... المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد..
فإن الناظر إلى واقع المسلمين الآن يجد كثيرًا منهم يتعبد الله ويتقرب إليه بمختلف القرب غير أن البعض من هؤلاء بل الكثير بمعزل عن أغلب أحكام تلك العبادات.
فلا يعرف من العبادة إلا صفتها وهيئتها، وما أن يعرض له أدنى حكم شرعي حتى يحس بحيرته فيبحث عمن يفتيه ويزيل لبْسه، وإن كان استفتاؤه أمرًا ضروريًا إلا أن الواجب على أهل ملة الإسلام الإحاطة بالأحكام الشرعية ليعبدوا الله على علم وبصيرة فينالوا الخيرية الواردة في قوله - صلى الله عليه وسلم - : «من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين».
وبما أن هذا أمر قد يتعذر تحقيقه عند البعض، فقد رأيت أن أجمع فروع بعض من المسائل بأسلوب سهل ميسر ومختصر، معتمدًا الدليل الشرعي، ومقتبسًا من مباحث أهل العلم، كل هذا لتقريب المسائل والأحكام إلى الأذهان، وحرصًا على نشر العلم ورجاء فضله.
ومع هذا توسعتُ في ذكر المصادر والمراجع لمن أراد الاستزادة والتوسع.
فمن هذه المسائل (خطبة الجمعة والمطلب الشرعي من المستمع والخطيب) تلك العبادة الأسبوعية التي هدى الله إليها أمة الإسلام وأضل عنها اليهود والنصارى.
فأهدي هذه الأحكام وشيئًا من الآداب إلى صاحب المنبر، ليستذكر ما قد يسهو عنه، ويؤكد ما ظهر له لأنه إمام يُقتدى به ويحتذى، وخطؤه يُدوِّي ويعظم، قيل لعبد الله الملك بن مروان عجل بك الشيب قال: (وكيف لا وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة) (1) .
قاله مع بلاغته وفصاحته وإقدامه وقد قال: الأصمعي: (أربعة لم يلحنوا في جد ولا هزل: الشعبي، وعبد الملك بن مروان، والحجاج بن يوسف، وابن القرية).
كما أهدي جانبًا منها إلى كل مستمع للخطبة ليحذر من الانشغال عنها بأي أمر قد يصرفه عن الاستماع سواء كان سواكًا أو عبثًا بلحية أو فراش أو غير ذلك.
__________
(1) سير أعلام النبلاء (4/248).(1/1)
اللهم اهدنا لأحسن الأعمال والأقوال فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وجنبنا سيئها إنك أنت السميع العليم.
كتبه
محمد بن صالح بن سليمان الخزيم
القصيم – البكيرية
ص ب: 675
23/7/1424هـ
مشروعية
تقصير الخطبة
تمهيد:
خطباء المنابر مصابيح الدجى، بكلمة الحق ينطقون، وللضال يرشدون، وللغافل يُذكَّرون، يرسمون بالحق طريق الصواب، ويبشرون وينذرون لبناء مجتمع صالح سوي.
يَجْلون بكلامهم الأبصار العليلة، ويشحذون بمواعظهم الأذهان الكليلة، وينبهون القلوب من رقدتها، وينقلونها عن سوء عادتها، فَشَفَوا من داء القسوة، وغباوة الغفلة، وداووا من العِي الفاضح، ونهجوا لنا الطريق الواضح.
فينبغي على الخطيب أن يُشخِّص بآيات خُطبه الزاجرة عيون القوم ويبكيهم، ويصرف بمعاني الحق العقول ويدنيها، ويأخذ بمقومات الخطابة الناجحة. فإذا عرفت حقيقة الخطيب البارع، وحقيقة الخطابة النافذة المؤثرة.
فاعلم أن خطبة الجمعة عبادة ربانية تعبدنا الله بها، وفق أحكام وآداب تبرز من خلالها شخصية الخطيب العلمية، وتُبقي لخطبة الجمعة معناها الشرعي، وهدفها الحقيقي، وحيث ظهر من تجاوز تلك الأحكام بإطالة الخُطب وتقصير الصلاة. فقد رأيت أن أغوص في جزئيات هذه المسألة (1) جامعًا الأدلة النبوية، وأقوال سلف الأمة، بل وبعض سيرهم.
لمعرفة حكم تقصير الخطبة وتطويل الصلاة. ليسترشد قاصد الحق والصواب، وتتضح حقيقة الهدي النبوي في تذكير الناس ووعظهم إذ «خير الكلام ما قلَّ ودل ولم يَطُل فَيُمَل» وقد قيل (في الإشارة ما يُعني عن كثير من الِعَبارة) فأقول وبالله التوفيق:
تعريف الخطب:
الخطبة: بضم الخاء مصدر خطبت على المنبر خطبة. وهي اسم للكلام الذي يتكلم به الخطيب.
والخطيب هو من يقوم بالخطابة في المسجد وغيره وجمعه خطباء. يقال رجل خطيب أي حسن الخطبة.
__________
(1) راجع جواهر الأدب 1/333.(1/2)
والخطبة تعتمد على جمل قصيرة وألفاظ مألوفة، ومعان قريبة للسامع. فيفهمها الخاصة والعامة والمراد بالخطبة هنا: هي كلام منتخب يتضمن وعظًا وإبلاغًا. وفق أحكام الإسلام ومقاصده، لدعوة الناس إلى خيري الدنيا والآخرة (1) ففي الحديث: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب قائمًا ويجلس بين الخطبتين ويقرأ آيات ويُذكر الناس» (2) .
طول صلاة الرجل وقصر خطبته من علامة فقهه:
ثبتت السنة بالحث على تطويل صلاة الجمعة وتقصير خطبتها، وأنها علامة من علامات فِقْه الخطيب. فعن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة وإن من البيان لسحرا» (3) .
فمن اتصف بهذه الصفة كانت دليلاً على فقهه. حيث أتى بالمعاني الكثيرة بكلمات موجزة قصيرة مفيدة. قال الشوكاني: (لأن الفقيه هو المُطِّلع على جوامع الألفاظ، فيتمكن بذلك من التعبير باللفظ المختصر عن المعاني الكثيرة).
وعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : «أنه كان لا يطيل الموعظة يوم الجمعة وإنما هي كلمات يسيرات» (4) .
وعن الحكم بن حزن أنه شهد الجمعة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوكئًا على قوس أو قال: على عصا فحمد الله وأثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات (5) .
وعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن، ويُذَكِّر الناس، فكانت صلاته قصدًا، وخطبته قصدًا (6) .
__________
(1) لسان العرب، القاموس المحيط، معجم مصطلحات الفقهاء (كلمة خطب).
(2) رواه مسلم.
(3) رواه مسلم.
(4) رواه أبو داود ورجال إسناده ثقات.
(5) رواه أحمد وأبو داود وصححه ابن خزيمة قال: في الفتح سنده جيد.
(6) رواه مسلم.(1/3)
وقصد الخطبة: هو التوسط بين الإفراط والتفريط، ولا يعني هذا المساواة بين الصلاة والخطبة لحديث عمار السابق، فانظر إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - وإلى فعله فقد اتفقا على تقصير الخطبة، وإطالة الصلاة. لأن المقصود من الخطبة وعظ الناس وتذكيرهم بأمر ربهم. وهذا يكون بأخصر العبارات، وأيسر الكلمات. فَخُطَب السلف رحمهم الله كانت كلمات معدودات، جامعات للمعاني يحفظها كل سامع. وتؤثر بالأمي والعالم.
الحكمة من الحث على قصر الخطبة:
الحكمة من الاقتصاد بالموعظة والخطبة، حتى لا يضجر السامعون، وتذهب حلاوته وجلالته من قلوبهم، ولئلا يكرهوا العلم وسماع الخير، فيقعوا في المحذور ولأن تقصيرها أوعى لسامعه واحفظ له. والخطبة إذا طالت أضاع آخرها أولها كما أن طولها يُدْخل الملل على السامعين، خاصة إذا كان الخطيب ممن لا يحرك القلوب والمشاعر ويبعث الهمم (1) .
قال النووي: (يستحب تقصير الخطبة حتى لا يملوها، ويكون قصرها معتدلا ولا يبالغ بحيث يمحقها) (2) .
وقال أبو عبيدة: (وإنما جعل عليه الصلاة والسلام ذلك علامة على فقهه لأن الصلاة هي الأصل والخطبة هي الفرع، ومن القضايا الفقهية أن يؤثر الأصل على الفرع بزيادة) (3) .
وقيل من الحِكم (لأن حال الخطبة توجهه إلى الخَلْق، وحال الصلاة مقصده الخالق فمن فقاهة قلبه إطالة معراج ربه) والله أعلم.
تطويل الخطبة للحاجة:
__________
(1) انظر الأذكار للنووي ص267.
(2) انظر الشرح الممتع لابن عثيمين والمجموع للنووي 4/448.
(3) انظر مرقاة المفاتيح 3/499.(1/4)
ومع هذا فقد يعرض للخطيب أحيانًا ما يوجب إطالة الخطبة. كأن يتناول معالجة قضية عصرية، أو دفع شبهة مضللة، أو نحو ذلك من مهمات المجتمع الإسلامي. غير أن هذا لا يتنافى مع الأمر بقصر الخطبة لأنه أمر عارض لا دائم لما روى مسلم (أنه عليه الصلاة والسلام صلى الفجر وصعد المنبر، فخطب إلى الظهر، فنزل وصلى وصعد وخطب إلى العصر، ثم نزل وصلى ثم صعد وخطب إلى المغرب فأخبر بما كان وما هو كائن).
قال ابن القيم: رحمه الله في هديه - صلى الله عليه وسلم - بالخُطَب (وكان يقصر خطبته أحيانًا ويطيلها أحيانًا بحسب حاجة الناس) (1) .
وقال شيخنا محمد بن عثيمين رحمه الله: وأحيانًا تستدعي الحال التطويل، فإذا أطال الإنسان أحيانًا لاقتضاء الحال فإن هذا لا يخرجه عن كونه فقيهًا (2) .
أما ما يصنعه بعض الخطاب فيمضي الوقت الطويل في إلقاء الخطبة ويوجز في الصلاة فهو خلاف سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ودليل على عدم التدبر بالحكم النبوية والمقاصد الشرعية.
فالخُطب الفذة لا تقاس بكثرة الكلام، وطول الإلقاء. وإنما هي كلمات موزونة بمعان مؤثرة. تخرج من قلب شفيق، فتلقى آذانًا صاغية، وقلوبًا واعية، فتقع موقعًا مؤثرًا.
مقدار صلاة الجمعة:
علمت فيما سبق أمر الشارع بتطويل صلاة الجمعة لكن هذه الإطالة لابد أن تتناسب مع قصر الخطبة. ويتضح هذا جليًا من خلال مقدار السور المشروعة قراءتها في هذه الصلاة كسورتي الأعلى والغاشية أو الجمعة والغاشية أو الجمعة وسورة المنافقين.
ولا يتنافى أمره - صلى الله عليه وسلم - بإطالة صلاة الجمعة مع أمره بتخفيف الصلوات والنهي عن المشقة على المأمومين. لأن هذه إطالة لا تخرج عن الصفة المشروعة ويؤيد هذا رواية: (وكانت صلاته قصدًا وخطبته قصدًا).
قال النووي: في معنى الحديث: «أي بين الطول الظاهر والتخفيف الماحق».
__________
(1) انظر زاد المعاد (1/191).
(2) انظر الشرح الممتع (5/78).(1/5)
فلله در ذلكم الخطيب الموفق جعل سنة نبيه نصب عينيه فاحتذى واقتدى معتبرًا بسنن من مضى، فلا تململ من السامعين، ولا مشقة على المأمومين (1) .
خطب السابقين الأولين:
سلفنا الصالح مَعِيْن لا ينضب عرفوا الحق فاتبعوه، وعضوا عليه بالنواجذ، عرفوا الحق للحق، غير غالين ولا جافين، إمامهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - به يقتدون وبه يهتدون.
لذا سطر التاريخ هديهم وسمتهم. نقتبس جانبًا من أقوالهم وأفعالهم في صلاة الجمعة وقصر خطبتها تذكيرًا للغافل، وشحذًا لذهن كل فاهم:
1- خطب عثمان - رضي الله عنه - وأوجز فقيل له: لو كنت تنفست فقال: (سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «قصر خطبة الرجل مئنة من فقهه فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة» (2) .
معنى قوله: لو كنت تنفست: أي مددت الخطبة وطولتها.
2- وعن أبي راشد قال خطبنا عمار فتجوز الخطبة فقال رجل: قد قلت قولاً شفاء لو أنك أطلت فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن نطيل الخطبة (3) .
3- قال: عمر - رضي الله عنه - : (طولوا الصلاة وقصروا الخطبة) (4) .
4- وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: (أطيلوا هذه الصلاة وأقصروا هذه الخطبة يعني صلاة الجمعة) (5) .
5- وقال أيضًا: (طول الصلاة وقصر الخطبة من فقه الرجل) (6) .
6- وعن عمرو بن شرحبيل قال: (من فقه الرجل قصر الخطبة وطول الصلاة) (7) .
ومن أقوال الفقهاء والمحدثين قال النووي: (يستحب تقصير الخطبة حتى لا يملوها)، وقال الكاساني: (ويكون قدر الخطبة قدر سورة من طوال المفصل..) المراد بالمفَصَّل قصار السور من سورة (ق) إلى سورة (الناس).
__________
(1) انظر سبل السلام (2/101) وشرح النووي على صحيح مسلم (6/153) ونيل الأوطار (3/270).
(2) رواه مسلم.
(3) رواه أحمد بسند جيد ورواه ابن أبي شيبة والبيهقي.
(4) انظر بدائع الصنائع.
(5) رواه البيهقي.
(6) المرجع السابق (1/391).
(7) انتظر التمهيد لابن عبد البر (4/258).(1/6)
وقال الشوكاني: (إقصار الخطبة أولى من إطالتها) وقال في المرقاة: (لأن الصلاة مقصودة بالذات، والخطبة توطئة لها فتصرف العناية إلى الأهم) وفي الفتح الرباني قال (لا خلاف بين العلماء في استحبابه – أي تقصير الخطبة – إنما الخلاف في أقل ما يجزئ) بل قال ابن حزم: (ولا تجوز إطالة الخطبة) (1) .
وقال ابن القيم في معرض ذِكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخطبة: (وكان يقصِّر الخطبة، ويطيل الصلاة، ويكثر الذِّكر، ويقصد الكلمات الجوامع). وبوب البيهقي في سننه بابًا في كتاب الجمعة فقال: (باب ما يستحب من القصد في الكلام وترك التطويل).
وعنده مسلم (باب تخفيف الصلاة والخطبة) (2) .
إذًا قصر الخطبة لا نزاع فيه بين أهل العلم إن لم يكن إجماعًا (3) . بل من الفقهاء من ذكر أن تكون الخطبة الثانية أقصر من الخطبة الأولى، كالإقامة مع الأذان، والقراءة في الركعة الثانية أقصر من الأولى (4) .
هذا قليل من كثير به يعرف اللبيب، الامتثال الصادق، والفهم الثاقب، والانقياد الأمثل من أولئك الأفذاذ.
فتأمل هذه الأقوال والأفعال بعين التبصر والاعتبار، إذ هي مبنية على الدليل والتعليل.
فأوصيك في السير في ظلها فإن الخير كل الخير بالأخذ بهديه - صلى الله عليه وسلم - والتزام طريقته لأنه أشفق الأمة بالأمة، فلا إفراط ولا تفريط قال ابن عائشة: (ما أمر الله تعالى عباده بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان، فإما إلى غُلُوٍّ، وإما إلى تقصير فبأيهما ظَفَر قَنع) (5) .
ما جاء فيمن أطال الخطبة وقصر الصلاة:
__________
(1) انظر المحلى (5/60).
(2) مسلم (2/59).
(3) انظر الإنصاف (2/397).
(4) انظر حاشية ابن قاسم (2/457) وكشاف القناع (2/6).
(5) انظر كتاب العزلة.(1/7)
سبق أن ذكرنا أن قصر الخطبة وإطالة الصلاة علامة على فقه الخطيب وعلمه. وهذه الصفة برز فيها السابقون الأولون. ولكن مع تباعد الزمان عن صدر الإسلام، قَل العلم الشرعي، وكثر الجهل، وأُعجب كل ذي رأي برأيه. مصداق قوله - صلى الله عليه وسلم - : «إن بين يدي الساعة لأيامًا ينزل فيها الجهل ويرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهَرْج، والهرج القتل» (1) .
فمن تأمل خُطب الجمعة في حاضرنا، يرى كثيرًا من الخطباء قد نحى منحًا يخالف السنة، إما لقلة العلم والفقه بأحكام الخطبة، أو اجتهد اجتهادًا خالف به النصوص الصحيحة الصريحة بإطالة الصلاة وقصر الخطبة. مما صير الخطبة أضعاف وقت الصلاة. مع الإمكان أن يأتي بها بأوجز عبارة، وأجمع معنى. ومثل هذا ورد ذمه بصحيح الأخبار، إذ هو علامة من علامات تقارب الزمان.
فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: (إنكم في زمان الصلاة فيه طويلة، والخطبة فيه قصيرة، وعلماؤه كثير، وخطباؤه قليل، وسيأتي على الناس زمان الصلاة فيه قصيرة، والخطبة فيه طويلة، خطباؤه كثير، وعلماؤه قليل..) (2) .
ورواه الإمام مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أن عبد الله بن مسعود قال لإنسان: إنك في زمان كثير فقهاؤه، قليل قراؤه، تحفظ فيه حدود القرآن، وتضيع حروفه، قليل من يسأل، كثير من يعطي. يطيلون فيه الصلاة، ويقصرون الخطبة. يُبدُّون أعمالهم قبل أهوائهم، وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه، كثير قراؤه، يحفظ فيه حروف القرآن، وتضيع حدوده. كثير من يسأل، قليل من يعطي.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه الطبراني ورواه البخاري في الأدب المفرد قال الهيثمي رجاله رجال الصحيح والحديث حسنه الألباني.(1/8)
يطيلون فيه الخطبة، ويقصْرُونُ الصلاة يُبدُّون فيه أهواءهم قبل أعمالهم) (1) .
قال الشيخ حمود التويجري رحمه الله: (وهذا الحديث له حكم المرفوع؛ لأنه إخبار عن أمر غيبي ومثله لا يقال من قبل الرأي وإنما يقال عن توقيف).
قوله: تضيع حروفه معناه: أنهم لا يتكلفون في قراءة القرآن كما يتكلف كثير من المتأخرين، ولا يتقعرون في أداء حروفه كما يتقعر كثير من المتأخرين. ومعنى يبدون: أي يُقَدِّمون. وقال رحمه الله: (وقد ظهر مصداق هذا الحديث في زماننا فَقَلَّ فيه الفقهاء، وكثر فيه القراء الذين يحفظون حروف القرآن، ويتقعرون في أدائها، ويضيعون حدود القرآن، ولا يبالون بمخالفة أوامره وارتكاب نواهيه، يطيلون الخُطب، ويقصرون الصلاة، ويقدمون أهواءهم قبل أعمالهم، وقد رأينا من هذا الضرب كثيرًا، فالله المستعان) (2) .
التقعر في الخطابة:
اختيار جميل الألفاظ، وجوامع الكلم، وبديع المعاني، في صياغة المواعظ والخطب - له أثر واضح لما يضيفه على الخطبة من رونق مؤثر، فيزيد السامع شوقًا إليها، وتدبرًا لمعانيها.
__________
(1) رواه الحاكم في مستدركه من حديث هزيل بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - مختصرًا، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(2) اتحاف الجماعة (2/104).(1/9)
لأن المقصود من الخطابة تحريك القلوب، وتشويقها، وقبضها، وبسطها. في الحديث «إن من البيان لسحرا». ومع هذا فإنه ينبغي للخطيب أن يقصد اللفظ الذي يفهمه السامعون فهما جليًا خاليًا من كل غموض. فممن اشتهر في هذا الفن ابن الجوزي الحافظ والمفسر والواعظ المسدد فقيل فيه: (وله في الوعظ العبارات الرائقة، والإشارات الفائقة، والمعاني الدقيقة، والاستعارة الرشيقة. وكان من أحسن الناس كلامًا، وأتمهم نظامًا، وأعذبهم لسانًا، وأجودهم بيانًا) (1) فكم رَقَّق من القلوب، وأسال من الدموع بأسلوبه المؤثر فاهتدى لذلك الكثير، وتاب على يديه الجمع الغفير.
أما الإفراط في هذا الفن، والمبالغة في تتبع غرائب الألفاظ. فإنه يكره لأنه تصنع مذموم، وتكلف ممقوت، وتقعر ممجوج، ولأنه إضاعة لمعنى الخطبة في سبيل البراعة في الأسلوب، فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «هلك المتنطعون» قالها ثلاثًا (2) .
والمراد بالتنطع المبالغة في الأمور تعمقًا واستقصاءً.
قال الإمام الغزالي (3) : (والواعظ يجد في وعظه وتأثر قلوب الناس به، وتلاحق بكائهم وزعقاتهم، وإقبالهم عليه، لذة لا توازيها لذة.
فإذا غلب ذلك على قلبه، مال طبعه إلى كلام مزخرف يروج عند العوام وإن كان باطلاً.
ويَفِر عن كل كلام يستثقله العوام؛ وإن كان حقًا. ويصير مصروف الهمة بالكلية إلى ما يحرك قلوب العوام، ويعظم منزلته في قلوبهم، فلا يسمع حديثًا أو حكمة إلا ويكون فرحه به من حيث أنه يصلح لأن يَذْكُره على رأس المنبر).
فتدبر هذه المعاني، واقصد الحق من غير تكلف أو تنطع. فإن الزيادة في زخرفة القول تورث لدى السامع الاستثقال، وانصراف البال. والله المستعان.
* * * *
هديه - صلى الله عليه وسلم -
في خطبة الجمعة
__________
(1) طبقات الحنابلة (3/411).
(2) رواه مسلم.
(3) الإحياء (10/162).(1/10)
قال ابن القيم رحمه الله: (ومن تأمل خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وخطب أصحابه وجدها كفيلة ببيان الهدي والتوحيد، وذكر صفات الرب جل جلاله، وأصول الإيمان الكلية والدعوة إلى الله، وذِكر آلائه تعالى التي تحببه إلى خلقه وأيامه التي تخوفهم من بأسه، والأمر بذكره وشكره الذي يحببهم إليه، فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم.
ثم طال العهد، وخفى نور النبوة، وصارت الشرائع والأوامر، رسومًا تقام من غير مراعاة حقائقها ومقاصدها، فأعطوها صورها، وزينوها بما زينوها به فجعلوا الرسوم والأوضاع سننًا لا ينبغي الإخلال بها، وأخلوا بالمقاصد التي لا ينبغي الإخلال بها، فرصَّعوا الخطب بالتسجيع والفِقَر، وعلم البديع، فنقص بل عدم حظ القلوب منها، وفات المقصود بها) (1) .
وقال الشيخ صالح الفوزان: (وقول هذا ما قاله الإمام ابن القيم في طابع الخطب في عصره، وقد زاد الأمر على ما وصف حتى صار الغالب على الخطب اليوم أن تكون حشوًا من الكلام قليل الفائدة، فبعض الخطباء أو كثير منهم يجعل الخطبة كأنها موضوع إنشاء مدرس يرتجل فيه ما حضره من الكلام بمناسبة وبدون مناسبة، ويطيل الخطبة إطالة مملة، حتى أن بعضهم يهمل شروط الخطبة أو بعضها ولا يتقيد بمواصفاتها الشرعية.
فهبطوا بالخطب إلى هذا المستوى الذي لم تعد معه مؤدية للغرض المطلوب من التأثير والتأثر والإفادة.
فيا أيها الخطباء: عودوا بالخطبة إلى العهد النبوي { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الأحزاب: 21] ركزوا مواضيعها على نصوص من القرآن والسنة تتناسب مع المقام وضمنوها الوصية بتقوى الله والموعظة الحسنة.
عالجوا بها أمراض مجتمعاتكم بأسلوب واضح مختصر، أكثروا فيها من قراءة القرآن العظيم الذي به حياة القلوب، ونور البصائر. إذ ليس المقصود وجود خطبتين فقط بل المقصود أثرها في المجتمع) (2) .
وصية:
__________
(1) انظر زاد المعاد (1/424).
(2) انظر مقدمة الخطب المنبرية.(1/11)
أخي الخطيب المبارك:
لما كانت الخطبة عبادة لله سبحانه وتعالى يقصد منها التقرب إليه بتذكير الناس ووعظهم ونصحهم، فقد جاء الوعيد الشديد لمن قصد غير وجه الله بها – نسأل الله السلامة – فعن بشير بن عقربة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من قام بخطبة لا يلتمس بها إلا رياء وسمعة وقفه الله عز وجل موقف رياء وسمعة» (1) .
وعن عوف بن مالك الأشجعي قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من قام مقام رياء رايا الله به، ومن قام مقام سمعة سمَّع الله به» (2) .
وجاء في السير أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله ربما قطع خطبته ونزل فلما قيل له في ذلك قال: أعجبتني نفسي فنزلت.
وقد سأل عمر بن ذر أباه مالك إذا تكلمت أبكيت الناس، فإذا تكلم غيرك لم يبكهم؟؟ قال: (ليست النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة) (3) . وقال ابن الجوزي رحمه الله: (إنه تكلم مرة فتاب في المجلس على يده نحو مائتي رجل) (4) .
فانظر رحمك الله يا صاحب المنبر كيف أنت عند جمع كلمات الخطبة وعند إلقائها وعند الانتهاء منها. فإن المدار على هذه المضغة صلاحًا وفسادًا. فالقبول مقرونًا بصدق النية وإخلاص العمل رزقني الله وإياك الإخلاص في القول والعمل، ومجانبة كل نقص وزلل.
وأخيرًا أقول:
قد تبين لك الحق، المنبثق من مشكاة النبوة، مقرونًا بصحيح الأدلة، وأقوال الأئمة، تحفة الحكم والعلل، والتي برز من خلالها مقاصد الشارع الحكيم من التقصير وعدم التطويل.
فالزم رعاك الله هذا الحق البين، وتقيد بالسنة المطهرة. تظفر بخيري الدنيا والآخرة.
__________
(1) رواه الطبراني وأحمد وقال الهثيمي رجاله موثقون.
(2) رواه الطبراني وقال الهثيمي إسناده جيد.
(3) العقد الفريد (3/195).
(4) طبقات الحنابلة (3/410).(1/12)
فكم نحن بحاجة إلى الخطيب العالم المتبصر، والفقيه المتأمل. لأن نفعه متعدي، وأثره نافذ باق، يخاطب الجموع، فيعكس حقيقة سماحة التشريع الرباني، وشفقته. فكن خير داع في خير أمة. ومجانبًا لكل ما قد يُصدع جدار الأمة.
فالله أسأل أن يهدينا إلى الصواب ويجنبنا الخطأ والزلل، إنه أهل الهداية والتوفيق.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
* * * *
فصل في
حكم الكلام حال استماع خطبة الجمعة
مع بيان رفع اليدين حال دعاء الخطيب
وبيان بعض آداب الخطبة
يتفرع عن هذا أمور منها:
1- وجوب الإنصات لمن حضر الجمعة من حين بدء الخطيب خطبته إلى أن ينتهي منها فلا يجوز لأحد التحدث خلال الخطبة. لما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت» (1) .
وإلى هذا ذهب الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك وأحمد. وحكى ابن عبد البر التحريم من غير خلاف (2) .
2- لا يحرم الكلام من الخطيب ولا من المأموم معه حال الخطبة إذا كان لمصلحة؛ لأنه لا يشتغل عن سماع الخطبة كما هو ثابت بالسنة المطهرة (3) .
3- يجوز الكلام لمستمع الخطبة حال تحذيره ضريرًا أو غافلاً من الوقوع في بئر أو حفرة، أو خاف عليه نارًا أو نحو ذلك. بل يجب الإتيان به.
كما يجوز قطع الصلاة في هذه الحال لإنقاذ معصوم الدم (4) .
4- أيضًا يجوز الكلام عند جلوس الخطيب بين خطبتي الجمعة لأنه ليس بخاطب. قال المجد رحمه الله (هذا عندي أصح وأقيس)..
__________
(1) متفق عليه.
(2) انظر فيض القدير (2/2822) والإجماع لابن عبد البر 93 والمحرر (1/152).
(3) انظر المغني (2/321) وحاشية ابن قاسم (2/489).
(4) معصوم الدم: هو من لا يجوز قتله من البشر. إذ ليس محاربًا للمسلمين ولم يأت بما يوجب هدر دمه.(1/13)
5- من رأى من يتكلم حال الخطبة أو سمعه وجب عليه أن ينكر ذلك الأمر، وكيفيته أن ينكر عليه بالإشارة من غير كلام كوضع إصبعه على فمه، أو يحرك إصبعه ليرتدع المتكلم، ونحو ذلك مما يفهم منه الإنكار، وهذا فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين.
6- يسن لمن سمع ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - حال الخطبة أن يصلي عليه سرًا ففي الحديث «رَغِم أنَف رجل ذُكرتُ عنده فلم يصلي عليَّ» (1) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (أما رفع الصوت بها أمام بعض الخطباء مكروه أو محرم اتفاقًا) (2) .
كما أن للمصلي يوم الجمعة أن يُؤمَنِّ على دعاء الخطيب غير جاهر بها، وكذلك له أن يذكر الله سبحانه وتعالى حال الذِّكرْ.
7- ليس لمستمع الخطبة أن يرد السلام على من سلم عليه لأنه سلم عليه في غير موضعه وأيضًا لا يصافحه لأنه يشغله عن استماعها، لكن يُسن له ذلك بعد انتهاء الخطبة ليزيل ما وقع في نفس أخيه، ويرشده إلى الحكم الشرعي كما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا قلت لصاحبك أنْصِت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت» (3) .
أيضًا ليس لمستمع الخطبة أن يُشَمِّت العاطس لأنه من كلام الناس كما في حديث معاوية بن الحكم - رضي الله عنه - عندما قال في صلاته يرحمك الله لمن عطس بجواره فأنكر عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا القول لكن ذات العاطس له أن يحمد الله خفية (4) .
__________
(1) رواه الترمذي وحسنه ورواه الحاكم وصححه.
(2) انظر الاختيارات (80).
(3) متفق عليه.
(4) انظر الانصاف (7/417) وحاشية ابن قاسم (2/488) والمجموع (4/441).(1/14)
8- لا يشرع رفع اليدين عند دعاء الإمام حال خطبة الجمعة؛ وإنما يشرع للخطيب ما لم يخطب من صحيفة أن يمسك يده اليسرى بيده اليمنة أو يرسلهما عند جنبيه ولا يحركهما والحكمة من ذلك الخشوع وعدم العبث. غير أن له الإشارة بإصبعه السبابة إذا دعا، فعن عُمارة بن رويبة - رضي الله عنه - رأى بشر بن مروان رفع يديه في الخطبة فقال - رضي الله عنه - : (قبح الله هاتين اليدين لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يزيد على أن يقول بيده هكذا وأشار بإصبعه المُسبَحة) (1) .
وقال الشافعية والمالكية ببدعية رفع اليدين حال الخطبة وأيضًا عند أبي البركات، أما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فذهب إلى كراهية ذلك ويستثنى من هذا الاستسقاء حال خطبة الجمعة فإنه يشرع للجميع رفع اليدين، بل يبالغ الإمام بالرفع حتى يبدوا بياض أبطيه. لما ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء فإنه كان يرفع يديه حتى يرى إبِطَيْه (2) .
وبهذا يتضح مجانبة كثير من الخطباء سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عندما يحركون أيديهم حال خُطبهم.
فالخير كل الخير بالأخذ بالسنة المطهرة فما اندثرت سنة إلا حل مكانها بدعة.
__________
(1) رواه مسلم. المسبحة: هي الإصبع التي تلي الإبهام لأنه يُسَبَّح بها ويقال لها السبابة.
(2) قال ابن حجر: (يحمل حديث أنس على أن رفعهما في دعاء الاستسقاء صفة زائدة على رفعهما في غيره). انظر كشاف القناع (2/36) ونيل الأوطار (2/271) وشرح الزركشي (2/182) وفتح الباري (2/412).(1/15)
9- يسن في حق الخطيب أن يقصد تلقاء وجهه حال خطبته فلا يتجه يمينًا ولا شمالاً لأنه فعله - صلى الله عليه وسلم - ؛ ولأن في التفاته إلى أحد جانبيه إعراضًا عن الآخر. بل حكى النووي رحمه الله: اتفاق العلماء على كراهية هذا الالتفات. لأن خطبة الجمعة أمر تعبدي مُتَلَقى عن الشارع فلا يزاد فيه ولا ينقص (1) .
وكما يستحب للخطيب أن يُقبل على المصلين بوجهه حال خطبته فإنه يستحب لهم أن يقبلوا بوجوههم على الخطيب ما لم يكن هناك مشقة لأنه أبلغ في الوعظ.
فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا (2) .
10- يسن للخطيب أن يُسلم مرتين إحداهما إذا دخل المسجد سلم على من يمر به لعموم أدلة الأمر بالسلام.
والثانية: إذا صعد المنبر.
وهذا السلام عام لجميع المصلين تأسيًا به - صلى الله عليه وسلم - . ولفعل الصحابة رضوان الله عليهم من بعده ورد السلام في هذه الحال فرض كفاية إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين (3) .
مشروعية الدعاء يوم الجمعة:
أجمع العلماء على استحباب الدعاء يوم الجمعة والإكثار منه تحريًا لساعة الإجابة وحيث إن من أرجح الأقوال أنها من جلوس الإمام على المنبر إلى انقضاء الصلاة فإنه يسن للمصلي أن يكثر من الدعاء في هذا الوقت ويختص ما بين الخطبتين حيث سكوت الخطيب وكذلك عند إقامة صلاة الجمعة وفي أدبار تلك الصلاة وفي سجودها لأن هذا كله مظنة إجابة الدعاء حيث رجاء تلك الساعة.
__________
(1) انظر المبدع (2/163) والشرح الممتع (5/85) والمجموع (4/447).
(2) رواه الترمذي وله شاهد عند ابن خزيمة.
(3) انظر الإنصاف (2/396) والمجموع (4/447) وشرح الزركشي (2/167) ونصب الراية (2/205).(1/16)
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن في الجمعة لساعة لا يوافقها مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله عز وجل خبرًا إلا أعطاه الله تعالى إياه، وقال بيده. قلنا يقللها يزهدها» (1) .
وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضَي الصلاة» (2) .
ذكر ابن حجر رحمه الله في تعيين ساعة الإجابة ثلاثة وأربعين قولاً. وأرجحها أحد قولين:
الأول: من جلوس الإمام على المنبر إلى انقضاء الصلاة.
الثاني: أنها بعد العصر وعليه أكثر الأحاديث.
قال الإمام أحمد رحمه الله: (أكثر أهل الحديث أنها بعد العصر وترجى بعد الزوال) أي: زوال الشمس.
وقال ابن القيم رحمه الله: أرجح الأقوال أنها بعد العصر ثم قال: (وعندي أن ساعة الصلاة ساعة ترجى فيها الإجابة أيضًا وكلاهما ساعة إجابة) (3) .
فحري بالمؤمن أن يكثر من الدعاء في هذين الوقتين فإنهما مظنة الإجابة. والحكمة في إخفائها والله أعلم ليجتهد المؤمن في الدعاء. وهذا كإخفاء ليلة القدر.
تم بحمد الله تعالى وشكره وفضله تحرير ما أردنا التبصير به سائلاً المولى أن يفقهنا في دينه ويهدينا إلى سبيل الحق والصواب وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) رواه مسلم.
(3) انظر زاد المعاد (1/389 و 394) والإنصاف (2/409) والمجموع (4/407) وفتح الباري (2/416).(1/17)