه وسلم وبعض الأخلاق السيئة والمحمودة، وكيفية التخلص من الأخلاق السيئة واكتساب الأخلاق الحميدة.
فلعلنا نتبع هذا بموضوع آخر، ما هي الأخلاق التي يجب أن نتخلق بها نظرياً وعملياً؟ وكيف نقلت هذه الأخلاق الحسنة إلى الواقع؟ وكيف طبقها الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والأنبياء والتابعون؟ وهكذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(258/22)
التحذير من الخدعة الكبيرة
جبل الناس على حب الدنيا والجري وراءها، فهي حلوة خضرة، والمرء من فتنتها على خطر عظيم، وقد تتغلب عليها الفتن استدراجاً للكافرين، وقد تتغلب المحن تمحيصاً للمؤمنين.
وفي هذه المادة تجلية للنظرة الإسلامية إلى الدنيا، وكيف سعى الإسلام لتحرير الناس من أسرها، وربطهم بالآخرة ونعيم الجنة العظيم.
كما بينت هذه المادة بعض خصائص الدنيا، فقد أرشدت إلى ما يحتاجه المرء منها، لكي يسعى لتحصيله، بحيث لا يخل بعلاقته مع ربه.(259/1)
فتنة الدنيا وحقارتها
قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} [الكهف:45] وقال الله عز وجل: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف:46] وقال الله تعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38].
إنه تحذير من الله تعالى للذين يركنون إلى هذه الحياة الدنيا يقول لهم: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} [التوبة:38] هل اطمأننتم إليها؟ هل انشغلتم بها؟ هل تظنون أنكم ماكثون فيها أبداً؟! {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20] {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64] ومعنى لهي الحيوان: يعني هي الحياة المستقرة الدائمة {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} [القصص:60].
إن ما في هذه الحياة الدنيا من أنواع الزينة هي فتنة للناس فعلاً، إنها تشدهم ببهرجها، إنها تشغلهم بمتعتها ولذتها، قال الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14] المسومة: المعلمة المطهمة، الأنعام والحرث: أي المزروعات.(259/2)
تحرير الأمة من أسر الدنيا
لماذا سميت الدنيا بالدنيا؟ الدنيا من الدنو، الدنيا عكس العليا، ونحن نعيش في هذه الحياة الدنية الناقصة القصيرة الفانية، ولذلك فإن نظر المسلم يتطلع دائماً وأبداً إلى الآخرة ولا ينشغل بما في هذه الدنيا من الزخارف، إن الدنيا حلوة خضرة حتى لا يقول أحد: إن الدنيا ليس فيها متاع ولا بهرج، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الدنيا حلوة خضرة) أي: أن فيها فتناً وملذات وجمالاً وما يشغل ويلهي (إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله تعالى مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء) رواه مسلم.
ولقد مثل لنا النبي صلى الله عليه وسلم الحياة الدنيا بالنسبة للآخرة بمثل عجيب، فقال عليه الصلاة والسلام: (ما الدنيا في الآخرة إلا كما يمشي أحدكم إلى اليم فأدخل إصبعه فيه فما خرج منه فهو الدنيا) اغمس إصبعك في البحر ثم أخرجه فما علق به من النداوة هو نسبة الدنيا إلى الآخرة.
كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يحرر الأمة من أسر الدنيا ويقول لهم: (إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً أو متعلماً) فالذي في الدنيا ملعون لأنه يشغل عن طاعة الله إلا ما كان من طاعة الله، إلا ذكر الله وما والاه ولو كان نكاحاً يستعين به على العفة، أو مالاً يستعين به على الصدقة والصلة والنفقة الواجبة، أو راحة يقوم بعدها للعبادة، إلا ذكر الله وما والاه وما كان تابعاً له وما خدمه، أو عالماً ومتعلماً.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام يضرب المثل القولي والفعلي للدنيا (فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة بالعالية -وهي ناحية في المدينة - فمر بالسوق فمر بجدي أسك -صغير الأذن- ميت فتناوله فرفعه فقال: بكم تحبون أن هذا لكم؟ قالوا: ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به، والله لو كان حياً لكان عيباً فيه أنه أسك فكيف وهو ميت؟! قال عليه الصلاة والسلام: فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم) رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح.(259/3)
الفرق العظيم بين العبادة وأعمال الدنيا
الدنيا بكل ما فيها من المصانع اليوم والمزارع الضخمة والعمارات الشاهقة والمخترعات أهون على الله من جدي ميت صغير الأذنين على أهله، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب المثال تلو المثال في توضيح هذه القضية إصراراً منه صلى الله عليه وسلم على أن تكون المسألة حية في حس الناس، قال: (إن مطعم ابن آدم قد ضرب مثلاً للدنيا) الطعام الذي نأكله في دخوله وخروجه مثل للدنيا، قال عليه الصلاة والسلام: (وإن قزحه وملحه فانظر إلى ما يصير) فهات أشهى طبق من أطباق الطعام في الدنيا بعد تحسينه وتمليحه ماذا يصير عند خروجه من الآكل، ماذا يصير برائحته وبمظهره ومنظره؟! هكذا الدنيا.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على أن يبين لنا أيضاً أن العبادة أهم من الدنيا وما فيها، وأن الشيء اليسير من الجنة أغلى وأعلى من الدنيا وما فيها فقال صلى الله عليه وسلم: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله -في أول النهار- أو الغدوة -في آخر النهار- خير من الدنيا وما عليها) وقال عليه الصلاة والسلام: (لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ولقاب قوس أحدكم -موضع القوس- أو موضع قدمه في الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحاً ولأضاءت ما بينهما، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها) رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح.(259/4)
عظمة نعيم الجنة
من أجل ذلك كان أدنى أهل الجنة منزلة له مثل الدنيا أضعافاً مضاعفة، جاء في الحديث الصحيح (أن موسى عليه السلام سأل ربه فقال: يا رب! ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما يدخل أهل الجنة الجنة فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي ربي! كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا، فيقول: رضيت ربي، فيقول: هو لك ومثله ومثله ومثله ومثله فيقول في الخامسة رضيت ربي رضيت فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك، فيقول: رضيت ربي -هذا أدنى رجل في الجنة، خمسة أمثال ملك من ملوك الدنيا ثم اضرب في عشرة وبالإضافة إلى ذلك له ما اشتهت نفسه ولذت عينه- قال موسى لله تعالى: ربِّ فأعلاهم منزلة -من هو أعلى أهل الجنة إذاً منزلة؟ - قال: أولئك الذين غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها، فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر) رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح.
ولذلك كانت غمسة في الجنة تنسي كل ما مر بالعبد من شقاء الدنيا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيصبغ في جهنم صبغة واحدة ثم يقال له: يا ابن آدم! هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيمٌ قط؟ فيقول: لا والله يا رب! ما مر بي نعيم قط ولا رأيت خيراً قط، ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ في الجنة صبغة فيقال له: يا ابن آدم! هل رأيت بؤساً قط، هل مرت بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب! ما مر بي بؤسٌ قط ولا رأيت شدة قط) رواه مسلم.
فصبغة واحدة في الجنة أنسته كل ما مر به في الدنيا من أكدار وهموم وآلام وفقر ومصائب وعري (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) ركعتان فقط خير من الدنيا وما فيها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب المثل لأصحابه، وبالإضافة إلى ذلك يعقد المقارنات، لما وزع الغنائم على المؤلفة قلوبهم بعد غزوة حنين، حزن بعض الأنصار أنه لم يعطهم شيئاً، فجمعهم عليه الصلاة والسلام وألقى فيهم خطبته المؤثرة التي بكوا بعدها حتى بلوا لحاهم، قال لهم في تلك الخطبة: (أما ترضون أن يذهب الناس بالدنيا وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: بلى -وفي رواية للبخاري - أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم؟ قالوا: بلى) فالدنيا في كفة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في كفة، رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلى المؤمنين من الدنيا وما فيها.(259/5)
امتحان المؤمن ومحنه في الدنيا
لما كانت الدنيا بالنسبة للمؤمنين في الغالب دار مصائب وآلام واختبار وامتحان، لأن الواحد يعاني من الشدة وهو يرى هذه الفتن أمامه ثم يصبر، فالمؤمن إما أن يكون مبتلى بأذى العدو نتيجة للتمسك بدينه، وكذلك يكون مبتلى بوطأة الدنيا على حسه وهو يقاومها ويدافعها.
هذا فيه شدة على النفس، لما كانت الدنيا هي كل شيء بالنسبة للكفار ومنتهى أمال الكفار فهم لا يرجون ورائها شيئاً لأجل هذه الأسباب قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) لما سأل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، الزوج الكريم النبي المعصوم الزيادة في النفقة أنزل الله آية التخيير، وهي قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب:28] أعطيكن من المال ما شئتن ثم أفارقكن {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:29] فرضين بقلة النفقة، واخترن الله ورسوله والدار الآخرة، فلذلك هن زوجاته في الآخرة عليه الصلاة والسلام، فلا يحل لأحد أن ينكحهن من بعده.
لما كانت الدنيا فتناً، وكانت الدنيا بهرجاً، وكانت الدنيا زينة، أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالتقلل منها وقال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) وعد نفسك من أهل القبور، وكان عليه الصلاة والسلام مثلاً في هذا (فلما دخل عليه عمر في قصة الإيلاء وكان عليه الصلاة والسلام على حصير -ما بينه وبين الحصير شيء- وتحت رأسه وسادة من أدم -يعني من جلد- حشوها ليف وإن عند رجليه قرضاً مضبوراً -أي: مجموعاً- وعند رأسه أضباً معلقة -وهو الجلد غير المدبوغ- فرأى عمر أن الحصير أثر في جلد النبي صلى الله عليه وسلم فبكى، فسأله عليه الصلاة والسلام: ما يبكيك؟ فقلت: يا رسول الله! إن كسرى وقيصر فيما هما فيه من النعيم وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحصير؟ فأجابه صلى الله عليه وسلم بالعبارة الذهبية: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة) حديث صحيح.
وكان عليه الصلاة والسلام يقول: (مالي وللدنيا وما للدنيا ومالي، والذي نفسي بيده ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكبٍ سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من النهار ثم راح وتركها) حديث صحيح.
كان عليه الصلاة والسلام يرفض وجود الأشياء التي تشغله عن الله وذكره (كان ل عائشة ستر فيه تماثيل طير فلما رآه عليه الصلاة والسلام قال: يا عائشة! حوليه فإني كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا) حديث صحيح.(259/6)
صورة مشرقة من زهد الصحابة
وكان أصحابه من بعده عليه الصلاة والسلام كذلك في زهدهم وتنازلهم عن الدنيا، ولذلك جاء أن عمر رضي الله عنه أخذ أربعمائة دينار فجعلها في صرة ثم قال للغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح ثم تله ساعة في البيت حتى تنظر ما يصنع، فذهب بها الغلام إليه، فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حوائجك، فقال: وصله الله ورحمه كما وصلنا، ثم قال: تعالي يا جارية اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان حتى أنفذها كلها وانتهت، فرجع الغلام إلى عمر بن الخطاب فأخبره ووجده قد أعد مثلها لـ معاذ بن جبل، فقال: اذهب بها إلى معاذ بن جبل ثم تله في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع، فذهب بها إلى معاذ فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في حاجتك فقال: وصله الله ورحمه، يا جارية! اذهبي إلى فلان بكذا وإلى بيت فلان بكذا وأهل بيت فلان بكذا، فاطلعت امرأة معاذ من البيت فقالت: ونحن والله مساكين فأعطنا فلم يبق في الخرقة إلا ديناران فدحا بهما إليها، هذا حظ زوجة معاذ من زوجها، ديناران، فرجع الغلام إلى عمر فأخبره فسر بذلك عمر، وقال: [إنهم إخوة بعضهم من بعض] رواه ابن المبارك في كتاب الزهد.
وحتى أغنياء الصحابة كانت لهم وقفات إذا جاءهم شيء من الدنيا، أتي عبد الرحمن بن عوف يوماً بطعام وكان صائماً فلما نظر إلى الطعام أمامه تذكر أشياء فماذا تذكر عبد الرحمن بن عوف؟ قال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني -يقولها تواضعاً- فلم يوجد ما يكفن به إلا بردة إن غطي رأسه بدت رجلاه وإن غطيت رجلاه بدا رأسه، وقتل حمزة وهو خير مني، لقد خشيت أن يكون قد عجلت لنا طيباتنا في حياتنا الدنيا أو قال: ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط وأعطينا من الدنيا ما أعطينا وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام، رواه البخاري.
هكذا كان الموقف من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من هذه الدنيا التي ذكرها الله ورسوله.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يقينا شر الحياة الدنيا، وأن يجعلنا في هذه الحياة الدنيا من السعداء، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يجعل حياتنا في هذه الدنيا عوناً على طاعته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(259/7)
الكفاف صورة لوسطية الإسلام
الحمد لله رب العالمين أشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، أشهد أنه رب الأولين والآخرين، ونور السماوات والأرضين، سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يشاء، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، وعلى آله وأزواجه وذريته إلى يوم الدين.
عباد الله: يختلف الناس في عملهم بالدنيا، فمنهم من يرى أن يجمع كل ما يستطيع أن يجمعه، ومنهم من يكسل عن العمل ويترك العمل ويترك الكسب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد انتقى أمراً وسطاً هو أحب مستويات العيش إليه الكفاف أي: لا لك ولا عليك، لا زيادة ولا نقصان، لا زيادة تشغل ولا نقصان يكون به الإنسان متألماً محموماً منشغلاً.
ولذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يجعل رزق أهل بيته كفافاً، وقال عليه الصلاة والسلام مذكراً بنعمة الكفاف: (من أصبح منكم آمناً في سربه معافىً في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) رواه البخاري في الأدب المفرد وهو حديث حسن.(259/8)
علة انتشار الفقر بين المسلمين
يقول بعض الناس: لماذا حرم كثير من المسلمين المال؟ لماذا انتشر الفقر بين المسلمين؟ لماذا يعيش كثير من المسلمين تحت مستوى الفقر؟ نقول: بعض هذا مما أصابهم من الذل وتسلط الكفرة عليهم نتيجة تنحية الشريعة والبعد عن الدين، وبعض هذا رحمة من الله في أنه لم يجعل لهم ما يطغون به ويتجبرون، وفقراء المسلمين سيدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام، قال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً السبب الذي يكون وراء حرمان الله لبعض المؤمنين المخلصين من الدنيا، قال عليه الصلاة والسلام: (إذا أحب الله عبداً حماه من الدنيا كما يحمي أحدكم سقيمه الماء) كما يحمي بعضنا المريض من الماء؛ لأن الماء يضره وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليحمي عبده المؤمن من الدنيا وهو يحبه كما تحمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه) حديث صحيح رواه الإمام أحمد رحمه الله.
إذاً: ليس حرمان الله لبعض المؤمنين من الدنيا كرهاً لهم ولا إذلالاً، وإنما يريد الله أن يخفف عنهم وخلق الإنسان ضعيفاً، قلة المال أخف للحساب.
وإذا سأل سائل فقال: لماذا إذاً يعطي الله الكفرة المجرمين المتجبرين الطغاة العتاة المتمردين على شرع الله الذين يشتمونه ويسبونه صباحاً ومساءً، الذين يحادونه ويحادون رسله ويعذبون أولياءه، لماذا يعطيهم الدنيا؟ وعندهم زراعات القمح وعندهم القوة وأسبابها، وعندهم الغنى والأموال الطائلة، وعندهم المخترعات والأبنية، لماذا يعطيهم وهم مقيمون على كفرهم؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً الحكمة من ذلك (إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج) (أو في شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا).
ما يريد الله أن يجعل للكفرة في الآخرة من نصيب، الجنة سلعة غالية ما في الآخرة من النعيم لا يستحقه الكفار، ولذلك يعجل لهم طيباتهم في الدنيا، وكل كافر عمل معروفاً من صلة أو صدقة أو كلمة طيبة أو معونة فإن الله يعطيه بها في الدنيا صحة وأموالاً وأولاداً، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له فيها نصيب.
وكذلك من الأمور العجيبة في الدنيا، ومن حقارتها عند الله أنها لا تساوي جناح بعوضة، وأنه يعطيها من يحب ومن لا يحب، فترى الغنى موجوداً عند الكافر والفاجر، كما يوجد عند بعض المسلمين، يعطيها من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الآخرة إلا من يحب.(259/9)
سنة الله في مداولة الدنيا بين الناس
ومن العجائب في الدنيا أن الله تعالى لم يجعل لشيء فيها استمراراً ولا ارتفاعاً متواصلاً، ولا بد أن يخفض ويذل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن حقاً على الله تعالى ألا يرفع شيئاً من أمر الدنيا إلا وضعه) رواه البخاري رحمه الله.
إذاً: لا يدوم في الدنيا سلطان ولا مال ولا عمرٌ ولا حياة ولا قوة، فتجد الناس والمجتمعات إذا ارتفعوا في قوة أعقبها ضعف وتفكك وانهيار، وإذا صحوا في شباب أعقبه أمراض وهرم وموت مفند، وإذا ارتفعوا في مال أعقبه إفلاس وفقر وضياع، فمن رحمة الله ألا يجعل الارتفاع في الدنيا دائماً، وإنما لا بد أن يجعل بعده ضعفاً وهواناً وانخفاضاً، وإلا لكانت الفتنة أعظم بكثير مما هي عليه الآن.
ومن تأمل في الواقع عرف تلك الحكمة الربانية العظيمة، فأنت ترى المجتمعات في عنفوانها وقوتها لا يمر عليها سنوات إلا وتصبح في تفرق وتمزق وشقاق، وترى أعظم الناس غنى لا بد أن يعقبه شيء من الفقر والإفلاس، وإلا هرم مفند وموت عاجلٌ يقطعه عن التلذذ بماله وغناه.
وهكذا ترى لله تعالى في خلقه عجائب لا يمكن أن يستمر في الدنيا أحد على قوته، ولا أن يستمر أحد في الدنيا على غناه، فإن الأرض لله يورثها من يشاء ولله عاقبة الأمور.
الدنيا لا تصفو لشارب، ولا تبقى لصاحب، ولا تخلو من فتنة، ولا من محنة، فأعرض عنها قبل أن تعرض عنك، واستبدل بها قبل أن تستبدل بك، فإن نعيمها ينتقل، وأحوالها تتبدل، ولذاتها تفنى، وآثارها تبقى، لذاتها أحلام، الدنيا مثل الحية، لين مسها، قاتل سمها، النقمة فيها نازلة والنعمة فيها زائلة.
وكل هذا الكلام -يا إخواني- إنما هو لنعقل أن السعي للآخرة والمسارعة في العمل للآخرة وأن لا تشغلنا الدنيا بحطامها عن السعي والعبادة.
قال بعض السلف: مثل الدنيا والآخرة مثل الضرتين إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، وهذا ينبهنا أيضاً ويوجب علينا الاستعداد ليوم الرحيل.
قال سليمان بن عبد الملك لـ أبي حازم: مالنا نكره الموت؟ قال: لأنكم خربتم آخرتكم، وعمرتم دنياكم، فكرهتم أن تنتقلوا من العمار إلى الخراب، وكذلك فإن هذا الكلام يفضي بنا إلى عدم التعلق بزينة الدنيا وزخرفها عندما يعلم العبد أن المتاع زائل وأنه هو زائل إن لم يزل المتاع قبله، وكذلك فإن الدنيا قيمتها عظيمة في وقتها.
العمر: فهو محل العمل.
الدنيا ساعة فاجعلها طاعة.
انتهاز الفرصة.
(نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ).
قال بعض السلف: الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما.(259/10)
السعي للدنيا والمسارعة للآخرة
ولا يفهم مما تقدم من الكلام أن الدين يأمرنا بترك الدنيا والأخذ بأسباب الرزق أبداً، بل إنه يأمرنا بالسعي والمشي {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15] ولكن المقصود هو تقديم السعي للآخرة على العمل للدنيا، وأن يكون وقتنا في السعي للآخرة أكثر من وقتنا للسعي في الدنيا؛ لأن الله بدأ بالآخرة فقال: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} [القصص:77] ثم قال: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77]، وهو يقول في آيات الآخرة: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133] {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21] ويقول في أمر الدنيا: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:15].
فأمر بالمسارعة والمسابقة في الآخرة وبالمشي في الدنيا، ومعلوم أن المسابقة والإسراع أشد من المشي، فعلم أنه لا بد من التزود للدار الباقية في هذه الدار الفانية، وكذلك فإن هذا الكلام لا يعني أبداً أن نترك الكفرة يخوضون فيها كما يشاءون، ويسعون فيها كما يريدون وإنما ننازعهم ونغالبهم، فإن الله أمرنا بمغالبتهم ومنازعتهم وجعل الله التدافع بين الكفرة والمسلمين من أسباب صلاح الأرض، ولولا التدافع لفسدت الأرض {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} [الحج:40] {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251] ولكن الله يسلط من يشاء على من يشاء.
وكذلك فإن هذا الموضوع يعيننا على التهوين من أثر المصائب التي تحصل لنا، ويسلينا عما يصيبنا من الضيق في الأرزاق، يسلينا عما يصيبنا من قلة المال وضيق ذات اليد.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل مدخلنا في الدنيا حميداً، ومخرجنا منها حميداً، وأن يجعلنا ممن جعل حياتهم في الدنيا طاعة له.
اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا، اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور.
اللهم ارزقنا شكرك يا عفو يا غفور، اللهم انصر المجاهدين، واكبت أعداء الدين، وأخرج اليهود من بيت المقدس أذلة صاغرين، يا رب العالمين! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.(259/11)
التحميد في الكتاب والسنة
لقد ورد في الكتاب والسنة فضل حمد الله سبحانه وتعالى، وأنه من صفات أهل الجنة عند دخولهم جنة ربهم، وقد كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يحمد الله في كل وقت وحين، وقد ورد عن المصطفى صلى الله عليه وسلم ذكر أوقات يستحب فيها حمد الله، منها: عند الأكل والشرب، ولبس الجديد، والرجوع من السفر، وحال الحج، وإذا جاء أمر محزن أو مفرح، وهكذا نحمد الله حتى ننال الأجر العظيم.(260/1)
فضل التحميد في القرآن الكريم
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
الجواب
=6000394> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
الجواب
=6000493> يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
الجواب
=6003602> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
إخواني: إن هناك أنواعاً من العبادات تفوت على المسلم مع ما فيها من الفضل العظيم، والثواب الجزيل، وقد تكون في غاية السهولة، والله سبحانه وتعالى يعطي الأجر العظيم على العمل القليل، لأن من أسمائه (الكريم والمنان) يعطي ولا ينفد ما عنده سبحانه، ونحن بحاجة دائماً أن نتذكر من العبادات ما يعيننا على بلوغ الدار الآخرة، والوصول إلى بر السلامة، ومن أعظم الأمور ذكر الله تبارك وتعالى، وذكر الله أنواع: الأول: ذكر لساني يرتبط بالقلب، وهذا هو ذكر الله، يرتبط بالمعاني الموجودة في القلب، فكل ذكر وكل نوع من هذا يجري على لسان العبد، وحقيقته قائمة في قلبه، والله سبحانه وتعالى هو المحمود حقاً، وله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد فالق الإصباح، وله الحمد وهو الحكيم الخبير، وله الحمد على ما أعطى، وله الحمد على ما منع، وله الحمد على ما يفعل سبحانه وتعالى.
وقد حمد الله نفسه في آيات كثيرة، وأمرنا بحمده سبحانه وتعالى، وأهل الجنة الذين هم أهلها آخر دعواهم: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:10] {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر:74] {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف:43] {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر:34].
فحمد الله عبادة عظيمة، وهي تعني رضا العبد عن أفعال ربه، وتعبر عن تسليم العبد لقضاء ربه.
أيها المسلمون: الحمد لله تملأ الميزان، هذه الكلمة العظيمة في ثوابها وثقلها تملأ الميزان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الدعاء الحمد لله)، كما قال: (أفضل الذكر لا إله إلا الله) ونبينا صلى الله عليه وسلم هو صاحب لواء الحمد يوم القيامة، فالله سبحانه وتعالى هو المحمود يُحمد على كل شيء، يعطي سيد الأولين والآخرين بيده لواء الحمد، فيقوم به صلى الله عليه وسلم، و (كان النبي عليه الصلاة والسلام يتأول القرآن، فلما نزل قول الله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:3] قال عليه الصلاة والسلام: سبحانك اللهم وبحمدك).
والله قد أمرنا أن نسبحه بحمده، وأن نقول: سبحان الله وبحمده، دائماً نحافظ على هذه الكلمات العظيمة التي يغفل عنها أهل المعصية، لكن المؤمن دائماً يشتغل بذكر الله، ومن أفضله وأعظمه: الحمد لله، ألم تر أن أعظم سورة في القرآن هي سورة الفاتحة كيف ابتدئت؟! تبتدئ بهذه الجملة العظيمة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، قال عليه الصلاة والسلام: (ألا أخبرك بأخير سورة في القرآن {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] إذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال الله: حمدني عبدي).(260/2)
فضل التحميد في السنة النبوية
وقد ورد فضل هذه الكلمة العظيمة مع غيرها، وورد فضلها مستقلاً في عدد من النصوص دلالة على أهميتها، قال صلى الله عليه وسلم: (خذوا جنتكم من النار، قولوا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنهن يأتين يوم القيامة مقدمات، ومعقبات، ومجنبات، وهن الباقيات الصالحات) يأتين يوم القيامة أمام الذاكر، ومن خلفه، وعن يمينه، وشماله يحطنه، هذا إكرام الله للذاكر الذي يكثر من قول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وقد التقى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بإبراهيم الخليل لما أسري به، فماذا قال له إبراهيم؟ (أقرئ أمتك السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأخبرهم أن غراسها -غراس الجنة- سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) فهذه وصية من إبراهيم عليه السلام إلينا جاءتنا عبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أن نقول ذلك دائماً.
وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (إن الله تعالى اصطفى لكم من الكلام أربعاً: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فمن قال: سبحان الله؛ كتبت له عشرون حسنة، وحطت عنه عشرون سيئة، ومن قال: الله أكبر مثل ذلك، ومن قال: لا إله إلا الله مثل ذلك، ومن قال: الحمد لله رب العالمين من قبل نفسه -خالصاً لله- كتب له ثلاثون حسنة، وحط عنه ثلاثون خطيئة) رواه الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ به وهو يغرس غرساً، فقال: (يا أبا هريرة! ما الذي تغرس؟ قال: هذه غراس لي أغرسها، قال عليه الصلاة والسلام -الرحيم بأمته الحريص على تعليمهم-: ألا أدلك على غراس هو خير من هذا؟ قال: أجل يا رسول الله! قال: تقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ يغرس لك بكل كلمة منها شجرة في الجنة)، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وما في شجرة في الجنة إلا وساقها من ذهب)، وقال: (من قال: سبحان الله وبحمده؛ غرست له نخلة في الجنة).
فاستكثروا يا أيها المسلمون من شجر الجنة، فما أسهل القول! وما أسهل الفعل! وما أسهل هذا العمل! وما أعظم الأجر والثواب! ما أعظم الجزاء من ربٍ كريم يمن على عباده! يقول: خذوا بلا حساب، لكن أين العاملون؟! وأين المشمرون؟! وأين الذاكرون الله كثيراً والذاكرات؟! وقال عليه الصلاة والسلام لـ أبي أمامة معلماً إياه فضل الحمد، قال: (ألا أدلك على ما هو أكثر من ذكرك الله الليل مع النهار؟ تقول: الحمد لله عدد ما خلق، الحمد لله عدد ما في السماوات وما في الأرض، الحمد لله عدد ما أحصى كتابه، والحمد لله عدد كل شيء، والحمد لله ملء كل شيء، وتسبح الله مثلهن، تعلمهن وعلمهن عقبك من بعدك).
تعلمهن أيها المسلم! وعلمهن أولادك، وعقبك من بعدك.
وعندما تتجدد النعمة يجب على العبد أن يحمد ربه، وإذا علم العبد عظم الحمد بجانب النعمة أسرع لسانه إلى الحمد، قال عليه الصلاة والسلام: (ما أنعم الله على عبد نعمة، فحمد الله عليها؛ إلا كان ذلك الحمد أفضل من تلك النعمة) فالحمد لله على ما أنعم وعلى نعمه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34].
والحمد سبب لرضا الرب عن العبد، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها)، وقال عليه الصلاة والسلام لما دُخل عليه وبنت له تقضي قال كلاماً عظيماً، وهذه القصة صحيحة رواها ابن عباس قال: (أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بنتاً له تقضي -تحتضر تموت- فاحتضنها فوضعها بين ثدييه فماتت وهي بين ثدييه، فصاحت أم أيمن، فقيل: أتبكي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقالت: أنت تبكي يا رسول الله! فقال: لست أبكي إنما هي رحمة، ذرفت عيناه عليه الصلاة والسلام، وقال: إن المؤمن بكل خير على كل حال، إن نفسه تخرج من بين جنبيه وهو يحمد الله عز وجل) حتى آخر لحظة من الدنيا والمؤمن تخرج نفسه من بين جنبيه وهو يحمد الله عز وجل، فهو يحمد الله على كل حال، حتى لو كانت روحه تخرج من بين جنبيه، فهو لا يزال يحمد الله، لماذا؟ يحمد الله على الخروج من سجن الدنيا، ويحمد الله على قضائه فيه وأنه الآن يقبض روحه، فيحمد الله على كل شيء، وعلى كل مكروه، وعلى كل قضاء، حتى إن المؤمن يحمد الله وربه يقبض روحه من بين جنبيه، فيحمد الله على قضائه فيه يحمد الله على لذة الحياة ونعمتها التي أفناها في طاعة الله، فهو يحمد الله على أنه أعطاه النعمة التي حيا بها، فذكر ربه وعبده.(260/3)
أوقات يسن فيها حمد الله(260/4)
حمد الله عند القيام من النوم والركوع وعند العطاس
أيها المسلم: إذا تأملت الحمد في أي شيء ورد من الأذكار الشرعية لتعجبن أشد العجب من عظم هذه الكلمة عند رب العالمين، وتعجب أشد العجب من شدة تفريطنا وغفلتنا عن الإتيان بهذه الكلمة دائماً، فعند القيام من النوم يقول: الحمد لله الذي رد عليَّ روحي، وإذا رأى مبتلى قال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، يسر بها.
وعند الركوع يقول الإمام: سمع الله لمن حمده، فيقول الناس: اللهم ربنا ولك الحمد، ولما قال رجل: الحمد الله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، تعجبت الملائكة من هذه الكلمة.
وإذا عطس الإنسان يقول: الحمد لله، والسبب: أن العطاس من الله، والتثاؤب من الشيطان، فإذا عطس حمد الله سبحانه وتعالى.(260/5)
حمد الله في أول الخطب والمواعظ وأدبار الصلوات
كان النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يحصى إذا تكلم وخطب يحمد الله ويثنى عليه.
كذلك بعد الصلوات ثلاثاً وثلاثين تحميدة يقولها العبد، وكان عليه الصلاة والسلام إذا أتاه الأمر يسره قال: (الحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا أتاه الأمر يكرهه قال: الحمد الله على كل حال) فهو دائماً يحمد الله.(260/6)
حمد الله عند لبسه للجديد
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استجد ثوباً ليلبسه يقول: (الحمد الله، أنت كسوتنيه، أسألك من خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له) لأن الثياب فيها خير وشر، فقد يختال فيها ويتكبر، وقد تلبس عند الفجرة ويتزين فيها، وقد يتبرج فيها وبالذات للنساء، فالملابس لها خير ولها شر، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يقول: (أسألك من خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له).(260/7)
حمد الله بعد الطعام والشراب
الحمد في الطعام له عبارات عجيبة خرجت من فيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حفظها الصحابة، ولو تأملت في هذه العبارات -يا عبد الله- لوجدت شاهداً على شدة حمد الرسول لربه، وإخلاصه لله في هذا الحمد، كان إذا قرب إليه طعام قال: باسم الله، فإذا فرغ قال: (اللهم إنك أطعمت وسقيت، وأغنيت وأقنيت، وهديت واجتبيت، اللهم فلك الحمد على ما أعطيت) وكان إذا أكل أو شرب قال: (الحمد لله الذي أطعم وسقى، وسوغ وجعل له مخرجاً) وكان إذا رفعت مائدته قال: (الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، الحمد لله الذي كفانا وآوانا غير مكفي، ولا مكفور، ولا مودع، ولا مستغنٍ عنه ربنا).(260/8)
حمد الله إذا أوى إلى فراشه
كان إذا أوى إلى فراشه صلى الله عليه وسلم يتذكر نعمة الله عليه، هذا التذكر الذي نفتقده وننساه ونغفل عنه، كان إذا أوى إلى فراشه قال: (الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا، وكسانا وآوانا، فكم ممن لا كافي له ولا مئوي له) فيحمد ربه أنه كفاه وآواه سبحانه وتعالى.(260/9)
حمد الله إذا قفل من حج أو عمرة
وكان إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة يكبر الله على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات، ثم يقول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده).(260/10)
حمد الله إذا لبى في الحج
وفي التلبية يقول الحاج والمعتمر: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، وإذا مر المسلم بآية: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] من سورة الرحمن قال كما قال المسلمون من الجن: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت.(260/11)
حمد الله حال الاستسقاء
وفي الموقف العظيم في صلاة الاستسقاء فيما رواه أبو داود قال: (شكا الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم قحط المطر، فوعدهم يوماً، ثم خرج إلى المصلى -لما أمر بالمنبر- فقام عليه، وقال: إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم، وقد أمركم الله عز وجل ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم شرع صلى الله عليه وسلم بدعاء ربه -فماذا قال؟ - أول ما بدأ بالدعاء قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:2 - 4] لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغاً إلى حين) بدأ بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:2 - 4] يقول الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل -ثم شرع في الدعاء- فأنشأ الله سحابة فرعدت وبرقت، ثم أمطرت بإذن الله، فلم يأتِ مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى البيوت ضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، فقال: (أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله).
فاللهم لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، اللهم ارض عنا وارزقنا حمدك وشكرك.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(260/12)
الحث على حمد الله وشكره في كل وقت
الحمد لله على كل حال، والصلاة والسلام على محمد والآل، وأشهد أن لا إله إلا الله هو الحميد وهو المحمود سبحانه وتعالى، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان.
أيها المسلمون: لا تغفلوا عن حمد الله، واذكروه سبحانه وتعالى دائماً: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152].
الحمد لله على كل حال، فهذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهذا قوله: (الحمد لله على كل حال) وقد حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل من بني إسرائيل قال: (لأتصدقن الليلة بصدقة، فأخرج صدقته فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون تصدق الليلة على سارق، فلما سمع الرجل وعلم قال: اللهم لك الحمد على سارق، لأتصدقن الليلة بصدقة، لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصبحوا يتحدثون: تصدق الليلة على زانية، فقال: اللهم لك الحمد على زانية، لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون تصدق على غني فقال: اللهم لك الحمد على سارق، وعلى زانية، وعلى غني، فأتي الرجل).
قال العلماء: أتي في المنام وهذه من الرؤى الصالحة، فقيل له: (أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله أن يعتبر فينفق مما أعطاه الله) رواه الإمام البخاري رحمه الله.
لما فوض الرجل ورضي بقضاء الله، وقال: اللهم لك الحمد، لأنه يحمد الله عز وجل على كل حال، فجعل الله لهذه الصدقات الثلاث ثواباً عظيماً، والأمور بالظواهر والله يتولى السرائر، ونية المتصدق تنفعه ولو وقعت في غير موقعها، وهذا يدل على فضل صدقة السر، وبركة التسليم لأمر الله.
والحمد لله على كل حال حتى على المكروهات، وهذه صفة المؤمنين التي لا تكون للذين يبغضون القضاء ويعترضون عليه، ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى يكافئ الراضي بقضائه الحامد له على قضائه وقدره مكافأة عظيمة، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم.
فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم.
فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع -حمدك: أي قال: الحمد لله على كل حال، إنا لله وإنا إليه راجعون- فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد).
فالحمد لله أولاً وأخيراً، والحمد لله ظاهراً وباطناً، والحمد لله عدد كل شيء، والحمد لله ملء كل شيء، والحمد لله عدد ما في السماوات وما في الأرض، والحمد لله على كل حال، ما أصابنا من نعمة فالحمد لله، وما أصابنا من نقمة وبلية وعذاب فالحمد لله، الحمد لله على ما أصاب إخواننا المسلمين في أنحاء العالم، والحمد لله على كل مصيبة وقعت بنا، ونحتسب أجرها عند الله، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، الحمد لله على كل حال، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
فهذه العبادة العظيمة التي نحن عنها غافلون ينبغي أن نتيقظ لها يا عباد الله! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من الذاكرين الله كثيراً، اللهم اجعلنا من الذاكرين لك كثيراً، واجعلنا لك شاكرين لك عابدين إليك تائبين إليك أواهين منيبين، اللهم لا تسلبنا النعمة، اللهم إنا نعوذ بك من تحول عافيتك، وفجأة نقمتك، وجميع سخطك، اللهم ارفع الظلم عنا وعن المسلمين، اللهم هيئ لنا من أمرنا رشداً.
اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إنا نسألك أن تنزل علينا غيثاً مغيثاً، اللهم اجعله بلاغاً لنا إلى كل خير، اللهم إنا نسألك أن تصلح شأننا كله، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.(260/13)
التساهل في ستر العورة
جاءت الشريعة بمحاسن الأمور ومنها ستر العورة، لكن الناس تساهلوا في هذا الأمر بشكل كبير، صغاراً وكباراً، نساءً ورجالاً، وفي هذه الخطبة أتى الشيخ بأدلة ستر العورة من الكتاب والسنة، وتوسع في ذكر الأحكام الشرعية الخاصة بأحكام العورة بين الرجال والنساء والأطفال.(261/1)
حث الشريعة على غض البصر وستر العورة
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
أيها المسلمون: لقد جاءت الشريعة بمحاسن الأمور، وأمر شرع الله سبحانه وتعالى بكل ما يُصلح البشرية، ولما خالفت البشرية شرع الله؛ عمتها النكبات، وانتشرت فيها الرذائل، وصارت في الهاوية، ونزلت إلى الحضيض، ولا شك أننا في زماننا هذا قد حصل فيه من هذا الشيء الكثير.
أيها المسلمون: حديثنا في هذه الخطبة عن أمرٍ مهم أمرت به الشريعة، وجاء به الدين، لكن الناس ضيعوه وترتب على ذلك ما ترتب من انتشار الرذائل والفواحش، ألا إنه حفظ العورة الذي له أحكام كثيرة، وفروع متعددة، وأدلة كثيرة أمرت بستر العورة.
العورة التي قال في شأنها أهل العلم: العورة سميت عورة لقبح ظهورها؛ ولأجل غض النظر عنها سمي العور عوراً وهو النقص والعيب، ولذلك فإن العورة هي كل أمرٍ يُستحيا منه، وأما في شريعة الله فهي كل ما يجب ستره من بدن الإنسان.
والعورة كما ذكر أهل العلم: عورة نظر، يجب سترها عن عين الناظر، وعورة الصلاة وهو ما يجب على الإنسان ستره حال الصلاة، أما الذي يجب على الإنسان ستره حال الصلاة، فإن أدلته في الشريعة معروفة، لكن الناس ينبغي عليهم ألا يخلطوا بين عورة النظر وعورة الصلاة، حتى لا يحصل عندهم احتجاجات فاسدة، فأنت ترى أنه يجب على الرجل أن يستر منكبيه في الصلاة لما ورد في الحديث الصحيح، لكن لا يجب عليه ستر المنكبين أمام رجال مثله مثلاً.
وكذلك المرأة تكشف وجهها في الصلاة، لكن لا يجوز لها كشفه في غير الصلاة، وكذلك تستر ساقيها مثلاً وبدنها في الصلاة، لكن يجوز لها أن تكشفه أمام الزوج، فلا يحتجن محتج بعورة الصلاة على عورة النظر.
واعلموا أن الشريعة قد جاءت بالأمر بغض البصر، قال سبحانه وتعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:30 - 31]، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (يا علي! لا تتبع النظرة النظرة؛ فإنه لك الأولى، وليست لك الثانية) (لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة) هكذا جاء عنه صلى الله عليه وسلم، ارتباط مسألة النظر بالعورة، وغض الأبصار عن العورات.(261/2)
أدلة ستر العورة عن النظر(261/3)
أدلة وجوب ستر العورة من القرآن
فأما الأدلة التي جاءت بها الشريعة على ستر العورة فهي كثيرة، خذ على سبيل المثال قول الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] كيف نزلت؟ ومتى نزلت؟ وأين نزلت؟ نزلت في شأن عظيم، كانت المرأة في الجاهلية تطوف بالبيت عريانة، وكان أهل الجاهلية يطوفون عراة، يزعمون أن هذه الملابس التي لديهم قد عصوا فيها، فلا ينبغي أن يطوفوا بها، فأنزل الله عز وجل: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] وشنَّع الله على أهل الجاهلية فعلهم هذا في آية أخرى كذلك، فقال: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28]، وقول الله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، وقوله: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] دليل على غض البصر عن العورات، وقوله تعالى: {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31] هذا كذلك دليل على وجوب ستر العورات عن النظر فتأمل محاسن الشريعة كيف أنها أمرت بغض البصر، وأمرت بستر العورة؛ لكي تعالج الموضوع من جميع جوانبه.(261/4)
أدلة وجوب ستر العورة من السنة
أما سنة النبي صلى الله عليه وسلم فالأحاديث الواردة فيها بستر العورة كثيرة، ومن ذلك ما جاء في الحديث الصحيح قال: (يا نبي الله! عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك، قلت: فإذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: إن استطعت ألا يراها أحد فلا يراها، قلت: يا رسول الله! فإذا كان أحدنا خالياً؟ قال: فالله أحق أن يستحيا منه من الناس).
وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم لما رأى رجلاً من الصحابة قد كشف فخذه، قال: (غط فخذك؛ فإن الفخذ عورة) أمره بالتغطية والستر.(261/5)
إجماع أهل العلم على وجوب ستر العورة
وكذلك أجمع أهل العلم على أن ستر العورات عن العيون واجب، فإذا قال إنسان: إذا كان الرجل خالياً؛ فهل يجوز له أن يكشف عورته؟ أجاب أهل العلم عن ذلك، فقالوا: إذا دعت الحاجة لذلك مثل قضاء الحاجة من بول أو حلق عانة أو اغتسال أو جماع لزوجته؛ فإنه لا بأس بذلك، أما إذا كان ليس هناك حاجة؛ فإن قوله صلى الله عليه وسلم للرجل لما سأله: إذا كان أحدنا خالياً؟ قال: (فالله أحق أن يستحيا منه) قال أهل العلم: إن الإنسان لا يكشف عورة نفسه إذا لم تدع الحاجة إلى ذلك، وبعضهم أوجب ذلك وغلظ فيه.
إذاً: كشفها لغير حاجة حتى لو كان الإنسان خالياً دون حاجة؛ فإنه أمر مذموم.
واعلموا -أيها الإخوة- أن الناس تساهلوا في أشياء عجيبة تساهلاً كبيراً جداً، وخصوصاً في مسألة الفخذ بالنسبة للرجال، لأن بعض الناس عندهم منطق جاهلي، يقول: العورة للنساء وليس للرجال عورة، ولذلك تراهم يجلسون في المجالس يرفعون رجلاً على رجل، وقد لا يكون أحدهم لابساً تحت ثوبه سروالاً طويلاً مثلاً فيظهر فخذه، فإذا جئت تنبهه؛ قال لك: الرجل ليس له عورة، كبرت كلمة! رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (غط فخذك؛ فإن الفخذ عورة) وهذا يقول: الرجل ليست عورة.(261/6)
أحكام العورة
أيها المسلمون: لقد تكلم علماؤنا في عورة الرجل للرجل، وعورة الرجل للمرأة، وعورة المرأة للمرأة، وعورة المرأة للرجل، وعورة الطفل، وعورة المرأة أمام الطفل، وعورة المرأة أمام المخنث، وعورة المرأة أمام العبد، وعورة الأمة للرجل ونحو ذلك من الأشياء.
الخلاصة: أن الرجل والمرأة إذا كانت زوجته أو أمته؛ جاز لهما كل شيء، بما في ذلك الكشف التام.(261/7)
عورات الرجال
أما عورة الرجل بالنسبة للرجل؛ فإن العلماء قد اتفقوا على أن عورة الرجل للرجل ما بين السرة إلى الركبة، فلا يجوز له كشف ما بين سرته وركبته.
وأما عورة الرجل بالنسبة للمرأة الأجنبية: فإن كل من جاز لك نكاحها في الأصل فإنها امرأة أجنبية عنك، والمرأة تنظر إلى الرجل إذا لم يكن هناك فتنة أو شهوة، أما إذا لم تؤمن الفتنة وثارت الشهوات؛ فيجب عليها أن تغض بصرها كما قال الله في الآية أياً كان، وفي أي مكان كان، وهذا أمر، وكل واحد وكل واحدة أعلم بما في نفسه، والله عز وجل مطلع على الجميع، فاتقوا الله سبحانه وتعالى.
أما عورة الرجل بالنسبة لمحارمه؛ والمحارم كل من حرم عليك نكاحها لحرمتها، فإن الرجل والمحرم ومحرمه من النساء يجوز له أن ينظر إليها فيما جرت العادة بظهوره منها على ما سنبين بعد قليل إن شاء الله.(261/8)
عورات النساء
أما عورة المرأة بالنسبة للرجال الأجانب؛ فإنها على الصحيح كلها عورة، كما قال الله عز وجل: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] قال أهل العلم: الرداء والثياب لا يمكن إخفاؤه لا يمكن إخفاء العباءة إلا ما ظهر منها وهو الرداء والثياب، وكذلك قال الله: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53].
فلا بد من حجاب يحجب المرأة كلها؛ سواء كان جداراً أو باباً أو عباءة أو خماراً ساتراً ونحو ذلك، وقال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] فالإدناء من الأعلى إلى الأسفل يستر الجسم كله، ولما جاء صفوان بن المعطل السلمي ومر بـ عائشة وهي جالسة واسترجع قائلاً: إنا لله وإنا إليه راجعون، قالت عائشة: [فخمرت وجهي] سارعت رضي الله عنها إلى تغطية وجهها، وهذا الحديث في صحيح البخاري.
وقال عليه الصلاة والسلام: (المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان) فقوله: (المرأة عورة) أي: أنها كلها عورة، أما الرجال الأجانب فليس هناك شيء تكشفه، هل ترى استثناءً في الحديث: (المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان) أسماء تقول: [كنا نغطي وجوهنا من الرجل] وعائشة عندما كانت محرمة، كانت كاشفة لوجهها مع النساء، فإذا مر بها الرجال غطت وجهها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لما نهى عن النقاب في الإحرام؛ دل ذلك على أنه كان معروفاً عندهم ومستعملاً، وأما المرأة فكانت تستر وجهها.
أيها المسلمون: لو قال قائل: إن هناك أقوالاً أخرى؟ فنقول: ما هو الأليق بعصرنا الذي كثرت فيه الفتن، وعمت فيه الشرور، فأنت تراهن الآن في جميع الأماكن كاشفات عاريات إلا ما كان من أمر لا تستطيع فعله الآن، لكنها لو استطاعت فعله؛ لفعلت ولجرت وراء الكفرة حذو القذة بالقذة.
أما المرأة والأطفال فإن هذه من القضايا التي جهلها كثير من الناس، بل وتساهلوا فيها تساهلاً شنيعاً، والخلاصة: أن الله عز وجل يقول في أصناف الناس الذي يجوز للمرأة أن تبدي زينتها عندهم، قال عز وجل: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور:31] فيجوز للمرأة أن تكشف على الطفل الصغير الذي لم يفهم أحوال النساء بنص كتاب الله {لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور:31] لم يفهموا أحوال النساء، ولم يميزوا بين الحسناء والشوهاء، هذا يمكن من الدخول على النساء، لكن إذا كان له التفاف وصار له اهتمام وتمييز؛ فإن النساء يحجبن عنه.
والآن في البيوت تساهل عظيم وشنيع، لا سيما في قضية الولد الذي يكون قبيل البلوغ، فإذا بلغ صار رجلاً، لكن قبيل البلوغ، بسبب انتشار الأفلام والمجلات والخنا والفواحش في المجتمع؛ صار الأطفال لهم تمييز في مسائل جمال المرأة، والنساء بالعكس عندهن تساهل وتسيب في هذه القضية، فإذا لوحظ على الطفل التفاف على للمرأة وتمييز لمحاسنها؛ وجب عليها أن تستر نفسها ولا يجوز إدخاله عليها.
وأما بالنسبة لعورة المرأة أمام المحارم، فيا أيها الآباء! ويا أيها الإخوان! ويا أيها الأزواج! فإن العلماء قد قالوا في ذلك قولين مشهورين، والذي يدل عليه الدليل -والله أعلم- في قول الله عز وجل: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور:31] أن المرأة تظهر أمام المحرم ما يظهر غالباً أمامهم في العادة، كالوجه والشعر والرقبة وما فوق القلادة، وليس ما تحت القلادة، وما تحت الدملج الذي عند العضد وليس ما فوقه، وأسفل الخلخال، هذا الذي تظهره وهذا الذي جرت العادة بإظهاره، أما غير ذلك فإن بعض أهل العلم قد نصوا على أن الظهر والبطن عورة أمام المحرم، لا تظهر ظهرها ولا بطنها أمام المحرم، واستدلوا بقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور:31].
إذاً: الذي يظهر غالباً منها كما بينا، مثل: الوجه والشعر والرقبة وما فوق القلادة وما أسفل الدملج الذي يوضع على العضد، هذا في العادة والخلخال وما تحته القدمين هذا الذي يظهر أمام المحارم، وبعض العلماء شددوا في الخال والعم أكثر من تشديدهم في الأب والأخ والابن، نظراً لأن الآية التي فيها قول الله: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور:31] لم يرد فيها ذكر الخال والعم، فلذلك ينبغي التنبه لهذا الأمر، وينبغي عليكم يا معشر الرجال أن تأمروا النساء في بيوتكم بالتستر والحشمة.(261/9)
عورات الصغار
أما بالنسبة للصغار، فإن كان الطفل صغيراً أو رضيعاً؛ فإنه لا عورة له ولا حكم لعورته، فإذا كان مميزاً، فينبغي عليه ستر الفرجين على الأقل، ويجب عليه وعلى أولياء الأمور مراعاة ذلك، فإذا بلغت الأنثى تسعاً والذكر عشراً، فينبغي الاعتناء التام باللباس، وعند ذلك تعلم التساهل الذي يحدث عند كثير من الناس، الذين يظهرون بناتهم ذات التسع والعشر السنين بملابس قصيرة فوق الركبة أمام المحارم، ويقول: هذا عمها، وهذا ابن أخيها، وابن أختها، وهذا خالها ونحو ذلك.
وعصرنا الآن كما قلنا أيها المسلمون: انتشرت فيه الفواحش وعمَّ فيه الفساد، فينبغي أخذ الحيطة في هذا الأمر، والتشديد في المسائل؛ لأنك تسمع عن جرائم تدل على انتكاسة الفطرة، فلا تتساهلوا رحمكم الله في هذه القضية.
ينبغي أن يربى أولادنا ذكوراً وإناثاً منذ الصغر على الستر والحشمة حتى يتعودوا عليه، أما أن نرخي الحبل ثم إذا جاء وقت الحجاب المأمور به شرعاً والواجب قلنا: الآن استصعبت النفوس الأمر، بسبب عدم التعويد.
وقضية التساهل في لباس البنات الصغيرات قد حصل فيه جرائم وحصل فيه ما يندى له الجبين؛ بسبب أن الرجل أو الأب أو الأم تساهلوا في لباس البنات الصغيرات.(261/10)
تغير حكم العورة عند الفتنة
نحن في عصر انتكست فيه الفطر، وذهبت العفة إلا من رحم الله، ولذلك ينبغي التشديد وعدم التهاون في هذه القضية، ولذلك فإن العلماء بعدما بينوا أن عورة المرأة أمام المرأة من السرة إلى الركبة، وقالوا أقوالاً أخرى في المسألة؛ قالوا: النظر عند خشية الفتنة حرام، حتى للمحارم فيما يجوز لهم النظر إليه من النساء، قالوا: لا يجوز النظر عند خشية الفتنة، فعندما كانت المجتمعات نظيفة في الماضي، عندما كان الصحابة والسلف يعيشون في مجتمعات نظيفة، لم تكن الشهوات تثور؛ لأن المجتمع محتشم، لكن اليوم لأتفه الأسباب تثور الشهوات، ولذلك لا بد من الاعتناء بهذه القضية أشد الاعتناء.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم للخير، وأن يجعلنا من الحافظين فروجهم، اللهم اجعلنا من الذين يحفظون حدودك فلا يتعدونها، واجعلنا من الذين يغضون أبصارهم فلا ينظرون إلى الحرام، اللهم اجعل بيننا وبين الحرام برزخاً وحجراً محجوراً.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(261/11)
مخالفة البشرية لشرع الله
لا إله إلا الله، وسبحان الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصلى الله وسلم على نبينا المصطفى الأمين، الذي بلغ رسالة ربه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها المسلمون: لقد خالفت البشرية اليوم شرع الله في ستر العورات.
لقد خالفت البشرية شرع الله لما ابتكروا شوارع وشواطئ للعراة.
لقد خالفت البشرية شرع الله لما ظهروا بهذه المايوهات والملابس القصيرة على شواطئ البحار وفي المسابح وغيرها.
لقد خالفت البشرية شرع الله في ستر العورات عندما أنتجت وسوقت الأفلام التي تظهر فيها المرأة كاشفة لعورتها، أو لجزء من العورة التي أمر بها الشرع.
لقد خالفت البشرية أمر الله في ستر العورات لما قامت الإعلانات التجارية تروج للبضائع، وفي كثير منها صورة امرأة كاشفة عن عورتها أو جزءاً من عورتها، في أمور لا علاقة لها بالنساء مطلقاً كعلب البيبسي مثلاً.
لقد خالفت البشرية شرع الله عندما طبعت المجلات، وعلى أغلفة هذه المجلات فتاة الغلاف، الداعية بجمالها الصارخ وزينتها ومكياجها إلى الفحشاء والمنكر.
لقد خالفت البشرية شرع الله عندما دخلت النساء في الأسواق متبرجات، وتُرك ستر العورة حتى بالنسبة للرجال، الذين خالفوا شرع الله في هذه الألعاب الرياضية التي يزعمون أنها رياضية، وكشفوا فيها من العورات من الفخذ وغيره ما يندى له جبين المسلم الحر الكريم.
لقد خالف الناس شرع الله عندما قام الاختلاط في البيوت بين النساء والرجال الأجانب.
لقد خالفوا شرع الله في تساهلهم في ظهور أولادهم وبناتهم بالذات الذين هم في سن البلوغ بثياب قصيرة أمام الضيوف وأمام الأجانب، بل حتى أمام المحارم كشفوا ما لا يجوز كشفه.
لقد خولفت الشريعة في قضية سد الذرائع مخالفة شنيعة؛ لأنهم خالفوا الأصل فكيف لا يخالفون قاعدة سد الذرائع، كذلك قاعدة سد منافذ الفتنة غير مراعاة في كثير من الأحوال.
لقد خولف الشرع وخولف مراراً ومراراً وتكراراً، وهذه الأشياء الوافدة إلينا والتي نقترفها نحن بأيدينا دليل واضح على تضييع قضية ستر العورة، صارت مسألة ستر العورة الآن من المسائل الضائعة المضيعة في عالمنا وواقعنا؛ لأن من مخططات اليهود إظهار العورات وكشفها؛ لكي يصبح المجتمع مجتمعاً إباحياً، حتى تشغل القضية الأذهان ولا يبقى هناك مجال للعاقل لكي يبصر ما ينقذ به أمته.
أيها المسلمون: إن كل شر يحدث في مجتمعنا بسبب مخالفة الشريعة، ونحن الذين تساهلنا في قضايا كثيرة، وتساهلنا في قضية كشف العورات في مسألة السائق الأجنبي والخادمة، وحتى في قضية الممرضات والمضيفات، والذهاب بالنساء إلى المستشفيات، أفلا ترون أن هذه المخالفات تستوجب عقوبة من الله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور:7 - 8].
اللهم إنا نسألك رحمتك، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم إنا نسألك أن تطهر قلوبنا، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا، ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا، اللهم إنا نعوذ بك من تحول عافيتك، وزوال نعمتك، وفجأة نقمتك، وجميع سخطك.
اللهم إنا نسألك أن تنصر الإسلام والمسلمين، وأن تقيم علم الجهاد في ربوع العالمين، اللهم ارفع الظلم عن المستضعفين، اللهم انصر المستضعفين من المسلمين، اللهم إنا نسألك أن تنصر عبادك الموحدين، وتقيم شرعك في الأرض يا رب العالمين.
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(261/12)
الحياء
الحياء خلق عظيم من أخلاق الإسلام، وهو خلق يبعث على فعل كل جميل ويمنع من فعل كل قبيح، وهو صفة من صفات الله عز وجل، وصفة من صفات أنبياء الله عليهم السلام، وهو أيضاً من صفات أوليائه، وأشد هذه الأمة حياءً هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان أشد حياءً من العذراء في خدرها.(262/1)
صور من فقدان الحياء
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
لماذا تحسر عدد من النساء الحجاب عن وجوههن وشعورهن؟ لماذا يلبسن الثياب الضيقة والشفافة؟ لماذا تنطلق الكلمات البذيئة من ألسنة الكثيرين وتنهال الألفاظ التي تخدش الحياء في المجالس والأماكن العامة، وتسمع هذه الكلمات البذيئة في قارعة الطريق والمحلات؟ لماذا يعامل بعض الذين يستلفون النقود من يستلفون منهم بصلافة ووقاحة، ويرفضون رد الدين، أو يجعلونهم يجرون وراءهم كالشحاذين مع أنهم أصحاب الحق؟ لماذا يقع الاختلاط بين الرجال والنساء ويمضي بشكل طبيعي حتى يحادث الرجل الأجنبي المرأة الأجنبية كأنه محرم لها؟ لماذا تنتشر المعاكسات الهاتفية وخروج المرأة مع الرجل الأجنبي في سيارة أو مكان في خلوة ونحوه؟ لماذا يحسر اللاعبون عن أفخاذهم ولا يتحفظ الناس من ستر عوراتهم؟ لماذا ولماذا من سائر هذه المشاهد والأفعال المتكررة؟ السبب -أيها الإخوان- هو فقدان خلق عظيم من أخلاق الإسلام، ألا وهو خلق الحياء، هذا الحياء الذي يبعث على فعل كل جميل، ويمنع من فعل كل قبيح هذا الحياء قد زال وانعدم من نفوس الكثيرين، وقلَّ وخف واضمحل من نفوس آخرين، ولذلك تجد انتشار المعاصي والجهر بها، وخصوصاً عند من ينبغي أن تكون محتشمة متسترة عند البشر كلهم.
فقدان الحياء أدى إلى المآسي حتى ظهرت شواطئ العراة وأنديتهم، وصارت الأفلام الإباحية تعرض وتصور بسبب فقدان الحياء، لم يعد هناك حياء، هذا الخلق الإسلامي الأصيل الذي نفتقده اليوم في نفوس كثير من المسلمين، فما عادوا يتورعون عن أمور كثيرة.(262/2)
أنواع الحياء
حياء الإنسان منه ما هو فطري، ومنه ما هو مكتسب هذا الحياء غريزة خلقها الله في قلب الأبوين: آدم وحواء، ولذلك لما عصيا وأكلا من الشجرة وظهر أثر المعصية بانكشاف العورة، سارعا إلى ستر عوراتهما بأوراق الشجر، بمجرد أن بدت لهما سوءاتهما طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، فاستحيا آدم وزوجه لما ظهرت العورة، وأرادا بسرعة أن يسترا العورة بورق الجنة، مسارعين إلى ذلك من خلق الحياء الذي خلقه الله فيهما، وهذا هو الأصل في البشر سلامة الفطرة، كل مولود يولد على الفطرة، كل مولود يولد وحياؤه معه، ولكن يفسد حياؤه من هذه التربية، إنهم يلبسون البنات من صغرهن ملابس فاضحة، وتنشأ البنات على هذه الملابس الفاضحة، وتكبر البنت وهي لا تزال تلبس هذه الملابس أمام إخوانها في البيت، وأمام الجيران والزوار، وتفقد البنت شيئاً من حيائها تدريجياً، والسبب هو التربية الفاسدة.
لقد ذكر الله في كتابه قصة المرأة التي تربت تربية صالحة هي وأختها حين كانتا ترعيان الغنم؛ لأن أباهما لا يستطيع العمل، فالمرأة لا تخرج للعمل إلا للحاجة هذا هو الأصل، الأصل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] أما الخروج للعمل وللحاجة فيبينه قوله تعالى: {لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23] لا يستطيع العمل فلذلك اضطررن وخرجن، لما سقى موسى ورجعت المرأتان أخبرتا الأب، فأراد أن يكافئه، فلما لم يستطع المجيء إليه أرسل ابنته، قال تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص:25] هكذا قال الله.
قال السلف: ليست بسلفع من النساء خراجة ولاجة، ولكن جاءت مستترة قد وضعت كُمَّ درعها على وجهها تغطيه استحياءً، بل إن تغطية الوجه من أيام الجاهلية، بعض نساء الجاهلية كما كانت امرأة النعمان الرجل الجاهلي تمشي ساترة وجهها، فوقع هذا الغطاء دون تقصد وكانت بحضرة رجال، فقال النابغة من فوره وتوه:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه بادرته واتقتنا باليد
فغطت وجهها بيد، وسارعت لأخذ الخمار باليد الأخرى.
فطر الله سبحانه وتعالى النساء على الحياء، لكن الوضع الحالي للنساء أفسد الكثيرات، ولذلك فهي خراجة ولاجة، لا حياء ولا حشمة ولا حجاب، تقارع الرجال في الأسواق، وتنازل الباعة في الأسعار وتضحك ملء شدقيها أمام الأجانب، وهذه أسواقنا شاهدة على قلة الحياء في هذا الزمن، وقد بلغ من تقدير الإسلام لخلق الحياء أنه بني عليه أحكام، فمن ذلك: ما جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجارية ينكحها أهلها أتستأمر أم لا؟ فقال لها: نعم.
تستأمر، قلت له: إنها تستحي -إذا سألها القاضي أنت موافقة؟ البكر تستحي هذا هو الأصل- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فذلك إذنها إذاً إذا هي سكتت) إذنها صماتها هكذا يعرف إذن البكر إذا استؤذنت، فإذا صمتت فيعني ذلك أنها موافقة.(262/3)
الأنبياء وشدة حيائهم
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحياء والإيمان قرنا جميعاً، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر) هذا شأن الحياء وهو شعبة من الإيمان، والله سبحانه وتعالى حيي ستير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى حيي ستير يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر) رواه أحمد وأبو داود وهو حديث صحيح.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله حيي كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه، أن يردهما صفراً خائبتين) والعبد عليه أن يتشبه بتلك الأفعال التي أمر الله العباد بأخذها، فعليه أن يستحي، هذا الحياء من الأشياء التي بقيت من النبوة الأولى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى، إذا لم تستح فاصنع ما شئت) النبوات السابقة حصل لها تحريف وتغيير وتبديل، ولكن بقيت هناك عبارة صحيحة وصلت إلى هذه الأمة بدون تغيير ولا تبديل ولا تحريف، وهي: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) والمقصود تهديد ووعيد للذي لا يستحي، فليفعل ما يشاء، فالله سيجازيه، كما قال الله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت:40] ستجدون هذه الأعمال يوم القيامة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8] وكذلك هذا تهديد -أيضاً- من جهة أنه قال له: (إذا لم تستح فاصنع ما شئ) فإنه إذا سقط الحياء فالنتيجة أنه سيفعل ما يشاء، ويعاقبه الله بعد ذلك.
إذا لم تخش عاقبة الليالي ولم تستح فاصنع ما تشاء
فلا والله ما في العيش خير ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاءُ
أنبياء الله كانوا يستحيون غاية الحياء، فهذا موسى عليه السلام كان رجلاً حيياً ستيراً، لا يرى من جلده شيء استحياءً منه، والنبي صلى الله عليه وسلم كان أشد حياءً من العذراء في خدرها هل تعرفون العذراء إذا كانت في جوف الليل التي ليس لها سابق عهد بالرجال ولا تختلط بالأجانب ولم يسبق لها زواج كيف يكون حياؤها؟ لو دخل عليها رجل أجنبي في مخدعها كيف يكون حياؤها؟ كان النبي عليه الصلاة والسلام أشد حياءً من العذراء في خدرها لو دخل عليها أجنبي.
وتجلى هذا في مواقف منه صلى الله عليه وسلم، فإنه لما صعد إلى ربه في حادثة المعراج المعروفة والمشهورة، فرض الله عليه خمسين صلاة، والنبي صلى الله عليه وسلم يتردد بين موسى وبين ربه سائلاً التخفيف حتى وصلت إلى خمس صلوات، فقال موسى للنبي عليه الصلاة والسلام: (ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سألت ربي حتى استحييت، ولكن أرضى وأُسلم).
كان النبي صلى الله عليه وسلم من حيائه أنه لا يصرح بالألفاظ التي فيها بشاعة أو شناعة، أو تخدش الحياء، أو تكرهها النفوس وتنفر منها، فكان يستخدم الكناية، وكان يعرض في كلامه، بل إنه صلى الله عليه وسلم في أحيان كثيرة كان لا يتكلم بكلمة، ولكن يعرف ذلك بوجهه من حيائه صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقول الصحابي أبو سعيد رضي الله عنه: [فإذا رأى شيئاً يكرهه عرفناه في وجهه] يبدي ذلك صفحات وجهه، تنبئ عما يكرهه صلى الله عليه وسلم، ولذلك لما جاءت امرأة تريد منه أن يعلمها كيف تغتسل فعلمها النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (تأخذ فرصة من مسك فتتطهر بها) قطعة من القطن ونحو ذلك، فيها طيب من المسك وغيره تنظف بها مكان خروج الحيض لأجل الزوج وإزالة الرائحة، فقالت المرأة: كيف أتطهر بها -لم تفهم المقصود- قال: (تطهري بها، سبحان الله! واستتر بيده على وجهه صلى الله عليه وسلم) هنا تدخلت عائشة أم المؤمنين، قالت: (واجتذبتها وعرفت مراد النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: تتبعي بها أثر الدم) أثر الدم الموجود والباقي تتبعيه فأزيليه بهذه الفرصة الممسكة.
هذا هو نبينا صلى الله عليه وسلم، هذا نبينا الذي لما تزوج وجاء الناس إلى بيته وطعموا طعام الوليمة، أراد عليه الصلاة والسلام بعد ذلك أن يخلو بأهله، لكن هؤلاء لم يخرجوا، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ثم عاد إلى البيت رجاء أن يكونوا قد خرجوا -من حيائه، ما قال لهم: اخرجوا- فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدثون، وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء، فخرج منطلقاً نحو حجرة عائشة، فما أدري أخبرته أو أُخبر أن القوم خرجوا، فرجع حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب -رجل داخلة وأخرى خارجة- أرخى الستر بيني وبينه وأنزلت آية الحجاب، فاستحى صلى الله عليه وسلم أن يطردهم أو يقول لهم: اخرجوا، هكذا كان عليه الصلاة والسلام، هذا هو النبي، وهذا هو الدين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لكل دين خلقاً، وخلق الإسلام الحياء).
وبنته صلى الله عليه وسلم كانت تربيتها هكذا، عن أنس رضي الله عنه، أن رسول صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهب لها، وعلى فاطمة رضي الله عنها ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال: (إنه ليس عليك بأس، إنما هو أبوك وغلامك) وهكذا كانت الصحابيات رضوان الله تعالى عليهن.
لما عرض النبي صلى الله عليه وسلم بيعته -بيعة النساء- تلا الآية عليهن وفيهن هند بنت عتبة، فأخذ عليهن العهد ألا يشركن بالله شيئاً كما في الآية، ولا يسرقن، ولا يزنين، ولما بلغ: ولا يزنين وضعت يدها على رأسها حياءً، وفي رواية قالت: أَوَتزني الحرة؟ -عجيب أو تزني الحرة! هذا الزنا معروف عند الإماء- فنهرتها عائشة وطلبت منها أن تبايع، وقالت: هكذا بايعنا، بايعي على ما بايعنا عليه.(262/4)
حياء الصحابة رضوان الله عليهم
وعثمان رضي الله عنه أشد الأمة حياءً بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال: (الحياء ملءٌ من الإيمان، وأحيا أمتي عثمان) أشدها حياءً عثمان رضي الله عنه، أمير البررة وقتيل الفجرة، ذو النورين عثمان رضي الله عنه، قال عليه الصلاة والسلام: (ألا أستحي من رجل تستحيي منه الملائكة).
وكذلك كان رضي الله عنه إذا اغتسل، يكون في البيت والباب عليه مغلق، فما يضع عنه الثوب ليفيض عليه الماء وإنما يغتسل بثوبه، يمنعه الحياء أن يقيم صلبه، وكان أبو موسى إذا اغتسل في بيتٍ مظلم تجاذب وحنا ظهره، يمشي منحني الظهر حتى يأخذ ثوبه، مع أنه ليس حوله أحد، ولا ينتصب قائماً حياءً.
وعن أنس قال: [كان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه إذا نام لبس ثياباً عند النوم، مخافة أن تنكشف عورته] هكذا كان الصحابة، جاء أحدهم إلى مجلسٍ ممتلئ، فوجد فرجة فجلس والثاني جلس خلفهم استحيا فاستحيا الله منه.
فعلمنا النبي عليه الصلاة والسلام معنى الحياء، فقال صلى الله عليه وسلم: (استحيوا من الله تعالى حق الحياء، من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى -ماذا يوجد في الرأس يا عباد الله؟ اللسان والفم والعينين والأذنين- وليحفظ البطن وما حوى -أي: احفظ بطنك من المال الحرام، الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى من هذه الأعضاء المجاورة له والواقعة فيه، واحفظ البطن وما حوى- وليذكر الموت والبلاء، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء) حديث حسن، هكذا علمنا صلى الله عليه وسلم.
وقرب لنا الفكرة كيف نستحي من الله، فقال عليه الصلاة والسلام لرجل قال له وصية: (أوصيك أن تستحي من الله كما تستحي من الرجل الصالح من قومك) هذا للتقريب، كيف تستحي من الرجل الصالح من قومك؟ ينبغي أن تستحي من الله أكثر من هذا.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الحياء، وأن يباعد بيننا وبين الفحش والبذاء، وأن يرزقنا التقوى والتقى والعفاف والغنى، إنه سميع مجيب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(262/5)
بعض جوانب الحياء المحمود والمذموم
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشكره سبحانه وتعالى وأحمده، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد النبي الأمي، البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المسلمون: (الحياء لا يأتي إلا بخير) -هذه العبارة التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم لتوضح ماذا ينطوي عليه هذا الخلق، وماذا يتأتى منه، لقد قالها رجل من الصحابة راوياً هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أحد السامعين وهو بشير بن كعب: مكتوب في الحكمة: إن منه وقاراً ومنه سكينة، يقول الرجل: وجدنا في بعض الصحف عن الأديان السابقة، أن منه وقاراً ومنه سكينة، كأنه يقول: من الحياء ما هو وقار، ومنه ما هو ضعف ومهانة وذل، فقال عمران غاضباً: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثني عن صحفك! أي: تباً لك على هذا الخلق وعلى هذا القول، أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحياء لا يأتي إلا بخير) وأنت تقول الحياء قسمان، والحياء منه كذا ومنه كذا، لا أحدثك سائر اليوم، حتى تشفع له الناس فرضي بأن يحدثه.
وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم على رجل وهو يعاتب أخاه في الحياء، يقول: (إنك لتستحي حتى يقول: إنه قد أضر بك) وأخ يعاتب أخاه يقول: أنت دائماً تستحي، هذا الحياء منعك من أخذ حقوقك وألحق الضرر بك، وكأنه يقرعه على استحيائه الدائم والشديد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما مر بهما: (دعه فإن الحياء من الإيمان) فلا تثريب عليه أنه يستحي، وليس عيباً أنه يستحي، الحياء لا يأتي إلا بخير، هذا هو الحياء.
وينبغي هنا أن نعلم الفرق بين الخجل والحياء.(262/6)
الفرق بين الخجل والحياء
الحياء: خلق جميل يبعث على فعل المحمود وترك المذموم، وهو خير كله، لكن إذا كان شيء يؤدي إلى ترك تعلم الدين والأحكام الفقهية التي يحتاج إليها الإنسان أو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا مر به الإنسان فهذا لا يسمى حياءً وإنما هو خجل مذموم، ولذلك قال العلماء على هذا: يحمل عبارة من قال: لا يتعلم العلم مستحٍ ولا مستكبر، فليس هذا موضع الحياء، أن تحتاج إلى جواب في مسألة شرعية فتستحي، هذا ليس حياءً شرعياً.
عن سعيد بن المسيب أن أبا موسى قال لـ عائشة: (إني أريد أن أسألك عن شيء وأنا أستحي منك، فقالت: سل ولا تستح فإنما أنا أمك -لأنها أم المؤمنين- فسألها عن رجل يغشى ولا ينزل؟ -الرجل يجامع أهله ويطأ لكن من غير إنزال، أي: هل عليه غسل أم لا؟ - فقالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أصاب الختان الختان فقد وجب الغسل).
إذاً: إذا أولج ووطئ ومس الختان الختان فقد وجب الغسل، أنزل أو لم ينزل، فبينت له الحكم.
وقالت عائشة رضي الله عنها: [نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين] لكن الإنسان أحياناً لا يستطيع المواجهة لظرف وسبب، فلا يسكت على جهل وإنما يوكل غيره في السؤال، كما فعل علي رضي الله عنه قال: كنت رجلاً مذاءً -أي: كثير المذي- فأمرت المقداد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم -لأنه كان يغتسل رضي الله عنه من المذي حتى تشقق ظهره من شدة البرد- فقال عليه الصلاة والسلام لما سأله المقداد، فقال: فيه الوضوء، يغسل ذكره وأنثييه، ويزيل ما أصاب الثياب منه ويتوضأ، هذا هو حكم المذي.
لماذا استحيا علي من السؤال المباشر؟ قال علي في الرواية: [كنت رجلاً مذاءً، فأمرت رجلاً أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته مني]؛ لأن بنت العالم تحته -عنده فاطمة - يستحي أن يقول: إنني امرؤ مذاء من عنده بنت النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك استحيا أن يسأل، لكن هل سكت على جهل؟ كلا.
وإنما طلب من غيره أن يسأل له وهكذا وقع وأخذ الجواب.
وكذلك أيها الإخوة: النهي عن المنكر إذا رأيت منكراً أمامك، كثير من الناس لا ينكر المنكر، ويقول: استحييت وما استطعت أن أتكلم، هذا ليس بحياء، هذا خجل مذموم، وهذا ذل ومهانة وضعف وعجز، هذا يُلام عليه ويؤاخذ به، الله سبحانه وتعالى أحق أن يستحيا منه، ينبغي إذاً أن تجهر بالإنكار وتعلن الإنكار؛ وهكذا كان الأئمة وأهل العلم.
قال ابن مهدي رحمه الله عن سفيان الثوري: ما كنت أستطيع أن أنظر إلى سفيان استحياءً وهيبة منه، ومع ذلك فكان في مواقع الحمية والغضب لدين الله لا يعرف الاستحياء من الحق، حتى قال يحيى: "ما رأيت رجلاً قط أصفق وجهاً من الله عز وجل من سفيان الثوري "، أي: إذا صار الجد والإنكار أصفق وجه -أسمك وجه- أمام أهل المنكر.
ولذلك أنكر على المهدي أموراً جساماً، حتى قال وزير المهدي: تتكلم على أمير المؤمنين وأنت بحضرته بمثل هذا الكلام، فقال سفيان: اسكت! ما أهلك فرعون إلا هامان، قال: يا أمير المؤمنين! ائذن لي أن أضرب عنقه، قال له الخليفة: اسكت ما بقي على وجه الأرض من يستحيا منه غير هذا.(262/7)
ارتكاب الحرام باسم الحياء
وبعض الناس يرتكبون الحرام باسم الحياء، كيف ذلك؟ يقول رجل: مدت المرأة الأجنبية يدها للمصافحة، قال: استحييت وصافحت، فما شاء الله على هذا الاستحياء! هل هذا حياء أم قلة حياء؟ ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير من أن يمس امرأة لا تحل له) كيف تقول: مدت يدها فاستحييت وصافحت أين الحياء؟ الحياء ألا تصافح ولا تمد يدك بل تنكر هذا المنكر.(262/8)
دعوى الاستحياء من الحق
وكذلك أيها المسلمون: ينبغي ألا نستحي من الحق، فلو أن إنساناً استدان منك مالاً فأردت أن تثبته أثبته، قال الله: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] فلا تقل: استحييت، قل له: إن هذه حياة وموت، وإن هذا أدعى لضبط الحقوق، وقد أمر الله به، أود وأريد وأرغب منك أن نكتبه، لا حرج مطلقاً.
الحياء إذاً: فعل المحمود وترك المذموم، الحياء عكس البذاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء من النار) هذا هو البذاء: الكلمات النابية الجافية ونحو ذلك.
وكذلك من جوانبه: أن يستتر الإنسان كما قال النبي عليه الصلاة والسلام للصحابي معاوية بن حيدة لما سأله: (قلت: يا رسول الله! عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك، قلت: يا رسول الله! إذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: إن استطعت ألا يرينها أحد لا ترينها أحد -العورة- قلت: يا رسول الله! إذا كان أحدنا خالياً هل له أن يتجرد؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أحق أن يستحيا منه من الناس) فهذا ندب إلى ستر العورة، حتى لو كان الإنسان خالياً، نعم إنه يحتاج إلى كشفها عند إتيان أهله أو غسله ونحو ذلك، لكن إذا زالت الحاجة ستر العورة.(262/9)
حياء الصحابة وحياء الناس اليوم
وقد تقدم فعل بعض الصحابة رضوان الله عليهم عند غسلهم وعند نومهم، قارنوا بين هذا الخلق الآن وبين ما يحدث في المجتمع من السفور والانحطاط الأخلاقي والجرأة على الرجال، وانطلاق النساء في الكلام، واستخدام الألفاظ البذيئة في المجالس العامة، وهذه المسرحيات والتمثيليات التي يعرض فيها الاختلاط، تخرج المرأة سافرة أمام آلاف المتفرجين في القاعة، شيء عجيب لو فكر فيه الإنسان فعلاً يصاب بصدمة من زوال الحياء من المرأة التي ينبغي أن تستحي من الرجل.
فنسأل الله سبحانه أن يرزقنا الحياء، ونسأله أن يباعد بيننا وبين الحرام.
اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك يا رب العالمين.
اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل المسلمين، اللهم إن اليهود قد طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، فعاجلهم بنقمة من عندك، وأنزل عليهم سخطك وعذابك الذي لا يرد عن القوم الكافرين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(262/10)
الرحمة
رحمة الله واسعة، وكان لابد من الوقوف عند هذه الصفة التي اتصف بها الله جل وعلا، فإن من رحمة الله جل وعلا أن المصائب تكفر السيئات، وأن المؤمن إذا صبر عليها أجر، ومن رحمة الله علينا أيضاً أنه يستر ذنبنا في الدنيا ويغفرها في الآخرة، فيجب على المؤمن ألا ييئس من رحمة الله ولا يقنط.(263/1)
سعة رحمة الله
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد: فإن من أسماء الله سبحانه وتعالى الرحمن والرحيم، فهو أرحم الراحمين، والرحمن صفته، والرحيم يدل على أنه يرحم خلقه، والله سبحانه وتعالى رحمته وسعت كل شيء، وبلغ من رحمته عز وجل أنه خلق مائة رحمة بخلاف صفة الرحمة التي اتصف بها خلق مائة رحمة، فبث بين خلقه رحمةً واحدة فهم يتراحمون بها، وادخر عنده لأوليائه تسعة وتسعين، وفي حديثٍ صحيح آخر: (إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحوش على ولدها)، وفي رواية: (حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه) وأخر تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة.
ووصف النبي عليه الصلاة والسلام كل رحمة من هذه المائة بقوله: (إن الله تعالى خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة، فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، وأخر تسعاً وتسعين، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة وجعلها لأوليائه يوم القيامة يرحمهم بها).
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييئس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار) ورحمته سبحانه وتعالى أشد من رحمة الوالدة بولدها.
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبيٍ، فإذا امرأة من السعي تسعى، إذ وجدت صبياً في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترون هذه طارحةً ولدها في النار؟ قلنا: لا والله، وهي تقدر على ألا تطرحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أرحم بعباده من هذه بولدها)، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق إن رحمتي سبقت غضبي، فهو مكتوبٌ عنده فوق العرش) سبحانه وتعالى.
وهذه الرحمة التي تأوى إليها أرواح المؤمنين إذا قبضها ربنا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث حين مُرَّ عليه بجنازة، فقال: (مستريح ومستراح منه، قالوا: يا رسول الله! ما المستريح وما المستراح منه؟ قال: العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب، كيف لا وفجوره من أسباب منع المطر وأذية العباد والبهائم).
ورحمته سبحانه وتعالى للعصاة التائبين إذا أقبلوا على الله وتابوا إليه فإن رحمته واسعة، فإذا أقبل العبد إليه بالتوبة استقبله الله بالرحمة فغفر له ذنبه وستر عليه سبحانه وتعالى.
عن ابن عباس قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه أناسٌ من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا وزنوا وأكثروا -أي: من الزنا- فأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة -نحن نريد التوجه والتوبة وإصلاح الحال، لكن ماذا نعمل بالماضي؟ وماذا نعمل بالسيئات المتراكمة؟ ماذا نعمل بالقتل الكثير والزنا العظيم؟ فروجٌ انتهكناها ودماءٌ استبحناها، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة- فنزل قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان:68 - 70]، ونزل أيضاً قول الله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53]).
هذه رحمةٌ واسعة من الذي يحجرها؟ ومن الذي يمنعها؟ لما قال الأعرابي: (اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، قال: لقد حجَّرت واسعاً) من الذي يستطيع أن يمنع رحمة الله؟ هذا في الدنيا برحمته يتوب عليهم، وبرحمته يغفر لهم، وبرحمته يهديهم، وبرحمته يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم.(263/2)
من رحمة الله ستر الذنوب في الدنيا وغفرانها في الآخرة
وأما يوم القيامة فإن العبد يأتي ربه بذنوب، لكن إذا كان للعبد توبة وله استغفار وله أوبة ورجوع، يقول النبي عليه الصلاة والسلام في حاله: (إن الله تعالى يدني المؤمن فيضع عليه كنفه وستره من الناس ويقرره بذنوبه، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى -أي: العبد- في نفسه أنه قد هلك، قال الله عز وجل: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه، وأما الكافر والمنافق: ((وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)) [هود:18]).(263/3)
من رحمة الله تجاوزه عن الخطأ والنسيان
ومن رحمته سبحانه وتعالى بنا أنه تجاوز لنا عن الخطأ والنسيان وما استكرهنا عليه كما جاء في الحديث الصحيح، وكذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله تجاوز عن أمتي عما توسوس به صدورهم ما لم تعمل أو تتكلم به، وما استكرهوا عليه) فإذا بقيت الوساوس حبيس النفس لم تخرج، والرغبة في السيئة صارت طي الكتمان لا عمل ولا قول يتجاوز الله عن ذلك.(263/4)
المصائب والابتلاءات من رحمة الله بنا
ومن رحمته سبحانه وتعالى أنه ينزل المعونة على قدر المئونة، وينزل الصبر على قدر البلاء كما جاء في الحديث الصحيح، فترى بعض الناس نزل بهم من البلاء أمر عظيم جداً، وتوالت عليهم المصائب وهم مع ذلك يعيشون، لماذا؟ لأن الله ينزل المعونة على قدر المئونة، وينزل الصبر على قدر البلاء.
ومن رحمته سبحانه أن من مات له ثلاثة من الولد وهو من الموحدين، غفر الله له ولزوجته برحمته للأولاد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث -صغار- إلا أدخلهم الله بفضل رحمته إياهم الجنة، يقال لهم -للأولاد-: ادخلوا الجنة -يوم القيامة- فيقولون: حتى يدخل أبوانا، فيقال: ادخلوا الجنة أنتم وأبواكم).
وحتى الأمراض رحمة من الله وتكفيراً وتطهيراً من الذنوب والسيئات، حتى الشوكة التي يشاكها العبد يكفر الله بها من خطاياه.
المصيبة التي لا اختيار للعبد فيها والمرض الذي يأتي للعبد دون سعي منه، ومع أن المرض لا نكسبه، لا نعمله بأيدينا ولا نسعى إليه يأتي إلينا رغماً عنا ومع ذلك يكون كفارة، فهل أحدٌ أرحم من الله؟ وبعض الأمراض في تكفيرها للسيئات ورحمة الله بها أشد من بعض، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الطاعون كان عذاباً يبعثه الله على من يشاء، وإن الله جعله رحمةً للمؤمنين، فليس من أحد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتبه الله إلا كان له مثل أجر شهيد).(263/5)
رحمة الله في قبول توبة التائبين
أيها المسلمون: ويوم القيامة يتجاوز الله برحمته عن سيئات لا يعلمها إلا هو، لقد رحم الله أقواماً ورحم أفراداً، وجاءت قصصهم متوالية برحمة الله إياهم رغم عظم ذنوبهم وكثرة سيئاتهم، (يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا -ملء الأرض- ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً أتيتك بقرابها مغفرة).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان في بني إسرائيل رجلٌ قتل تسعة وتسعين رجلاً، ثم خرج يسأل فأتى راهباً فسأله، فقال له: هل من توبة؟ قال: لا.
فقتله، فجعل يسأل، فقال له رجلٌ -وهو أحد العلماء-: ائت قرية كذا وكذا، فأدركه الموت فناء بصدره نحوها -نحو القرية الصالحة- فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله إلى هذه الأرض -التي هي من جهة القرية الصالحة- أن تقربي، وأوحى الله إلى هذه الأرض -التي هي من جهة قرية السوء- أن تباعدي، وأرسل ملكاً يحكم بين ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، وقال: قيسوا ما بينهما، فوجد إلى هذه أقرب بشبر فغفر له) وقد قتل مائة، لكن جاء تائباً مقبلاً على ربه.
وفي قصة أخرى يقول صلى الله عليه وسلم: (أسرف رجلٌ على نفسه، فلما حضره الموت أوصى بنيه، فقال: إذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم أذروني في البحر، فوالله لئن قدر عليَّ ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحداً، ففعلوا ذلك به، فقال الله للأرض: أدي ما أخذت، فإذا هو قائم، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك يا رب، فغفر له بذلك).
وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ذكر رجلاً فيمن كان سلفا أو قبلكم آتاه الله مالاً وولداً، فلما حضر قال لبنيه: أي أبٍ كنت لكم؟ قالوا: خير أب، قال: فإنه لم يبتئر عند الله خيراً -فسرها قتادة: لم يدخر، ما عمل خيراً قط- وإن يقدم على الله يعذبه -يقول لأولاده وهو على فراش الموت- فانظروا فإذا مت فأحرقوني حتى إذا صرت فحماً فاسحقوني، ثم إذا كان ريحٌ عاصفٌ فأذروني فيها، فأخذ مواثيقهم على ذلك، ففعلوا، فقال الله: كن، فإذا هو رجلٌ قائم، ثم قال: أي عبدي! ما حملك على ما فعلت؟ قال: مخافتك، أو فرقٌ منك، فما تلافاه أن رحمه الله).
اللهم اجعلنا ممن رحمتهم، وأدخلنا الجنة بغير حساب، اللهم لا تعذبنا فإنك علينا قادر، اللهم إنا نسألك عافيتك ورحمتك التي وسعت كل شيء، فلا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وفرج كربتنا يا أرحم الراحمين.(263/6)
رحمة الله وإنزال النعم علينا
الحمد لله الرحمن الرحيم أرحم الراحمين، فبرحمته سبحانه وتعالى أرسل إلينا رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزل علينا كتابه، وعلَّمنا من الجهالة، وهدانا من الضلالة، كل ذلك برحمته سبحانه.
وبرحمته أطلع الشمس والقمر وجعل الليل والنهار وبسط الأرض وجعلها مهاداً وفراشاً وقراراً وكفاتاً لنا أحياءً وأمواتاً.
وبرحمته أنشأ السحاب، وأمطر المطر، وأطلع الفواكه والأقوات والمرعى.
وبرحمته سخر لنا الخيل والإبل والأنعام وذللها لنا ركوباً نركب ونأكل ونشرب من ألبانها.
وبرحمته احتجب عن خلقه بالنور، لو كشف الحجاب لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.
وأنزل علينا الكتاب وسماه رحمة: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:52]، وقال سبحانه: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ} [يونس:58] بهذا التنزيل بهذا القرآن: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] افرحوا بالقرآن.
إن رحمة الله لا ممسك لها: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر:2]، وهو الذي يقسمها لا يتولى قسمتها أحد: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف:32]، وهو الذي: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الإنسان:31].(263/7)
التحذير من القنوط من رحمة الله
لا يجوز لإنسان أن يقنط من رحمة الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا تسأل عنهم تودع منهم -ما فيهم خير-: رجلٌ ينازع الله إزاره، ورجلٌ ينازع الله رداءه -فإن رداءه الكبرياء وإزاره العز- ورجلٌ في شك من أمر الله والقنوط من رحمة الله) {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56]، وقال عليه الصلاة والسلام: (أكبر الكبائر: الشرك بالله، والإياس من روح الله، والقنوط من رحمة الله) القنوط من رحمة الله من الكبائر، ولذلك: (كان النبي صلى الله عليه وسلم -إذا قرأ القرآن- إذا مرَّ بآية خوف تعوذ، وإذا مرَّ بآية رحمة سأل، وإذا مرَّ بآية فيها تنزيه الله سبح) حديث صحيح رواه أحمد ومسلم والأربعة، وأخذ منه أهل العلم: إذا مرَّ الإمام بالقنوت بكلمات فيها تنزيه الله أن يسبح من يسمع ذلك.
فهل هناك أرحم وأكرم من الله سبحانه وتعالى؟! لكن أين العمل يا عباد الله؟ وأين التوبة والأوبة إلى الله؟ فإن الله: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الإنسان:31]، وقال الله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [لأعراف:56] فأين الإحسان؟ {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56].
اللهم إنا نسألك أن ترحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين، وأن تدخلنا برحمتك يا أرحم الراحمين، أدخلنا في رحمتك إنك على كل شيء قدير، أدخلنا الجنة برحمتك وتجاوز عنا يا أكرم الأكرمين.(263/8)
وقفة مع وصية أحمد خادم الحجرة النبوية
أيها الإخوة: أريد أن أذكر أمراً وهو ورقةٌ يوزعها بعض الجهلة من الناس فيها وصية من يُزعم أنه أحمد خادم الحجرة النبوية، وفيها أنه رأى رؤيا، وأن النبي عليه الصلاة والسلام قال له أشياء في الرؤيا، وفي آخر الورقة مكتوب يجب أن توزع من هذه الورقة سبع نسخ، وإذا لم تعمل ذلك حلت بك المصائب، وفلان لم يفعل ذلك فمات ولده وخسرت تجارته، وفلان وزعها فربحت تجارته وحصل له من الخير كذا، وهذا دجل وكذب وخرافة وشعوذة تنتشر بين السذج الذين لا عقيدة لهم صحيحة، الذين يخشون من ظلهم، وهذه الأوراق بلغ من جهل بعض الناس أنه يصورها ويوزعها في الأسواق وفي تجمعات الناس، وبعضهم من العجم يسمع ولا علم عنده فيوزع، وبعض الجهلة إذا ما كان عنده استطاعة على نسخها بآلة النسخ كتبها بيده سبع نسخ، يتعب عليه الوزر والغضب من الله إلا أن يتوب إلى ربه، ولذلك أقول: يجب تمزيقها، وهذه الخرافة يروجها الصوفية من أعداء الله الذين يسعون لتخريب الدين بهذه الرؤى الكاذبة والأشياء المفتراة المكذوبة، فيجب مقاومة ذلك والسعي إلى إزالته ونصح الناس وتنبيههم، ولا تخلو سنة من السنوات إلا وهناك موسم لهذه الورقة، هذا الرجل الذي يقال: إنه مات من أكثر من مائتين سنة كذب عليه رؤيا يفترونها ويوزعونها بين الناس، فاحذروا من ذلك يا عباد الله.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(263/9)
ألفاظ العامة المخالفة للشريعة
في هذه الخطبة حذر الشيخ من خطر اللسان وذكر أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم في ذلك، ثم أورد كثيراً من ألفاظ العامة التي تخالف الشريعة، فمنها ما هو لفظ شركي، ومنها ما هو ذريعة للشرك والعياذ بالله.(264/1)
التحذير من خطر اللسان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إخواني في الله: لقد جاء الإسلام بحفظ اللسان، ونهى القرآن عن أشياء ذميمة، مما تتحرك به ألسنة الناس لفحشها وكبرها عند الله عز وجل، وأمر اللسان من الأمور الخطيرة؛ لأنه أسرع الأعضاء حركة وأسهلها، فإنه لا شيء أسرع ولا أسهل حركة من اللسان، ولهذا كان الزلل بهذا العضو وهذه الجارحة من الجوارح من أعظم الزلل وأكبره عند الله عز وجل.
ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما علَّم معاذاً رضي الله تعالى عنه حديثاً جليلاً فيه وصايا جامعة، قال له في آخر الحديث: (وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم) فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر الأسباب التي تكب الناس في النار وترميهم فيها هو حصائد هذه الألسنة، ونتائج الكلام.
وقال صلى الله عليه وسلم مهدداً ومتوعداً في الحديث الصحيح الذي رواه مالك رحمه الله والإمام أحمد، عن بلال بن الحارث مرفوعاً: (وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى، ما يظن أن تبلغ ما بلغت -أي: لا يقدر خطورتها، ولا يظن أنها ستبلغ به عذاباً شديداً- فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة) بسبب هذه الكلمة.
وأيضاً فإن المسألة أخطر من ذلك، ويبين رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الخطورة بقوله في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة مرفوعاً: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأساً، يهوي بها سبعين خريفاً في النار) فهذا المتكلم لا يرى فيها بأساً، ويظن أنه لا شيء فيها، ولكنها في الحقيقة تهوي به سبعين خريفاً في نار جهنم، ولذلك كان لا بد من المحافظة على هذا اللسان وجعل المجال الذي يستعمل فيه مجال خير وإصلاح ودعوة إلى الله وطلب العلم وذكر الله عز وجل.
نحن -أيها الإخوة- في هذا المقام نتكلم عن قضية مهمة، وهذه القضية لو أنك تأملت معي في ألفاظ العامة اليوم، من الأمثال ونحوها، لوجدت أن في ألفاظ العامة وأمثالهم أموراً مستشنعة، وبشعة، وبعضها يخالف العقيدة ويمسها مساساً سيئاً، وبعض هذه الأشياء ورد فيها النهي الصريح، وبعضها إذا تأملت فيها عرفت مصدر الخطر وعظم الأمر.
وسوف نضرب بعض الأمثلة على ما يتداوله العامة اليوم في كلامهم من الأمور المستبشعة المخالفة للعقيدة أو للأدب الإسلامي على الأقل.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لا يقول أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، اللهم ارزقني إن شئت، وليعزم في المسألة، فإنه يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى) ولذلك ما يفعله بعض الناس من قولهم: اللهم اغفر لي إن شئت، فهذا لا يجوز.
وكذلك -أيها الإخوة- بعض الناس يقول عند الحلف مثلاً، أو إذا أراد أن يعزم على نفسه في مسألة يقول: أنا بريء من الإسلام لو فعلت كذا، أو يقول: ترى أنا يهودي لو فعلت كذا، أو أنا نصراني أو كافر لو فعلت كذا، يريد أن يمنع نفسه من الوقوع في هذا الأمر بعزم وقوة، وهذا خطير جداً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح الذي رواه النسائي عن بريدة رضي الله عنه: (من قال: إني بريء من الإسلام، فإن كان كاذباً فهو كما قال، وإن كان صادقاً لم يعد إلى الإسلام سالماً) سيناله شيء من الخدش في العقيدة الذي سببه هذا الكلام؛ ولذلك ينبغي إذا أراد الإنسان أن يعزم في مسألةٍ من الأمور أو يبين للناس بأنه لم يفعل هذا الكلام فإنه لا يستخدم مثل هذه الألفاظ البشعة المخالفة للعقيدة، كونك ترفض أن تعمل أمراً من الأمور هذا لا يعني أن تعرض نفسك للخروج من الدين، أو تقول: بأنك يهودي أو نصراني، من المسميات التي تطلق على الأمم الكافرة.(264/2)
ألفاظ شركية يقع فيها كثير من الناس
بعض الناس في حلفهم يحلف بغير الله تعالى، فتجد أن بعضهم يحلف بالأمانة مثلاً، ويقول: والأمانة ما أفعل كذا، أو شخص يحلف الآخر يقول: بأمانتك حصل كذا وكذا، أو بالأمانة حصل كذا وكذا إلخ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: (من حلف بالأمانة فليس منا) وبعضهم يقول: بذمتك ما حصل كذا وكذا، أو بذمتي ما حصل كذا، أو وحياة أبي ما حصل كذا، أو وحياتي وحياتك ما حصل كذا إلخ.
أو يقسم بشرفه هذه كلها من الأمور المحرمة: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
وبعضهم يحلف بالنبي فيقول: والنبي أعطني الشيء الفلاني، والنبي ما حصل كذا، فهذا أيضاً حرام لا يجوز، حتى ولو كان نبي الله صلى الله عليه وسلم، لأننا مع احترامنا لرسول الله عليه الصلاة والسلام فإننا لا نرفعه فوق منزلته التي أنزله الله إياها.
بعض الناس يقول في عباراته أشياء من الشرك؛ كقوله مثلاً: لولا فلان ما حصل كذا لولا الله وفلان ما حصل كذا، وهذا خطأ، وإنما الصحيح أن يقول: لولا الله ثم فلان، وبعضهم يقول: أنا بالله وبك، أو أنا في جوار الله وجوارك، أو أنا في وجه الله ووجهك، كما يقع من البعض، أو يقول: أنا في حسب الله وحسبك، أو يقول: أنا متوكل على الله وعليك، أو أنا معتمد على الله وعليك، هذا كله محرم، لا بد أن يقول: أنا معتمد على الله ثم عليك، أو يقول: أنا متوكل على الله ثم عليك في فعل القضية الفلانية.
وكذلك لما جاء أحد الصحابة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال له (ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله نداً -أجعلتني لله شريكاً، أساويت مشيئتي بمشيئة الله- قل: ما شاء الله وحده).(264/3)
النهي عن سب الدهر
كذلك يقع كثير من الناس في عبارات فيها سب الدهر، يقول مثلاً: يا خيبة الدهر، ويقول صلى الله عليه وسلم: (لا يقولن أحدكم: يا خيبة الدهر، فإن الله هو الدهر).
وبعض الناس يقول: الله يلعن الساعة التي صار فيها كذا وكذا، ويلعن السنة التي صار فيها كذا وكذا، هذه ساعة سيئة التي حصل فيها كذا وكذا، هذا زمن تعيس الذي حصل فيه كذا وكذا، وهذا يؤدي كله إلى سب الدهر، والله تعالى هو خالق الدهر، فسبُّك للساعة أو اليوم أو السنة أو الدهر أو الزمان، يرجع إلى من؟ يرجع إلى الله الخالق لهذا الدهر وهذه الساعة وهذه السنة، لذلك لا بد من الحذر حذراً شديداً في هذا الأمر.(264/4)
استغاثات غير شرعية
بعض الناس يستغيثون في عباراتهم بالمخلوقين، فيقول مثلاً: بجاه النبي أفعل كذا، أو يسأل الناس يقول: بجاه النبي لا بد أن تتغدى عندي، هذا السؤال بجاه النبي صلى الله عليه وسلم وهو أحد المخلوقين بل هو أعظم المخلوقين قاطبةً منافٍ للسؤال بالله عز وجل، فإن الله تعالى يقول: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180]، وقال: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] لو أردت أن تدعو لا تقل: بحق الولي الفلاني، بحق النبي، بجاه النبي، وإنما قل: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الواحد الأحد، اللهم إني أسألك بأنك أنت الله المنان إلى آخره.
تقول هذه الأسماء الحسنى التي وردت لله عز وجل في القرآن والسنة، بأنك على كل شيء قدير، اللهم إني أسألك بأنك رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما ارحمني، إنك أنت الغفار اغفر لي: وهكذا، تسأل الله بأسمائه الحسنى، أما أن تسأل بأسماء المخلوقين أو بحق النبي الفلاني أو الولي الفلاني، أو كما يفعل بعض الجهلة يستغيثون بغير الله، أو بعضهم يستغيث بالجن، ويقع هذا في بعض القبائل وبعض الأماكن أنه يقول: يا جن! افعلوا به كذا وكذا، أو يا جن! خذوه، أو يصرخ في الوادي خذوه، يقصد صاحباً له أو عدواً صارت بينه وبينه مشكلة، فيقول: يا جن! افعلوا به كذا، هذا كله من الأمور المحرمة التي لا تجوز.(264/5)
حرمة المغالاة في المخلوقين ورفعهم فوق منزلتهم
كذلك يقع في ألفاظ بعض العامة مغالاة في المخلوقين ورفعهم فوق منزلتهم رفعاً لا يجوز مطلقاً في الشريعة الإسلامية؛ كتسييد بعض الناس، أو كتسييد أي واحد من الناس، كقولهم: سيدي فلان، أو يا سيدي فلان، هذا حرام لا يجوز، وأعظمه عندما يكون نداءً للمنافق أو الكافر أو الفاجر أو المبتدع أو العاصي الفاسق بقولك له: يا سيدي، هذا حرام أيضاً لا يجوز (لا تقولوا للمنافق: يا سيد، فإن قلتم ذلك فقد أغضبتم ربكم).
ولذلك ما يقع عند بعض الناس من الكتابة على الرسائل أو الخطابات، السيد فلان، أو في الفواتير التجارية: السادة شركة كذا وكذا، هذا أيضاً منهي عنه، وإنما تقول: المكرم كذا، فلان كذا، حضرة فلان كذا، لكن لا تغال ولا تطلق ألقاب المدح على من ليس بأهل، كأن تخاطب الفاسق بهذه الأشياء، ينبغي أن نبتعد عن هذه الألفاظ.(264/6)
منهيات شرعية في باب التحية والتهنئة
رد الإسلام تحيات الجاهلية وتهنئاتها وتسمياتها ومسمياتها وعاداتها، لأن الإسلام يحرص على تميز المسلم وابتعاده عن مشابهة الكفرة وأحوال الجاهلية.
من عقيدة الإسلام التميز عن سائر ألوان البدع والكفر والجاهليات، فالإسلام يحرص على أن يبرز المسلم بين الناس بروزاً صحيحاً لا لبس فيه من شرك ولا بدعة، يحرص الإسلام على أن المسلم يكون متميزاً بأخلاقه وعقيدته وشكله ومظهره عن سائر أمم الكفر وفرق الضلال.
ولذلك نهى الإسلام عن التشبه بالنصارى، ونهى عن التشبه بالكفار، ونهى عن التشبه بالأعاجم، ومن ضمن هذه الأشياء نهيه عن تحية المسلمين بعضهم لبعض بتحيات الجاهلية، فلذلك نهى صلى الله عليه وسلم المسلم أن يقول لأخيه: أنعم صباحاً، أو أنعمت صباحاً، وما شابه ذلك من الألفاظ؛ لأنها من تحيات الجاهلية، وإنما يقول الإنسان المسلم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أو يقول: مرحباً وأهلاً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (مرحباً بابنتي فاطمة) إلى آخر ذلك من الألفاظ الحسنة الطيبة التي لا يعلم اختصاص الكفار بها، فمتى علم اختصاص الكفار بهذه الأنواع فلا يجوز حتى وإن كانت حسنة في ظاهرها.
ولذلك نهى الإسلام عن أن يهنئ الناس المتزوج بقولهم: بالرفاء والبنين كما يحدث اليوم، وتطبع هذه الكلمة على بطاقات التهنئة ودعوات وولائم الأعراس، فإنهم يقولون: بالرفاء والبنين، أو بالرفاه والبنين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم نهى في الحديث الصحيح عن هذا النوع من التهنئة، لماذا؟ أما كلمة الرفاء: فإنها تعني الالتحام والمقاربة والوئام وهذا لا إشكال فيه، أن تدعو للمتزوجين بالمقاربة والوئام والتوافق.
ولكن الإشكال في قولهم: بالبنين، لماذا أيها الإخوة؟ لأن العرب كانوا يكرهون البنات، وكانوا يئدون البنات وهن أحياء، وكانوا ينسبون البنات لله عز وجل: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل:58] ولذلك كان إذا جاء أحدهم البنت تمنى موتها، وإذا أتى لجاره بنت تمنى له أن تموت البنت وهكذا.
ولذلك كانوا يقولون في تهنئتهم بالزواج: بالرفاء والبنين، أي: الذكور وألا يجيئك إناث، ولذلك حرَّم هذا القول في الإسلام ونهي عنه، وإنما تقول مهنئاً للمتزوج أو المتزوجة: (بارك الله لكما، وبارك عليكما، وجمع بينكما في خير) وكم يود الإنسان المسلم إذا فتح بطاقة من هذه البطاقات، أو تهنئة من هذه التهنئات بدلاً من أن يجد بالرفاء والبنين أو بالرفاه والبنين كما هي تهنئة الجاهلية، يجد مثلاً: (بارك الله لكما، وبارك عليكما، وجمع بينكما في خير).
لا بد أن نتميز عن الكفار وأهل الجاهلية في ألفاظنا وعباراتنا وتحياتنا وتهنئة بعضنا لبعض.(264/7)
النهي عن الدعاء بطول العمر والبقاء
يقع أيضاً في ألفاظ العامة الدعاء بطول العمر والبقاء، فتجد أحدهم يقول: أطال الله بقاءك، أو أطال عمرك، أو أدام الله أيامك، أو عشت ألف سنة وهكذا.
هذا اللفظ مكروه، ولما سئل الإمام أحمد عن الدعاء بطول العمر؟ كرهه، وقال: إنه أمر قد فرغ منه، أي: أن عمر هذا الرجل قد كتب وهو في بطن أمه، كتب هذا العمر وانتهى وفرغ منه قبل أن يلد الرجل، فما فائدة أن تقول: أطال بقاءك، أو أطال عمرك، أو دامت أيامك، أو عشت كذا آلاف السنين إلى آخر ذلك من الأشياء المستحيلة.
أو يقول بعضهم في جواب على كلمة حياك الله، يقول: أبقاك الله، وكلمة أبقاك الله كلمة مكروهة، لماذا؟ لأنه لا بقاء إلا لله، كل الناس سيموتون ويفنون: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن:27] ولذلك يكره أن تقول: أبقاك الله، أو أدامك الله؛ لأن الله لن يديم أحداً ولن يبقي أحداً، كل الناس سيموتون.
فلننتبه -أيها الإخوة- لهذه الألفاظ المشكلة أو المكروهة أو المحرمة، وتحذير الناس منها.
وكذلك ما يفعل البعض في تعازيهم عندما يقولون: البقية في حياتك! هذه لفظة منكرة، لو كان هناك بقية هل مات الرجل؟ لو كان هناك بقية في عمر الرجل الذي مات هل كان سيموت؟ لا.
ولذلك عندما تقول: البقية في حياتك، وهذه العبارة قد يقصد بها بقية عمر ذلك الرجل الذي انقطع، بقيته في حياتك أنت، وهذه لفظة منكرة مستبشعة فلا يقول شخص لآخر: البقية في حياتك، فأما إن قصد: بقية الخير وبقية البركة، فهذا لا إشكال فيه، ولكن كثير من الناس إنما يقصدون بهذه اللفظة بقية عمر الميت في حياتك أنت، وهذه مسألة غير جائزة، والدعاء فيها غير صحيح.(264/8)
مخالفات شرعية في باب الرجاء
ويقع في ألفاظ العامة كذلك: رجاؤهم وتعلقهم بغير الله عز وجل، فتجد أحدهم في لحظة الحرج ولحظة الشدة، واللحظة التي يكون فيها في خطر محقق، يقول للآخر: أرجوك رجاءً حاراً، رجاءً خاصاً كذا وكذا من ألفاظ الترجي ألا تفعل كذا، وافعل كذا، بينما من المفروض أن يتوجه في هذه الحالة إلى الله تعالى لأنه هو الذي يرجى وحده عز وجل؛ لإزالة الضر وكشف الكربة وإزالة الخطر، وإن كان لا بد فيقول: أرجو الله ثم أرجوك، مثلاً.
وهذه اللفظة (أرجوك) ليست محرمة إن لم يرجوه في عمل لا يقدر عليه إلا الله، إذا قال: أرجوك يا دكتور أن تشفي مريضي، هذا حرام وشرك؛ لأن الله هو الذي يشفي، أما لو قال: أرجوك -يا فلان- أن تذهب بهذه الحاجة إلى جيراننا، هذا لا إشكال فيه.
لكن الرجاء الذي يكون في مجال أو في قضية لا يقدر عليها إلا الله فهو شرك بالله تعالى، ولهذا تجد بعض الأمهات الفارغات قلوبهن من الإيمان والتوحيد، وبعض الآباء الذين استزلهم الشيطان، إذا ذهبوا بولدهم وحالته خطيرة إلى الطبيب، يقول له: يا دكتور! أرجوك أنقذ الولد، فمن الذي ينقذ الولد؟ ومن الذي يشفي الولد؟ إنه الله.
أيها الإخوة يقع في ألفاظنا وعباراتنا تساهلات شنيعة تؤدي إلى قضايا خطيرة إذا اعتقدها الإنسان تخرجه من الملة، ونحن عندما نقول هذه التحذيرات لا نقول: إن كل من تلفظ بها كافر.
حتى لو كانت العبارة نفسها كفر، لماذا؟ لأن كثيراً من القائلين لا يقصدونها، لا يقصد المعنى، لا يعتقد بقلبه أن الطبيب هو الذي يملك الشفاء من دون الله.
يعتقد أن الله يشفي ولكن هذه الأخطاء لا يسكت عنها مع ذلك، كون الناس الآن يقعون فيها بغير قصد أو بنية حسنة لا يعني أن نقول لهم: لا بأس استمروا على هذه الألفاظ لا.
لا بد أن نحذر ونصحح هذه الألفاظ، حتى لو ما قصدنا المعنى لا بد أن تكون ألفاظنا صحيحة، لا تكون ألفاظنا شركية أو موهمة أو فيها اشتباه؛ لا بد أن تكون ألفاظاً واضحة دالة على التوحيد.
وفقنا الله وإياكم لقول الحق وعمل الحق، وأن نكون من أهل الحق، وصلى الله على نبينا محمد.(264/9)
ألفاظ في ميزان الشريعة
الحمد لله لا إله إلا هو وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله سيد الأبرار، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.(264/10)
(حكم مقولة: (شاءت الأقدار أو الظروف
أيها الإخوة: يقع بعض الناس في ألفاظ مثل قولهم: شاءت الظروف، أو شاءت الأقدار، فتجده يقول: ثم شاءت الظروف أن يحدث كذا وكذا، وشاءت الظروف أن أجد فلاناً في مكتبه وهكذا، وهذا أيضاً من الأشياء المخالفة للتوحيد، فإنك لا بد أن تقول في كلامك: وشاء الله أن أجد فلاناً في مكانه، وشاء الله أن يقف لي على الطريق فلان الفلاني، وشاء الله أن يحدث كذا وكذا، فتنسب المشيئة إلى الله وحده سبحانه وتعالى.(264/11)
(حكم مقولة: (هذا الطائر وهبته الطبيعة كذا وكذا
يقع في ألفاظ بعض الناس المثقفين عبارات كفرية مثل قول بعضهم: هذا الطائر وهبته الطبيعة كذا وكذا، وهذا الحيوان وهبته الطبيعة المقدرة الفلانية من الواهب؟ إنه الله عز وجل.
أيها الإخوة! عندما ننسب الوهب للطبيعة نكون قد وقعنا في عين ما تكلم به الشيوعيون وأهل الإلحاد الذين يعتقدون أن الطبيعة خلقت هذا الكون وخلقت هذه الحيوانات وخلقت الأرض والسماوات تعالى الله عن هذا القول علواً كبيراً.
وهذا يكون من تأثر كثير من هؤلاء المثقفين كما يسمون بكتب الكفار الملاحدة التي كتبت وسبكت عباراتها بألفاظ الإلحاد والشرك، التي انطوت عليها قلوب أولئك الناس الذين لا يؤمنون بالله رباً، ولا بمحمد نبياً، ولا بالإسلام ديناً، ولذلك ينبغي عند نقل عباراتهم من هذه الكتب أن يحرص الإنسان المسلم على أن ينقل العبارات بصيغة إسلامية، وعلى أن يؤديها إلى السامعين تأدية تتقيد بالتوحيد وما يرضي الله عز وجل، وكذلك ما يرد في بعض هذه الكتب التي تسمى كتباً علمية من القوانين والقواعد المخالفة للتوحيد، مثل قولهم: إن المادة لا تفنى ولا تستحدث، هكذا يقولون، في علم الفيزياء مثلاً.
وهذه القاعدة مخالفة للتوحيد، ومخالفة لقضية خلق الله للمادة، وأنه لم يكن هناك شيء، فخلق الله تعالى السماوات والأرض وخلق العرش وخلق الحيوانات وخلق الآدميين وخلق سائر ما يدب في الأرض والسماوات، والله تعالى قادر على أن يفني هذه الأشياء كلها ويرجعها إلى العدم إلى لا شيء مرة أخرى كما كانت.
فلذلك قولهم: إن المادة لا تفنى ولا تستحدث، إنما هو من الوقوع في هذا الشرك المنافي للتوحيد، وهذا الكفر والضلال، ولذلك يجب على من درس شيئاً من هذه المواد، أن يبين لطلاب المسلمين وأبناء المسلمين خطأ هذه المعتقدات والقواعد الفاسدة.(264/12)
حكم مقولة: (عباد الشمس)
إن التسميات المخالفة للعقيدة قد وصلت إلى حد التسميات حتى تسمية الورود والأزهار، فأنت -مثلاً- إذا نظرت إلى هذا النبات الأصفر الذي يتوجه إلى الشمس، هناك نبات يزرع ويتوجه إلى الشمس إذا أشرقت، ويستدير معها حتى تغرب، فيكون متوجهاً إلى جهة الغرب في المساء وإلى جهة الشرق في الصباح.
ماذا يسمي العامة هذا النبات؟ يسمونه: عباد الشمس، أو عبادة الشمس، وهذا اسم خطير، يقولون: إن هذا النبات يعبد الشمس، هذه الألفاظ ليست سهلة، ولكن مع ذلك فهي شائعة حتى في الأشياء الدقيقة، مثل تسمية الأزهار وغيرها.
لا بد أن ننتبه إلى هذه القضايا المخالفة للتوحيد.(264/13)
حكم قول: (مطرنا بنوء كذا)
عندما ينزل مطر من السماء تجد بعض العامة يقولون: هذا النجم، طلع النجم كذا، وتتعلق قلوبهم بأن الذي أنزل المطر هو ظهور النجم الفلاني، وليس هكذا أيها الإخوة، لذلك ورد في الحديث الصحيح عن الذين قالوا: مطرنا بنوء كذا وكذا، مطرنا بنجم كذا وكذا، هؤلاء قد أشركوا بالله تعالى: (أصبح اليوم مؤمن بي وكافر بالكوكب، وكافر بي ومؤمن بالكوكب، فأما الذين قالوا: مطرنا بنوء كذا وكذا، فهم مؤمنون بالكوكب كافرون بالله، وأما الذين قالوا: مطرنا بفضل الله وهذا المطر من الله وحده، فهم الذين أصابوا الحق وكانوا على ملة التوحيد).
ويقع عند بعض العامة أيضاً، أنه إذا نزل المطر بكثافة وأغرق أشياء يقولون: هذه قطرة ما وزنت، تعال الله عن ذلك، إن الله تعالى يقول: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8]، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر:21] لا شيء ينزل من السماء بلا حساب ولا وزن، إن الله تعالى عنده خزائن هذه الأشياء ينزلها كيف يشاء، إن حصل غرق فهذا ابتلاء من الله، وعقاب لبعض عباد الله.(264/14)
حكم قول: (ما صدقت على الله أن يحدث كذا)
كذلك يقع في ألفاظ العامة قول بعضهم لبعض، أو قول بعضهم في حكاية يرويها: ما صدقت على الله أن يحدث كذا، أو: ما صدقت على الله أن تنتهي المشكلة، ما صدقت على الله أن أنجو من الحادث، ما صدقت على الله أن أنجو من الإحراج الفلاني وهكذا! هذه العبارات من العبارات المشكلة والموهمة، لماذا؟ لأنه قد يكون معنى ما صدقت على الله مثلاً، يكون معناها: أن هذا القائل يشك في قدرة الله، ما صدقت على الله أن يفعل كذا، كان يشك في قدرة الله ثم حصل، هذا احتمال، واحتمال آخر: أن يكون في هذه العبارة سوء ظن بالله كيف ذلك؟ كأن هذا القائل يقول: ما ظننت أن الله يخلص هذه المشكلة، أو ينهي هذه المشكلة، ولكن حصل، هذا يعني سوء الظن بالله عز وجل، وإن كان كثير من الذين يقولون هذه العبارة لا يعنون المعنى الفاسد والباطل، لكن لا بد من التصحيح، تقول مثلاً: ما صدقت أن يحدث كذا، ما ظننت أن يحدث كذا، لماذا تضيف عليها كلمة (على الله) وتقول: ما صدقت على الله، فتقع في هذه الإشكالات والعبارات الموهمة.(264/15)
حكم قول: (الله يسأل عن حالك)
كذلك قول بعض أهل البادية، إذا جئته وقلت له: كيف حالك؟ يقول: الله (ينشد) عن حالك، أو الله يسأل عن حالك! أقول: الله عز وجل يعلم العلم كله، لا يحتاج إلى سؤال عن أحد، وتجد هؤلاء يقولون: الله يسأل عن حالك، كأنها عبارة يريدون أن يكرمون بها الشخص الآخر الذي سأل عن حالهم، وهذه عبارة خاطئة تخالف المفهوم الصحيح للعقيدة.(264/16)
حكم قول: (الله على ما يشاء قدير)
بعض الناس يقول: الله على ما يشاء قدير، من الألفاظ الموهمة التي تؤدي إلى تأكيد مذهب القدرية، الذين يقولون: إن هناك أشياء يشاؤها الله تحدث، وأشياء لا يشاؤها الله لا يستطيع أن يحدثها، ولذلك يقولون: الله على ما يشاء قدير، فهو إذن على ما لا يشاء ليس بقدير.
هذه العبارة من الذرائع التي ينبغي أن تسد، وإنما نقول: إن الله على كل شيء -شائه أو لم يشئه-.
على كل شيء قدير؛ لأن بعض الناس يفهمون أن الله فيفهم على ما لا يشاء ليس بقدير.(264/17)
النهي عن اختصار بعض الألفاظ
كذلك يقع في ألفاظ العامة قولهم: لا حول لله، اختصار عبارات، يقع في بعض الأحيان اختصار عبارات، وتغييراً وتحريفاً فيها يؤدي إلى معانٍ قبيحة، مثل قول بعضهم: لا حول لله، أو لاحول الله، والصحيح: لا حول إلا بالله، أو لا حول ولا قوة إلا بالله، أما أن يحدث الاختصار الشنيع: لا حول لله، أي: لا قوة لله، فهذا شيء مستبشع، أو يقول بعضهم عند التكبير: الله أكبار بمد التكبير، وما هو الأكبار أيها الإخوة؟ الأكبار جمع كبر وهو الطبل، فإذا قلت: الله أكبار كأنك تقصد: الله طبول، أو هذا مفهوم كلامك الذي يفهم منه، وإنما تقول: الله أكبر، بالفتحة وليس بالألف أكبار كما يفعل البعض.
أو يقولون في الفاتحة: إياك نعبد، لا يقولون: إيَّاك نعبد بالتشديد، وإنما يقول: إياك نعبد، والإياك هو قرص الشمس، معنى ذلك: أننا نعبد قرص الشمس، والصحيح الموجود في كتاب الله: إيَّاك نعبد، بتشديد الياء.
أو كما يفعل بعض المؤذنين اختصاراً يقول: حصلاة، بدلاً من: حي على الصلاة وهكذا، أو يقول بعض الناس الذين يحيون بعضهم يقول: كالله بالخير، أو ساك الله بالخير، أو الله بالخير ونحو ذلك، وهذا خطأ لأن هذه الكاف كاف التشبيه، كيف (كالله بالخير) عبارة خاطئة خطيرة لا بد أن نقول: مساك الله بالخير واضحة، ولا داعي للاختصارات، ما وراءك شيء يعجلك عن قول التحية بعبارة صحيحة كاملة، قل: مساك الله بالخير، لا تقل: كالله بالخير.(264/18)
التحيات لله فقط
كذلك هناك من الأشياء ما هو من الأدب تركه، قد لا يكون حراماً في ذاته، ولكن من الأدب تركه، مثل عبارة: تحياتي لفلان، لا يعلم -كما قال بعض أهل العلم- أن جمعت التحية بالتحيات إلا لله وحده في التشهد: التحيات لله، فلذلك لا يستحب جمعها لأحد غير الله تعالى، فتقول -مثلاً-: تحيتي لفلان، أو أبلغ فلان تحيتي، ولا تقل: تحياتي، أو أبلغ تحياتي لفلان، لأننا نقول في التشهد: التحيات لله، أدباً مع الله.
القضية واسعة ومتشعبة، وهناك ألفاظ وأمثال مخالفة للعقيدة مخالفة صريحة، أو فيها سوء أدب مع الله عز وجل على الأقل، ينبغي أن ننقح وندقق في هذه الألفاظ التي تخرج من الألسنة.
وفقنا الله وإياكم أن نحصن ألسنتنا من الكذب والشرك والنفاق.
اللهم طهر قلوبنا من الرياء، وألسنتنا من النفاق، وأعمالنا من الكذب، اللهم واجعلنا مخلصين العبادة لك، اللهم واجعلنا من أهل ملة التوحيد، أهل لا إله إلا الله، عليها نحيا وعليها نموت، وعليها نلقاك يا رب العالمين.
وصلوا على نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإن من صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آله إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آله محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.(264/19)
الولاية بين المؤمنين
لقد نهى الله عز وجل المؤمنين عن موالاة الكفار والركون إليهم، ولو كان الأب أو الأخ أو القريب عدواً لله فإنه يجب التبرؤ منه، ومعاداته في الله سبحانه وتعالى، وفي المقابل أمرنا الله عز وجل بولاية المؤمنين وبمحبتهم الجالبة لمحبة الله، وكذلك أمرنا بالذل لهم ونصرتهم، وغيرها من الأمور التي يجب أن تكون بين المؤمنين.(265/1)
التحذير من موالاة الكفار
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
الجواب
=6000394> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
الجواب
=6000493> يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
الجواب
=6003602> يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة: تكلمنا في الخطبة الماضية عن ولاية المؤمن لربه عز وجل، وأنه ينبغي لكل مسلم أن يتخذ الله سبحانه وتعالى ولياً لا شريك له، ونحن اليوم نذكر ولاية المؤمنين لبعضهم بعضاً.
إن الله سبحانه وتعالى وصف المؤمنين والمؤمنات بقوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71]، وحصر الله الولاية فيه عز وجل وفي رسوله وفي المؤمنين، فقال: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:55]، وأخبر عن عاقبة الولاية بقوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56]، ونهى عن اتخاذ الكفار أولياء، وأمر بجهادهم وقتالهم، فقال: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [النساء:89]، وكما أن بضدها تتميز الأشياء، فإنه لا يكفي معرفة التوحيد، بل يجب معرفة الشرك، وكما أنه لا يكفي موالاة المؤمنين فإنه يجب معاداة الكافرين، وعندما يأمر الله باتخاذ المؤمنين أولياء ويأمر بمناصرتهم فإنه ينهى عن اتخاذ الكفار أولياء: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران:28] قال ابن جرير رحمه الله: "من اتخذ الكفار أعواناً وأنصاراً وظهوراً يواليهم على دينهم، ويظاهرهم على المسلمين فليس من الله في شيء".
أي: قد برئ من الله، وقد برئ الله منه.
وعندما يأمر الله بالتعاون مع المؤمنين، وأن يكون المؤمنون إخوة يشد بعضهم من أزر بعضٍ، ويركن بعضهم إلى بعض، فإنه ينهى عن الركون إلى الكفار، يقول سبحانه وتعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [هود:113]، والركون هو الاستناد والاعتماد والسكون إلى الشيء والرضا به، لا توادوهم ولا تطيعوهم ولا تميلوا إليهم، وهذه الآية دليلٌ على وجوب هجر أهل الكفر والمعصية والبدعة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة:23] لو كان الأب أو الأخ أو القريب عدواً لله فإنه يجب عليك أن تتبرأ منه، وأن تعاديه في الله سبحانه وتعالى، والذي لا يفعل هذا الفعل فإنه ظالم لنفسه.
وموالاة الكفار وأعداء الدين من صفات المنافقين، قال الله سبحانه وتعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [النساء:138 - 139] يعز من يشاء ويذل من يشاء، وبماذا ذم الله الكفار من بني إسرائيل؟ لما قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} [المائدة:78] قال بعدها: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة:80 - 81] قال ابن تيمية رحمه الله: "فدل على أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده، ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء في القلب أبداً".
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51] (ومن يتولهم) يدخل فيها من دخل في دينهم بعد التزام الإسلام، فعندما نقول: من دخل في دينهم، قد يستبعد البعض اليوم أن يدخل مسلمٌ في دين النصارى، ولكن الواقع المؤسف أن كثيراً من المسلمين قد دخلوا في دين النصارى، وقد حدثني بعض الإخوان أن بعض النشرات التبشيرية التي تصل إلى بعض المسلمين عن طريق صناديق البريد قد حرفت بعض المسلمين من أصحاب أسماء الأسر الإسلامية إلى دين النصارى والعياذ بالله! ويدخل في قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، أي: ولاية التحالف والتناصر مثلما كان واقعاً قبل الهجرة بـ المدينة، فإنه كان بين بعض الأنصار الذين أسلموا بعد ذلك، وبين جماعاتٍ من اليهود أحلافٌ ومناصرات نتيجةً لتشابك المصالح والأواصر، فنهى الله عن ذلك، وفك جميع هذه الأحلاف والمناصرات، فقال: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51].(265/2)
صور من موالاة المؤمنين بعضهم بعضاً
لقد سار رسول الله صلى الله عليه وسلم في تربيته لأصحابه على تحقيق مبدأ الموالاة للمؤمنين والمعاداة للكافرين، وكانت هذه التربية تسير بخطىً ثابتة متشابكة، يأخذ بعضها برقاب بعضٍ حتى تؤدي إلى تكوين الشخصية الإسلامية النقية، القائمة على موالاة الله ورسوله والمؤمنين، ومعاداة الكافرين.
ومن الأمثلة على ذلك في الواقع المكي: إنشاء دار الأرقم التي كانت محط المسلمين ومقرهم، يتعارفون فيما بينهم، ويتناصرون ويتآخون، ويأخذ بعضهم بيد بعضٍ، حتى تحقق تكوين القاعدة الصلبة التي قام عليها المجتمع الإسلامي الكبير فيما بعد، وأما في المدينة فإن أمثلة موالاة المؤمنين لبعضهم كثيرة، منها: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار التي أرسى دعائمها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان بعضهم يقول لأخيه: اختر أي زوجتيَّ أحب إليك لأطلقها فتتزوجها أنت، وأشاطرك مالي، وكان بعضهم ممن لا يملك المواساة يترك داره وأهله في المدينة وهو من الأنصار، ويأتي ليقيم بين أهل الصفة؛ في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل الصفة هم: الفقراء القادمون ممن لا أهل لهم ولا عشيرة- فيقيم بينهم، ومنهم الصحابي الجليل كعب بن مالك رضي الله عنه.(265/3)
مقتضيات الأخوة والولاية للمؤمنين
اعلموا أيها الإخوة: أن ولاء المؤمنين له مقتضيات كثيرة:(265/4)
محبة المؤمنين الجالبة لمحبة الله والذل لهم ونصرتهم
فمنها: محبتهم الجالبة لمحبة الله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم:96]، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، وقال: (المرء مع من أحب).
ومنها: الذلة لهم المقتضية لين الجانب، وتوطئة الأكناف، قال الله في وصف المؤمنين: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54].
ومنها: نصرة المؤمنين بعضهم بعضاً في حضورهم وفي غيبتهم، ولقد كان هذا المبدأ مستقراً في النفوس لدرجةٍ عظيمة في الصدر الأول من الإسلام، حتى أن أهل العقبة لما بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من ضمن أركان البيعة: موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين ومقاتلتهم، حتى لو وصل الأمر إلى التضحية بالنفس والمال، فقال الله ممتدحاً الأنصار: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال:74] هؤلاء المهاجرين: {وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} [الأنفال:74] آووا المهاجرين ونصروهم، وقال عليه الصلاة والسلام: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه)، وقال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) رواهما البخاري في صحيحه.
وقال صلى الله عليه وسلم مبيناً هذا الأمر وأهميته -أعني: الذب عن عرض أخيك المسلم- (ما من امرئٍ يخذل امرأً مسلماً في موطنٍ ينتقص فيه من عرضه، وتنتهك فيه حرمته، إلا خذله الله في موطنٍ يحب فيه نصرته -يكون محتاجاً للنصرة هذا الخاذل ويحب أن يُنصر فيخذله الله؛ لأنه خذل أخاه المسلم- وما من امرئٍ ينصر مسلماً في موطنٍ ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطنٍ يحب فيه نصرته) حديث حسن، رواه الإمام أحمد وغيره عن جابر رضي الله عنه.
فالولاء للمؤمنين وحبهم ومناصرتهم من أي جنسٍ كانوا، وبأي لغةٍ تكلموا ونطقوا، وفي أي مكانٍ حلوا وأقاموا.
من مقتضيات ولاية المؤمنين: أن يكون المؤمن مع إخوانه قلباً وقالباً، يفديهم بنفسه وماله، ويذب عنهم بلسانه وسنانه، يألم لألمهم، ويفرح لفرحهم، وقس على ذلك سائر حقوق الأخوة التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم.(265/5)
عدم تولية غير المسلمين على المسلمين
ومن مقتضيات الأخوة والولاية للمؤمنين: عدم تولية غير المسلمين على المسلمين، قال ابن تيمية رحمه الله: روى الإمام أحمد بإسنادٍ صحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قلت لـ عمر رضي الله عنه: إن لي كاتباً نصرانياً -وجدت رجلاً يجيد الكتابة والحساب جعلته عندي كاتباً يحسب في أمور المسلمين، ويكتب شئونهم- قال: مالك قاتلك الله -كان عمر شديداً في دين الله- أما سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] ألا اتخذت حنيفاً؟ -أي: موحداً مسلماً، جعلته في هذه الوظيفة- قال: قلت: يا أمير المؤمنين! لي كتابته وله دينه -أنا آخذ منه كتابته وعمله وله دينه، كفره عليه- فقال عمر رضي الله عنه: لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أبعدهم الله.
لا يمكن.
وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله الخليفة العادل إلى بعض عماله يقول: أما بعد فإنه قد بلغني أن في عملك كاتباً نصرانياً يتصرف في مصالح المسلمين، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:57] فإذا أتاك كتابي هذا فادع حسان بن زيد -هذا الكاتب النصراني اسمه حسان بن زيد - إلى الإسلام، فإن أسلم فهو منا ونحن منه، وإن أبى فلا تستعن به ولا تتخذ أحداً على غير دين الإسلام في شيءٍ من مصالح المسلمين، فأسلم حسان وحسن إسلامه.
ولقد لعب هؤلاء الكتبة أدواراً في هدم الإسلام عبر التاريخ الإسلامي، فلعب ابن العلقمي الرافضي الخبيث دوراً مهماً في تسليم بغداد للتتر الكفار، ومن الأمثلة الأخرى على ذلك ما حدث في بعض العهود الإسلامية الماضية أن سلطاناً من سلاطين المسلمين اتخذ كاتباً من النصارى، وكان هذا الكاتب يسمى محاضر الدولة أبو الفضل بن دخان، ولم يكن في المباشرين أمثاله، كان من أقرب الناس إلى السلطان، كان قذىً في عين الإسلام، وبثرةً في وجه الدين، بلغ من أمره أنه حكم على رجل نصراني أسلم برده إلى النصرانية، وخروجه عن الملة الإسلامية، ولم يزل يكاتب الإفرنج -النصارى الكفار- بأخبار المسلمين، يرسل إليهم بالأخبار التي يطلع عليها بحكم موقعه، وأعمالهم وأمر الدولة، وتفاصيل أحوالها، وكان مجلس هذا النصراني معموراً برسل الإفرنج النصارى، وهم مكرمون لديه، وحوائجهم عنده مقضية، ويحمل لهم الضيافات، وأكابر المسلمين محجوبون عند الباب لا يؤذن لهم بالدخول، وإذا دخلوا لا يلطفون في التحية ولا في الكلام، حتى صار بعد ذلك أن اجتمع لدى السلطان جماعة من الكتاب والقضاة والعلماء، فبسط بعضهم لسانه في ذكر مخازي النصارى، وكان مما قاله للسلطان: إن النصارى لا يعرفون الحساب، ولا يدرونه على الحقيقة؛ لأنهم يجعلون الواحد ثلاثة والثلاثة واحداً، والله تعالى يقول: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] ثم قال: كيف تأمن أن يصنع في معاملة السلطان كما صنع في أصل اعتقاده؟ ويكون مع هذا أكثر النصارى أمانة، وكلما استخرج ثلاثة دنانير دفع إلى السلطان ديناراً وأخذ لنفسه اثنين.
ثم اتفق بعد ذلك أن ظهرت خيانته فأهريق دمه واستراح المسلمون من شره.
ومن مقتضيات موالاة المؤمنين: أن تكون النصرة والحلف مع المؤمنين لا مع الكفار، حتى لو وقع الإنسان في الأزمات وأحاطت به الأخطار، وفي التاريخ الإسلامي في الأندلس عبرة لكل معتبر، ففي نهاية حكم الإسلام لبلاد الأندلس تفرق المسلمون إلى دويلات كثيرة في بلاد الأندلس حتى صار أمرهم كما يصف الشاعر:
وتفرقوا شيعاً فكل مدينةٍ فيها أمير المؤمنين ومنبر
وصار بعضهم يستعين بالنصارى من الأسبان على إخوانه المسلمين من الدويلات الأخرى، ويذهب بعضهم إلى ملوك النصارى ليعقد معهم الأحلاف ضد إخوانهم المسلمين.
وهنا أيها الإخوة: حدثت حادثة مثيرة كتبها التاريخ، كانت ذات أثرٍ عظيم، أخرت سقوط آخر معاقل المسلمين في الأندلس مئات من السنين، عندما تحققت في هذه الحادثة الموالاة للمؤمنين والمعاداة للكافرين، وهذه الحادثة أنه كان على مملكة إشبيليا المعتمد بن عبَّاد كان يحكمها آل عبَّاد، وكان المعتمد على الله ابن عبَّاد من أفاضل حكام تلك الدويلة، فلما سقطت طليطلة في يد الفرس واستالس ملك النصارى، تنبه المسلمون للخطر العظيم، ولاحت طوالع المصير المروع، فبرزت فكرة إلى الأذهان، وهي فكرة استعانة المسلمين في بلاد الأندلس بإخوانهم المسلمين المرابطين في دولة المغرب القريبة منهم، وكان أمير المرابطين في دولة المغرب في ذلك الوقت من أهل السنة والجماعة ممن نصروا مذهب أهل السنة والجماعة في بلاد المغرب، وهو يوسف بن تاشفين رحمه الله، فعقد في قرطبة اجتماعاً حضره الزعماء والفقهاء وكثير من الناس، وعلى رأسهم المعتمد بن عبَّاد، وطرحت فكرة استدعاء المرابطين إلى الأندلس للنصرة ضد الكفار النصارى، واتخذ القرار بذلك، وهنا أشار بعضهم إلى مخاوف، ما هي هذه المخاوف؟ قالوا للمعتمد بن عبَّاد: إذا جاء يوسف بن تاشفين وانتصرنا على النصارى فقد يأخذ هو الدولة منك، وينصب نفسه أميراً على الدويلة التي أنت فيها، فيسلب منك ملكك، فقال ابن عبَّاد كلمة مشهورة سارت بين الناس حتى وصلت إلينا، قال كلمة تدل فعلاً على استقرار عقيدة الولاء للمؤمنين في قلبه، قال: إن رعي الجمال خيرٌ من رعي الخنازير.
أي: لئن أكون مملوكاً لـ ابن تاشفين أرعى جماله في الصحراء خيرٌ من أن أكون ممزقاً عند فرتلند وهو الفرس السادس أرعى خنازيره في قشتالة، وكان قد احتلها، وفعلاً جاء يوسف بن تاشفين وانتصر المسلمون في معركة مشهورة وهي معركة الزلاقة.
والتاريخ الإسلامي فيه عبرة يجب أن يدرس، ومقتضيات موالاة المؤمنين كثيرة، ونحن إذا انتقلنا إلى واقعنا فإننا سنجد أن ولاية المؤمنين ضاعت مقتضياتها بين المسلمين، فبالله عليكم هل يكون موالياً للمؤمنين من ظلم إخوانه المسلمين وخذلهم، ثم أقبل على الكفار يعاونهم وينصرهم؟(265/6)
تنبيه وتحذير لمن ترك موالاة المؤمنين
هل يكون موالياً للمؤمنين من أهان أخاه المسلم، وأذله واحتقره، ثم عظم الكفار وأطلق عليهم ألقاب العزة والرفعة وألفاظ الثناء والتقدير، ويقوم من مجلسه ليرحب بهم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريقٍ فاضطروهم إلى أضيقه)؟ هل يكون موالياً للمؤمنين من أبعد المسلمين عن الوظائف الهامة في شركته -مثلاً- واستخدم فيها الكفرة والمرتدين، والله تعالى قد خونهم، فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران:75] الكفرة من اليهود والنصارى يقولون: ليس علينا حرج من أكل أموال المسلمين، ولذلك ينهبون أموالهم، كيف لو تمكنوا من التسلط على وظائفهم؟ هل يكون موالياً للمؤمنين من ترك زي المسلمين ومظهرهم وهيئتهم ولباسهم، وتشبه بأعداء الله وتزي بزيهم؟ هل يكون موالياً للمؤمنين من ترك بلاد الإسلام ومجتمعات المسلمين، وذهب إلى بلاد الكفار بغير ضرورة، فأقام فيها، يقيم معهم ويسكن بينهم ويكثر سوادهم ويقويهم بإمكانياته المادية والعقلية وغيرها؟ وكثيرون الذين هاجروا إلى بلاد الكفار ليدعموا الكفار بأموالهم، ينشئون في بلاد الكفار الأعمال، ويسخرون أدمغتهم للاكتشافات التي تخدم الكفار، أين هؤلاء من ولائهم لإخوانهم المؤمنين ومجتمعات المؤمنين؟ يقيمون بينهم والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله) حديث حسن.
والله تعالى منع الولاية للمؤمنين الذين لم يهاجروا إلى بلاد المؤمنين من بلاد الشرك، فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال:72] لا بد أن يهاجروا إلى بلاد المسلمين، ويكثروا سواد المسلمين، ويدعموا المسلمين بالعدد والإمكانيات.
هل يكون موالياً للمؤمنين من أطلق لسانه بالسب والشتم والتعيير لإخوانه المسلمين، ثم أقبل على الكفار يثني عليهم وينشر فضائلهم؟
أنت عداء المجرمين سياسةً وأغيض أهلي من بذيء سباب
للظالمين تحيتي ومودتي ولأهل ديني طعنتي وحراب
هذا جحيمٌ لا يطاق ومنطقٌ يأباه وحشٌ قابع في الغاب
يثني بعض المسلمين في كتاباتهم على الكفار، فيقولون مثلاً: بأنهم أصحاب المنهج العلمي السديد، والتجرد بالبحث والكتابة، وينشرون فضائل الغرب ويثنون عليهم، ويطلقون عليهم ألقاب التقدم والحضارة والرقي، ويصفون الإسلام والمسلمين والمنتسبين إلى الإسلام بالرجعية والجمود والتأخر.
هل يكون موالياً للمؤمنين من ترك اتخاذ المؤمنين بطانة، يشاورهم ويطلعهم على الأمور، ويتخذ الكفار بطانة، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران:118] يودون هزيمتكم {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118] البطانة سميت بطانة تشبيهاً ببطانة الثوب، أي: يتخذون الكافرين بطانة يستبطن الكفار الأمر من المسلمين المنحرفين ويطلعون على أسرار المسلمين؟ هل يكون موالياً للمؤمنين من ترك حزب المؤمنين الموحدين وجماعتهم وحلفهم، وانخرط في الأحزاب العلمانية أو الإلحادية، يبذل الولاء والحب والنصرة لها، وهي تعمل لهدم الإسلام وتعمل ضد إخوانه المسلمين؟ أم أن ذلك ردةٌ عن دين الله، وهدمٌ لشرع الله عز وجل.
اللهم إنا نسألك المغفرة والرحمة للحاضرين، اللهم اكتب مغفرتك ورحمتك لنا أجمعين، واعف عنا في ذلك المشهد العظيم، لا تفضحنا على رءوس الخلائق وأنت الرحمن الرحيم، فإليك اتجهنا، وعليك اعتمدنا، وعليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(265/7)
أين الخلل؟
واقع المسلمين يشهد متناقضات عجيبة، أفرزتها كثرة التصورات والمفاهيم الخاطئة، التي تعمقت في أفراد الأمة، وقد قام الشيخ بالتشخيص الصحيح لهذه الأمراض والأعراض والتصورات الخاطئة من خلال هذا الدرس.(266/1)
رسالة شيخ الإسلام إلى أهل البحرين
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخواني! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فهذه فرصة طيبة أن ألتقي بهذه الوجوه الطيبة في هذه البلدة الطيبة، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من الطيبين، وأن يرزقنا الفوز بدار النعيم، إنه سميع مجيب.
أيها الإخوة: لعل لقاءنا في هذا المكان يُذكر بتواصل العهد واتباع السنة والتمسك بحبل الله القويم، والسير على منهاج النبوة، هذا العهد الذي أخذه الله تعالى علينا جميعاً في السير على طريق التوحيد، أخذه الله علينا ونحن في ظهور آبائنا، ونحن في ظهر آدم عليه السلام، استخرج الله ذريته كأمثال الذر وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى، وقد كانت هذه البلاد فيها من أهل الدين والتوحيد والسنة أناس عظماء، ينبغي أن نسير على نهجهم وطريقتهم، ولعلي أستفتح الكلام برسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية تؤكد هذا المعنى: بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، وصلى الله على سيدنا محمدٍ وآله وصحبه أجمعين.
من أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية إلى من يصل إليه كتابي من المؤمنين والمسلمين من أهل البحرين -وهذه المنطقة هي المعروفة تاريخياً بـ البحرين - وغيرهم عامة ولأهل العلم والدين خاصة سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل وهو على كل شيء قدير، وأسأله أن يصلي على خيرته من خلقه محمدٍ عبده ورسوله وخاتم أنبيائه، الذي بعثه بالبينات والهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فإن وفداً قدموا من نحو أرضكم، فأخبرونا بنحوٍ مما كنا نسمع عن أهل ناحيتكم من الاعتصام بالسنة والجماعة، والتزام شريعة الله التي شرعها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ومجانبة ما عليه كثير من الأعراب من الجاهلية التي كانوا عليها قبل الإسلام من سفك بعضهم دماء بعض، ونهب أموالهم وقطيعة الأرحام، وخروج عن ربقة الإسلام، وتوريث الذكور دون الإناث، وإسبال الثياب، والتعزي بعزاء الجاهلية وهو قولهم: يا بني فلان، يا لفلان، والتعصب للقبيلة بالباطل، وترك ما فرضه الله في النكاح من العدة ونحوها، ثم ما زينه الشيطان لفريقٍ منهم من الأهواء التي باينوا بها عقائد السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وخالفوا شريعة الله لهم من الاستغفار للأولين بقوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] ووقعوا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوقيعة التي لا تصدر ممن وقر الإيمان في قلبه، فالحمد لله الذي عافانا وإياكم مما ابتلى به كثيراً من خلقه، وفضلنا على كثيرٍ ممن خلق تفضيلاً، ونسأل الله العظيم المنان بديع السماوات والأرض أن يتمم علينا وعليكم نعمته، ويوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى من القول والعمل، ويجعلنا من التابعين بإحسانٍ للسابقين الأولين، وليس هذا ببدع، فإن أهل البحرين ما زالوا من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل إسلام وفضل، فقد قدم وفدهم من عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم الأشج فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مرحباً بالوفد غير خزايا ولا ندامى، فقالوا: يا رسول الله! إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر -بيننا نحن في شرق الجزيرة وأنت في غربها هذا الحي من كفار مضر- وإنا لا نصل إليك إلا في شهر الحرام، حيث يتوقف القتال عند العرب، فمرنا بأمرٍ فصلٍ نعمل به ونأمر به مَن وراءنا، فقال: آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم) ولم يكن قد فرض الحج إذ ذاك، وقال للأشج: (إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم والأناة، قال: خلقين تخلقت بهما أو خلقين جبلت عليهما؟ قال: خلقين جبلت عليهما، فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله) ثم إنهم أقاموا الجمعة بأرضهم، فأول جمعة في الإسلام بعد جمعة المدينة، جمعة بـ بجواثى قرية من قرى البحرين.
ثم إنهم ثبتوا على الإسلام لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وارتد من ارتد من العرب، وقاتل بهم أميرهم العلاء بن الحضرمي -الرجل الصالح- أهل الردة، وله في السيرة أخبار حسان، فالله سبحانه يوفق آخرهم لما وفق له أولهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه إلى آخر الرسالة رحمه الله.
ونحن ننطلق من الدعاء الذي دعا به شيخ الإسلام في رسالته، ونقول: نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق آخرهم لما وفق له أولهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(266/2)
علاج مرض فساد التصورات
بعد هذه الرسالة في تبيان ما ينبغي أن يكون عليه الخلف من التمسك بطريقة السلف؛ طريقة وفد عبد القيس الذين اتبعوا السنة، وما كانوا عليه من إقامة الدين وشعائره، ننطلق بعد ذلك إلى هذه المحاضرة.
كنت أريد أن أتكلم في موضوع الأمراض، ولكن رأيت أن موضوعها طويل، وأن الكلام يمكن أن يكون أهم إذا تكلمنا في أصل الأمراض ومرض الأمراض؛ لأننا -أيها الإخوة- إذا نظرنا إلى الأعراض المرضية الموجودة لوجدنا أنها منبثقة عن خللٍ في الأساس، فنتكلم في المرض الأساسي وهو مرض الخلل في التصورات؛ لأنه ما من ذنب أو انحراف يقع فيه الناس إلا وهو ناتجٌ عن فساد في التصورات أو خلل فيها أو غيابٍ تغيب عن الأذهان أو جهلٍ بها، هذه التصورات والقواعد الشرعية الجهل فيها هو سبب ما نراه من النفاق والكذب والكبر والعجب والحسد وغير ذلك من الانحرافات الكثيرة الموجودة في الواقع، وكل تصورٍ خاطئ يؤدي إلى سلوكياتٍ منحرفة، والسلوكيات المنحرفة تكون نتيجة غياب التصور الصحيح أو انحراف التصور أو نقص التصور أو الغبش الموجود في التصور في عقول وأذهان كثيرٍ من الناس، ولذلك قبل تغيير السلوك ينبغي أن نغير التصور الذي هو أساس الأمراض.(266/3)
مكافحة أصل المرض وأساسه
النبي صلى الله عليه وسلم لما بدأ بالدعوة بدأ بالدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وما من نبي دعا قومه إلا وقال لهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] هذا هو الأساس وهذه الكلمة العظيمة {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] وهي كلمة التوحيد التي دعا إليها النبي صلى الله عليه وسلم قومه والعرب كافة والعالمين، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، فعارضه عليها قومه.
كان العرب يعرفون معنى هذه الكلمة، والآن كثيرٌ من الناس يجهل معنى لا إله إلا الله، لماذا حاربوه ورفضوا أن يقولوها وهي كلمة؟ لأنهم يعلمون أن هذه الكلمة هي عقد وفاء والتزام، وأنه لا بد من الأخذ بمقتضاها والعمل بها، ولذلك رفضوها وهي كلمة.
وهم يعلمون أن مقولة: لا إله إلا الله؛ سينبني عليها تغييرات جذرية في حياتهم الاجتماعية والاقتصادية وفي أخلاقهم وعاداتهم، سينبني عليها تغيير جذري للمجتمع.
إن الأمراض في المجتمع كثيرة، والإنسان إذا صار يعالج عارض السخونة وعارض الصداع وعارض المغص وعارض الإسهال وعارض القيء، سيتعب، وربما لا يكافح المرض ولا يحاصره ولا يقضي عليه، لكنه إذا اتجه إلى معالجة أصل المرض؛ فإن هذه الأعراض ستختفي، ولذلك يمكن أن نشبه حال الأمة المصابة بالأمراض المتعددة اليوم، بحال رجلٍ فيه أمراضٌ كثيرة، فيه أمراضٌ من السكر والنزيف والسرطان والزكام والحمى وغير ذلك من الأمراض والأعراض، وعندما ينشغل الإنسان بمعالجة الأعراض ويغفل أصل المرض؛ تتفشى الأمراض وربما لا يستطيع السيطرة عليها، أو يتظاهر له أنه سيطر عليها وليس كذلك، لكن إذا انشغل بمكافحة أصل المرض وتقوية الجسم على المرض، واستنبات الخلايا السليمة، وتكثير هذه الخلايا في الجسم، وبناء الجسم بناءً صحيحاً وتغذيته ودفع هذه الأمراض لا بد منهما معاً، ولذلك نحن نقول الآن: كما أننا نذكر علاج الحسد والعجب والكبر مثلاً، ونكافح الكذب والغيبة والنميمة؛ فإننا ينبغي أن نصحح الأصل ونصحح التصورات، ولعلنا نرى من خلال عرض بعض الأمثلة الارتباط بين الانحرافات في الأعمال وانحرافات التصورات الأصلية.(266/4)
دور القرآن والسنة في تصحيح التصورات الخاطئة
كان القرآن الكريم ينزل لتصحيح التصورات وإيجاد التصورات الصحيحة، يقول الله تعالى مثلاً في قصة حاطب رضي الله عنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة:1] قاعدة تبين تصوراً من التصورات الإسلامية العظيمة، إنها قاعدة إسلامية، صحيح أنها جاءت في حدث معين، لكنها قاعدة يجب أن ترسخ.
وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يبين لأصحابه عندما تبدر من الواحد منهم بادرة سوء أو خطأ؛ يبين له أصل الداء، فمثلاً حديث أبي ذر رضي الله عنه: (جاء المعرور بن سويد فقال: مررنا بـ أبي ذر في الربذة وعليه برد وعلى غلامه مثله، فقلنا: يا أبا ذر لو جمعت بينهما كانت حلة -استغربوا من البرد الذي على الغلام- فقال أبو ذر رضي الله عنه: إني ساببت رجلاً -كان بيني وبين رجلٍ كلام وهو من إخواني، وفي رواية أنه بلال رضي الله عنه وكانت أمه أعجمية- فنلت منها، وقلت له: يا بن السوداء، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أساببت فلاناً؟ قلت: نعم، قال: أعيرته بأمه؟ فقلت: من سب الرجال، سبوا أباه وأمه، قال: إنك امرؤ فيك جاهلية) لم تتخلص من آثار الجاهلية بالكلية، فيك شائبة، (قلت على حين ساعتي هذه من كبر السن) -كأن أبا ذر رضي الله عنه تندم، قال: الآن ارتكبت هذه المعصية وأنا على كبر سني ولا يليق بي أن أفعل ذلك- (قال: نعم، هم إخوانكم خولكم -يعني: خدمكم- جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده؛ فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس -ولذلك كان قد كسا غلامه الحلة- ولا يكلفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه؛ فليعنه عليه) رواه البخاري ومسلم وأبو داود، وألفاظه مجموعة بعضها إلى بعض.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لما سمع الكلمة أراد أن يعيدها إلى الأصل قال: (إنك امرؤ فيك جاهلية) ولذلك ينبغي علينا أن نتخلص من شوائب الجاهلية في أنفسنا، وأن نخلع على عتبة الإسلام كل أردية الجاهلية، ونغير من أفكارنا التي فيها انحراف أو قصور أو جهل، وينبغي أن نضع بدلاً منها قواعد الدين وأسس الشريعة والتصورات الشرعية.(266/5)
أنواع الخلل
إن القصور في التصورات والجهل بها؛ يؤدي إلى انحرافات في السلوكيات والأعمال، فمثلاً عندما نرى إعراض الناس الآن عن كثيرٍ من الأعمال والفرائض الشرعية، ونناقشهم يقولون لك: يا أخي! نياتنا طيبة، نحن نحب الخير، ونحب الدين، ونحن مسلمون نشهد أن لا إله إلا الله، لكنهم مع ذلك يكذبون، ويغشون، ويتخلفون عن الصلوات، ويكذبون، ويفعلون المنكر ويستمعون إليه، وسبب هذا غياب التصور الصحيح للإيمان، أن الإيمان قول وعمل.
كثير من الناس لا يفهمون أن الإيمان قول وعمل، ويظنون أن النية الطيبة وحدها تكفي، ولذلك تراهم قنوعين بهذا الشيء؛ الانتساب العام للإسلام والشهادة اللفظية بلا إله إلا الله، مطمئنين بذلك، قانعين به وراضين، ولذلك لا يضيفون إلى هذا المفهوم القاصر والسطحي شيئاً جديداً ولا يهتمون بالأعمال.(266/6)
خلل في مفهوم الإيمان
إن القصور في التصورات والجهل بها؛ يؤدي إلى انحرافات في السلوكيات والأعمال، فمثلاً: عندما نرى إعراض الناس الآن عن كثيرٍ من الأعمال والفرائض الشرعية، ونناقشهم يقولون لك: يا أخي! نياتنا طيبة، نحن نحب الخير، ونحب الدين، ونحن مسلمون نشهد أن لا إله إلا الله، لكنهم مع ذلك يكذبون، ويغشون، ويتخلفون عن الصلوات، ويفعلون المنكر ويستمعون إليه، وسبب هذا غياب التصور الصحيح للإيمان، أن الإيمان قول وعمل.
كثير من الناس لا يفهمون أن الإيمان قول وعمل، ويظنون أن النية الطيبة وحدها تكفي، ولذلك تراهم قنوعين بهذا الشيء؛ الانتساب العام للإسلام والشهادة اللفظية بلا إله إلا الله، مطمئنين بذلك، قانعين به وراضين، ولذلك لا يضيفون إلى هذا المفهوم القاصر والسطحي شيئاً جديداً ولا يهتمون بالأعمال.(266/7)
خلل في مفهوم السنة والبدعة
وفي المقابل أيضاً نجد أناساً واقعين في البدع، وأسباب الوقوع في الابتداع كثيرة، لكن من الأسباب ولا شك: القصور في فهم معنى السنة ومعنى البدعة، ولذلك تجد بعض هؤلاء عندهم صدق وإخلاص، ولكن عندهم جهل، فإذا قلت لأحدهم: يا أخي! هذا الشيء الذي تفعله بدعة، لا دليل عليه بل هو مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: كيف هو مخالف! ألم يأت في الحديث: (من سن سنة حسنة كان له أجرها) وأنا سنيت سنة حسنة.
فتجدهم لا يفهمون ما معنى سنة حسنة ولا يفهمون معنى البدعة، ولذلك يقعون في الحرام والبدعة والمنكر؛ بسبب الجهل بالتصور الصحيح للسنة والتصور الصحيح للبدعة.(266/8)
خلل في مصادر التشريع
مصادر التشريع عندنا هي القرآن والسنة على فهم السلف الصالح فالقرآن والسنة هما مصدرا التلقي عندنا ونظراً لجهل الناس لقضية مصادر التلقي وأنها فقط الكتاب والسنة وليس شيئاً آخر، لذلك ترى الجهل بهذا التصور المهم جداً ينعكس على حياتهم في أشكالٍ متنوعة من الانحرافات.
لأنهم لما غفلوا عن هذا المفهوم؛ صاروا يأخذون من العادات والتقاليد المخالفة للشريعة، والعيب عندهم صار شريعة، وليس العيب هو ما عيب في القرآن والسنة، لكن العيب ما عابوه هم وعابه المجتمع وما نظر إليه أغلب الناس على أنه عيب، أو يقولون: مادام أن هذا موجود في الواقع؛ فإنه الصحيح، أو يقولون: أكيد ما اتفق أكثر الناس عليه إلا وهو صحيح وجائز ومشروع، ولا شك أن هذا مخالف لمسألة مصدر التشريع والتلقي عند المسلمين، ولذلك يقدمون أمور العادة على أمور الشرع.
مثلاً: كثير من الناس يقدمون في أمور النكاح والزواج العادة على الشرع، ويأخذون بالعادة ولو خالفت الشرع، فهم يستمدون أمورهم من الواقع الموجود على عجره وبجره، على عيوبه وما فيه من الأخطاء والانحرافات، التي تراكمت بمر السنين والجهل وسير الناس على هذه القواعد التي اختصوها لأنفسهم، ولذلك تجده يقدم الجمال على الدين، وإذا جاءه شخص يقدم الغني الفاسق على الفقير المتدين، فيفعلون ذلك؛ لأن هذه العادات الموجودة عندنا هو ما تعارف عليه المجتمع في النظر إلى شهادته والنظر إلى غناه وماله وهكذا.(266/9)
خلل في توحيد الأسماء والصفات
ولنأخذ مثلاً آخر: عندما نرى كثرة ارتكاب الناس للمعاصي، وإذا ناقشناهم قالوا: الله غفور رحيم، هذه الكلمة التي يحتجون بها على ارتكاب المعصية ناتجة من الجهل بحقيقة توحيد الأسماء والصفات، فهم يعلمون أن الله غفورٌ رحيم، لكنهم ينسون أنه شديد العقاب، وأنه غفور لمن؟ ورحيم بمن؟ هل يغفر للمعاند المكابر المصر أم أن هذا الرجل متوعد؟ فإذاً غياب المفهوم الصحيح لتوحيد الأسماء والصفات الجهل بمعاني أسماء الله تعالى وصفاته يقود إلى نتائج سيئة في الواقع.
نحن نقول: إن رحمة الله تعالى قريبٌ من المحسنين، فينبغي أن نكون من المحسنين، أنت تقول له: إن رحمة الله قريب من المحسنين، فأين الإحسان؟ ثم تقول له: إن الله تعالى قال: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50] وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:98] فقرن بين شدة العقاب والمغفرة والرحمة، فهو سبحانه شديد العقاب وهو سبحانه غفور رحيم، نعم إن رحمته سبقت غضبه، ولذلك أهل الأعراف الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم مصيرهم إلى الجنة في النهاية؛ لأن رحمة الله سبقت غضبه، فلما تساوت حسناتهم وسيئاتهم، ورحمة الله سبقت غضبه؛ كان مصيرهم إلى الجنة، لكن بعد دخول أهل الجنة الجنة، يقفون في ذلك الموقف العظيم، وتصرف وجوههم قبل أصحاب الجنة وأصحاب النار، وتحدث المحاورة التي ذكرها الله تعالى في كتابه في سورة الأعراف، لكن ينبغي ألا يجعل هذا المفهوم وهذه القاعدة أهل الفسق يتمادون في فسقهم ويتكلون على رحمة الله يقولون: الله غفور رحيم، وهم غارقون في المعاصي.(266/10)
خلل في قضية القضاء والقدر
نظراً للجهل في قضية القضاء والقدر وعدم فهمها فهماً سليماً، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي علم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، أي: ماذا كان سيحدث لو لم يحدث الشيء الفلاني، وأن الله عز وجل كتب مقادير الخلائق وهذه الأحداث التي تجري وجرت في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وأنه سبحانه وتعالى له الإرادة والمشيئة النافذة التي لا تقوم لها أي إرادة، ولا يمكن رد ما قضى الله عز وجل، وأنه سبحانه خلق أفعال العباد، فكل عملٍ يعمله العبد فالله خالقٌ له {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96].
إذا استيقن العبد بقضاء الله وقدره وهو من أركان الإيمان؛ فإن كثيراً من الانحرافات التي تقع من الناس لا تقع عنده، فمثلاً: بعض الناس يسرفون على أنفسهم في المعاصي، ويقولون: نحن مجبورون ومرغمون على ذلك، فالإنسان مسير وليس بمخير، وليست القضية طبعاً هل الإنسان مسير وليس بمخير أو هل الإنسان مسير ومخير؟ هذه النقاشات لم تكن موجودة بين السلف، وإنما هي أمرٌ حادثٌ جرى بعد ذلك، والله سبحانه وتعالى قضى الأمر وأعطانا إرادات، ولا تجد أحداً مكرهاً على عمل المنكر، وهو لا يريد، وتجد الناس يستمرئون المعاصي بحجة أنهم مجبرون وأن الأشياء مكتوبة وأن القدر مكتوب، ويحتجون على المعصية بهذا.
وفي جانبٍ آخر يعترضون على القضاء والقدر ولا يرضون ولا يسلمون، فما هو السبب؟ قل لي الآن: النياحة وشق الثوب، وتقطيع الشعر هذا معصية وانحراف، لكن مرده إلى أي شيء؟ نحن نعلم أنه معصية لكن حلل موقف النائحة عندما تصيح وتشق ثوبها وتقطع شعرها وتقول: يا ويلي يا ويلي، يا ظلام ليلي، وافلاناه، ما سببه؟ مرده إلى أي شيء؟ نحن نريد أن نكون أكثر عمقاً في النظر إلى الواقع، حتى نوجه الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى أنه لا بد أن ينظروا إلى الواقع ويتلمسوا مواطن الخلل والعلل.
الجواب
أن مرد هذه المسألة ليس أن المرأة مثلاً عندها قدرة على الصياح، وأن هذا الشخص كان عزيزاً عندها، وأن عندها قدرة على التقطيع، لا، المسألة تتعلق حقيقة بقضية الاستسلام لقضاء الله وقدره، وعقيدة القضاء والقدر، والرضا بما قضى الله وقدر، وأن السخط حرام ولا يجوز، فقضية تقطيع الثياب وتقطيع الشعر والصياح تعبر عن عقيدة مخلخلة في موضوع القضاء والقدر.
ويقول: ماذا فعلت لك يا رب؟ أو ماذا فعل فلان لك يا رب؟ أو فلان لا يستحق! نستغفر الله العظيم مما يقول هؤلاء الظالمون، يقول أحدهم إذا أصاب الآخر حادث شنيع: فلان لا يستحق، كيف لا يستحق! حلل العبارات والكلمات، تجد أنها منطلقة من قواعد سيئة أو من جهل أو من غياب التصور أو غبش أو تصور منحرف مستقر في النفس.(266/11)
خلل في مفهوم التوكل على الله
إن الخلل في مفهوم التوكل على الله يجعل الشخص يتوكل على الناس وعلى الأسباب وينسى الله تعالى، أو يجعله يتواكل ويهمل الأسباب بحجة التوكل على الله تعالى، فإذاً هؤلاء الناس الموجودون في الواقع ممن يعتمدون على فلان وفلان وهو كل شيء في حياته، أو يعتمدون على الأسباب اعتماداً كلياً وينسون الله تعالى، السبب في هذا الانحراف عدم وضوح قضية التوكل في أنفسهم.
مثلاً: إن تصور أن الجنة تنال بمنتهى السهولة، وأن الإنسان سيدخل الجنة بسهولة، هذا من المفاهيم المنحرفة عن التصور الصحيح في أن سلعة الله الجنة غالية، والجنة حفت بالمكاره، فليست جنة عدن التي خلقها الله بيده، وجعل فيها الحور العين في الأنهار والأشجار والثمار والأطيار، ليست هذه الجنة سلعة رخيصة ينالها أي أحد من الناس.
هناك شخص مضيع للصلوات، جاءه قريب له ينصحه فقال له: يا فلان! جاء وقت الصلاة وأنت لم تصل، وهذه مسألة عقوبتها كذا، والله يعاقب ويحاسب، قال هذا الرجل: المسألة هي كلام، أي: ظن أن الله يوم القيامة يأخذ الواحد فينا ويحاسبه: أنت لماذا ما صليت الصلاة يوم كذا وما صليت يوم كذا؟ ثم يأتي إلى هؤلاء الذين يقولون: لا إله إلا الله كلكم ادخلوا الجنة، لا يدقق معنا في الصلاة، فاتت صلاة ما فاتت صلاة.
عندهم الجنة فوضى، كل الناس داخلون، إذاً أين يذهب الفسقة والفجرة؟ وقد دلت الأدلة الشرعية على أن الذين لن يخلدوا في النار سيمكثون فيها فترة من الزمن، ثم يخرجون وقد احترقوا وانتهشوا ثم ينبتون عندما يلقون في نهر الحياة كما تنبت الحبة في حميم السيل، قل لي من هم هؤلاء؟ إذا لم يكونوا هم المضيعون للصلوات {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً * إِلَّا مَنْ تَابَ} [مريم:59 - 60].(266/12)
حصر الدين في الشعائر التعبدية
بعض الناس تجد عنده تصوراً أن العبادة منحصرة في هذه الشعائر التعبدية ويقولون: صلاة وزكاة وصيام وحج هذا هو الدين.
يحصرون الدين في أشياء معينة، هذا من الخلل، فالدين أوسع من ذلك بكثير، (بني الإسلام على خمس) الإسلام بني على خمسة أركان، فإذا كان الإنسان عنده الأعمدة الأساسية للبيت، لكن ليس عنده لا جدران ولا سقوف ولا نوافذ ولا مرافق ولا مطبخ ولا حمام هل يعيش في بيتٍ هذا حاله؟ إذاً بني الإسلام على خمس، يعني: هذا بناء عظيم فيه شعائر كثيرة جداً لكن مبانيه على خمسة أسس، فالناس جاءوا بالأعمدة ونسوا بقية البنيان، فحصر الدين في شعائر معينة من الأشياء التي تجدها موجودة عند العامة.
أنت يا أخي الداعية -أيضاً- فكر كيف تعالج هذه القضية، وَسَّع مفهوم الدين، وبحسب ما جاء في الكتاب والسنة تجد أن كثيراً من حجج الناس تتهاوى، وكثيراً من تصرفاتهم تتعرى، ويصبحون على المحك فعلاً، ولا يؤدي هذا في النهاية إلى ما يؤدي إليه غياب التصور الصحيح من عدم الاحتساب على بقية الأعمال، والتهاون في الأحكام الشرعية خارج نطاق الشعائر التعبدية التي حصل بها الدين، وهكذا.(266/13)
جعل الميزان غير التقوى
من التصورات والموازين الخاطئة: جعل الميزان غير التقوى، والميزان عند الله هو: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] فلما غاب هذا الميزان وهذا التصور، صار الناس ينظرون إلى الشخص ويقومونه بحسب غناه أو فقره، بحسب نسبه ووظيفته ومرتبته ودرجته في هذه الوظيفة، بحسب نوع السيارة والشهادة العلمية والمنصب والعائلة والجنسية ونحو ذلك، وإذا جاءهم صاحب دين أحواله مستورة أو نسبه ليس برفيع؛ ردوه في الزواج، وإذا جاءهم صاحب نسب أو مالٍ؛ قبلوه وإن كان فاسقاً فاجراً.
يقول لي أحد الشباب: تقدمت إلى عائلة، فقالوا لي: ما اسم الأخ؟ فقلت لهم: فلان الفلاني، وبعد فترة عدت إليهم من أجل الجواب فقالوا: والله نحن عندنا تقاليد معينة وأنتم ما نزوجكم؛ لأنكم لستم بأكفاء لنا، قالوا: لأني موظف في نظرهم بسيط.
يقول: ثم تقدم ولد عمي من نفس العائلة ومن نفس القبيلة ومن نفس الأسرة، ولكنه تاجر، قال: فقبلوه، وأهلاً وسهلاً وأنت من الأكفاء وعلى الرأس والعين، قال: لقد كنت غير مكافئ ولا أناسبهم، ثم جاء ابن عمي الذي يحمل نفس الاسم ونفس العائلة صار عندهم مكافئاً ومناسباً؟! شخصٌ آخر جاءهم بسيارة الشبح طالباً ابنتهم، فلما جلس في المجلس كان صريحاً فقال: يا جماعة الحقيقة أنا من الأشراف قالوا: ما فيها شيء، أبوها -الله يرحمه- كان نفس الشيء، وطلعت البنت وجلست.
إذاً: المسألة الآن أن الناس لا ينظرون إلى دينه ولا إلى خلقه، بل ينظرون إلى سيارته، ووظيفته، وماله، وبيته، وأثاثه، ولباسه، هذا نتيجة اضطراب الميزان الشرعي: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، الميزان الشرعي: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) هذا هو الميزان الشرعي: (إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه؛ فزوجوه، إلا تفعلوا؛ تكن فتنة في الأرض وفسادٌ عريض).
مر رجلٌ مسكين بالنبي صلى الله عليه وسلم، فسأل أصحابه عن رأيهم فيه، قالوا: (هذا حري إن نكح؛ ألا ينكح، وإن خطب؛ ألا يزوج، وإن قال؛ ألا يسمع لقوله، وإن شفع؛ ألا يشفع، فلما مر رجلٌ آخر ذو شارة حسنة وذو هيئة وأبهة قالوا: هذا حري إن خطب؛ أن ينكح، وإن قال؛ أن يسمع لقوله، وإن شفع؛ أن يشفع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا خيرٌ من ملء الأرض من مثل هذا) فالميزان الصحيح هو ميزان التقوى.(266/14)
التقوى في القلب
من الفساد المبني على هذه القاعدة: قضية أن التقوى في القلب وليس المظهر هو المهم، فتجد بعض الناس فيهم من الاهتمام بالمظاهر، حتى طال ذلك فئة من الشباب، يهتمون بالنظارات والأقلام والسيارات، وهذه الوجاهة التي يخرجون بها على الناس، يتفاخرون بها أمام الخلق، وتجد الواحد مع الأسف يستلف ويستدين، لكي يشتري شيئاً يظهر به أمام الناس، والسلف والدين صعب وفي الحديث: (صاحبكم مأسور بدينه) ولم يصل صلى الله عليه وسلم عليه صلاة الجنازة، وبردت عليه جلدته حين سدد عنه أخوه المسلم وأوفى بدينه، والشهيد وما أدراك ما للشهيد من أنواع النعيم! يغفر له كل شيء إلا الدين، والآن في عالم الدين الاستلافات المتوالية لأي شيء؟ هل تقول: استلف ليأكل؟ استلف ليلبس من عري، استلف لشيء ضروري؟ لا، ليسدد فاتورة الكهرباء؟ لا، استلف لكي يشتري طقماً جديداً أو يجدد السيارة أو الأثاث أو شيئاً يتمظهر به أمام الناس.(266/15)
خلل في حقيقة الولاء والبراء
من الأخطاء والخلل في عدم وضوح التصور الشرعي في الولاء والبراء المبني على قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]، {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:55] بين الولاية لمن والمعاداة والعداوة لمن، لكن عدم ترسخ هذا المفهوم عند الناس؛ جعل الإقليمية تظهر والقبلية تظهر، والعرقية تظهر، والجنسيات المختلفة يظهر فيها الولاء والعداء عليها، وتزول محبة المؤمنين وتحل محلها محبة الكافرين، وترى الإعجاب بالنصراني الكافر أشد من محبة المسلم وخصوصاً إذا كان من بلدٍ فقير.
انظر الآن إلى احتقار الناس للهند والبلقان على مستوى الناس العامة، حتى إنهم يهزءون ويجعلون هذا مثلاً للغباء وللسذاجة، وهكذا يفعلون، والحقيقة إنني أتعجب فعلاً من هؤلاء الهنود المساكين الذين يدخلون المساجد للصلاة، يعني: نحن استهزأنا بهم، وسخرنا منهم وعاملناهم بسائر الإهانات، وهم مسلمون ويعلمون أننا مسلمون مثلهم، ومع ذلك إن دخلوا المساجد وصلوا تجد أحدنا يقول: يا مقرف! يا صاحب الرائحة الكريهة! اخرج.
صحيح إن بعضهم ذو روائح كريهة، لكن: ما هكذا يا سعد تورد الإبل، ليست هذه الطريقة، فنحن سواء كانوا مخلين بأشياء أو مستقيمين على أشياء نهزأ بهم باستمرار! كذلك تجد تصرفات لا شعورية من الواحد تخرج أحياناً تجاه عامل مسلم فقير مستضعف وربما أخرنا عليه الراتب وأهناه وخصمنا عليه وهو مظلوم، وربما يقبل قدميك لأجل أن يمسح سيارتك؛ لأن الكفيل يطالب بثلاثمائة ريال في الشهر، لو كان كافراً فإنه يستحق الإذلال والإهانة، لكن الظلم لا يجوز حتى على الكافر، لكن المشكلة أنه مسلم يشهد بأن لا إله إلا الله ويقيم الصلاة ويدخل المسجد.
كذلك إذا جئت إلى قضية تقديم الكفار على المسلمين في الوظائف؛ تجد العجب العجاب ونتائج واضحة للانحراف في مسألة الولاء والبراء.(266/16)
خلل في قضية الخوف
المسلم ينبغي أن يخاف من الله، وإذا خاف من شيءٍ آخر خوفاً طبيعياً كالخوف من الأسد والثعبان، فلا شيء في ذلك ما لم يتجاوز الحد، فالخوف من الشيء الذي يدفعك إلى الابتعاد عنه لضرره أو اتقاء ضرره متوكلاً على الله، وموقناً أن الضرر بيد الله والنفع بيد الله؛ هذا لا شيء فيه، لكن القضية هو الخوف الذي استعمر قلوب الكثيرين من المسلمين حتى وقعوا في الشرك في الخوف.
بعضهم يعتقد أن فلاناً من الناس يستطيع أن يفعل به ما يشاء كيف يشاء في أي وقتٍ شاء، إذا اعتقدت هذا وقعت في الشرك ولذلك ترى استيلاء الخوف على قلوب الكثيرين سبب إرجافاً وتركاً للمنكر وإنكاره، وذلاً بل وردة عن الدين عند بعض الناس وتركاً للشعائر الإسلامية وإزالة للمظاهر الإسلامية، بسبب الخوف من غير الله، وترك أشياء من الدين خوفاً من غير الله، لو كان مكرهاً مستضعفاً لقلنا معه عذره، لكن لأدنى شيء يترك الالتزام بالإسلام خوفاً.
هذه الشخصية الجبانة المترددة التي لا تقوى على مواجهة الباطل ولا على إنكار المنكر، ولا على رفض الباطل.
هذا الإنسان الجبان الذي لا يريد الصدع بالحق، ولا عنده جرأة في دين الله، ولا تغيظٌ على أصحاب المنكرات ولا إنكار بسبب خلل في مسألة الخوف من الله تعالى، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران:175] ما معنى أن الشيطان يخوف أولياءه؟ يعني: يخوفكم بأوليائه، يجعل أولياءه سبباً لإخافتكم: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران:175] يعني: يخوف المؤمنين بواسطة أوليائه من الطواغيت وغيرهم، فإذا هذه المسألة ينبغي أن ينتبه لها.
وبعض الناس يعمل مفاسد متوهمة، ويترك أشياء من الدين لأجلها، ونحن أصلاً لو نظرت إلى معاملتنا وتربيتنا للأطفال تجد أننا ننشئهم على الخوف، ونخوفهم من الجن والبعبع والغول والحرامي، فينشأ الولد خائفاً مذعوراً من الصغر، والتخويف من الصغر حاصل وموجود.(266/17)
مفاهيم خاطئة في النصيحة(266/18)
عدم تقبل النصيحة التي تأتي من الأدنى
من التصورات الخاطئة المتعلقة بالدعوة مثلاً: تصور أن النصيحة لا تأتي من الأدنى لا بد أن تأتي من الأعلى، ولذلك لا يقبل الأب من ابنه شيئاً، أو المدير من الموظف شيئاً، أو المدرس من الطالب شيئاً؛ لأن عندهم النصيحة دائماً تأتي من الأعلى، وكذلك أي واحد لا يقبل من الأصغر منه سناً بسبب الخلل في مفهوم النصيحة.(266/19)
اعتبار النصيحة تدخُّلاً في الشئون الخاصة
كذلك من الخلل في مفهوم النصيحة اعتقاد أنها تدخُّل في الشئون الخاصة، فإذا جئت تنصح إنساناً؛ يقول: هذا شغلي أنا، ليس شغلك أنت، إذا قلت له: يا فلان! ثوبك مسبل.
يقول: هذا ثوبي وإلا ثوبك، لا تتدخل فيما لا يعنيك؛ فتلقى ما لا يرضيك، ويأتي لك بالأمثلة.(266/20)
خلل في مفهوم الحرية الشخصية
كذلك المفهوم الخطأ لقضية الحرية الشخصية هو الذي يسبب عند الناس رفض الدعوة باعتبار النصيحة وإنكار المنكر تدخلاً في الحرية الشخصية.(266/21)
تقديم الأسلوب على المحتوى والمضمون
كذلك من الانحرافات في مفهوم النصيحة: تقديم الأسلوب على المحتوى والمضمون، أحدهم يقول: هيا قم صل، فيرد عليه: لست بمصل، لماذا لم يقل لي: لو سمحت؟ لماذا ينفخ علي؟ نحن لا ننكر أن الداعية قد يقع في خطأ، وأن الشخص الذي وجه له النصيحة قد يكون عنده خلل في الأسلوب، لكن الخلل الأكبر عند الذي رفض النصيحة وترك الصلاة؛ لأن الأسلوب عنده أهم من المضمون، ماذا يقول: صلوا أو يقول: صم.
أو يقول: لا تفعل كذا من المنكرات، الأسلوب عنده أهم، فانظر كيف يؤثر التصور على قضية ردة الفعل، وتكون منطلقة من تصور خاطئ أن الأسلوب مقدم على المحتوى.(266/22)
خلل في فعل المباحات
تجد شباب الصحوة نتيجة غياب المعنى الحقيقي للزهد يجعل الكثيرين يقعون في الإغراق في المباحات، مما يؤدي إلى وقوعهم في الشبهات، ثم بالتالي الوقوع في المحرمات؛ لأنهم لا يفهمون حقيقةً الموقف الشرعي من المباحات، فلذلك تكون حياتهم في أكثرها ومجملها هي عبارة إغراق في المباحات، وليس في عبادات ولا في أشياء جادة، وإنما يقول الواحد: مادام هذا الأمر جائزاً، لماذا لا أفعله؟!(266/23)
الخلل في الشعور بالمسئولية
من الخلل والتصورات الخاطئة أيضاً: الخلل في الشعور بالمسئولية، والنبي صلى الله عليه وسلم قرر المسألة وقال: (كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته) والخلل في الشعور بالمسئولية يجعل الإنسان لا يؤدي دوره المطلوب منه ولا يقوم بما أوجب الله عليه، حتى في الأعمال الدنيوية تجد الموظف إذا كان لا يشعر بالمسئولية؛ يأتي إلى العمل متأخراً، ويفطر في العمل، وعلى حساب العمل يقرأ الجرائد والشاي، ومع الزملاء ضياع الأوقات في الكلام، وينصرف مبكراً ويترك المراجعين، يعني: حتى على المستوى الدنيوي تجد عدم الإحساس بالمسئولية؛ فينعكس على التصرفات التي تكون سيئة في الواقع ومضرة بالخلق.
في نفس الوقت تجد عدم فهم الحدود الحقيقية للمسئولية يجعل الإنسان متسلطاً، فما دام أن لديه هذا القدر من المسئولية؛ فيجب أن يرجع إليه الجميع في كل شيء، يستفتونه ويسألونه ويستشيرونه، ولو أن واحداً منهم ما استشاره -مثلاً- في العلامة التجارية للنعل التي يريد أن يشتريها فهو خارج عن الأدب، لماذا لم يستشره في الذهاب إلى السوق؟ وأي نوع من أنواع الكمبيوتر يشتري وأي علامة؟ إذاً: الخلل في فهم قضية المسئولية إما أن يوقع الشخص في التخلي عن الواجبات المفروضة منه وعدم القيام بالدور وسد الثغرة، أو يوقعه في التسلط والعجرفة وتكليف الناس ما لا يطيقون.(266/24)
خلل في كيفية الاستفادة من الواقع
كذلك من الأشياء والأخطاء في التصورات: ماذا يمكن الاستفادة من الواقع، فبعض الناس يقولون: هؤلاء مثلاً أهل الدين ماذا عندهم غير أن الأغاني والتلفزيون حرام؟ ما هو الخطأ؟ تجد الخلل في التصور أنهم لا يعرفون مدى الاستفادة من الشخص، أو يقولون: هذا العالم ماذا عنده غير هذه القضايا الفقهية في الطهارة؟ لا يعلمون أنه يمكن الاستفادة منه في أشياء أخرى كثيرة، وكذلك تجد حتى شباب الصحوة يقولون: هذا الخطيب ماذا عنده؟ ليس عنده شيء جديد، وهذا الكتاب ليس فيه شيء جديد، وهكذا تجد استحقار الأشياء، أنت الآن إذا قرأت القرآن عشرات المرات؛ هل يمكن أن تقول: ليس فيه شيء جديد؟! يمكن الاستفادة من جميع الأشياء، وأخذ الدروس حتى من البهائم، فالعلماء أخذوا دروساً من النمل والنحل، اقرأ ما كتبه ابن القيم رحمه الله في شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة، حتى إنهم لما رأوا طائرين يطيران معاً؛ اتضح أن هذا جناحه مكسور وهذا جناحه مكسور، ولا يمكنهما الطيران إلا بالتعاون معاً جناح من هذا وجناح من هذا.
فإذاً: مسألة الاستفادة من الناس والدروس ينبغي أن تكون عائدة إلى تصور صحيح في إمكانية توظيف الحدث واستغلال الفائدة من أي شيء، مَنِ الذي علم أبا هريرة أن آية الكرسي قبل النوم وقاية من الشيطان؟ استفاد أبو هريرة هذه الفائدة من الشيطان نفسه، فهو الذي علمه إياها، لما جاء في صورة رجل يأخذ من الصدقة ويسرق، فأمسكه وقد رآه في المرة الأولى والثانية والثالثة.(266/25)
خلل الرضا بالواقع
من التصورات الخاطئة الرضا بالواقع وأنه ليس في الإمكان أحسن مما كان، وهذه النظرة القنوعية الخاطئة تجعل الواحد يستسلم ويكون سلبياً ويخمد، ولا يوجد في حياته لا تطوير ولا تحسين ولا إضافات، وهذه المسألة مدخل شيطاني، فالشيطان يوحي إليك أنه ليس بالإمكان أحسن مما كان، وأنك لا تستطيع أن تزيد في ساعات قراءاتك شيئاً، ولا في الأوقات التي تقدمها للدعوة شيئاً، ولا في الجهود التي تقدمها لإخوانك شيئاً ويقول: ليس بالإمكان أحسن مما كان، وبالتالي يبقى الشخص في مكانه لا يتقدم ولا يبذل ولا يعطي.(266/26)
تضخيم الأنا والذات وسوء الظن بالآخرين والاستهانة بهم
وكذلك من الأمور الخاطئة تضخيم الأنا والذات، فيعمل لنفسه ولا يقدم للآخرين.
كذلك قضية سوء الظن بالآخرين، والافتراء عليهم، فتجده يقول: فلان هذا ما جاء إلا وهو يريد شيئاً، أكيد إنه ما جاء لوجه الله.
كذلك ينبغي على الشخص الاستفادة من كل ما هو متاح، وعدم الاستهانة به، ومن ذلك مثلاً أن بعضهم لا يسمع لشخصٍ غير مشهور، أو لا يقرأ شيئاً لشخصية مغمورة، ولو كان مفيداً؛ لأنه ليس بمشهور، أو إذا لم يكن يعطي الدرس الشيخ فلان الفلاني؛ لا أجلس في كل الحلقات الموجودة، أنا أريد شخصاً مشهوراً، وإذا جلس في درس يقول: ما سمعت شيئاً جديداً، هذا الدرس ليس فيه فائدة، فهؤلاء الشباب يفوتهم خيرٌ كثير.
أولاً: لا يشترط أن الذي تسمع له يكون شخصاً مشهوراً، مادام أنه من أهل السنة والجماعة، يقول الحق فأنت تستفيد منه، حتى لو كان شخصاً غير مشهور.
ثانياً: لو كانت الحلقة ليس الذي يدرس فيها عالم من العلماء، وإنما متوفر طالب علم، لماذا لا يستفاد منه؟ هل لا بد أن يكون أحد المشهورين؟! قد يبسط لك طالب العلم في أغلب الأحيان أكثر مما يبسط الشيخ الكبير.
وكذلك قولهم: حضرنا ما سمعنا شيئاً جديداً، أولاً: لماذا ننسى الأجر والفضل الموجود في الدرس من حضور الملائكة ونزول الرحمة والسكينة؟ ثانياً: الاستفادة من الدروس ليست فقط في المعلومات، كان الآلاف يجلسون عند الإمام أحمد رحمه الله، بعضهم يستفيد من معلوماته، وآخرون كثر يستفيدون الأدب من الشيخ، ثم إن الإنسان قد يحضر ويفيد، قد يستدرك شيئاً فيكمل الآية ويصحح خطأً، ومشاركته في الدرس تسبب فاعلية للآخرين، انظر إلى الأدوار التي يقوم بها المخلصون يمكن أنه يجلس وهو يعلم أنه لن يسمع شيئاً جديداً، لكن حضوره تشجيعٌ لغيره، فهو يحضر لتشجيع الآخرين، هذا الرجل رجل عظيم ومخلص، ما يقول: أنا لا أستفيد شيئاً لماذا أحضر الدروس.
ثم إنه ينبغي النظر إلى مسألة أخرى: أين يذهب إذا لم يحضر الدرس؟ أي: هل سيقرأ هو في كتابٍ مستواه متقدم في وقت الدرس، أم أنه سيذهب يتجول في الشوارع والمحلات والأسواق، فلو كان عنده شيء مهم أو أكثر فائدة لقلنا: معه عذره، لكن في كثير من الأحيان لا تجد هؤلاء الذين يستهينون بالدروس الموجودة ينطلقون إلى مجالات أرحب وأوسع أو إلى مستويات أعلى، وإنما تضيع أوقاتهم.(266/27)
النظر إلى الآخرين بعين الازدراء والنقص
ومن الأمور التي تسبب انحرافات في التعامل: النظر إلى الآخرين بعين الازدراء والنقص، لقد تقدم شيءٌ من هذا لكنه في الحقيقة راجع إلى عجب في النفس، وهذا العجب هو الذي يدفع الشخص إلى احتقار الآخرين وعدم إنزال الناس منازلهم، وعدم توقير الكبير، وربما يكون غروراً: فهذا طبيب جاءه رجلان شاب وشايب في العيادة، جلس الشاب واضعاً رجلاً على رجل، والطبيب يقول: من المريض؟ فهذا الشاب يشير ويقول: عندك انظر إلى هذا الشايب.
ثم إنه لا يساعد أباه في الجلوس على سرير الطبيب، ويترك ذلك للممرضة أو للطبيب وهو جالس متضجر من جلوسه، ويحس بشيء من الكره لهذا الشايب؛ لأنه حرمه من مرافقة أصحابه، وأرغمه أن يأتي به إلى المستشفى، بل ربما لا يذهب به أصلاً ويقول للسائق: اذهب أنت بأبي إلى المستشفى، هذا من القطيعة الموجودة، وربما لا يدري أن أباه مريض أصلاً؛ لأنه لا يوجد هناك ترابط فهذا يدخل إلى الدور السفلي، وهذا يصعد إلى الدور العلوي، هذا يدخل من باب وهذا يدخل من باب آخر، هذا يتغدى في المجلس وهذا يتغدى في الغرفة الداخلية، لا توجد صلات حتى في العائلة الواحدة ولا يعلم بعضهم بأحوال بعض، لقد وصلنا إلى هذه الدرجة، وسبب ذلك ضعف صلة الرحم، وضعف بر الوالدين، وضعف الاهتمام بالمسلمين، وأحياناً يكون فيها شيء من الكبر والترفع، وهو سيئول في النهاية إلى ما آل إليه هذا الشيخ الكبير في السن.(266/28)
تصور أن ما يصلح لهم يصلح لنا
ومن الأخطاء أيضاً: أن الإنسان يتصور أن كل ما صلح في مكان يصلح أن يطبق في مكان آخر، وأن التجربة الفلانية يصلح أن تطبق في المكان الفلاني، ولو كان هناك اختلاف جذري بين المكانين أو الشخصين، يعني: تعميم التجربة والحدث بغض النظر عن الملابسات والظروف، ولذلك أحياناً تنقل خبرات وتجارب من مكان إلى مكان فتكون مضحكة، مثلاً: لو أن واحداً الآن ذهب إلى البادية وبنى فيها مطعماً وجعل فيه همبرجر، هل يصلح أن يجعل هذا المطعم في هذا المكان؟ فكذلك نرى أحياناً من التشبه بالكفار أن ننقل تجاربهم أو أشياءهم بالدقة والتفصيل إلى أماكننا، ولذلك تجد أحياناً بعض الحمامات فيها أماكن للبول واقفاً بدون ساتر، وبعض الحمامات والمراحيض ليس فيها ماء يستنجى به بعد قضاء الحاجة، لو أن الإنسان أراد أن يبني بيتاً، فإسلامه يفرض عليه أن يبني البيت بطريقة تختلف عما يبني به الكافر، فالكفار يبنون صالات مفتوحة لأنهم مختلطون أصلاً، وبعض تصميمات بيوت المسلمين الآن فيها هذا، حتى رأيت بنفسي في بعض البيوت نفس تصميم الباص، ماذا يتعاطون فيه؟ الله أعلم، لكن التصميم نفس تصميم الباص.
كذلك المسلم إذا صمم بيتاً يجعل المرحاض إلى غير جهة القبلة إذا كان يسكن في هذه المنطقة، يجعله (شمال جنوبي) لا يجعل مكان الجلوس لقضاء الحاجة (شرقي غربي) حتى لا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها لبول ولا غائط، ويهتم بالفصل بين أماكن الرجال وأماكن النساء على سبيل المثال، ولو أراد أن يبني مجمعاً قبل أن يبني مسبحاً أو صالة -كما يوجد في بعض المجمعات- يبني مسجداً، على أية حال المسألة تستحب هذه، فكثير من القضايا الموجودة في الواقع في حياة الناس مبنية على خللٍ في هذه المسألة وهي قضية التشبه، أو تعميم التجربة وأن ما يصلح لهم يصلح لنا، وهكذا.(266/29)
قصر الإسلام في بعض الشعائر التعبدية
وينبغي أيها الإخوة أن تكون نفوسنا طيبة وأن نكون من أصحاب الأريحية والكرم والسخاء وجودة الطباع، وأن نكون لينين هينين؛ حتى يقبلنا الناس ويعم التآلف والتلاحم في المجتمع، وهذه المسألة تعقيب على خلل أحياناً يوجد عند بعض الناس يتعلق بقصر الشعائر في الإسلام في بعض الشعائر التعبدية وهي أنهم يقولون: ما للدين والأخلاق والذوق والأدب، كأن الدين ليس فيه أخلاق ولا ذوق ولا أدب.
إن النبي صلى الله عليه وسلم علمنا كما جاء في صحيح مسلم في استخراج نوى التمر إذا أكله أنه كان عليه الصلاة والسلام يلقيه على ظهر كفه الأيسر أو بين أصبعيه، ولا يأخذه بيمينه، فيجعل التمر مع النوى أو يخلط نوى التمر الخارج من فيه بالتمر الذي يأكله الآخرون؛ حتى لا يسبب ذلك تقززاً ممن يأنف مثل هذه الأشياء.
إذاً: الإسلام فيه ذوق وآداب وفيه أخلاق، وفي بعض أسواق المسلمين القديمة، كان التاجر في السابق إذا فتح محله في الصباح فجاء رجل يشتري منه ثم جاءه رجل ثان يقول: اذهب إلى جاري التاجر الثاني، أنا استفتحت، اذهب فاشتر منه هو، أين هذه الأشياء الآن؟ صار الناس الآن يبيع الرجل على بيع أخيه، يسوم على سوم أخيه، يشتري على شراء أخيه، ويناديه من بعيد يقول: تعال أعطيك بأقل، وهكذا ويكذبون ويغشون.
فإذاً: تصور أن الإسلام فقط عبادات وصلوات وزكوات وصيام وأنه ليس فيه ذوق ولا أخلاق ولا آداب؛ هذا ما يجعل بعض الناس عندهم جفاء الأعراب، حتى بعض المتدينين عندهم جفاء الأعراب، خشونة، وغلظة، وقسوة، وقلة أدب، وعدم احترام الكبير ورحمة الصغير، وهذه مسائل ينبغي أن توسع فيها المدارك، وندرك عظمة شريعة الله، ونلم بما نستطيع الإلمام به من جوانب هذا الدين؛ هذا الدين عظيم جداً ويكفي أننا نأخذ منه بما نطيق، ونسأل الله أن يغفر ويتجاوز عن الباقي، والكلام في هذا يطول، وهناك أمور أخرى من الأخطاء والتصورات، لكن حتى لا نأخذ كل الوقت، فنبقي شيئاً للأسئلة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يسامحنا وأن يعفو عنا، وأن يغفر زلاتنا، وأن يرزقنا الجنة ويعيذنا من النار، ونسأله سبحانه وتعالى العفو والعافية في الدنيا والآخرة، إنه سميع قريب مجيب.(266/30)
الأسئلة(266/31)
الوقوع في بعض المحرمات
السؤال
بعض الشباب يقولون: نحن نحاول التمسك بدين الله سبحانه وتعالى ونشتغل بالدعوة وطلب العلم والقيام بالنوافل ومصاحبة الصالحين، ولكن عندنا مشكلة في الشهوة المحرمة من النظر إلى المحرمات في الأفلام والمجلات والنساء في الأسواق، وما يترتب على ذلك من الوقوع في بعض المحرمات؟
الجواب
الشاب لا يقدر تسلط هذه الشهوة المركوزة في نفسه، وهذه من حكمة الله، لو لم يفعل هذه الشهوة؛ ما صار هناك زواج ولا تناسل الناس، فمن حكمة الله أنه ركب الشهوة في الإنسان، والشهوة ليست شراً محضاً أبداً، لكنها إذا صرفت في غير طريقها الشرعي صارت شراً، وقد سبق أن ذكرت بعض الوسائل التي تقي الشاب أو الإنسان من الوقوع في الشهوة المحرمة بعنوان "عوائق في طريق المعصية" أو "حواجز في طريق المعصية" ومن هذه الأمور: أن الشاب إذا أراد أن يعالج موضوع الشهوة ينبغي عليه أن ينظر في المواد التي تشعلها فيخففها، والأشياء التي تقوي الإيمان فيكثر منها، فمما ينظر له في موضوع الأشياء التي تشعل الشهوة: أولاً: موضوع الأكل، الإكثار من الأكل يسبب ولا شك توقد الشهوة، فينبغي عليه أن يحجم ويقلل الأكل، وعلى رأس هذا الصيام، ولذلك نصح به النبي صلى الله عليه وسلم الشباب، وليست نصيحة عابثٍ أبداً وإنما نصيحة من وحي، والله يعلم الطبائع ويعلم ما هو مركب فيها، ويعلم ما الذي يشعل الشهوة وما الذي يطفئها، فدل على قضية التقليل من الطعام.
لكن بعض الشباب الآن يقبلون على المطاعم والوجبات، ويأكلون بين كل وجبتين وجبة، وإذا نظرت إلى أسباب اشتعال الشهوة عندهم تجد عدم الاعتناء بتقليل الأكل وبقضية الصيام.
ثانياً: من أسباب اشتعال الشهوة قضية النظر، كل شهوة مشتعلة لا بد أن تكون مبنية على خيال شيء مرئي نظر إليه، فاستقرت الصورة في ذهنه، فتخيلها فصار يكرر ويعاود هذا الخيال، فيقع في المحرمات، ولو أنه غض البصر؛ لاستراح، لكنه ما غض البصر، ولذلك لو أن الشاب المسلم يعود نفسه على غض البصر، لا ينظر إلى هذه الصور في المجلات وعلى الأغلفة وفي الأفلام، ولا يرى صور النساء الحقيقية التي تمشي في الشوارع وغير ذلك، وخصوصاً هذا النقاب الذي انتشر الآن الذي يظهر العينين، وفيها الكحل وأدوات الزينة ولو سفرت عن وجهها؛ لصارت أقبح مما يراها وهي مبرقعة، فأقول: إن هذا النظر من الأشياء التي تشعل الشهوة، فينبغي لمعالجة قضية الشهوة التركيز على غض البصر.
ثم هناك أشياء كثيرة من ذكر الله تعالى، وتأمل عواقب المعصية الوخيمة، وأن الله ينقله من جوار السعداء إلى جوار الأشقياء، وأنه يخرج من اسم المحسنين المخبتين التائبين الذاكرين الله كثيراً إلى جوار العصاة الفسقة الذين لا يراقبون حق الله تعالى.
فأقول: إن هذه الأشياء ينبغي أن يتبصر فيها الشاب حتى يعالج مسألة الشهوة عنده، ولا شك أن قضية التعجيل بالزواج مطلوبة.
الآن كثير من الشباب مقبلون على الزواج، لكن العوائق المادية وبعض العادات الاجتماعية السيئة تقف عائقاً، لكن من أراد النكاح فالله يعينه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والشاب الذي يريد العفاف هو من الثلاثة الذين حقٌ على الله عونهم.(266/32)
الإخلاص في العبادة
السؤال
عن قضية الإخلاص في العبادة، هل إذا دخل عليه شخص وهو يصلي يقصر الصلاة أو يطيل الصلاة أو ماذا يفعل؟
الجواب
إذا دخل عليك شخص وأنت تصلي، فالحمد لله أنك ابتدأت صلاتك لله، إذاً أكملها لله، ولا شك أن الشيطان سيلقي في نفسك مراعاة الذي دخل أنه الآن ينظر إليك، ويصبح عندك صراع نفسي، ماذا تفعل؟ هل تفسد الصلاة وتترك أشياء كنت ستفعلها أم ماذا تفعل؟ أكمل الصلاة على ما كنت تريد أن تفعل، وقد يقتدي بك هذا الشخص فيصلي، فتكسب أجره، المهم أن تجعل نيتك لله، قاوم داعي الرياء، وأكمل النية لله، والله يعينك، ولا داعي للوسوسة أو قطع العمل؛ لأن ترك العمل من أجل الناس؛ لا شك أنه وقوع في الشرك، فلا تقصر الصلاة واستمر على ما أنت فيه.(266/33)
انتكاس صديق
السؤال
لي صديقٌ كان ملتزماً ثم فتر التزامه، فركن إلى البيت ولا يصلي مع الجماعة في المسجد، ويشاهد المنكرات.
ما هو التوجيه؟
الجواب
مرت موجة من انتكاسات الشباب، كانت موجة لا يستهان بها، كما مرت موجة صحوة والتزام للشباب عالٍ والحمد لله، ويبقى ولله الحمد والمنة أن عدد المنتكسين أقل بكثير من عدد المهتدين الجدد، وهذا دال على أن هذا دين الحق، وأنه إذا دخل؛ فإنه يشع فيه النور والإيمان واليقين والحمد لله.
لكن ظهرت عندنا أنواع من الالتزام -إن صح التعبير- خطيرة، صار عندنا التزام بارد، يعني لا يريد أن يضحي بشيء، الشيء الذي لا يكلفه يفعله مثل: اللحية والثوب، أما الشيء الذي فيه مقاومة نفس، مقاومة شهوة، قيام لصلاة الفجر، مقاومة نوم، لا يفعل ذلك، فهذا التزام ناقص وبارد، والتزام مؤقت لوقتٍ دون آخر، فتجده في العطلة في مكان فسق، وإذا رجع إلى البلد التزم وأظهر الدين وصار مع الجماعة، وإذا ابتعد عن إخوانه فعل ما فعل، وإذا عاد إليهم رجع مرة أخرى.
فينبغي أن نفهم القضية والأشياء الطارئة التي تطرأ الآن مثل ترك الشباب للالتزام لداعي الخوف والجبن الذي حصل عند بعضهم، فينبغي أن يعودوا إلى الله ويصدقوا معه، ولا يخافوا إلا منه سبحانه وتعالى، وإلا فإن مشهد يوم القيامة مشهد عظيم والفزع يوم الفزع الأكبر.(266/34)
علاج الاستهزاء بالناس
السؤال
ما هو الحل في الاستهزاء بالناس؟
الجواب
الاستهزاء بالناس وليد العجب، ولا بد لمعالجة العجب من أشياء: أولاً: أن تنظر في الشيء الذي أنت معجبٌ فيه من نفسك، إذا كنت صادقاً من الذي أعطاك إياه؟ أنت معجب بحفظك، أو بذكائك، أو بقدرتك على الخطابة، من الذي أعطاك الموهبة؟ إنه الله، إذاً أنت لم تكتسبها بيدك وعرق جبينك، وإنما الله هو الذي أعطاك الموهبة، فاشكره بدلاً من أن تتكبر على خلقه.
ثانياً: انظر في الأشياء التي عندك من الميزات، وتأمل في أحوال الذين يفوقونك تجد أنهم كثر، وأن عندهم أضعاف أضعاف ما عندك، مهما كان عندك من الحفظ، اقرأ سيرة البخاري لتعرف ضعفك بالنسبة للبخاري في الحفظ، ومهما كان عندك من مجهود في الدعوة؛ فاقرأ في سيرة مصعب بن عمير وأنه ليس عندك عشر معشار ما بذله للدعوة، وإذا كان عندك ذكاء؛ فانظر في ذكاء شيخ الإسلام ابن تيمية وذكاء الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد والأئمة رحمهم الله لترى أنه ما عندك عشر معشار ما عندهم فقد كانوا أذكياء للغاية.
إذاً: إذا تأملت الذي فاقوك؛ هانت عليك نفسك، ثم انظر إلى هذا المسكين الذي تحتقره، أليس قد يكون عند الله أفضل منك وأعلى منك قدراً؟ وأن هناك من عباد الله من هو تقي نقي خفي مدفوع بالأبواب ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره، وأنت لو أقسمت على الله عشرين مرة؛ ما أعطاك وما أنفذ لك ما تريد، عند ذلك تترك الاستهزاء بالناس، ثم إن الإنسان إذا وقع في استهزاء فعليه: أولاً: ينبغي أن يعتذر إلى الله ويتوب.
ثانياً: يعتذر إلى الذي استهزأ به قبل أن يكون يومٌ لا دينار فيه ولا درهم.(266/35)
نصيحة والد زوجتي
السؤال
والد زوجتي رجل يقارب الستين، وهو لا يصلي كما أنه وضع الدش في منزله، وكنت أقلل من زيارتي لمنزله، وإذا حضر أبتعد عن مناقشته نظراً لكبر سنه بالمقارنة بعمري وألاقي إحراجاً، هل علي إثمٌ في ذلك؟
الجواب
طبعاً الواجب عليك النصيحة، لكن إذا نصحت واستغرقت في الجهد وما وجدت فائدة، بل وجدت أذىً لا تطيقه، أو ضياع وقت في النقاشات والأشياء التي تقسي القلب، فعند ذلك تكون قد أقمت الحجة عليه، وأديت ما عليك والحمد لله، لكن الإنسان بين الفينة والفينة والمدة والمدة يتعاهدهم بالنصيحة ويتخولهم بها، وليس في كل زيارة ينكر عليه، يمكن بعد زيارتين أو أكثر يقوم فيها بواجب النصيحة، مرة باللين ومرة بالتخويف ومرة بالترهيب ومرة بالترغيب، ومرة بقصة، ومرة بحدث، ومرة بآية ومرة بحديث، وهكذا من الأشياء التي فيها تنويع في الأسلوب، ثم يدعو له الله عز وجل أن يهديه.(266/36)
شاب ملتزم تزوج من فتاة غير ملتزمة
السؤال
يقول شاب: تزوجت من فتاة غير ملتزمة، ورضيت بي كزوجٍ لها، فبماذا تنصحني؟
الجواب
غريب أنها رضيت بك، المفروض أنك تقول: رضيت بها، لأن الأعلى يرضى بالأدنى، فكونها رضيت بك؛ فليست نعمة تحسد عليها، لكن أنت الآن كيف رضيت بها؟ فناقش نفسك، على أية حال ما دام قد حصل ما حصل، فإن الناس تصرفاتهم تختلف، وردة الفعل تختلف، بعضهم إذا كان رأى أن الفتاة غير ملتزمة أسرع إلى طلاقها، وليس الوقت مناسباً أن يفعل هذا خصوصاً وقد دخل بها، وربما حملت منه، وطلاقها فيه إيذاءٌ لها، وفيه أيضاً تكليفٌ له بمهرٍ جديد مع ما يدفعه من مهرها الذي خسره عليها، وقد يكون هناك مؤخر صداقه يجب دفعه، أي أن هناك اعتبارات تجعل قرار الطلاق ليس قراراً سهلاً، ولذلك ينبغي أن يحاول استصلاحها ما أمكن، ويصبر عليها وعلى أذاها، فربما يجعل الله هدايتها على يده.
وكذلك هي لو أنها تزوجت من شابٍ غير ملتزم، وهذا كثير، ثم تقول: عرفت أنه يستعمل مخدرات، يشرب الخمر، يسافر إلى الخارج، يعمل الفاحشة ويأتي معه بصورة، واكتشفت أن له علاقات، وأنه يكلم بناتاً في الهاتف، واكتشفت أنه لا يصلي الفجر، واكتشفت واكتشفت، فنقول: أين السؤال عن الزوج من البداية؟ أين التحري؟ لماذا قصرتم وأهملتم هي وأولياؤها؟ بالذات الولي عليه مسئولية أكبر، فالمرأة ما عندها استطاعة أن تذهب وتسأل وتتحرى مثل الرجل، فقد يجرم الولي في حق وليته جرماً عظيماً بترك التحري والسؤال، فنقول: هذا ما دام قد حصل نقول: هل زوجك مسلم يصلي ليس عنده مكفرات؟ إذا قالت: نعم، قلنا: اصبري عليه عل الله أن يهديه، اصبري على ظلمه، اصبري على سيرته هذه عل الله أن يهديه، ما لم يتعد الأمر إليك، ويسبب ضعفاً في دينك بحيث إنك تقعين في المعاصي، فعند ذلك لا يجوز لك البقاء على هذا الحال، أما إن تحصنتي بالله وكان لديك قدرة على المهاجمة والمقاومة، ولديك قدرة على النصيحة، فعند ذلك من الإحسان إليه وهو زوج أن تستمري في محاولة النصح له، وقد عرفنا شباباً تابوا إلى الله على أيدي زوجاتهم، وهناك أيضاً فتيات تبن إلى الله على أيدي أزواجهن، ويوجد شباب أصروا على الفسق بعد الزواج، وشابات كذلك أصررن على الفسق بعد الزواج، ويوجد شباب انتكسوا بعد الزواج وكانوا من قبل مستقيمين على شرع الله، وطبعاً المسألة يأتي فيها تدرج وتوسع في المباحات، فتجد تغيير الأثاث والاهتمام والمزهريات والنجف والنقوشات وإضاعة الأموال فيها، ثم بعد ذلك يقول: نسافر للسياحة ونذهب إلى تركيا فإن فيها مسلمين، وتتوسع المسألة شيئاً فشيئاً ويبدأ يشاهد المناظر ويقول: أشاهد الأخبار على الشاشة، ثم يشاهد ما قبلها وما بعدها، وبعض البرامج التي فيها أشياء علمية وموسيقية، وبعد ذلك يتوسع في الأشياء شيئاً فشيئاً، وينوع من صداقاته وعلاقاته، حتى يخالط أناساً من غير أهل الدين مخالطة ضارة، ويبدأ عليه الانحراف والتغيب وترك صلاة الفجر وهي أول الصلوات تركاً وبعدها صلاة العصر، وهما البردان اللذان من صلاهما دخل الجنة، وهكذا تقاسي معه المسكينة، وتعتصم أو يقاسي هو معها، فلذلك أيها الإخوة لا بد أن ينشغل الإنسان بتربية نفسه، وإلا فإنه سيضيع، وليس الزواج دائماً يكون خيراً للإنسان إذا لم يتحصن بتقوى الله تعالى.
ثم الانزلاق في مجاراة العادات الاجتماعية، أحياناً يكون الشاب في السكن الجامعي مع إخوانه الشباب عنده طريقة معينة لا يخرج عنها، لا يرى محرماً، لا يدخل مع أشخاص في منكرات، ولا يجلس مجالس منكرة، وبعد الزواج تجده لا بد أن يذهب إلى بيت أهلها، وتذهب هي إلى بيت أهله، وتنشأ علاقات، وإذا دخل ضاع نصيبه في بيتٍ غير متدين، يذهب إليهم ولا بد أن يتعرض إلى منكرات، وخالها يعزمه وعمها يعزمه، وعمتها تعزمه، وعمه يعزمها ويعزمهم، وهكذا، فالمسألة تدخل في أشياء، مع أن صلة الرحم واجبة ولا ينبغي قطعهم أبداً، لكن تبدأ تدخل في حياة الشاب أنماط وأشياء اجتماعية فيها منكرات لم تكن معهودة، مما يسبب ضعفاً بدلاً من استمرار المقاومة، وانتقال الدعوة من مجال زملائه الطلاب إلى مجالٍ أرحب أيضاً؛ فبالإضافة إلى الشباب أيضاً يدعو كبار السن والنساء بالطريقة الشرعية طبعاً، كذلك الرجال وأطفال العائلة الأخرى مثل إخوان زوجتك لهم حقٌ عليك أيضاً في التدريس والنصيحة وتحفيظ القرآن، والدلالة على مسجد فيه تحفيظ قرآن أو وسط طيب، أو مكتبة إسلامية تتعهدهم.
هناك أناس لما تزوجوا؛ نشروا الدين في البيت الآخر، وهناك أناس تأثروا سلباً من البيت الآخر.(266/37)
ظاهرة لبس العباءة على الكتف
السؤال
الظاهرة الشائعة بين النساء لبس العباءة على الكتف؟
الجواب
أيتها الأخت المسلمة! الله يقول: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] وإدناء الجلباب كما ذكر العلماء أنه يكون من الأعلى إلى الأسفل، أي من الرأس يكون إدناء الجلباب، فإذاً لبس الكاب هذا، وجعل الخمار المشدود عليه الذي يجسم حجم الرأس وحجم الكتفين لا يجوز، وهذا الكاب أنا أعتبره من المصائب التي ابتلينا بها؛ لأنه بتفصيله المنتشر -قد يكون له تفصيلات أخرى شرعية- فيه إخلال بالحجاب الذي أمر الله به، فلو كانت مثلاً تلبس شيئاً واسعاً ليس له أكمام ضيقة ولا هو ضيق في وسطه، وتلبس عليه خماراً مثلما تلبس بعض المسلمات في بعض البلدان، طويل إلى منتصف الظهر، وخمار فضفاض ليس مشدوداً على الرأس شداً، لقلنا: ما يهمنا شكل الزي المهم أن تتوفر فيه شروط الحجاب وهي: أن يكون فضفاضاً غير ضيق.
أن يكون سميكاً غير شفاف.
أن يكون طويلاً غير قصير.
ألا يكون مطيباً ولا مبخراً، ولا يكون زينة في نفسه، ولا يشبه لباس الرجال، ولا يشبه لباس الكافرات، وهذه الصفات التي يستجمعها حجاب المرأة، وما يهمنا بعد ذلك ما اسم الحجاب الذي ترتديه، المهم أن تنطبق عليه الشروط، ثم بعض الرجال مع الأسف ليس عندهم غيرة ولا عندهم العفة المطلوبة، ولذلك تلبس زوجته ما شاءت، وتجده والله أحياناً بلحيته يمشي معها في السوق، حجابها سيئ وهو ماشٍ بجانبها، يعني: هذا الدين الذي ظهرت عليك آثاره ما تعدى نصف متر إلى التي تمشي بجانبك، لماذا؟! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] أختك أمك خالتك ابنتك أين المسئولية أمام الله سبحانه وتعالى؟ وختاماً: أيها الإخوة نسأل الله عز وجل أن يثيبنا جميعاً وأن يرحمنا جميعاً في هذا المجلس، وألا يفرق جمعنا إلا بذنبٍ مغفورٍ وعمل مبرور، ونسأله أن يجمعنا وإياكم في جنات النعيم، وأن يجعلنا إخواناً على سررٍ متقابلين، وألا يجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا وأن يجعل صدورنا سليمة لإخواننا ومشايخنا وعلمائنا، وزملائنا من المسلمين من أهل السنة أجمعين.
وأشكركم على حضوركم وإنصاتكم، وأعتذر عن الإطالة عليكم، وأسأل الله أن يجمعنا في المستقبل على خيرٍ وطاعةٍ وعافية، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(266/38)
تصفية النفوس من الأحقاد
تحدث الشيخ حفظه الله عن عظم خطر الحقد سواء على المجتمعات أو الأفراد فيما بينهم، واستعرض في ثنايا الدرس أمثلة للصحابة وغيرهم تتخذ قدوة لكل من أراد أن يرى كيف كان هؤلاء يصفحون عن غرمائهم، ثم ذكر العلاج الذي به يقضى على هذه الظاهرة التي وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم بالحالقة؛ لعظم ما تقوم به من فت في جسم الأمة.(267/1)
خطر آفة الحقد على المجتمعات
اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالقرآن، ولك الحمد حتى ترضى؛ سبحانك لا إله إلا أنت، اللهم طهر قلوبنا من النفاق والغل والحقد والحسد يا رب العالمين، واجعلنا ممن يأتيك يوم القيامة بقلب سليم.
إخواني! إن هناك كثيراً من الآداب المفقودة بين المسلمين، وهذه الآداب المفقودة تسبب أنواعاً من الوقوع في الإثم والعدوان، وكثيراً من الناس يستهينون بباب الأخلاق والآداب؛ مع أن باب الأخلاق والآداب من الأمور العظيمة التي هي من مزايا هذه الشريعة ومن محاسنها، وبعض الناس يهتمون بأمور المعتقد والفقه والعلم، وينسون أن هذا الدين لا بد أن يكون المسلم فيه متخلقاً بأخلاق الإسلام متأدباً بآداب الشريعة.
ومن مآسينا في هذا الزمان، وفي ظل دائرة الابتعاد عن الإسلام يوجد هناك كثير من النقص والعيب، ومن ضمنه هذه الأمور المفقودة في باب الأخلاق والآداب، وهذا باب واسع جداً، وسنتكلم إن شاء الله في هذه الليلة عن واحد من هذه الأشياء التي هي مفقودة عند الكثيرين، أو موجود ضدها عند الكثيرين، ونبين إن شاء الله موقف الإسلام من هذه القضية، وكيف ينبغي على المسلم أن يفعل تجاه هذا المرض، وعنوان درسنا لهذه الليلة: تصفية النفوس من الأحقاد.
الحقد مرض خطير ومتفش في هذا الزمان، وكثير من الناس يحقدون على بعضهم البعض، والحقد بين المسلمين كما ذكرنا من مآسينا في هذا العصر.(267/2)
معنى الحقد وما ينبني عليه
الحقد من معانيه الضِّغْنُ والانطواء على البغضاء، وإمساك العداوة في القلب والتربص لفرصتها، أو سوء الظن في القلب على الخلائق؛ لأجل العداوة أو طلب الانتقام، والغضب إذا لزم كظمه لعجز عن التشفي فوراً رجع إلى الباطل، واحتقن في النفس فصار حقداً.
والحقد من مرادفاته: الضغينة، والغل، والشحناء، والبغضاء وغيرها.
وموضوع الحقد موضوع خطير جداً؛ لأنه يودي إلى مهالك، الحقد قد يتداخل مع الحسد والغضب، ولكن هناك اختلاف، فالحقد رذيلة بين رذيلتين؛ لأنه ثمرة الغضب، أي: يتولد من الغضب، وهو يثمر الحسد ويؤدي إليه، فاجتمع في الحقد أطراف الشر.
والحقد حين تحليله أيها الإخوة يتبين من عناصره ما يلي: أولاً: الكراهية الشديدة والبغض العنيف.
وثانياً: الرغبة في الانتقام وإنزال السوء بمن يكرهه الحاقد.
وثالثاً: تخزين العنصرين السابقين في قرارة النفس، وتغذيتهما بالأوهام والتصورات والاسترجاعات المختلفة للمشاهد، مع مثيرات جديدة للكراهية والرغبة في الانتقام.
تتفاعل هذه كلها تفاعلاً يأكل نفس الحاقد من الداخل، وتتغلغل هذه الدوافع في النفس تغلغلاً يسبب التآكل الداخلي والانهيار في النهاية في نفس الحاقد.
ولكي نبين كيف يتولد الحقد من الغضب، نقول: إنك قد تغضب على إنسان، أو إن الشخص قد يغضب على أخيه، أو على إنسان فيريد الانتقام منه، فإذا لم يستطع أن ينتقم منه ليشفي غيظ قلبه ويثأر لنفسه، ولم يستطع أيضاً أن يصفح عنه ويسامحه؛ لأنه لا يقدر على ذلك ماذا يحدث؟(267/3)
آثار الحقد على الحاقد والمحقود عليه
تتخزن هذه الطاقة الكريهة في النفس، ويحتقن هذا الحقد في النفس، ويظل دفيناً يتحرك ويشتعل داخلياً كلما رأيت الإنسان الذي تحقد عليه، وكلما ذكر اسمه على مسمعك، أو تذكرت شيئاً من أفعاله وأقواله، أو مشهداً من المشاهد التي حصلت فيها لهذا الشخص مواقف معك، فيتفاعل عندك هذا الخلق (الحقد).
والمسألة باختصار: اختزان وإمساك العداوة والبغض في القلب واستمرار تفاعلها.
وهذا المرض له آثار مدمرة على نفس الحاقد؛ لأنه يشغل القلب ويتعب الأعصاب، ويقلق البال، ويقض المضجع، وقد تظلم الدنيا في وجه الحاقد وتضيق به على سعتها، وتتغير معاملته حتى لأهله وأولاده؛ لأن الحقد يضغط عليه من كل جانب، وقد تتسع دائرة الحقد لتشمل الأبرياء كما لو كرهت امرأة زوجها لإهانته وشتمه لها وتعذيبها فقد تكره جميع الرجال، أو يظلم والد ولده ويذيقه ألوان العذاب ويقسو عليه ويحرمه ألوان العطف والحنان، فيكره الولد كل الآباء وهكذا.
والحقد في الغالب يكون بين الأقران، ولذلك فالضرة تحقد على ضرتها، والفقير يحقد على الغني، وكل من سلب نعمة يحقد على من أنعم الله عليه بها وهكذا، وكل صاحب رئاسة يحقد على من ينازعه الرئاسة، وكل إنسان يحقد على من يتفوق عليه بشيء.
وإذا كان للحاقد سلطة أو قوة فإنه يسعى للانتقام من كل من يظن أنه عدو له، والحاقد فيه شبه من الكفار الذين قال الله فيهم: {وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:119] تأمل هذه الصورة الكريهة الشنيعة التي ذكرت في القرآن: {وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} [آل عمران:119] أي: أن هذا الحاقد المغتاظ يعض أنامله على من يحقد عليه.
الحقد داء دفين ليس يحمله إلا جهول مليء النفس بالعلل
مالي وللحقد يشقيني وأحمله إني إذاً لغبي فاقد الحيل
سلامة الصدر أهنا لي وأرحب لي ومركب المجد أحلى لي من الزلل
إن نمت نمت قرير العين ناعمها وإن صحوت فوجه السعد يبسم لي
وأمتطي لمراقي الجد مركبتي لا حقد يوهن من سعيي ومن عملي
فهذا التبرؤ أو هذا الشفاء من الحقد نعمة من الله سبحانه وتعالى، وليس أهنأ للمرء في الحقيقة ولا أطرد لهمومه ولا أقر لعينه من أن يعيش سليم القلب بريئاً من وساوس الضغينة وثوران الأحقاد، ومستريحاً من نزعات الحقد الأعمى، فإن فساد القلب بالضغائن داء عياء، وما أسرع أن يتسرب الإيمان من القلب المغشوش كما يتسرب الماء من الإناء المثلوم.(267/4)
حكم الحقد في الشريعة
أما حكم الحقد في الشريعة فإليكموه من هذه النصوص الشرعية: قال البخاري رحمه الله تعالى في الأدب المفرد: باب الشحناء، والشحناء: هي العداوة إذا امتلأت منها النفس والبغض والحقد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا) وهذا الحديث مشهور موجود في الصحيحين وغيرهما، والشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تباغضوا) وهذا النهي للتحريم، لا يجوز لك وحرام عليك أن تبغض أخاك المسلم.
قال ابن رجب رحمه الله في شرح هذه اللفظة: (لا تباغضوا) نهى المسلمين عن التباغض بينهم في غير الله تعالى بل على أهواء النفوس، فإن المسلمين جعلهم الله إخوة، والإخوة يتحابون بينهم ولا يتباغضون.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم).
وقد حرم الله على المؤمنين ما يوقع بينهم العداوة والبغضاء كما قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91] وامتن على عباده بالتأليف بين قلوبهم كما قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانا} [آل عمران:103] ولهذا المعنى حرم المشي بالنميمة، أي: لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء، وكذلك رخصت الشريعة في الكذب في الإصلاح بين الناس، لدفع الحقد والبغضاء وإزالتها من القلوب.
قال ابن رجب: ورخص في الكذب في الإصلاح بين الناس، ورغب الله في الإصلاح بينهم كما قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114] ما أعظم الأجر الإصلاح بين الناس، اكذب لكي تزيل الضغينة والبغضاء من القلوب، قل: لم يقل فيك كذا، أنا كنت حاضراً وما ذكر هذه الكلمة، اكذب فإن الكذب هنا حلال.
كل ذلك من أجل أن تلتئم قلوب المؤمنين، وأن تتصافى النفوس، وأن يكون المجتمع متآخياً مترابطاً على هدي هذه الشريعة.(267/5)
عناية الإسلام بإزالة الضغائن من القلوب
والإسلام يتعاهد النفوس ليغسلها من أدران الحقد يومياً وأسبوعياً وفي كل عام، أما بالنسبة ليومياً فهناك حديث نذكره هنا مع اختلاف العلماء في صحته لنستشهد به في هذا الباب، وهذا الباب على أية حال ليس من أبواب الاعتقاد ولا الحلال والحرام، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة لا ترفع صلاتهم فوق رءوسهم شبراً: رجل أمَّ قوماً وهم له كارهون، وامرأة باتت وزجها عليها ساخط، وأخوان متصارمان) متقاطعان متدابران متهاجران متفارقان متكارهان، رواه ابن ماجة وابن حبان في صحيحه، قال البوصيري في الزوائد: هذا إسناده صحيح ورجاله ثقات، وقال العلامة الألباني: فيه عبيدة، قال ابن حبان في الثقات: يعتبر حديثه إذا بين السماع وهو لم يبين السماع، فهذه العلة التي ذكرها، والشاهد من الحديث: قوله: (أخوان متصارمان) لا ترفع صلاتهم فوق رءوسهم شبراً.
أما بالنسبة لأسبوعياً: قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: (تعرض أعمال العباد في كل جمعة مرتين، يوم الإثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد مؤمن إلا عبداً بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: اتركوا هذين حتى يفيئا) والآن تصور معي، في كل أسبوع تعرض الأعمال على الله، يغفر الله للمؤمنين إلا من بينه وبين أخيه شحناء فلا مغفرة، لهما، للشحناء.
وفي رواية أيضاً لـ مسلم: (تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين والخميس، فيغفر فيها لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجل كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: أَنِظروا هذين حتى يصطلحا) فكم يفوته من الأجر العظيم كل أسبوع مرتين! يومان في الأسبوع الإثنين والخميس، يقال: (أنظروا هذين حتى يصطلحا) لا مغفرة لهذين حتى يصطلحا، حتى يفيئا.
إذاً: لا يجوز لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث.
وبالنسبة للشيء السنوي لموضوع الأحقاد، لاحظ معي الحديث: (إذا كان ليلة النصف من شعبان اطلع الله إلى خلقه فيغفر للمؤمنين ويملي للكافرين، ويدع أهل الحقد بحقدهم حتى يدعوه) ويدع أهل الحقد بحقدهم لا مغفرة لهم حتى يدعوا الحقد، وحتى يخرجوا البغضاء من قلوبهم، حتى يتصافوا ويكونوا إخواناً كما أمر الله، وفي رواية: (فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن) المشرك ليس له مغفرة، والمشاحن ليس له مغفرة، تباً لهم على ما حرموا من هذا الخير العظيم وهذه المغفرة العظيمة بسبب الحقد والشحناء.
هذا في الأسبوع يومان وكل سنة، فقضية الأحقاد موقوف أصحابها عند رب العالمين، لا مغفرة لهم، فالمسألة جادة أيها الإخوة.(267/6)
أثر تفشي الحقد على المجتمع
قال النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً خطورة الحقد أيضاً: (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ إصلاح ذات البين) لأن الصيام والصلاة والصدقة عبادات عظيمة، وإصلاح ذات البين نفعه متعد منتشر، وقال: (فإن فساد ذات البين) وتفسد ذات البين بالحقد والبغضاء والشحناء، قال: (إياكم وسوء ذات البين فإنه الحالقة) وفي الرواية الأولى: (فإن فساد ذات البين هي الحالقة) ما هي الحالقة؟ التي تحلق الإيمان كما تحلق الموسى شعر الرأس.
وقال أبو الدرداء: [ألا أحدثكم بما هو خير لكم من الصدقة والصيام؟ صلاح ذات البين، ألا وإن البغض هي الحالقة].
الحالقة: هي الماحية للثواب، ولذلك ورد في الرواية الأخرى: (دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء، هي الحالقة؛ حالقة الدين لا حالقة الشعر) على علة في إسناده، فحالقة الدين تحلق الدين كما تحلق الموسى الشعر، وسميت داء لأنها داء القلب، والحقد يؤدي إلى ثمانية أشياء: 1 - تمني زوال النعمة على من تحقد عليه.
2 - الشماتة به إذا أصابه البلاء.
3 - مهاجرته ومصارمته وإن طلبك.
4 - الإعراض عنه استصغاراً له.
5 - التكلم بالكذب والغيبة وإفشاء السر وهتك الستر في حقه.
6 - محاكاته استهزاءً به وسخرية منه.
7 - إيذاؤه وإيلامه بما يؤذي ويؤلم بدنه من ضرب وغيره.
8 - التمنع عن حقه من قضاء دين أو صلة رحم أو رد مظلمة، هذا كله من شؤم الحقد وما يؤدي إليه الحقد.
كما جاء في دعاء مأثور: [اللهم إني أعوذ بك من خليل ماكر عيناه ترياني وقلبه يرعاني، إن رأى حسنة دفنها وإن رأى سيئة أذاعها] أما مرفوعاً فلا يصح، ولكن المعنى في هذا [الخليل الماكر عيناه ترياني وقلبه يرعاني إن رأى حسنة دفنها وإن رأى سيئة أذاعها] هذه صفات الحاقد، إذا رأى حسنة كتمها وإذا رأى سيئة نشرها.
وصدور المؤمنين يا أيها المؤمنون لا محل لحقد فيها، لأن الأصل في صدورهم أنها سليمة مملوءة بالمحبة وإرادة الخير للآخرين، فلا مجال للغل فيها، وإن مرت الكراهية والبغضاء الموجودة بسبب فإنها تمر مرور عابر السبيل، لا يجد مكاناً يستقر، وهكذا العوارض الغريبة تنطرد من الوسط الذي لا يتقبلها.(267/7)
نقاء قلوب الرعيل الأول
تأمل كيف أثنى الله على المهاجرين والأنصار ومن اتبعهم بإحسان قال الله عز وجل: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8] هذا الفيء لمن؟ للفقراء المهاجرين الذين أصابهم ما أصابهم في سبيل الله وصبروا أولئك هم الصادقون {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الحشر:9] ما هي الدار؟ المدينة، من الذي تبوأها قبل المهاجرين؟ الأنصار {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} [الحشر:9] لا يجد الأنصار في صدورهم حقداً ولا حسداً على المهاجرين من الفضل الذي أوتيه المهاجرون، فإن المهاجرين أفضل، لكن الأنصار ما حسدوهم على هذه الأفضلية: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] والذين جاءوا من بعدهم وساروا على هديهم، الذين جاءوا من بعدهم هم التابعون بإحسان: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ} [الحشر:10] وهنا يأتي الشاهد الآن: {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] هذا من دعاء التابعين بإحسان، نسأل الله أن يجعلنا منهم (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] لا تجعل في قلوبنا بغضاء ولا حقداً ولا حسداً ولا غلاً للذين آمنوا: {رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].(267/8)
علو أخلاق الأنبياء
ولقد ضرب يوسف عليه السلام مثلاً عالياً جداً في رفض الحقد من نفسه، تصور وتأمل فيما فعل مما فيه دلالة على عظم خلقه ومنزلته نبوته، لقد ظلمه إخوانه ظلماً بيناً عظيماً، حقدوا عليه فماذا فعلوا به؟ حسدوه على عظم المنزلة من أبيه، ظلموه ظلماً عظيماً، أخذوه من بين أبيه وأمه، وأغلظوا له واجتمعوا حوله في العراء لم يردعهم صغر سنه، ولا الغربة والوحشة التي سيكون فيها، ولا توصية أبيهم لهم، حرموه من أبيه وأمه وأخيه الأصغر وألقوه في غيابة الجب في ظلامته ووحدته ووحشته بلا أنيس، على شفا هلكة، يصرخ ولا يجاب، ما في قلوبهم رحمة في تلك اللحظات، وكانوا سبباً في بيعه واستعباده، صار عبداً ذليلاً وقد كان حراً عند أبيه:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند
وليس من اليسير على النفس أن تنتقل من حال الحرية إلى حال الذل والعبودية، ولكن ألقوه في غيابة الجب، وصاروا سبباً في بيعه في سوق مصر -سوق النخاسة- واشتري عبداً ذليلاً، ثم كانت هذه الغربة سبباً في ابتلائه ووقوعه في السجن؛ لأنه لما وقع في قوم لا يعرفون قدره كادوا له وسجنوه، والمسألة كلها متسلسلة؛ هذه الأذية من الأذية الأولى وهي إلقاء إخوته له في الجب، لما حسدوه حقدوا عليه وفعلوا ما فعلوا، هذه الأفعال في الشخص العادي ماذا تورث؟ المتوقع أن تورث الحقد الأسود الدفين عليهم، لكن نفس النبي تأبى هذا، والقلب الصافي لا يمكن أن يحقد، ولذلك لما قدر عليهم سامحهم، والمتوقع الآن إنزال أقصى درجات العقوبة بهؤلاء، ولكنه لما قدر عليهم قال لهم: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92] هذه أخلاق الأنبياء.
فإذاً: عندما تتوالى دواعي الحقد في نفس الإنسان ويظلم من أقرب الناس إليه، ثم لا يحقد، معناها أنه صاحب دين وإيمان.
وسلامة الصدر يا عباد الله! مسألة عظيمة فضلها كبير، وإليكم بعض ما ورد من الأحاديث في مسألة سلامة الصدر: روى ابن ماجة من حديث عبد الله بن عمرو قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي الناس أفضل؟ قال: كل مخموم القلب) مخموم القلب: يقال: خممت الشيء إذا كنسته، وخممت البيت إذا كنسته، مخموم القلب أي أنه يزيل ما علق بقلبه أول بأول، مثلما تكنس البيت وتزيل ما به من النجاسات والقاذورات.
(كل مخموم القلب، صدوق اللسان، قالوا: صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد) حديث صحيح.
وفي رواية: (خير الناس ذو القلب المخموم الذي يَود ويُود، واللسان الصدوق، قيل وما هو؟ قال: التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد، قيل: فمن على أثره؟ قال: الذي يشنأ الدنيا ويحب الآخرة، قيل: فمن على أثره؟ قال: مؤمن في خلق حسن) أعلى الدرجات القلب المخموم الذي لا غل فيه ولا حسد.(267/9)
عظم أجر العبد النقي القلب
وقد بلغ رجل من الصحابة أن يكون مبشراً بالجنة وهو في الدنيا بسبب هذه الخصلة وهي سلامة الصدر، في هذه القصة العظيمة التي رواها الإمام أحمد وغيره رحمه الله وهو حديث صحيح، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنا جلوساً مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد تعلق نعليه في يده الشمال، فلما كان الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضاً، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال له: إني لاحيت أبي -أي: خاصمت أبي- فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت، قال: نعم، قال أنس راوي الحديث: وكان عبد الله -أي ابن عمرو - يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئاً، غير أنه إذا تعارَّ -استيقظ أثناء الليل- وتقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً فلما مضت الثلاث ليالي وكدت أن أحتقر عمله قلت: يا عبد الله! إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر) أي: أني لم أخاصم أبي، ولا لاحيت أبي، وهنا إما أن يكون عبد الله بن عمرو استخدم التورية، أو أنه كذب لتعلم مصلحة شيء، والكذبة ليس فيها ضرر على أحد، المهم لها تخريج.
قال: (يا عبد الله إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنا ثلاث مرار: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فكنت أنت في المرات الثلاث، فأردت أن آوي إليك لكي أنظر ما عملك فأقتدي به، فلم أرك تعمل كثير عمل).
أي: أنا بصراحة ما رأيت منك زيادة، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال الرجل: قيل إنه سعد بن مالك الأنصاري في رواية في سندها ضعف، فقال الرجل: (ما هو إلا ما رأيت، فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق).
هذه الخصلة التي جعلتك مبشراً بالجنة وأنت في الدنيا ونحن ما نطيق مثل هذا، إذاً رجل لا يبيت إلا وصدره سليم للمسلمين، ما عنده غش ولا حقد على أحد، ولا حسد لأحد من المسلمين.(267/10)
سلامة صدور الصحابة رغم نزاعاتهم الدنيوية
وبقية صحابة النبي عليه الصلاة والسلام مهما حصل بينهم من خلاف كانوا إلى المصافاة مسارعين، وإلى الأخوة وعودتها إليهم كانوا مبتغين، قال علي رضي الله عنه: [إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله تعالى فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]].
وفي رواية: دخل عمران بن طلحة بن عبيد الله على علي، معلوم أن طلحة خرج في الجمل ضد علي، الصحابة اجتهدوا في فتنة نمسك ألسنتنا عنها، بعدما فرغ من أصحاب الجمل دخل ابن طلحة على علي، فرحب به، يقول علي لـ عمران بن طلحة: [إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]].
وجاء ابن جرموز قاتل الزبير يستأذن على علي رضي الله عنه فحجبه طويلاً، فكان ابن جرموز يحتج: أما أهل البلاء فتجفوهم، فقال علي: بفيك التراب، لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (بشر قاتل ابن صفية بالنار) فـ ابن جرموز قتل الزبير، مع أن الزبير اعتزل وخرج ما رضي أن يشترك في المعركة، لكن هذا عمد إليه فقتله، فـ الزبير بن العوام حواري النبي صلى الله عليه وسلم قال علي لـ ابن جرموز: [بفيك التراب، إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله: ((وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ))].
هذه بعض الروايات التي ساقها ابن جرير بأسانيده رحمه الله وفي بعضها انقطاع، والشاهد العام منها يشهد بعضهم لبعض أن علياً رضي الله عنه كان يقول: [إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير ممن قال الله فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}] مهما حصل بينهم من خلاف فكانوا يفيئون ويرجعون.
وهذا مثل آخر ساقه الذهبي في سير أعلام النبلاء قال زيد بن أسلم: [دخل على أبي دجانة وهو مريض وكان وجهه يتهلل، فقيل له: مال وجهك يتهلل؟ فقال: ما من عمل شيء أوثق عندي من اثنتين كنت لا أتكلم فيما لا يعنيني -والأخرى- وكان قلبي للمسلمين سليماً].
ودرج على هذا الأئمة الأعلام والعلماء العاملون، والصلحاء والأخيار من هذه الأمة، يطهرون قلوبهم من كل حقد وحسد، ولا يجعلون له موضعاً في نفوسهم، مهما حصل فكانوا يسامحون ويغفرون، وهذا مثل من المتأخرين:(267/11)
الشيرازي وإحسان ظنه بالمسلمين
قال الذهبي رحمه الله في ترجمة الإمام القدوة المجتهد أبي إسحاق الشيرازي قال: وقيل: إن أبا إسحاق نزع عمامته وكانت بعشرين ديناراً -عمامة نفيسة- وتوضأ في دجلة فجاء لص فأخذها وترك عمامة رديئة بدلاً منها فطلع الشيخ فلبسها وما شعر، حتى سألوه وهو يدرس -أي أنهم أشعروه- فقال بكل بساطة: لعل الذي أخذها محتاج.
ولأن الجنة لا يصلح أن يدخلها إلا من كان قلبه سليماً نظيفاً تماماً، فإن الله لا يدخل أهل الجنة الجنة إلا بعد أن ينقوا ويهذبوا وتكون صدورهم سليمة، كما قال الله عز وجل: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} [الأعراف:43] وفي آية أخرى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47] وذكرنا الآية التي فيها دعاء المؤمنين: {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10].
يقول عليه الصلاة والسلام مبيناً صفة أهل الجنة: (أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين على إثرهم كأشد كوكب دري في السماء إضاءة، قلوبهم على قلب رجل واحد لا اختلاف بينهم ولا تباغض ولا تحاسد) أهل الجنة إذاً أيها الإخوة لا اختلاف بينهم ولا تباغض ولا تحاسد، هذا الحديث في الصحيحين وغيرهما.
لو واحد قال: هل يمكن ألا يقع بين إنسان مسلم وأخيه أي نوع من أنواع الخصام؟ هذا يؤذيك بكلمة، وهذا يجرحك بتصرف، والإنسان نفسه حساسة تتأثر، نحن بشر نقول: نعم، هذا لا يمكن في الواقع، نعم نحن مطالبون ألا نغضب وأن نكظم الغيظ: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] لكن لا يستطيع الإنسان في الحقيقة ألا يحزن ولا يغضب من أي تصرف مهما حصل من أي واحد، لا يمكن، بل إن الصحابة رضوان الله عليهم كان بعضهم يجد على أخيه في نفسه، وإليك هذا المثل من صحيح البخاري رحمه الله:(267/12)
عمر يعرض حفصة للزواج
لما تأيمت حفصة من زوجها بـ المدينة، قال عمر بن الخطاب: أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة، طبعاً هذا من عادة المجتمع الأول في بساطته ونظافته وسعيهم للعفاف، أن كان الرجل يعرض بنته على من يراه مناسباً، ليس عيباً أبداً وليس فيها شيء مطلقاً، بخلاف حساسية الناس اليوم، يقولون: عيب أن تعرض أختك أو ابنتك على واحد صالح، ويقولون: هل هذه البنت يعني قطعة قماش أو سيارة تعرضها أو سلعة، والحقيقة أنهم لا يفهمون ولا يعقلون.
قال: فعرضت عليه حفصة، فقال: سأنظر في أمري، يفكر، فلبثت ليالي ثم لقيني فقال عثمان: قد بدا لي ألا أتزوج يومي هذا، وعمر لا يقول تعال أريد واحد غير متزوج، لا، هو يعرض ابنته على رجل دين فقط، عثمان متزوج قبلها، قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق فقلت إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر، فلم يرجع إلي شيئاً، قال عمر -وهذا هو الشاهد- وكنت أوجد عليه مني على عثمان، لأنه لا اعتذر ولا وافق هذه القصة لها تتمة مهمة، سوف نذكرها بعد قليل إن شاء الله.
لكن الشاهد: أن الصحابة كان يحصل بينهم مواقف، يجد الإنسان فيها على أخيه، لكن ما ينام إلا ونفسه طيبة، لا يدوم غضب الإنسان على أخيه، سرعان ما يفيئون ويتغافرون.
فإذاًَ أيها الإخوة، يصعب أن نقول: لا يمكن لإنسان أن يغضب من تصرف أخيه أبداً، هذا شيء غير واقعي، ومهما حاولت فلا بد أن تفاجئ يوماً من الأيام بتصرف يغضبك، أو كلمة تجرحك.(267/13)
الفرق بين الموجدة والحقد
لكن ما هو الفرق بين الموجدة وبين الحقد؟ ذكر ابن القيم رحمه الله في آخر كتاب الروح في مباحث الفروق، الفرق بين الموجدة والحقد، فقال من الفروق: الأول: الموجدة: الإحساس بمؤلم والعلم به وتحرك النفس في رفعه، فإذا لم تتألم لتصرف يغضبك فليس عندك إحساس، وطبيعي أن تتألم.
أما الحقد فهو إضمار الشر وتوقعه في كل وقت، فلا يزايل القلب أثره.
الثاني: الموجدة سريعة الزوال والحقد بطيء الزوال لا يكاد يزول.
الثالث: والحقد لما يناله منك، أما الموجدة لما ينالك أنت منه.
الرابع: والحقد يجيء مع ضيق القلب، واستيلاء ظلمة النفس ودخانها على القلب، وأما الموجدة تجد الإنسان يجرح ويتألم مع قوة قلبه وصلابته ونوره وإحساسه.
الخامس: أكثر الفروق وضوحاً: أن الموجدة تأتي في النفس بأثر ثم يزول بسرعة، الحقد أثره يتفاعل ويزيد ويستقر في القلب، هذا الحقد.
هنا قد يطرح سؤال، وهو: هل يوجد حقد شرعي؟
الجواب
إن تغير نفس المسلم واحتداده عند رؤية منكر أمر مطلوب، وهناك حقد شرعي أيضاً مطلوب من المسلم، أما بالنسبة لتغير النفس والاحتداد عند رؤية المنكر فله شواهد كثيرة، ومن ذلك: ما جاء في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في قبلة المسجد) النخامة والنخاعة إحداهما تنزل من الرأس والثانية تخرج من الصدر، هذا الفرق بين النخامة والنخاعة، ومنه البلغم (رأى نخامة النبي عليه الصلاة والسلام في قبلة المسجد، فتغيظ عليه الصلاة والسلام وقال: إن الله قِبل أحدكم) يعني في الصلاة، الله ينصب وجهه إلى وجه عبده، (فإذا كان في صلاته فلا يبزقن، أو قال فلا يتنخمن، ثم نزل فحتها بيديه) أزالها عليه الصلاة والسلام بيده الشريفة، هذا تواضع منه صلى الله عليه وسلم في إزالة الأوساخ من المسجد، وهذا فيه دليل على إزالة الأوساخ من المسجد، فحتها بيديه.
وقال ابن عمر رضي الله عنه: [إذا بزق أحدكم فليبزق عن يساره] إذاً لو إنسان احتاج البصاق في الصلاة يبصق عن يساره لا عن يمينه لأن عن يمينه ملكاً، ولا يبصق أمامه لأن الله ينصب وجهه لوجه عبده في الصلاة، (من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفله بين عينيه) كما ورد في الحديث الصحيح.(267/14)
كيفية توجيه طاقة الحقد
ما هو الحقد الذي يجب علينا أن نحقده ما هو مجاله؟ الحقد أيها الإخوة طاقة في النفس البشرية ينبغي أن توجه، مثل الكره والبغض، والحقد طاقة ينبغي أن توجه إلى وجهتها الصحيحة.
فنحن يجب علينا أن نحقد على الكفرة، والذي ما عنده حقد على الكفرة المجرمين الذين يسومون المسلمين سوء العذاب ما عنده إيمان، إي نعم، يجب أن نحقد على الكفرة الذين يحاربوننا في الدين، الله سبحانه وتعالى ذكر من فوائد الجهاد: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة:14 - 15] ما ذمهم على أن عندهم غيظاً وحقداً في صدورهم على الكفرة، كفرة قاتلونا وقتلوا منا وارتكبوا الفظائع ثم لا نحقد عليهم، ليس فينا دين إن لم نحقد، عليهم إذاً ليس فينا دين، لا يمكن أن ننسى الحقد على اليهود الذين فعلوا فينا الأفاعيل، وسلبوا مسجدنا، وقتلوا رجالنا، وانتهكوا أعراض نسائنا، وذبحوا أطفالنا، وارتكبوا كل الجرائم، حتى إدخال الفيروسات ونقل الأمراض المعدية السارية وضعت في خزانات المياه التي يشرب منها المسلمون إلى آخره.
لا يمكن أن ننسى حقدنا عليهم مطلقاً، لا يمكن أن ننسى الحقد على النصارى الذين يسومون إخواننا ألوان العذاب الآن في بلاد البوسنة وغيرها عندما تسمع أن الصرب قتلوا شوهوا قطعوا الأعضاء واغتصبوا النساء، امرأة تتعرض لثلاثة وثلاثين اغتصاباً في يوم واحد، ويقطعون قطعة من جلد المسلم ويجبرونه على أكلها وهو لا يزال على قيد الحياة، والكروات النصارى الخونة يجبرون العجائز من المسلمين أن يرمين بأنفسهن من الطوابق العليا في المباني ثم يتدربون على إطلاق الرصاص عليهن في الهواء، فإذا وصلت المرأة إلى الأرض جثة هامدة أرغموا طفلها أن يصعد على بطنها ويقفز لتخرج الأمعاء من البطن، وبعد ذلك لا نحقد عليهم، ليس فينا خير ولا دين.
وإذا لم نحقد على الهندوس الذين يحرقون إخواننا وهم أحياء، وعلى الشيوعيين في طاجكستان الذين يقطعون آذان المسلمين، هناك مسلمون الآن يمشون بدون آذان، وعشرات آلاف وميت الجثث في النهر حتى صار النهر لونه أحمر، وهلك أعداد من المسلمين في الصقيع، إذا كنا لا نحقد على أمثال هؤلاء فلا خير فينا.
فالحقد في نفوسنا على الكفار باق موجود: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة:14 - 15] نحن ننتظر يوماً نشفي فيه صدور إخواننا أصحاب هذه المصائب، ونحن إخوانهم في الدين نشاطرهم المصيبة، ونشاركهم الشعور بالمأساة، وإلا فلا دين فينا ولا خير، والذين يدعون اليوم للسلام العالمي ويقولون: نتطلع إلى عالم لا يوجد فيه أحقاد، هؤلاء مجرمون كفرة؛ لأنهم يريدون بذلك إلغاء الجهاد والقضاء عليه، ويريدون منا أن نتسامح مع الكفرة الذين نكلوا بنا وبإخواننا، أسروا من أسروا، وقطعوا عيش من قطعوا، ورملوا نساءنا، ويتموا أطفالنا، وألقوا بالمسلمين في السجون، ثم يقولون: نتطلع إلى عالم لا أحقاد فيه، وينادون بمبدأ الأخوة الإنسانية البشرية، الكفرة المجرمون يريدون هدم الدين والشريعة، متى يحل السلام العالمي؟! متى يحل السلام في العالم؟! متى؟!(267/15)
متى يحل السلام ويزول الحقد
والله العظيم لن يحل السلام في العالم إلا عندما ينزل المسيح ابن مريم، وقبل ذلك كله جهاد، ليس هناك شيء اسمه ترك الحقد على الكفار، ما تزول الأحقاد نهائياً من الأرض إلا اسمع معي: (والله لينزلن ابن مريم فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية، ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد) وفي رواية أخرى صحيحة أيضاً: (فيكون عيسى ابن مريم في أمتي حكماً عدلاً وإماماً مقسطاً، يدك الصليب، ويذبح الخنزير ويضع الجزية) لماذا يضع الجزية؟ لأنه ما بقي في الأرض كافر، ما يقبل من اليهود والنصارى وغيرهم إلا الإسلام أو القتل، فلما لا يبقى هناك غير الإسلام وكل الأرض مسلمة، فلا جزية.
(ويترك الصدقة فلا يسعى على شاة ولا بعير، وترفع الشحناء والتباغض، وتنزع حمة كل ذات حمة -حتى العقرب ما تلسع، وليس لها سم- حتى يدخل الوليد يده في فيّ الحية فلا تضره، وتضر الوليدة الأسدة فلا يضرها، ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها، وتملأ الأرض من السلم -هذا السلام العالمي متى سيحدث؟ بالنص- وتملأ الأرض من السلم كما يملأ الإناء من الماء، وتكون الكلمة واحدة -لا إله إلا الله- وتضع الحرب أوزارها).
هذا السلام العالمي وانتهاء القتال من الأرض وانتهاء الجهاد، بهذه القضية، بعد الدجال ويأجوج ومأجوج وقتال واليهود، بعد انتهاء كل الملاحم وقتال الروم وتصفية كل الكفار من الأرض عند ذلك تضع الحرب أوزارها، أما قبل ذلك فإن الجهاد ماضٍ إلى قيام الساعة، ومبدأ اسمه مبدأ السلام العالمي لا يمكن أن يحصل، والله -غير حانث- لا يمكن أن يحصل، لأن المسلمين قلوبهم على الكفرة مملوءة، والظلم وعلى المسلمين حاصل، والثأر من الكفرة واجب، لا بد أن يحصل، والجهاد ماض إلى قيام الساعة.(267/16)
علاج الحقد
أما بالنسبة لنقلة أخرى في الموضوع: إلى معالجة البغض والحقد والشحناء.
فإن علاج هذا الداء لا بد أن تكون بقلب المؤمن المستنير بنور ربه على هدي من الكتاب والسنة، مع الأسف عندما ندير رءوسنا ونقلب أبصارنا في بعض مجتمعات المسلمين، حتى المجتمعات التي فيها أشياء من الخير فإن هذه الأوساط لا تخلو من الحقد، ونسمع دائماً وباستمرار عن بعض الذين يدعون الدعوة إلى الله ويدعون العلم وهم يثيرون الفتن والأحقاد في المسلمين على المسلمين، وتسمع الطعن والازدراء والانتقاص والاحتقار من المسلم لأخيه المسلم.
وهذا دافعه أمران: التعصب والحسد، واتباع الهوى الرائد والقائد لهذا، نفوس مريضة تثير الأحقاد على المسلمين -مع الأسف- بأسماء المسلمين، يتسترون بلباس الدعوة والعلم وهم ينفثون كيدهم وسمومهم في نفوس أهل المجالس لكي يحملوا النفوس ويشحنوها بالحقد على العلماء وعلى الدعاة إلى الله وطلبة العلم.(267/17)
حقيقة البغض في الله
من أسباب البغضاء في هذه الأوساط، قال ابن رجب رحمه الله في جامع العلوم والحكم: ولما كثر اختلاف الناس في مسائل الدين -هذا نقل مهم- وكثر تفرقهم كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم، وكل منهم يظهر أنه يبغض لله.
ويطيش وينزل على المسلمين ويفت بلسانه في أعراضهم، ويأكل من لحوم المسلمين، ويقول القضية بغض في الله.
يقول ابن رجب: ولما كثر اختلاف الناس في مسائل الدين وكثر تفرقهم كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم، وكل منهم يظهر أنه يبغض لله، وقد يكون في نفس الأمر معذوراً وقد لا يكون معذوراً، بل يكون متبعاً لهواه مقصراً في البحث عما يبغض عليه.
أي: لابد أن في تفكر سبب البغض، أنت الآن تبغض فما هو سبب البغض؟ قل لي: إذا كان مجرم فما هو الدليل على إجرامه؟ إذا كنت ترميه بالبدعة ما هو الدليل الشرعي على بدعيته؟ إذا كنت تقول إنه صاحب فواحش وجرائم فأورد جرائمه وفواحشه.
قال ابن رجب: فإن كثيراً من البغض إنما يقع لمخالفة متبوع يظن أنه لا يقول إلا الحق، وهذا الظن خطأ قطعاً، وقد يكون الحامل على الميل إليه مجرد الهوى والألفة والعادة.
خالفت شيخي أنا أبغضك، لماذا يميل إلى شيخه؟ مجرد الهوى أو الألفة والعادة، وكل هذا يقدح في أن يكون هذا البغض لله، فالواجب على المؤمن أن ينصح لنفسه، وأن يتحرز من هذا غاية التحرز، وما أشكل منه فلا يدخل نفسه فيه.
لاحظ معي واحد مثلاً اضطربت به الأمور قال: ما أدرى هذا فلان أبغضه أو لا؟ هذا الأمر يبغض عليه أو لا يبغض عليه؟ قال ابن رجب: فلا يدخل نفسه فيه خشية أن يقع فيما نهي عنه من البغض المحرم.
هذا كلامه النفيس ساقه في شرح الحديث الخامس والثلاثين في كتاب جامع العلوم والحكم.
إذاً: اسأل نفسك إذا أنت شعرت ببغض لواحد من المسلمين: ما هو سبب بغضي لفلان؟ وما هي شرعية هذا الإحساس؟ وما هي الأسباب؟ ونحن ينبغي أن ننصح أنفسنا أيها الإخوة وخصوصاً الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، قد يظهر منه نوع من التدين لكن عنده بغض أو حقد موجود ومتأصل في نفسه، يمكن أن يمنع نفسه من الزنا ومن الفواحش ولا يمكن أن يمنع نفسه من الحقد والبغض، ونحن نعلم أنه لن ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله بقلب سليم؛ سليم من الشرك والشبهات والشكوك والحقد والغل والحسد والبغضاء.(267/18)
تجنب المجالس التي يدار فيها الحقد
ومن الوسائل المعينة على عدم الوقوع في الحقد والحيلولة دون دخوله إلى النفس: تجنب مجالس العناصر الحاقدة التي تثير الحقد على الإسلام وأهله.
الذين لا همَّ لهم إلا فري اللسان في أعراض العباد، استهوتهم الشياطين فتركوا اليهود والنصارى وكفرة الديلم والفرس والمرتدين، وأصحاب التغريب والمبتدعة والزنادقة ليقعوا في أعراض المسلمين، فويل لهم مما تلوك ألسنتهم وويل لهم مما يكسبون.
ومن العلاجات المهمة والأمور التي ينبغي الحرص عليها: ألا تسمح لمن يتكلم في إخوانك.
سد فاه واطرده من المجلس، أو قم عنه، لا تسمح لمن يتكلم في العلماء الثقات، ولحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في الانتقام من منتقصيهم معلومة، ولا تسمح لمن يتكلم في الدعاة إلى الله على المنهج الصحيح، وطلبة العلم الذين يطلبون علم الكتاب والسنة، ولو أخطأ أحد أهل العلم فقل: يغفر الله له، حذيفة لما قتلوا أباه قال: يغفر الله لهم.
وكذلك من العلاجات المهمة: ألا تنقل كلاماً على إخوانك في الله.
لا تنقل كلاماً من شخص إلى شخص آخر، فهذه نميمة، وقد يكون مخطأ؛ لكن اترك النقل فإنه يضر، وهناك حديث في مسند أحمد وأبي داود والترمذي والبغوي والبيهقي وغيرهم قال عليه الصلاة والسلام: (لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئاً، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر) قال أحمد شاكر في تحقيق المسند: إسناده حسن على الأقل على بحثهم فيه.
وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف الجامع.(267/19)
الزيارات الإيمانية
ومن العلاجات التي تساعد على إزالة الأحقاد: إذا حصل بينك وبين أخيك شحناء أو بغضاء أو عداوة؛ أولاً: قم بزيارته.
(وجبت محبتي للمتزاورين فيَّ) زره في الله، الزيارة تقرب، ولو ما أزالت الشحناء كلها تزيل بعضها.
ثانياً: المصارحة: والمصارحة تحدث بالزيارة واللقاء، إذاً أنت إذا سعيت إلى اللقاء به وزيارته فذلك من علاجات قضية الموجدة التي يجدها أحدنا في نفسه على أخيه.
ولنعد إلى قصة أبي بكر وعمر لنرى قضية المصارحة، وكنا قد تركناكم عند قول عمر: (وكنت أوجد عليه مني على عثمان، قال عمر: فلبثت ليالي -بعد كلامه مع أبي بكر الصديق - ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر -لاحظ الكلام الآن مذهل- فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت عليَّ حفصة فلم أرجع إليك، وجدت في نفسي عليك، قال أبو بكر رضي الله عنه: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت إلا أني قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها -أي: وصلني خبر خاص أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر حفصة، أي: أنه يريد أن يتقدم لـ حفصة - فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها لقبلتها) هل بقي في نفس عمر شيء، فالمصارحة مهمة.
وكذلك من علاجات إزالة الأحقاد: الاعتذار والمعاتبة وهما علاجان مهمان.
المعاتبة ممن أخطأ عليه، يعاتب أخاه، يقول له: يا أخي! أخطأت عليَّ وقد وجدت في نفسي عليك لما فعلت كذا وكذا، وأنا من باب المصارحة والمفاتحة، ولا أريد أن يبقى في نفسي شيء أطلب منك أن تبرر لفعلك، لا تكتم؛ لأن الكتمان باب الحقد، أول ما تكتم هذا في نفسك يزيد مع الزمن ويزيد، وكل تصرف زيادة نقطة في الإناء حتى يطفح قلبك بالحقد على أخيك، لا تكتم المسألة حتى تنفجر، صارح أولاً بأول، وعاتب يا أخي، فالمعاتبة مهمة.
وهناك فرق بين العتاب والتوبيخ، لا توبخ وتعنف ولكن عاتب، العتاب: كلام لطيف بأسلوب مؤدب، مفاتحة تبين لأخيك ما وقع منه تجاهك مما لا يرضيه، ومما أغضبك وآلمك.
وأما التوبيخ: فهو سب وتعنيف وتشهير وتقذيع في الألفاظ فلا يزيد الأمر إلا تعقيداً، ولا يزيد صدر أخيك عليك إلا إيغاراً، ولا يحل المشكلة.(267/20)
الاعتذار لمن أخطأ
وكذلك من العلاجات: الاعتذار لمن أخطأ.
لو أن رجلاً عاتبك وأنت عرفت أنك مخطأ ماذا تفعل؟ اعتذر يا أخي، وقل: سامحني، لعلي أغضبتك فسامحني، لم أكن أقصد إغضابك، إنما هي زلة لسان، والله ليس من قلبي أني فعلت كذا، أو لم أقصد هذا الظن الذي أنت ظننته، لم أقصد بتصرفي هذا كذا، وإذا أنت أخطأت اعتذر وبين موقفك، فالاعتذار مهم.
ويوجد فن مهم يذكره العلماء وهو من أبواب الأخلاق والآداب: باب: العفو والاعتذار، وهذا الباب مهم جداً أن يطرح لعلاج الأشياء التي تكون بين الإخوة، لعلنا إن شاء الله نأتي عليه، هذا العفو والاعتذار في محاضرة قادمة، لأن المحاضرة القادمة لعلها تكون عن العفو والاعتذار بين الإخوة، لأن هذا الموضوع حساس ويزيل كثيراً من الإشكالات.
ونقول كذلك من العلاجات: قدم هدية وفي الحديث: (تهادوا تحابوا) والمحبة تزيل الحقد وتزيل العداوة والبغضاء.
وأخيراً: الدعاء.
قال النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه: (ربي تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبت حجتي، واهد قلبي، وسدد لساني، واسلل سخيمة قلبي) السخيمة: هي الحقد في النفس، فمن دعائه صلى الله عليه وسلم: (واسلل سخيمة قلبي) ونسأل الله أن يسلّ سخائم قلوبنا، وأن يجعلنا سلماً لأوليائه حرباً على أعدائه، وأن يجعل صدورنا وقلوبنا سليمة للمسلمين، لا غش ولا بغي فيها ولا حقد ولا حسد.
اللهم اجعلنا من عبادك الأتقياء الأنقياء الأخفياء، وصلى الله على نبينا محمد.(267/21)
الأسئلة(267/22)
العفو خير من الاقتصاص يوم القيامة
السؤال
شخص أخطأ عليَّ وأريد الاقتصاص منه يوم القيامة؟
الجواب
إذا كنت لن تحمل في نفسك عليه، نعم.
لكن لاحظ يا أخي أنك لو عفوت لكان أجرك أعظم: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40] بعض الناس يقول: لن أسامحه لآخذ من حسناته، هناك أمر أهم وأعظم وأحسن، إذا عفوت عنه فأجر العفو أكثر من الحسنات التي ستأخذها منه، اعف عنه والله سيعطيك على عفوك من الحسنات أكثر من التي سوف تأخذها يوم القيامة.(267/23)
الفرق بين حب الرئاسة وطلبها
السؤال
هل معنى الكلام الذي ذكرته في المحاضرة الماضية أن الشاب الملتزم أو المرأة، أو الشخص المسلم إذا حانت له فرصة رئاسة أو وظيفة فيها رئاسة يستطيع فيها أن يصلح الأوضاع، ويغير المنكرات، ويمنع عدواً للإسلام وأهله من الوصول إلى هذا المركز، هل معنى المحاضرة السابقة أن يترك المنصب من أجل خطورة حب الرئاسة وخطورة الرئاسة؟
الجواب
الحقيقة أني قد أجبت على هذا الإشكال أو هذا السؤال في المحاضرة الماضية عندما قلت: إذا كان يخشى أن يدخل في المنصب عدو من أعداء الله يضر المسلمين يجب عليك أن تتقدم أنت إلى المنصب وتقطع عليه الطريق، وقلت أيضاً: إن الذي يستطيع أن ينفع المسلمين بمنصب يصل إليه فيدرأ عنهم شراً ويجلب لهم خيراً، وهو أحسن من يوجد، وممن يمكن أن يصل إلى هذا المنصب، فعليه أن يدخل فيه، وتكلمنا عن قضية يوسف عليه السلام ووضحنا أيها الإخوة، فأرجو أن لا يكون هناك لبس في هذه المسألة أبداً، أنا لا أزهد الإخوان الذين يستطيعون أن يصلوا إلى مناصب ويعملوا فيها الخير، ويدرءوا عنها الشر، ويقطعوا بها الطريق على أعداء الله، لا أزهدهم فيها أبداً، بل أقول: هو من فروض الكفايات، إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، وإلا أثمنا كلنا، كل من يستطيع أن يفعل شيئاً ولا يفعله فهو آثم.
فإذاً التزهيد في الرئاسة التي تجلب الضرر، والتي يكون فيها ظلم لإخوانك، والتي يكون فيها غمط لأصحاب الحقوق، والتي يكون من هو أفضل منك وتنافسه عليها، اسمع مني هذا الكلام: حب الرئاسة المذموم من أحواله أن يكون هناك من هو أفضل منك وأحسن وأنفع وأعلم وأتقى، فتنافسه عليها، بل يجب أن تقدمه هو، ولا يأخذنك حب الرئاسة فيحملك على منافسته والسعي لأخذ الوظيفة منه أو المنصب أو الدرجة، لو وصل إليها لنفع الإسلام أكثر منك، عنده قدرات وتقوى وعلم أكثر، هذا الذي يقدم، أما لو تنازعت الأمور فصرنا بين تقي ضعيف وفاجر قوي فننظر إذا كانت مصلحة المسلمين في تقديم من فيه فسق لنفسه، وهو قوي ينفع الإسلام، والتقي ضعيف لا ينفع الإسلام، مثل أمير الجهاد.
كما تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، إذا كنا مخيرين بين اثنين واحد قوي يكون من أسباب النصر ولكن فيه فسق، والثاني تقي لكنه ضعيف لا يحصل الانتصار به وليس من أسباب النصر، في هذه الحالة مصلحة المسلمين في تقديم الأقوى مع فسقه؛ فإن فسقه على نفسه من أجل مصلحة المسلمين العامة، ولذلك يقول عمر رضي الله عنه: [اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر وعجز الثقة] يأتي واحد قوي يملأ المكان وثقة عاجز دائماً، الذي يملأ المكان فيه فجور، وهذا الذي عنده تقوى ضعيف، فهنا المسألة مسألة موازنات يصل إليها أولو الألباب.(267/24)
حكم راتب إمام المسجد
السؤال
أنا مرشح لإمامة مسجد، وأنا سوف أستلم على الإمامة راتباً؟
الجواب
الإمامة أيضاً يدخل فيها حب الرئاسة، فتجد بعض الناس وأحياناً مع الأسف بعض الدعاة إلى الله عز وجل يتنافسون على الإمامة، مع أن الشريعة وضعت ضوابط يقول: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) كيف نتنافس عليها نحن؟ الأعلم والأحفظ هو الذي يتقدم، الذي يعرف كيف يصلي، يعرف أركان الصلاة وواجباتها وشروطها وماذا يفعل، وسجود السهو وغير ذلك، والفتح من المأموم على الإمام، كيف يفعل إذا فتحوا عليه، وهل يلزمه الاستجابة أو المضي؟ هذا إذا كان حافظاً لكتاب الله، الأحفظ والأعلم بأحكام الصلاة الأفقه في الدين، هذان الشخصان عليهما مدار الإمامة.
فيأتي واحد أقل حفظاً يتقدم، أو واحد أفل فقهاً يتقدم فهذا حرام، وهذا تنافس مذموم على الإمامة، كيف يتنافسون على الإمامة ويوجد أحفظ منهم وأفقه على خلاف بين العلماء في تقديم الأفقه وتقديم الأحفظ، كيف يتنافسون؟ حرام عليهم، ثم تكون أمام الناس، ماذا يقول الناس عن هؤلاء الدعاة الذين يتنافسون على الإمامة؟ ويتقدم واحد أمام الآخر، وتكون هذه مسألة فيها شحناء وبغضاء، نعوذ بالله من الخذلان.
أما بالنسبة لأخذ الراتب لا يجوز أخذ راتب على الإمامة، لكن يعطى مكافأة لتفرغه، الراتب حرام؛ لأن الإمامة من المناصب الدينية التي لا يجوز أخذ المرتب عليها، مثل المفتي، هل يجوز للمفتي أن يأخذ أجراً؟ يقول: يا أيها الناس الفتوى بريال، وإذا كان في مسألة عويصة عشرة ريال، وإذا كانت تريد جلسة طويلة مائة ريال، ويعطيك تسعيرة، لا يجوز أخذ الأجرة على الفتوى كما نص على ذلك علماء الأصول.
لكن إذا كان تفرغ شيخ للفتوى فيعطى مقابل التفرغ، ليتمكن من التفرغ للفتوى، فالمال ما أعطي أجراً له على عمله، المال أعطي له لكي يتفرغ للأمر، وهكذا القاضي والمؤذن.(267/25)
أقل مدة الاعتكاف
السؤال
هل يجب على المصلي إذا دخل المسجد أن ينوي نية الاعتكاف؟
الجواب
لا يجب، بل إن العلماء قد اختلفوا في أقل مدة للاعتكاف، فقال بعضهم ليلة، وقال بعضهم يوم وليلة، ومن أمثل الأقوال التي لها أدلة أحاديث صحيحة، وأما أقل من ليلة لا دليل عليه، ولذلك قد لا يشرع للإنسان أن يعتكف لدخول صلاة واحدة، ولكن إذا نوى أن يدخل المسجد ينتظر الصلاة بعد الصلاة فهو في صلاة.(267/26)
من أفطر ولم يقض تفريطاً
السؤال
امرأة أفطرت قبل سنة شهر رمضان كاملاً وجاءها رمضان هذه السنة ولم تقض بعد؟
الجواب
إذا كانت لم تقض رمضان الماضي حتى دخل رمضان الجديد وهي مفرطة فعليها كفارة مع القضاء.(267/27)
عظم أجر بر الوالدين
السؤال
أنا امرأة في الثلاثينات، ومنذ حوالي تسع سنين حصلت بيني وبين والدي خصومات عديدة، ولكن أغلبها خصومات على أمور مالية، وحيث إن أبي اجتمعت فيه صفتان: البخل والحقد، فقد حقد عليها بدرجة لا توصف حتى إنه لا يطيق أن يراني ويكلمني، ويتمنى من كل قلبه أن أعذب في النار، وأمي مطلقة حاولت جاهدة في كل مناسبة أن أرضيه دون جدوى.
فما العمل؟
الجواب
لو كان مشركاً وكافراً فإنه يجب بره، كما قال الله عز وجل: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] فأمر بالمصاحبة بالمعروف رغم الشرك، فأقول: تحملي يا أيتها المرأة ما أصابك من ظلم أبيك واحستبي الأجر عند الله، وحق الأب عظيم، ومهما عمل الإنسان فإنه لن يوفي ما أنفقه عليه أبوه، الأب أنفق عليك كم سنة؟ احسب هذه النفقة.(267/28)
صوم المريض
السؤال
امرأة مصابة بمرض في الكلى والتهاب وعند الصيام تتعب كثيراً؟
الجواب
إذا كان يشق عليها الصيام فيجوز لها الإفطار وعدم الصيام وتنتظر حتى يشفيها الله عز وجل.(267/29)
حكم الوفاء بالنذر للمعسر
السؤال
نذرت إذا نجحت أن أذبح ذبيحة وحصل ذلك، ولكن لم أتمكن من أن أفي بنذري لضيق حالتي المادية؟
الجواب
تنتظر حتى يغنيها الله من فضله وتفي بنذرها.(267/30)
معنى: السخيمة
السؤال
دعاء: (واسلل سخيمة قلوبنا) ما معنى ذلك؟
الجواب
السخيمة: هي الحقد الذي يكون في النفس.(267/31)
معنى الهجر الشرعي والدنيوي
السؤال
هجرت خالي قرابة سنة؛ لأنه حاول الاعتداء على خادمه؟
الجواب
إذا كان الهجر له سبب شرعي فلا بأس به، فلو كان هجره يشعره بخطئه ويرده إلى الصواب فينبغي عليك أن تهجره، أما إذا كان هجر الإنسان لا يزيده إلا بعداً عن الدين، فلا يجوز لك أن تهجره، على قاعدة الهجر الذي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.(267/32)
نبذ الاختلاف حول المسائل الدعوية
السؤال
لي بعض الإخوان الصالحين أحسبهم كذلك ولا أزكيهم على الله، تركوني لأني أخالفهم في بعض الأمور الدعوية، وأحياناً أجد في قلبي شيئاً، فما هو الطريق للتخلص من ذلك؟
الجواب
يا أخي قضايا الدعوة وأساليب الدعوة اجتهادات، ينبغي ألا يعنف أحدنا الآخر عليها ولا يفارق أحدنا الآخر، وسائل الدعوة الشرعية قضية اجتهادية لا نوالي ونعادي عليها ونتبرأ فيها، العلماء الثقات نجد بعضهم أفتى بجواز مسائل وبعضهم أفتى بمنعها وبعضهم توقف فيها، لا نجعلها مثاراً للتهاجر والتباغض، حرام علينا أن نفعل ذلك، لكن لو أجمع العلماء على أنها بدعة، كل الذي سألناهم قالوا: حرام، لا يجوز لنا أن نفعل ذلك لساغ الهجر، أما الأولويات فقد نختلف في الأولويات، قد ترى أنت الأولوية هذه وأنا أرى الأولوية شيئاً آخر، فلا يجوز أن يحمل أحدنا في نفسه على الآخر من هذا الاختلاف.
وأنا أنصح ولو كانوا هم تركوك أن تزورهم، نتزاور حتى ولو اختلفنا في وسيلة من وسائل الدعوة أو كيفية الدعوة، التزاور بين المسلمين حق شرعي، سواء اختلفت وجهات النظر أو اتفقت فإن الزيارة حق شرعي.(267/33)
حكم قطيعة الرحم
السؤال
لي أقارب كنا نصلهم وهم يصلوننا وهم أبناء عم، والآن لا نصلهم وليس في قلوبنا عليهم غل؟
الجواب
ولو لم يوجد غل لكن يوجد قطيعة رحم، لا بد من الوصل، الوصل واجب ولو بالهاتف، وزيارة إذا أمكن.(267/34)
وجوب مفارقة رفقاء السوء
السؤال
هل يجوز مفارقة الصديق إذا كان عاصياً ويمشي مع رفقاء السوء؟
الجواب
بل يجب، إذا لم تمكن دعوته فيجب مفارقته؛ لأنك تتأثر به وبعد ذلك تصبح مثله.(267/35)
علاج الصديق الحاسد
السؤال
معي في الفصل الدراسي زميل لي ومشكلتي أنه يحقد علي ويحسدني ويفتن بيني وبين الآخرين، وحاولت أكثر من مرة أن أصالحه فيصالح لكنه سرعان ما يعود؟
الجواب
الله عز وجل يعينك ما دمت على هذه الحال، أنت تصالح وهو يرجع، أنت مأجور وهو مأزور، والله معك، واستمر على هذا العمل.(267/36)
مجاهدة النفس على إزالة الحقد
السؤال
أنا إنسان غضبي سريع وأصفح بسرعة، وأحمل حقداً على أناس من سنوات طويلة، كلما حاولت أن أتناسى لا أستطيع وأقول: اللهم اغفر لي ولإخوتي ولكن الحقد مازال، وفي بعض الأحيان إذا جلست بمفردي أتحسر وأبكي على هذه العادة المشينة؟
الجواب
أولاً: كيف تصفح بسرعة وأنت تحمل حقد على أناس من سنوات طويلة.
والله ما دمت تتندم فهذا خير وهذه بداية خير، لكن لا بد من عمل مع هذا الندم، فإذاً لا بد أن تصلهم وأن تزيل ما في نفسك عليهم، هذه عملية مجاهدة لا بد منها.(267/37)
مقابلة إساءة الحاقد بالإحسان
السؤال
لي صديق فضله الله علي في أشياء وفضلني عليه في أشياء، والحمد لله لا أنظر له إلا فيما ليس عنده وعندي، ولكن دائماً ما يتحدث عما فضلني الله فيه حاسداً بالقول واللفظ بدون أدنى حرص منه على عدم الحسد، ودائماً يوجه نظره بطريقة غير مباشرة على الدعاء الذي يقيه من أن يحسد فماذا أفعل معه؟
الجواب
هناك شيء مشترك، وهو أننا ينبغي أن نقابل الإساءة بالإحسان، قطعونا وصلناهم، ظلمونا عدلنا فيهم، حسدونا صبرنا على بغيهم، حقدوا علينا حاولنا إزالة ما في النفوس، كن أنت المبادر.(267/38)
علاج بلاء الحقد
السؤال
أنا مبتلي بما في صدري من حقد تجاه بعض إخواني، وأجاهد نفسي بما أستطيع، لكن الشيطان يوغر صدري تجاه بعض تصرفاتهم، مع العلم أني لا أريهم من نفسي إلا خيراً وأدعو لهم بظهر الغيب؟
الجواب
الحمد لله! أنت قد قطعت مشواراً لا بأس به، وهو أنك جاهدت نفسك لدرجة أنك تدعو لهم، ولدرجة أنك ضبطت تصرفاتك فلا تريهم إلا خيراً، فباقي الآن أن تجلس مع نفسك جلسة محاسبة لإخراج هذه الأشياء، ولعلك بعد النصيحة هذه التي قدمناها في هذه المحاضرة تكون لك بداية جديدة في أن تطرح هذه الأحقاد من النفس لأنها عظيمة عند الله.
والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(267/39)
خطبة عيد الفطر المبارك
إن الله سبحانه وتعالى قد حرم علينا كل ما يفسد عقولنا، ويخرب مجتمعاتنا وديننا وخلقنا، وأعظم من ذلك الأمور المكفرة كترك الصلاة وغير ذلك، وقد تكلم الشيخ في هذه المادة عن معظم الكبائر المحرمة في دين الله عز وجل، ثم ختم ذلك بالحث على الصدقة، والقيام بالحقوق الزوجية ووصايا متنوعة يحتاج إليها كل مسلم.(268/1)
محرمات وكبائر نهى الله عنها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
الله أكبر شعارنا في هذا العيد! الله أكبر من كل شيء! الله أكبر من كل ظالم وطاغوت! الله أكبر! ولذكر الله أكبر! ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم، فالحمد لله على نعمة إتمام الصيام، وهذا أوان التكبير وذكر الله سبحانه وتعالى.
أيها المسلمون! سلامٌ عليكم، كتب ربكم على نفسه الرحمة، هذا عيدنا أهل الإسلام، إن لكل قومٍ عيداً، أعياد اليهود، وأعياد النصارى، وأعياد المشركين، ونحن المسلمين عيدنا هذا، وعيد الفطر من أيام الله المشهودة، هذا يومٌ عظيم من الأيام، أفطر فيه المسلمون بعد شهر الصيام، شرع الله فيه من العبادات ما يعلم به المسلم عظم هذا اليوم، هذا يوم فرحٍ مباح وسرور ينبغي إدخاله على البيوت وأهلها وعلى المسلمين، ولأجل ذلك كان إغناء الفقراء والمساكين بصدقة الفطر قبل صلاة العيد؛ لكي يشاركوا المسلمين فرحتهم وبطونهم غير خاوية ولا جائعة.(268/2)
الإشراك بالله
أيها المسلمون: ذكرنا في خطب العيد شيئاً من جمل الأحكام وآداب الإسلام وأخلاقه، إذ تُستغل هذه المواسم العظيمة في ذكر هذه الأمور والكليات والجزئيات المجموعة؛ ليكون في هذا المحشر الفائدة للمسلمين.
إن الله سبحانه وتعالى قد فرض علينا من الأحكام ما شاء، أحل ما شاء وحرم ما شاء سبحانه وتعالى، ومن الأبواب العظيمة في الشريعة أبواب الكبائر (اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات).
إن من أكبر الكبائر الشرك بالله، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس الفاجرة الكاذبة التي تغمس صاحبها في النار (وما حلف حالفٌ بالله يمين صبرٍ -أي: يستحق بسببها الحبس- فأدخل فيها مثل جناح بعوضة إلا جعلت نكتة في قلبه إلى يوم القيامة).
(خمسٌ ليس لهن كفارة: الشرك بالله، وقتل النفس بغير حق، وبهت المؤمن -الافتراء والكذب- والفرار من الزحف، ويمينٌ صابرة يقتطع بها مالاً بغير حق) ليس لها كفارة إلا التوبة.
(الكبائر تسع أعظمهن: إشراكٌ بالله، وقتل النفس بغير حق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، والفرار يوم الزحف، وعقوق الوالدين، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياءً وأمواتاً).
(من الكبائر شتم الرجل والديه يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه.
(لا تشرك بالله شيئاً وإن قطعت وحرقت، ولا تترك صلاةً مكتوبةً متعمداً، فمن تركها متعمداً فقد برئت منه الذمة، ولا تشرب الخمر؛ فإنها مفتاح كل شر).(268/3)
تحريم قتل النفس التي حرم الله
أبى الله أن يجعل لقاتل المؤمن توبة (أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحدٍ في الحرم -الذي يرتكب في الحرم ما حرم الله- ومبتغٍ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلبٍ دم امرئٍ بغير حق ليهريق دمه).
(إذا التقى المسلمان وحمل أحدهما على أخيه السلاح فهما على جرف جهنم، فإذا قتل أحدهما صاحبه دخلاها جميعاً).
(أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجلٌ قتل نبياً أو قتله نبي، أو رجلٌ يضل الناس بغير علم -وما أكثرهم في هذه الأيام! - أو مصورٍ يصور التماثيل) (أول ما يحاسب به العبد الصلاة).
(وأول ما يقضى بين الناس في الدماء) (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجلٍ مسلم) لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن لكبهم الله عز وجل في النار أي: ألقاهم على وجوههم.
(يجيء الرجل آخذاً بيد الرجل فيقول: يا رب! هذا قتلني، فيقول الله له: لِمَ قتلته؟ فيقول: قتلته لتكون العزة لك، فيقول: فإنها لي، ويجيء الرجل آخذاً بيد الرجل، فيقول: أي رب! إن هذا قتلني، فيقول الله: لِمَ قتلته؟ فيقول: لتكون العزة لفلان، فيقول: إنها ليست لفلان، فيبوء بإثمه).
(يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده، وأوداجه -عرقان في العنق- تشخب دماً فيقول: يا ربِّ! سل هذا فيما قتلني حتى يدنيه من العرش، فيقول الله: فيم قتلت هذا؟ فيقول: في ملك فلان -من أجل تثبيت ملك فلان من أهل الجاهلية وحكام غير الشريعة- فيبوء بإثمه).(268/4)
تحريم الانتحار
أما الانتحار فيقول عليه الصلاة والسلام: (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ -يطعن- بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبدا، ومن شرب سماً فقتل نفسه -وما أكثرهم في هذه الأيام! يبتلعون الحبوب ويتعاطون المخدرات وهذه سموم- ومن شرب سماً فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبدا -مرمي في الحمام ومعه إبرة مخدرات ميت بأي وجهٍ يلقى الله- ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبدا).(268/5)
منكرات يستحق صاحبها اللعن
ومن المنكرات التي يستحق صاحبها اللعن ما ذكره صلى الله عليه وسلم: (ملعونٌ من سب أباه، ملعونٌ من سب أمه، ملعونٌ من ذبح لغير الله -الذين يأتون العرافين والكهان فيقول: اذبح ولا تذكر اسم الله حتى تبرأ من السحر والعين- ملعونٌ من ذبح لغير الله، ملعون من غيَّر تخوم الأرض -معالمها وحدودها- ملعونٌ من كمَّه أعمى عن طريق -أضله- ملعون من عمل بعمل قوم لوط).(268/6)
تحريم أكل الربا
كقوله: (إذا ظهر الزنا والربا في قرية، فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله).
(إن أبواب الربا -يا أصحاب أسهم البنوك- اثنان وسبعون باباً أدناه كالذي يأتي أمه في الإسلام).
يا من يزيدون أرصدتهم بالربا في البنوك الربوية! (درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية).
(لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه -يا موظفي البنوك الربوية! - هم فيه سواء) (ما أحدٌ أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة) قاله صلى الله عليه وسلم.(268/7)
ثلاثة لا يكلمهم الله
ويقول صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم: رجلٌ حلف على سلعته، لقد أعطي بها أكثر مما أعطي وهو كاذب، ورجلٌ حلف على يمين كاذبة بعد العصر؛ ليقطع بها مال رجلٍ مسلم، ورجلٌ منع فضل مائه، فيقول الله: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك).
(من حلف على يمينٍ صبرٍ، يقتطع بها مال امرئٍ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان) (من قطع رحماً أو حلف على يمينٍ فاجرة رأى وباله قبل أن يموت) قاله صلى الله عليه وسلم.(268/8)
تحريم الكذب على رسول الله والشرك الخفي
ويقول صلى الله عليه وسلم في تحريم الكذب عليه: (إن كذِباً عليَّ ليس ككذب على أحد، فمن كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار).
يا من يروي الأحاديث في المجالس دون تثبت ولا معرفةٍ لصحتها!.
(شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه) (من كان له وجهان في الدنيا؛ كان له يوم القيامة لسانان من نار) (لا تقولوا للمنافق: سيدنا، فإنه إن يك سيدكم فقد أسخطتم ربك).
(إذا جمع الله الأولين والآخرين ليومٍ لا ريب فيه نادى منادٍ: من كان أشرك في عملٍ عمله لله أحداً فليطلب ثوابه من عنده، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك) (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ الشرك الخفي، أن يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل) (الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل، وسأدلك على شيءٍ إذا فعلته أَذهب الله عنك أو أُذهب عنك تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم).(268/9)
عظم انتهاك حرمات الله وتحريم إتيان الكهان والعرافين
يقول صلى الله عليه وسلم: (لأعلَّمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسناتٍ أمثال جبال تهامة بيضاً فيجعلها الله هباءً منثوراً، أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم قومٌ إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها).
(ما كرهت أن يراه الناس منك فلا تفعله بنفسك إذا خلوت) قاله صلى الله عليه وسلم.
(لن يلج الدرجات العلى من تكهن، أو استقسم، أو رجع من سفرٍ تطيراً) تشاؤماً.
(من أتى عرَّافاً أو كاهناً) وما أكثرهم في هذه الأيام! يتصلون بالهاتف في مكالمات خارجية، ويسافرون لأجل ذلك، أو يأتونه في الداخل.
يا معشر النساء! ما أكثره في النساء! (من أتى عرَّافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمد) لا يعلم الغيب إلا الله (من أتى عرَّافاً فسأله عن شيء لن تقبل له صلاة أربعين ليلة) ويجب أن يصلي، وإذا لم يصل كفر، لا تقبل له صلاة ولا ثواب ولا حسنات على صلواته إلا إذا تاب (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول أو أتى امرأة حائضاً -أثناء حيضها- أو أتى امرأة في دبرها -في مكان خروج الغائط- فقد برئ مما أنزل على محمد).
لا تأتوا الكهان (من علق تميمة فقد أشرك) (أخاف على أمتي من بعدي خصلتين: تكذيباً بالقدر، وتصديقاً بالنجوم) (لا يؤمن عبدٌ حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه).(268/10)
حرمة ترك تغيير المنكر
يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا عمت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها).
(إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقابٍ منه) إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه أوشك أن يعمهم الله بعقابه (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر؛ أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم).(268/11)
تحريم الظلم والرشوة والإقامة في بلاد الكفار
يقول صلى الله عليه وسلم في تحريم الظلم: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة) (اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام، يقول الله: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين) (اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة) (إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) (أيما رجلٍ ظلم شبراً من الأرض؛ كلفه الله تعالى أن يحفره حتى يبلغ آخر سبع أراضين، ثم يطوقه يوم القيامة حتى يقضى بين الناس) (من أخذ شيئاً من الأرض ظلماً؛ جاء يوم القيامة يحمل ترابها إلى المحشر) قاله صلى الله عليه وسلم.
(من أعان ظالماً ليدحض بباطله حقاً -ليبطل حق امرئٍ مسلم- فقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله) (من أعان على خصومةٍ بظلمٍ؛ لم يزل في سخط الله حتى ينزع) (من ضرب بسوطٍ ظلماً اقتص منه يوم القيامة) (من كانت لأخيه عنده مظلمة من عرضٍ أو مال فليتحلله اليوم قبل أن يؤخذ منه يوم لا دينار ولا درهم، فإن كان له عملٌ صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له عمل أخذ من سيئات صاحبه فجعلت عليه).
(لعنة الله على الراشي والمرتشي) وما أكثرهم في هذه الأيام! (أنا بريء من كل مسلمٍ يقيم بين أظهر المشركين، لا تراءى نارهما) يجب أن يكون المعسكران بعيدان كل البعد عن بعضهما.(268/12)
كفر تارك الصلاة وإثم آكل الربا ومانع الزكاة
يقول صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله الصلاة، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، وإن انتقص من فريضته قال الرب: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فيكمل بها ما انتقص من فريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك) (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر) (الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله) (من ترك صلاة العصر حبط عمله).
(ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية) (من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر).
(آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهداه إذا علموا ذلك، والواشمة والموشومة للحسن، ولاوي الصدقة -مانع الزكاة- والمرتد أعرابياً بعد الهجرة ملعونٌ على لسان محمدٍ يوم القيامة).
(إن الذي لا يؤدي زكاة ماله يمثل إليه ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان فيلزمه أو يطوقه، يقول: أنا كنزك) ((لم يمنع قومٌ زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا).
(تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له) (من أراد الحج فليتعجل، فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة، وتعرض الحاجة).(268/13)
تحريم السرق واللواط والزنا
يقول صلى الله عليه وسلم: (عرضت عليَّ الجنة حتى لو مددت يدي لتناولت من قطوفها -عناقيدها- وعرضت عليَّ النار، فجعلت أنفخ خشية أن يغشاكم حرها، ورأيت فيها سارق بدنة رسول الله، ورأيت فيها أخا بني دعدع سارق الحجيج، فإذا فطن له قال: هذا عمل المحج) وفي رواية: (ورأيت فيها صاحب المحجن -وهي عصا ملوية- يجر قُصبه في النار-أمعاءه- كان يسرق الحاج بمحجنه فإن فطن له قال: إنما تعلق بمحجني، وإن غُفل عنه ذهب به، ورأيت فيها امرأةً طويلة سوداء تعذب في هرة ربطتها، فلم تسقها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، حتى ماتت).
(لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده) (إن أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط) (إن الله لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن) (من أتى بهيمةً فاقتلوه واقتلوها معه) لقد أفسدها إفساداً لا يرجى لها صلاح، ولا خير في حياتها، ولا خير لها في الحياة (لا ينظر الله إلى رجلٍ أتى رجلاً أو امرأة في الدبر) (لا ينظر الله إلى رجلٍ جامع زوجته في دبرها) (إذا استعطرت المرأة فمرت على القوم ليجدوا ريحها فهي زانية) (إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان على رأسه كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه).
اللهم إنا نعوذ من الكبائر ما ظهر منها وما بطن، اللهم اجعلنا عاملين بطاعتك، مجتنبين لمعصيتك، وقافين عند حدودك يا رب العالمين! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، أشهد أنه الحي القيوم الرحمن الرحيم، لا إله إلا هو خلق فسوى، وقدر فهدى سبحانه وتعالى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد علمنا فأحسن تعليمنا، وأدبنا فأحسن تأديبنا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المسلمون: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذابٌ أليم: شيخٌ زانٍ، وملكٌ كذاب، وعائلٌ مستكبر) أي: فقير متكبر (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذابٌ أليم: أشيمط زانٍ، وعائل مستكبر، ورجلٌ جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه).
(العينان تزنيان، واليدان تزنيان، والرجلان تزنيان، -بالنظر إلى ما حرم الله، ومس ما حرم الله، والمشي إلى ما حرم الله- والفرج يزني) (لأن يزني الرجل بعشر نسوة خيرٌ له من أن يزني بامرأة جاره، لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر له من أن يسرق من بيت جاره).(268/14)
تحريم شرب الخمر
يقول صلى الله عليه وسلم في تحريم شرب الخمر: (ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاق، والديوث الذي يقر في أهله الخبث) (ثلاثة لا تقربهم الملائكة السكران) (الخمر أم الخبائث، فمن شربها لن تقبل صلاته أربعين يوماً، فإن مات وهي في بطنه مات ميتةً جاهلية) (شارب الخمر كعابد وثن) (إن على الله لعهداً لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال، عرق أهل النار) (من شرب الخمر في الدنيا، ثم لم يتب منها؛ حرمها في الآخرة) وهؤلاء سيفجرون بعد رمضان ويسافرون، ويقطعون الجسر لشرب الخمر، فتباً لهم ما قدمت أيديهم، ينهون شهر الصيام بأعمال المنكرات، هل يريدون أن يكفروا عن حسناتهم؟ فيحلوا بدلاً منها السيئات، يسافرون في معصية الله، وينفقون الأموال فيما حرم الله، ويختمون هذا الشهر الكريم الذي انصرم بالكبائر والمحرمات؟(268/15)
الحث على الصدقة
قال الصحابي: (شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة، ثم قام متوكئاً على بلال، فأمر بتقوى الله، وحث على طاعته، ووعظ الناس وذكرهم، ثم مضى حتى أتى النساء، فوعظهن وذكرهن فقال: تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم، فقامت امرأة من سطة النساء فقالت: لِمَ يا رسول الله؟! قال: لأنكن تكثرن الشكاة -الشكاية والتذمر والتأفف- وتكفرن العشير -وهو الزوج، تجحدن نعمته وحقه- قال: فجعلن يتصدقن من حليهن، يلقين في ثوب بلال من أقراطهن وخواتمهن).
هكذا كان موقف نساء الصحابة مع أنهن أفضل نساء الأمة، يتصدقن ويلقين بأقراطهن في ثوب بلال والرسول صلى الله عليه وسلم يذكرهن.(268/16)
عظم حق الزوجين على بعضهما
وإحياءً لهذه السنة فإن عند النساء من يجمع صدقاتهن في سبيل الله، فعليكن يا معشر النساء! بالصدقة في هذا اليوم؛ فإنها سنة ترجن بها ثواب الله والعتق من النار، وكذلك الرجال يشاركون إن شاء الله.
يا أيتها النساء! اذكرن الله في بيوتكن، كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
يا معشر النساء! إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت، فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح، إذا كان بغير عذرٍ، لا مرض ولا عذر شرعي.
(اثنان لا تجاوز صلاتهما رءوسهما: عبدٌ آبق من مواليه حتى يرجع، وامرأة عصت زوجها حتى ترجع) (إذا دعا الرجل زوجته لحاجته فلتأته وإن كانت على التنور) لا تنفق امرأة شيئاً من بيت زوجها إلا بإذنه.
يا معشر النساء! (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي من أي أبواب الجنة شئتِ) (انظري أين أنتِ منه فإنما هو جنتك أو ناركِ) (خير النساء التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها لما يكره) (لو تعلم المرأة حق الزوج لم تقعد ما حضر غداؤه وعشاؤه حتى يفرغ منه) (لا تصم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه).
(ألا أخبركم بنسائكم من أهل الجنة؟ الودود، الولود العئود -التي تعود إلى زوجها إذا غضب- التي إذا ظلمت قالت: هذه يدي في يديك لا أذوق غمضاً حتى ترضى).
يا معشر الرجال! رفقاً بالقوارير.
يا معشر الرجال! عاشروهن بالمعروف.
يا معشر الرجال! لا تضربوهن ضرباً مبرحاً.
يا معشر الرجال! قوموا بحق البيت وأعفوا نساءكم.
فإن كثيراً من الذين ضيعوا البيوت وقع نساؤهم في الحرام.
يا معشر الرجال! أنتم الرعاة وأنتم المسئولون عن الرعية، وإن الله سيوقفكم يوم القيامة، فيسألكم حتى يسأل الرجل عن أهل بيته كما جاء في الحديث الصحيح.(268/17)
الحث على صيام ست من شوال
أيها المسلمون: صيام ستة أيامٍ من شوال بصيام شهرين، وصيام رمضان بعشرة أشهر فهذه تمام السنة، يجوز البدء بصيام الست من ثاني يوم بعد العيد، لأن صيام العيد حرام.
يا أيتها النساء ويا أيها الرجال الذين عليهم قضاء! قدموا القضاء قبل صيام الست لتحصيل الأجر الوارد في الحديث: (من صام رمضان ثم أتبعه بستٍ من شوال) فأتبعه بستٍ من شوال يعني: أولاً إنهاء رمضان تماماً بما فيه من القضاء، ثم إتباعه بستٍ من شوال، يا أيتها المرأة! اقضيه ولو وقع في الست من ذي القعدة، لا يضرك ذلك إن شاء الله وأنتِ مأجورة.(268/18)
وصايا متنوعة
يا معشر المسلمين! اتقوا الله ولا تهدموا قصور الحسنات التي بنيتموها في رمضان، اتقوا الله، تناسوا الأحقاد في هذا العيد، ألم تعلموا أن ليلة القدر رفعت بسبب تلاحي رجلين.
أيها المسلمون! صِلوا أرحامكم في هذا العيد، كل بيتٍ حلفت ألا تدخله من بيوت أرحامك بسبب غير شرعي كفر عن يمينك وادخل البيت، ولو كفرت عن يمينك بعد دخولك البيت لا حرج عليك.
أيها المسلمون! هذا يومٌ نتذكر فيه حال إخواننا في بلدان المسلمين المحاصرة، الأطفال اليتامى، النساء الأرامل، العجزة والمساكين، هؤلاء لهم حقوقٌ علينا، نتذكر حالهم في هذا العيد، في غمرة مشاعر الفرحة والبهجة اذكروا إخواناً لكم، قال قائلهم: لقد انتهت الحيوانات التي في البلد، جميع الأبقار والأغنام والقطط والكلاب والحمير انتهت، ونحن الآن نموت من الجوع، ولا نجد شيئاً نُفطر عليه، من آخر التقارير من بلاد البوسنة، وظلم العالم أجمع للمسلمين واضحٌ جداً في هذه المأساة حتى نقطع الأمل بالكفار، والله لو كان في بلدٍ من بلدانهم لأقاموا الدنيا وأقعدوها، لكنهم يدٌ تنفذ وفمٌ يسكت، والضحية هم المسلمون.
اللهم أنج المستضعفين من المسلمين، اللهم ارفع الظلم عن المضطهدين، اللهم إنَّا نسألك أن تفرج كروبنا وكروب المسلمين، يا مفرج الهم فرج همومهم.
اللهم ارفع الظلم عن المستضعفين من المسلمين، اللهم إنا نسألك أن تكون معهم يا رحمن! اللهم إنا نسألك أن تطعمهم فإنهم جاعوا، وأن تكسوهم فإنهم تعروا، وأن تحملهم فإنهم لا نعال لهم، اللهم إنا نسألك أن ترفع لواء هذا الدين، وتجعل سراجه وهاجاً، وتدخل الناس في دينك أفواجاً، اللهم قيظ لهذه الأمة من يرفع لواء الدين فيسير به، واجعلنا من الجنود المجاهدين في سبيل ذلك يا رب العالمين! اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشيداً، تعز فيه أهل طاعتك، وتذل فيه أهل معصيتك، اللهم من أراد ببلدنا هذا أو بلاد المسلمين سوءً فاردد كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء! اللهم اشف مرضانا وارحم موتانا، واقض ديوننا، ورد غائبنا واهد ضالنا وفك أسرانا يا رب العالمين! اللهم أزح الظلم والطغيان عن رقاب المسلمين، اللهم أعتق رقابنا من النار، واجعلنا بعد رمضان خيراً مما كنا قبله، اللهم اجعلنا من المستمرين في طاعتك ولا تجعلنا ممن قطع الطاعات، اللهم اجعلنا ممن يقومون ويصومون من النوافل ولا تجعلنا ممن يقطعونها بعد رمضان.
وعودوا من طريقٍ غير الطريق التي جئتم فيها؛ حتى يشهد لكم الطريقان عند الله بالجنة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله، وأستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(268/19)
خطورة الولاء الفكري لأعداء الله
عرض الشيخ -حفظه الله- في هذه المحاضرة الكثير من المبادئ التي تهدم بمعول الإلحاد والزندقة صرح الإسلام ومنارة الدين، والتي قد تلقاها بعض أبناء المسلمين الذين ذهبوا إلى الغرب لتلقي الدراسات العليا، حيث تم دس السم في العسل.
وقد فند الشيخ هذه الشبه بعد أن بين مصادرها ودعاتها، سواء كانت في العقائد أو السلوك أو الأدب أو اللغة.(269/1)
مخططات الغزو الفكري على المسلمين
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن منهج التربية الإسلامية ينبغي أن يكون متكاملاً للفرد المسلم، فيعرف معاني كلام الله ومعاني حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك ينبغي أن يلمَّ بتاريخه الإسلامي، وينبغي أن يكون واعياً لما يدبره أعداء الإسلام من كيد للمسلمين، والذين يغفلون الجانب الأخير من جوانب التربية -وهو تربية الفرد المسلم على الوعي، وعلى ضرورة تتبع مخططات أعداء الإسلام- يخسرون كثيراً؛ لأنهم سيعيشون في زاوية مظلمة لا يشعرون بما يحاك حولهم، وهذا المعنى أيها الإخوة مهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على فضح مكائد اليهود وخطط المنافقين، وكان القرآن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مبيناً هذا الأمر.(269/2)
السبب في ملاحقة المسلمين لحضارة الغرب
وموضوعنا في هذه الليلة يتصل بهذه القصية اتصالاً وثيقاً جداً، وهو موضوع له خطورة وشأن وحساسية، وهذا الموضوع هو: (خطورة الولاء الفكري لأعداء الله) وبعبارة أخرى: خطورة تبني أفكار الكفار.
لقد نشأت أجيال من المسلمين في هذا العصر تتبنى آراء الكفرة وتعتقد بها وتدعو إليها، وحصلت نتيجة هذا ونتيجة نشرهم لأفكارهم في أوساط المسلمين أضرار عظيمة على المسلمين، لا نزال نلمسها بين حين وآخر حتى في بيوتنا.
والأخذ من الكفرة وتبني مواقفهم دليل على الزيغ وعلى النفاق والعياذ بالله، والله عز وجل حذرنا أن نتولى الكفار، فقال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] ومن يتولهم سواء أعانهم أو ناصرهم أو حماهم أو دافع عنهم أو تبنى أفكارهم أو دخل في عقدهم أو أقام بينهم محباً لهم: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، وقال عليه الصلاة والسلام: (من تشبه بقوم فهو منهم) أي: تشبه بأفكارهم أو بمظهرهم.
وكثير من أبناء المسلمين مع الأسف قد وقعوا فيما حذر الله ورسوله، فتبنى كثير منهم آراء الكفرة ودعوا إليها ونافحوا عنها، وربما كانوا أكثر حماساً من أصحابها الأصليين، وصادف ذلك جهلاً في أوساط المسلمين حملهم على التقليد الأعمى لهذه الشعارات والمذاهب التي طرحت في الساحة، والرسول صلى الله عليه وسلم حذرنا وقال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة -وفي رواية: حذو النعل بالنعل- حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، وحتى لو أن أحدهم نكح أمه علانية لكان في أمتي من يفعل ذلك) القذة: ريش السهم المجتمعة في النصل، فأنت تراها متتابعة ومتقاربة آخذ بعضها ببعض، وهكذا سيتبع كثير من المسلمين الكفرة كما أخبر عليه الصلاة والسلام متابعة شديدة لصيقة لما عليه الكفار من الآراء والمعتقدات، وهذا ما حصل وبالذات بشكل واضح في هذا العصر، حيث حصل من هذا التشبه وهذه المتابعة للكفرة ما لم يحصل في تاريخ المسلمين في أي زمان مضى.
ولذلك نجد أن حال المسلمين اليوم من الضعف والمهانة لم يصلوا إليها من قبل قط، وأحد الأسباب الرئيسية هي قضية (لتتبعن سنن من كان قبلكم) فتابعناهم في الأفكار والمعتقدات والمذاهب السائدة عندهم، وفي أشكالهم وهيئاتهم وملابسهم وطريقة حديثهم وكلامهم وهكذا.(269/3)
بداية التخطيط للغزو الفكري
وتبدأ القصة عندما وجد أعداء الإسلام الذين احتلوا بعضاً من بلدان المسلمين أو أجزاء كبيرة جداً من بلدان المسلمين، وجدوا أن القهر بالقوة لا يفيد في مسخ الشخصية الإسلامية، بل إنه سيتولد عنه جهاد إسلامي ضد هؤلاء المحتلين المعتدين، ففكروا مراراً وتكراراً -من يوم أن أسر ذلك الملك الكافر في المنصورة ثم أطلق سراحه- في كيفية وضع منهج يتغلغلون فيه في بلاد المسلمين حتى يطيحوا بعقيدة المسلمين، ويجعلوا أبناء المسلمين تبعاً وأذناباً لهم.
وعندما ندرس كيفية انتشار بعض المذاهب الهدامة في بلدان المسلمين كـ القومية مثلاً، فإننا سنجد أيها الإخوة أن المسألة بدأت من بعض الكفار الذين يعيشون في بلدان المسلمين كالنصارى مثلاً الذين لهم اتصال وثيق أصلاً بالكفار، فنقلوا مبادئ الكفار إلى بلدان المسلمين، وساعد هؤلاء -الطابور الخامس- الكفرة على ترحيل أجيال من أبناء المسلمين إلى بلدان الكفار ليتربوا هناك فينشئوا على الكفر ثم يعودوا إلينا.
ولذلك عندما تدرس أي مذهب هدام انتشر في بلدان المسلمين كـ القومية أو الشيوعية أو الوطنية أو زمالة الأديان أو المذاهب الأدبية الهدامة أو الدعوة لتحطيم اللغة العربية، تجد أنها نشأت في الأصل من اتصال وثيق بين مرتدين وكفرة يعيشون بين المسلمين وبين الكفرة في بلدان الكفار، ثم بعد ذلك انتقلت محلياً إلى أبناء المسلمين؛ فنشأ الآن جيل من أبناء المسلمين لا يحتاج الكفار بعد ذلك أن يخططوا كثيراً من أجل تقويته ومن أجل النفوذ إلى أوساط المسلمين؛ لأنه قد نشأ بين المسلمين من يحمل هذه الأفكار وينافح عنها ويدعو إليها.
وأساس البلاء أيها الإخوة هو مخالفة واضحة لذكر من أذكار الصباح والمساء الذي نقوله يومياً، وعدم اعتراف به، وهذا هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً) هؤلاء لم يرضوا لا بالله رباً، ولا بالإسلام ديناً، ولا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً، فلذلك استوردوا لنا هذه الأفكار ونقلوها إلينا، وكان بينهم وبين الكفرة اتصال وثيق -كما ذكرت آنفاً- تعبر عنه هذه الآية، يقول الله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} [محمد:26].(269/4)
تقولات لمن يوصمون بالولاء الفكري
والله يعلم المؤامرات التي حاكوها والدسائس التي دبروها، هؤلاء الذين يعيشون بين المسلمين قالوا للكفار: {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} [محمد:26] سنأخذ منكم ونتلقى عنكم ونتبنى مواقفكم وآراءكم ومذاهبكم ومعتقداتكم.
فلنأخذ على سبيل المثال بعض الأمور التي انتقلت إلى بلدان المسلمين وصار لها خطورة واضحة جداً فمثلاً: الدعوة إلى الارتماء في أحضان الكفار وأخذ حضارتهم دون وعي ولا تمييز، عندما نأخذ شخصية مثل طه حسين الذي لقبوه بعميد الأدب العربي ورشح يوماً من الأيام لجائزة نوبل، هذا الرجل الذي ذهب إلى فرنسا وتربى هناك ورضع من ألبان الكفرة فكرياً، لما ألف كتابه: مستقبل الثقافة في مصر يقول فيه: بل نحن قد خطونا أبعد جداً مما ذكرت، فالتزمنا أمام أوروبا أن نذهب مذهبها في الحكم، ونسير سيرتها في الإدارة، ونسلك طريقها في التشريع، التزمنا هذا كله أمام أوروبا لأننا حريصون على التقدم والرقي.
وهذا سلامة موسى صديق طه حسين يقول متحدثاً عن نفسه: إنه شرقي مثل سائر مواطنيه، ولكنه ثار على الشرق -وهم يعبرون بكلمة الشرق عن بلاد الإسلام ومهبط والوحي وديار الرسالة الخاتمة- عندما أيقن أن عاداته تعوق التقاءه، ودعا إلى أن يأخذ الشرقيون بعادات الغربيين كي يقووا مثلهم.
فهو إذاً يدعو صراحة إلى هذا.
ومن هؤلاء أيضاً: أحمد لطفي وصهره إسماعيل مظهر وقاسم أمين؛ هؤلاء دعوا إلى نفس الفكرة أن نحذو حذو الكفار، وأن نأخذ الحضارة الغربية بحلوها ومرها، لكي نتقوى مثلهم.
هؤلاء هل هم يجهلون أن القوة في التمسك بالإسلام؟! أم أنهم يريدون أن يرسخوا في أذهان أبناء المسلمين هذه الحقيقة الكفرية، وكذلك احتقار الماضي الإسلامي وتربية الأجيال تربية لا دينية؟! ويقول صاحب كتاب: مصر ورسالتها: عندما فتح العرب مصر.
انظر إلى الكيفية التي يعبرون بها عن إرادتهم لسلخ أبناء المسلمين عن ماضيهم، وعن تاريخهم الإسلامي، هم يريدون قطع الصلة بين النشء المسلم وبين التاريخ الإسلامي.
يقول: عندما فتح العرب مصر عام ستمائة وأربعين للميلاد كانت ولاية بيزنطية تحكم من القسطنطينية، وعندما غزا الفرنسيون مصر عام (1798) وجدوها ولاية عثمانية تحكم من نفس القسطنطينية.
فبين عام (640) وبين (1798) تقريباً اثنا عشر قرناً، ألف ومائتا سنة، هذه الفترة التي حكمت فيها مصر حكماً إسلامياً من دخول المسلمين بقيادة عمرو بن العاص إلى مصر وحتى انتهاء سلطة الخلافة العثمانية على مصر باحتلالها.
يقول: لم يكن حالها عام (1798) بأحسن من حالها عام (640) كان الناس في بؤس وذل، وكان البلد في خراب، ثم يقول: فكأن اثني عشر قرناً من تاريخ ضاعت سدى، كأن هذه السنوات الكثيرة قد انقضت ونحن نيام بعيدين -هكذا على حد تعبيره- عن الوجود.
ثم يقول: شيء لم يحدث في تاريخ بلد مثل مصر أبداً، تصور اثني عشر قرناً ونصف تذهب سدى.
معناها: هذه فترة الحكم الإسلامي في مصر كلها كانت هباءً منثوراً، ما استفادت منها البلد ولا شيء، فإذاً يقول: نحن نريد أن نستمر الآن ونبتدئ حياة جديدة بعد عصور الذل التي عشناها.
لقد سلخ أبناء الأمة المسلمين عن التاريخ الإسلامي وعن القيادات الإسلامية التي حكمتهم.(269/5)
كيف حطم الغرب تاريخ المسلمين ودينهم؟
وسوف أتكلم في محاضرة خاصة عن أهداف المستشرقين في تحطيم التاريخ الإسلامي في أذهان المسلمين، والذين تابعوهم كيف تابعوهم؟ وما هي الآثار التي حصلت من جراء طرح تلك الأفكار الاستشراقية في أوساط المسلمين؟(269/6)
مخططات الأعداء في التربية والتعليم
أما بالنسبة للتربية والتعليم، فإنك قد تجد أنه قد أوجد هناك بعد كرومر ودنلوب قيادات وقدوات وهمية زائفة في الحقيقة سلمت إليها مقاليد التربية والتعليم في بلدان العالم الإسلامي، ونفذت المخططات التي أمليت عليها في بلدان المسلمين فخرج النشء خراباً، ولذلك يقول أحدهم -بعد دنلوب -: أصبحت كثير من أذهان المسلمين مثل إطارات دنلوب، يعني في الفراغ الذي أحدث فيها.
وسلك أعداء الإسلام في تحقيق ذلك سبيلين: الأول: السيطرة على التعليم في الداخل وعلى منهاج التعليم في العالم الإسلامي.
الطريق الثاني: مسلك البعثات إلى الدول الكافرة.
فأما سيطرتهم على التعليم في الداخل، فيتمثل في استبعاد تعليم العلوم الشرعية كلياً، وفي البعض الآخر من البلدان جعلت دراسة العلوم الشرعية دراسة غير أساسية في مناهج التعليم، بحيث إنه لا يترتب عليها نجاح ولا رسوب، وعندما ينظر الطالب إلى حقيقة الأمر وهو أن المواد الدينية لا يترتب عليها نجاح ولا رسوب، ولا يتقدم ولا يتأخر شأنه في القبول في الكليات العلمية، ماذا سيحدث؟ إن ذلك سيحدث ردة فعل في نفسه، وإهمال هذه المواد، فكيف إذا أضيف إلى ذلك تفاهة تلك المقررات التي تدرس في كثير من بلدان العالم الإسلامي، فكيف إذا أضيف إلى ذلك أن وضع مدرس الدين من ناحية المرتب والمكانة والسمعة وصل إلى الحضيض، فماذا تتوقع بعد ذلك من النشء الذين يدرسون المواد الدينية في المدارس؟ وكذلك حصل في بلدان المسلمين أن وضعت مقررات دينية نصفها إسلامي ونصفها نصراني، بزعمهم حتى تواكب احتياج الطلاب فيما يوجد في المدارس في بلدان المسلمين من نصارى، ففي بعض المقررات تجد نصفها عن الإسلام ونصفها عن النصرانية، هذه مادة العقيدة، أو مادة الثقافة الإسلامية مثلاً.
وبالنسبة للتربية والتعليم أيضاً، حصلت هناك مؤتمرات لتنفيذ الخطط التي وضعها أعداء الإسلام، فمثلاً: في نشرة المؤتمر المسمى الحلقة الدراسية العربية الأولى للتربية وعلم النفس، يقول أحد الذين ألقوا كلمة أو قدموا أوراق بحث في هذه المؤتمرات يقول: فالمواطن العربي يجب أن يكون شخصاً تقدمياً يؤمن بفلسفة التغير والتطور، يجب أن يعتبر نفسه مسئولاً عن المستقبل لا عن الماضي.
لا حظ العبارة، ما معنى يكون مسئولاً عن المستقبل لا عن الماضي؟ معناها: ينبذ التاريخ الإسلامي وراء ظهره.
يقول: ومسئولاً أمام الأجيال القادمة لا أمام رفات الموتى.
يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز والعز بن عبد السلام والنووي وابن حجر وشيخ الإسلام ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، هذا كله كلام على جنب، يقول: بل إنه عليه أن ينظر إلى المستقبل لا إلى رفات الموتى.
ويقول كذلك أحدهم في بحث له في هذا المؤتمر: في تجاربنا الخاصة أن أخطر ما تتعرض له سيكولوجية الأطفال في هذا الصدد هو التعصب الديني.
يقول: أخطر شيء في عملية تربية الطفل التعصب الديني.
ويشن بعضهم غارات على قضية التلقين، أي: تحفيظ الأطفال القرآن والسنة مثلاً، يقول: هذه تهدم شخصية الطفل وتمسح مواهبه وإمكاناته.
هذا كلام التجاني الماحي في الورقة التي قدمها لذلك المؤتمر.
وكذلك يقول أحدهم: يرى الكثيرون أن الكتب السماوية ليس من أغراضها أن تكون موسعات يبحث المؤمنون فيها عن مشاكل العصر كي يجدوا فيها حلاً لمشكلة العمال في القرن العشرين على سبيل المثال.
يقول: هذا القرآن والسنة ما فيها حل لمشكلات العصر، كيف نجد حلاً لمشكلات العمال في القرن العشرين في الكتاب والسنة؟! هذا كلام كفر بواح؛ لأن الله أنزل هذا الدين ليحكم في جميع نواحي الحياة صغيرها وكبيرها، وفي جميع الطبقات، وفي جميع الأوقات والأزمنة والأمكنة فكتاب الله يحكم على الجميع.(269/7)
خطر الاقتباس من مناهج الغرب الكفرية
ومجال آخر من المجالات التي يتضح فيها خطورة الولاء الفكري للكفار: اقتباس الأنظمة والمناهج اللادينية من الكفرة، فعندما تنظر في الواقع إلى جامعات العالم الإسلامي مثلاً، بعد ثورة سعد زغلول وما قام به أحمد لطفي السيد وزملاؤه، تجد أن المسألة قد وصلت إلى استيراد النظريات لتدريسها في جامعات المسلمين ومدارسهم، فمثلاً: نظرية دارون، بالمناسبة دارون ماذا يقول؟ له كتاب أصل الأنواع، وهي أشياء كثيرة منها أشهر شيء على ألسنة العامة: أن الإنسان أصله من القردة، وبعض الناس يظنون أن دارون يقول: إن الإنسان أصلاً حيوان، ولكن ليس بصحيح لأننا نحن المسلمين نقول: إن الإنسان حيوان، طبعاً ستعترضون عليّ، ولكن لأننا قد لا نعرف كلمة الحيوان في اللغة العربية، فنستنكر هذا القول، الحيوان: هو كل كائن فيه حياة، ولذلك يقول الله عز وجل: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64] ما معنى الدار الآخرة لهي الحيوان؟ يعني هي الحياة الأبدية التامة الكاملة، حياة النعيم والسرور واللذة التي لا تنتهي، هذا بالنسبة للمسلمين، وبالنسبة للكفار: فهي حياة في جهنم، حياة سيئة لدرجة أن صاحبها لا يموت فيها ولا يحيا.
فإذا قال شخص: أنت حيوان، فينبغي ألا تتهمه وتسارع إلى اتهامه بأنه قليل أدب؛ لأن المسألة في اللغة العربية صحيحة، حيوان كل كائن حي، لكن الإنسان له تركيب غير تركيب البهائم، لذلك لا تلاحظ في القرآن أنه أطلق على البهائم حيوانات، لاحظ في القرآن تجد بهيمة الأنعام، ما تجد أنه سماها حيوانات، فحيوانات هذه تسمى في كتاب الأحياء الذي درسناه، وإلا كلمة الحيوان لها مدلول غير المستقر في أذهان الناس الآن.
فهذه نظرية دارون تدرس في مناهج كثير من المدارس والجامعات على أنها حقيقة علمية في مواد كثيرة كالأحياء والتاريخ الطبيعي وعلم الأرض، مع أنه قد ثبت فشلها حتى لدى الكفار أثبتوا أنها فاشلة، لكن ما زالت تدرس في أوساط المسلمين، ونظرية فرويد المتهافتة نجدها مقررة في أقسام علم النفس قاطبة على أساس أنها نظرية علمية، وفي أقسام الاجتماعيات تدرس نظرية دوركايم، بل يدرس علم الاجتماع بكامله على المنهج الغربي.
ونحن نعلم أن علم الاجتماع الموجود الآن كتبه هو كعلم النفس ليس له أسس إسلامية، فللأسف علم النفس وعلم الاجتماع لم يصغ حتى الآن صياغة إسلامية، ولم تؤلف فيه كتب ومراجع إسلامية حتى يعتمد عليها، وبدأت الآن محاولات نسأل الله أن تتم وأن تنتهي إلى خير، لكن لو قلت الآن لواحد من طلاب علم النفس أو علم الاجتماع ما هي مواضيعكم التي تدرسونها وما هي مراجعكم؟ فستجد أن أكثر المواضيع وأكثر المراجع هي مراجع كتبها الكفرة ومن ترجمها من أبناء المسلمين، أو كتبها بعض أبناء المسلمين المتأثرين بتلك الكتب التي كتبها الكفار المستقاة من نظرياتهم التي وضعوها بعيداً عن الدين وعن القرآن والسنة طبعاً، وفي أقسام الكيمياء والفيزياء والفلك والطب تدرس مناهج محشوة بإيحاءات فلسفية وثنية كقولهم مثلاً: المادة لا تفنى ولا تستحدث، مع أن الله خلق السموات والأرض من العدم، (كن فيكون) أو كذلك تجد عبارات: خلقت الطبيعة كذا، وشاءت الطبيعة كذا، ومنحت الطبيعة للكائن الفلاني أو الحيوان الفلاني القدرة على التأقلم مع العوامل الجوية والبيئة إلى آخره، فتجد كلمة (منحت الطبيعة) مبثوثة ومنتشرة، أو تفسير وقوع الزلزال وسقوط النجوم وتكوين الأجنة تفسير مادي صرف لا علاقة له بأن الله قدر ذلك وخلقه وشاءه، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يزلزل الأرض، وأن هذه عقوبات من الله عز وجل، لا ذكر لهذه الأشياء مطلقاً.
وكذلك تجد عبارات مثلاً: كان الناس قبل ظهور العلم الحديث يعتقدون كذا، فلما جاء العلم الحديث بين المسألة ووضح أنه من قبل كانت خرافات وأوهاماً، أو كانت الكتب القديمة تقول كذا، ثم جاء العلم الحديث وبين المسألة وأظهرها وكشف القضية، وكان الناس قديماً ينسبون ما يعجزون عن تفسيره إلى القوة الغيبية الخفية، ويقولون: آلهه وكذا، فالآن جاء العلم وأثبت أن المسألة لها تفسيرات يفسرها، لكن لا يذكر أن الله قدر ذلك، أو أن كل ما يجري من هذه القوانين في الطبيعة وضعها رب العزة في الكون، وأن هناك سنناً ربانية، لا يوجد أي شيء من التعرض لهذه الأشياء.(269/8)
هدم الغرب لحقائق التاريخ الإسلامي
وعندما تدرس قضية تدريس التأريخ، فإنك تراهم يقسمون التأريخ إلى ثلاثة أقسام: التأريخ القديم؛ العصر الحجري وما إلى ذلك، وتأريخ العصور الوسطى، وعندهم يشمل فترة ما قبل الإسلام بقليل، ثم يدخل فيه الإسلام، والتأريخ الحديث وهو يبدأ من حملة نابليون وهو مستمر إلى الآن وهذا التاريخ الحديث يطلقون عليه ألقاباً مثل: فجر النهضة الحديثة، معنى ذلك: أن ما قبل كان كله تخلفاً وعصور انحطاط، يطلقون على التاريخ الإسلام عصور الانحطاط، فضلاً عما نجد في بعض الكتب التي تدرس التأريخ الإسلامي أن مثلاً سبب غزوة بدر هي رد ممتلكات المسلمين في مكة، وأن غرض عمرو بن العاص من فتح مصر هو خصوبة الأرض، وأن العالم العربي خضع للاستعمار العثماني، وأن حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب أول ثورة عربية ضد الاحتلال التركي وهكذا.
وقلت لكم: إننا سنتوسع في هذا الموضع على حدة.
وأما لو ذهبت تنظر مثلاً في مواد المطالعة فإنك ترى أنها موجز للغزو الثقافي الغربي، ولا سيما إذا تصفحت الموضوعات التي تطرق إليها في كتب المطالعة، فستجد عناوين مثل: ماجلان قاهر البحار -كيف اكتشفت أمريكا؟ - إبراهيم لنكولن محرر العبيد، تحرير المرأة، ظهور القومية العربية، نابليون فاتح أوروبا، عمر بن أبي ربيعة الشاعر الماجن -ما وجدوا إلا الشاعر الماجن عمر بن أبي ربيعة - الوطنية الصادقة وهكذا.(269/9)
أفكار استوردت من الغرب
أتت الأفكار والمذاهب الكفرية أو الغربية التي وضعت في بيئات ليست إسلامية أبداًَ، ولا يمكن أن تناسب البيئة الإسلامية، ولا يمكن أن تنجح في بيئة إسلامية، استوردت فكرياً وثقافياً وامتلأت بها كثيرة من عقول المسلمين، حتى إنك تجد مع الأسف ليس فقط من تعرفهم من المغرضين والمنافقين والمجرمين والمخربين هؤلاء ولكن المشكلة عندما نرى بعض المتحمسين للإسلام على الأقل في الظاهر يكتبون كتابات: اشتراكية أبي بكر، اشتراكية عمر، وتجد حتى العقاد في كتابه التفكير فريضة إسلامية يقول: ما الذي يمنع المسلم أن يعمل للديمقراطية أو يعمل للاشتراكية، أو يعمل للوحدة العالمية؟ وما الذي يمنع المسلم من أن يقبل التطور أو يقبل الوجودية في صورتها المثلى، إلى أن قال: إن عقيدة المسلم لا تمنعه من أن يكون اشتراكياً.
قضية تحكيم العقل في كل شيء، هذا مذهب المعتزلة قديماً، ولكن هناك فلسفات غربية مثل: فلسفة كمنت العقلية، نفس المنهج، حتى إن تصور أن بعض المسلمين تأثروا من فلسفة كمنت العقلية في تحكيم العقل في كل شيء أكثر مما تأثروا من فلسفة المعتزلة، مع أن المعتزلة نشأت في أوساط إسلامية، لكن من أرضية بدعية طبعاً، فتجد مثلاً محمد عبده ظاهر في أفكاره جداً تأثره بـ كمنت هذا وبفلسفته وبتحكيم العقل في القرآن وفي السنة.
ومع الأسف الشديد تجد أن هذه الجرثومة قد انتقلت إلى بعض المفكرين الإسلاميين مثل ما حصل لـ حسن الترابي في نزول المسيح عيسى بن مريم وقال: أنا لا أناقش الحديث من حيث سنده، وإنما أراه يتعارض مع العقل، ونادى بتجديد بعض كتب أصول الفقه وعنده آراء عجيبة غريبة.
وكذلك ما حصل من الغزالي المتأخر المسكين الذي تراجع تحت مطارق أعداء الإسلام وهم يتهمون الإسلام بأشياء، فحاول المسكين أن يدافع عنها بأمور فظهرت حديثاً في كتبه وكان لها أثر سيئ في بعض القراء الذين قرءوا له، وهذا الموضع طويل جداً وإنما كان لهذا الرجل أيضاً نصيب من تحكيم العقل في نصوص الشرع، فتجده يقول في إحدى محاضراته أمام الطلبة: تريدوني أن أذهب إلى بريطانيا لأدعو إلى الإسلام، وعندما يسألوني: هل يجوز للمرأة أن تتولى الحكم؟ أقول لهم: لا.
ويحكم عقله في أشياء كثيرة فيقول مثلاً: إن دية المرأة مثل دية الرجل، وأن الأحكام الفقهية أن دية المرأة نصف دية الرجل، هذا كلام مرفوض، يعني كلام طويل جداً وإنما كان هذا الرجل وغيره من الإسلاميين ليسوا من عموم المسلمين بل من الإسلاميين الذين يدافعون عن الإسلام قد تأثروا فعلاً وتشربوا كثيراً من هذا المذهب السيئ وهو تقديم العقل على نصوص الشرع.
ولذلك أنكروا أحاديث، كما ذكرت أحاديث نزول عيسى بن مريم الذي أنكره الترابي وكذلك مثل ما أنكر الغزالي حديث لطم موسى لعين ملك الموت، وأحاديث أخرى.(269/10)
طريقة حصول الاستيراد الفكري الكفري
إن استيراد المذاهب من الكفار وترويجها بين المسلمين حصل من ضمن ما حصل عن طريق الترجمة، ولذلك مثلاً تجد أن نظرية الداروينية نقلت بالدراسة المستفيضة من قبل أشخاص، مثل: شبهي شميل وسلامة مظهر والأولان نصرانيان أشهرا إلحادهما وكفرهما والآخر مسلم الأصل ولكن كلامه لا يدل على أن له صلة بالإسلام ألبتة.(269/11)
تيارات الإلحاد في عدد من المجالات الشرعية
وكذلك الإلحاد من الموجات أو التيارات التي اكتسحت العالم الإسلامي تيار الإلحاد، إنكار وجود الله والتمرد على كل شيء، وخذ لك مثلاً: إسماعيل أحمد أدهم الذي أتى من تركيا بعد إعلان العلمانية ألف رسالة صغيرة عنوانها: لماذا أنا ملحد؟.
وكذلك عندما تنظر حتى في بعض الشعراء المعاصرين كـ الرصافي والزهاوي، من شعراء العراق مثلاً، فإنك تجد بعض دواوينهم مملوءة بالأفكار الإلحادية، فهذا مثلاً الزهاوي يقول في أحد رباعيته:
ما نحن إلا أقردٌ
من نسل قردٍ هالك
فخر لنا ارتقاؤنا
في سلم المدارك
حتى التيارات الأدبية التي نشأت في بلاد الكفار كان لها أيضاً تغلغل كامل وكبير في أوساط المسلمين الأدبية، في الصحافة وغيرها، وسنعرج على بعض منها بعد قليل.(269/12)
مجال الحكم والتشريع
وهو من المجالات الخطيرة جداً ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (لينقضن الإسلام عروة عروة فكلما انتقضت عروة يتشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضاً الحكم وآخرهن الصلاة).
هذا المبدأ، مبدأ الحكم والتشريع، كان له نصيب وافر من دخول الأفكار الغربية إلى بلدان المسلمين، لما أسقطت الخلافة العثمانية الإسلامية وقع المسلمون في صدمة نتيجة إلغاء كمال أتاتورك لهذه الخلافة، وفي أثناء الصدمة ظهر رجل أزهري مع الأسف -كان له فضل كما يقول المستشرق شمدز - في تخفيف وطأة ما فعله أتاتورك على مشاعر المسلمين، وذلك الرجل هو: علي عبد الرازق صاحب كتاب الإسلام وأصول الحكم وهو من أخبث ما كتب في هذا الموضوع، لأنه كان من أوائله، وقد جمع في كتابه بين أسلوب المستشرقين في تحوير الفكرة وبين طريقة الباطنية ليصل في النهاية إلى نتيجة أن الإسلام كالمسيحية المحرفة، علاقة روحية يبن العبد والرب لا صلة لها بالواقع أبداً، هذه خلاصة كتاب الإسلام وأصول الحكم.
والغريب أن هذا الشخص لم يحصل على مراجع معتبرة، وإنما ستندهش أنت عندما تسمع مراجعه عندما يقول: وإذا أردت مزيداً في البحث فارجع إلى كتاب الخلافة، من هو مؤلف كتاب الخلافة؟ يقول: فارجع إلى كتاب الخلافة للعلامة السير تومس أرنولد ففي الباب الثاني والثالث منه بيان ممتع ومقنع، هذا مرجع علي عبد الرازق الذي يريدنا أن نتوسع فيه!! ومن الآثار السيئة لهذا الكتاب الإسلام وأصول الحكم وهو فصل الدين عن الحياة: أن الأحزاب العلمانية الكفرية في مصر وجدت مستنداً وقاعدة لها في القيام وإعلان مبادئها الإلحادية بعد أن كانت تتستر من قبل، فعندما وجدت هناك من ينادي بأن الدين شيء والحياة شيء، قامت هذه الأحزاب الكفرية وأعلنت عن برامجها الإلحادية، وعن براءتها من الدين والمتدينين، وفيما كانت مصر مؤهلة لقيادة العالم الإسلامي من جديد، وكان الاستعمار أو الاستخراب يلم شعثه لمغادرتها ثارت زوبعة حول صلة الإسلام بالحكم تزعمها كاتب نصراني آخر أو كتاب بالأحرى أمثال: سلامة موسى ولويس عوض وأناس يدعون إلى الإسلام، ومن بين هؤلاء الناس خالد محمد خالد في كتابه: من هنا نبدأ، كان من الذين تورطوا في قضية الدعوة لفصل الإسلام عن الحياة، وقد رد عليه، حيث استخدم فيه أسلوباً ذكياً وماكراً، وبعض الناس مخدوعون بكتابه رجال حول الرسول.
صحيح أن هذا الرجل قد يكون تاب من أفكار كثيرة بل قد يكون بعض الذين نمر بأسمائهم تراجعوا عن أشياء ولكن نحن نعلم هذه قاعدة مهمة جداً: أن التوبة الصحيحة لصاحب الفكر الهدام أن يعلن علناً عن تراجعه عن أفكاره، وليس أن يتراجع فيما بينه وبين نفسه ويقول: لقد تبت، كما أنه سمم عقولاً من خلال كتاباته فيجب أن يعيد الآن ويصحح ويعلن توبته من المبادئ السابقة، لا يكفي أن يقول بينه وبين نفسه: أنا تبت وأنا رجعت، ولذلك نحن نبقى على إدانتهم بكتبهم حتى يظهر لنا منهم تراجع واضح عن كتاباتهم السابقة.
وكذلك ما يدعى بالشيخ عبد المتعالي الصعيدي يحاول هدم الحدود الإسلامية، مثل حد الردة والقتل والزنا والخمر، لماذا؟ يقول: هذه أوامر للاستحباب وليست للوجوب، هذا مستنده، ثم يصل في النهاية يقول: ولذلك الحدود ليست مسألة مهمة وليس هناك ما يجبرنا على إقامتها.(269/13)
الإلحاد في وصف الإسلام بالرجعية
ومن الأمور أيضاً القول: إن الإسلام دين رجعي جامد متأخر لا يصلح للتطبيق اليوم ولا يساير الحياة، والقول بأنه يكبل المرأة.
وفي المقابل ظهرت فكرة أخرى من بعض المساكين من أبناء المسلمين مثل الغزالي المعاصر الذي يقول: لا.
أنتم تتهمون الإسلام بالجمود والرجعية لا، الإسلام دين متطور، ودين مرن، ودين يقبل، هات أي شيء وأنا مستعد أن أبرهن لك أن الإسلام مرن.
هذا ما حصل لبعض الناس المساكين، أي: قد تكون نيته طيبة يريد أن يدافع عن الإسلام، يرى هجوم الكفار والملاحدة الإسلام دين جامد، الإسلام دين لا يقبل التطور، الإسلام دين غير مرن، الإسلام لا يستوعب الحياة والمخترعات الحديثة، فيأتي هذا المسكين يريد أن يدافع فيقع في مزلق خطير جداً، وهو أن يجعل الإسلام فضفاضاً ومائعاً ومستعداً أن يحتوي الذي يعتقد به من الأفكار، ويقول: الإسلام سبق إلى الاشتراكية، هذه فكرة الاشتراكية في محاسن الإسلام، أنتم أيها الغربيون شغلتم المرأة واستفدتم، إذاً الإسلام يدعو إلى تشغيل المرأة وإلى، ماذا تريد المخترعات الحديثة والطيارات؟ الإسلام فيه، انظر سورة الفلق، {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4] وهكذا تجد هؤلاء المساكين يميعون الإسلام ويجعلونه رخواً لأنهم يريدون أن يردوا على الكفار الذين يتهمون الدين بالجمود فيميعون الدين ويقولون: هذا دين مرن، دين متطور؛ ولذلك هم يدعون إلى تطوير الفقه.(269/14)
الإلحاد في الفقه وأصوله
من الشعارات الهدامة مسألة تطوير الفقه الإسلامي: وهل كان الفقه الإسلامي متخلفاً حتى نأتي الآن في القرن العشرين ونطوره؟! أم أن الآية أو الحديث الذي فيه كيفية الصلاة في البحر هو نفسه الذي ينطبق على كيفية الصلاة في الطائرة، ما نحتاج إلى تطوير شيء، إنها أشياء موجودة، والذكر الذي يقال عند ركوب الجمل (سبحان الذي سخر لنا هذا) هو نفس الذكر الذي يقال عند ركوب السيارة أو المصعد الكهربائي، ولكن المشكلة أن الناس هؤلاء ما عندهم فقه قائم ومؤسس على علم السلف ولكن عندهم ثقافة إسلامية عامة مع جرأة عقلية، فهاتان الدعامتان من أكبر الكوارث التي أدت إلى انحراف كثير من الكتاب الإسلاميين المعاصرين: ثقافة إسلامية عامة وليس علماً شرعياً مؤصلاً ومؤسساً، ثقافة إسلامية عامة زائد جرأة، فتتكون بعد ذلك أفكار عجيبة وغريبة.(269/15)
مبادئ الحط من قدر الإسلام
وكذلك من الأمور التي انتشرت القول: إن الإسلام ليس له نظم، يعني: ليس هناك شيء اسمه نظام اقتصادي في الإسلام، أو نظام اجتماعي، الإسلام عبارة عن مجموعة توجيهات عامة استمد النظم من القانون الروماني والبيزنطيين والفرس، وهذه مجموعة أشياء أتى بها الإسلام.
وكذلك نشر مبدأ الخلط بين الإسلام والمسلمين، وهناك فرق بين الإسلام والمسلمين، الإسلام هو الحق، والمسلمون قد يكونون مقصرين، وقد يكونون على الحق، قد يكونوا منتسبين للإسلام بالاسم، ولذلك ما الذي يحول اليوم بين دخول الكفرة في الدين؟ إن من أكبر العوامل عندما يرى الفليبيني أو الكوري المسلم يعمل الموبقات والكبائر، عندما يذهب الفليبيني إلى مانلا فيرى أن هناك واحداً من مكة أو من أي بلد من بلاد المسلمين يفجر ويفسق، هل سيدخل في الدين؟ فإذاً: هناك فرق بين الإسلام والمسلمين، ولذلك تصرفات بعض المسلمين في كثير من الأحيان هي عبارة عن سد منيع ضد دخول الكفار في الإسلام، وهؤلاء الملاحدة يحاولون أن يرسخوا الفكرة في العالم، يقول: الإسلام هو المسلمون، يصورون مثلاً في أفلامهم مناطق من بلدان العالم الإسلامي متخلفة بها جهل وفقر ثم يعرضون عليهم الأفلام ويقولون: هذا هو الإسلام، مع أن هناك فرقاً، لماذا لم يعرضوا صورة الحياة في عهد عمر بن عبد العزيز مثلاً؟(269/16)
نعرات القومية العربية
ومن الدعوات الهدامة كذلك التي نفذت إلى بلدان المسلمين: الدعوة القومية، التي يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنها: (من قاتل تحت راية عُمية أو عَمية -وبعض الذين يضبطون الأحاديث يقول: عِمية- يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبةً فقتل فقتلته جاهلية) مات ميتة جاهلية.
والدعوة إلى القومية أيضاً في الحقيقة بدأت على أيدي النصارى، ومن أوائل من رفعوا لواء القومية العربية وأسسوا لذلك الجمعيات العلمية والأدبية في دمشق وبيروت والقاهرة وباريس وأسسوا التنظيمات السرية التي فجرت ما يسمى بالثورة العربية الكبرى التي كان الضابط لورانس الكافر من أهم قادتها وضمت نصارى العرب، ومن أوائل من قام بهذا ميشيل عفلق الذي يقول: إن الأمة العربية تعبر عن نفسها بأشكال متنوعة، فمرة تعبر عن نفسها بشريعة حمورابي، ومرة تعبر عن نفسها بأشياء من الشعر الجاهلي يأتي بها، ومرة بدين محمد، ومرة بعصر المأمون وهكذا.
ويقول محمود تيمور؛ وهو من كبار دعاة القومية: لئن كانت لكل عصر نبوته المقدسة، إن القومية العربية هي نبوة هذا العصر.
ويقول الضال الآخر محمد أحمد خلف الله في مقال له: (القومية العربية كما ينبغي أن نفهمها) إن الساسة ينادون بـ القومية العربية، وتحقيق الوحدة العربية أقرب منالاً من تحقيق الوحدة الإسلامية.
يقول: لو رفعنا القومية العربية يسهل توحيد هؤلاء العرب، لكن بالإسلام لا يمكن أن نوحدهم.
ويقول عمر الفاخوري وهو ضال آخر في كتاب له سماه: كيف ينهض العرب يقول: لا ينهض العرب إلا إذا أصبحت العربية أو المبدأ العربي ديانة لهم يغارون عليها كما يغار المسلمون على قرآن النبي الكريم.
انظر يقول: إذا نريد أن نطور وفعلاً نتحد؛ لا بد نغار على القومية مثل ما يغار المسلمون على قرآن النبي الكريم.
يقول: ومثل ما يغار المسيحيون والكاثوليك على إنجيل المسيح الرحيم، ومثل ما يغار البروتستانت على تعاليم لوثر الإصلاحية، وهكذا.
وقد قيض الله وله الحمد والمنة عدداً من كتاب المسلمين من فضح هذا الاتجاه وعراه ونقده، وهناك مرجع وهو كتاب: نقد القومية العربية.
رسالة ماجستير، القومية العربية للشيخ صالح العبود، وهي من الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وكذلك الأستاذ محمد قطب يقول عن تاريخ هذه القومية: إن أول من نادى بـ القومية العربية هم نصارى لبنان وسوريا، وانضم إليهم المسلمون الذين تربوا في مدارس التبشير، ثم انضم إليهم المستغفلون من المسلمين.
ونجح ساطع الحصري وهو علم من أشهر أعلام القومية العربية، وهو رجل أعجمي لا يستطيع الكلام بالفصحى ويضمر عداءً شديداً؛ نجح في نشر فكرة القومية بأبعادها.
ونحن نقول: العرب في الجاهلية هل وجد مَن أشد في العروبة منهم؟ لا في شعرهم وقوته وجزالته، ولا في نخوتهم، ولا في شجاعتهم وكرمهم.
الإسلام أقر العرب على الأخلاق الحميدة وأتى بزيادة عليها من الخصال الحميدة، لكن لما كانوا عرباً أقحاحاً ماذا كان وضعهم؟ يقتل بعضهم بعضاً، يسبي بعضهم بعضاً، يغير بعضهم على بعض، يئدون البنات، وكان عندهم للمومسات أعلام توضع فوق بيت الزانية ويدخل إليها وينسب الولد، ومشاكل كثيرة جداً، وكانوا نهبة للفرس والروم، ومطمعاً لكل طامع، يأكلون الخنافس والجعلان.
فماذا حصل؟ فلماذا يريد هؤلاء المأفونون أن يرجعونا إلى العربية أو إلى مرحلة العرب ما قبل الإسلام؟(269/17)
الوطنية والشعارات المجوفة
وكذلك من الأفكار الهدامة أيضاً: الدعوة إلى الوطنية، وهي تقديس الوطن بحيث يصير الحب فيه، والبغض لأجله، والقتال من أجله، وإنفاق الأموال من أجله، حتى يطغى على الدين، وتحل الرابطة الوطنية محل الرابطة الدينية، وهذه أيضاً الدعوة من الدعوات الكفرية الإلحادية التي يقصد بها تمزيق العالم الإسلامي إلى قطع، يتعصب كل أصحاب أرض لأرضهم فيحصل الشقاق والتباعد بين أبناء المسلمين، فالكيان الإسلامي الواحد في المجتمع الإسلامي الكبير.
والرسول صلى الله عليه وسلم يوضح أن أقوى وأوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله، والموالاة في الله والمعاداة في الله، وعندما تصبح القضية أساسها وطني فإن الإنسان يصل إلى عبودية هذا المبدأ ويصبح قد عبد الوطن من دون الله.
وبالمناسبة فإن مصر وهي كبرى أو من أكبر البلاد الإسلامية كانت مستهدفة جداً، ولذلك نشأت فيها التيارات قبل غيرها من البلدان، ثم تلاها بلاد الشام وغيرها، لأن في مصر طاقات هائلة من المسلمين، ولذلك ركز عليها أكثر من غيرها، لأن هذا الجناح لو طاح لا يستطيع الطائر الإسلامي أن يطير أبداً.
وبداية نشأة الدعوة إلى الوطنية كانت عندما أرسل اللمبي برقية إلى وزارة الخارجية البريطانية يقول: إن الثورة تنبع من الأزهر، وهذا أمر له خطورته البالغة، أفرجوا عن سعد زغلول وأرسلوه إلى القاهرة.
وجاء سعد زغلول وقرت به أعين الإنجليز فصرف الثورة من ثورة دينية تنبع من الأزهر وتنادي بجهاد الكفار إلى ثورة وطنية تنادي بتحرير التراب؛ التراب عندهم أهم من الدين، فقد يعيش فوق التراب ملاحدة، نفس أبناء البلد لكن في إلحاد، ماذا استفدنا من تحرير التراب؟ ولذلك قال سعد زغلول قولته المشهورة: الدين لله والوطن للجميع! ما معناها؟ معناها: ليس لنا علاقة بالدين، فالدين لله وهو من يرفع الدين، وهو الذي يتولى الدفاع عنه، نحن علينا الوطن، وكذلك حتى يحدث له الاتحاد مع الأقباط، فلذلك دخل النصارى مع التيارات الوطنية وتحولت الحركات الجهادية الإسلامية ضد الاستعمار الصليبي إلى حركات وطنية، وسهل الاستعمار أن يتفاهم معها، الاستعمار ما يمكن أن يتفاهم مع الحركات الإسلامية، لكن يمكن أن يتفاهم مع الحركات الوطنية، ولذلك حصل الخلل في تلك الثورة ونحي الإسلام عن الحكم، وقال سعد زغلول قولته المشهورة: الإنجليز خصوم شرفاء معقولون.
وقال غيره وهو لطفي السيد الملقب بأستاذ الجيل مع الأسف يقول: إن الإنجليز هم أولياء أمورنا في الوقت الحاضر، وليس السبيل أن نحاربهم، ولكن السبيل أن نتعلم منهم ثم نتفاهم معهم.(269/18)
الإنسانية الخالية من الإنسانية
وكذلك من الدعوات الضالة التي استوردت الأفكار والتي تبناها بعض أبناء المسلمين وهي آتية من بلاد الكفار: الدعوة إلى الإنسانية.
وهذا مبدأ هدام وباطل، وهذه الدعوة إلى الإنسانية لها شعارات الحرية المساواة الإخاء، هذه شعارات الماسونية ما معناها؟ معناها كما يعبر محمد قطب جزاه الله خيراً ونفع الله به يقول: الإنسانية كما يدعونها أحياناً: دعوة براقة تظهر بين الحين والحين، ثم تختفي لتعود من جديد.
يا أخي كن إنساني النزعة، وجه قلبك ومشاعرك للإنسانية جمعاء، دع الدين جانباً، فهو أمر شخصي، علاقة خاصة بين العبد والرب محلها القلب، ولكن لا تجعلها تشكل مشاعرك وسلوكك نحو الآخرين الذين يخالفونك في الدين، فإنه لا ينبغي للدين أن يفرق بين الإخوة في الإنسانية، تعال نصنع الخير لكل البشرية غير ناظرين إلى جنس أو لون أو دين، ثم هذا معنى العبارة الماسونية: اخلع عقيدتك على الباب كما تخلع نعليك.
إذاً: يريدون أن يكون المسلمون والنصارى واليهود والشيوعيون والوثنيون والبهائيون والقديانيون والمجوس كلنا إخوة في الإنسانية.
يا أخي! هذه قضية إنسانية، نحن إخوة في الإنسانية، نحن بشر، ليس هناك داعٍ أن تفرق بيننا أديان! هذه من الدعاوي الخطيرة جداً التي بثها اليهود، ولذلك يقولون في بروتوكولاتهم: كنا أول من اخترع كلمات: الحرية والمساواة والإخاء التي أخذ العميان يرددونها في كل مكان دون تفكير أو وعي، وهي كلمات جوفاء، لم تلحظ الشعوب الجاهلة مدى الاختلاف الذي يشيع في مدلوله بل التناقض، إن شعار الحرية والمساواة والإخاء الذي أطلقناه قد جلب لنا أعواناً من جميع أنحاء الدنيا.
تصور هذا كلامهم! ومن أشهر الشخصيات التي دعت إلى الإنسانية في حرارة لأجل إماتة الجهاد في سبيل الله في أبناء الهند إبان الاستعمار الإنجليزي هو المدعو سيد أحمد خان باهاجر، وهذه دعوة إلى الإنسانية، دخل في الأنظمة الدولية وقوانين الولايات المتحدة دخولاً عجيباً لتسيطر على أفكار المسلمين، فمثلاً: تجد عندهم في موادهم: يولد جميع الناس أحراراً، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الإخاء، وإن غاية ما يرموا إليه عامة البشر انبثاق عالمي يتمتع فيه الفرد بحرية القول والعقيدة، ويتحرر من الفزع والفاقة.
بعض الناس يقول: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] أي: كل واحد على دينه، والله يعينه، أي: ليس هناك إشكال، لكن ما معنى قول الله عز وجل: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] معناه: أن الله عز وجل يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: قل لهم: لا مجال للالتقاء بيننا وبينكم أيها الكفار ألبتة، فإن لنا ديننا ولكم دينكم، ولا يمكن أن نلتقي معكم في منتصف الطريق أبداً، ولا يمكن أن يجمعنا شيء مطلقاً، وليس هناك عوامل مشتركة بيننا وبينكم، لكم دينكم ولنا ديننا، وهذا ديننا سنسعى لنشره والجهاد في سبيله لتكون كلمة الله هي العليا ونسقط أديانكم الكافرة، إن الإسلام ما جاء لصقع معين أو بلد معين أو منطقة معينة، بل أرسلناك للناس كافة، بشيراً ونذيراً للعالمين.
فإذاً: يجب أن يعم الإسلام الأرض، فعندما يأتي هؤلاء بدعوة الإنسانية ويقولون في دساتيرهم: لا يجوز استرقاق أي شخص، فإن هذا منافٍ لما أحل الله من أحكام الرق في الجهاد، وله فوائد عظيمة ولا يعرض أي إنسان للتعذيب ولا للعقوبات والمعاملات القاسية والوحشية، ولكل شخص أن يلجأ إلى المحاكم الوطنية، ومعناها: لا تلجأ إلى المحاكم الشرعية، ومعناها لا تلجأ إلى الله ورسوله، ولكل فرد حرية التنقل واختيار محل إقامته، هذا يعني أن قول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة:28] معناه لا نطبق هذا الحكم، والحمد لله نجد الآن بعض الحرص على تطبيق هذا المبدأ وعدم إدخال الكفار إلى منطقة الحرم، وإلا فهم عندما يقولون: لكل فرد حرية التنقل دون قيود، معناها أنك تسمح للكفار بالدخول.
وكذلك عندما تجد في قوانينهم: لكل فرد أن يغير عقيدته، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من بدل دينه فاقتلوه) فلو أن شخصاً واحد كان مسلماً، ثم قال ما أريد الإسلام وسوف أصير نصرانياً، وأريد أن أصير شيوعياً نقول: تعال فليس الأمر على هواك، هذا الإسلام يسري على الجميع، فعندما تغير دينك يقام عليك حد الردة وتقتل.
وهو حديث صريح: (من بدل دينه فاقتلوه) وهؤلاء أدعياء الإنسانية يقولون: كل واحد له حريته أي: يختار من الأديان ومن العقائد ما يشاء، فلا يقيد شخص شخصاً ولا يعتدي أحد على أحد.
ولذلك يقولون: كل واحد له حرية، أي: ليس هناك جهاد، فلماذا نجاهد؟ فإذا أردنا تطبيق كلامهم انتهى الجهاد وألغي الجهاد، لأنك لن تنشر الإسلام، كل الناس أحرار، كل واحد يأخذ على هواه، فأين نذهب بقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة:73].
وكذلك يقول أحد أصحاب هذا الاتجاه وهو فهمي هويدي بعنوان: المسلمون والآخرون أشواك وعقد على الطريق، وفي ثنايا كلامه يقول: إنه ليس صحيحاً أن المسلم صادق ومتفوق ومتميز لمجرد كونه مسلماً، وليس صحيحاً أن الإسلام يعطي أفضلية للمسلمين، ويجعل غيرهم في الدونية -أي: بالدون- لأنهم كفار.
تصور! يقول: ليس هناك ميزة للمسلمين فكل البشر مثل بعض! وكذلك سعوا إلى هدم دعائم العقيدة، ومن أوثقها: أن يكون الحب في الله والبغض في الله، ولذلك جعل بعضهم الإخاء، يقول التآخي إقامة علاقات المودة، كما ذكر محمد عبده في كتابه الإسلام والنصرانية وكذلك محمد أبي زهرة في محاضرات النصرانية، يصف أقباط مصر بأنهم إخوانه وأبناؤه وأصدقاؤه.
وكذلك يجعلون قواعد العلاقات الدولية في الإسلام تدور على نقاط هي: المساواة والتعاون والكرامة الإنسانية والتسامح والحرية والفضيلة والعدالة والمعاملة بالمثل والمودة وهكذا، يقول هذا أبو زهرة تحت عنوان: المودة: إن الأخوة الإنسانية العامة التي أوجب الإسلام التعارف يجب وصلها بالمودة والعمل على الإصلاح ومنع الفساد ولو اختلف الناس ديناً وأرضاً وجنساً، وإن المودة الموصولة لا يقطعها الحرب ولا الاختلاف في الدين، وفتح باب المودة للشعوب ينهي الحرب ويفتح باب السلام العزيز الكريم.
انظر ما معنى الكلام، معناها: نود جميع الناس وجميع الشعوب، مودة، وإخاء، حتى نفتح باب السلام العزيز الكريم.
معناه: انتهى الجهاد، ولا نشعر بعداء للكفار، بل نشعر أنهم إخواننا مثلنا مثلهم ونأخذ منهم ويعطوننا.(269/19)
دعوى زمالة الأديان
ومن المبادئ الهدامة كذلك: الدعوة إلى زمالة الأديان، وزمالة الأديان دعا إليها رواد المدرسة العقلية الحديثة مثل: جمال الدين أفغاني ومحمد عبده وغيرهم الذين يقولون: اقتلع الإسلام من قلوب المسلمين جذور الحقد الديني.
هذا مع الأسف يقوله شيخ الأزهر مصطفى المراغي، يقول: اقتلع الإسلام من قلوب المسلمين جذور الحقد الديني بالنسبة لأتباع الديانات السماوية وأقر -لاحظ الخطورة في كلامه- بوجود زمالة عالمية بين أفراد النوع البشري، ولم يمانع أن تتعايش الأديان جنباً إلى جنب.
فما معنى قول الله عز وجل: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]، {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة:30] عندما يأمرنا الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123] ما معنى الكلام إذاً، معناه لا ننصر الدين الإسلامي، وعندما يحكم الله عليهم بالزيغ والكفر في القرآن الكريم ويوضح لنا: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] ثم يأتي هؤلاء يقولون: نحن لا ثمة حقد بيننا، انظر يستعمل كلمة حقد ديني حتى يزيل الفاصل الشعوري بين المسلم والنصراني واليهودي حتى يكونوا كلهم إخوة.(269/20)
الانحراف الفكري في اللغة والأدب
والظاهر: أننا سنختم حديثنا بكلام يتعلق بالأدب واللغة العربية، وبعض الاتجاهات المنحرفة أو الأفكار التي تبناها بعض المسلمين، وهناك مواضيع مثل جعل الكفار أو بعض الأفكار المستوردة والتي اقتنع بها كثير من المسلمين، مثل: أن الجهاد جهاد دفع فقط، الجهاد فقط يدافع به المسلمون ضد الاعتداء فقط، ولا يحاربون غيرهم ولا يجاهدون، هذه من الأفكار الضالة التي انتشرت، وكذلك وسائلهم في إماتة روح الجهاد في الأمة، ربما سوف نرجي الكلام عليها إلى مسألة قادمة.(269/21)
سبب حرص الأعداء على طمس اللغة
بالنسبة للغة العربية تعرضت طبعاً لتشويهات ومحاولات في هدمها كثيرة جداً منها: الدعوة إلى العامية، فلما كانت اللغة العربية مما يقض مضاجع الكفار أنهم يرون المسلمين يصلون الصلوات الخمس، ويؤذنون خمس مرات في اليوم بلغة واحدة، يقض مضاجعهم ويؤلمهم ويجعلهم يتحسرون، كيف يقرأ الهنود والأتراك وأهل باكستان وإندونيسيا وماليزيا القرآن بلسان عربي مبين؟ كيف يجتمعون على القرآن بلسان عربي مبين؟ وكيف يحفظ هؤلاء الأعاجم القرآن عن ظهر قلب؟ هؤلاء طبعاً عندما يرون هذا لا بد أن يعملوا شيئاً لتحطيم لغة القرآن.
ومن أوائل من قرع ناقوس الخطر لبني دينه وقومه، المستشرق أرنول جوندو في كتابه: الإسلام والغرب، ونشأت بعد ذلك قضايا تحطيم اللغة العربية بوسائل: إضعاف اللغة العربية كلغة رسمية، وعدم الاهتمام بتدريسها، وعدم الاهتمام بمدرسي اللغة العربية، والدعوة إلى اللهجة العامية.
وكان مع الأسف ممن فتح الباب محمد عبده ودعا إلى تصحيح الخطأ المشهور من أخطاء النحو والصرف التي كانت تتخلل الكتابة في عصره، ففتح الباب حتى جاءت القاعدة العجيبة: صحيح مشهور خير من فصيح مهجور، لو كان هذا الاستعمال العامي خطأ، فما دام أنه مشهور فإننا نأخذ ولا نذهب إلى فصيح مهجور، بل نستمر على الخطأ المشهور أحسن، وكان عبد الله النديم تلميذ محمد عبده ممن أسهم في الدعوة إلى العامية واستخدامها في لغة الصحافة ولذلك كان يكتب في مجلة الأستاذ، وكان يصدر في كل عدد من هذه المجلة مقالة مكتوبة باللهجة الدارجة.
وجاء كذلك معه أحمد لطفي السيد وزميله ورفيق عمره عبد العزيز فهمي وزوج أخته إسماعيل مظهر ثم صديقهم الحميم طه حسين، وأعلنوا عداوتهم للغة العربية والثقافة الإسلامية، وهؤلاء وبالذات أحمد لطفي السيد الذي كان متأثراً جداً بـ دارون ومل ورسو وأضرابهم من الغربيين، الذي دعا إلى التفرنج وتحرير المرأة مع قاسم أمين، كانت لهم مواقف من اللغة العربية، بل إن بعضهم وصل به الأمر إلى أن دعا إلى أن تكتب اللغة العربية بالأحرف اللاتينية، تصور يقول: السلام عليكم تكتب (
الجواب
LSSL
الجواب
M
الجواب
LYKM) كما تكتب في بعض الكتب التي تعلم غير العرب الكلام العربي ولكن بالأحرف اللاتينية، وصلت المسألة إلى هذه الدرجة، ومن رواد هذه المدرسة كذلك عبد العزيز فهمي الذي دعا بالنزول بالفصحى إلى مستوى العامية، وكذلك مشى معهم توفيق الحكيم الذي وضع قاعدة: (سكن تسلم) حتى يضيع النحو، يضيع الفاعل من المفعول، أي تضيع المسألة، سكن تسلم.
وكذلك طبعاً ركزوا على قضية المرأة المسلمة وهذا مجال له بحث خاص، وشجعوا فكرة تحديد النسل، وهذه ليست فكرة إسلامية أبداً، إنما أتتنا من الكفار وتبناها بعض أبناء المسلمين وبعض الأطباء أيضاً مع الأسف وصاروا يروجون لها.(269/22)
الأدب الخليع
بالنسبة للقضايا الأدبية وهي خاتمة المطاف في درس هذه الليلة، فإن الاتجاهات الأدبية المتبناة من بعض أبناء المسلمين المستوردة من الخارج كثيرة جداً، أحياناً تكون إباحية، وأحياناً تكون رومنسية وكلام عن الحب والأدب العاطفي أو أدب الحب، والأدب المكشوف كما يقولون، اتجهت القضية في البداية إلى ترجمة أعمال الأدباء إن صح التعبير، فترجمت أعمال مشاهير الكتاب الغربيين من شكسبير إلى تولستوي وترجمت باللغة العربية، ونشرت بين المسلمين على أنها روائع في الأدب العالمي، وكذلك انتقل الأمر إلى ترجمة القصص الإباحية، كقصص ألكسندر توماس وإميل زولا وأنكول فرناس هؤلاء من الكتاب الإباحيين كتبهم كلها خلاعة وقصص مجون ودعارة، ترجمت أيضاً إلى اللغة العربية حتى يقرأها أبناء المسلمين.
ثم أتت حركة اللامعقول والكتابة الأسطورية، وكان على رأسها جان كول سارتر وكامو واستخدموا أسلوب الضياع وفلسفة الضياع والعبث المستقاة من أساطير الرومان، فقلدهم بعض المنتسبين إلى الإسلام مثل طه حسين وتوفيق الحكيم في كتب على هامش السيرة والفتنة الكبرى وأصحاب الكهف، وقلد بعد ذلك الكتاب الذين يعيشون بين المسلمين الحركة الإباحية في كتبهم، فكتب إحسان عبد القدوس ونزار قباني ونجيب محفوظ من الضلال الذين سيحاسبهم الله عز وجل عليه حساباً عسيراً إن لم يشأ أن يتوب عليهم على ما أفسدوا في أجيال المسلمين من هذه القصص الإباحية.
وطالب بعضهم مثل سلامة موسى بفصل الأدب عن القيم الدينية، وبرزت الوجودية -اتجاه الوجود- والنظرية الوجودية في كتابات أنيس منصور، والاتجاهات الماركسية في أدب نجيب محفوظ، ونهج لا معقول وهي فكرة الحداثة التي صارت حولها ضجة كما هو في شعر بدر شاكر السياب وأدونيس وغيرهم، هذه الحداثة أو هذه الكتابات الفوضوية التي ليس لها خطام ولا زمام.(269/23)
نموذج لشعر ساذج
أعرض لكم نموذجاً من هذا الغثاء الذي قلد فيه بعض أبناء المسلمين الكفرة، يقول واحد منهم وهو محمد الكيتوري يقول -هذه قصيدة وتمعن معي وحاول جاهداً وأجهد ذهنك وكده في أن تستخرج شيئاً واحداً مفيداً أو مفهوماً من هذه القصيدة- يقول:
نار خطاينا تسيل في حنايانا
فلنتكئ على عظام موتانا
ولنصمت الآن
برج كنيسة قديمة وراهب قلق
وغيمة تشد قديمها وتعبر الأفق
ورجل بلا عنق وامرأة على الرصيف تنزلق
وقطة في أسفل السلم تختنق
وصوت ناقوس يدق
يرسم دورة في الفضاء ويدق ويدق ويدق
أرجو ألا نكون قد فهمنا شيئاً من هذه القصيدة المعلقة المشهورة.
فالخلاصة أيها الإخوة: أن هناك اتجاهات رهيبة جداً، وهذا الكلام ينبغي أن يعيه المسلمون جيداً، وأن يقرءوا عنه أكثر وأكثر، وأن يتبصروا فيه، وأن يحذر بعضهم بعضاً من هذه الاتجاهات الخبيثة، وأن يحذروا من تغلغل ونفوذ هذه الأشياء في كلامهم وكتاباتهم، كما وقع بعض المسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ونحن على ثقة أيها الإخوة بأن الله ناصر دينه، وقد قال سبحانه وتعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32] {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:9] فإن دين الله باقٍ عزيز، وإن هذه الشعلة لن تنطفئ أبداً بإذن الله العزيز الحكيم، ونحن ننتظر عودة هذا الدين إلى واقع الحياة كما كان في عهد المسلمين الأوائل.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(269/24)
دور القرآن في إنشاء تصورات المسلمين
مازال القرآن الكريم كنزاً مدفوناً عند كثير من المسلمين لم يستخرجوه بعد، ولم يطّلعوا على ما فيه من القيم العظيمة التي أودعها الله.
فالقرآن الكريم بالإضافة إلى التعبد بتلاوته والعمل بأحكامه يبين لنا ويوضح كثيراً من المفاهيم التي أخطأ فيها كثير من الناس اليوم، فهو يوضح مفهوم الولاء والبراء مفهوم المفاصلة مفهوم العبادة مفهوم سنة التدافع بين الحق والباطل، وكذلك مفهوم التميز في العبادة إلى غير ذلك من التصورات التي ينبغي لجميع المسلمين أن ويعقلوها.(270/1)
الكنوز العظيمة في القرآن وغفلة الناس عنها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إخواني: لا زال هذا القرآن الكريم كنزاً مدفوناً عند الكثيرين من المسلمين لم يستخرجوه بعد، ولم يطلعوا على ما فيه من القيم العظيمة التي أودعها الله في هذا القرآن.
من الناس من يقرأ القرآن لينال أجر التلاوة، ومنهم من يحفظ آياته لينال أجر الحفظ، ومنهم من يقرأ القرآن ليذوق حلاوة هذا النظم العجيب ويتعلم من بلاغة القرآن وأسلوبه أموراً كثيرة، ومن الناس من يقرأ القرآن ليبحث عن الأخلاقيات التي تحسن سلوكه، ومنهم من يقرأ القرآن يريد فيه حلاً للمشكلات الاجتماعية، ومنهم من يقرأ القرآن يريد فيه حلاً للمشكلات الاقتصادية، هذا كله أمر مهم، ولكن لا بد أن نقرأ القرآن لهذه الأغراض كلها مجتمعة، ولا بد أن نقرأ القرآن لنستخرج منه التطورات الإسلامية والمكرمات العظيمة التي يجب أن يتربى عليها الفرد المسلم، ولأننا في غمرة تلاوتنا للقرآن ما بين جهل بمعاني ألفاظه وبين مرور سريع يمنعنا من التدبر في أعماقه، فإنه لا زالت هناك كثير من التصورات الإسلامية في هذا القرآن مدلولة للكثيرين.
وهذا الكتاب العظيم له أهمية كبرى نريد أن تكون هذه الأهمية واضحة بوعي وليست واضحة بمجرد البركة والتقديس الذي يجده كثير من العوام في أنفسهم تجاه هذا الكتاب العزيز، وحتى أوضح لكم ما أردت أن أشير إليه فإني أستعرض وإياكم طائفة من التصورات القرآنية من أوائل القرآن الكريم في أوائل سوره لعلنا نجد معاً ما هو المقصود بالعمق المطلوب في دراستنا للقرآن الكريم؟(270/2)
مفهوم العبادة والاستعانة في القرآن
لو تأملت -مثلاً- قول الله عز وجل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وتتأمل كيف قدم هذه الكلمة: (إياك) على قوله: (نعبد) مع أن الأصل في اللغة أن تقول: نعبد إياك، فتأتي بالفعل ثم تأتي بالفاعل والمفعول، لكنه قدم المفعول أولاً، فقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] ولم يقل: نعبد إياك؟ ففي هذا دلالة على تخصيص الله بالعبودية، أليس هذا التقديم والتأخير يجب أن يكون مساراً للانتباه؟! ويجب أن يكون آخذاً باللب حتى يستشعر المسلم ما معنى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5]؟ ما هو الاختصاص الحاصل في هذه الآية؟ لماذا يجب أن يختص الله في العبادة وبالاستعانة، فلا نعبد إلا الله ولا نستعين إلا بالله؟ تأمل كيف ينشئ القرآن هذا التصور العظيم للعبادة التي من أعظم معالمها الإخلاص {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] ولا نعبد أحداً معه سواك لا مالاً ولا جاهاً ولا منصباً ولا قانوناً وضعياً ولا آراءً بشرية، لا نعبد إلا الله سبحانه وتعالى، ولا نرضخ إلا له، ولا نذل إلا له، ولا نستعين إلا به لا بقوى شرقية ولا غربية، ولا شمالية ولا جنوبية، وإنما فقط إياك نستعين.(270/3)
تصور وجوب اتباع أوامر الله
تأمل مثلاً كيف ينشئ القرآن في نفس المسلم تصوراً عظيماً بوجوب اتباع أوامر الله عز وجل والوقوف عند كلماته، وعدم الاعتداء على ما أنزل الله، لما قال الله لبني إسرائيل: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:58] ادخلوا الباب سجداً شاكرين لله على ما أنعم به عليكم، خالف اليهود هذا الأمر ودخلوا يزحفون على أدبارهم فخالفوا الأمر الإلهي.
قال: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة:58] أي: ادعوا الله أن يحط عنكم، فماذا قالوا؟ زادوا (نوناً) فقالوا: حنطة، أعطنا طعاماً بدلاً من أن يقولوا: حط عنا ذنوباً، لم يقفوا عند كلمات الله، ولا عند أوامره، ولهذا لما شابهت طائفة من هذه الأمة أولئك اليهود فزادوا أحرفاً في تحريف كلمات الله، فقال الجهمي في تفسير قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] قال: الرحمن على العرش استولى.
نون اليهودي ولام جهمي هما في وحي رب العرش زائدتان(270/4)
مفهوم المسارعة في تنفيذ أوامر الله
إذاً: لا بد من الوقوف وعدم التعدي عند الأوامر والكلمات الإلهية الواردة في القرآن والسنة، مفهوم عدم التلكؤ وعدم التباطؤ في تنفيذ أوامر الله، والمسارعة فيها مفهوم تشير إليه قصة أمر بني إسرائيل بذبح البقرة، كيف تلكئوا؟ كيف تباطئوا؟ ما هي الأعذار التي افتعلوها؟ لماذا أرادوا التأخر؟ كثير من المسلمين يحذون حذوهم في هذه الأيام: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة) فيضعون المعاذير والعقبات في سبيل تنفيذ أوامر الله، ويعتذرون بأعذارٍ واهية إنما هي من وحي الشيطان.(270/5)
مفهوم التميز في العبادة
مفهوم الاختصاص والتميز في العبادة وعدم مشاركة الكفار بأي شعيرة من الشعائر كان النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون يتوجهون في البداية إلى بيت المقدس، ثم نزل تحويل القبلة إلى الكعبة تمييزاً لعبادة المسلمين عن عبادة الكفار، وتمييزاً لتوجههم في العبادة عن توجه الكفار: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:142]، {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} [البقرة:145].
إذاً: تميز في العبادة مفهوم أصيل من المفهومات الإسلامية وجوب تطبيق جميع الإسلام خذ الإسلام جملة لا تأخذه وتفصل منه ثياباً كما تريد وتهوى، وإنما خذه جملة في جميع النواحي التي نزل فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً 2) [البقرة:208] ادخلوا في جميع شعب الإيمان وجميع النواحي التي جاء بها الإسلام.(270/6)
قاعدة التفاضل بين الناس
قاعدة أخرى من القواعد التي يقرها القرآن: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} [سبأ:37]، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] هذه القاعدة مهمة حتى نعرف كيف يتفاضل الناس، وبأي شيء يتفاضلون؟ لما غابت القاعدة انظر اليوم إلى تعظيم البشر للبشر، وإلى اتباع البشر للبشر الآخرين ما هي موازين الاتباع والتعظيم؟ الجاه والمنصب والمال والأولاد أشياء من الدنيا.
ولذلك اعترض بنو إسرائيل الجهلة منهم على تنصيب طالوت عليه السلام ملكاً عليهم، فماذا قالوا؟ {أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} [البقرة:247] لماذا؟ {وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] إذا لم يتضح هذا المعيار وهذا الميزان حصل الخبط في الاتباع، وحصل الخبط في النظرة للناس وفي تقديرهم.(270/7)
مفهوم التدافع في القرآن
لابد من تصفية الصف وتنقيته من الدخلاء والمزيفين حتى يكون صفاً إسلامياً يستطيع فعلاً أن يجاهد أهل الشرك والكفر، وينصره الله باستكمال مقومات النصر: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة:249] ماذا حصل؟ {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [البقرة:249] فقط، لم يدخل معهم دخيل آخر.
وتمحيص الصف المسلم من حكم الله التي يريد أن تقع في الأرض: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179]، {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آل عمران:154] مفهوم التدافع بين الحق والباطل يكون لهذا كرة ولهذا كرة أخرى، لماذا؟ ليظهر الحق ويبطل الباطل، وعندما تحتدم المعركة تتميز الأشياء.
وبضدها تتميز الأشياء
وتحصل منة نصر الله لعباده، ويصلب البناء، ويشتد العود، وتقوم حركة الجهاد بكل إيجابياتها، وإلا لو لم يكن هناك صراع بين الحق والباطل على الأرض هل يكون هناك جهاد؟ هل يكون هناك تنقية وتمحيص وتصفية وأهمية للتربية؟ التدافع بين الحق والباطل: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251]، {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} [الحج:40].
من سنة الله أن المسلمين ينزل أمرهم ويتغلب عليهم الكفار في وقت من الزمن، ومن سنة الله أن هؤلاء يعيدون تربية أنفسهم وصقلها في ظل تلك الظروف التي ينشئها الله سبحانه وتعالى حتى تعود الغلبة للحق والكرة له مرة أخرى، ويتخذ الله من عباده شهداء، حِكَم مترابطة.(270/8)
الجدال والمناظرة في القرآن
مفهوم الجدال والمناظرة في القرآن الكريم كيفية إفحام الخصوم من أهل الباطل؟ كيفية إسكاتهم؟ كيف تكون الحجة؟ وما هو أسلوب الحوار؟ يعلمنا القرآن هذا المفهوم الأصيل يعلمنا القرآن ما نحتاج إليه في معركتنا مع أهل الباطل، كثيرون أولئك أهل الباطل في المجالس وفي جميع الأمكنة، تجدهم حرباً على الله ورسوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258] أتى بإنسان فقتله وأتى بمحكوم عليه بالإعدام فعفى عنه، سذاجة في التصور للإحياء والإماتة، ماذا قال إبراهيم؟ {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258].(270/9)
الدنيا مفهومها وميزانها وقيمتها في القرآن
حقيقة الحياة الدنيا مفهومها ميزانها قيمتها! إنك تجد هذا التصور في القرآن في آيات كثيرة، {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14] إذاً ماذا نختار؟ وإلى أي جانب نميل؟ متاع الحياة الدنيا أم حسن المآب التي عند الله عز وجل؟ {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96] ماذا تختار يا أخي؟ تصور إسلامي مهم يعطيك إياه القرآن، هذا التصور تحتاج إليه كل دقيقة من حياتك.(270/10)
مفهوم الولاء والبراء في القرآن
مفهوم الولاية للمؤمنين: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران:28] هل تميل إلى الكفار؟ هل تصاحبهم؟ هل تنصرهم؟ هل توادهم؟ هل تجالسهم؟ هل تكون معهم ضد إخوانك؟ حتى في الشركات والأعمال تجد أن هذا المفهوم قد محي محواً تاماً، لا تجد مفهوم الولاية للمؤمنين والمعادة للكافرين حتى في أثناء معاملاتنا اليومية مع هؤلاء وهؤلاء.
متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31].
تدعي حب الحبيب ثم تخالفه ما ذاك في إمكانِ
لا يمكن أن تجتمع المحبة والمخالفة، كثير من المسلمين اليوم يزعمون أنهم يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن يخالفون سنته في تصوراتهم وموازينهم وسلوكياتهم؛ بل وحتى مظاهرهم الشخصية معاملاتهم في البيت لزوجاتهم وأولادهم ولإخوانهم مخالفة لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إن هيئتهم في الصلاة لا تشبه هيئة صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم إطلاقاً، إلا في الأشياء العامة الركوع والسجود والقيام والقعود فقط.(270/11)
مفهوم الشمولية في هذا الدين
شمولية مفهوم الدين لجميع أعمال الخير ليس قاصراً على شيء معين إنما هو عام.
المفهوم الشامل للعبادة ضاع في كثير من الأذهان كثيرون اليوم يعتقدون أن الدين في المسجد وأما العبادة فلا تتعدى المسجد، ولو خرج الخارج من باب المسجد لانتهت الصلة بالدين ولجاز له أن يعمل ما يشاء، هذا هو المفهوم الذي يقره القرآن في شمولية العبادة: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177] رد مفحم على كل رجلٍ متأثر بأهل الزندقة، وأهل الاستشراق، وأهل الغزو الفكري الذين يصورون أن الإسلام في المسجد فقط.(270/12)
مفهوم المفاصلة في القرآن
مفاصلة أهل الكتاب طريقة دعوتهم ما موقفنا من اليهود والنصارى؟ {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64].(270/13)
مفهوم تخليص شخصيات الإسلام من ادعاءات الكفار
مفهوم تخليص رجالات الإسلام من ادعاءات الكفار، حتى هذا ورد النص به في القرآن ما هو؟ ادعت اليهود والنصارى أن إبراهيم منهم، كل طائفة قالت: إبراهيم منا إبراهيم مشهور بالحنيفية بالصلاح والتقوى وامتثال أوامر الله، كل طائفة تريد أن تسحبه إلى جهتها، وتريد أن تتبناه وتجعله من رجالاتها، ولكن كيف واجه القرآن هذا الأمر؟ {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْأِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:65] انظر إلى القوة في العرض، كيف تجادلون في إبراهيم، وإبراهيم ما نزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده موسى بعد إبراهيم، وعيسى بعد إبراهيم واليهود والنصارى يعلمون هذا التسلسل التاريخي الزمني، كيف يدعون إبراهيم لهم؟ وما أنزلت التوراة ولا صارت اليهودية، وما أنزل الإنجيل ولا صارت النصرانية إلا بعد إبراهيم: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67].
إذاً: من أحق الناس بإبراهيم؟ من أحق الناس بهذا الرجل؟ هذا الرجل يكون فرداً في أي حركة؟ {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران:68] هؤلاء أولى الناس بإبراهيم، انظر إلى هذا المفهوم في انتزاع وتخليص الشخصيات من الادعاءات الكفرية.(270/14)
مفهوم توضيح خطط الكفار في القرآن
الموقف من محاولة التشكيك من الكفار كيف تكون؟ إنهم يريدون أن يحرفونا عن ديننا، وأن يبتلونا عن شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم، وسائل عجيبة وخبث ومكر ودهاء، ماذا قالوا؟ {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:72] خطة خبيثة، ادخلوا في الإسلام صباحاً وإذا جاء المساء خرجوا من الإسلام، حتى يقول الناس: إن هذا ليس بدين صحيح وإلا لثبت الداخلون عليه، لكنهم لما دخلوا فيه ثم رأوه باطلاً خرجوا منه خطة خبيثة، وتزعزع الصف المسلم وتشكك المسلمين في إسلامهم، انظر إلى الخطة العجيبة: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:72] كشف الله زيف الخطة، وكشف باطلهم في القرآن، وثبِّت المسلمين ووضح كيفية المجابهة.(270/15)
مفهوم المستقبل للإسلام
مفهوم المستقبل للإسلام، وأن الله لا بد أن يعز هذا الدين وأن ينصره ولو بعد حين: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9] كم نحتاج هذا المفهوم اليوم؟ كم نحتاج التصور أن المستقبل للإسلام في وسط الضعف الذي نعيش فيه في وسط التقهقر الذي نحيا فيه في وسط غلبة الكفار على المسلمين في هذه الأيام، كم نحتاج إلى إشراق وتوهج هذا المعنى الأصيل في نفوسنا: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} [الصف:8] (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورين يجاهدون حتى قيام الساعة)؟ نسأل أن يجعلنا وإياكم منهم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(270/16)
مفهوم الوحدة في القرآن
الحمد الذي لا إله إلا هو، لم يكن له ولي من الذل ولا شريك في الملك وأكبره تكبيراً، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، واستوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أرسله الله رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً، وأنزل عليه الكتاب والحكمة وعلمه ما لم يكن يعلم وكان فضل الله عليه عظيماً، وفضل الله على المؤمنين عظيماً لما أنزل عليهم هذا الكتاب المشتمل على هذه القواعد المهمة في التصورات والمفهومات التي تعم جميع نواحي الحياة.
مفهوم التوحد وعدم التفرق شيعة وأحزاباً مفهوم يؤكد عليه القرآن، {وَاعْتَصِمُوا} [آل عمران:103]، ثم يقول: {وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] ما هو موقف المسلمين اليوم من هذا الأمر الإلهي وقد تفرقوا شيعاً وأحزاباً وطوائف وجماعات حتى ما عاد الحق يُعرف لعامة الناس من كثرة هذا التفرق؟ ما هو المفهوم القرآني للاجتماع؟ نجتمع على أي شيء؟ كيف يتوحد المسلمون؟ يتوحدون على أي شيء؟ {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} [آل عمران:103] أما الاعتصام بحبلٍ من الله وحبل من الناس فلا يكون اعتصاماً ولا يصح أن يتوحد عليه المسلمون، وأي صف توحد على حبل من الله وحبل من الناس فآخرته ونهايته إلى الخسران والانكسار؛ لأن الله لا ينصر صفاً مرقعاً، ولأن الله لا ينصر صفاً تلخبطت فيه الأمور واختلطت من الحق والباطل.(270/17)
مفهوم الخيرية في هذه الأمة
مفهوم خيرية هذه الأمة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] بأي شيء كنا خير أمة أخرجت للناس؟ {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] إذا لم نقم بالأمر بالمعروف ولا بالنهي عن المنكر هل يصح أن ندخل أنفسنا في خير أمة أخرجت للناس؟ كلا.
إننا حينئذٍ نخرج أنفسنا إذا أسقطنا واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أمة الإجابة إلى أمة الدعوة، نكون من أمة الدعوة الدعوة موجهة إليهم لكن ما أجابوا ولا استجابوا.(270/18)
مفهوم استعلاء المسلم عن الجاهليين
مفهوم استعلاء المسلم وارتفاعه عن الجاهليات مهما كادوه وأحزنوه وعادوه وشردوه: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] كم نحتاج إلى هذا المفهوم في وسط هذا الضيق والاضطهاد الذي يواجهه المسلمون في كل مكان: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} [آل عمران:139] بعقيدتكم أنتم الأعلون بصفاء منهجكم، أنتم الأعلون بسنة نبيكم، أنتم الأعلون بصبركم على كتابكم وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم.(270/19)
مفهوم التعلق بالدِّين
مفهوم التعلق بالدين لا بالأشخاص، فإذا ذهب الأشخاص ذهب المتعلقون بهم، أما المتعلق بالدين فإنه يبقى ولو مات كل الأشخاص الذين تعلق قلبه بهم أو أحبهم: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144].(270/20)
مفهوم طبيعة مواجهة الجاهلية في القرآن
طبيعة مواجهة الجاهلية مفهوم قرآني أصيل مبين في القرآن العظيم، ما هو الأذى الذي سيلحقنا من الكفار؟ أذى متعدد الأنواع: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ} [آل عمران:186] فقط: {وَأَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:186] فقط: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً} [آل عمران:186] إذاً: الأذى في الذات في الأجسام في الأموال، والأذى المعنوي سماع الأذى من الكفار جميع أنواع الأذى، ما هو العلاج؟ {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران:186] هذا مهم حتى يستعد المسلم للمواجهة، ويأخذ أهبته للصبر في المعركة على جميع أنواع الأذى.(270/21)
مفهوم التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله
المفهوم العميق في أن جميع الاختلافات والمنازعات لا بد أن ترد إلى الله وإلى الرسول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء:59]، {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] كم نحتاج إلى هذا المفهوم اليوم، كثرت التنازعات والاختلافات، حتى في الأحكام الفقهية الناس فيها مساكين؛ لأنهم مضطربون ومتحيرون، هذا يقول شيئاً والآخر يقول بخلافه، وهذا يقول أمراً وهذا يقول بعكسه وضده، ما هو الحل؟ ما هو العلاج؟ {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59].
أيها الإخوة: هذا القرآن والله الذي لا إله إلا هو فيه علاج لكل الأسقام المادية والمعنوية فيه علاج لكل أمراض الأمة فيه إيجاد أشياء مهمة للتربية تصورات يجب أن يقوم عليها المجتمع والأفراد المسلمين قد خلت كثيراً من نفوس المسلمين منها.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم اجعلنا ممن يقتدي بهذا القرآن.
اللهم اجعلنا ممن وضع القرآن أمامه فقاده إلى الجنة، ولا تجعلنا ممن نبذ القرآن وراءه فقاده إلى النار.
اللهم اجعلنا ممن يحل حلاله ويحرم حرامه ويعمل بمحكمه ويؤمن بمتشابهه.
اللهم ذكرنا منه ما نسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار.
اللهم واجعلنا ممن يستمدون تصوراتهم من القرآن، واجعلنا ممن يؤسسون موازينهم من القرآن، واجعلنا ممن يقرءون القرآن تدبراً وخشوعاً، وارزقنا حلاوة الإيمان به والعمل يا رب العالمين.(270/22)
صور من البيوع المحرمة
أيها الأحبة: هذه رسالة تتحدث عن طائفة من البيوع غير الجائزة في الشريعة، والتي قد اشتهرت بين الناس، مع الكلام عن حكمها استناداً إلى الأدلة من الكتاب والسنة، وبما وضحه أهل العلم الثقات.(271/1)
حكم بيع التقسيط
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة: لقد تكلمنا في الخطبة الماضية عن موضوع الربا، وأنه حرام، وأن وضع الأموال في البنوك أو شراء شهادات الاستثمار من البنوك بنسب ثابتة معلومة هو عين الربا الذي يعرفه كل مسلم، عامة المسلمين صغاراً وكباراً يعرفون أنه من الربا، بنص كتاب الله وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك فلا عبرة بقول قائل يقول بخلاف ذلك، سواءً كان كبيراً أم صغيراً، غنياً أو فقيراً، فإن كتاب الله حكم بيننا، فلا يجوز أن يتلاعب به المتلاعبون.
لقد سألني بعض الإخوة أن أتحدث عن بعض الصور الغير جائزة في البيع أو التي تتعلق بأمور ربوية، وأنا أعرض لكم أيها الإخوة طائفة من أنواع البيوع التي اشتهرت بين الناس، مع الكلام على حكمها، مستنداً إلى ذلك بالأدلة من كتاب الله وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما وضحه أهل العلم من العلماء الثقات، وغالب هذه الأنواع التي سأذكرها كلها قد وجهت إلى اللجنة الدائمة للإفتاء أو إلى أحد الثقات من العلماء فأجاب عنها.
يسأل كثير من المسلمين عن حكم بيع التقسيط: وهو أن يشتري سلعة بأقساط إلى أجل؟
الجواب
هذا البيع كما صدرت الفتوى عن اللجنة الدائمة للإفتاء، أن البيع إلى أجل معلوم جائز إذا اشتمل البيع على الشروط المعتبرة، وكذلك التقسيط في الثمن لا حرج فيه إذا كانت الأقساط معروفة، والآجال معلومة، والدليل قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] فإذا تحدد الأجل متى يجب عليه التسديد ونهاية المدة، فهذا من الشروط، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، أو وزن معلوم، إلى أجل معلوم) ولقصة بريرة الثابتة في الصحيحين: (أنها اشترت نفسها من سادتها بتسع أواق في كل عام أوقية) اشترت نفسها ممن يملكها بتسع أواق في كل عام أوقية -هذا هو بيع التقسيط- ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بل أقره، ولم ينه عنه، ولا فرق في ذلك بين كون الثمن مماثلاً لما تباع السلعة نقداً أو أكثر من ذلك، فإذا كان الأجل معلوماً، والأقساط معلومة، وقيمة كل قسط معلومة، فإن البيع جائزٌ إذا توافرت فيه بقية الشروط الشرعية.
ولكن من الأمور التي ينبغي الحذر منها: أن ينصرف البائع والمشتري ولم يحددا نوع البيع الذي سيتبايعان به، فلو قال له: أبيعك هذه السيارة بأربعين ألف نقداً أو بخمسين ألف بالتقسيط إلى سنة، ولم يحددا نوع البيع، فقال المشتري: قبلت، وانصرف على أنه مخير بأي نوع بدون أن يحدد النوع هل هو نقد أو تقسيط؟ فإن هذا البيع غير جائز، فلا بد أن يحددا عند البيع هل يريد أن يشتري نقداً أو يشتري تقسيطاً، ولا يجوز أن يتركا مجلس العقد ولم يعينا نوع البيع الذي يريد كل منهما أن يتبايع به.
وكذلك لو قال له: بعتك أحد هاتين السيارتين بثلاثين ألف ريال ولم يحددا أية واحدة منهما التي وقع عليها البيع، فإن البيع كذلك غير جائز؛ لأن السلعة مجهولة، ولا بد عند البيع من تعيين السلعة، فلا يجوز أن يقول: بعتك واحدة من هاتين السيارتين، لا بد أن يحدد أي سيارة، وكذلك عندما لا يختار نوعاً من البيع هل هو نقد أو تقسيط، فإن الثمن يكون غير معلوم، وعندما يكون الثمن مجهولاً فإن البيع يكون باطلاً.(271/2)
النهي عن البيعتين في بيعة
كذلك إذا قال له: أبيعك داري على أن تبيعني دارك، أو أبيعك داري على أن تزوجني ابنتك بمهر كذا فإنه غير جائز؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة، ومن هذا النوع أن يقول له: أبيعك السيارة بعشرة آلاف على أن تبيعني إياها بعد سنة بمبلغ كذا، فهذا أيضاً غير جائز لأنها بيعتين في بيعة، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة، فلا يجوز أن تشترط عليه عند البيع أن يبيعك شيئاً آخر، سواءً السلعة نفسها أو سلعة أخرى، أو أن يزوجك ابنته مثلاً، فلا يجوز الربط بين هذه الأمور في عقد واحد؛ بل يجب أن يكون كل عقد منفصلاً عن الآخر.(271/3)
حكم بيع العينة
ومن الأمور التي تحدث في بيع التقسيط وهي غير جائزة: أن يشتري منه بأقساط إلى أجل ثم يبيعها على نفس البائع الأول بثمن أقل، هذا بيع العينة الذي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبر بأنه حرام لا يجوز، فلو أن إنساناً اشترى من الوكالة سيارة بالتقسيط بخمسين ألف ريال إلى سنة بالأقساط أو إلى سنتين لا يجوز أن يأخذها ويبيعها على نفس الوكالة نقداً الآن بأربعين ألف ريال مثلاً فهذا حرام لا يجوز، لكن لو أخذها من المعرض واستلمها من الوكالة ثم ذهب بها إلى مكان آخر إلى الحراج إلى معرض إلى صديق له، وباعها عليه نقداً فلا بأس بذلك، يبقى عليه التقسيط يدفعه للوكالة، والسيارة يبيعها بعد أن استلمها إلى من شاء لكن غير الطرف الأول الذي اشترى منه.
ولو جاء رجل وقال: إن تبيعها أنا أشتريها منك نقداً، ويكون هذا المشتري من جهة الوكالة فإن هذا غير جائز، ولكن لو باعها من طرف آخر لا علاقة له بالبيع الأول فلا بأس بذلك وهو حلال إن شاء الله.(271/4)
عدم بيان الخلل والعيب في المبيع
كذلك من المنكرات التي تقع في بيع السيارات: أن يعلم البائع أن السيارة فيها العيب الفلاني وفيها الخلل الفلاني، ثم يبيعها على المشتري دون أن يبين له العيب الذي في السيارة، فهذا حرام لا يجوز، وهو آثم، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا) ولا يعفيه أن يقول له: أبيعك كومة حديد بكم تشتري، أو يقول له: خذها إلى أي ورشة أو إلى أي مكان وافحصها؟ لا يعفيه؛ لأن المشتري قد لا يعلم العيب، وقد لا يكتشف الذي في الورشة العيب من أول وهلة، لأن بعض العيوب لا تظهر إلا عند الاستعمال على فترة طويلة، ولذلك لا يجوز أن يقول: خذها كومة حديد، أو خذها وافحصها، وأنا لا أقول لك إن فيها شيء، لا بد أن يبين له العيب إذا كان يعلم العيب، والدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما).
ولذلك يسأل قائل، فيقول: أنا بعت سيارتي وكان فيها عيوب لم أبينها للمشتري ماذا أفعل؟ أنا أريد أن أتوب إلى الله؟ نقول له: عليك أن تتوب إلى الله توبة صادقة، وألا تعود إلى هذا العمل مرة أخرى، وتندم وتستغفر ربك وتتوب إليه، ثم تذهب إلى من بعت السيارة إليه وتستسمح منه، وتقول له: أنا مستعد أن أرجع لك مقدار العيب الذي كتمته عنك، فإن اصطلح معك على أي شيء، سواءً سامحك، أو أخذ منك قيمة العيب الذي كتمته عنه، أو رجعتم في البيع وفسختموه، فإن ذلك من تمام توبتك، وأنت مأجور عليه إن شاء الله، ولو اختصما فالقاضي بينهما.(271/5)
حكم بيع ما لم يملك
ومن البيوع المحرمة أيضاً: أن يشتري البضاعة ويبيعها وهي لا زالت في مكانها من التاجر الأول، كأن يعرف إنسان أن إنساناً يحتاج إلى كفرات سيارات، فيرفع سماعة الهاتف على صديق له يعلم أن عنده كفرات، فيقول له: تبيعني الكفرات التي عندك بمبلغ كذا؟ فيقول: نعم، بعتك، وينعقد البيع ويكون بيعاً صحيحاً، ثم يرفع السماعة على الشخص الثاني الذي يعلم أنه يحتاج الكفرات، فيقول له: عندي لك كفرات تشتريها مني بكذا؟ فيقول: نعم أشتريها منك، فيقول: إذاً اذهب فاحملها من المكان الفلاني -من مكان التاجر الأول- أو تعال بعد فترة وخذها مني، ما حكم البيع الثاني؟ لا يجوز، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تبع ما ليس عندك) وهذا الشخص باع الطرف الثاني بضاعة ليست عنده؛ لأنها لا زالت في مستودعات التاجر الأول.
ودليل آخر: عن زيد بن ثابت، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه نهى أن تباع السلع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم) فلا بد إذا أردت أن تبيع الطرف الثاني أن تتصل بالطرف الأول وتشتري منه السلعة ثم تخرجها من مخازنه وتدخلها مخزنك أنت أو بيتك وتقبضها إليك، ثم ترفع السماعة وتبيع على التاجر الثاني، أما أن تبيع على شخص آخر والبضاعة قد اشتريتها ولا زالت عند التاجر الأول لم تقبضها فالبيع غير صحيح: (لا تبع ما ليس عندك) فإن قلت لي: إن ملايين الناس يفعلون هذا، أقول لك: فكان ماذا؟ وماذا يعني؟ الحكم الشرعي على رءوس الجميع وإن اتفق أهل الأرض على بيع تعاملوا به وهذا البيع حرام فهو لا يزال حراماً، صعدت أو نزلت ذهبت شرقاً أو غرباً فالبيع حرام.
ولذلك لو ذهب إنسان إلى السوق فاشترى سلعة من شخص في أرض السوق، ثم أراد أن يبيعها، قال أهل العلم: ينقلها إلى مكان آخر ولو كانت قريبة، يأخذها ويضعها في مكان آخر -ثم إذا أراد أن يبيعها يبيعها- دلالة على أنه قبضها وأخذها واستلمها ثم بعد ذلك يبيعها.(271/6)
حكم بيع العملات وشرائها
وهذا سؤال أجابت عنه هيئة كبار العلماء: عن حكم بيع وشراء العملات؟ فأجابت بما ملخصه: إن بيع وشراء العملات جائز، فإذا كانت العملات من نفس النوع فإنه لا بد من التماثل والتقابض، ولو كانت العملات من أنواع مختلفة كمن يريد أن يشتري دولاراً بريال، فإنه يجوز له أن يشتري كيف شاء دولاراً بأربع ريالات بثلاثة ريالات بأربع ريالات إلا ربع، كل ذلك جائز؛ لأنها نوعين مختلفين من النقد والعملات، ولكن لا بد أن يتم الاستلام والتسليم في مجلس العقد، فلو قال: هات مائة دولار وغداً أعطيك ثلاثمائة وخمسة وسبعين ريالاً فالبيع غير صحيح، لأنه لم يسلم الثمن في مجلس العقد، ولا بد من التسليم يداً بيدٍ، ولذلك -أيها الإخوة- بلغني أن من التعاملات المتحايلة في الربا: أن يكون البنك لتاجر عندك دولارات أنا أشتري منك دولارات، كم عندك؟ مليون دولار؟ أنا أشتري منك مليون دولار، هات المليون الدولار وضعها عندي وأسلمك ثمنها أربعة ملايين ريال ولكن بعد ستة أشهر، يريد البنك أن يتحايل ليقول: ما رابينا، نحن بعنا واشترينا، ولكن يلعبون على من؟ يخدعون من؟ ملك الملوك، الله عز وجل يخادعونه كما يخادعون الصبيان، طفل صغير تلعب عليه، والله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويعلم بأنها حيلة للربا، فلا بد إذا أردت أن تبيع عملة أن تقبض وتسلم في نفس المجلس لا تتأخر لحظة واحدة.(271/7)
التجارة بالعملات في الأسواق السوداء
وهذا سؤال وجه إلى اللجنة الدائمة للإفتاء: ما حكم التجارة بالعملات في بعض البلاد فيما يعرف بالسوق السوداء؟ فكان
الجواب
يجوز شراء العملة بعملة أخرى من غير جنسها ولو تفاوت السعر يداً بيد، ولا يمنع من ذلك المخالفة للقوانين الوضعية، فلو كانت قوانين وضعية وليس فيها مصلحة للمسلمين فإن هذه القوانين الوضعية لا تمنع بيع العملات ولو فيما يعرف بالسوق السوداء وليسموه ما يسموه، فإذا كان البيع يداً بيد فإن ذلك جائز، وهذه الفتوى برقم: [2010] ونشرت في مجلة الدعوة السعودية في عدد رقم: [844].
وهناك نوع آخر من البيوع وهو: أن يشتري سيارة وكالة (أ) عن طريق وكالة (ب) فما هو الحكم؟ فنقول: إذا كانت الوكالة (ب) عندها السيارة المطلوبة قد استلمتها من الوكالة (أ) ووضعتها عندها في مستودعاتها، ثم أتيت أنت واشتريتها من الوكالة (ب) فلا حرج، لكن أن تأتي الوكالة (ب) وتبيعك سيارة عند الوكالة (أ) فلا يجوز، لا بد أن يستلموها ثم يبيعوك إياها نقداً أو تقسيطاً لا بد أن يستلموها والدليل على ذلك، قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تبع ما ليس عندك).(271/8)
من الحيل على الربا
وكذلك من الحيل على الربا أن يأتي شخص عنده سيولة ويعلم بأن صاحباً له يحتاج سيارة، فيقول: تعال معي إلى المعرض أو الوكالة وانتقي لك السيارة التي تعجبك، فينتقي السيارة التي تعجبه، فيقول له: أنا أشتريها الآن من مالي بأربعين ألف ريال أدفعها للمعرض أو الوكالة ولا أشتريها باسمك، ثم تعطيني أنت ثمنها بالتقسيط أو بعد سنة خمسين ألف ريال.
الجواب
هذا البيع حرام، وهو وسيلة إلى الربا بل هو عين الربا، كأنه أقرضك الأربعين ألف بخمسين ألف، ذهب معك إلى الوكالة واشترى لك السيارة التي تعجبك وجعلها باسمك أنت، فهذا حرام، لكن إذا اشتريتها باسمه هو من الوكالة -هو يعلم أنك تحتاج سيارة- وقبضها وأخذ مفتاحها وأخرجها من الوكالة ثم قال: يا صاحبي، أنت تريد سيارة، هذه السيارة، تريد أن تشتري مني بخمسين ألف ريال إلى أجل أقساط؟ أبيعك.
فهذا لا حرج فيه؛ لأنه قد أخذها وقبضها واشتراها، وأنت لست ملزماً بها، أنت لو قلت: أنا لا أريد أن أشتري السيارة قد غيرت رأيي، ليس هناك إلزام عليك، ففي هذه الحالة يجوز البيع.
أيها الإخوة: هذه المسائل منتشرة بين الناس جداً، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ولا يفقهون، ولا يخافون الله، ليس عنده أي حرج من أي بيع أو شراء ما دام أن فيه ربح، لا يسأل ولا يستفتي عن جوازه، ولا يتفقهون في الدين، قد يكون ربا ولكن لا يهمهم هذا، ما دام أن هناك مكسباً، هذا هو همهم أن يكسبوا لا يبالون من حرام كان أم من حلال.(271/9)
بيع المحرمات
أيها الإخوة: اعلموا أن بيع الأشياء المحرمة لا يجوز؛ كأشرطة الأغاني، وأشرطة الفيديو المحرمة، أو آلات اللهو واللعب، كالكمنجة والعود والمزمار والطبل، كل ذلك حرام بيعه، والله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه، وقد حرم المعازف فلا يجوز بيعها، وكل أولئك الذين يتاجرون بهذه الأشياء آثمون عند ربهم، يأكلون سحتاً في بطونهم يصلون به من نار جهنم يوم القيامة، إذا لم يتوبوا إلى الله ويعفو الله عنهم.(271/10)
حكم بيع اللحوم المحرمة
كذلك التاجر الذي يبيع مواد غذائية وهو يعلم يقيناً أن اللحم الذي يبيعه ليس مذبوحاً وإنما هو مصعوقاً أو أن فيه شوائب خنزيرية، أو لحم كلاب أو حمير، ثم يبيعها فهذا حرام لا يجوز؛ لأن هذا الشيء حرام عند رب العالمين، ولو قال: أنا أبيع هذه الأشياء على غير المسلمين، أناس يأكلون لحم الكلاب والقطط والحمير، نقول: لا يجوز؛ لأن الله حرم أكله فيحرم بيعه.(271/11)
حكم بيع الدم
ومن هذا الباب فإن بيع الدم الذي قال أهل العلم وجمهور العلماء بنجاسته يحرم بيعه، لكن في حالة الضرورة ماذا نفعل؟ هناك فتوى للجنة الدائمة بأن الدم أصلاً نجس، فلا يجوز التداوي به إلا إذا خشي على نفسه الهلاك فيجوز، مثل الميتة، كأن تكون في صحراء وانقطعت وأوشكت على الهلاك وكدت أن تموت، فوجدت ميتة، ما حكم الميتة؟ حرام، ما حكم الأكل منها؟ حرام، لكن للضرورة، يجوز لك أن تأكل ما يبقي على حياتك، ويسد رمقك.
وكذلك هنا: الأصل أن الدم نجس، وأنه لا يجوز التداوي به، لكن لو خشينا عليه الموت فيجوز عند ذلك، وفي الفتوى المذكورة، بل ربما يجب التداوي به إبقاءً على حياة الشخص، وأما أخذ العوض على الدم فلا يجوز؛ لأن الله إذا حرَّم شيئاً حرم ثمنه، فإن تعذر حصوله على الدم بلا عوض جاز له أن يشتري ويدفع الثمن للضرورة، لكن الذي يبيع الدم هو الذي يأثم ولا يجوز له أن يأخذ الثمن، فالمشتري للضرورة يجوز له أن يشتري، ولكن الذي يبيع حرامٌ عليه أن يأخذ الثمن، وكذلك فلو أن إنساناً يذهب للتبرع بالدم لأجل المال فلا يجوز، ولكن يتبرع لله ولإنقاذ حياة إخواننا المسلمين هذا الأصل، ولا نكون ممن يبيع جزءاً من جسده، وهذا فيه مشابهة لطبائع اليهود، يبيعون أجزاءً من أجسادهم بمال يأخذونه.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يفقهنا وإياكم في ديننا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يجعلنا ممن يحل حلاله ويحرم حرامه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(271/12)
حكم أخذ العربون
الحمد لله وحده، أشهد أن لا إله إلا هو، لم يتركنا هملاً وإنما أرسل إلينا رسولاً، وأنزل علينا كتاباً، فبين لنا الحلال وبين لنا الحرام، وقال سبحانه وتعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157] وصلوات الله وسلامه على المبعوث رحمة للعالمين، بشيراً ونذيرا، أرسله الله ليبين لنا ما أنزل إلينا من ربنا، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة صلى الله عليه وسلم.
يسأل بعض الإخوة: ما حكم أن يأخذ البائع العربون إذا لم يتم البيع؟ فأجابت اللجنة الدائمة: لا حرج في أخذ العربون في أصح قولي العلماء إذا اتفق المشتري والبائع على ذلك ولم يتم البيع، لو قال له: أريد أن أشتري منك هذا وهذا عربون، واتفقا على أنه إذا لم يتم البيع فإن العربون للبائع، فما دام أنها قد اتفقا فيجوز للبائع أخذ العربون له إذا لم يتم البيع.(271/13)
وضع النقود في البنوك
سأل كثيرٌ من الإخوان: عن حكم وضع النقود في البنوك؟ هذه مسألة مهمة لكثرة الحاجة إليها، والحمد لله أن أهل العلم قد بينوا هذه المسألة، ونختصرها لكم، فنقول: الأصل عدم جواز وضع النقود في البنوك؛ لأن ذلك حرام، والدليل قوله تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وأنت عندما تضع النقود تكون بذلك قد ساعدتهم في إقراضها أو الإقراض منها بالربا لأشخاص آخرين، ولكن الله عز وجل رحيم بعباده، والشريعة لا تقول لك: لا تضعها في البنك ولو سرقت أو ضاعت، ولذلك أفتى علماؤنا بجواز وضع النقود في البنوك للضرورة حتى لا تسرق أو تضيع مثلاً، وقالوا: يختار أقل البنوك تعاملاً بالحرام، لأنها كلها فيها حرام، فيختار أقلها تعاملاً بالحرام حسب اجتهاده هو، قد نختلف أنا وأنت أي البنكين أبعد عن الحرام؟ لا بأس، تجتهد في وضع نقودك في أبعد الأمكنة عن الحرام فماذا تفعل بالفائدة؟ سيسجلون لك فائدة، ماذا تفعل بالفائدة؟ يقول الشيخ عبد العزيز حفظه الله: ولا يجوز اشتراط فائدة حتى ولو كان سينفقها في الخير، أنت إنسان تقي لا تريد أن تأخذ الفوائد، لكن تقول: أشترط عليهم فوائد حتى أعطي للفقراء، فلا يجوز لك أن تشترط؛ لأن الشرط حرام أصلاً، والغاية لا تبرر الوسيلة، ويقول الشيخ: فإن دفعت إليه الفائدة من غير شرط ولا اتفاق فلا بأس بأخذها لا له ولكن ليعطيها الفقراء.
وملخص الفتوى: أنك إذا دفعت إليه الفائدة من غير شرط، فلا بأس بأخذها لصرفها في المشاريع الخيرية، كمساعدة الفقراء والغرماء المديونين ونحو ذلك، لا ليتملكها أو لينتفع بها، وربما كان الأفضل أخذها وعدم تركها للكفار يستفيدون منها، وأما شراء أسهم البنوك فإنه حرام، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة:2] وأنت عندما تشتري أسهم البنوك فإنك تكون مساهماً ومشاركاً في عمليات البنك التي منها الربا الواضح.
فإن قلت لي: ماذا أفعل بأسهم البنوك التي لدي؟ أقول لك: ليس لك إلا رأس مالك، تبيعها وتبيع على البنك الأحوط لا تبيع على مسلم آخر، وتأخذ رأس مالك وتتخلص من الباقي، وأما أسهم الشركات فكانت الفتوى فيها أن الشركة إذا كان عملها مباح كصناعة أو زراعة مثلاً فيجوز المساهمة فيها، لكن إذا اكتشفت أنها تتعامل بالربا فلا يجوز لك أن تساهم، لأن بعض الشركات لا يخاف أربابها من رب العالمين، يضعون أموال الشركة في البنوك ويأخذون الربا ويوزعون منه الأرباح على المساهمين، فإذا اكتشفت ذلك فبع الأسهم ولا تشترك معهم، والعمل في البنوك حرام، والدليل على ذلك: (لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه) والحارس في البنك عمله حرام كما أفتت اللجنة الدائمة للإفتاء والدليل: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وهو بحراسته يتعاون معهم على الإثم والعدوان.(271/14)
حكم العمل مع الشركات المتعاملة مع البنوك الربوية
سأل سائل أهل العلم فقال: إنني أشتغل في قسم محاسبة في إحدى الشركات، وهذه الشركة تقترض من البنك بالربا وأنا آخذ هذا المستند البنكي وأسجله في دفتر مديونيات الشركة، فما حكم عملي؟ فكان
الجواب
أنه حرام لا يجوز، لأنك فعلاً تكتب الربا، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه).(271/15)
حكم الراتب المتقاضى من البنوك الربوية
جاء سؤال إلى اللجنة الدائمة للإفتاء عن رجل يقول: عملت في البنك سبعة أشهر، ثم أخبرني أحد زملائي أن العمل في البنك حرام وأخبرني بالدليل أنه حرام، فتركت البنك والتحقت بالخطوط السعودية، فما حكم الرواتب عن السبعة الأشهر الماضية؟ فأجابت اللجنة بما معناه وملخصه: إذا لم يكن يعلم أنه حرام أصلاً، واشتغل عن جهل في البنك، ثم أتاه إنسان فقال له: يا أخي، هذا حرام والدليل كذا، فلا حرج عليه فيما أخذ؛ لأنه لم يكن يعلم في الرواتب السابقة، ولا يجب عليه التصدق بها، ولو تصدق كان ذلك أفضل، لكن لا يجب عليه، وهذا بخلاف من يعلم سلفاً أن العمل في البنك حرام وهو يعمل فيه.(271/16)
حكم تحويل الأموال عبر البنوك
وأما تحويل الأموال عن طريق البنوك فكانت الإجابة فيها: إذا دعت الضرورة إلى التحويل عن طريق البنوك الربوية فلا حرج إن شاء الله؛ لقوله سبحانه: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119] ولا شك أن التحويل عن طريقها من الضرورات العامة في هذا العصر، والمال الذي يأخذونه على التحويل ليس فائدة ربوية، وإنما هو أجرة التحويل، ثم تقول الفتوى: وإن تمكن من التحويل عن طريقٍ مباح غير البنك لم يجز التحويل عن طريق البنوك الربوية.(271/17)
مخالفات شرعية في بيع الذهب وشرائه
وأما مسألة بيع وشراء الذهب، فإنه يحدث فيها من المخالفات الشرعية أشياء كثيرة، فمن هذه المخالفات:(271/18)
الدين في الذهب
أن يأخذ الذهب ويقول له: أسدد لك غداً، فهذا لا يجوز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، يداً بيد، مثلاً بمثل، سواء بسواء) تعطيه خمسة غرام وتأخذ خمسة غرام في نفس المجلس، أو تأخذ الذهب وتعطيه قيمته بالريالات في نفس المجلس، ولا يجوز أن تقول: أعطيك بعد غد.
وكذلك سأل بعضهم: إنسان أخذ مني مصاغاً بألف ريال وليس معه ما ينقدني، فقلت له: هذا حرام لا بد أن تعطيني الألف الآن، فقال المشتري للبائع: سلفني ألف ريال من الخزينة، فلما سلفه قال: خذ هذا هو الثمن.
فكان
الجواب
لا يجوز إلا نقداً، فإن قال: سلفني، لا يجوز؛ لأنه احتيال على الربا، وجمع بين سلف وبيع، ولا يجوز الجمع بين سلف وبيع في عقد واحد.(271/19)
بيع الذهب القديم بالذهب الجديد
كذلك لا يجوز بيع الذهب القديم بالذهب الجديد مع إعطاء الفرق كما سبق أن بينا، وإنما تبيع الذهب القديم وتستلم الثمن ثم تشتري ذهباً جديداً منه أو من غيره بدون اشتراط.
فإن قلت لي: ما هو الفرق؟ أقول لك: اذهب إلى دكاكين الذهب، وعندما تقول له: سأبيعك القديم وآخذ الثمن ثم أشتري منك أو من غيرك سيكون شراؤه منك غير شرائه عندما تقول له: خذ القديم وسأشتري منك جديداً لتعلم أن هناك فرقاً بينهما.
الخلاصة أيها الإخوة: الحالات كثيرة جداً والأسئلة لا تنتهي، وحياتنا معقدة، وقد تداخلت الأمور فيها تداخلاً كبيراً، فعليكم بسؤال أهل العلم، وقد نقلت إليكم طائفة من فتاويهم مقرونة بالأدلة.
اللهم إنا نسألك أن تطهر أموالنا من الحرام، وأن تجعل مكاسبنا وأموالنا حلالاً، اللهم اجعل ما يدخل بيوتنا حلالاً، اللهم اجعل ما نغذي به أجسادنا وأبناءنا حلالاً، وباعد بيننا وبين الحرام، اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك.
أيها الإخوة: ونحن نفرح، وقد أذن الله بعقاب المفسدين في الأرض، من اقتص منهم على أفعالهم الشنيعة في العبث بأمن البيت الحرام، فنحمد الله على هذا التيسير لما يسر به سبحانه وتعالى منة وفضلاً منه بالضرب على أيدي أولئك العابثين المفسدين.
اللهم اجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم من أراد العبث بأمن هذا البلد وأمن المسلمين فاقمعه واقطع يده واقطع دابره، اللهم اجعلنا في أمن في بيوتنا وشوارعنا وأسواقنا، اللهم ونجنا من عذابك.(271/20)
تربية النفس على العبادة
إن الله سبحانه قد امتدح أقواماً بأنهم من العابدين، فأثنى عليهم لاجتهادهم في عبادة ربهم، وجعل الأجر لهم كاملاً موفوراً بما صبروا على عبادة ربهم، وقد ضرب لنا -أيضاً- الأمثال في القرآن من العابدين والعابدات، فحريٌ بالمسلم أن يجتهد في العبادة، وأن يربي نفسه وأهله على العبادة؛ حتى تكون زاداً لهم يوم القيامة.(272/1)
طرق تربية النفس على العبادة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وتحيةٌ في هذا المجلس الذي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون زائداً في إيماننا، وأن يجعله حجة لنا لا حجة علينا.
أيها الإخوة: موضوعنا الليلة بعنوان: تربية النفس على العبادة.
إن الله سبحانه وتعالى قد امتدح أقواماً بأنهم من العابدين، فقال عز وجل: {وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:73] فأثنى عليهم لاجتهادهم في عبادة ربهم، وجعل الله الأجر للعابدين كاملاً موفوراً بما صبروا على عبادة ربهم، وضرب الله لنا الأمثال في القرآن من العابدين والعابدات، فذكر لنا من أنبيائه الذين كانوا يسارعون في مرضاته وعبادته رغباً ورهباً وكانوا لله سبحانه وتعالى من الخاشعين، ولو أخذنا مثالاً واحداً على نموذج من النماذج وهو مريم عليها السلام، مريم التي كانت قدوة للعابدين والعابدات في القديم والحديث، التي كانت تقنت وتركع وتسجد، مريم التي وصفها الله بأنها من القانتين: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} [آل عمران:37] هذه التي اتخذت مكاناً شرقياً، شرق بيت المقدس تعبد الله، وكانت أمها قد نذرتها لخدمة المسجد فقالت: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} [آل عمران:35] وأعاذتها وذريتها من الشيطان الرجيم.
ولذلك، ما أحوجنا إلى التأسي بعبادة العابدين! ولا شك أن العبادة شيء شاق ويتطلب كثيراً من الجهد والتعويد والمجاهدة لحمل النفس على العبادة، وتربية النفس على العبادة نتكلم عنها من خلال بعض نقاط ومنها: أولاً: العلم بها.
ثانياً: معرفة فضلها.
ثالثاً: المسارعة إليها.
رابعاً: الاجتهاد فيها.
خامساً: تنويعها.
سادساً: الاستمرار عليها.
سابعاً: عدم إملال النفس منها.
ثامناً: استدراك ما فات.
تاسعاً: رجاء القبول مع خوف الرد.
وكذلك من تربية النفس على العبادة: تعويدها من الصغر، وقراءة سير العباد والزهاد، والانخراط في الأوساط الإيمانية.(272/2)
العلم بالعبادة
العلم بالعبادة لا شك أنه ركن مهم لكي تصح؛ لأن العبادة تتحول إلى بدعة إذا كانت بناءً على جهل، فإنه لا يُعبد الله إلا بالعلم، وعلى العلم وبنور من العلم فإذا كانت العبادة من جاهل وقعت في البدع، وهذا هو سبب وقوع الكثيرين ممن أرادوا التعبد لله والتنسك وقعوا في البدع والسبب هو جهلهم.
ولذلك يخشى اللهَ من عباده العلماءُ؛ لأنهم علموا الشريعة وعلموا العبادة، وطبقوا ذلك وما رسوه، وهذا أمر بدهي ومعروف، لا يعبد الله إلا بما شرع، ولا يعبد بالبدع.(272/3)
المسارعة إلى العبادة
وأما بالنسبة للمسارعة إليها فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران:133] ومرة قال: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد:21].
فأنت ترى أن لفظة المسارعة والمسابقة وكذلك قول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] أي: السعي.
ووصف الله عباده الصالحين وهم زكريا وأهله بأنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود في سننه: (التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة) فإنه لا تؤدة ولا انتظار وإنما هو مسارعة ومسابقة، وهذه المسارعة والمسابقة تدل على عمق الإيمان في النفس، فإنه كلما تأصل الإيمان في النفس كان العبد إلى المسارعة في مرضاة ربه أكثر، ولما دنا المشركون من المسلمين في غزوة بدر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض) قال أنس -راوي الحديث والحديث في صحيح مسلم -قال: يقول عمير بن الحمام الأنصاري: (يا رسول الله! جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: نعم.
فقال عمير بخ! بخ!) وهذه كلمة تطلقها العرب لتفخيم الأمر وتعظيمه (بخ بخ! فقال رسول الله: ما يحملك على قولك: بخ بخ؟ قال: لا والله يا رسول الله! إلا رجاء أن أكون من أهلها) ما قصدت بهذه الكلمة إلا وأنا أرجو أن أكون من أهل هذه الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض.
قال صلى الله عليه وسلم وكلامه وحي يوحى: (فإنك من أهلها، فأخرج تمرات من قرنه، فجعل يأكل منهن، ثم قال: لإن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة) قال: فرمى بما كان من التمر ثم قاتل حتى قتل رضي الله عنه.
كانوا يتسارعون إلى طاعة الله، فإذا نادى المنادي وأذن المؤذن وقد رفع أحدهم مطرقته، ألقاها وراء ظهره ثم سارع إلى الصلاة.(272/4)
الاستمرار على العبادة
الاستمرار على العبادة: يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن ربه عز وجل: (وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه) وكلمة: (ما يزال) في هذا الحديث تدل على الاستمرارية، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تابعوا بين الحج والعمرة) وهذه المتابعة تفيد القيام بالشيء تكراراً ومراراً وهذا المبدأ -وهو الاستمرار على العبادة- مهم في تقوية الإيمان وعدم إهمال النفس حتى لا تركن وتأسن، والقليل الدائم خير من الكثير المنقطع.
ذلك أن بعض الناس إذا سمع خطبة أو شريطاً أو موعظة يتحمس للعبادة، قد يتحمس للعبادة ويستمر في هذا الحماس أياماً، ولكنه بعد ذلك ينطفئ حماسه ويعود إلى سابق عهده من الدعة والكسل عن العبادات والتقاعس عن الأعمال الصالحة.
ولذلك، فإن من التربية أن يعود الإنسان نفسه على الالتزام بقدر من العبادة يداوم عليها من الأعمال المشروعة، أما الواجبات فلا بد من القيام بها دائماً، لكن المستحبات مثل: قراءة القرآن، وذكر الله، ونحو ذلك، لا بد أن يعود الإنسان نفسه على القيام بشيء منها، لما (سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أدومها وإن قل) أي: أن المسلم مطالب بأن يستمر، وهذا معنى المداومة.
وروى الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه (أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان إذا عمل عملاً أثبته فداوم عليه واستمر عليه).(272/5)
الاجتهاد في العبادة
أما الاجتهاد في العبادة: فإن الاجتهاد فيها من سيماء الصالحين وصفات عباد الله المقربين، وقد ذكر الله في كتابه من اجتهاد أوليائه في عبادته أحوالاً عدة، فمن ذلك قوله عز وجل: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة:15 - 16] بالإضافة إلى الصلاة والصيام: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [السجدة:16].
وقال الله تعالى عن عباده الصالحين أهل الجنة: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:17 - 19].
والذي يطلع على حال السلف في تحقيق صفات العابدين، والاجتهاد في العبادات فهو شيء يبعث على العجب والإعجاب، ويقود إلى الاقتداء من أصحاب النفوس السليمة، ألم تر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأل أصحابه مرة فقال: (من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا) وجب أن يجيب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم وأبو بكر لا يريد المفاخرة بالأعمال ولا الرياء (من أصبح اليوم منكم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن تبع اليوم منكم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن أطعم اليوم منكم مسكيناً؟ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة).
وفي رواية: (ما اجتمعن في امرئ في يوم إلا دخل الجنة) فإذا كنا نستطيع في يوم من الأيام أن نصبح صائمين، ونتبع جنازة، ونطعم مسكيناً، ونعود مريضاً، فإننا في هذه الحال نشعر ولا شك بنوع من السمو في الإيمان والقوة في الدين بسبب اجتماع العبادات والاجتهاد فيها، ولا شك أن الصديق لما سئل لم يكن مخططاً بأن يقوم بهذه الأعمال من أجل السؤال، وإنما كان ذلك يوماً طبيعياً عادياً من أيام الصديق، وما سبق الصديق الأمة وكان في الفضل بعد نبيها إلا بأشياء من هذا القبيل، وقد كان السلف رحمهم الله تعالى، يجتهدون في العبادة ويملئون أوقاتهم بها، وهذه عبارة كانت تقال عن جماعة من السلف، ومنهم حماد بن سلمة على سبيل المثال، قال فيه الإمام عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله: لو قيل لـ حماد بن سلمة: إنك تموت غداً ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً، فهو بالغ للغاية والنهاية في أعمال البر والعبادة، ولا يستطيع المزيد، لأنه مشبع، ويومه مشبع بأوقات الطاعات والعبادات.
ومن الأمور -كذلك- التي تدل على أن السلف رحمهم الله كانوا مجتهدين في العبادة، ما نقرأ في سيرهم أنهم كان لهم سبع من القرآن يختمونه كل يوم، هذا حال الصحابة يختمون القرآن في أسبوع سبعة أقسام معروفة، وكانوا يقومون الليل وحالهم معروف في قيام الليل وقراءتهم للقرآن القراءة الكثيرة المتواصلة، حتى إن بعضهم ربما إذا أصبح رفع رجليه على الجدار ليعود الدم إلى الجسم من طول القيام، وكانوا يقومون الليل في ليالي الغزو، ففي الصباح قتال وفي الليل صلاة وقيام، يذكرون الله ويتهجدون، حتى في السجن لو أدخلوهم قاموا يصلون، يصفون أقدامهم، وتسيل دموعهم على خدودهم، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض.
يخادع أحدهم زوجته، كما تخادع المرأة صبيها، فإذا علم أنها نامت انسل من لحافها وفراشها لصلاة القيام، وكان بعضهم يقسم الليل على نفسه وأهله، فيوقظ بعضهم بعضاً متتابعين للصلاة، ونهارهم في الصيام، والتعلم، والتعليم واتباع الجنائز، وعيادة المرضى، وقضاء حوائج الناس.
إذاً: أوقاتهم كانت مملوءة بالطاعة وهذا شيء مهم جداً أن تكون الأوقات ممتلئة بالطاعة، لو حصل هذا لو صلنا إلى مراتب عليا، ولوصلنا إلى منازل في غاية الرفعة والسمو، وكان بعضهم يُنفق على عيال أخيه بعد موت الأخ لسنوات، فهؤلاء الذين كانوا يراعون جميع الجوانب من جهاد وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وعبادة وصلاة وقيام، وأمور اجتماعية كالإنفاق على المحتاجين وغيرهم، هؤلاء هم أهل الجنة فعلاً.(272/6)
عدم إملال النفس
ومن الأمور كذلك: عدم إملال النفس: فليس المقصود من المداومة على العبادات والاجتهاد فيها إيقاع النفس بالسآمة وتعريضها للملل، وإنما المقصود عدم الانقطاع عن العبادة والموازنة بين الأمرين، وذلك بأن يكلف المسلم نفسه من العبادة ما يطيق ويسدد ويقارب فينشط إذا رأى نفسه مقبلة ويقتصد عند الفتور، يقتصد بمعنى: يمسك الواجبات ويعمل ما تطيق نفسه من المستحبات، ولو كان أقل من أيام النشاط؛ لأنها لقط أنفاس ليتابع العمل بعد ذلك.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة) فإذاً: لا بد من مراعاة النفس إذا أقبلت فأعطها المجال للزيادة؛ لأن النفوس لها إقبال وإدبار، لها ارتفاع وانخفاض كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لكل عمل شرة) وفي رواية: (لكل عامل شرة) أي: نهاية عظمى وقمة، (ولكل شرة فترة) تقابلها وتعقبها، وهكذا في ازدياد ونقصان فالإيمان يزيد وينقص، وارتفاع وانخفاض (فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى) فمن كان في حال فتوره متبع للسنة موافق، بحيث إنه قائم بالواجبات ممتنع عن المحرمات فهذا مهتد (فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى) من كان في حال فتوره قائم بالواجبات تارك للمحرمات فهذا على خير عظيم.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (القصد القصد تبلغوا) الاقتصاد في العبادة، بمعنى: أنه يراعي نفسه، فينشط وقت النشاط ويرتاح في وقت الفتور والتعب؛ لأنه إذا حمل على نفسه حملة واحدة، شق عليها وربما تركت العبادة وانقطع به الحبل، لكن لو أنه يعمل الواجبات ويترك المحرمات، والمستحبات يأخذ ما استطاع منها، إذا نشط زاد، وإذا فتر ارتاح، هذه الطريقة المثلى في العبادة.
وقال البخاري رحمه الله: باب ما يكره في التشديد في العبادة: عن أنس رضي الله عنه قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: هذا حبل لـ زينب فإذا فترت تعلقت) تقوم وتصلي في الليل، فإذا أصابها الفتور والتعب تعلقت بالحبل لتبقى واقفة وتظل قائمة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا -رفض هذا العمل- ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد) حكم وقواعد العبادة مهمة ولا بد من الانتباه لها وإلا فإن عاقبة كثير من الذين يشدون على أنفسهم في فورة الحماس تكون إلى الانقطاع (لا.
حلوه، ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد).
ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن عمرو بن العاص يقوم الليل كله ويصوم النهار متتابعاً، سأله فأخبره وأقر أنه هذا ما يفعله، فنهاه عليه الصلاة والسلام وعلل ذلك بقوله: (فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عينك، ونفهت نفسك) هجمت عينك أي: غارت أو ضعفت من كثرة السهر، ونفهت نفسك أي: كلت وتعبت وسئمت هذا التواصل المستمر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم من العمل ما تطيقون، فإن الله عز وجل لا يمل حتى تملوا، وإن أحب الأعمال إلى الله عز وجل أدومه وإن قل).
نحن نقول: إننا لا نشتكي من قضية الذين يشددون على أنفسهم في العبادات بقدر ما نشتكي من المفرطين على أنفسهم من الذين قصروا في العبادات.
أقول مرة أخرى: في هذا الزمن الواقع الذي نعيش فيه نحن لا نشتكي من الذين يشددون على أنفسهم في العبادات بقدر ما نشتكي من قلة العبادات فينا ومن تكاسلنا عن العبادات، وتراخينا في القيام بها، وتقاعسنا عن أدائها، ورغبتنا عنها وعن مواسمها، وكأننا مستغنون عن الأجر، هذا الذي نشتكي منه أكثر، لكن من باب عرض الموضوع فهذا من الشمولية فيه وإلا فإن التقصير عندنا أكثر من الزيادة، الزيادة مضرة لكن نحن نشتكي من التقصير أكثر، ونشتكي من الكسل.(272/7)
استدراك ما فات
وكذلك من النقاط في هذا الموضوع المهم جداً؛ لأننا لا يمكن أن ننتصر على عدو ولا أن نواجه بدون عبادة، فمن النقاط استدراك ما فات منه، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نام عن حزبه من الليل أو عن شيء منه، فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كُتب له كأنما قرأه من الليل).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة داوم عليها، وكان إذا فاته القيام من الليل -بسبب مثلاً غلبته عيناه بنوم أو وجع- صلى ثنتي عشرة ركعة من النهار] يعني: كان يشفع وتره، أي: يزيد ركعة.
وفي رواية: (كان إذا نام من الليل أو مرض صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة) ومن الأدلة كذلك: أن أم سلمة -والقصة في صحيح البخاري - جاءها ضيوف من الأنصار، فدخل النبي عليه الصلاة والسلام وصلى ركعتين، وهي عندها ضيوف، وكانت لا تريد تركهم، فقالت للجارية: اذهبي إليه فقومي بجانبه فقولي له: تقول لك أم سلمة: إنك نهيت عن الركعتين بعد العصر، وأراك تصليهما، فإن أشار إليك فتأخري عنه، فجاءت الجارية ووقفت بجانب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فقالت له هذا الكلام، فأشار إليها فتأخرت الجارية وذهبت، وبعدما فرغ من صلاته جاء إلى أم سلمة فقال: (يا ابنة أبي أمية! سألت عن الركعتين بعد العصر وإنه أتاني ناس من عبد القيس -أي: بعد الظهر- فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر -السنة الراتبة بعد الظهر- فهما هاتان) هل تركها النبي صلى الله عليه وسلم؟ لا.
وإنما صلاها، وفي هذا الحديث فوائد منها: جواز تكليم المصلي لحاجة وأن الذي يكلم المصلي يقوم بجانبه، لا يتقدم ولا يتأخر.
وكذلك: جواز الإشارة في الصلاة.
وفوائد كثيرة أخرى ذكرها الحافظ رحمه الله في الفتح، الشاهد أنه قال لها: (يا ابنة أبي أمية! سألت عن الركعتين بعد العصر وإنه أتاني ناس من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان) وفي رواية: (وكان إذا لم يصل أربعاً قبل الظهر صلاهن بعده) رواه الترمذي وهو حديث صحيح.
وهذه الأحاديث تدل على مشروعية قضاء السنن الرواتب، وتدل على مشروعية قضاء صلاة الليل، فقد ذكر ابن القيم رحمه الله في صومه صلى الله عليه وسلم شعبان أكثر من غيره، لماذا كان عليه الصلاة والسلام يصوم أكثر شعبان؟ حتى قالت: بل كله، ذكر ثلاثة أسباب في تعليقه على سنن أبي داود، وابن القيم له تعليق نفيس جداً على سنن أبي داود مطبوع مع شرح الخطابي، يقول: ليس فقه ابن القيم في زاد المعاد فقط، بل في هذا الكتاب فقه عظيم.
يقول: من أسباب إكثار النبي صلى الله عليه وسلم من الصيام في شعبان: أنه كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فكان ربما شغل عن الصيام أشهراً فجمع ذلك في شعبان ليدركه قبل صيام الفرض، كأن يخرج في سفر أو في جهاد أو أنه قد يمرض فلا يصوم ثلاثة أيام من الشهر التي كان يصومها وهو متعود عليها، فكان يقضيها في شعبان.
وكان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان -وهذا معروف- فلما فاته الاعتكاف مرة لعارض السفر، اعتكف في العام المقبل عشرين يوماً، ولذلك عنون عليه البخاري: الاعتكاف في العشر الأواسط، يعني: أن الاعتكاف في العشر الأواسط، من رمضان -أيضاً- مشروع، إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فاته شيء لا يضيعه ويتركه لفواته وإنما كان يستدركه، وهذا الاستدراك مهم في الاستمرار على العبادة، والحمد لله أن الشريعة فتحت لنا باب الاستدراك، حتى يحس الإنسان أنه عوض شيئاً فاته.(272/8)
رجاء القبول مع الخوف من الرد
وكذلك من الأمور المهمة في العبادة وتربية النفس عليها، رجاء القبول مع الخوف من الرد، فإن بعض الناس إذا عملوا أعمالاً وعبادات أصيبوا بنوع من الغرور أو الاغترار بالعبادة، وشعروا أن فيهم صلاحاً عظيماً، وأنهم صاروا من أولياء الله، ولكن المسلم يخشى ألا تقبل عبادته، فهو يجتهد ويلتزم بالسنة ومع ذلك يخشى على نفسه.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60] هم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟) -يعني: يعملون أشياء ويخافون من الأعمال السيئة التي فعلوها، يعبدون الله ويتصدقون ويخافون مما عملوا من شرب الخمر والسرقة مثلاً- (قال: لا يا ابنة الصديق ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون ألا يقبل منهم أولئك الذين يسارعون في الخيرات) رواه الترمذي وهو حديث صحيح.
لا يا ابنة الصديق! ليس ما ظننتيه ولكنهم الذي يسارعون في الخيرات منهم، ولكنهم: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60] ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون ألا يقبل منهم {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} [المؤمنون:61] الخشية هذه من رد العمل مهمة، والمؤمن يجب أن يعيش بين الخوف والرجاء، مهما كثرت العبادة يخشى على نفسه لربما وقع في عجب أذهب أجره، أو وقع في شيء من الرياء أو الاغترار، ثم إنه مهما عبد فلا يكافئ نعمة البصر، فأي شيء يظن في نفسه؟ ومن صفات المؤمنين: احتقار النفس أمام الواجب من حق الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد: (لو أن رجلاً يُجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرماً في مرضاة الله عز وجل لحقره يوم القيامة) كله عبادة متواصلة لا نوم ولا أكل ولا شرب، كله عبادات متواصلة في مرضاة الله عز وجل لحقره يوم القيامة، يعني: بجانب ما يرى من الواجب عليه في النعم وحق الله يرى أن ما عمله طيلة حياته من يوم ولد إلى يوم يموت يراه لا شيء بجانب حق الله، ولذلك لا يمكن أن يكون المسلم مغتراً بالعبادة مهما كثرت عبادته؛ لأن من عرف الله وعرف النفس، يتبين له أن ما معه من البضاعة لا يكفيه ولو جاء بعمل الثقلين، وإنما يقبله الله بكرمه وجوده وتفضله، ويثيب عليه بكرمه وجوده وتفضله.
ومن اللفتات الجليلة ما كان يقوله أبو الدرداء رضي الله عنه: [لئن أستيقن أن الله قد تقبل مني صلاة واحدة أحب إلي من الدنيا وما فيها إن الله يقول: ((إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)) [المائدة:27]] لو علمت أن الله تقبل صلاة واحدة، لكان عندي شيئاً عظيماً، ولشعرت بطمأنينة، ونحن نعمل ولا ندري أيقبل منا أو لا يقبل، لكن يجب أن يكون عندنا حسن ظن بالله أنه يقبلها منا، إذا صليت وصمت يجب أن يكون عندك حسن ظن بالله أنه يقبلها منك، لكن هل تقطع لنفسك أنها قبلت؟ لا.
حسن الظن بالله أنه يقبل، ورجاءً أن يقبل لا يعني: أنك تقطع لنفسك أنه قبلك، فإذا بقيت على هذا الشعور بين الرجاء وحسن الظن بالله أنه يقبل، وبين الخوف من ردها عليك وعدم قبولها، أو حبوطها، لكان المسلم يعمل ويعمل وهو على خير عظيم.(272/9)
التنويع في العبادة
وكذلك من الأمور المهمة في تربية النفس على العبادة التنويع في العبادة: التنويع فيها من رحمة الله سبحانه وتعالى بنا، أن نوع علينا العبادات، فمنها ما يكون بالبدن كالصلاة، ومنها ما يكون بالمال كالزكاة، ومنها ما يكون بهما معاً، مثل حج بيت الله الحرام، فإنه تجتمع فيه العبادتان المالية والبدنية، ومنها ما هو باللسان كالذكر والدعاء، وحتى النوع الواحد ينقسم إلى فرائض وسنن مستحبة، والفرائض تتنوع والسنن تتنوع، هذه الصلاة فيها فرائض متنوعة في الوقت، وعدد الركعات، وسنن الصلاة متنوعة، فهناك سنن رواتب وهناك ما هو أعلى منها في قول بعض أهل العلم وهو صلاة الليل، ويوجد ما هو أدنى منه وهو مثل صلاة الضحى والأربع التي قبل العصر أي: بين الأذان والإقامة قال صلى الله عليه وسلم فيها: (رحم الله امرأً صلى قبل العصر أربعاً) فهذه سنة، ولكن دون السنن الراتبة -الاثني عشر- في المرتبة.
وإذا التفت إلى هذا النوع من قيام الليل لوجدته أنواعاً متنوعة، فمنه تستطيع أن تصلي واحدة وثلاثاً وخمساً وسبعاً وتسعاً، وإحدى عشرة، تستطيع أن تصلي مثنى مثنى، وفي قول بعض أهل العلم في رواية: (يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً) ووردت رواية: (أنه يصلي خمساً بتشهد وسبعاً بتشهد واحد وتسعاً بتشهد واحد) فإذاً: الكيفيات تتنوع، فالتحيات -الصلاة الإبراهيمية- صيغها متنوعة، ودعاء الاستفتاح متنوع الصيغ.
هذا التنوع يمنع الملل، وهذا من رحمة الله، وكذلك الصيام فيه معنى لا يوجد في الزكاة، والزكاة فيها معنى لا يوجد في الصلاة، والحمد لله أن عبادات هذا الدين ليست نوعاً واحداً ولا متماثلاً وإنما هي متنوعة تنوعاً كثيراً، ولذلك يحصل التجدد في النفس، فلا تمل وتنجذب وتستلذ بالعبادة.
وسبحان الذي جعل أبواب الجنة منوعة على أنواع العبادات، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم والحديث في البخاري: (من أنفق زوجين في سبيل الله) -من أي شيء؟ من الإبل أو من البقر أو من الغنم أو من الذهب أو من العبيد- (نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله! هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة) الحديث.
أبواب الجنة منوعة، ومنها باب الوالد: (الوالد أوسط أبواب الجنة) كما جاء في حديث أبي الدرداء، يعني: أن بر الوالدين باب من أبواب الجنة، فتنوعت أبواب الجنة على أنواع العبادات، وهناك من يدعى من هذه الأبواب، ومنهم: أبو بكر الصديق رضي الله عنه ولعله مما يفسر ذلك الحديث المتقدم، في عيادة المريض والجنازة وإطعام المسكين والصيام، ما المقصود بباب الصيام وباب الصلاة؟ هل معناها أن المصلين يدخلون من باب الصائمين والذين لا يصلون يدخلون من باب آخر؟ كل هؤلاء الذين يدخلون من هذه الأبواب يدعون -حسب الحديث- يدعون من الأبواب المختلفة، كلهم من القائمين بالواجبات الذين يدخلون الجنة ولا شك، لكن الذي يدعى من باب الريان المكثر من الصيام النفل، والذي يدعى من باب الصلاة: الذين يكثرون من صلاة النفل، والذي يدعى من باب الصدقة المكثر من الصدقة النفل، وإلا فإنهم جميعاً يصلون الفرائض، ويصومون رمضان، ويؤتون الزكاة الواجبة.
ولكن لأن بعض النفوس تستلذ بعبادة دون أخرى، وتميل إلى نوع دون آخر، وقد تزيد فيه وتكثر منه، فالله جعل لهم باباً يدعون منه على حسب العمل الذي قد استكثروا منه في الدنيا، وإلا فجميع من يدعى ممن أدوا الفرائض بطبيعة الحال، وهناك أناس يتقنون فن الجهاد ويحبون الجهاد ولا يتركون سريةً ولا جيشاً إلا يخرجون فيه، وهكذا وأناس اشتهروا ببرهم لآبائهم وأمهاتهم، ملازمين لهم، طائعين لهم بطاعة الله، هؤلاء لهم باب يدعون منه، لكن الجميع قائمون بالواجبات تاركون للمحرمات، هذا واجب عليهم، لكن المكثر من نافلة من النوافل يدعى من بابه يوم القيامة، وهذا التنوع الاستفادة منه في جذب النفس إلى العبادة، لأن بعض الناس -مثلاً- قد يكون له جسم قوي، ويصبر على الجوع، ولا يشعر بألم الجوع كثيراً، فيجد الصيام سهلاً بالنسبة له، وآخر عنده مال كثير فالصدقة سهلة بالنسبة له، وإنسان لسانه سهل الحركة، وكل الألسنة سهلة الحركة لكن عنده أن الذكر مهم، عنده أن الذكر له مرتبة خاصة، مكانة خاصة في نفسه، فهو يكثر منه، فتراه دائماً يذكر الله ولا يمل لسانه من ذكر الله، ولا يفتر لسانه من ذكر الله، ولا يزال لسانه رطباً من ذكر الله، فهذا النوع عنده سهل، فأقول: لا بأس أن الإنسان إذا وجد نافلة من النوافل سهلة عليه أكثر من غيرها، فالأفضل له أن يستزيد منها وأن يكثر منها وهو مبشر بهذا الأجر، وهو الوارد في حديث دعاء أصحاب النوافل من أبوب الجنة التي خصصت لهم، وهناك عبادات للإنسان فيها طعم خاص، ولها أثر خاص في النفس مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الثلاثة الذين يحبهم الله: (الرجل يلقى العدو في الفئة فينصب له نحره حتى يقتل أو يفتح لأصحابه، والقوم يسافرون فيطول سراهم حتى يحبوا أن يمسوا الأرض فينزلون، فيتنحى أحدهم فيصلي حتى يوقظهم لرحيلهم) هذا الرجل أصابه ألم السفر وتعب السفر مثلما أصابهم، لما أحبوا أن يمسوا الأرض، مسوا الأرض ليناموا فإذا به يتوضأ ويقوم للصلاة حتى يوقظهم لرحيلهم، هذا يحبه الله.
(والرجل يكون له جار يؤذيه فيصبر على أذاه حتى يفرق بينهما موت أو ضعن) إما أن يرحل هو عن جاره أو أن يرحل الجار عنه، أو يموت واحد منهما، فهو صابر على أذى الجار، هذه عبادة لها لذة في النفس وأثر.
أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يشكو قسوة قلبه، فقال له صلى الله عليه وسلم: (أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك؛ يلن قلبك وتدرك حاجتك) فالاعتناء باليتيم عبادة لها أثرها في النفس، ولذلك قال: (أتحب أن يلين قلبك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك).(272/10)
الإلمام بنصوص الترغيب في العبادة
كذلك من الأمور المهمة في العبادات أو في تعويد النفس وتربيتها على العبادة: الإلمام بشيء من نصوص الترغيب الواردة في العبادة.
فالشريعة لما فتحت الباب للعبادات وحثت عليها، كان من وسائل الحث -أيها الإخوة! - ذكر الأجور، أجور معينة للعبادات؛ لأن النفس تتحمس إذا ذكر الأجر، فلنأخذ على سبيل المثال بعض الأحاديث الواردة في أجور مرتبة على أداء بعض العبادات، ونتمعن فيها لنجد أن ذكر الأجر يحمس النفس ويشجع على العبادة، قال عليه الصلاة والسلام: (لأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إليّ من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إليّ من أن أعتق أربعة) أي: من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، تجلس معهم يذكرون الله، ويقرءون القرآن، ويقرءون العلم، هذا أحسن من أن يعتق أربعة رقاب، مع أن عتق الرقبة فيه فضل عظيم.
(من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار، حتى الفرج بالفرج) فقال: (لأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة الفجر حتى تطلع الشمس أحب إليّ من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحب إليّ من أن أعتق أربعة) وقال عليه الصلاة والسلام: (من توضأ فقال بعد فراغه من وضوئه: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك) هذه كلمة مثل كفارة المجلس (كتب في رق، ثم جعل في طابع، فلا يكسر إلى يوم القيامة) يجعل في مظروف مختوم لا يكسر إلى يوم القيامة.
وقال عليه الصلاة والسلام لإحدى زوجاته: (لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم) -لأنها من الفجر، وهي جالسة في مكانها تذكر الله حتى طلع النهار- قال: (لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته).
وفي فضل حفظ القرآن يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لو جمع القرآن في إهاب ما أحرقه الله بالنار) الإهاب هو الجلد، ويقصد به جسد الحافظ للقرآن (يأتي القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حله، فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه، فيرضى عنه، فيقول: اقرأ وارق، ويزاد في كل آية حسنة).
ومن الأحاديث: الاستعداد ليوم الجمعة، وهذا أمر فرطنا فيه كثيراً يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من غسل يوم الجمعة واغتسل، ثم بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام واستمع وأنصت ولم يلغ كان له بكل خطوة يخطوها من بيته إلى المسجد عمل سنة أجر صيامها وقيامها) تكبيرة الإحرام مع الإمام التي تفوت كثيراً من الناس (من صلى لله أربعين يوماً في جماعة، يدرك التكبيرة الأولى، كتب الله له براءتان، براءة من النار، وبراءة من النفاق).
الجهاد: (لقيام رجل في الصف في سبيل الله عز وجل ساعة أفضل من عبادة ستين سنة) ويقول صلى الله عليه وسلم: (موقف ساعة في سبيل الله خير من قيام ليلة القدر عند الحجر الأسود).
إماطة الأذى عن الطريق: (لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق، كانت تؤذي الناس).
عيادة المريض: (ما من امرئ مسلم يعود مسلماً إلا ابتعث الله سبعين ألف ملك يصلون عليه في أي ساعات النهار كان حتى يمسي، وأي ساعات الليل كان حتى يصبح) السواك والقيام من الليل: (إذا قام أحدكم يصلي من الليل فليستك فإن أحدكم إذا قرأ في صلاته وضع ملك فاه على فيه) - فم الملك على فم القارئ- (ولا يخرج من فيه شيء إلا دخل فم الملك) احتساب الأجر في الخطوات إلى المسجد والتبكير إلى المسجد: قال عليه الصلاة والسلام: (إذا تطهر الرجل ثم مر إلى المسجد يرعى الصلاة - من أجل الصلاة- كتب له كاتبه بكل خطوة يخطوها إلى المسجد عشر حسنات، والقاعد يرعى الصلاة كالقانت، ويكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع إليه) يعني: لا تحسب الخطوات في الذهاب فقط بل حتى في العودة، الذي ينتظر بنفسه يرعى الصلاة، ينتظر كالقانت ويكتب من المصلين من حين يخرج من بيته حتى يرجع إليه.(272/11)
البدء في التعود منذ سن مبكرة
ومن الأمور كذلك: البدء في التعود منذ سن مبكرة للسهولة والاستمرارية؛ لأن الإنسان كلما كبر كثرت شواغله وعمت الصوارف، فإذا تعود من الصغر فإنه يسهل عليه، والآن هناك من كبار السن يعملون أنواعاً من العبادات كالقيام الطويل، والتبكير إلى المسجد ونحو ذلك، ولو نظرت في تاريخهم لوجدت أنهم قد تعودوا على هذه العبادة من سن مبكرة، وهذا ينادي علينا بأن نعود أطفالنا على العبادة منذ الصغر حتى يألفوها، وتستمر معهم سهلة إذا كبروا، وكذلك الشاب عندما يكون طري العود حدث السن، فإن تشكيل نفسه سهل، فإذا تعود العبادة منذ بدء حياته صارت سهلة عليه في المستقبل.(272/12)
الانخراط في الأوساط الإيمانية
وكذلك من الأمور: الانخراط في الأوساط الإيمانية، دع عنك قساة القلوب وشلل الأنس، ولكن عليك بالذين امتلأت قلوبهم إيماناً، فإذا ذكر الله وجلت قلوبهم، يحبون القراءة في المصحف، شعارهم قيام الليل، قال عليه الصلاة والسلام: (إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين) -وأفصحها بضم الراء رُفقة- (بالقرآن حين يدخلون بالليل) إذا دخلوا إلى بيوتهم من المسجد أو من شغل خارج البيت إذا دخلوا يعرفهم بأصواتهم بالقرآن (وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم بالنهار) رواه البخاري، وهذا في فضل الأشعريين.
ومن الأمور كذلك: إذا أذن المؤذن أوقفوا أعمالهم وأنهوا ما لديهم وهرعوا إلى الصلاة، إن بقاء الإنسان فيها لا شك أن فيه تربية لنفسه على العبادة، أما أن يكونوا من المتخلفين عن صلاة الجماعة، وبالذات كانوا دعاة فإنها نقيصة وعيب من العيوب.(272/13)
تخصيص وقت من اليوم للعبادة والأذكار
ومن الأمور كذلك ونختم به: أنه لا بد من وجود أوقات للعبادة والأذكار في اليوم، لا تُشغل بأي شيء آخر ولا تزاحم، ولا يصلح الاعتذار بأعمال الدعوة وإنكار المنكر وطلب العلم عن هذه الأوقات ولا يصلح أن نزاحم الأذكار والمواسم بأعمال أخرى هي من العبادة، لكنها تؤدي إلى إسقاط الأذكار والنوافل بالكلية، وقد يطرأ على الإنسان في بعض الأحيان شيء يشغله عن أذكار ما بعد الصلوات أو أذكار النوم أو يفوته شيء من قيام الليل، لكن أنه يشتغل بأشغال ولو كانت من باب الدعوة، أو القراءة بحيث إنها تشغله دائماً عن النوافل والعبادات والأذكار، فتجده دائماً منشغلاً عن الأذكار ليس عنده وقت للدعاء.
فهذا شيخ الإسلام رحمه الله كان يخرج بطلابه إلى السوق لإنكار المنكر، ويكسرون آلات اللهو ويشقون جرار الخمر، ويخرج لتنظيم العساكر والجهاد، ويعلم ويعمل أشياء كثيرة، لكن الأمر في حياته كما يقول تلميذه رحمه الله: وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إليّ وقال: هذه غدوتي، ولو لم أتغد هذا الغداء سقطت قوتي.
وقال لي مرة: لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها لأستعد لتلك الراحة إلى ذكر آخر.
هذه غدوته، ولو لم أتغد هذا الغداء، ما هو الغداء؟ من صلاة الفجر إلى أن ينتصف النهار ذكر لله، قراءة وذكر ودعاء، لو لم أتغد هذا الغداء سقطت قوتي، ولا يصلح إشغال أوقات العبادات المشروعة بأمور أخرى دائماً، أن يقول إنسان: بعد كل صلاة سأشتغل بشيء آخر، أقرأ في كتب، وينسى أن يقرأ الأذكار، ووقت ورد القرآن لا يصلح أن يُترك ويُشغل بشيء آخر لا بد أن نحافظ على هذه الثوابت في حياتنا، وأقول لشباب الصحوة: لا ينبغي أن تشغلنا الأحداث المتلاحقة عن أداء العبادات، ألم تر أن علياً رضي الله عنه ما ترك الأذكار في ليلة صفين، قالوا ولا ليلة صفين؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم أوصاه هو وفاطمة أن يسبحا الله ثلاثاً وثلاثين، ويحمدا الله ثلاثاً وثلاثين، ويكبرا الله أربعاً وثلاثين.
قالوا ما تركتها ولا ليلة صفين؟ -ولا في معركة- قال: ولا ليلة صفين، فبعض الشباب إذا طرأت عليهم أحداث وأحوال ينسون الأذكار وينسون الأدعية والصلوات، أقول: إذا حصل يحصل أحياناً، فقد يطرأ على الإنسان طارئ.
فقد قام النبي عليه الصلاة والسلام مرة مسرعاً من بعد الصلاة مباشرة لأنه تذكر شيئاً، أما أن الإنسان يكون دائماً في طوارئ وأشياء تشغل عن العبادات، ولا يصبح هناك في اليوم متسع لأذكار الصباح والمساء والنوم وورد القرآن والأدعية، فهذا خطأ.
فهذه -أيها الإخوة- بعض النقاط في موضوع تربية النفس على العبادة.
ونقول مرة أخرى: لا بد من العلم بها، ومعرفة فضلها، والمسارعة إليها، والاجتهاد فيها، والتنويع والاستمرار عليها، وعدم إملال النفس ورجاء القبول مع خوف الرد، واستدراك ما فات منها، وقراءة سير العباد والزهاد، والتعود عليها منذ سنٍ مبكرة، والانخراط في الأوساط الإيمانية، وعدم إشغال أوقات الأذكار والأدعية بأمور أخرى ولو كانت من الصالحات، لأجل ألا تضيع هذه العبادة.(272/14)
الأسئلة(272/15)
مراجع المحاضرة
السؤال
ما هي المراجع لهذه المحاضرة؟
الجواب
المراجع هي كتب الحديث، وكتب ابن القيم رحمه الله وليست مأخوذة من مرجع واحد.(272/16)
المقصود بالعلماء في قوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)
السؤال
يقول الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] من هم العلماء المقصودون، هل هم علماء الفيزياء والكيمياء؟
الجواب
لا.
المقصود علماء الشريعة، وهذا معروف، راجع التفاسير وكلام العلماء.(272/17)
دلائل قبول العمل
السؤال
هل هناك دلائل على قبول العمل؟
الجواب
إن من علامة الحسنة الحسنة بعدها، إذا أحسست نفسك بعد العمل أنك مندفع للعمل الآخر، وصلحت أمورك واقتربت إلى الله أكثر، فهذا دليل على قبول العمل.(272/18)
موقف الإسلام من المتصوفة
السؤال
ما موقف الإسلام من جماعة المتصوفة الذين يهتمون بالأذكار والأوراد؟
الجواب
هؤلاء قد لا يقترب منهم الشيطان، ماذا يفعل الشيطان بالبيت الخرب؟ أذكار مبتدعة، يقولون: الصمدية، وهي: (قل هو الله أحد) تسعمائة وتسعة وتسعون ألفاً وتسعمائة وتسعة وتسعون مرة، تقول: أحد هؤلاء المتورطات مع هذه الطرق الصوفية: أنا إلى الآن أربع سنين كل يوم أقرأ (قل هو الله أحد) ثلاث مرات مع الصمدية، ومسبحة بألف عقدة، وقس على ذلك من الأذكار المبتدعة ذات الأرقام المكررة، أربعة آلاف وأربعمائة وأربعة وأربعون، وأنت لو نظرت إلى الأذكار في السنة لا تجد فيها عدداً أكثر من مائة، وهؤلاء يعملون أشياء مبتدعة، فعملهم مردود عليهم.
لما ذهب أحد الصحابة إلى المسجد وجد عجباً، فرجع إلى ابن مسعود وقال: دخلت المسجد فرأيت فيه حلقاً حلقاً، ورجل قائم عليهم يقول: سبحوا مائة فيسبحوا مائة، احمدوا مائة فيحمدوا مائة، هللوا مائة فيهللوا مائة، كبروا مائة فيكبروا مائة، قال: وماذا قلت لهم؟ قال: أنتظر أمرك، أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم؟ وأنا ضامن لهم أي: أن تزيد حسناتهم ثم تقنع فخرج ثم دخل المسجد فكشف اللثام عن وجهه، وأخبرهم عن نفسه أنه عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: [ويحكم يا أمة محمد! ما أسرع هلكتكم، هذه ثياب نبيكم لم تبل وآنيته لم تكسر، ما انقضى على وفاته زمن طويل، ما أسرع البدع إليكم] فهؤلاء عملهم حابط مردود عليهم؛ لأنهم فقدوا شرطاً مهماً جداً من شروط العمل وهو متابعة النبي صلى الله عليه وسلم.(272/19)
لا يشترط النوم قبل قيام الليل
السؤال
هل قيام الليل يجب أن يكون قبله نوم؟
الجواب
لا.
هذا اعتقاد شائع عند بعض الناس، أنه لا يسمى قيام ليل إلا إذا كان قبله نوم، وهذا خطأ فإن الإنسان لو أنه سهر إلى الساعة الواحدة ليلاً، والثلث الأخير قد بدأ، فصلى قيام ليل بالثلث الأخير من الليل، فهو أجر عظيم في وقت فضيل وعبادة رفيعة، ولذلك لا نشترط أن يكون قبله نوم.(272/20)
قراءة الحفظ في قيام الليل
السؤل: أقوم الليل وأحياناً لا أقوم، وأحفظ من كتاب الله الكثير فما هي الطريقة؟
الجواب
اقرأ الذي تحفظه في قيام الليل.(272/21)
من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه
السؤال
لي أصحاب فيهم عادات سيئة وإذا تركتهم غضبوا؟
الجواب
من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ولا طاعة لبشر في معصية الله عز وجل.(272/22)
ساعة وساعة
السؤال
يصيبني فتور متواصل وملل متنامٍ لا أستطيع كسره إلا بمصاحبة الأبرار وحضور الدروس والمحاضرات، لكن طبيعة عملي وأموري العائلية تمنعني من ذلك فأشعر بتدهور؟
الجواب
نعم -يا أخي- هذه ظاهرة، الآن إذا التفت إلى الناس في أعمالهم لوجدت أنه يأتي إلى المسجد فيتغير عليه الجو تماماً، لماذا؟ لأنه ماذا يوجد في العمل؟ رجل يردد كلمات أغنية وآخر يدخن وثالث يغتاب، ورابع في أخبار المباريات، وخامس يقلب مجلة ماجنة، وهكذا هذا حالهم، هذا حال المكاتب في وقت الدوام، الذي يكون في هذه الحالة من الكيفية كيف يكون إيمانه؟ يقسو قلبه لا شك، ولا بد أن يعمل ليكسب رزقه، ولذلك لا بد أن يطهر قلبه بأن يداوم الحضور في مجالس الذكر ومرافقة الطيبين، قال حنظلة رضي الله عنه: (لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله! ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنها رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات) -الضيعات: هي المعاش من المال والحرفة والصنعة- (فنسينا كثيراً، قال أبو بكر: فوالله إنني لألقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله! نكون عندك فتذكرنا بالنار والجنة حتى كأنها رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات ونسينا كثيراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي في الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة! ساعة وساعة).
لا بد أن نطهر ما علق في قلوبنا من الصدأ ودخان أنفاس بني آدم نطهرها بمجالسة الأخيار والأبرار وحضور مجالس الذكر، هذا هو الحل، لأن انقطاعنا عن المجتمع بالكلية، ليس أمراً عملياً، فهذا هو الحل، وقد ثبت عن معاذ رضي الله عنه أنه كان يقول لرجل: [اجلس بنا نؤمن ساعة] مجالس الذكر يمكن أن تتكون من شخصين، فالمسألة ليست صعبة.(272/23)
نهي النبي لزينب عن الاستعانة بالحبل
السؤال
ما هي الحكمة في رفض النبي صلى الله عليه وسلم الاستعانة بالحبل؟
الجواب
لأن معنى ذلك أنها تكلف نفسها ما لا تتحمل؛ وهذا يؤدي إلى السآمة في النهاية والنفور من العبادة.(272/24)
لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق
السؤال
أنا شاب استقمت على طاعة الله، وتزوجت امرأة رقيقة القلب، وطلبت وألحت عليّ إدخال جهاز التلفاز في المنزل، فأتيت به بعد إلحاح متواصل وأصبحت أشاهده معها، فلاحظت نقصاناً عجيباً في إيماني وقسوة في قلبي وتأخراً عن بعض الصلوات، وارتكاباً لبعض الصغائر، فلما عرفت أن السبب هو ذلك البلاء أصبحت أنصحها فلم تنته وترفض بشدة إخراجه من البيت، فما هو الحل؟
الجواب
أن تأخذ هذه المصيبة والبلية -بارك الله فيك- من بيتك فتتلفها وتخرجها، هذا لا بد منه، سواء رضيت أو سخطت لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ثم أنت تقول: تزوجت من امرأة رقيقة القلب وطلبت وألحت علي بإدخال جهاز التلفاز، فما هو وجه رقة القلب هنا؟ هل هو في طاعة الله، أو أنها امرأة تجيد التوسل والاستعطاف، أم أنك أنت صرت رقيق القلب بمعنى أنك صرت متخاذلاً جباناً عن موقف الحق، وهنا -يا أخي- أقول: تعس عبد الزوجة، لا يمكن لإنسان أن يطيع في هذا بمعصية الله، مادام أنك جربت بنفسك وأنت تعترف وتقول: نقصان في الإيمان، وقسوة في القلب، وتأخير عن الصلاة، وارتكاب للصغائر، فلا بد من إخراجه بسرعة ولو سخطت ولو طلبت الطلاق، المسألة أعظم من ذلك، هذه دياثة، يعني: أنت تقر الخبث في أهلك.(272/25)
لا يأثم من ينشط في العبادة بسبب خطبة أو موعظة
السؤال
هل يأثم من ينشط في العبادة بسبب خطبة أو موعظة؟
الجواب
لا.
ولو عاد بعد فترة إلى الفتور، لا يأثم، وحتى لو رأى إنساناً يعبد الله فتحمس لأجل الإنسان هذا أي: متأثراً به، لا أنه صلى من أجله، لا.
لكن تأثر به فصلى فهو مأجور.(272/26)
استحباب أن يكون للمسلم عمل يداوم عليه
السؤال
ألا ترى معي أنه ينبغي للملتزم أن تكون له عبادة معينة يتمسك بها حتى يلقى الله عز وجل، مثل حديث بلال رضي الله عنه؟
الجواب
نعم.
إذا كانت العبادة مشروعة قال: [ما توضأت إلا وصليت ركعتين].(272/27)
علاج الخوف من الرياء
السؤال
أنا طالب من طلاب الجامعة، ونحن نصوم أحياناً صيام تطوع ولكن أخاف من الرياء؟
الجواب
جرد لله النية ولا تهم، ولو كان يصوم معك مجتمع من الناس.(272/28)
الاكتفاء بالقيام بالواجبات وبعض المستحبات وترك المحرمات في حال الفتور
السؤال
ذكرت أنه في حالة عدم النشاط ووجود الفتور يكفي للعبد أن يقوم بالواجبات ويترك المحرمات؟
الجواب
لا.
أنا قلت: يترك المحرمات ويقوم بالواجبات، ويأتي بما يستطيع من المستحبات، ولو كان أقل من وقت نشاطه.(272/29)
سبب التقصير في العبادة
السؤال
لي سنوات طويلة مع الشباب الطيبين، ومع ذلك فالأمور العبادية أنا فيها ضعيف جداً، مما يؤدي إلى فعل الكبائر؟
الجواب
ينبغي أن تراجع نفسك، وتنظر في وضعك لماذا يحصل هذا؟ والعلة لا شك أنها منك، مادام أنهم شباب طيبون كما تقول فإذاً العلة منك أنت، فينبغي أن تنظر في أمرك، تذهب تأتي بعمرة، وتجدد العهد مع الله ألا ترجع إلى المعصية، ربما يكون وضعك في السكن خطأ، فتنتفل من مكان سكنك، أو ربما يكون عندك منكرات في بيتك، فتخرجها، أو ربما يكون لك أصدقاء سوء قدامى لا زلت على علاقة معهم فتقطعها، وهكذا.(272/30)
في حالة الطاعة يغلب جانب الرجاء وفي حالة المعصية العكس
السؤال
هل الأفضل على المسلم في حالة الطاعة أن يغلب جانب الخوف أم جانب الرجاء؟
الجواب
ذكر العلماء في ذلك أشياء فقالوا: المؤمن بين الخوف والرجاء، يغلب جانب الرجاء في حال ويغلب جانب الخوف في حال، مثلاً: إذا كان يرتكب المعاصي فإنه يغلب جانب الخوف، فيذكر ما أعد الله للعصاة من العذاب والنكال، وإذا كان تائباً مقبلاً على الله يغلب جانب الرجاء حتى لا يقع في اليأس، وعند الموت يغلب جانب الرجاء ليحسن ظنه بربه.(272/31)
الحذر من الترف الزائد
السؤال
ألا ترى الاهتمام بأمور الدنيا الزائدة من المثبطات كالقيام بالكثير من العبادات ولو كانت بسيطة؟
الجواب
لا شك في ذلك، أنت ترى الناس يخفقون في الأسواق وبعضهم مع الأسف قد يكونون من الدعاة إلى الله المشتغلين بالدعوة، الخفق بالأسواق ليس لشراء الأشياء التي يحتاجون إليها والضروري منها وإنما تحسينات وكماليات وجرياً على عادة الناس، والسوق فيه مغريات، وفيه فتن، وفيه نساء متبرجات، وفيه صخب ولغط أهل السوق، وسباب وشتائم ولعن وغفلة عن ذكر الله وأيمان كاذبة، كل هذا بالسوق، وهذا إنسان يتضرر، ادخل من أول السوق واخرج من آخره ثم اذهب إلى المقبرة، ولا حظ ماذا يقع على نفسك من التغيير، فأقول: إن هذه عملية التوسع، وكذلك أن يأتي بمن يعمل له في بيته الزينة، أو للسيارة، ويشتغل في الزخارف، ويبذر الأموال، وإخوانه المسلمون يحتاجون إلى القرش ولا يجدون التمرة، هذا سوف يحاسبنا الله عليه ولا شك في ذلك، كوننا موجودين في مجتمع فيه ثراء وفيه مال وثروات جيدة ودخول عالية لبعض الناس، هذا لا يمكن أبداً أن يكون سبباً للطغيان عند المسلم، وأحياناً تكون الزوجة السبب، وأحياناً تكون المنافسة في الدنيا سبباً، وحب تقليد الآخرين سبب، يدخل بيت جاره ومن أين اشتريت هذا وكيف ركبت هذا في السقف؟ ومن أين اشتريت هذه؟ ويدله عليها، ولو كان شيئاً نافعاً جيداً، لا بأس وكذلك لو كان شيئاً يحتاج إليه البيت، هل من الصحيح أن المسلم يأخذ كل شيء أعجبه؟! يجب أن يفطم نفسه عن شراء هذه الأشياء، وينفق قيمتها في سبيل الله، والله سبحانه وتعالى حذرنا من فتات الدنيا: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} [الحديد:20] ذابل زائل.
فالدنيا مثل الأكل الذي يأكله الإنسان، منه كيف يخرج؟ كيف تخرج أشهى أكلة من الإنسان، كيف تخرج من دبره؟ هكذا ضرب لنا النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن مثل مطعم ابن آدم ضرب مثلاً للدنيا، وإن قزحه وملحه فلينظر إلى ما يصير).(272/32)
تخصيص وقت للعبادات
السؤال
أخرج من عملي الساعة الثانية ظهراً، فأكون في هذا الوقت حتى المغرب مع العائلة وبعد الظهر يوجد معي عمل أخرج الساعة العاشرة إلى الثانية؟
الجواب
وبعد ذلك ماذا بقي، يعني: دور العمل الإضافي والثاني، والعائلة، لم تذكر لنا وقتاً جعلت فيه شيئاً من قيام الليل أو طلب العلم، على الأقل ما قلت: أحضر درساً في الأسبوع، لا أقل من أن يكون عندك درس علمي في الأسبوع، بالنظر إلى العلم الكثير الذي نحن مطالبون به، بتحصيله، والجد المطلوب في طلب العلم، وأيضاً ليس قراءات فردية، ولا ورداً من القرآن تقرؤه في اليوم.(272/33)
علاج الفتور في العبادة
السؤال
ما علاج الفتور الذي ينتاب المرء بعد الاجتهاد في العبادة؟
الجواب
يأخذ راحة بسيطة وينتقل إلى عبادة أخرى.(272/34)
معنى: (ما سبقكم أبو بكر بكثير صلاة ولا عمل)
السؤال
ما معنى (ما سبقكم أبو بكر بكثير صلاة ولا عمل، ولكن سبقكم بشيء وقر في قلبه)؟
الجواب
هذا ليس حديثاً مرفوعاً، لكن المقصود: أن بعض الناس يعتقدون أن أبا بكر سبق الأمة فقط لشيء وقر في قلبه وهذا شيء خطأ، الرجل له أعمال، أعمال عظيمة وجليلة، وما سردنا في المحاضرة من أعمال أبي بكر فيه توضيح، شيء وقر في قلبه بالإضافة إلى الأعمال التي كان يقوم بها، لا شك في ذلك.(272/35)
مقدار الزمن الذي يختم فيه القرآن
السؤال
كم يجب علينا القراءة من القرآن يومياً؟
الجواب
ليس هناك حد معين، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (في كل شهر مرة) ومرة قال: (في أربعين مرة) ولا أقل من ثلاثة أيام، عندك ثلاثة أيام، وأكثر ما ورد في الحديث أربعين يوماً، فأنت مخير، بحسب عملك وظروفك.(272/36)
ضعف الإيمان الأسباب والعلاج
السؤال
إني شاب أشكو إلى الله قسوة قلبي أسمع القرآن وآيات العذاب، أبحث عما يلين قلبي؟
الجواب
ستكون هناك رسالة -قريبة إن شاء الله- بعنوان: ظاهرة ضعف الإيمان المظاهر والأسباب والعلاج، فيها جواب على هذا، وبالنسبة للرياء يجب أن تدعو الله سبحانه وتعالى فتقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه، وأستغفرك مما لا أعلمه، هذا الدعاء يجب أن يواظب عليه الإنسان.(272/37)
حكم النزول عن الحد الأدنى للعبادات
السؤال
هل يجوز للإنسان أن ينزل عن الحد الأدنى للعبادات؟
الجواب
يجب على الإنسان أن يجتنب المحرمات ويأتي بالواجبات، والمستحبات لا شك أن الإيمان يزيد وينقص، لا يوجد أحد في الدنيا المستحبات عنده في درجة واحدة.(272/38)
حكم محاسبة النفس على صيغة جدول
السؤال
هل يجوز وضع جدول على صيغة أسئلة مقسمة على عدد أيام الشهر؟
الجواب
هل صليت الفجر في الجماعة؟ وهل؟ وهل؟ أشار العلماء إلى أن هذه بدعة من البدع، سلوك سبيل الجدول في المحاسبة والصح والخطأ والأرقام، والعلامات هذه من البدع، فلا يجوز عملها ولا القيام بها، ولا توزيعها على الناس، هذه طريقة صوفية ليست من طرق أهل السنة في محاسبة النفس عمل الجداول والعلامات والإجابة بنعم أو لا.
ليست هذه حسابات وكشوفات تقدم للميزانية، الإنسان يستحضر تقصيره في نفسه، ويندم ويتوب إلى الله ويعزم أن يواصل النشاط ويجتهد هذا هو المطلب، يتذكر ذنوبه أما كتابة الجداول فلا، وممن أشار إلى بدعية الجداول الشيخ/ محمد بن صالح بن عثيمين نفع الله بعلمه.(272/39)
استدراك ما فات
السؤال
إذا فاتني حزبي من الليل بعد شروق الشمس وكنت مشغولاً بعمل لم أنته منه إلا بعد العصر؟
الجواب
لا بأس أن تقضيه فهذا جائز.(272/40)
لذة المناجاة في الخلوة
السؤال
عند الخلوة أجد للعبادة لذة أكبر وخصوصاً في الدعاء لا أجد ذلك بين الناس؟
الجواب
هذا طبيعي أن الإنسان إذا ناجى الله بمفرده في خلوة فهو ألذ، ولذلك الخلوة للمناجاة من أعظم العبادات.(272/41)
الحذر من الانشغال بالأعمال عن الطاعات
السؤال
العمل الدعوي فيه أشياء تتعلق بالتربية وأعمال تأخذ وقتاً في إدارة الأمور، وهذا قد يقسي القلب ما هي النصيحة؟
الجواب
سبق أن ذكرت نصيحة قلت: ينبغي ألا يشغلنا هذا النوع من الأعمال عن الأذكار والأوراد والأدعية وقراءة القرآن هذا مهم جداً، وكذلك أن يكون العمل لله، فإذا لم يكن العمل لله تكون هذه الترتيبات في الدعوة مثلها مثل أي شركة أو مصنع، ولذلك ينبغي على الدعاة والمربين أن يذكروا الله دائماً في أعمالهم، ولا شك أنها أعمال إدارية.(272/42)
يقدم في الأعمال الأهم فالأهم
السؤال
يتعارض عندي عملان أو أكثر كلهم مطلوب؟
الجواب
انظر أيهما الأقرب إلى الله، وأيهما الأحب إلى الله، والأنفع إلى الناس، وما هو الأشق على النفس الذي فيه مخالفة هذه النفس، هذه دلائل.(272/43)
المباحات قد تصبح عبادة
السؤال
هل المباحات تكون عبادة إذا صدق الإنسان نيته؟
الجواب
نعم وقد تصبح عبادة مثل النوم والأكل، لكن لا ينبغي أن تكثر من هذه، تنام عشر ساعات ثم تقول أنام وآكل.(272/44)
الخير مطلوب من الإنسان أن يقوم به
السؤال
هل يطلب مني أن أعمل بعض الجوانب التي فيها خير؟
الجواب
نعم، الإنسان المطلوب أن يعمل في كل جانب من الجوانب التي يستطيعها.(272/45)
كيفية التخلص من الوساوس في الصلاة
السؤال
يحدث لي وساوس تأمرني بالمعصية وتفسد العبادات؟
الجواب
إذا جاءك في الصلاة فتعوذ بالله من الشيطان واتفل عن يسارك ثلاثاً، ريق مع الهوى عن اليسار دون أن يحدث إيذاء للذي بجانبك أو توسيخ للسجاد في المسجد مثلاً، وإنما هو شيء من الريق مع الهوى، ثلاث مرات تعوذ بالله من الشيطان في الصلاة.(272/46)
كتاب سير أعلام النبلاء
السؤال
ما هو أفضل كتاب يبين أحوال السلف؟
الجواب
هناك مجموعة من الكتب ذكرنا بعضها في المحاضرة، ولا شك أن كتاب سير أعلام النبلاء من الكتب العظيمة جداً.(272/47)
الفهم الصحيح لحديث: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)
السؤال
بعض الناس يفهم الحديث: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل) التلازم بين المداومة والقلة؟
الجواب
لا.
هذا خطأ، قال: (أدومها وإن قل) يعني: إذا كان أدومها وكان كثيراً فهو أفضل، لكن لو كان مقارنة بين كثير منقطع، وقليل دائم فأيهما الأفضل؟ القليل الدائم.(272/48)
الابتعاد عن أوساط المعصية
السؤال
من أسباب نقص العبادة تبدل أحوالنا وتغيير أوقاتنا عما كان عليه السلف؟
الجواب
لا شك في ذلك، ولذلك ينبغي للإنسان أن يجتنب أوساط المعصية ويحتك بأوساط أهل الخير حتى يكون أقرب إلى واقع السلف.(272/49)
قرب التوبة من صاحب المعاصي القليلة
السؤال
أنا شاب ملتزم، أحضر الدروس وأذهب إلى المحاضرات، واستمع الأشرطة ولكني أفعل بعض المعاصي مثل رؤية التلفاز؟
الجواب
هذا إن شاء الله رجوعه سهل وتوبته قريبة، مادام أنه يفعل هذه الطاعات فتوبته قريبة، فما عليه إلا أن يزيد في المجاهدة، ويعزم على أن يترك هذه الأشياء وهو إن شاء الله سيفعل ذلك.(272/50)
الجمع بين الحديث الذي فيه دخول الصائم من باب الريان وحديث فتح أبواب الجنة
السؤال
كيف نجمع بين دخول الصائم من باب الريان، وبين حديث فتح أبواب الجنة؟
الجواب
فتح أبواب الجنة عندما يُذكر الذكر بعد الوضوء، دليل على قبول العمل ورفعه إلى الله سبحانه وتعالى، وليس المعنى أنه إذا ذكر الذكر بعد الوضوء يدخل الجنة، وهو في الدنيا، لا.(272/51)
حكم المداومة على صلاة الضحى
السؤال
هل يجوز المداومة على صلاة الضحى؟
الجواب
هذا فيه خلاف بين العلماء، ولكن إذا داوم عليها -إن شاء الله- فالصحيح أنها سنة؟(272/52)
حكم قول: (لو)
السؤال
يقول ما حكم قول بعض الناس: لو كان كذا ما صار كذا؟
الجواب
إذا كان على سبيل التعليم فلا بأس: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} [النساء:66] أما إذا كان على سبيل التحسر والتندم الذي لا يفيد، فهذا من عمل الشيطان الذي تفتحه لو.(272/53)
الخوف من الفتور
السؤال
يجد الإنسان حلاوة في قلبه في الصلاة فيتذكر الفتور فيضيق صدره؟
الجواب
صحيح هذه ظاهرة، أول هذا الشيء معروف، لكنه يستعيذ بالله، لا يعني أنه سيفتر بعد السلام من الصلاة، لأنه بعد السلام يقول: أستغفر الله، أستغفر الله، عبادة خلف عبادة.
وختاماً: نسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدينا سبيلنا وأن يقينا شر أنفسنا، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(272/54)
طفولة النبي عليه الصلاة والسلام
حياة النبي صلى الله عليه وسلم حافلة بالأحداث العظيمة: (المولد، البعثة، الهجرة) وللمولد أهمية ينبغي استشعارها بعيداً عن الاحتفالات البدعية التي لم يفعلها السلف في خير القرون، وينبغي أيضاً إدراك أن أحداثاً أخرى كالبعثة تفوق أهمية على المولد، فهي أحق بالاحتفال لو أنزل الله به سلطاناً.
وهذه المادة تسلِّط الأضواء على المراحل الأولى من حياة النبي صلى الله عليه وسلم: من رضاعته وانتقاله إلى بني سعد، ووفاة أمه، وانتقال كفالته إلى جده ثم إلى عمه، متضمنة لقصته مع الراهب بحيرا، وفوائدها، ومشاركته صلى الله عليه وسلم في حلف الفضول.
فهذه المادة تتميز بوفرة الأدلة، مع النظر إلى جانب العظة والعبرة في الأحداث والوقائع.(273/1)
بدعية الاحتفال بالمولد
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، أما بعد: فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الإثنين فقال: (ذاك يومٌ ولدت فيه، ويومٌ بعثت أو أنزل علي فيه) رواه الإمام مسلم رحمه الله تعالى.
وكذلك فقد جاء عن ابن عباس وجابر رضي الله عنهم أنهما قالا: [ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول، وفيه عرج به إلى السماء، وفيه هاجر وفيه مات] هذا هو المشهور عند الجمهور، وقد رواه ابن أبي شيبة في مصنفه ورجاله رجال الصحيح.
فإذاً، هو قد ولد يوم الإثنين، ومات يوم الإثنين، وبعث وأنزل عليه يوم الإثنين صلى الله عليه وسلم، وأيضاً هاجر يوم الإثنين.
ومع كون ولادته يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول، فإن ذلك لا يعني بأي حالٍ من الأحوال جعل ذلك اليوم مولداً يحتفل به فيه، فإن هذه بدعة من البدع ما فعلها صلى الله عليه وسلم ولا أحدٌ من أصحابه ولا أحدٌ من السلف رحمهم الله تعالى في القرون الثلاثة، فلم يعرف عنهم الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم.(273/2)
وجود أيام أهم من يوم المولد
وإذا كان قد حدث في يوم الإثنين أحداث كثيرة تتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم فليس يوم مولده بأحق من بقية الأحداث، بل إننا لا شك لو سألنا سؤالاً وقلنا: أيهما أعظم يوم بعثته أم يوم مولده؟ ما هو الحدث الأهم للبشرية: يوم ولادته أم يوم بعثته؟ يوم بعثته أهم، لا شك في ذلك، هو اليوم الذي صار فيه نبياً، هو اليوم الذي نزل عليه فيه الوحي، هو اليوم الذي أعلن فيه ميلاد هذا الدين؛ وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
وإذا عرفنا كذلك أنه هاجر يوم الإثنين فأيهما أعظم بالنسبة للإسلام والمسلمين، وأكثر أثراً وظهوراً: يوم ولادته أم يوم هجرته؟ لا شك أن الهجرة أعظم، فإن الولادة لا تقارن بالنسبة للهجرة، ذلك اليوم الذي كان إيذاناً بانتقال الدين والمسلمين من مرحلة الاستضعاف إلى مرحلة القوة، من مرحلة الإيذاء والاضطهاد إلى مرحلة قيام الدولة، ولا شك أن الهجرة إذاً حدثٌ عظيم مبارك، ومن أجل ذلك جعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه بداية التاريخ الإسلامي.
المناسبة الحقيقة التي كانت فيها بداية الانطلاقة الكبرى في التاريخ الإسلامي هي الهجرة، لأن ما بعد الهجرة كان قيام الدولة والانتصارات والفتوحات والجهاد، وما بعد الهجرة كانت الانطلاقة في أرجاء الجزيرة العربية في نشر الدين وخارج الجزيرة العربية، ولذلك لا يمكن أن نقارن يوم الهجرة بيوم المولد ولا يوم البعثة بيوم المولد، فإن يوم الهجرة أعظم من يوم المولد، ويوم البعثة أعظم من يوم المولد، ولكن كثيراً من المبتدعة لا يفقهون ذلك، فيحتفلون بميلاده ويفضلونه على الأيام الأخرى، وليس يوم ولادته بأحق من يوم بعثته ولا هجرته، بل وقد مات في يوم الإثنين.
ونقول لهم: إذا كنتم ستجعلون احتفالاً بمولده يوم الإثنين فلماذا لا تجعلون مأتماً في يوم وفاته، فإن البدعة واحدة؟ ما دمتم ستفرحون بيوم الإثنين فلتجعلوه مأتماً أيضاً، فإذاً يتبين لك أن القوم لا يسيرون على هدى ولا على طريقٍ مستقيم، وأن الاحتفال بالمولد النبوي إنما هو بدعة من البدع.(273/3)
ارتكاب المنكرات في الاحتفال بالمولد
ونحن قد قرأنا وعرفنا من أخبار الناس في هذه الأيام ما يفعلونه من بدع، حتى وصلت المسألة إلى جعل الرقص -رقص النساء- وبعض الملاهي تعمل حفلات في يوم المولد، حفلة المولد والميلاد، ويجعلون فيه من ألوان الفساد ما الله به عليم، وأخطر من ذلك ما يقرأ من قصائد الشرك في هذا اليوم مثلما تقرأ قصيدة البردة التي فيها الشرك الكبير الأكبر، كما يقول القائل فيها:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
ما هي ضرة الدنيا؟ الآخرة، يقول القائل: فإن من جودك يعني: يا رسول الله، الدنيا والآخرة، ومن علومك: من للتبعيض، من علومك يا رسول الله علم اللوح والقلم، إذاً ماذا بقي لله عز وجل؟! ولذلك يتبين لك أنما يقرأ في كثيرٍ من الموالد من القصائد إنما هو شركٌ أكبر، الشرك بالله بعينه، وإذا قال قائل: نستفيد بالسيرة ونذكر أحداث السيرة، فنقول: هانحن نذكر أحداث السيرة في غير يوم المولد، ولن يضيرنا أن نذكرها في غير يوم المولد، ولا يعني أن الإنسان إذا أراد أن يعرف سيرة النبي عليه الصلاة والسلام لا بد من يوم المولد ليعرف السيرة فيعرف السيرة في كل السنة.(273/4)
رضاعة النبي صلى الله عليه وسلم
ثانياً: مرضعاته صلى الله عليه وسلم.(273/5)
رضاعته صلى الله عليه وسلم من ثويبة
من مرضعاته عليه الصلاة والسلام ثويبة مولاة أبي لهب مولاة بني هاشم، كما جاء في حديث زينب بنت أبي سلمة: أن أم حبيبة رضي الله عنها أخبرتها أنها قالت: (يا رسول الله! انكح أختي بنت أبي سفيان، فقال: أو تحبين ذلك؟ أم حبيبة اقترحت عليه أن يتزوج أختها- فقالت: نعم لست لك بمخلية -يعني: أنا قطعاً لست بزوجة وحيدة، لا بد أن يشاركني فيك غيري، وأحب من شاركني في خيرٍ أختي، ما دمت أنه سوف يكون لي ضرائر فلتكن أختي إذاً- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن ذلك لا يحل لي، قلت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة، قال: بنت أم سلمة؟ -يتأكد- فقلت: نعم، فقال: لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة) وهذا موضع الشاهد، ثويبة مولاة أبي لهب مولاة بني هاشم هي إحدى مرضعات النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن) والحديث رواه البخاري رحمه الله في كتاب النكاح، باب: أمهاتكم اللاتي أرضعنكم، وكذلك رواه مسلم في كتاب: الرضاع، باب: تحريم الربيبة وأخت المرأة، وكذلك رواه أبو داود في كتاب: النكاح، باب: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، ورواه كذلك النسائي في كتاب: النكاح، باب: تحريم الجمع بين الأختين.
إذاً، لا يجوز للإنسان أن يجمع بين زوجته وأخت زوجته؛ لأن الله نهى عن ذلك: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء:23] إلا إذا فارق إحداهما بموتٍ أو طلاق فعند ذلك يجوز أن يتزوج بالأخت الأخرى.
أما الربيبة وهي: ابنة المرأة التي تزوج بها من غيره، فهي أيضاً محرمة لا يجوز للرجل الزواج بها، وهي تكشف عليه لأنها من محارمه.(273/6)
قدوم حليمة إلى مكة تلتمس رضيعاً
ومن مرضعاته صلى الله عليه وسلم: حليمة السعدية، فقد جاء في حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قصة عجيبة فيها عبر في رضاع النبي عليه الصلاة والسلام، قال: لما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت حليمة بنت الحارث في نسوة من سعد بن بكرٍ يلتمسن الرضعاء بـ مكة، قالت حليمة: فخرجت في أوائل النسوة على أتان لي قمراء.
قمراء: اللون الأبيض المائل إلى الخضرة.
خرجت حليمة التماس الرضعاء في مكة، وكان أهل مكة يرغبون في جعل أولادهم في البادية حيث يرتضعون من نسائها، ويمكثون فترة في ذلك الجو النقي فيصلب عودهم ويشتد، ويرتضعون من نسائها المعروفات بجودة الحليب واللبن، فلذلك كانوا يرغبون فيه، وكان النساء في البادية يبتغين أجراً من وراء إرضاع الأولاد الصغار لمثل أهل مكة التجار، فجاءت حليمة السعدية مع نسوة لها من أوائل من خرجن من مكة لابتغاء الرضعاء فيها.
قالت: "فخرجت في أوائل النسوة على أتان لي قمراء، ومعي زوجي الحارث بن عبد العزى -أحد بني سعد بن بكرٍ- ثم أحد بني ناظرة قد أدمت أتاننا".
الأتان طبعاً هي أنثى الحمار، ومعنى أدمت: يعني حدث في ركب الدابة جروحٌ دامية باصطكاكها، إذاً الأتان الدابة فيها جراح.
"ومعي بالركب شارف والله ما تبض بقطرة لبن".
والشارف: هي الناقة المسنة لا يسيل منها قطرة لبن، لا يخرج منها شيء من اللبن أبداً.
"في سنة شهباء".
يعني: مجدبة لا خضرة فيها ولا مطر، فخرجت حليمة بأسوأ حال من مضارب قومها في البادية إلى مكة، أتانٌ قد تجرحت أرجلها من اصطكاكها ببعضها من الهزال والضعف، وناقة مسنة ما يخرج منها قطرة لبن واحدة، في سنة مجدبة قد جاع الناس حتى خلص إليهم الجهد.
"ومعي ابن لي والله ما ينام ليلنا".
طيلة الليل يبكي؛ لأنه جائع.
"وما أجد في يدي شيئاً أعلله به، إلا أنا نرجو الغيث، وكانت لنا غنمٌ فنحن نرجوها، فلما قدمنا مكة، فما بقي منا أحدٌ إلا عرض عليها محمد فكرهته".
كل النساء مع حليمة عرض عليهن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم؛ لكن كل واحدة تأبى أن تأخذه من هؤلاء المرضعات من أهل البادية، لماذا؟ - فقلنا: "إنه يتيم، وإنما يكرم الظئر ويحسن إليها الوالد" -فهذا يتيم وأبوه ميت وإذا أخذناه فمن يعطينا؟! فقلنا: "ما عسى أن تصنع بنا أمه أو عمه أو جده -إذا كان الأب ميتاً- فكل صواحبي أخذ رضيعاً -كل واحدة أخذت ولداً آخر- فلما لم أجد غيره رجعت إليه وأخذته، فوالله ما أخذته إلا أني لم أجد غيره".
وليست رغبة في الولد بل لأنه لا يوجد غيره- فقلت لصاحبي -وهو زوجها الذي معها، والعرب تطلق على الزوج صاحباً، قال الله تعالى: {وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ} [المعارج:12] فالصاحبة أيضاً الزوجة.
"فقلت لصاحبي: والله لآخذن هذا اليتم من بني عبد المطلب فعسى الله أن ينفعنا به، ولا أرجع من بين صواحبي ولا آخذ شيئاً -أرجع إلى البادية بدون ولد أرضعه أمام الناس- فقال: قد أصبت، قالت: فأخذته، فأتيت به الرحل، فوالله ما هو إلا أن أتيت به الرحل فأمسيت وقد أقبل ثدياي باللبن" -هذا أول شيء، مجرد ما أتت به رحل قومها (المكان الذي نزلوا به) أقبل الثديان باللبن.
حتى أرويته وأرويت أخاه الذي جئت به يبكي، وقام أبوه إلى شارفنا -أبوه صاحب اللبن، قام إلى تلك الناقة المسنة يلمسها- فإذا هي حافل باللبن -مليئة- فحلبها فأرواني وروي، فقال: يا حليمة تعلمين والله لقد أصبنا نسمة مباركة، ولقد أعطى الله عليها ما لم نتمن -ما لم يكن يدور بالبال أعطانا أكثر- قالت: فبتنا بخير ليلة شباعاً، وكنا لا ننام ليلنا مع صبينا.
يعني: من قبل ما ننام الليل من بكاء الصبي الذي معنا، الآن هذا الصبي المبارك جاء وأشبعني وأشبع زوجي، وأشبع الولد وأشبع الناقة، وجاء الخير والبركة.
"ثم اغتدينا راجعين إلى بلادنا أنا وصواحبي، فركبت أتاني القمراء -أنثى الحمار التي أصابتها الدماء من اصطكاك رجليها- فحملته معي، فوالذي نفس حليمة بيده لقطعت الركب حتى أن النسوة ليقلن: أمسكي علينا، أهذه أتانك التي خرجت عليها؟ فقلت: نعم، فقالوا: إنها كانت أدمت حين أقبلنا فما شأنها؟ قالت: فقلت: والله حملت عليها غلاماً مباركاً".
لاحظوا أيها الإخوة النبي صلى الله عليه وسلم منذ صغره، حتى ولادة النبي عليه الصلاة والسلام ملفتة للنظر، وطفولته ملفتة للنظر، الله عز وجل يقيض من الأحداث ما يسلط به الضوء على النبي عليه الصلاة والسلام منذ طفولته كأن هذا الغلام سيكون منقذ البشرية.(273/7)
أحداث عام الفيل
ولذلك متى ولد عليه الصلاة والسلام ولد في عام الفيل الذي حدثت فيه المعركة العظيمة بين الله عز وجل وأبرهة، وانهزم جيش أبرهة وولوا الأدبار، وتسامعت العرب أجمعين في كل الجزيرة بل وخارج الجزيرة بالكارثة العظيمة السماوية التي أصابت أبرهة وجيشه، وحجارة من السماء لا شك أنه شيء مستغرب للغاية وعجيب، فاتجهت أنظار العالم إلى المكان الذي حدثت فيه هذه القارعة، وهو مكة، وصارت الأضواء متجهة إلى مكة والكعبة وقريش في عام الفيل، فالله عز وجل جعل أنظار الناس تتجه إلى مكة في عام الفيل؛ لأن هناك حدثاً آخر سيتم في هذا العام وهو ولادة النبي عليه الصلاة والسلام.
فصارت ولادته في عام الفيل الذي اتجهت أنظار العالم كله إلى مكة بسبب حادثة أبرهة؛ لأن حادثة أبرهة كانت شيئاً فوق الوصف، كانت شيئاً عجيباً، طير تحمل حجارة ترجم أفيالاً وتهلك الأفيال ومن عليها، ولذلك كان شيئاً قيظه الله تعالى لتأتي الأضواء والناس يعظمون الكعبة، وتصبح لقريش مكانة؛ لأن من قريش سيبعث النبي الذي سيدعو قريشاً ويدعو العرب وفي مكة، ولذلك كانت بداية توجيه الأنظار توطئة لحادثة الفيل لكي يولد النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك العام، ويحفظ الناس ذلك العام جيداً وكل أحداث العام، وفيه الولادة النبوية، ثم بعد ذلك تأتي حليمة لتأخذه، وتأتي هذه الخيرات والبركات، ويصبح أمره عليه الصلاة والسلام منتشراً منذ صغره، هكذا يسير الله تعالى الأحداث لكي تتركز الأذهان، والأنظار تتجه إلى الأحداث المتعلقة بهذا النبي الكريم وتاريخ النبي الكريم منذ ولادته.(273/8)
حلول البركة بحليمة وأسرتها
قالت حليمة: فخرجنا فما زال يزيدنا الله في كل يومٍ خيراً، حتى قدمنا والبلاد سنة -يعني قحط- ولقد كان رعاتنا يسرحون ثم يريحون فتروح أغنام بني سعدٍ جياعاً، وتروح غنمي شباعاً بطاناً حفلاً.
أي: كانت سنة قحط لكن لما جئنا بالمولود كان رعاة بني سعد يذهبون كلهم ويرجعون جياعاً، ما وجدوا خيراً ولا كلأ ولا شيئاً، وأغنامي ترجع شباعاً بطاناً حفلاً، أي: شبعانة سمينة، الثدي محمل باللبن.
فنحتلب ونشرب، فيقولون: ما شأن غنم الحارث بن عبد العزى؟ -وهو زوج حليمة - وغنم حليمة تروح شباعاً حفلاً وتروح غنمكم جياعاً، ويلكم اسرحوا حيث تسرح غنم رعائهم، اجعلوا غنمكم تذهب مع المكان الذي تسرح فيه غنمهم، ربما يصير لكم مثلما حصل لهم، فيسرحون معهم فما تروح إلا جياعاً كما كانت وترجع غنمي كما كانت حفلاً سمانا.
قالت: وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشب شباباً ما يشبه أحدٌ من الغلمان، يشب في اليوم شباب الغلام في الشهر يعني: ينمو ويزيد في اليوم ما ينموه الغلام العادي في شهر، ويشب في الشهر شباب السنة، فلما استكمل سنتين أقدمناه مكة أنا وأبوه فقلنا: والله لا نفارقه أبداً ونحن نستطيع.
يعني: انتهت مدة الرضاعة سنتين حيث كان أهل البادية يأخذون غلمان أهل مكة إلى البادية سنتين للرضاعة؛ ويشب الغلام قوياً في ذلك الجو الصافي النقي.
ومع انتهاء السنتين تعلقت حليمة بالولد تعلقاً شديداً، وقالت هي وزوجها: والله لا نفارقه أبداً ونحن نستطيع، فلما أتينا أمه قلنا: أي ظئر! والله ما رأينا صبياً قط أعظم بركة منه، وإنا نتخوف عليه من وباء مكة وأسقامها فدعينا نرجع به حتى تبرئي من داءك، فلم نزل بها ملحين مقنعين حتى أذنت، فرجعنا به فأقمنا أشهراً ثلاثة أو أربعة، بعد هذه الأشهر الثلاثة أو الأربعة حدثت حادثة غريبة للغاية.(273/9)
حادثة شق الصدر
قالت حليمة: فبينما هو يلعب خلف البيوت هو وأخوه من الرضاعة في بهمٍ له، النبي عليه الصلاة والسلام نشأ مع الغنم منذ صغره يلعب مع البهم، إذ أتى أخوه يشتد، جاءنا أخوه الذي كان يلعب معه، وأنا وأبوه في البدن؛ مع الجمال، فقال: إن أخي القرشي أتاه رجلان عليهما ثيابٌ بيض فأخذاه وأضجعاه فشقا بطنه، فخرجت أنا وأبوه يشتد لإدراك الغلام الذي شق بطنه، فوجدناه قائماً قد امتقع لونه -تغير- فلما رآنا أجهش إلينا وبكى، قالت: فالتزمته أنا وأبوه، فضممناه إلينا، فقلنا: مالك بأبي أنت؟ فقال: أتاني رجلان وأضجعاني فشقا بطني وصنعا به شيئاً ثم رداه كما هو، فقال أبوه: والله ما أرى ابني إلا وقد أصيب، أي: حدث له شيء مكروه، الحقي بأهله فرديه إليهم قبل أن يظهر له ما نتخوف منه، قالت: فاحتملناه فقدمنا به على أمه، فلما رأتنا أنكرت شأننا، لأنهم ألحوا عليها وطلبوا منها في البداية ولما سمحت لهم يرجعون بعد ثلاثة أو أربعة أشهر بهذه السرعة وقالت: ما أرجعكما به قبل أن أسألكماه وقد كنتما حريصين على حبسه؟ فقلنا: لا شيء إلا أن قد قضى الله رضاعه وسرنا ما نراه، وكنا نئويه كما تحبون أحب إلينا، فما اقتنعت آمنة فقالت: إن لكما شأناً فأخبراني ما هو؟ فلم تدعنا حتى أخبرناها، لما رأى الصبي الآخر من قدوم اثنين وشق صدره وبطنه وصنعا به شيئاً ورداه كما هو، فقالت: كلا والله، لا يصنع الله ذلك به، إن لابني شأناً أفلا أخبركما خبره؟ إني حملت به فوالله ما حملت حملاً قط كان أخف عليَّ منه، ولا أيسر منه، ثم أريت حين حملته أنه خرج مني نورٌ أضاء منه أعناق الإبل بـ بصرى -قصور بصرى البعيدة عن مكة - نور عظيم أضاء أعناق الإبل بـ بصرى، ثم وضعته حين وضعته فوالله ما وقع كما يقع الصبيان، لقد وقع معتمداً بيديه على الأرض رافعاً رأسه إلى السماء، فدعاه عنكما، فقبضته وانطلقنا.
الحديث رواه ابن حبان والطبراني والبيهقي وأبو يعلى من طريق ابن إسحاق وقد صرح ابن إسحاق بالسماع في رواية السيرة، وقال الهيثمي في المجمع: رواه أبو يعلى والطبراني بنحوه، ورجاله ثقات، ولكثير من مقاطع الحديث شواهد تقويها فلعله يكون حسناً بشواهده.
وأما حادثة شق الصدر فقد جاءت من أحاديث أخرى، ومن ذلك حديث عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه: (أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كيف كان أول شأنك يا رسول الله؟ قال: كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر، فانطلقت أنا وابن لها في بهمٍ لنا ولم نأخذ معنا زاداً، فقلت: يا أخي اذهب فائتنا بزادٍ من عند أمنا، فانطلق أخي ومكثت عند البهم فأقبل طيران أبيضان كأنهما نسران، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: نعم، فأقبلا يبتدراني فأخذاني فبطحاني إلى القفا، فشقا بطني، ثم استخرجا قلبي، فشقاه فأخرجا منه علقتين سوداوين، فقال أحدهما لصاحبه: ائتني بماءٍ وثلج، فغسلا به جوفي، ثم قال: ائتني بماء برد، فغسلا به قلبي، ثم قال: ائتني بالسكينة، فذراها في قلبي، ثم قال أحدهما لصاحبه: خطه، فخاطه وختم عليه بخاتم النبوة، فقال أحدهما لصاحبه: اجعله في كفه، واجعل ألفاً من أمته في كفة، فإذا أنا أنظر إلى الألف فوقي، أشفق أن يخر علي بعضهم -يعني هو رجح بهم وصاروا فوقه- فقال: لو أن أمته وزنت به لمال بهم، ثم انطلقا وتركاني، وفرقت فرقاً شديداً، ثم انطلقت إلى أمي فأخبرتها بالذي لقيته، فأشفقت علي أن يكون ألبس بي -جن تلبس بي- قالت: أعيذك بالله، فرحلت بعيراً لها فجعلتني أو فحملتني على الرحل وركبت خلفي، حتى بلغنا إلى أمي -التي هي آمنة - فقالت حليمة: أديت أمانتي وذمتي، وحدثتها بالذي لقيته فلم يرعها ذلك، فقالت لي: رأيت خرج مني نورٌ أضاءت منه قصور الشام) الحديث رواه أحمد والحاكم في المستدرك، والطبراني في الكبير، والدارمي في المقدمة باب: كيف كان أول شأن النبي صلى الله عليه وسلم، جميعاً من طريق بقية حدثني بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن ابن عمرو السلمي، وبقية صرح بالتحديث، وإذا روى عن بحير فهو معتدٌ به ومقبول وموثق، وقال الحاكم: حديثٌ صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع: إسناد أحمد حسن، والحديث لا زال له شواهد.
حادثة شق الصدر وقعت مرة أخرى في الإسراء والمعراج فكانت هذه من الصغر تمهيداً للرحلة السماوية، إعداداً أرضياً للرحلة السماوية، حادثة شق الصدر إذاً حدثت مرتين.
وهذا الحديثٌ رواه مسلم في صحيحه في كتاب الإسراء، ورواه غيره أيضاً من حديث أنس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه، فاستخرج القلب فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طستٍ من ذهب بماء زمزم، ثم لئمه -الخياطة وهذه هي العملية الجراحية القديمة- ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه فقالوا: إن محمداً قد قتل، فاستقبلوه وهو ممتقع اللون، قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره) الحديث رواه مسلم.
وهذا أيضاً يثبت قصة شق الصدر في صحيح مسلم والنبي عليه الصلاة والسلام صغير، ولما كان يلعب مع الغلمان حدث له حادثة شق الصدر، ولما كان قبل الإسراء والمعراج حدثت حادثة الشق الثانية.(273/10)
وفاة آمنة بنت وهب على الشرك
نعود إلى قصة وفاة أم النبي صلى الله عليه وسلم التي رواها ابن إسحاق وقال: إن أم النبي صلى الله عليه وسلم توفيت وهو ابن ست سنين بـ الأبواء بين مكة والمدينة، كانت قد قدمت به على أخواله من بني علي بن النجار تزيره إياهم، فماتت وهي راجعة به من مكة، لكن مع الأسف ماتت على الشرك.
ولذلك جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت) رواه مسلم رحمه الله في صحيحه.
طبعاً حاول بعض الوضاعين والكذابين أن يفتعلوا حديثاً فيه: أن النبي عليه الصلاة والسلام طلب من ربه أن يحيي أمه وأباه، فأحياهما له، ثم عرض عليهما الإسلام فأسلما ثم ماتا.
وحاول الصوفية وغيرهم أن يروجوا لهذا الحديث، ولكن ينبغي أن يعلم أن الميزان عند الله ميزان العقيدة، وأن النبي عليه الصلاة والسلام مع عظم مكانته لكن ما نفع أباه ولا أمه وقد ماتا على الشرك، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام لما جاءه أعرابي قال: (أين أبي؟ قال: في النار، فولى الأعرابي منزعجاً، فدعاه فقال: أبي وأبوك في النار) رواه أبو داود وهو حديث صحيح.
معناه: أن أباه عليه الصلاة والسلام مات في الجاهلية على الشرك، فهو في النار، وأمه استأذن ربه أن يستغفر لها فلم يؤذن له؛ لأنها ماتت على الشرك، ونحن عواطفنا تهفو إلى أن تكون آمنة في الجنة، وأنها آمنت وأسلمت، لكن العواطف شيء والحقائق العلمية شيءٌ آخر، فـ آمنة ماتت على الشرك، والنبي عليه الصلاة والسلام لأنها أمه استأذن الله عز وجل أن يدعو الله بأن يغفر لها، فلم يقره على ذلك، ولم يأذن له به.
فهذا فيه أن مسألة العقيدة ليست واسطة، وأن الإنسان لا ينفعه إلا دينه وتوحيده، وإلا فلو كان ولده أعظم نبي فإنه لا ينفعه، فهذا ولد نوح مات كافراً، وهذا أبو إبراهيم مات كافراً، وهذه أم النبي عليه الصلاة والسلام وأبوه ماتا على الكفر، فلا مجاملات في مسألة التوحيد والشرك.(273/11)
كفالة عبد المطلب للنبي صلى الله عليه وسلم
وبعد موت أمه وكان أبوه قد مات من قبل كفله جده عبد المطلب، وكان يحبه حباً شديداً، وجاء في حديث قنديل بن سعد: (حججت في الجاهلية، فإذا رجلٌ يطوف بالبيت وهو يبتدر ويقول:
رب رد راكبي محمداً رده لي واصطنع عندي يدا
قلت: من هذا؟ قال: عبد المطلب بن هاشم، ذهبت إبلاً له فأرسل ابن ابنه في طلبها فاحتبس عليه ولم يرسله في حاجة قط إلا جاء بها -يعني: من بركة النبي عليه الصلاة والسلام ما أرسل في شيء، في ضالة، في إبل تائهة، في مالٍ مفقود، إلا ووجده ورجع به- قال: فما برحت حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم وجاء بالإبل معه، فقال عبد المطلب: يا بني لقد حزنت عليك كالمرأة، حزناً لا يفارقني أبداً) والحديث رواه الطبراني وغيره، وقال الهيثمي: رواه أبو يعلى والطبراني وإسناده حسن.(273/12)
دروس من رعي الأغنام في حياة الأنبياء
وكان عليه الصلاة والسلام في صغره أيضاً قد رعى الغنم تهيئة للرعي الأكبر بعد ذلك، وتمهيداً لسياسة الرعية الأعظم، فهو تعلم في سياسة الغنم تمهيداً لسياسة الرعية الكبرى بعد ذلك، فقد جاء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم، فقال أصحابه: وأنت يا رسول الله؟ فقال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة) رواه البخاري.
فالنبي عليه الصلاة والسلام اشتغل وهو صغير، وأجر نفسه، وكان يأخذ قراريط من أهل مكة أجرةً مقابل أن يرعى أغنامهم.
ومن حديث جابر رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ مر الظهران نجني الكباث فقال: عليكم بالأسود منه فإنه أطيبه) وهذا النوع من الثمار لا يعرفه إلا من كان يرعى الغنم؛ لأنه من الأشياء التي تنبت في البراري وفي الأماكن التي ترعى فيها الأغنام، ولذلك قالوا له: (وكنت ترعى الغنم يا رسول الله؟ قال: نعم، وهل من نبي إلا رعاها؟!).
وهذا من إعداد الله للأنبياء، لأن سياسة الغنم ورعي الغنم تتطلب المحافظة عليها وصونها وحراستها عن الذئاب، وإيرادها المراعي الحسنة، والذي يتأمل يجد تشابهاً كبيراً بين رعي الغنم وسياسة الرعية يكون فيه إعداد الراعي في محافظته وحراسته، وجلب المنافع للغنم، وهذه تحتاج إلى علاج، وهذه تحلب، وهذه فيها جرب، وهذه عرجاء، وهذه ضعيفة وهزيلة، ولذلك رعاية الغنم فيها إعداد للاهتمام بالرعية والإشفاق على الرعية وحراستهم، وأن يأتي بالرعية إلى المكان الذي فيه فائدة لها، ويحرس الرعية عن كل ضار، وفيه تعليم وتحمل المسئولية.(273/13)
حفظ النبي صلى الله عليه وسلم من قبائح أهل الجاهلية
وقد جاء من حديث علي رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما هممت بقبيحٍ مما كان أهل الجاهلية يهمون به إلا مرتين من الدهر، كلتيهما يعصمني الله منهما، قلت ليلة لفتى كان معي من قريش بأعلى مكة في أغنام ٍ لأهله يرعاها: أبصر إلى غنمي حتى أسمر هذه الليلة بـ مكة كما يسمر الفتيان، قال: نعم -وافق- فخرجت فجئت أدنى دارٍ من دور مكة، سمعت غناءً وضرب دفوفٍ ومزامير، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: فلانٌ تزوج فلانة، رجل من قريش تزوج امرأة من قريش، فلهوت بذلك الغناء وبذلك الصوت حتى غلبتني عيني، فما أيقظني إلا حر الشمس، فرجعت فقال: ما فعلت؟ فأخبرته، نام في الحفلة، ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك ففعل، فخرجت فسمعت مثل ذلك، فقيل لي مثلما قيل لي، فلهوت بما سمعت حتى غلبتني عيني فما أيقظني إلا مس الشمس، ثم رجعت إلى صاحبي فقال: فما فعلت؟ قلت: ما فعلت شيئاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فوالله ما هممت بعدها بسوء مما يعمل أهل الجاهلية حتى أكرمني الله بنبوته) والحديث رواه أبو نعيم في الدلائل والبيهقي وابن حبان، وقال البوصيري: رواه إسحاق بن راهويه بإسنادٍ حسن، وقال ابن حجر: هذه الطريق حسنة جليلة، وما روي في شيء من المسانيد الكبار إلا في مسند إسحاق هذا وهو حديث حسن متصل ورجاله ثقات، قال الهيثمي في المجمع: رواه البزار ورجاله ثقات.
إذاً، كان فتيان مكة، يسمرون على خمر وعلى فواحش، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام لما ذهب ليرى سمرهم وهو صغير قبل البعثة، انشغل بحفلة زفاف والتهى بها حتى نام، والمرة الثانية نفس الشيء دخل مكة فحفلة زفاف دخل بها فالتهى بها، ولم يذهب إلى حيث يذهب فتيان مكة، ولم يكن يتعاطى ما كانوا يتعاطون ويفعل ما كانوا يفعلون.(273/14)
قصة بحيرا الراهب
ثم حدثت بعد ذلك قصة مهمة جداً ألا وهي قصة بحيرا الراهب، وقد جاءت هذه القصة من حديث أبي موسى الأشعري قال: (خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه النبي صلى الله عليه وسلم في أشياخٍ من قريش، فلما أشرفوا على الراهب هبطوا، فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يسيرون فلا يخرج إليهم ولا يلتفت، قال: فهم يحلون رحالهم فجعل يتخللهم الراهب حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، يبعثه الله رحمة للعالمين، فقال له أشياخ من قريش: ما علمك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجرٌ ولا حجر إلا خر ساجداً، ولا يسجدان إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة، ثم رجع فصنع لهم طعاماً، فلما أتاهم به وكان هو في رعية الإبل، قال: أرسلوا إليه، فأقبل وعليه غمامة تظله، هو يمشي والغمامة فوقه صلى الله عليه وسلم فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة -النبي عليه الصلاة والسلام لما دنا من الجماعة لأن الراهب طلب أن يستدعوا هذا الغلام الذي معهم، جاء عليه الصلاة والسلام فإذا هم قد سبقوه الكبار إلى فيء الشجرة- فلما جلس مال فيء الشجرة عليه، فقال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه، فبينما هو قائمٌ عليهم وهو يناشدهم ألا يذهبوا به إلى الروم فإن الروم إذا عرفوه فسيقتلونه، فالتفت فإذا سبعة قد أقبلوا من الروم فاستقبلهم بحيرا الراهب هذا، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جاءنا أن هذا النبي خارجٌ في هذا الشهر، فلم يبق طريقٌ إلا بعث إليه بأناس، وإنا قد أخبرنا خبره فبُعثنا إلى طريقك هذا، فقال: هل خلفكم أحدٌ هو خيرٌ منكم؟ قالوا: إنما اخترنا خيره لطريقك هذا، قال: أفرأيتم أمراً أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحدٌ من الناس رده؟ قالوا: لا، قال: فبايعوه وأقاموا معه، قال: أنشدكم الله أيكم وليه؟ قالوا: أبو طالب، فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب وبعث معه أبا بكر وبلالاً وزوده الراهب من الكعك والزيت) الحديث أخرجه الترمذي وابن أبي شيبة وغيرهم، ورواه الحاكم، وقال الذهبي: أظنه موضوعاً وبعضه باطل، وقال في مكانٍ آخر: منكرٌ جداً، وقال ابن حجر في الإصابة: رجاله ثقات، وذكر أبي بكر وبلال فيه غير محفوظ، بحيث تنازع العلماء في ثبوته، الذهبي أنكره، ولكن ابن حجر قال: ليس كله منكراً، فقط ذكر أبي بكر وبلال غير محفوظ، ونقل الشيخ الألباني تصحيحه ومال إلى تصحيحه في تعليقه على فقه السيرة وقال: وسنده صحيح ورجاله ثقات، وذكر بلال وأبي بكر فيه غلطه واضح كما قال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد، ولعلها مدرجة فيه ووهم من أحد الرواة كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله.(273/15)
فوائد من قصة بحيرا
لكن قصة بحيرا الراهب هذه فيها فوائد: أولاً: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان مكتوباً عندهم في الكتب المتقدمة، وأن بحيرا الراهب عرفه بسيماه وذهب بنفسه ودخل بينهم حتى رأى الغلام قال: هذا رسول الله يعني: في المستقبل.
وأن سجود الشجر والحجر استرعى انتباه الراهب لما جاءت القافلة التي فيها النبي صلى الله عليه وسلم.
ودفاع بحيرا الراهب عن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء جنود الروم وقد عرفوا أنه سيخرج في هذا الشهر، وسيكون في هذا الطريق وسيأتيهم في هذا المكان، فدافع عنه حتى ردهم.(273/16)
بطلان استغلال المستشرقين لهذه القصة
لكن هذه القصة قد استغلها بعض المستشرقين ليقولوا: إن النبي عليه الصلاة والسلام علمه القرآن بحيرا الراهب، قالوا: هذا الذي أوحاه يعني: الوحي هذا قرآن جاء من بحيرا الراهب لما التقى به.
نقول: أولاً القصة عرفنا ماذا قيل في ثبوتها، لكن لنقل أنها ثابتة، هل يمكن لغلام التقى بهذا الراهب مدة وجيزة جداً أن يتعلم منه قرآناً كاملاً يحفظه ويسكت عنه، لا يعرف له أثر حتى يبلغ أربعين سنة ثم يقسطه عليهم على ثلاثة وعشرين سنة؟! وهل كان الراهب سيعلم بحديث قصة خولة بنت ثعلبة مع زوجها أوس بن الصامت {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] قبل حصول الظهار وقبل حصول حادثة خولة بنت ثعلبة بأكثر من أربعين سنة يعلمها بحيرا الراهب يقولها له في قرآن كامل يحفظه منه في فترة وجيزة، التقى به فيها لما اطلع قال: أروني غلامكم، ويحفظه القرآن ثم يسكت عنه أربعين سنة ما يجيب آية واحدة ثم يقول: اقرأ سنعلم عند ذلك أن هذا الكلام الذي قالوه هراء، ولكنهم قالوه من عداوتهم للمؤمنين قالوا: هذا القرآن كله من بحيرا الراهب.
ويعرف طبعاً بحيرا الراهب قصة بدر وأنهم سينتصرون، ويعرف قصة أحد وأنهم سينهزمون، ويعرف الأحزاب وأن بني قريظة والمنافقين سيتحالفون، ويعرف قصة وقصة وقصة، طبعاً هذا الهراء لا يمكن أن يصدقه أحد.(273/17)
مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في حلف الفضول
هذه بعض الأحداث التي حصلت في طفولته عليه الصلاة والسلام نختم الكلام فيها بحادثة أخيرة وهي مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في حلف الفضول، فقد جاء في حديث عبد الرحمن بن عوف قال عليه السلام: (شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلام، فما أحب أن لي حمر النعم وأني أمكثه) طبعاً سمي بحلف المطيبين؛ لأنهم وضعوا الطيب في إناء ووضعوا أيديهم فيه، غمسوا أيديهم في الطيب وتعاهدوا على نصرة المظلوم، ولذلك سمي بحلف المطيبين.
وحلف الفضول كما قال محمد بن إسحاق: وتداعت قبائل من قريش إلى حلفٍ فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان لشرفه وسنه، وكان حلفهم عنده بنو هاشم وبنو عبد المطلب وبنو أسد بن عبد العزى وزهرة بن كلاب وتيم بن مرة، فتعاهدوا وتعاقدوا على ألا يجدوا مظلوماً من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا كانوا معه هذه خلاصة حلف الفضول- وكانوا على من ظلمه حتى يردوا عليه مظلمته، فسمت قريشاً ذلك الحلف حلف الفضول.
وحديث: (شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلام فما أحب أن لي حمر النعم وأني أمكثه) رواه أحمد وأبو يعلى والبزار وقال الهيثمي: رجال حديث عبد الرحمن بن عوف رجال الصحيح.
فهذه أبرز الأحداث التي كانت في طفولة النبي صلى الله عليه وسلم من ولادته، وقلنا: كيف أن الله سبحانه وتعالى قيظ الأحداث التي ركز فيها على مكان ولادته وسنة ولادته، وكيف كان الغلام مباركاً لأول أمره كما دلت على ذلك قصة حليمة، وكيف أن الله رعى نبيه من الصغر، ووقعت حادثة شق الصدر لإعداده للمستقبل، ونزع من قلبه حظ الشيطان منه، وكيف أن النبي صلى الله عليه وسلم صار في كفالة جده بعد أمه.(273/18)
عبر من سيرة سعد بن معاذ
إن هذه الأمة لن تنتصر على الأعداء حتى ترجع إلى ما كان عليه السلف رضوان الله عليهم، وإن مما يعين على شحذ الهمم، وقوة الحق، والانتصار لهذا الدين- النظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام، وقوتهم في الصدع بالحق، وجرأتهم في الدعوة إلى الله وصبرهم على الأذى فيه، وقد تناول الشيخ في هذا الدرس سيرة صحابي جليل ألا وهو سعد بن معاذ، ووقف في سيرته على بعض العبر والعظات المستفادة.(274/1)
سبب اختيار الحديث عن سعد بن معاذ
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على الصراط المستقيم، ليله كنهاره، لا يزيغ عنه إلا هالك، فصلاة ربي وسلامه عليه إلى يوم الدين.
أيها الإخوة: إن لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً عظيماً علينا، فهم أبر هذه الأمة نفوساً، وألينها قلوباً وأرقها، حملوا لواء الدعوة والجهاد حتى انتشر الإسلام في الأرض، وبنوا تلك القاعدة العظيمة للإسلام والمسلمين في أرجاء العالم، وهم المشكاة التي انبثق منها نور الهدى، وهم القدوة الذين نقلوا إلينا حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم نقلوا إلينا أحاديثه، فكل حديث نسمعه فنحن مدينون فيه لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناً عظيماً، لأنهم هم الرواة العدول الذين نقلوا لنا هذه الأحاديث، فلو لم ينقلوها فعمن كان سنعرف سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟ رضي الله عنهم وأرضاهم، تلك الصفوة المختارة من عباد الله، التي خصها الله تعالى بتلك الأفضلية العظيمة التي لو أنفق أحدنا مثل أحد ذهباً ما بلغ ملء كف أحدهم أو نصيفه؛ لأن الله تعالى قد خصهم بهذه العناية العظيمة، واصطفاهم ليكونوا جند رسوله صلى الله عليه وسلم، يسيرون معه على الحق، ويطبقونه ويتخذونه ويعتمدونه شرعةً ومنهاجاً.
ولهذا كان لا بد من العناية بدراسة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم هم القدوة التي تحتذى، وهم الذين ينيرون لنا الدرب في ظلام الجاهلية، وهم الذين إذا اقتدينا بهم فنصل إلى الفوز بجنات النعيم، ونحن اليوم مع موعد مع صحابي جليل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلكم الرجل الفذ الذي هو سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه، ولا أخفي عليكم أيها الإخوة فقد تتساءلون: ما الذي دفعني لاختيار حياة هذا الرجل لعرضها في مثل هذا المقام؟ والحقيقة أن السبب كان حديثاً من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، شيءٌ إذا دققت النظر فيه لاندهشت جداً، ولذهلت تماماً وأنت تتأمل في ذلك الحديث، إنه الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ)، وقال عن سعد بن معاذ: (هو الذي اهتز له عرش الرحمن سبحانه وتعالى) فإذا علمنا أن السماوات السبع، والأرضين السبع بالنسبة للكرسي -وليس للعرش- مثل الحلقة التي ألقيت في صحرا